وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها في الكعبة: أي توكيدا على أنفسهم. وقيل كانت عند خالة أبي جهل.
وقد يجمع بأنه يجوز أن تكون كانت عندها قبل أن تعلق في الكعبة على أنه سيأتي أنه يجوز أن الصحيفة تعددت، وكان اجتماعهم وتحالفهم في خيف بني كنانة بالأبطح ويسمى محصبا، وهو بأعلى مكة عند المقابر، فدخل بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم الشعب إلا أبا لهب فإنه ظاهر عليهم قريشا، وكان سنه صلى الله عليه وسلم حين دخل الشعب ستة وأربعين سنة. وفي الصحيح «أنهم في الشعب جهدوا كانوا يأكلون الخبط وورق الشجر» .
وفي كلام السهيلي: كانوا إذا قدمت العير مكة يأتي أحدهم السوق ليشتري شيئا من الطعام يقتاته، فيقوم أبو لهب فيقول: يا معشر التجار غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا شيئا معكم، فقد علمتم مالي ووفاء ذمتي، فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها أضعافا حتى يرجع إلى أطفاله وهم يتضاغون من الجوع، وليس في يده شيء يعللهم به، فيغدو التجار على أبي لهب فيربحهم، هذا كلامه.
ولا منافاة بين خروج أحدهم السوق إذا جاءت العير بالميرة إلى مكة، وكونهم منعوا من الأسواق والمبايعة لهم كما لا يخفى.
وكان دخولهم الشعب هلال المحرم سنة سبع من النبوة، وحينئذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان بمكة من المسلمين أن يخرجوا إلى الحبشة.
أقول: وفي رواية «أن خروج بني هاشم وبني المطلب إلى الشعب لم يكن بإخراج قريش لهم، وإنما خرجوا إليه لأن قريشا لما قدم عليهم عمرو بن العاص من عند النجاشي خائبا، وردت معه هديتهم، وفقد صاحبه الذي هو عمارة بن الوليد، وبلغهم إكرام النجاشي لجعفر ومن معه من المسلمين: أي كما سيأتي، وظهور الإسلام في القبائل، كبر ذلك عليهم، واشتد أذاهم على المسلمين، واجتمع رأيهم على أن يقتلوا النبي صلى الله عليه وسلم علانية، فلما رأى أبو طالب ذلك جمع بني هاشم والمطلب مؤمنهم وكافرهم، وأمرهم أن يدخلوا برسول الله عليه الصلاة والسلام الشعب ويمنعوه ففعلوا، فبنو هاشم وبنو المطلب كانوا شيئا واحدا، لم يفترقوا حتى دخلوا معهم في الشعب، وانخذل عنهم بنو عميهم عبد شمس ونوفل، ولهذا يقول أبو طالب في قصيدته:
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا ... عقوبة شر عاجلا غير آجل
وقال في قصيدة أخرى:
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا ... وتيما ومخزوما عقوقا ومأثما(1/476)
فلما علمت قريش ذلك، أجمع رأيهم على أن يكتبوا عهودا ومواثيق، على أن لا يجالسوهم» الحديث.
وفيه أنه سيأتي أن خروج عمرو بن العاص إلى الحبشة إنما كان بعد الهجرة الثانية، وهي بعد دخول بني هاشم والمطلب إلى الشعب، والله أعلم.
باب الهجرة الثانية إلى الحبشة
لا يخفى أنه لما وقع ما ذكر انطلق إلى الحبشة عامة من آمن بالله ورسوله: أي غالبهم، فكانوا عند النجاشي ثلاثة وثمانين رجلا وثماني عشرة امرأة، وهذا بناء على أن عمار بن ياسر كان منهم. وقد اختلف في ذلك، وكلام الأصل يميل إلى ذلك، وكان من الرجال جعفر بن أبي طالب ومعه زوجته أسماء بنت عميس، والمقداد بن الأسود، وعبد الله بن مسعود وعبيد الله بالتصغير ابن جحش ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فتنصر هناك ثم مات على النصرانية: أي وبقيت أم حبيبة رضي الله تعالى عنها على إسلامها، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي.
وعن أم حبيبة رضي الله تعالى عنها قالت «رأيت في المنام كأن عبيد الله بن جحش زوجي بأسوأ حال وتغيرت صورته، فإذا هو يقول حين أصبح: يا أم حبيبة إني نظرت في هذا الدين فلم أر دينا خيرا من دين النصرانية، وقد كنت دنت بها ثم دخلت في دين محمد ثم خرجت إلى دين النصرانية، قالت: فقلت والله ما خير لك، وأخبرته بما رأيته له فلم يحفل بذلك وأكب على الخمر يشربه حتى مات، فرأيت في المنام كأنّ آتيا يقول لي: يا أم المؤمنين ففزعت وأولتها بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوجني، فكان كذلك.
أي وذكر ابن إسحاق أن أبا موسى الأشعري هاجر إلى الحبشة، ومراده أنه هاجر إليها من اليمن لا من مكة كما فهم الواقدي، فاعترض عليه في ذلك. فعن أبي موسى «أنه بلغه مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو باليمن، فخرج هو ونحو خمسين رجلا في سفينة مهاجرين إليه صلى الله عليه وسلم، فألقتهم السفينة إلى النجاشي بالحبشة، فوجدوا جعفرا وأصحابه، فأمرهم جعفر بالإقامة، واستمروا كذلك حتى قدموا عليه صلى الله عليه وسلم هم وجعفر عند فتح خيبر كما سيأتي.
وبهذا يندفع قول بعضهم: ما ذكره ابن إسحاق من أن أبا موسى الأشعري هاجر من مكة إلى الحبشة من الغريب جدا، ولعله مدرج من بعض الرواة، فأقاموا بخير دار عند خير جار، فبعثت قريش خلفهم عمرو بن العاص ومعه عمارة بن الوليد بن المغيرة التي أرادت قريش دفعه لأبي طالب ليكون بدلا عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا(1/477)
قتلوه بهدية إلى النجاشي والهدية فرس وجبة ديباج: أي وأهدوا لعظماء الحبشة هدايا ليرد من جاء إليه من المسلمين، فلما دخلا عليه سجدا له وقعد واحد من يمينه والآخر عن شماله.
وفي كلام بعضهم: فأجلس عمرو بن العاص على سريره وقبل هديتهما، فقالا: إن نفرا من بني عمنا نزلوا أرضك فرغبوا عنا وعن آلهتنا: أي ولم يدخلوا في دينكم، بل جاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قريش لتردوهم إليهم قال: وأين هم؟ قالوا بأرضك، فأرسل في طلبهم: أي وقال له عظماء الحبشة: ادفعهم إليهما فهما أعرف بحالهم، فقال: لا والله حتى أعلم على أي شيء هم؟ فقال عمرو: هم لا يسجدون للملك: أي وفي لفظ لا يخرون لك ولا يحيونك بما يحييك الناس إذا دخلوا عليك رغبة عن سنتكم ودينكم، فلما جاؤوا قال لهم جعفر رضي الله تعالى عنه: أنا خطيبكم اليوم: أي فإنه لما جاءهم رسول النجاشي يطلبهم اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه. قال جعفر ما ذكر، وقال: إنما نقول ما علمنا وما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودع يكون ما يكون، وقد كان النجاشي دعا أساقفته وأمرهم بنشر مصاحفهم حوله، فلما جاء جعفر وأصحابه صاح جعفر، وقال: جعفر بالباب يستأذن ومعه حزب الله، فقال النجاشي: نعم يدخل بأمان الله وذمته، فدخل عليه ودخلوا خلفه فسلم، فقال له الملك: ما لك لا تسجد؟.
وفي لفظ: إن عمرا قال لعمارة: ألا ترى كيف يكتنون بحزب الله وما أجابهم به، وإن عمرا قال للنجاشي: ألا ترى أيها الملك أنهم مستكبرون لم يحيوك بتحيتك، فقال النجاشي: ما منعكم أن لا تسجدوا وتحيوني بتحيتي التي أحيى بها، فقال جعفر: إنا لا نسجد إلا لله عز وجل، قال: ولم ذلك؟ قال: لأن الله تعالى أرسل فينا رسولا، وأمرنا أن لا نسجد إلا لله عز وجل، وأخبرنا أن تحية أهل الجنة السلام فحييناك بالذي يحيي به بعضنا بعضا: أي وعرف النجاشي ذلك، لأنه كذلك في الإنجيل كما قيل: أي وأمرنا بالصلاة أي غير الخمس، لأنها لم تكن فرضت، بل التي هي ركعتان بالغداة وركعتان بالعشي: أي ركعتان قبل طلوع الشمس، وركعتان قبل غروبها على ما تقدم. والزكاة: أي مطلق الصدقة، لا زكاة المال لأنها إنما فرضت بالمدينة أي في السنة الثانية، ومراده بالزكاة الطهارة، قال عمرو بن العاص للنجاشي: فإنهم يخالفونك في ابن مريم، ولا يقولون إنه ابن الله عز وجل وعلا.
قال: فما تقولون في ابن مريم وأمه؟ قالوا: نقول كما قال الله عز وجل: روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء: أي البكر البتول: أي المنقطعة عن الأزواج، التي لم يمسها بشر، ولم يفرضها أي يشقها. ويخرج منها ولد: أي غير عيسى صلى الله على(1/478)
نبينا وعليه وسلم، فقال النجاشي: يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان ما يزيدون على ما تقولون؛ أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى في الإنجيل: أي ومعنى كونه روح الله أنه حاصل عن نفخة روح القدس الذي هو جبريل، ومعنى كونه كلمة الله تعالى أنه قال له كن فكان: أي حصل في حال القول.
وفي لفظ أن النجاشي قال لمن عنده من القسيسين والرهبان: أنشدكم الله الذي أنزل الإنجيل على عيسى هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيا مرسلا؟ أي صفته ما ذكر هؤلاء؛ فقالوا: اللهم نعم، قد بشرنا به عيسى، فقال: من آمن به فقد آمن بي، ومن كفر به فقد كفر بي؛ فعند ذلك قال النجاشي: والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته فأكون أنا الذي أحمل نعله وأوضئه: أي أغسل يديه، وقال للمسلمين:
أنزلوا حيث شئتم سيوم بأرضي: أي آمنون بها، وأمر لهم بما يصلحهم من الرزق، وقال: من نظر إلى هؤلاء الرهط نظرة تؤذيهم فقد عصاني.
وفي لفظ، ثم قال: اذهبوا فأنتم آمنون، من سبكم غرم، قالها ثلاثا: أي أربع دراهم وضعفها كما جاء في بعض الروايات، وأمر بهدية عمرو ورفيقه فردت عليهما.
وفي لفظ، أن النجاشي قال: ما أحب أن يكون لي ديرا من ذهب: أي جبلا وأن أوذي رجلا منكم، ردوا عليهم هداياهم فلا حاجة لي بها، فو الله ما أخذ الله تعالى مني الرشوة حين رد عليّ ملكي فآخذ الرشوة، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه.
وكان النجاشي أعلم النصارى بما أنزل على عيسى، وكان قيصر يرسل إليه علماء النصارى لتأخذ عنه العلم.
أي وقد بينت عائشة رضي الله تعالى عنها السبب في قول النجاشي: ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي. وهو أن والد النجاشي كان ملكا للحبشة فقتلوه وولوا أخاه الذي هو عم النجاشي، فنشأ النجاشي في حجر عمه لبيبا حازما، وكان لعمه اثنا عشر ولدا لا يصلح واحد منهم للملك، فلما رأت الحبشة نجابة النجاشي خافوا أن يتولى عليهم فيقتلهم بقتلهم لأبيه، فمشوا لعمه في قتله، فأبى وأخرجه وباعه، ثم لما كان عشاء تلك الليلة مرت على عمه صاعقة فمات، فلما رأت الحبشة أن لا يصلح أمرها إلا النجاشي ذهبوا وجاؤوا من عند الذي اشتراه، وعقدوا له التاج، وملكوه عليهم، فسار فيهم سيرة حسنة.
وفي رواية: ما يقتضي أن الذي اشتراه رجل من العرب، وأنه ذهب به إلى بلاده ومكث عنده مدة، ثم لما مرج أمر الحبشة وضاق عليهم ما هم فيه خرجوا في طلبه وأتوا به من عند سيده، ويدل لذلك ما سيأتي عنه أنه عند وقعة بدر أرسل(1/479)
خلف من عنده من المسلمين فدخلوا عليه، فإذا هو قد لبس مسحا وقعد على التراب والرماد، فقالوا له: ما هذا أيها الملك؟ فقال: إنا نجد في الإنجيل أن الله سبحانه وتعالى إذا أحدث بعبده نعمة وجب على العبد أن يحدث لله تواضعا، وإن الله تعالى قد أحدث إلينا وإليكم نعمة عظيمة، وهي أن محمدا صلى الله عليه وسلم التقى هو وأعداؤه بواد يقال له بدر كثير الأراك، كنت أرعى فيه الغنم لسيدي، وهو من بني ضمرة، وإن الله تعالى قد هزم أعداءه فيه، ونصر دينه.
وذكر السهيلي أن بكاءه عند ما تليت عليه (سورة مريم) أي كما سيأتي حتى أخضل لحيته، يدل على طول مكثه ببلاد العرب حتى تعلم من لسان العرب ما فهم به تلك السورة.
قال: وعن جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا خير جار وأمنا على ديننا، وعبدنا الله تعالى لا نؤذي ولا نسمع شيئا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا أن يبعثوا رجلين جلدين، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستظرف من متاع مكة، وكان أعجب ما يأتيه منها الأدم، فجمعوا له أدما كثيرا ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية: أي هيئوا له هدية؛ ولا يخالف ما تقدم من أن الهدية كانت فرسا وجبة ديباج، لأنه يجوز أن يكون بعض الأدم ضم إلى تلك الفرس والجبة للملك، وبقية الأدم فرق على أتباعه ليعاونوهما على ما جاء بصدده، والاقتصار على الفرس والجبة في الرواية السابقة لأن ذلك خاص بالملك. ثم بعثوا عمارة بن الوليد وعمرو بن العاص يطلبان من النجاشي أن يسلمنا لهم: أي قبل أن يكلمنا، وحسن له بطارقته ذلك، لأنهما لما أوصلا هداياهم إليهم قالوا لهم: إذا نحن كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم لنا قبل أن يكلمهم: أي موافقة لما وصت عليه قريش.
فقد ذكر أنهم قالوا لهما: ادفعوا لكل بطريق هدية قبل أن تكلما النجاشي فيهم، ثم قدما للنجاشي هداياه، ثم اسألاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم، فلما جاآ إلى الملك قالا له: أيها الملك إنه قد صبأ إلى بلدك منا غلمان سفهاء؛ فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، جاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت: أي جاءهم به رجل كذاب خرج فينا يزعم أنه رسول الله ولم يتبعه منا إلا السفهاء، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم ليردوهم إليهم؛ فهم أعلم بما عابوا عليهم، فقال بطارقته: صدقوا أيها الملك، قومهم أعلم بهم فأسلمهم لهما ليرداهم إلى بلادهم وقومهم، فغضب النجاشي وقال: لاها الله، أي لا والله لا أسلمهم، ولا يكاد قوم يجاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان من أمرهم، فإن كان كما يقولان سلمتهم إليهما،(1/480)
وإلا منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني، ثم أرسل لنا ودعانا، فلما دخلنا سلمنا، فقال من حضره: ما لكم لا تسجدون للملك؟ قلنا، لا نسجد إلا الله عز وجلّ، فقال النجاشي: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من الملل، فقلنا: أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله لنا رسولا كما بعث الرسل إلى من قبلنا، وذلك الرسول منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله تعالى لنوحده ونعبده، ونخلع: أي نترك ما كان يعبد آباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا أن نعبد الله تعالى وحده، وأمرنا بالصلاة، أي ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، والزكاة، أي مطلق الصدقة، والصيام أي ثلاثة أيام من كل شهر: أي وهي البيض أو أي ثلاثة على الخلاف في ذلك. وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الأرحام وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء؛ أي ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به، فعدا علينا قومنا ليردونا إلى عبادة الأصنام واستحلال الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحاولوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، ورجوناك أن لا نظلم عندك يا أيها الملك، فقال النجاشي لجعفر: هل عندك مما جاء به شيء؟ قلت نعم. قال: فاقرأه عليّ، فقرأت عليه صدرا من كهيعص، فبكى والله النجاشي حتى اخضل، أي بل لحيته وبكت أساقفته، وفي لفظ: هل عندك مما جاء به عن الله تعالى شيء؟ فقال جعفر نعم، قال: فاقرأه عليّ، قال البغوي: فقرأ عليه سورة العنكبوت والروم ففاضت عيناه وأعين أصحابه بالدمع، وقالوا: زدنا يا جعفر من هذا الحديث الطيب، فقرأ عليهم سورة الكهف فقال النجاشي: هذا والله الذي جاء به موسى: أي وفي رواية: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، أي وهذا كما قيل يدل على أن عيسى كان مقررا لما جاء به موسى، وفي رواية بدل موسى عيسى، ويؤيده ما في لفظ أنه قال: ما زاد هذا على ما في الإنجيل إلا هذا العود لعود كان في يده أخذه من الأرض.
وفي لفظ أن جعفرا قال للنجاشي: سلهما أعبيد نحن أم أحرار؟ فإن كنا عبيدا أبقنا من أربابنا فارددنا إليهم، فقال عمر: بل أحرار، فقال جعفر: سلهما هل أهرقنا دماء بغير حق فيقتص منا؟ هل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤه؟ فقال عمرو: لا، فقال النجاشي لعمرو وعمارة: هل لكما عليهما دين؟ قالا: لا، قال:
انطلقا، فو الله لا أسلمهم إليكما أبدا، زاد في رواية: ولو أعطيتموني ديرا من ذهب(1/481)
أي جبلا من ذهب، ثم غدا عمرو إلى النجاشي: أي أتى إليه في غد ذلك اليوم وقال له: إنهم يقولون في عيسى قولا عظيما: أي يقولون إنه عبد الله أي وإنه ليس ابن الله.
أي وفي لفظ أن عمرا قال للنجاشي: أيها الملك إنهم يشتمون عيسى وأمه في كتابهم فاسألهم، فذكر له جعفر ما تقدم في الرواية الأولى.
هذا، وعن عروة بن الزبير: إنما كان يكلم النجاشي عثمان بن عفان، وهو حصر عجيب فليتأمل.
وروى الطبراني عن أبي موسى الأشعري بسند فيه رجال الصحيح «أن عمرو بن العاص مكر بعمارة بن الوليد: أي للعداوة التي وقعت بينه وبينه في سفرهما: أي من أن عمرو بن العاص كان معه زوجته وكان قصيرا دميما، وكان عمارة رجلا جميلا فتن امرأة عمرو وهوته، فنزل هو وإياه في السفينة، فقال له عمارة: مر امرأتك فلتقبلني، فقال له عمرو: ألا تستحي، فأخذ عمارة عمرا ورمى به في البحر، فجعل عمرو يصيح وينادي أصحاب السفينة، ويناشد عمارة حتى أدخله السفينة وأضمرها عمرو في نفسه ولم يبدها لعمارة، بل قال لامرأته: قبلي ابن عمك عمارة لتطيب بذلك نفسه، فلما أتيا أرض الحبشة مكر به عمرو، فقال: أنت رجل جميل والنساء يحببن الجمال، فتعرض لزوجة النجاشي لعلها أن تشفع لنا عنده، ففعل عمارة ذلك وتكرر تردده عليها حتى أهدت إليه من عطرها: أي ودخل عندها، فلما رأى عمرو ذلك أتى النجاشي وأخبره بذلك: أي فقال له: إن صاحبي هذا صاحب نساء، وإنه يريد أهلك وهو عندها الآن، فاعلم علم ذلك، فبعث النجاشي، فإذا عمارة عند امرأته، فقال: لولا أنه جاري لقتلته؛ ولكن سأفعل به ما هو شر من القتل، فدعا بساحر فنفخ في إحليله نفخة، طار منها هائما على وجهه مسلوب العقل حتى لحق بالوحوش في الجبال إلى أن مات على تلك الحال اهـ.
أي ومن شعر عمرو بن العاص يخاطب به عمارة بن الوليد:
إذ المرء لم يترك طعاما يحبه ... ولم ينه قلبا غاويا حيث يمما
قضى وطرا منه وغادر سبة ... إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما
ولا زال عمارة مع الوحوش إلى أن كان موته في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وإن بعض الصحابة وهو ابن عمه عبد الله بن أبي ربيعة في زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قد استأذنه في المسير إليه لعله يجده، فأذن له عمر رضي الله تعالى عنه فسار عبد الله إلى أرض الحبشة، وأكثر النشدة عنه والفحص عن أمره، حتى أخبر أنه في جبل، يرد مع الوحوش إذا وردت ويصدر معها إذا(1/482)
صدرت، فجاء إليه ومسكه، فجعل يقول له: أرسلني وإلا أموت الساعة، فلم يرسله فمات من ساعته، وسيأتي بعد غزوة بدر أنهم أرسلوا للنجاشي عمرو بن العاص أيضا وعبد الله بن أبي ربيعة.
هذا وكان اسمه قبل أن يسلم بجيرا، فلما أسلم سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله، وأبو ربيعة الذي هو أبو عبد الله، كان يقال له ذو الرمحين، وأم عبد الله هي أم أبي جهل بن هشام، فهو أخو أبي جهل لأمه أرسلوهما إليه ليدفع لهما من عنده من المسلمين ليقتلوهم فيمن قتل ببدر.
ومن العجب أن صاحب المواهب ذكر أن إرسال قريش لعمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة ومعهما عمارة بن الوليد في الهجرة الأولى للحبشة، وإنما كان عمرو وعمارة في الهجرة الثانية، وابن أبي ربيعة إنما كان مع عمرو بعد بدر كما علمت، وإن كان يمكن أن يكون عبد الله بن أبي ربيعة أرسلته قريش مرتين إلا أنه بعيد.
ويرده قول بعضهم: إن قريشا أرسلت في أمر من هاجر إلى الحبشة مرتين:
الأولى أرسلت عمرو بن العاص وعمارة. والثانية أرسلت عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة فليتأمل.
ومكث بنو هاشم في الشعب ثلاث سنين. وقيل سنتين في أشد ما يكون في البلاء وضيق العيش، وولد عبد الله بن عباس في الشعب، فمن قريش من سره ذلك، ومنهم من ساءه وقالوا: انظروا ما أصاب كاتب الصحيفة: أي من شلل يده كما تقدم؛ وصار لا يقدر أحد أن يوصل إليهم طعاما ولا أدما حتى أن أبا جهل لقي حكيم بن حزام ومعه غلام يحمل قمحا يريد عمته خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي معه في الشعب؛ فتعلق به وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم، والله لا تذهب أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة، فقال له أبو البختري بن هشام: ما لك وما له؟ فقال أبو جهل: إنما يحمل الطعام لبني هاشم، فقال أبو البختري: طعام كان لعمته عنده أفتمنعه أن يأتيها؟ خل سبيل الرجل، فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ أبو البحتري لحى بعير: أي العظم الذي تنبت عليه الأسنان فضربه فشجه ووطئه وطئا شديدا. وأبو البختري- بالحاء المهملة- وفي مختصر أسد الغابة- بالخاء المعجمة- ممن قتل ببدر كافرا؛ وحتى أن هاشم بن عمرو بن الحارث العامري رضي الله تعالى عنه، فإنه أسلم بعد ذلك- أدخل عليهم في ليلة ثلاثة أجمال طعاما، فعملت بذلك قريش، فمشوا إليه حين أصبح وكلموه في ذلك، فقال: إني غير عائد لشيء خالفكم؛ ثم أدخل عليهم ثانيا جملا وقيل جملين، فعلمت به قريش فغالظته:
أي أغلظت له القول وهمت به، فقال أبو سفيان بن حرب: دعوه يصل رحمه، أما(1/483)
إني أحلف بالله لو فعلنا مثل ما فعل كان أحسن بنا، وكان أبو طالب في كل ليلة يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي فراشه ويضجع به، فإذا نام الناس أقامه وأمر أحد بنيه أو غيرهم أي من إخوته أو بني عمه أن يضطجع مكانه خوفا عليه أن يغتاله أحد ممن يريد به السوء: أي وفي الشعب ولد عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، ثم أطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم على أن الأرضة: أي وهي سوسة تأكل الخشب إذا مضى عليها سنة نبت لها جناحان تطير بهما، وهي التي دلت الجن على موت سليمان؛ على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام أكلت ما في الصحيفة من ميثاق وعهد: أي الألفاظ المتضمنة للظلم وقطيعة الرحم؛ ولم تدع فيها اسما لله تعالى إلا أثبتته فيها. وفي رواية ولم تترك الأرضة في الصحيفة اسما لله عز وجل إلا لحسته، وبقي ما فيها من شرك أو ظلم أو قطيعة رحم، أي والرواية الأولى أثبت من الثانية.
قال: وجمع بين الروايتين بأنهم كتبوا نسخا فأكلت الأرضة من بعض النسخ اسم الله تعالى، وأكلت من بعض النسخ ما عدا اسم الله تعالى، لئلا يجتمع اسم الله تعالى مع ظلمهم انتهى، أي والتي علقت في الكعبة هي التي لحست تلك الدابة ما فيها من اسم الله تعالى، كما يدل عليه ما يأتي، فذكر ذلك لعمه أبي طالب، فقال له عمه: والثواقب أي النجوم، لأنها تثقب الشياطين، وقيل التي تضيء لأنها تثقب الظلام بضوئها، وقيل الثريا خاصة لأنها أشد النجوم ضوآ- ما كذبتني قط: أي ما حدثتني كذبا. وفي رواية أنه قال له: أربك أخبرك بهذا الخبر؟ قال نعم، فانطلق في عصابة: أي جماعة من قومه أي من بني هاشم وبني المطلب.
أي وفي رواية أن أبا طالب لما ذكر لأهله قالوا له: فما ترى؟ قال: أرى أن تلبسوا أحسن ثيابكم، وتخرجوا إلى قريش، فتذكروا ذلك لهم قبل أن يبلغهم الخبر، فخرجوا حتى أتوا المسجد على خوف من قريش، فلما رأتهم قريش ظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء ليسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل، فتكلم معهم أبو طالب، وقال:
جرت أمور بيننا وبينكم، فأتوا بصحيفتكم التي فيها مواثيقكم، فلعله أن يكون بيننا وبينكم صلح: أي مخرج يكون سببا للصلح، وإنما قال أبو طالب ذلك خشية أن ينظروا في الصحيفة قبل أن يأتوا بها: أي فلا يأتون بها، فأتوا بصحيفتهم لا يشكون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفع إليهم: أي لأنه الذي وقعت عليه العهود والمواثيق، فوضعوها بينهم وقالوا لأبي طالب: أي توبيخا له ولمن معه: قد آن لكم أن ترجعوا عما أحدثتم علينا وعلى أنفسكم، فقال أبو طالب: إنما أتيتكم في أمر نصف بيننا وبينكم:
أي أمر وسط لا حيف فيه علينا ولا عليكم، إن ابن أخي أخبرني أن هذه الصحيفة التي في أيديكم قد بعث الله تعالى عليها دابة لم تترك فيها اسما من أسماء الله تعالى إلا لحسته وتركت فيها غدركم وتظاهركم علينا بالظلم.(1/484)
أقول: هذه على الرواية الثانية، وأما على الرواية الأولى التي هي أثبت فيكون قوله لم تترك اسما إلا أثبتته ولحست مواثيقكم وعهدكم.
ثم رأيت ابن الجوزي ذكر ذلك، فقال: إن أبا طالب قال: إن ابن أخي قد أخبرني ولم يكذبني قط أن الله تعالى قد سلط على صحيفتكم التي كتبتم الأرضة، فلحست كل ما كان فيها من جور أو ظلم أو قطيعة رحم، وبقي فيها كل ما ذكر به الله تعالى.
وفي الينبوع أن أبا طالب قال لما حضرت الصحيفة: إن صحيفتكم هذه صحيفة إثم وقطيعة رحم، وإن ابن أخي أخبرني أن الله تعالى سلط عليها الأرضة، فلم تدع ما كتبتم إلا باسمك اللهم، والله أعلم. قال أبو طالب: فإن كان الحديث كما يقول، فأفيقوا: أي وفي رواية نزعتم: أي رجعتم عن سوء رأيكم: أي وإن لم ترجعوا فو الله لا نسلمه حتى نموت من عند آخرنا، وإن كان الذي يقول باطلا دفعنا إليكم صاحبنا فقتلتم أو استحييتم، فقالوا: قد رضينا بالذي تقول: أي وفي رواية أنصفتنا، ففتحوا الصحيفة فوجدوا الأمر كما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فلما رأت قريش صدق ما جاء به أبو طالب قالوا: أي قال أكثرهم: هذا سحر ابن أخيك، وزادهم ذلك بغيا وعدوانا، وبعضهم ندم وقال: هذا بغي منا على إخواننا وظلم لهم.
أي وقد جاء أن أبا طالب قال لهم أي بعد أن وجدوا الأمر كما أخبر به صلى الله عليه وسلم:
يا معشر قريش علام نحصر ونحبس وقد بان الأمر وتبين أنكم أولى بالظلم والقطيعة والإساءة؟ ودخلوا بين أستار الكعبة وقالوا: اللهم انصرنا على من ظلمنا، وقطع أرحامنا واستحل ما يحرم عليه منا، ثم انصرفوا إلى الشعب، وعند ذلك مشى طائفة منهم وهم خمسة في نقض الصحيفة: أي ما تضمنته، وهم: هشام بن عمرو بن الحارث، وزهير بن أمية ابن عمته صلى الله عليه وسلم عاتكة بنت عبد المطلب، وقد أسلم بعد ذلك كالذي قبله كما تقدم، والمطعم بن عدي مات كافرا كما تقدم. وأبو البختري بن هشام قتل ببدر كافرا. كما تقدم وزمعة بن الأسود قتل ببدر كافرا.
واختلف في كاتب الصحيفة، فعند ابن سعد أنه بغيض بن عامر فشلت يده، ولم يعرف له إسلام: وعند ابن إسحاق أن الكاتب لها هشام بن عمرو المتقدم ذكره.
قال: وقيل إن الكاتب لها منصور بن عكرمة: أي فشلت يده فيما يزعمون، كذا في النور نقلا عن سيرة ابن هشام. وقيل النضر بن الحارث، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت بعض أصابعه، وهو ممن قتل على كفره عنده منصرفه صلى الله عليه وسلم من بدر. وقيل الكاتب لها طلحة بن أبي طلحة العبدري. قال ابن كثير رحمه الله:
والمشهور أنه منصور.(1/485)
ويجمع بين هذه الأقوال باحتمال أن يكون كتب بها نسخ: أي فكل كتب نسخة انتهى: أي وينبغي أن يكون الذي شلت يده هو كاتب الصحيفة التي علقت في الكعبة، ولعلها هي التي كتبت أولا، وإلى أكل الأرضة الصحيفة، وإلى عد الخمسة الذين سعوا في نقض الصحيفة أشار صاحب الهمزية بقوله:
فديت خمسة الصحيفة بالخمسة ... إذ كان للكرام فداء
فتية بيتوا على فعل خير ... حمد الصبح أمره والمساء
يا لأمر أتاه بعد هشام ... زمعة إنه الفتى الأتاء
وزهير والمطعم بن عدي ... وأبو البختري من حيث شاؤوا
نقضوا مبرم الصحيفة إذ شد ... دت عليه من العدا الأنداء
أذكرتنا بأكلها أكل منسا ... ة سليمان الأرضة الخرساء
وبها أخبر النبي وكم أخرج ... خبا له الغيوب خباء
أي فديت خمسة الصحيفة: أي الناقضين لها بالخمسة المستهزئين السابق ذكرهم، فتية ثبتوا وتراودوا واشتوروا بالحجون ليلا على فعل خير وهو نقض الصحيفة، حمد الصباح والمساء منهم ذلك الفعل، بالأمر عظيم وهو نقض الصحيفة أتاه بعد هشام زمعة بن الأسود وإنه الكريم في قومه، الأتاء: أي المبالغ في إيتاء الخير، وأتاه زهير، وأتاه المطعم بن عدي، وأتاه أبو البختري من المكان الذي قصدوه فنقضوا مبرم الصحيفة: أي الأمر الذي أبرمته أذكرتنا الأرضة الخرساء بأكلها تلك الصحيفة. منسأة: أي عصى سليمان، وبأكلها للصحيفة أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، ومرات كثيرة أخرج صلى الله عليه وسلم شيئا مخبأ الغيوب له ساترة، والمراد أن كل واحد من هؤلاء الخمسة الذين نقضوا الصحيفة فدى بأولئك الخمسة المستهزئين من الأذى الذي أصابهم المتقدم ذكره؛ فلا ينافي أن بعض هؤلاء الذين نقضوا الصحيفة مات كافرا.
قال: جاء أن هشام بن عمرو بن الحارث رضي الله تعالى عنه- فإنه أسلم بعد ذلك كما تقدم- مشى إلى زهير بن أمية بن عاتكة بنت عبد المطلب رضي الله تعالى عنه، فإنه أسلم بعد ذلك أيضا كما تقدم، فقال له: يا زهير أرضيت أن تأكل الطعام، وتلبس الثياب وأخوالك قد علمت لا يباعون ولا يبتاعون؟ فقال: ويلك يا هشام فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، والله لو كان معي رجل آخر لقمت لأنقضها يعني الصحيفة قال: وجدت رجلا، قال من هو؟ قال: أنا، فقال زهير: ابغنا رجلا ثالثا، فذهب إلى المطعم بن علي، فقال له: يا مطعم أرضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف، يعني بني هاشم وبني المطلب وأنت شاهد على ذلك؟ فقال له: ويحك ماذا(1/486)
أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، قال: وجدت ثانيا، قال: من هو؟ قلت: أنا، قال ابغنا رجلا ثالثا، قال: قد فعلت، قال: من هو؟ قلت: زهير بن أمية، قال: ابغنا رابعا، فذهبت إلى أبي البختري بن هشام، فقلت له نحوا مما قلت للمطعم، فقال: وهل معين علي هذا الأمر؟ قلت نعم، قال: من هو؟ قلت: زهير بن أمية، والمطعم بن عدي، وأنا معك، قال ابغنا خامسا، فذهبت إلى زمعة بن الأسود فكلمته، فقال وهل من أحد يعين على ذلك فسميت له القوم.
ثم إن هؤلاء اجتمعوا ليلا عند الحجون، وأجمعوا أمرهم وتعاهدوا على القيام في نقض الصحيفة حتى ينقضوها، وقال زهير أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم، فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم؛ وغدا زهير وعليه حلة فطاف بالبيت ثم أقبل على الناس، فقال: يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم، أي والمطلب هلكى؟ لا يباعون ولا يبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة، فقال أبو جهل كذبت والله لا تشق، قال زمعة بن الأسود أنت والله أكذب، ما رضينا كتابتها حين كتبت، قال أبو البختري صدق زمعة، قال المطعم صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله تعالى منها ومما كتب فيها، وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك، فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بالليل، فقام المطعم بن عدي إلى الصحيفة فشقها انتهى.
أي وهذا يدل للرواية الدالة على أن الأرضة لحست اسم الله تعالى، وأثبتت ما فيها من العهود والمواثيق، وإلا فبعد امحاء ذلك منها لا معنى لشقها.
وفي كلام بعضهم يحتمل أن أبا طالب إنما أخبرهم بعد سعيهم في نقضها. قال ابن حجر الهيتمي: ويبعده أن الإخبار بذلك حينئذ ليس له كبير جدوى، وقام هؤلاء الخمسة ومعهم جماعة ولبسوا السلاح ثم خرجوا إلى بني هاشم وبني المطلب، فأمروهم بالخروج إلى مساكنهم ففعلوا.
باب ذكر خبر وفد نجران
ثم قدم عليه صلى الله عليه وسلم وهو بمكة وفد نجران، وهم قوم من النصارى، ونجران:
بلدة بين مكة واليمن، على نحو من سبع مراحل من مكة، كانت منزلا للنصارى، وكانوا نحو عشرين رجلا حين بلغهم خبره ممن هاجر من المسلمين إلى الحبشة، فوجدوه صلى الله عليه وسلم في المسجد، فجلسوا إليه سألوه وكلموه ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة ينظرون إليهم، فلما فرغوا من مسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أرادوا دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوه فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا له وآمنوا به، وعرفوا منه ما هو موصوف به في كتابهم، فلما(1/487)
قاموا عنه اعترضهم أبو جهل في نفر من قريش، فقالوا لهم: خيبكم الله من ركب، بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون أي تنظرون الأخبار لهم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم فصدقتموه بما قال، لا نعلم ركبا أحمق: أي أقل عقلا منكم، فقالوا لهم: سلام عليكم لا نجاهلكم لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه، ويقال نزل فيهم قوله تعالى الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ [البقرة:
الآية 121] إلى قوله لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [القصص: الآية 55] ونزل قوله تعالى وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [المائدة: الآية 83] .
وذكر في الوفاء وفود ضماد الأزدي عليه صلى الله عليه وسلم، فقال: عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن ضمادا قدم مكة وكان من أزد شنوءة، وكان يرقي من الريح: أي ولعل المراد به اللمعة من الجن، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون: إن محمدا مجنون، فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله أن يشفيه على يدي، قال: فأتيته فقلت: يا محمد إني أرقي من الريح، فإن الله يشفي على يدي من شاء، فهل لك؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، فقال ضماد: أعد عليّ كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فقال: لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، هات يدك أبايعك على الإسلام، فبايعه وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وعلى قومك؟ قال: وعلى قومي.
باب ذكر وفاة عمه أبي طالب، وزوجته صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله تعالى عنها
لتعلم أنهما ماتا في عام واحد: أي بعد خروج بني هاشم والمطلب من الشعب بثمانية وعشرين يوما، وإلى موتهما في عام واحد أشار صاحب الهمزية بقوله:
وقضى عمه أبو طالب والد ... دهر فيه السراء والضراء
ثم ماتت خديجة ذلك العا ... م ونالت من أحمد المناء
وذلك قبل الهجرة إلى المدينة بثلاث سنين، وبعد مضي عشر سنين من بعثته صلى الله عليه وسلم: أي من مجيء جبريل عليه الصلاة والسلام بالوحي. وهو يردّ قول ابن إسحاق ومن تبعه أن خديجة رضي الله تعالى عنها ماتت بعد الإسراء.
وأفاد كلام صاحب الهمزية أن موت خديجة كان بعد موت أبي طالب. وقيل كانت وفاة خديجة رضي الله تعالى عنها قبل أبي طالب بخمس وثلاثين ليلة. وقيل(1/488)
بعده بثلاثة أيام. ويؤيد ما في الهمزية قول الحافظ عماد الدين بن كثير المشهور أنه مات قبل خديجة رضي الله تعالى عنها: أي بثلاثة أيام. ودفنت بالحجون، ونزل صلى الله عليه وسلم في حفرتها ولها من العمر خمس وستون سنة ولم تكن الصلاة على الجنازة شرعت.
وذكر الفاكهاني المالكي في شرح الرسالة أن صلاة الجنازة من خصائص هذه الأمة، لكن ذكر ما يخالفه في الشرح المذكور حيث قال: وروي «أن آدم عليه الصلاة والسلام لما توفي أتي بحنوط، وكفن من الجنة، ونزلت الملائكة فغسلته وكفنته في وتر من الثياب وحنطوه وتقدم ملك منهم فصلى عليه وصلت الملائكة خلفه، ثم أقبروه وألحدوه ونصبوا اللبن عليه وابنه شيث عليه الصلاة والسلام الذي هو وصيه معهم، فلما فرغوا قالوا له: هكذا فاصنع بولدك وإخوتك، فإنها سنتكم» هذا كلامه:
أي ويبعد أنه لم يفعل ذلك بعد القول المذكور له. ويحتمل أن المراد بالصلاة مجرد الدعاء لا هذه الصلاة المعروفة المشتملة على التكبير، لكن يبعده ما في العرائس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن آدم لما مات قال ولده شيث لجبريل صلّ عليه، فقال له جبريل: بل أنت تقدم فصلّ على أبيك، فصلى عليه وكبر ثلاثين تكبيرة» وقد أخرج الحاكم نحوه مرفوعا وقال صحيح الإسناد، ومنه تعلم أن الغسل والتكفين والصلاة والدفن واللحد من الشرائع القديمة، بناء على أن المراد بالصلاة الصلاة المشتملة على التكبير لا مجرد الدعاء.
وحينئذ لا يحسن القول بأن صلاة الجنازة من خصائص هذه الأمة، إلا أن يقال لا يلزم من كونها من الشرائع القديمة أن تكون معروفة لقريش، إذ لو كانت كذلك لفعلوا ذلك، وسيأتي عنهم أنهم لم يفعلوا ذلك.
وأيضا لو كانت معروفة لهم لصلى صلى الله عليه وسلم على خديجة ومن مات قبلها من المسلمين كالسكران ابن عم سودة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهما الذي هو زوجها، وسيأتي أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وجد البراء بن معرور قد مات فذهب هو وأصحابه فصلى على قبره، وأنها أول صلاة صليت على الميت في الإسلام، ومعرور معناه في الأصل مقصود.
لا يقال: يجوز أن يكون المراد بتلك الصلاة مجرد الدعاء. لأنا نقول قد جاء أنه كبر في صلاته أربعا. وقد روى هذه الصلاة تسعة من الصحابة ذكرهم السهيلي، وسيأتي عن الإمتاع: لم أجد في شيء من السير متى فرضت صلاة الجنازة، ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم صلى على أسعد بن زرارة وقد مات في السنة الأولى: ولا على عثمان بن مظعون وقد مات في السنة الثانية.
وفي كلام بعضهم: صلاة الجنازة فرضت في السنة الأولى من الهجرة، وأول من صلى عليه صلى الله عليه وسلم أسعد بن زرارة فليتأمل.(1/489)
وفي كلام بعضهم: كانوا في الجاهلية يغسلون موتاهم، وكانوا يكفنونهم ويصلون عليهم. وهو أن يقوم ولي الميت بعد أن يوضع على سريره ويذكر محاسنه كلها ويثني عليه ثم يقول: عليك رحمة الله ثم يدفن، أي وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمي ذلك العام عام الحزن، ولزم بيته وأقلّ الخروج، وكانت مدة إقامتها معه صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة على الصحيح.
ويذكر «أنه صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة رضي الله تعالى عنها وهي مريضة فقال لها:
يا خديجة أتكرهين ما أرى منك، وقد يجعل الله في الكرة خيرا؟ أشعرت أن الله قد أعلمني أنه سيزوجني» وفي رواية «أما علمت أن الله قد زوجني معك في الجنة مريم بنت عمران، وكلثم أخت موسى وهي التي علمت ابن عمها قارون الكيمياء، وآسية امرأة فرعون، فقالت: آلله أعلمك بهذا يا رسول الله؟» وفي رواية «آلله فعل ذلك يا رسول الله؟ قال نعم، قالت: بالرفاء والبنين» زاد في رواية «أنه صلى الله عليه وسلم أطعم خديجة من عنب الجنة» وقولها بالرفاء والبنين هو دعاء كان يدعى به في الجاهلية عند التزويج، والمراد منه الموافقة والملائمة، مأخوذ من قولهم رفأت الثوب: ضممت بعضه إلى بعض، ولعل هذا كان قبل ورود النهي عن ذلك.
هذا، وفي الإمتاع أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لما تزوج أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنه جاء إلى مجلس المهاجرين الأولين في الروضة فقال رفئوني، فقالوا ماذا يا أمير المؤمنين؟ قال: تزوجت أم كلثوم بنت عليّ هذا كلامه، ولعل النهي لم يبلغ هؤلاء الصحابة حيث لم ينكروا قوله، كما لم يبلغ سيدنا عمر رضي الله تعالى عنهم.
وفي الشهر الذي ماتت فيه خديجة رضي الله تعالى عنها وهو شهر رمضان بعد موتها بأيام تزوج سودة بنت زمعة، وكانت قبله عند السكران ابن عمها، وهاجر بها إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، ثم رجع بها إلى مكة فمات عنها، فلما انقضت عدتها تزوّجها صلى الله عليه وسلم، وأصدقها أربعمائة درهم.
وقد كانت رأت في نومها أن النبي صلى الله عليه وسلم وطئ عنقها فأخبرت زوجها، فقال: إن صدقت رؤياك أموت أنا ويتزوّجك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم رأت في ليلة أخرى أن قمرا انقضّ عليها من السماء وهي مضطجعة، فأخبرت زوجها فقال: لا ألبث حتى أموت فمات من يومه ذلك.
وعقد صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله تعالى عنها وهي بنت ست أو سبع سنين في شوّال. فعن خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون قالت «قلت لما ماتت خديجة:
يا رسول الله ألا تتزوج؟ قال: من؟ قلت: إن شئت بكرا، وإن شئت ثيبا، قال: فمن البكر؟ قلت: أحق خلق الله بك، بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما، قال: ومن(1/490)
الثيب؟ قلت: سودة بنت زمعة، قد آمنت بك واتبعتك على ما تقول، قال: فاذهبي فاذكريهما عليّ، قالت: فدخلت على سودة بنت زمعة فقلت لها: ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة؟ قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطبك عليه، قالت: وددت، ادخلي على أبي فاذكري ذلك له وكان شيخا كبيرا فدخلت عليه وحيته بتحية الجاهلية فقال: من هذه؟ قلت: خولة بنت حكيم، قال: فما شأنك؟ قلت: أرسلني محمد بن عبد الله أخطب عليه سودة، قال: كفء كريم، قال: ما تقول صاحبتك؟ قالت تحب ذلك، قال ادعيها إلي، فدعوتها قال: أي بنية إن هذه تزعم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب قد أرسل يخطبك وهو كفء كريم، أتحبين أن أزوجك منه؟ قالت نعم، قال: ادعيه لي، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجه إياها، ولما قدم أخوها عبد بن زمعة وقد بلغه ذلك صار يحثي على رأسه التراب، ولما أسلم قال: لقد كدني السفه يوم أحثي على رأسي التراب إذ تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة يعني أخته» وذهبت خولة إلى أم رومان أم عائشة فقالت لها «ماذا أدخل الله عليكم من البركة والخير؟ قد أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة، قالت: انتظري أبا بكر حتى يأتي، فجاء أبو بكر فقلت له: يا أبا بكر ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة؟ قال: وما ذاك؟ قلت: قد أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة، قال: وهل تصلح أي تحل له؟ إنما هي بنت أخيه، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك، فقال: ارجعي إليه، فقولي له: أنا أخوك وأنت أخي في الإسلام، وابنتك تصلح لي- أي تحل، فرجعت فذكرت ذلك له، قالت أم رومان رضي الله تعالى عنها: إن مطعم بن عدي قد كان ذكرها على ابنه جبير ووعده، والله ما وعد وعدا قط فأخلفه- تعني أبا بكر- فدخل أبو بكر على مطعم وعنده امرأته أم ابنه المذكور، فكلمت أبا بكر بما أوجب ذهاب ما كان في نفسه من عدته لمطعم، فإن المطعم لما قال له أبو بكر: ما تقول في أمر هذه الجارية أقبل المطعم على امرأته وقال لها: ما تقولين يا هذه؟ فأقبلت على أبي بكر وقالت له:
لعلنا إن أنكحنا هذا الفتى إليكم تصبيه وتدخله في دينك الذي أنت عليه، فأقبل أبو بكر على المطعم وقال له: ماذا تقول أنت؟ فقال: إنها لتقول ما تسمع، فقام أبو بكر وليس في نفسه من الوعد شيء، فرجع فقال لخولة: ادعي لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعته فزوجه إياها وعائشة حينئذ بنت ست سنين، وقيل سبع سنين وهو الأقرب» .
فعلم أن العقد على سودة تقدم على العقد على عائشة، لأن العقد على سودة كان في رمضان الشهر الذي ماتت فيه خديجة رضي الله تعالى عنها وعلى عائشة كان في شوّال، ومعلوم أن الدخول بسودة كان بمكة وعلى عائشة كان بالمدينة.
ثم رأيت بعضهم ذكر أن خولة ذهبت إلى طلب عائشة وأن النبي صلى الله عليه وسلم عقد عليها(1/491)
قبل ذهابها لسودة وعقده عليها، ولا تخفى المخالفة، إلا أن يراد بالعقد على سودة الدخول بها. وفيه أنه لا يحسن ذلك مع قوله قبل ذهابها لسودة.
ولما اشتكى أبو طالب: أي مرض وبلغ قريشا ثقله: أي اشتداد المرض به قال بعضهم لبعض: إن حمزة وعمر قد أسلما، وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها، فانطلقوا بنا إلى أبي طالب فليأخذ لنا على ابن أخيه وليعطه منا، فإنا والله ما نأمن أن يبتزونا أمرنا أي يسلبونه، ومنه قولهم: من عزّ بز: أي من غلب أخذ السلب: وهو الثياب التي هي البز. وفي لفظ: إنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون منا شيء: أي قتل محمد كما في بعض الروايات، فتعيرنا العرب ويقولون تركوه حتى إذا مات عمه تناولوه، فمشى إليه أشرافهم منهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل وأمية بن خلف وأبو سفيان رضي الله تعالى عنه، فإنه أسلم ليلة الفتح كما سيأتي، وأرسلوا رجلا يدعى المطلب؛ فاستأذن لهم علي أبي طالب فقال: هؤلاء شيخة قومك وسرواتهم يستأذنون عليك، قال أدخلهم؛ فدخلوا عليه فقالوا: يا أبا طالب أنت منا حيث قد علمت. وفي لفظ قالوا: يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا وقد حضرك ما ترى وتخوفنا عليك؛ وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك فادعه وخذ له منا وخذ لنا منه لينكف عنا وننكف عنه، وليدعنا وديننا وندعه ودينه، فبعث إليه صلى الله عليه وسلم أبو طالب فجاءه، ولما دخل صلى الله عليه وسلم على أبي طالب وكان بين أبي طالب وبين القوم فرجة تسع الجالس، فخشي أبو جهل أن يجلس النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الفرجة فيكون أرقى منه؛ فوثب أبو جهل فجلس فيها، فلم يجد النبي صلى الله عليه وسلم مجلسا قرب أبي طالب، فجلس عند الباب انتهى.
وفي الوفاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم: خلوا بيني وبين عمي، فقالوا: ما نحن بفاعلين؛ وما أنت بأحق به منا، إن كانت لك قرابة فإن لنا قرابة مثل قرابتك، فقال أبو طالب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي هؤلاء أشراف قومك، وفي لفظ: هؤلاء شيخة قومك وسرواتهم، وقد اجتمعوا لك ليعطوك وليأخذوا منك. وفي لفظ: سألوك النصف، وفي لفظ: أعط سادات قومك ما سألوك، فقد أنصفوك أن تكف عن شتم آلهتهم ويدعوك وإلهك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيتكم إن أعطيتكم ما سألتم هل تعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم؟ أي تطيع وتخضع، فقال أبو جهل: نعم وآتيك عشر كلمات. وفي لفظ لنعطيكها وعشرا معها، فما هي؟ قال:
تقولون لا إله إلا الله وتقلعون عما تعبدون من دونه، فصفقوا بأيديهم ثم قالوا يا محمد أتريد أن تجعل الآلهة إلها واحدا، إن أمرك لعجب، فأنزل الله تعالى ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص الآية 1] إلى آخر الآيات، وفي لفظ قالوا: أيسع لحاجاتنا جميعا إله واحد، وفي لفظ قالوا: سلنا غير هذه الكلمة. وفي لفظ أن أبا طالب قال: يا بن أخي(1/492)
هل من كلمة غيرها، فإن قومك قد كرهوها، قال: يا عم ما أنا بالذي يقول غيرها، ثم قال صلى الله عليه وسلم: لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها، ثم قال بعضهم لبعض: والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه ثم تفرقوا. وفي لفظ قالوا عند قيامهم: والله لنشتمك وإلهك الذي يأمرك بهذا، أي وفي لفظ لتكفن عن سبّ آلهتنا أو لنسبن إلهك الذي أمرك بهذا.
قال في الينبوع: وهذه العبارة أحسن من الأولى، لأنهم كانوا يعرفون أنه يعبد الله، وما كانوا ليسبوا الله عالمين، لكنهم ما كانوا يعرفون أن الله أمره بذلك، وذكر أن ذلك سبب نزول قوله تعالى وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام: الآية 108] .
هذا، وفي النهر أن سبب نزول هذه الآية أن كفار قريش قالوا لأبي طالب: إما أن تنهى محمدا عن سب آلهتنا والنقص منها، وإما أن نسبّ إلهه ونهجوه، قال فيه:
وحكم هذه الآية باق في هذه الأمة، فإذا كان الكافر في منعة وخيف أن يسب الإسلام أو الرسول فلا يحل للمسلم ذم دين الكافر، ولا يتعرض لما يؤدي إلى ذلك، لأن الطاعة إذا كانت تؤدي إلى مفسدة خرجت عن أن تكون طاعة فيجب النهي عنها كما ينهى عن المعصية هذا كلامه.
وعند ذلك قال أبو طالب لرسول صلى الله عليه وسلم: والله يا بن أخي ما رأيتك سألتهم شحطا أي بالحاء والطاء المهملتين أمرا بعيدا، فلما قال ذلك طمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، فجعل يقول: أي عم فأنت فقلها أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة: أي لو ارتكبت ذنبا بعد قولها، وإلا فالإسلام يجبّ ما قبله، فلما رأى حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:
والله يا بن أخي لولا مخافة السبة: أي العار عليك وعلى بني أبيك من بعدي، وأن تظن قريش أني إنما قلتها جزعا: أي بالجيم والزاي خوفا من الموت، وهذا هو المشهور. وقيل بالخاء المعجمة والراء، أي ضعفا لقلتها، وفي رواية: لأقررت بها عينك لما أرى من شدة وجدك، لكني أموت على ملة الأشياخ عبد المطلب وهاشم وعبد مناف، فأنزل الله تعالى إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص: الآية 56] الآية.
أي وعن مقاتل «أن أبا طالب قال عند موته: يا معشر بني هاشم أطيعوا محمدا وصدقوه تفلحوا وترشدوا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا عمّ تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك؟ قال. فما تريد يا ابن أخي؟ قال: أريد أن تقول لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله تعالى، فقال: يا بن أخي قد علمت أنك صادق لكني أكره أن يقال» الحديث، قال في الهدى: وكان من حكمة أحكم الحاكمين بقاؤه على دين قومه لما في ذلك من المصالح التي تبدو لمن تأملها: أي وكذا أقرباؤه وبنو عمه تأخر إسلام من أسلم منهم، ولو أسلم أبو طالب وبادر أقرباؤه وبنو عمه إلى الإيمان به لقيل قوم(1/493)
أرادوا الفخر برجل منهم وتعصبوا له، فلما بادر إليه الأباعد وقاتلوا على حبه من كان منهم حتى أن الشخص منهم يقتل أباه وأخاه، علم أن ذلك إنما هو عن بصيرة صادقة ويقين ثابت.
وذكر «أنه لما تقارب من أبي طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه فأصغى إليه بأذنه، فقال: يا بن أخي، والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته بقولها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أسمع» . وفيه أنه لم يثبت أن العباس ذكر ذلك بعد الإسلام وأيضا نزول الآية حيث ثبت أن نزولها في حق أبي طالب يردّ ذلك.
ويرده أيضا ما في الصحيحين عن العباس رضي الله تعالى عنه أنه قال «قلت يا رسول الله إن أبا طالب كان يحيطك وينصرك فهل ينفعه ذلك؟ قال نعم، وجدته- أي كشف لي عن حاله وما يصير إليه يوم القيامة- فوجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح» أي وفي لفظ آخر «قال نعم، هو- أي يوم القيامة- في ضحضاح من النار، لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار» ولو كانت الشهادة المذكورة عند العباس ما سأل هذا السؤال ولأداها بعد الإسلام، إذ لو أداها لقبلت.
وقد يقال: إنما سأل هذا السؤال ولم يعد الشهادة بعد الإسلام، لأنه لما قال له صلى الله عليه وسلم أولا لم أسمع، فهم أنه حيث لم يسمعها صلى الله عليه وسلم لم يعتدّ بها سأل هذا السؤال وفهم أن إعادة الشهادة بعد إسلامه لا تفيد شيئا.
ويرده أيضا ما جاء في رواية «أنه صلى الله عليه وسلم لما كرر علي أبي طالب أن يقول كلمة الشهادة وهو يأتي إلى أن قال هو على دين عبد المطلب قال صلى الله عليه وسلم: أما والله لأستغفرنّ لك ما لم أنه عن ذلك. أي عن الاستغفار لك فأنزل الله عز وجل ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) [التوبة: الآية 113] أي وتقدم أن سبب نزول هذه الآية طلب استغفاره لأمه عند زيارة قبرها، أن يقال لا مانع من تكرر سبب نزولها، لجواز أنه صلى الله عليه وسلم جوّز الفرق بين أمه وعمه، لأن أمه لم تدع للإسلام بخلاف عمه، وفي منع استغفاره لأمه ما تقدم. ولا يشكل على ذلك قوله يوم أحد «اللهم اغفر لقومي» لأن ذلك أي غفران الذنوب مشروط بالتوبة: أي الإسلام، فكأنه صلى الله عليه وسلم دعا لهم بالتوبة التي هي الإسلام، ويؤيده رواية «اللهم اهد قومي» أي للإسلام. قال: وأيضا جاء في صحيح ابن حبان عن علي رضي الله تعالى عنه قال «لما مات أبو طالب أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إن عمك الشيخ الضال قد مات، قال: اذهب فواره، قال علي رضي الله تعالى عنه: فلما واريته جئت إليه، فقال لي اغتسل» .
أقول: لأنه غسله، وبه وبقوله صلى الله عليه وسلم «من غسل ميتا فليغتسل» استدل أئمتنا على أن من غسل ميتا مسلما أو كافرا استحب له أن يغتسل.(1/494)
وروى البيهقي خبر «أن عليا رضي الله تعالى عنه غسله بأمر النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك» لكن ضعفه وفي رواية عن علي رضي الله تعالى عنه «لما أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بموت أبي طالب بكى وقال: اذهب فاغسله وكفنه وواره، غفر الله له ورحمه» .
وأما ما روي عنه أنه صلى الله عليه وسلم عارض جنازة عمه أبي طالب فقال: وصلتك رحم، وجزيت خيرا يا عم» فقال الذهبي إنه خبر منكر، والله أعلم.
وجاء أيضا «أنه ذكر عنده عمه أبو طالب فقال: إنه ستنفعه شفاعتي» وفي رواية «لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار» أي مقدار ما يغطي بطن قدميه. وفي رواية «في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منها دماغه» وفي لفظ عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا كان يوم القيامة شفعت لأبي وأمي وعمي أبي طالب، وأخ لي كان في الجاهلية» يعني أخاه من الرضاعة من حليمة كما في رواية تأتي.
أقول: يجوز أن يكون ذكر شفاعته لأبويه كان قبل إحيائهما وإيمانهما به كما قدمناه جوابا عن نهيه عن الاستغفار لهما، والله أعلم.
وفي لفظ آخر «شفعت في أبي وعمي أبي طالب وأخي من الرضاعة- يعني من حليمة- ليكونوا من بعد البعث هباء» .
ومما يستأنس به لإيمان أبيه ما جاء «أنه صلى الله عليه وسلم قال لابنته فاطمة رضي الله تعالى عنها وقد عزّت قوما من الأنصار في ميتهم: لعلك بلغت معهم الكدي- بالدال المهملة أو الكرا بالراء، يعني القبور- فقالت: لا، فقال: لو كنت بلغت معهم الكدي ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك يعني عبد المطلب» ولم يقل جدك يعني أباه الذي هو عبد الله، وتقدم القول بأن حليمة وأولادها أسلموا.
وعليه فيجوز أن يكون هذا منه صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم أخوه من الرضاعة كما تقدم مثل ذلك في أبيه وأمه. وفي رواة الحديث الأول من هو منكر الحديث، وفي الثاني من هو ضعيف. وقال فيه ابن الجوزي: إنه موضوع بلا شك: أي وهذا أي قبول شفاعته صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب عد من خصائصه صلى الله عليه وسلم، فلا يشكل بقوله تعالى فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) [المدّثّر: الآية 48] أو لا تنفعهم شفاعة الشافعين في الإخراج من النار بالكلية: أي وفي هذا الثاني أنه لا يناسب أن شفاعته لهم أن يكونوا من بعد البعث هباء: أي في صيرورتهم هباء، إلا أن يقال إنه لم يستجب له في ذلك.
قال: وجاء أيضا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن أهون أهل النار- أي وهم الكفار- عذابا أبو طالب، وهو ينتعل بنعلين يغلي منهما دماغه» أي وفي رواية «كما يغلى المرجل» أي القدر من النحاس «حتى يسيل(1/495)
دماغه على قدميه» وفي رواية «كما يغلى المرجل بالقمقم» قيل والقمقم بكسر القافين: البسر الأخضر يطبخ في المرجل استعجالا لنضجه يفعل ذلك أهل الحاجة.
وذكر السهيلي الحكمة في اختصاص قدميه بالعذاب وزعم بعض غلاة الرافضة أن أبا طالب أسلم، واستدل له بأخبار واهية ردها الحافظ ابن حجر في الإصابة.
أي وقد قال: وقفت على جزء جمعه بعض أهل الرفض أكثر فيه من الأحاديث الواهية الدالة على إسلام أبي طالب، ولم يثبت من ذلك شيء.
وروى أبو طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «حدثني محمد أن الله أمره بصلة الأرحام» وأن يعبد الله وحده ولا يعبد معه غيره» وقال «سمعت ابن أخي الأمين يقول اشكر ترزق، ولا تكفر تعذب» انتهى.
وفي المواهب عن شرح التنقيح للقرافي أن أبا طالب ممن آمن بظاهره وباطنه وكفر بعدم الإذعان للفروع، لأنه كان يقول: إني لا أعلم أن ما يقوله ابن أخي لحق، ولولا أني أخاف أن يعيرني نساء قريش لاتبعته، فهذا تصريح باللسان واعتقاد بالجنان، غير أنه لم يذعن للأحكام، هذا كلامه. وفيه أن الإيمان باللسان الإتيان بلا إله إلا الله، ولم يوجد ذلك منه كما علمت، وتقدم أن الإيمان النافع عند الله الذي يصير به الشخص مستحقا لدخول الجنة ناجيا من الخلود في النار، التصديق بالقلب بما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم وإن لم يقر بالشهادتين مع التمكين من ذلك حيث لم يطلب منه ذلك ويمتنع، وأبو طالب طلب منه ذلك وامتنع.
وقد روى الطبراني عن أم سلمة «أن الحارث بن هشام- أي أخا أبي جهل بن هشام- أتى النبي صلى الله عليه وسلم يوم حجة الوداع، فقال: إنك تحث على صلة الرحم، والإحسان إلى الجار، وإيواء اليتيم، وإطعام الضيف، وإطعام المسكين، وكل هذا مما يفعله هشام، يعني والده، فما ظنك به يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل قبر لا يشهد صاحبه أن لا إله إلا الله فهو جذوة من النار، وقد وجدت عمي أبا طالب في طمطام من النار، فأخرجه الله لمكانه مني وإحسانه إليّ، فجعله في ضحضاح من النار» .
وذكر أن أبا طالب لما حضرته الوفاة جمع إليه وجهاء قريش فأوصاهم، وكان من وصيته أن قال: يا معشر قريش أنتم صفوة الله من خلقه وقلب العرب، فيكم المطاع، وفيكم المقدم الشجاع، والواسع الباع، لم تتركوا للعرب في المآثر نصيبا إلا أحرزتموه، ولا شرفا إلا أدركتموه، فلكم بذلك على الناس الفضيلة، ولهم به إليكم الوسيلة. أوصيكم بتعظيم هذه البنية: أي الكعبة، فإن فيها مرضاة للرب، وقواما للمعاش. صلوا أرحامكم ولا تقطعوها، فإن في صلة الرحم منسأة- أي فسحة- في(1/496)
الأجل، وزيادة في العدد. واتركوا البغي والعقوق ففيهما هلكت القرون قبلكم.
أجيبوا الداعي، وأعطوا السائل فإن فيهما شرف الحياة والممات. وعليكم بصدق الحديث وأداء الأمانة، فإن فيهما محبة في الخاص ومكرمة في العام. وإني أوصيكم بمحمد خيرا، فإنه الأمين في قريش- أي وهو الصديق في العرب، وهو الجامع لكل ما أوصيكم به، وقد جاء بأمر قبله الجنان، وأنكره اللسان مخافة الشنآن- أي البغض- وهو لغة في الشنآن- وأيم الله كأني أنظر إلى صعاليك العرب، وأهل البر في الأطراف والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته وصدقوا كلمته، وعظموا أمره، فخاض بهم غمرات الموت، فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا، ودورها خرابا، وضعفاؤها أربابا، وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه وأبعدهم منه أحظاهم عنده، قد محضته العرب ودادها، وأعطته قيادها دونكم يا معشر قريش، كونوا له ولاة، ولحزبه حماة، والله لا يسلك أحد منكم سبيله إلا رشد، ولا يأخذ أحد بهديه إلا سعد.
وفي لفظ آخر أنه لما حضرته الوفاة دعا بني عبد المطلب فقال: لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمد وما اتبعتم أمره، فأطيعوه ترشدوا.
ولما مات أبو طالب نالت قريش من النبي صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تكن تطمع فيه في حياة أبي طالب، حتى أن بعض سفهاء قريش نثر على رأس النبي صلى الله عليه وسلم التراب، فدخل صلى الله عليه وسلم بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه بعض بناته وجعلت تزيله عن رأسه وتبكي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها لا تبكي لا تبكي يا بنية، فإن الله تعالى مانع أباك، وكان صلى الله عليه وسلم يقول «ما نالت قريش مني شيئا أكرهه- أي أشد الكراهة- حتى مات أبو طالب» وتقدم، وسيأتي بعض ما أوذي به.
قال: ولما رأى قريشا تهجموا قال يا عم ما أسرع ما وجدت فقدك. ولما بلغ أبا لهب ذلك قام أبو لهب بنصرته أياما وقال له: يا محمد امض لما أردت، وما كنت صانعا إذا كان أبو طالب حيا فاصنعه، لا واللات والعزى لا يوصل إليك حتى أموت.
واتفق أن ابن العيطلة- أي وهو أحد المستهزئين المتقدم ذكرهم سب النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبل عليه أبو لهب ونال منه، فولى وهو يصيح: يا معشر قريش صبا أبو عتبة- يعني أبا لهب- فأقبلت قريش على أبي لهب وقالوا له: أفارقت دين عبد المطلب؟ فقال:
ما فارقت» وفي لفظ «قالوا له: أصبوت؟ قال: ما فارقت دين عبد المطلب، ولكن أمنع ابن أخي أن يضام حتى يمضي لما يريد، قالوا: قد أحسنت وأجملت ووصلت الرحم، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك أياما لا يتعرض له أحد من قريش وهابوا أبا لهب إلى أن جاء أبو جهل وعقبة بن أبي معيط إلى أبي لهب فقالا له: أخبرك ابن أخيك أين مدخل أبيك؟ أي المحل الذي يكون فيه، يزعم أنه في النار، فقال له أبو(1/497)
لهب: يا محمد أيدخل عبد المطلب النار؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم ومن مات على مثل ما مات عليه عبد المطلب دخل النار، فقال أبو لهب: لا برحت لك عدوا وأنت تزعم أن عبد المطلب في النار، فاشتد عليه هو وسائر قريش انتهى.
وفي لفظ «قال له: يا محمد أين مدخل عبد المطلب؟ قال: مع قومه، فخرج أبو لهب إلى أبي جهل وعقبة، فقال: قد سألته، فقال: مع قومه، فقالا: يزعم أنه في النار، فقال: يا محمد أيدخل عبد المطلب النار؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم» الحديث، ولا يخفى أن عبد المطلب من أهل الفترة، وتقدم الكلام عليهم والله أعلم.
باب ذكر خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف
سميت بذلك، لأن رجلا من حضرموت نزلها فقال لأهلها: ألا أبني لكم حائطا يطيف ببلدكم فبناه، فسمي الطائف، وقيل غير ذلك.
لما مات أبو طالب ونالت قريش من النبي صلى الله عليه وسلم ما لم تكن نالته منه في حياته كما تقدم خرج إلى الطائف: أي وهو مكروب مشوش الخاطر مما لقي من قريش وقرابته وعترته خصوصا من أبي لهب وزوجته أم جميل حمالة الحطب من الهجو والسب والتكذيب.
وعن عليّ رضي الله تعالى عنه أنه قال بعد موت أبي طالب «لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذته قريش تتجاذبه وهم يقولون له صلى الله عليه وسلم أنت الذي جعلت الآلهة إلها واحدا؟ قال: فو الله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر فصار يضرب هذا ويدفع هذا وهو يقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟» .
وخروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف كان في شوال سنة عشر من النبوة وحده، وقيل معه مولاه زيد بن حارثة يلتمس من ثقيف الإسلام رجاء أن يسلموا، وأن يناصروه على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه. قال في الإمتاع: لأنهم كانوا أخواله.
قال بعضهم: ومن ثم أي من أجل أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى الطائف عند ضيق صدره وتعب خاطره جعل الله الطائف مستأنسا على من ضاق صدره من أهل مكة، كذا قال.
وفي كلام غيره: ولا جرم جعل الله الطائف مستأنسا لأهل الإسلام ممن بمكة إلى يوم القيامة، فهي راحة الأمة، ومتنفس كل ذي ضيق وغمة سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) [الأحزاب: الآية 62] فليتأمل.
فلما انتهى صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عمد إلى سادات ثقيف وأشرافهم وكانوا إخوة ثلاثة: أحدهم عبد ياليل، أي واسمه كنانة لم يعرف له إسلام، وأخوه مسعود أي(1/498)
وهو عبد كلال بضم الكاف وتخفيف اللام لم يعرف له إسلام أيضا، وحبيب. قال الذهبي: في صحبته نظر، أي وهم أولاد عمرو بن عمير بن عوف الثقفي، وجلس صلى الله عليه وسلم إليهم وكلمهم فيما جاءهم به أي من نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه، فقال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة أي ينتفها ويقطعها، أي وقيل يسرقها إن كان الله أرسلك. وقال له آخر: ما وجد الله أحدا يرسله غيرك.
وقال له الثالث والله لا أكلمك أبدا، لئن كنت رسول الله كما تقول لأنت أعظم خطرا: أي قدرا من إن أراد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك، فقام صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد أيس من خير ثقيف، وقال لهم: اكتموا عليّ، وكره صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه ذلك فيشتد أمرهم عليه وقالوا له اخرج من بلدنا وألحق بمناجاتك من الأرض، وأغروا به- أي سلطوا عليه- سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس وقعدوا له صفين على طريقه، فلما مر صلى الله عليه وسلم بين الصفين جعل لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا أرضخوهما أي دقوهما بالحجارة حتى أدموا رجليه صلى الله عليه وسلم.
وفي لفظ: حتى اختضبت نعلاه بالدماء، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أزلقته الحجارة- أي وجد ألمها- قعد إلى الأرض، فيأخذون بعضديه فيقيمونه، فإذا مشى رجموه وهم يضحكون، كل ذلك وزيد بن حارثة- أي بناء على أنه كان معه صلى الله عليه وسلم- يقيه بنفسه حتى لقد شجّ رأسه شجاجا، فلما خلص منهم رجلاه يسيلان دما عمد إلى حائط من حوائطهم: أي بستان من بساتينهم، فاستظل في حبلة- أي بفتح الباء الموحدة وتسكينها غير معروف- شجرة كرم، وقيل لها حبلة لأنها تحمل بالعنب. وقد فسر نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع حبل الحبلة ببيع العنب قبل أن يطيب. قال السهيلي: وهو غريب لم يذهب إليه أحد في تأويل الحديث، فجاء إلى ذلك المحل وهو مكروب موجع» أي وقد جاء النهي عن أن يقال لشجر العنب الكرم في قوله صلى الله عليه وسلم «لا يقولن أحدكم الكرم، فإن الكرم قلب المؤمن، ولكن قولوا حدائق العنب» قال وسبب النهي عن تسميتها كرما، لأن الخمر تتخذ من ثمرتها وهو يحمل على الكرم فاشتقوا لها اسما من الكرم.
وفي لفظ: ثم إن هؤلاء الثلاثة أي عبد ياليل وإخوته أغروا عليه سفهاءهم وعبيدهم فصاروا يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس وألجؤوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة، فلما دخل الحائط رجعوا عنه.
قال «وذكر أنه صلى الله عليه وسلم دعا بدعاء منه: اللهم إني أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي» اهـ وإذا في الحائط أي البستان عتبة(1/499)
وشيبة ابنا ربيعة: أي وقد رأيا ما لقي من سفهاء أهل الطائف، فلما رآهما كره مكانهما لما يعلم من عداوتهما لله ولرسوله، فلما رأياه وما لقي تحركت له رحمهما، فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له عداس معدود في الصحابة، مات قبل الخروج إلى بدر، فقالا خذ قطفا من هذا العنب فضعه في هذا الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه، أي وهذا لا ينافي كون زيد بن حارثة كان معه كما لا يخفى، ففعل عداس، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي صلى الله عليه وسلم، ثم قال له كل، فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيه يده الشريفة قال بسم الله ثم أكل: أي لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا وضع يده في الطعام قال بسم الله، ويأمر الآكل بالتسمية، وأمر من نسي التسمية أوله أن يقول بسم الله أوله وآخره، فنظر عداس في وجهه وقال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أيّ البلاد أنت، وما دينك يا عداس؟ قال نصراني، وأنا من أهل نينوى بكسر النون الأولى وفتح الثانية، وقيل بضمها: قرية على شاطىء دجلة في أرض الموصل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل قرية، أي وفي رواية «من مدينة الرجل الصالح يونس بن متى» اسم أبيه، أي كما في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وفي تاريخ حماة أنه اسم أمه. قال: ولم يشتهر باسم أمه غير عيسى ويونس عليهما الصلاة والسلام.
أي وفي مزيل الخفاء: فإن قيل قد ورد في الصحيح «لا تفضلوني على يونس ابن متى» ونسبه إلى أبيه وهو يقتضي أن متى أبوه لا أمه.
أجيب بأن متى مدرج في الحديث من كلام الصحابي لبيان يونس بما اشتهر به، لا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
ولما كان ذلك موهما أن الصحابي سمع هذه النسبة من النبي صلى الله عليه وسلم دفع الصحابي ذلك بقوله: ونسبه إلى أبيه لا إلى أمه، هذا كلامه.
«وعند ذلك قال عداس له صلى الله عليه وسلم: وما يدريك ما يونس بن متى؟ فإني والله لقد خرجت منها- يعني نينوى- وما فيها عشرة يعرفون ما متى، فمن أين عرفت ابن متى وأنت أميّ وفي أمة أمية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك أخي كان نبيا وأنا نبي أمي. وفي رواية «أنا رسول الله، والله أخبرني خبره، وما وقع له مع قومه» أي حيث وعدهم العذاب بعد أربعين ليلة لما دعاهم فأبوا أن يجيبوه وخرج عنهم، وكانت عادة الأنبياء إذا واعدت قومها العذاب خرجت عنهم، فلما فقدوه قذف الله تعالى في قلوبهم التوبة: أي الإيمان بما دعاهم إليه يونس.
وقيل كما في الكشاف إنه قال لهم يونس أنا أؤجلكم أربعين ليلة، فقالوا إن رأينا أسباب الهلاك آمنا بك، فلما مضت خمس وثلاثون ليلة أطبقت السماء غيما(1/500)
أسود يدخن دخانا شديدا ثم يهبط حتى يغشى مدينتهم، فعند ذلك لبسوا المسوح، وأخرجوا المواشي، وفرقوا بين النساء وأولادها، وبين كل بهيمة وولدها، فلما أقبل عليهم العذاب جأروا إلى الله تعالى، وبكى الناس والولدان، ورغت الإبل وفصلانها، وخارت البقر وعجاجيلها، وثغت الغنم وسخالها، وقالوا: يا حيّ حيث لا حي، ويا حي يحيي الموتى، ويا حي لا إله إلا أنت.
وعن الفضيل أنهم قالوا: اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت، وأنت أعظم منها وأجلّ، فافعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله.
وفي الكشاف أنهم عجوا أربعين ليلة، وعلم الله تعالى منهم الصدق فتاب عليهم، وصرف عنهم العذاب بعد أن صار بينه وبينهم قدر ميل، فمر رجل على يونس فقال له: ما فعل قوم يونس؟ فحدثه بما صنعوا، فقال: لا أرجع إلى قوم قد كذبتهم. قيل وكان في شرعهم أن من كذب قتل، فانطلق مغاضبا لقومه، وظن أن لن نقضي عليه بما قضى به عليه أي من الغم وضيق الصدر، قال تعالى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الأنبياء: الآية 87] أي لن نضيق عليه، وكانت التوبة عليهم يوم عاشوراء وكان يوم الجمعة.
أي وفي كلام بعضهم كشف العذاب عن قوم يونس يوم عاشوراء، وأخرج فيه يونس من بطن الحوت، وهو يؤيد القول بأنه نبذ من يومه وهو قول الشعبي، التقمه ضحوة ونبذه عشية أي بعد العصر؛ وقاربت الشمس الغروب. وذكر أن الحوت لم يأكل ولم يشرب مدة بقاء يونس في بطنه لئلا يضيق عليه.
وقال السدي: مكث أربعين يوما. وقال جعفر الصادق: سبعة أيام. وقال قتادة: ثلاثة أيام؛ وذلك بعد أن نزل السفينة فلم تسر؛ فقال لهم: إن معكم عبدا آبقا من ربه وإنها لا تسير حتى تلقوه في البحر وأشار إلى نفسه؛ فقالوا: لا نلقيك يا نبيّ الله أبدا؛ قال: فاقترعوا فخرجت القرعة عليه ثلاث مرات؛ فألقوه فالتقمه الحوت.
وقيل قائل ذلك بعض الملاحين؛ وحين خرجت القرعة عليه ثلاثا ألقى نفسه في البحر؛ وهذا السياق يدل على أن رسالته كانت قبل أن يلتقمه الحوت: وقيل إنما أرسل بعد نبذ الحوت له؛ وفيه كيف يدعوهم ويعدهم العذاب وهو غير مرسل لهم.
وعن وهب بن منبه، وقد سئل عن يونس فقال: كان عبدا صالحا، وكان في خلقه ضيق، فلما حملت عليه أثقال النبوة تفسخ تحتها فألقاها عنه وخرج هاربا، أي فقد تقدم أن للنبوة أثقالا لا يستطيع حملها إلا أولو العزم من الرسل، وهم نوح، وهود، وإبراهيم ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم.
أما نوح فلقوله يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ [يونس: 71] الآية. وأما هود فلقوله إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ(1/501)
دُونِهِ [هود: 54، 55] الآية. وأما إبراهيم فلقوله هو والذين آمنوا معه إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الممتحنة: 4] الآية. وأما محمد صلى الله عليه وسلم فلقول الله تعالى له فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: الآية 35] فصبر صلى الله عليه وسلم.
فعند ذلك أكبّ عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه، أي فقال أحدهما: أي عتبة وشيبة للآخر: أما غلامك فقد أفسده عليك، فلما جاءهما عداس قال له أحدهما: ويلك ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال: يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا، لقد أعلمني بأمر لا يعلمه إلا نبي، قال: ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك.
أقول: وفي رواية «قال له وما شأنك؟ سجدت لمحمد وقبلت قدميه ولم نرك فعلته بأحدنا؟ قال: هذا رجل صالح أخبرني بشيء عرفته من شأن رسول بعثه الله إلينا يدعى يونس بن متى، فضحكا به وقالا: لا يفتننك عن نصرانيتك فإنه رجل خداع ودينك خير من دينه» وقد تقدم في بعض الروايات: أن خديجة رضي الله تعالى عنها قبل أن تذهب بالنبي صلى الله عليه وسلم لورقة بن نوفل ذهبت به إلى عداس وكان نصرانيا من أهل نينوى: قرية سيدنا يونس عليه الصلاة والسلام، وتقدم أنه غير هذا خلافا لمن اشتبه عليه به.
وفي كلام الشيخ محيي الدين بن العربي: قد اجتمعت بجماعة من قوم يونس سنة خمس وثمانين وخمسمائة بالأندلس حيث كنت فيه، وقست أثر رجل واحد منهم في الأرض فرأيت طول قدمه ثلاثة أشبار وثلثي شبر، والله أعلم.
وفي الصحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها «إنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم أشدّ من أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن كلال» أي والمناسب لما سبق إسقاط لفظ ابن الأولى والإتيان بواو العطف موضع ابن الثانية، أي فيقال عبد ياليل وكلال، أي وعبد كلال، ويكون خصهما بالذكر دون أخيهما حبيب لأنهما كانا أشرف وأعظم منه، أو لأنهما كانا المجيبين له صلى الله عليه وسلم بالقبيح دون حبيب، إلا إن ثبت أن آباء هؤلاء الثلاثة شخصا يقال له عبد يا ليل وعبد كلال، وحينئذ يكون المراد هؤلاء الثلاثة، لأن ابن مفرد مضاف، ثم رأيته في النور ذكر ما يفيد أن لفظ ابن ثابت في الصحيح.
والذي في كلام ابن اسحاق وأبي عبيد وغيرهما إسقاطه. ثم رأيت الشمس الشامي قال: الذي ذكره أهل المغازي أن الذي كلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد ياليل نفسه لا ابنه.
وعند أهل السير أن عبد كلال أخوه لا أبوه: أي أبو أبيه كما لا يخفى «فلم(1/502)
يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب» : أي ويقال له قرن المنازل، وهو ميقات أهل نجد الحجاز أو اليمن، بينه وبين مكة يوم وليلة. وفي لفظ «وهو موضع على ليلة من مكة وراء قرن» بسكون الراء. ووهم الجوهري في تحريكها، وفي قوله إن أويسا القرني منسوب إليه، وإنما هو منسوب إلى قرن قبيلة من مراد كما ثبت في مسلم «فرفعت رأسي، فإذا أنا بالسحابة قد أظلتني؛ فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام، فنادى فقال: قد سمع قول قومك لك- أي أهل ثقيف كما هو المتبادر- وما ردوا عليك به، وقد بعثت إليك بملك الجبال فتأمره بما شئت فيهم، فناداه صلى الله عليه وسلم ملك الجبال وسلم عليه، وقال له: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت» أي وهما جبلان يضافان تارة إلى مكة وتارة إلى منى. فمن الأول قوله: وهما أبو قبيس وقعيقعان. وقيل الجبل الأحمر الذي يقابل أبا قبيس المشرف على قعيقعان، ومن الثانية الجبلان اللذان تحت العقبة بمنى فوق المسجد.
وفيه أن ثقيفا ليسوا بينهما، بل الجبلان خارجان عنهم فيكف يطبقهما عليهم؟
وفي لفظ «إن شئت خسفت بهم الأرض أو دمدمت عليهم الجبال» أي التي بتلك الناحية.
ثم رأيت الحافظ ابن حجر، قال: المراد بقوم عائشة في قوله: لقد لقيت من قومك قريش: أي لا أهل الطائف الذين هم ثقيف، لأنهم كانوا هم السبب الحامل على ذهابه صلى الله عليه وسلم لثقيف؛ ولأن ثقيفا ليسوا قوم عائشة رضي الله تعالى عنها؛ وعليه فلا إشكال. ويوافقه قول الهدى: فأرسل ربه تبارك وتعالى إليه صلى الله عليه وسلم ملك الجبال يستأمره أن يطبق على أهل مكة الأخشبين: وهما جبلاها التي هي بينهما.
وعبارة الهدى في محل آخر: وفي طريقه صلى الله عليه وسلم أرسل الله تعالى إليه ملك الجبال، فأمره بطاعته صلى الله عليه وسلم؛ وأن يطبق على قومه أخشبي مكة؛ وهما جبلاها إن أراد، هذا كلامه.
ولا يخفى أن هذا خلاف السياق، إذ قوله «وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي» إلى آخره، وقول جبريل «قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك به» ظاهر في أن المراد بهم ثقيف لا قريش. ويوافق هذا الظاهر قول ابن الشحنة في شرح منظومة جده بعد أن ساق دعاءه صلى الله عليه وسلم المتقدم بعضه «فأرسل الله عز وجل جبريل ومعه ملك الجبال؛ فقال إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين» وحينئذ يكون المراد أطباقهما عليهم بعد نقلهما من محلهما إلى محل ثقيف الذي هو الطائف لأن القدرة صالحة. وعند قول ملك الجبال له ما ذكر قال النبي صلى الله عليه وسلم «بل أرجو أن يخرج الله تعالى» وفي رواية «أستأني بهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله تعالى لا(1/503)
يشرك به شيئا، وعن ذلك قال له ملك الجبال: أنت كما سماك ربك رؤوف رحيم» قال الحافظ ابن حجر: ولم أقف على اسم ملك الجبال؛ وإلى حلمه وإغضائه صلى الله عليه وسلم أشار صاحب الهمزية بقوله.
جهلت قومه عليه فأغضى ... وأخو الحلم دأبه الإغضاء
وسع العالمين علما وحلما ... فهو بحر لم تعيه الأعباء
أي جهلت قومه صلى الله عليه وسلم فآذوه أذية لا تطاق؛ فأغضى عنهم حلما؛ وأخو الحلم:
أي وصاحب عدم الانتقام شأنه التغافل؛ فإن علمه وسع علوم العالمين؛ ووسع حلمه حلمهم؛ فهو واسع العلم والحلم؛ لم تعيه الأعباء: أي لم تتعبه الأثقال؛ لكن تقييده بقومه السياق يدل على أن المراد به ثقيف؛ وقد علمت ما فيه فليتأمل.
وعند منصرفه صلى الله عليه وسلم المذكور من الطائف نزل نخلة وهي محلة بين مكة والطائف، فمر به نفر سبعة؛ وقيل تسعة من جن نصيبين: أي وهي مدينة بالشام؛ وقيل باليمن أثنى عليها صلى الله عليه وسلم بقوله «رفعت إلي نصيبين: حتى رأيتها فدعوت الله تعالى أن يعذب نهرها وينضر شجرها ويكثر مطرها» وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوف الليل أي وسطه يصلي. وفي رواية «يصلي صلاة الفجر» وفي رواية «هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة» فلعله كان يقرأ في الصلاة، والمراد بصلاة الفجر الركعتان اللتان كان يصليهما قبل طلوع الشمس، ولعله صلاهما عقب الفجر وذلك ملحق بالليل. وفي قوله جوف الليل تجّوز من الراوي، أو صلى صلاتين صلاة في جوف الليل وصلاة بعد الفجر وقرأ فيهما، أو جمع بين القراءة والصلاة، وأن الجن استمعوا للقراءتين، واطلاق صلاة الفجر على الركعتين المذكورتين سائغ، وبهذا يندفع قول بعضهم: صلاة الفجر لم تكن وجبت، وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة الجن. وفيه:
أي في الصحيحين «أن سورة الجن إنما نزلت بعد استماعهم» .
وقد يقال: سيأتي ما يعلم منه أنه ليس المراد بالاستماع المذكور هنا، بل استماع سابق على ذلك، وهو المذكور في رواية ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الآتية، ورواية صلاة الفجر هنا ذكرها الكشاف كالفخر، وإلا فالروايات التي وقفت عليها فيها الاقتصار على صلاة الليل، وصلاة الفجر كانت في ابتداء البعث في بطن نخلة عند ذهابه وأصحابه إلى سوق عكاظ كما سيأتي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فآمنوا به وكانوا يهودا لقولهم- إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى- ولم يقولوا من بعد عيسى إلا أن يكون ذلك بناء على أن شريعة عيسى مقررة لشريعة موسى لا ناسخة لها. ولا يخفى أنهم غلبوا ما نزل من الكتاب على ما لم ينزل، لأنهم لم يسمعوا جميع الكتاب، ولا كان كله منزلا. قال: وأنكر ابن عباس رضي(1/504)
الله تعالى عنهما اجتماع النبي صلى الله عليه وسلم بالجن أي بأحد منهم.
ففي الصحيحين عنه قال «ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ- أي وكان بين الطائف ونخلة، كان لثقيف وقيس عيلان» كما تقدم «وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، ففزعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟
قالوا: قد حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب، قالوا: وما ذاك إلا من شيء قد حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فمن النفر جماعة أخذوا نحو تهامة، فإذا هم بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامدا إلى سوق عكاظ يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، وقالوا هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فرجعوا إلى قومهم فقالوا- يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد- فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ [الجن: 1] أي قل أخبرت بالوحي من الله تعالى أنه استمع لقراءتي نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ [الجن: 1] أي جن نصيبين» .
أقول: تقدم أن إطلاق الفجر على الركعتين اللتين كان يصليهما قبل طلوع الشمس سائغ، فإن ذلك باعتبار الزمان لا لكونهما إحدى الخمس المفترضة ليلة الإسراء، وقوله بأصحابه يجوز أن تكون الباء بمعنى مع، ويجوز أن يكون صلى بهم إماما، لأن الجماعة في ذلك جائزة.
ولا يخفى أن هذه القصة التي تضمنتها رواية ابن عباس غير قصة انصرافه صلى الله عليه وسلم من الطائف، يدل لذلك قوله «انطلق في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ» لأنه في تلك القصة التي هي قصة الطائف كان وحده أو معه مولاه زيد بن حارثة على ما تقدم، وكان مجيئه صلى الله عليه وسلم من الطائف قاصدا مكة. وفي هذه كان ذهابه من مكة قاصدا سوق عكاظ، وأنه قرأ في تلك أي مجيئه من الطائف سورة الجن، وفي هذه قرأ غيرها ثم نزلت تلك السورة، وأن هذه القصة تضمنتها رواية ابن عباس سابقة على تلك، لأن قصة ابن عباس كانت في ابتداء الوحي، لأن الحيلولة بين الجن وبين خبر السماء بالشهب كانت في ذلك الوقت، وتلك كانت بعد ذلك بسنين عديدة.
وسياق كل من القصتين يدل على أنه لم يجتمع الجن به صلى الله عليه وسلم ولا قرأ عليهم، وإنما استمعوا قراءته من غير أن يشعر بهم. وقد صرح به ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في هذه، وصرح به الحافظ الدمياطي في تلك حيث قال في سيرته «فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف راجعا إلى مكة ونزل نخلة قام يصلي من الليل فصرف إليه نفر من الجن سبعة من أهل نصيبين، فاستمعوا له صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ سورة الجن، ولم يشعر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل عليه وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [الأحقاف: الآية 29] هذا كلامه، ونزول ما ذكره كان بعد انصرافهم.(1/505)
فقد قال ابن إسحاق «فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين، قد آمنوا به وأجابوا إلى ما سمعوا، فقص الله تعالى خبرهم على النبي صلى الله عليه وسلم» وبهذا يعلم ما في سفر السعادة.
ولما وصل صلى الله عليه وسلم في رجوعه إلى نخلة جاءه الجن وعرضوا إسلامهم عليه، وكذا يعلم ما في المواهب من قوله «ولما انصرف صلى الله عليه وسلم عن أهل الطائف ونزل نخلة صرف إليه سبعة من جن نصيبين» إلى أن قال: وفي الصحيح أن الذي آذنه صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة الجن شجرة، وأنهم سألوه الزاد، فقال: كل عظم إلى آخره؛ لأن سؤالهم له صلى الله عليه وسلم الزاد فرع اجتماعهم، وقد ذكر هو أنهم لم يؤذنه صلى الله عليه وسلم بهم إلا شجرة هناك. وعلى جواز أن الشجرة آذنته بهم قبل انصرافهم أي أعلمته بوجودهم، وأن ذلك كان سببا لاجتماعهم به صلى الله عليه وسلم، وأن دعوى ذلك لا ينافي أنه صلى الله عليه وسلم لم يشعر باجتماعهم للقرآن إلا مما نزل عليه من القرآن، فسؤالهم له صلى الله عليه وسلم الزاد كان في قصة أخرى غير هاتين القصتين كانت بمكة سيأتي الكلام عليها.
ثم رأيت عن ابن جرير أنه تبين من الأحاديث أن الجن سمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم بنخلة وأسلموا، فأرسلهم صلى الله عليه وسلم إلى قومهم منذرين، إذ لا جائز أن يكون ذلك في أول البعث، لمخالفته لما تقدم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وحينئذ يؤيد الاحتمال الثاني الذي ذكرناه من أنه يجوز أنهم اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم بعد أن آذنته بهم الشجرة، وقوله فأرسلهم إلى قومهم منذرين لم أقف في شيء من الروايات على ما هو صريح في ذلك: أي أن إرساله لهم كان من نخلة عند رجوعه من الطائف، ولعل قائله فهم ذلك من قوله تعالى وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [الأحقاف: الآية 29] .
وغاية ما رأيت أن ابن جرير والطبراني رويا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن الجن الذين اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم ببطن نخلة كانوا تسعة نفر من أهل نصيبين، فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلا إلى قومهم» وهذا ليس صريحا في أنه صلى الله عليه وسلم كان عند رجوعه من الطائف.
لا يقال: يعني ذلك إنكار ابن عباس رضي الله تعالى عنهما اجتماعه صلى الله عليه وسلم بالجن المرة الأولى التي كانت عند البعث، لاحتمال أنه صلى الله عليه وسلم كان في بطن نخلة في مرة أخرى ثالثة.
ثم رأيت في النور ما يخالف ما تقدم عن ابن عباس من قوله «إنه لم يجتمع صلى الله عليه وسلم بالجن حين خروجه إلى سوق عكاظ» حيث قال: الذي في الصحيح وغيره أن اجتمع بهم، وهو خارج من مكة إلى سوق عكاظ ومعه أصحابه فليتأمل.
قال: وذكر «أنه صلى الله عليه وسلم أقام بنخلة أياما بعد أن أقام بالطائف عشرة أيام وشهرا لا(1/506)
يدع أحدا من أشرافهم» أي زيادة على عبد ياليل وأخويه «إلا جاء إليه وكلمه فلم يجبه أحد. فلما أراد الدخول إلى مكة قال له زيد بن حارثة: كيف تدخل عليهم؟
يعني قريشا وهم قد أخرجوك: أي كانوا سببا لخروجك وخرجت تستنصر فلم تنصر، فقال: يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه، فسار صلى الله عليه وسلم إلى حراء، ثم بعث إلى الأخنس بن شريق أي رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك ليجيره: أي ليدخل صلى الله عليه وسلم مكة في جواره، فقال: أنا حليف والحليف لا يجير- أي في قاعدة العرب وطريقتهم واصطلاحهم- فبعث صلى الله عليه وسلم إلى سهيل بن عمرو رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك أيضا فقال: إن بني عامر لا تجير على بني كعب» وفيه أنه لو كان كذلك لما سألهما صلى الله عليه وسلم، وكونه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف هذا الاصطلاح بعيد، إلا أن يقال جوّز صلى الله عليه وسلم مخالفة هذه الطريقة «فبعث صلى الله عليه وسلم إلى المطعم بن عديّ- أي وقد مات كافرا قبل بدر بنحو سبعة أشهر- يقول له: إني داخل مكة في جوارك، فأجابه إلى ذلك، وقال له: قل له فليأت، فرجع إليه صلى الله عليه وسلم فأخبره، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، ثم تسلح المطعم بن عديّ وأهل بيته وخرجوا حتى أتوا المسجد، فقام المطعم بن عدي على راحلته فنادى: يا معشر قريش إني قد أجرت محمدا فلا يؤذه أحد منكم، ثم بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أدخل، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وطاف بالبيت وصلى عنده، ثم انصرف إلى منزله. أي والمطعم بن عدي وولده مطيفون به صلى الله عليه وسلم» قال «وذكر أنه صلى الله عليه وسلم بات عنده تلك الليلة، فلما أصبح خرج مطعم وقد لبس سلاحه هو وبنوه، وكانوا ستة أو سبعة، وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: طف، واحتبوا بحمائل سيوفهم في المطاف مدة طوافه صلى الله عليه وسلم، وأقبل أبو سفيان على المطعم، فقال: أمجير أم تابع؟ فقال: بل مجير، فقال: إذن لا تخفر- أي لا تزال خفارتك. أي جوارك، قد أجرنا من أجرت، فجلس معه حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم طوافه» اهـ.
أي ولا بدع في دخوله صلى الله عليه وسلم في أمان كافر، لأن حكمة الحكيم القادر قد تخفى، وهذا السياق يدل على أن قريشا كانوا أزمعوا على عدم دخوله صلى الله عليه وسلم مكة بسبب ذهابه إلى الطائف ودعائه لأهله. أي ولهذا المعروف الذي فعله المطعم قال صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر «لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له» .
ورأيت في أسد الغابة «أن جبيرا ولد المطعم رضي الله تعالى عنه- فإنه أسلم بين الحديبية والفتح، وقيل يوم الفتح- جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو كافر فسأله في أسارى بدر، فقال: لو كان الشيخ أبوك حيا فأتانا فيهم لشفعناه فيهم» كما سيأتي، أي لأنه فعل معه صلى الله عليه وسلم هذا الجميل وكان من جملة ما سعى في نقض الصحيفة كما تقدم.
قال: وعن كعب الأحبار رضي الله تعالى عنه «لما انصرف النفر السبعة من أهل(1/507)
نصيبين من بطن نخلة جاؤوا قومهم منذرين، ثم جاؤوا مع قومهم وافدين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة وهم ثلاثمائة فانتهوا إلى الحجون، فجاء واحد من أولئك النفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن قومنا قد حضروا بالحجون يلقونك، فوعده رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة من الليل بالحجون» اهـ.
وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، قال «أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أمرت أن أقرأ على إخوانكم من الجن، فليقم معي رجل منكم ولا يقم رجل في قلبه مثقال حبة خردل من كبر، فقمت معه: أي بعد أن كرر ذلك ثلاثا ولم يجبه أحد منهم» ولعلهم فهموا أن من الكبر ما ليس منه وهو محبة الترفع في نحو الملبس الذي لا يكاد يخلو منه أحد.
وقد بين صلى الله عليه وسلم الكبر في الحديث ببطر الحق وغمص الناس: أي استصغارهم وعدم رؤيتهم شيئا بعد أن قالوا له «يا رسول الله إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر من بطر الحق وغمط الناس» بالطاء المهملة كما في رواية أبي داود، وجاء «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر، ولا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان» قال الخطابي: المراد بالكبر هنا: أي في هذه الرواية كبر الكفر لأنه قابله بالإيمان. قال ابن مسعود «وذهب صلى الله عليه وسلم في بعض نواحي مكة- أي بأعلاها بالحجون- فلما برز خط لي خطا: أي برجله وقال: لا تخرج، فإنك إن خرجت لم ترني ولم أرك إلى يوم القيامة» وفي رواية «لا تحدثنّ شيئا حتى آتيك، لا يروعنك: أي لا يخوفنك ويفزعنك؛ ولا يهولنك: أي لا يعظم عليك شيء تراه، ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا رجال سود كأنهم رجال الزط، وهم طائفة من السودان الواحد منهم زطي، وكانوا كما قال الله تعالى كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً [الجن: الآية 19] أي لازدحامهم لِبَداً أي كاللبد في ركوب بعضهم بعضا حرصا على سماع القرآن منه صلى الله عليه وسلم، فأردت أن أقوم فأذبّ عنه، فذكرت عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فمكثت، ثم إنهم تفرقوا عنه صلى الله عليه وسلم فسمعتهم يقولون: يا رسول الله إن شقتنا أن أرضنا التي نذهب إليها بعيدة ونحن منطلقون، فزوّدنا: أي لأنفسنا ودوابنا» ولعله كان نفد زادهم وزاد دوابهم، فقال كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في يد أحدكم أوفر ما كان لحما» رواه مسلم.
وفي رواية «إلا وجد عليه لحمه الذي كان عليه يوم أكل، وكل بعر علف دوابكم» .
وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه «أنهم لما سألوه صلى الله عليه وسلم الزاد، قال لهم:
لكم كل عظم عراق، ولكم كل روثة خضرة» والعراق بضم العين وفتح الراء جمع(1/508)
عرق بفتح العين وسكون الراء: العظم الذي أخذ عنه اللحم. وقيل الذي أخذ عنه معظم اللحم «قلت: يا رسول الله وما يغني ذلك عنهم أي عن أنفسهم وعن دوابهم» بدليل قوله «فقال إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل، ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت» وفي رواية «وجدوه- أي الروث والبعر- شعيرا» فهذه الرواية تدل على أن الروثة مطعوم دوابهم، ويوافقه ما جاء «أن الشعير يعود خضرا لدوابهم» ويحتاج للجمع بين كون الروث كالبعر يعود حبا يوم أكل، وبين كونه يعود شعيرا، وبين كونه يعود خضرا.
هذا، وفي رواية لأبي نعيم «أن الروث يعود لهم تمرا» وهي تدل على أن الروث من مطعومهم، ويحتاج إلى الجمع. وجمع ابن حجر الهيتمي بأن الروث يكون تارة علفا لدوابهم وتارة يكون طعاما لهم أنفسهم، أي وفي لفظ «سألوني المتاع فمتعتهم كل عظم حائل وكل روثة وبعرة» والحائل: البالي بمرور الزمن، لأنه لم يخرج بذلك عن كونه مطعوما لهم، كما لم يخرج بذلك عن كونه مطعوما لهم لو حرق وصار فحما، ولعل الغرض من ذكر الحائل الإشارة إلى أن زادهم العظم ولو كان حائلا، لا أنه لم يمنعهم إلا الحائل؛ وقوله إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل يدل على أن المراد عظم المذكاة، وبدليل ذكر اسم الله تعالى عليه، فلا يأكلون ما لم يذكر اسم الله تعالى عليه من عظم: أي وكذا من طعام الانس سرقة كما جاء في بعض الأخبار. هذا، ولكن في رواية أبي داود «كل عظم لم يذكر اسم الله تعالى عليه» قال السهيلي: وأكثر الأحاديث تدل على معنى رواية أبي داود.
وقال بعض العلماء: رواية «ذكر اسم الله عليه» في الجن المؤمنين. ورواية «لم يذكر اسم الله تعالى عليه» في حق الشياطين منهم، وهذا قول صحيح يعضده الأحاديث. هذا كلامه، أي التي من تلك الأحاديث «أن إبليس قال: يا رب ليس أحد من خلقك إلا وقد جعلت له رزقا ومعيشة فما رزقي؟ قال: كل ما لم يذكر عليه اسمي» ومعلوم أن إبليس أبو الجن وأن ما لم يذكر اسم الله عليه يشمل عظم الميتة.
ومقابلة الشياطين بالمؤمنين تدل على أن المراد بهم فسقتهم لا الكفار منهم؛ لأن في كون الكفار من الجن اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين، وأن كلا من الفريقين سأله الزاد، وأنه خاطب كلا بما يليق به فيه بعد لا سيما مع ما تقدم عن ابن مسعود وما يأتي من قوله إخوانكم من الجن، ومن ثم قال بعضهم: إن السائلين له صلى الله عليه وسلم الزاد كانوا مسلمين فليتأمل.
ولما ذكر صلى الله عليه وسلم لهم العظم والروث «قالوا: يا رسول الله إن الناس يقذرونهما علينا، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستنجى بالعظم أو بروثه بقوله: فلا يستنقينّ أحدكم إذا خرج من الخلاء بعظم ولا بعرة ولا روثة، لأنه زاد إخوانكم من الجن» .(1/509)
وفي رواية «قالوا له صلى الله عليه وسلم أنه أمتك عن الاستنجاء بهما، فإن الله تعالى قد جعل لنا فيهما رزقا، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاستنجاء بالعظم والبعر» أي وحرمة نحو البول أو التغوط عليهما تعلم من ذلك بالأولى، ومنه يعلم أن مرادهم بالتقذير التنجيس لا ما يشمل التقذير بالطاهر كالبصاق والمخاط.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال «بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أمشي إذ جاءت حية فقامت إلى جنبه صلى الله عليه وسلم وأدنت فاها من أذنه وكأنها تناجيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم فانصرفت، قال جابر: فسألته، فأخبرني أنه رجل من الجن، وأنه قال له مر أمتك لا يستنجوا بالروث ولا بالرمة: أي العظم، لأن الله تعالى جعل لنا في ذلك رزقا» ولعل هذا الرجل من الجن لم يبلغه أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك. ولا يخفى أن سؤال الزاد يقتضي أن ذلك لم يكن زادهم وزاد دوابهم قبل ذلك. وحينئذ يسأل ما كان زادهم قبل ذلك؟ وقد يقال: هو كل ما لم يذكر اسم الله عليه من طعام الآدميين، وحينئذ يكون ما تقدم في خبر إبليس المراد بما لم يذكر اسم الله عليه غير العظم فليتأمل، والنهي عن الاستنجاء يدل على أن ذلك لا يختص بحالة السفر بل هو زادهم بعد ذلك دائما وأبدا.
وقصة جابر هذه سيأتي في غزوة تبوك نظيرها «وهو أن حية عظيمة الخلق عارضتهم في الطريق، فانحاز الناس عنها، فأقبلت حتى وقفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته طويلا والناس ينظرون إليها، ثم التوت حتى اعتزلت الطريق فقامت قائمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتدرون من هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا أحد الرهط الثمانية من الجن الذين وفدوا إليّ يستمعون القرآن» قال في المواهب:
وفي هذ ردّ على من زعم أن الجن لا تأكل ولا تشرب: أي وإنما يتغذون بالشم.
أقول: ذكرت في كتابي «عقد المرجان فيما يتعلق بالجان» أن في أكل الجن ثلاثة أقوال: قيل يأكلون بالمضغ والبلع، ويشربون بالازدراد. والثاني لا يأكلون ولا يشربون بل يتغذون بالشم. والثالث أنهم صنفان: صنف يأكل ويشرب، وصنف لا يأكل ولا يشرب، وإنما يتغذون بالشم وهو خلاصتهم، والله أعلم.
«قال ابن مسعود: فلما ولوا قلت من هؤلاء؟ قال: هؤلاء جن نصيبين» وفي رواية «فتوارى عني حتى لم أره، فلما سطع الفجر أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي:
أراك قائما، فقلت ما قعدت، فقال: ما عليك لو فعلت أي قعدت؟ قلت: خشيت أن أخرج منه فقال: أما إنك لو خرجت لم ترني ولم أرك إلى يوم القيامة» أي وفي رواية «لم آمن عليك أن يخطفك بعضهم» وفيه أن الخروج لا ينشأ عن القعود حتى يخشى منه الخروج. وفي رواية «قال لي: أنمت؟ فقلت: لا والله يا رسول الله، ولقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس، أي لما تراكموا عليك، وسمعت منهم لغطا شديدا(1/510)
حتى خفت عليك إلى أن سمعتك تقرعهم بعصاك وتقول: اجلسوا، وسأله عن سبب اللغط الشديد الذي كان منهم، فقال: إن الجن تداعت في قتيل قتل بينهم فتحاكموا إليّ، فحكمت بينهم بالحق» .
وفي رواية عن سعيد بن جبير أنه أي ابن مسعود قال له: أولئك جن نصيبين، وكانوا اثني عشر ألفا، والسورة التي قرأها عليهم اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: الآية 1] أي ولا ينافي ذلك ما جاء عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه افتتح القرآن، لأن المراد بالقرآن القراءة. زاد ابن مسعود على ما في بعض الروايات «ثم شبك أصابعه في أصابعي، وقال: إني وعدت أن تؤمن بي الجن والإنس، أما الإنس فقد آمنت، وأما الجن فقد رأيت» .
أقول: وفي هذا أن ابن مسعود لم يخرج من الدائرة التي اختطها له صلى الله عليه وسلم وفي السيرة الهشامية ما يقتضي أنه خرج منها حيث قال عن ابن مسعود «فجئتهم فرأيت الرجال ينحدرون عليه صلى الله عليه وسلم من الجبال، فازدحموا عليه إلى آخره» فليتأمل.
فعلم أن هذه القصة بعد كل من قصة ابن عباس وقصة رجوعه صلى الله عليه وسلم من الطائف، فإن قصة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كانت في أول البعث، وقصة رجوعه صلى الله عليه وسلم من الطائف بعدها بمدة مديدة كما علمت، وهذه القصة كانت بعدهما بمكة والله أعلم «ثم قال صلى الله عليه وسلم لابن مسعود: هل معك وضوء أي ماء نتوضأ به؟ قلت لا، فقال: ما هذه الإداوة أي وهي إناء من جلد؟ قلت فيها نبيذ؟ قال: ثمرة طيبة وماء طهور صبّ عليّ، فصببت عليه فتوضأ وأقام الصلاة وصلى» .
أقول: وهو محمول عند أئمتنا معاشر الشافعية على أن الماء لم يتغير بالتمر تغيرا كثيرا يسلب اسم الماء، ومن ثم قال ماء طهور، وقول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه فيها نبيذ أي منبوذ الذي هو التمر، وسماه نبيذا باعتبار الأول على حد قوله تعالى إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً [يوسف: الآية 36] وهذا بناء على فرض صحة الحديث، وإلا فقد قال بعضهم: حديث النبيذ ضعيف باتفاق المحدثين.
وفي كلام الشيخ محيي الدين بن العربي رضي الله تعالى عنه: الذي أقول به منع التطهر بالنبيذ، لعدم صحة الخبر المروي فيه، ولو أن الحديث صح لم يكن نصا في الوضوء به فإنه صلى الله عليه وسلم قال «ثمرة طيبة وماء طهور» ، أي قليل الامتزاج والتغير عن وصف الماء، وذلك لأن الله تعالى ما شرع الطهارة عند فقد الماء إلا بالتيمم بالتراب خاصة.
قال: ومن شرف الإنسان أن الله تعالى جعل له التطهر بالتراب، وقد خلقه الله من تراب فأمره بالتطهر أيضا به تشريفا له. وعند أحمد ومسلم والترمذي عن علقمة «قلت لابن مسعود هل صحب النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد؟ فقال: ما(1/511)
صحبه منا أحد، ولكنا فقدناه ذات ليلة فقلنا أستطير أو اغتيل وطلبناه فلم نجده فبتنا بشرّ ليلة، فلما أصبحنا إذ هو جاء من قبل الحجون» وفي لفظ «من قبل حراء، فقلنا:
يا رسول الله إنا فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشرّ ليلة، فقال إنه أتاني داعي الجن، فذهب معهم فقرأت عليهم القرآن، فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم» وهذه القصة يجوز أن تكون هي المنقولة عن كعب الأحبار المتقدم ذكرها وهي سابقة على القصة التي كان فيها ابن مسعود. ويجوز أن تكون غيرها وهي المرادة بقول عكرمة «إنهم كانوا اثني عشر ألفا جاؤوا من جزيرة الموصل» لأن المتقدم في تلك عن كعب الأحبار رضي الله تعالى عنه أنهم كانوا ثلاثمائة من جن نصيبين.
وحينئذ يحتمل أن تكون هذه القصة سابقة على القصة التي كان بها ابن مسعود، ويحتمل أن تكون متأخرة عنها، وعلى ذلك يكون اجتماع الجن به صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث مرات مرة كان فيها معه ابن مسعود، ومرتين لم يكن معه ابن مسعود فيهما.
قال في الأصل: ويكفي في أمر الجن ما في سورة الرحمن وسورة- قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ [الجن: الآية 1]- وسورة الأحقاف.
أقول: فعلم أن الجن سمعوا قراءته صلى الله عليه وسلم ولم يجتمعوا به ولا شعر بهم في المرة الأولى وهو ذاهب من مكة إلى سوق عكاظ في ابتداء البعث المتقدمة عن ابن عباس على ما تقدم، ولا في المرة الثانية عند منصرفه من الطائف بنخلة على ما قدمناه فيه، وعلم أن الروايات متفقة على استماعهم لقراءته صلى الله عليه وسلم في المرتين، وبه يعلم ما في المواهب عن الحافظ ابن كثير أنّ كون الجن اجتمعوا له صلى الله عليه وسلم في نخلة عند منصرفه من الطائف فيه نظر، وإنما استماعهم له كان في ابتداء البعث كما يدلّ عليه حديث ابن عباس، أي من أن ذلك كان عند ذهابه إلى سوق عكاظ، وعلم أنهم اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم وآمنوا به في مكة مرتين أو ثلاثة بعد ذلك والله أعلم.
وقد أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن قتادة «أنه قال: لما أهبط إبليس قال:
أي رب قد لعنته فما علمه؟ قال السحر، قال: فما قراءته؟ قال الشعر، قال: فما كتابته؟ قال: الوشم، قال: فما طعامه؟ قال: كل ميتة ولم يذكر اسم الله عليه- أي من طعام الإنس يأخذه سرقة، قال: فما شرابه؟ قال: كل مسكر، قال: فأين مسكنه؟
قال: الحمام، قال: فأين محله؟ قال: في الأسواق، قال: فما صوته؟ قال المزمار، قال: فما مصايده؟ قال النساء» فالحمام محل أكثر اقامته، والسوق محل تردده في بعض الأوقات. والظاهر أن مثل إبليس فيما ذكر كل من لم يؤمن من الجن.(1/512)
باب ذكر خبر الطفيل بن عمرو الدوسي وإسلامه رضي الله تعالى عنه
كان الطفيل بن عمرو الدوسي شريفا في قومه شاعرا نبيلا، قدم مكة فمشى إليه رجال من قريش؛ فقالوا: يا أبا الطفيل؛ كنوه بذلك تعظيما له فلم يقولوا يا طفيل، إنك قدمت بلادنا؛ وهذا الرجل بين أظهرنا قد أعضل أمره بنا: أي اشتد وفرّق جماعتنا وشتت أمرنا؛ وإنما قوله كالسحر؛ يفرق به بين المرء وأخيه؛ وبين الرجل وزوجته: وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما دخل علينا؛ فلا تكلمه ولا تسمع منه قال الطفيل: فو الله ما زالوا بي حتى أجمعت: أي قصدت وعزمت على أن لا أسمع منه شيئا ولا أكلمه: أي حتى حشوت في أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا وهو بضم الكاف وسكون الراء ثم سين مهملة مضمومة ثم فاء: أي قطنا، فرقا: أي خوفا من أن يبلغني شيء من قوله؛ فغدوت إلى المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة، فقمت قريبا منه فأبى الله إلا أن أسمع بعض قوله: أي فسمعت كلاما حسنا، فقلت في نفسي: أنا ما يخفى على الحسن من القبيح، فما يمنعني من أن أسمع من هذا الرجل ما يقول، فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلت، وإن كان قبيحا تركت، فمكثت حتى انصرف إلى بيته، فقلت يا محمد إن قومك قالوا لي كذا وكذا حتى سددت أذني بكرسف حتى لا أسمع قولك، فاعرض عليّ أمرك، فعرض عليه الإسلام، وتلا عليه القرآن: أي قرأ عليه قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) [الإخلاص: الآية 1] إلى آخرها وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) [الفلق: الآية 1] إلى آخرها، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) [النّاس: الآية 1] إلى آخرها.
وفيه أنه سيأتي أن نزول قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) [الفلق: الآية 1] وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) [النّاس: الآية 1] كان بالمدينة عندما سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن يقال يجوز أن يكون ذلك مما تكرر نزوله فقال: والله ما سمعت قط قولا أحسن من هذا، ولا أمر أعدل منه فأسلمت، فقلت: يا نبي الله إني امرؤ مطاع في قومي، وأنا راجع إليهم فأدعوهم إلى الإسلام، فادع الله أن يكون لي عونا عليهم قال: اللهم اجعل له آية، فخرجت حتى إذا كنت بثنية تطلعني على الحاضر: أي وهم النازلون المقيمون على الماء لا يرحلون عنه، وكان ذلك في ليلة مظلمة وقع نور بين عيني مثل المصباح، فقلت: اللهم في غير وجهي فإني أخشى أن يظنوا أنه مثله، فتحول في رأس سوطي، فجعل الحاضر يتراؤون ذلك النور كالقنديل المعلق: أي ومن ثم عرف بذي النور، وإلى ذلك أشار الإمام السبكي في تائيته بقوله:(1/513)
وفي جبهة الدوسي ثم بسوطه ... جعلت ضياء مثل شمس منيرة
قال: فأتاني أبي فقلت له: إليك عني يا أبت فلست مني ولست منك، فقال:
لم يا بني؟ قلت: قد أسلمت وتابعت دين محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: أي بني ديني دينك، فأسلم، أي بعد أن قال له: اغتسل وطهر ثيابك ففعل، ثم جاء فعرض عليه الإسلام ثم أتتني صاحبتي فذكرت لها مثل ذلك: أي قلت لها إليك عني فلست منك ولست مني، قد أسلمت وتابعت دين محمد صلى الله عليه وسلم، قالت: فديني دينك فأسلمت، ثم دعوت دوسا إلى الإسلام أبطؤوا علي. ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، قد غلبني دوس وفي رواية «قد غلبني على دوس الزنا، فادع الله عليهم فقال: اللهم اهد دوسا» قال زاد في رواية «وأت بهم، فقال الطفيل: فرجعت فلم أزل بأرض قومي أدعوهم إلى الإسلام حتى هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق» اهـ فأسلموا، قال: فقدمت بمن أسلم من قومي عليه صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر سبعين أو ثمانين بيتا من دوس: أي ومنهم أبو هريرة، فأسهم لنا مع المسلمين أي مع عدم حضورهم القتال اهـ.
أقول: قال في النور: وفي الصحيح ما ينفي هذا «وإنه لم يعط أحدا لم يشهد القتال إلا أهل السفينة الجائين من أرض الحبشة جعفرا ومن معه: أي ومنهم الأشعريون أبو موسى الأشعري وقومه، فقد تقدم أنهم هاجروا من اليمن إلى الحبشة، ثم جاؤوا إلى المدينة.
وفيه أنه سيأتي أنه صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه أن يشركوهم معهم في الغنيمة ففعلوا وسيأتي أنه إنما أعطى أهل السفينة: أي والدوسين على ما علمت من الحصنين اللذين فتحا صلحا، فقد أعطاهما مما أفاء الله عليه لا من الغنيمة، وسؤال أصحابه في إعطائهم من المشهورة العامة المأمور بها في قوله تعالى وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران: الآية 159] لا لاستنزالهم عن شيء من حقهم، والله أعلم.
باب ذكر الإسراء والمعراج وفرض الصلوات الخمس
اعلم أنه لا خلاف في الإسراء به صلى الله عليه وسلم إذ هو نص القرآن على سبيل الإجمال، وجاءت بتفصيله وشرح أعاجيبه أحاديث كثيرة عن جماعة من الصحابة من الرجال والنساء نحو الثلاثين: أي ومن ثم ذهب الحاتمي الصوفي إلى أن الإسراء وقع له صلى الله عليه وسلم ثلاثين مرة، فجعل كل حديث إسراء. واتفق العلماء على أن الإسراء كان بعد البعثة اهـ: أي الإسراء الذي كان في اليقظة بجسده صلى الله عليه وسلم، فلا ينافي حديث البخاري عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه «أن الإسراء كان قبل أن يوحى إليه صلى الله عليه وسلم» لأن ذلك كان في نومه بروحه، فكان هذا الإسراء توطئة له وتيسيرا عليه، كما كان بدء نبوته صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة.(1/514)
وفي كلام الشيخ عبد الوهاب الشعراني أن إسراآته صلى الله عليه وسلم كانت أربعا وثلاثين، واحد بجسمه صلى الله عليه وسلم والباقي بروحه، وتلك الليلة: أي التي كانت بجسمه صلى الله عليه وسلم كانت ليلة سبع عشرة، وقيل سبع وعشرين خلت من شهر ربيع الأول، وقيل ليلة تسع وعشرين خلت من رمضان أي وقيل سبع وعشرين خلت من ربيع الآخر، وقيل من رجب واختار هذا الأخير الحافظ عبد الغني المقدسي وعليه عمل الناس، وقيل في شوّال، وقيل في ذي الحجة.
وفي كلام الشيخ عبد الوهاب ما يفيد أن إسراآته صلى الله عليه وسلم كلها كانت في تلك الليلة التي وقع فيها هذا الخلاف فليتأمل، وذلك قبل الهجرة قيل بسنة وبه جزم ابن حزم، وادعى فيه الإجماع، وقيل بسنتين؛ وقيل بثلاث سنين، وكل من الإسراء والمعراج كان بعد خروجه صلى الله عليه وسلم للطائف كما دل عليه السياق، وعن ابن إسحاق أن ذلك كان قبل خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وفيه نظر ظاهر.
واختلف في اليوم الذي يسفر عن ليلتهما، قيل الجمعة، وقيل السبت. وقال ابن دحية: يكون يوم الاثنين إن شاء الله تعالى ليوافق المولد والمبعث والهجرة والوفاة: أي لأنه صلى الله عليه وسلم ولد يوم الاثنين وبعث يوم الاثنين، وخرج من مكة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، ومات يوم الاثنين فليتأمل.
عن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله تعالى عنها: أي واسمها على الأشهر فاختة، وسيأتي في فتح مكة أنها أسلمت يوم الفتح، وهرب زوجها هبيرة إلى نجران ومات بها على كفره، قالت: «دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلس: أي في الظلام بعيد الفجر وأنا على فراشي، فقال: أشعرت: أي علمت أني نمت الليلة في المسجد الحرام أي عند البيت أو في الحجر» وهو المراد بالحطيم الذي وقع في بعض الروايات، وفي رواية «فرج سقف بيتي» .
قال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن يكون السر في ذلك أي في انفراج السقف التمهيد لما يقع من شق صدره صلى الله عليه وسلم، فكأنّ الملك أراه بانفراج السقف والتئامه في الحال كيفية ما سيصنع به، لطفا به وتثبيتا له صلى الله عليه وسلم: أي زيادة تمهيد وتثبيت له، وإلا فشق صدره صلى الله عليه وسلم تقدم له غير مرة، وفي رواية «أنه صلى الله عليه وسلم نام في بيت أم هانئ، قالت:
فقدته من الليل فامتنع مني النوم مخافة أن يكون عرض له بعض قريش» .
أي وحكى ابن سعد «أن النبي صلى الله عليه وسلم فقد تلك الليلة، فتفرقت بنو عبد المطلب يلتمسونه، ووصل العباس إلى ذي طوى، وجعل يصرخ يا محمد، فأجابه لبيك لبيك، فقال: يا بن أخي عنيت قومك فأين كنت؟ قال: ذهبت إلى بيت المقدس قال: من ليلتك؟ قال نعم، قال: هل أصابك إلا خير؟ قال: ما أصابني إلا خير» ولعله صلى الله عليه وسلم نزل عن البراق في ذلك المحل.(1/515)
وعن أم هانئ رضي الله تعالى عنها قالت «ما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو في بيتي نائم عندي تلك الليلة، فصلى العشاء الآخرة ثم نام ونمنا، فلم كان قبل الفجر أهبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي أقامنا من نومنا» ومن ثم جاء في رواية: «نبهنا، فلما صلى الصبح وصلينا معه قال: يا أم هانئ لقد صليت معك العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه، ثم صليت صلاة الغداة معكم الآن كما ترين» الحديث.
والمراد أنه صلى الله عليه وسلم صلى صلاته التي كان يصليها وهي الركعتان في الوقتين المذكورين، وإلا فصلاة العشاء وصلاة الصبح التي هي صلاة الغداة لم يكونا فرضا، وفي قولها «وصلينا معه» نظر لما تقدم، ويأتي أنها لم تسلم إلا يوم الفتح، ثم رأيت في مزيل الخفاء: وأما قولها يعني أم هانئ وصلينا فأرادت به وهيأنا له ما يحتاج إليه في الصلاة كذا أجاب.
وأقرب منه أنها تكلمت على لسان غيرها، أو أنها لم تظهر إسلامها إلا يوم الفتح فليتأمل، فقال صلى الله عليه وسلم «إن جبريل أتاني» وفي رواية «أسرى به من شعب أبي طالب» قال الحافظ ابن حجر: والجمع بين هذه الروايات «أنه صلى الله عليه وسلم نام في بيت أم هانئ وبيتها عند شعب أبي طالب، ففرج عن سقف بيته الذي هو بيت أم هانئ لأنه صلى الله عليه وسلم كان نائما به فنزل الملك وأخرجه إلى المسجد وكان به أثر النعاس: أي فاضطجع فيه عند الحجر» فيصح قوله صلى الله عليه وسلم: نمت الليلة في المسجد الحرام إلى آخره.
وفي رواية «أنه صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وميكائيل ومعهما ملك آخر، أي وهو مضطجع في المسجد في الحجر بين عمه حمزة وابن عمه جعفر رضي الله تعالى عنهما، فقال أحدهم: خذوا سيد القوم الأوسط بين الرجلين، فاحتملوه حتى جاؤوا به زمزم، فاستلقوه على ظهره، فتولاه منهم جبريل، فشق من ثغرة نحره» وهو الموضع المنخفض بين الترقوتين «إلى أسفل بطنه» أي وفي رواية «إلى مراق بطنه» وفي رواية «إلى شعرته» أي أشار إلى ذلك؟ فانشق فلم يكن الشق في المرات كلها بآلة، ولم يسل منه دم، ولم يجد لذلك ألما كما تقدم التصريح به في بعض الروايات، لأنه من خرق العادات وظهور المعجزات «ثم قال جبريل، لميكائيل: ائتني بطشت من ماء زمزم كيما أطهر قلبه، وأشرح صدره، فاستخرج قلبه: أي فشقه، فغسله ثلاث مرات، ونزع ما كان فيه من أذى» وهذا الأذى يحتمل أن يكون من بقايا تلك العلقة السوداء التي نزعت منه صلى الله عليه وسلم وهو مسترضع في بني سعد بناء على تجزئتها كما تقدم في المرة الثانية، وهو ابن عشر سنين والثالث عند البعث، فلا يخالف أن العلقة السوداء نزعت منه صلى الله عليه وسلم في المرة الأولى وهو مسترضع في بني سعد، ويستحيل تكرار(1/516)
إخراجها وإلقائها. والذي ينبغي أن يكون نزع تلك العلقة إنما هو في المرة الأولى والواقع في غيرها إنما هو إخراج الأذى، وأنه غير تلك العلقة، وأن المراد به ما يكون في الجبليات البشرية، وتكرر إخراج ذلك الأذى استئصاله ومبالغة فيه، وذكر العلقة في المرة الأولى، وقول الملك هذا حظ الشيطان وهم من بعض الرواة.
«واختلف إليه ميكائيل بثلاث طسات من ماء زمزم، ثم أتى بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا» أي نفس الحكمة والإيمان، لأن المعاني قد تمثل بالأجسام، أو فيه ما هو سبب لحصول ذلك، والمراد كمالهما، فلا ينافي ما تقدم في قصة الرضاع أنه ملئ حكمة وإيمانا. «ووضعت فيه السكينة ثم أطبقه، ثم ختم بين كتفيه بخاتم النبوّة» وتقدم في قصة الرضاع أن في رواية أن الختم كان في قلبه، وفي أخرى أنه كان في صدره، وفي أخرى أنه كان بين كتفيه، وتقدم الكلام على ذلك. وأنكر القاضي عياض شق صدره صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، وقال: إنما كان وهو صلى الله عليه وسلم صبي في بني سعد، وهو يتضمن إنكار شقه عند البعثة أيضا، أي والتي قبلها وعمره صلى الله عليه وسلم عشر سنين. ورده الحافظ ابن حجر بأن الروايات تواردت بشق صدره صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة وعند البعثة، أي زيادة على الواقع له صلى الله عليه وسلم في بني سعد، وأبدى لكل من الثلاثة حكمة، وتقدم أنه شق صدره صلى الله عليه وسلم وهو ابن عشر سنين، وأنه صلى الله عليه وسلم شق صدره وهو ابن عشرين سنة، وتقدم ما فيه.
أقول: ويمكن أن يكون إنكار القاضي عياض لشق صدره صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج على الوجه الذي جاء في بعض الروايات أنه أخرج من قلبه علقة سوداء، وقال الملك:
هذا حظ الشيطان منك لأن هذا إنما كان وهو صلى الله عليه وسلم مسترضع في بني سعد، ويستحيل تكرر إلقاء تلك العلقة، وحمل ذلك على بعض بقايا تلك العلقة السوداء كما قدمناه ينافي قول الملك هذا حظ الشيطان منك، إلا أن يقال المراد أنه من حظ الشيطان أي بعض حظ الشيطان فليتأمل ذلك، والأولى ما قدمناه في ذلك. ثم لا يخفى أنه ورد «غسل صدري» وفي رواية «قلبي» .
وقد يقال: الغسل وقع لهما معا كما وقع الشق لهما معا، فأخبر صلى الله عليه وسلم بإحداهما مرة وبالأخرى أخرى، أي وتقدم في مبحث الرضاع في رواية شق بطنه صلى الله عليه وسلم ثم قلبه، وفي أخرى شق صدره ثم قلبه، وفي أخرى الاقتصار على شق صدره، وفي أخرى الاقتصار على شق قلبه، وتقدم أن المراد بالبطن الصدر، وليس المراد بأحدهما القلب.
وفي كلام غير واحد ما يقتضي أن المراد بالصدر القلب، ومن ثم قيل: هل شق صدره وغسله مخصوص به صلى الله عليه وسلم، أو وقع لغيره من الأنبياء؟.
وأجيب بأنه جاء في قصة تابوت بني إسرائيل الذي أنزله الله تعالى على آدم(1/517)
حين أهبطه إلى الأرض «فيه صور الأنبياء من أولاده، وفيه بيوت بعدد الرسل، وآخر البيوت بيت محمد صلى الله عليه وسلم، وهو من ياقوتة حمراء، ثلاثة أذرع في ذراعين» وقيل كان من نوع من الخشب تتخذ منه الأمشاط مموها بالذهب، فكان عند آدم إلى أن مات، ثم عند شيث، ثم توارثه أولاد آدم إلى أن وصل إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ثم كان عند إسماعيل ثم عند ابنه قيدار، فنازعه ولد إسحاق، ثم أمر من السماء أن يدفعه إلى ابن عمه يعقوب إسرائيل الله فحمله إلى أن أوصله له، ثم وصل إلى موسى عليه الصلاة والسلام، فوضع فيه التوراة وعصاه وعمامة هارون ورضاض الألواح التي تكسرت لما ألقاها، وأنه كان فيه الطشت طشت من ذهب الجنة الذي غسل فيه قلوب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام» وذلك مقتض لعدم الخصوصية «وكان هذا التابوت إذا اختلفوا في شيء سمعوا منه ما يفصل بينهم، وما قدموه أمامهم في حرب إلا نصروا، وكان كل من تقدم عليه من الجيش لا بدّ أن يقتل أو ينهزم الجيش» .
وفي الخصائص للسيوطي: ومما اختص به صلى الله عليه وسلم عن جميع الأنبياء ولم يؤتها نبي قبله شق صدره في أحد القولين وهو الأصح. وجمع بعضهم بحمل الخصوصية على تكرر شق الصدر، لأن تكرر شق صدره الشريف ثبت في الأحاديث، وشق صدر غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما أخذ من قصة التابوت، وليس فيها تعرض للتكرار، ولو جمع بأن شق الصدر مشترك وشق القلب، وإخراج العلقة السوداء مختص به صلى الله عليه وسلم، ويكون المراد بالقلب في قصة التابوت الصدر وبالصدر في كلام الخصائص القلب لم يكن بعيدا، إذ ليس في قصة التابوت ما يدل على أن تلك العلقة السوداء أخرجت من غير قلب نبينا صلى الله عليه وسلم، ولم أقف على أثر يدلّ على ذلك، وغسل قلب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليس من لازمه الشق، بل يجوز أن يكون غسله من خارج، وقد أحلنا على هذا الجمع في بحث الرضاع، وبهذا يردّ ما قدمناه من قول الشمس الشامي: الراجح المشاركة، ولم أر لعدم المشاركة ما يعتمد عليه بعد الفحص الشديد فليتأمل.
ثم رأيته ذكر أنه جمع جزآ سماه «نور البدر فيما جاء في شق الصدر» ولم أقف عليه، والله أعلم.
«قال فأتاني جبريل عليه الصلاة والسلام، فذهب بي إلى باب المسجد» أي وعن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بينا أنا نائم في الحجر جاءني جبريل عليه الصلاة والسلام، فهمزني بقدمه، فجلست فلم أر شيئا، فعدت لمضجعي، فجاءني الثانية فهمزني بقدمه، فجلست فلم أر شيئا؛ فعدت لمضجعي، فجاءني الثالثة فهمزني بقدمه، فجلست فلم أر شيئا، فأخذ بعضدي، فقمت معه فخرج بي إلى باب المسجد» .(1/518)
وفيه أنه إذا لم يجد شيئا من أخذ بعضديه، إلا أن يقال ثم رآه عند أخذه يعضديه، فإذا دابة أبيض» أي ومن ثم قيل له البراق بضم الموحدة لشدة بريقه، وقيل: قيل له ذلك لسرعته، أي فهو كالبرق، وقيل لأنه كان ذا لونين أبيض وأسود، أي يقال شاة برقاء: إذا كان خلال صوفها الأبيض طاقات سوداء: أي وهي العفراء، ومن ثم جاء في الحديث «أبرقوا فإن دم عفراء عند الله أذكى من دم سوداوين» أي ضحوا بالبلقاء وهي العفراء لكن في الصحاح الأعفر الأبيض، وليس بالشديد البياض، وشاة عفراء: يعلو بياضها حمرة، ولغلبة بياض شعره على سوداه أو حمرته قيل أبيض، ولعل سواد شعره لم يكن حالكا بل كان قريبا من الحمرة فوصف بأنه أحمر، وهذا لا يتم إلا لو كان البراق كذلك، أي شعره أبيض داخله طاقات سود أو حمر ولعله كان كذلك، ويدل له قول بعضهم: إنه ذو لونين، أي بياض وسواد، والسواد كما علمت إذا صفا شبه بالأحمر، وهذه الرواية طوي فيها ذكر أنه كان بين حمزة وجعفر، وأنه جاءه جبريل وميكائيل وملك آخر، وأنهم احتملوه إلى زمزم، وشق جبريل صدره إلى آخر ما تقدم «وذلك البراق فوق الحمار ودون البغل، مضطرب الأذنين» أي طويلهما «أي وكان مسرجا ملجما» كما في بعض الروايات «فركبته، فكان يضع حافره مد بصره» أي حيث ينتهي بصره.
وفي رواية «ينتهي خفها حيث ينتهي طرفها، إذا أخذ في هبوط طالت يداه وقصرت رجلاه، إذا أخذ في صعود طالت رجلاه وقصرت يداه» أي وقد ذكر هذا الوصف في فرس فرعون موسى. فقد قيل: كان لفرعون أربع عجائب، فذكر منها أن لحيته كانت خضراء ثمانية أشبار، وقامته سبعة أشبار، فكانت لحيته أطول منه بشبر، وكان له فرس، وقيل برذون إذا صعد الجبل قصرت يداه وطالت رجلاه، وإذا انحدر يكون على ضد ذلك. وفي رواية «أن البراق خطوه مد البصر» قال ابن المنير: فعلى هذا يكون قطع من الأرض إلى السماء في خطوة واحدة، لأن بصر الذي في الأرض يقع على السماء فبلغ أعلى السموات في سبع خطوات انتهى، أي لأن بصر من يكون في سماء الدنيا يقع على السماء فوقها وهكذا، وهذا بناء على أنه عرج به صلى الله عليه وسلم على المعراج راكب البراق، وسيأتي ما فيه.
قال صلى الله عليه وسلم «فلما دنوت منه اشمأز: أي نفر» وفي رواية «فاستصعب ومنع ظهره أن يركب؛ فقال جبريل: اسكن، فما ركبك أحد أكرم على الله من محمد» وفي رواية «في فخذيها» أي تلك الدابة التي هي البراق «جناحان تحفز بهما» أي تدفع بهما «رجليهما» ففي اللغة: الحفز: الحث والإعجال «فلما دنوت لأركبها شمست» أي نفرت ومنعت ظهرها. وفي رواية «شمس» ، وفي رواية «صرّت أذنيها» أي جمعتهما، وذلك شأن الدابة إذا نفرت «فوضع جبريل يده على معرفتها، ثم قال: ألا تستحيين يا(1/519)
براق مما تصنعين؟ والله ما ركب عليك أحد» وفي رواية «عبد الله قبل محمد صلى الله عليه وسلم أكرم على الله منه، فاستحيت حتى أرفضت عرقا» أي كثر عرقها وسال «ثم قرت حتى ركبها» أي وفي رواية «فقال جبريل: مه يا براق، فو الله ما ركبك مثله من الأنبياء» أي لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانت تركبها قبله صلى الله عليه وسلم.
ففي البيهقي «وكانت الأنبياء تركبها قبلي» وعند النسائي «وكانت تسخر للأنبياء قبلي، وبعد عليها العهد من ركوبهم لأنها لم تكن ركبت في الفترة بين عيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام كما ذكره ابن بطال وهو يقتضي أنه لم يركبه أحد ممن كان بين عيسى ومحمد من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وجاء التصريح بذلك في بعض الروايات، أي والمتبادر منها أنها التي بينه وبين عيسى عليهما الصلاة والسلام، فيكون عيسى ممن ركبها دون من بعده من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على تقدير ثبوت وجود أنبياء عليهم الصلاة والسلام بعد عيسى، وتقدم عن النهر أنه كان بينهما ألف نبي.
وقوله لأن الأنبياء ظاهرة يدل على أن جميع الأنبياء أي عيسى ومن قبله ركبوه. قال الإمام النووي: القول باشتراك جميع الأنبياء في ركوبها يحتاج إلى نقل صحيح، هذا كلامه.
ومما يدل على أن الأنبياء كانت تركبه قبله صلى الله عليه وسلم ما تقدم وظاهر ما سيأتي في بعض الروايات «فربطه بالحلقة التي توثق بها الأنبياء» وإنما قلنا ظاهر لأنه لم يذكر الموثق بفتح المثلثة، إذ يحتمل أن الأنبياء كانت تربط غير البراق من دوابهم بها.
ثم رأيت في رواية البيهقي «فأوثقت دابتي» يعني البراق «التي كانت الأنبياء تربطها فيه» ومن ثم قال الشيخ عبد الوهاب الشعراني رحمه الله: ما من رسول إلا وقد أسري به راكبا على ذلك البراق، هذا كلامه، وقد تقدم أن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه حمل هو وهاجر وولدهما يعني إسماعيل على البراق إلى مكة.
وفي تاريخ الأزرقي: وكان إبراهيم يحج كل سنة على البراق، فعن سعيد بن المسيب وغيره «أن البراق هو دابة إبراهيم عليه الصلاة والسلام التي كان يزور عليها البيت الحرام» وعلى تسليم أنه لم يركب البراق أحد قبله صلى الله عليه وسلم كما يقول ابن دحية ووافقه الإمام النووي، فقول جبريل عليه الصلاة والسلام «ما ركبك» ونحوه لا ينافيه، لأن السالبة تصدق بنفي الموضوع، ومن ثم قال في الخصائص الصغرى: وخص صلى الله عليه وسلم بركوب البراق في أحد القولين، أي وقيل إن الذي خص به هو ركوبه مسرجا ملجما.
وفي المنتقى أن البراق وإن كان يركبه الأنبياء إلا أنه لم يكن يضع حافره عند منتهى طرفه إلا عند ركوب النبي صلى الله عليه وسلم. وجاء في غريب التفسير «أن البراق لما شمس(1/520)
قال له جبريل: لعلك يا محمد مسيت الصفر اليوم وهو صنم كان بعضه من ذهب وبعضه من نحاس كسره صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، فقال له صلى الله عليه وسلم: ما مسيته إلا أني مررت به وقلت تبا لمن يعبدك من دون الله، فقال جبريل وما شمس إلا لذلك» أي لمجرد مرورك عليه، وهذا حديث موضوع كما نقل عن الإمام أحمد.
وقال الحافظ ابن حجر: إنه من الأخبار الواهية. وقال مغلطاي: لا ينبغي أن يذكر ولا يعزي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقال فرس شموس: أي صعبة، ولا يقال شموسة، وذكر لاستصعاب البراق غير ذلك من الحكم لا نطيل بذكره.
قال: وعن الثعلبي بسند ضعيف في صفة البراق عن ابن عباس «له خد كخد الإنسان وعرف كعرف الفرس، وقوائم كالإبل، وأظلاف وذنب كالبقر» أي وحينئذ يكون إطلاق الخف على ذلك في الرواية السابقة «ينتهي خفها حيث ينتهي طرفها» مجازا لأن مع كونها لها قوائم كقوائم الإبل لا خف لها بل ظلف وهو الحافر.
وفي كلام بعضهم في صفة البراق «وجهه كوجه الإنسان، وجسده كجسد الفرس وقوائمه كقوائم الثور، وذنبه كذنب الغزال، لا ذكر ولا أنثى» اهـ، ومن ثم وصف بوصف المذكر تارة وبوصف المؤنث أخرى، فهي حقيقة ثالثة، ويكون خارجا من قوله تعالى وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ [الذّاريات: الآية 49] كما خرجت من ذلك الملائكة، فإنهم ليسوا ذكورا ولا إناثا.
وذكر بعضهم أن أذنيها كأذني الفيل، وعنقها كعنق البعير. وصدرها كصدر الفيل كأنه من ياقوت أحمر لها جناحان كجناح النسر، فيهما من كل لون قوائمها كقوائم الفرس، وذنبها كذنب البعير. ويحتاج إلى الجمع بين هذه الروايات على تقدير الصحة.
قال صلى الله عليه وسلم «ثم سرت وجبريل عليه الصلاة والسلام لا يفارقني» أي وفي رواية «أنه ركب معه البراق» وفي الشفاء «ما زايلا ظهر البراق حتى رجعا» وفي رواية «ركبت البراق خلف جبريل» أي وفي صحيح ابن حبان «وحمله جبريل على البراق رديفا له» .
قال: وفي الشرف «كان الآخذ بركابه جبريل، وبزمام البراق ميكائيل» وفي رواية «جبريل عن يمينه، وميكائيل عن يساره» اهـ.
أقول: ولا منافاة، لجواز أن يكون جبريل تارة ركب مردفا له صلى الله عليه وسلم وتارة أخذ بركابه من جهة اليمين، وميكائيل تارة أخذ بالزمام وتارة لم يأخذه، وكان جهة يساره أو كان آخذ بالزمام من جهة اليسار، ولا يخالف هذا الجمع قول الشفاء «ما زايلا ظهر البراق» لإمكان حمله على غالب المسافة. هذا، وفي حياة الحيوان: الظاهر(1/521)
عندي أن جبريل لم يركب مع النبي صلى الله عليه وسلم البراق ليلة الإسراء لأنه المخصوص بشرف الإسراء، هذا كلامه فليتأمل، والله أعلم.
قال صلى الله عليه وسلم «ثم انتهيت إلى بيت المقدس، فأوثقته بالحلقة التي بالباب» أي باب المسجد «التي كانت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام توثق» أي تربط «بها» أي تربطه بها على ما تقدم عن رواية البيهقي. وفي رواية «أن جبريل خرق بأصبعه الحجر» أي الذي هو الصخرة. وفي كلام بعضهم: فأدخل جبريل يده في الصخرة فخرقها وشدّ به البراق.
أقول: لا منافاة، لجواز أن يكون المراد وسع الخرق بأصبعه أو فتحه لعروض انسداده، وأن هذا الخرق هو المراد بالحلقة التي في الباب، لأن الصخرة بالباب وقيل لهذا الخرق حلقة لاستدارته.
وفي الإمتاع: وعادت صخرة بيت المقدس كهيئة العجين، فربط دابته فيها والناس يلتمسون ذلك الموضع إلى اليوم هذا كلامه.
وجمع بعضهم بأنه صلى الله عليه وسلم ربطه بالحلقة خارج باب المسجد الذي هو مكان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تأدبا، فأخذه جبريل فربطه في زاوية المسجد في الحجر الذي هو الصخرة التي خرقها بأصبعه، وجعله داخلا عن باب المسجد، فكأنه يقول له:
إنك لست ممن يكون مركوبه على الباب بل يكون داخلا.
وفي حديث أبي سفيان قبل إسلامه لقيصر، أنه قال لقيصر يحط من قدره صلى الله عليه وسلم «ألا أخبرك أيها الملك عنه خبرا تعلم منه أنه يكذب؟ قال: وما هو؟ قال: إنه يزعم أنه خرج من أرضنا أرض الحرم فجاء مسجدكم هذا ورجع إلينا في ليلة واحدة، فقال: بطريق: أنا أعرف تلك الليلة، فقال له قيصر: ما علمك بها؟ قال: إني كنت لا أبيت ليلة حتى أغلق أبواب المسجد، فلما كانت تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد: أي وهو الباب الفلاني غلبني فاستعنت عليه بعمالي ومن يحضرني فلم نقدر، فقالوا: إن البناء نزل عليه فاتركوه إلى غد حتى يأتي بعض النجارين فيصلحه فتركته مفتوحا، فلما أصبحت غدوت فإذا الحجر الذي من زاوية الباب مثقوب، أي زيادة على ما كان عليه على ما تقدم، وإذا فيه أثر مربط الدابة أي التي هي البراق: أي ولم أجد بالباب ما يمنعه من الإغلاق، فعلمت أنه إنما امتنع لأجل ما كنت أجده في العلم القديم أن نبيا يصعد من بيت المقدس إلى السماء، وعند ذلك قلت لأصحابي: ما حبس هذا الباب الليلة إلا هذا الأمر، وسيأتي ذلك عند الكلام على كتابه صلى الله عليه وسلم لقيصر. ولا يخفى أن المراد بالصخرة الحجر الذي بالباب لا الصخرة المعروفة كما هو المتبادر من بعض الروايات، وهي «فأتى جبريل الصخرة التي في بيت المقدس فوضع أصبعه فيها فخرقها فشدّ بها البراق» لأن الذي في بابه(1/522)
يقال إنها فيه، ولا يخفى أن عدم انغلاق الباب إنما كان آية، وإلا فجبريل عليه الصلاة والسلام لا يمنعه باب مغلق ولا غيره.
وفي رواية عن شداد بن أوس أنه قال «ثم انطلق بي» أي جبريل «حتى دخلنا المدينة» يعني مدينة بيت المقدس من بابها اليماني «فأتى قبلة المسجد فربط فيها دابته» .
قد يقال: لا يخالفه، لأنه يجوز أن يكون ذلك الباب كان بجانب قبلة المسجد، ولعل هذا الباب هو الباب اليماني الذي فيه صورة الشمس والقمر. ففي رواية «ودخل المسجد من باب فيه تمثال الشمس والقمر» أي مثالهما فيه، والله أعلم.
وأنكر حذيفة رضي الله تعالى عنه رواية ربط البراق وقال لم يفر منه، وقد سخره له عالم الغيب والشهادة. وردّ عليه بأن الأخذ بالحزم لا ينافي صحة التوكل.
فعن وهب بن منبه رضي الله عنه «الإيمان بالقدر لا يمنع الحازم من توقي المهالك» قال وهب: وجدته في سبعين من كتب الله عز وجل القديمة: أي ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم «أعقلها وتوكل» وقد كان صلى الله عليه وسلم يتزود في أسفاره ويعد السلاح في حروبه، حتى لقد ظاهر بين درعين في غزوة أحد. قال وفي رواية «فلما استوى النبي صلى الله عليه وسلم في صخرة المسجد قال جبريل: يا محمد هل سألت ربك أن يريك الحور العين؟ قال نعم، قال جبريل: فانطلق إلى أولئك النسوة فسلم عليهن فرددن عليه السلام، فقال: من أنتن؟
قلن خيرات حسان نساء قوم أبرار، نقوا فلم يدرنوا، وأقاموا فلم يظعنوا، وخلدوا فلم يموتوا» اهـ.
أقول: في كلام بعضهم أنه لم يختلف أحد أنه صلى الله عليه وسلم عرج به من عند القبة التي يقال لها قبلة المعراج من عند يمين الصخرة. وقد جاء «صخرة بيت المقدس من صخور الجنة» وفي لفظ «سيدة الصخور صخرة بيت المقدس» وجاء «صخرة بيت المقدس على نخلة، والنخلة على نهر من أنهار الجنة، وتحت النخلة آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران ينظمان سموط أهل الجنة إلى يوم القيامة» قال الذهبي:
إسناده مظلم، وهو كذب ظاهر.
قال الإمام أبو بكر بن العربي في شرحه لموطأ مالك: صخرة بيت المقدس من عجائب الله تعالى فإنها صخرة قائمة شعثاء في وسط المسجد الأقصى، قد انقطعت من كل جهة لا يمسكها إلا الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، في أعلاها من جهة الجنوب قدم النبي صلى الله عليه وسلم حين ركب البراق، وقد مالت من تلك الجهة لهيبته صلى الله عليه وسلم، وفي الجهة الأخرى أصابع الملائكة التي أمسكتها لما مالت، ومن تحتها المغارة التي انفصلت من كل جهة، أي فهي معلقة بين السماء والأرض، وامتنعت(1/523)
لهيبتها من أن أدخل تحتها، لأني كنت أخاف أن تسقط عليّ بالذنوب، ثم بعد مدة دخلتها فرأيت العجب العجاب، تمشي في جوانبها من كل جهة، فتراها منفصلة عن الأرض، لا يتصل بها من الأرض شيء ولا بعض شيء، وبعض الجهات أشد انفصالا من بعض، وهذا الذي ذكره ابن العربي، أن قدمه صلى الله عليه وسلم أثر في صخرة بيت المقدس حين ركب البراق، وأن الملائكة أمسكتها لما مالت، قال به الحافظ ناصر الدين الدمشقي حيث قال في معراجه المسجع: ثم توجها نحو صخرة بيت المقدس وعماها، فصعد من جهة الشرق أعلاها، فاضطربت تحت قدم نبينا صلى الله عليه وسلم ولانت، فأمسكتها الملائكة لما تحركت ومالت.
وقول ابن العربي حين ركب البراق يقتضي أنه عرج به على البراق، وسيأتي الكلام فيه، وتقدم أن الجلال السيوطي سئل عن غوض قدمه صلى الله عليه وسلم في الحجر هل له أصل في كتب الحديث؟ فأجاب بأنه لم يقف في ذلك على أصل ولا رأى من خرّجه في شيء من كتب الحديث، وتقدم ما فيه.
وفي العرائس، قال أبيّ بن كعب: ما من ماء عذب إلا وينبع من تحت الصخرة ببيت المقدس ثم يتفرق في الأرض، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال صلى الله عليه وسلم «فنشر لي» بضم النون وكسر الشين المعجمة: أي أحيا لي بعد الموت «رهط من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام» لأن نشر الميت إحياؤه. والرهط: ما دون العشرة من الرجال «فيهم إبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام» أي وحكمة تخصيص هؤلاء بالذكر لا تخفى «فصليت بهم، وكلمتهم» أي فالمراد نشروا عند دخوله صلى الله عليه وسلم المسجد وصلى بهم ركعتين؛ ووصفهم بالنشور واضح في غير عيسى عليه الصلاة والسلام، لأنه لم يمت. ووصف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالإحياء بعد الموت سيأتي في قصة بدر في الكلام على أصحاب القليب ما يعلم منه أن المراد بإحياء الأنبياء بعد الموت شدة تعلق أرواحهم بأجسادهم حتى أنهم في البرزخ بسبب ذلك أحياء كحياتهم في الدنيا، وقد ذكرنا هناك الكلام على صلاتهم في البرزخ وحجهم وغير ذلك. وفي رواية «ثم صلى صلى الله عليه وسلم هو وجبريل كل واحد ركعتين، فلم يلبثا إلا يسيرا حتى اجتمع ناس كثير» أي مع أولئك الرهط، فلا مخالفة بين الروايتين «فعرف النبيين من بين قائم وراكع وساجد، ثم أذن مؤذن وأقيمت الصلاة» .
أقول: ذكر ابن حبيب أن آية وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا [الزخرف:
الآية 45] الآية، نزلت ببيت المقدس ليلة الإسراء. ويجوز أن يكون قوله وأقيمت الصلاة من عطف التفسير، فالمراد بالأذان الإقامة، وليس المراد بالإقامة الألفاظ المعروفة الآن لما سيذكر في الكلام على مشروعية الأذان والإقامة بالمدينة، وعلى أنه من عطف المغاير، ويدل له ما في بعض الروايات «فلما استوينا في المسجد أذن(1/524)
مؤذن ثم أقام الصلاة» فليس من لازم ذلك أن يكون كل من التأذين والإقامة باللفظين المعروفين الآن، لأنهما كما علمت لم يشرعا إلا في المدينة: أي في السنة الأولى من الهجرة، وقيل في الثانية كما سيأتي.
وحديث «لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء أوحى الله تعالى إليه بالأذان فنزل به فعلمه بلالا» قال الحافظ ابن رجب: موضوع. وحديث «علم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان ليلة أسري به» في إسناده متهم. وفي الخصائص الكبرى أنه صلى الله عليه وسلم علم الإقامة ليلة الإسراء. فقد جاء «لما أراد الله عز وجل أن يعلم رسوله الأذان» أي الإقامة «عرج به إلى أن انتهى إلى الحجاب الذي يلي الرحمن» أي يلي عرشه «خرج ملك من الحجاب، فقال: الله أكبر الله أكبر، فقيل من وراء الحجاب: صدق عبدي أنا أكبر أنا أكبر، ثم قال الملك: أشهد أن لا إله إلا الله:
فقيل من وراء الحجاب: صدق عبدي لا إله إلا أنا فقال الملك أشهد أن محمدا رسول الله فقيل من وراء الحجاب صدق عبدي أنا أرسلت محمدا، فقال الملك:
حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، فأخذ الملك بيد محمد صلى الله عليه وسلم فقدمه يؤمّ بأهل السموات» قال في الشفاء: والحجاب إنما هو في حق المخلوق لا في حق الخالق فهم المحجوبون. قال: فإن صح القول بأن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى به، فيحتمل أنه في غير هذا الموطن بعد رفع الحجاب عن بصره حتى رآه.
وجاء «أنه صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عن ذلك الملك، فقال جبريل: إن هذا الملك ما رأيته قبل ساعتي هذه» وفي لفظ «والذي بعثك بالحق إني لأقرب الخلق مكانا، وإن هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل ساعتي هذه» وفيه أن هذا يقتضي أن جبريل عليه الصلاة والسلام كان معه صلى الله عليه وسلم في هذا المكان، وسيأتي أنه تخلف عنه عند سدرة المنتهى، فليتأمل، والله أعلم.
«ولما أقيمت الصلاة ببيت المقدس قاموا صفوفا ينتظرون من يؤمهم، فأخذ جبريل بيده صلى الله عليه وسلم فقدمه، فصلى بهم ركعتين» .
أي وأما حديث «لما أسري بي أذن جبريل فظنت الملائكة أنه يصلي بهم، فقدمني فصليت بالملائكة» قال الذهبي منكر، بل موضوع. والغرض من تلك الصلاة الإعلام بعلوّ مقامه صلى الله عليه وسلم، وأنه المقدم لا سيما في الإمامة.
وفي رواية «ثم أقيمت الصلاة فتدافعوا» أي دفعوا «حتى قدموا محمد صلى الله عليه وسلم» أي ولا مخالفة لأنه يجوز أن يكون جبريل قدمه صلى الله عليه وسلم بعد دفعهم وتقديمهم له صلى الله عليه وسلم. وفي رواية «فأذن جبريل» أي أقام الصلاة «ونزلت الملائكة من السماء، وحشر الله له المرسلين» أي جميعهم «وقد نزلت الملائكة وحشر له الأنبياء» أي جميعهم، بدليل ما(1/525)
في بعض الروايات «بعث له آدم فمن دونه» فهو تعميم بعد تخصيص بناء على أن الرسول أخص من النبي لا بمعناه، وهذا هو المراد بقول الخصائص الصغرى: ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم إحياء الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وصلاته إماما بهم وبالملائكة، لأن الأنبياء أحياء.
وفيه إذا كان الأنبياء أحياء فما معنى إحيائهم له ليصلي بهم وقد علمت معنى إحيائهم.
«فلما انصرف صلى الله عليه وسلم قال جبريل: يا محمد أتدري من صلى خلفك؟ قال: لا، قال كل نبي بعثه الله تعالى» أي والنبي غير الرسول بعثه الله تعالى إلى نفسه.
أقول: ولا يخالف ما سبق من أنه عرف النبيين من بين قائم وراكع وساجد، لجواز أن يكون المراد عرف معظمهم، أو أنه عرفهم بعد هذا القول.
وذكر القرطبي في تفسيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال «لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس جمع الله له الأنبياء آدم فمن دونه وكانوا سبعة صفوف: ثلاثة صفوف من الأنبياء المرسلين، وأربعة من سائر الأنبياء، وكان خلف ظهره إبراهيم الخليل، وعن يمينه إسماعيل وعن يساره إسحاق صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين» والله أعلم. وفي رواية «ثم دخل أي مسجد بيت المقدس فصلى مع الملائكة، فلما قضيت الصلاة قالوا: يا جبريل من هذا الذي معك؟ قال: هذا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين، قالوا: وقد أرسل إليه، أي للمعراج بناء على أنه كان في ليلة الإسراء، قال نعم، قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة» وهذه الرواية قد يقال لا تخالف ما سبق من أنه صلى الله عليه وسلم صلى بالملائكة مع الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، لأنه يجوز أن يكون إنما أفردهم بالذكر لسؤالهم.
وفيه أن سؤالهم يدل على أن نزولهم من السماء لبيت المقدس لم يكن لأجل الصلاة معه صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي عياض والأظهر أن صلاته صلى الله عليه وسلم بهم، يعني بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين في بيت المقدس كان قبل العروج، أي كما يدل على ذلك سياق القصة. وقال الحافظ ابن كثير: صلى بهم في بيت المقدس قبل العروج وبعده، فإن في الحديث ما يدل على ذلك ولا مانع منه.
قال: ومن الناس من يزعم أنه إنما أمهم في السماء، أي لا في بيت المقدس، أي وهذا الزاعم هو حذيفة، فإنه أنكر صلاته صلى الله عليه وسلم بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام في بيت المقدس. قال بعضهم: والذي تظافرت به الروايات صلاته صلى الله عليه وسلم بالأنبياء عليهم(1/526)
الصلاة والسلام ببيت المقدس.
والظاهر أنه بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم إليه، أي فلم يصلّ في بيت المقدس إلا مرة واحدة وإنها بعد نزوله صلى الله عليه وسلم، لأنه لما مر بهم في منازلهم جعل يسأل جبريل عنهم واحدا واحدا وهو يخبره بهم. أي ولو كان صلى بهم أولا لعرفهم، بل تقدم أنه صلى الله عليه وسلم عرف النبيين ما بين قائم وراكع وساجد:
وما بالعهد من قدم
وهذا هو اللائق، لأنه صلى الله عليه وسلم أولا كان مطلوبا إلى الجناب العلوي: أي بناء على أن المعراج كان في ليلة الإسراء، وحيث كان مطلوبا لذلك، اللائق أن لا يشتغل بشيء عنه، فلما فرغ من ذلك اجتمع هو صلى الله عليه وسلم وإخوته من النبيين ثم أظهر شرفه عليهم فقدمه في الإمامة، هذا كلامه.
أقول: بحث أن صلاته صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس ولم تكن إلا بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من العروج، والاستدلال على ذلك بسؤاله صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واحدا واحدا في السماء، وأن ذلك هو اللائق فيه نظر ظاهر، لأنه لا بحث مع وجود النقل بخلافه، ومجرد الاستحسان العقلي لا يردّ النقل، فقد تقدم عن الحافظ ابن كثير أنه ثبت في الحديث ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم صلى بهم ببيت المقدس قبل العروج وبعده، وكونه سأل عن الأنبياء في السماء لا ينافي صلاته بهم أولا، وأنه عرفهم بناء على تسليم أن معرفته لهم كانت عند صلاته بهم أوّلا، وأنه عرفهم كلهم لا معظمهم على ما قدمناه، لأنه يجوز أن يكونوا في السماء على صور لم يكونوا عليها ببيت المقدس، لأن البرزخ عالم مثال كما تقدم.
وبهذا يعلم ما في قول بعضهم رؤيته صلى الله عليه وسلم للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في السماء محمولة على رؤية أرواحهم إلا عيسى وإدريس عليهما الصلاة والسلام، ورؤيته صلى الله عليه وسلم لهم في بيت المقدس يحتمل لأن المراد أرواحهم، ويحتمل أجسادهم، ويدل للثاني «وبعث له آدم فمن دونه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام» وفي رواية «فنشر لي الأنبياء من سمى الله ومن لم يسمّ، فصليت بهم» صلى الله عليه وسلم وعليهم، والاشتغال عن الجناب العلوي المدعو له بما فيه تأنيس له، وهو اجتماعه صلى الله عليه وسلم بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام وصلاته بهم مناسب لائق بالحال، والله أعلم.
واختلف في هذه الصلاة. فقيل العشاء، أي الركعتان اللتان كان صلى الله عليه وسلم يصليهما بالعشاء بناء على أنه صلى ذلك قبل العروج.
وفيه أنه صلى تينك الركعتين اللتين كان يصليهما بالغداة: أي وهذا يدل على أن الفجر طلع وهو صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس بعد العروج وتقدم، وسيأتي أنه صلى الغداة(1/527)
بمكة، وعليه تكون معاد بمكة.
قال: والذي يظهر- والله أعلم- أنها كانت من النفل المطلق انتهى. أي ولا يضر وقوع الجماعة فيها. وبقولنا أي الركعتان إلى آخره يسقط ما قيل: القول بأنها العشاء أو الصبح ليس بشيء، لأن أول صلاة صلاها من الخمس مطلقا الظهر، ومن حمل الأولية على مكة أي ويكون صلى الصبح ببيت المقدس فعليه الدليل أي دليل يدل على أن تلك الصلاة إحدى الصلوات الخمس.
وفي زين القصص: كان زمن ذهابه صلى الله عليه وسلم ومجيئه ثلاث ساعات، وقيل أربع ساعات: أي بقيت من تلك الليلة. لكن في كلام السبكي أن ذلك كان في قدر لحظة حيث قال في تائيته
وعدت وكل الأمر في قدر لحظة
أي ولا يدع لأن الله تعالى قد يطيل الزمن القصير كما يطوي الطويل لمن يشاء، وقد فسح الله في الزمن القصير لبعض أولياء أمته ما يستغرق الأزمنة الكثيرة، وفي ذلك حكايات شهيرة.
قال صلى الله عليه وسلم «وأتيت بإناءين أحمر وأبيض فشربت الأبيض، فقال لي جبريل: شربت اللبن وتركت الخمر، لو شربت الخمر لارتدّت أمتك» أي غوت وانهمكت في الشرب، بدليل الرواية الأخرى، وهي رواية البخاري «أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به بإيليا بقدحين من خمر ولبن فنظر إليهما فأخذ اللبن، فقال جبريل: الحمد لله الذي هداك للفطرة» أي الاستقامة «لو أخذت الخمرة غوت أمتك ولم يتبعك منهم إلا القليل» أي يكونوا على ما أنت عليه من ترك ذلك؟ فالمراد بالارتداد الرجوع عما هو الصواب، وإتيانه بذلك وهو في المسجد ببيت المقدس، وسيأتي ما يدل على أنه أتي له صلى الله عليه وسلم بذلك أيضا بعد خروجه صلى الله عليه وسلم منه قبل العروج.
قال صلى الله عليه وسلم «واستويت على ظهر البراق، فما كان بأسرع من أن أشرفت على مكة ومعي جبريل فصليت به الغداة، ثم قال صلى الله عليه وسلم لأمّ هانئ بعد أن أخبرها بذلك: أنا أريد أن أخرج إلى قريش فأخبرهم بما رأيت، قالت أمّ هانئ: فعلقت بردائه صلى الله عليه وسلم، وقلت: أنشدك الله» أي بفتح الهمزة أسألك بالله «ابن عم» أي يا بن عم، أن تحدث أي لا تحدث بهذا قريشا فيكذبك من صدقك» وفي رواية «إني أذكرك الله عز وجل أنك تأتي قوما يكذبونك وينكرون مقالتك فأخاف أن يسطوا بك فضرب بيده الشريفة على ردائه، فانتزعه من يديّ فارتفع على بطنه صلى الله عليه وسلم فنظرت إلى عكنه: أي طبقات بطنه من السمن فوق ردائه صلى الله عليه وسلم وكأنه طي القراطيس» أي الورق «وإذا نور ساطع عند فؤاده كاد يخطف» بفتح الطاء وربما كسرت «بصري، فخررت ساجدة، فلما رفعت رأسي إذ هو قد خرج، فقلت لجاريتي نبعة» أي وكانت حبشية معدودة في الصحابة(1/528)
رضي الله عنها «اتبعيه وانظري ماذا يقول؟ فلما رجعت أخبرتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى نفر من قريش في الحطيم» هو ما بين باب الكعبة والحجر الأسود. وفي كلام بعضهم: بين الركن والمقام. سمي بذلك لأن الناس يحطم بعضهم بعضا فيه من الازدحام لأنه من مواطن إجابة الدعاء، قيل ومن حلف فيه آثما عجلت عقوبته، وربما أطلق كما تقدم على الحجر بكسر الحاء وأولئك النفر الذين انتهى صلى الله عليه وسلم إليهم فيهم المطعم بن عدي وأبو جهل بن هشام والوليد بن المغيرة، فقال صلى الله عليه وسلم: «إني صليت الليلة العشاء» أي أوقعت صلاة في ذلك الوقت في هذا المسجد «وصليت به الغداة» أي أوقعت صلاة في ذلك الوقت، وإلا فصلاة العشاء لم تكن فرضت، وكذا صلاة الغداة التي هي الصبح لم تكن فرضت كما تقدم «وأتيت فيما بين ذلك بيت المقدس» .
أي لا يقال كان المناسب لذلك أن يقول وأتيت في لحظة أو ساعات، وعلى ما تقدم فيما بين ذلك ببيت المقدس ولم يوسع لهم الزمن. لأنا نقول وسع لهم الزمن، لأن الطباع لا تنفر منه نفرتها من تلك فليتأمل.
قال «وجاء أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل المسجد قطع وعرف أن الناس تكذبه» أي وما أحب أن يكتم ما هو دليل على قدرة الله تعالى، وما هو دليل على علوّ مقامه صلى الله عليه وسلم الباعث على اتباعه؟ فقعد صلى الله عليه وسلم حزينا، فمر به عدو الله أبو جهل فجاء حتى جلس إليه صلى الله عليه وسلم، فقال كالمستهزئ: هل كان من شيء؟ قال نعم أسري بي الليلة، قال: إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس، قال: ثم أصبحت بين ظهرانينا قال: نعم، قال فلم ير أنه يكذبه مخافة أن يجحده الحديث إن دعا قومه إليه، قال: أرأيت إن دعوت قومك أتحدثهم ما حدثتني؟ قال نعم، قال: يا معشر بني كعب بن لؤيّ، فانقضت إليه المجالس وجاؤوا حتى جلسوا إليهما، فقال: حدث قومك بما حدثتني به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أسري بي الليلة، قالوا: إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس» الحديث انتهى «فنشر لي رهط من الأنبياء منهم إبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلم وصليت بهم وكلمتهم فقال أبو جهل كالمستهزئ صفهم لي فقال صلى الله عليه وسلم: أما عيسى عليه الصلاة والسلام ففوق الربعة ودون الطويل» أي لا طويل ولا قصير «عريض الصدر، ظاهر الدم» أي لونه أحمر. وفي رواية «يعلوه حمرة كأنما يتحادر من لحيته الجمان» وفي رواية «كأنه خرج من ديماس» أي من حمام، وأصله الكن الذي يخرج منه الإنسان وهو عرقان، وأصله الظلمة. يقال: ليل دامس.
والحمام لفظ عربي. وأول واضع له الجن، وضعته لسيدنا سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام. وقيل الواضع له بقراط؛ وقيل شخص سابق على بقراط، استفاده من رجل كان به تعقيد العصب فوقع في ماء حار في جب فسكن، فصار يستعمله حتى برئ.(1/529)
وجاء من طرق عديدة كلها ضعيفة، لكن يقوي بعضها بعضا «إن سليمان عليه الصلاة والسلام لما دخله ووجد حره وغمه قال: أوّاه من عذاب الله» لأن دخول الحمام يذكر النار، لأن الحمام أشبه شيء بجهنم، لأن النار أسفله، والسواد والظلمة أعلاه. وقد قيل: خير الحمام ما قدم بناؤه، واتسع فناؤه، وعذب ماؤه. قال بعضهم: ويصير قديما بعد سبع سنين. قال بعضهم: ولم يعرف الحمام في بلاد الحجاز قبل البعثة؟ وإنما عرفه الصحابة بعد موته صلى الله عليه وسلم بعد أن فتحوا بلاد العجم.
وفيه أن في البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتدرون بيتا يقال له الحمام. قالوا: يا رسول الله إنه يذهب بالدرن، وينفع المريض قال فاستتروا» وفي رواية أنه لما قال صلى الله عليه وسلم «اتقوا بيتا يقال له الحمام، فقالوا: يا رسول الله إنه يذهب بالدرن، وينفع المريض الوسخ، ويذكر النار، قال: إن كنتم لا بد فاعلين فمن دخله فليستتر» وهو صريح في أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم عرفوه في زمنه صلى الله عليه وسلم، إلا أن يقال جاز أن يكونوا عرفوه من غيرهم بهذا الوصف لهم، والمنفي في كلام هذا البعض معرفتهم له بالدخول فيه، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم بيتا يقال له الحمام، وقوله صلى الله عليه وسلم «ستفتح عليكم أرض العجم، وستجدون فيها بيوتا يقال لها الحمامات» .
وأما ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أنه صلى الله عليه وسلم دخل حمام الجحفة» فلا يرد لأنه على تقدير صحته، فالمراد به أنه محلّ للاغتسال فيه لا بالهيئة المخصوصة وكذا لا يرد ما في معجم الطبراني الكبير عن أبي رافع أنه قال «مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بموضع، فقال: نعم موضع الحمام هذا» فبني فيه حمام لجواز أن يكون بني ذلك بعد موته صلى الله عليه وسلم، فهو من أعلام نبوته. قال بعضهم: ولعله قال ذلك لقبح الموضع أي فقول بعضهم ويكفي ذلك في فضيلة الحمام ليس في محله.
وفيه أن هذا البعض لم يعول في الفضيلة على هذا فقط، بل عليه وعلى ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الذي فيه لأنه يذهب بالدرن وينفع المريض..
ولا يرد أيضا ما في مسند أحمد عن أم الدرداء رضي الله تعالى عنها «أنها خرجت من الحمام فلقيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها من أين يا أم الدرداء؟ قالت: من الحمام» لأن في سنده ضعيفا ومتروكا، ولأنه يجوز أن يكون المراد به أنه محل الاغتسال لا أنه المبني على الهيئة المخصوصة كما تقدم. وبه يجاب أيضا عما في مسند الفردوس إن صح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر رضي تعالى عنهما، وقد خرجا من الحمام «طاب حمامكما» .
قال ابن القيم: ولم يدخل المصطفى صلى الله عليه وسلم حماما قط، ولعله ما رآه بعينه هذا(1/530)
كلامه. وعن فرقد السنجي «أنه ما دخل الحمام نبي قط» ويشكل عليه ما تقدم عن سليمان عليه الصلاة والسلام.
واعترض بعضهم قول ابن القيم: لعله صلى الله عليه وسلم ما رأى الحمام بعينه بأنه صلى الله عليه وسلم دخل الشام وبها حمامات كثيرة فيبعد أنه ما رآها، نعم لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم دخل شيئا منها.
وفيه أنه قد يقال هو صلى الله عليه وسلم لم يدخل بلاد الشام إلا بصرى، وجاز أن لا يكون بها حمام حين دخوله صلى الله عليه وسلم إليها.
وفي الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعا «شر البيوت الحمام تعلو فيه الأصوات وتكشف فيه العورات فمن دخله لا يدخله إلا مستترا» ورجاله رجال الصحيح إلا شخص منهم فيه مقال، وما أحسن قول الإمام الغزالي: ورد «نعم البيت الحمام يطهر البدن، ويذهب الدرن، ويذكر النار. وبئس البيت الحمام، يبدي العورة، ويذهب الحياء» فهذا تعرض لآفته، وذلك تعرض لفائدته، ولا بأس بطلب الفائدة مع التحرز عن الآفة.
والحاصل أن الحمام تعتريه الأحكام الخمسة، فيكون واجبا وحراما ومندوبا ومكروها ومباحا. والأصل فيه عندنا معاشر الشافعية الإباحة للرجال مع ستر العورة مكروه للنساء مع ستر العورة حيث لا عذر، وهو محمل ما جاء «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر من نسائكم، فلا يدخل الحمامات» ومع عدم ستر العورة حرام؛ وهو محمل ما جاء «الحمام حرام على نساء أمتي» .
وأول من اتخذ الحمام في القاهرة العزيز بن المعز العبيدي أحد الفواطم. قال بعضهم: ليس في شأن الحمام ما يعوّل عليه إلا قول المصطفى صلى الله عليه وسلم في صفة عيسى عليه الصلاة والسلام» كأنما خرج من ديماس» .
وقال غيره: أصح حديث في هذا الباب حديث «اتقوا بيتا يقال له الحمام، فمن دخله فليستتر» . وقال ابن عمر في وصف عيسى عليه الصلاة والسلام «إنما هو آدم» وحلف بالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل في عيسى إنه أحمر، وإنما قال آدم، وإنما اشتبه على الراوي. وأجاب الإمام النووي بأن الراوي لم يرد حقيقة الحمرة بل ما قاربها: أي والحمرة المقاربة لها أي للأدمة يقال لها أدمة، أي كما يقال لها حمرة فلا منافاة، قال صلى الله عليه وسلم «جاعد الشعر» أي في شعره تثن وتكسر.
أقول: ينبغي حمل جعد الذي جاء في بعض الروايات «وإذا هو بعيسى جعد» على هذا. ثم رأيت النووي قال: قال العلماء المراد بالجعد هنا جعودة الجسم، وهو اجتماعه واكتنازه، وليس المراد جعودة الشعر فليتأمل، والله أعلم. «تعلوه صهية» أي يعلو شعره شقرة «كأنه عروة بن مسعود الثقفي» أي رضي الله تعالى عنه، فإنه بعد(1/531)
انصرافه صلى الله عليه وسلم من الطائف لحق به قبل أن يدخل المدينة وأسلم ثم جاء إلى قومه ثقيف يدعوهم إلى الإسلام فقتلوه. وقال صلى الله عليه وسلم في حقه «إن مثله في قومه كصاحب يس» كما سيأتي ذلك.
«وأما موسى عليه الصلاة والسلام فضخم آدم» أي أسمر، ومن ثم كان خروج يده بيضاء مخالفا لونها لسائر لون جسده آية «طويل كأنه من رجال شنوءة» طائفة من اليمن: أي ينسبون إلى شنوءة؛ وهو عبد الله بن كعب من أولاد الأزد، لقب بذلك لشنآن كان بينه وبين أهله. وقيل لأنه كان فيه شنوءة: وهو التباعد من الأدناس. وفي رواية «كأنه من رجال أزد عمان» هو أبو حي من اليمن. وعمان هذه بضم العين المهملة وتخفيف الميم: بلدة باليمن، سميت بذلك لأنه نزلها عمان بن سنان من ولد إبراهيم عليه الصلاة والسلام. وأما عمان بفتح العين وتشديد الميم: فبلدة بالشام؟
سميت بذلك لأن عمان بن لوط كان سكنها، وكما يقال أزد عمان يقال أزد شنوءة، ورجال الأزد معروفون بالطول.
قال صلى الله عليه وسلم «كثير الشعر، غائر العنين، متراكم الأسنان، مقلص الشفتين، خارج اللثة» أي وهو اللحم الذي حول الأسنان «عابس الفم وأما إبراهيم عليه الصلاة والسلام فو الله إنه لأشبه الناس بي خلقا وخلقا» . وفي رواية «لم أر رجلا أشبه بصاحبكم ولا صاحبكم أشبه به منه» يعني نفسه صلى الله عليه وسلم «فضجوا وأعظموا ذلك، وصار بعضهم يصفق وبعضهم يضع يده على رأسه تعجبا، فقال المطعم بن عدي: إن أمرك قبل اليوم كان أمما» أي يسيرا «غير قولك اليوم، وأنا أشهد أنك كاذب، نحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس مصعدا شهرا ومنحدرا شهرا، أتزعم أنك أتيته في ليلة واحدة، واللات والعزى لا أصدقك، وما كان هذا الذي تقول قط، وقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا مطعم بئس ما قلت لابن أخيك، جبهته» أي استقبلته بالمكروه وكذبته، أنا أشهد أنه صادق. وفي رواية «حين حدثهم بذلك ارتد ناس كانوا أسلموا» أي وحينئذ فقول المواهب فصدقه الصديق وكل من آمن بالله فيه نظر إلا أن يراد من ثبت على الإسلام.
وفي رواية «سعى رجال من المشركين إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقالوا:
هل لك إلى صاحبك، يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس، قال: أو قد قال ذلك؟ قالوا نعم، قال: لئن قال ذلك لقد صدق، قالوا: تصدقه أنه ذهب إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ قال نعم، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه في خبر السماء في غدوة» أي وهي ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس «وروحة» أي وهي اسم للوقت من الزوال إلى الليل، أي وهذا تفسير لهما بحسب الأصل، وإلا فالمراد أنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة واحدة من ليل أو(1/532)
نهار فأصدقه، فهذا أي مجيء الخبر له من السماء بواسطة الملك أبعد مما تعجبون منه أي وحينئذ يجوز أن يكون قول أبي بكر للمطعم ما تقدم كان بعد هذا القول: أي قاله بعد أن اجتمع به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بلغته مقالته، فلا مخالفة بين الروايتين، وإلى إسرائه صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وتحديثه قريشا بذلك أشار صاحب الهمزية بقوله:
حظي المسجد الحرام بممشا ... هـ ولم ينس حظه إيلياء
ثم وافى يحدث الناس شكرا ... إذ أتته من ربه النعماء
أي جميع المسجد الحرام حصل له الحظ الأوفر بممشاه صلى الله عليه وسلم فيه ففضل سائر البقاع، ولم ينس حظه من ممشاه صلى الله عليه وسلم بيت المقدس، بل شرفه الله تعالى بمشيه فيه أيضا، ففضل على ما عدا المسجدين: أي مسجد مكة ومسجد المدينة؛ ثم وافى صلى الله عليه وسلم مكة يحدث الناس لأجل قيامه بالشكر لله تعالى أو حال كونه شاكرا له تعالى وقت أو لأجل أن أتته من ربه النعماء في تلك الليلة.
ثم قال المطعم: يا محمد صف لنا بيت المقدس أراد بذلك اظهار كذبه. وقيل القائل له ذلك أبو بكر، قال له: صفه لي فإني قد جئته أراد بذلك إظهار صدقه صلى الله عليه وسلم لقوله «فقال: دخلته ليلا وخرجت منه ليلا، فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فصوّره في جناحه» أي جاء بصورته ومثاله في جناحه فجعل صلى الله عليه وسلم يقول باب منه كذا في موضع كذا، وباب منه كذا في موضع كذا وأبو بكر رضي الله تعالى عنه يقول صدقت، أشهد أنك رسول الله حتى أتى على أوصافه» أي ومعلوم أن من ذهب بيت المقدس من قريش يصدق على ذلك أيضا.
وفي رواية «لما كذبتني قريش» أي وسألتني عن أشياء تتعلق ببيت المقدس لم أثبتها أي قالوا له كم للمسجد من باب؟ «فكربت كربا شديدا لم أكرب مثله قط، قمت في الحجر فجلى الله عز وجل لي بيت المقدس» أي وجلى بتشديد اللام وربما خففت: كشفه لي أي بوجود صورته ومثاله في جناح جبريل.
وفي رواية «فجيء بالمسجد» أي بصورته «وأنا أنظر إليه حتى وضع» أي بوضع محله الذي هو جناح جبريل، فلا مخالفة بين الروايات وهذا من باب التمثيل، ومنه رؤية الجنة والنار في عرض الحائط لا من باب طيّ المسافة وزوي الأرض، ورفع الحجب المانعة من الاستطراق، الذي ادعى الجلال السيوطي أنه أحسن ما يحمل عليه حديث «رفع بيت المقدس حتى رآه النبي صلى الله عليه وسلم بمكة حال وصفه إياه لقريش صبيحة الإسراء» إذ ذلك لا يجامع مجيء صورته في جناح جبريل، وإنما قلنا إن ذلك من باب التمثيل لأن من المعلوم أن أهل بيت المقدس لم يفقدوه تلك الساعة(1/533)
من بلدهم، فرفعه إنما هو برفع محله الذي هو جناح جبريل.
ثم رأيت ابن حجر الهيتمي قال: الأظهر أنه رفع بنفسه كما جيء بعرش بلقيس إلى سليمان عليه الصلاة والسلام في أسرع من طرفة عين، ولك أن تتوقف فيه، فإن عرش بلقيس فقد بخلاف بيت المقدس، وكان ذلك التجلي عند دار عقيل، وتقدم أنها عند الصفا، وأنها استمرت في يد أولاد عقيل إلى أن آلت إلى يوسف أخي الحجاج، وأن زبيدة أو الخيزران جعلتها مسجدا لما حجت كما تقدم وتقدم ما فيه، قال صلى الله عليه وسلم «فطفقت» أي جعلت «أخبرهم عن آياته» : أي علاماته، «وأنا أنظر إليه» أي وذلك قبل أن تحول الأبنية بين الحجر تلك الدار، أي لقوله صلى الله عليه وسلم «فقمت في الحجر» وهم يصدقونه صلى الله عليه وسلم على ذلك.
ومن ثم قيل إن حكمة تخصيص الإسراء إلى المسجد الأقصى أن قريشا تعرفه فيسألونه عنه فيخبرهم بما يعرفونه مع علمهم أنه صلى الله عليه وسلم لم يدخل بيت المقدس قط فتقوم الحجة عليهم وكذلك وقع.
وأما قول المواهب: ولهذا لم يسألوه صلى الله عليه وسلم عما رأى أي في السماء لأنهم لا عهد لهم بذلك يقتضي سياقه أنه أخبرهم بالمعراج عند إخباره لهم بالإسراء، وسيأتي ما يخالفه. على أنه سيأتي أنه قيل إن المعراج كان بعد الإسراء في ليلة أخرى. وقيل في حكمة ذلك أيضا أن باب السماء الذي يقال له مصعد الملائكة، يقابل بيت المقدس فيحصل العروج مستويا من غير تعويج.
قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر، لورود أن في كل سماء بيتا معمورا، وأن الذي في السماء الدنيا حيال الكعبة، فكان المناسب أن يصعد من مكة ليصل إلى البيت المعمور من غير تعويج هذا كلامه، ويقال عليه وإن سلم ذلك، لكن لم يكن الباب في تلك الجهة فإن ثبت أن في السماء بابا يقابل الكعبة اتجه سؤاله.
قالت نبعة جارية أم هانئ: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يومئذ: «يا أبا بكر إن الله تعالى قد سماك الصديق» أي ومن ثم كان علي رضي الله تعالى عنه يحلف بالله تعالى إن الله تعالى أنزل اسم أبي بكر من السماء الصديق.
وأما ما رواه إسحاق بن بشر بسنده إلى أبي ليلى الغفاري: قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «سيكون بعدي فتنة، فإذا كان ذلك فالزموا علي بن أبي طالب، فإنه أول من يراني وأول من يصافحني يوم القيامة، وهو الصدّيق الأكبر، وهو فاروق هذه الأمة يفرق بين الحق والباطل، وهو يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب المنافقين» قال في الاستيعاب: إسحاق بن بشر لا يحتج بنقله إذا انفرد لضعفه ونكارة أحاديثه، هذا كلامه. وفي مسند البزار بسند ضعيف «أنه صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي(1/534)
طالب: أنت الصديق الأكبر وأنت الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل» .
وفي رواية «أن كفار قريش لما أخبرهم صلى الله عليه وسلم بالإسراء إلى بيت المقدس ووصفه لهم، قالوا له ما آية ذلك يا محمد» أي ما العلامة الدالة على هذا الذي أخبرت به «فإنا لم نسمع بمثل هذا قط» أي: هل رأيت في مسراك وطريقك ما نستدل بوجوده على صدقك أي لأن وصفك لبيت المقدس يحتمل أن تكون حفظته عمن ذهب إليه، قال صلى الله عليه وسلم «آية ذلك أني مررت بعير بني فلان بوادي كذا فأنفرهم» أي أنفر عيرهم حس الدابة، يعني البراق «فندّ لهم بعير» أي شرد «فدللتهم عليه وأنا متوجه إلى الشام، ثم أقبلت حتى إذا كنت بمحل كذا مررت بعير بني فلان فوجدت القوم نياما، ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشيء فكشفت غطاءه، وشربت ما فيه، ثم غطيت عليه كما كان» أي وفي كلام بعضهم «فعثرت الدابة يعني البراق: فقلب بحافره القدح الذي فيه الماء الذي كان يتوضأ به صاحبه في القافلة» وشرب الماء الذي للغير جائز لأنه كان عند العرب كاللبن. مما يباح لكل مجتاز من أبناء السبيل، على أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن له أن يأخذ ما يحتاج إليه من مالكه المحتاج إليه، ويجب على مالكه حينئذ بذله.
وأما الجواب عن ذلك بأنه مال حربي غير صحيح، لأن هذا كان قبل مشروعية الجهاد، ومع عدم مشروعيته لا يحل مال أهل الحرب كما لا يحل قتالهم، لأن الواجب حينئذ مسالمتهم ولا تتم إلا بترك التعرض لأموالهم كنفوسهم، قاله ابن حجر في شرح الهمزية: لكن في قطعة التفسير للجلال المحلي في تفسير قوله تعالى فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها [القصص: الآية 13] أن أمة أرضعته بأجرة وساغ لها أخذها، لأنها مال حربي: أي من مال فرعون، إلا أن يقال ذاك: أي أخذ مال الكافر كان جائزا في شريعتهم، قال صلى الله عليه وسلم «وآية ذلك» أي علامته المصدقة لما أخبر به صلى الله عليه وسلم «أن عيرهم الآن تصوب من الثنية يقدمها جمل أورق» وهو ما بياضه إلى سواد وهو أطيب الإبل لحما عند العرب، وأخسها عملا عندهم: أي ليس بمحمود عندهم، في عمله وسيره «عليه غرارتان إحداهما سوداء والأخرى برقاء» أي فيها بياض وسواد، كما تقدم، فابتدر القوم الثنية فأوّل ما لقيهم الجمل الأورق عليه الغرارتان فسألوهم عن الإناء، وعن نفار العير، وعن ندّ البعير، وعن الشخص الذي دلهم عليه فصدقوا قوله.
أقول: قد علم أن البعير التي نفرت وندّ منها البعير ودلهم عليه مرّ عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى الشام، والعير كان بها الإناء الذي شربه صلى الله عليه وسلم مر عليها وهو راجع إلى مكة، وهي التي صوبت من الثنية، وحينئذ لا يحسن سؤال أهلها عما وقع لأهل تلك العير تصديقهم له صلى الله عليه وسلم فيما أخبر، إلا أن يقال: يجوز أن تكون هذه العير التي مر عليها صلى الله عليه وسلم في العود اجتمعت في عودها بتلك العير الذاهبة إلى الشام، وأخبروهم بما ذكر، والله تعالى أعلم.(1/535)
وفي رواية: «قالوا يا مطعم دعنا نسأله عما هو أغنى لنا عن بيت المقدس» أي فقولهم ذلك كان بعد أن أخبرهم ببيت المقدس «يا محمد أخبرنا عن عيرنا» : أي عيراتنا الذاهبة والآتية «هل لقيت منها شيئا، فقال نعم أتيت على عير بني فلان بالروحاء» أي وهو محل قريب من المدينة، أي بينه وبين المدينة ليلتان «قد أضلوا ناقة لهم فانطلقوا في طلبها، فانتهيت إلى رحالهم ليس بها منهم أحد، وإذا قدح ماء فشربت منه فاسألوهم عن ذلك، فقالوا هذه واللات والعزى آية» أي علامة.
أقول: وهذه العير هي التي مر صلى الله عليه وسلم عليها في العود وهي قادمة إلى مكة، وفي هذه الرواية: زيادة أنهم أضلوا ناقة، وتقدم في تلك الرواية، أنه صلى الله عليه وسلم وجدهم نياما، وفي هذه الرواية: إنه ليس بها منه أحد. وقد يقال: لا مخالفة بين الروايتين، لأنه يجوز أن يكون الراوي أسقط منها هذه الزيادة وهي إضلال الناقة، وأن قوله صلى الله عليه وسلم ليس بها منهم أحد، أي مستيقظ، بل بعضهم ذهب في طلب تلك الناقة، وبعضهم كان نائما، لكن في هذه الرواية أنه صلى الله عليه وسلم مر عليها وهي بالروحاء، وهو لا يناسب قوله في تلك إنها الآن تصوب من الثنية لأن كونها تأتي من الروحاء إلى مكة في ليلة واحدة من أبعد البعيد، إلا أن يقال إن الروحاء مشتركة بين المحل المعروف المتقدم ذكره ومحل آخر قريب من مكة، والله أعلم.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: «فانتهيت إلى عير بني فلان فنفرت منها» أي من الدابة التي هي البراق «الإبل» أي التي هي العير «وبرك منها جمل أحمر، عليه جوالق مخطط ببياض لا أدري أكسر البعير أم لا؟» وهذه الرواية يحتمل أنها ثالثة. ويمكن أن تكون هي الأولى، أسقط من تلك قوله في هذه: وبرك منها جمل إلى آخره، كما أسقط من هذه قوله: في تلك: فندّ لهم بعير.
وفي رواية: «ثم انتهيت إلى عير بني فلان بمكان كذا وكذا فيها جمل عليه غرارتان، غرارة سوداء وغرارة بيضاء، فلما حاذت العير نفرت وصرع ذلك البعير وانكسر، أي وأضلوا بعيرا لهم قد جمعه فلان أي بدلالتي لهم عليه فسلمت عليهم، فقال بعضهم: هذا صوت محمد فاسألوهم عن ذلك» فعلم أن هذه الرواية والتي قبلها هي الأولى، غاية الأمر أنه زيد في هذه قوله: فسلمت عليهم فقالوا هذه واللات والعزى آية، قال صلى الله عليه وسلم «ثم انتهيت إلى عير بني فلان بالأبواء» أي وهو كما تقدم غير مرة أنه محل بين مكة والمدينة «يقدمها جمل أورق أي بياضه إلى سواد كما تقدم ها هي تطلع عليكم من الثنية، فانطلقوا لينظروا فوجدوا الأمر كما قال صلى الله عليه وسلم فقالوا صدق الوليد فيما قال أي في قوله إنه ساحر، وأنزل الله تعالى وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء: الآية 60] وهذا يدل على أن المراد رؤيا الإسراء وأنها رؤيا العين، وأنه يقال في مصدرها رؤيا بالألف كما يقال رؤية بالتاء خلافا لمن أنكر ذلك، إذ(1/536)
لو كان رؤيا الإسراء مناما لما أنكر عليه في ذلك: أي وقيل نزلت وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولد الحكم بن أبي العاص أبي مروان وهم بنو أمية على منبره كأنهم القردة، وقد ورد «رأيت بني مروان يتعاورون منبري» وفي لفظ «ينزون على منبري نزو القردة» زاد في رواية «فما استجمع صلى الله عليه وسلم ضاحكا حتى مات» وأنزل الله تعالى في ذلك وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء: الآية 60] وفي رواية: فنزل إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) [الكوثر:
الآية 1] وفي رواية: فنزل إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) [القدر: 1- 3] قال بعضهم: أي خير من ألف شهر يملكها بعدك بنو أمية، فإن مدة ملك بني أمية كانت اثنتين وثمانين سنة، وهي ألف أشهر وكان جميع من ولي الخلافة منهم أربعة عشر رجلا، أولهم معاوية وآخرهم مروان بن محمد.
وقد قيل لبعضهم: ما سبب زوال ملك بني أمية مع كثرة العدد والعدد والأموال والموالي؟ فقال: أبعدوا أصدقاءهم ثقة بهم، وقربوا أعداءهم جهلا منهم، فصار الصديق بأبعاد عدوا، ولم يصر العدوّ صديقا بالتقريب له، وحديث «رأيت بني مروان» إلى آخره. قال الترمذي: هو حديث غريب، وقال غيره منكر، قال صلى الله عليه وسلم ورأيت بني العباس يتعاورون منبري فسرني ذلك: وقيل إن هذه الآية أي آية. وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء: الآية 60] إنما نزلت في رؤيا الحديبية، حيث رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه وأصحابه يدخلون المسجد محلقين رؤوسهم ومقصرين، ولم يوجد ذلك بل صدهم المشركون، وقال بعض الصحابة له صلى الله عليه وسلم: ألم تقل إنك تدخل مكة آمنا؟ قال: بلى، أفقلت لكم من عامي هذا؟ قالوا: لا، قال فهو كما قال جبريل عليه الصلاة والسلام كما سيأتي ذلك في قصة الحديبية.
وقيل: إنما نزلت هذه الآية في رؤيا وقعة بدر، حيث أراه جبريل مصارع القوم ببدر، فأرى النبي صلى الله عليه وسلم الناس مصارعهم، فتسامعت بذلك قريش فسخروا منه، أي ولا مانع من تعدد نزول هذه الآية لهذه الأمور، فقد يتعدد نزول الآية لتعدد أسبابها.
قال ابن حجر الهيتمي: إن اتحاد النزول لا ينافي تعدد أسبابه: أي وذلك إذا تقدمت الأسباب، ويروى أنه عين لهم اليوم الذي تقدم فيه العير: أي قالوا له: متى تجيء؟ قال لهم: يأتوكم يوم كذا وكذا، يقدمهم جمل أورق عليه مسح آدم وغرارتان، فلما كان ذلك اليوم أشرفت قريش ينتظرون ذلك وقد ولي النهار ولم تجىء حتى كادت الشمس أن تغرب أي دنت للغروب، فدعا الله تعالى فحبس الشمس عن الغروب حتى قدم العير: أي كما وصف صلى الله عليه وسلم.
أقول: يجوز أن يكون هذا بالنسبة لبعض العيرات التي مرّ عليها فلا يخالف ما تقدم أنه صلى الله عليه وسلم قال في بعض العيرات إنها الآن تصوب من الثنية، وإلى حبس الشمس(1/537)
عن المغيب أشار الإمام السبكي في تائيته بقوله:
وشمس الضحى طاعتك وقت مغيبها ... فما غربت بل وافقتك بوقفة
وجاء في بعض الروايات: أنها حبست له صلى الله عليه وسلم عن الطلوع، ففي رواية: أن بعضهم قال له أخبرنا عن عيرنا «قال مررت بها بالتنعيم، قالوا: فما عدتها وأحمالها ومن فيها؟ فقال: كنت في شغل عن ذلك، ثم قيل له ذلك فأخبر بعدتها وعدة أحمالها وعدة من فيها، وقال: تطلع عليكم عند طلوع الشمس، فحبس الله تعالى الشمس عن الطلوع حتى قدمت تلك العير» .
فلما خرجوا لينظروا فإذا قائل يقول: هذه الشمس قد طلعت، وقال آخر:
وهذه العير قد أقبلت فيها فلان وفلان كما أخبر محمد صلى الله عليه وسلم» . وعلى تقدير صحة هذه الروايات يجاب عنها بمثل ما تقدم والله أعلم، وحبس الشمس وقوفها عن السير: أي عن الحركة بالكلية، وقيل بطء حركتها، وقيل ردها إلى ورائها، قالوا: ولم تحبس له صلى الله عليه وسلم إلا ذلك اليوم وما قيل إنها حبست له صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن الغروب أيضا حتى صلى العصر معارض بأنه صلى الله عليه وسلم صلى العصر بعد غروب الشمس وقال «شغلونا عن الصلاة الوسطى» كما سيأتي، ثم رأيت في كلام بعضهم ما يؤخذ منه الجواب، وهو أن وقعة الخندق كانت أياما فحبست الشمس في بعض تلك الأيام إلى الاحمرار والاصفرار وصلى حينئذ، وفي بعضها لم تحبس بلى صلى بعد الغروب قال ذلك البعض: ويؤيده أن راوي التأخير إلى الغروب غير راوي التأخير إلى الحمرة أو الصفرة.
وجاء في رواية ضعيفة أن الشمس حبست عن الغروب لداود عليه الصلاة والسلام. وذكر البغوي أنها حبست كذلك لسليمان عليه الصلاة والسلام.
أي فعن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه «أن الله أمر الملائكة الموكلين بالشمس حتى ردوها على سليمان حتى صلى العصر في وقتها» وهذا ردّ لها لا حبس لها عن غروبها الذي الكلام فيه. والذي في كلام بعضهم إنما ضرب سيدنا سليمان سوق خيله وأعناقها حيث ألهاه عرضها عليه عن صلاة العصر حتى كادت الشمس أن تغرب، ولم يتصدق بها مبادرة لتعظيم أمر الله تعالى بالصلاة في وقتها لأن التصدق يحتاج إلى صرف زمن في دفعها وأخذها. وحبست كذلك ليوشع ابن أخت موسى عليه الصلاة والسلام وهو ابن نون بن يوسف الصديق عليه الصلاة والسلام، أي وهو الذي قام بالأمر بعد موسى، لأن موسى عليه الصلاة والسلام لما وعده الله تعالى أن يورثه وقومه بني إسرائيل الأرض المقدسة التي هي أرض الشام، وكان سكنها الكنعانيون الجبارون، وأمر بمقاتلة أولئك الجبارين وهم العماليق، سار بمن معه وهم ستمائة ألف مقاتل حتى نزل قريبا من مدينتهم وهي أريحا، فبعث إليهم اثني عشر(1/538)
رجلا من كل سبط واحدا ليأتوه بخبر القوم، فدخلوا المدينة فرأوا أمرا هائلا من عظم أجسادهم. فقد ذكر بعضهم أنه رأى في فجاج: أي نقرة عين رجل منهم ضبعة رابضة، أي جالسة هي وأولادها حولها، والفجاج في الأصل الطريق الواسع، واستظل سبعون رجلا من قوم موسى في قحف رجل منهم، أي في عظم أمّ رأسه، وفي العرائس: وكان لا يحمل عنقود عنبهم إلا خمسة أنفس منهم، ويدخل في قشرة الرمانة إذا نزع حبها خمسة أنفس، أو أربعة، وإن رجلا من العماليق أخذ الاثني عشر ووضعهم في كمه مع فاكهة كانت فيه، وجاء بهم إلى ملكهم فسألهم فقالوا نحن عيون موسى فقال ارجعوا وأخبروه. وفي العرائس أنه عوج بن عنق إحدى بنات آدم عليه السلام من صلبه، ويقال إنها أول بغيّ في الأرض.
وفي العرائس: أنه لما لقيهم كان على رأسه حزمة حطب، وأخذ الاثني عشر في حجره وانطلق بهم لامرأته، وقال انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون قتالنا، وطرحهم بين يديها، وقال لها: ألا أطحنهم برجلي، فقالت امرأته: لا ولكن خلّ عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا ففعل ذلك، فلما رجعوا أخبروا موسى عليه الصلاة والسلام، فقال: اكتموا خوفا من بني إسرائيل أن يفشلوا ويرتدوا عن موسى فلم يفعلوا، وأخبر كل واحد سبطه بشدة ما رآه من أمرهم الهائل، ففشلوا وجبنوا عن القتال إلا رجلان لم يخبرا سبطيهما وهما يوشع بن نون من سبط يوسف، وكالب بن يوقنا من سبط بنيامين، وقالوا لموسى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) [المائدة: الآية 24] فدعا عليهم وقال رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي [المائدة: الآية 25] أي: فإنه لم يبق معه موافق يثق به غير أخيه هارون وكالب ويوشع، وهما المذكوران بقوله تعالى قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ [المائدة: الآية 23] لأن الله منجز وعده وإنا قد خبرناهم فوجدنا أجسامهم عظيمة وقلوبهم ضعيفة فلا تخشوهم وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة: الآية 23] وحينئذ يكون مراد موسى بقوله وأخي من واخاه ووافقه لا خصوص هارون، ثم دعا بقوله فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [المائدة: الآية 25] أي باعد بيننا وبينهم فضرب عليه التيه فتاهوا، أي تحيروا في ستة فراسخ من الأرض، يمشون النهار كله ثم يمسون حيث أصبحوا ويصبحون حيث أمسوا، وأنزل الله تعالى عليهم المنّ والسلوى، لأنهم شغلوا عن المعاش، وأبقيت عليهم ثيابهم لا تخلق ولا تتسخ، وتطول مع الصغير إذا طال، وظلل عليهم الغمام من الشمس، ولما رأى موسى عليه الصلاة والسلام ما بهم من التعب ندم على دعائه عليهم.
وفي حياة الحيوان: لما عبد بنو إسرائيل العجل أربعين يوما عوقبوا بالتيه أربعين سنة لكل يوم سنة، فأوحى الله تعالى له فَلا تَأْسَ أي لا تحزن عَلَى الْقَوْمِ(1/539)
الْفاسِقِينَ [المائدة: الآية 26] أي الذين فسقوا: أي خرجوا عن أمرك.
قال في أنس الجليل: ومن عجب الاتفاق أن أريحا هذه كانت في زمن بني إسرائيل منزل الجبارين، وفي زمن الإسلام منزل حكام الشرطة فإنها الآن قرية من قرى بيت المقدس. ثم مات موسى وهارون بالتيه، مات هارون أولا ثم موسى بعد سنتين. وفي ذلك رد على من قال إن قبر هارون أخي موسى بأحدكما سيأتي. وفيه رد أيضا على من يقول موسى مات قبل هارون وأنه دفنه، وقيل إن هارون رأى سريرا في بعض الكهوف فقام عليه فمات، وإن بني إسرائيل قالوا قتل موسى هارون حسدا له على محبة بني إسرائيل له، فقال لهم موسى: ويحكم كان أخي ووزيري أفتراني أقتله؟ فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا فنزل السرير الذي قام عليه فمات حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدقوه. وعلى الأول أن موسى انطلق ببني اسرائيل إلى قبره، ودعا الله أن يحييه فأحياه الله تعالى، وأخبرهم أنه مات ولم يقتله موسى، وعند ذلك قام بالأمر يوشع بن نون المذكور؛ أي فإن موسى لما احتضر أخبرهم بأن يوشع بعده نبي، وإن الله أمره بقتال الجبارين، فسار بهم يوشع وقاتل الجبارين وكان يوم الجمعة، ولما كاد أن يفتحها كادت الشمس أن تغرب فقال للشمس: «أيتها الشمس إنك مأمورة وأنا مأمور، بحرمتي عليك إلا ركدت، أي مكثت ساعة من النهار» .
وفي رواية «قال اللهم احبسها عليّ فحبسها الله تعالى حتى افتتح المدينة» أي قال ذلك خوفا من دخول السبت المحرم عليهم فيه المقاتلة، وقد عبر الإمام السبكي عن حبسها ليوشع بردها في قوله:
وردت عليك الشمس بعد مغيبها ... كما أنها قدما ليوشع ردّت
ولولا قوله بعد مغيبها لما أشكل، وأمكن أن يراد بالرد وقوفها وعدم غروبها، ومن ثم ذكر ابن كثير في تاريخه، أن في حديث رواه الإمام أحمد وهو على شرط البخاري «إن الشمس لم تحبس لبشر إلا ليوشع عليه الصلاة والسلام، ليالي سار إلى بيت المقدس» وفيه دلالة على أن الذي فتح بيت المقدس هو يوشع بن نون لا موسى، وأن حبس الشمس كان في فتح بيت المقدس، لا في فتح أريحا هذا كلامه وهو خلاف السياق.
وفي العرائس أن موسى عليه الصلاة والسلام لم يمت في التيه، بل سار ببني إسرائيل إلى أريحا وعلى مقدمته يوشع، فدخل يوشع وقتل الجبارين ثم دخلها موسى عليه الصلاة والسلام ببني إسرائيل، فأقام فيها ما شاء الله ثم قبض، ولا يعلم موضع قبره من الخلق أحد، قال: وهذا أولى الأقاويل بالصدق وأقربها إلى الحق. وذكر بعد ذلك أن موسى لما حضرته الوفاة قال يا رب ادنني من الأرض المقدسة برمية(1/540)
حجر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر» .
قال ابن كثير: وقوله صلى الله عليه وسلم لم تحبس لبشر، يدل على أن هذا من خصائص يوشع عليه الصلاة والسلام، فيدل على ضعف الحديث الذي رويناه أن الشمس رجعت أي بعد مغيبها أي في خيبر كما سنذكره هنا حتى صلى عليّ بن أبي طالب العصر بعد ما فاتته بسبب نوم النبي صلى الله عليه وسلم على ركبته، وهو حديث منكر، ليس في شيء من الصحاح ولا الحسان وهو مما تتوفر الدواعي على نقله وتفردت بنقله امرأة من أهل البيت مجهولة لا يعرف حالها هذا كلامه، وسيأتي قريبا ما فيه. على أن قوله صلى الله عليه وسلم لم تحبس لبشر أي غيره صلى الله عليه وسلم، وقد علمت أن الحبس لها يكون منعا لها عن مغيبها والرد لها يكون بعد مغيبها فليتأمل.
وفي كلام سبط ابن الجوزي: إن قيل حبسها ورجوعها مشكل لأنها لو تخلفت أو ردت لاختلت الأفلاك ولفسد النظام قلنا حبسها وردها من باب المعجزات ولا مجال للقياس في خرق العادات.
وذكر أنه وقع لبعض الوعاظ ببغداد إذ قعد يعظ بعد العصر ثم أخذ في ذكر فضائل آل البيت فجاءت سحابة غطت الشمس فظن وظن الناس الحاضرون عنده أن الشمس غابت، فأرادوا الانصراف فأشار إليهم أن لا يتحركوا، ثم أدار وجهه إلى ناحية الغرب وقال:
لا تغربي يا شمس حتى ينتهي ... مدحي لآل المصطفى ولنجله
إن كان للمولى وقوفك فليكن ... هذا الوقوف لولده ولنسله
فطلعت الشمس فلا يحصى ما رمي عليه من الحليّ والثياب هذا كلامه.
ولما افتتحوا المدينة التي هي أريحا أصابوا بها أموالا عظيمة، وكانوا: أي الأمم السابقة إذا أصابوا الغنائم قربوها، فتجيء النار تأكلها أي إذا لم يكن فيها غلول كما تقدم، فمجيء النار وأكلها دليل على قبولها، ولم تحل إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم كما سيأتي، فلما أصابوا تلك الغنائم قربوها فلم تجئ إليها النار، فقالوا له: يا نبي الله ما لها لا تأكل قرباننا؟ قال: فيكم الغلول، فدعا رأس كل سبط وصافحه، فلصق كف واحد منهم في كف يوشع عليه السلام، فقال: الغلول في سبطك، فقال: كيف أعلم ذلك؟ قال: تصافح واحدا بعد واحد، فلصقت كفه بكف واحد منهم، فسئل فقال نعم: رأيت رأس بقرة من ذهب، عيناها من ياقوت وأسنانها من لؤلؤ فأعجبتني فغللتها فجاء بها ووضعها في الغنيمة فجاءت النار فأكلتها.
وذكر البغوي أن الشمس حبست عن الطلوع لموسى عليه الصلاة والسلام كما(1/541)
حبست كذلك لنبينا صلى الله عليه وسلم كما تقدم، وكذا القمر حبس لموسى عليه الصلاة والسلام عن الطلوع له. فعن عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنه قال: إن الله تعالى حين أمر موسى عليه الصلاة والسلام بالمسير ببني إسرائيل إلى بيت المقدس، أمره أن يحمل معه عظام يوسف عليه الصلاة والسلام، وأن لا يخلفها بأرض مصر وأن يسير بها حتى يضعها بالأرض المقدسة، أي وفاء بما أوصى به يوسف عليه الصلاة والسلام.
فقد ذكر أن يوسف عليه الصلاة والسلام لما أدركته الوفاة، أوصى أن يحمل إلى مقابر آبائه، فمنع أهل مصر أولياءه من ذلك، فسأل موسى عليه الصلاة والسلام عمن يعرف موضع قبر يوسف، فما وجد أحدا يعرفه إلا عجوزا من بني إسرائيل، فقالت له: يا نبي الله أنا أعرف مكانه وأدلك عليه إن أنت أخرجتني معك ولم تخلفني بأرض مصر، قال أفعل، وفي لفظ: إنها قالت أكون معك في الجنة فكأنه ثقل عليه ذلك، فقيل له أعطها طلبتها فأعطاها.
وقد كان موسى عليه الصلاة والسلام وعد بني إسرائيل أن يسير بهم إذا طلع القمر، فدعا ربه أن يؤخر طلوعه حتى يفرغ من أمر يوسف عليه الصلاة والسلام، ففعل فخرجت به العجوز حتى أرته أيلة في ناحية من النيل، وفي لفظ في مستنقعة ماء أي وتلك المستنقعة في ناحية من النيل، فقالت لهم أنضبوا عنها الماء: أي ارفعوه عنها ففعلوا، قالت: احفروا فحفروا وأخرجوه. وفي لفظ: أنها انتهت به إلى عمود على شاطئ النيل، أي في ناحية منه فلا يخالفه ما سبق في أصله سكة من حديد فيها سلسلة؛ أي ويجوز أن يكون حفرهم الواقع في تلك الرواية كان على إظهار تلك السكة فلا مخالفة، ووجدوه في صندوق من حديد وسط النيل في الماء، فاستخرجه موسى عليه الصلاة والسلام، وهو في صندوق من مرمر أي داخل ذلك الصندوق الذي من الحديد فاحتمله.
وفي أنس الجليل: أن موسى عليه الصلاة والسلام جاءه شيخ له ثلاثمائة سنة، فقال له يا نبي الله ما يعرف قبر يوسف إلا والدتي، فقال له موسى: قم معي إلى والدتك فقام الرجل ودخل منزله وأتى بقفة فيها والدته فقال لها موسى: ألك علم بقبر يوسف؟ فقالت: نعم ولا أدلك على قبره إلا إذا دعوت الله تعالى أن يرد عليّ شبابي إلى سبع عشرة سنة ويزيد في عمري مثل ما مضى فدعا موسى لها، وقال لها كم عمرك؟ قالت له تسعمائة سنة فعاشت ألفا وثمانمائة سنة، فأرته قبر يوسف وكان في وسط نيل مصر ليمر النيل عليه فيصل إلى جميع مصر فيكونون شركاء في بركته.
وأما عود الشمس بعد غروبها، فقد وقع له صلى الله عليه وسلم في خيبر، فعن أسماء بنت عميس أنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوحى إليه ورأسه في حجر عليّ، ولم يسر عن النبي صلى الله عليه وسلم، حتى غربت الشمس وعليّ لم يصل العصر أي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:(1/542)
أصليت العصر؟ فقال لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك، فاردد عليه الشمس. قالت أسماء فرأيتها طلعت بعد ما غربت» .
قال بعضهم: لا ينبغي لمن سبيله العلم أن يتخلف عن حفظ هذا الحديث، لأنه من أجلّ أعلام النبوّة وهو حديث متصل. وقد ذكر في الإمتاع: أنه جاء عن أسماء من خمسة طرق وذكرها، وبه يرد ما تقدم عن ابن كثير بأنه تفردت بنقله امرأة من أهل البيت مجهولة لا يعرف حالها، وبه يرد على ابن الجوزي، حيث قال فيه إنه حديث موضوع بلا شك لكن في الإمتاع ذكر في خامس الطرق «أن عليا اشتغل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قسمة الغنائم يوم خيبر حتى غابت الشمس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يا عليّ صليت العصر؟ قال لا يا رسول الله، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس في المسجد فتكلم بكلمتين أو ثلاثة كأنها من كلام الحبش، فارتجعت الشمس كهيئتها في العصر فقام علي فتوضأ وصلى العصر ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما تكلم به قبل ذلك، فرجعت إلى مغربها فسمعت لها صريرا كالمنشار في الخشب» وذلك مخالف لسائر الطرق، إلا أن يدعي أن هذه الطريق فيها حذف، والأصل اشتغل مع النبي صلى الله عليه وسلم في قسمة غنائم خيبر، ثم وضع رأسه في حجر علي ونام فما استيقظ حتى غابت الشمس فلا مخالفة.
قال «وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قبل وصوله إلى بيت المقدس ساروا حتى بلغوا أرضا ذات نخل؛ فقال له جبريل: انزل فصلّ هنا ففعل، ثم ركب فقال: أتدري أين صليت؟
قال لا، قال: صليت بطيبة وإليها المهاجرة» وسيأتي ما فيه في الكلام على الهجرة «فانطلق البراق يهوي يضع حافره حيث أدرك طرفه، حتى إذا بلغ أرضا فقال له جبريل انزل فصل ههنا ففعل ثم ركب، فقال له جبريل أتدري أين صليت؟ قال لا، قال: صليت بمدين» أي وهي قرية تلقاء غزة عند شجرة موسى، سميت باسم مدين ابن إبراهيم لما نزلها «ثم ركب فانطلق البراق يهوي به، ثم قال انزل فصل، ففعل ثم ركب، فقال له: أتدري أين صليت؟ قال لا، قال: صليت ببيت لحم» أي وهي قرية تلقاء بيت المقدس «حيث ولد عيسى عليه الصلاة والسلام» أي وفي الهدى وقيل إنه نزل ببيت لحم وصلى فيه ولا يصح عنه ذلك البتة «وبينا هو يسير على البراق إذ رأى عفريتا من الجن يطلبه بشعلة من نار كلما التفت رآه، فقال له جبريل: ألا أعلمك كلمات تقولهن إذا قلتهن طفئت شعلته وخرّ لفيه؟ فقال صلى الله عليه وسلم بلى، فقال جبريل: قل أعوذ بوجه الله الكريم وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض، ومن شر ما يخرج منها، ومن فتن الليل والنهار، ومن طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن، أي فقال ذلك فانكب لفيه وطفئت شعلته. ورأى حال المجاهدين في(1/543)
سبيل الله» أي كشف له عن حالهم في دار الجزاء بضرب مثاله، فرأى قوما يزرعون في يوم أي في وقت «ويحصدونه في يوم» أي في ذلك الوقت كما يرشد إليه الحال «كلما حصدوا عاد كما كان، فقال: يا جبريل ما هذا؟ قال: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف، وما أنفقوا من خير فهو يخلفه» هذا الثاني هو المناسب لحالهم دون الأول، فالأولى الاقتصار عليه إلا أن يدعي أنه صلى الله عليه وسلم شاهد الحصاد والعود العدد المذكور الذي هو سبعمائة مرة على أن المضاعفة المذكورة لا تختص بالمجاهدين. فقد جاء «كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا أن يقال المراد تكرر الجزاء العدد المذكور للمجاهدين أمر مؤكد لا يكاد يتخلف، وفي غيرهم بخلافه.
«ووجد صلى الله عليه وسلم ريح ما شطة بنت فرعون، ووجد داعي اليهود وداعي النصارى، فأما الأول، فقد رأى عن يمينه داعيا يقول: يا محمد انظرني أسألك، فلم يجبه، فقال: ما هذا يا جبريل، فقال: داعي اليهود، أما إنك لو أجبته لتهودت أمتك» أي لتمسكوا بالتوراة، والمراد غالب الأمة «وأما الثاني فقد رأى عن يساره داعيا يقول: يا محمد انظرني أسألك فلم يجبه، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال هذا داعي النصارى، أما إنك لو أجبته لتنصرت أمتك» أي لتمسكت بالإنجيل، وحكمة كون داعي اليهود على اليمين وداعي النصارى على اليسار لا تخفى.
«ورأى صلى الله عليه وسلم حال الدنيا أي كشف له عن حالتها بضرب مثال «فرأى امرأة حاسرة عن ذراعيها» كأن ذلك شأن المقتص لغيره «وعليها من كل زينة خلقها الله تعالى» أي ومعلوم أن النوع الواحد من الزينة يجذب القلوب إليه، فكيف بوجود سائر أنواع الزينة «فقالت يا محمد انظرني أسألك، فلم يلتفت إليها، فقال: من هذه يا جبريل؟
قال تلك الدنيا أما إنك لو أجبتها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة. ورأى عجوزا على جانب الطريق، فقالت: يا محمد انظرني أسألك، فلم يلتفت إليها، فقال: من هذه يا جبريل؟ فقال: إنه لم يبق من عمر الدنيا إلا ما بقي من عمر تلك العجوز «أي فزينتها لا ينبغي الالتفات إليها لأنها على عجوز شوهاء لم يبق من عمرها إلا القليل» ولينظر لم لم يقل تلك الدنيا ولم يبق من عمرها إلى آخره؟.
وفي كلام بعضهم: الدنيا قد يقال لها شابة وعجوز، بمعنى يتعلق بذاتها، وبمعنى يتعلق بغيرها، الأول وهو حقيقة أنها من أول وجود هذا النوع الإنساني إلى أيام إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه سبعة بعدها تسمى الدنيا شابة وفيما بعد ذلك إلى بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم كهلة، ومن بعد ذلك إلى يوم القيامة تسمى عجوزا.
واعترض بأن الأئمة صرحوا بأن الشباب ومقابله إنما يكون في الحيوان.
ويجاب بأن الغرض من ذلك التمثيل.(1/544)
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يقبل الأمانة مع عجزه عن حفظها بضرب مثال «فأتى على رجل قد جمع حزمة حطب عظيمة لا يستطيع حملها وهو يزيد عليها، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الرجل من أمتك تكون عنده أمانات الناس لا يقدر على أدائها ويريد أن يتحمل عليها» .
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يترك الصلاة المفروضة في دار الجزاء «فأتى على قوم ترضخ رؤوسهم، كلما رضخت عادت كما كانت، ولا يفتر عنهم من ذلك شيء فقال: يا جبريل ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة» أي المفروضة عليهم.
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يترك الزكاة الواجبة عليه «ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع وعلى أدبارهم رقاع يسرحون كما تسرح الإبل والغنم ويأكلون الضريع» وهو اليابس من الشوك «والزقوم» ثم شجر مر له زفرة، قيل إنه لا يعرف بشجر الدنيا وإنما هو بشجرة من النار، وهي المذكورة في قوله تعالى إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) [الصّافات: الآية 64] أي منبتها في أصل الجحيم، وتقم الكلام عليها عند الكلام على المستهزئين ويأكلون رضف جهنم أي حجاراتها المحماة، لأن الرضف بالضاد المعجمة الحجارة المحماة التي يكون بها «فقال من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم المفروضة عليهم» .
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال الزناة، بضرب مثال «ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج في قدور ولحم نيء أيضا في قدور خبيث فجعلوا يأكلون من ذلك النيء الخبيث ويدعون النضيج الطيب، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الرجل من أمتك تكون عنده المرأة الحلال الطيب، فيأتي امرأة خبيثة فيبيت عندها حتى يصبح، والمرأة تقوم من عند زوجها حلالا طيبا فتأتي رجلا خبيثا فتبيت عنده حتى تصبح» .
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يقطع الطريق بضرب مثال «ثم أتى على خشبة لا يمر بها ثوب ولا شيء إلا خرقته، فقال: ما هذه يا جبريل؟ قال: هذا مثل أقوام من أمتك يقاعدون على الطريق فيقطعونه وتلا وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ [الأعراف: الآية 86] .
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يأكل الربا أي حالته التي يكون عليها في دار الجزاء «فرأى رجلا يسبح في نهر من دم يلقم الحجارة، فقال له: من هذا؟ قال:
آكل الربا» وقد شبهه الله تعالى في القرآن بقوله الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة: الآية 275] أي إذا بعث الناس يوم القيامة خرجوا مسرعين من قبورهم، إلا آكلة الربا فإنهم لا يقومون من قبورهم إلا مثل قيام الذي يصرعه الشيطان، فكلما قاموا سقطوا على وجوههم وجنوبهم وظهورهم، كما(1/545)
أن المصروع حاله ذلك، أي فهذه حالته في الذهاب إلى المحشر زيادة على حالته المتقدمة التي تكون في دار الجزاء.
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يعظ ولا يتعظ «ثم أتي على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد كلما قرضت عادت لا يفتر عنهم من ذلك شيء، فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: هؤلاء خطباء الفتنة، خطباء أمتك، يقولون ما لا يفعلون» .
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال المغتابين للناس «فمر على قوم لهم أظفار من نجاس يخدشون وجوههم وصدورهم، فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» .
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يتكلم بالفحش بضرب مثال «فأتى على حجر صغير يخرج منه ثور عظيم، فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث يخرج فلا يستطيع، فقال: ما هذا الرجل يا جبريل؟ فقال: هذا الرجل من أمتك يتكلم الكلمة العظيمة ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردها» .
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من أحوال الجنة «فأتى على واد فوجد ريحا طيبة باردة كريح المسك وسمع صوتا، فقال: يا جبريل ما هذا؟ قال: هذا صوت الجنة تقول يا رب ائتني بما وعدتني» أي لأنه يجوز أن يكون محل الجنة من السماء السابعة مقابلا لذلك الوادي.
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من أحوال النار «فأتى على واد فسمع صوتا منكرا ووجد ريحا خبيثة، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا صوت جهنم، تقول يا رب ائتني بما وعدتني» أي وليست جهنم بذلك الوادي كما سيأتي أن الوادي التي هي به هو الذي ببيت المقدس، ولعل هذا الوادي مقابل لذلك الوادي، وينبغي أن لا يكون هذا هو المراد بما في الخصائص الصغرى للسيوطي.
وخص صلى الله عليه وسلم باطلاعه على الجنة والنار، بل المراد بذلك رؤية ذلك في المعراج، وعند وصوله صلى الله عليه وسلم إلى الوادي الذي ببيت المقدس بالنسبة للنار. «ورأى صلى الله عليه وسلم الدجال شبيها بعبد العزى بن قطن» أي وهو من هلك في الجاهلية أي قبل البعثة.
«ومرّ صلى الله عليه وسلم على شخص منتحيا على الطريق، يقول: هلم يا محمد، قال:
جبريل: سر يا محمد، قال: من هذا؟ قال: هذا عدو الله إبليس أراد أن تميل إليه» اهـ.
وفي رواية «لما وصلت بيت المقدس وصليت فيه ركعتين أي إماما بالأنبياء والملائكة أخذني العطش أشدّ ما أخذني، فأتيت بإناءين في إحداهما لبن وفي(1/546)
الأخرى عسل، فهداني الله تعالى، فأخذت اللبن فشربت، وبين يديّ شيخ متكئ على منبر له، فقال: أي مخاطبا لجبريل: أخذ صاحبك الفطرة، إنه لمهديّ، فلما خرجت منه جاءني جبريل عليه الصلاة والسلام بإناء من خمر وإناء من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة» أي الاستقامة التي سببها الإسلام، ومنه «كل مولود يولد على الفطرة» أي على الإسلام.
وفي رواية أخرى «فأتي بآنية ثلاثة مغطاة أفواهها، فأتي بإناء منها فيه ماء فشرب منه قليلا. وفي رواية: أنه لم يشرب منه شيئا، وأنه قيل له لو شربت الماء» أي جميعه أو بعضه «لغرقت أمتك» أي وفي رواية: «أنه سمع قائلا يقول: إن أخذ الماء غرق وغرقت أمته، ثم رفع إليه إناء آخر فيه لبن فشرب منه حتى روي» .
أي وفي رواية «سمع قائلا يقول إن أخذ اللبن هدي وهديت أمته، ثم رفع إليه إناء فيه خمر، فقيل له اشرب، فقال: لا أريده فقد رويت، فقال له جبريل: إنها ستحرم على أمتك» أي بعد إباحتها لهم.
وفي رواية أخرى «أنه قيل له لو شربت الخمر لغويت أمتك ولم تتبعك» أي لا يكون على طريقتك منهم إلا قليل. أي وفي رواية «أنه سمع قائلا يقول إن أخذ الخمر غوى وغويت أمته» .
أقول: وهذه الرواية محتملة لأن تكون وهو في بيت المقدس، ولأن تكون وهو خارج عنه، ومن هذا كله تعلم أنه تكرر عليه عرض اللبن والخمر داخل بيت المقدس وخارجه، ولا مانع من تكرر عرض آنيتي الخمر واللبن قبل خروجه من بيت المقدس وبعد خروجه منه قبل العروج.
ولا تعارض بين الأخبار بأن إحداهما كان فيه عسل مع اللبن، وبين الإخبار بأن إحداهما كان فيه خمر مع اللبن. ولا بين الإخبار بإناءين، والإخبار بأواني ثلاثة، لأنه يجوز أن يكون بعض الرواة اقتصر على إناءين. ولا بين كون الإناء الثالث كان فيه عسل أو ماء، لأنه يجوز أن يكون إحدى الأواني الثلاثة كان فيها عسل ثم جعل فيها الماء بدل العسل، أو مزج العسل به وغلب الماء على العسل، أو تكون الأواني أربعة وبعض الرواة اقتصر.
وقد قال ابن كثير: مجموع الأواني أربعة، فيها أربعة أشياء من الأنهار الأربعة التي تخرج من أصل سدرة المنتهى، ولكن لم يسقط اللبن. وفي رواية بخلاف غيره، فإنه تارة ذكر معه الخمر فقط، وتارة ذكر معه العسل فقط، وتارة ذكر معه الماء والخمر.
وعلى الاحتمال الأول يسأل عن سر عدم ذكر جبريل عليه الصلاة والسلام(1/547)
حكمة عدم الشرب من العسل والله أعلم.
قال «ومرّ على موسى عليه الصلاة والسلام وهو يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر وهو يقول برفع صوته: أكرمته، فضلته» اهـ.
وفي رواية «سمعت صوتا وتذمرا» هو بالذال المعجمة: الحدة «فسلم عليه فرد عليه السلام، فقال: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا موسى بن عمران، قال: ومن يعاتب؟ قال: يعاتب ربه فيك، قال: أو يرفع صوته على ربه» والعتاب مخاطبة فيها إدلال، وهذا يدل على أن الصوت الذي سمعه كان مشتملا على عتاب وتذمر مع رفعه. وفي رواية «على من كان تذمره» أي حدته «قال على ربه، قلت: أعلى ربه؟
قال جبريل: إن الله عز وجل قد عرف له حدته» وهذا كما علمت كان كالذي بعده قبل وصوله إلى مسجد بيت المقدس والله أعلم.
وجاء «وليلة أسري بي مر بي جبريل على قبر أبي إبراهيم، فقال: انزل فصل ركعتين قال: ومرّ على شجرة تحتها شيخ وعياله، فقال: ومن هذا يا جبريل؟ فقال:
هذا أبوك إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فسلم عليه فرد عليه السلام، فقال: من هذا الذي معك يا جبريل؟ فقال: هذا ابنك أحمد، قال: مرحبا بالنبي العربي الأمي، ودعا له بالبركة» أي فموسى عرفه فلم يسأل عنه، وإبراهيم لم يعرفه فسأل عنه، لكن في السيرة الهشامية «أن موسى سأل عنه أيضا، فقال: من هذا يا جبريل. فقال: هذا أحمد، فقال: مرحبا بالنبي العربي الذي نصح أمته، ودعا له بالبركة. وقال: اسأل لأمتك اليسير» والظاهر أن قبر إبراهيم صلى الله عليه وسلم كانت تحت تلك الشجرة أو قريبا منها، فلا مخالفة بين الروايتين.
«وسار صلى الله عليه وسلم حتى أتى الوادي الذي في بيت المقدس، فإذا جهنم تنكشف عن مثل الزرابيّ» أي وهي النمارق. أي الوسائد «فقيل: يا رسول الله كيف وجدتها؟
قال: مثل الحممة» أي الفحمة اهـ.
قال صلى الله عليه وسلم «ثم عرج بنا إلى السماء» أي من الصخرة كما تقدم «أي على المعراج» بكسر الميم وفتحها «الذي تعرج أرواح بني آدم فيه» وهو كما في بعض الروايات «سلم له مرقاة من فضة ومرقاة من ذهب» أي عشر مراقي. وهو المراد بقول بعضهم: «كانت المعاريج ليلة الإسراء عشرة: سبع إلى السموات، والثامن إلى سدرة المنتهى، والتاسع إلى المستوى، والعاشر إلى العرش والرفرف» أي فأطلق على كل مرقاة معراجا «وهذا المعراج لم ير الخلائق أحسن منه. أما رأيت الميت حين يشق بصره طامحا إلى السماء» أي بعد خروج روحه «فإن ذلك عجبه بالمعراج الذي نصب لروحه لتعرج عليه، وذلك شامل للمؤمن والكافر، إلا أن المؤمن يفتح لروحه إلى السماء دون الكافر فتردّ بعد عروجها تحسيرا وندامة وتبكيتا له. وذلك المعراج أتي به(1/548)
من جنة الفردوس وإنه منضد باللؤلؤ» أي جعل فيه اللؤلؤ بعضه على بعض «عن يمينه ملائكة وعن يساره ملائكة، فصعد هو وجبريل عليهما الصلاة والسلام» قال الحافظ ابن كثير: ولم يكن صعوده على البراق كما توهمه بعض الناس، أي ومنهم صاحب الهمزية كما يأتي عنه «حتى انتهى إلى باب من أبواب سماء الدنيا، أي ويقال له باب الحفظة عليه ملك يقال له إسماعيل، أي وهذا يسكن الهواء، لم يصعد إلى السماء قط، ولم يهبط إلى الأرض قط إلا مع ملك الموت لما نزل لقبض روحه الشريفة وتحت يده اثني عشر ألف ملك» .
أي وفي رواية «أن تحت يده سبعين ألف ملك تحت يد كل ملك سبعون ألف ملك، فاستفتح جبريل، فقيل من أنت» وفي رواية «فضرب بابا من أبوابها فناداه أهل سماء الدنيا أي حفظتها من هذا؟ قال جبريل، فقيل: ومن معك؟ أي فإنهم رأوهما ولم يعرفوهما، ولعل جبريل لم يكن على الصورة التي يعرفونه بها «قال محمد» وفي رواية «قال معك أحد» يجوز أن يكون هذا القائل لم يرهما ويكون الرائي له معظم الحفظة «قال: نعم معي محمد، قيل: وقد بعث إليه» أي للإسراء والعروج، أي لأنه كان عندهم علم بأنه سيعرج به إلى السموات بعد الإسراء به إلى بيت المقدس، وإلا فبعثته صلى الله عليه وسلم ورسالته إلى الخلق يبعد أن تخفى على أولئك الملائكة إلى هذه المدة.
وأيضا لو كان هذا مرادهم لقالوا وقد بعث ولم يقولوا إليه.
فإن قيل قد جاء في حديث أنس «إن ملائكة سماء الدنيا قالت لجبريل أو قد بعث» قلنا تقدم أن حديث أنس كان قبل أن يوحى إليه، وأنه كان مناما لا يقظة. قال السهيلي: ولم نجد في رواية من الروايات أن الملائكة قالوا وقد بعث إلا في هذا الحديث.
وفي رواية بدل بعث إليه «أرسل إليه. قال: قد بعث إليه ففتح لنا، قال صلى الله عليه وسلم:
فإذا أنا بآدم، فرحب بي ودعا لي بخير» .
واختلف في لفظ آدم؟ فقيل أعجمي، ومن ثم منع الصرف. وقيل عربي، لأنه مشتق من الأدمة التي هي السّمرة، والمراد بها هنا لون بين البياض والحمرة حتى لا ينافي كونه أحسن الناس، أو هو مشتق من أديم الأرض أي وجهها لأنه مخلوق منه.
وعلى أنه عربي يكون مع صرفه للعلمية ووزن الفعل.
وفي رواية «تعرض عليه أرواح بنيه فيسرّ بمؤمنها» أي عند رؤيته «ويعبس بوجهه عند رؤية كافرها» .
قال وفي رواية «فإذا فيها آدم كيوم خلقه الله تعالى على صورته» أي على غاية من الحسن والجمال «فإذا هو تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين، فيقول: روح طيبة(1/549)
ونفس طيبة، خرجت من جسد طيب، اجعلوها في عليين. وتعرض عليه أرواح ذريته الكفار فيقول: روح خبيثة ونفس خبيثة خرجت من جسد خبيث، اجعلوها في سجين» .
أقول: وهذا وإن اقتضى كون أرواح العصاة من المؤمنين في عليين كأرواح الطائعين منهم، لكن لا يقتضي تساويهما في الدرجة كما لا يخفى.
وفي رواية «تعرض عليه أعمال ذريته» وهو إما على حذف المضاف: أي صحف أعمالهم التي وقعت منهم، وهي التي في صحف الحفظة، أو التي ستقع منهم وهي ما في صحف الملائكة غير الحفظة. أو تعرض عليه نفس أعمال تجسمت لما سيأتي أن المعاني تجسم، ففي كل من الروايتين اقتصار، والله أعلم.
وفي رواية سندها ضعيف، كما قاله الحافظ ابن حجر «وعن يمينه أسودة، وباب يخرج منه ريح طيبة، وعن شماله أسودة، وباب يخرج منه ريح خبيثة، فإذا نظر عن يمينه أي إلى تلك الأسودة ضحك واستبشر، وإذا نظر عن شماله أي إلى تلك الأسودة حزن وبكى فسلم عليه صلى الله عليه وسلم، فقال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من هذا؟ فقال: هذا أبوك آدم» أي وزاد في الجواب قوله «وهذه الأسودة نسيم» أي أرواح «بنيه، فأهل اليمين أهل الجنة، وأهل الشمال أهل النار؛ فإذا نظر عن يمينه ضحك واستبشر، وإذا نظر عن شماله حزن وبكى» وزاد في الجواب أيضا قوله «وهذا الباب الذي عن يمينه باب الجنة، إذا نظر من سيدخله من ذريته حزن وبكى» اهـ أي إذا نظر إلى أرواح من سيدخلهما، وفيه أن الجنة فوق السماء السابعة والنار في الأرض السابعة، وهي محيطة بالدنيا فكيف يكون بابهما في السماء الدنيا، وأن أرواح الكفار لا تفتح لها أبواب السماء كما تقدم.
وأجيب عن الثاني بأن عرضها: أي أرواح ذريته الكفار عليه نظرة إليها وهي دون السماء لأنها شفاقة أو من ذلك الباب، أي وكونها عن يساره الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم:
أي في جهة يساره.
ويجاب عن الأول بأن الباب الذي على يمينه يجوز أن يكون محاذيا لموضع الجنة من السماء السابعة، ولهذا قيل له باب الجنة، وكذا يقال في باب جهنم، لأن الاضافة تأتي لأدنى ملابسة، وبما أجبنا به عن كون أرواح ذريته الكفار عن جهة يساره يعلم أنه لا حاجة في الجواب عن ذلك إلى قول الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يقال إن النسم المرئية هي الأرواح التي لم تدخل الأجساد بعد: أي الآن، ومستقرها عن يمين آدم وشماله. وقد أعلم بما سيصيرون إليه، بناء على أن الأرواح مخلوقة قبل أجسادها. على أنه لا يناسب قوله روح طيبة ونفس طيبة خرجت من جسد طيب إلى آخره.(1/550)
ولا حاجة لما نقل عن القرطبي في الجواب عن ذلك، من أن الكفار التي لا يفتح لها أبواب السماء المشركون دون الكفار من أهل الكتاب، فيجوز أن تكون تلك الأسودة أرواح كفار أهل الكتاب، إذ هو يقتضي أن المراد بأرواح بنيه في الروايتين السابقتين الأرواح التي خرجت من أجسادها.
قال صلى الله عليه وسلم: «ورأيت رجالا لهم مشافر كمشافر الإبل» أي كشفاه الإبل «أي وفي أيديهم قطع من نار كالأفهار» أي الحجارة التي كل واحد منها ملء الكف «يقذفونها في أفواهم تخرج من أدبارهم، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلا آكلة أموال اليتامى ظلما» وهؤلاء لم تتقدم رؤيته صلى الله عليه وسلم لهم في الأرض: أي ولعل المراد بالرجال الأشخاص، أو خصوا بذلك لأنهم أولياء الأيتام غالبا «قال صلى الله عليه وسلم: ثم رأيت رجالا لهم بطون لم أر مثلها قط» وفي رواية «أمثال البيوت» زاد في رواية «فيها حيات، ترى من خارج البطون بسبيل» أي طريق آل فرعون، يمرون عليهم كالإبل المهيومة حين يعرضون على النار ولا يقدرون على أن يتحولوا من مكانهم ذلك: أي فتطؤهم آل فرعون الموصوفون بما ذكر، المقتضي لشدة وطئهم لهم. والمهيومة: التي أصابها الهيام، وهو داء يأخذ الإبل فتهيم في الأرض ولا ترعى، وفي كلام السهيلي: الإبل المهيومة العطاش، والهيام: شدة العطش. أي وفي رواية «كلما نهض أحدهم خر» أي سقط «قال: قلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء آكلة الربا» وتقدمت رؤيته صلى الله عليه وسلم لهم في الأرض، لا بهذا الوصف، بل إن الواحد منهم يسبح في نهر من دم يلقم الحجارة: أي ولا مانع من اجتماع الوصفين لهم: أي فيخرجون من ذلك النهر ويلقون في طريق من ذكر، وهكذا عذابهم دائما.
قال صلى الله عليه وسلم «ثم رأيت رجالا بين أيديهم لحم سمين طيب إلى جنبه لحم خبيث منتن، يأكلون من الغث أي الخبيث المنتن، ويتركون السمين الطيب، قال: قلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يتركون ما أحل الله لهم من النساء ويذهبون إلى ما حرم الله عليهم منهن» أي وتقدمت رؤيته صلى الله عليه وسلم لهم أي الرجال والنساء في الأرض بنحو هذا الوصف.
وفي رواية «رأى أخونة عليها لحم طيب ليس عليها أحد، وأخرى عليها لحم منتن عليها ناس يأكلون. قال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يتركون الحلال ويأكلون الحرام» أي من الأموال، أعمّ مما قبله: أي وهؤلاء لم تتقدم رؤيته صلى الله عليه وسلم لهم في الأرض.
قال صلى الله عليه وسلم «ثم رأيت نساء متعلقات بثديهن، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال:
هؤلاء اللاتي أدخلن على الرجال ما ليس من أولادهم، أي بسبب زناهن: أي وهؤلاء لم يتقدم رؤيته صلى الله عليه وسلم لهن في الأرض، والذي تقدم رؤيته لهن الزانيات لا بهذا(1/551)
القيد، وهو إدخالهن على أزواجهن ما ليس من أولادهم، على أنه يجوز أن يكون المراد مطلق الزانيات، لأن الزنا سبب في حصول ما ذكر غالبا، ولا مانع من اجتماع الوصفين لهن.
قال «ثم مضى هنيهة، فإذا هو بأقوام يقطع اللحم من جنوبهم فيلقمونه، فيقال له أي لكل واحد منهم كل كما كنت تأكل لحم أخيك، قال: يا جبريل من هؤلاء؟
قال: هؤلاء الهمازون من أمتك، اللمازون: أي المغتابون للناس النمامون لهم» اهـ أي وتقدمت رؤيته صلى الله عليه وسلم للمغتابين في الأرض بغير هذا الوصف. أي وروي «أنه صلى الله عليه وسلم رأى في هذه السماء النيل والفرات يطردان أي يجريان وعنصرهما: أي أصلهما» وهو يخالف ما يأتي «أنه صلى الله عليه وسلم رأى في أصل سدرة المنتهى أربعة أنهار نهران باطنان ونهران ظاهران» وأن الظاهرين النيل والفرات.
وأجيب بأنه يجوز أن يكون منبعهما من تحت سدرة المنتهى، ومقرهما وهو المراد بعنصرهما الذي هو أصلهما في السماء الدنيا: أي بعد مرورهما في الجنة، ومن سماء الدنيا ينزلان إلى الأرض. فقد جاء «في تفسير قوله تعالى وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ [المؤمنون: الآية 18] أنهما النيل والفرات أنزلا من الجنة من أسفل درجة منها على جناح جبريل عليه الصلاة والسلام فأودعهما بطون الجبال» ثم إن الله سبحانه وتعالى سيرفعهما ويذهب بهما عند رفع القرآن وذهاب الإيمان، وذلك قوله تعالى وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ [المؤمنون: الآية 18] وذكره السهيلي وفي زيادة الجامع الصغير «أن النيل ليخرج من الجنة، ولو التمستم فيه حين يسبح لوجدتم فيه من ورقها» .
قال صلى الله عليه وسلم: «ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل عليه الصلاة والسلام، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد قيل: قد بعث إليه؟
قال نعم قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بابني الخالة عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكريا صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهما، أي شبيه أحدهما بصاحبه ثيابهما وشعرهما، ومعهما نفر من قومهما، فرحبا بي ودعوا لي بخير» وفي بعض الروايات التي حكم عليها بالشذوذ «أنهما في السماء الثالثة» وقد ذكرها الجلال السيوطي في أوائل الجامع الصغير، وذكر بعضهم أنها رواية الشيخين عن أنس، والشذوذ لا ينافي الصحة المطلقة.
فقد قال شيخ الإسلام في شرح ألفية العراقي عند قوله من غير ما شذوذ: خرج الشاذ، وهو ما خالف فيه الراوي من هو أرجح منه، ولا يرد عليه الشاذ الصحيح عند بعضهم، لأن التعريف للصحيح المجمع على صحته لا مطلقا هذا كلامه.
وفي كلام السخاوي نقلا عن شيخه ابن حجر أن من تأمل الصحيحين وجد(1/552)
فيهما أمثلة من ذلك، أي من الصحيح الموصوف بالشذوذ.
أقول: وكونهما ابني الخالة: أي أن أم كل خالة الآخر هو المشهور. وعليه قال ابن السكيت: يقال ابنا خالة، ولا يقال ابنا عمة، ويقال ابنا عم ولا يقال ابنا خال؛ لكن في عيون المعارف للقضاعي أن يحيى إنما هو ابن خالة مريم أم عيسى لا ابن خالة عيسى، لأن أم يحيى أخت أم مريم لا أخت مريم.
وكذا في كلام ابن إسحاق أن عمران وزكريا كلاهما من ذرية سليمان عليهم الصلاة والسلام، وأنهما تزوجا أختين؛ فزوجة زكريا ولدت يحيى قبل عيسى بستة أشهر، ثم ولدت مريم عيسى، وزوجة عمران ولدت مريم، فأم يحيى أخت أم مريم، فعيسى ابن بنت خالة يحيى، وحينئذ يكون قوله صلى الله عليه وسلم «فإذا أنا بابني الخالة» على التجوّز، وكذا قول عيسى ليحيى يا ابن الخالة كما في تفسير التستري على التجوز.
ففيه: حكي عن يحيى وعيسى عليهما السلام أنهما خرجا يمشيان، فصدم يحيى امرأة، فقال له عيسى: يا بن الخالة، لقد أخطأت اليوم خطيئة ما أرى الله عز وجل يغفرها لك، قال: وما هي؟ قال: صدمت امرأة قال: والله ما شعرت بها، قال عيسى: سبحان الله: بدنك معي فأين قلبك؟ قال: معلق بالعرش، ولو أن قلبي اطمأن إلى جبريل صلوات الله وسلامه عليه طرفة عين لظننت أني ما عرفت الله عز وجل ووجه التجوز أنه أطلق على بنت الأخت لفظ الأخت. قال بعضهم: وهو كثير شائع في كلامهم.
ثم رأيت المولى أبا السعود ذكر ما يجمع به بين القولين، وهو أنه قيل إن أم يحيى أخت أم مريم من الأم، وأخت مريم من الأب، فليتأمل تصويره بناء على تحريم نكاح المحارم لأن أم مريم حينئذ بنت موطوءة أبيها لأنها ربيبته إلا أن يكون في شريعتهم جواز ذلك.
ثم رأيت بعضهم ذكر ذلك حيث قال: لا يبعد أن عمران تزوج أولا أم حنة فولدت أشياع: أي التي هي أم يحيى، ثم تزوج حنة بعد ذلك التي هي ربيبته بنت موطوءته فجاء منها بمريم، بناء على جواز ذلك في شريعتهم.
وفيه أنه تقدم أن نوحا عليه الصلاة والسلام بعث بتحريم نكاح المحارم، إلا أن يقال المراد محارم النسب دون المصاهرة، ولم يسم أحد يحيى بعد يحيى هذا إلا يحيى بن خلاد الأنصاري جيء به للنبي صلى الله عليه وسلم يوم ولد فحنكه بتمرة؛ وقال: لأسمينه باسم لم يسم به بعد يحيى بن زكريا فسماه يحيى.
ومما يدل على شرف سيدنا يحيى بن زكريا ما في الكشاف عن ابن عباس(1/553)
رضي الله تعالى عنهما «كنا في المسجد نتذاكر فضل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، فذكرنا نوحا بطول عبادته، وإبراهيم بخلته، وموسى بتكليم الله تعالى إياه، وعيسى برفعته إلى السماء، وقلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منهم؟ بعث إلى الناس كافة، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو خاتم الأنبياء؛ أي فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: فيم أنتم؟ فذكرنا له، فقال: لا ينبغي لأحد أن يكون خيرا من يحيى بن زكريا، فذكر أنه لم يعمل سيئة قط ولا همّ بها» أي ففي الحديث «ما من أحد إلا ويلقى الله عز وجل وقد همّ بمعصية عملها إلا يحيى بن زكريا فإنه لم يهمّ بها ولم يعملها» فليتأمل ما في ذلك.
وقد ذكر «أن والد زكريا لأمه على كثرة العبادة والبكاء، فقال له: أنت أمرتني بذلك يا أبت، ألست أنت القائل: إن بين الجنة والنار عقبة لا يجوزها إلا البكاؤون من خشية الله عز وجل؟ فقال: بلى، فجدّ واجتهد» .
وقد جاء في الحديث «أن يحيى هو الذي يذبح الموت يوم القيامة، يضجعه ويذبحه بشعرة تكون في يده والناس ينظرون إليه، أي فإن الموت يكون في صورة كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، ويقال لأهلهما: أتعرفون هذا؟ فيقولون نعم هذا الموت» أي يلقي الله عز وجل معرفته في قلوبهم، وتجسم المعاني جاء به الحديث الصحيح.
على أنه جاء في تفسير قوله تعالى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الملك: الآية 2] أن الموت في صورة كبش، لا يمر على أحد إلا مات. وخلق الحياة في صورة فرس لا يمر على شيء إلا حيي، وهو يدل على أن الموت جسم، وأن الميت يشاهد حلول الموت به.
وقيل الذي يذبح الموت جبريل عليه الصلاة والسلام. وقيل إن في هذه السماء الثانية إدريس، وهو قول شاذ. وقيل يوسف جاءت به رواية ذكرها الجلال السيوطي في أوائل الجامع الصغير، وذكر فيها أن ابني الخالة في السماء الثالثة كما تقدم، وتقدم أن بعضهم ذكر أنها رواية الشيخين عن أنس.
قال أبو حيان: وعيسى لفظ أعجمي. والظاهر أن مثله يحيى، هذا كلامه. وفي كلام غيره أن يحيى عربي، ومنع صرفه العلمية ووزن الفعل.
وقيل في عيسى إنه عربي مشتق من العيس: وهو بياض يخالطه صفرة. وعلى أنه أعجمي قيل عبراني. وقيل سرياني.
«ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا؟ قال جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا(1/554)
فإذا أنا بيوسف صلى الله عليه وسلم، أي ومعه نفر من قومه، وإذا هو أعطي شطر الحسن» أي وفي رواية «صورته صورة القمر ليلة البدر» والمراد بشطر الحسن نصف الحسن الذي أعطيه الناس.
وفي الحديث: «أعطي يوسف وأمه ثلث حسن الدنيا، وأعطي الناس الثلثين» ويحتاج للجمع بينها وبين ما جاء في رواية «قسم الله ليوسف من الحسن والجمال ثلثي حسن الخلق، وقسم بين سائر الخلق الثلث» وعن وهب بن منبه: الحسن عشرة أجزاء تسعة منها ليوسف وواحد منها بين الناس.
وفي كلام بعضهم «كان فضل يوسف في الحسن على الناس كفضل القمر ليلة البدر على نجوم السماء، وكان إذا سار في أزقة مصر يرى تلألؤ وجهه على الجدران كما يتلألأ نور الشمس وضوء القمر على الجدران» والمراد بالناس غير نبينا صلى الله عليه وسلم، لأن حسن نبينا صلى الله عليه وسلم لم يشارك في شيء كما أشار إليه صاحب البردة بقوله:
فجوهر الحسن فيه غير منقسم
خلافا لابن المنير حيث ادعى أن يوسف أعطي شطر الحسن الذي أوتيه نبينا صلى الله عليه وسلم؛ وتبعه على ذلك شارح تائية الإمام السبكي.
وعبارته «فإذا هو أي يوسف عليه الصلاة والسلام أعطي شطر الحسن الذي أعطيه كله صلى الله عليه وسلم» .
هذا، وقد قيل إن يوسف ورث الحسن من إسحاق الذي هو جده، وإسحاق ورث الحسن من سارة التي هي أمه، وسارة أعطيت سدس الحسن، ورثت ذلك من حواء.
أي وفي رواية «وصف يوسف وإنه أحسن ما خلق الله تعالى، قد فضل الناس بالحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب» أي كفضل القمر ليلة البدر على بقية الكواكب الليلية، والمراد بخلق الله تعالى وبالناس غير نبينا صلى الله عليه وسلم، لما علمت أنه أعطي شطر الحسن الذي لغير نبينا صلى الله عليه وسلم ولأن المتكلم لا يدخل في عموم خطابه على ما فيه.
وقد جاء «إن يوسف أعطي نصف حسن آدم» وفي رواية «ثلث حسن آدم» وقد جاء «كان يوسف يشبه آدم يوم خلقه ربه» .
وفي الخصائص الصغرى للسيوطي: وخص بأنه صلى الله عليه وسلم أوتي كل الحسن ولم يعط يوسف إلا شطره، فلينظر الجمع بين هذه الروايات على تقدير صحتها.
وقد جاء «ما بعث الله نبيا إلا حسن الوجه وحسن الصوت، وكان نبيكم أحسنهم وجها أحسنهم صوتا» .
قال: «فرحب بي ودعا لي بخير» وفي بعض الروايات «إن في هذه السماء(1/555)
الثالثة ابني الخالة يحيى وعيسى» كما مر «ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإدريس فرحب بي ودعا لي بخير» وفي رواية «قال مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح» .
وفي رواية قتادة «مرحبا بالابن الصالح» قال بعضهم: وهو القياس، لأنه جده الأعلى لأنه من ولد شيث، بينه وبين شيث أربعة آباء؛ أرسل بعد موت آدم بمائتي سنة. وهو أول من أعطي الرسالة من ولد آدم، وهو يقتضي أن شيثا لم يكن رسولا.
ونوح من ولده، بينه وبينه ابنان، فإدريس في عمود نسبه صلى الله عليه وسلم، وحينئذ يكون قوله بالأخ الصالح في تلك الرواية محمول على التواضع منه، خلافا لمن تمسك بذلك.
على أن إدريس ليس جدا لنوح ولا هو من آباء النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57) [مريم: الآية 57] أي حال حياته لأنه رفع إلى السماء.
قيل من مصر بعد أن خرج منها ودار الأرض كلها وعاد إليها ودعا الخلائق إلى الله تعالى باثنتين وسبعين لغة، خاطب كل قوم بلغتهم وعلمهم العلوم.
وهو أوّل من استخرج علم النجوم: أي علم الحوادث التي تكون في الأرض باقتران الكواكب.
قال الشيخ محيي الدين بن العربي: وهو علم صحيح لا يخطئ في نفسه؛ وإنما الناظر في ذلك هو الذي يخطئ لعدم استيفاء النظر. ودعوى إدريس عليه السلام الخلائق يدل على أنه كان رسولا. وفي كلام الشيخ محيي الدين: لم يجئ نص في القرآن برسالة إدريس بل قيل فيه صديقا نبيا.
وأول شخص افتتحت به الرسالة نوح عليه الصلاة والسلام، ومن كانوا قبله إنما كانوا أنبياء كل واحد على شريعة من ربه، فمن شاء دخل معه في شرعه، ومن شاء لم يدخل؛ فمن دخل ثم رجع كان كافرا.
ومما يؤثر عنه عليه الصلاة والسلام: حب الدنيا والآخرة لا يجتمعان في قلب أبدا. الناس اثنان: طالب لا يجد، وواجد لا يكتفي. من ذكر عار الفضيحة هان عليه لذتها. خير الإخوان من نسي ذنبك ومعروفه عندك. وقد قبضت روحه في هذه السماء الرابعة فصلت عليه الملائكة، ومدفنه بها، تصلي عليه الملائكة كلما هبطت.
وحينئذ لا يقال: من كان في السماء الخامسة والسادسة والسابعة أرفع منه. على أنه قيل لما مات أحياه الله تعالى وأدخله الجنة، وهو فيها الآن: أي غالب أحواله في الجنة، فلا ينافي وجوده في السماء المذكورة في تلك الليلة، لأن الجنة أرفع من السموات، لأنها فوقها السماء السابعة، ولا ما جاء في الحديث أنه في السماء حيّ(1/556)
كعيسى عليهما الصلاة والسلام. وفي بعض الروايات أن في هذه السماء الرابعة هارون.
«ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال:
جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بهارون أي ونصف لحيته بيضاء ونصف لحيته سوداء تكاد تضرب إلى سرّته من طولها وحوله قوم من بني إسرائيل وهو يقص عليهم، فرحب بي ودعا لي بخير» أي وفي رواية «فقال: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا الرجل المحبب في قومه هارون بن عمران» أي لأنه كان ألين لهم من موسى عليهما الصلاة والسلام، لأن موسى عليه الصلاة والسلام كان فيه بعض الشدة عليهم، ومن ثم كان له منهم بعض الإيذاء.
«ثم عرج بنا إلى السماء السادسة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال:
جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه، قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بموسى صلى الله عليه وسلم، فرحب بي ودعا لي بخير» أي وفي رواية «جعل يمر بالنبي والنبيين معهم القوم، والنبي والنبيين ليس معهم أحد، ثم مر بسواد عظيم فقال: من هذا؛ قيل موسى وقومه» المناسب هذا قوم موسى كما لا يخفى «لكن ارفع رأسك، فإذا هو بسواد عظيم قد سد الأفق من ذا الجانب ومن ذا الجانب، فقيل: هؤلاء أمتك، هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب» أي منهم بدليل ما جاء في رواية «قيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وهم الذين لا يكتوون، ولا يسترقون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون، فقال عكاشة بن محصن: أنا منهم؟ قال نعم، ثم قال رجل آخر: أنا منهم؟ قال صلى الله عليه وسلم: سبقك بها عكاشة» لأن هذا الرجل كان منافقا، فلم يقل له صلى الله عليه وسلم لست منهم لأنك منافق، بل أجابه بما فيه ستر عليه. والقول بأن ذلك الرجل هو سعد بن عبادة مردود. وهذا تمثيل: أي مثل له صلى الله عليه وسلم أمته أي وأمة موسى أيضا، إذ يبعد وجودها حقيقة في السماء السادسة وهذا السياق يدل على أن الذي مر بهم من النبي والنبيين في السماء السادسة «فلما خلصا» أي جاوز ما ذكر من النبي والنبيين والسواد العظيم «فإذا موسى بن عمران رجل آدم طوال كأنه من رجال شنوءة كثير الشعر» أي مع صلابته «لو كان عليه قميصان لنفذ الشعر منهما» أي وكان إذا غضب يخرج شعر رأسه من قلنسوته وربما اشتعلت قلنسوته نارا لشدة غضبه.
وفي كلام بعضهم: كان إذا غضب خرج شعره من مدرعته كسل النخل، ولشدة غضبه لما فرّ الحجر بثوبه صار يضربه حتى ضربه ست ضربات أو سبعا مع أنه لا إدراك له. ووجه بأنه لما فر صار كالدابة، والدابة إذا جمحت بصاحبها يؤدبها(1/557)
بالضرب «فسلم عليه النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم دعا له ولأمته بخير، وقال: يزعم الناس أني أكرم على الله من هذا؟ بل هذا أكرم على الله مني، فلما جاوزه بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل الجنة من أمتي» أي وبل من سائر الأمم.
فقد ذكر الجلال السيوطي في الخصائص الصغرى أن مما اختص به صلى الله عليه وسلم في أمته في الآخرة أن أهل الجنة: أي من الأمم مائة وعشرون صفا، هذه الأمة منها ثمانون وسائر الأمم أربعون.
وجاء في المرفوع «كل أمة بعضها في الجنة وبعضها في النار إلا هذه الأمة، فإنها كلها في الجنة» .
وفي العرائس عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «لما كلم الله عز وجل موسى كان بعد ذلك يسمع دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصفا، من مسيرة عشرة فراسخ» .
وفي الحديث «ليس أحد يدخل الجنة إلا جرد مرد إلا موسى بن عمران فإن لحيته إلى سرته ثم عرج بنا إلى السماء السابعة واسمها عريبا، واسم الأرض السابعة جريبا» .
روى الخطيب بإسناد صحيح أن وهب بن منبه قال: من قرأ البقرة وآل عمران يوم الجمعة كان له ثواب يملأ ما بين عريبا وجريبا «فاستفتح جبريل، قيل: من هذا قال: جبريل، قيل ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال نعم قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا بإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، أي رجل أشمط» وفي لفظ «كهل» ولا ينافي ذلك ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم في وصفه إنه أشبه بصاحبكم يعني نفسه صلى الله عليه وسلم خلقا وخلقا «جالس عند باب الجنة» أي في جهتها كما تقدم، وإلا فالجنة فوق السماء السابعة على كرسي مسندا ظهره إلى البيت المعمور: أي وهو من عقيق ويقال له الضراح بضم الضاد المعجمة وتخفيف الراء وفي آخره حاء مهملة، من ضرح: إذا بعد، ومنه الضريح.
أي وفي كلام الحافظ ابن حجر: يقال له الضراح والضريح. وجاء «إنه مسجد بحذاء الكعبة لو خر لخرّ عليها» أي فهو في تلك السماء في محل يحاذي الكعبة، أي وقيل في السماء الرابعة» وبه جزم في القاموس، وقيل في السادسة، وقيل في الأولى، وتقدم أن في كل سماء بيتا معمورا، وأن كل بيت منها بحيال الكعبة «وإذا هو يدخله كل يوم ألف ملك لا يعودون إليه» .(1/558)
أقول: عن بعضهم «أن البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك» وفي رواية «سبعون وجيها، مع كل وجيه سبعون ألف ملك» والوجيه: الرئيس، ولعله صلى الله عليه وسلم علم ذلك بإعلام جبريل، وإلا فرؤيته صلى الله عليه وسلم له تلك الليلة لا تقتضي ذلك.
ثم رأيت الشيخ عبد الوهاب الشعراني أشار إلى ذلك حيث قال «وسما له البيت المعمور، فنظر إليه وركع فيه ركعتين وعرّفه» أي جبريل «أنه يدخله كل يوم سبعون ألف ملك من الباب الواحد، ويخرجون من الباب الآخر» فالدخول من باب مطالع الكواكب والخروج من باب مغاربها. والظاهر أن دخول هؤلاء الملائكة خاص بالذي في السماء السابعة.
وقال السهيلي: وقد ثبت في الصحيح «أن أطفال المؤمنين والكافرين في كفالة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل حين رآهم مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أولاد المؤمنين الذين يموتون صغارا، قال له: وأولاد الكافرين؟ قال له: وأولاد الكافرين» أخرجه البخاري في الحديث الطويل في كتاب الجنائز، وخرجه في موضع آخر فقال «فيه أولاد الناس» .
وقد روي في أطفال الكافرين أيضا أنهم خدم أهل الجنة، هذا كلامه. وجاء في حديث مرفوع، لكن سنده ضعيف «إن في السماء الرابعة نهرا يقال له الحيوان يدخله جبريل كل يوم» أي سحرا كما في بعض الروايات «فينغمس ثم يخرج فينتفض، فيخرج منه سبعون ألف قطرة، يخلق الله تعالى من كل قطرة ملكا» وفي لفظ «يخلق الله عز وجل من كل قطرة كذا وكذا ألف ملك يؤمرون أن يأتوا البيت المعمور يصلون فيه، فهم الذين يصلون في البيت المعمور ثم لا يعودون إليه أبدا، يولي عليهم أحدهم يؤمر أن يقف بهم في السماء موقفا يسبحون الله عز وجل إلى أن تقوم الساعة» وذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراني أن جبريل أخبره بذلك في تلك الليلة، والله أعلم.
وفي رواية «وإذا أنا بأمتي شطرين شطرا عليهم ثياب بيض كأنها القراطيس، وشطرا عليهم ثياب رمدة، فدخلت البيت المعمور ودخل معي الذين عليهم الثياب البيض وحجب الآخرون الذين عليهم الثياب الرمدة، فصليت أنا ومن معي في البيت المعمور» أي والظاهر أنه ليس المراد بالشطر النصف حتى يكون العصاة من أمته بقدر الطائعين، وإن الصلاة محتملة للدعاء ولذات الركوع والسجود، ويناسبه ما تقدم من قوله ركعتين «وأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال له: يا نبي الله إنك ملاق ربك الليلة، وإن أمتك آخر الأمم وأضعفها، فإن استطعت أن تكون حاجتك في أمتك فافعل» .
وفي السيرة الشامية أن سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، قال له صلى الله عليه وسلم ذلك في(1/559)
الأرض قبل وصول بيت المقدس، وقال له: هنا «مر أمتك فليكثروا من غراس الجنة فإن تربتها طيبة، وأرضها واسعة، فقال له: وما غراس الجنة؟ فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله» وفي رواية أخرى «أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء، وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» .
وقال يقال: لا مخالفة بين الروايتين، لأنه يجوز أن يكون غراس الجنة مجموع ما ذكر وأن بعض الرواة اقتصر.
قال صلى الله عليه وسلم «واستقبلتني جارية لعساء وقد أعجبتني، فقلت لها: يا جارية أنت لمن؟ قالت: لزيد بن حارثة» أي ولعل تلك الجارية خرجت من الجنة فيكون استقبالها له صلى الله عليه وسلم بعد مجاوزة السماء السابعة، لكن في رواية «فرأيت فيها أي في الجنة جارية» الحديث.
وقد يقال: يجوز أن يكون رآها مرتين خارج الجنة وداخلها فيكون سؤالها في المرة الأولى. واللعس: لون الشفة إذا كانت تضرب إلى السواد قليلا، وذلك مستملح قاله في الصحاح.
وفي رواية «فلما انتهى إلى السماء السابعة رأى فوقه رعدا وبرقا وصواعق» أي وهذه الرواية ظاهرة في أنه صلى الله عليه وسلم رأى ذلك في السماء السابعة محتملة لأن يكون رآه قبل دخوله فيها، وحينئذ يكون قوله ثم أتى بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل على الاحتمالين المذكورين.
وعند عرض تلك الأواني عليه صلى الله عليه وسلم أخذ اللبن فقال جبريل: أصبت الفطرة: أي بأخذك اللبن الذي هو الفطرة، أصاب الله عز وجل بك أمتك على الفطرة: أي أوجدهم على الفطرة ببركتك. وفي رواية «هذه الفطرة التي أنت عليها وأمتك» أي وتقدم أن المراد بها الإسلام.
وورد أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام في السماء السادسة، وموسى في السماء السابعة، وهذه الرواية في البخاري عن أنس، وتقدم أن ذلك كان في الإسراء بروحه صلى الله عليه وسلم لا بجسده، وفيه أن رؤيا الأنبياء حق.
فالأولى الجمع بين الروايات بالانتقال، وأن بعض الأنبياء نزل من محله إلى ما تحته لملاقاته صلى الله عليه وسلم عند صعوده، وبعضهم خرج عن محله وصعد إلى ما فوقه لملاقاته صلى الله عليه وسلم عند هبوطه، فأخبر صلى الله عليه وسلم عنه تارة بأنه في سماء كذا وتارة بأنه في سماء كذا، والحافظ ابن حجر لا يرى الجمع، بل يحكم على ما خالف أصح الروايات بأنه لا يعمل به. قال: والجمع إنما هو مجرد استرواح لا ينبغي المصير إليه هذا كلامه.(1/560)
وعندي فيه نظر ظاهر، والجمع أولى من اثبات المعارضة لا سيما بين الأصح والصحيح وإن كان الصحيح شاذا، لأنا لا نقدم الأصح أو الصحيح على غيره إلا حيث تعذر الجمع فليتأمل.
وعلى المشهور من الروايات الذي صدّرنا به أبدى بعضهم لاختصاص هؤلاء الأنبياء بملاقاته صلى الله عليه وسلم واختصاص كل واحد منهم بالسماء الذي لقيه فيها حكمة يطول ذكرها.
قال صلى الله عليه وسلم «ثم ذهب بي: أي جبريل إلى سدرة المنتهى، وإذا أوراقها كآذان الفيلة» وفي رواية «مثل آذان الفيول» وفي رواية «الورقة منها تظل الخلق» وفي رواية «تكاد الورقة تغطي هذه الأمة» وفي رواية «لو أن الورقة الواحدة ظهرت لغطت هذه الدنيا» وحينئذ يكون المراد بكونها كآذان الفيلة في الشكل، وهو الاستدارة لا في السعة «وإذا ثمرها كالقلال» وفي رواية «كقلال هجر» قرية بقرب المدينة، والواحدة من قلالها تسع قربتين ونصفا من قرب الحجاز، والقربة تسع من الماء مائة رطل بغدادي، فلما غشيها من أمر الله عز وجل ما غشيها تغيرت» أي صار لها حالة من الحسن غير تلك الحالة التي كانت عليها «فما أحد من خلق الله عز وجل يستطيع أن ينعتها من حسنها» أي لأن رؤية الحسن تدهش الرائي، وهذا السياق يدل على أن سدرة المنتهى فوق السماء السابعة: أي وهو قول الأكثر، وفي بعض الروايات أن أغصانها تحت الكرسي، وعن وهب أن العرش والكرسي فوق السماء السابعة. قال:
ويسأل هل ثمرة سدرة المنتهى كالثمار المأكولة في أنه يزول ويعقبه غيره هذا الزائل يؤكل أو يسقط، أي فلا يؤكل اهـ.
قال صلى الله عليه وسلم «ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ» أي بالمعجمة «قباب اللؤلؤ» وفي لفظ «حبائل اللؤلؤ أي المعقود والقلائد، وإذا ترابها المسك، ورمانها كالدلاء وطيرها كالبخت» فدخوله صلى الله عليه وسلم للجنة كان قبل عروجه للسحابة.
وفي الحديث «ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل، والذي نفس محمد بيده لا يقطف رجل ثمرة من الجنة فتصل إلى فيه حتى يبدل الله مكانها خيرا منها» وهذا القسم يرشد إلى أن ثمرة الجنة كلها حلوة تؤكل، وأنها تكون على صورة ثمرة الدنيا المرة.
وفي كلام الشيخ محيي الدين بن العربي: فاكهة الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة:
أي تؤكل من غير قطع: أي يؤكل منها، فالأكل موجود، والعين باقية في غصن الشجرة، وليس المراد أن الفاكهة غير مقطوعة في شتاء ولا صيف، أو يخلق مكان قطعها أخرى على الفور كما فهمه بعضهم، فعين ما يأكل العبد هو عين ما يشهد، وأطال في ذلك، وكأنه لم يقف على هذا الحديث، أو لم يثبت عنده فليتأمل.(1/561)
قال «ويخرج من أصل تلك الشجرة أربعة أنهار: نهران باطنان» أي يبطنان ويغيبان في الجنة بعد خروجهما من أصل تلك الشجرة «ونهران ظاهران» أي يستمران ظاهرين بعد خروجهما من أصل تلك الشجرة فيجاوزان الجنة «فقال: ما هذه، أي الأنهار يا جبريل؟ قال: أما الباطنان ففي الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات» انتهى.
أقول: قول جبريل أما الباطنان ففي الجنة لا يحسن أن يكون جوابا عن هذا السؤال: أي الذي هو سؤال عن بيان الحقيقة ويحصل بذكر اسمها، فكان المناسب بحسب الظاهر أن يقول وأما الباطنان فنهر كذا ونهر كذا، وهذا السياق يدل على أن النيل والفرات يمران في الجنة ويجاوزانها، وأن ما عداهما كسيحان وجيحان بناء على أنهما ينبعان من أصل شجرة المنتهى يغيبان فيها ولا يجاوزانها، والنيل نهر مصر، والفرات نهر الكوفة. ويحتمل أن النهرين اللذين هما ما عدا النيل والفرات بناء على أنهما سيحان وجيحان، يبطنان في الجنة ولا يظهران إلا بعد خروجهما منها لوجودهما في الخارج، بخلاف النيل والفرات فإنهما يستمران ظاهرين فيها إلى أن يخرجا منها.
وقد جاء في حديث «ما من يوم إلا وينزل ماء من الجنة في الفرات» قال بعضهم: ومصداقه أن الفرات مد في بعض السنين فوجد فيه رمان كل واحدة مثل البعير، فيقال إنه رمان الجنة. وهذا الحديث ذكره ابن الجوزي في الأحاديث الواهية.
وفي حديث موقوف على ابن عباس «إذا حان خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله تعالى جبريل، فرفع من الأرض هذه الأنهار والقرآن والعلم، والحجر والمقام، وتابوت موسى بما فيه إلى السماء» .
هذا، وفي بعض الروايات ما يدل على أن سيحان وجيحان لا ينبعان من أصل شجرة المنتهى، فليسا هما المراد بالباطنين.
وعن مقاتل: الباطنان السلسبيل والكوثر، أي ومعنى كونهما باطنين أنهما لم يخرجا من الجنة أصلا. ومعنى كون النيل والفرات ظاهرين أنهما يخرجان منها.
وفي «السيرة الشامية» : لم يثبت في سيحان وجيحان أنهما ينبعان من أصل شجرة المنتهى فيمتاز النيل والفرات عليهما بذلك. وأما الباطان المذكوران: أي في الحديث فهما غير سيحان وجيحان. قال القرطبي: ولعل ترك ذكرهما: أي سيحان وجيحان في حديث الإسراء كونهما ليسا أصلا برأسهما، وإنما يحتمل أن يتفرعا عن النيل والفرات، هذا كلامه، ولعل المراد أنهما يتفرعان عنهما بعد خروجهما من الجنة، فهما لم يخرجا من أصل السدرة ولا يبطنان في الجنة أصلا.(1/562)
قال «وإذا فيها» في تلك الشجرة «عين» أي في أصلها أيضا «يقال لها السلسبيل، فينشق منها نهران أحدهما الكوثر، والآخر يقال له نهر الرحمة، فاغتسلت منه فغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر» انتهى: أي فهما يخرجان من أصل سدرة المنتهى، لكن لا من المحل الذي يخرج من النيل والفرات، وحينئذ يحسن القول بأنه يخرج من أصل تلك الشجرة أربعة أنهار نهران ظاهران ونهران باطنان. وفي جعل الكوثر قسما من السلسبيل يخالفه جعله قسيما كما تقدم عن مقاتل، فالباطنان الكوثر ونهر الرحمة؛ فالأنهار التي تخرج من أصل سدرة المنتهى أربعة بناء على أن سيحان وجيحان لا يخرجان منها أو ستة بناء على أنهما يخرجان منها.
وعلى الأول لا ينافي قول القرطبي: ما في الجنة نهر إلا ويخرج من أصل سدرة المنتهى لأن المراد إما خروجه بنفسه أو أصله الذي يتفرع منه بناء على ما تقدم من أن سيحان وجيحان يتفرعان عن النيل والفرات.
ولا ينافي ما عند مسلم «يخرج من أصلها يعني سدرة المنتهى أربعة أنهار من الجنة، وهي: النيل والفرات وسيحان وجيحان» ولا ما عند الطبراني «سدرة المنتهى يخرج من أصلها أربعة أنهار: من ماء غير آسن، ومن لبن لم يتغير طعمه، ومن خمر لذة للشاربين ومن عسل مصفى» وعن كعب الأحبار: إن نهر العسل نهر النيل، أي ويدل لذلك قول بعضهم: لولا دخول بحر النيل في البحر الملح الذي يقال له البحر الأخضر قبل أن يصل إلى بحيرة الزنج ويختلط بملوحته لما قدر أحد على شربه لشدة حلاوته. ونهر اللبن نهر جيحان، ونهر الخمر نهر الفرات، ونهر الماء نهر سيحان، لأن غاية ذلك سكوتهما عن النهرين الآخرين وهما الكوثر ونهر الرحمة. ومعنى كونها تخرج من أصل سدرة المنتهى من الجنة أنه يحتمل أن تكون سدرة المنتهى مغروسة في الجنة والأنهار تخرج من أصلها، فصح أنها من الجنة، هكذا ذكره العارف ابن أبي جمرة، ولم أقف على ما يدل على ثبوت هذا الاحتمال: أي أن سدرة المنتهى مغروسة في الجنة، ولا حاجة لهذا الاحتمال في تصحيح هذه الرواية، لأن المعنى أن تلك الأنهار تخرج من أصل تلك الشجرة، ثم تكون خارجة من الجنة؛ ثم لا يخفى أن في كلام القاضي عياض أن سيحان يقال فيه سيحون وجيحان يقال فيه جيحون.
ويخالفه قول صاحب النهاية: اتفقوا كلهم على أن جيحون غير جيحان، وسيحون غير سيحان، ومن ثم أنكر الإمام النووي على القاضي عياض حيث قال:
الثاني أي من وجوه الإنكار على القاضي قوله سيحان وجيحان ويقال سيحون وجيحون، فجعل الأسماء مترادفة، وليس كذلك، فسيحان وجيحان غير سيحون وجيحون هذا كلامه.(1/563)
وذكر صاحب النهاية أن جيحون نهر وراء خراسان عند بلخ، وسكت عن بيان سيحون فليتأمل.
قال «والذي غشي الشجرة فراش من ذهب» والفراش: هو الحيوان الذي يلقي نفسه في السراج ليحترق» وملائكة على كل ورقة ملك يسبح الله تعالى، وملائكة أي آخرون يغشونها كأنهم الغربان يأوون إليها متشوقين إليها متبركين بها زائرين كما يزور الناس الكعبة» اهـ.
«ورأى صلى الله عليه وسلم جبريل عند تلك السدرة على الصورة التي خلقه الله عز وجل عليها، له ستمائة جناح كل جناح منها قد سدّ الأفق يتناثر من أجنحته تهاويل الدر والياقوت مما لا يعلمه إلا الله عز وجل، وغشيت تلك السدرة سحابة، فتأخر جبريل عليه الصلاة والسلام، ثم عرج به صلى الله عليه وسلم: أي في تلك السحابة حتى ظهر لمستوى سمع فيه صرير الأقلام» وفي رواية «صريف» أي صوت حركتها حال الكتابة: أي ما تكتبه الملائكة من الأقضية، وهذا السياق يدل على أن جبريل لم يتعد سدرة المنتهى ويدل على ما تقدم من أن سدرة المنتهى فوق السماء السابعة إلى آخر ما تقدم، وهو الموافق لقول بعضهم إنها على يمين العرش.
وفي رواية «ثم انطلق بي أي جبريل إلى ظهر السماء السابعة حتى انتهى إلى نهر عليه خيام الياقوت واللؤلؤ والزبرجد، وعليه طير أخضر نعم الطير رأيت، قال جبريل: هذا الكوثر الذي أعطاك الله، فإذا فيه آنية الذهب والفضة، يجري على رضاض من الياقوت والزمرد بالذال المعجمة كما تقدم «وماؤه أشد بياضا من اللبن، فأخذت من آنيته واغترفت من ذلك فشربت، فإذا هو أحلى من العسل وأشدّ رائحة من المسك» .
أقول: قد تقدم أن هذا النهر من العين التي تخرج من سدرة المنتهى التي يقال لها السلسبيل: أي فهو يخرج من تلك الشجرة ويمر على ما ذكر، ثم يدخل الجنة ويستقر بها فلا ينافي كون الكوثر نهرا في الجنة، وأن السلسبيل عين في الجنة، لأن السلسبيل على ما تقدم أصل الكوثر، والله أعلم.
وفي رواية «إنها» أي سدرة المنتهى «في السماء السادسة وإليها ينتهي ما يعرج من الأرض فيفيض منها، وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها فيفيض منها، وعندها تقف الحفظة وغيرهم فلا يتعدونها، ومن ثم سميت سدرة المنتهى.
وعن تفسير ابن سلام عن بعض السلف قال: إنما سميت سدرة المنتهى، لأن روح المؤمن ينتهي بها إليها، فتصلي عليها هناك الملائكة المقرّبون وجمع الحافظ ابن حجر بين كون سدرة المنتهى في السادسة، وكونها في السابعة بأن أصلها في(1/564)
السادسة وأغصانها في السابعة: أي فوق السابعة: أي جاوزت السابعة، فلا ينافي القول بأنها فوق السابعة على ما تقدم، وهذا الحمل المقتضي لكون أصلها في السادسة لا يناسب كون الأنهار تخرج من أصلها إلى آخر ما تقدم.
ويروى «أن جبريل لما وصل إلى مقامه وهو سدرة المنتهى فوق السماء السابعة قال له صلى الله عليه وسلم: ها أنت وربك، هذا مقامي لا أتعداه، فزج بي في النور» أي لما غشيته تلك السحابة، ويعبر عن تلك السحابة بالرفرف. قال الشيخ عبد الوهاب الشعراني وهو نظير المحفة عندنا.
وفي تاريخ الشيخ العيني شارح البخاري عن مقاتل بن حيان، قال «انطلق بي جبريل حتى انتهى إلى الحجاب الأكبر عند سدرة المنتهى، قال جبريل: تقدم يا محمد، قال: فتقدمت حتى انتهيت إلى سرير من ذهب عليه فراش من حرير الجنة، فنادى جبريل من خلفي: يا محمد إن الله يثني عليك فاسمع وأطع ولا يهولنك كلامه، فبدأت بالثناء على الله عز وجل» الحديث، أي وفي ذلك النور المستوي الذي يسمع فيه صريف الأقلام ثم العرش والرفرف والرؤية وسماع الخطاب.
وفي رواية «أنه لما وقف جبريل، قال له صلى الله عليه وسلم: في مثل هذا المقام يترك الخليل خليله؟ قال: إن تجاوزت احترقت بالنار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا جبريل هل لك من حاجة إلى ربك؟ قال: يا محمد سل الله عز وجل لي أن أبسط جناحي على الصراط لأمتك حتى يجوزوا عليه، قال: ثم زج بي في النور فخرق بي إلى سبعين ألف حجاب ليس فيها حجاب يشبه حجابا، غلظ كل حجاب خمسمائة عام، وانقطع عني حس كل ملك، فلحقني عند ذلك استيحاش، فعند ذلك نادى مناد بلغة أبي بكر رضي الله تعالى عنه: قف إن ربك يصلي، فبينا أنا أتفكر في ذلك» أي في وجود أبي بكر في هذا المحل وفي صلاة ربي، فأقول: هل سبقني أبو بكر وكيف يصلي ربي وهو غني عن أن يصلي كما يدل على ذلك ما يأتي «فإذا النداء من العلي الأعلى:
ادن يا خير البرية، ادن يا أحمد، ادن يا محمد، فأدناني ربي حتى كنت كما قال عز وجل ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) [النجم: الآية 8] .
وفي الخصائص الصغرى «وخص بالإسراء وما تضمنه اختراق السموات السبع والعلوّ إلى قاب قوسين ووطئه مكانا ما وطئه نبي مرسل ولا ملك مقرب وهذه الرواية ككلام الخصائص تدل على أن فاعل دنا وتدلى واحد وكان هو صلى الله عليه وسلم، وحينئذ يكون معنى تدلى زاد في القرب. وجعل بعض العلماء من جملة ما خالف شريك فيه المشهور من الروايات أنه جعل فاعل دنا فتدلّى الحق سبحانه وتعالى: أي دنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان من محمد صلى الله عليه وسلم قاب قوسين أو أدنى، ثم رأيت الحافظ ابن حجر ذكر عن البيهقي أنه روي بسند حسن ما يوافق ما ذكر شريك، ومعلوم أن معنى(1/565)
الدنو والتدلي الواقعين من الله سبحانه وتعالى، كمعنى النزول منه في «ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الأخير» وهو أي ذلك كعند أهل الحقائق من مقام التنزل؛ بمعنى أنه تعالى يتلطف بعباده ويتنزل في خطابه لهم، فيطلق على نفسه ما يطلقونه على أنفسهم فهو في حقهم حقيقة، وفي حقه تعالى مجاز.
ورأيت بعضهم ذكر أن فاعل دنا جبريل، وفاعل تدلى محمد صلى الله عليه وسلم: أي سجد لربه سبحانه وتعالى شكرا على ما أعطي من الزلفى.
ورأيت بعضا آخر ذكر أن فاعل تدلى الرفرف، وفاعل دنا محمد صلى الله عليه وسلم: أي تدلى الرفرف لمحمد صلى الله عليه وسلم حتى جلس عليه، ثم دنا محمد صلى الله عليه وسلم من ربه سبحانه وتعالى: أي قرب قرب منزلة وتشريف لا قرب مكان، تعالى الله عز وجل عن ذلك.
قال صلى الله عليه وسلم «وسألني ربي فلم أستطع أن أجيبه عز وجل، فوضع يده عز وجل بين كتفيّ بلا تكييف ولا تحديد» أي يد قدرته تعالى، لأنه سبحانه منزه عن الجارحة «فوجدت بردها، فأورثني علم الأولين والآخرين، وعلمني علوما شتى، فعلم أخذ عليّ كتمانه إذ علم أنه لا يقدر على حمله غيري. وعلم خيرني فيه. وعلم أمرني بتبليغه إلى العامّ والخاص من أمتي، وهي الإنس والجن» أي وكذلك الملائكة على ما تقدم.
أقول: هذا التفصيل يدل على أن العلوم الشتى هي هذه العلوم الثلاثة، إلا أن يقال كل علم من هذه الثلاثة يشتمل على أنواع من العلوم، والله أعلم.
قال صلى الله عليه وسلم «ثم قلت: اللهم إنه لما لحقني استيحاش سمعت مناديا ينادي بلغة تشبه لغة أبي بكر، فقال لي قف فإن ربك يصلي، فعجبت من هاتين هل سبقني أبو بكر إلى هذا المقام، وإن ربي لغنيّ أن يصلي! فقال تعالى: أنا الغني عن أن أصلي لأحد وإنما أقول سبحاني سبحاني سبقت رحمتي غضبي، اقرأ يا محمد هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) [الأحزاب: الآية 43] فصلاتي رحمة لك ولأمتك، وأما أمر صاحبك يا محمد فإن أخاك موسى كان أنسه بالعصا، فلما أردنا كلامه قلنا وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ [طه: الآية 17- 18] وشغل بذكر العصا عن عظيم الهيبة، وكذلك أنت يا محمد لما كان أنسك بصاحبك أبي بكر خلقنا ملكا على صورته ينادي بلغته ليزول عنك الاستيحاش لما يلحقك من عظم الهيبة» .
أقول: لعل المراد خلقنا صورة على صورة صوته، لأنه ليس في الرواية أنه رأى ذلك الملك على صورة أبي بكر، وإنما سمع صوته والله أعلم.(1/566)
«ثم قال الله عز وجل: يا محمد وأين حاجة جبريل؟ فقلت: اللهم إنك أعلم؛ فقال يا محمد قد أجبته فيما سأل، ولكن فيمن أحبك وصحبك» .
أقول: لعل المراد بمن صحبك من كان تابعا لك في دينك عاملا بسنتك: أي وهو مراد جبريل بأمته صلى الله عليه وسلم في قوله أن أبسط جناحي لأمتك على الصراط، والله أعلم.
وفي رواية «إنه صلى الله عليه وسلم لما رأى الحق سبحانه وتعالى خر ساجدا، قال صلى الله عليه وسلم:
فأوحى الله عز وجل إليّ ما أوحى» .
وقد ذكر الثعلبي والقشيري في تفسير قوله تعالى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10)
[النّجم: الآية 10] أن من جملة ما أوحي إليه «إن الجنة حرام على الأنبياء حتى تدخلها يا محمد، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك» قال القشيري: وأوحي إليه «خصصتك بحوض الكوثر، فكلّ أهل الجنة أضيافك بالماء ولهم الخمر واللبن والعسل، ففرض عليّ خمسين صلاة في كل يوم وليلة» .
أقول: تقدم أن من جملة ما أوحي إليه في هذا الموطن من القرآن: خواتيم سورة البقرة، وبعض سورة الضحى، وبعض ألم نشرح، وقد تقدم ذلك عند الكلام على أنواع الوحي، وقدمنا أنه يضم لذلك هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ [الأحزاب:
الآية 43] الآية على ما تقدم.
هذا. وفي حديث رواته ثقات «لما وصلت إلى السماء السابعة، قال لي جبريل عليه السلام: «رويدا» أي قف قليلا «فإن ربك يصلي، قلت: أهو يصلي؟» وفي لفظ «كيف يصلي» وفي لفظ آخر «قلت: يا جبريل أيصلي ربك؟ قال نعم، قلت: وما يقول؟ قال: يقول: سبوح قدوس رب الملائكة والروح، سبقت رحمتي غضبي» ولا مانع من تكرر وقوع ذلك له صلى الله عليه وسلم من جبريل ومن غيره في السماء السابعة وفيما فوقها، لكن يبعد تعجبه صلى الله عليه وسلم من كونه عز وجل يصلي في المرة الثانية وما بعدها.
وورد أن بني إسرائيل سألوا موسى هل يصلي ربك؟ فبكى موسى عليه الصلاة والسلام لذلك، فقال الله تعالى: يا موسى ما قالوا لك؟ فقال: قالوا الذي سمعت، قال: أخبرهم أني أصلي، وأن صلاتي تطفئ غضبي، والله أعلم.
قال صلى الله عليه وسلم «فنزلت إلى موسى» أي وفي رواية «ثم انجلت تلك السحابة» أي عند وصوله إلى سدرة المنتهى الذي هو المحل الذي وقف فيه جبريل «فأخذ بيده جبريل فانصرف سريعا، فأتى على إبراهيم فلم يقل شيئا، ثم أتى على موسى وهذا يدل على ما هو المشهور في الروايات أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان في السابعة، وموسى كان في السادسة، لا على غير ما هو المشهور أن إبراهيم عليه الصلاة(1/567)
والسلام كان في السادسة وموسى كان في السابعة كما تقدم.
«ولما أتى إلى موسى عليه الصلاة والسلام قال له: ما فرض ربك عليك» أي وفي لفظ «بم أمرت؟ قال: خمسين صلاة، قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك، فإني بلوت بني إسرائيل وخبرتهم» أي وفي البخاري «إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، أي فإنه فرض عليهم صلاتان فما قاموا بهما: أي ركعتان بالغداة وركعتان بالعشي، وقيل فرض ركعتان عند الزوال: أي فما قاموا بذلك» .
وفي «تفسير البيضاوي» أن الذي فرض على بني إسرائيل خمسون صلاة في اليوم والليلة، وسيأتي ذكر ذلك في بعض الروايات.
ويرده قولهم: إن سبب طلب التخفيف أنه استكثر الخمس التي هي المرة الأخيرة فهو إنما يناسب ما تقدم.
ثم رأيت القاضي البيضاوي قال في تفسير قوله تعالى رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا [البقرة: الآية 286] أن من ذلك الإصر الذي كلفت به بنو إسرائيل خمسون صلاة في اليوم والليلة. وكتب عليه الجلال السيوطي في الحاشية أن كون بني إسرائيل كلفوا بخمسين صلاة في اليوم والليلة باطل وبسط الكلام على ذلك.
«ثم قال موسى فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك» أي وإنما كانت أمته مأمورة بما أمر به ومفروض عليها ما فرض عليه، لأن الفرض عليه صلى الله عليه وسلم فرض على أمته، والأمر له صلى الله عليه وسلم أمر لها، لأن الأصل أن ما ثبت فيه حق كل نبي ثبت في حق أمته إلا أن يقوم الدليل على الخصوصية.
قال «فرجعت إلى ربي أي انتهى إلى الشجرة فغشيته السحابة وخر ساجدا، فقلت: يا رب خفف عن أمتي فحط عني خمسا، فرجعت إلى موسى فقلت: حط عني خمسا قال: إن أمتك لا تطيق ذلك فارجع إلى ربك واسأله التخفيف، قال: فلم أزل أرجع بين ربي تبارك وتعالى وبين موسى صلى الله عليه وسلم، حتى قال الله تعالى: يا محمد إنهن خمس صلوات في كل يوم وليلة، لكل صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة، ومن همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرا، ومن همّ بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة، قال صلى الله عليه وسلم:
فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فقلت: قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه» أي وفي رواية «أنه وضع عنه عشر صلوات عشر صلوات إلى أن أمر بخمس صلوات» وجاء في الحديث «أكثروا من الصلاة على موسى، فما رأيت أحدا من الأنبياء أحوط على أمتي منه» .(1/568)
أقول في الوفاء أن رواية «وضعت خمس صلوات» من أفراد مسلم، ورواية «وضع عنه عشر صلوات» أصح، لأنه قد اتفق البخاري ومسلم عليها، والرواية التي فيها «حط خمسا خمسا» غلط من الرواة هذا كلامه فليتأمل.
والمتبادر من قوله «إلى أن أمر بخمس صلوات» أنه رفع التعلق بجميع الخمسين وأثبت تعلقا جديدا بخمس ليست من الخمسين، فالمنسوخ جميع الخمسين.
ويحتمل أنه رفع التعلق بجملة الخمسين مع اثبات التعلق بخمسة منها التي هي بعضها، فيكون المنسوخ ما عدا الخمس من الخمسين. قيل، وفي هذا وقوع النسخ قبل البلاغ. وقد اتفق أهل السنة والمعتزلة على منعه.
وردّ بأن هذا وقع بعد البلاغ بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم، لأنه كلف بذلك ثم نسخ، فقد قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري رحمه الله تعالى: وما قيل إن الخمس في ليلة الإسراء ناسخة للخمسين إنما هو في حقه صلى الله عليه وسلم لبلوغه له، لا في حق الأمة: أي لعدم بلوغه لهم، هذا كلامه. وإذا نسخ في حقه صلى الله عليه وسلم نسخ في حق أمته كما هو الأصل إلا أن تثبت الخصوصية بدليل صحيح، وهذا يردّ ما في الخصائص الصغرى للسيوطي رحمه الله تعالى، من أن وجوب الخمسين لم ينسخ في حقه صلى الله عليه وسلم، وإنما نسخ في حق الأمة، ولعل مستنده في ذلك رواية «فرض الله على أمتي ليلة الإسراء خمسين صلاة، فلم أزل أراجعه وأسأله التخفيف حتى جعلها خمسا في كل يوم وليلة» أي على الأمة كما هو المتبادر، وقول موسى عليه الصلاة والسلام له صلى الله عليه وسلم «إن أمتك لا تطيق ذلك» وربما يوافق ذلك قول الإمام السبكي في تائيته:
وقد كان ربّ العالمين مطالبا ... بخمسين فرضا كل يوم وليلة
فأبقيت أجر الكل ما اختل ذرة ... وخففت الخمسون عنا بخمسة
وفيه النسخ قبل التمكن من الفعل، وهو يردّ قول المعتزلة القائلين بأنه لا يجوز النسخ قبل التمكن من الفعل ودخول وقته.
والظاهر من الخمسين التي فرضت أولا أن كل صلاة من الخمس تكرر عشر مرات فما زاد الخمس مساو لها.
ويحتمل أن تكون صلوات أخر مغايرة لتلك الخمس، ولم أقف على بيان تلك الصلوات.
وعلى أن الخمسين لم تنسخ في حقه صلى الله عليه وسلم لم أقف على ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم صلاها ولا على كيفية صلاته صلى الله عليه وسلم لها، وإلى عروجه صلى الله عليه وسلم ورجوعه أشار صاحب الهمزية بقوله:(1/569)
وطوى الأرض سائرا والسموا ... ت العلا فوقها له إسراء
فصف الليلة التي كان للمختار ... فيها على البراق استواء
وترقى به إلى قاب قوسين ... وتلك السيادة القعساء
رتب تسقط الأماني حسرى ... دونها ما وراءهن وراء
وتلقى من ربه كلمات ... كل علم في شمسهن هباء
زاخرات البحار يغرق في قط ... رتها العالمون والحكماء
أي وطوى الأرض حالة كونه صلى الله عليه وسلم سائرا عليها إلى المدينة عند الهجرة كما طويت له صلى الله عليه وسلم قبل ذلك السموات العلا لما كان له صلى الله عليه وسلم فوقها إسراء: أي ليلة الإسراء إلى أن جاوزها جميعها في أسرع وقت، فصف تلك الليلة التي كان للمختار فيها على البراق استواء واستقرار، وصعد به ذلك البراق إلى مقدار قاب قوسين، وتلك الرتبة التي وصل إليها صلى الله عليه وسلم هي السعادة الثابتة التي لا يعتريها نقص ولا زوال، وهذه رتب تسقط دونها الأماني حسرى ذات إعياء وتعب ما قدامهن قدام، أي ليس بعدها من رتبة ينالها أحد غيره صلى الله عليه وسلم، وتلقى من ربه كلمات ما عداها بالنسبة إليها كالهباء، وهو ما يرى في ضوء الشمس، وبث سبحانه وتعالى إليه علوما لا يدرك العلماء والحكماء شذرة منها؛ وكونه صلى الله عليه وسلم صعد السموات على البراق يوافقه ما في حياة الحيوان.
إن قيل: لم عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء على البراق؛ ولم ينزل عند منصرفه عليه. فالجواب أنه عرج به إلى دار الكرامة ولم ينزل به عليه إظهارا لقدرة الله تعالى، هذا كلامه فليتأمل.
وتقدم عن الحافظ ابن كثير إنكار صعوده صلى الله عليه وسلم على البراق، وقد جاء «كان موسى أشدهم عليّ حين مررت عليه، وخيرهم إليّ حين رجعت، ونعم الصاحب كان لكم أي فإنه صلى الله عليه وسلم كما تقدم لما جاوزه عند الصعود بكى، فنودي ما يبكيك؟
قال: رب هذا غلام» أي لأنه صلى الله عليه وسلم كان حديث السن بالنسبة لموسى صلى الله عليه وسلم، هذا هو المناسب للمقام «بعثته بعدي، يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل من أمتي» وفي رواية «تزعم بنو إسرائيل» أي وهو يعقوب بن إسحاق عليهما الصلاة والسلام، ومعنى إسرائيل عبد الله، وقيل صفوة الله. وفي لفظ «تزعم الناس أنه أكرم على الله مني، ولو كان هذا وحده هان، ولكن معه أمته وهم أفضل الأمم عند الله تعالى» أي انضم إلى شرفه شرف أمته على سائر الأمم.
أقول: والغرض من هذا وما تقدم عنه عند مروره صلى الله عليه وسلم على قبره عليه الصلاة والسلام عند الكثيب الأحمر إظهار فضيلة نبينا صلى الله عليه وسلم وفضيلة أمته، بأنه أفضل الأنبياء(1/570)
وأمته بأنها أفضل الأمم. وفي رواية عن ابن عمر «كانت الصلاة خمسين، والغسل من الجنابة سبع مرات، وغسل الثوب من البول سبع مرات، ولم يزل صلى الله عليه وسلم يسأل حتى جعلت الصلاة خمسا، وغسل الجنابة مرة، وغسل الثوب من البول مرة» .
قال: وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رأيت ليلة أسري بي مكتوبا على باب الجنة: الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر، فقلت لجبريل:
ما بال القرض أفضل من الصدقة؟ قال: لأن السائل يسأل وعنده، والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة» انتهى. هذا والراجح عند أئمتنا أن درهم الصدقة أفضل من درهم القرض.
وبيان كون درهم القرض بثمانية عشر درهما أن درهم القرض بدرهمين من دراهم الصدقة كما جاء في بعض الروايات، ودرهم الصدقة بعشر تصير الجملة عشرين، ودرهم القرض يرجع للمقرض بدله وهو بدرهمين من عشرين يتخلف ثمانية عشر.
«وعرضت عليه صلى الله عليه وسلم النار، فإذا فيها غضب الله تعالى» أي نقمته «لو طرحت فيها الحجارة والحديد لأكلتهما» وفي هذه الرواية زيادة على ما تقدم، وهي «فإذا قوم يأكلون الجيف، فقال صلى الله عليه وسلم: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس» أي وتقدم «أنه صلى الله عليه وسلم رأى هؤلاء في الأرض وأن لهم أظفارا من حديد يخمشون بها وجوههم وصدورهم، ورآهم في السماء الدنيا، وأنهم يقطعون اللحم من جنوبهم فيلقمونه» ولينظر ما الحكمة في تكرير رؤية هؤلاء دون غيرهم من بقية أهل الكبائر الذين رآهم في الأرض وفي السماء الدنيا، ولعل الحكمة في ذلك المبالغة في الزجر عن الغيبة لكثرة وقوعها.
«ورأى فيها رجلا أحمر أرزق، فقال: من هذا يا جبريل؟ فقال: هذا عاقر الناقة» أي ولعل دخول الجنة وعرض النار عليه صلى الله عليه وسلم كان قبل أن تغشاه السحابة ويزج به في النور، ولا مانع من أن تعرض عليه النار وهو فوق السماء السابعة وهي في الأرض السابعة.
أقول: ونقل القرطبي في تفسيره عن الثعلبي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رأيت ليلة أسري بي إلى السماء تحت العرش سبعين مدينة كل مدينة مثل دنياكم هذه سبعين مرة مملوآت من الملائكة يسبحون الله عز وجل ويقدسونه، ويقولون في تسبيحهم: اللهم اغفر لمن شهد الجمعة» أي صلاتها «اللهم اغفر لمن اغتسل يوم الجمعة» أي لصلاتها، وهذا يفيد أن هذه التسمية أي تسمية ذلك اليوم بيوم الجمعة معروفة عند الملائكة وعنده صلى الله عليه وسلم، وهو يوافق ما قيل إن المسمى لها بذلك كعب بن لؤيّ كما تقدم، ويخالف ما سيأتي من أن تسمية(1/571)
ذلك اليوم بيوم الجمعة هداية من الله عز وجل للمسلمين بالمدينة، وأنه لما أرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلوها في ذلك اليوم لم يسمه بيوم الجمعة، بل اقتصر على قوله اليوم الذي يليه اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور لسبتهم، أي في أكثر الروايات، وإلا فقد رأيت السهيلي ذكر حديثا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه سمي ذلك اليوم بيوم الجمعة، ونصه «كتب صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير: أما بعد، فانظر اليوم الذي يليه اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور لسبتهم، فاجمعوا نساءكم وأبناءكم، فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة، فتقربوا إلى الله تعالى فيه بركعتين» فعلى أكثر الروايات يجوز أن يكون اخباره صلى الله عليه وسلم بذلك هنا: أي في قصة المعراج كان بعد التسمية وصلاة الجمعة، وعبر بهذه العبارة لكونها عرفت لهم، فيكون الذي سمعه من الملائكة يوم العروبة مثلا، والله أعلم.
قال «ورأى صلى الله عليه وسلم مالكا خازن النار، فإذا هو رجل عابس يعرف الغضب في وجهه، فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم أي بالسلام ثم أغلقت دونه» انتهى.
وفي الأصل: وفي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «وقد رأيتني: أي يخبر أنه صلى الله عليه وسلم رأى نفسه في جماعة من الأنبياء، فحانت الصلاة» أي حضرت إرادة الصلاة فأممتهم، أي صليت بهم إماما «قال قائل: يا محمد هذا مالك خازن النار فسلم عليه فبدأني بالسلام. قال: وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: ما لي لم آت لأهل سماء إلا رحبوا بي وضحكوا إلا غير واحد سلمت عليه فردّ عليّ السلام ورحب بي ودعا لي ولم يضحك لي؟ قال: ذلك مالك خازن النار، لم يضحك منذ خلق ولو ضحك لأحد لضحك إليك» انتهى.
أقول: وهذا السياق يدل على أن ضحك من لقيه من الأنبياء والملائكة في السموات له صلى الله عليه وسلم سقط من جميع روايات المعراج، إذ لم يذكر في شيء منها على ما علمت. ويدل على أن مالكا خازن النار وجده في السماء السابعة وأنه مرة بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالسلام، ومرة بدأه النبي صلى الله عليه وسلم بالسلام، والمناسب أن يكون في المرة الأولى هو الذي بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالسلام وهو عند الباب. ثم رأيت الطيبي صرح بذلك حيث قال: إنما بدأ خازن النار بالسلام عليه، ليزيل ما استشعر من الخوف منه، لما ذكر من أنه رأى رجلا عابسا يعرف الغضب في وجهه، فلا ينافيه ما ذكره السهيلي من أنه صلى الله عليه وسلم لم يره على الصورة التي يراه عليها المعذبون في الآخرة، ولو رآه عليها لم يستطع أن ينظر إليه.
وقوله صلى الله عليه وسلم «لم آت أهل سماء إلى آخره» قد يعارضه ما جاء «أنه صلى الله عليه وسلم، قال لجبريل: ما لي لم أر ميكائيل ضاحكا؟ قال: ما ضحك منذ خلقت النار» وفيه أن هذا يفيد أن ميكائيل كان موجودا قبل خلق النار وإيجادها، وهذا لا ينافي أن ميكائيل(1/572)
ضحك بعد ذلك، فقد جاء «أنه صلى الله عليه وسلم تبسم في الصلاة، فسأل عن ذلك، فقال: رأيت ميكائيل راجعا من طلب القوم، أي يوم بدر، وعلى جناحه الغبار فضحك إليّ فتبسمت إليه» .
ولعل هذا كان بعد ما أخرجه أحمد في مسنده عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه قال لجبريل: إني لم أر ميكائيل ضاحكا قط، قال:
ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار» ومما يدل على أن جبريل عليه الصلاة والسلام خلق قبل النار أيضا ما في مسند أحمد عن أنس بن مالك، قال: قال صلى الله عليه وسلم لجبريل «لم تأتني إلا رأيتك صارّا بين عينيك، قال: إني لم أضحك منذ خلقت النار» وهذا مع ما تقدم من رؤية الجنة والنار يردّ على الجهمية وبعض المعتزلة كعبد الجبار وأبي هاشم، حيث زعموا أن الله تعالى لم يخلق الجنة والنار، وأنهما ليستا موجودتين الآن، وإنما يخلقهما سبحانه وتعالى يوم الجزاء، مستدلين بأنه لا يحسن من الحكيم أن يخلق الجنة دار النعمة والنار دار النقمة قبل خلق أهلهما، وبأنهما لو كانا مخلوقتين في السماء والأرض لفنيا بفنائهما.
وأجيب عن الأول بأنه يحسن من الحكيم خلقهما قبل يوم الجزاء، لأن الإنسان إذا علم ثوابا مخلوقا اجتهد في العبادة لتحصيل ذلك الثواب، وإذا علم عقابا مخلوقا اجتهد في اجتناب المعاصي لئلا يصيبه ذلك العقاب، فليتأمل.
وأجيب عن الثاني بأن الله استثناهما من قوله تعالى فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [الزمر: الآية 68] .
وفيه أن هذه صعقة الموت، ولا يتصف بالموت غير ذي الروح، ولأن الجنة كما قيل ليست في السماء السابعة بل فوقها، والنار ليست في الأرض السابعة بل تحتها، وحينئذ يكون القول بأن الجنة في السماء السابعة والنار في الأرض السابعة فيه تجوّز والله أعلم.
قال: واختلف في رؤيته صلى الله عليه وسلم لربه تبارك وتعالى تلك الليلة فأكثر العلماء على وقوع ذلك: أي أنه صلى الله عليه وسلم رآه عز وجل بعين رأسه. واستدل له بحديث «رأيت ربي في أحسن صورة» . وردّ بأن هذا الحديث مضطرب الإسناد والمتن.
وقد قال بعض العارفين: شاهد الحق سبحانه وتعالى القلوب فلم ير قلبا أشوق إليه من قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فأكرمه بالمعراج تعجيلا للرؤية والمكالمة، وأنكرتها عائشة رضي الله تعالى عنها. وقالت: من زعم أن محمدا رأى ربه أي بعين رأسه فقد أعظم الفرية على الله عز وجل، أي أتى بأعظم الافتراء والكذب على الله عز وجل، ووافقها على ذلك من الصحابة ابن مسعود وأبو هريرة رضي الله تعالى عنهما وجمع من العلماء.(1/573)
ونقل عن الدارمي الحافظ أنه نقل اجماع الصحابة على ذلك ونظر فيه. وذهب إلى الرؤية: أي المذكورة أكثر الصحابة وكثير من المحدثين والمتكلمين، بل حكى بعض الحفاظ على وقوع الرؤية له بعين رأسه الإجماع، وإلى ذلك يشير صاحب الأصل بقوله:
ورآه وما رآه سواه ... رؤية العين يقظة لا المرائي
واحتجت عائشة رضي الله تعالى عنها على منع الرؤية بقوله تعالى لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: الآية 103] قال: وروي أن مسروقا قال لها: ألم يقل الله عز وجل وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) [النّجم: الآية 13] أي مرة أخرى، أي بناء على أن الضمير المستتر له صلى الله عليه وسلم والبارز له سبحانه وتعالى؛ فقالت: أنا أوّل هذه الأمة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ فقال: إنما رأيت جبريل منهبطا: أي فالضمير البارز إنما هو لجبريل.
وفي رواية قال لها: «ذاك جبريل، لم أره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين: أي مرة في الأرض ومرة في السماء» في هذه الليلة كما تقدم، وعلى ظاهر الآية: أي من جعل الضمير المستتر له صلى الله عليه وسلم والبارز له سبحانه وتعالى، وقطع النظر عن هذه الرواية التي جاءت عن عائشة رضي الله تعالى عنها يلزم أن يكون صلى الله عليه وسلم رأى الحق سبحانه وتعالى ليلة المعراج مرتين: مرة في قاب قوسين، ومرة عند سدرة المنتهى، ولا مانع من ذلك، ولعل ذلك هو المعنيّ بقول الخصائص الصغرى: وخص صلى الله عليه وسلم برؤيته للباري عز وجل مرتين، وفيها:
وجمع له بين الكلام والرؤية، وكلمه عند سدرة المنتهى، وكلم موسى بالجبل.
قال بعضهم: يجوز أنه صلى الله عليه وسلم خاطب عائشة رضي الله تعالى عنها بما ذكر أي بقوله: إنما رأيت جبريل إلى آخره على قدر عقلها أي في ذلك الوقت انتهى، وأيد قولها بما روي عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه «قلت: يا رسول الله هل رأيت ربك؟
قال: رأيت نورا» أي حجبني ومنعني عن رؤيته عز وجل، ومن ثم جاء في رواية «نور أني أراه؟» أي كيف أراه مع وجود النور، لأن النور إذا غشي البصر حجبه عن رؤية ما وراءه، أي وليس المراد أنه سبحانه وتعالى هو النور المرئي له خلافا لمن فهم ذلك، وأيده بما روي «نوراني» أي لأن هذه الرواية كما قيل تصحيف، ومن ثم قال القاضي عياض: لم أرها في أصل من الأصول، ومحال أن تكون ذاته تعالى نورا لأن النور من جملة الأعراض: أي لأنه كيفية تدركها الباصرة أولا وبواسطة تلك الكيفية تدرك سائر المبصرات كالكيفية الفائضة من النيرين على الاجرام الكثيفة المحاذية لهما، والله تعالى يتعالى عن ذلك، أي فحجابه تعالى النور كما رواه مسلم:
أي ومن ثم قيل في قوله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النور: الآية 35] أي ذو نور، أو هو على المبالغة: أي وجاء «رأيته في صورة شاب أمرد عليه حلة خضراء دونه ستر من لؤلؤ» وجاء «رأيت ربي في أحسن صورة» قال الكمال بن الهمام: إن(1/574)
كان المراد به رؤية اليقظة فهو حجاب الصورة.
قال: وقيل رآه بفؤاده مرتين لا بعيني رأسه؛ فعن بعض الصحابة «قلنا: يا رسول الله هل رأيت ربك؟ قال: لم أره بعيني، رأيته بفؤادي مرتين، ثم تلا ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) [النّجم: الآية 8] الآية» وهذا السياق يدل على أن فاعل دَنا فَتَدَلَّى لحق سبحانه وتعالى، والمراد بالفؤاد القلب: أي خلقت الرؤية في القلب، أو خلق الله لفؤاده بصرا رأى به انتهى.
أقول: وكون الفؤاد له بصر واضح، لقوله تعالى ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) [النّجم: الآية 17] . وأجيب عما احتجت به عائشة رضي الله عنها من قوله تعالى لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: الآية 103] بأنه لا يلزم من الرؤية الإدراك: أي الذي هو الإحاطة، فالنور إنما منع من الإحاطة به لا من أصل الرؤية. وقد قال بعضهم للإمام أحمد: بأي معنى تدفع قول عائشة رضي الله تعالى عنها: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله تعالى الفرية؟ فقال: يدفع بقول النبي صلى الله عليه وسلم «رأيت ربي» وقول النبي صلى الله عليه وسلم أكبر من قولها.
هذا، وقد قال أبو العباس بن تيمية: الإمام أحمد إنما يعني رؤية المنام، فإنه لما سئل عن ذلك، قال نعم رآه؟ فإن رؤيا الأنبياء حق، ولم يقل إنه رآه بعين رأسه يقظة، ومن حكى عنه ذلك فقد وهم، وهذه نصوصه موجودة ليس فيها ذلك.
أقول: وفيه أنه يبعد أن يكون الإمام أحمد يفهم عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها تنكر رؤيا المنام حتى يردّ عليها، وقد ضعف حديث أبي ذر المتقدم، وهو «قلت يا رسول الله رأيت ربك؟ فقال: نوراني أراه؟» وهو من جملة الأحاديث التي في مسلم التي نظر فيها والله أعلم.
قال أبو العباس بن تيمية: وأهل السنة متفقون على أن الله عز وجل لا يراه أحد بعينه في الدنيا لا نبي ولا غير نبي، ولم يقع النزاع إلا في نبينا صلى الله عليه وسلم خاصة، مع أن أحاديث المعراج المعروفة ليس في شيء منها أنه رآه، وإنما روي ذلك بإسناد موضوع باتفاق أهل الحديث.
وفي صحيح مسلم وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت وقد سأله موسى الرؤية فمنعها» .
وقد نقل القرطبي عن جماعة من المحققين القول بالوقف في هذه المسألة، لأنه لا دليل قاطع وغاية ما استدل به الفريقان ظواهر متعارضة قابلة للتأويل، وهو من المعتقدات، فلا بد فيها من الدليل القطعي هذا كلامه.
ونازع فيه السبكي بأنه ليس من المعتقدات التي يشترط فيها الدليل القطعي،(1/575)
وهي التي تكلف باعتقادها كالحشر والنشر، بل من المعتقدات التي يكتفى فيها بخبر الآحاد الصحيح، وهي التي لم نكلف باعتقادها. كما نحن فيه.
وفي الخصائص الصغرى: وخص صلى الله عليه وسلم برؤيته من آيات ربه الكبرى وحفظه، حتى ما زاغ البصر وما طغى، وبرؤيته للباري مرتين.
وفي كلام بعضهم قال العلماء في قوله تعالى لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18) [النّجم: الآية 18] رأى صورة ذاته المباركة في الملكوت، فإذا هو عروس المملكة.
وفي كلام ابن دحية: خص صلى الله عليه وسلم بألف خصلة، منها الرؤية والدنوّ والقرب. قال بعضهم: قد صحت الأحاديث عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في إثبات الرؤية، وحينئذ يجب المصير إلى إثباتها، ولا يجترئ أحد أن يظن في ابن عباس أن يتكلم في هذه المسألة بالظن والاجتهاد.
قال الإمام النووي: والراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعين رأسه، أي وأما رؤيته عز وجل يوم القيامة في الموقف فعامة لكل أحد من الخلق الإنس والجن من الرجال والنساء، المؤمن والكافر، والملائكة جبريل وغيره.
وأما رؤيته عز وجل في الجنة، فقيل لا تراه الملائكة، وقيل يراه منهم جبريل خاصة مرة واحدة. قال بعضهم: وقياس عدم رؤية الملائكة عدم رؤية الجن ورد ذلك.
واختلف في رؤية النساء من هذه الأمة له تعالى في الجنة، فقيل لا يرينه لأنهن مقصورات أي محبوسات في الخيام. وقيل يرينه في أيام الأعياد دون أيام الجمع بخلاف الرجال فإنهم يرونه في كل يوم جمعة.
فقد جاء «أنه تعالى يتجلى في مثل عيد الفطر ويوم النحر لأهل الجنة تجليا عاما» ومن أهل الجنة مؤمنو الجن على الراجح.
وجاء «إن كل يوم كان للمسلمين عيدا في الدنيا فإنه عيد لهم في الجنة، يجتمعون فيه على زيارة ربهم، ويتجلى لهم فيه، ويدعي يوم الجمعة في الجنة بيوم المزيد» قال بعضهم: هذا لعموم أهل الجنة، وأما خواصهم فكل يوم لهم عيد يرون ربهم فيه بكرة وعشيا.
وأما رؤية الله عز وجل في النوم، ففي الخصائص الصغرى: ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه يجوز له رؤية الله وعز وجل في المنام ولا يجوز ذلك لغيره صلى الله عليه وسلم في أحد القولين، وهو اختياري، وعليه أبو منصور الماتريدي. وفي كلام الإمام النووي قال القاضي عياض: اتفق العلماء على جواز رؤية الله تعالى في المنام وصحتها: أي وقوعها قال:
وإن رآه حينئذ إنسان على صفة لا تليق بجلاله من صفات الأجساد لأن ذلك المرئي(1/576)
غير ذات الله تعالى والله أعلم.
ثم لا يخفى أن أكثر العلماء على أن الإسراء إلى بيت المقدس ثم المعراج إلى السماء كانا في ليلة واحدة، أي وقيل كان الإسراء وحده في ليلة، ثم كان هو والمعراج في ليلة أخرى.
قال: وقد جاء «أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل إلى سماء الدنيا نظر إلى أسفل منه، فإذا هو برهج ودخان وأصوات، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذه الشياطين يحومون على أعين بني آدم لا يتفكرون» أي وذلك مانع لهم من التفكر في ملكوت السموات والأرض أي لعدم نظرهم للعلامات الموصلة لذلك «لولا ذلك لرأوا العجائب» أي أدركوها.
«ثم ركب صلى الله عليه وسلم البراق منصرفا» أي بناء على أنه لم يعرج على البراق «فمرّ بعير لقريش» إلى آخر ما تقدم انتهى.
أقول: ذكر بعضهم أن مما نزل عليه صلى الله عليه وسلم بين السماء والأرض أي عند نزوله من السماء قوله تعالى وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) [الصّافات: الآية 164] الآيات الثلاث، وقوله تعالى وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا [الزّخرف: الآية 45] الآية، والآيتان من آخر سورة البقرة، وتقدم أنهما نزلتا بقاب قوسين، والله أعلم.
واستدل على أن كلا من الإسراء والمعراج كان يقظة بجسده صلى الله عليه وسلم وروحه بقوله تعالى سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء: الآية 1] لأن العبد حقيقة هو الروح والجسد قال تعالى أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) [العلق: الآيتان 9 و 10] وقال وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجنّ: الآية 19] ولو كان الإسراء مناما لقال بروح عبده، ولأن الدواب التي منها البراق لا تحمل الأرواح، وإنما تحمل الأجساد.
واستدل على أن الرؤية كانت بعين بصره صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) [النّجم: الآية 17] لأن وصف البصر بعدم الإزاغة يقتضي أن ذلك يقظة، ولو كانت الرؤية قلبية لقال ما زاغ قلبه.
أقول: فيه أن لقائل أن يقول: يجوز أن يكون المراد بالبصر بصر قلبه، لما تقدم أن الله تعالى خلق لقلبه بصرا، والله أعلم.
وقيل كان الإسراء بجسده، والمعراج بروحه الشريفة، أي بذاتها عرج بها حقيقة من غير إماتة للجسد، وكان حالها في ذلك أرقى منه كحالها بعد مفارقتها لجسدها بموته في صعودها في السموات حتى بين يدي الله تعالى، وهذا أمر فوق ما يراه النائم وغيره صلى الله عليه وسلم، لا تنال ذات روحه الصعود إلا بعد الموت لجسدها. قيل ومن ثم لم يشنع كفار قريش إلا أمر الإسراء دون المعراج.(1/577)
أقول: الظاهر أن إخباره صلى الله عليه وسلم بالمعراج لم يكن عند إخباره بالإسراء، بل تأخر عن إخباره بالإسراء بناء على أنهما كان في ليلة واحدة، وإلا فقد ذكر بعضهم أن المعراج لم يكن ليلة الإسراء الذي أخبر به كفار قريش قال: إذ لو كان أي في تلك الليلة لأخبر به حين أخبرهم بالإسراء، أي ولم يخبر به حينئذ، إذ لو أخبر به حينئذ لنقل، ولذكره سبحانه تعالى مع الإسراء، لأن المعراج أبلغ في المدح والكرامة وخرق العادة من الإسراء إلى المسجد الأقصى.
وأجيب عنه بأنه على تسليم أنه كان في ليلة الإسراء الذي أخبر به قريشا هو صلى الله عليه وسلم استدرجهم إلى الإيمان بذكر الإسراء أولا، فلما ظهرت لهم امارات صدقه على تلك الآية الخارقة التي هي الإسراء أخبرهم بما هو أعظم منها وهو المعراج بعد ذلك: أي وحيث أخبرهم بذلك لم ينكروه لذلك أي لثبوت صدقه صلى الله عليه وسلم فيما ادعاه من الإسراء.
وتقدم عن المواهب أنهم لم يسألوه عن علامات تدل على صدقه صلى الله عليه وسلم في ذلك، لعدم علمهم ومعرفتهم بشيء في السماء، والحق سبحانه وتعالى أرشده إلى ذلك: أي إلى أن يخبرهم بالإسراء أولا ثم بالمعراج ثانيا، حيث لم ينزل قصة المعراج في سورة الإسراء» بل أنزل ذلك في سورة النجم.
ومما يؤيد أنهما كانا في ليلة واحدة قول الإمام البخاري في صحيحه «باب كيف فرضت الصلاة ليلة الإسراء» لأن من المعلوم أن فرض الصلاة: أي الصلوات الخمس إنما هو في المعراج.
وأما افراده كلا من الإسراء والمعراج بترجمة فلا يخالف ذلك، لأنه إنما أفرد كلا منهما بترجمة، لأن كلا منهما يشتمل على قصة منفردة وإن كانا وقعا معا.
وقد خالف الحافظ الدمياطي في سيرته، فذكر أن المعراج كان في رمضان، والإسراء كان في ربيع الأول، والله أعلم.
وقيل الإسراء وقع له صلى الله عليه وسلم أي بعد البعثة مرتين مناما أولا ويقظة ثانيا أي فكانت مرة المنام توطئة وتبشيرا لوقوعه يقظة، وبذلك يجمع بين الاختلاف الواقع في الأحاديث، أي فبعض الرواة خلط الواقع له صلى الله عليه وسلم مناما بالواقع له صلى الله عليه وسلم يقظة.
وعلى هذا لا يشكل قول شريك: فلما استيقظت، لكنه قال إن مرة المنام كانت قبل البعثة، ففي رواية «وذلك قبل أن يوحى إليّ» وقد أنكر الخطابي عليه ذلك، وعدّه من جملة أوهامه الواقعة في حديث الإسراء والمعراج. ورد على الخطابي الحافظ ابن حجر في ذلك بما ينبغي الوقوف عليه.
وقيل كان المعراج يقظة، ولم يكن ليلا، ولم يكن من بيت المقدس، بل كان من مكة وكان نهارا، فقد جاء «أنه صلى الله عليه وسلم كان يسأل ربه عز وجل أن يريه الجنة والنار،(1/578)
فلما كان نائما ظهرا أتاه جبريل وميكائيل، فقالا: انطلق إلى ما سألت الله تعالى، فانطلقا بي إلى ما بين المقام وزمزم، فأتي بالمعراج، فإذا هو أحسن شيء منظرا فعرجا بي إلى السموات سماء سماء» الحديث. ولا يخفى أن سياق هذا الحديث يدل على أن ذلك كان مناما، فلا يحسن أن يكون دليلا على قوله يقظة.
وقد جاء عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «فرج سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل ففرج صدري، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا فأفرغهما في صدري، ثم أخذ بيدي فعرج إلى السماء» الحديث. وقد يدعى أن في رواية أبي ذر اختصارا وليس فيها أن ذلك كان مناما أو يقظة.
أي وأما ما ادعاه بعضهم أن المعراج تكرر يقظة فغريب: إذ كيف يتكرر يقظة سؤال أهل كل باب من أبواب السماء هل بعث إليه، وكيف يتكرر سؤاله صلى الله عليه وسلم عن كل نبي، وكيف يتكرر فرض الصلوات الخمس والمراجعة، وأما مناما فلا بعد في تكرر ذلك توطئة لوقوعه يقظة أي وهذا منشأ اختلاف الروايات، أدخل بعض الرواة ما وقع في المنام ما وقع في اليقظة كما تقدم نظيره في الإسراء، وتعدد روايات الإسراء لا يقتضي تعدده في اليقظة خلافا لمن زعمه. ومن ثم قال الحافظ ابن كثير: من جعل كل رواية خالفت الأخرى مرة على حدة، فأثبت إسراآت متعددة فقد أبعد وأغرب، أي فالحق أنه إسراء واحد بروحه وجسده صلى الله عليه وسلم يقظة، وذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم. وذكر بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم كان له إسراآت أربعة وعشرون مرة، وقيل ثلاثون مرة، منها مرة واحدة بروحه وجسده يقظة، والباقي بروحه، رؤيا رآها: أي ومن ذلك ما وقع له صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد الهجرة، وهو محمل قول عائشة رضي الله تعالى عنها: ما فقدت جسده الشريف.
وفي صبيحة ليلة المعراج أي حين زالت الشمس من اليوم الذي يلي الليلة التي فرضت فيها الصلوات الخمس كان نزول جبريل عليه الصلاة والسلام وإمامته بالنبي صلى الله عليه وسلم، ليعلمه أوقات الصلوات أي وكيفيتها أي لأنه لا يلزم من علمه صلى الله عليه وسلم بكيفية صلاة الركعتين وصلاة قيام الليل علم كيفية الصلوات الخمس وإن قلنا بأن الرباعية منها فرضت ركعتين، فأمر صلى الله عليه وسلم فصيح بأصحابه الصلاة جامعة، فاجتمعوا فصلى به صلى الله عليه وسلم جبريل وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس فسميت تلك الصلاة الظهر، لأنها أول صلاة ظهرت، أو لأنها فعلت عند قيام الظهيرة: أي شدة الحر أو عند نهاية ارتفاع الشمس، وهذا الحديث ظاهر بأن صلاته صلى الله عليه وسلم بالناس كانت بعد صلاته مع جبريل محتمل لأن يكون صلى الله عليه وسلم صلى بصلاة جبريل والناس صلوا بصلاته صلى الله عليه وسلم.
ففي بعض الروايات «لما نودي بالصلاة جامعة فزعوا لذلك واجتمعوا فصلى(1/579)
بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر أربع ركعات لا يقرأ فيهن علانية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدي الناس، وجبريل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتدي الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقتدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبريل، ثم يصلي كذلك في العصر. ولما غابت الشمس صلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب ثلاث ركعات، يقرأ في الركعتين علانية، وركعة لا يقرأ فيها علانية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدي الناس، وجبريل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبريل» .
وفي كلام الإمام النووي قوله إن جبريل نزل فصلى إمام رسول الله صلى الله عليه وسلم هو بكسر الهمزة، ويوضحه قوله في الحديث «نزل جبريل فأمني» واستدل بذلك بعضهم على جواز الاقتداء بمن هو مقتد بغيره، لا كما يقوله أئمتنا من منع ذلك.
وأجيب عنه من جانب أئمتنا، بأن معنى كونه صلى الله عليه وسلم مقتديا بجبريل أنه متابع له في الأفعال من غير نية اقتداء ولا إيقاف فعله على فعل جبريل، فلا يشكل على أئمتنا نعم هذا حينئذ يشكل على أئمتنا القائلين بأنه لا بد من علم كيفية الصلاة قبل الدخول فيها، ولا يكفي علمها بالمشاهدة.
وقد يجاب بأنه يجوز أن يكون جبريل عليه الصلاة والسلام علمه صلى الله عليه وسلم كيفيتها بالقول ثم اتبع القول بالفعل، وهو صلى الله عليه وسلم علم أصحابه كذلك.
وبما تقرر يسقط الاستدلال بذلك على جواز الفرض خلف النفل، لأن تلك الصلاة لم تكن واجبة على جبريل، لأن الملائكة ليسوا مكلفين بذلك.
وأجيب بأنها كانت واجبة على جبريل، لأنه مأمور بتعليمها له صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا، وكان ذلك عند البيت: أي الكعبة مستقبلا بيت المقدس أي صخرته، واستقباله صلى الله عليه وسلم لبيت المقدس. قيل كان باجتهاد منه، وقيل كان بأمر من الله تعالى له، قيل بقرآن وقيل بغيره أي وعلى أنه بقرآن يكون مما نسخت تلاوته: وقد قال أئمتنا: ونسخ قيام الليل بالصلوات الخمس إلى بيت المقدس كما تقدم، وكان صلى الله عليه وسلم إذا استقبل بيت المقدس يجعل الكعبة بينه وبينه، فيصلي بين الركن اليماني وركن الحجر الأسود، أي كما صلى به جبريل الركعتين أوّل البعث كما تقدم.
وحينئذ لا يخالف هذا قول بعضهم: لم يزل صلى الله عليه وسلم يستقبل الكعبة حتى خرج منها: أي من مكة: أي لم يستدبرها، فلما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة استقبل بيت المقدس:
أي تمحض استقباله واستدبر الكعبة. وظاهر إطلاقهم أن هذا: أي استقباله بيت المقدس، وجعل الكعبة بينه وبينه كان شأنه صلى الله عليه وسلم غالبا، وإن صلى خارج المسجد بمكة ونواحيها.
والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك أدبا لا وجوبا، وإلا فقد جاء أن صلاة جبريل(1/580)
به صلى الله عليه وسلم كانت عند باب الكعبة كما رواه إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه في الأم.
وروى الطحاوي عند باب البيت مرتين، أي وذلك في المحل المنخفض الذي تسميه العامة المعجنة كما تقدم، وصلاته صلى الله عليه وسلم عند باب الكعبة في المحل المذكور لبيت المقدس لا يكون مستقبلا للكعبة، بل تكون على يساره، لأن لا يتصور أن يستقبل بيت المقدس ويكون مستقبلا للكعبة أيضا إلا إذا صلى بين اليمانيين كما تقدم.
وأيضا ذكر بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم كان يسجد نحو بيت المقدس ويجعل الكعبة وراء ظهره وهو بمكة أي في بعض الأوقات حتى لا يخالف ما سبق أنه صلى الله عليه وسلم كان يستقبلها مع استقباله لبيت المقدس.
ولا ينافي ذلك ما في زبدة الأعمال: أقام صلى الله عليه وسلم بعد نزول جبريل ثلاث عشرة سنة، وكان يصلي إلى بيت المقدس مدة إقامته بمكة، يجعلها: أي الكعبة بين يديه ولا يستدبرها لإمكان حمل مدة اقامته على غالبها.
ومما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم مع الصحابة كانوا يصلون إلى بيت المقدس وهم بمكة، ما سيأتي عن البراء بن معرور «أنه لما عدل عن استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة قبل أن يهاجر صلى الله عليه وسلم وسأله عن ذلك، قال له: قد كنت على قبلة لو صبرت عليها» .
وأم به صلى الله عليه وسلم جبريل مرتين: مرة أوّل الوقت ومرة آخر الوقت لكن الوقت الاختياري بالنسبة للعصر والعشاء والصبح لا الآخر الحقيقي ليعلمه الوقت: أي ولما جاءه صلى الله عليه وسلم جبريل أمر فصيح بأصحابه الصلاة جامعة، كما تقدم، أي لأن الإقامة المعروفة للصلوات الخمس لم تشرع إلا بالمدينة على ما تقدم وسيأتي.
قال: فقد جاء «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذا جبريل جاء يعلمكم دينكم وصلى به في أول يوم الظهر حين زالت الشمس» كما تقدم، أي عقب زوالها، وصلى به العصر حين صار ظل كل شيء مثله، أي زيادة على ظل الاستواء أو على الظل الحاصل عقب الزوال، وصلى به المغرب حين أفطر الصائم: أي دخل وقت فطره وهو غروب الشمس. وصلى به العشاء حين غاب الشفق. وصلى به أي في غد ذلك وهو اليوم الثاني الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم أي حين دخل وقت حرمة ذلك وهو الفجر.
أي فإن قيل صلاة جبريل به صلى الله عليه وسلم حينئذ لم يكن الصوم الذي هو رمضان فرض.
أجيب بأنه على تسليم أنه لم يفرض عليه صوم قبل رمضان وهو صوم عاشوراء وثلاث أيام من كل شهر على ما سيأتي، جاز أن يكون اخباره صلى الله عليه وسلم بهذه العبارة كان(1/581)
بعد فرض رمضان «وصلى به الظهر حين كان ظل الشيء مثله. وصلى به العصر حين كان ظلّ الشيء مثليه. وصلى به المغرب حين أفطر الصائم. وصلى به العشاء ثلث الليل الأول. وصلى به الفجر، أي في اليوم الثالث فأسفر، ثم التفت وقال: يا محمد هذا وقتك ووقت الأنبياء من قبلك والوقت ما بين هذين الوقتين» اهـ.
وأما رواية صلى بي الظهر إلى أن قال وصلى بي الفجر، فلما كان الغد صلى بي الظهر المقتضي ذلك، لأن يكون الفجر ليس من اليوم الثاني بل من تتمة ما قبله.
ففيه دليل على أن اليوم من طلوع الشمس كما يقول الفلكيون، أي ولا يخفى أن قوله «والوقت ما بين هذين الوقتين» محمول عند إمامنا الشافعي رضي الله عنه على الوقت الاختياري بالنسبة للعصر والعشاء والفجر، وإلا فوقت العصر لا يخرج إلا بغروب الشمس، ووقت العشاء لا يخرج إلا بطلوع الفجر، ووقت الصبح لا يخرج إلا بطلوع الشمس خلافا للإصطخري حيث ذهب إلى خروج وقت العصر بمصير ظل الشيء مثليه، والعشاء بثلث الليل، والصبح بالإسفار متمسكا بظاهر الحديث. والبداءة بالظهر هو ما عليه أكثر الروايات. وروي «أن البداءة كانت بالصبح عند طلوع الفجر» وعلى الأول إنما لم تقع البداءة بالصبح مع أنها أول صلاة تحضر بعد ليلة الإسراء لأن الإتيان بها يتوقف على بيان علم كيفيتها المعلق عليه الوجوب كأنه قيل أوجبت عليه حيثما تبين كيفيته في وقته والصبح لم تتبين كيفيتها في وقتها فلم تجب. فلا يقال: هذا من تأخير البيان عن وقت الحاجة.
وأجاب الإمام النووي بأنه حصل التصريح بأن أول وجوب الخمس من الظهر، كأنه قيل أوجبت ما عدا صلاة الصبح يوم هذه الليلة، فعدم وجوبها ليس لعدم علم كيفيتها فهي غير واجبة وإن فرض علم كيفيتها.
وفيه أنه يلزم حينئذ أن الخمس صلوات في اليوم والليلة لم توجد إلا فيما عدا ذلك اليوم وليلته. قال أبو بكر بن العربي: ظاهر قوله «هذا وقتك ووقت الأنبياء من قبلك» أن هذه الصلوات في هذه الأوقات كانت مشروعة لكل واحد من الأنبياء قبله وليس كذلك، وإنما معناه أن وقتك هذا المحدود الطرفين مثل وقت الأنبياء قبلك فإنه كان محدود الطرفين، وإلا فلم تكن هذه الصلوات الخمس على هذه المواقيت إلا لهذه الأمة خاصة وإن كان غيرهم قد شاركهم في بعضها أي فقد جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها «أن آدم لما تيب عليه كان ذلك عند الفجر، فصلى ركعتين فصارت الصبح. وفدي إسحاق عند الظهر» أي على القول بأنه الذبيح، فصلى أربع ركعات فصارت الظهر، وبعث عزير فقيل له كم لبثت؟ قال لبثت يوما فلما رأى الشمس قريبة من الغروب، قال أو بعض يوم، فصلى أربع ركعات فصارت العصر.
وغفر لداود عند المغرب أي الغروب فقام يصلي أربع ركعات فجهد أي تعب فجلس(1/582)
في الثالثة أي سلم منها فصارت المغرب ثلاثا، وأول من صلى العشاء الآخرة نبينا صلى الله عليه وسلم، فصلاتها من خصائصه.
وفي شرح مسند إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه للإمام الرافعي رحمه الله تعالى: كانت الصبح صلاة آدم. والظهر صلاة داود، أي فقد اشترك داود وإسحاق في صلاة الظهر. والعصر صلاة سليمان أي فقد اشترك سليمان وعزير في صلاة العصر. والمغرب صلاة يعقوب، أي فقد اشترك يعقوب وداود في صلاة المغرب.
والعشاء صلاة يونس وأورد في ذلك خبرا وعليه فليست صلاة العشاء من خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم. والأصل أن ما ثبت في حق نبيّ ثبت في حق أمته إلا أن يقوم الدليل على الخصوصية، فليست من خصائص هذه الأمة.
وذكر بعضهم أن المغرب كانت صلاة عيسى، أي وكانت أربعا: ركعتين عن نفسه وركعتين عن أمه؛ أي فقد اشترك عيسى ويعقوب وداود في صلاة المغرب.
وفي كلام بعضهم: أوّل من صلى الفجر آدم، والظهر إبراهيم، أي وعليه فقد اشترك إبراهيم وإسحاق وداود في صلاة الظهر. وأوّل من صلى العصر يونس، أي وعليه فقد اشترك سليمان وعزير ويونس في صلاة العصر. وأوّل من صلى المغرب عيسى. وأول من صلى العتمة التي هي العشاء موسى، أي وعليه فقد اشترك موسى ويونس ونبينا صلى الله عليه وسلم في صلاة العشاء.
وفي الخصائص الكبرى: خص صلى الله عليه وسلم بأنه أوّل من صلى العشاء، ولم يصلها نبي قبله، ومن لازمه أنه لم يصلها أحد من الأمم. وقد جاء التصريح به في بعض الروايات «إنكم فضلتم بها» أي العشاء «على سائر الأمم» وعليه فهي من خصائصنا ومن خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم عند بناء الكعبة أن جبريل صلى بإبراهيم صلى الله على نبينا وعليه وسلم الصلوات الخمس فليتأمل.
قال قيل: «فرضت الصلوات الخمس في المعراج ركعتين ركعتين» أي حتى المغرب «ثم زيدت في صلاة الحضر فأكملت أربعا في الظهر» أي في غير يوم الجمعة «وأربعا في العصر والعشاء وثلاثا في المغرب، وأقرت صلاة السفر على ركعتين» أي حتى في المغرب.
فعن عائشة رضي الله تعالى عنها «فرضت صلاة الحضر والسفر ركعتين» أي في الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء «فلما أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة» أي بعد شهر وقيل وعشرة أيام من الهجرة «زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان وتركت صلاة الفجر» أي لم يزد عليها شيء لطول القراءة: أي فإنها يطلب فيها زيادة القراءة على الظهر والعصر المطلوب فيهما قراءة طوال المفصل «وصلاة المغرب» أي تركت(1/583)
صلاة المغرب «فلم يزد فيها ركعتان بل ركعة فصارت ثلاثة لأنها وتر النهار» أي كما في الحديث، فتعود عليه بركة الوترية «إن الله وتر يحب الوتر» والمراد أنها وتر عقب صلاة النهار «وتركت صلاة السفر فلم يزد فيها شيء» أي في غير المغرب، هذا هو المفهوم من كلام عائشة رضي الله تعالى عنها، وهو يفيد أن صلاة السفر استمرّت على ركعتين أي في غير المغرب، أي وحينئذ يلزم أن يكون القصر في الظهر والعصر والعشاء عزيمة لا رخصة، ولا يحسن ذلك مع قوله تعالى فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ [النساء: الآية 101] .
وفي كلام الحافظ ابن حجر: المراد بقول عائشة «فأقرت صلاة السفر» باعتبار ما آل إليه الأمر من التخفيف، أي لأنه لما استقرّ فرض الرباعية خفف منها أي في السفر لأنه استقرّ أمرها بعد قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة بشهر أو بأربعين يوما، ثم نزلت آية القصر في ربيع الأوّل من السنة الثانية إلا أنها استمرت منذ فرضت، فلا يلزم من ذلك أن القصر عزيمة.
وقيل فرضت أي الصلوات الخمس في المعراج أربعا، إلا المغرب ففرضت ثلاثا، وإلا الصبح ففرضت ركعتين، أي وإلا صلاة الجمعة ففرضت ركعتين ثم قصرت الأربع في السفر، أي وهو المناسب لقوله تعالى فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ [النساء: الآية 101] ومن ثم قال بعضهم: إن هذا هو الذي يقتضيه ظاهر القرآن وكلام جمهور العلماء.
ويمكن أن يكون المراد من كلام عائشة رضي الله تعالى عنها أنها فرضت ركعتين بتشهد ثم ركعتين بتشهد وسلام.
وفيه أن هذا لا يأتي في الصبح والمغرب. وقال بعضهم: ويبعد هذا الحمل ما روي عنها كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي أي الصلوات الخمس التي فرضت بالمعراج بمكة ركعتين ركعتين، فلما قدم المدينة أي وأقام شهرا أو عشرة أيام فرضت الصلاة أربعا أو ثلاثا وتركت الركعتان تماما أي تامة للمسافر.
وعن يعلي بن أمية، قال «قلت لعمر بن الخطاب فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ [النساء: الآية 101] وقد أمن الناس؟ قال عمر: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» أي فصار سبب القصر مجرد السفر لا الخوف.
وهذا قد يخالف ما في الإتقان «سأل قوم من بني النجار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:
يا رسول الله إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي؟ فأنزل الله عز وجل وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ [النّساء: الآية 101] ثم انقطع الوحي، فلما كان بعد ذلك غزا النبي صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر، فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه(1/584)
من ظهورهم، هلا شددتم عليهم؟ فقال قائل منهم: إن لهم أخرى مثلها في أثرها فأنزل الله عز وجل بين الصلاتين إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النّساء: الآية 101] إلى قوله عَذاباً مُهِيناً [النساء: الآية 102] فنزلت صلاة الخوف» فتبين بهذا الحديث أن قوله إِنْ خِفْتُمْ [النّساء: الآية 101] شرط فيما بعده وهو صلاة الخوف لا في صلاة القصر. قال ابن جرير:
هذا تأويل في الآية حسن لو لم يكن في الآية إذا قال ابن الغرس يصح مع إذا على جعل الواو زائدة.
قلت: ويكون من اعتراض الشرط على الشرط. وأحسن منه أن يجعل إذا زائدة بناء على قول من يجيز زيادتها هذا كلامه فليتأمل.
وقيل فرضت: أي الرباعية أربعا في الحضر وركعتين في السفر فعن عمر رضي الله تعالى عنه «صلاة السفر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، وصلاة الغد ركعتان غير قصر» أي تامة «على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم» أي وفيه بالنسبة لصلاة السفر ما تقدم.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «فرضت في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة» أي وفيه في صلاة السفر ما تقدم، وقوله في الخوف ركعة أي يصليها مع الإمام وينفرد بالأخرى وذلك في صلاة عسفان حيث يحرم بالجميع ويسجد معه صف أوّل، ويحرس الصف الثاني، فإذا قاموا سجد من حرس ولحقه وسجد معه في الركعة الثانية وحرس الآخرون، فقد صلى كل صف مع الإمام ركعة، فلا يقال إن في كلام ابن عباس ما يفيد أن صلاة الفجر تقصر، وفرض التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم متأخر عن فرض الصلاة.
فعن ابن مسعود «كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد السلام على الله قبل عباده، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل، السلام على فلان» أي من الملائكة «فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا السلام على الله فإن الله هو السلام، وقال له بعض الصحابة: كيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟ فقال قولوا:
اللهم صل على محمد» إلى آخره ولم أقف على الوقت الذي فرض فيه التشهد والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم فيه، ولا على أن قولهم السلام على الله إلى آخره هل كان واجبا أو مندوبا.
قال بعضهم: والحكمة في جعل الصلوات في اليوم والليلة خمسا أن الحواس لما كانت خمسة والمعاصي تقع بواسطتها كانت كذلك لتكون ماحية لما يقع في اليوم والليلة من المعاصي أي بسبب تلك الحواس، وقد أشار إلى ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله «أرأيتم لو كان بباب أحدكم نهر يغتسل منه في اليوم والليلة خمس مرات أكان ذلك يبقي من درنه شيئا؟ قالوا لا، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا» .
قيل وجعلت مثنى وثلاث ورباع، ليوافق أجنحة الملائكة، كأنها جعلت أجنحة(1/585)
للشخص يطير بها إلى الله تعالى.
وسئل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هل تجد الصلوات الخمس في كتاب الله تعالى؟ فقال نعم وتلا قوله تعالى فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) [الروم: الآية 17- 18] أراد بحين تمسون المغرب والعشاء؛ وبحين تصبحون الفجر، وبعشيا العصر، وبحين تظهرون الظهر.
وإطلاق التسبيح بمعنى الصلاة جاء في قوله تعالى فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) [الصّافات: الآية 143] قال القرطبي: أي من المصلين. وفي الكشاف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «كل تسبيح في القرآن فهو صلاة» والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.(1/586)
(فهرس محتويات الجزء الأول من السيرة الحلبية) المسمى إنسان العيون في سيرة الأمين والمأمون(1/587)
فهرس المحتويات
تقديم 3
باب: نسبه الشريف صلى الله عليه وسلم 9
باب: تزويج عبد الله أبي النبي صلى الله عليه وسلم آمنة أمه وحفر زمزم وما يتعلق بذلك 48
باب ذكر حمل أمه به صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء والمرسلين 69
باب وفاة والده صلى الله عليه وسلم 74
باب: ذكر مولده صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم 78
باب: تسميته صلى الله عليه وسلم محمدا وأحمدا 115
باب ذكر رضاعه صلى الله عليه وسلم وما اتصل به 124
باب: وفاة أمه صلى الله عليه وسلم وحضانة أم أيمن له وكفالة جده عبد المطلب له 154
باب: ذكر سفره صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب إلى الشام 171
باب: ما حفظه الله تعالى به في صغره صلى الله عليه وسلم من أمر الجاهلية 178
باب: رعيته صلى الله عليه وسلم الغنم 183
حرب الفجار 185
باب: شهوده صلى الله عليه وسلم حلف الفضول 188
باب: سفره صلى الله عليه وسلم إلى الشام ثانيا 193
باب: تزوجه صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ابن أسد بن عبد العزى بن قصي 199
باب: بنيان قريش الكعبة شرفها الله تعالى 204
باب: ما جاء من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحبار اليهود وعن الرهبان من النصارى وعن الكهان من العرب على ألسنة الجان وعلى غير ألسنتهم، وما سمع من الهواتف ومن بعض الوحوش ومن بعض الأشجار، وطرد الشياطين من استراق السمع عند مبعثه بكثرة تساقط النجوم، وما وجد من ذكره صلى الله عليه وسلم مكتوبا من النبات والأحجار وغيرهما 265(1/589)
باب: سلام الحجر والشجر عليه صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه 320
باب: بيان حين المبعث وعموم بعثته صلى الله عليه وسلم 322
باب: بدء الوحي له صلى الله عليه وسلم 334
باب: ذكر وضوئه وصلاته صلى الله عليه وسلم أول البعثة 375
باب: ذكر أول الناس إيمانا به صلى الله عليه وسلم 381
باب: استخفائه صلى الله عليه وسلم وأصحابه في دار الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله تعالى عنهما ودعائه صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام جهرة وكلام قريش لأبي طالب في أن يخلي بينهم وبينه، وما لقي هو وأصحابه من الأذى وإسلام عمه حمزة رضي الله تعالى عنه 402
باب: عرض قريش عليه صلى الله عليه وسلم أشياء من خوارق العادات وغير العادات ليكف عنهم لما رأوا المسلمين يزيدون ويكثرون، وسؤالهم له أشياء من خوارق العادات معينات وغير معينات، وبعثهم إلى أحبار يهود بالمدينة يسألونهم عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم وعما جاء به، وحديث الزبيدي، وحديث المستهزئين به صلى الله عليه وسلم، ومن حديثهم حديث الأراشي ومن قصد أذيته صلى الله عليه وسلم فردّ خائبا 428
باب الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة وسبب رجوع من هاجر إليها من المسلمين إلى مكة وإسلام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه 456
باب: اجتماع المشركين على منابذة بني هاشم وبني المطلب ابني عبد مناف وكتابة الصحيفة 475
باب الهجرة الثانية إلى الحبشة 477
باب ذكر خبر وفد نجران 487
باب ذكر وفاة عمه أبي طالب، وزوجته صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله تعالى عنها 488
باب ذكر خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف 498
باب ذكر خبر الطفيل بن عمرو الدوسي وإسلامه رضي الله تعالى عنه 513
باب ذكر الإسراء والمعراج وفرض الصلوات الخمس 514(1/590)
الجزء الثاني
بسم الله الرّحمن الرّحيم
باب عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل من العرب أن يحموه ويناصروه على ما جاء به من الحق
أي لأنه صلى الله عليه وسلم أخفى رسالته ثلاث سنين، ثم أعلن بها في الرابعة على ما تقدم، ودعا إلى الإسلام عشر سنين يوافي الموسم كل عام، يتبع الحجاج في منازلهم أي بمنى والموقف يسأل عن القبائل قبيلة قبيلة، ويسأل عن منازلهم ويأتي إليهم في أسواق المواسم، وهي: عكاظ، ومجنة، وذو المجاز، فقد تقدم أن العرب كانت إذا حجت تقيم بعكاظ شهر شوّال، ثم تجيء إلى سوق مجنة تقيم فيه عشرين يوما، ثم تجيء سوق ذي المجاز فتقيم به إلى أيام الحج يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه.
فعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس في الموقف ويقول: ألا رجل يعرض عليّ قومه، فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي» وعن بعضهم «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يهاجر إلى المدينة يطوف على الناس في منازلهم أي بمنى يقول: يا أيها الناس إن الله يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، ووراءه رجل يقول يا أيها الناس إن هذا يأمركم أن تتركوا دين آبائكم، فسألت من هذا الرجل؟ فقيل أبو لهب يعني عمه» .
وفي رواية عن أبي طارق رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز يعرض نفسه على قبائل العرب يقول: «يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، وخلفه رجل له غديرتان» أي ذؤابتان «يرجمه بالحجارة حتى أدمي كعبه يقول يا أيها الناس لا تسمعوا منه فإنه كذاب، فسألت عنه، فقيل إنه غلام عبد المطلب، فقلت ومن الرجل الذي يرجمه؟ فقيل هو عمه عبد العزى يعني أبا لهب» .
أي وفي السيرة الهشامية عن بعضهم قال: إني لغلام شاب مع أبي بمنى ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف في منازل القبائل من العرب فيقول: يا بني فلان إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه(2/3)
من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا به وتصدقوني، وتمنعوني حتى أبين عن الله عز وجل ما بعثني به، قال: وخلفه رجل أحول وضيء له غديرتان، عليه حلة عدنية، فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله قال ذلك الرجل: يا بني فلان إن هذا الرجل إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه، فقلت لأبي: من هذا الرجل الذي يتبعه يرد عليه ما يقول؟
قال: هذا عمه عبد العزى بن عبد المطلب» .
وذكر ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم عرض نفسه على كندة وكلب أي إلى بطن منهم، يقال لهم بنو عبد الله، فقال لهم «إن الله قد أحسن اسم أبيكم أي عبد الله» أي فقد قال صلى الله عليه وسلم «أحب الأسماء إلى الله عز وجل عبد الله وعبد الرحمن» ثم عرض عليهم فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم، وعرض على بني حنيفة وبني عامر بن صعصعة أي فقال له رجل منهم: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظفرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك، فقال: الأمر إلى الله يضعه حيث شاء؛ قال: فقال له، أنقاتل العرب دونك؟ وفي رواية، أنهدف نحورنا للعرب دونك» أي نجعل نحورنا هدفا لنبلهم «فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك وأبوا عليه، فلما رجعت بنو عامر إلى منازلهم وكان فيهم شيخ أدركه السن حتى لا يقدر أن يوافي معهم الموسم؛ فلما قدموا عليه سألهم عما كان في موسمهم، فقالوا: جاءنا فتى من قريش أحد بني عبد المطلب، يزعم أنه نبي يدعونا إلى أن نمنعه، ونقوم معه، ونخرج به إلى بلادنا فوضع الشيخ يده على رأسه ثم قال: يا بني عامر هل لها من تلاف» أي تدارك. «هل لها من مطلب؛ والذي نفس فلان بيده ما يقولها» أي ما يدعي النبوة «كاذبا أحد من بني إسماعيل قط، وإنها لحق، وإن رأيكم غاب عنكم» .
وذكر الواقدي أنه صلى الله عليه وسلم أتى بني عبس أي وبني سليم وغسان وبني محارب أي وفزارة وبني نضر ومرة وعذرة والحضارمة، فيردون عليه صلى الله عليه وسلم أقبح الرد، ويقولون:
أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك، ولم يكن أحد من العرب أقبح ردا عليه من بني حنيفة، أي وهم أهل اليمامة قوم مسيلمة الكذاب؟ وقيل لهم بنو حنيفة، لأن أمهم حنيفة قيل لها ذلك لحنف كان في رجلها وثقيف، أي ومن ثم جاء «شر قبائل العرب بنو حنيفة وثقيف» .
أي ودفع صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى مجلس من مجالس العرب فتقدم أبو بكر فسلم. وقال: ممن القوم، قالوا: من ربيعة؟ قال: وأي ربيعة؟ من هامتها أو من لهازمها قالوا: بل الهامة العظمى، قال: من أيها؟ قالوا: من ذهل الأكبر، قال: منكم حامي الذمار ومانع الجار فلان؟ قالوا لا، قال: منكم قاتل الملوك وسالبها فلان؟ قالوا لا، قال: منكم صاحب العمامة الفردة فلان؟ قالوا لا،(2/4)
قال: فلستم من ذهل الأكبر، أنتم ذهل الأصغر، فقام إليه شاب حين بقل وجهه أي طلع شعر وجهه، فقال له: إن على سائلنا أن نسأله، يا هذا إنك قد سألتنا فأخبرناك، فممن الرجل؟ فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: أنا من قريش، فقال الفتى، بخ بخ أهل الشرف والرياسة، فمن أي قريش أنت؟ قال: من ولد تيم بن مرة فقال الفتى: أمنكم قصي الذي كان يدعى مجمعا قال لا، قال: فمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه قال لا، قال: فمنكم شيبة الحمد عبد المطلب، مطعم طير السماء، الذي كأن وجهه القمر يضيء في الليلة الظلماء قال لا، واجتذب أبو بكر رضي الله تعالى عنه زمام ناقته، ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك؛ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له عليّ رضي الله تعالى عنه: لقد وقعت من الأعرابي على باقعة أي داهية أي ذي دهاء. وهو في الأصل اسم لطائر حذر يطير يمنة ويسرة قال: أجل أبا حسن؛ ما من طامة إلا فوقها طامة، والبلاء موكل بالمنطق، أي واستفهام الفتى توبيخي لا حقيقي لأن من المعلوم أن من ذكر ليسوا من تيم، لأن أبا بكر كما تقدم إنما يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في مرة؛ ومرة جد لقصي؛ فكأنه يقول له إن قبيلتكم لم تشتمل على هؤلاء الأشراف؛ أي كما أن قبيلتنا لم تشتمل على أولئك الأشراف.
وعن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما «أنه صلى الله عليه وسلم لقي جماعة من شيبان بن ثعلبة؛ وكان معه أبو بكر وعلي رضي الله تعالى عنهما؛ وأن أبا بكر سألهم ممن القوم؟ فقالوا: من شيبان بن ثعلبة، فالتفت أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بأبي أنت وأمي، هؤلاء غرر، أي سادات في قومهم وفيهم مفروق بن عمرو وهانىء» بالهمز «ابن قبيصة» بفتح القاف «ومثنى بن حارثة والنعمان بن شريك. وكان مفروق بن عمرو قد غلبهم جمالا ولسانا له غديرتان» أي ذؤابتان من شعر «وكان أدنى القوم، أي أقرب مجلسا من أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فقال له أبو بكر: كيف العدد فيكم؟ قال مفروق: إنا لنزيد على الألف، ولن تغلب الألف من قلة، والذي قاله صلى الله عليه وسلم «لن تغلب اثنا عشر ألفا من قلة» قاله لما أراد أن يغزو هوازن، وكان جيشه العدد المذكور كما سيأتي «فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه، كيف المنعة فيكم قال مفروق: علينا الجهد» أي بفتح الجيم وضمها أي الطاقة «ولكل قوم جد» بفتح الجيم أي حظ وسعادة أي علينا أن نجهد وليس علينا أن يكون لنا الظفر، لأنه من عند الله يؤتيه من يشاء، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم فقال مفروق: إنا لأشد ما يكون غضبا حين نلقى، وإنا لأشد ما يكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد أي من الخيل على الأولاد، والسلاح على اللّقاح أي ذوات اللبن من الإبل، وربما قيل للبقر والغنم أيضا «والنصر من عند الله، يديلنا» بضم أوله وكسر الدال المهملة: أي ينصرنا «مرة، ويديل علينا مرة» أي ينصر علينا(2/5)
أخرى «لعلك أخو قريش، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: أوقد بلغكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها هوذا فقال مفروق: بلغنا أنه يذكر ذلك، فإلام تدعو يا أخا قريش؟ فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأني رسول الله، وإلى أن تؤووني وتنصروني، فإن قريشا قد تظاهرت» أي تعاونت «على أمر الله وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد، قال مفروق: وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) [الأنعام: الآية 151] قال مفروق: ما هذا من كلام أهل الأرض، ولو كان من كلامهم عرفناه، ثم قال:
وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) [النّحل: الآية 90] .
وهذه الآية ذكرها العز بن عبد السلام أنها اشتملت على جميع الأحكام الشرعية، وبين ذلك في سائر الأبواب الفقهية، وضمن ذلك كتابا سماه الشجرة «فقال مفروق: دعوت والله إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم» أي صرفوا عن الحق كذبوك وظاهروا أي عاونوا عليك، وكان مفروق أراد أن يشركه أي يشاركه في الكلام هانىء بن قبيصة، فقال: هذا هانىء بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا، فقال هانىء قد سمعنا مقالتك يا أخا قريش، وإني أرى أن تركنا ديننا، واتباعنا إياك على دينك بمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر لزلة في الرأي وقلة نظر في العاقبة، وإنما تكون الزلة مع العجلة، ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقدا، ولكن نرجع وترجع وننظر وتنظر، وكأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى بن حارثة، فقال: هذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا، فقال المثنى قد سمعنا مقالتك يا أخا قريش، والجواب هو جواب هانىء بن قبيصة في تركنا ديننا واتباعنا دينك بمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر، وإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب دون ما يلي أنهار كسرى فعلنا، فإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى: أن لا نحدث حدثا، وأن لا نؤوي محدثا. وإني أرى هذا الأمر الذي تدعونا إليه أنت هو مما تكرهه الملوك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أسأتم في الرد، إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله عز وجل لن ينصره إلا من أحاط به من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم الله أرضهم وأموالهم، ويغرسكم نساءهم تسبحون الله وتقدسونه؟ فقال النعمان بن شريك: اللهم لك ذا فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أَيُّهَا النَّبِيُ(2/6)
إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب: الآيات 45- 47] ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم» أي وهؤلاء لم أقف على إسلام أحد منهم؛ إلا أن في الصحابة شخصا يقال له المثنى بن حارثة الشيباني، وكان فارس قومه وسيدهم والمطاع فيهم، ولعله هو هذا، لقول هانىء بن قبيصة فيه: إنه صاحب حربنا.
ورأيت بعضهم ذكر أن النعمان بن شريك له وفادة، فيكون من الصحابة، أي وفي أسد الغابة أن مفروق بن عمرو من الصحابة، ونقل عن أبي نعيم أنه قال لا أعرف لمفروق إسلاما.
ولما قدمت بكر بن وائل مكة للحج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر ائتهم.
فاعرضني عليهم، فأتاهم فعرض عليهم، فقال لهم: كيف العدد فيكم، قالوا: كثير مثل الثرى، قال: فكيف المنعة؟ قالوا: لا منعة، جاورنا فارس فنحن لا نمنع منهم ولا نجير عليهم، قال: فتجعلون لله عليكم إن هو أبقاكم حتى تنزلوا منازلهم وتستنكحوا نساءهم وتستعبدوا أبناءهم أن تسبحوا الله ثلاثا وثلاثين وتحمدوه وثلاثا وثلاثين وتكبروه ثلاثا وثلاثين؟ قالوا: ومن أنت؟ قال: أنا رسول الله، ثم مر بهم أبو لهب فقالوا له هل تعرف هذا الرجل؟ قال نعم، فأخبروه بما دعاهم إليه، وأنه زعم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: لا ترفعوا بقوله رأسا فإنه مجنون يهذي من أم رأسه، فقالوا: لقد رأينا ذلك حيث ذكر من أمر فارس ما ذكر» .
وفي رواية أنه لما سألهم قالوا له: حتى يجيء شيخنا حارثة، فلما جاء قال:
إنا بيننا وبينك من الفرس حربا، فإذا فرغنا عما بيننا وبينهم عدنا فنظرنا فيما تقول، فلما التقوا مع الفرس قال شيخهم: ما اسم الرجل الذي دعاكم إليه؟ قالوا محمد، قال: فهو شعاركم فنصروا على الفرس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بي نصروا، أي نصروا بذكرهم اسمي.
ولا زال صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل في كل موسم، ويقول «لا أكره أحدا على شيء، من رضي الذي أدعوه إليه فذلك، ومن كره لم أكرهه، إنما أريد منعي من القتل حتى أبلغ رسالات ربي، فلم يقبله أحد من تلك القبائل، ويقولون: قوم الرجل أعلم به ترون أن رجلا يصلحنا وقد أفسد قومه.
وعن ابن إسحاق لما أراد الله تعالى إظهار دينه، وإعزاز نبيه، صلى الله عليه وسلم، وإنجاز موعده له خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم.
وفي سيرة مغلطاي ومستدرك الحاكم أن ذلك كان في شهر رجب يعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم «فبينا هو عند العقبة التي تضاف إليها(2/7)
الجمرة فيقال جمرة العقبة، أي وهي عند يسار الطريق لقاصد منى من مكة، وبها الآن مسجد يقال له مسجد البيعة، إذ لقي بها رهطا من الخزرج: أي لأن الأوس والخزرج كانوا يحجون فيمن يحج من العرب، أي والأوس في الأصل أي اللغة:
العطية، ويقال للذئب، ويقال لرجل اللهو واللعب. والخزرج في الأصل: الريح الباردة، قيل هي الجنوب خاصة وكانوا ستة نفر، وقيل ثمانية أراد الله تعالى بهم خيرا، وقد عد الستة في الأصل، وبين الناس اختلاف في ذكرهم، فقال لهم: من أنتم؛ قالوا نفر من الخزرج، فقال: أمن موالي يهود: أي من حلفاء يهود المدينة قريظة والنضير، لأنهم تحالفوا معهم على التناصر والتعاضد على من سواهم، وأن يأمن بعضهم من بعض، وهذا كان في أول أمرهم قبل أن تقوى شوكتهم على يهود قالوا: نعم، قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى، فجلسوا معه صلى الله عليه وسلم، وفي لفظ «وجدهم يحلقون رؤوسهم فجلس إليهم فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام، أي ورأوا امارات الصدق عليه صلى الله عليه وسلم لائحة، فقال بعضهم لبعض: تعلمون والله أنه للنبي الذي يوعدكم به يهود، فلا تسبقنكم إليه، لأن يهود كانوا إذا وقع بينهم وبينهم شيء من الشر قالوا لهم: سيبعث نبي قد أظل: أي قرب زمانه نتبعه، نقتلكم معه قتلة عاد وإرم: أي كما تقدم في أخبار الأحبار، والمراد نستأصلكم بالقتل، فلما دعاهم إلى الإسلام أجابوه وصدقوه وأسلموا وقالوا له: إنا تركنا قومنا يعنون الأوس والخزرج بينهم من العداوة والشر ما بينهم، أي فإن الأوس والخزرج كانا أخوين لأب وأم، فوقعت بينهما العداوة، وتطاولت بينهما الحروب، فمكثوا على المحاربة والمقاتلة أكثر من مائة سنة: أي مائة وعشرين كما في الكشاف، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك.
أقول: وفي رواية «قالوا يا رسول الله إنما كانت بعاث» أي بضم الموحدة ثم عين مهملة مخففة وفي آخره ثاء مثلثة، وقيل بفتح الموحدة وبدل المهملة معجمة، قيل وذكر المعجمة تصحيف. فعن ابن دريد: صحف الخليل بن أحمد يوم بغاث بالغين المعجمة، وإنما هو بالمهملة. وفي القاموس بالمهملة والمعجمة «عام أول يوم من أيامنا اقتتلنا به ونحن كذلك، لا يكون لنا عليك اجتماع حتى نرجع إلى غابرنا لعل الله أن يصلح ذات بيننا وندعوهم إلى ما دعوتنا فعسى الله أن يجمعهم عليك فإن اجتمعت كلمتهم عليك واتبعوك فلا أحد أعز منك» وبعاث مكان قريب من المدينة على ليلتين منها عند بني قريظة، ويقال إنه حصن للأوس كان به القتال قبل قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة بخمس سنين بين الأوس والخزرج. وسيد الأوس ورئيسهم حينئذ حضير والد أسيد، وبه قتل مع من قتل من قومه، وكان النصر فيهم أولا للخزرج ثم صار للأوس.(2/8)
وسبب القتل أنه كان من قاعدتهم أن الأصيل لا يقتل بالحليف، فقتل رجل من الأوس أي وهو سويد بن الصامت رجلا حليفا للخزرج: أي وهو ذياد والد المحذر بن ذياد، وذياد بالذال المعجمة، مكسورة ومفتوحة وتخفيف المثناة تحت، والمحذر بالذال المعجمة مشددة مفتوحة، فأرادوا أن يقتلوا سويدا فيه، فأبى عليه الأوس، وذلك لأن سويدا هذا كان تسميه قومه الكامل لشرفه، ونسبه وشعره وجلده، كان ابن خالة عبد المطلب لأن أمه أخت سلمى أم عبد المطلب، وكان قدم مكة حاجا أو معتمرا فتصدى له رسول الله حين سمع به لأنه صلى الله عليه وسلم كان لا يسمع بقادم قدم مكة من العرب له اسم وشرف إلا تصدى له ودعاه إلى الله تعالى، فدعا سويدا إلى الله عز وجل إلى الإسلام، فقال له سويد: لعل الذي معك مثل الذي معي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اعرضها عليّ فعرضها عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا الكلام حسن والذي معي أفضل من هذا؛ قرآن أنزله الله عليّ هو هدى ونور، فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ودعاه إلى الإسلام فلم يبعد منه وقال: إن هذا القول حسن، ثم انصرف وقدم المدينة فلم يلبث أن قتله الخزرج» .
وفي كلام بعضهم أنه آمن بالله ورسوله وسافر حتى دخل المدينة إلى قومه، فشعروا بإيمانه، فقتلته الخزرج بغتة وقيل القاتل له المحذر ولد ذياد الذي قتله سويد، لأن سويدا كان قد شرب الخمر وجلس يبول وهو ممتلىء سكرا، فضربه إنسان من الخزرج فخرج حتى أتى المحذر بن ذياد فقال: هل لك في الغنيمة الباردة؟
قال: ما هي، قال: سويد أعزل لا سلاح معه فخرج المحذر بالسيف مصلتا فلما أبصر سويدا قال له: قد أمكن الله منك، قال: ما تريد مني؟ قال: قتلك فقتله، فكان ذلك سبب الحرب بين الأوس والخزرج ببعاث، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسلم الحارث بن سويد والمحذر بن ذياد وشهدا بدرا، فجعل الحارث بن سويد يطلب محذرا يقتله بأبيه فلم يقدر عليه، حتى كان وقعة أحد قدر عليه فقتله غيلة كما سيأتي.
وممن قتل في هذه الحرب التي يقال لها بعاث شخص، يقال له إياس بن معاذ قدم مكة هو وشخص يقال له أبو الحيسر أنس بن رافع، مع جماعة من قومهم يلتمسون الحلف من قريش على قومهم الخزرج، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس إليهم وقال لهم: هل لكم في خير مما جئتم له، قالوا: وما ذاك؟ قال: أنا رسول الله، بعثني للعباد، وأدعوهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وأنزل عليّ الكتاب، ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن، فقال إياس بن معاذ وكان صغيرا: أي قوم والله خير مما جئنا إليه، فأخذ أبو الحيسر حفنة من تراب فضرب بها وجه إياس وانتهره، وقال له: دعنا منك لقد جئنا لغير هذا، فسكت إياس وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، فلما دنا(2/9)
موت إياس صار يحمد الله ويسبحه ويهلله ويكبره حتى مات» والله أعلم. ثم انصرف أولئك الرهط من الخزرج راجعين إلى بلادهم.
قال وفي رواية «أنهم لما آمنوا به صلى الله عليه وسلم وصدقوه قالوا له: إنا نشير عليك أن تمكث على رسلك: أي على حالك باسم الله حتى نرجع إلى قومنا فنذكر لهم شأنك وندعوهم إلى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم لعل الله يصلح ذات بينهم ونواعدك الموسم من العام المقبل؛ فرضي بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم» . انتهى أي فلم يقع لهؤلاء الستة أو الثمانية مبايعة، ويسمى هذا ابتداء الإسلام للأنصار، وربما سماه بعضهم العقبة الأولى، فلما كان العام المقبل قدم من الأوس والخزرج اثنا عشر رجلا: أي عشرة من الخزرج واثنان من الأوس. وقيل: كانوا أحد عشر رجلا منهم خمسة من الستة أو الثمانية الذين اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم عند العقبة أولا، فاجتمع بهم صلى الله عليه وسلم عند العقبة أيضا، فبايعهم: أي عاهدهم صلى الله عليه وسلم، أي وسميت المعاهدة مبايعة تشبيها بالمعاوضة المالية، وتلا عليهم آية النساء: أي الآية التي نزلت بعد ذلك في شأن النساء يوم الفتح لما فرغ من مبايعة الرجال وأراد مبايعة النساء.
فعن عبادة بن الصامت «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم» أي كبيعة النساء أي كمبايعته للنساء التي كانت يوم فتح مكة، وهي على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا» أي لأن قتل الأولاد كان سائغا فيهم، وهو وأد البنات قيل والبنين خوف الإملاق.
وفي النهر: كان جمهور العرب لا يئدون بناتهم، وكان بعض ربيعة ومضر يئدونهن: وهو دفنهن أحياء؛ فبعضهم يئد خوف العيلة والافتقار، وبعضهم خوف السبي، قال: وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ [الممتحنة: الآية 12] أي الكذب الذي يبهت صاحبه سامعه يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ [الممتحنة: الآية 12] أي في الحال والاستقبال، قيل وغير ذلك، ولا نعصيه في معروف أي ما عرف من الشارع حسنه نهيا وأمرا.
قال الحافظ ابن حجر: المبايعة المذكورة في حديث عبادة بن الصامت على الصفة المذكورة لم تقع ليلة العقبة، وإنما نص بيعة العقبة ما ذكر ابن إسحاق وغيره عن أهل المغازي «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن حضر من الأنصار: أبايعكم على أن تمنعوني ما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، فبايعوه على ذلك، وعلى أن يرحل إليهم هو صلى الله عليه وسلم وأصحابه» ثم ذكر جملة من الأحاديث، وقال: هذه أدلة صريحة في أن هذه البيعة بعد نزول الآية بعد فتح مكة.
أقول: ليس في كلام عبادة أن هذه البيعة بيعة العقبة، إذ لم يقل بايعنا رسول لله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة وإن كان السياق يقتضيه، وحينئذ فلا يحسن أن يكون كلام عبادة شاهدا لمن قال، وتلا عليهم آية النساء، فلا يحسن التفريع المتقدم، بل هو(2/10)
دليل على أن هذه المبايعة متأخرة عن يوم الفتح كما قال الحافظ، والله أعلم.
زاد بعضهم «والسمع والطاعة في اليسر والعسر والمنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول الحق حيث كنا لا نخاف في الله لومة لائم، ثم قال:
ومن وفى» بالتخفيف والتشديد: أي ثبت على العهد «فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو» أي العقاب «طهرة له، أو قال كفارة له» .
واستشكل بأن أبا هريرة روى أنه صلى الله عليه وسلم قال «لا أدري، الحدود كفارة لأهلها أو لا» وإسلام أبي هريرة تأخر عن بيعة العقبة بسبع سنين كما سيأتي، فإنه كان عام خيبر سنة سبع.
ويجاب بأن هذه البيعة التي ذكرها عبادة ليست بيعة العقبة، بل بيعة غيرها وقعت بعد فتح مكة كما علمت.
وحينئذ يكون ما رواه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه كان قبل أن يعلم صلى الله عليه وسلم ذلك ثم علمه: أي أن الحدود كفارة، قال صلى الله عليه وسلم «ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه فأمره إلى الله عز وجل، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه» أي وكون الحدود كفارة وطهرة مخصوص بغير الشرك، فقتل المرتد لا يكون كفارة وطهرة له، لأن الله لا يغفر أن يشرك به.
وفي رواية «فإن رضيتم فلكم الجنة» وإن غشيتم، من ذلك شيئا فأصبتم بحد في الدنيا فهو كفارة لكم في الدنيا، وإن سترتم عليه فأمركم إلى الله، إن شاء عذب، وإن شاء غفر» أي وفي هذا ردّ على من قال بوجوب التعذيب لمن مات بلا توبة، وعلى من قال يكفر مرتكب الكبيرة.
«فلما انصرفوا راجعين إلى بلادهم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم ابن أم مكتوم» واسمها عاتكة، واسمه عمرو، وقيل عبد الله، وهو ابن خال خديجة بنت خويلد أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها.
قال الشعبي: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة غزوة، ما فيها غزوة إلا واستخلف ابن أم مكتوم على المدينة، وكان يصلي بهم» وليس له رواية، ومصعب بن عمير رضي الله تعالى عنهما يعلمان من أسلم منهم القرآن ويعلمانهم:
أي من أراد أن يسلم الإسلام، ويفقهانهم في الدين، ويدعوان من لم يسلم منهم إلى الإسلام، وهذا ما في أكثر الروايات؛ وهو يفيد أنه صلى الله عليه وسلم بعث بهما معا، ويدل له ما روي عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه «أول من قدم علينا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم، فجعلا يقرئان الناس القرآن» أي وفي رواية «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليهم مصعبا حين كتبوا إليه يبعث إليهم» .(2/11)
وفي رواية «ثم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ ابن عفراء ورافع بن مالك رضي الله تعالى عنهما أن أبعث إلينا رجلا من قبلك يفقهنا ويدعو الناس بكتاب الله» وفي رواية «كتبوا إليه صلى الله عليه وسلم بذلك، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وكان يقال له المقرىء، وهو أول من تسمى بهذا الاسم، وهذا يدل على أن مصعبا لم يكن معهم.
أقول: وقد يقال لا منافاة، لأنه يجوز أن يكون كتبوا وأرسلوا إليه صلى الله عليه وسلم بذلك عند خروجهم من مكة، وقبل أن ينصرفوا منها راجعين إلى المدينة، والاقتصار على مصعب لا ينافي ما تقدم من ذكر ابن أم مكتوم معه.
ثم رأيت ما يبعد الجمع الأول، وهو عن ابن إسحاق «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بعثه يعني مصعب بن عمير بعدهم» وإنما كتبوا إليه «إن الإسلام قد فشا فينا، فابعث إلينا رجلا من أصحابك يقرئنا القرآن ويفقهنا في الإسلام ويعلمنا بسنته وشرائعه ويؤمنا في صلاتنا، فبعث مصعب بن عمير» وما يبعد الجمع الثاني، وهو ما نقل عن الواقدي «أن ابن أم مكتوم قدم المدينة بعد بدر بيسير» . وفي كلام ابن قتيبة: وقدم ابن أم مكتوم المدينة مهاجرا بعد بدر بسنتين.
وقد يقال: لا منافاة، لأنه يجوز أن يكون كل من مصعب بن عمير وابن أم مكتوم رجعا إلى مكة بعد مجيئهما مع القوم، وأن مكاتبتهم بأن الإسلام فشا فينا إلى آخره كانت وهم بالمدينة، فجاء إليهم مصعب وتخلف ابن أم مكتوم، فليتأمل ذلك، والله تعالى أعلم. وهذه المبايعة يقال لها العقبة الأولى لوجود تلك المبايعة عندها.
ولما قدم مصعب المدينة نزل على أبي امامة أسعد بن زرارة رضي الله تعالى عنه دون بقية رفقته، وكان سالم مولى أبي حذيفة رضي الله تعالى عنه يؤمّ المهاجرين بقباء قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مصعب يؤمّ القوم: أي الأوس والخزرج، لأن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض. وجمع بهم أول جمعة جمعت في الإسلام قبل قدومه صلى الله عليه وسلم، المدينة وقبل نزول سورة الجمعة الآمرة بها فإنها مدنية.
وقال الشيخ أبو حامد: فرضت الجمعة بمكة ولم يتمكن من فعلها. قال الحافظ ابن حجر: وهو غريب، أي وعلى صحته فهو ما تقدم حكمه على تلاوته.
وعند ابن إسحاق أن أول من جمع بهم أبو أمامة أسعد بن زرارة وكانوا أربعين رجلا: أي فعن كعب بن مالك قال: أول من جمع بنا في المدينة أسعد بن زرارة قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم في نقيع الخضمان، والنقيع بالنون قيل أو بالباء الموحدة، لكن قال الخطابي: إنه خطأ، والخضمان: جمع خضمة: وهي الماشية التي تخضم أي تأكل بفمها كله مما في ذلك المحل من الكلأ: وهو اسم لقرية من قرى المدينة، قال: وكنا أربعين رجلا: أي ولا مخالفة، لأن مصعب بن عمير كان عند أبي أمامة(2/12)
أسعد بن زرارة كما علمت فكان هو المعاون على الجمع، وكان الخطيب والمصلي مصعب بن عمير، فنسب الجمع لكل منهما، أي ويكون ما في الرواية الآتية من أن أسعد بن زرارة هو الذي صلى بهم على التجوز: أي جمعهم على الصلاة، ويؤيده ما تقدم من أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض. وأيضا المأمور بالتجميع مصعب بن عمير كما سيأتي.
قال السهيلي: وتسميتهم: أي الأنصار إياها بهذا الاسم: أي تسميتهم اليوم بيوم الجمعة لاجتماعهم فيه هداية من الله تعالى لهم، وإلا فكانت تسمى في الجاهلية العروبة: أي يسمى ذلك اليوم بيوم العروبة: أي الرحمة. وقال عليه الصلاة والسلام في حق ذلك اليوم «إنه اليوم الذي فرض عليهم» أي على اليهود والنصارى أي طلب منهم تعظيمه والتفرغ للعبادة فيه كما فرض علينا «أضلته اليهود والنصارى، وهداكم الله تعالى له» أي إن كلا من اليهود والنصارى أمر بذلك اليوم يعظمون فيه الحق سبحانه وتعالى ويتفرغون فيه لعبادته، واختار اليهود من قبل أنفسهم بدله السبت لأنهم يزعمون أنه اليوم السابع الذي استراح فيه الحق سبحانه وتعالى من خلق السموات والأرض وما فيهن من المخلوقات، أي بناء على أن أول الأسبوع الأحد، وأنه مبدأ الخلق. قال بعضهم: وهو الراجح.
وفي كلام بعضهم: أول الأسبوع الأحد لغة، وأوله السبت عرفا: أي في عرف الفقهاء في الإيمان ونحوها. ويؤيد الأول أن السبت مأخوذ من السبات وهي الراحة، قال تعالى وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9) [النّبإ: الآية 9] أي راحة ظنا منهم أنه أولى بالتعظيم لهذه الفضيلة.
واختارت النصارى من قبل أنفسهم بدل يوم الجمعة يوم الأحد، أي بناء على أنه أول يوم ابتدأ الله فيه بإيجاد المخلوقات ظنا منهم أنه أولى بالتعظيم لهذه الفضيلة.
وحينئذ يكون معنى قوله أضلوه: تركوه مع علمهم به، ويؤيد ذلك ما جاء «إن الله تعالى فرض على اليهود الجمعة فأبوا، وقالوا: يا موسى اجعل لنا يوم السبت فجعل عليهم، وهدى الله تعالى المسلمين ليوم الجمعة» أي وهداية المسلمين له تدل على أنهم لم يعلموا عينه، وإنما اجتهدوا فيه فصادفوه.
وفي «سفر السعادة» : كان من عوائده الكريمة صلى الله عليه وسلم أن يعظم يوم الجمعة غاية التعظيم، ويخصه بأنواع التشريف والتكريم.
وجاء «إن أهل الجنة يتباشرون في الجنة بيوم الجمعة كما تتباشر به أهل الدنيا في الدنيا واسمه عندهم يوم المزيد» كما تقدم «لأن الله تعالى يتجلى عليهم في ذلك اليوم، ويعطيهم كل ما يتمنونه ويقول لهم: لكم ما تمنيتم ولدينا مزيد» فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم من الخير.(2/13)
وقد جاء في المرفوع «يوم الجمعة سيد الأيام، وأعظمها عند الله تعالى، فهو في الأيام كشهر رمضان في الشهور، وساعة الإجابة فيه كليلة القدر في رمضان» .
والذي في البخاري «ثم هذا» أي يوم الجمعة «يومهم الذي فرض عليهم: أي على اليهود والنصارى، فاختلفوا فيه فهدانا الله تعالى له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا والنصارى بعد غد» وقوله فاختلفوا فيه يدل على أنهم لم يعلموا عينه، ويوافقه ما نقل عن بعض أهل العلم أن اليهود أمروا بيوم من الأسبوع يعظمون الله تعالى فيه ويتفرغون لعبادته، فاختاروا من قبل أنفسهم السبت فأكرموه في شرعهم، وكذلك النصارى أمروا على لسان عيسى بيوم من الأسبوع، فاختاروا من قبل أنفسهم الأحد، فالتزموه شرعا لهم، وهو يخالف ما سبق فليتأمل.
قال بعضهم: والراجح أن أول الأسبوع السبت، لأنه أول يوم ابتدىء فيه بإيجاد المخلوقات، فقد جاء في الصحيح «إن الله خلق التربة يوم السبت، والجبال يوم الأحد، والشجر يوم الاثنين، والمكروه يوم الثلاثاء، والنور يوم الأربعاء» كذا في مسلم. وعليه يشكل تسمية اليوم الذي يليه الأحد. وأجيب بأنه من تسمية اليهود، وتبعهم غيرهم.
وقد ذكر السهيلي أن تسمية هذه الأيام طارئة؛ ولو كان الله سبحانه وتعالى سماها في القرآن بهذه الأسماء المشتقة من العدد لقلنا هي تسمية صادقة، لكن لم يذكر منها إلا الجمعة والسبت، وإنهما ليسا مشتقين من العدد هذا كلامه.
وردّ بأنه جاء «إن الله تعالى خلق يوما فسماه الأحد، ثم خلق ثانيا فسماه الاثنين، ثم خلق ثالثا فسماه الثلاثاء، ثم خلق رابعا فسماه الأربعاء، ثم خلق خامسا فسماه الخميس» .
وأجاب ابن حجر الهيتمي بأن هذه: أي التسمية المذكورة لم تثبت، وأن العرب تسمى خامس الورد أربعاء، هذا كلامه، فيكون أول الأسبوع السبت.
ثم رأيت السهيلي قال: لم يسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأحد والاثنين إلى سائرها إلا حاكيا للغة قومه لا مبتدئا تسميتها، ولعل قومه أن يكونوا أخذوا معاني هذه الأسماء من أهل الكتاب المجاورين لهم، فألقوا عليها هذه الأسماء اتباعا لهم، هذا كلامه فليتأمل.
وفي السبعيات للهمداني: أكرم الله موسى عليه الصلاة والسلام بالسبت، وعيسى بالأحد، وداود بالاثنين، وسليمان بالثلاثاء، ويعقوب بالأربعاء، وآدم بالخميس، ومحمدا صلى الله عليه وسلم بالجمعة، وهذا يدل على أن اليهود لم يختاروا يوم السبت والنصارى يوم الأحد من عند أنفسهم فليتأمل الجمع.(2/14)
وقد «سئل صلى الله عليه وسلم عن يوم السبت؟ قال: يوم مكر وخديعة» أي وقع فيه المكر والخديعة، لأي لأنه اليوم الذي اجتمعت فيه قريش في دار الندوة، للاستشارة في أمره صلى الله عليه وسلم «وسئل عن يوم الأحد؟ فقال: يوم غرس وعمارة» لأن الله تعالى ابتدأ فيه خلق الدنيا وعمارتها. وفي رواية لأن الجنة بنيت فيه وغرست «وسئل عن يوم الاثنين، فقال: يوم سفر وتجارة» لأن فيه سافر شعيب فربح في تجارته. «وسئل عن يوم الثلاثاء؟ فقال: يوم دم» لأن فيه حاضت حواء وقتل ابن آدم أخاه.
وذكر الهمداني في السبعيات أيضا أنه قتل فيه سبعة: جرجيس، وزكريا، ويحيى ولده عليهم الصلاة والسلام، وسحرة فرعون، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وبقرة بني إسرائيل، وهابيل بن آدم، وبين قصة كل واحد.
أي ومن ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحجامة يوم الثلاثاء أشد النهي وقال «فيه ساعة لا يرقأ فيها الدم، وفيه نزل إبليس إلى الأرض، وفيه خلقت جهنم، وفيه سلط الله ملك الموت على أرواح بني آدم، وفيه ابتلي أيوب» وفي بعض الروايات أن اليوم الذي ابتلى الله فيه أيوب يوم الأربعاء.
وسئل «عن يوم الأربعاء؟ قال: يوم نحس» لأن فيه أغرق فرعون وقومه، وأهلك فيه عاد وثمود وقوم صالح، أي ومن ثم كان يسمى في الجاهلية دبار، والدبار الملهى لكن الذي في الحديث الموقوف على ابن عباس الذي لا يقال من قبل الرأي «آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر» وجاء «يوم الأربعاء لا أخذ ولا عطاء» .
وذكر الزمخشري أن بعضهم قال لأخيه اخرج معي في حاجة فقال: هذا الأربعاء، قال: فيه ولد يونس، قال لا جرم قد بانت له بركته: أي حيث ابتلعه الحوت؛ قال: وفيه ولد يوسف، قال: فما أحسن ما فعل به إخوته! طال حبسه وغربته، قال: وفيه نصر المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، قال: أجل، ولكن بعد أن زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر.
وورد في بعض الآثار النهي عن قص الأظفار يوم الأربعاء وأنه يورث البرص.
وعن ابن الحاج صاحب المدخل أنه همّ بقص أظفاره يوم الأربعاء، فتذكر ذلك فترك، ثم رأى أن قص الأظفار سنة حاضرة ولم يصح عنده النهي فقصها فلحقه البرص فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال له ألم تسمع نهي عن ذلك؟ فقال: يا رسول الله لم يصح ذلك عندي، فقال: يكفيك أن تسمع، ثم مسح صلى الله عليه وسلم بيده على بدنه فزال البرص جميعا. قال ابن الحاج، فجددت مع الله توبة أني لا أخالف ما سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدا.(2/15)
وجاء في حديث أخرجه ابن ماجه عن ابن عمر مرفوعا، وخرجه الحاكم من طريقين آخرين «لا يبدو جذام ولا مرض إلا يوم الأربعاء» وكره بعضهم عيادة المريض يوم الأربعاء.
وفي منهاج الحليمي وشعب الإيمان للبيهقي «إن الدعاء مستجاب يوم الأربعاء بعد الزوال قبل وقت العصر» لأنه صلى الله عليه وسلم أستجيب له الدعاء على الأحزاب في ذلك اليوم في ذلك الوقت. وكان جابر يتحرى ذلك بالدعاء في مهماته، وذكر أنه ما بدىء بشيء يوم الأربعاء إلا وتمّ، فينبغي البداءة بنحو التدريس فيه.
«وسئل عن يوم الخميس؟ فقال: يوم قضاء الحوائج» لأن فيه دخل إبراهيم الخليل على ملك مصر فقضى حاجته وأعطاه هاجر، ومن ثم زاد في رواية «والدخول على السلطان» . «وسئل عن يوم الجمعة؟ فقال: يوم نكاح نكح فيه آدم حواء، ويوسف زليخا، وموسى بنت شعيب، وسليمان بلقيس» أي ونكح فيه صلى الله عليه وسلم خديجة وعائشة.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أذن النبي صلى الله عليه وسلم لهم قبل الهجرة» أي قبل أن يهاجر صلى الله عليه وسلم «في إقامة الجمعة» أي فلم يفعلوها باجتهاد، بل بإذنه صلى الله عليه وسلم. وكتب إلى مصعب بن عمير رضي الله تعالى عنه «أما بعد فانظر اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور لسبتهم أي اليوم الذي يليه يوم السبت، فأجمعوا نساءكم وأبناءكم، فإذا مال النهار عن شطره فتقربوا إلى الله بركعتين، فجمع مصعب بن عمير عند الزوال: أي صلى الجمعة حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي استمر على ذلك حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم عين لهم ذلك اليوم، وهو خلاف قوله السابق «فهداكم الله له» الظاهر في أن هدايتهم له باجتهاد منهم.
ويدل له ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بإسناد صحيح «أن الأنصار قالوا: إن لليهود يوما يجتمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى مثل ذلك، فهلمّ فلنجعل يوما نجتمع فيه، فنذكر الله ونصلي ونشكره، فجعلوه يوم العروبة» أي لأنه اليوم الذي وقع فيه خلق آدم الذي هو مبدأ هذا الجنس، وجعل فيه فناء الخلق وانقضاءهم إذ فيه تقوم الساعة، ففيه المبدأ والمعاد إذ هو المرويّ عن ابن عباس، يقتضي أن الأنصار اختاروه باجتهاد منهم. إلا أن يقال: لا مخالفة، لأنه يجوز أن يكون هذا العزم على ذلك حصل منهم أوّلا ثم أرسلوا له صلى الله عليه وسلم يستأذنونه في ذلك فأذن لهم فيه، فقد جاء الوحي موافقة لما اختاروه.
وفيه أنه لو كان كذلك لقال صلى الله عليه وسلم لمصعب بن عمير افعلوا ذلك ولم يقل له انظروا إلى اليوم إلى آخره. إلا أن يقال: يجوز أنهم لما استأذنوه صلى الله عليه وسلم في الاجتماع لم يعينوا له اليوم فبينه صلى الله عليه وسلم لهم. وتقدم عن الشيخ أبي حامد أن الجمعة أمر بها صلى الله عليه وسلم(2/16)
وهو بمكة، وتركها لعدم التمكن من فعلها، وتقدم عن الحافظ ابن حجر أنه غريب، ويؤيده أنه لو كان أمر بها صلى الله عليه وسلم وهو بمكة وتركها لعدم التمكن من فعلها لأمر بها مصعب بن عمير عند إرساله للمدينة ولم يأمره بها إلا بعد ذلك. إلا أن يقال: إنما لم يأمره بها حينئذ، لأنه يجوز أن يكون إنما أمر بها بعد ذهاب مصعب إلى المدينة، أو أنه إنما لم يأمره بذلك لأن لإقامتها شروطا منها العدد وهو عند إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه أربعون بشروط ولم يكن ذلك موجودا عند إرساله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم لما علم صلى الله عليه وسلم وجود العدد المذكور أرسل له يأمره بذلك في قوله: أما بعد فانظر اليوم الخ.
ثم لا يخفى أن ظاهر سياق الروايات يدل على أن الذي هداهم الله إليه إنما هو إيقاع العبادة في هذا اليوم لا تسميته بيوم الجمعة كما تقدم عن السهيلي، على أن تسميتهم له بذلك لم أقف عليها في رواية.
على أن السهيلي ذكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سماها يوم الجمعة لما أرسل لمصعب بن عمير أن يفعلها كما تقدم في الإسراء، وذكر أيضا أن كعب بن لؤيّ أول من سمى يوم العروبة الجمعة.
وقد يقال: لا مخالفة، لأنه يجوز أن تكون الأنصار ومن معهم من المهاجرين لم يبلغهم ما ذكر عن كعب بن لؤيّ إن ثبت أنهم سموها بهذا الاسم اجتهادا منهم.
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبب تسمية هذا اليوم بيوم الجمعة، فقال: لأن فيها جمعت طينة أبيك آدم» وقدمنا أنه لا مخالفة بين ما هنا وما تقدم في الإسراء والله أعلم.
وأسلم سعد بن معاذ وابن عمه أسيد بن حضير رضي الله تعالى عنهما على يد مصعب بن عمير، وكان إسلام أسيد قبل سعد في يومه.
فعن ابن إسحاق أن أسعد بن زرارة رضي الله تعالى عنه خرج بمصعب بن عمير إلى حائط: أي بستان من حوائط بني ظفر، فجلسا فيه واجتمع إليهما رجال ممن أسلم، وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير يومئذ سيدا قومهما: أي بني عبد الأشهل، وكلاهما مشرك على دين قومه، فقال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير: لا أبالك، انطلق بنا إلى هذين الرجلين؛ يعني أسعد بن زرارة ومصعب بن عمير اللذين أتيا دارينا تثنية دار، وهي المحلة، والمراد قبيلتنا وعشيرتنا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما وانههما: أي وفي لفظ قال له: ائت أسعد بن زرارة فازجره عنا فليكف عنا ما نكره، فإنه بلغني أنه قد جاء بهذا الرجل الغريب يسفه سفهاءنا وضعفاءنا، فإنه لولا أسعد بن زرارة مني حيث علمت لكفيتك ذلك، هو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدما، فأخذ(2/17)
أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إليهما، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب بن عمير: هذا سيد قومه قد جاءك فأصدق الله فيه، ثم قال مصعب: إن يجلس هذا كلمته. قال: فوقف عليهما متشمتا، قال: ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا؟
اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة، وفي لفظ قال: يا أسعد ما لنا ولك؟ تأتينا بهذا الرجل الغريب تسفه به سفهاءنا وضعفاءنا.
وفي رواية: علام أتيتنا في دورنا بهذا الرجل الوحيد الغريب الطريد يسفه ضعفاءنا بالباطل ويدعوهم إليه. فقال له مصعب: أو تجلس بفتح الواو استفهاما فتسمع بالنصب في جواب الاستفهام، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كفّ عنك ما تكره: أي منعنا عنك ما تكره، قال أنصفت، ثم ركز حربته وجلس إليها، فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن، فقال: ما أحسن هذا وأجمله بالنصب على التعجب، كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل وتتطهر وتغسل ثوبك ثم تشهد بشهادة الحق ثم تصلي، فقام واغتسل وطهر ثوبه وشهد بشهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين: أي وهما صلاة التوبة.
فقد روى أصحاب السنن، وقال الترمذي حديث حسن أنه صلى الله عليه وسلم قال «ما من عبد يذنب ذنبا فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله عز وجل إلا غفر له» ثم قال لهما: إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكما الآن، وهو سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه، ثم أخذ حربته فانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد مقبلا قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بن حضير بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأسا، وقد نهيتهما، فقالا: نفعل ما أحببت. وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك: أي ينقضوا عهدك، فقام سعد مغضبا مبادرا فأخذ الحربة من يده وقال: والله ما أراك أغنيت شيئا، ثم خرج إليهما، ولما أقبل سعد قال أسعد لمصعب: لقد جاءك والله سيد من وراءه من قومه، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان، فلما رآهما سعد مطمئنين عرف سعد أن أسيدا إنما أراد منه أن يسمع منهما، فوقف عليهما متشتما، ثم قال لأسعد بن زرارة: يا أبا أمامة والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت مني هذا، هذا يغشانا في دارنا بما نكره، فقال له مصعب: أو تقعد تسمع؟ فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهت عزلنا عنك ما تكره، فقال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة وجلس، فعرض عليه الإسلام وعرض عليه القرآن، فقال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ فقال: تغتسل وتتطهر وتطهر ثوبك ثم تشهد شهادة الحق ثم تركع ركعتين،(2/18)
فقام سعد فاغتسل وطهر ثوبه ثم شهد شهادة الحق ثم ركع ركعتين ثم أخذ حربته فأقبل عامدا إلى نادي قومه، ومعه: أي مع ذلك النادي أسيد بن حضير. فلما رآه قومه مقبلا، قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا سيدنا، وأفضلنا رأيا، وأيمننا وأبركنا نقيبة أي نفسا وأمرا؛ قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، قال: فو الله ما أمسي في دار: أي قبيلة بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما ومسلمة فأسلموا في يوم واحد كلهم، وكان ذلك بعد العقبة الأولى وقبل العقبة الثانية، إلا ما كان من الأصيرم وهو عمرو بن ثابت من بني عبد الأشهل فإنه تأخر إسلامه إلى يوم أحد فأسلم واستشهد، ولم يسجد لله سجدة، وأخبره صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة.
أي وفي كلام ابن الجوزي: أول دار أي قبيلة أسلمت من دور الأنصار دار بني عبد الأشهل، ثم رجع مصعب إلى دار أسعد بن زرارة رضي الله تعالى عنه فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور من الأنصار إلا فيها رجال ونساء مسلمون إلا ما كان من سكان عوالي المدينة: أي قراها من جهة نجد، قال:
وفي كلام بعضهم إلا جماعة من الأوس بن حارثة، وذلك أنه كان فيهم أبو قيس وهو صيفي بن الأسلت، وكان شاعرا لهم يسمعون منه ويطيعونه، لأنه كان قوّالا بالحق معظما؛ وقد ترهب في الجاهلية، ولبس المسوح، واغتسل من الجنابة، ودخل بيتا فاتخذه مسجدا وقال: أعبد إله إبراهيم لا يدخل فيه حائض ولا جنب، فوقف بهم عن الإسلام، فلم يزل على ذلك حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق فأسلم وحسن إسلامه وهو شيخ كبير اهـ أي سبب تأخر إسلامه ما ذكره بعضهم أنه لما أراد الإسلام عند قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة لقيه أبي ابن سلول وكلمه بما أغضبه ونفره عن الإسلام وقال أبو قيس: لا أتبعه إلا آخر الناس، فلما احتضر أرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قل: لا إله إلا الله أشفع لك بها، فقالها وهمّ ابنه أن ينكح امرأة أبيه، أي على ما هو عادة الجاهلية، أي وكان ذلك في المدينة حتى في أول الإسلام أنّ أكبر أولاد الرجل يخلفه على زوجته بعد موته فنزل التحريم: أي قوله تعالى وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ [النساء: الآية 22] وتقدم الكلام على سبب نزول هذه الآية مستوفى.
ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة مع من خرج من المسلمين من الأنصار إلى الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة، أي وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بمن أسلم، فسرّ بذلك.
وعن كعب بن مالك قال: خرجنا في حجاج قومنا من المشركين ومعنا(2/19)
البراء بن معرور سيدنا وكبيرنا، والبراء بالمد لغة: آخر ليلة من الشهر، سمي بذلك لأنه ولد فيها. ومعرور: معناه لغة: مقصود، فلما خرجنا من المدينة قال البراء لنا:
إني قد رأيت رأيا ما أدري أتوافقوني عليه أم لا، قال: قلنا وما ذاك؟ قال: رأيت أن لا أدع هذه البنية أي بفتح الموحدة وكسر النون وتشديد المثناة تحت المفتوحة ثم تاء التأنيث على وزن فعيلة يعني الكعبة مني بظهر، وأن أصلي إليها، قال: قلنا والله ما بلغنا أن نبينا صلى الله عليه وسلم يصلي إلا إلى الشام: يعنون بيت المقدس: أي صخرته، وما نريد أن نخالفه قال: فقال: إني أصلي إليها، قال: فقلنا له: لكنا لا نفعل، قال: فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام يعني بيت المقدس: أي واستدبرنا الكعبة، وصلى إلى الكعبة أي مستدبرا للشام حتى قدمنا مكة وقد كنا عبنا عليه ذلك وأبى إلا الإقامة على ذلك، فلما قدمنا مكة قال لي: يا بن أخي انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسأله عما صنعت في سفري هذا، فإنه والله لقد وقع في نفسي منه شيء، لما رأيت من خلافكم إياي فيه قال: فخرجنا نسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا لا نعرفه، لأنا لم نره قبل ذلك، فلقينا رجلا من أهل مكة فسألناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: تعرفانه؟
قلنا لا، قال: فهل تعرفان العباس بن عبد المطلب عمه؟ قلنا نعم، وكنا نعرف العباس، كان لا يزال يقدم علينا تاجرا، قال: فإذا دخلتما المسجد، فإذا هو الرجل الجالس مع العباس، فدخلنا المسجد فإذا العباس جالس ورسول الله صلى الله عليه وسلم معه، فسلمنا حين جلسنا إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل؟ قال نعم، هذا البراء بن معرور سيد قومه، وهذا كعب بن مالك، قال كعب:
فوالله ما أنسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الشاعر؟ قال نعم، فقال له البراء بن معرور: يا رسول الله إني خرجت في سفري هذا وقد هداني الله بالإسلام، فرأيت أن لا أجعل هذه البنية مني بظهر: يعني الكعبة، فصليت إليها، وخالفني أصحابي في ذلك حتى وقع في نفسي من ذلك شيء، فماذا ترى يا رسول الله؟ قال قد كنت على قبلة لو صبرت عليها، فرجع البراء إلى قبلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بيت المقدس: أي ولم يأمره بإعادة ما صلاه مع أنه كان مسلما؛ وبين له أنه كان الواجب عليه استقبال بيت المقدس، لأنه كان متأوّلا فليتأمل.
وفي هذا تصريح بأنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا بمكة قبل الهجرة وبعدها يصلون إلى بيت المقدس قبل أن تحوّل القبلة، وقد تقدم الوعد بذلك.
قال كعب: ثم خرجنا إلى الحج وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة: أي إلى أن يوافوه في الشعب الأيمن إذا انحدروا من منى أسفل العقبة حيث المسجد اليوم، أي الذي يقال له مسجد البيعة كما تقدم، وأمرهم أن لا ينبهوا نائما ولا ينتظروا غائبا، وذلك في ليلة اليوم الذي هو يوم النفر الأول، قال: فلما فرغنا من الحج وكانت(2/20)
الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لها وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا، وكان من جملة المشركين أبو جابر عبد الله بن عمرو بن حرام بفتح الحاء والراء المهملتين، سيد من ساداتنا، فكلمناه وقلنا له: يا أبا جابر إنك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا، ثم دعوناه إلى الإسلام فأسلم، وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد معنا العقبة، فمكثنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي بعد هدأة، يتسلل الرجل والرجلان تسلل القطا مستخفين، حتى إذا اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن ثلاث وسبعون رجلا وامرأتان: نسيبة بالتصغير، وهي أم عمارة من بني النجار، أي وكانت تشهد الحرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هي وزوجها وابناها حبيب وعبد الله رضي الله تعالى عنهم. وحبيب هذا اكتنفه مسيلمة الكذاب وصار يعذبه يقول له: أتشهد أن محمدا رسول الله فيقول نعم، ثم يقول: وتشهد، أني رسول الله، فيقول لا، فيقطع عضوا من أعضائه وهكذا حتى فنيت أعضاؤه ومات، وسيأتي ما وقع لها رضي الله تعالى عنها في حرب مسيلمة.
وأم منيع: أي وهذه الرواية لا تخالف رواية الحاكم خمسة وسبعون نفسا، نعم تخالف قول ابن مسعود وهم سبعون رجلا يزيدون رجلا أو رجلين وامرأتان: أي منهم أحد عشر رجلا من الأوس، قال: فلا زلنا ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا. أي وفي رواية «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبقهم وانتظرهم» .
أقول: وقد يقال لا مخالفة، لأنه يجوز أن يكون سبقهم وانتظرهم، فلما لم يجيؤوا ذهب، ثم جاءهم بعد مجيئهم- والله أعلم- ومعه عمه العباس بن عبد المطلب: أي ليس معه غيره، وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق به.
أقول: وهذا لا يخالف ما جاء أنه كان معه أيضا أبو بكر وعليّ لأن العباس أوقف عليا على فم الشعب عينا له، وأوقف أبا بكر على فم الطريق الآخر عينا، فلم يكن معه عندهم إلا العباس والله أعلم، فلما جلسوا كان العباس أول من تكلم، فقال: يا معشر الخزرج أي قال ذلك، لأن العرب كانت تطلق الخزرج على ما يشمل الأوس، وكانت تغلب الخزرج على الأوس فيقولون الخزرجين إن محمدا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا، فهو في عزّ من قومه ومنعة في بلده، وقد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم. فإن كنتم ترون أنكم وافون له، بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن تدعونه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده، فقال البراء بن معرور: إنا والله لو كان في أنفسنا غير ما ننطق به لقلناه،(2/21)
ولكنا نريد الوفاء والصدق، وبذل مهج أنفسنا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي والبراء بن معرور هو أول من أوصى بثلث ماله.
وفي رواية أن العباس قال: قد أبى محمد الناس كلهم غيركم، فإن كنتم أهل قوة وجلد وبصر بالحرب واستقلال بعداوة العرب قاطبة ترميكم عن قوس واحدة فأروا رأيكم وائتمروا بينكم، ولا تفرقوا إلا عن ملأ منكم واجتماع، فإن أحسن الحديث أصدقه.
أقول: قول العباس قد أبى محمد الناس كلهم غيركم، ربما يفيد أن الناس غير الأنصار وافقوه على مناصرته فأباهم، ولا يساعد عليه ما تقدم، ولولا التأكيد بلفظ كلهم لأمكن أن يراد بالناس قبيلة شيبان بن ثعلبة، فإنهم كما تقدم قالوا له: ننصرك بما يلي مياه العرب دون ما يلي مياه كسرى فأبى ذلك. ويحتمل أن المراد بالناس الذين أباهم أهله وعشيرته والله أعلم.
وعندما تكلم العباس بما ذكر، قالوا له: قد سمعنا مقالتك، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت. وفي رواية: خذ لنفسك ما شئت، واشترط لربك ما شئت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أشترط لربي عز وجل أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأبناءكم ونساءكم، فقال ابن رواحة: فإذا فعلنا فما لنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لكم الجنة، قالوا ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل.
وفي رواية: «فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن، ودعا إلى الله عز وجل ورغب في الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم» أي وفي رواية «أنهم قالوا له: يا رسول الله نبايعك؟ قال: تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة، فأخذ البراء بن معرور بيده صلى الله عليه وسلم، ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع به أزرنا أي نساءنا وأنفسنا» لأن العرب تكنى بالإزار عن المرأة وعن النفس «فنحن والله أهل الحرب وأهل الحلقة» أي السلاح «ورثناها كابرا عن كابر، وبينا البراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو الهيثم بن التيهان» بتشديد المثناة تحت وتخفيفها «نقبله على مصيبة المال وقتل الأشراف، فقال العباس: اخفوا جرسكم: أي صوتكم، فإن علينا عيونا، ثم قال أبو الهيثم: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال؛ يعني اليهود حبالا أي عهودا، وإنا قاطعوها فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: بل الدم الدم والهدم الهدم، بفتح الدال وسكونها: إهدار دم القتيل: أي دمي دمكم: أي تطلبون بدمي وأطلب بدمكم،(2/22)
فدمي ودمكم واحد» وفي لفظ بدل الدم «اللدم» وهو بالتحريك: الحرم من القرابات:
أي حرمي حرمكم. تقول العرب: اللدم اللدم، إذا أرادت تأكيد المحالفة هدمي وهدمكم واحد، أي وإذا أهدرتم الدم أهدرته «وذمتي ذمتكم، ورحلتي مع رحلتكم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم» أي وعند ذلك قال لهم العباس رضي الله تعالى عنه «عليكم بما ذكرتم ذمة الله مع ذمتكم وعهد الله مع عهدكم في هذا الشهر الحرام والبلد الحرام، يد الله فوق أيديكم لتجدّن في نصرته ولتشدن من أزره، قالوا جميعا نعم، قال العباس: اللهم إنك سامع شاهد، وإن ابن أخي قد استرعاهم ذمته واستحفظهم نفسه، اللهم كن لابن أخي عليهم شهيدا. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبا يكونون على قومهم بما فيهم، فأخرجوا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس» أي وفي رواية «أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم: إن موسى أخذ من بني إسرائيل اثني عشر نقيبا، فلا يحدث أحد في نفسه أن يؤخذ غيره، فإنما يختار لي جبريل» أي لأنه عليه الصلاة والسلام حضر البيعة «فلما تخيرهم أي وهم سعد بن عبادة، وأسعد بن زرارة، وسعد بن الربيع، وسعد بن أبي خيثمة، والمنذر بن عمرو، وعبد الله بن رواحة، والبراء بن معرور، وأبو الهيثم بن التيهان، وأسيد بن حضير، وعبد الله بن عمرو بن حرام، وعبادة بن الصامت، ورافع بن مالك، كل واحد على قبيلة» رضي الله تعالى عنهم أجمعين. «وقال صلى الله عليه وسلم لأولئك النقباء: أنتم كفلاء على غيركم ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم، وأنا كفيل على قومي يعني المهاجرين» .
وقيل إن الذي تولى الكلام من الأنصار وشد العقدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أسعد بن زرارة: أي وهو من أصغرهم «فإنه أخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم وقال: رويدا يا أهل يثرب إنا لن نضرب، إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن إخراجه اليوم مفارقة لجميع العرب، وقتل خياركم، وإن تعطكم السيوف فإما أنتم قوم تصبرون عليها إذا مستكم بقتل خياركم ومفارقة العرب كافة: أي جميعا، فخذوه وأجركم على الله تعالى، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فهو عذر لكم عند الله عز وجل، فقالوا: يا أسعد أمط عنا يدك، فو الله لا نذر: أي نترك هذه البيعة ولا نستقيلها: أي لا نطلب الإقالة منها.
وقيل إن الذي تكلم مع الأنصار وشدّ العقدة العباس بن عبادة بن نضلة، قال:
يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس: أي على من حاربه منهم، وإلا فهو صلى الله عليه وسلم لم يؤذن له في البداءة بالمحاربة إلا بعد أن هاجر إلى المدينة بمدة كما سيأتي، وكان قبل ذلك مأمورا بالدعاء إلى الله تعالى والصبر على الأذى والصفح عن الجاهل، ثم ذكر ما(2/23)
تقدم عن أسعد بن زرارة أي ثم توافقوا على ذلك وقالوا: يا رسول الله ما لنا بذلك إن نحن قضينا؟ قال: «رضوان الله والجنة» . قالوا: رضينا، ابسط يدك فبسط يده صلى الله عليه وسلم فبايعوه، أي وأول من بايعه صلى الله عليه وسلم البراء بن معرور، وقيل أسعد بن زرارة، وقيل أبو الهيثم بن التيهان، ثم بايعه السبعون كلهم، أي وبايعه المرأتان المذكورتان من غير مصافحة، «لأنه صلى الله عليه وسلم كان لا يصافح النساء إنما كان يأخذ عليهن، فإذا أحرزن قال: اذهبن فقد بايعتكن» كما سيأتي، فكانت هذه البيعة على حرب الأسود والأحمر أي العرب والعجم، فهؤلاء الثلاثة لم يتقدم عليهم أحد غيرهم، وحينئذ تكون الأولية فيهم حقيقية واضافية.
أي ويقال: إن أبا الهيثم قال: أبايعك يا رسول الله على ما بايع عليه الاثنا عشر نقيبا من بني إسرائيل موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، وأن عبد الله بن رواحة قال: أبايعك يا رسول الله على ما بايع عليه الاثنا عشر من الحواريين عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، وقال أسعد بن زرارة: أبايع الله عز وجل يا رسول الله، فأبايعك على أن أتمّ عهدي بوفائي وأصدق قولي بفعلي في نصرك، وقال النعمان بن حارثة: أبايع الله عز وجل يا رسول الله، وأبايعك على الإقدام في أمر الله عز وجل، لا أرأف فيه القريب ولا البعيد أي لا أعامل فيه بالرأفة والرحمة. وقال عبادة بن الصامت: أبايعك يا رسول الله على أن لا تأخذني في الله لومة لائم، وقال سعد بن الربيع: أبايع الله وأبايعك يا رسول الله على أن لا أعصي لكما أمرا ولا أكذبكما حديثا، فلما انتهت البيعة، وهذه البيعة يقال لها العقبة الثانية، ولما وقعت صرخ الشيطان من رأس العقبة بأشد صوت وأبعده: يا أهل الجباجب: أي بجيمين الأولى مفتوحة والثانية مكسورة وبعد كل جيم باء موحدة: وهي منازل منى. وفي الهدى: يا أهل الأخاشب هل لكم في مذمم والصباة معه، يعني بمذمم النبي صلى الله عليه وسلم، لأن قريشا كانت تقول بدل محمد صلى الله عليه وسلم مذمم، ويعني بالصباة أصحابه الذين بايعوه، لأنهم كانوا يقولون لمن أسلم صابىء، لأن الصابىء من خرج من دين إلى دين، وقد جاء «ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم، يسبون مذمما وأنا محمد، فإنهم قد أجمعوا» أي عزموا على حربكم «فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا إزب العقبة أسمع، أي عدو الله، أما والله لا أفزعن» وإزب بكسر الهمزة وإسكان الزاي ثم بالباء الموحدة الخفيفة، وقيل بفتح الهمزة وفتح الزاي وتشديد الموحدة: أي شيطان سمي بهذا الاسم المركب من المضاف والمضاف إليه عامرها. والإزب في الأصل: القصير، ومن ثم رأى عبد الله بن الزبير رجلا طوله شبران على برذعة رحله، فقال له: ما أنت؟ قال إزب، قال. وما إزب؟ قال: رجل من الجن، فضربه على رأسه بعود سوطة فهرب.(2/24)
«وعند ذلك قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارفضّوا» وفي لفظ «انفضوا إلى رحالكم» .
أقول: وفي رواية «لما بايع الأنصار بالعقبة صاح الشيطان من رأس الجبل: يا معشر قريش هذه بنو الأوس والخزرج تحالف على قتالكم، ففزعوا: أي الأنصار عند ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يروعكم هذا الصوت، فإنما هو عدوّ الله إبليس وليس يسمعه أحد مما تخافون» .
ولا مانع من اجتماع صراخ إزب العقبة وصراخ إبليس الذي هو أبو الجن.
ويجوز أن يكون المراد بعدو الله إبليس إزب العقبة، لأنه من الأبالسة وإنه أتى باللفظين معا، وقد حضر البيعة جبريل كما تقدم.
فعن حارثة بن النعمان رضي الله تعالى عنه «لما فرغوا من المبايعة قلت: يا نبي الله، لقد رأيت رجلا عليه ثياب بيض أنكرته قائما على يمينك قال: وقد رأيته؟
قلت: نعم، قال: ذاك جبريل» والله أعلم.
ثم إن الحديث نما وسمع المشركون من قريش بذلك: أي وفي كتاب الشريعة أن الشيطان لما نادى بما ذكر شبه صوته بصوت منبه بن الحجاج، فنال عمرو بن العاص ما نال أبو جهل، قال عمرو: ذهبت أنا وهو إلى عتبة بن ربيعة فأخبره بصوت منبه بن الحجاج فلم يرعه ما راعنا، وقال: هل أتاكم فأخبركم بهذا منبه؟ قلنا لا، فقال: لعله إبليس الكذاب الحديث. وفيه طول وأمور مستغربة.
ولا ينافي سماع عمرو وأبي جهل صوت إبليس قوله صلى الله عليه وسلم «ليس يسمعه أحد مما تخافون» لأن سماعهما لم يحصل منه خوف لهم «وعند فشوّ الخبر جاء أجلتهم وأشرافهم حتى دخلوا شعب الأنصار، فقالوا يا معشر الأوس والخزرج، وفي رواية:
يا معشر الخزرج أي بالتغليب بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا هذا لتخرجوه من بين أظهرنا وتبايعوه على حربنا، والله ما من حي أبغض إلينا أن نشب الحرب بيننا وبينه منكم، فصار مشركو الأوس والخزرج يحلفون لهم ما كان من هذا شيء وما علمناه:
أي حتى أن أبيّ ابن سلول جعل يقول هذا باطل، وما كان هذا وما كان قومي ليفتاتوا عليّ بمثل هذا، لو كنت بيثرب ما صنع هذا قومي حتى يؤامروني» وصدقوا لأنهم لم يعلموه كما علم مما تقدم: أي ونفر الناس من منى وبحثت قريش عن خبر الأنصار فوجدوه حقا، فلما تحققوا الخبر اقتفوا آثارهم فلم يدركوا إلا سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو، فأما سعد فأمسك وعذب في الله، وأما المنذر فأفلت ثم أنقذ الله سعدا من أيدي المشركين، قال: نقل عنه أنه قال: لما ظفروا بي ربطوا يدي في عنقي، فلا زالوا يلطموني على وجهي ويجذبوني بجمتي: أي وكان ذا شعر كثير حتى أدخلوني مكة، فأومأ إليّ رجل أي وهو أبو البختري بن هشام، مات كافرا وقال: ويحك ما بينك وبين أحد من قريش، جوار ولا عهد، قال: بلى، قد كنت(2/25)
أجير لجبير بن مطعم تجارة، وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي، وللحارث بن حرب بن أمية: أي وهو أخو أبي سفيان، والأول أسلم بعد الحديبية، والثاني لا يعلم له إسلام، فقال: ويحك فاهتف باسم الرجلين، ففعلت، فخرج ذلك الرجل إليهما فوجدهما في المسجد، فقال لهما إن رجلا من الخزرج يضرب بالأبطح يهتف باسمكما، فقالا: من هو؟ قال: يقول إنه سعد بن عبادة، فجاآ فخلصاني من أيديهم اهـ.
وعن سعد: بينا أنا مع القوم أضرب إذ طلع عليّ رجل أبيض وضيء شعشاع:
أي طويل زائد الحسن حلو من الرجال، فقلت في نفسي: إن يكن عند أحد من القوم خير فعند هذا، فلما دنا مني رفع يديه ولكمني لكمة شديدة فقلت في نفسي والله ما عندهم بعد هذا خير، أي وهذا الرجل سهيل بن عمرو رضي الله تعالى عنه؛ فإنه أسلم بعد ذلك.
فلما قدم الأنصار المدينة أظهروا الإسلام، أي إظهارا كليا وتجاهروا، وإلا فقد تقدم أن الإسلام فشا فيهم قبل قدومهم لهذه البيعة، وكان عمرو بن الجموح وهو من سادات بني سلمة بكسر اللام وأشرافهم ولم يكن أسلم، وكان ممن أسلم ولده معاذ بن عمرو وكان لعمرو في داره صنم أي من خشب يقال له المناة لأن الدماء كانت تمنى: أي تصب عنده تقرّبا إليه، وكان يعظمه، فكان فتيان قومه ممن أسلم كمعاذ بن جبل وولده عمرو بن معاذ ومعاذ بن عمرو، يدلجون بالليل على ذلك الصنم فيطرحونه أي ولعله بعد إخراجه من داره في بعض الحفر التي فيها خرء الناس منكسا، فإذا أصبح عمرو قال: ويحكم من عدا على إلهنا هذه الليلة؟ ثم يعود يلتمسه؛ حتى إذا وجده غسله، فإذا أمسى عدوا عليه وفعلوا به مثل ذلك، إلى أن غسله وطيبه وحماه بسيف علقه في عنقه، ثم قال له: ما أعلم من يصنع بك، فإن كان فيك خير فامتنع، فهذا السيف معك، فلما أمسى عدوا عليه وأخذوا السيف من عنقه، ثم أخذوا كلبا ميتا فقرنوه به بحبل، ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة فيها خرء الناس، فلما أصبح عمرو غدا إليه فلم يجده، ثم تطلبه إلى أن وجده في تلك البئر، فلما رآه كذلك رجع إلى عقله، وكلمه من أسلم من قومه، فأسلم وحسن إسلامه، وأنشد أبياتا منها:
والله لو كنت إلها لم تكن ... أنت وكلب وسط بئر في قرن
أي حبل.
«وأمر صلى الله عليه وسلم من كان معه من المسلمين بالهجرة إلى المدينة، أي لأن قريشا لما علمت أنه صلى الله عليه وسلم آوى: أي استند إلى قوم أهل حرب وتحمل ضيقوا على أصحابه؛ ونالوا منهم ما لم يكونوا ينالونه من الشتم والأذى، وجعل البلاء يشتد عليهم، وصاروا ما بين مفتون في دينه، وبين معذب في أيديهم، وبين هارب في البلاد شكوا(2/26)
إليه صلى الله عليه وسلم واستأذنوه في الهجرة: أي فمكث أياما لا يأذن لهم، ثم قال لهم: أريت دار هجرتكم، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان، ولو كانت السراة أرض نخل وسباخ لقلت هي هي» والسراة بفتح السين: أعظم جبال بلاد العرب «ثم خرج إليهم مسرورا، فقال: قد أخبرت بدار هجرتكم وهي يثرب، فأذن لهم، وقال: من أراد أن يخرج فليخرج إليها فخرجوا إليها أرسالا» أي متتابعين «يخفون ذلك» أي وفي رواية «أريت في المنام أني هاجرت من مكة إلى أرض بها نخل؛ فذهب وهلي» أي وهمي «إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب» .
وفي الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله أوحى إليّ: أي هؤلاء الثلاثة نزلت هي دار هجرتك المدينة، أو البحرين، أو قنسرين» قال الترمذي، هذا حديث غريب، وزاد الحاكم «فاختار المدينة» .
أقول: فيه أن هذا السياق المتقدم يدل على أن استئذانهم في الهجرة عبارة عن خروجهم من مكة لا لخصوص المدينة، وأن عدم إذنه صلى الله عليه وسلم لهم في الهجرة لعدم تعيين المحل الذي يهاجرون إليه له صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك لا يناسب ما تقدم في حديث المعراج من قول جبريل له «صليت بطيبة وإليها المهاجرة» .
وقد يجاب بأنه يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم أنسي قول جبريل المذكور حينئذ ثم تذكره بعد ذلك في قوله «قد أخبرت بدار هجرتكم» إلى آخره.
وفيه أن هذا لا يحسن بعد مبايعته صلى الله عليه وسلم للأوس والخزرج على مناصرته ومحاربة عدوّه مع علمه بأن وطنه المدينة، وكونهم يبايعونه على مناصرته مع كونه ساكنا في البحرين أو قنسرين في غاية البعد.
على أنه سيأتي في غزوة بدر «أنه صلى الله عليه وسلم خشي أن الأنصار لا ترى مناصرته إلا في المدينة» أي فإن في بعض الروايات «وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم بيثرب» والله أعلم.
وقبل الهجرة «آخي صلى الله عليه وسلم بين المسلمين» أي المهاجرين «على الحق والمواساة، فآخى بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وآخى بين حمزة وزيد بن حارثة، وبين عثمان وعبد الرحمن بن عوف، وبين الزبير وابن مسعود، وبين عبادة بن الحارثة وبلال، وبين مصعب بن عمير وسعد بن أبي وقاص، وبين أبي عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة، وبين سعيد بن زيد وطلحة بن عبيد الله، وبين عليّ ونفسه صلى الله عليه وسلم، وقال: أما ترضى أن أكون أخاك؟ قال: بلى يا رسول الله رضيت، قال:
فأنت أخي في الدنيا والآخرة» قال: وأنكر العباس بن تيمية المؤاخاة بين المهاجرين سيما مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم لعليّ رضي الله تعالى عنه، قال: لأن المؤاخاة بين المهاجرين(2/27)
والأنصار إنما جعلت لإرفاق بعضهم ببعض، ولتألف قلوبهم بعضهم ببعض، فلا معنى لمؤاخاة مهاجريّ لمهاجريّ.
قال الحافظ ابن حجر: هذا ردّ للنص بالقياس، وبعض المهاجرين كان أقوى من بعض بالمال والعشيرة، فآخى بين الأعلى والأدنى ليرتفق الأدنى بالأعلى، وليستعين الأعلى بالأدنى، ولهذا تظهر مؤاخاته صلى الله عليه وسلم لعليّ رضي الله تعالى عنه كان هو الذي يقوم بأمره قبل البعثة.
وفي الصحيح في عمرة القضاء «أن زيد بن حارثة قال إن بنت حمزة بنت أخي» أي بسبب المؤاخاة اهـ، وكان أول من هاجر منهم إليها أي لا معهم أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، وهو أخوه من الرضاع وابن عمته. وهو أول من يدعي للحساب اليسير كما تقدم فإنه لما قدم من الحبشة لمكة آذاه أهلها وأراد الرجوع إلى الحبشة، فلما بلغه إسلام من أسلم من الأنصار، أي الاثني عشر الذين بايعوا البيعة الأولى خرج إليهم، وقدم المدينة بكرة النهار. ولما عزم على الرحيل رحل بعيره وحمل عليه أم سلمة وابنها سلمة في حجرها، وخرج يقود البعير رآه رجال من قوم أم سلمة فقاموا إليه وقالوا: يا أبا سلمة قد غلبتنا على نفسك فصاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها في البلاد، ثم نزعوا خطام البعير منه، فجاء رجال من قوم أبي سلمة، وقالوا: إن ابننا معها إذا نزعتموها من صاحبنا ننزع ولدنا منها، ثم تجاذبوه حتى خلعوا يده وأخذه قوم أبيه ففرق بينها وبين زوجها وولدها، فكانت تخرج كل غداة بالأبطح فتبكي حتى المساء مدة سنة، فمرّ بها رجل من بني عمها فرأى ما بها فرحمها وقال لقومها: أما ترحمون هذه المسكينة؟ فرقتم بينها وبين ولدها وزوجها، فقالوا لها: الحقي بزوجك، فلما بلغ ذلك قوم أبي سلمة ردوا عليها ولدها، فارتحلت بعيرا وجعلت ولدها في حجرها وخرجت تريد المدينة وما معها أحد من خلق الله تعالى، حتى إذا كانت بالتنعيم لقيها عثمان بن طلحة: أي الحجبي صاحب مفتاح الكعبة وكان عثمان بن طلحة يومئذ مشركا ثم أسلم رضي الله تعالى عنه في هدنة الحديبية وهاجر مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص كما سيأتي، فتبعها إلى المدينة حتى إذا وافى على قباء قال لها: هذا زوجك هنا ثم انصرف، وهي أول ظعينة دخلت من المهاجرين المدينة رضي الله تعالى عنها، وكانت أم سلمة تقول: ما رأيت صاحبا أكرم من عثمان بن طلحة.
قال: وقال ابن إسحاق وابن سعد: ثم كان أول من قدمها بعد أبي سلمة عامر بن ربيعة ومعه امرأته ليلى بنت أبي حثمة- بالحاء المهملة المفتوحة وسكون الثاء المثلثة- وهي أول ظعينة قدمت المدينة اهـ.
أقول: فأم سلمة أوّل ظعينة قدمت المدينة لا مع زوجها، وليلى أول ظعينة(2/28)
قدمت المدينة مع زوجها، فلا منافاة.
وفي كلام ابن الجوزي: أول من هاجر إلى المدينة من النساء أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، والله أعلم.
قال: بينت: أي أم سلمة ما تقدم عنها في حق عثمان بن طلحة بقولها: فإنه لما رآني قال: إلى أين؟ قلت: إلى زوجي، قال: أو ما معك أحد؟ قلت لا، ما معي إلا الله وابني هذا، فقال: والله لا أتركك، ثم أخذ بخطام البعير وسار معي، فكان إذا وصلنا المنزل أناخ بي ثم استأخر، فإذا نزلت جاء وأخذ بعيري فحط عنه ثم قيده في الشجرة، ثم أتى إلى شجرة فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فرحله وقدمه ثم استأخر عني وقال اركبي، فإذا ركبت أخذ بخطامه فقادني اهـ.
أي وقد قال فقهاؤنا: من الصغائر مسافرة المرأة بغير زوج ولا محرم ولا امرأة ثقة في غير الهجرة وفرض الحج والعمرة؛ أما في ذلك فيجوز حيث أمنت الطريق.
وقولنا لا معهم لا ينافي أن أول من قدم المدينة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير، لأن قدومه كان معهم على ما تقدم أو يقال: أبو سلمة أول من قدم المدينة بوازع طبعه. وأما مصعب فكان بإرسال منه صلى الله عليه وسلم. ثم رأيت في السيرة الهشامية: أول من هاجر إلى المدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني مخزوم أبو سلمة، وعليه فلا إشكال. ثم جاء عمار وبلال وسعد.
وفي رواية: ثم قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرسالا بعد العقبة الثانية فنزلوا على الأنصار في دورهم فأووهم وواسوهم، ثم قدم المدينة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وعياش بن أبي ربيعة في عشرين راكبا. وكان هشام بن العاص واعد عمر بن الخطاب أن يهاجر معه وقال: تجدني أو أجدك عند محل كذا، فتفطن بهشام قومه فحبسوه عن الهجرة.
وعن عليّ رضي الله تعالى عنه قال: ما علمت أحدا من المهاجرين هاجر إلا مختفيا إلا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فإنه لما همّ بالهجرة تقلد بسيفه وتنكب قوسه وانتضى في يديه أسهما واختصر عنزته: أي وهي الحربة الصغيرة علقها عند خاصرته ومضى قبل الكعبة والملأ من قريش بفنائها، فطاف بالبيت سبعا، ثم أتى المقام فصلى ركعتين، ثم وقف على الحلق واحدة واحدة، فقال: شاهت الوجوه، لا يرغم الله إلا هذه المعاطس: أي الأنوف، من أراد أن تثكله أمه: أي تفقده، أو يوتم ولده، أو ترمل زوجته فيلقني وراء هذا الوادي، قال عليّ رضي الله تعالى عنه: فما تبعه أحد ثم مضى لوجهه. ثم إن أبا جهل وأخاه شقيقه الحارث بن هشام رضي الله تعالى عنه- فإنه أسلم بعد ذلك يوم الفتح- قدما المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم(2/29)
بمكة لم يهاجر، فكلما عياش بن أبي ربيعة وكان أخاهما لأمهما وابن عمهما كان أصغر ولد أمه، وأخبراه أن أمه قد نذرت أن لا تغسل رأسها. وفي لفظ: ولا يمس رأسها مشط ولا تستظل من شمس حتى تراه، أي وفي لفظ: أن لا تأكل ولا تشرب ولا تدخل مسكنا حتى يرجع إليها، وقالا له وأنت أحب ولد أمك إليها، وأنت في دين منه برّ الوالدين، فارجع إلى مكة فاعبد ربك كما تعبده بالمدينة، فرقت نفسه وصدّقهما: أي وأخذ عليهما المواثيق أن لا يغشياه بسوء، وقال له عمر: إن يريدا إلا فتنتك عن دينك فاحذرهما، والله لو آذى أمك القمل امتشطت، ولو اشتد عليها حر مكة لاستظلت، فقال عياش: أبرّ أمي ولي مال هناك آخذه، فقال عمر: خذ نصف مالي ولا تذهب معهما، فأبى إلا ذلك، فقال له عمر: فحيث صممت فخذ ناقتي هذه فإنها نجيبة ذلول فالزم ظهرها، فإن رابك منهما ريب فانج عليها، فأبى ذلك وخرج راجعا معهما إلى مكة، فلما خرجا من المدينة كتفاه بتخفيف التاء: أي شدّا يديه إلى خلف بالكتاف في الطريق. أي وفي السيرة الهشامية أنه أخذ الناقة وخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال له أبو جهل: يا أخي والله لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه؟ قال بلى، قال: فأناخ وأناخ ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه وأوثقاء رباطا ودخلا به مكة نهارا موثقا. وقالا: يا أهل مكة، هكذا فافعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفهائنا. وفي لفظ:
بسفيهنا، فحبس بمكة مع هشام بن العاص، فإنه كما تقدم منع وحبس عن الهجرة، وجعل كل في قيد.
وفي لفظ: أنهما لما ذكرا له أن أمه حلفت أن لا يظلها سقف بيت حتى تراه، وأعطياه موثقا أن لا يمنعاه وأن يخليا سبيله بعد أن تراه أمه، فانطلق معهما حتى إذا خرجا من المدينة عمدا إليه فشداه وثاقا وجلداه نحوا من مائة جلدة، وكان أعانهما عليه رجل من بني كنانة: أي يقال له الحارث بن يزيد القرشي وفي كلام ابن عبد البر أنه كان من يعذبه بمكة مع أبي جهل.
وفي الينبوع: جلده كل واحد منهما مائة جلدة، وأنه لما جيء به إلى مكة ألقي في الشمس، وحلفت أمه أنه لا يحل عنه حتى يرجع عن دينه ففتن. قيل وكان ذلك سبب نزول قوله تعالى وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ [العنكبوت: الآية 8] الآية.
وفيه أنه تقدم أنها نزلت في سعد بن أبي وقاص؛ إلا أن يقال يجوز أن يكون مما تكرر نزوله، فتكون نزلت فيهما، وحلف عياش ليقتلنّ ذلك الرجل إن قدر عليه.
قيل ولم يزل عياش محبوسا حتى فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، فخرج عياش فلقي ذلك الرجل الكناني وكان قد أسلم وعياش لا يعلم بإسلامه، فقتله وأعلم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فأنزل الله تعالى وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً [النّساء: الآية 92](2/30)
فقرأها النبي صلى الله عليه وسلم وقال لعياش «قم فحرر» أي أعتق رقبة. وما ذكر من أن عياشا استمر محبوسا إلى الفتح يخالف قول بعضهم: مكث صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة كما سيأتي أربعين صباحا يقنت في صلاة الصبح بعد الركوع: أي من الركعة الأخيرة «وكان يقول في قنوته اللهم أنج الوليد بن الوليد وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص، والمستضعفين من المؤمنين بمكة الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا» فإن هذا يدل على أن هشام بن العاص وعياش بن أبي ربيعة لم يفتتنا ولم يرجعا عن الإسلام. وفي السيرة الهشامية ما يفيد أنهما فتنا، الأول صريحا، والثاني ظاهرا.
وفي السيرة الهشامية التصريح بافتتانهما، وفيه نظر لما ذكر، ولأنهما لو كانا فتنا لأطلقا من الحبس والقيد وإدامة ذلك، إلا أن يقال فعل بهما ذلك لعدم الوثوق برجوعهما عن الإسلام. ومما يدل على أن رجوعهما عن الإسلام إن صح إنما كان ظاهرا فقط دعاؤه صلى الله عليه وسلم لهما.
أي وسيأتي أن الوليد كان سببا لتخليص عياش بن أبي ربيعة وهشام بن أبي العاص بعد أن تخلص من الحبس وهاجر إلى المدينة، فإن الوليد كان أسر ببدر ثم افتداه أخوه خالد وهشام ابنا الوليد بن المغيرة وذهبا به إلى مكة فأسلم وأراد الهجرة فحبساه بمكة. وقيل له: هلا أسلمت قبل أن تفدى؟ قال: كرهت أن يظن فيّ أني جزعت من الأسر، ثم نجا وتوصل إلى المدينة ورجع إلى مكة مستخفيا وخلص عياشا وهشاما وجاء بهما إلى المدينة، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وشكر صنيعه، وبه يعلم ضعف ما تقدم من أن عياشا لم يزل محبوسا إلى يوم الفتح.
وممن هاجر قبل النبي صلى الله عليه وسلم سالم مولى أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة: أي لأنه لما أعتقته زوجة أبي حذيفة وكانت أنصارية تبناه أبو حذيفة، وكان يؤمّ المهاجرين بالمدينة فيهم عمر بن الخطاب، لأنه كان أكثرهم أخذ للقرآن، فكان عمر بن الخطاب يثني عليه كثيرا، حتى قال لما أوصى عند قتله: لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا ما جعلتها شورى. قال ابن عبد البر: معناه أنه كان يأخذ برأيه فيمن يوّليه الخلافة: أي فإنه قتل في يوم اليمامة، وأرسل عمر بميراثه لمعتقته فأبت أن تقبله، فجعله في بيت المال.
ولما أراد صهيب الهجرة إلى المدينة، أي بعد أن هاجر إليها صلى الله عليه وسلم، خلافا لما يوهمه كلام الأصل والشامي قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكا فقيرا فكثر مالك عندنا ثم تريد أن تخرج بمالك؟ لا والله لا يكون ذلك، فقال لهم صهيب، أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا نعم، قال: فإني جعلته لكم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال «ربح صهيب» .
أقول: «وذكر أن صهيبا تواعد معه صلى الله عليه وسلم أن يكون معه في الهجرة فلما أراد صلى الله عليه وسلم(2/31)
الخروج للغار أرسل إليه أبا بكر مرتين أو ثلاثا فوجده يصلي، فكره أن يقطع عليه صلاته» كما سيأتي، وحينئذ يكون قول صهيب المذكور بعد هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كما تقدم، وهو ما في الخصائص الكبرى عن صهيب «لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وخرج معه أبو بكر وقد كنت هممت بالخروج معه فصدني فتيان من قريش» أي بعد أن أردت الخروج بعده «وقالوا له جئتنا فقيرا حقيرا صعلوكا فكثر مالك عندنا وتريد أن تخرج بمالك ونفسك لا يكون ذلك أبدا، قال فقلت لهم: أنا أعطيكم أواقي من الذهب. وفي لفظ ثلث مالي. وفي لفظ: مالي وتخلون سبيلي، ففعلوا، فقلت احفروا تحت أسكفة الباب، فإن تحتها الأواقي، وخرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء قبل أن يتحوّل منها، فلما رآني قال يا أبا يحيى ربح البيع ثلاثا، فقلت: يا رسول الله إنه ما سبقني إليك أحد، وما أخبرك إلا جبريل عليه الصلاة والسلام» أي وأخرج أبو نعيم في الحلية عن سعيد بن المسيب قال «أقبل صهيب مهاجرا نحو النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخذ سيفه وكنانته وقوسه، فاتبعه نفر من قريش، فنزل عن راحلته وانتثل ما في كنانته. ثم قال: يا معشر قريش قد علمتم أني من أرماكم رجلا وأيم الله لا تصلون إليّ حتى أرمي بكل سهم في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقيّ في يدي منه شيء ثم افعلوا ما شئتم، وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة وخليتم سبيلي، فقالوا نعم، فقال لهم ما تقدم» وفي رواية «أنهم قالوا له: دلنا على مالك ونخلي عنك، وعاهدوه على ذلك ففعل» .
وذكر بعض المفسرين «أن المشركين أخذوه وعذبوه فقال لهم: إني شيخ كبير لا يضركم أمنكم كنت أم من غيركم، فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني وديني، وتتركوا لي راحلة ونفقة ففعلوا، ونزل قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [البقرة: الآية 207] قال: فلما قدمت وجدت النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر جالسين، فلما رآني أبو بكر قام إليّ فبشرني بالآية التي نزلت فيّ أي وفي رواية «فتلقاني أبو بكر وعمر ورجال، فقال لي أبو بكر: ربح بيعك أبا يحيى، فقلت: وبيعك، هلا تخبرني ما ذاك؟ فقال: أنزل الله فيك كذا، وقرأ عليّ الآية» .
وفي تفسير سهل بن عبد الله التستري أن صهيبا كان من المشتاقين لم يكن له قرار؛ كان لا ينام لا بالليل ولا بالنهار.
وقد حكي أن امرأة اشترته فرأته كذلك، فقالت: لا أرضى لك حتى تنام بالليل، لأنك تضعف فلا يتهيأ لك الاشتغال بأعمالي؛ فبكى وقال: إن صهيبا إذا ذكر النار طار نومه وإذا ذكر الجنة جاء شوقه، وإذا ذكر الله طال شوقه: أي وليتأمل هذا مع ما في تاريخ ابن كثير أن الروم أغارت على بلاد صهيب وكانت على دجلة، وقيل على الفرات، فأسرته وهو صغير، ثم اشتراه منهم بنو كلب فحملوه إلى مكة فابتاعه(2/32)
عبد الله بن جدعان فأعتقه وأقام بمكة حينا، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم وكان إسلامه وإسلام عمار بن ياسر في يوم واحد. وقد يقال: يجوز أن تكون تلك المرأة التي اشترته كانت من بني كلب.
وعن صهيب رضي الله تعالى عنه «صحبت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه وأنه قال له عمر رضي الله تعالى عنه: يا صهيب اكتنيت وليس لك ولد؛ فقال: كناني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي يحيى» فهو من جملة من كناه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ولد له؛ وكان في لسانه عجمة شديدة، وكان فيه دعابة «رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل قثاء ورطبا وهو أرمد إحدى عينيه، فقال له: تأكل رطبا وأنت أرمد؟ فقال: إنما آكل من ناحية عيني الصحيحة فضحك صلى الله عليه وسلم» .
وفي المعجم الكبير للطبراني عن صهيب، قال «قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يديه تمر وخبز، فقال: ادن فكل، فأخذت آكل من التمر، فقال لي: أتأكل التمر وعينك رمدة، فقلت: يا رسول الله أمصه من الناحية الأخرى، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم» أي ولا مانع من التعدد «ولما أذن صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الهجرة وهاجروا مكث صلى الله عليه وسلم بعد أصحابه ينتظر أن يؤذن له في الهجرة ولم يتخلف معه إلا علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأبو بكر أي وصهيب كما علمت، ومن كان محبوسا أو مريضا أو عاجزا عن الخروج، وكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه كثيرا ما يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فيقول له: لا تعجل لعل الله أن يجعل لك صاحبا فيطمع أبو بكر أن يكون هو» وفي رواية «تجهز أبو بكر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: على رسلك؛ فإني أرجو أن يؤذن لي، فقال له أبو بكر هل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟
قال نعم، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه وعلف راحلتين عنده الخبط» أي وفي لفظ «ورق السمر» بفتح المهملة وضم الميم، قال الزهري، وهو الخبط. قال ابن فارس: والخبط ما يخبط بالعصا فيسقط من ورق الشجر، وكان مدة علفها أربعة أشهر، وكان اشتراهما بثمانمائة درهم.
أقول: ظاهر هذا السياق أن علفه للراحلتين كان بعد قول المصطفى صلى الله عليه وسلم له ما ذكر. ومعلوم أن ذلك بعد مبايعة الأنصار صلى الله عليه وسلم، والمدة بين مبايعة الأنصار له صلى الله عليه وسلم والهجرة كانت ثلاثة أشهر أو قريبا منها، لأنها كانت في ذي الحجة، ومهاجرته صلى الله عليه وسلم كانت في ربيع الأول.
وفي السيرة الشامية ما يصرح بأن علفة للراحلتين كان بعد قول المصطفى صلى الله عليه وسلم له ما ذكر. ففيها «أنه صلى الله عليه وسلم لما قال لأبي بكر وقد استأذنه في الهجرة: لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا» طمع بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يعني نفسه فابتاع راحلتين فحبسهما في داره يعلفهما إعدادا لذلك، وسيأتي عن الحافظ ابن حجر أن بين ابتداء(2/33)
هجرة الصحابة وبين هجرته صلى الله عليه وسلم شهرين ونصف شهر على التحرير، والله أعلم.
«فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صار له شيعة» أي أنصار وأصحاب من غيرهم «ورأوا خروج أصحابه إليهم، وأنهم أصابوا منعة لأن الأنصار قوم أهل حلقة» أي سلاح وبأس «حذروا: أي خافوا أن يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يجمع على حربهم، فاجتمعوا في دار الندوة يتشاورون فيما يصنعون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت محل مشورتهم لا يقطعون أمرا إلا فيها» أي وهي أول دار بنيت بمكة، كانت منزل قصيّ بن كلاب كما تقدم، ثم صارت لولده عبد الدار، ثم ابتاعها معاوية لما حج وهو خليفة من أولاد عبد الدار.
وتقدم أن معاوية إنما اشتراها من حكيم بن حزام، ويدل لذلك ما جاء عن مصعب بن عبد الله قال: جاء الإسلام ودار الندوة بيد حكيم بن حزام، فباعها لمعاوية بن أبي سفيان بمائة ألف درهم، فقال له عبد الله بن الزبير: بعت مكرمة قريش، فقال له حكيم: ذهبت المكارم إلا التقوى يا ابن أخي إلى آخر ما تقدم، وكانت دار الندوة جهة الحجر عند المقام الحنفي الآن، وكان لها باب للمسجد، وكان لا يدخلها عند المشورة من غير ولد قصي إلا ابن أربعين سنة.
وفي كلام بعضهم: ساد أبو جهل وما طرّ شاربه، ودخل دار الندوة وما استدارت لحيته، وقد أدخلت في المسجد. قيل لها دار الندوة لاجتماع الندي وهو الجماعة فيها، وكان ذلك اليوم يسمى يوم الرحمة، لأنه اجتمع فيه أشراف بني عبد شمس وبني نوفل وبني عبد الدار وبني أسد وبني مخزوم وبني سهم وبني جمح، وغيرهم مما لا يعدّ من قريش، ولم يتخلف من أهل الرأي والحجا أحد. ثم إن إبليس جاء إليهم في صورة شيخ نجدي عليه طيلسان من خز وقيل من صوف: أي وإنما فعل ذلك ليقبل منه ما يشير به، لأن أهل الطيالسة في العادة من أهل الوقار والمعرفة؛ ووقف ذلك الشيخ على الباب، فقالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد، سمع بالذي اجتمعتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى أن لا يعدمكم منه رأيا ونصحا، قالوا أجل: أي نعم، فادخل فدخل معهم، أي وإنما قال لهم من أهل نجد، لأن قريشا قالوا: لا يدخلن معكم في المشاورة أحد من أهل تهامة لأن هواهم كان مع محمد صلى الله عليه وسلم.
قيل لما سمعهم يقولون: لا يدخل معكم اليوم إلا من هو معكم، قال لهم لما سألوه وقالوا له من أنت؟ قال شيخ من نجد، وأنا ابن أختكم؛ فقالوا: ابن أخت القوم منهم.
وقيل إن إبليس لما دخل عليهم أنكروه وقالوا له من أنت وما أدخلك علينا في خلوتنا هذه بغير إذننا؟ فقال: إني رجل من أهل نجد، رأيتكم حسنة وجوهكم طيبة(2/34)
ريحكم فأحببت أن أجلس إليكم وأسمع كلامكم، فإن كرهتم ذلك خرجت عنكم؛ فقال بعضهم لبعض: هذا نجدي ولا عين عليكم منه، وفي لفظ: هذا من أهل نجد لا من مكة فلا يضركم حضوره معكم. وعند المشهورة قال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل يعني النبي صلى الله عليه وسلم: قد كان من أمره ما قد رأيتم، وإنا والله لا نأمنه الوثوب علينا بمن قد اتبعه من غيرنا فأجمعوا فيه رأيا فتشاوروا، فقال قائل: أي وهو أبو البختري بن هشام احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء حتى يصيبه ما أصابهم من هذا الموت، فقال الشيخ النجدي، لا والله ما هذا لكم برأي، والله لو حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلا تشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيدكم ثم يكاثروكم حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا برأي، فانظروا رأيا غيره، فتشاوروا، فقال قائل منهم، أي وهو الأسود بن ربيعة بن عمير: نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا، فإذا خرج عنا فوالله ما نبالي أين يذهب، فقال الشيخ النجدي: والله ما هذا برأي، ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي الله به؟ والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل» بفتح أوله وضم الحاء المهملة أي ينزل، ويجوز أن يكون بكسرها: أي يسقط على حيّ من العرب فيغلب بذلك عليهم من قوله وحديثه حتى يبايعوه ثم يسير به إليكم حتى يطأكم بهم، فيأخذوا أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد، دبروا فيه رأيا غير هذا؛ فقال أبو جهل بن هشام: والله إن لي فيه لرأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد، قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟ قال: الرأي أن تأخذوا من كل قبيلة شابا جلدا: أي قويا حسيبا في قومه نسيبا وسطا، ثم يعطي كل فتى منهم سيفا صارما ثم يغدون إليه فيضربونه ضربة رجل واحد فيقتلونه فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا، فلم تقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا فيرضوا منا بالعقل: أي الدية فعقلنا لهم. فقال النجدي: القول ما قال هذا الرجل، هذا هو الرأي ولا أرى غيره، فتفرق القوم على ذلك، فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا تبت هذه الليلة في فراشك الذي كنت تبيت عليه: أي وأخبره بمكرهم، وأنزل الله عز وجل عليه وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [الأنفال: الآية 30] الآية، فلما كانت عتمة من الليل: أي الثلث الأول من الليل اجتمعوا على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرصدونه حتى ينام فيثبوا عليه: أي وكانوا مائة.
أقول في الدرّ المنثور: أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبيد بن عمير «لما ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه، قال له أبو طالب: هل تدري ما ائتمروا بك؟ قال: يريدون أن يحبسوني أو يقتلوني أو يخرجوني، قال: من حدّثك بهذا؟ قال: ربي، قال: نعم الرب، وربك فاستوص به خيرا، قال: أنا(2/35)
أستوصي به، بل هو يستوصي بي» هذا كلامه. ولم يتعقبه بأن هذا كان بعد موت أبي طالب قال: وكان ائتمارهم يوم السبت.
فقد «سئل صلى الله عليه وسلم عن يوم السبت؟ فقال: يوم مكر وخديعة، قالوا: ولم يا رسول الله؟ قال: إن قريشا أرادوا أن يمكروا فيه بي» أي أرادوا فيه المكر «فأنزل الله تعالى وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا
[الأنفال: الآية 30] .
وفي سيرة الحافظ الدمياطي «فاجتمع أولئك القوم من قريش يتطلعون من صير الباب أي شقه ويرصدونه يريدون بياته: أي يوقعون به الأمر ليلا ويأتمرون أيهم يحمل على المضطجع» وفيه أن ائتمارهم في ذلك لا يناسب ما اجتمع رأيهم عليه من أنهم يجتمعون على قتله ليتفرق دمه في القبائل.
ثم رأيت بعضهم قال: وأحدقوا ببابه صلى الله عليه وسلم وعليهم السلاح يرصدون طلوع الفجر ليقتلوه ظاهرا فيذهب دمه لمشاهدة بني هاشم قاتله من جميع القبائل فلا يتمّ لهم أخذ ثأره وهو المناسب لما ذكر، والله أعلم.
فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم: أي علم ما يكون منهم «قال لعليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: نم على فراشي، واتشح بردائي هذا الحضرمي، وقد كان يشهد فيه العيدين، وقد كان طوله أربعة أذرع، وعرضه ذراعان وشبر» وهل كان أخضر أو أحمر؟ يدل للثاني قول جابر «كان يلبس رداء أحمر في العيدين والجمعة» ثم رأيت في بعض الروايات أنه كان أخضر فلينظر الجمع.
وفي سيرة الدمياطي «وارتد بردائي هذا الأحمر» والحضرمي: منسوب إلى حضر موت التي هي البلدة أو القبيلة باليمن. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتسجى بذلك البرد عند نومه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم» .
أقول: وأما ما روي «أن الله تعالى أوحى إلى جبريل ومكائيل: أني قد آخيت بينكما، وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر، فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختار كلاهما الحياة فأوحى الله إليهما: ألا كنتما مثل عليّ بن أبي طالب: آخيت بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم فبات على فراشه ليفديه بنفسه ويؤثره بالحياة، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوّه فنزلا فكان جبريل عند رأسه وميكائيل عند رجليه، فقال جبريل: بخ بخ، من مثلك يا ابن أبي طالب؟ باهى الله بك الملائكة، وأنزل الله عز وجل وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [البقرة: الآية 207] قال فيه الإمام ابن تيمية: إنه كذب باتفاق أهل العلم بالحديث والسير.
وأيضا قد حصلت له الطمأنينة بقول الصادق له «لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم» فلم يكن فيه فداء بالنفس ولا إيثار بالحياة، والآية المذكورة في سورة البقرة(2/36)
وهي مدنية باتفاق. وقد قيل إنها نزلت في صهيب رضي الله تعالى عنه لما هاجر أي كما تقدم؛ لكنه في الإمتاع لم يذكر أنه صلى الله عليه وسلم قال لعليّ ما ذكر، وعليه فيكون فداؤه للنبي صلى الله عليه وسلم بنفسه واضحا، ولا مانع من تكرر نزول الآية في حق عليّ وفي حق صهيب. وحينئذ يكون شري في حق عليّ رضي الله تعالى بمعنى باع: أي باع نفسه بحياة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وفي حق صهيب بمعنى اشترى: أي اشترى نفسه بماله، ونزول هذه الآية بمكة لا يخرج سورة البقرة عن كونها مدنية، لأن الحكم يكون للغالب.
وفي السبعيات «أنه صلى الله عليه وسلم نظر إلى أصحابه وقال: أيكم يبيت على فراشي وأنا أضمن له الجنة، فقال عليّ: أنا أبيت واجعل نفسي فداءك» هذا كلامه، ولعله لا يصح.
ثم رأيت في الإمتاع ما يدل لعدم الصحة، وهو قال ابن إسحاق: ولم علم فيما بلغني بخروجه صلى الله عليه وسلم حين خرج إلا عليّ وأبو بكر الصدّيق، فليتأمل والله تعالى أعلم.
وكان في القوم الحكم بن أبي العاص وعقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث وأمية بن خلف وزمعة بن الأسود وأبو لهب وأبو جهل، فقال: وهم على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم ثم بعثتم بعد موتكم فجعلت لكم جنان كجنان الأردن، أي بضم الهمزة وتشديد النون، وهو محل بأرض الشام بقريب بيت المقدس، وإن لم تفعلوا كان فيكم ذبح ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم نار تحترقون فيها، وسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج عليهم وهو يقول: نعم أنا أقول ذلك، وأخذ حفنة من تراب وتلا قوله تعالى يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) [يس: الآيتان 1 و 2] إلى قوله فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس: الآية 9] فأخذ الله تعالى على أبصارهم عنه فلم يروه.
وفي مسند الحارث بن أبي أسامة عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه ذكر في فضل يس (1) [يس: الآية 1] أنها إن قرأها خائف أمن، أو جائع شبع، أو عار كسي، أو عاطش سقي، أو سقيم شفي» «وعند خروجه صلى الله عليه وسلم جعل ينثر التراب على رؤوسهم، فلم يبق رجل إلا وضع على رأسه ترابا ثم انصرف إلى حيث أراد، فأتاهم آت، فقال: ما تنتظرون هاهنا؟
قالوا محمدا، فقال: قد خيبكم الله، والله خرج عليكم محمد ثم ما ترك منكم رجلا إلا وضع على رأسه ترابا وانطلق لحاجته، أفما ترون ما بكم؟ قال: فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب» . قال في النور وهذا يعارضه حديث مارية خادم النبي صلى الله عليه وسلم تكنى أمّ الرباب «أنها طأطأت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد حائطا ليلة فرّ من المشركين» وينبغي أن يوفق بينهما إن صحا وإلا فالعبرة بالصحيح منهما هذا كلامه.
أقول: التوفيق حاصل، وهو أنه يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يحب أن يخرج عليهم من الباب فتسوّر الحائط التي نزل منها عليهم والله أعلم، أي وكان ذهابه صلى الله عليه وسلم(2/37)
في تلك الليلة إلى بيت أبي بكر رضي الله عنه، فكان فيه إلى الليل: أي إلى الليلة المقبلة، ثم خرج هو وأبو بكر رضي الله تعالى عنه، ثم مضيا إلى جبل ثور كذا في سيرة الدمياطي ثم أي بعد اخبارهم بخروجه صلى الله عليه وسلم ووضعه التراب على رؤوسهم جعلوا يطلعون فيرون عليا نائما على الفراش مسجى ببرد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيقولون: والله إن هذا محمد نائما عليه برده، فلم يزالوا كذلك، أي يريدون أن يوقعوا به الفعل، والله مانع لهم من ذلك «حتى أصبحوا واتضح النهار، فقام عليّ رضي الله تعالى عنه عن الفراش، فقالوا: والله لقد صدقنا الذي كان حدّثنا، أي ولما قام عليّ رضي الله تعالى عنه سألوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لا علم لي به وفي رواية: «فلما أصبحوا ساروا إليه يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأوا عليا رضي الله تعالى عنه ردّ الله تعالى مكرهم، فقالوا: أين صاحبك؟ قال لا أدري، فأنزل الله تعالى قوله أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) [الطّور: الآية 30] وأنزل الله عز وجل وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30) [الأنفال: الآية 30] كذا في الأصل تبعا لابن إسحاق، ولا يخفى أن الآية الثانية موفية بما ذكروه من المشاورة.
قال: والمانع من اقتحام الجدار عليه في الدار مع قصر الجدار وقد جاؤوا لقتله، أنهم هموا بذلك فصاحت امرأة من الدار، فقال بعضهم لبعض: إنها لسبة في العرب أن يتحدث عنا أنا تسورنا الحيطان على بنات العم وهتكنا ستر حرمنا انتهى.
أقول: لا يخفى أن هذا لا يناسب ما قدمناه عن بعضهم أنهم إنما أرادوا قتله صلى الله عليه وسلم عند طلوع الفجر ليظهر لبني هاشم قاتلوه فلا يثبوا عليه لئلا يتسور الجدار، إلا أن يقال إرادة ذلك منهم كانت عند طلوع الفجر، ووجود الأسباب المانعة لهم من الوثوب عليه لا ينافي أن المانع لهم عن الوثوب عليه الذي جاؤوا بصدده وهم مائة رجل من صناديد قريش، إنما هي حماية الله تعالى الموجبة لخذلانهم وإظهار عجزهم، وفي ذلك تصديق لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال لعلي «لا يخلص إليك شيء تكرهه منهم» على ما تقدم، والمراد بقول بعضهم: كان المشركون يرمون عليا يظنون أنه النبي صلى الله عليه وسلم يرمونه بأبصارهم لا بنحو حجارة أو نبل كما لا يخفى.
فإن قيل: هلا نام صلى الله عليه وسلم على فراشه؟ قلنا لو فعل ذلك لفات، إذ لا لهم بوضع التراب على رؤوسهم وإظهار حماية الله تعالى له بخروجه عليهم ولم يبصره أحد منهم. وفي رواية «أنهم تسوروا عليه صلى الله عليه وسلم ودخلوا شاهرين سيوفهم، فثار علي في وجوههم فعرفوه، فقالوا: هو أنت أين صاحبك؟ فقال: لا أدري» وهذا مخالف لما تقدم، فلينظر الجمع بناء على صحة هذا.
وفي لفظ: «أمروه بالخروج فضربوه وأدخلوه المسجد وحبس به ساعة ثم خلوا عنه» والله أعلم.(2/38)
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن له في الهجرة إلى المدينة، أي وأنزل الله تعالى عليه وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) [الإسراء: الآية 80] قال زيد بن أسلم: جعل الله عز وجل مدخل صدق المدينة، ومخرج صدق مكة وسلطانا نصيرا الأنصار.
ويعارضه ما جاء «أن عند رجوعه صلى الله عليه وسلم من تبوك إلى المدينة قال له جبريل: سل ربك، فإن لكل نبي مسألة، فقال: ما تأمرني أن أسأله؟ قال: قل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا، فأنزل الله تعالى عليه ذلك في رجعته من تبوك بعد ما ختمت السورة» أي إلا أن يدعى تكرار النزول «وعند الإذن له صلى الله عليه وسلم في الهجرة قال لجبريل: من يهاجر معي؟ قال جبريل: أبو بكر الصديق» .
أي ومن الغريب قول بعضهم: ومن ذلك اليوم سماه الله تعالى صدّيقا، فقد تقدم أن تسميته بذلك كان عند تصديقه له صلى الله عليه وسلم عند إخباره بالإسراء، وعن صفة بيت المقدس.
ومن الغريب أيضا ما في السبعيات «أن النبي صلى الله عليه وسلم تشاور مع أصحابه، فقال:
أيكم يوافق معي ويرافقني، فقد أمرني الله تعالى بالخروج من مكة إلى المدينة؟ فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: أنا يا رسول الله» .
ويرده ما في السير «أنه صلى الله عليه وسلم أتى أبا بكر ذات يوم ظهرا، فناداه فقال أخرج من عندك، فقال: يا رسول الله إنما هما ابنتاي يعني عائشة وأسماء رضي الله تعالى عنهما، قال شعرت: أي علمت أنه قد أذن لي في الهجرة؟ فقال: يا رسول الله الصحبة» أي أسألك الصحبة «فقال: أي رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحبة» أي لك الصحبة عندي «فانطلقا» أي ليلا كما تقدم عن سيرة الدمياطي، لكن تقدم عنها أنه دخل بيت أبي بكر في ليلة خروجه من على فراشه؛ وأنه مكث ببيت أبي بكر إلى الليلة القابلة التي كان فيها خروجه صلى الله عليه وسلم إلى جبل ثور، فيحتاج إلى الجمع.
وقد يقال: إن مجيئه صلى الله عليه وسلم ظهرا كان قبل تلك الليلة، ومع خروجهما خرجا مستخفيين حتى أتيا الغار وهو بجبل ثور، فتواريا فيه.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال عند خروجه من مكة أي متوجها إلى المدينة «والله إني لأخرج منك وأني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلى الله وأكرمها على الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت» .
أي وفي رواية «أنه صلى الله عليه وسلم وقف أي على راحلته بالحزورة ونظر إلى البيت وقال والله إنك لأحب أرض الله إليّ وإنك لأحب أرض الله إلى الله ولولا أن أهلك(2/39)
أخرجوني منك قهرا ما خرجت» وفي لفظ «أنه صلى الله عليه وسلم وقف في وسط المسجد والتفت إلى البيت فقال: إني لأعلم ما وضع الله بيتا أحب إلى الله منك، وما في الأرض بلد أحب إليه منك، وما خرجت منك رغبة، ولكن الذين كفروا أخرجوني» .
أي وهذا السياق يدل على أن وقوفه صلى الله عليه وسلم على الحزورة أو في وسط المسجد يقتضي أنه جاء بعد خروجه من الغار إلى ما ذكر، ثم ذهب إلى المدينة. وفي رواية «وقف صلى الله عليه وسلم على الحجون وقال: والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولو لم أخرج منك ما خرجت» وفي لفظ «ولو تركت فيك لما خرجت منك» ولا مانع من تكرر ذلك. ثم رأيت في كلام بعضهم أن وقوفه صلى الله عليه وسلم على الحجون كان في عام الفتح. وفي لفظ آخر «قال لمكة: ما أطيبك من بلدة وأحبك إليّ؛ ولولا أن قومي أخرجوني ما سكنت غيرك» .
أي وفي «جمال القراء» للسخاوي «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما توجه مهاجرا إلى المدينة وقف ونظر إلى مكة وبكي؛ فأنزل الله عز وجل عليه وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً [محمّد: الآية 13] الآية» .
وأما ما روى الحاكم عن أبي هريرة مرفوعا «اللهم إنك أخرجتني من أحب البقاع إليّ فأسكني في أحب البقاع إليك» فقال الذهبي: إنه موضوع. وقال ابن عبد البر: لا يختلف أهل العلم أنه منكر موضوع.
أقول: والذي رأيته عن المستدرك للحاكم «اللهم: إنك تعلم أنهم أخرجوني من أحب البلاد إليّ فأسكني أحب البلاد إليك» والمعنى واحد، وإليه وإلى ما روي عن الزهري «اللهم إنك أخرجتني من أحب البلاد إليّ فأسكني أحب البلاد إليك» استند من قال بتفضيل المدينة على مكة، قال: لأن الله تعالى أجاب دعاءه فأسكنه المدينة. قيل وعليه جمهور العلماء، ومنهم الإمام مالك رضي الله تعالى عنه. وإلى الأحاديث الأول استند من قال بتفضيل مكة على المدينة وهم الجمهور، ومنهم إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه، واستندوا في ذلك إلى أنه صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع «أيّ بلد تعلمون أعظم حرمة؟ قالوا لا نعلم إلا بلدنا هذه» يعنون مكة، وهذا إجماع من الصحابة أقرهم عليه صلى الله عليه وسلم أنها: أي مكة أفضل من سائر البلاد، لأن ما كان أعظم حرمة فهو أفضل. وقد قال صلى الله عليه وسلم «المقام بمكة سعادة، والخروج منها شقاوة» وقال صلى الله عليه وسلم «من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت عنه جهنم مسيرة مائة عام» .
قال ابن عبد البر: وإني لأعجب ممن ترك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قوله «والله إني لأعلم أنك خير أرض وأحبها إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت» وهذا حديث صحيح، ويميل إلى تأويل لا يجامع ما تأويله عليه: أي ولأن الحسنة فيها بمائة ألف حسنة. فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم(2/40)
قال «من حج ماشيا كتبت له بكل خطوة سبعمائة حسنة من حسنات الحرم، قيل:
وما حسنات الحرم؟ قال: الحسنة فيه بمائة ألف حسنة» .
والكلام في غير ما ضم أعضاءه الشريفة صلى الله عليه وسلم من أرض المدينة، وإلا فذاك أفضل بقاع الأرض بالإجماع، بل حتى من العرش والكرسي.
على أن صاحب «عوارف المعارف» ذكر أن الطوفان موّج تلك التربة المكرمة عن محل الكعبة حتى أرساها بالمدينة، فهي من جملة أرض مكة. وحينئذ لا يحسن الاستناد في تفضيل المدينة على مكة بقول أبي بكر رضي الله تعالى عنه إنهم لما اختلفوا في أي محل يدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقبضه الله إلا في أحب البقاع إليه ليدفن فيه كما سيأتي، والله أعلم.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت «بينا نحن جلوس يوما في بيت أبي بكر الصديق في نحر الظهيرة» أي وسطها وهو وقت الزوال «قال قائل لأبي بكر أي وهذا القائل هي أسماء بنت أبي بكر. وفي كلام بعض الحفاظ: يحتمل أن يفسر بعامر بن فهيرة أي مولى أبي بكر «قالت أسماء: قلت: يا أبت هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا» أي متطيلسا «في ساعة لم يكن يأتينا فيها» أي فعن عائشة رضي الله تعالى عنها «لم يمر علينا يوم» أي قبل الهجرة «إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشيا» وفي لفظ «كان لا يخطىء أن يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت أبي بكر أحد طرفي النهار إما بكرة وإما عشيا» أي ويحتاج إلى الجمع بين هاتين الروايتين على تقدير صحة الثانية وإلا فالأولى في البخاري. وتفسير التقنع بالتطيلس ذكره الحافظ ابن حجر، حيث قال: قوله: متقنعا: أي متطيلسا، وهو أصل في لبس الطيلسان، هذا كلامه.
واعترضه ابن القيم حيث قال: لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه لبس الطيلسان ولا أحد من أصحابه. وحينئذ لا يكون القناع هنا هو الطيلسان، بل التقنع تغطية الرأس وأكثر الوجه بالرداء من غير أن يجعل منه شيء تحت رقبته الذي يقال له التحنيك. وحمل قول ابن القيم المذكور على الطيلسان المقوّر التي تلبسها اليهود. قال بعضهم: وهذا الطيلسان المقور هو المعروف بالطرحة، وقد اتخذت خلفاء بني العباس الطرحة السوداء على العمامة عند الخطبة، واستمر ذلك شعارا للخلفاء.
فالحاصل أن ما يغطى به الرأس مع أكثر الوجه إن كان معه تحنيك: أي ادارة على العنق قيل له طيلسان، وربما قيل له رداء مجازا، وإن لم يكن معه تحنيك، قيل له رداء أو قناع، وربما قيل له مجازا طيلسان: هو ما كان شعارا في القديم لقاضي القضاة الشافعي خاصة. قال بعضهم: بل صار شعارا للعلماء، ومن ثم صار لبسه يتوقف على الإجازة من المشايخ كالإفتاء والتدريس. وكان الشيخ يكتب في إجازته:(2/41)
وقد أذنت له في لبس الطيلسان، لأنه شهادة بالأهلية، وما يجعل على الأكتاف دون الرأس يقال له رداء فقط، وربما قيل له طيلسان أيضا مجازا. وصح عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وله حكم المرفوع «التقنع من أخلاق الأنبياء» . وقد ذكر بعضهم أن الطيلسان الخلوة الصغرى وفي حديث «لا يتقنع إلا من استكمل الحكمة في قوله وفعله» وكان ذلك من عادة فرسان العرب في المواسم والجموع كالأسواق.
وأول من لبس الطيلسان بالمدينة جبير بن مطعم رضي الله تعالى عنه. وعن الكفاية لابن الرفعة أن ترك الطيلسان للفقيه مخلّ بالمروءة أي وهو بحسب ما كان في زمنه رحمه الله. وفي الترمذي «لم تكن عادته صلى الله عليه وسلم التقنع إنما كان يفعله لحر أو برد» .
وتعقب بأن في حديث أنس «أنه صلى الله عليه وسلم كان يكثر التقنع» وفي طبقات ابن سعد مرسلا أنه ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «هذا ثوب لا يؤدي شكره» أي لأن فيه غض البصر، ومن ثم قيل إنه الخلوة الصغرى كما تقدم.
ولما قيل لأبي بكر رضي الله تعالى عنه ذلك، أي هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا، قال أبو بكر: فدا له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، قال: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له فدخل، أي وتنحى أبو بكر عن سريره وجلس عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله تعالى عنه: «أخرج من عندك، قال أبو بكر: إنما هي أهلك» أي لأنه صلى الله عليه وسلم كان عقد على عائشة رضي الله تعالى عنها كما تقدم، فأمها من جملة أهله وأختها كذلك، وقيل هو على حدّ قول الشخص لآخر أهلي أهلك. وفي رواية «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخرج من عندك، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: لا عين عليك إنما هما ابنتاي» أي وسكت عن أمهما سترا «قال: فإنه قد أذن لي في الخروج، فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله بأبي أنت وأمي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم، أي فبكى أبو بكر سرورا؟ قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: فرأيت أبا بكر يبكي، وما كنت أحسب أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر» ولله درّ القائل:
ورد الكتاب من الحبيب بأنه ... سيزورني فاستعبرت أجفاني
غلب السرور عليّ حتى إنني ... من فرط ما قد سرني أبكاني
يا عين صار الدمع عندك عادة ... تبكين من فرح ومن أحزان
أي ومنه: أقرّ الله عينه لم يدعى له، وهو قرّة عين لمن يفرح به. وأسخن عينه لمن يدعى عليه: وهو سخنة العين لما يحزن به، لأن دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة.
وقد روي «أن نبيا من الأنبياء اجتاز بحجر يخرج منه الماء، فسأل ربه عن(2/42)
ذلك؟ فأنطق الله تعالى الحجر، فقال: منذ سمعت أن الله تعالى نارا وقودها الناس والحجارة وأنا أبكي هذا الدمع خوفا من تلك النار، فاشفع لي عند ربك، فشفع له، فشفع فيه وبشره بذلك. ثم مرّ به بعد مدة فإذا الماء يخرج منه، فقال: ألم أبشرك أن الله أنجاك من النار فما هذا؟ فقال: يا نبيّ الله ذاك بكاء الخوف والخشية، وهذا بكاء الفرح والسرور» ومن ثم لما قال صلى الله عليه وسلم لأبيّ بن كعب «إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة كذا: أي لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ [البيّنة: الآية 1] بكى من الفرح، وقال: أو ذكرت هناك؟» أي ذكرني الله عز وجل وفي لفظ «وسماني؟ قال نعم» .
وفي سفر السعادة قال العلماء: البكاء على عشرة أنواع: بكاء فرح، وبكاء حزن لما فات، وبكاء رحمة، وبكاء خوف لما يحصل، وبكاء كذب كبكاء النائحة فإنها تبكي بشجو غيرها، وبكاء موافقة بأن يرى جماعة يبكون فيبكي مع عدم علمه بالسبب، وبكاء المحبة والشوق، وبكاء الجزع من حصول ألم لا يحتمله، وبكاء الخور والضعف، وبكاء النفاق، وهو أن تدمع العين والقلب قاس. والبكى بالقصر:
دمع العين من غير صوت. والممدود: ما كان معه صوت. وأما التباكي فهو تكلف البكاء. وهو نوعان: محمود ومذموم؛ فالأول ما يكون لاستجلاب رقة القلب، وهو المراد بقول سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه لما رأى المصطفى صلى الله عليه وسلم وأبا بكر يبكيان في شأن أسارى بدر: أخبرني ما يبكيك يا رسول الله؟ فإن وجدت بكاء بكيت وإلا تباكيت، ومن ثم لم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم ذلك. والثاني ما يكون لأجل الرياء والسمعة.
قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت وأمي يا رسول الله إحدى راحلتيّ هاتين، فإني أعددتهما للخروج، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل بالثمن» أي لتكون هجرته صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى بنفسه وماله، أي وإلا فقد أنفق أبو بكر رضي الله تعالى عنه أكثر ماله عليه صلى الله عليه وسلم:
أي فعن عائشة رضي الله تعالى عنها: «أنفق أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم أربعين ألف درهم» . وفي لفظ «دينار» ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم «ليس من أحد أمنّ عليّ في أهل ومال من أبي بكر» وفي رواية «ما أحد أمنّ علي في صحبته وذات يده من أبي بكر، وما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر، فبكى أبو بكر وقال: هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله؟» وفي رواية «ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافأناه ما خلا أبا بكر فإن له عندنا يدا الله يكافئه بها يوم القيامة» .
أقول: ولا ينافي كونه صلى الله عليه وسلم أخذ إحدى ناقتي أبي بكر بالثمن ما رواه أبان بن أبي عياش أحد التابعين عن أنس رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله تعالى عنه «ما أطيب مالك: منه بلال مؤذني، وناقتي التي هاجرت عليها، وزوجتني ابنتك وواسيتني بمالك كأني أنظر إليك على باب الجنة تشفع لأمتي» لأن أبان بن أبي عياش معدود من الضعفاء.(2/43)
وقد قال شعبة: لأن أشرب من بول حمار حتى أروى أحبّ إليّ من أن أقول حديثا عن أبان بن أبي عياش، وقال فيه مرة أخرى: لأن يزني الرجل خير من أن يروي عن أبان. وقد طلب من شعبة أن يكف عن أبان هذا، فقال: الأمر دين، وهذا يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد بين ابن حبان عذر أبان بأنه كان يروي عن أنس وأبان مجالس الحسن البصري فكان يسمع كلامه، فإذا حدث ربما جعل كلام الحسن عن أنس مرفوعا وهو لا يعلم. وعلى تقدير صحة ما قاله لا منافاة أيضا، لأنها كانت من مال أبي بكر قبل أن يأخذها صلى الله عليه وسلم بثمنها.
على أن في الترمذي ما وافق ما رواه أبان. ففيه عن عليّ رضي الله تعالى عنه، قال: قال صلى الله عليه وسلم «رحم الله أبا بكر، زوّجني ابنته، وحملني إلى دار الهجرة وصحبني في الغار، وأعتق بلالا من ماله» .
قال: وهذا حديث غريب والله أعلم.
وكان الثمن عن تلك الناقة التي هي القصواء، وقد عاشت بعده صلى الله عليه وسلم، وماتت في خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه أو الجدعاء أربعمائة درهم، أي لما علمت أن الناقتين اشتراهما أبو بكر بثمانمائة درهم.
وأما ناقته صلى الله عليه وسلم العضباء فقد جاء «أن بنته فاطمة رضي الله تعالى عنها تحشر عليها» .
قالت عائشة رضي الله تعالى عنها «فجهزناهما أحب الجهاز» أي أسرعه.
والجهاز: بكسر الجيم أفصح من فتحها. ما يحتاج إليه في السفر «ووضعنا لهما سفرة في جراب» أي زادا في جراب، لأن السفرة في الأصل الزاد الذي يصنع للمسافر، ثم استعمل في وعاء الزاد «وكان في السفرة شاة مطبوخة فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب أي وأبقت الأخرى نطاقا لها» وهو يوافق ما في صحيح مسلم عن أسماء رضي الله تعالى عنها أنها قالت للحجاج: بلغني أنك تقول أي لولدها عبد الله بن الزبير تعيره بابن ذات النطاقين، أما أنا والله ذات النطاقين أما أحدهما فكنت أرفع به طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم وطعام أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وأما الآخر فنطاق المرأة: أي الذي لا تستغني عنه، أي عند اشتغالها؛ لأن النطاق ما تشدّ به المرأة وسطها لئلا تعثر في ذيلها على ثوب يلقى على أسفله. وقيل النطاق إزار فيه تكة؛ ومن ثم جاءت ذات النطاق: أي وكلاهما صحيح، لكن في لفظ «قطعت نطاقها قطعتين، فأوكت بقطعة منه فم الجراب، وشدّت فم القربة بالباقي» ، أي فلم يبق لها شيء منه ويوافقه ما في البخاري عن أسماء: لم نجد لسفرة رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي لمحلها الذي هو الجراب ولا لسقائه أي الذي هو القربة ما نربطهما به، فقلت لأبي بكر: لا والله ما أجد شيئا(2/44)
أربط به إلا نطاقي، قال فشقيه اثنين، واربطي بواحد السقاء الذي هو القربة وبواحد السفرة ففعلت، فلذلك سميت ذات النطاقين: أي سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها «أبدلك الله بنطاقك هذا نطاقين في الجنة» .
وفيه أن الرواية الأولى التي عن عائشة، والرواية الثانية التي عن أسماء رواها مسلم لم يذكر السقاء. وفي رواية البخاري ذكر السقاء وإسقاط الجراب، لكن ذكر بعد الجراب السفرة.
وقد يقال: المراد بربط السفرة ربط محلها الذي هو الجراب كما أشار إليه.
قال بعضهم: وما تقدم عن مسلم ينبغي أن يكون أقرب إلى الضبط، لأن أسماء قالت في آخر عمرها مخبرة عن نفسها: أي ولم تربط إلا الجراب بأحد شقي النطاق وأبقت لها الآخر.
وقد يقال: الحصر ليس في محله لمنافاته لرواية البخاري. وحينئذ يجمع بأنه بجوازها لما شقت النطاق نصفين قطعت أحدهما قطعتين، فشدت بإحداهما الجراب والأخرى السقاء، فهي ذات النطاقين الذي أبقته، والذي فعلت به ما ذكر.
وفي السيرة الهشامية أن أسماء بنت أبي بكر جاءت إليهما لما نزلا من الغار بسفرتهما، ونسيت أن تجعل لها عصاما فدهشت لغلق السفرة، فإذا ليس لها عصام، فشقت نطاقها فجعلته عصاما فعلقتها به وانتطقت الآخر: أي وهذا يدل على أن المراد بقول عائشة: فجهزناهما أحب الجهاز: أي عند خروجهما من الغار، لا عند ذهابهما إلى الغار كما قد يتبادر من السياق. ثم على المتبادر جرى ابن الجوزي حيث قال:
أسما بنت أبي بكر أسلمت بمكة قديما، وبايعت وشقت نطاقها ليلة خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار، فجعلت واحدا لسفرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآخر عصاما لقربته، فسميت ذات النطاقين هذا كلامه.
وقد قال: لا مانع من تعدد ذلك، وكون النطاق ما تشد به المرأة وسطها لئلا تعثر في ذيلها يخالفه قول بعضهم: النطاق هو ثوب تلبسه المرأة ثم تشد وسطها بحبل ثم ترسل الأعلى على الأسفل، وهذا يوافق القيل المتقدم، ولعل له إطلاقين، ويوافق الثاني ما قيل أول من فعله هاجر أم إسماعيل، اتخذته لتخفي أثر مشيتها على سارة، ولعله عند خروجها لما أمره الله عز وجل بإخراجها مع إبراهيم، فيذهب بها إلى مكة قبل أن تركب مع إبراهيم على البراق.
«ثم استأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل، وهو عبد الله بن أريقط» ويقال ابن أرقط أو أرقد اسم أمه، فأريقط مصغرها «ليدلهما على الطريق للمدينة» وكان على دين قريش، أي ثم أسلم بعد ذلك. وقيل لم يعرف له إسلام.(2/45)
وفي الروض ما وجدنا من طريق صحيح أنه أسلم بعد ذلك «فدفعا إليها راحلتيهما، وواعداه على جبل ثور بعد ثلاث ليال» وقيل للجبل ذلك لأنه على صورة الثور الذي يحرث عليه، وسياق النسائي يدل على أن استئجار عبد الله المذكور كان قبل التجهيز.
«قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور» أي ليلا كما تقدم.
وعن ابن سعد: «لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيته إلى بيت أبي بكر رضي الله تعالى عنه فكان فيه إلى الليل، ثم خرج هو وأبو بكر فمضيا إلى غار ثور فدخلاه» أي وكان خروجهما من خوخة في ظهر بيت أبي بكر. فعن عائشة بنت قدامة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «لقد خرجت من الخوخة متنكرا فكان أول من لقيني أبو جهل لعنه الله فأعمى الله بصره عني» وعن أبي بكر «حتى مضينا» .
وفي كلام سبط ابن الجوزي: وعن وهب بن منبه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج إلى الغار من بيت أبي بكر، فخرج من خوخة في ظهر الدار. والأصح إنما كان خروجه من بيت نفسه.
«وجعل أبو بكر رضي الله تعالى عنه يمشي مرة أمام النبي صلى الله عليه وسلم ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن شماله، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: يا رسول الله، أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون خلفك، ومرة عن يمينك، ومرة عن يسارك لا آمن عليك» .
أقول: في الدر المنثور «فمشى صلى الله عليه وسلم ليلته على أطراف أصابعه لئلا يظهر أثر رجليه على الأرض حتى حفيت رجلاه، فلما رآهما أبو بكر قد حفيتا حمله على كاهله وجعل يشتدّ به حتى أتى على فم الغار فأنزله» وفي لفظ «لم يصب رسول الله صلى الله عليه وسلم الغار حتى قطرت قدماه دما» وفي كلام السهيلي عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه قال: «نظرت إلى قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار وقد تقطرتا دما» .
قال بعضهم: ويشبه أن يكون ذلك من خشونة الجبل، وإلا فبعد المكان لا يحتمل ذلك أو لعلهم ضلوا طريق الغار حتى بعدت المسافة، ويدل عليه قوله:
فمشى ليلته رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي لفظ فانتهينا «إلى الغار مع الصبح» ولا يحتمل ذلك مشى ليلته إلا بتقدير ذلك، أو أنه صلى الله عليه وسلم كما قيل ذهب إلى جبل حنين فناداه اهبط عني، فإني أخاف أن تقتل على ظهري فأعذب، فناداه جبل ثور: إليّ يا رسول الله» وساق في الأصل رواية تقتضي أنه ذهب إلى غار ثور راكبا ناقته الجدعاء. ثم رأيته في النور أشار إلى أن ركوبه صلى الله عليه وسلم الجدعاء إنما كان بعد خروجه من الغار، لا أنه(2/46)
ركبها من منزل أبي بكر إلى الغار كما هو ظاهر الرواية.
وفي الخصائص الكبرى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «لما تشاور المشركون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأطلع الله نبيه على ذلك، فخرج تلك الليلة حتى أتى الغار، فلما أصبحوا اقتفوا أثره صلى الله عليه وسلم، فلما بلغوا الجبل» الحديث، أي وهو مخالف لما تقدم من أن خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الغار كان في الليلة الثانية لا في ليلة خروجه على قريش.
وقد يقال: لا منافاة، لأن قوله: حتى لحق بالغار غاية لمطلق الخروج من بيته لا في خصوص تلك الليلة، أي خرج من بيته واستمر على خروجه حتى لحق بالغار وذلك في الليلة الثانية، لكن تقدم أنه صلى الله عليه وسلم جاء إلى بيت أبي بكر متقنعا في وقت الظهيرة فليتأمل.
وأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا بخروجه إلى الهجرة وأمره أن يتخلف بعده حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس، لأنه لم يكن بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده صلى الله عليه وسلم لما يعلمون من أمانته، أي ولعل إعلام عليّ بذلك كان عند توجهه صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر، لأنه لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم اجتمع بعلي رضي الله تعالى عنه بعد ذلك إلا في المدينة لكن سيأتي عن الدرّ ما يقتضي أنه اجتمع به عند خروجه من الغار.
وفي الفصول المهمة «أنه صلى الله عليه وسلم وصى عليا رضي الله تعالى عنه بحفظ ذمته وأداء أمانته ظاهرا على أعين الناس، وأمره أن يبتاع رواحل للفواطم» : فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب ولمن هاجر معه من بني هاشم ومن ضعفاء المؤمنين، وشراء علي رضي الله عنه الرواحل مخالف لما يأتي في الأصل «أنه صلى الله عليه وسلم أرسل إلي عليّ حلة وأرسل يقول: تشقها خمرا بين الفواطم، وهي فاطمة بنت حمزة، وفاطمة بنت عتبة، وفاطمة أم علي، وفاطمة بنته صلى الله عليه وسلم» وإرساله لتلك الحلة كان بعد وصوله إلى المدينة فليتأمل.
قال في الفصول المهمة: وقال له: أي لعليّ «إذا أبرمت ما أمرتك به كن على أهبة الهجرة إلى الله ورسوله، وبقدوم كتابي عليك، وإذا جاء أبو بكر توجهه خلفي نحو بئر أم ميمون» وكان ذلك في فحمة العشاء، والرصد من قريش قد أحاطوا بالدار ينتظرون أن تنتصف الليلة وتنام الناس، ودخل أبو بكر على عليّ وهو يظنه: أي وأبو بكر يظن عليا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له علي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج نحو بئر أم ميمون، وهو يقول لك: أدركني، فحلقه أبو بكر، ومضيا جميعا يتسايران حتى أتيا جبل ثور فدخلا الغار، فليتأمل الجمع بينه وبين ما تقدم.(2/47)
«ولما انتهيا إلى فم الغار قال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم: والذي بعثك بالحق لا تدخل حتى أدخله قبلك، فإن كان فيه شيء نزل بي قبلك، فدخل رضي الله تعالى عنه فجعل يلتمس بيده كلما رأى حجرا قال بثوبه فشقه، ثم ألقمه الجحر حتى فعل ذلك بجميع ثوبه، فبقي جحر، وكان فيه حية فوضع عقبه عليه، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن الحية التي في الجحر لما أحست بعقب سيدنا أبي بكر جعلت تلسعه وصارت دموعه تتحدر» قال ابن كثير: وفي هذا السياق غرابة ونكارة «أي وقد كان صلى الله عليه وسلم وضع رأسه في حجر أبي بكر رضي الله تعالى عنه ونام، فسقطت دموع أبي بكر رضي الله تعالى عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما لك يا أبا بكر؟ قال: لدغت» بالدال المهملة والغين المعجمة «فداك أبي وأمي، فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم على محل اللدغة فذهب ما يجده» قال بعضهم: وقاه بعقبه فبورك في عقبه.
قالت بعضهم: والسر في اتخاذ رافضة العجم اللباد المقصص على رؤوسهم تعظيما للحية التي لدغت أبا بكر في الغار، أي لأنهم يزعمون أن ذلك على صورة تلك الحية.
«ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لأبي بكر: أين ثوبك؟ فأخبره الخبر» زاد في رواية «وأنه رأى على أبي بكر أثر الورم فسأل عنه، فقال: من لدغة الحية، فقال صلى الله عليه وسلم:
هلا أخبرتني؟ قال: كرهت أن أوقظك فمسحه النبي صلى الله عليه وسلم فذهب ما به من الورم والألم» .
أي ويحتاج إلى الجمع بين هاتين الروايتين على تقدير صحتهما «وحين أخبره أبو بكر بذلك رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وقال: اللهم اجعل أبا بكر معي في درجتي في الجنة، فأوحى الله تعالى إليه: قد استجاب الله لك» .
وروي أنه لما صار يسد كل جحر وجده أصاب يده ما أدماها، فصار يمسح الدم عن أصبعه وهو يقول:
هل أنت إلا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
وسيأتي أن هذا البيت من كلام ابن رواحة. وقيل من كلامه صلى الله عليه وسلم، وأنه يجوز أن يكون ابن رواحة ضم ذلك البيت لأبياته.
ومما قد يؤيد أن ذلك من كلامه صلى الله عليه وسلم ما ذكره سبط ابن الجوزي «أن أبا بكر لما لحقه صلى الله عليه وسلم في أثناء الطريق ظنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكفار فأسرع في المشي، فانقطع قبال نعله، ففلق إبهامه حجر فسال الدم، فرفع أبو بكر صوته ليعرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفه» .
ومما يصرح بذلك ما رأيت عن جندب البجلي قال «كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار(2/48)
كذا فدميت أصبعه فذكر البيت المذكور» وأراد بالغار غارا من الغيران لا هذا الغار كما توهم.
وجاء في الصحيحين عن جندب بن عبد الله «بينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أصابه حجر فدميت أصبعه، فقال: هل أنت إلا إصبع دميت» .... البيت.
«أي ويقال إنه صلى الله عليه وسلم دعا تلك الشجرة وكانت أمام الغار فأقبلت حتى وقفت على باب الغار وأنها كانت مثل قامة الإنسان وبعث الله العنكبوت فنسجت ما بين فروعها» أي نسجا متراكما بعضه على بعض أي كنسج أربع سنين كما قال بعضهم.
وقد نسج العنكبوت أيضا على عبد الله بن أنيس رضي الله تعالى عنه لما قتل سفيان بن خالد وقطع رأسه وأخذها ودخل في غار في الجبل وكنّ فيه حتى انقطع عنه الطلب كما سيأتي. ونسج على نبي الله داود لما طلبه طالوت. ونسج أيضا على عورة سيدنا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم، وهو أخو الإمام محمد الباقر وعم الإمام جعفر الصادق، وهو الذي ينسب إليه الزيدية كان إماما مجتهدا، وكان ممن أخذ عن واصل بن عطاء الآخر عن الحسن البصري.
ولما أثبت ابن عطاء المنزلة بين المنزلتين أمره الحسن البصري باعتزال مجلسه، فقيل له معتزلي، وصار يقال لأصحابه معتزلة.
ولا يلزم من كون شيخ سيدنا زيد معتزليا أن يسلك زيد مسلكه. وصلب سيدنا زيد عريانا، وأقام مصلوبا أربع سنين، وقيل خمس سنين فلم تر عورته، وقيل إن بطنه الشريف ارتخى على عورته فغطاها. ولا مانع من وجود الأمرين. وكان عند صلبه وجهوه إلى غير القبلة فدارت خشبته التي صلب عليها إلى أن صار وجهه إلى القبلة، أي وقد وقع لخبيب نحو ذلك كما سيأتي، ثم أحرقوا خشبة زيد وجسده وذري رماده في الرياح على شاطىء الفرات، فإنه خرج على هشام بن عبد الملك وقد سمت نفسه للخلافة، فحاربه يوسف بن عمر الثقفي أمير العراقين من قبل هشام بن عبد الملك، فانهزم أصحاب زيد عنه بعد أن خذله وانصرف عنه أكثرهم.
فقد بايعه ناس كثير من أهل الكوفة وطلبوا منه أن يتبرأ من الشيخين أبي بكر وعمر لينصروه، فقال: كلا، بل أتولاهما، فقالوا اذن نرفضك، فقال: اذهبوا فأنتم الرافضة، فسموا بذلك من حينئذ رافضة. وجاءت إليه طائفة وقالوا: نحن نتولاهما ونبرأ ممن يبرأ منهما وقاتلوا معه فسموا الزيدية.
أقول: والعجب ممن يتمذهب بمذهب سيدنا زيد، ويتبرأ من الشيخين(2/49)
ويكرههما ويكره من يذكرهما بخير، بل ربما سبهما.
وعند مقاتلته أصابته جراحات وأصابه سهم في جبهته وحال الليل بين الفريقين، فطلبوا حجاما من بعض القرى لينزع له النصل، فاستخرجه فمات من ساعته، فدفنوه من ساعته، وأخفوا قبره، وأجروا عليه الماء، واستكتموا الحجام ذلك، فلما أصبح الحجام مشى إلى يوسف بن عمر منتصحا وأخبره، ودله على موضع قبره، فاستخرجه وبعث برأسه إلى هشام. فكتب إليه هشام أن أصلبه عريانا فصلبه كذلك.
ويقال إن هشام بن عبد الملك قال يوما لزيد: بلغني أنك تريد الخلافة ولا تصلح لك لأنك ابن أمة، فقال: قد كان إسماعيل ابن أمة وإسحاق ابن حرة، فأخرج الله من صلب إسماعيل خير ولد آدم، فقال له هشام: قم، قال: إذن لا تراني إلا حيث تكره. ومن شعره:
لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم ... وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا
قيل ورأس زيد دفنت بمصر القديمة بمسجد يقال له مشهد زيد العابدين بن الحسين. وكذلك وقع في طبقات الشيخ الشعراني، نفعنا الله به وببركاته، وليس كذلك؛ بل هو محل زيد بن زين العابدين كما ذكره المقريزي في الخطط، ويقال له زيد الأزياد.
وذكر في حياة الحيوان أن ما ينسجه العنكبوت يخرج من خارج جلدها لا من جوفها وعن عليّ رضي الله تعالى عنه «طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت، فإن تركه في البيوت يورث الفقر» .
وأمر الله تعالى حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغاز: أي ويروى «أنهما باضتا» أي وفرختا، قال لأبي بكر: «ضع قدمك موضع قدمي، فإن الرمل لا ينم» وتقدم ما في ذلك: أي لأن المشركين لما فقدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شق عليهم ذلك وخافوا ذلك وطلبوه بمكة أعلاها وأسفلها، وبعثوا القافة: أي الذين يقصون الأثر في كل وجه يقفون أثره، فوجدوا الذي ذهب إلى جبل ثور أثره، وقال ما تقدم.
«وأقبل فتيان قريش من كل بطن بعصيهم وسيوفهم، أي ولما أقبلوا أشفق صلى الله عليه وسلم على صهيب وخاف عليه، وقال: واصهيباه ولا صهيب لي» أي لأنه تواعد معهما أن يكون ثالثهما «فلما أراد صلى الله عليه وسلم الخروج للغار أرسل له أبو بكر مرتين أو ثلاثا فوجده يصلي، فقال: يا رسول الله وجدت صهيبا يصلي فكرهت أن أقطع عليه صلاته، فقال أصبت» وتقدمت الحوالة على هذا.
«فلما كان فتيان قريش على أربعين ذراعا من الغار تعجل بعضهم ينظر في الغار، فلم ير إلا حمامتين وحشيتين أي مع العنكبوت، فقال: ليس فيه أحد، فسمع(2/50)
النبي صلى الله عليه وسلم ما قال، فعرف أن الله عز وجل قد درأ عنه أي دفع عنه» .
وفي رواية «فلما انتهوا إلى فم الغار، قال قائل منهم: ادخلوا الغار، فقال أمية بن خلف: وما أربكم» أي حاجتكم إلى الغار «إنّ عليه لعنكبوتا كان قبل ميلاد محمد صلى الله عليه وسلم» أي ولو دخل الغار لا نفتح ذلك العنكبوت وتكسر البيض. وهذا يدل على أن البيض لم يكن فرخ: أي ويحتمل أن بعض البيض فرخ وبعضه لم يفرخ «ثم جاء قبالة فم الغار فبال، فقال أبو بكر: يا رسول الله إنه يرانا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر لو كان يرانا ما فعل هذا» وفي بعض الروايات «لو رآنا ما تكشف عن فرجه» أي ما استقبلنا بفرجه وبوله، وقال أبو جهل: أما والله إني لأحسبه قريبا يرانا، ولكن بعض سحره قد أخذ على أبصارنا، فانصرفوا.
وذكر ابن كثير أن بعض أهل السير ذكر أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: لو جاؤونا من هاهنا لذهبنا من هاهنا، فنظر الصديق إلى الغار قد انفرج من الجانب الآخر، وإذا البحر قد اتصل به وسفينة مشدودة إلى جانبه. قال ابن كثير: وهذا ليس بمنكر من حيث القدرة العظيمة، ولكن لم يرد ذلك بإسناد قوي ولا ضعيف، ولسنا نثبت شيئا من تلقاء أنفسنا «ونهى النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ عن قتل العنكبوت، وقال: إنها جند من جند الله» انتهى.
وعن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه قال «لا أزال أحب العنكبوت منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبها، ويقول: جزى الله العنكبوت عنا خيرا، فإنها نسجت عليّ وعليك يا أبا بكر» إلا أن البيوت تطهر من نسجها، أي ينبغي ذلك لما تقدم أن وجود نسجها في البيوت يورث الفقر.
وفي الجامع الصغير «جزى الله العنكبوت عنا خيرا، فإنها نسجت على الغار» .
أقول: فيه أن في الحديث «العنكبوت شيطان فاقتلوه» وفي لفظ «العنكبوت شيطان مسخه الله فاقتلوه» فإن صح وثبت تأخره فهو ناسخ له، وإن كان متقدما على ما هنا وصح ما هنا فهو منسوخ به والله أعلم، «وبارك صلى الله عليه وسلم على الحمامتين، وفرض جزاء الحمام وانحدرتا في الحرم فأفرختا كل شيء في الحرم من الحمام» أي ولأجل ذلك ذهب الغزالي من أئمتنا إلى صحة الوقف على حمام مكة دون غيره من الطيور وهو الراجح.
ونظر في الإمتاع في كون حمام الحرم من نسل ذلك الزوج، فإنه روي في قصة نوح عليه الصلاة والسلام «أنه بعث الحمامة من السفينة لتأتيه بخبر الأرض فوقعت بوادي الحرم فإذا الماء قد نضب من موضع الكعبة، وكانت طينتها حمراء(2/51)
فاختضبت رجلاها، ثم جاءته فمسح عنقها وطوّقها طوقا، ووهب لها الحمرة في رجليها، وأسكنها الحرم، ودعا لها بالبركة» .
وفي شعر الحارث بن مضاض الذي أوله:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
ويبك لبيت ليس يؤذى حمامه ... يظل به أمنا وفيه العصافر
ففي هذا الحمام قد كان في الحرم من عهد جرهم، أي ونوح. وذكر بعضهم «أن حمام مكة أظله صلى الله عليه وسلم يوم فتحها، فدعا له بالبركة» .
ويروى «أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه لما رأى قريشا أقبلت نحو الغار خصوصا ومعهم القافة بكى، أي ويقال لما سمع القائف يقول لقريش: والله ما جاز مطلوبكم من هذا الغار حزن وبكى، وقال: والله ما على نفسي أبكي، ولكن مخافة أن أرى فيك ما أكره، فقال له صلى الله عليه وسلم: لا تحزن إن الله معنا وأنزل الله تعالى سكينته على أبي بكر رضي الله تعالى عنه، أي وأنزل عليه أمنته التي تسكن عندها القلوب» قيل قال له لا تحزن ولم يقل له لا تخف، لأن حزنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا النهي تأنيس وتبشير له كما في قوله تعالى له صلى الله عليه وسلم وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ [يونس: الآية 65] وبه يردّ ما زعمته الرافضة، أن ذلك غضبا من أبي بكر وذما له، لأن حزنه رضي الله تعالى عنه إن كان طاعة فالنبي صلى الله عليه وسلم لا ينهى عن الطاعة فلم يبق إلا أنه معصية.
وفي رواية عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه «قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار:
لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه» أي لأنهما علوا على رؤوسهما.
فعن أبي بكر قال «نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على رؤوسنا فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه، فقال:
يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما» .
قال بعضهم: كان معهما وثالثهما باللفظ والمعنى؛ أما باللفظ فكان يقال: يا رسول الله ويقال لأبي بكر، يا خليفة رسول الله، وأما بالمعنى فكان مصاحبا لهما بالنصر والهداية والإرشاد، والضمير في وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها [التوبة: الآية 40] راجع النبي صلى الله عليه وسلم، وتلك الجنود ملائكة أنزلهم الله تعالى عليه في الغار يبشرونه بالنصر على أعدائه.
وروي «أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه عطش في الغار، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
اذهب إلى صدر الغار فاشرب، فانطلق أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى صدر الغار فوجد ماء أحلى من العسل وأبيض من اللبن وأزكى رائحة من المسك فشرب منه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله أمر الملك الموكل بأنهار الجنة أن يخرق نهرا من جنة(2/52)
الفردوس إلى صدر الغار لتشرب، قال أبو بكر: يا رسول الله، ولي عند الله هذه المنزلة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم وأفضل، والذي بعثني بالحق نبيا لا يدخل الجنة مبغضك ولو كان عمله عمل سبعين نبيا» .
أي وذكر بعضهم قال: «كنت جالسا عند أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فقال:
من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة فليقم، فقام رجل فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدني بثلاث حثيات من تمر، فقال أرسلوا إلى عليّ فجاء، فقال: يا أبا الحسن إن هذا يزعم كذا وكذا فاحث له فحثى له، فقال أبو بكر. عدوّها، فعدوها فوجدوها كل حثية ستين تمرة لا تزيد ولا تنقص، فقال أبو بكر: صدق الله ورسوله، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة من الغار: كفي وكف عليّ في العدد سواء» ذكر الذهبي أنه موضوع، ولعل قول الصديق صدق الله ورسوله علة لاختياره عليا على نفسه في أن يحثو، لا أن ذلك علة لكون كل حثية جاءت ستين حبة.
«ولما أيست قريش منهما أرسلوا لأهل السواحل إن من أسر أو قتل أحدهما كان له مائة ناقة» أي ويقال إن أبا جهل أمر مناديا ينادي في أعلى مكة وأسفلها: من جاء بمحمد أو دل عليه فله مائة بعير، وإلى قصة الغار أشار صاحب الهمزية بقوله:
أخرجوه منها وآواه غار ... وحمته حمامة ورقاء
وكفته بنسجها عنكبوت ... ما كفته الحمامة الحصداء
واختفى منهم على قرب مرآ ... هـ ومن شدة الظهور الخفاء
أي كانوا سببا لإخراجه من تلك الأرض التي هي مولده صلى الله عليه وسلم ومرباه ووطنه ووطن آبائه، بسبب مبالغتهم في إيذائه وإيذاء أصحابه خصوصا ضعفاءهم، وآواه غار وحمته منهم حمامة في لونها بياض وسواد، وكفته أعداءه عنكبوت بنسجها الذي كفته إياهم الحمامة الكثيرة الريش، فتلك الحمامة كانت ورقاء حصداء واستتر منهم مع قرب محل رؤيته.
وحكمة خفائه واستتاره منهم مع ظهوره لهم لو نظر أحدهم إلى ما تحت قدميه شدة ظهوره عليهم بالغلبة والمعونة الإلهية، ومكثا في الغار ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام يعرف ما يقال، يأتيهما حين يختلط الظلام ويدلج من عندهما بفجر فيصبح مع قريش كبائت في بيته فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه ويخبرهما به.
وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر رضي الله تعالى عنهما كان مملوكا للطفيل فأسلم وهو مملوك، وكان ممن يعذب في الله عز وجل، فاشتراه أبو بكر من الطفيل وأعتقه كما تقدم، فكان يروح عليهما بمنحه غنم: أي قطعة من غنم أبي بكر، فكان(2/53)
يراعها حيث تذهب ساعة من العشاء ويغدو بها عليهما ثم يغلس: أي إذا خرج من عندهما عبد الله تبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم حتى يقفو أثر قدميه، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث: أي وذلك بإرشاد من أبي بكر رضي الله تعالى عنه.
ففي السيرة الهشامية: وأمر أبو بكر ابنه عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن يستمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر. وأمر عامر بن فهيرة أن يرعى غنمه نهارا، ثم يريحها عليهما إذا أمسى في الغار، وكانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنها تأتيهما إذا أمست بما يصلحهما من الطعام.
أقول: وفي الدر عن عائشة رضي الله تعالى عنها: ما كان أحد يعلم مكان ذلك الغار إلا عبد الله بن أبي بكر وأسماء بنت أبي بكر، فإنهما كانا يختلفان إليهما وعامر بن فهيرة، فإنه كان إذا سرح غنمه مر بهما فحلب لهما.
وفي الفصول المهمة «وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام بلياليها في الغار وقريش لا يدرون أين هو؟ وأسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنها تأتيهما ليلا بطعامهما وشرابهما، فلما كان بعد الثلاث أمرها صلى الله عليه وسلم أن تأتي عليا وتخبره بموضعهما وتقول له يستأجر لهما دليلا ويأتي معه بثلاث من الإبل بعد مضي ساعة من الليلة الآتية: أي وهي الليلة الرابعة: فجاءت أسماء إلى علي كرم الله وجهه فأخبرته بذلك، فاستأجر لهما رجلا يقال له الأريقط بن عبد الله الليثي، وأرسل معه بثلاث من الإبل فجاء بهن إلى أسفل الجبل ليلا، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم رغاء الإبل نزل من الغار هو وأبو بكر فعرفاه» أي والذي في البخاري «فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليال ثلاث فارتحلا» .
وتقدم أن المستأجر لهما للدليل النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر.
وقد يجمع بأن المراد باستئجار علي رضي الله تعالى عنه إعطاؤه الأجرة، وكونه استأجر لهما ثلاث رواحل وأتى بها معه فيه نظر ظاهر، وركب النبي صلى الله عليه وسلم وركب أبو بكر وركب الدليل.
وفي الدر المنثور «فمكث هو صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في الغار ثلاثة أيام يختلف إليهما بالطعام عامر بن فهيرة وعليّ يجهزهما، فاشترى ثلاثة أباعر واستأجر لهم دليلا، فلما كان في بعض الليل من الليلة الثالثة أتاهم عليّ بالإبل والدليل» . فليتأمل ذلك مع ما قبله.
وفي حديث مرسل «مكثت مع صاحبي في الغار بضعة عشر يوما ما لنا طعام إلا ثمر البرير» أي الأراك. وتقدم في باب رعية الغنم أن ثمر الأراك النضيج يقال له الكباث بكاف فباء موحدة مفتوحتين فثاء مثلثة.(2/54)
قال ابن عبد البر: وهذا أي القول بأنهما مكثا في الغار بضعة عشر يوما غير صحيح عند أهل العلم بالحديث. قال الحافظ ابن حجر: والمراد كما قال الحاكم أنهما مكثا مختفيين من المشركين في الغار وفي الطريق بضعة عشر يوما، وذكر في الغار: أي الاقتصار عليه من بعض الرواة، والله أعلم.
قال: وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما «أن أبا بكر أرسل ابنه عبد الله فحمل ماله وكان خمسة آلاف درهم أو أربعة آلاف، وكان حين أسلم أربعين ألف درهم» وفي لفظ «أربعين ألف دينار» أي ويؤيد ذلك ما جاء عن أنس رضي الله تعالى عنه «أنفق أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم أربعين ألف دينار، فحمل إليه ذلك في الغار» قالت أسماء: فدخل علينا جدّي أبو قحافة رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك، وكان قد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه- يعني أبا بكر- قد فجعكم بماله مع نفسه فقالت: كلا يا أبت إنه ترك لنا خيرا كثيرا، قالت فأخذت أحجارا فوضعتها في كوة: أي طاقة في البيت كان أبي يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوبا، ثم أخذت بيده فقلت: ضع يدك على هذا المال، قالت: فوضع يده عليه فقال: لا بأس إن كان ترك لكم هذا، ففي هذا بلاغ لكم، ولا والله ما ترك لنا شيئا، ولكن أردت أن أسكن قلب الشيخ اهـ.
أي ولما بلغ ضمرة بن جندب خروجه صلى الله عليه وسلم وكان مريضا فقال: لا عذر لي في مقامي بمكة فأمر أهله فخرجوا به، فلما وصل إلى التنعيم مات به، فأنزل الله تعالى وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [النّساء: الآية 100] وقيل نزلت في خالد بن حرام بن خويلد بن أسد، أسلم قديما، وهاجر إلى الحبشة في المرة الثانية، فمات من نهش حية قبل أن يصل. وجاء «أنه قال لحسان رضي الله تعالى عنه هل قلت في أبي بكر شيئا؟ قال نعم، قال: قل وأنا أسمع، فقال:
وثاني اثنين في الغار المنيف وقد ... طاف العدّو به إذ صاعدوا الجبلا
وكان حب رسول الله قد علموا ... من البرية لم يعدل به رجلا
فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه» أي وفي لفظ «فتبسم، ثم قال صدقت يا حسان، هو كما قلت» إنه أحب البرية إليه، أي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعدل به غيره.
أقول: في ينبوع الحياة: والذي أعرف في هذين البيتين، أنهما من أبيات رثى بهما حسان أبا بكر رضي الله تعالى عنهما هذا كلامه.
وقد يقال: لا مانع أن يكون أدخلهما حسان في مرثيته لأبي بكر بعد ذلك،(2/55)
والله أعلم. وعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه قال لجماعة: أيكم يقرأ سورة التوبة؟
قال رجل أنا أقرأ، فلما بلغ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ [التّوبة: الآية 40] بكى وقال: أنا والله صاحبه.
وعن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال «رآني رسول الله أمشي أمام أبي بكر، فقال: يا أبا الدرداء أتمشي أمام من هو أفضل منك في الدنيا والآخرة؟ فو الذي نفس محمد بيده ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر» وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «أتاني جبريل فقال: إن الله تعالى يأمرك أن تستشير أبا بكر» وعن أنس قال:
رسول الله صلى الله عليه وسلم «حب أبي بكر واجب على أمتي» .(2/56)
باب الهجرة إلى المدينة
لا يخفى أنه لما كان صبيحة الليلة الثالثة من دخولهما الغار على ما تقدم، جاءهما الدليل الذي هو الرجل الدؤلي براحلتيهما، فركبا وانطلق بهما وانطلق معهما عامر بن فهيرة: أي رديفا لأبي بكر يخدمهما، أي وفي البخاري «أن أبا بكر كان رديفا له صلى الله عليه وسلم» أي ولا مخالفة لما سيأتي.
ويروى «أنه صلى الله عليه وسلم لما خرج من الغار وركب أخذ أبو بكر بغرزه» أي بركابه، والغرز بغين معجمة مفتوحة وراء ساكنة وزاي: ركاب الإبل خاصة «فقال صلى الله عليه وسلم: ألا أبشرك؟ قال بلى فداك أبي وأمي، قال: إن الله عز وجل يتجلى للخلائق يوم القيامة عامة، ويتجلى لك خاصة» قال الخطيب: هذا الحديث لا أصل له. قال السيوطي:
رأيت له متابعات «ودعا صلى الله عليه وسلم بدعاء منه: اللهم اصحبني في سفري، واخلفني في أهلي» .
«وأخذ بهم الدليل على طريق السواحل، وصار أبو بكر إذا سأله سائل عن النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الذي معك» أي وفي رواية: «من هذا الذي بين يديك؟» وفي رواية: «من هذا الغلام بين يديك» أي بناء على أنه كان رديفا له صلى الله عليه وسلم يقول: هذا الرجل يهديني الطريق يعني طريق الخير، أي لأنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر «أله الناس» أي أشغل الناس عني: أي تكفل عني بالجواب لمن سأل عني، فإنه لا ينبغي لنبيّ أن يكذب: أي ولو صورة كالتورية، فكان أبو بكر يقول لمن سأله عن النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكر، وإنما لم يسأل أبو بكر عن نفسه، لأن أبا بكر كان معروفا لهم، لأنه كان يكثر المرور عليهم في التجارة للشام: أي معروفا لغالبهم، فلا ينافي ما جاء في بعض الروايات أنه كان إذا سئل من أنت؟ يقول: باغي أي طالب حاجة، فعلم أن الأنبياء لا ينبغي لهم الكذب ولو صورة، ومن ذلك التوراة، لكن سيأتي في غزوة بدر وقوع التوراة منه صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية «ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وراء أبي بكر ناقته» وفي التمهيد لابن عبد البر «أنه لما أتي براحلة أبي بكر سأل أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يركب ويردفه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أنت اركب وأردفك أنا، فإن الرجل أحق بصدر دابته، فكان إذا قيل له من هذا وراءك؟ قال: هذا يهديني السبيل» .
أقول: لا مخالفة بين هذا وما تقدم، لأنه يجوز أن يكون ركب صلى الله عليه وسلم تارة خلف(2/57)
أبي بكر على ناقة أبي بكر، وتارة ركب صلى الله عليه وسلم على ناقة نفسه أمامه، وأن ركوبه لها كان في أثناء الطريق، ويكون صلى الله عليه وسلم إما أركب راحلته عامر بن فهيرة، أو ترك ركوبها لأجل إراحتها، والهداية كما تكون من المتقدم تكون من المتأخر، وإن كان الأوّل هو الغالب والله أعلم، وإلى توجهه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أشار صاحب الهمزية بقوله:
ونحا المصطفى المدينة واشتا ... قت إليه من مكة الأنحاء
أي وقصد صلى الله عليه وسلم المدينة واشتاقت إليه الجهات والنواحي من مكة. وقد جاء «أنه لما خرج صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة مهاجرا وبلغ الجحفة اشتاق إلى مكة فأنزل الله تعالى عليه إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [القصص: الآية 85] أي إلى مكة» .
وأهل الرجعة يقولون إلى الدنيا: أي من يقول بأن النبي صلى الله عليه وسلم يرجع إلى الدنيا كما يرجع عيسى، وقد أظهرها عبد الله بن سبأ، كان يهوديا وأمه يهودية سوداء؛ ومن ثم كان يقال له ابن السوداء، أظهر الإسلام في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه، وقيل في خلافة عثمان رضي الله عنه، وكان قصده بإظهار الإسلام بوار الإسلام، فكان يقول: العجب ممن يزعم أن عيسى يرجع إلى الدنيا ويكذب برجعة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [القصص: الآية 85] فمحمد أحق بالرجعة من عيسى عليهما الصلاة والسلام، وتقدم ذلك في أثناء الكلام على بدء الوحي، وسيأتي ذلك عند بناء المسجد. وكانت قريش كما تقدم أرسلت لأهل السواحل أن من قتل أو أسر أبا بكر أو محمدا كان له مائة ناقة، أي فمن قتلهما أو أسرهما كان له مائتان.
فعن سراقة قال «جاءنا رسل كفار قريش يجعلون فيهما إن قتلا أو أسرا ديتين، فبينا أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج: أي بقديد وهو محل قريب من رابغ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة إني رأيت أسودة: أي أشخاصا بالسواحل أراه محمدا وأصحابه. قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت: إنهم ليسوا بهم ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا: أي بمعرفتنا يطلبون ضالة لهم، أي وفي لفظ «قال رأيت ركبة بالتحريك جمع راكب ثلاثا مروا عليّ آنفا» أي قريبا «إني لأراهم محمدا وأصحابه. قال سراقة: فأومأت إليه أن أسكت، ثم قلت: إنما هم بنو فلان يتبعون ضالة لهم، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت إلى منزلي، فأمرت جاريتي أن تخرج فرسي خفية إلى بطن الوادي وتحبسها عليّ، وأخذت رمحي وخرجت به من ظهر البيت، فخططت بزجه في الأرض» والزج الحديدة التي تكون في أسفل الرمح «وخفضت عاليه» أي أمسكت بأعلاه «وجعلت أسفله في الأرض لئلا يراه أحد» وإنما فعل ذلك كله ليفوز بالجعل المتقدم ذكره،(2/58)
ولا يشركه فيه أحد من قومه بخروجه معه لقتلهما أو أسرهما، زاد في رواية «ثم انطلقت فلبست لأمتي، وجعلت أجر الرمح مخافة أن يشركني أهل الماء يعني قومه.
قال: حتى أتيت فرسي» أي وكان يقال لها العود، والفرس لغة تقع على الذكر والأنثى. قال في النور: والمراد هنا الأنثى، لقوله «فركبتها» أي بالغت في إجرائها «حتى دنوت منهم» ..
وفي لفظ: «فرفعتها تقرب بي» وحينئذ يكون المراد أسرعت بالسير بها، لأن التقريب دون العدو وفوق العادة «فعثرت بي فرسي» أي فوقعت لمنخريها كما في حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما.
زاد في رواية «ثم قامت تحمحم، فخررت عنها، فقمت فأهويت بيدي على كنانتي فاستخرجت الأزلام» أي وهي عيدان السهام التي لا ريش لها ولم تركب فيها النصال «واستقسمت بها أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره وهو عدم إضرارهم» أي لأنه مكتوب عليها افعل لا تفعل، ويقال للأوّل الآمر، ويقال للثاني الناهي «فركبت فرسي وعصيت الأزلام تقرب بي حتى سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات، ساخت» أي غابت «يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، أي وكانت الأرض جلدة فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذ لأثر يديها عثان» أي غبار «ساطع في السماء مثل الدخان أي مع كون الأرض جلدة، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان:
أي وقلت أنظروني لا أوذيكم ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه» .
أي وفي رواية: «ناديت القوم، وقلت أنا سراقة بن مالك، انظروني أكلمكم، أنا لكم نافع غير ضار، وإني لا أدري لعل الحي فزعوا لركوبي: أي أن بلغهم ذلك وأنا راجع رادّهم عنكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: قل له: ماذا تبتغي؟ فوقفوا فأخبرتهم بما تريد الناس منهم» .
وفي رواية «قال يا محمد ادع الله أن يطلق فرسي وأرجع عنك وأرد من ورائي» وفي رواية قال «يا هذان ادعوا لي الله ربكما، ولكما أن لا أعود ففعل: أي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق الفرس» وحينئذ يكون زجره لها ونهوضها بعد الدعاء فلا مخافة، «قال: فركبت فرسي» أي بعد نهوضها «حتى جئتهم، فقلت: إن قومك جعلوا فيك الدية: أي مائة من الإبل لمن قتلك أو أسرك» وهذا هو المراد بقوله في الرواية السابقة فأخبرتهم بما يريد الناس منهم، وكأنه رأى أن ذلك كاف في لحوقه بهم عن ذكر أبي بكر. «قال سراقة وعرضت عليهما الزاد والمتاع فلم يقبلا وقالا:
اخف عنا» أي وفي رواية «عرضت عليهما الزاد والحملان» أي ولعل الحملان هو المراد بالمتاع، أي لأنه جاء «أنه قال لهما خذا هذا السهم من كنانتي، وغنمي وإبلي(2/59)
بمحل كذا وكذا فخذا منهما ما شئتما، فقالا: اكفنا نفسك، فقال: كفيتماهما» .
أقول: وفي رواية قال له صلى الله عليه وسلم «يا سراقة إذا لم ترغب في دين الإسلام فإني لا أرغب في إبلك ومواشيك» . وفي رواية عن أبي بكر رضي الله عنه، قال «لما أدركنا سراقة، قلت: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا قال لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة: الآية 40] أي وقد تقدم أنه قال ذلك له في الغار فلما، كان بيننا وبينه قيد: أي مقدار رمح أو ثلاثة، قلت: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا وبكيت، قال: لم تبكي؟ قلت: أما والله ما على نفسي أبكي، ولكن أبكي عليك، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اللهم اكفناه بما شئت، فساخت به فرسه في الأرض إلى بطنها وكانت الأرض صلبة» أي ولا يخالف ما سبق أنها بلغت الركبتين، لجواز أن يكون ذلك في أوّل أمرها، ثم صارت إلى بطنها، وذلك كله في المرة الأولى، فلا يخالف ما في الإمتاع «لما قرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ساخت يدا فرسه في الأرض إلى بطنها، فقال: ادع لي يا محمد أن يخلصني الله تعالى ولك عليّ أن أرد عنك الطلب، فدعا فخلص فعاد فتبعهم، فساخت قوائم فرسه في الأرض أشد من الأولى، فقال: يا محمد قد علمت أن هذا من دعائك عليّ» الحديث إذ هو يدل على أنها في المرة الأولى وصلت إلى بطنها؛ وفي الثانية وصلت إلى ما هو زائد على ذلك. وقد يدل له ما يأتي عن الهمزية، ولعل المراد أنه دخل جزء من بطنها في الأرض في المرة الثانية. وفي لفظ «فقال: يا محمد قد علمت أن هذا عملك، فادع الله ينجيني مما أنا فيه، فوالله لأعمينّ على من ورائي من الطلب، فدعا له فانطلق راجعا» .
وفي السبعيات للهمداني «أن سراقة لما دنا منه صلى الله عليه وسلم صاح وقال: يا محمد من يمنعك مني اليوم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يمنعني الجبار الواحد القهار، ونزل جبريل عليه السلام وقال: يا محمد إن الله عز وجل يقول: جعلت الأرض مطيعة لك فأمرها بما شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أرض خذيه فأخذت الأرض أرجل جواده إلى الركب، فساق سراقة فرسه فلم يتحرك، فقال: يا محمد الأمان وعزة العزى لو أنجيتني لأكونن لك لا عليك، فقال: يا أرض أطلقيه فأطلقت جواده» .
وروي في بعض التفاسير أن سراقة عاهد سبع مرات ثم ينكث العهد، وكلما ينكث العهد تغوص قوائم فرسه في الأرض؛ وهذا أي الاقتصار على غوص قوائم فرسه في الأرض لا ينافي الزيادة، فلا يخالف ما سبق، وفي السابغة تاب توبة صدق.
وفي الفصول المهمة «لما اتصل خبر مسيره صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وذلك في اليوم الثاني من خروجه صلى الله عليه وسلم من الغار جمع الناس أبو جهل وقال: بلغني أن محمدا قد مضى نحو يثرب على طريق الساحل ومعه رجلان آخران، فأيكم يأتيني بخبره فوثب(2/60)
سراقة، فقال، أنا لمحمد يا أبا الحكم. ثم إنه ركب راحلته واستجنب فرسه وأخذ معه عبدا له أسود كان ذلك العبد من الشجعان المشهورين فسارا: أي في أثر النبي صلى الله عليه وسلم سيرا عنيفا حتى لحقا به، فقال أبو بكر: يا رسول الله قد دهينا، هذا سراقة قد أقبل في طلبنا ومعه غلامه الأسود المشهور، فلما أبصرهم سراقة نزل عن راحلته وركب فرسه وتناول رمحه وأقبل نحوهم، فلما قرب منهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم اكفنا أمر سراقة بما شئت وكيف شئت وأن شئت؛ فغابت قوائم فرسه في الأرض حتى لم يقدر الفرس أن يتحرك، فلما نظر سراقة إلى ذلك هاله ورمى نفسه عن الفرس إلى الأرض ورمى رمحه وقال: يا محمد أنت أنت وأصحابك، أي أنت كما أنت أي آمن وأصحابك، فادع ربك يطلق لي جوادي ولك عهد وميثاق أن أرجع عنك، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه إلى السماء، وقال: اللهم إن كان صادقا فيما يقول فأطلق له جواده قال: فأطلق الله تعالى قوائم فرسه حتى وثب على الأرض سليما» أي ولعل هذا في المرة الثانية أو المرة الأخيرة من السبع على ما تقدم، وتقدم أن الاقتصار على القوائم لا ينافي الزيادة عليها، فلا يخالف ما سبق في هذه الرواية «ورجع سراقة إلى مكة فاجتمع الناس عليه فأنكر أنه رأى محمدا، فلا زال به أبو جهل حتى اعترف وأخبرهم بالقصة» وفي ذلك يقول سراقة مخاطبا لأبي جهل:
أبا حكم والله لو كنت شاهدا ... لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه
علمت ولم تشكك بأن محمدا ... رسول ببرهان فمن ذا يقاومه؟
وسياق هذه الرواية يدل على أنه خرج خلف النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، ويدل لذلك ما ذكر أنه كان أحد القاصين لأثره صلى الله عليه وسلم في الجبل؛ لكنه مخالف لما تقدم أنه خرج خلفه صلى الله عليه وسلم من قديد من مجلس قومه وأخفى خروج فرسه وخروجه عن قومه.
وقد يقال: لا مخالفة لأنه يجوز أن يكون لما خرج من مكة سلك طريقا غير الطريق الذي سلكها النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجده وسبقه على قديد فجلس في مجلس قومه؛ فلما أخبر بمرورهم فعل ما تقدم ثم وجد عبده الأسود في مروره وكان معه راحلته فركبها واستجنب فرسه وصحب عبده.
ولا مانع أن يخرج من مكة بعد خروجهم من الغار، ويسبقهم على قديد. ولا ينافي ذلك قوله فأتانا رسل كفار قريش، لأنه يجوز أن يكون ذلك هو الحامل لسراقة على الذهاب إلى مكة لعله يجده بطريقة. ولا ينافي ذلك كونه كان أحد القصاصين لأثره صلى الله عليه وسلم، لأنه يجوز أن يكون عاد إلى قديد قبل أن يجعل الجعل. وفي كلام بعضهم أنه أرسل بهذين البيتين إلى أبي جهل. ولا منافاة لجواز أن يكون أرسل بهما قبل أن يشافهه بهما.(2/61)
وفي رواية «أنه لما لحق بهم قال صلى الله عليه وسلم: اللهم اصرعه فصرع عن فرسه، فقال:
يا نبي الله مرني بما شئت، قال: تقف مكانك لا تتركنّ أحدا يلحق بنا» .
ثم لا يخفى أن صرعه عن فرسه يحتمل أن يكون لما ساخت. ويحتمل أنه صرع عنها قبل ذلك وهو ظاهر سياق الرواية الأولى وهي: فعثرت بي فرسي فخررت عنها. وحينئذ يكون عثورها بدعائه صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
قال سراقة «فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، لأنه وقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم» .
وفي السبعيات «قال سراقة: يا محمد إني لأعلم أنه سيظهر أمرك في العالم؛ وتملك رقاب الناس، فعاهدني أني إذا أتيتك يوم ملكك فأكرمني، فأمر عامر بن فهيرة، أي وقيل أبا بكر فكتب لي في رقعة من أدم، أي وقيل في قطعة من عظم، وقيل في خرقة» .
أقول: وحينئذ يمكن أن يكون كتب عامر بن فهيرة أولا فطلب سراقة أن يكون أبو بكر هو الذي يكتب، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابة ذلك، فأحدهما كتب في الرقعة من الأدم، والآخر كتب في العظم أو الخرقة. أو المراد بالخرقة الرقعة من الأدم، فلا مخالفة.
«ولما أراد الانصراف قال له: يكف بك يا سراقة إذا تسورت بسواري كسرى؟
قال كسرى بن هرمز؟ قال نعم» وسيأتي أن سراقة أسلم بالجعرانة، ولما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بها قال له مرحبا بك.
وعن سراقة «لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين والطائف خرجت ومعي الكتاب لألقاه، فلقيته بالجعرانة، فدخلت في كتيبة من خيل الأنصار، فجعلوا يقرعونني بالرماح ويقولون إليك، ماذا تريد؟ قال: فدنوت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته، فرفعت يدي بالكتاب ثم قلت: يا رسول الله هذا كتابي وأنا سراقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يوم وفاء وبشر، أدنه، فدنوت منه وأسلمت» .
ولما جيء لعمر رضي الله تعالى عنه في زمن خلافته بسواري كسرى وتاجه ومنطقته أي وبساطه وكان ستين ذراعا في ستين ذراعا، منظوما باللؤلؤ والجواهر الملونة على ألوان زهر الربيع، كان يبسط له في إيوانه ويشرب عليه إذا عدمت الزهور- وجيء له بمال كثير من مال كسرى وبنات كسرى وكنّ ثلاثا وعليهنّ الحليّ والحلل والجواهر ما يقصر اللسان عن وصفه. وعند ذلك دعا سراقة وقال: ارفع يديك وألبسه السوارين وقال له: قل الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز الذي كان يقول: أنا رب الناس، وألبسهما سراقة بن مالك: أي ورفع عمر بها صوته(2/62)
وصبّ المال الذي جيء به من أموال كسرى في صحن المسجد، وفرقه على المسلمين، ثم قطع البساط وفرقه بين المسلمين، فأصاب عليا رضي الله تعالى عنه منه قطعة باعها بخمسين ألف دينار. ثم جيء ببنات الملك الثلاث فوقفن بين يديه، وأمر المنادي أن ينادي عليهنّ، وأن يزيل نقابهنّ عن وجوههنّ ليزيد المسلمون في ثمنهن، فامتنعن من كشف نقابهن ووكزن المنادي في صدره فغضب عمر رضي الله تعالى عنه وأراد أن يعلوهن بالدرة وهن يبكين، فقال له علي رضي الله تعالى عنه:
مهلا يا أمير المؤمنين، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ارحموا عزيز قوم ذل، وغني قوم افتقر» فسكن غضبه، فقال له علي: إن بنات الملوك لا يعاملن معاملة غيرهن من بنات السوقة، فقال له عمر: كيف الطريق إلى العمل معهن؟ فقال: يقوّمن ومهما بلغ ثمنهن يقوم به من يختارهن، فقومن وأخذهن علي رضي الله تعالى عنه، فدفع واحدة لعبد الله بن عمر فجاء منها بولده سالم، وأخرى لمحمد بن أبي بكر فجاء منها بولده القاسم، والثالثة لولده الحسين فجاء منها بولده عليّ الملقب بزين العابدين وهؤلاء الثلاثة فاقوا أهل المدينة علما وورعا، وكان أهل المدينة قبل ذلك يرغبون عن التسريّ، فلما نشأ هؤلاء الثلاثة فيهم رغبوا فيه.
ومن غريب الاتفاق ما حكاه بعضهم قال: كنت أجالس سعيد بن المسيب وأعجب سعيد بي يوما، فقال لي: من أخوالك؟ فقلت: أمي فتاة، فكأني نقصت من عينه، فأنا عنده إذ دخل عليه سالم بن عبد الله بن عمر، فلما خرج من عنده، قلت له: يا عم من هذا؟ قال: سبحان الله أتجهل مثل هذا من قومك؟ هذا سالم بن عبد الله بن عمر، قلت فمن أمه؟ قال فتاة. ثم دخل القاسم بن محمد فجلس عنده ثم نهض، فلما خرج قلت: يا عم من هذا؟ قال: ما أعجب أمرك! أتجهل مثل هذا؟
قال القاسم بن محمد بن أبي بكر، قلت: فمن أمه؟ قال فتاة. ثم دخل عليه علي بن الحسين فجلس ثم نهض، فلما خرج قلت له: من هذا؟ قال: عجبت منك! أتجهل مثل هذا؟ هذا علي زين العابدين بن الحسين، قلت: فمن أمه؟ قال: فتاة. قلت: يا عمي رأيتني نقصت من عينك لما علمت أن أمي فتاة فما لي في هؤلاء أسوة؟ فقال:
أجل وعظمت في عينه جدا.
ولما رجع سراقة صار يردّ عنهم الطلب، لا يلقى أحدا إلا ردّه، يقول: سيرت أي اختبرت الطريق فلم أراد أحدا. وفي لفظ قال لقريش: أي الجماعة منهم قصدوه صلى الله عليه وسلم كأنهم أخبروا بمكان مسيره ذلك: قد عرفتم بصرى بالطريق، وقد سرت فلم أر شيئا فرجعوا» أي فإن كفار قريش لما سمعوا من الهاتف أي ومن غيره بأنه صلى الله عليه وسلم نزل في خيمة أم معبد كما سيأتي، أرسلوا سرية في طلبه، يقول قائلهم: اطلبوه قبل أن يستعين عليكم بكلبان العرب، فيحتمل أن هؤلاء هم الذين ردهم سراقة، فكان(2/63)
سراقة أول النهار جاهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وآخر النهار مسلحة أي سلاحا له.
وفي رواية «قال سراقة: خرجت وأنا أحب الناس في تحصيلهما، ورجعت وأنا أحب الناس في أن لا يعلم بهما أحد» ويحتمل أنه بعد أن ردهم سراقة ذهبوا إلى أمّ معبد.
ففي تتمة الخبر: أن تلك السرية جاءت إلى أمّ معبد فسألوها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشفقت: أي خافت عليه منهم، فتعاجمت عليهم: أي أظهرت عدم علمها بذلك؛ فقالت: إنكم تسألوني عن أمر ما سمعت به قبل عامي هذا، ثم قالت: لئن لم تنصرفوا عني لأصرخنّ في قومي عليكم وكانت في عز من قومها، فانصرفوا ولم يعلموا أين توجه: أي من أي طريق توجه، أي ولعلها قالت لهم ذلك لما رأت منهم التثقيل عليها وهذا السياق يدل على أن قصة سراقة قبل قصة أمّ معبد، وإلى قصة سراقة أشار صاحب الأصل بقوله:
غرّت سراقة أطماع فساخ به ... جواده فانثنى للصلح مطلبا
وإليها أشار أيضا صاحب الهمزية بقوله:
واقتفى أثره سراقة فاسته ... وته في الأرض صافن جرداء
ثم ناداه بعد ما سيمت الخس ... ف وقد ينجد الغريق النداء
أي وتبع أثره سراقة، فهوت: أي سقطت به صافن، وهي الفرس التي تقوم على ثلاث قوائم وتقيم الرابعة على طرف الحافر، وهو وصف محمود في الخيل.
جرداء، قصيرة الشعر، وذلك وصف محمود في الخيل أيضا بعد أن قاربت أن يخسف بها كلها. وقد يخلص الدعاء الغريق، كما وقع ليونس صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه.
قال: وعن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه «أنه قال: سرنا ليلتنا كلها حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق فلا يرى فيه أحد، رفعت لنا صخرة طويلة لها ظل، فنزلنا عندها، فأتيت الصخرة فسوّيت بيدي مكانا ينام فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظلها، ثم بسطت له فروة معي، ثم قلت: يا رسول الله نم وأنا أتجسس وأتعرّف من تخافه فنام صلى الله عليه وسلم وإذا براع يقبل بغنمه إلى الصخرة يريد منها الذي أردناه: أي وهو الظل، فلقيته، فقلت له: لمن أنت يا غلام؟ فقال لرجل من أهل مكة فسماه فعرفته» أي وقال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسم هذا الراعي ولا على اسم صاحب الغنم «قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: فقلت: هل في غنمك من لبن؟ قال نعم، قلت: أفتحلب لي؟ قال نعم، فأخذ شاة فحلب لي في قعب معه» وفي رواية في إداوة معي على فيها خرقة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وكرهت أن أوقظه من نومه، فوقفت(2/64)
حتى أستيقظ، فصببت على اللبن من الماء حتى برد أسفله، فقلت: يا رسول الله اشرب من هذا اللبن فشرب، لأنه جرت العادة بإباحة مثل ذلك لابن السبيل إذا احتاج إلى ذلك، فكان كل راع مأذونا له في ذلك أي كما تقدم، فلا ينافي ما جاء «لا يحلبنّ أحد ماشية أحد إلا بإذنه» أو أن هذا الحديث محمول على فعل ذلك اختلاسا من غير معرفة الراعي.
وأما قول بعضهم «إنما استجاز شربه لأنه مال حربي، ففيه نظر، لأن الغنائم:
أي أموال الحربيين لم تكن أبيحت له حينئذ؛ ثم قال: يعني النبي صلى الله عليه وسلم: ألم يأن للرحيل؟ قلت بلى، فارتحلنا بعد ما زالت الشمس» انتهى.
أي وفي رواية «أن أبا بكر، قال: قد آن الرحيل يا رسول الله» أي دخل وقته، قال الحافظ ابن حجر: يجمع بينهما بأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم بدأ فسأل فقال له أبو بكر:
بلى، ثم أعاد عليه بقوله قد آن الرحيل «واجتازوا في طريقهم بأمّ معبد» أي واسمها عاتكة، وكان منزلها بقديد، أي وهو محل سراقة كما تقدم، ولعلها كانت بطرفه الأخير الذي يلي المدينة، ومنزل سراقة بطرفه الذي يلي مكة وكانت مسافته متسعة فليتأمل. «وكانت أمّ معبد امرأة برزة جلدة تختبي بفناء بيتها وتطعم وتسقي وهي لا تعرفهم، أي وسألوها لحما وتمرا» أي وفي رواية «أو لبنا يشترونه، فقالت: والله لو كانت عندنا شيء ما أعوزناكم» أي للشراء، وفي رواية «ما أعوزناكم القرى» لأنهم كانوا مسنتين: أي مجدبين «فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أم معبد هل عندك من لبن؟
قالت: لا والله، فرأى شاة خلفها الجهد عن الغنم» أي لم تطق اللحاق بها لما بها من الهزال «قال هل بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذلك قال: أتأذنين في حلابها؟ قالت: والله ما ضربها من فحل قط فشأنك» أي أصلح شأنك «بها إن رأيت منها حلبا فاحلبها، فدعا بها فمسح ظهرها بيده» أي وفي رواية «فبعث النبي صلى الله عليه وسلم معبدا وكان صغيرا فقال ادع هذه الشاة، ثم قال: يا غلام هات فرقا، فمسح ظهرها» وفي رواية «فمسح بيده ضرعها وظهرها وسمى الله تعالى، أي وقال: اللهم بارك لنا في شاتنا فدرت واجترت وتفاحجت» أي فتحت ما بين رجليها للحلب «ثم دعا بإناء يربض الرهط» أي يرويهم بحيث يغلب عليهم الريّ فيربضون وينامون. والرهط من الثلاثة للعشرة، وقيل من التسعة إلى الأربعين «فحلب فيها ثجا» أي بقوة لكثرة اللبن.
ومن ثم قال «حتى علاه البهاء» وفي رواية «حتى علته الثمالة» بضم المثلثة: أي الرغوة. وفي رواية «فسقاها فشربت حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا عللا بعد نهل» أي مرة ثانية بعد الأولى «ثم شرب صلى الله عليه وسلم، فكان آخرهم شربا» وقال «ساقي القوم آخرهم شربا» ثم حلب فيه وغادره» أي تركه عندها وارتحل، وإلى ذلك أشار الإمام السبكي بقوله في تائيته:(2/65)
مسحت على شاة لدى أم معبد ... بجهد فألفتها أدرّ حلوبة
وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله في وصف راحته الشريفة:
درت الشاة حين مرت عليها ... فلها ثروة بها ونماء
أي أرسلت الشاة لبنها حين مرت راحته الشريفة على تلك الشاة فلتلك الشاة بسبب تلك الراحة كثرة لبن وزيادة.
وعن أم معبد: أن هذه الشاة بقيت إلى خلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إلى سنة ثماني عشرة، وقيل سبع عشرة من الهجرة، ويقال لتلك السنة عام الرمادة: أي وكانت تلك السنة أجدبت الأرض إجدابا شديدا، حتى جعلت الوحوش تأوي إلى الإنس ويذبح الرجل الشاة فيعافها، أي لخبث لحمها، وكانت الريح إذا هبت ألقت ترابا كالرماد، فسمي ذلك العام عام الرمادة، وعند ذلك آلى عمر رضي الله تعالى عنه أن لا يذوق لبنا ولا سمنا ولا لحما حتى تحيا الناس: أي يجيء عليهم الحيا وهو المطر، وقال: كيف لا يعنيني شأن الرعية إذ لم يمسني ما مسهم، وهذا السياق يدل على أن الذي حلبه صلى الله عليه وسلم عند أم معبد شاة واحدة.
وفي تاريخ العيني شارح البخاري، قال يونس «عن ابن إسحاق أنه دعا ببعض غنمها فمسح ضرعها بيده ودعا الله وحلب في العس حتى أرغى، وقال اشربي يا أم معبد، فقالت اشرب اشرب فأنت أحق به فرده عليها فشربت ثم دعا بحائل أخرى، ففعل بها مثل ذلك فشربه، ثم دعا بحائل أخرى ففعل بها مثل ذلك، فسقى دليله، ثم دعا بحائل أخرى ففعل بها مثل ذلك فسقى عامر بن فهيرة، وطلبت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغوا أم معبد، فسألوا عنه صلى الله عليه وسلم، ووصفوه لها، فقالت: ما أدري ما تقولون قد ضافني حالب الحائل، فقالوا: ذلك الذي نريده» .
وعند قول عمر رضي الله تعالى عنه ذلك، قال كعب لعمر: يا أمير المؤمنين إن بني إسرائيل كانوا إذا أصابهم مثل هذا استسقوا بعصبة الأنبياء، فقال عمر: هذا عم النبي صلى الله عليه وسلم، وصنو أبيه، وسيد بني هاشم يعني العباس، فمشى إليه عمر وشكا إليه ما فيه الناس، فصعد عمر المنبر ومعه العباس، وقال: اللهم إنا قد توجهنا إليك بعم نبينا وصنوا أبيه صلى الله عليه وسلم فاسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين؛ ثم قال عمر للعباس: يا أبا الفضل قم وادع، فقام وحمد الله وأثنى عليه ودعا بدعاء منه: اللهم شفعنا في أنفسنا وأهلينا. اللهم إنا نشكو إليك جوع كل جائع. اللهم إنا لا نرجو إلا إياك، ولا ندعو غيرك، ولا نرغب إلا إليك، فسقوا قبل أن يصلوا إلى منازلهم، وخاضوا في الماء وأخصبت الأرض، وعاش الناس، فقال عمر: هذا والله هو الوسيلة إلى الله تعالى، فصار الناس يتمسحون بالعباس ويقولون: هنيئا لك، سقينا في الحرمين.(2/66)
وذكر السهيلي أن جماعة كانت مقبلة إلى المدينة في ذلك اليوم فسمعوا صائحا يصيح في السحاب. أتاك الغوث أبا حفص، أتاك الغوث أبا حفص.
هذا، وذكر العلامة ابن حجر الهيتمي في الصواعق عن تاريخ دمشق أن الناس كرروا الاستسقاء عام الرمادة سنة سبع عشرة من الهجرة فلم يسقوا، فقال عمر رضي الله تعالى عنه، لأستسقين غدا بمن يسقيني الله به، فلما أصبح غدا للعباس رضي الله تعالى عنه فدق عليه الباب، فقال من؟ قال: عمر، قال: ما حاجتك؟ قال: اخرج حتى نستسقي الله بك، قال اقعد، فأرسل إلى بني هاشم أن تطهروا، والبسوا من صالح ثيابكم فأتوه، وأخرج طيبا وطيبهم، ثم خرج وعليّ أمامه بين يديه والحسن عن يمينه والحسين عن يساره وبنو هاشم خلف ظهره، وقال يا عمر لا تخلط بنا غيرنا، ثم أتى المصلى فوقف فحمد الله تعالى وأثنى عليه، وقال: اللهم إنك خلقتنا ولم تؤامرنا، وعلمت ما نحن عاملون قبل أن تخلقنا فلم يمنعك علمك فينا عن رزقنا. اللهم فكما تفضلت علينا في أوله فتفضل علينا في آخره. قال جابر: فما برحنا حتى سحت السماء علينا سحا، فما وصلنا إلى منازلنا إلا خوضا، فقال العباس: أنا ابن المسقي ابن المسقي ابن المسقي ابن المسقي ابن المسقي خمس مرات، أشار إلى أن أباه عبد المطلب استسقى خمس مرات فسقي، هذا كلامه فلينظر الجمع.
قال ابن شهاب: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعرفون للعباس فضله ويقدمونه ويشاورونه ويأخذون برأيه: أي وكان لا يمر عمر وعثمان وهما راكبان إلا ترجلا حتى يجوز العباس، وربما مشيا معه إلى بيته إجلالا له، أي لأنه صلى الله عليه وسلم قال «احفظوني في العباس، فإنه عمي وصنو أبي» وفي رواية «فإنه بقية آبائي» .
قالت أم معبد في وصف تلك الشاة «وكنا نحلبها صبوحا وغبوقا» أي بكرة وعشية وما في الأرض قليل ولا كثير: أي مما يتعاطى الدواب أكله «ولما جاء زوجها أبو معبد» قال السهيلي: لا يعرف اسمه، وقيل اسمه أكثم بالثاء المثلثة كما تقدم، وقيل خنيس، وقيل عبد الله «جاء عند المساء يسوق أعنزا عجافا، ورأى اللبن الذي حلبه صلى الله عليه وسلم عجب، وقال: يا أم معبد ما هذا اللبن ولا حلوب في البيت؟ أي والشاة عازب» أي لم يطرقها فحل، لكن رأيته في النور فسر العازب بالبعيدة المرعى التي لا تأوي إلى المنزل في الليل. وفي الصحاح: العازب الكلأ البعيد الذي لم يؤكل ولم يوطأ.
قالت: «مرّ بنا رجل مبارك، قال: صفيه، قالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة، متبلج الوجه» أي مشرقه «في أشفاره» أي أجفان عينيه أي شعرها النابت بها «وطف» أي طول «وفي عينيه دعج» أي شدة سواد في بياض، أي وهذا هو الحور، ومن ثم(2/67)
فسر بعضهم الدعج بشدة السواد. وفيه أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن بياض عينيه شديد البياض، بل كان أشكل العين. والشكلة: حمرة في بياض العين، وهو دليل الشهامة، وهي من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم في الكتب القديمة كما تقدم «وفي صوته صحل» أي بحة بضم الموحدة، أي ليس حاد الصوت «غصن بين الغصنين، لا تشنؤه من طول» أي لا تبغضه لفرط طوله «ولا تقتحمه من قصر» أي تحتقره من قصره «لم تعبه ثجلة» أي عظم البطن وكبرها «ولم تزر به صعلة» أي صغر الرأس، «كأن عنقه إبريق فضة» أي والإبريق السيف الشديد البريق «إذا نطق فعليه البهاء، وإذا صمت فعليه الوقار، له كلام كخرزات النظم، أزين أصحابه منظرا، وأحسنهم وجها، أصحابه يحفون به، إذا أمر ابتدروا أمره، وإذا نهى انتهوا عند نهيه» .
قال: وفي لفظ «أنها قالت: رأيت رجلا ظاهرا الوضاءة أبلج الوجه» أي مشرقه «حسن الخلق، لم تعبه ثجلة، ولم تزره صعلة، وسيما قسيما» أي حسنا «في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صحل» أو قالت «صهل، أحور أكحل» أي في أجفان عينيه سواد خلقه «وفي عنقه سطع» أي نور «وفي لحيته كثافة» أي لا طويلة ولا دقيقة «أزج» أي رقيق طرف «الحاجب، أقرن» أي مقرون الحاجبين «شديد سواد الشعر، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سما به» أي ارتفع على جلسائه «وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنهم من قريب، حلو المنطق، فصل، لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظمن يتحدرن، ربعة لا تشنؤه» أي تبغضه «من طول» أي من فرط طوله «ولا تقتحمه عين من نظر» أي لا تتجاوزه إلى غيره اختيارا له «غصنا بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا، وأحسنهم قدرا؛ له رفقاء يحفون به، إن قال أنصتوا لقوله، وإن أمر ابتدروا إلى أمره، محفود مخدوم محشود، له حشد وجماعة، لا عابس ولا مفند» أي يكثر اللوم اهـ «قال: هذه والله صفة صاحب قريش، ولو رأيته لاتبعته، ولأجتهدن أن أفعل» .
أي وفي الإمتاع «ويقال إنها» أي أم معبد «ذبحت لهم شاة وطبختها فأكلوا منها، ووضعت لهم في سفرتهم منها ما وسعته تلك السفرة، وبقي عندها أكثر لحمها» .
وفي الخصائص الكبرى «أنه صلى الله عليه وسلم بايعها» أي أسلمت قبل أن يرتحلوا عنها. وفي كلام ابن الجوزي أن أم معبد هاجرت وأسلمت وكذا زوجها هاجر وأسلم.
أقول: في شرح السنة للبغوي: وهاجرت هي وزوجها؛ وأسلم أخوها حبيش بن الأصفر، واستشهد يوم الفتح، وكان أهلها يؤرخون بيوم نزول الرجل المبارك، ويقال إن زوجها خرج في أثرهم فأدركهم، وبايعه صلى الله عليه وسلم ورجع.
وفي الأجوبة المسكتة لابن عون، قيل لأم معبد: ما بال صفتك لرسول الله صلى الله عليه وسلم(2/68)
أشبه به من سائر صفات من وصفه: أي من الرجال، فقالت: أما علمتم أن نظر المرأة من الرجل أشفى من نظر الرجل إلى الرجل؟.
وفي ربيع الأبرار للزمخشري عن هند بنت الجون «أنه صلى الله عليه وسلم لما كان بخيمة خالتها أم معبد قام من رقدته، فدعا بماء فغسل يديه، ثم تمضمض ومجّ ذلك في عوسجة إلى جانب الخيمة فأصبحت وهي أعظم دوحة» أي شجرة ذات فروع كثيرة «وجاءت بثمر كأعظم ما يكون، في لون الورس، ورائحة العنبر، وطعم الشهد، ما أكل منها جائع إلا شبع، ولا ظمآن إلا روي، ولا سقيم إلا برىء، ولا أكل من ورقها بعير ولا شاة إلا درّ فكنا نسميها المباركة، فأصحبنا في يوم من الأيام وقد سقط ثمرها واصفر ورقها ففزعنا لذلك، فما راعنا إلا نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم» قال:
والعجب كيف لم يشتهر أمر هذه الشجرة كما اشتهر أمر الشاة.
وعن أم معبد أنها قالت: مرّ علي خيمتي غلام سهيل بن عمرو ومعه قربتان، فقلت ما هذا؟ قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى مولاي: يستهديه ماء زمزم فأنا أعجل السير كي لا تنشف القرب، أي فإنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى سهيل بن عمرو «إن جاءك كتابي ليلا فلا تصبحن، أو نهارا فلا تمسين حتى تبعث إليّ من ماء زمزم» فجاء بقربتين فملأهما من ماء زمزم وبعث بهما على بعير مولاه أزهر» ولا زال كفار قريش بمكة لا يعلمون أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حتى سمعوا هاتفا يذكرهما ويذكر أم معبد في أبيات، منها:
جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين قالا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالبر ثم ترحلا ... فأفلح من أمسى رفيق محمد
فعلموا توجهه ليثرب: أي وفي طريق اليمن محل يقال له الدهيم وبئر أم معبد، قال بعضهم: وليست بأم معبد التي نزل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة.
ويجوز أن يكون الخبر الذي وصل إليهم في اليوم الثاني من خروجه من الغار هو قول هذا الهاتف أو عقبه من شخص رآهم، وإلى قول الهاتف أشار صاحب الهمزية بقوله:
وتغنت بمدحه الجن حتى ... أطرب الإنس منه ذاك الغناء
أي وأظهرت الجن أوصافه صلى الله عليه وسلم الحميدة في صورة الغناء الذي تتولع به النفس حتى أطرب ذلك الغناء الإنس حيث سمعوه، وأما قول بعضهم إنهم علموا ذلك من هاتف هتف بقوله:
إن يسلم السعدان يصبح محمد ... من الأمر لا يخشى خلاف المخالف
فقالوا: السعود سعد بن بكر وسعد بن زيد مناة، وسعد هديم، فلما كانت(2/69)
القابلة سمعوا ذلك الهاتف يقول:
فيا سعد سعد الأوس كن أنت مانعا ... ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف
فقالوا: سعد الأوس سعد بن معاذ، وسعد الخزرجين سعد بن عبادة، ففيه نظر، لأن السعدين المذكورين كانا أسلما قبل ذلك؟ فلا يحسن قوله إن يسلم السعدان.
أقول: يجوز أن تكون أن هنا بمعنى إذ: أي صيرورته صلى الله عليه وسلم آمنا لا يخشى خلاف المخالف لأجل إسلام السعدين، أو المراد دوامهما على الإسلام، على أنه ذكر في الأصل إن إنشاد هذين البيتين وسماع أهل مكة له كان قبل إسلام سعد بن معاذ.
وذكر بعضهم أن السعود من الأنصار سبعة: أربعة من الأوس: سعد بن معاذ، وسعد بن خيثمة، وسعد بن عبيد، وسعد بن زيد، وثلاثة من الخزرج: سعد بن عبادة، وسعد بن الربيع وسعد بن عثمان أبو عبيدة، والله أعلم.
قال: وتقديم قصة سراقة على قصة أم معبد هو ما في الأصل، وقد التزم فيه ترتيب الوقائع وقضية الترتيب ذكر قصة أم معبد قبل قصة سراقة لأنه الصحيح الذي صرح به جماعة اهـ.
أقول: ومما يدل لذلك ما تقدم من أن كفار قريش لم يعلموا أين توجه صلى الله عليه وسلم حتى سمعوا الهاتف يذكر أم معبد.
وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل وقفوا على الباب فخرجت إليهم، فقالوا: أين أبوك؟ قلت: والله لا أدري، فرفع أبو جهل يده فلطم خدي لطمة خرم منها قرطي، أي وفي لفظ: طرح منها قرطي. والقرط: ما يعلق في شحمة الأذن، قالت. ثم انصرفوا فمضى ثلاث ليال ولم ندر أي توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل من الجن من أسفل مكة، يغني بأبيات وإن الناس ليتبعونه يسمعون صوته حتى خرج بأعلى مكة يقول:
جزى الله رب الناس
الأبيات كذا في الأصل.
وفيه أن قولها لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهر في خروجه للغار، وقولها فمضى ثلاث لا ندري أين توجه يقتضي أن المراد خروجه من الغار، وتقدم أنهم علموا بخروجه إلى المدينة في اليوم الثاني من خروجه من الغار، وتقدم أنهم لم يعلموا بذلك إلا من الهاتف فليتأمل.(2/70)
وقد تبع الأصل في ذلك شيخه الحافظ الدمياطي حيث قدّم خبر سراقة على قصة أم معبد، إلا أن يقال الدمياطي لم يلتزم الترتيب فلا تحسن تبعيته، وهنا قصة أخرى فيها زيادة ونقص. قيل هي قصة أم معبد وقيل غيرها، «وهي أنه اجتاز صلى الله عليه وسلم بغنم فقال لراعيها لمن هذه؟ فقال لرجل من أسلم، فالتفت صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وقال:
سلمت إن شاء الله تعالى، ثم قال للراعي: ما اسمك؟ قال مسعود، فالتفت إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال: سعدت إن شاء الله تعالى» .
وفي الإمتاع: ولقى بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله تعالى عنه في ركب من قومه فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا: أي والحصيب بضم الحاء المهملة وفتح الصاد.
وفي الشرف «أن بريدة لما بلغه ما جعلته قريش لمن يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم طمع في ذلك، فخرج هو في سبعين من أهل بيته. وفي لفظ كانوا نحو ثمانين بيتا، وحينئذ يراد ببيته قومه، فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال له: من أنت؟ قال: بريدة بن الحصيب، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم: قال يا أبا بكر برد أمرنا وصلح، قال: ممن أنت؟ قال: من أسلم من بني سهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم سلمنا وخرج سهمك يا أبا بكر» أي لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتفاءل ولا يتطير كما تقدم. ثم قال بريدة للنبي صلى الله عليه وسلم من أنت؟ قال: أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله، فقال بريدة: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فأسلم بريدة وكل من كان معه: أي وصلوا خلفه صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة، ثم قال بريدة: يا رسول الله لا تدخل المدينة إلا ومعك لواء، فحلّ بريدة عمامته، ثم شدها في رمح ثم مشى بين يديه: أي وقال له كما في الوفاء: تنزل على من يا نبي الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن ناقتي هذه مأمورة، فقال بريدة: الحمد لله الذي أسلمت بنو سهم» يعني قومه «طائعين غير مكرهين» .
ولما سمع المسلمون بالمدينة بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة كانوا يغدون كل غداة إلى الحرة ينتظرونه حتى يردهم حرّ الظهيرة.
أقول: ولعلّ خروجهم كان في ثلاثة أيام، وهي المدة الزائدة على المسافة المعتادة بين مكة والمدينة التي كان بها في الغار، والله أعلم.
فانقلبوا يوما بعد أن طال انتظارهم أي وأحرقتهم الشمس، وإذا رجل من اليهود صعد على أطم: أي محل مرتفع من آطامهم أي من محالهم المرتفعة لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين: أي لأنهم لقوا الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابا بيضا كما في البخاري.(2/71)
وقيل إن الذي كساهما طلحة بن عبيد الله. فقال في النور: ولعلهما لقياه معا أو متعاقبين فكسواه وأبا بكر ما ذكره، وهذا الجمع أولى من ترجيح الحافظ الدمياطي لهذا القيل ومن ثم ذكر الحافظ ابن حجر أن هذا القيل هو الذي في السير. ومال الدمياطي إلى ترجيحه على عادته في ترجيح ما في السير على ما في الصحيح، لكنه ذكر أن ذلك كان شأنه في ابتداء أمره، فلما تضلع من الأحاديث الصحيحة كان يرى الرجوع عن كثير مما وافق عليه أهل السير وخالف الأحاديث الصحيحة.
فلما رآهم ذلك اليهودي يزول بهم السراب، أي يرفعهم ويظهرهم: أي والسراب ما يرى كالماء في وسط النهار في زمن الحرّ، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا جدكم: أي حظكم الذي تنتظرون، أي وفي رواية: فلما دنوا من المدينة بعثوا رجلا من أهل البادية إلى أبي أمامة وأصحابه من الأنصار، أي ولا مانع من وجود الأمرين، فثار المسلمون إلى السلاح، فبلغوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة، أي وفي لفظ: فوافوه وهو مع أبي بكر في ظل نخلة، ولعل تلك النخلة كانت بظهر الحرة فلا مخالفة، ثم قالوا لهما ادخلا آمنين مطمئنين.
وفي لفظ: فاستقبله زهاء خمسمائة أي ما يزيد على خمسمائة من الأنصار، فقالوا:
اركبا آمنين مطاعين، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بقباء في دار بني عمرو بن عوف، وذلك في يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول على كلثوم بن الهدم: أي لأنه كان شيخ بني عمرو بن عوف: أي وهم بطن من الأوس، قيل وكان يومئذ مشركا ثم أسلم وتوفي قبل بدر بيسير وقيل أسلم قبل وصوله صلى الله عليه وسلم المدينة، أي وعند نزوله صلى الله عليه وسلم نادى كلثوم بغلام له يا نجيح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أنجحت يا أبا بكر، وكان يجلس للناس ويتحدث مع أصحابه في بيت سعد بن خيثمة: أي لأنه كان عزبا لا أهل له هناك، أي وكان منزله يسمى منزل العزاب، والعزب من الرجال من لا زوجة له ولا يقال أعزب، وقيل هي لغة رديئة.
أقول: وبذلك يجمع بين قول من قال: نزل على كلثوم وقول من قال: نزل على سعد بن خيثمة، ثم رأيت الحافظ الدمياطي أشار إلى ذلك، والله أعلم.
ونزل عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه لما قدم المدينة على كلثوم أيضا بقباء بعد أن تأخر بمكة بعده صلى الله عليه وسلم ثلاث ليال يؤدي الودائع التي كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم، لأمره له صلى الله عليه وسلم بذلك كما تقدم.
فلما توجه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قام عليّ رضي الله تعالى عنه بالأبطح ينادي: من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وديعة فليأت تؤدى إليه أمانته، فلما نفد ذلك ورد عليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشخوص إليه، فابتاع ركائب وقدم ومعه الفواطم، ومعه أم أيمن وولدها أيمن، وجماعة من ضعفاء المؤمنين.(2/72)
أقول: سيأتي ما يخالف ذلك، وهو «أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل في دار أبي أيوب بعث زيد بن حارثة وأبا رافع إلى مكة وأعطاهما خمسمائة درهم وبعيرين يقدمان عليه بفاطمة وأم كلثوم بنته وسودة زوجته وأم أيمن وولدها أسامة» إلا أن يقال يجوز أن يكون الكتاب الذي فيه استدعاء سيدنا علي رضي الله تعالى عنه للهجرة كان مع زيد وأبي رافع رضي الله تعالى عنهما وأنهما صحباه. ولا ينافي ذلك ما تقدم من أنه صلى الله عليه وسلم تأخر بعد عليّ رضي الله تعالى عنه بمكة ثلاث ليال يؤدي الودائع، لأن تلك الليالي الثلاث كانت مدة تأدية الودائع؛ ومكث بعدها إلى أن جاءه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحينئذ يكون قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد نزوله بقباء على أم كلثوم فلا مخالفة، لكن في السيرة الهشامية «فنزل: أي عليّ معه أي مع النبي صلى الله عليه وسلم على أم كلثوم» وهو لا يتأتى إلا على القول بأنه صلى الله عليه وسلم مكث في قباء بضع عشرة ليلة كما سيأتي، وحينئذ يخالف ما سبق من مجيئه مع زيد وأبي رافع، لما علمت أنه صلى الله عليه وسلم إنما أرسلهما بعد أن تحول من قباء إلى المدينة.
وفي الإمتاع: لما قدم عليّ من مكة كان يسير الليل ويكمن النهار حتى تفطرت قدماه، فاعتنقه النبي صلى الله عليه وسلم، وبكى رحمة لما بقدميه من الورم، وتفل في يديه وأمرّهما على قدميه فلم يشكهما بعد ذلك، ولا مانع من وقوع ذلك من عليّ مع وجود ما يركبه، لأنه يجوز أن يكون هاجر ماشيا رغبة في عظيم الأجر.
وفي السيرة الهشامية: أن إقامة عليّ بقباء كانت ليلة أو ليلتين، وأنه رأى امرأة مسلمة لا زوج لها يأتيها إنسان من جوف الليل يضرب عليها بابها فتخرج إليه فيعطيها شيئا معه فتأخذه، قال علي: فسألتها فقالت: هذا سهل بن حنيف قد عرف أني امرأة لا أحد لي، فإذا أمسى غدا على أوثان قومه فكسرها، ثم جاءني بها فقال احتطبي بهذا: أي اجعليه للنار، فكان عليّ يعرف ذلك لسهل بن حنيف والله أعلم.
قال: ونزل أبو بكر على حبيب بن أبي إساف، وقيل على خارجة بن زيد بالسنح بضم السين المهملة فنون ساكنة فحاء مهملة.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ولد نبيكم يوم الاثنين، وحملت به أمه يوم الاثنين، وخرج من مكة: أي من الغار يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين.
قال الحاكم: تواترت الأخبار أن خروجه صلى الله عليه وسلم كان يوم الاثنين ودخوله المدينة كان يوم الاثنين. زاد بعضهم: وفتح مكة كان يوم الاثنين، ووضع الركن كان يوم الاثنين.
ومن الغريب ما حكاه بعضهم عن الربيع المالكي، وكان بمصر كان يوم الاثنين خاصة إذا نام فيه تنام عيناه ولا ينام قلبه. وقيل خرج من مكة أي إلى الغار يوم(2/73)
الخميس، وعليه يكون مكث صلى الله عليه وسلم في الغار تلك الليلة التي هي ليلة الجمعة، وليلة السبت وليلة الأحد، وعليه يكون خروجه من الغار صبيحة ليلة الأحد.
ففي البخاري «أتاهما» أي الدليل «براحلتيهما صبح ثلاث» وتقدم أن خروجهما إلى الغار كان ليلا من بيت أبي بكر، وقول أبي بكر «سرنا ليلتنا كلها حتى قام قائم الظهيرة» يقتضي أنهما خرجا من الغار ليلا، بل أول الليل، لأن مع التأكيد يبعد أن يكون المراد بقية ليلتنا، وتقدم عن البخاري «أتاهما براحلتيهما صبح ثلاث» وحمل ذلك على ما قارب الصبح من الليل بعيد فليتأمل هذا المحل. وقيل دخلها أي المدينة ليلا كما في رواية لمسلم، أي وقال الحافظ ابن حجر: ويجمع بأن القدوم كان آخر الليل فدخلها نهارا.
أقول: لعل مراد الحافظ أن الوصول كان ليلا إلى قرب المدينة فأقاموا بذلك المحل إلى أن أسفر النهار وساروا فما وصلوا إلا وقت الظهيرة، فلا يخالف ما تقدم، وقيل دخلها يوم الجمعة. وذكر الحافظ ابن حجر أنه شاذ والله أعلم.
وسرى السرور إلى القلوب بحلوله صلى الله عليه وسلم في المدينة. فعن البراء رضي الله تعالى عنه، قال: ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء وصعدت ذوات الخدور على الأجاجير:
أي الأسطحة عند قدومه صلى الله عليه وسلم يعلنّ بقولهن: طلع البدر علينا. الخ.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جعل النساء والصبيان والولائد يقلن:
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع
قال: واستشكل بأن ثنيات الوداع ليست من جهة القادم من مكة، بل هي من جهة الشام. فقد قال ابن القيم في الهدى في غزوة تبوك: ثنيات الوداع من جهة الشام لا يطؤها القادم من مكة. ونقل الحافظ ابن حجر عنه عكس ذلك، وليس في محله، وأجيب بأنه صلى الله عليه وسلم جاء من جهتها في دخوله للمدينة عند خروجه من قباء اهـ.
أي وفي كلام بعضهم: ما كان أحد يدخل المدينة إلا منها، فإن لم يعبر منها مات قبل أن يخرج لوبائها كما زعمت اليهود، فإذا وقف عليها قيل قد ودع فسميت به؛ وقيل قيل لها ثنية الوداع لأن المودع يمشي مع المسافر من المدينة إليها، وهو اسم قديم جاهلي، وقيل إسلامي؛ سمي ذلك المحل لذلك، وقيل لأن الصحابة(2/74)
رضي الله تعالى عنهم ودعوا فيها النساء اللاتي استمتعوا بهن في خيبر عند رجوعهن من خيبر، أو وقع توديع من خرج إلى غزوة تبوك فيها، أو لكونه صلى الله عليه وسلم ودّع بعض المسافرين عندها، وهذا يدل على أن هذا الشعر قيل له عند دخوله المدينة لا عند دخوله قباء، وسياق بعضهم يقتضيه؛ وسياق بعض آخر يقتضي أنه كان عند دخوله قباء؛ ومن هذا تعلم أن المدينة تطلق ويراد بها ما يشمل قباء، ومنه قولنا وسرى السرور إلى القلوب بحلوله صلى الله عليه وسلم في المدينة؛ فعن البراء إلى آخره، وهي المرادة بدخوله المدينة يوم الاثنين على ما تقدم؛ وتطلق ويراد بها ما قابل قباء وحينئذ تكون هذه المرادة بقول أنس: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة إلى آخره، ولعل منه ما في بعض الروايات المتقدمة «دخل المدينة يوم الجمعة» الذي حكم الحافظ ابن حجر بشذوذه كما تقدم.
«ولما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم قام أبو بكر للناس» أي وأبو بكر شيخ: أي شيبه ظاهر، والنبي صلى الله عليه وسلم شاب: أي شعر لحيته أسود مع كونه أسن من أبي بكر كما تقدم.
وقد قال أنس: لم يكن في الذين هاجروا أشمط غير أبي بكر «فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يجيء أبا بكر فيعرفه بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرفه الناس» أي عرفه من جاء منهم بعد ذلك: أي لأن عدم تأثير الشمس فيه لتظليل الغمامة كان قبل البعثة إرهاصا كما تقدم.
ومما يدل على أن خروجه من قباء كان يوم الجمعة قول بعضهم «ولبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف» أي في قباء «بقية يوم الاثنين ويوم الثلاثة ويوم الأربعاء ويوم الخميس وخرج يوم الجمعة» وقيل لبث بضع عشرة ليلة، وهو المنقول عن البخاري.
وعن ابن عقبة «أقام صلى الله عليه وسلم ثنتين وعشرين ليلة» وفي الهدى «أقام أربعة عشر يوما» وهو ما في صحيح مسلم فليتأمل «وأسس في قباء المسجد الذي أسس على التقوى:
أي الذي نزلت فيه الآية، وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم» قال في الهدى: ولا ينافي هذا قوله صلى الله عليه وسلم «وقد سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال: مسجدكم هذا، وأشار لمسجد المدينة» أي وفي رواية «فأخذ حصاة فضرب به الأرض، وقال:
مسجدكم هذا» يعني مسجد المدينة، لأن كلا منهما مؤسس على التقوى هذا كلامه.
ويوافقه ما نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يرى كل مسجد بني المدينة الشاملة لقباء أسس على التقوى: أي لكن الذي نزلت فيه الآية مسجد قباء «وكان خروجه صلى الله عليه وسلم من قباء يوم الجمعة حين ارتفع النهار» قال: قيل وكان محل مسجد قباء مربد أي محلا يجفف فيه التمر لكلثوم بن الهدم، وهو أول مسجد بني(2/75)
في الإسلام لعموم المسلمين، فلا ينافي أنه بني قبله غيره من المساجد لكن لخصوص الذي بناه كالمسجد الذي بناه الصديق بفناء داره بمكة كما تقدم انتهى.
أي وفي كلام ابن الجوزي: أول من بنى مسجدا في الإسلام عمار بن ياسر.
وفي السيرة الهشامية عن الحكم بن عيينة «لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل قباء قال عمار بن ياسر: ما لرسول الله صلى الله عليه وسلم بد من أن يجعل له مكانا يستظل به إذا استيقظ ويصلي فيه، فجمع حجارة فبنى مسجد قباء» أي فإنه لما جمع الحجارة أسسه صلى الله عليه وسلم واستتم بنيانه عمار، فعمار أول من بنى مسجدا لعموم المسلمين.
قال: وعن جابر «لبثنا بالمدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين، نعمر المساجد، ونقيم الصلاة» انتهى.
ونعمر يحتمل أن يكون بالتخفيف فيكون عطف نقيم الصلاة من عطف التفسير. ويحتمل أن يكون بالتشديد فيكون بناء المساجد تعدد في المدينة قبل قدومه صلى الله عليه وسلم.
وفيه أن الحافظ ابن حجر قال: كان بين ابتداء هجرة الصحابة وبين هجرته صلى الله عليه وسلم شهران ونصف شهر على التحرير كما تقدم، أي ورواية جابر تدل على أنه كان بين اجتماع الاثني عشر من الأنصار به صلى الله عليه وسلم ومجيئهم إلى المدينة وبين قدومه صلى الله عليه وسلم للمدينة سنتان.
وقد يقال: ليس مراد جابر أن ابتداء المدة من قدوم الاثني عشر عليه، بل مراده أن ابتداءها من قدوم الستة عليه الذين منهم جابر، والمدة تزيد على السنتين فليتأمل. وهو: أي مسجد قباء أول مسجد صلى فيه صلى الله عليه وسلم بأصحابه جماعة ظاهرين أي آمنين.
وقيل: إن هذا المسجد بناه المهاجرون والأنصار يصلون فيه، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وورد قباء صلى فيه ولم يحدث فيه شيئا.
ويخالفه ما تقدم عن السيرة الهشامية، وما في الطبراني بسند رجاله ثقات، عن الشموس بفتح الشين المعجمة بنت النعمان رضي الله تعالى عنها قالت «نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم ونزل وأسس المسجد مسجد قباء، فرأيته يأخذ الحجر أو الصخرة حتى يصهره الحجر» أي يتبعه «فيأتي الرجل من أصحابه فيقول: يا رسول الله بأبي أنت وأمي تعطيني أكفك. فيقول: لآخذ مثله حتى أسسه.
أي وجاء «أنه صلى الله عليه وسلم لما أراد بناءه قال: يا أهل قباء ائتوني بأحجار من الحرة، فجمعت عنده أحجار كثيرة، فخط القبلة وأخذ حجرا فوضعه، ثم قال: يا أبا بكر خذ بحجر فضعه إلى جنب حجري، ثم قال: يا عمر خذ حجرا فضعه إلى جنب(2/76)
حجر أبي بكر، ثم قال: يا عثمان خذ حجر فضعه إلى جنب حجر عمر» قال بعضهم: كأنه صلى الله عليه وسلم أشار إلى ترتيب الخلافة، وسيجيء في بناء مسجد المدينة نحوه، ويحتاج للجمع بين هذه الروايات.
وبعد تحوله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان يأتيه يوم السبت ماشيا وراكبا وقال «من توضأ وأسبغ الوضوء ثم جاء مسجد قباء فصلى فيه كان له أجر عمرة» وروي: أي الترمذي والحاكم وصححاه عن أسيد بن حضير عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «صلاة في مسجد قباء كعمرة» وفي رواية «من صلى في مسجد قباء يوم الاثنين والخميس انقلب بأجر عمرة» وكان عمر رضي الله تعالى عنه يأتيه يوم الاثنين ويوم الخميس، وقال: لو كان بطرف من الأطراف. وفي رواية في أفق من الآفاق لضربت إليه أكباد الإبل.
أي وصحح الحاكم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر الاختلاف إلى قباء ماشيا وراكبا» وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن أبيه قال «خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين إلى قباء» وعن ابن عمر «أنه صلى الله عليه وسلم كان يأتي مسجد قباء فيصلي فيه ركعتين» وعنه قال «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء فقام يصلي فجاءته الأنصار تسلم عليه. فقلت لبلال: كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم، قال: يشير إليهم بيده وهو يصلي» أي يجعل باطنها إلى أسفل وظهرها إلى فوق.
وقد وقعت له صلى الله عليه وسلم الإشارة في الصلاة برد السلام لما قدمت عليه ابنته رضي الله تعالى عنها من الحبشة وهو يصلي فسلمت فأومأ إليها برأسه.
وفي الهدى: وأما حديث «من أشار في الصلاة إشارة تفهم عنه فليعد صلاته» فحديث باطل. وفي كلام بعضهم: قد ثبت في الأحاديث الصحيحة «أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم عليه أحد وهو في الصلاة أشار باصبعه المباركة جواب السلام» وليس لهذه الأحاديث معارض إلا حديث مجهول، وهو «من أشار في صلاته إشارة مفهمة فليعد صلاته» وهذا الحديث لا يصلح للمعارضة.
ولما نزل قوله تعالى فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا [التّوبة: الآية 108] أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألهم عن ذلك فقال: ما هذا الطهور الذي أنثى الله عليكم به. فقالوا: يا رسول الله ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه، فقال: هو هذا» وفي لفظ «أتاهم رسول الله في مسجد قباء» أي وفي الكشاف «ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء، فإذا الأنصار جلوس، فقال: أمؤمنون أنتم؟ فسكت القوم ثم أعادها، فقال عمر: يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا منهم، فقال عليه الصلاة والسلام: أتؤمنون بالقضاء؟ قالوا نعم، قال: وتصبرون على البلاء؟ قالوا نعم، قال: أتشكرون على الرخاء؟
قالوا نعم، قال عليه الصلاة والسلام: مؤمنون ورب الكعبة، فجلس وقال: يا معشر(2/77)
الأنصار إن الله عز وجل قد أثنى عليكم، فما الذي تتبعون عند الوضوء وعند الغائط» أي المعبر عنه بالطهور «فقالوا: يا رسول الله نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء، فتلا النبي صلى الله عليه وسلم فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا [التّوبة: الآية 108] » هذا كلامه. وفي رواية، «فقال إن الله قد أحسن إليكم الثناء في الطهور، فما هذا الطهور الذي تتطهرون به؟
قالوا: يا رسول الله ما نعلم شيئا، إلا أنه كان لنا جيران من اليهود فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلناها كما غسلوا» وفي لفظ «كنا نستنجي بالماء في الجاهلية، فلما جاء الإسلام لم ندعه، قال: فلا تدعوه» وفي لفظ «قالوا نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنانة، فقال: هل مع ذلك غيره؟ قالوا لا غير إن أحدنا إذا خرج إلى الغائط أحبّ أن يستنجي بالماء» وفي رواية، «نستنجي من البول والغائط» زاد في رواية «ولا ننام الليل كله على الجنابة، قال: هو ذاك فعليكموه» أي ألزموه.
أي وفي مسند البزار عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم لما سألهم قالوا: إنا نتبع الحجارة الماء. قال بعضهم في إسناده ضعف، وبهذا وما تقدم من ذكر الحجارة يرد على الإمام النووي حيث قال: هكذا أي ذكر الحجر مع الماء في خبر الأنصار بقباء رواه الفقهاء في كتبهم، وليس له أصل في كتب الحديث، بل المذكور فيها أنهم قالوا كنا نستنجي بالماء وليس فيها مع الحجر. أي ويكون السكون عن ذكر الحجر لكونه كان معلوما فعله.
وفي الخصائص الصغرى أن مما اختص به صلى الله عليه وسلم في شرعه وأمته الاستنجاء بالجامد، وبالجمع فيه بين الماء والحجر.
ومن أهل قباء عويمر بن ساعدة قال في حقه صلى الله عليه وسلم «نعم العبد من عباد الله والرجل من أهل الجنة عويمر بن ساعدة» أي لأنه كان أول من استنجى بالماء كما قيل، أي ومن ثم جاء تخصيصه بالسؤال. فقد روى البيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عويمر بن ساعدة فقال: ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم به. فقال: يا نبي الله ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط» الحديث، وهذا السياق ربما يقتضي أن الاستنجاء بالماء لم يكن معروفا في غير أهل قباء نزول هذه الآية.
وفي كلام بعضهم: أول من استنجى بالماء إبراهيم الخليل. وكره بعض الصحابة الاستنجاء بالماء وهو حذيفة، ولعله لكونه في الاستنجاء بالماء عدول عن الرخصة.
ونقل عن ابن عمر أنه كان لا يستنجي بالماء، ولعله لما ذكرنا، وكذا ما نقل عن ابن الزبير «ما كنا نفعله» وعن الإمام أحمد أنه لم يصح حديث في الاستنجاء بالماء. وبالغ مغلطاي في رده. وعن سيدنا مالك إنكار أن النبي صلى الله عليه وسلم استنجى بالماء،(2/78)
ولعل المراد إنكار صحة ذلك عنه صلى الله عليه وسلم فليتأمل.
وذكر الأحجار في الخبر يؤيد ظاهره ما ذكره إمامنا في الأم أن سنة الجمع بين الحجر والماء تتوقف على كون الاستنجاء بالحجر كافيا لو اقتصر عليه بقوله والاستنجاء بالحجر كاف، ولو أتى به: أي بالاستنجاء الكافي رجل ثم غسل بالماء كان أحب إليّ، وإنما قلنا ظاهره لإمكان رجوع الضمير للاستنجاء لا بقيد كونه كافيا.
والذي عليه متأخرو أصحابنا أن سنة الجمع يكتفي فيها بإزالة العين ولو بحجر واحد. وقد يقال هذا محبوب، وما ذكره الإمام أحب.
ولا يخفى أن حديث الأنصار يقتضي اختصاص سن الجمع بين الحجر والماء بالغائط، وبه قال القفال في كتابه «محاسن الشريعة» والمفهوم من نص الأم أن مثل الغائط البول، ثم بعد إقامته صلى الله عليه وسلم المدة المذكورة بقباء ركب راحلته الجدعاء، وقيل القصواء، وقيل العضباء. أي قاصدا المدينة. والجدعاء بالدال المهملة: المقطوعة الأنف أو مقطوعة الأذن كلها. والقصواء: المقطوع طرف أذنها. والعضباء: المشقوقة الأذن. قال بعضهم. وهذه ألقاب، ولم يكن بها: أي بتلك النوق شيء من ذلك، وسيأتي عن الأصل أن هذه ألقاب لناقة واحدة.
ولما ركب صلى الله عليه وسلم وخرج من قباء وسار سار الناس معه ما بين ماش وراكب أي ولازال أحدهم ينازع صاحبه زمام الناقة شحا: أي حرصا على كرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيما له حتى دخل المدينة. قال: وصار الخدم والصبيان يقولون: الله أكبر، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء محمد صلى الله عليه وسلم، ولعبت الحبشة بحرابها فرحا برسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قالت بنو عمرو بن عوف له صلى الله عليه وسلم: «يا رسول الله أخرجت ملالا لنا، أم تريد دارا خيرا من دارنا؟ قال إني أمرت بقرية تأكل القرى» أي تغلبها وتقهرها، والمراد أهلها: أي أن أهلها تفتح القرى فيأكلون أموال أهل تلك القرى، ويسبون ذراريهم فخلوا سبيلها، يعني ناقته صلى الله عليه وسلم، أي ومن أسماء تلك القرية المدينة.
وروى الشيخان «أمرت بقرية تأكل القرى يثرب وهي المدينة» فالمدينة علم بالغلبة على تلك القرية كالنجم للثريا إذا أطلق فهي المرادة، وإن أريد غيرها قيد، والنسبة إليها مدني، ولغيرها من المدن مديني للفرق بينهما. ويثرب: اسم محل فيها سميت كلها به، ولعل ذلك المحل سمي بذلك لأنه نزل به يثرب من نسل نوح.
وفي الحديث «المدينة تنفي الناس» أي شرارهم «كما ينفي الكبير خبث الحديد» .
ففي بعض الروايات «لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها» قيل وكان ذلك في حياته صلى الله عليه وسلم. وقيل يكون ذلك في زمن الدجال، فقد جاء أن الدجال يرجف بأهلها(2/79)
فلا يبقى منافق ولا كافر إلا خرج إليه» وفي رواية «ينزل الدجال السبخة فترجف المدينة ثلاث رجفات يخرج الله منها كل منافق وكافر» وبهذا استدل من قال: كون المدينة تنفي الخبث ليس عاما في الأزمنة ولا في الأشخاص، لأن المنافقين كانوا بها، وخرج منها جماعة من خيار الصحابة منهم علي وطلحة والزبير وأبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وعبد الله بن مسعود.
وفي كلام ابن الجوزي أن عبد الله بن مسعود مات بالمدينة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:
«أيّ أرض مات بها رجل من أصحابي كان قائدهم ونورهم يوم القيامة» وفي رواية «فهو شفيع لأهل تلك الأرض» .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم «والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون» أي خير لهم من بلاد الرخاء، بدليل صدر الحديث «يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه هلم إلى الرخاء هلم إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، والذي نفسي بيده لا يخرج أحد منها رغبة عنها إلا أخلف الله من هو خير منه» أي من خرج منها رغبة عنها إلى غيرها من بلاد الرخاء والسعة فلا دليل في ذلك على أنها أفضل من مكة.
ومن أسمائها أكالة البلدان، ومن أسمائها البارة بتشديد الراء، وتسمى الفاضحة لأن من أضمر فيها شيئا أظهر الله ما أضمره وافتضح به: أي فالمراد أضمر شيئا من السوء. وقد قال صلى الله عليه وسلم «من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله تعالى، هي طابة» كشامة «هي طابة، هي طابة، قال ذلك ثلاثا» وفي رواية «فليستغفر الله، فليستغفر الله، فليستغفر الله، هي طيبة» كهيبة «هي طيبة، هي طيبة، هي طائب» ككاتب.
قيل: وإنما سميت طيبة لطيب رائحة من مكث بها وتزايد روائح الطيب بها، ولا يدخلها طاعون ولا دجال، ولا يكون بها مجذوم: أي لأن ترابها يشفي من الجذام، وتسميتها يثرب في القرآن إنما هو حكاية لقول المنافقين أي بعد نهيهم عن ذلك، وقوله صلى الله عليه وسلم «لا أراها إلا يثرب» أي ونحو ذلك من كل ما وقع في كلامه صلى الله عليه وسلم من تسميتها بذلك كان قبل النهي عن ذلك انتهى.
أي وجاء «إن الإيمان ليأزر إلى المدينة كما تأزر الحية إلى جحرها» ويأزر بكسر الزاي أي ينضم ويجتمع بعضه إلى بعض، وفي رواية «إن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، يأزر كما تأزر الحية إلى جحرها» ، وإنما كرهت تسميتها بيثرب، لأن يثرب مأخوذ من التثريب وهو المؤاخذة بالذنب، ومنه قوله تعالى لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ [يوسف: الآية 92] أو من الثرب بالتحريك وهو الفساد.
وعن القاسم بن محمد، قال: بلغني أن للمدينة في التوراة أربعين اسما، وقيل(2/80)
أحد عشر، من جملتها سكينة، أي ومن جملتها الجابرة: أي التي تجبر، والعذراء والمرحومة. وفي كلام بعضهم: لها نحو مائة اسم منها دار الأخيار، ودار الأبرار، ودار الإيمان، ودار السنة، ودار السلامة، ودار الفتح. قال الإمام النووي: لا يعرف في البلاد أكثر اسما منها ومن مكة.
ومما يدل على أن خروجه صلى الله عليه وسلم من قباء متوجها إلى المدينة كان يوم الجمعة قول بعضهم: وعند مسيره صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي بمن معه من المسلمين وهم مائة، وصلاها بعد ذلك في المدينة وكانوا به صلى الله عليه وسلم أربعين.
فعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه «أنه صلى الله عليه وسلم جمع بالمدينة وكانوا أربعين رجلا، أي ولم يحفظ أنه صلاها مع النقص عن هذا العدد ومن حينئذ صلى الجمعة في ذلك المسجد. سمي هذا المسجد بمسجد الجمعة، وهو على يمين السالك نحو قباء، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة: أي وخطب لها، وهي أول خطبة خطبها في الإسلام أي ومن خطبته تلك «فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة فإنها تجزي الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة، والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورحمة الله وبركاته» وفي رواية «والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته» ونقل القرطبي هذه الخطبة في تفسيره، وأوردها جميعها في المواهب، وليس فيها هذا اللفظ.
أقول: هذا واضح إن كان أقام في قباء الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس كما تقدم وأما على أنه صلى الله عليه وسلم أقام بضع عشر ليلة أو أكثر من ذلك كما تقدم، فيبعد أنه لم يصل الجمعة في قباء في تلك المدة. ثم رأيت في كلام بعضهم أنه كان يصلي الجمعة في مسجد قباء في إقامته هناك.
أي ويبعد أن صلاها من غير خطبة. وفي الجامع الصغير «إن الله كتب عليكم الجمعة في مقامي هذا، وفي ساعتي هذه، في مشهدي هذا، في عامي هذا إلى يوم القيامة، من تركها من غير عذر مع إمام عادل أو إمام جائر فلا جمع له شمله ولا بورك له في أمره، إلا ولا صلاة له ولا حج له، إلا ولا بركة له ولا صدقة له» فإن كان قال ذلك في هذه الخطبة التي خطبها في مسجد الجمعة كما هو المتبادر، اقتضى ذلك أنها لم تكن واجبة قبل ذلك وهو مخالف قول فقهائنا أنها وجبت بمكة ولم تقم بها لعدم قدرتهم على إظهارها بمكة، لأن إظهارها أقوى من إظهار جماعة الصلوات الخمس.
وفي الإتقان مما تأخر حكمه عن نزوله آية الجمعة فإنها مدنية والجمعة فرضت بمكة. وقول ابن الغرس إن اقامة الجمعة لم تكن بمكة قط يرده ما أخرجه ابن ماجه(2/81)
عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك؛ قال: كنت قائد أبي حين ذهب بصره، فكنت إذا خرجت به إلى الجمعة فسمع النداء يستغفر لأبي أمامة أسعد بن زرارة، فقلت: يا أبتاه أرأيت صلاتك على أسعد بن زرارة كلما سمعت النداء بالجمعة لم هذا؟ قال:
أي بني، كان أول من صلى بنا الجمعة قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، هذا كلامه، وليتأمل ما وجه الرد من هذا.
وجاء «صلاة الجمعة بالمدينة كألف صلاة فيما سواها، وصيام شهر رمضان في المدينة ألف شهر فيما سواها» كذا في الوفاء عن نافع عن ابن عمر. وأوّل قرية صليت فيها الجمعة بعد المدينة قرية عبد القيس بالبحرين، وهل كانت الخطبة قبل الصلاة أو بعدها.
في الدر أنه صلى الله عليه وسلم كان وهو بالمدينة يخطب الجمعة بعد أن يصلي مثل العيدين، فبينما هو يخطب يوم الجمعة قائما، إذ قدمت عير دحية الكلبي، وكان إذا قدم يخرج أهله للقائه بالطبل واللهو، ويخرج الناس للشراء من طعام تلك العير والتفرج عليها، وقيل للتفرج على وجه دحية، فقد قيل كان إذا قدم دحية المدينة لم تبق معصر إلا خرجت لتنظر إليه لفرط جماله. ولا مانع أن يكون ذلك لاجتماع الأمرين، فانفض الناس ولم يبق معه صلى الله عليه وسلم إلا نحو اثني عشر رجلا. والجلال المحلي في قطعة التفسير أسقط لفظ نحو: أي وانفضاض ما عدا هؤلاء، يحتمل أن يكون بعد ذلك في حال الخطبة قبل تمام الأركان. ويحتمل أن يكون بعد ذلك.
وعلى الأول: يجوز أن يكون رجع ممن انفض ما يكمل به العدد أربعين قبل طول الفصل. وقد أعاد صلى الله عليه وسلم ما لم يسمعوه من أركان الخطبة عند انفضاضهم، فلا يخالف ما ذهب إليه إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه من وجوب سماع أربعين لأركان الخطبة.
قال مقاتل: بلغني أنهم فعلوا ذلك أي الانفضاض عند الخطبة ثلاث مرات، فأنزل الله تعالى وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً [الجمعة: الآية 11] الآية. ثم صار صلى الله عليه وسلم يخطب قبل أن يصلي أي ليحافظ الناس على عدم الانفضاض لأجل الصلاة، وعليه انعقد الإجماع، فلا نظر لمخالفة الحسن البصري. وحينئذ يكون قول بعض فقهائنا استدلالا على وجوب تأخر صلاة الجمعة عن الخطبتين يثبت صلاته صلى الله عليه وسلم بعد خطبتين أي استقر ثبوت ذلك.
وعن الزهري «بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا خطب» أي في غير الخطبة المتقدمة «كل ما هو آت قريب لا بعد لما هو آت، لا يعجل الله لعجلة أحد ولا يخف لأمر من الناس، يريد الناس أمرا ويريد الله أمرا، فما شاء الله كان لا ما شاء الناس، وما شاء الله كان ولو كره الناس، لا مبعد لما قرب الله، ولا مقرب لما(2/82)
بعد الله ولا يكون شيء إلا بإذن الله» والله أعلم.
ثم ركب صلى الله عليه وسلم راحلته بعد الجمعة متوجها للمدينة: أي وقد أرخى زمامها ولم يحركها وهي تنظر يمينا وشمالا، فسأله بنو سالم منهم عتبان بكسر العين المهملة ابن مالك، ونوفل بن عبد الله بن مالك، وعبادة بن الصامت، فقالوا: يا رسول الله أقم عندنا في العدد والعزة والمنعة. وفي لفظ «والثروة» وفي لفظ «أنزل فينا، فإن فينا العدد والعدة والحلقة» أي السلاح «ونحن أصحاب الحدائق والدرك، يا رسول الله كان الرجل من العرب يدخل هذه البحيرة خائفا فيلجأ إلينا، فقال لهم خيرا، وقال:
خلوا سبيلها» يعني ناقته «دعوها فإنها مأمورة» ، أي وفي رواية «إنها مأمورة خلوا سبيلها وهو يتبسم ويقول: بارك الله عليكم، فانطلقت حتى وردت دار بني بياضة» أي محلتهم، أي والمراد القبيلة «فسأله بنو بياضة أي ومنهم زياد بن لبيد، وفروة بن عمرو ومثل ما تقدم، وأجابهم بأنها مأمورة خلوا سبيلها، فانطلقت حتى وردت دار بني ساعدة أي ومنهم سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو وأبو دجانة، فسأله بنو ساعدة بمثل ذلك وأجابهم بخلوا سبيلها فإنها مأمورة، فانطلقت حتى مرت بدار عديّ بن النجار وهم أخواله صلى الله عليه وسلم» أي أخوال جده عبد المطلب كما تقدم أي بأوائل دورهم «فسأله بنو عدي بن النجار أي أولئك الطائفة منهم بمثل ما تقدم» أي وفي رواية «أنهم قالوا له: نحن أخوالك، هلم إلى العدة والمنعة والعزة مع القرابة لا تجاوزنا إلى غيرنا يا رسول الله» أي زاد في رواية لا تجاوزنا، ليس أحد من قومنا أولى بك منا لقرابتنا، وأجابهم بأنها مأمورة، فانطلقت حتى بركت في محل من محلات بني النجار وذلك في محل المسجد، أي محل بابه أو في محل المنبر الآن وذلك عند دار بني مالك بن النجار، وعند باب أبي أيوب الأنصاري» أي واسمه خالد بن زيد النجاري الأنصاري الخزرجي شهد العقبة وسائر المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مع علي بن أبي طالب من خاصته شهد معه الجمل وصفين والنهروان. غزا أيام معاوية أرض الشام مع يزيد بن معاوية سنة خمسين، وقيل:
إحدى وخمسين فتوفي عند مدينة قسطنطينية فدفن هناك. وأمر يزيد بالخيل فجعلت تقبل وتدبر على قبره حتى خفي أثر القبر خوفا أن تنبشه الكفار، فكان المشركون إذا أمحلوا كشفوا عن قبره فيمطروا فلم ينزل عنها صلى الله عليه وسلم ثم وثبت، وسارت غير بعيد ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع لها زمامها، ثم التفتت خلفها ورجعت إلى مبركها فبركت فيه وتجلجلت أي بالجيم تضعضعت ووضعت جرانها أي باطن عنقها من المذبح إلى المنحر، وأزرمت أي صوتت من غير أن تفتح فاها فنزل عنها صلى الله عليه وسلم، وقال رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ [المؤمنون: الآية 29] أي قال ذلك أربع مرات، وأخذه صلى الله عليه وسلم الذي كان يأخذه عند الوحي أي وسري عنه وقال: هذا إن شاء الله يكون المنزل أي وأمر(2/83)
أن يحط رحله وفي لفظ: أن أبا أيوب قال له ائذن لي أن أنقل رحلك فأذن له، واحتمل أبو أيوب رحله فوضعه في بيته، أي وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بزمام راحلته فكانت عنده، أي وذكر بعضهم أن أبا أيوب لما نقل رحله أناخ الناقة في منزله. وقد يقال: لا مخالفة، لجواز أن يكون أسعد أخذ بزمامها بعد ذلك فكانت عنده.
أي وعن أبي أيوب رضي الله تعالى عنه «لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة اقترعت الأنصار أيهم يأويه فقرعتهم» الحديث. وقد يقال: مراده بالأنصار أهل تلك المحلة التي بركت فيها الناقة.
وذكر السهيلي أنها لما ألقت جرانها في دار بني النجار: أي في محل من محلاتها جعل رجل من بني سلمة وهو جبار بن صخر، أي وكان من صالحي المسلمين ينخسها رجاء أن تقوم فينزل في دار بني سلمة فلم تفعل.
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم «قال خير دور الأنصار بنو النجار، ثم بنو عبد الأشهل ثم بنو الحارث، ثم بنو ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير» .
ولما بلغ ذلك سعد بن عبادة وجد في نفسه وقال: خلفنا فكنا آخر الأربع، أسرجوا إليّ حماري أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه ابن أخته سهل، فقال: أتذهب لتردّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم؟ أو ليس حسبك أن تكون رابع أربع، فرجع وقال: الله ورسوله أعلم، وأمر بحماره فحل عنه. وفي رواية قال له: اجلس، ألا ترضى أن سماك رسول الله في الأربع الدور التي سمى، فمن ترك فلم يسم أكثر ممن سمي، فانتهى سعد بن عبادة عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجت جويريات من بني النجار بالدفوف يقلن:
نحن جوار من بني النجار ... يا حبذا محمد من جار
فخرج إليهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: «أتحببنني، وفي رواية أتحبوني؟ قلن نعم يا رسول الله، فقال: الله يعلم أن قلبي يحبكن» وفي رواية «والله أحبكم» وفي رواية «وأنا والله أحبكم، وأنا والله أحبكم، وأنا والله أحبكم قال ذلك ثلاثا» وهذا دليل لسماع الغناء على الدفّ من المرأة لغير العرس؛ ويدل لذلك أيضا ما جاء عن ابن عباس مرفوعا «أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جلسوا سماطين، وجاءت جارية يقال لها سيرين معها مزهر تختلف به بين القوم، وهي تغنيهم وتقول:
هل عليّ ويحكم ... إن لهوت من حرج
فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «لا حرج إن شاء الله تعالى» .
وما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها «دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان من جواري الأنصار يغنيان» وفي رواية «يضربان بدفين، فاضطجع صلى الله عليه وسلم على(2/84)
الفراش وحوّل وجهه، ودخل أبو بكر رضي الله تعالى عنه فانتهرني، فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دعها» وفي رواية «قال أبو بكر بمزمور» وفي رواية «بمزمار» وفي لفظ «بمزمارة الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ذلك مرتين وانتهرني، وكان صلى الله عليه وسلم متغشيا بثوبه، فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن وجهه الشريف، فقال: دعها يا أبا بكر فإنها أيام عيد» أي لأن تلك كانت أيام منى.
وقيل كان يوم عيد الفطر. وقيل الأضحى، ولا مانع من تعدد الواقعة.
أقول: في البخاري عن الربيّع بنت معوّذ «أنه صلى الله عليه وسلم دخل عليها غداة بنى عليها وعندها جويريات يضربن بالدف يندبن من قتل من آبائهن يوم بدر، حتى قالت جارية: وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم لا تقولي هكذا، وقولي ما كنت تقولين» .
وفي حديث أبي هريرة «أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في بعض مغازيه، فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت: يا رسول الله إني كنت نذرت إن ردك الله سالما أن أضرب بين يديك بالدف، فقال لها: إن كنت نذرت فاضربي، فجعلت تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل عمر فألقت الدف تحتها وقعدت عليه؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان ليفرق منك يا عمر، إني كنت جالسا وهي تضرب ودخل أبو بكر وهي تضرب، فلما دخلت أنت ألقت الدف» أي وإذا كان الشيطان يخاف منك فما بالك بامرأة ضعيفة العقل.
ولا ينافي هذا: أي سماعه الغناء من المرأة مع الضرب على الدف ما تقدم في باب ما حفظ به صلى الله عليه وسلم في صغره من أمر الجاهلية، لأن الدف ثم كان معه مزمار بخلافه هنا، وتسمية أبي بكر رضي الله تعالى عنه الدف مزمارا، لأنه كان يعتقد حرمة ذلك، فشبهه بالمزمار المحرم سماعه.
قال بعضهم: واعلم أن السماع في طريق القوم معروف وفي الجواذب إلى المحبة معدود وموصوف. وقال بعض آخر: إنه من أكبر مصايد النفوس أي والرجوع بها إلى الله تعالى. وقد شوهد تأثير السماع في الحيوانات غير الناطقة بل في الأشجار، ومن لم يحركه السماع فهو فاسد المزاج غليظ الطبع.
وعن أبي بشير: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر مرّا بالحبشة وهم يلعبون ويرقصون ويقولون:
يا أيها الضيف المعرج طارقا ... لولا مررت بآل عبد الدار
لولا مررت بهم تريد قراهم ... منعوك من جهد ومن إقتار
أي ولم ينكر عليهم، وبه استدل أئمتنا على جواز الرقص حيث خلا عن(2/85)
التكسر، فقد صحت الأخبار وتواترت الآثار بإنشاد الأشعار بين يديه صلى الله عليه وسلم بالأصوات الطيبة مع الدف وبغيره، وبذلك استدل أئمتنا على جواز الضرب بالدف ولو فيه جلاجل لما هو سبب لإظهار السرور. وعلى جواز إنشاد الشعر واستماعه، حيث خلا عن هجو لغير نحو فاسق متجاهر بفسقه، وخلا عن تشبب بمعين من امرأة أو غلام، والخلاف إنما هو في سماع الملاهي كالأوتار والمزامير، وخوف الفتنة من سماع صوت المرأة أو الأمرد الجميل.
ونقل عن الجنيد أنه قال: الناس في السماع: أي سماع الآلات على ثلاثة أضرب العوام وهو حرام عليهم لبقاء نفوسهم. والزهاد وهو مباح لهم لحصول مجاهداتهم. والعارفون وهو مستحب لهم الحياة قلوبهم. وذكر نحوه أبو طالب المكي، وصححه السهروردي في عوارف المعارف.
وفي كلام بعضهم: جبلت النفوس حتى غير العاقلة على الإصغاء إلى ما يحسن من سماع الصوت الحسن، فقد كانت الطيور تقف على رأس داود عليه الصلاة والسلام لسماع صوته، لكن يشكل على ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة عن صفوان بن أمية وهو من المؤلفة قال: «كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء عمر بن قرة، فقال: يا رسول الله إن الله كتب عليّ الشقوة فلا أنال الرزق إلا من دفي بكفي، فأذن لي في الغناء من غير فاحشة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا إذن لك ولا كرامة ولا نعمة، كذبت أي عدوّ الله: أي يا عدوّ الله، والله لقد رزقك الله طيبا فاخترت ما حرّم الله عليك من رزقه، مكان ما أحل الله لك من حلاله، أما إنك لو قلت بعد كهذه المقالة، لضربتك ضربا وجيعا» إلا أن يقال هذا النهي إن صح محمول على من يتخذ ضرب الدف حرفة، وهو مكروه تنزيها. وقوله صلى الله عليه وسلم «اخترت ما حرم الله عليك» إلى آخره للمبالغة في التنفير عن ذلك.
«ونزل صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب وقال: المرء مع رحله، أي بعد أن قال أي بيوت أهلنا يعني أهل تلك المحلة من بني النجار أقرب؟ فقال أبو أيوب: داري هذه وقد حططنا رحلك فيها، فذهبت تلك الكلمة أي التي هي: المرء مع رحله مثلا وقال:
اذهب فهيىء لنا مقيلا فذهب فهيأ ذلك، ثم جاء فقال: يا نبي الله قد هيأت مقيلا فقم على بركة الله تعالى، ونزل معه صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه» .
أقول: وفي رواية «فتنازع القوم أيهم ينزل عليه» أي كل يحرص على أن تكون داره له منزلا أي مقاما «فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنزل الليلة على بني النجار أخوال عبد المطلب لأكرمهم بذلك، فلما أصبح غدا حيث أمر» وحينئذ يكون قوله صلى الله عليه وسلم:
أنزل الليلة: أي غد تلك الليلة، ولا يخالف هذا ما قبله من قول بني النجار هلم إلينا، وقوله لهم: إنها مأمورة، لجواز أن يكون أمر بالنزول عليهم.(2/86)
واعلم أن خصوص البقعة والمحلة من محلات بني النجار التي ينزل بها من دارهم ما تبرك به الناقة. وفيه أنه يبعد مع ذلك، أي مع قوله المذكور أي أنه ينزل على بني النجار سؤال غير بني النجار في النزول عنده، إلا أن يقال لعل السائلين له صلى الله عليه وسلم في ذلك لم يبلغهم قوله المذكور، أو جوزوا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم بدا له في ذلك رأي، وقد أشار إلى نزوله صلى الله عليه وسلم على بني النجار الإمام السبكي في تائيته بقوله:
نزلت على قوم بأيمن طائر ... لأنك ميمون السنا والنقيبة
فيا لبني النجار من شرف به ... يجرون أذيال المعالي الشريفة
وهذا السياق يدل على أن تنازع القوم، وقوله لهم المذكور كان في آخر ليلة، وهو في قباء، وهو يرد قول بعضهم: يشبه أن يكون ذلك في أول قدومه صلى الله عليه وسلم من مكة قبل نزوله قباء، لا في قدومه باطن المدينة. فالمراد بأهل المدينة أهل قباء.
ويرد قول سبط ابن الجوزي لعله نزل على بني النجار ليلة انتهى: أي تلك الليلة ثم ارتحل إلى بني عمرو بن عوف أي في قباء. هذا وفي رواية عن أنس بن مالك رضي الله عنه «لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة نزل في علو المدينة في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة، ثم أرسل إلى ملأ من بني النجار فجاؤوا متقلدين سيوفهم. قال أنس: فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وأبو بكر رديفه وملأ من بني النجار حوله حتى أناخ بفناء أبي أيوب» وهذه الرواية وقع فيها اختصار كبير.
ويقال «إنه صلى الله عليه وسلم عرّج على عبد الله بن أبي ابن سلول وكان جالسا محتبيا وأراد النزول عليه، فقال له اذهب إلى الذين دعوك وأنزل عليهم، فقال له سعد بن عبادة:
يا رسول الله لا تجد في نفسك من قوله، فقد قدمت علينا والخزرج تريد أن تملكه» وقد وقع له في بعض الأيام «أنه صلى الله عليه وسلم، قيل له: يا رسول الله لو أتيت عبد الله بن أبي ابن سلول» أي متألفا له ليكون ذلك سببا لإسلام من تخلف من قومه، وليزول ما عنده من النفاق «فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم وركب حمارا وانطلق المسلمون يمشون معه، فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم قال له: إليك عني، والله لقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك، فغضب لعبد الله رجل من قومه فشتمه، فغضب لكل واحد منهما أصحابه، فكان بينهما ضرب بالجريد، والأيدي والنعال، فنزل وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما [الحجرات:
الآية 9] كذا في البخاري.
وفيه أيضا «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ على ابن أبي ابن سلول وهو في جماعة فقال(2/87)
ابن أبيّ: لقد عثا ابن أبي كبشة في هذه البلاد، فسمعها ابنه عبد الله رضي الله تعالى عنه، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيه برأسه، فقال له صلى الله عليه وسلم لا، ولكن برّ أباك» وكان ابن أبيّ جميل الصورة ممتلىء الجسم، فصيح اللسان، وهو المعنيّ بقوله تعالى وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ [المنافقون: الآية 4] الآية، ولكونه متبوعا جيء فيه بصيغة الجمع.
وعن الزهري «أخبرني عروة بن أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب حمارا على إكاف وأردف أسامة وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر حتى مرّ بمجلس فيه عبد الله بن أبي ابن سلول وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي ابن سلول، فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفي المسلمين عبد الله بن رواحة فثار غبار من مشي الحمار، فخمر ابن أبيّ أنفه بردائه، ثم قال: لا تغبروا علينا؛ فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ثم نزل ودعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن. فقال ابن أبيّ: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تؤذينا به في مجالسنا، ارجع إلى رحلك، فمن جاءك فاقصص عليه، فقال عبد الله بن رواحة: بل يا رسول الله فاغشنا فإنا نحب ذلك، واستبّ المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتبادرون، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكنوا، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم دابته حتى دخل على سعد بن عبادة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا سعد ألم تسمع ما قال أبو حباب يعني ابن أبيّ، قال كذا وكذا، فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله اعف عنه واصفح، فو الله الذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك وقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوّجوه فيعصبوه بالعصابة، فلما ردّ بالحق الذي أعطاك الله شرق، فذلك الذي فعل به ما رأيت، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم» والله أعلم.
ومكث صلى الله عليه وسلم ببيت أبي أيوب إلى أن بني المسجد وبعض مساكنه، وقد مكث في بناء ذلك من شهر ربيع الأول إلى شهر صفر من السنة القابلة، أي وذلك اثنا عشر شهرا: وقيل مكث ببيت أبي أيوب سبعة أشهر.
«قال ولما تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين عمرو بن عوف إلى المدينة تحول المهاجرون» أي غالبهم أخذا مما يأتي «فتنافس فيهم الأنصار أن ينزلوا عليهم حتى اقترعوا فيهم بالسهمان، فما نزل أحد من المهاجرين على أحد من الأنصار إلا بقرعة بينهم. فكان المهاجرون في دور الأنصار وأموالهم» اهـ.
وكان من جملة محل مسجده صلى الله عليه وسلم مسجد لأبي أمامة أسعد بن زرارة رضي الله تعالى عنه، وكان أبو أمامة يجمع فيه بمن يليه، بناه في بعض مربد للتمر لسهل وسهيل: أي يجفف فيه التمر، ويرادف المربد الجرين والمسطح والبيدر: وهو ما(2/88)
يبسط فيه الزرع أو التمر للتجفيف.
«وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في ذلك المسجد، قال: فعن أمّ زيد بن ثابت أنها قالت: رأيت أسعد بن زرارة قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يصلي بالناس الصلوات الخمس ويجمع بهم في مسجد بناه في مربد سهل وسهيل، قالت: فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم وصلى بهم في ذلك المسجد وبناه» أي مع إدخال بقية ذلك المربد فهو مسجده.
وحينئذ لا يخالف ذلك قول الحافظ الدمياطي عن الزهري قال «بركت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موضع مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يومئذ يصلي فيه رجال من المسلمين قبل قدومه صلى الله عليه وسلم، وكان مربدا لسهل وسهيل، وكان جدار مجدرا ليس عليه سقف وقبلته إلى بيت المقدس، وكان أسعد بن زرارة بناه، وكان يصلي بأصحابه ويجمع بهم فيه الجمعة قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صار يصلي فيه» .
وفي الإمتاع «كان أسعد بن زرارة بنى فيه جدارا تجاه بيت المقدس كان يصلي إليه بمن أسلم قبل قدوم مصعب بن عمير، ثم صلى بهم إليه مصعب» هذا كلامه، وتعلم ما فيه لما قدّمناه في قدوم مصعب المدينة، لكن في البخاري «أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي في مرابض الغنم قبل أن يا بني المسجد» أي ولعله اتفق له ذلك في بعض الأوقات، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي حيث أدركته الصلاة.
«ثم إنه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك سأل أسعد بن زرارة أن يبيعه تلك البقعة التي كان من جملتها ذلك المسجد ليجعلها مسجدا فإنها كانت في يده ليتيمين في حجره، وهما سهل وسهيل، وقيل كانا في حجر معاذ ابن عفراء» قال في الأصل، وهو الأشهر.
وفي المواهب: أن الأول هو المرجح، واليتيمان المذكوران من بني مالك بن النجار، وقيل كانا في حجر أبي أيوب الأنصاري. قال بعضهم: والظاهر أن الكل:
أي من أسعد ومعاذ وأبي أيوب كانوا يتكلمون لليتيمين لأنهم بنو عمّ فنسبا إلى حجر كل.
«وقد عرض أبو أيوب عليه صلى الله عليه وسلم أن يأخذ تلك الأرض ويغرم لليتيمين قيمتها، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وابتاعها بعشرة دنانير أداها من مال أبي بكر» أي وفي رواية «فدعا الغلامين فساومهما بالمربد فقالا: نهبه لك يا رسول الله، فأبى أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما بعشرة دنانير، وأمر أبا بكر أن يعطيهما ذلك» أي وحينئذ يكون وصفهما باليتيم باعتبار ما كان.
وفي رواية «أرسل صلى الله عليه وسلم إلى ملأ من بني النجار ولعلهم من تقدم وهم أسعد(2/89)
ومعاذ وأبو أيوب ومعهم سهل وسهيل فجاؤوه صلى الله عليه وسلم، فقال لهم ثامنوني بحائطكم هذا أي خذوا مني ثمنه. قالوا لا يا رسول الله، والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله، فأبى أن يأخذه إلا بالثمن» .
قال «وجاء أن أسعد بن زرارة عوض اليتيمين من تلك الأرض نخلا أي له في بني بياضة، وقيل: أرضا هما فيها أبو أيوب، وقيل معاذ ابن عفراء» .
وطريق الجمع بين ذلك أنه يحتمل أن كلا من أسعد وأبي أيوب ومعاذ ابن عفراء دفع للغلامين شيئا: أي زيادة على العشرة دنانير فنسب ذلك لكل منهم.
وجاء «أنه كان في تلك الأرض قبور جاهلية فأمر بها صلى الله عليه وسلم فنبشت؛ وأمر بالعظام فألقيت» اهـ، أي وفي رواية «وأمر بالعظام أن تغيب» أي وفي رواية «كان في موضع المسجد نخل وخرب» أي حفر ومقابر للمشركين «فأمر صلى الله عليه وسلم بالقبول فنبشت، وبالخرب فسويت، وبالنخل فقطعت» .
أي وفي سيرة الحافظ الدمياطي «فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنخل الذي في الحديقة» أي وهي تلك الأرض التي كانت مربدا، أي وسمي حديقة لوجود النخل به «وأمر بالغرقد الذي فيه أن يقطع» أي والغرقد: شجر معروف. وبقيع الغرقد: مقبرة أهل المدينة. وشجر الغرقد: يقال له شجر اليهود، فإنه لا يدل على اليهودي إذا توارى به عند نزول عيسى عليه الصلاة والسلام وقتله للدجال ولجنده من اليهود، فإذا توارى اليهودي بشجرة نادته يا روح الله هاهنا يهودي، فيأتي حتى يقف عليه، فإما أن يسلم وإما أن يقتل؛ إلا شجر الغرقد فإنه لا يدل على اليهودي إذا توارى به؛ فقيل له شجر اليهود لذلك.
قال: وكان في المربد ماء مستبحر فسيروه حتى ذهب. والمستبحر الذي ينشع ويظهر من الأرض.
«ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر باتخاذ اللبن فاتخذ وبنى المسجد» وجاء «أنه صلى الله عليه وسلم عند الشروع في البناء وضع لبنة، ثم دعا أبا بكر فوضع لبنة أي بجانب لبنته صلى الله عليه وسلم، ثم دعا عمر فوضع لبنة بجانب لبنة أبي بكر، ثم جاء عثمان فوضع لبنة بجانب لبنة عمر» .
أي وقد أخرج ابن حبان «لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وضع في البناء حجرا وقال لأبي بكر: ضع حجرك إلى جنب حجري، ثم قال لعمر: ضع حجرك إلى جنب حجر أبي بكر، ثم قال لعثمان ضع حجرك إلى جنب حجر عمر، ثم قال:
هؤلاء الخلفاء بعدي» قال أبو زرعة إسناده لا بأس به، فقد أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه، وفي رواية «هؤلاء ولاة الأمر بعدي» قال ابن كثير وهذا الحديث بهذا الإسناد غريب جدا.(2/90)
قال بعضهم: وقوله صلى الله عليه وسلم لعثمان ما ذكر. أي ضع حجرك إلى جنب حجر عمر يرد على من زعم أن هذا منه صلى الله عليه وسلم إشارة إلى قبورهم، أي إذ لو كان إشارة إلى ذلك لدفن عثمان بجانب عمر كما دفن عمر بجانب أبي بكر، بل هو إشارة إلى ترتيب الخلافة، أي لأنه لا يستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم «هؤلاء الخلفاء بعدي إلا ذلك» ومن ثم جاء في رواية «فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال أمر الخلافة من بعدي» .
وتصحيح الحاكم لما ذكر يظهر التوقف في قول بعضهم إن هذا لم يجىء في الصحيح إلا أن يريد صحيح الشيخين.
وأما قوله قال البخاري في تاريخه: إن ابن حبان لم يتابع على الحديث المذكور، لأن عمر وعثمان وعليا قالوا: لم يستخلف النبي صلى الله عليه وسلم، فقد يقال عليه:
معناه لم ينص على استخلاف أحد بعينه عند موته، وذلك لا ينافي الإشارة إلى وقوع الخلافة لهؤلاء بعده، ولا ينافي قوله «هؤلاء الخلفاء بعدي» لجواز أن يراد الخلافة في العلم. ثم رأيت ابن حجر الهيتمي أشار إلى ذلك حيث قال: قلت هذا أي وضع تلك الأحجار، وقوله صلى الله عليه وسلم «هؤلاء الخلفاء بعدي» مع احتماله للخلافة في العلم والإرشاد متقدم على وقت الاستخلاف عادة وهو قرب الموت، فلم يكن نصا سالما من المعارض هذا كلامه «ثم قال للناس ضعوا أي الحجارة فوضعوا، ورفع بالحجارة أي قريب من ثلاثة أذرع، وبني باللبن وجعل عضادتيه أي جانبيه بالحجارة وسقفه بالجريد، وجعلت عمده» وفي رواية «سواريه من جذوع النخل، وطول جداره قامة» أي كان ارتفاعه قدر قامة.
قال: وعن شهر بن حوشب قال: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يا بني المسجد قال «ابنوا لي عريشا كعريش موسى ثمامات وخشبات وظلة كظلة موسى، والأمر أعجل من ذلك، قيل: وما ظلة موسى؟ قال: كان إذا قام أصاب رأسه السقف» انتهى.
أي فالمراد اجعلوا سقفه يكون بحيث إذا قمت أصاب رأسي السقف، أو رفعت يدي أصابت السقف.
والجمع بين هاتين الروايتين يدل على أن المراد ما هو قريب من ذلك، بحيث لا يكون كثير الارتفاع، فلا ينافي ما يأتي من أمره بجعل ارتفاعه سبعة أذرع فليتأمل.
وفي سيرة الحافظ الدمياطي «فقيل له: ألا تسقف؟ فقال: عريش كعريش موسى، خشبات وثمام» أي وقيل للحسن: ما عريش موسى؟ قال: إذا رفع يده بلغ العرش: يعني السقف.
وفي رواية «لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بناء المسجد، قال: قيل لي: أي قال له(2/91)
جبريل: عريش كعريش أخيك موسى، سبعة أذرع طولا في السماء، وكان سبعة أذرع بحيث يصيب رأسه ولا تزخرفه، ثم الأمر أعجل من ذلك» أي وفيه أن هذا يقتضي أن موسى كان طوله سبعة أذرع، وهو يخالف ما اشتهر أن قامة موسى كانت أربعين ذراعا، وعصاه كذلك، ووثبته كذلك. وقد جاء «ما أمرت بتشييد المساجد» أي ولعل قوله ذلك كان «لما جمع الأنصار مالا وجاؤوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله ابن هذا المسجد وزينه، إلى متى نصلي تحت هذا الجريد» .
وجاء «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد» . وجاء «من أشراط الساعة أن يتباهى الناس في المساجد» أي تزخرفها كما تزخرف اليهود والنصارى كنائسهم وبيعهم ولم يكن على السقف كبير طين، إذ كان المطر يكف: أي ينزل منه ماء المطر المخالط للطين عليهم بحيث يمتلىء: أي المسجد طينا، فقالوا: يا رسول الله لو أمرت فطين: أي جعل عليه طين كثير بحيث لا ينزل عليه المطر فقال:
«لا عريش كعريش موسى» فلم يزل كذلك حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعند بنائه عمل فيه المسلمون المهاجرون والأنصار، وعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه ليرغب المسلمين في العمل فيه.
قال: فقد جاء «أنه صلى الله عليه وسلم صار ينقل اللبن» أي في ثيابه. وفي رواية «في ردائه حتى اغبرّ صدره الشريف، وصار يقول:
هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبرّ ربنا وأطهر»
أي هذا المحمول من اللبن أبرّ وأطهر يا ربنا مما يحمل من خيبر من نحو التمر والزبيب، فالحمال بالحاء المهملة بمعنى المحمول؛ ووقع في رواية بالجيم جمع جمل، قال بعضهم: وله وجه، والأول أظهر، ولا يحسن هذا الوجه إلا إذا كانت جمال خيبر أنفس من جمال غيرها وصار يقول:
اللهم إن الأجر أجر الآخرة ... فارحم الأنصار والمهاجره
قال البلاذري: وهذا القول لامرأة من الأنصار، وتمامه:
وعافهم من حرّ نار ساعره ... فإنها لكافر وكافره
والذي في البخاري «فاغفر للأنصار والمهاجرة» ولعله صلى الله عليه وسلم هو الذي أخرجه عن الوزن كما هو عادته في إنشاد الشعر كما سيأتي: وفي لفظ «فأصلح» وفي لفظ «فأكرم» وفي رواية «اللهم لا خير إلا خير الآخرة، فارحم المهاجرين والأناصرة» وفي رواية «فانصر الأنصار والمهاجرة» وعن الزهري أنه كان يقول «اللهم لا خير إلا خير الآخرة، فارحم المهاجرين والأنصار» لأنه كان لا يقيم الشعر: أي لا يأتي به موزونا ولو متمثلا، وفيه أنه مع قوله: اللهم إن الأجر إلى آخره لا يكون شعرا موزونا، إلا(2/92)
إن حذف أل من اللهم وقال لا هم وكسر همزة فارحم؛ وحينئذ تكون المرأة من الأنصار إنما نطقت بذلك: أي قالت لا هم إلى آخره، وهو صلى الله عليه وسلم هو الذي غيره.
ونقل عن الزهري «أنه صلى الله عليه وسلم لم يقل بيتا موزونا متمثلا به إلا قوله هذا الحمال» البيت، ولم أقف على قائله، وسيأتي عن الزهري أنه من إنشائه صلى الله عليه وسلم وسيأتي ما فيه.
وفي كلام بعضهم: قال ابن شهاب: يعني الزهري: لم يبلغنا في الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر تام: أي موزون إلا هذه الأبيات، قال ابن عائذ: أي التي كان يرتجز بهن وهو ينقل اللبن لبناء المسجد: أي وفيه أن هذا مخالف لما تقدم عن الزهري أنه صلى الله عليه وسلم لم يقل بيتا موزونا إلا قوله هذا الحمال، فلا يحسن أن يفسر كلامه بذلك، على أنه تمثل ببيت شعر تام موزون غير ذلك، فقد جاء «أنه صلى الله عليه وسلم جعل يدور بين قتلى بدر ويقول:
نفلق هاما من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أعقّ وألّا ما
وفي المواهب: وقد قيل إن الممتنع عليه صلى الله عليه وسلم إنشاء الشعر لا إنشاده، أي ولذلك جاء «ما أبالي ما أوتيت إن أنا قلت الشعر من قبل نفسي» وفي الكشاف: وقد صح أن الأنبياء معصومون من الشعر، ولا دليل على منه إنشاده أي الشعر موزونا متمثلا.
أقول: نقل الحافظ الدمياطي عن الزهري أنه كان يقول: إنه صلى الله عليه وسلم لم يقل شيئا من الشعر إلا ما قد قيل قبله إلا قوله:
هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبرّ ربنا وأطهر
أي فإنه من قوله، وهو يخالف ما تقدم عنه، ولعله سقط من عبارة الزهري المذكورة شيء، والأصل أنه لم يقل شيئا من الشعر إلا ما قد قيل قبله، ولم يقل ما قبله تاما: أي موزونا إلا قوله: هذا الحمال إلى آخره، فلا يخالف ما تقدم عنه، وكونه كان لا يقيم الشعر: أي لا يأتي به موزونا ولو متمثلا هو المنقول عن عائشة رضي الله تعالى عنها، فقد قيل لها: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي بشيء من الشعر؟
فقالت: كان أبغض الحديث إليه الشعر، غير أنه كان يتمثل ويجعل أوله آخره وآخره أوله: أي غالبا كان يقول: ويأتيك من لم تزود بالأخبار، ويقول: كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا أي وذلك قول سحيم بمهملة مصغرا عبد بني الحساس، شاعر مشهور مخضرم:
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
ولما غير ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له الصديق رضي الله تعالى عنه: إنما قال الشاعر كذا، فأعاده صلى الله عليه وسلم كالأول، فقال الصديق: أشهد أنك رسول الله وَما عَلَّمْناهُ(2/93)
الشِّعْرَ [يس: الآية 69] . ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قول سحيم:
الحمد لله حمدا لا انقطاع له ... فليس إحسانه عنا بمقطوع
قال أحسن وصدق، وقول الصديق أشهد أنك رسول الله وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ [يس: الآية 69] يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لا يجري الشعر على لسانه موزونا وقد قيل له صلى الله عليه وسلم: من أشعر الناس؟ قال: الذي يقول:
ألم ترياني كلما جئت طارقا ... وجدت بها وإن لم تطيب طيبا
الأصل وجدت بها طيبا وإن لم تطيب.
وكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه يقول له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما أنت بشاعر ولا رواية، والمراد بكون الشعر أبغض إليه الإتيان به، وإلا فقد كان يسمع الشعر كما تقدم ويستنشده، فقد ذكر بعضهم «أنه صلى الله عليه وسلم كان يستنشد الخنساء أخت صخر لأمه، ويعجبه شعرها، فكانت تنشده وهو يقول: هيه يا خناس، ويومىء بيده» .
وقد قال بعضهم: أجمع أهل العلم أنه لم تكن امرأة قبلها ولا بعدها أشعر منها، ومن شعرها في أخيها المذكور:
أعينيّ جودا ولا تجمدا ... ألا تبكيان لصخر الندا
طويل النجاد عظيم الرماد ... وساد عشيرته أمردا
وللجلال السيوطي كتابه سماه «نزهة الجلساء في أشعار الخنساء» وقولنا في قول عائشة إنه كان يتمثل بالشعر، ويجعل أوله آخره: أي غالبا حتى لا ينافي ما جاء عنها: كان يتمثل بشعر ابن رواحة:
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وقولها: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينشد شعرا إلا بيتا واحدا:
تفاءل لما تهوى بكن فلقلما ... يقال لشيء كان إلا تخلفا
وفي الخصائص الكبرى قال المزني: ولم يبلغني أنه صلى الله عليه وسلم أنشد بيتا تاما على رويه، بل إما الصدر كقول لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
أو العجز كقول طرفة:
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
أي وفيه ما تقدم عن عائشة، وكقوله- وقد أنشده أعشى بني مازن أبياتا في ذم النساء، آخر تلك الأبيات:(2/94)
وهن من شر غالب لمن غلب
فجعل صلى الله عليه وسلم يقول:
وهن شر غالب لمن غلب
فإن أنشد بيتا كاملا غيره أي غالبا، لما تقدم كبيت العباس بن مرداس، أي فإنه صلى الله عليه وسلم قال يوما للعباس بن مرداس «أرأيت قولك» وفي لفظ أنت القائل:
أصبح نهبي ونهب العبي ... د بين الأقرع وعيينه
فقيل له: إنما هو بين عيينة والأقرع، فقال عليه الصلاة والسلام: إنما هو الأقرع وعيينة، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله» وفي لفظ «أشهد أنك رسول الله، ما أنت بشاعر ولا رواية، ولا ينبغي لك» إنما قال بين عيينة والأقرع: أي أنه لا ينبغي لك أن تكون شاعرا كما قال الله، ولا ينبغي لك أن تكون راويا للشعر: أي بأن تأتي به على وجهه، أي لا يكون شأنك ذلك مباعدة عن الشعر، وكون شأنه ذلك لا ينافي وجوده منه على وجهه في بعض الأحيان فليتأمل.
وعن بعضهم: ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت شعر قط أي موزونا. وقد يقال: لا يخالف هذا ما تقدم عن المواهب، لأنه يجوز أن يكون هذا المنقول عن عائشة.
وعن المزني وعن بعضهم: كان أغلب أحواله كما قدمناه في المنقول عن عائشة ثم رأيته في الامتاع أشار إلى ذلك بقوله: وربما أنشد صلى الله عليه وسلم البيت المستقيم في النادر، وقول المواهب: لا دليل على منع إنشاده متمثلا، أي دائما وأبدا، ويدل لذلك قول الزهري: إنه لم يقل بيتا موزونا متمثلا به إلا قوله: هذا الحمال إلى آخره، وفيه ما علمت ولا يخفى أن الشعر عرف بأنه كلام عربي موزون عن قصد.
قال البدر الدمياطي. وقولنا عن قصد يخرج ما كان وزنه اتفاقيا كآيات شريفة اتفق جريان الوزن فيها: أي من بحور الشعر الستة عشر، وقد ذكرها الجلال السيوطي في نظمه للتخليص، وذلك كما في قوله تعالى لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: الآية 92] وكقوله تعالى وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ [سبإ: الآية 13] وقوله تعالى نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ [الصّف: الآية 13] وككلمات شريفة نبوية جاء الوزن فيها اتفاقيا غير مقصود، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم:
هل أنت إلا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
أي بناء على تسليم أنه من قوله صلى الله عليه وسلم، وإلا فقد قيل إنه من قول عبد الله بن رواحة: أي فإن ذلك مذكور في أبيات قالها في غزوة مؤتة وقد صدمت أصبعه فدميت، وذكر بدل «في سبيل الله» في كتاب الله، ولا مانع أن يكون ابن رواحة أدخل ذلك البيت في تلك الأبيات التي صنعها كما تقدم.(2/95)
وفي كلام ابن دحية: ولا يمرّ على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضروب الرجز إلا ضربان منهوك ومشطور؛ فالمنهوك:
أنا النبي لا كذب
والمشطور:
هل أنت إلا أصبع دميت
وقيل البيت الواحد لا يكون شعرا، على أنه قيل: إن الرجز ليس من الشعر عند الأخفش خلافا للخليل: أي فإن الأخفش احتج على أن الرجز ليس بشعر رادا على الخليل ومن تبعه القائلين بأنه من الشعر حيث قال: لأحتجنّ عليهم بحجة إن لم يقروا بها كفروا: لم كان شعرا ما جرى على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الله تعالى يقول وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ [يس: الآية 69] هذا كلامه. قال في النور:
والصحيح أنه شعر أي موافقة للخليل، وقد علمت أن ما جرى منه على لسانه صلى الله عليه وسلم ليس شعرا لعدم قصده فليتأمل.
وقد نقل الماوردي من أئمتنا أنه كما يحرم عليه قول الشعر أي إنشاؤه، يحرم عليه روايته أي دون إنشاده متمثلا.
وفرق بعضهم بين الإنشاد والرواية، بأن الرواية يقول: قال فلان كذا؛ وأما إنشاده متمثلا، فلا يقول ذلك هذا كلامه.
وفيه أنه قال لما قيل له: من أشعر الناس؟ قال: الذي يقول إلى آخره. وقال للعباس بن مرداس: أنت القائل إلى آخره. قال ذلك البعض. وكان الفرق بين الرواية والإنشاد أن في قوله قال فلان فيه رفعة للقائل بسبب قوله، وهذا متضمن لرفع شأن الشعر، والمطلوب منه الإعراض عن الشعر من حيث كونه شعرا.
وفيه أن الصديق قال له عند كل من الرواية والإنشاد، لست بروايه كما تقدم، وعن الخليل: كان الشعر أحب إليه صلى الله عليه وسلم من كثير من الكلام.
أي وقد يقال لا يخالف هذا ما تقدم عن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان أبغض الحديث إليه صلى الله عليه وسلم الشعر، لأن المراد بالشعر الذي يحبه ما كان مشتملا على حكمة أو وصف جميل من مكارم الأخلاق؛ والذي يبغضه ما كان مشتملا على ما فيه هجنة أو هجو ونحو ذلك.
ومن ثم قيل: الشعر كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح. وفي الجامع الصغير:
الشعر بمنزلة الكلام، فحسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام، الشعر الحسن أحد الجمالين، يكسوه الله المرء المسلم.
وقد قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إذا خفي عليكم شيء من غريب(2/96)
القرآن فالتمسوه في الشعر، فإن الشعر ديوان العرب، وفي كلام سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه: نعم الأبيات من الشعر يقدمها الرجل في صدر حاجته، يستعطف بها قلب الكريم ويستميل بها لؤم اللئيم.
والحاصل أن الحق الحقيق بالاعتماد وبه تجتمع الأقوال أن المحرم عليه صلى الله عليه وسلم إنما هو إنشاد الشعر: أي الإتيان بالكلام الموزون عن قصد وزنه، وهذا هو المعنى بقوله تعالى وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ [يس: الآية 69] .
فإن فرض وقوع كلام موزون منه صلى الله عليه وسلم لا يكون ذلك شعرا اصطلاحا لعدم قصد وزنه، فليس من الممنوع منه.
والغالب عليه صلى الله عليه وسلم أنه إذا أنشد بيتا من الشعر متمثلا أو مسندا لقائله لا يأتي به موزونا، وربما أتى به موزونا.
وادّعى بعض الأدباء أنه صلى الله عليه وسلم كان يحسن الشعر: أي يأتي به موزونا قصدا، ولكنه كان لا يتعاطاه: أي لا يقصد الإتيان به موزونا. قال: وهذا أتم وأكمل مما لو قلنا بأنه كان لا يحسنه، وفيه أن في ذلك تكذيبا للقرآن.
وفي التهذيب للبغوي. من أئمتنا، قيل: كان صلى الله عليه وسلم يحسن الشعر ولا يقوله.
والأصح أنه كان لا يحسنه، ولكن كان يميز بين جيد الشعر ورديئه، ولعل المراد بين الموزون منه وغير الموزون. ثم رأيته في ينبوع الحياة. قال: كان بعض الزنادقة المتظاهرين بالإسلام حفظا لنفسه وماله يعرّض في كلامه بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحسن الشعر، يقصد بذلك تكذيب كتاب الله تعالى في قوله تعالى وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ [يس: الآية 69] .
قال بعضهم: والحكمة في تنزيه القرآن عن الشعر الموزون مع أن الموزون من الكلام رتبته فوق رتبة غيره أن القرآن منبع الحق، ومجمع الصدق، وقصارى أمر الشاعر التخيل بتصور الباطل في صورة الحق، والإفراط في الإطراء، والمبالغة في الذم والإيذاء، دون إظهار الحق وإثبات الصدق، ولهذا نزه الله تعالى نبيه عنه، ولأجل شهر الشعر بالكذب سمّى أصحاب البرهان القياسات المؤدّية في أكثر الأمر إلى البطلان والكذب شعرية.
وقد جاء التنفير عن إنشاد الشعر في المسجد، قال صلى الله عليه وسلم «من رأيتموه ينشد شعرا في المسجد فقولوا: فض الله فاك ثلاث مرات» والأخذ بعمومه فيه من العسر ما لا يخفى.
وفي العرائس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: من قال آدم قد قال الشعر فقد كذب على الله ورسوله ورمى آدم بالإثم، وإن محمدا والأنبياء صلوات الله(2/97)
وسلامه عليهم كلهم في النهي عن الشعر سواء.
وفي كلام الشيخ محيي الدين بن العربي في قوله وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ [يس: الآية 69] اعلم أن الشعر محل الإجمال واللغز والتوراة: أي ما رمزنا لمحمد صلى الله عليه وسلم شيئا ولا ألغزنا ولا خاطبناه بشيء ونحن نريد شيئا آخر، ولا أجملنا له الخطاب بحيث لم يفهمه، وأطال في ذلك. وهل يشكل على ذلك الحروف المقطعة أوائل السور، ولعله رضي الله تعالى عنه لا يرى أن ذلك من المتشابه، أو أن المتشابه ليس مما استأثر الله بعلمه والله أعلم.
ولما رأته صلى الله عليه وسلم الصحابة ينقل اللبن بنفسه دأبوا في ذلك، أي في نقل اللبن أي وهو المراد بالصخر في قول بعضهم وجعل أصحابه ينقلون الصخر، أو المراد الصخر الذي يا بنى به الجدار وجانبا الباب كما تقدم، حتى قال قائلهم:
لئن قعدنا والنبي يعمل ... لذاك منا العمل المضلل
وجعل يحمل كل رجل لبنة لبنة، وعمار بن ياسر يحمل لبنتين لبنتين، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفض التراب عن رأس عمار ويقول: «يا عمار ألا تحمل كما يحمل أصحابك؟ قال: إني أريد الأجر من الله تعالى» وفي رواية «كان يحمل لبنة عن نفسه ولبنة عنه صلى الله عليه وسلم، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهره وقال: يا بن سمية: للناس أجر، ولك أجران، وآخر زادك أي من الدنيا شربة من لبن» وجاء في حق عمار ابن سمية «ما عرض عليه أمران قط إلا اختار رضي الله عنه الأرشد منهما، إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق، وتقتلك الفئة الباغية، تدعوهم إلى الجنة، وتدعوك إلى النار، وعمار يقول: أعوذ بالله» . وفي رواية: بالرحمن من الفتن، أي وهذا السياق يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يستمر ينقل اللبن، بل نقل ذلك في بعض الأوقات.
وفي مسلم وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال أخبرني من هو خير مني «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر لعمار حين شغل بحفر الخندق، فجعل يمسح رأس عمار ويقول: ابن سمية تقتلك فئة باغية» . وفي رواية: تعيين من أبهمه أبو سعيد وهو أبو قتادة. وزاد في رواية «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حفر الخندق وكان الناس يحملون لبنة لبنة» أي من الحجارة التي تقطع «وعمار ناقة من وجع كان به، فجعل يحمل لبنتين، قال لعمار: بؤسا لك يا بن سمية، تقتلك الفئة الباغية» .
ثم رأيت بعضهم قال: يشبه أن يكون ذكر الخندق وهما، أو قالها عند بناء المسجد وقالها يوم الخندق، هذا كلامه: أي ويكون عمار بن ياسر في الخندق قد صار يحمل الحجرين وكان في بناء المسجد يحمل اللبنتين، وكان عثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنه رجلا متنظفا أي مترفها، فكان إذا حمل اللبنة يجافي بها عن ثوبه لئلا يصيبه التراب، فإن أصابه شيء من التراب نفضه، فنظر إليه علي بن أبي طالب(2/98)
رضي الله تعالى عنه وأنشد يقول: أي مباسطة مع عثمان بن مظعون لأطعنا فيه:
لا يستوي من يعمر المساجدا ... يدأب فيها قائما وقاعدا
ومن يرى عن التراب حائدا
أي وكان عثمان هذا من جملة من حرم الخمر على نفسه في الجاهلية، وقال:
لا أشرب شرابا يذهب عقلي ويضحك بي من هو أدنى مني.
وذكر ابن إسحاق قال: سألت غير واحد من أهل العلم بالشعر عن هذا الرجز، هل تمثل به عليّ أو أنشأه؟ فكل يقول: لا أدري، فسمع ذلك الرجز عمار بن ياسر، فصار يرتجز بذلك وهو لا يدري من يعني بذلك، فمرّ يرتجز بذلك على عثمان، فظن عثمان أن عمارا يقصد التعريض به، فقال له عثمان: يا بن سمية ما أعرفني بمن تعرض به، لتكفنّ أو لأعترضنّ بهذه الحديدة- لحديدة كانت معه- وجهك، وفي لفظ: والله إني أراني سأعرض هذه العصا بأنفك، لعصا كانت في يده، فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب وقال «إن عمار بن ياسر جلدة ما بين عيني. ووضع يده الشريفة بين عينيه الشريفتين فقال الناس لعمار: قد غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي ونخاف أن ينزل فينا قرآن، فقال: أنا أرضيه، فقال: يا رسول الله ما لي ولأصحابك؟
قال: ما لك ولهم؟ قال: يريدون قتلي فيحملون لبنة لبنة ويحملون عليّ لبنتين لبنتين» أي وفي لفظ «يحملون عليّ اللبنتين والثلاث» أي ولعله حمل ثلاث لبنات في بعض الأوقات «فأخذ بيده وطاف به المسجد، وجعل يمسح ذفرته من التراب» والذفرة بالذال المعجمة: الشعر الذي جهة القفا، ويقول يا بن سمية ليسوا بالذين يقتلونك، تقتلك الفئة الباغية، ويقول: ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة» أي إلى سببها، وهو اتباع الإمام الحق، لأنه كان يدعو إلى اتباع عليّ وطاعته وهو الإمام الواجب الطاعة إذ ذاك «ويدعونه إلى النار» أي إلى سببها، وهو عدم اتباع عليّ وطاعته واتباع معاوية وطاعته.
وفيه أن تلك الفئة التي كان فيها قاتلة كان فيها جمع من الصحابة وهم معذورون بالتأويل الذي ظهر لهم، إلا أن يقال: يدعونه إلى النار باعتبار اعتقاده، وإطلاق البغي عليهم حينئذ باعتبار ذلك، قال بعضهم: وفئة معاوية وإن كانت باغية لكنه بغي لا فسق فيه، لأنه إنما صدر عن تأويل يعذر به أصحابه انتهى، أي وما زاده بعضهم في الحديث: «لا أنا لهم الله شفاعتي يوم القيامة» قال ابن كثير: من روى هذا فقد افترى في هذه الزيادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لم يقلها، إذ لم تنقل عمن يقبل.
وقال الإمام أبو العباس بن تيمية: وهذا كذب مزيد في الحديث، لم يروه أحد من أهل العلم، بإسناد معروف وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم «عمار جلدة ما بين عينيّ» لا يعرف له إسناد. والذي في الصحيح «تقتل عمارا الفئة الباغية» وعن أبي العالية، سمعت(2/99)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «قاتل عمار في النار» ومن العجب أن أبا العالية هذا هو القاتل لعمار يوم صفين، فكان أبو العالية مع معاوية، وكان عمار مع عليّ، أي ويقول: إن عمارا لما برز للقتال قال: اللهم لو أعلم رضاك عني أن أوقد نارا فأرمي نفسي فيها لفعلت، أو أغرق نفسي لفعلت، وإني لا أريد قتال هؤلاء إلا لوجهك الكريم، وأنا أرجو أن لا تخيا بني وجعلت يده ترتعش على الحربة، أي لأن عمره يومئذ كان ثلاثا وسبعين سنة، أي وقد كان جيء به بلبن فضحك، فقيل له: ما يضحكك؟ قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم «آخر شراب تشربه حين تموت لبن» وفي رواية «آخر زادك من الدنيا مشيج من اللبن» ثم نادى: اليوم زخرفت الجنان، وزينت الحور الحسان، اليوم نلقى الأحبة، محمدا وحزبه.
ولما قتل عمار دخل عمرو بن العاص على معاوية فزعا وقال: قتل عمار، فقال معاوية قتل عمار فماذا؟ قال عمرو: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «تقتل عمارا الفئة الباغية» فقال له معاوية: دحضت، أي زلقت في بولك، أنحن قتلناه، إنما قتله من أخرجه، وفي رواية قال له: اسكت، فوالله ما تزال تدحض، أي تزلق في بولك، إنما قتله عليّ وأصحابه، جاؤوا به حتى ألقوه بيننا.
وذكر أن عليا رضي الله تعالى عنه لما احتج على معاوية رضي الله تعالى عنه بهذا الحديث ولم يسع معاوية إنكاره، قال إنما قتله من أخرجه من داره يعني بذلك عليا، فقال علي رضي الله تعالى عنه فرسول الله صلى الله عليه وسلم إذن قتل حمزة حين أخرجه.
ولما قتل عمار، جرد خزيمة بن ثابت رضي الله تعالى عنه سيفه وقاتل مع علي وكان قبل ذلك اعتزل عن الفريقين، وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تقتل عمارا الفئة الباغية» فقاتل معاوية حتى قتل. وكان ذو الكلاع رضي الله تعالى عنه مع معاوية، وقال له يوما ولعمرو بن العاص: كيف نقاتل عليا وعمار بن ياسر، فقالا له: إن عمارا يعود إلينا ويقتل معنا فقتل ذو الكلاع قبل قتل عمار.
ولما قتل عمار قال معاوية: لو كان ذو الكلاع حيا لمال بنصف الناس إلى علي أي لأن ذا الكلاع كان ذووه أربعة آلاف أهل بيت، وقيل عشرة آلاف.
وكان عبد الله بن بديل بن ورقاء رضي الله تعالى عنه مع علي رضي الله تعالى عنه، فلما قتل عمار أخذ سيفين ولبس درعين، ولم يزل يضرب بسيفيه حتى انتهى إلى معاوية، فأزاله عن موقفه، وأزال أصحابه الذين كانوا معه عن موقفهم. ثم قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: ألا إن معاوية ادعى ما ليس له ونازع الأمر أهله. ومن ليس قبله، وجادل بالباطل ليدحض به الحق؛ وصال عليكم بالأعراب والأحزاب، وزين لهم الضلالة، وزرع في قلوبهم حب الفتنة، ولبس عليهم الأمر، وأنتم والله على الحق، على نور من ربكم وبرهان مبين، فقاتلوا(2/100)
الطغاة الجناة؛ قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين، قاتلوا الفئة الباغية الذين نازعوا الأمر أهله، قوموا رحمكم الله.
ولما قتل عمار ندم ابن عمر رضي الله تعالى عنهما على عدم نصرة عليّ والمقاتلة معه، وقال عند موته: ما أسفي على شيء ما أسفي على ترك قتال الباغية، قال بعضهم: شهدنا صفين مع علي بن أبي طالب في ثمانمائة من أهل بيعة الرضوان، وقتل منهم ثلاثة وستون منهم عمار بن ياسر، وكان خزيمة بن ثابت الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين كان مع علي يوم صفين كافا سلاحه حتى قتل عمار جرد سيفه وقاتل حتى قتل، لأنه كان يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «عمار تقتله الفئة الباغية» .
وفي الحديث «من عادى عمارا عاداه الله، ومن أبغض عمارا أبغضه الله، مما يزول مع الحق حيث يزول، عمار خلط الإيمان بلحمه ودمه، عمار ما عرض عليه أمران إلا اختار الأرشد منهما» .
وجاء «أن عمارا دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: مرحبا بالطيب المطيب إن عمار بن ياسر حشي ما بين أخمص قدميه إلى شحمة أذنه إيمانا» وفي رواية «إن عمارا ملىء إيمانا من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه» .
وتخاصم عمار مع خالد بن الوليد في سرية كان فيها خالدا أميرا، فلما جاآ إليه صلى الله عليه وسلم استبا عنده، فقال خالد: يا رسول الله أيسرك أن هذا العبد الأجدع يشتمني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا خالد لا تسب عمارا؛ فإن من سب عمارا فقد سب الله، ومن أبغض عمارا أبغضه الله، ومن لعن عمارا لعنه الله، ثم إن عمارا قام مغضبا، فقام خالد فتبعه حتى أخذ بثوبه واعتذر إليه، فرضي عنه.
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «الحق مع عمار ما لم يغلب عليه دلهة الكبر» وهذا الحديث من أعلام النبوّة، فإن عمارا وقع بينه وبين عثمان بن عفان بعض الشحناء، وأشيع عنه أنه يريد أن يخلع عثمان، فاستدعاه سعد بن أبي وقاص وكان مريضا، فقال له: ويحك يا أبا اليقظان، كنت فينا من أهل الخير، فما الذي بلغني عنك، من السعي في الفساد بين المسلمين، والتألب على أمير المؤمنين، أمعك عقلك أم لا؟ فغضب عمار ونزع عمامته وقال: خلعت عثمان كما خلعت عمامتي هذه، فقال سعد: إنا لله وإنا إليه راجعون، ويحك حين كبر سنك ورق عظمك ونفد عمرك، خلعت ربقة الإسلام من عنقك، وخرجت من الدين عريانا كما ولدتك أمك، فقام عمار مغضبا موليا وهو يقول: أعوذ بربي من فتنة سعد، وعند ذلك روى سعد الحديث وقال: قد دله وخرف عمار، وأظهر عمار القوم على ذلك.(2/101)
قال: وجعلت قبلة المسجد إلى بيت المقدس، وجعل له ثلاثة أبواب، باب في مؤخره والباب الذي كان يقال له باب عاتكة، وكان يقال له باب الرحمة، والباب الذي يقال له الآن باب جبريل. انتهى، أي وهو الباب الذي كان يدخل منه صلى الله عليه وسلم ويقال له باب عثمان، لأنه كان يلي دار عثمان، وهو الذي يخرج منه الآن إلى البقيع.
أقول: وجعل قبلته إلى بيت المقدس كان قبل أن تحول القبلة، ولما حولت قبلته إلى الكعبة وهذا محمل قوله صلى الله عليه وسلم «ما وضعت قبلة مسجدي هذا حتى رفعت لي الكعبة فوضعتها أتيممها أو أؤمها» أي أقصدها. وفي رواية «ما وضعت قبلة مسجدي هذا حتى فرج لي ما بيني وبين الكعبة» والله أعلم.
أي وفي كلام بعضهم: ومن الفوائد الحسنة ما ذكره مغلطاي، أن موضع المسجد كان ابتاعه تبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه بألف سنة، وإنه لم يزل على ملكه:
أي متعلقا به من ذلك العهد على ما دل عليه كتاب تبع.
أقول: سيأتي أن تبعا بنى للنبي صلى الله عليه وسلم دارا بالمدينة إذا قدمها ينزل في تلك الدار، وأنه يقال: إنها دار أبي أيوب.
وقد يجمع بأنه يجوز أن يكون ذلك المربد ودار أبي أيوب مجموعها تلك الدار، وأن تلك الدار قسمت فكان دار أبي أيوب بعضها وذلك المربد بعضها الآخر؛ وأن الأيدي تداولت سكنى تلك الدار إلى أن صارت سكنا لأبي أيوب، وهذا هو المراد بقول المواهب: تداولت الدار الملاك إلى أن صارت لأبي أيوب.
لكن قد يقال: لو كانت الدار مذكورة في الكتاب لذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الكتاب كما سيأتي وصل إليه في مكة في أول البعثة ونزوله دار أبي أيوب، وأخذه المربد على الكيفية المذكورة يبعد ذلك، أي أنه ذكر له أمر تلك الدار، والله أعلم.
قال «ومكث صلى الله عليه وسلم يصلي في المسجد بعد تمامه إلى بيت المقدس خمسة أشهر، ولما حولت القبلة سد صلى الله عليه وسلم الباب الذي كان في مؤخر المسجد» .
وفي كلام بعضهم: لما حولت القبلة لم يبق من الأبواب التي كان يدخل منها صلى الله عليه وسلم إلا الباب الذي يقال له باب جبريل عليه السلام، أي فإنه بقي في محله وأما باب الرحمة الذي كان يقال له أيضا باب عاتكة فأخر عن محله.
وسبب وضع الحصا في المسجد أن المطر جاء ذات ليلة فأصبحت الأرض مبتلة، فجعل الرجل يأتي بالحصا في ثوبه فيبسطه تحته ليصلي عليه، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: «ما أحسن هذا» وفي رواية «ما أحسن هذا البساط» .(2/102)
وقد يعارض هذا ما قيل «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يحصب المسجد» فمات قبل ذلك فحصبه عمر رضي الله تعالى عنه.
أقول: قد يقال لا معارضة، لأنه يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم لما أعجبه ذلك من فعل بعض الصحابة أمره أن يحصب جميع المسجد، لأن الواقع تحصيب بعضه، لكن يشكل على ذلك قول بعضهم من البدع فرش المساجد، إلا أن يراد بالحصر ونحوها لأنه لم يكن زمنه صلى الله عليه وسلم ولا أمر به، ثم رأيت بعضهم ذكر ذلك حيث قال: أول من فرش الحصر في المساجد عمر بن الخطاب، وكانت قبل ذلك مفروشة بالحصباء أي في زمنه صلى الله عليه وسلم كما تقدم.
وفي الإحياء: أكثر معروفات هذه الأعصار منكرات في عصر الصحابة رضي الله تعالى عنهم، إذ من عزيز المعروف في زماننا فرش المساجد بالبسط الرقيقة فيها، وقد كان يعدّ فرش البواري في المسجد بدعة؛ كانوا لا يرون أن يكون بينهم وبين الأرض حائل، هذا كلام الإحياء: أي والحصباء لا تعد حائلا، وسيأتي أن المسجد بني بعد فتح خيبر، وهي التي عناها خارجة رضي الله تعالى عنه بقوله «ما كثر الناس قالوا: يا رسول الله لو زيد فيه، ففعل» ولعلها هي التي أدخل فيها الأرض التي اشتراها عثمان رضي الله تعالى عنه من بعض الأنصار بعشرة آلاف درهم، ثم جاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أتشتري مني البقعة التي اشتريتها من الأنصار أي التي كانت مجاورة للمسجد «فاشتراها منه ببيت في الجنة» .
أي وفي رواية: أن عثمان رضي الله تعالى عنه لما حصر، أي الحصرة الثانية وأشرف على الناس من فوق سطح داره، وقد اشتد به العطش، قال: أهاهنا عليّ؟
قالوا لا، قال: أهاهنا طلحة؟ قالوا لا، قال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من يبتاع مربد بني فلان» أي لمربد كان مجاورا للمسجد «غفر الله له» فابتعته بعشرين ألفا أو بخمسة وعشرين ألفا شك عثمان، وتقدم أنه اشتراها بعشرة آلاف درهم فليتأمل «فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: قد ابتعته، فقال اجعله مسجدنا وأجره لك، قالوا: اللهم نعم، قد كان ذلك» وفي لفظ، أنشدكم بالله وبالإسلام، هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يشتري بقعة ابن فلان لبقعة كانت إلى جنب المسجد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: من يشتريها ويوسعها في المسجد له مثلها» وفي لفظ «خير له منها في الجنة» فاشتريتها ووسعتها في المسجد فأنتم الآن تمنعوني أن أصلي فيها ركعتين، أي وزاد فيه عثمان رضي الله تعالى عنه بعد ذلك زيادة كبيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة، وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج كما في البخاري، وعدد عثمان رضي الله تعالى عنه أشياء منها أنه قال «أنشدكم بالله وبالإسلام، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وليس بها(2/103)
ماء يستعذب غير بئر رومة، ولم يكن يشرب منها أحد إلا بالثمن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يشتري بئر رومة، ولم يكن يشرب منها أحد إلا بالثمن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يشتري بئر رومة يجعل دلوه فيها مع دلاء المسلمين» في لفظ:
«ليكون دلوه فيها كدلاء المسلمين بخير له منها في الجنة» وفي لفظ له «بها مشرب في الجنة» فاشتريتها من صلب مالي فجعلتها للغني والفقير وابن السبيل؟ قالوا: اللهم نعم، قال: فأنتم اليوم تمنعوني أن أشرب منها، بل وتمنعوني الماء: ألا أحد يسقينا فإني أفطر على الماء الملح وفي رواية: هل فيكم من يبلغ عليا عطشنا فأبلغوه، فلما بلغ ذلك عليا أرسل إليه بثلاث قرب مملوءة ماء، فما كادت تصل إليه وجرح بسببها عدة من موالي بني هاشم وبني أمية أي وكانت هذه البئر ركية ليهودي يقال له رومة، يقال إنه أسلم، وكان يبيع المسلمين ماءها، كانت بالعقيق، وتفل فيها صلى الله عليه وسلم فعذب ماؤها: ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من يشتري بئر رومة فيجعلها للمسلمين، يضرب بدلوه في دلائهم وله بها مشرب في الجنة» فساومه فيها عثمان فأبى أن يبيعها كلها، فاشترى نصفها باثني عشر ألف درهم، وجعل ذلك للمسلمين، وجعل له يوما ولليهودي يوما، فإذا كان يوم عثمان استقى المسلمون ما يكفيهم يومين، فلما رأى اليهودي ذلك قال لعثمان: أفسدت عليّ زكيتي، فاشترى النصف الآخر بثمانية آلاف، وقيل جملة ما اشتراها به خمسة وثلاثون ألف درهم. وقول عثمان جعلتها للغني والفقير وابن السبيل، دليل على أن قوله دلوي فيها كدلاء المسلمين على أنه لم يشترط ذلك بل قصد به التعميم في الموقوف عليه. ولا دليل فيه على جواز أن للواقف أن يشترط له الانتفاع بما وقفه كما زعمه بعضهم.
وكان حصار عثمان رضي الله تعالى عنه شهرين وعشرين يوما. وفي كلام سبط ابن الجوزي: كان الحصار الأول عشرين يوما، والثاني أربعين يوما، وفي يوم من تلك الأيام قال: وددت لو أن رجلا صادقا أخبرني عن أمري هذا: أي من أين أوتيت؟ فقام رجل من الأنصار، فقال أنا أخبرك يا أمير المؤمنين، إنك تطأطأت لهم فركبوك وما جرأهم على ظلمك إلا إفراط حلمك، فقال له: صدقت، اجلس.
وأول من دخل عليه الدار محمد بن أبي بكر، تسور عليه هو وجماعة من الحائط من دار عمرو بن حزم فأخذ بلحيته، فقال له: دعها يا بن أخي، فوالله لقد كان أبوك يكرمها فاستحى وخرج. وفي رواية: لما أخذ بلحيته هزها وقال له ما أغنى عنك معاوية، وما أغنى عنك ابن أبي سرح، فقال له: يا بن أخي أرسل لحيتي، فوالله إنك لتجر لحية كانت تعز على أبيك، وما كان أبوك يرضى مجلسك هذا مني، فتركه وخرج، ويقال إنه قال له: ما أريد بك أشد من قبضي على لحيتك، فقال عثمان: أستنصر بالله عليك وأستعين به، ثم طعن جبينه بمشقص كان في يده، ثم(2/104)
ضربه بعض هؤلاء بالسيف فأتته نائلة زوج عثمان فقطع أصابع يدها الخمس.
وعن ابن الماجشون، عن مالك أن عثمان بعد قتله ألقي على المزبلة ثلاثة أيام، وقيل أغلق عليه بابه بعد قتله ثلاثة أيام لا يستطيع أحد أن يدفنه، فلما كان الليل أتاه اثنا عشر رجلا منهم حويطب بن عبد العزى وحكيم بن حزام وعبد الله بن الزبير، وقيل صلى الله عليه وسلم أربعة، وإن ابن الزبير لم يشهد قتل عثمان فاحتملوه، فلما اجتازوا به للمقبرة منعوهم وقالوا: والله لا يدفن في مقابر المسلمين فدفنوه بمحل كان الناس يتوقون أن يدفنوا موتاهم به، فكان يمر به ويقول: سيدفن هنا رجل صالح فيتأسى به الناس في دفن موتاهم به وكان ذلك المحل بستانا فاشتراه عثمان وزاده في البقيع، فكان هو أول من قبر فيه، وحملوه على باب وإن رأسه ليقرع الباب لإسراعهم به من شدة الخوف، ولما دفنوه عفّوا قبره خوفا عليه أن ينبش. وأما غلاماه اللذان قتلا معه فجروهما برجليهما وألقوهما على التلال فأكلتهما الكلاب.
وسبب هذه الفتنة أنهم نقموا عليه أمورا:
منها عزلة لأكابر الصحابة ممن ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من أوصى عمر رضي الله تعالى عنه بأن يبقى على ولايته، وهو أبو موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه من البصرة، فإن عمر رضي الله تعالى عنه أوصى بأن يبقى على ولايته، فعزله عثمان وولى ابن خاله عبد الله بن عامر محله، وعزل عمرو بن العاص عن مصر وولاها ابن أبي سرح وعزل المغيرة بن شعبة عن الكوفة، وعزل ابن مسعود رضي الله تعالى عنه عنها أيضا وأشخصه إلى المدينة، وعزل سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه عن الكوفة وولى أخاه لأمه الوليد بن عقبة بن أبي معيط الذي سماه الله تعالى فاسقا بقوله تعالى أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً [السّجدة: الآية 18] وصار الناس يقولون بئس ما فعل عثمان، عزل اللين الهين الورع المستجاب الدعوة، وولى أخاه الخائن الفاسق المدمن للخمر، ولعل مستندهم في ذلك ما رواه الحاكم في صحيحه «من ولى رجلا على عصابة وهو يجد في تلك العصابة من هو أرضى لله منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين» .
ومنها أنه أدخل عمه الحكم بن أبي العاص والد مروان المدينة وكان يقال له طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعينه، وقد كان صلى الله عليه وسلم طرده إلى الطائف، ومكث بها مدة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدة أبي بكر بعد أن سأله عثمان في إدخاله المدينة فأبى، فقال له عثمان: عمي، فقال: عمك إلى النار، هيهات هيهات أن أغير شيئا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لا رددته أبدا، فلما توفي أبو بكر وولي عمر كلمه عثمان في ذلك، فقال له: ويحك يا عثمان، تتكلم في لعين رسول الله صلى الله عليه وسلم وطريده وعدو الله وعدو رسوله؟ فلما ولي عثمان ردّه إلى المدينة، فاشتد ذلك على المهاجرين(2/105)
والأنصار، فأنكر ذلك عليه أعيان الصحابة، فكان ذلك من أكبر الأسباب على القيام عليه، واعتذر عثمان عن ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان وعده برده وهو في مرض موته، قال: فشهدت عند أبي بكر، فقال إنك شاهد واحد ولا تقبل شهادة الواحد، ثم قال لي عمر كذلك، فلما صار الأمر إليّ قضيت بعلمي. أي: وأما عزله لأبي موسى، فإن جند عمله شكوا شحه فعزله خوف الفتنة.
ومنها أنه جاء إلى عثمان أهل مصر يشكون ممن ولاه عليهم وهو ابن أبي سرح وقالوا: كيف توليه على المسلمين وقد أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح دمه؟ وتعزل عمرو بن العاص عنا.
وردّ هذا بأن عزله لعمرو إنما كان لكثرة شكايتهم منه، وابن أبي سرح أسلم بعد الفتح وحسن حاله ووجدوه لسياسة الأمر أقوى من عمرو بن العاص، وعزله للمغيرة بأنه أنهي إليه فيه أنه ارتشى فرأى المصلحة في عزله، فلما عادوا إلى مصر قتل ابن أبي سرح رجلا منهم فعادوا إلى عثمان وكلموا أكابر الصحابة كعلي وطلحة بن عبيد الله، فقالوا اعزله عنهم فإنهم يسألونك رجلا مكانه، فقال لهم عثمان: يختارون رجلا أوليه عليهم، فاختاروا محمد بن أبي بكر، فكتب إليه عهده وولاه، فخرج وخرج معه جماعة من المهاجرين والأنصار وجماعة من التابعين لينظروا بين أهل مصر وبين ابن أبي سرح، فلما كان محمد بن أبي بكر ومن معه على مسيرة ثلاثة مراحل من المدينة، فإذا هم بغلام أسود على بعير، فقالوا له: ما قضيتك؟ فقال لهم: أنا غلام أمير المؤمنين، أرسلني إلى عامل مصر، فقال له واحد منهم: هذا عامل مصر يعني محمد بن أبي بكر، فقال: ما هذا أريد، فلما أخبر ذلك الرجل محمد بن أبي بكر استدعاه، فقال له بحضور من معه من المهاجرين والأنصار: أنت غلام من؟ فصار تارة يقول غلام أمير المؤمنين وتارة يقول غلام مروان، فعرفه رجل من القوم وقال: هذا غلام عثمان، فقال له محمد: إلى من أرسلت؟ قال: إلى عامل مصر برسالة، قال: معك كتاب؟ قال لا، ففتشوه فإذا معه كتاب: من عثمان إلى ابن أبي سرح في قصبة من رصاص في جوف الإداوة في الماء، ففتح الكتاب، فحضره جميع من معه، فإذا فيه: إذا أتاك محمد وفلان وفلان فاحتل في قتلهم، وفي رواية: انظر فلانا وفلانا إذا قدموا عليك فاضرب أعناقهم، وعاقب فلانا بكذا وفلانا بكذا، منهم نفر من الصحابة ونفر من التابعين.
وفي رواية: اذبح محمد بن أبي بكر واحش جلده تبنا، وكن على عملك حتى يأتيك كتابي، فلما قرؤوا الكتاب فزعوا ورجعوا إلى المدينة، وقرىء الكتاب على جميع من بالمدينة من الصحابة والتابعين، فما منهم أحد إلا واغتم لذلك، فدخل عليه عليّ مع جماعة من أهل بدر ومعه الكتاب والغلام، فقالوا له: هذا الغلام(2/106)
غلامك؟ قال نعم، قالوا والبعير بعيرك؟ قال نعم، قالوا: فأنت كتبت هذا الكتاب؟
فقال: لا، وحلف بالله ما كتبت هذا الكتاب ولا أمرت به ولا علم لي به، فقال له عليّ: والخاتم خاتمك، قال نعم، قال: فكيف يخرج غلامك ببعيرك وبكتابك عليه ختمك وأنت لا تعلم به؟ فحلف بالله ما أمرت بهذا الكتاب ولا وجهت هذا الغلام إلى مصر، فعرفوا أنه خط مروان لا عثمان، لأن عثمان لا يحلف باطلا: وفي رواية: الخط خط كاتبي، والخاتم خاتمي. وفي رواية: انطلق الغلام بغير أمري وأخذ الجمل بغير علمي، قالوا: فما نقش خاتمك؟ قال: نقش عليه مروان، فسألوه أن يدفع لهم مروان وكان مروان عنده في الدار فأبى، فخرجوا من عنده غضابا، وقالوا لا يبرأ عثمان إلا أن يدفع إلينا مروان حتى نبحث ونعرف حال الكتاب، فإن كان عثمان أمر به عزلناه، وإن كان مروان كتبه على لسان عثمان نظرنا ما يكون في أمر مروان، فأبى عثمان أن يخرج إليهم مروان خوفا عليه من القتل، فحوصر عثمان بسبب ذلك، ومنعوه الماء ووقع ما تقدم.
وذكر ابن الجوزي أنه لما دخل المصريون على عثمان رضي الله عنه والمصحف في حجره يقرأ فيه، فمدوا إليه أيديهم، فمد يده فضربت فسال الدم.
وقيل: وقعت قطرة على فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة: الآية 137] فقال:
أما إنها أول يد خطت المفصل هذا كلامه: أي وهذا من أعلام النبوة. فقد أخرج الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «يا عثمان تقتل وأنت تقرأ سورة البقرة، فتقع قطرة من دمك على فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [البقرة: الآية 137] قال الذهبي: إنه حديث موضوع: أي قوله فيه وأنت تقرأ إلى آخره.
وروي أنه لما حوصر قال: والله ما زينت في جاهلية ولا إسلام، ولا تمنيت أن لي بديني بدلا منذ هداني الله، ولا قتلت نفسا فيم تقتلونني؟ وقال وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) [هود: الآية 89] يا قوم لا تقتلوني، إنكم إن قتلتموني كنتم هكذا وشبك بين أصابعه، وقال معددا لنعم الله تعالى عليه: ما وضعت يدي على فرجي منذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما مرت بي جمعة منذ أسلمت إلا وأنا أعتق فيها رقبة إلا أن لا يكون عندي شيء فأعتقها بعد ذلك، قال بعضهم: وجملة من أعتقه عثمان ألفان وأربعمائة رقبة تقريبا.
وذكر أنه رأى في الليلة التي قتل في يومها المصطفى صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر في المنام وقالوا له: اصبر فإنك تفطر عندنا الليلة القابلة، فلما أصبح دعا بالمصحف فنشره بين يديه ولبس السراويل، ولم يكن لبسها قبل ذلك في الجاهلية ولا في الإسلام خوفا أن يطلع على عورته عند قتله.(2/107)
وكان من جملة ما انتقم به على عثمان رضي الله تعالى عنه، أنه أعطى ابن عمه مروان بن الحكم مائة ألف وخمسين أوقية. وأعطى الحارث عشر ما يباع في السوق:
أي سوق المدينة. وأنه جاء إليه أبو موسى بكيلة ذهب وفضة فقسمها بين نسائه وبناته، وأنه أنفق أكثر ببيت المال في عمارة ضياعه ودوره، وأنه حمى لنفسه دون إبل الصدقة، وأنه حبس عبد الله بن مسعود وهجره، وحبس عطاء وأبي بن كعب، ونفى أبا ذر إلى الربذة، وأشخص عبادة بن الصامت من الشام لما شكاه معاوية، وضرب عمار بن ياسر وكعب بن عبدة، ضربه عشرين سوطا ونفاه إلى بعض الجبال، وقال لعبد الرحمن بن عوف: إنك منافق، وإنه أقطع أكثر أراضي بيت المال، وأن لا يشتري أحد قبل وكيله وأن لا تسير سفينة في البحر إلا في تجارته، وأنه أحرق الصحف التي فيها القرآن، وأنه أتمّ الصلاة بمنى ولم يقصرها لما حج بالناس، وأنه ترك قتل عبيد الله وقد قتل الهرمزان. وقد أجاب عن ذلك كله في الصواعق فراجعه.
وما رواه الزبير بن بكار عن أنس من أنه صلى الله عليه وسلم لم يعمل اللبن ولم يبن به المسجد إلا بعد أربع سنين من الهجرة رأيت ما يرده في تاريخ للمدينة. ونصه: ما روي عن أنس واه أو مؤوّل، والمعروف خلافه والله أعلم.
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لو بني مسجدي هذا إلى صنعاء كان مسجدي» قال بعضهم: إن صح هذا كان من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، أي لأنه وسع بعد ذلك: أي وسعه المهدي وذلك في سنة ستين ومائة ثم زاد فيه المأمون في سنة اثنتين ومائتين.
وبه يرد القول بأن المضاعفة خاصة بالموجود حين الإشارة: أي لكن المحافظة على الصلاة فيما كان في عهده صلى الله عليه وسلم أولى.
قال: وبنى حجرتين لعائشة وسودة: أي بناهما مجاورتين للمسجد وملاصقتين له على طرز بناء المسجد من لبن، وجعل سقفهما من جذوع النخل والجريد: أي وقدم رجل من أهل اليمامة عند الشروع في بناء المسجد يقال له طلق من بني حنيفة.
فعنه رضي الله تعالى عنه قال: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يا بني مسجده والمسلمون يعملون معه فيه، وكنت صاحب علاج الطين، فأخذت المسحاة وخلطت بها الطين، فقال لي: يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم «رحم الله امرأ أحسن صنعته» وقال لي «الزم أنت هذا الشغل فإني أراك تحسنه» وفي لفظ «إن هذا الحنفي لصاحب طين» وفي لفظ «قربوا اليماني من الطين، فإنه أحسنكم له مسكا، وأشدكم منكبا» وفي لفظ «دعوا الحنفي والطين فإنه من أصنعكم للطين» وأرسل وهو في بيت أبي أيوب زيد بن حارثة وأبا رافع مكة وأعطاهما خمسمائة درهم وبعيرين ليأتيا بأهله: أي والخمسمائة أخذها من أبي بكر ليشتريا بها ما يحتاجان إليه، فاشترى بها زيد ثلاثة أبعرة، وأرسل معهما أبو(2/108)
بكر رضي الله تعالى عنه عبد الله بن الأريقط دليلا أي ببعيرين أو ثلاثة، فقدما بفاطمة وأم كلثوم بنتيه صلى الله عليه وسلم وسودة زوجته وأم أيمن حاضنته صلى الله عليه وسلم زوج زيد بن حارثة وابنها أسامة بن زيد، فأسامة أخو أيمن لأمه، وكان أسامة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه وابن حاضنته.
عن عائشة رضي الله تعالى عنها «أن أسامة عثر يوما في أسكفة الباب فشج وجهه، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أميطي عنه، قالت عائشة: فكأني تقذرته» أي لأنه كان أسود أفطس «فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمصه» يعني الدم «ثم يمجه» .
وأما بنته صلى الله عليه وسلم زينب التي هي أكبر بناته، فكانت مع زوجها ابن خالتها أبي العاص بن الربيع فمنعها من الهجرة، وسيأتي أنها هاجرت بعد ذلك قبله وتركته على شركه، وبعد أن أسر في بدر وأطلق، وأمره صلى الله عليه وسلم بأن يخلي سبيلها، ففعل ثم لما أسلم ردها إليه.
وأما بنته رقية، فتقدم أنها هاجرت مع زوجها عثمان بن عفان، وخرج مع فاطمة ومن ذكر معها عبد الله بن أبي بكر، ومعه عيال أبي بكر فيهم زوجته أم رومان وعائشة وأختها أسماء زوج الزبير: أي وهي حامل بابنها عبد الله بن الزبير، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها «أنها كانت هي وأمها على بعير في محفة فنفر البعير، قالت: فصارت أمي تقول: وابنتاه واعروساه، فمسك البعير وسلم الله» وفي رواية عن عائشة رضي الله تعالى عنها: «لما صارت أمي تقول: واعروساه وابنتاه سمعت قائلا يقول: أرسلي خطامه، فأرسلت خطامه، فوقف بإذن الله، وسلمنا الله» وأم رومان ولدت لأبي بكر عائشة وعبد الرحمن رضي الله تعالى عنهم؛ وكانت قبل أبي بكر تحت عبد الله بن الحارث فولدت له الطفيل، قال صلى الله عليه وسلم في حقها «من يسره أن ينظر إلى امرأة من الحور العين فلينظر إلى أم رومان» وتوفيت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ماتت سنة ست من الهجرة «ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبرها، وقال: اللهم إنه لم يخف عليك ما لاقت أم رومان فيك وفي رسولك صلى الله عليه وسلم» .
وعورض القول بموتها في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما في البخاري عن مسروق قال: سألت أم رومان وهي أم عائشة رضي الله تعالى عنهما، ومسروق ولد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بلا خلاف، وما في البخاري حديث صحيح مقدم على ما ذكره أهل السير من موتها في حياته صلى الله عليه وسلم.
وفي البخاري عن أسماء «فنزلت بقباء فولدته بها» يعني ولدها عبد الله بن الزبير، «ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فوضعته في حجره، ثم دعا بتمرة فمضغها، ثم تفل في فيه فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حنكه بتمرة» أي بتلك التمرة. ففي المواهب «وحنكه بها، ثم دعا له وبرك عليه» وهو أوّل مولود ولد في(2/109)
الإسلام أي للمهاجرين.
وفيه أن أسماء إنما قدمت المدينة: أي إلى قباء بعد تحوله صلى الله عليه وسلم من قباء، ويدل له قول بعضهم: قدم آل أبي بكر من مكة وهو صلى الله عليه وسلم يا بني مسجده، وأنزلهم أبو بكر في السنح، إلا أن يقال: يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم جاء إلى قباء بعد ذلك فقد قال بعضهم: وهذا السياق يدل على أن عبد الله بن الزبير ولد في السنة الأولى لا في الثانية كما قاله الواحدي وتبعه غيره، فقال: ولد بعد عشرين شهرا من الهجرة ففرح به المسلمون فرحا شديدا، لأن اليهود كانوا يقولون قد سحرناهم فلا يولد لهم مولود، وهذا ربما يؤيد القول الثاني، إلا أن يقال: يجوز أن يكون عبد الله مكث في بطنها المدة المذكورة.
فقد ذكر أن مالكا رضي الله تعالى عنه مكث في بطن أمه سنتين، وكذا الضحاك بن مزاحم التابعي مكث في بطن أمه سنتين. وفي المحاضرات للجلال السيوطي أن مالكا مكث في بطن أمه ثلاث سنين، وأخبر سيدنا مالك أن جارة له ولدت ثلاثة أولاد في اثنتي عشرة سنة بحمل أربع سنين، وحينئذ يجوز أن تكون سيدتنا أسماء جاءت إلى قباء فولدت سيدنا عبد الله، وصادف مجيئه صلى الله عليه وسلم إلى قباء في ذلك اليوم، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله، وكناه أبا بكر بكنية جده الصديق رضي الله تعالى عنه.
وروي «أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن سبع أو ثمان ليبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أمره والده الزبير بذلك فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعه» وكون آل أبي بكر نزلوا عند مجيئهم المدينة في السنخ لا ينافي كون أسماء نزلت بقباء وولدت بها لأنه يجوز أن يكون نزول أسماء في السنح بعد نزولها في قباء، قصدا لراحتها لكونها كانت حاملا حتى وضعت، والسياق المتقدم يدل على ذلك، وكون عبد الله بن الزبير أول مولود ولد في الإسلام للمهاجرين بالمدينة كذلك عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، أول مولود ولد للمهاجرين بالحبشة، ويقال له عبد الله الجواد.
واتفق أن النجاشي ولد له مولود يوم عبد الله هذا، فأرسل إلى جعفر يقول له:
كيف سميت ابنك، فقال: سميته عبد الله، فسمى النجاشي ابنه عبد الله وأرضعته أسماء بنت عميس مع ابنها عبد الله المذكور، فكانا يتراسلان بتلك الأخوة من الرضاع.
وأوّل مولود ولد للأنصار بعد الهجرة مسلمة بن مخلد، وقيل النعمان بن بشير.
وذكر أن أم أسماء قدمت المدينة وهي مشركة على أسماء بهدية، فحجبتها أسماء وردت عليها هديتها، فسألت عائشة رضي الله تعالى عنها صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأمر أسماء أن تؤوي أمها وتقبل هديتها.(2/110)
قيل وفي ذلك وفي إرسال عبد الرحمن بن أبي بكر وهو بمكة على دينه قبل أن يسلم إلى أبيه يسأله النفقة فأبى أبوه أن ينفق عليه أنزل الله الإذن في الإنفاق على الكفار.
وقال أبو أيوب الأنصاري «لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي نزل في أسفل البيت وأنا وأم أيوب في العلو، فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي، إني أكره وأعظم أن أكون في العلو وتكون تحتي، فأظهر أنت وكن في العلو وننزل نحن فنكون في السفل، فقال صلى الله عليه وسلم: يا أبا أيوب أرفق بنا» : أي السفل أرفق بنا «وبمن يغشانا» أي وفي لفظ «إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سفل البيت، قال أبو أيوب: فانكسر حب لنا فيه ماء» والحب بضم الحاء المهملة: الجرة الكبيرة «فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا، ما لنا لحاف غيرها ننشف بها الماء تخوفا أن يقطر منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء فيؤذيه، ولم أزل أتضرع للنبي صلى الله عليه وسلم حتى تحول في العلو» أي وفي رواية عن أبي أيوب قال «نزل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة فكنت في العلو، فلما خلوت إلى أم أيوب، فقلت لها: رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالعلو منا، ينتثر التراب عليه من وطء أقدامنا، وتنزل عليه الملائكة وينزل عليه الوحي» وفي رواية «ينزل عليه القرآن، ويأتيه جبريل، فما بت تلك الليلة أنا ولا أم أيوب، فلما أصبحت قلت: يا رسول الله ما بت الليلة أنا ولا أم أيوب قال: لم؟ يا أبا أيوب؛ قلت: كنت أحق بالعلو منا، ينزل عليك الملائكة، وينزل عليك الوحي والذي بعثك بالحق لا أعلو سقيفة أنت تحتها أبدا» أي وعن أفلح مولى أبي أيوب «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل أسفل وأبو أيوب في العلو انتبه أبو أيوب ذات ليلة؛ فقال: نمشي فوق رسول الله صلى الله عليه وسلم فباتا في جانب، فلما أصبح» الحديث.
وعند نزوله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب صارت تأتي إليه جفنة سعد بن عبادة، وجفنة أسعد به زرارة كل ليلة، أي وكانت جفنة سعد بن عبادة؛ بعد ذلك تدور معه صلى الله عليه وسلم في بيوت أزواجه، فقد جاء «كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم من سعد بن عبادة جفنة من ثريد» أي عليه لحم أو خبز في لبن أو في سمن أو في عسل أو بخل وزيت، في كل يوم تدور معه أينما دار مع نسائه، وصار وهو في بيت أبي أيوب يأتي إليه الطعام من غيرهما» أي فقد جاء «وما كان من ليلة إلا وعلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلاثة والأربعة يحملون الطعام يتناوبون، حتى تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزل أبي أيوب» أي وفي لفظ «وجعل بنو النجار يتناوبون في حمل الطعام إليه صلى الله عليه وسلم مقامه في منزل أبي أيوب رضي الله تعالى عنه وهو تسعة أشهر. وأول طعام جيء به إليه صلى الله عليه وسلم في دار أبي أيوب قصعة أم زيد بن ثابت» .
فعن زيد بن ثابت «أول هدية دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب(2/111)
قصعة أرسلتني بها أمي إليه فيها ثريد خبز برّ بسمن ولبن فوضعتها بين يديه، وقلت:
يا رسول الله أرسلت بهذه القصعة أمي، فقاله: بارك الله فيها» أي وفي رواية «بارك الله فيك ودعا أصحابه فأكلوا» قال زيد: فلم أرم الباب: أي أرده حتى جاءت قصعة سعد بن عبادة ثريد وعراق لحم» أي بفتح العين عظم عليه لحم، فإن أخذ عنه اللحم قيل له عراق بضم العين. وقد جاء «كان أحب الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الثريد» ويقال له الثفل بالمثلثة والفاء.
ولما بني المسجد جعل في المسجد محلا مظللا يأوي إليه المساكين يسمى الصفّة، وكان أهله يسمون أهل الصفة، وكان صلى الله عليه وسلم في وقت العشاء يفرقهم على أصحابه ويتعشى معه منهم طائفة.
وظاهر السياق أن ذلك: أي المحل فعل في زمن بناء المسجد وآوى إليه المساكين من حينئذ، لكن روى البيهقي عن عثمان بن اليمان قال: «لما كثر المهاجرون بالمدينة ولم يكن لهم زاد ولا مأوى، أنزلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، وسماهم أصحاب الصفة؛ وكان يجالسهم ويأنس بهم، أي وكان إذا صلى أتاهم فوقف عليهم فقال: لو تعلمون ما لكم عند الله لأحببتم أن تزدادوا فقرا وحاجة» .
أقول: ذكر «أن المسجد كان إذا جاءت العتمة يوقد فيه بسعف النخل، فلما قدم تميم الداري المدينة صحب معه قناديل وحبالا وزيتا وعلق تلك القناديل بسواري المسجد وأوقدت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم نوّرت مسجدنا نوّر الله عليك، أما والله لو كان لي ابنة لأنكحتكها» .
هذا، وفي كلام بعضهم: أول من جعل في المسجد المصابيح عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. ويوافقه قول بعضهم: والمستحب من بدع الأفعال تعليق القناديل فيها: أي المساجد. وأول من فعل ذلك عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فإنه لما جمع الناس على أبي بن كعب في صلاة التراويح علق القناديل، فلما رآها عليّ تزهر قال: نورت مساجدنا نور الله قبرك يابن الخطاب، ولعل المراد تعليق ذلك بكثرة، فلا يخالف ما تقدم عن تميم الداري.
ثم رأيت في أسد الغابة عن سراج غلام تميم الداري قال «قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن خمسة غلمان لتميم الداري، فأمرني يعني سيده فأسرجت المسجد بقنديل فيه زيت وكانوا لا يسرجون فيه إلا بسعف النخل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أسرج مسجدنا؟ فقال تميم: غلامي هذا، فقال: ما اسمه؟ فقال فتح. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل اسمه سراج، فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم سراجا» .
وعن بعضهم قال: أمرني المأمون أن أكتب بالاستكثار من المصابيح في(2/112)
المساجد، فلم أدر ما أكتب، لأنه شيء لم أسبق إليه، فأريت في المنام أكتب، فإن فيها أنسا للمتجهدين، ونفيا لبيوت الله عن وحشة الظلم، فانتبهت وكتبت بذلك. قال بعضهم: لكن زيادة الوقود كالواقع ليلة النصف من شعبان، ويقال لها ليلة الوقود ينبغي أن يكون ذلك كتزويق المساجد ونقشها. وقد كرهه بعضهم والله أعلم.
قال: وذكر ابن إسحاق في كتاب المبدأ وقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن تبع بن حسان الحميري، هو تبع الأول: أي الذي ملك الأرض كلها شرقها وغربها، وتبع بلغة اليمن: الملك المتبوع، ويقال له الرئيس لأنه رأس الناس بما أوسعهم من العطاء وقسم فيهم من الغنائم، وكان أول من غنم.
ولما عمد إلى البيت يريد تخريبه رمي بداء تمخض منه رأسه قيحا وصديدا، وأنتن حتى لا يستطيع أحد أن يدنو منه قيد رمح كما تقدم، وتقدم أنه بعد ذلك كسا الكعبة، وبعد ذلك اجتاز بيثرب، وكان في ركابه مائة ألف وثلاثون ألفا من الفرسان، ومائة ألف وثلاثة عشر ألفا من الرجالة، فأخبر أن أربعمائة رجل من أتباعه من الحكماء والعلماء تبايعوا أن لا يخرجوا منها، فسألهم عن الحكمة في ذلك؟ فقالوا:
إن شرف البيت إنما هو برجل يخرج يقال له محمد هذه دار إقامته ولا يخرج منها، فبنى فيها لكل واحد منهم دارا، واشترى له جارية وأعتقها وزوجها منه، وأعطاهم عطاء جزيلا، وكتب كتابا وختمه ودفعه إلى عالم عظيم منهم، وأمره أن يدفع ذلك الكتاب لمحمد صلى الله عليه وسلم إن أدركه، وفي ذلك الكتاب، أنه آمن به وعلى دينه، وبني دار له صلى الله عليه وسلم ينزلها إذا قدم تلك البلد ويقال إنها دار أبي أيوب. أي كما تقدم، وأنه من ولد ذلك العالم الذي دفع إليه الكتاب، أي فهو صلى الله عليه وسلم لم ينزل إلا داره أي على ما تقدم.
ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي دعا إلى الإسلام أرسلوا إليه ذلك الكتاب مع شخص يسمى أبا ليلى، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: أنت أبو ليلى الذي معك كتاب تبع الأول؟ فقال له أبو ليلى: من أنت؟ قال: أنا محمد، هات الكتاب، فلما قرأه: أي قرىء عليه. وذكر بعضهم: أن مضمون الكتاب. أما بعد يا محمد، فإني آمنت بك وبربك ورب كل شيء، وبكل ما جاءك من ربك من شرائع الإسلام والإيمان. وإني قلت ذلك، فإن أدركتك فيها ونعمت، وإن لم أدركك فاشفع لي يوم القيامة ولا تنسني فإني من أصل الأولين، وبايعتك قبل مجيئك وقبل أن يرسلك الله، وأنا على ملتك وملة إبراهيم. وختم الكتاب وتلا: أي قرأ عليه لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ [الروم: الآية 4] فقد قرأ هذا قبل نزوله: وكتب عنوان الكتاب: إلى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين ورسول رب العالمين، من تبع الأول حمير، أمانة الله في يد من وقع هذا الكتاب في يده،(2/113)
إلى أن يدفعه إلى صاحبه ودفعه إلى رأس العلماء المذكورين. ثم وصل الكتاب المذكور إلى النبي صلى الله عليه وسلم على يد بعض ولد العالم المذكور حين هاجر وهو بين مكة والمدينة، وسياق الرواية الأولى يدل على أن ذلك كان في أول البعثة، وبعد قراءة الكتاب عليه صلى الله عليه وسلم قال: مرحبا بتبع الأخ الصالح ثلاث مرات» وكان بين تبع هذا، أي بين قوله إنه آمن به وعلى دينه، وبين مولد النبي صلى الله عليه وسلم ألف سنة سواء، أي وتقدم أنه ابتاع المحل الذي بناه دارا له قبل مبعثه بألف سنة فليتأمل. ويقال إن الأوس والخزرج من أولاد أولئك العلماء والحكماء اهـ.
أقول: قد علمت أن نزوله صلى الله عليه وسلم دار أبي أيوب على الوجه المتقدم، وأخذه المربد على الكيفية المتقدمة مع وصول الكتاب إليه أول البعثة أو بين مكة والمدينة وهو مهاجر إلى المدينة يبعد هذا.
وفيه أيضا: أن الذي في «التنوير» لابن دحية أن هذا تبع الأوسط، وأنه الذي كسا البيت بعد ما أراد غزوه، وبعد ما غزا المدينة وأراد خرابها انصرف عنها لما أخبر أنها مهاجر نبي اسمه محمد.
أي فقد ذكر بعضهم أن تبعا أراد تخريب المدينة واستئصال اليهود، فقال له رجل منهم بلغ من العمر مائتين وخمسين سنة: الملك أجل من أن يستخفه غضب، وأمره أعظم أن يضيق عنا حمله أو نحرم صفحة، مع أن هذه البلدة مهاجر نبي يبعث بدين إبراهيم. فكتب كتابا وذكر فيه شعرا، فكانوا يتوارثون ذلك الكتاب إلى أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم، فأدوه إليه. ويقال إن الكتاب كان عند أبي أيوب الأنصاري وكان ذلك قبل مبعثه بسبعمائة عام.
وفي «التنوير» أيضا أن ابن أبي الدنيا ذكر أنه حفر قبر بصنعاء قبل الإسلام، فوجد فيه امرأتان لم يبليا، وعهد رؤوسهما لوح من فضة مكتوب فيه بالذهب: هذا قبر فلانة وفلانة ابنتي تبع، ما تتاوهما يشهدان أن لا إله إلا الله ولا يشركان به، وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما. وجاء «لا تسبوا تبعا، فإنه كان مؤمنا» .. وفي رواية «لا تسبوا تبعا الحميري، فإنه أول من كسا الكعبة» قال السهيلي: وكذا تبع الأول كان مؤمنا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقال شعر ينبىء فيه بمبعثه صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
وكانت المدينة في الجاهلية معروفة بالوباء: أي الحمى، وكان إذا أشرف على واديها أحد ونهق نهيق الحمار لا يضره الوباء. وفي لفظ: كان إذا دخلها غريب في الجاهلية يقال له إن أردت السلامة من الوباء فانهق نهيق الحمار، فإذا فعل ذلك سلم.
وفي حياة الحيوان: كانوا في الجاهلية إذا خافوا وباء بلد عشروا كتعشير(2/114)
الحمار: أي نهقوا عشرة أصوات في طلق واحد قبل أن يدخلوها، وكانوا يزعمون أن ذلك يمنعهم من الوباء.
ولما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة وجد أهلها من أخبث الناس كيلا، فأنزل الله تعالى وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) [المطفّفين: الآية 1] الآية فأحسنوا الكيل بعد ذلك.
ولما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة وأصحابه أصابت أصحابه بالحمى. وفي لفظ: استوخم المهاجرون هواء المدينة ولم يوافق أمزجتهم، فمرض كثير منهم وضعفوا، حتى كانوا يصلون من قعود، فرآهم صلى الله عليه وسلم، فقال: «اعلموا: أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، فتجشموا المشقة وصلوا قياما» .
قالت عائشة رضي الله تعالى عنها «قدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله، ولما حصلت لها الحمى قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لي أراك هكذا؟ قالت: بأبي أنت وأمي هذه الحمى وسبتها، فقال: لا تسبيها فإنها مأمورة، ولكن إن شئت علمتك كلمات إذا قلتهن أذهبها الله تعالى عنك، قالت: فعلمني، قال، قولي: اللهم ارحم جلدي الرقيق وعظمي الدقيق، من شدة الحريق؛ يا أم ملدم إن كنت آمنت بالله العظيم فلا تصدعي الرأس، ولا تنتني الفم، ولا تأكلي اللحم، ولا تشربي الدم، وتحولي عني إلى من اتخذ مع الله إلها آخر، فقالتها، فذهبت عنها» .
وعن علي رضي الله تعالى عنه «لما قدمنا المدينة أصبنا من ثمارها فأصابنا بها وعك» : أي حمى، ومن جملة من أصابته الحمى سيدنا أبو بكر رضي الله تعالى عنه ومولياه عامر بن فهيرة وبلال: أي وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى أنشد:
كل امرىء مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله
أي وهذا من شعر حنظلة بن يسار، بناء على الصحيح أن الرجز يقال له شعر كما تقدم؛ وليس من شعر أبي بكر.
فعن عائشة رضي الله تعالى عنها أن أبا بكر لم يقل شعرا في الإسلام، أي ولا في الجاهلية كما في رواية عنها: والله ما قال أبو بكر بيت شعر في الجاهلية ولا في الإسلام: أي لم ينشئه حتى مات، أي وهذا ربما ينافي ما في الينبوع: ليس عمل الشعر رذيلة، قد كان الصديق وعمر وعلي رضوان الله تعالى عليهم يقولون الشعر، وعليّ كرم الله وجهه أشعر من أبي بكر وعمر. وما تقدم عن عائشة معارض بظاهر ما روي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: كان أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه إذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
أمين مصطفى بالخير يدعو ... كضوء البدر زايله الظلام
إلا أن يحمل قولها على أنها لم تسمع ذلك منه بناء على أن ذلك من إنشاء(2/115)
الصديق. وكان بلال إذا أقلعت عنه الحمى يرفع عقيرته: أي صوته يقول متشوقا إلى مكة
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل
اللهم العن شيبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء، وأراد بلال بالوادي وادي مكة. والإذخر: نبت معروف. وجليل: بالجيم نبت ضعيف، وشامة وطفيل: جبلان بقرب مكة، أي وفي رواية:
وهل يبدون لي عامر وطفيل
وعامر أيضا: جبل من جبال مكة.
وفي شرح البخاري للخطابي: كنت أحسب شامة وطفيلا جبلين حتى مررت بهما، فإذا هما عينان من ماء هذا كلامه.
وقد يقال: يجوز أن تكون العينان بقرب الجبلين المذكورين، فأطلق اسم كل منهما على الآخرين، ولعل هذا اللعن من بلال كان قبل النهي عن لعن المعين، لأنه لا يجوز لعن الشخص المعين على الراجح، إلا إن علم موته على الكفر كأبي جهل وأبي لهب دون الكافر الحيّ، لأنه يحتمل أن يختم له بالحسنى فيموت على الإسلام، لأن اللعن هو الطرد عن رحمة الله تعالى المستلزم لليأس منها. وأما اللعن على الوصف كآكل الربا فجائز أو أن ذلك محمول في ذلك على الإهانة والطرد عن مواطن الكرامة لا على الطرد عن رحمة الله تعالى الذي هو حقيقة اللعن، وكان كل من أبي بكر وعامر وبلال في بيت واحد. قالت عائشة رضي الله تعالى عنها:
فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيادتهم، فدخلت عليهم وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب فإذا بهم ما لا يعلمه إلا الله تعالى من شدة الوعك فسلمت عليهم، أي وقالت لأبيها: يا أبت كيف أصبحت؟ فأنشدها الشعر المتقدم، قالت: فقلت: إنا لله، إن أبي ليهذي، قالت: فقلت لعامر بن فهيرة: كيف تجدك؟ فقال:
إني وجدت الموت قبل ذوقه ... إن الجبان خنقه من فرقه
قالت: فقلت: هذا والله لا يدري ما يقول، قالت: ثم قلت لبلال: كيف أصبحت فإذا هو لا يعقل. وفي رواية فأنشدها البيتين، قالت: وذكرت حالهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وقلت: إنهم يهذون ولا يعقلون من شدة الحمى.
أي وهذا السياق يخالف ما في السيرة الهشامية أن الصديق رضي الله تعالى عنه لما قدم المدينة أخذته الحمى هو وعامر بن فهيرة وبلال، إلا أن يقال لا مخالفة لأنه يجوز أنها أخذتهم أولا وأقلعت عنهم ثم عادت عليهم بعد دخوله صلى الله عليه وسلم بعائشة، أو أن(2/116)
عائشة استأذنته في ذلك وذكرت له حالهم قبل دخوله بها لأنها كانت معقودا عليها، ولعل الصديق كان في غير بيت أم عائشة.
والذي في تاريخ الأزرقي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت «لما قدم المهاجرون المدينة شكوا بها، فعاد النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله تعالى عنه، فقال:
كيف تجدك؟ فأنشده ما تقدم، ثم دخل على بلال فقال: كيف تجدك يا بلال؟
فأنشده ما تقدم، ثم دخل على عامر بن فهيرة فقال: كيف تجدك يا عامر؟ فأنشده ما تقدم» ولا مانع من التعدد فليتأمل.
وحين ذكرت عائشة رضي الله تعالى عنها له ذلك نظر إلى السماء، أي لأنها قبلة الدعاء وقال «اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشد» وفي رواية «وأشدّ وبارك لنا في مدّها وصاعها، وصححها لنا ثم انقل وباءها إلى مهيعة» أي الجحفة كما في رواية. وهي قرية قريبة من رابع محل إحرام من يجيء من جهة مصر حاجا، وكان سكانها إذ ذاك يهود. ودعاؤه صلى الله عليه وسلم أن يحبب إليهم المدينة إنما هو لما جبلت عليه النفوس من حبّ الوطن والحنين إليه، ومن ثم جاء في حديث «أن عائشة رضي الله تعالى عنها سألت رجلا بحضور رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة من مكة، فقالت له: كيف تركت مكة؟ فذكر من أوصافها الحسنة ما غرغرت منه عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «لا تشوقنا يا فلان» وفي رواية «دع القلوب تقر» .
أقول: ودعاؤه صلى الله عليه وسلم بنقل الحمى كان في آخر الأمر، وأما عند قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة فخير بين الطاعون والحمى: أي بقائها، فأمسك الحمى بالمدينة وأرسل الطاعون إلى الشام كما جاء في بعض الأحاديث «أتاني جبريل بالحمى والطاعون، فأمسكت الحمى بالمدينة، وأرسلت الطاعون إلى الشام» وقولنا أي بقائها ردّ لما قد يتوهم من الحديث أن الحمى لم تكن بالمدينة قبل قدومه صلى الله عليه وسلم إليها، وإنما اختار الحمى على الطاعون لأنه كان حينئذ في قلة من أصحابه، فاختار بقاء الحمى لقلة الموت بها غالبا بخلاف الطاعون. ثم لما أحتاج للجهاد وأذن له في القتال ووجد الحمى تضعف أجساد الذين يقاتلون دعا بنقل الحمى من المدينة إلى الجحفة، فعادت المدينة أصح بلاد الله تعالى بعد أن كانت بخلاف ذلك، كذا قيل فليتأمل.
فإنه يقتضي أن الحمى لما نقلت إلى الجحفة لم يبق منها بقية بالمدينة، وهو الموافق لما يأتي عن الخصائص، وحين نقلت الحمى إلى الجحفة صارت الجحفة لا يدخلها أحد إلا حم، بل قيل إذا مر بها الطائر حم.
واستشكل حينئذ جعلها ميقاتا للإحرام، وقد علم من قواعد الشرع أنه صلى الله عليه وسلم لا يأمر بما فيه ضرر.(2/117)
وأجيب بأن الحمى انتقلت إليها مدة مقام اليهود بها ثم زالت بزوالهم من الحجاز أو قبله حين التوقيت بها، كذا قيل فليتأمل.
وعنه صلى الله عليه وسلم قال «رأيت» أي في النوم «امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى نزلت مهيعة، فأولتها أن وباء المدينة نقل إلى مهيعة» .
وفي الخصائص الصغرى للسيوطي: «وصرف الحمى عنها: يعني المدينة أول ما قدمها ونقلها إلى الجحفة، ثم لما أتاه جبريل بالحمى والطاعون أمسك الحمى بالمدينة وأرسل الطاعون إلى الشام، ولما عادت الحمى إلى المدينة باختياره صلى الله عليه وسلم إياها لم تستطع أن تأتي أحدا من أهلها حتى جاءت ووقفت ببابه واستأذنته فيمن يبعثها إليه، فأرسلها إلى الأنصار» .
فقد جاء «إن الحمى جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: أنا أم ملدم» وفي رواية «أنا الحمى، أبري اللحم، وأشرب الدم، قال: لا مرحبا بك ولا أهلا» .
وفيه أنه تقدم «أنه صلى الله عليه وسلم نهى عائشة عن سبها، فقالت له: أمضي إلى أحب قومك أو أحب أصحابك إليك، فقال: اذهبي للأنصار، فذهبت إليهم فصرعتهم فقالوا له: ادع لنا بالشفاء، فقال: إن شئتم دعوت الله عز وجل يكشفها عنكم، وإن شئتم تركتموها فأسقطت ذنوبكم» وفي رواية «كانت لكم طهورا، فقالوا بلى دعها يا رسول الله» ولعله هذا كان لطائفة من الأنصار، فلا ينافي ما جاء «أن الأنصار لما شكوا له الحمى وقد مكثت عليهم ستة أيام بليالها دعا لهم بالشفاء، وصار صلى الله عليه وسلم يدخل دارا دارا وبيتا بيتا يدعو لهم بالعافية» وهذا الذي في الخصائص يدل على أن الحمى لما ذهبت إلى الجحفة لم يبق منها بقية بالمدينة، وأنها بعد ذلك عادت إلى المدينة باختيار منه صلى الله عليه وسلم.
والذي نقله هو عن الحافظ ابن حجر أن الحمى كانت تصيب من أقام بالمدينة من أهلها وغيرهم، فارتفعت بالدعاء عن أهلها إلا النادر ومن لا يألف هواها.
وقد جاء «وإن حمى ليلة كفارة سنة، ومن حم يوما كانت له براءة من النار، وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» .
والذي رواه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه عن جابر «استأذنت الحمى على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من هذه؟ قالت: أم ملدم، فأمر بها إلى أهل قباء فلقوا ما لا يعلمه إلا الله تعالى، فشكوا إليه صلى الله عليه وسلم، فقال: إن شئتم دعوت الله تعالى ليكشفها وإن شئتم تكون لكم طهورا، قالوا أو يفعل؟ قال نعم، قالوا فدعها» والله أعلم.
ثم دعا صلى الله عليه وسلم بقوله «اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة وفي رواية «واجعل مع البركة بركتين» وجاء «أنهم شكوا له صلى الله عليه وسلم سرعة فناء طعامهم، فقال(2/118)
لهم: قوتوا طعامكم يبارك لكم فيه» قيل معناه تصغير الأرغفة، ودعا لغنم كانت ترعى بالمدينة فقال «اللهم اجعل نصف أكراشها مثل ملئها في غيرها من البلاد» أي ولعل الدعاء بذلك ليس خاصا بتلك الأغنام الموجودة في زمنه صلى الله عليه وسلم.
ويدل لذلك ما ذكره السيوطي في الخصائص الصغرى: مما اختصت به المدينة أن غبارها يطفىء الجذام، ونصف أكراش الغنم فيها مثل ملئها في غيرها من البلاد، والكرش كالمعدة للإنسان.
وكما صينت المدينة عن الطاعون بإرساله إلى الشام صينت عن الدجال. روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «على أنقاب المدينة» أي على أبوابها «ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال» وفي رواية «لها» :
أي المدينة «سبعة أبواب على كل باب ملك» .
فإن قيل: كيف مدحت المدينة بعدم دخول الطاعون، وكيف أرسله صلى الله عليه وسلم إلى الشام مع أنه شهادة؟.
وأجيب بأنه إنما أرسله إلى الشام لما تقدم، وصينت عنه بعد انتفاء ما تقدم، لأن سببه طعن كفار الجن وشياطينهم، فمنع من المدينة احتراما لها، ولم يتفق دخول الطاعون بها في زمن من الأزمنة، بخلاف مكة فإنه وجد بها في بعض السنين وهي سنة تسع وأربعين وسبعمائة.
ويقال إنه وقع في سنة تسع وثلاثين بعد الألف لما هدم السيل الكعبة: أي الجانب الذي جهة الحجر. قال بعضهم: فمن حين انهدم وجد الطاعون بمكة، واستمر إلى أن أقاموا الأخشاب موضع المنهدم وجعلوا عليها الستر، فعند ذلك ارتفع الطاعون، كذا أخبر بعض الثقات من أهل مكة.
وكونه لم يتفق دخول الطاعون في المدينة في زمن من الأزمنة يخالفه قول بعضهم: وفي السنة السادسة من الهجرة وقع طاعون في المدينة أفنى الخلق، وهو أول طاعون وقع في الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا وقع بأرض فلا تخرجوا منها، وإن سمعتم به في أرض فلا تقربوها» .
ويروى «أنه لما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة رفع يديه وهو على المنبر وقال: اللهم انقل عنها الوباء ثلاثا» أي وفيه أن هذا قد يخالف ما سبق من أن هذا كان في آخرة الأمر لا عند قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة، إلا أن يحمل على أن قدومه صلى الله عليه وسلم كان من سفر لا للهجرة.
وفي الحديث «سيأتي على الناس زمان يلتمسون فيه الرخاء فيحملون بأهليهم إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون؛ لا يلبث فيها أخذ فيصبر للأوائها(2/119)
وشدتها حتى يموت إلا كنت له يوم القيامة شهيدا وشفيعا» .
وفي مسلم «لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها أحد من أمتي إلا وكنت له شفيعا يوم القيامة أو شهيدا» أي شفيعا للعاصي وشهيد للطائع. واللأواء بالمد الجوع.
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت، فإني أشفع لمن يموت بها، لا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله تعالى ذوب الملح في الماء» وفي رواية «أذابه الله في النار ذوب الرصاص أو ذوب الملح في الماء، لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد» أي وفي رواية في مسلم «تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة» وتقدم أن هذا ليس عاما في الأزمنة ولا في الأشخاص، وفي رواية «مكة والمدينة ينفيان الذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد، من أخاف أهل المدينة ظلما أخافه الله عز وجل وعليه لعنة الله والملائكة والناس، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا» أي وبهذا الحديث تمسك من جوّز اللعن على يزيد، لما تقدم عنه في إباحة المدينة في وقعة الحرة.
وردّ بأنه لا دلالة فيه على جواز لعن يزيد باسمه، والكلام إنما هو فيه، وإنما يدل على جواز لعنه بالوصف وهو «من أخاف أهل المدينة» وليس الكلام فيه، والفرق بين المقامين واضح كما علمت.
وجاء «أهل المدينة جيراني وحقيق على أمتي حفظ جيراني ما اجتنبوا الكبائر من حفظهم كنت له شهيدا وشفيعا يوم القيامة، ومن لم يحفظهم سقي من طينة الخبال، أي وهي عصارة أهل النار» وفي لفظ «من أخاف هذا الحيّ من الأنصار، فقد أخاف ما بين هذين ووضع يده على جنبيه» وقيل لها طيبة لطيب العيش بها، ولأن للعطر أي الطيب بها رائحة لا توجد فيه في غيرها.
ومن خصائصها أن ترابها شفاء من الجذام كما تقدم. زاد بعضهم: ومن البرص، بل من كل داء، وعجوتها شفاء من السم.
أي وفي الحديث «تخرب المدينة قبل يوم القيامة بأربعين سنة، وإن خرابها يكون من الجوع، وإن خراب اليمن يكون من الجراد» أي وقد دعا صلى الله عليه وسلم على الجراد، فقال «اللهم أهلك الجراد، واقتل كباره، وأهلك صغاره واقطع دابره، وخذ بأفواهها عن مواشينا وارزقنا إنك سميع الدعاء» وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «كان صلى الله عليه وسلم يؤتى بأول التمر فيقول: اللهم بارك لنا في مدينتنا، وفي ثمارها، وفي مدّنا، وفي صاعنا بركة مع بركة، ثم يعطيه أصغر من يحضره من الولدان. اللهم إن(2/120)
إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك دعاك لمكة، وإني عبدك ونبيك أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه» .
ثم بنى صلى الله عليه وسلم بقية الحجر التسع عند الحاجة إليها، أي وهذا هو الموافق لما سبق أن بعضها بني مع المسجد وهي حجرة سودة وحجرة عائشة رضي الله تعالى عنهما كما تقدم.
وفي كلام أئمتنا أن بيوته صلى الله عليه وسلم كانت مختلفة وأكثرها كان بعيدا عن المسجد، وكلام الأصل يقتضي أنها بنيت كلها في السنة الأولى من الهجرة حيث قال: وفيها:
أي السنة الأولى بنى مسجده صلى الله عليه وسلم ومساكنه: أي وخط صلى الله عليه وسلم للمهاجرين في كل أرض ليست لأحد وفيما وهبته له الأنصار من خططها. وأقام قوم منهم ممن لم يمكنه البناء بقباء عند من نزلوا عليه بها.
قال عبد الله بن زيد الهذلي: رأيت بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين هدمها عمر بن عبد العزيز بأمر الوليد بن عبد الملك: أي بعد موت أزواجه صلى الله عليه وسلم. قال بعضهم:
حضرت كتاب الوليد بن عبد الملك يقرأ بإدخالها في المسجد،، فما رأيت أكثر باكيا من ذلك اليوم: أي وكانت تسعة: أربعة مبنية باللبن، أي وسقفها من جريد النخل مطين بالطين، ولها حجر من جريد، أي غير بيت أم سلمة فإنها جعلت حجرتها بناء.
وكان صلى الله عليه وسلم في غزوة دومة الجندل، فلما قدم دخل عليه أول نسائه فقال لها: ما هذا البنيان؟ قالت: أردت أن أكف أبصار الناس، فقال صلى الله عليه وسلم «وإن شر ما ذهب فيه مال المرء المسلم البنيان» وعن علي رضي الله تعالى عنه «إن لله بقاعا تسمى المنتقمات، فإذا اكتسب الرجل المال من حرام سلط الله عليه الماء والطين، ثم لا يمتعه به» أي وكانت تلك الحجر التي من الجريد مغشاة من خارج بمسوح الشعر، وخمسة أبيات من جريد مطينة لا حجر بها، على أبوابها ستور من مسوح الشعر، أي وهي التي يقال لها البلانس ذرع الستر فوجد ثلاثة أذرع في ذراع.
هذا، وفي كلام السهيلي: كانت مساكنه صلى الله عليه وسلم مبنية من جريد عليه. طين، وبعضها من حجارة موضوعة وسقوفها كلها من جريد، وكانت حجرته عليه الصلاة والسلام أكسية من شعر مربوطة بخشب من عرعر، هذا كلامه.
قال بعضهم: وليتها تركت ولم تهدم حتى يقصر الناس عن البناء، يريدون ما رضي الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ومفاتيح خزائن الأرض بيده، أي فإن ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والتفاخر في البنيان.
وجاء «أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى بعض طرق المدينة فرأى فيه مشرعة، فقال: ما هذه؟(2/121)
قالوا: هذه لرجل من الأنصار، فجاء ذلك الرجل فسم على النبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عنه فعل ذلك مرارا، فاعلم بالقصة فهدمها الرجل» .
وعن الحسن البصري قال: كنت وأنا مراهق أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة عثمان فأتناول سقفها بيدي، أي لأن الحسن البصري ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب يقينا، وكان ابنا لمولاة لأم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم اسمها خيرة، وكانت أم سلمة تخرجه للصحابة يباركون عليه، وأخرجته إلى عمر رضي الله تعالى عنه فدعا له بقوله: اللهم فقهه في الدين، وحببه إلى الناس، وكان والده من جملة السبي الذي سباه خالد في خلافة الصديق من الفرس.
وروي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، لأن عمره كان قبل أن يخرج عليّ من المدينة إلى الكوفة، وذلك بعد قتل عثمان أربع عشرة سنة. قيل له:
يا أبا سعيد: إنك تقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنك لم تدركه؟ فقال لذلك السائل: كل شيء سمعتني أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو عن علي ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، غير أني في زمان لا أستطيع أن أذكر عليا، أي خوفا من الحجاج.
وقد أخرج له عن عليّ جماعة من الحفاظ كالترمذي والنسائي والحاكم والدارقطني وأبو نعيم ما بين حسن وصحيح، وبه يردّ قول من أنكر أنه لم يسمع من علي، لأن المثبت مقدم على النافي، أو هو محمول على أنه لم يسمع من علي بعد خروج علي من المدينة.
قال بعضهم: وتلك الفصاحة التي كانت عند الحسن والحكمة من قطرات لبن شربها من ثدي أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها، فإن أمه ربما غابت فيبكي فتعطيه أم سلمة ثديها تعلله به إلى أن تجيء أمه فربما در عليه ثديها فشربها.
قال بعضهم: كان الحسن البصري أجمل أهل البصرة. وفي كلام ابن كثير:
كان الحسن البصري شكلا ضخما طوالا، هذا كلامه. وكان إذا أقبل كأنه أقبل من دفن حميمة، وإذا جلس فكأنه أسير أمر بضرب عنقه، وإذا ذكرت النار فكأنها لم تخلق إلا له.
وعن الواقدي: كان لحارثة بن النعمان منازل قرب المسجد وحوله، فكلما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلا تحول له حارثة عن منزل حتى صارت منازله كلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أي وهذا يخالف ما تقدم عن الأصل، من أن مساكنه بنيت في السنة الأولى.
ومات عثمان بن مظعون، وهو أخوه صلى الله عليه وسلم من الرضاعة «وأمر صلى الله عليه وسلم أن يرش قبره بالماء، ووضع حجرا عند رأس القبر، أي بعد أن أمر رجلا أن يأتيه بحجر، فأخذ الرجل حجرا ضعف عن حمله، فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسر عن ذراعيه ثم حمله(2/122)
ووضعه في المحل المذكور، وقال: أتعلم به قبر أخي وأدفن إليه من مات من أهلي» أي ومن ثم دفن ولده إبراهيم عند رجليه.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنه صلى الله عليه وسلم قبل عثمان بن مظعون وهو ميت، قالت: ورأيت دموع رسول الله صلى الله عليه وسلم على خدي عثمان بن مظعون.
أي وفي الاستيعاب «أنه مات بعد شهوده بدرا، فلما غسل وكفن قبله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عينيه» ولا معاوضة بينه وبين خبر عائشة رضي الله تعالى عنها السابق كما لا يخفى «وجعل النساء يبكين، فجعل عمر يسكتهنّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
مهلا يا عمر، ثم قال: إياكن ونعيق الشيطان، ومهما كان من العين فمن الله من الرحمة، وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان، وقالت امرأته، وهي خولة بنت حكيم، وقيل أمّ العلاء الأنصارية وكان نزل عليها، وقيل أم خارجة بن زيد: طبت، هنيئا لك الجنة أبا السائب، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرة غضب وقال: وما يدريك؟ فقالت: يا رسول الله مارسك وصاحبك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما أدري ما يفعل بي، فأشفق الناس على عثمان» .
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها «أن خولة بنت حكيم دخلت عليها وهي متشوشة الخاطر، فقالت لها عائشة: ما بالك؟ قالت: زوجي «تعني عثمان بن مظعون» يقوم الليل ويصوم النهار، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة فذكرت له ذلك، فلقي عثمان فقال له: يا عثمان إن الرهبانية لم تكتب علينا، أما لك بي أسوة، والله إن أخشاكم لله وحدوده لأنا» أي وسماه السلف الصالح فقال عند دفن ولده إبراهيم «الحق بسلفنا الصالح» وقال عند دفن بنته زينب «الحقي بسلفنا الخير عثمان بن مظعون» .
ومات أسعد بن زرارة رضي الله تعالى عنه «ووجد» أي حزن «رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدا شديدا عليه، وكان نقيبا لنبي النجار، فلم يجعل لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم نقيبا بعده، أي بعد أن قالوا له اجعل لنا رجلا مكانه يقيم من أمرنا ما كان يقيم، وقال لهم: أنتم أخوالي وأنا نقيبكم، وكره أن يخص بذلك بعضهم دون بعض، فكانت من مفاخرهم» .
أي ووهم ابن منده وأبو نعيم في قولهما إن أبا أمامة كان نقيبا لبني ساعدة، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يجعل نقيب كل قبيلة منهم، ومن ثم كان نقيب بني ساعدة سعد بن عبادة.
أي وقد قيل إن قبل قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة مات البراء بن معرور، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ذهب هو وأصحابه فصلى على قبره، وقال: «اللهم اغفر له وارحمه وارض عنه وقد فعلت» وهي أول صلاة صليت على الميت في الإسلام بناء(2/123)
على أن المراد بالصلاة حقيقتها، وإلا جاز أن يراد بالصلاة الدعاء، ويوافق ذلك قول الإمتاع: لم أجد في شيء من كتب السير متى فرضت صلاة الجنازة.
ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم صلى على عثمان بن مظعون. وقد مات في السنة الثانية، وكذلك أسعد بن زرارة مات في السنة الأولى.
ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم صلى عليه الصلاة الحقيقة، وقد تقدم ذلك وتقدم ما فيه.
وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا بين المهاجرين والأنصار وادع فيه يهود، أي بني قينقاع وبني قريظة وبني النضير: أي صالحهم على ترك الحرب والأذى: أي أن لا يحاربهم ولا يؤذيهم، وأن لا يعينوا عليه أحدا، وأنه إن دهمه بها عدوّ ينصروه، وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم.
وقد ذكر في الأصل صورة الكتاب، وآخى صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك، وهي دار أبي طلحة زوج أمّ أنس، أي واسمه زيد بن سهل، وقد ركب البحر غازيا فمات فلم يجدوا جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فدفنوه بها ولم يتغير.
وعن أنس رضي الله تعالى عنه أن أبا طلحة لم يكن يكثر من الصوم في عهد رسول الله بسبب الغزو، فلما مات صلى الله عليه وسلم سرد الصوم. وكانت المؤاخاة- بعد بناء المسجد، وقيل والمسجد يا بنى- على المواساة والحق، وأن يتوارثوا بعد الموت دون ذوي الأرحام، وفي لفظ دون القرابة، فقال «تآخوا في الله أخوين أخوين» .
أقول: ذكر ابن الجوزي عن زيد بن أبي أوفى قال «دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد المدينة، فجعل يقول: أين فلان أين فلان؟ فلم يزل يتفقدهم ويبعث إليهم حتى اجتمعوا عنده، فقال: إني محدثكم بحديث فاحفظوه وعوه وحدثوا به من بعدكم: إن الله تعالى اصطفى من خلقه خلقا، ثم تلا هذه الآية اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحجّ: الآية 75] وإني أصطفي منكم من أحبّ أن أصطفيه، وأواخي بينكم كما آخى الله تعالى بين ملائكته، قم يا أبا بكر، فقام فجثا بين يديه صلى الله عليه وسلم، فقال: إن لك عندي يدا الله يجزيك بها، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذتك خليلا، فأنت مني بمنزلة قميصي من جسدي وحرك قميصه بيده، ثم قال: ادن يا عمر، فدنا فقال: قد كنت شديد البأس علينا يا أبا حفص، فدعوت الله أن يعزّ بك الدين أو بأبي جهل ففعل الله ذلك بك، وكنت أحبهما إلى الله فأنت معي في الجنة ثالث ثلاثة من هذه الأمة، وآخى بينه وبين أبي بكر» هذا كلام ابن الجوزي، وهو يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة آخى بين المهاجرين والأنصار أيضا كما آخى بينهم قبل الهجرة، وهذا لا يتم إلا لو آخى بين غير أبي بكر وعمر من المهاجرين، ويكون ابن أبي أوفى اقتصر.
والمعروف المشهور أن المؤاخاة إنما وقعت مرتين مرة بين المهاجرين قبل(2/124)
الهجرة، ومرة بين المهاجرين والأنصار بعد الهجرة والله أعلم. ويدلّ لذلك قول بعضهم: كانوا إذ ذاك خمسين من المهاجرين وخمسين من الأنصار، أي وقيل كانوا تسعين «فأخذ بيد عليّ بن أبي طالب وقال: هذا أخي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليّ أخوين، وآخى بين أبي بكر وخارجة بن زيد» وكان صهرا لأبي بكر، كانت ابنته تحت أبي بكر «وبين عمر وعتبان بن مالك، وبين أبي رويم الخثعمي وبين بلال، وبين أسيد بن حضير وبين زيد بن حارثة، وكان أسيد ممن كناه النبي صلى الله عليه وسلم كناه أبا عبس، وكان من أحسن الناس صوتا بالقرآن وكان أحد العقلاء أهل الرأي، وكان الصديق رضي الله تعالى عنه يكرمه ولا يقدم عليه أحدا، وآخى بين أبي عبيدة وبين سعد بن معاذ، وآخى بين عبد الرحمن بن عوف وبين سعد بن الربيع، وعند ذلك قال سعد لعبد الرحمن: يا عبد الرحمن إني من أكثر الأنصار مالا، فأنا مقاسمك، وعندي امرأتان فأنا مطلق إحداهما فإذا انقضت عدتها فتزوجها فقال له بارك الله لك في أهلك ومالك» .
وفي الأصل عن ابن إسحاق «آخى رسول الله بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، فقال: تآخوا في الله أخوين أخوين» .
وفي كلام بعضهم «أنه صلى الله عليه وسلم آخى بين حمزة وبين زيد بن حارثة» وإليه أوصى حمزة يوم أحد، فليتأمل فإنهما مهاجران «ثم أخذ بيد عليّ بن أبي طالب وقال هذا أخي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليّ أخوين» وفيه أن هذا ليس من المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وقد تقدم في المؤاخاة بين المهاجرين قبل الهجرة مؤاخاته له صلى الله عليه وسلم. وفي رواية «لما آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه جاء عليّ تدمع عيناه، فقال: يا رسول الله آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت أخي في الدنيا والآخرة» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب «وآخى بين جعفر بن أبي طالب، وهو غائب بالحبشة وبين معاذ بن جبل» أي أرصد، معاذا لأخوة جعفر إذا قدم من الحبشة.
وبه يردّ ما قيل جعفر بن أبي طالب إنما قدم في فتح خيبر سنة سبع، فكيف يؤاخي بينه وبين معاذ بن جبل أول مقدمه عليه الصلاة والسلام «وآخى بين أبي ذرّ الغفاري والمنذر بن عمرو، وبين حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر، وبين مصعب بن عمير وأبي أيوب» .
وفي الاستيعاب «أنه آخى بين سلمان وأبي الدرداء» وجاء سلمان لأبي الدرداء زائرا فرأى أمّ الدرداء مبتذلة فقال: ما شأنك؟ قالت: إن أخاك ليس له حاجة في شيء من الدنيا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، ولجسدك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه، فسأل أبو الدرداء النبي صلى الله عليه وسلم عما قال(2/125)
سلمان، فقال له مثل ما قال سلمان» ولعل هذه المؤاخاة بين سلمان وأبي الدرداء كانت قبل عتق سلمان، لأنه تأخر عتقه عن أحد، لأن أول مشاهده الخندق كما تقدم.
وروى الإمام أحمد عن أنس «أنه آخى بين أبي عبيدة وبين أبي طلحة» وقد تقدم أنه آخى بينه وبين سعد بن معاذ، وقال المهاجرون «يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلا في كثير، كفونا المؤنة وأشركونا في المهنة. أي الخدمة «حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله» قال: لا ما أثنيتم عليهم ودعوتم لهم» أي فإن ثناءكم عليهم ودعاءكم لهم حصل منكم به نوع مكافأة.
قال بعضهم: والمؤاخاة من خصائصه صلى الله عليه وسلم، ولم يكن ذلك لنبيّ قبله «ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من لي بعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص» أي المحبوسين عند قريش المانعين لهما من الهجرة، فقال الوليد بن الوليد بن المغيرة» أي بعد أن خرج إلى المدينة من حبس أهله له بمكة كما تقدم «أنا لك يا رسول الله بهما، فخرج إلى مكة فقدمها مستخفيا، فلقي امرأة تحمل طعاما، فقال لها: أين تريدين يا أمة الله؟ قالت: أريد هذين المحبوسين تعنيهما، فتبعها حتى عرف موضعهما وكان بيتا لا سقف له، فلما أمسى تسوّر عليهما، ثم أخذ مروة: أي حجرا فوضعها تحت قيدهما ثم ضربهما بسيفه فقطعهما، فكان يقال لسيفه ذو المروة، ثم جعلهما على بعيره وساق بهما، فعثر فدميت أصبعه، فأنشد أي متمثلا:
هل أنت إلا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
ثم قدم بهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم» وتقدم أن ذلك يردّ القول بأن عياشا استمرّ محبوسا حتى فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وقد دعا صلى الله عليه وسلم في قنوت الصلاة بقوله «اللهم أنج الوليد بن الوليد» أي وذلك أن يتخلص من حبسه بمكة، أي فإن الوليد أسر يوم بدر، أسره عبد الله بن جحش فقدم في فدائه أخواه خالد وكان أخاه لأبيه وهشام وكان أخاه لأمه وأبيه، أي ومن ثم لما أبى عبد الله أن يأخذ في فداء الوليد إلا أربعة آلاف درهم وصار خالد يأبى ذلك، قال له هشام: إنه ليس بابن أمك، والله لو أبى فيه إلا كذا وكذا لفعلت.
ويقال «إنه صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن جحش: «ولا تقبل في فدائه إلا شملة أبيه» وهي درع فضفافة مقومة بمائة دينار «فجاآ بها وسلماها إلى عبد الله» فلما افتدي وقدم إلى مكة أسلم، فقيل له: هلا أسلمت قبل أن تفتدي؟ فقال: كرهت أن يظنوا بي أني جزعت من الإسار، فلما أسلم حبسه أهل مكة، ثم أفلت ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد عمرة القضاء، وكتب إلى أخيه خالد، فوقع الإسلام في قلب(2/126)
خالد، وكان خالد من جملة من خرج من مكة فارّا لئلا يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كراهة الإسلام وأهله، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد عنه، وقال «لو أتانا خالد لأكرمناه، وما مثله يجهل الإسلام» فكتب له أخو الوليد بذلك، وفي مدة حبس الوليد كان صلى الله عليه وسلم في كل ليلة إذا صلى العشاء الآخرة قنت في الركعة الأخيرة يقول «اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم انج عياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج هشام بن العاص، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم أشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين مثل سني يوسف، فأكلوا العلهز؛ ثم لم يزل يدعو للمستضعفين حتى نجاهم الله» أي بعد أن نجى عياشا وهشاما والوليد.
أقول: هذه الرواية تدل على أنه كان يدعو بما ذكر في الركعة الأخيرة من العشاء الآخرة. وفي البخاري أن ذلك كان في الركعة الأخيرة من الصبح.
وقد يقال: لا مخالفة، لأنه كان صلى الله عليه وسلم تارة يدعو في الركعة الأخيرة من صلاة العشاء الآخرة، وتارة في الركعة الأخيرة من الصبح، أو كان يدعو بذلك فيهما وكل روى بحسب ما رأى، والله أعلم.
ثم لا زال المهاجرون والأنصار يتوارثون بذلك الإخاء دون القرابات إلى أن نزل قوله تعالى في وقعة بدر وَأُولُوا الْأَرْحامِ [الأنفال: الآية 75] أي القرابات بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ [الأنفال: الآية 75] أي في الإرث فِي كِتابِ اللَّهِ [الأنفال: الآية 75] أي اللوح المحفوظ فنسخت ذلك، أي لأنه كان الغرض من المؤاخاة ذهاب وحشة الغربة ومفارقة الأهل والعشيرة، وشدّ أزر بعضهم ببعض؛ فلما عزّ الإسلام، واجتمع الشمل، وذهبت الوحشة، بطل التوارث، ورجع كل إنسان إلى نسبة وذوي رحمه: أي ومن ثم قيل لزيد بن حارثة زيد بن حارثة: أي بعد أن كان يقال له زيد بن محمد، وكانت المؤاخاة بعد الهجرة بخمسة أشهر، وقيل غير ذلك.
أقول: تقدم أن سبب امتناع أن يقال زيد بن محمد نزول قوله تعالى ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ [الأحزاب: الآية 5] أي ومن ثم قيل للمقداد بن عمرو، وكان يقال له المقداد بن الأسود، لأن الأسود كان تبناه في الجاهلية، ومن لم يعرف أبوه ردّ إلى مواليه؛ ومن ثم قيل لسالم مولى أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بعد أن كان يقال له سالم بن أبي حذيفة، فكان أبو حذيفة يرى أنه ابنه، ومن ثم أنكحه ابنة أخيه فاطمة بنت الوليد بن عتبة.
وجاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو امرأة أبي حذيفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: «يا رسول الله إنا كنا نرى سالما ولدا، وكان يدخل عليّ وقد بلغ ما يبلغ الرجال، وإنه يدخل عليّ، وأظن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئا فماذا ترى فيه؟
فقال: أرضعيه تحرمي» .(2/127)
وعن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت لعائشة «ما ترى هذه إلا رخصة رخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم» وكان سالم رضي الله تعالى عنه يؤم المهاجرين الأولين في مسجد، قباء فيهم أبو بكر وعمر.
وفي ينبوع الحياة: كانت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار توجب التوارث بينهم ثم نسخ ذلك قبل العمل به، وأما قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كانوا يتوارثون بذلك حتى نزلت وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ [الأنفال: الآية 75] فمعناه أنهم التزموا هذا الحكم ودانوا به.
ومن المشكل حينئذ ما نقل «أن الحتات» بضم الحاء وفتح المثناة فوق مخففة «كان صلى الله عليه وسلم آخى بينه وبين معاوية، ولما مات الحتات عند معاوية في خلافته ورثه بالأخوة مع وجود أولاده» ثم رأيت الحافظ ابن حجر في الإصابة ذكر ذلك ونظر فيه، والله أعلم.(2/128)
باب بدء الأذان ومشروعيته
أي والإقامة ومشروعيتها، وكل منهما من خصائص هذه الأمة، كما أن خصائصها الركوع والجماعة وافتتاح الصلاة بالتكبير، فإن صلاة الأمم السابقة كانت لا ركوع فيها ولا جماعة، وكانت الأنبياء كأممهم يستفتحون الصلاة بالتوحيد والتسبيح والتهليل، أي وكان دأبه صلى الله عليه وسلم في إحرامه لفظة الله أكبر، ولم ينقل عنه سواها أي كالنية.
ولا يشكل على الركوع قوله تعالى لمريم وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران: الآية 43] لأن المراد به في ذلك الخضوع أو الصلاة، لا الركوع المعهود كما قيل، لكن في البغوي قيل إنما قدم السجود على الركوع لأنه كان كذلك في شريعتهم وقيل بل كان الركوع قبل السجود في الشرائع كلها وليست الواو للترتيب بل للجمع هذا كلامه فليتأمل، وكان وجود ذلك: أي الأذان والإقامة في السنة الأولى، وقيل في الثانية.
ذكر أن الناس إنما كانوا يجتمعون للصلاة لتحين مواقيتها، أي لدخول أوقاتها من غير دعوة، أي وقد قال ابن المنذر: هو صلى الله عليه وسلم كان يصلي بغير أذان منذ فرض الصلاة بمكة، إلى أن هاجر إلى المدينة، وإلى أن وقع التشاور.
قال: ووردت أحاديث تدلّ على أن الأذان شرع بمكة قبل الهجرة من تلك الأحاديث ما في الطبراني عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال «لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم أوحى الله تعالى إليه بالأذان، فنزل به وعلمه بلالا» قال الحافظ ابن رجب: هو حديث موضوع.
ومنها ما رواه ابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعا «لما أسري بي أذن جبريل فظنت الملائكة أنه» أي جبريل «يصلي بهم، فقدمني فصليت» قال فيه الذهبي: حديث منكر، بل موضوع هذا كلامه. على أنه يدل على أن المراد بالأذان الإقامة كما تقدم أنها المرادة بالأذان انتهى.
أقول: ومن أغرب ما وقع في بدء الأذان ما رواه أبو نعيم في الحلية بسند فيه مجاهيل «إن جبريل نادى بالأذان لآدم حين أهبط من الجنة» وقد سئل الحافظ السيوطي: هل ورد أن بلالا أو غيره أذن بمكة قبل الهجرة؟ فأجاب بقوله: ورد ذلك بأسانيد ضعيفة لا يعتمد عليها. والمشهور الذي صححه أكثر العلماء ودلت عليه الأحاديث الصحيحة أن الأذان إنما شرع بعد الهجرة، وأنه لم يؤذن قبلها لا بلال ولا(2/129)
غيره. وذكر في الدرّ في قوله تعالى وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً [فصّلت: الآية 33] أنها نزلت بمكة في شأن المؤذنين، والأذان إنما شرع في المدينة، فهي مما تأخر حكمه عن نزوله هذا كلامه.
وفي كلام الحافظ ابن حجر ما يوافقه، حيث ذكر أن الحق أنه لا يصح شيء من الأحاديث الدالة على أن الأذان شرع بمكة قبل الهجرة، وذكر ما تقدم عن ابن المنذر، من أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي من غير أذان منذ فرضت الصلاة بمكة، إلى أن هاجر، صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وإلى أن وقع التشاور في ذلك: أي فقد ائتمر صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه كيف يجمع الناس للصلاة؟ فقيل له: انصب راية عند حضور الصلاة، فإذا رآها الناس أذن» أي أعلم «بعضهم بعضا فلم يعجبه ذلك، فذكر له بوق «يهود» أي يقال له الشبور بفتح الشين المعجمة ثم موحدة مشددة مضمومة ثم واو ساكنة ثم راء، ويقال له القبع بضم القاف وإسكان الموحدة وقيل بفتحها، وقيل باسكان النون وبالعين المهملة.
قال السهيلي: وهو أولى بالصواب، وقيل بالمثناة فوق، وقيل بالمثلثة، وهو القرن الذي يدعون به لصلاتهم: أي يجتمعون لها عند سماع صوته «فكرهه صلى الله عليه وسلم وقال: هو من أمر اليهود، فذكر له الناقوس الذي يدعون به النصارى لصلاتهم، فقال: هو من أمر النصارى، أي فقالوا لو رفعنا نارا أي فإذا رآها الناس أقبلوا إلى الصلاة، فقال ذلك للمجوس، وقيل كما في حديث الشيخين عن ابن عمر «أن عمر رضي الله عنهما قال: أو لا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة» أي بحضورها «أي ففعلوا ذلك وكان المنادي هو بلال رضي الله تعالى عنه» .
قال الحافظ ابن حجر: وكان اللفظ الذي ينادي به بلال: أي قبل رؤيا عبد الله «الصلاة جامعة» كما رواه ابن سعد وسعيد بن منصور عن سعيد بن المسيب مرسلا.
وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال «لقد هممت أن أبث رجالا ينادون الناس بحين الصلاة» أي في حينها: أي وقتها «وقد هممت أن آمر رجالا تقوم على الآطام ينادون المسلمين بحين الصلاة» أي ولعل هذا كان منه صلى الله عليه وسلم قبل وقوع ما تقدم بلال، ثم أمر بلال بما تقدم.
وقيل ائتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه بالناقوس: أي اتفقوا عليه فنحت ليضرب به المسلمون أي وهو خشبة طويلة يضرب عليها بخشبة صغيرة، فنام عبد الله بن زيد، فأري الأذان أي والإقامة في منامه.
فعنه رضي الله تعالى عنه، قال «لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس فطاف بي وأنا نائم رجل» وفي لفظ «إني لبين نائم ويقظان طاف بي رجل» والمراد أنه نام نوما(2/130)
خفيفا قريبا من اليقظة فروحه كالمتوسطة بين النوم واليقظة.
قال الحافظ السيوطي: أظهر من هذا أن يحمل على الحالة التي تعتري أرباب الأحوال ويشاهدون فيها ما يشاهدون، ويسمعون ما يسمعون، والصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين هم رؤوس أرباب الأحوال، أي وهذه الحالة هي التي عناها الشيخ عبد الله الدلاصي بقوله: كنت بالمسجد الحرام في صلاة الصبح، فلما أحرم الإمام وأحرمت أخذتني أخذة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إماما وخلفه العشرة فصليت معهم، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى سورة المدثر، وفي الثانية عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) [النّبإ: الآية 1] ثم سلم الإمام فعقلت تسليمه فسلمت.
أي ويدل لذلك قول عبد الله بن زيد كما جاء في رواية: ولولا أن يقول الناس: أي يستبعد الناس ذلك لقلت إني كنت يقظان غير نائم وذلك الرجل عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوسا في يده؛ فقلت: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على ما هو خير لك من ذلك؟ فقلت بلى: أي وفي رواية فقلت أتبيع الناقوس؛ فقال: ماذا تريد به؟ فقلت:
أريد أن أبتاعه لكي أضرب به للصلاة لجماعة الناس، قال: فأنا أحدثك بخير لك من ذلك، فقلت بلى، قال: تقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، قال عبد الله: ثم استأخر عني: أي ذلك الرجل غير بعيد، ثم قال: وتقول إذا قمت إلى الصلاة: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله: أي ففي هذه الرواية افراد ألفاظ الإقامة إلا لفظها ولفظ التكبير أولا وآخرا. وفي رواية «رأى رجلا عليه ثياب خضر وهو قائم على سقف المسجد. وفي رواية: على جذم حائط، بكسر الجيم وسكون المعجمة: أي أصل الحائط، ولا مخالفة لما سيعلم فأذن ثم قعد قعدة، ثم قام فقال مثلها، أي مثل الكلمات، أي كلمات الأذان، إلا أنه يقول: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، أي زيادة على تلك الكلمات التي هي الأذان. ففي هذه الرواية تثنية ألفاظ الإقامة والإتيان بالتكبير في أولها أربعا كالأذان، أي وهذا: أي كونه على سقف المسجد، وكونه على جذم حائط لا مخالفة بينهما، لأنه يجوز أن يكون لما قال له تقول الله أكبر، إلى آخر الأذان والإقامة كانا قائما على سقف المسجد قريبا من جذم الحائط، فنسب قيامه إلى كل منهما، ويكون قوله ثم استأخر عني غير بعيد: أي سكت غير طويل. قال عبد الله: فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم(2/131)
فأخبرته بما رأيت. أي وفي رواية: أنه أتاه ليلا وأخبره، وهي المذكورة في سيرة الحافظ الدمياطي.
ولا منافاة لأنه يجوز أن يكون قول عبد الله: فلما أصبحت: أي قاربت الصباح، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها لرؤيا حق إن شاء الله تعالى، فقم مع بلال، فألق عليه ما رأيت، فليؤذن به فإنه أندى» وفي رواية «أمدّ صوتا منك» أي أعلى وأرفع. وقيل أحسن وأعذب. ولا مانع من إرادة ذلك كله هنا «فقمت مع بلال» وفي رواية «فقال لبلال: قم فانظر ما أمرك به عبد الله بن زيد فافعله، فجعلت ألقيه عيه ويؤذن به» أي فبلال أول مؤذنيه صلى الله عليه وسلم، أي وقيل أول مؤذنيه عبد الله بن زيد ذكره الإمام الغزالي، وأنكره ابن الصلاح، أي حيث قال لم أجد هذا بعد البحث عنه، هذا كلامه.
وقد يقال: لا منافاة لأن عبد الله أول من نطق بالأذان، وبلال أول من أعلن به، وحينئذ يكون أوّل مشروعيته كان في أذان الصبح، فلما سمع بذلك: أي بأذان بلال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وهو في بيته خرج يجر رداءه. وفي رواية: إزاره أي عجلا، أي وقد أعلم بالقصة لقوله «والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما رأى عبد الله بن زيد رضي الله تعالى عنه» . وفي رواية «مثل ما يقول» أي بلال رضي الله تعالى عنه «فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلله الحمد» قال الترمذي:
عبد الله بن زيد بن عبد ربه لا نعرف له عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا يصح إلا هذا الحديث الواحد في الأذان.
وقيل رأى مثل ما رأى عبد الله أبو بكر رضي الله تعالى عنه. وقيل سبعة من الأنصار وقيل أربعة عشر.
قال ابن الصلاح: لم أجد هذا بعد إمعان النظر، وتبعه النووي، فقال: هذا ليس بثابت ولا معروف، وإنما الثابت خروج عمر يجرّ رداءه، وقيل رآه صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء «أسمع ملكا يؤذن» أي فقد جاء في حديث بعض رواته متروك.
بل قيل إنه من وضعه «أنه لما أراد الله عز وجل أن يعلم رسوله الأذان جاء جبريل عليه الصلاة والسلام بدابة يقال لها البراق، فركبها حتى أتى الحجاب الذي يلي الرحمن، فبينما هو كذلك خرج من الحجاب ملك فقال: الله أكبر، فقيل من وراء الحجاب: صدق عبدي أنا أكبر أنا أكبر» وذكر بقية الأذان.
فرؤيا عبد الله دلت على أن هذا الذي رآه في السماء يكون سنة في الأرض عند الصلوات الخمس التي فرضت عليه تلك الليلة، أي فلذلك قال «إنها لرؤيا حق إن شاء الله» .(2/132)
وفيه أن الذي تقدم عن الخصائص أن المراد بهذا الأذان الذي أتى به الملك الإقامة لا حقيقة الأذان، أي ويدل لذلك أن الملك قال فيه «قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، فقال الله: صدق عبدي، أنا أقمت فريضتها، ثم قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم تقدم، فأمّ أهل السماء فيهم آدم ونوح» .
قال بعضهم: والأذان ثبت بحديث عبد الله بن زيد بإجماع الأمة لا يعرف بينهم خلاف في ذلك، إلا ما روي عن محمد ابن الحنفية. وعن أبي العلاء قال: قلت لمحمد ابن الحنفية: إنا لنتحدث أن بدء هذا الأذان كان من رؤيا رآها رجل من الأنصار في منامه، قال: ففزع لذلك محمد ابن الحنفية فزعا شديدا، وقال: عمدتم إلى ما هو الأصل في شرائع الإسلام ومعالم دينكم فزعمتم أنه إنما كان من رؤيا رآها رجل من الأنصار في منامه تحتمل الصدق والكذب، وقد تكون أضغاث أحلام؛ قال: فقلت له: هذا الحديث قد استفاض في الناس، قال: هذا والله هو الباطل، ثم قال: «وإنما أخبرني أبي أن جبريل عليه الصلاة والسلام أذن في بيت المقدس ليلة الإسراء، وأقام، ثم أعاد جبريل الأذان لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء فسمعه عبد الله بن زيد وعمر بن الخطاب.
وفي رواية عنه أنه لما انتهى إلى مكان من السماء وقف به وبعث الله ملكا، فقيل له علمه الأذان، فقال الملك: الله أكبر، فقال الله: صدق عبدي، أنا الله أكبر، إلى أن قال: قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة. وفيه ما علمت أن هذه الإقامة لا الأذان، وقد ردّ عليه بأنه لو ثبت بقول جبريل لما احتاج صلى الله عليه وسلم إلى المشورة، والمعراج كان بمكة قبل الهجرة.
والأولى أن يتمسك ابن الحنفية بما يأتي عن بعض الروايات، من قوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله «قد سبقك بذلك الوحي» وكونه أتى بالبراق إلى الحجاب هو بناء على أن العروج كان على البراق وتقدم ما فيه. ويحتمل أن يكون هذا عروجا آخر غير ذلك، وحينئذ لا يخالف هذا ما تقدم أنه لما أسري به أذن جبريل وتقدم ما فيه، ولا ما جاء عن عليّ رضي الله تعالى عنه «مؤذن أهل السماء جبريل» لجواز حمل ذلك على الغالب، وحينئذ لا يخالف أيضا ما جاء «إسرافيل مؤذن أهل السماء، وامامهم ميكائيل عند البيت المعمور» وفي لفظ «يؤم بالملائكة في البيت المعمور» ولعلّ كون ميكائيل إمام أهل السماء لا يخالف ما جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها «إمام أهل السماء جبريل» لما علم، وجاء «إن مؤذن أهل السماء يؤذن لاثنتي عشرة ساعة من النهار، ولاثنتي عشرة ساعة من الليل» .
أقول: وفي النور لو رآه أي الأذان ليلة الإسراء لم يحتج إلا إلى ما يجمع به المسلمين إلى الصلاة. ويردّ بأنه لم يكن يعلم قبل هذه الرؤيا أن ما رآه في السماء(2/133)
يكون سنة للصلوات الخمس التي فرضت عليه تلك الليلة، فبتلك الرؤيا علم أن ذلك سنة في الأرض كما تقدم.
وعبارة بعضهم: ولا يشكل على أذان جبريل ببيت المقدس أن الأذان إنما كان بعد الهجرة، لأنه لا مانع من وقوعه ليلة الإسراء قبل مشروعيته للصلوات الخمس، وهذا كله على تسليم أن المرئي له الأذان حقيقة لا الإقامة، وقد علمت ما فيه.
ثم رأيت بعضهم قال: وأما قول القرطبي. لا يلزم من كونه سمعه ليلة الإسراء أن يكون مشروعا في حقه، ففيه نظر لقوله في أوله: لما أراد الله تعالى أن يعلم رسوله الأذان، أي لأن المتبادر تعليمه الأذان الذي يأتي به في الأرض للصلوات.
وقد يقال: على تسليم ذلك قد علمت أن المراد بالأذان الذي سمعه ليلة الإسراء الإقامة وقد قال الحافظ ابن حجر: الحق أنه لم يصح شيء من هذه الأحاديث الواردة بأنه سمعه ليلة الإسراء، ومن ثم قال ابن كثير في بعض الأحاديث الواردة بأنه سمع هذا الأذان في السماء ليلة المعراج: هذا الحديث ليس كما زعم البيهقي أنه صحيح، بل هو منكر، تفرد به زياد بن المنذر أبو الجارود الذي تنسب إليه الفرقة الجارودية، وهو من المتهمين، وبهذا يعلم ما في الخصائص الصغرى:
خص صلى الله عليه وسلم بذكر اسمه في الأذان في عهد آدم وفي الملكوت الأعلى، والله أعلم.
أي وروي بسند واه: إن أول من أذن بالصلاة جبريل عليه الصلاة والسلام في سماء الدنيا، فسمعه عمر وبلال رضي الله تعالى عنهما، فسبق عمر بلالا، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ ثم جاء بلال، فقال له: سبقك بها عمر، وهذا لا دلالة فيه، لأنه يجوز أن يكون ذلك بعد رؤيا عبد الله.
وذكر أن عمر رضي الله تعالى عنه رآه من عشرين يوما وكتمه، ولما أخبر صلى الله عليه وسلم بذلك، قال له: ما منعك أن تخبرني؟ قال سبقني عبد الله بن زيد فاستحيت منه.
أقول: في هذا الكلام ما لا يخفى فليتأمل، إنما قال له «إنها رؤيا حق» لأنه يجوز أن يكون جاءه صلى الله عليه وسلم الوحي بذلك قبل أن يجيء إليه عبد الله بن زيد به، ومن ثم قال له حين أخبره بذلك على ما في بعض الروايات «قد سبقك بذلك الوحي» فالأذان إنما ثبت بالوحي لا بمجرد رؤيا عبد الله.
قال بعضهم في قوله وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً [المائدة: الآية 58] الآية، كان اليهود إذا نودي إلى الصلاة وقام المسلمون إليها يقولون: قاموا لا قاموا صلوا لا صلوا، على طريق الاستهزاء والسخرية.
وفيها دليل على مشروعية الأذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده هذا كلامه.
ورده أبو حيان بأن هذه جملة شرطية دلت على سبق المشروعية لا على إنشائها أي(2/134)
وذلك على تسليم أن يكون المدعوّ به للصلاة خصوص اللفظ الذي وجد في المنام، وصار بلال يؤذن بذلك للصلوات الخمس، وينادي في الناس لغير الصلوات الخمس، لأمر يحدث يطلب له حضور الناس كالكسوف والخسوف والاستسقاء «الصلاة جامعة» .
قيل «وكان بلال إذا أذن، قال: أشهد أن لا إله إلا الله حيّ على الصلاة، فقال له عمر على أثرها: أشهد أن محمدا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال: قل كما قال عمر» وهذا روي عن ابن عمر في حديث فيه راو ضعيف، ولولا التعبير بكان لأمكن حمل ذلك على أن بلالا أتى بذلك ناسيا في ذلك الوقت لما لقنه عبد الله بن زيد. ثم رأيت ابن حجر الهيتمي، قال: والحديث الصحيح الثابت في أول مشروعية الأذان يرد هذا كله، هذا كلامه.
قيل وزاد بلال في أذان الصبح بعد الحيعلات «الصلاة خير من النوم مرتين» فأقرها صلى الله عليه وسلم» أي لأن بلالا كان يدعو النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة، فيقول له الصلاة «فدعاه ذات غداة إلى الفجر، فقيل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نائم، فصرخ بأعلى صوته: الصلاة خير من النوم مرتين» أي اليقظة الحاصلة للصلاة خير من الراحة الحاصلة بالنوم.
أقول: وهذا يقال له التثويب، وذكر فقهاؤنا أنه صح أنه صلى الله عليه وسلم لقن ذلك لأبي محذورة أي قال له «فإن كانت صلاة الصبح، قلت الصلاة خير من النوم» ولا منافاة لأن تعليم أبي محذورة للأذان كان عند منصرفه. صلى الله عليه وسلم من حنين على ما سيأتي، وكذا ما ورد من أنه صلى الله عليه وسلم قال إن ذلك من السنة، لأنه يجوز أن يكون ذلك صدر منه بعد أن أقرّ بلالا عليه، نعم ذكر أنه لم ينقل أن ابن أم مكتوم كان يقوله، أي لقول بلال له في الأذان الأول، وهو يدل لمن قال إنه إذا قيل في الأذان الأول لا يقال في الثاني، لأن أذانه للصبح كان متأخرا عن أذان بلال في أكثر الأحوال، وهو محمل ما جاء في كثير من الأحاديث «إن بلالا يؤذن بليل فكلوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» ومن غير الأكثر محمل ما جاء «إن ابن أم مكتوم ينادي بليل وكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال، إن ابن أم مكتوم أعمى، فإذا أذن ابن أم مكتوم فكلوا، وإذا أذن بلال فأمسكوا ولا تأكلوا» والراجح أنه يقوله فيهما: لكن ربما يخالف ذلك ما في الموطأ أن المؤذن جاء عمر يؤذنه لصلاة الصبح فوجده نائما، فقال: الصلاة خير من النوم، فأمره عمر رضي الله عنه أن يجعلها في نداء الصبح» وفي الترمذي «أن بلالا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تثويب في شيء من الصلاة» أي من أذان الصلاة «إلا في صلاة الفجر» أي يقول الصلاة خير من النوم.
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سمع الأذان في مسجد، فأراد أن يصلي فيه، فسمع المؤذن يثوب في غير الصبح، فقال لرفيق له: اخرج بنا من عند(2/135)
هذا المبتدع، فإن هذه بدعة: أي سمع المؤذن يقول بين الأذان والإقامة على باب المسجد الصلاة، الصلاة وهذا هو المراد بالتثويب الذي سمعه ابن عمر كما قاله بعضهم.
وفي كلام بعضهم: من المحدثات أن المؤذن يجيء بين الأذان والإقامة إلى باب المسجد فيقول: حي على الصلاة. قيل وأول من أحدثه مؤذن معاوية رضي الله تعالى عنه فكان يأتيه بعد الأذان وقبل الإقامة يقول: حي على الصلاة، حي على الصلاة، وحي على الفلاح، حي على الفلاح يرحمك الله.
أما قول المؤذن بين الأذان والإقامة: الصلاة الصلاة فليس بدعة، لأن بلالا كان يقول ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم. وأما قوله «حي على الصلاة» فهذا لم يعهد في عصره صلى الله عليه وسلم.
ثم رأيت في «درر المباحث في أحكام البدع والحوادث» : اختلف الفقهاء في جواز دعاء الأمير إلى الصلاة بعد الأذان وقبل الإقامة؛ بأن يأتي المؤذن باب الأمير، فيقول: حي على الصلاة حي على الفلاح أيها الأمير، وفسر به التثويب. فاحتج من قال بجوازه: أي بسنتيه «أن بلالا كان إذا أذن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ثم يقول: حي على الصلاة حي على الفلاح، الصلاة يرحمك الله» أي كما كان يفعل مؤذن معاوية رضي الله تعالى عنه، فليس من المحدثات.
وفي الحديث المشهور «أنه في مرضه صلى الله عليه وسلم أتاه بلال، فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، الصلاة يرحمك الله، فقال صلى الله عليه وسلم له: مر أبا بكر فليصلّ بالناس» . واحتج من قال بالمنع، بأن عمر رضي الله تعالى عنه لما قدم مكة أتاه أبو محذورة فقال: الصلاة يا أمير المؤمنين، حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، فقال:
ويحك أمجنون أنت؟ أما كان في دعائك الذي دعوته ما يكفيك حتى تأتينا؟ ولو كان هذا سنة لم ينكر عليه، أي وكون عمر رضي الله تعالى عنه لم يبلغه فعل بلال من البعيد.
وعن أبي يوسف: لا أرى بأسا أن يقول المؤذن: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته، حي على الصلاة، حي على الفلاح، الصلاة يرحمك الله، لاشتغال الأمراء بمصالح المسلمين، أي ولهذا كان مؤذن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه يفعله.
وذكر بعضهم أن في دولة بني بويه كانت الرافضة تقول بعد الحيعلتين: حيّ على خير العمل، فلما كانت دولة السلجوقية منعوا المؤذّنين من ذلك، وأمروا أن يقولوا في أذان الصبح بدل ذلك: الصلاة خير من النوم مرتين، وذلك في سنة ثمان وأربعين وأربعمائة.(2/136)
ونقل عن ابن عمرو عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما أنهما كانا يقولان في أذانيهما بعد حي على الفلاح: حي على خير العمل.
ورد الترجيع في خبر أذان أبي محذورة أيضا، وهو أن يخفض صوته بالشهادتين قبل رفعه بهما. ففي مسلم عن أبي محذورة أنه قال «قلت: يا رسول الله علمني سنة الأذان قال: فمسح مقدّم رأسي وقال: تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله تخفض بها صوتك، ثم ترفع صوتك بالشهادة: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله» وكان أبو محذورة يشفع الإقامة كالأذان: أي يكرر ألفاظها فيقول «الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حيّ على الصلاة حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله» لقنه صلى الله عليه وسلم ذلك وهي الرواية الثانية التي تقدمت عن عبد الله بن زيد رضي الله تعالى عنه.
وذكر الإمام أبو العباس بن تيمية رحمه الله أن النقل ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أبا محذورة الأذان فيه الترجيع والإقامة مثناة كالأذان، وأن بلالا كان يشفع الأذان ويوتر الإقامة، أي ولا يرجع الأذان.
ففي الصحيحين «أمر بلال أن يشفع الأذان» أي ومن شفع الأذان التكبير أوله أربعا، ولم يصح عنه صلى الله عليه وسلم الاقتصار فيه على مرتين وإن كان هو عمل أهل المدينة كما سيأتي، نعم يرد على شفع الأذان التهليل آخره فإنه مفرد، فالأولى أن يقال يشفع معظم الأذان، ويوتر الإقامة إلا الإقامة: أي لفظها، أي وهي «قد قامت الصلاة» فإنه يكررها مرتين يقول «قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة» ولم يصح عنه صلى الله عليه وسلم إفرادها البتة أي وإن كان هو عمل أهل المدينة كما سيأتي، وصح عنه تكرير لفظ التكبير مرتين أولا وآخرا؛ وحينئذ يكون المراد بإفراد الإقامة إفراد معظمها، فكان يقول في الإقامة «الله أكبر، الله أكبر؛ أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله» ولم يكن في أذانه ترجيع: أي وهو الإتيان بالشهادتين مرتين سرا، ثم يأتي بهما جهرا: أي كما تقدم، قال: فنقل إفراد الإقامة صحيح بلا ريب، وتثنيتها صحيح بلا ريب.
أي وكل روى عن عبد الله بن زيد كما علمت، قال: أي ابن تيمية وأحمد وغيره: أخذوا بأذان بلال وإقامته، أي فلم يستحبوا الترجيع في الأذان، واستحبوا إفراد الإقامة إلا لفظها.(2/137)
والشافعي رضي الله تعالى عنه أخذ بأذان أبي محذورة وإقامة بلال، فاستحب الترجيع في الأذان والإفراد في الإقامة إلا لفظها.
وأبو حنيفة رحمه الله أخذ بأذان بلال وإقامة أبي محذورة، أي فلم يستحب الترجيع، واستحب تثنية ألفاظ الإقامة.
قال في الهدى: وأخذ مالك بما عليه عمل أهل المدينة من الاقتصار في التكبير على مرتين في الأذان وعلى كلمة الإقامة مرة واحدة؛ أي ولعل هذا بحسب ما كان في المدينة، وإلا ففي أبي داود «ولم يزل ولد أبي محذورة وهم الذين يلون الأذان بمكة يفردون الإقامة» أي معظم ألفاظها «ويحكونه عن جدهم» غير أن التثنية عنه أكثر؛ فيحتمل أن إتيان أبي محذورة بالإقامة فرادى، واستمراره وولده بعده على ذلك كان بأمر منه صلى الله عليه وسلم له بذلك بعد أمره أولا له بتثنيتها، أي فيكون آخر أمره الإفراد. وقد قيل لأحمد رضي الله تعالى عنه- وقد كان يأخذ بأذان بلال أي كما تقدم: أليس أذان أبي محذورة بعد أذان بلال، أي لأن النبي صلى الله عليه وسلم علمه له عند منصرفه من حنين على ما سيأتي، وهو الذي رواه إمامنا الشافعي رضي الله عنه عن أبي محذورة أنه قال «خرجت في نفر وكنا ببعض طريق حنين، فقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين، فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الطريق، فأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة، فسمعنا صوت المؤذن ونحن متنكبون» أي عن الطريق «فصرنا نحكيه ونستهزىء به، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إلينا إلى أن وقفنا بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع؟ فأشار القوم كلهم إليّ فحبسني» أي أبقاني عنده «وأرسلهم وقال: قم فأذن، فقمت ولا شيء أكره إليّ من النبي صلى الله عليه وسلم ولا مما يأمرني به، فقمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألقى عليّ التأذين هو بنفسه صلى الله عليه وسلم» الحديث «ثم دعاني حين قضيت التأذين فأعطاني صرة فيها شيء من فضة، ثم وضع يده على ناصيتي ومر بها على وجهي، ثم بين يدي، ثم على كبدي حتى بلغت يده سرتي، ثم قال: بارك الله فيك، وبارك عليك، فقلت: يا رسول الله مرني بالتأذين بمكة، فقال صلى الله عليه وسلم: قد أمرتك به» وذهب كل شيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهته وعاد ذلك كله محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدمت على عتاب بن أسيد رضي الله تعالى عنه عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على مكة فأذنت بالصلاة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل علمه صلى الله عليه وسلم ذلك يوم فتح مكة لما أذن بلال رضي الله تعالى عنه للظهر على ظهر الكعبة، وصار فتية من قريش يستهزئون ببلال ويحكون صوته، وكان من جملتهم أبو محذورة، فأعجبه صلى الله عليه وسلم صوته فدعاه وعلمه الأذان، وأمره أن يؤذن لأهل مكة فليتأمل الجمع، وإنما يؤخذ بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي بالمتأخر عنه، لأن المتأخر ينسخ المتقدم، فقال: أليس لما عاد إلى المدينة أقر بلالا على أذانه؟.(2/138)
قال أبو داود: وتثنية الأذان وإفراد الإقامة مذهب أكثر علماء الأمصار، وجرى به العمل في الحرمين والحجاز وبلاد الشام واليمن وديار مصر ونواحي المغرب، أي إلا مصر في المساجد التي تغلب صلاة الأروام بها فإن الإقامة تثنى كالأذان فيها.
وقد ذكر أن أبا يوسف رحمه الله ناظر إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه في المدينة بين يدي مالك رضي الله تعالى عنه والرشيد، فأمر الشافعي بإحضار أولاد بلال وأولاد سائر مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهم: كيف تلقيتم الأذان والإقامة عن آبائكم؟ فقالوا: الأذان مثنى مثنى والإقامة فرادى، هكذا تلقيناه من آبائنا، وآباؤنا عن أسلافنا إلى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وجاء «أنه صلى الله عليه وسلم سمع بلالا يقيم الصلاة، فلما قال:
قد قامت الصلاة، قال صلى الله عليه وسلم أقامها الله وأدامها» وفي البخاري «من قال حين يسمع النداء: أي الأذان، اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته وجبت له شفاعتي يوم القيامة» .
قال بعضهم: كان المؤذنون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنين بلالا وابن أم مكتوم، فلما كان زمن عثمان رضي الله تعالى عنه جعلهم أربعا وزاد الناس بعده.
ولما مات صلى الله عليه وسلم ترك بلالا الأذان ولحق بالشام، فمكث زمانا، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال له: يا بلال جفوتنا وخرجت من جوارنا فاقصد إلى زيارتنا. وفي لفظ أنه قال له: ما هذه الجفوة يا بلال؟ ما آن لك أن تزورنا فانتبه بلال رضي الله تعالى عنه فقصد المدينة، فلما انتهى إلى المدينة تلقاه الناس، أي وأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وجعل يبكي عنده ويتمرغ عليه، وأقبل على الحسن والحسين يقبلهما ويضمهما، وألحوا عليه أن يؤذن، فلما صعد ليؤذن اجتمع أهل المدينة رجالهم ونساؤهم، وخرجت العذارى من خدورهن ليستمعوا أذانه رضي الله تعالى عنه، فلما قال: الله أكبر ارتجت المدينة وصاحوا وبكوا؛ فلما قال: أشهد أن لا إله إلا الله ضجوا جميعا، فلما قال:
أشهد أن محمدا رسول الله لم يبق ذو روح إلا بكى وصاح، وكان ذلك اليوم كيوم موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم انصرف إلى الشام وكان يرجع إلى المدينة في كل سنة مرة فينادي بالأذان إلى أن مات رضي الله تعالى عنه.
أقول: في كلام بعضهم كان سعد القرظ رضي الله تعالى عنه مؤذنه صلى الله عليه وسلم بقباء، فلما لحق بلال بالشام أيام عمر رضي الله تعالى عنه أمر سعد القرظ أن يؤذن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي فإن بلالا لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال: يا خليفة رسول الله، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «أفضل أعمال المؤمن الجهاد في سبيل الله» وقد أردت أن أرابط في سبيل الله حتى أموت، فقال له أبو بكر رضي الله تعالى عنه: أنشدك الله يا بلال وحرمتي وحقي عليك أن لا تفارقني، فأقام بلال حتى توفي أبو بكر رضي الله تعالى عنه وهو يؤذن. ثم جاء إلى(2/139)
عمر فقال له كما قال لأبي بكر وردّ عليه رضي الله عنه كما رد عليه أبو بكر، فأبى وخرج إلى الشام مجاهدا.
وفي «أنس الجليل» : لما فتح أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه بيت المقدس حضرت الصلاة، فقال: يا بلال أذن لنا يرحمك الله، قال بلال: يا أمير المؤمنين والله ما أردت أن أؤذن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد ولكن سأطيعك إذ أمرتني في هذه الصلاة وحدها، فلما أذن بلال وسمعت الصحابة رضي الله تعالى عنهم صوته ذكروا النبي صلى الله عليه وسلم فبكوا بكاء شديدا، ولم يكن من الصحابة يومئذ أطول بكاء من أبي عبيدة ومعاذ بن جبل، حتى قال لهما عمر رضي الله تعالى عنه:
حسبكما رحمكما الله تعالى، فلم يؤذن بلال بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة لما أمره عمر بالأذان؛ هذا ما في أنس الجليل، أي فالمراد بالمرة هذه المرة التي كانت ببيت المقدس.
وفيه أن هذا يخالف ما تقدم مما ظاهره أنه استمر يؤذن مدة خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وما تقدم من إلحاح الحسن والحسين عليه في أن يؤذن عند مجيئه للمدينة.
إلا أن يقال: المراد لم يؤذن خارج المدينة فلا يخالف ما سبق من أذانه بعد إلحاح الحسن والحسين، ولعل ما سبق كان بعد فتح بيت المقدس، بل وبعد موت الخلفاء الأربعة.
ثم رأيت الزين العراقي قال: لم يؤذن بلال بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لأحد من الخلفاء، إلا أن عمر لما قدم الشام حين فتحها أذن بلال، هذا كلامه فليتأمل مع ما سبق.
وفي الكتاب المذكور: روي عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه «أن رجلا قال: يا رسول الله أي الخلق أول دخولا الجنة، قال: الأنبياء، قال: ثم من؟
قال الشهداء، قال: ثم من؟ قال مؤذنو بيت المقدس، قال: ثم من؟ قال مؤذنو بيت الحرام قال: ثم من؟ قال مؤذنو مسجدي، قال: ثم من؟ قال سائر المؤذنين» .
ثم رأيت في نسخة من شرح المنهاج للدميري عن جابر تقديم مؤذني المسجد الحرام على مؤذني بيت المقدس. ورأيت في بعض الروايات ما يوافقه، وهي «أول من يدخل الجنة بعدي أبو بكر ثم الفقراء، ثم مؤذنو المسجد الحرام، ثم مؤذنو بيت المقدس، ثم مؤذنو مسجدي، ثم سائرهم على قدر أعمالهم» .
وفي «البدور السافرة» عن جابر رضي الله تعالى عنه «أن رجلا قال: يا رسول الله أي الخلق أول دخولا الجنة يوم القيامة؟ قال: الأنبياء، قال: ثم من؟ قال الشهداء،(2/140)
قال ثم من؟ قال: مؤذنو الكعبة، قال: ثم من؟ قال: مؤذنو بيت المقدس، قال: ثم من؟ قال: مؤذنو مسجدي هذا، قال: ثم من؟ قال: سائر المؤذنين على قدر أعمالهم» .
وفيها عن جابر أيضا «أول من يكسى من حلل الجنة إبراهيم، ثم محمد صلى الله عليه وسلم، ثم النبيون والرسل، ثم يكسى المؤذنون» .
وجاء «إن الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا: يا رسول الله لقد تركتنا نتنافس في الأذان بعدك، فقال: إما إنه يكون قوم بعدكم سفلتهم مؤذنوهم» قيل وهذه الزيادة منكرة وقال الدارقطني: ليست محفوظة.
وجاء «إذا أخذ المؤذن في أذانه وضع الرب جل وعز يده فوق رأسه، ولا يزال كذلك حتى يفرغ من أذانه، وإنه ليغفر له مدّ صوته، فإذا فرغ قال الرب: صدقت عبدي؛ وشهدت شهادة الحق، فأبشر» والله أعلم.
قال: وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رجل من اليهود أي من التجار وعن السدي: من النصارى بالمدينة سمع المؤذن يقول: أشهد أن محمدا رسول الله، قال: خزى الله الكاذب. وفي رواية: أحرق الله الكاذب، فدخلت خادمه بنار وهو نائم وأوله نيام فسقطت شرارة فأحرقت البيت واحترق هو وأهله انتهى.
أي وفي بعض الأسفار «حضر وقت الصلاة: أي صلاة الصبح فطلبوا بلالا يؤذن فلم يوجد أي لتأخره في السير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذن زياد بن الحارث الصدائي أي بأمره صلى الله عليه وسلم، فقال له أذن يا أخا صداء» وصداء حي من اليمن.
وعنه رضي الله تعالى عنه «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمرني على قومي، فقال: لا خير في الإمرة لرجل مؤمن، فقلت: حسبي، ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم مسيرا فسرت معه، فانقطع عنه أصحابه وأضاء الفجر، فقال لي: أذن يا أخا صداء، فأذنت، ثم لما حضرت الصلاة أراد بلالا أن يقيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا، إنما يقيم من أذن» واختلف هل أذن صلى الله عليه وسلم بنفسه؟ فقيل نعم أذن مرة، واستدل على ذلك بأنه جاء في بعض الأحاديث، أي وقد صح «أنه صلى الله عليه وسلم أذن في السفر وصلى وهم على رواحلهم، فتقدم على راحلته صلى الله عليه وسلم فصلى بهم يومىء إيماء يجعل السجود أخفض من الركوع» وقيل ما أذن، وإنما أمر بلالا بالأذان كما في بعض طرق ذلك الحديث.
ففي الهدى «وصلى بهم الفرض على الرواحل لأجل المطر والطين» وقد روى أحمد والترمذي «أنه صلى الله عليه وسلم انتهى إلى مضيق هو وأصحابه، والسماء من فوقهم، والمسيل من أسفل منهم فحضرت الصلاة، فأمر المؤذن فأذن وأقام، ثم تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم» الحديث والمفصل يقضي على المجمل.(2/141)
وفي رواية «أذن اختصارا» : أي أمر بالأذان، أي وهذا المجمل الذي تشير إليه هو «فأذن صلى الله عليه وسلم على راحلته وأقام» : أي ويروى «أن بلالا كان يبدل الشين في أشهد سينا، فقال صلى الله عليه وسلم: سين بلال عند الله شين» قال ابن كثير: لا أصل لرواية سين بلال شين في الجنة، ولا يلزم من كون هذه الرواية لا أصل لها أن تكون تلك الرواية كذلك.
وكان بلال وابن أم مكتوم يتناوبان في أذاني الصبح، فكان أحدهما يؤذن بعد مضي نصف الليل الأول والليل باق، والثاني يؤذن بعد طلوع الفجر» وروى الشيخان «إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» أي وفي مسلم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يمنعن أحدا منكم أذان بلال أو قال نداء بلال من سحوره فإنه يؤذن، أو قال ينادي ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم، إنما يؤذن بليل بعد نصفه الأول، فيرجع القائم المتهجد إلى راحلته لينام غفوة ليصبح نشيطا ويستيقظ النائم ليتأهب للصبح» .
قال في الهدى: وانقلب على بعض الرواة، فقال إن ابن أم مكتوم ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي بلال. أي وقد علمت أنه لا قلب وأنهما كانا يناديان، فكان بلال تارة يؤذن بليل وابن أم مكتوم عند الفجر الثاني، وتارة يكون ابن أم مكتوم بالعكس، فوقع كل من الأحاديث باعتبار ما هو موجود عند النطق، ولم يكن بين أذانيهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا: أي أن ينزل المؤذن الأول من أذانه ويرقى المؤذن الثاني كما ذكر، فمن كان يؤذن أولا يتربص بعد أذانه لنحو الدعاء ثم يرقب الفجر، فإذا قارب طلوعه نزل فأخبر صاحبه فيرقى ويؤذن مع الفجر أو عقبه من غير فاصل، وهذا هو المراد مما قيل «إن ابن أم مكتوم كان لا يؤذن حتى يقال له أصبحت أصبحت» .
وعن ابن عمر كان ابن أم مكتوم يتوخى الفجر فلا يخطئه. وفي أبي داود عن ابن عمر «أن بلالا أذن قبل طلوع الفجر، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يرجع فينادي: ألا إن العبد نام، فرجع فنادى: ألا إن العبد نام، ألا إن العبد نام» أي غفل عن الوقت، أو رجع لينام لبقاء الليل، ولعل هذا كان قبل أن يتخذ ابن أم مكتوم مؤذنا ثانيا أو كان أذان بلال في هذه المرة بعد أذان ابن أم مكتوم على ما تقدم، فلا مخالفة.
والثابت في الجمعة أذان واحد كان يفعل بين يديه صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر وجلس عليه، كذا قال فقهاؤنا، مستدلين على ذلك بحديث البخاري عن السائب بن يزيد قال «كان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام على المنبر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما» وليس فيه أن ذلك الأذان كان بين يديه ولما كثر المسلمون أمر عثمان رضي الله تعالى عنه، أي وقيل عمر، وقيل معاوية بأن يؤذن قبله على المنارة.(2/142)
وعبارة بعضهم: وفي السنة الرابعة والعشرين زاد عثمان النداء على الزوراء يوم الجمعة ليسمع الناس فيأتوا إلى المسجد؛ وأول من أحدثه بمكة الحجاج، والتذكير قبل الأذان الأول الذي هو التسبيح أحدث بعد السبعمائة في زمن الناصر محمد بن قلاوون.
وأول ما أحدثت الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم: أي على الكيفية المعهودة الآن بعد تمام الأذان على المنارة، أي في غير المغرب في زمن السلطان المنصور حاجي بن الأشرف شعبان بن حسن بن محمد بن قلاوون بأمر المحتسب نجم الدين الطنبدي في أواخر القرن الثامن، واستمر ذلك إلى الآن، لكن في غير أذان الصبح الثاني وغير أذان الجمعة أول الوقت، أما أذان الصبح الثاني وأذان الجمعة المذكور، فتقدم الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم على الأذان فيهما، وكان أحدث ذلك في زمان صلاح الدين بن أيوب، ولعل الحكمة في ذلك، أما في الأول فلاستيقاظ النائم، وأما في الثاني فلأجل حصول التكبير المطلوب في الجمعة.
ولا يخفى أن من السنة مطلق الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم بعد فراغ الأذان ففي مسلم «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا عليّ» وقيس بذلك الإقامة، فالأذان والإقامة من المواطن التي يستحب فيها الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4) [الشّرح: الآية 4] فقد قيل في معناه: لا أذكر إلا وتذكر معي، لكن بعد فراغهما لا عند الابتداء بهما كما يقع لبعض الأروام أن يقول المقيم للصلاة عند ابتداء الإقامة اللهم صل على سيدنا محمد الله أكبر الله أكبر فإن ذلك بدعة.
ومن البدع التطريب في الأذان والتلحين فيه. وفي كلام إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه: ويكون الأذان مرسلا بغير تمطيط ولا تغن. قيل التمطيط التفريط في المد والتغني أن يرفع صوته حتى يجاوز المقدار.
ومن البدع رفع المؤذنين أصواتها بتبليغ التكبير لمن بعد عن الإمام من المقتدين. قال بعضهم: ولا بأس به لما فيه من النفع، أي حيث لم يبلغهم صوت الإمام بخلاف ما إذا بلغهم.
ففي كلام بعضهم: التبليغ بدعة منكرة باتفاق الأئمة الأربعة حيث بلغ المأمومين صوت الإمام، ومعنى منكرة أنها مكروهة.
وأول ما أحدث التسبيح بالأسحار في زمن موسى عليه الصلاة والسلام حين كان بالتيه، واستمر إلى أن بنى داود عليه الصلاة والسلام بيت المقدس، فرتب فيه جماعة يقومون به على الآلات إلى ثلث الليل الأخير، ثم بعد ثلث الليل الأخير يقومون به على الآلات عند الفجر.(2/143)
وأول حدوثه في ملتنا كان بمصر، أمر به أميرها من قبل معاوية مسلمة بن مخلد الصحابي رضي الله تعالى عنهما، فإنه لما اعتكف بجامع عمرو سمع أصوات النواقيس عالية، فشكا ذلك إلى شرحبيل بن عامر عريف المؤذنين بجامع عمرو، ففعل ذلك من نصف الليل إلى قريب الفجر. ومسلمة هذا تولى مصر من معاوية بعد عتبة بن أبي سفيان أخي معاوية رضي الله تعالى عنهما، وعتبة تولاها حين مات أميرها عمرو بن العاص، وهذا مما يدل على أن عمرو بن العاص مدفون بمصر، وكان عتبة خطيبا فصيحا.
قال الأصمعي: الخطباء من بني أمية: عتبة بن أبي سفيان، وعبد الملك بن مروان. خطب عتبة يوما أهل مصر فقال: يا أهل مصر خف على ألسنتكم مدح الحق ولا تأتونه، وذم الباطل وأنتم تفعلونه كالحمار يحمل أسفارا، يثقله حملها ولا ينفعه علمها، وإني لا أداوي داءكم إلا بالسيف، ولا أبلغ السيف ما كفاني السوط، ولا أبلغ السوط ما صلحتم على الدرة، فألزموا ما ألزمكم الله لنا تستوجبوا ما فرض الله لكم علينا، وهذا يوم ليس فيه عتاب ولا بعده عتاب.
ومما يؤثر عنه: ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم. وقال لبنيه يوما: تلقوا النعم بحسن مجاورتها، والتمسوا المزيد منها بالشكر عليها.
ومسلمة أول من جعل بنيان المنابر التي هي محل التأذين في المساجد، فلما ولي أحمد بن طولون رتب جماعة يكبرون ويسبحون ويحمدون، فلما ولي صلاح الدين يوسف بن أيوب وحمل الناس على اعتقاد مذهب الأشعري والخروج عما كان يعتقد الفواطم أمر المؤذنين أن يعلنوا وقت التسبيح بذكر العقيدة المرشدة، وقد وقفت عليها فإذا هي ثلاث ورقات، ولم أقف على اسم مؤلفها، فواظبوا على ذكرها في كل ليلة.
قيل في سبب نزول قوله تعالى قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النّساء: الآية 78] أن اليهود قالوا في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم: منذ دخل المدينة نقصت ثمارها، وغلت أسعارها، فرد الله تعالى عليهم بقوله قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النّساء: الآية 78] أي يبسط الأرزاق ويقبضها، وعند ظهور الإسلام وقوته في المدينة قامت نفوس أحبار اليهود ونصبوا العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل قوله تعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران: الآية 118] وقال في موضع آخر إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ [آل عمران: الآية 120] .
وعن صفية أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها بنت حيي قالت: كنت أحب ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر، وكانا من أكبر اليهود وأعظمهم، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة غدوا إليه ثم جاآ من العشي، فسمعت عمي يقول لأبي؛ أهو هو؟ قال: نعم(2/144)
والله، قال: أتعرفه وتثبته؟ قال نعم، قال: فما في نفسك منه؟ قال: عدواته والله ما بقيت؛ قال: وفي رواية أنها قالت: إن عمي أبا ياسر حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ذهب إليه وسمع منه صلى الله عليه وسلم وحادثه، ثم رجع إلى قومه فقال: يا قوم أطيعوني، فإن الله قد جاءكم بالذي كنتم تنتظرونه فاتبعوه ولا تخالفوه، ثم انطلق أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم رجع إلى قومه فقال لهم: أتيت من عند رجل والله لا أزال له عدوا. فقال له أخوه أبو ياسر: يا ابن أم أطعني في هذا الأمر واعصني فيما شئت بعد لا تهلك، فقال: والله لا نطيعك اهـ، أي ثم وافق أخاه حييا فكانا أشد اليهود عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم جاهدين في رد الناس من الإسلام بما استطاعا، فأنزل الله تعالى فيهما وفيمن كان موافقا لهما في ذلك وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة: الآية 109] .
وحيي بن أخطب هذا، قيل هو الذي قال لما نزل قوله تعالى مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [البقرة: الآية 245] : يستقرضنا ربنا؛ وإنما يستقرض الفقير الغني، فأنزل الله تعالى لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [آل عمران: الآية 181] .
أي وقيل في سبب نزولها إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه دخل بيت المدارس، فقال لفنحاص: اتق الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله، فقال: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر وإنه إلينا لفقير، فغضب أبو بكر وضرب وجه فنحاص ضربا شديدا وقال: والله لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك، فشكاه فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر له أبو بكر ما كان منه، فأنكر قوله ذلك؛ فنزلت الآية.
وقيل في سبب نزولها أيضا «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل أبا بكر رضي الله تعالى عنه إلى فنحاص بن عازوراء بكتاب، وكان انفرد بالعلم والسيادة على يهود بني قينقاع بعد إسلام عبد الله بن سلام، يأمرهم في ذلك الكتاب بالإسلام وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وأن يقرضوا الله قرضا حسنا، فلما قرأ فنحاص الكتاب قال: أقد احتاج ربكم؟ سنمده» . وفي رواية «قال: يا أبا بكر تزعم أن ربنا يستقرضنا أموالنا وما يستقرض إلا الفقير من الغني، فإن كان حقا ما تقول، فإن الله جل وعلا إذا لفقير ونحن أغنياء، فضرب أبو بكر وجه فنحاص ضربا شديدا وقال: لقد هممت أن أضربه بالسيف وما منعني أن أضربه بالسيف إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دفع إليّ الكتاب قال لي: لا تفتت عليّ بشيء حتى ترجع إليّ، فجاء فنحاص إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشكا أبا بكر رضي الله تعالى عنه، فقال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: ما حملك على ما صنعت؟
قال: يا رسول الله إنه قال قولا عظيما، زعم أن الله عز وجل فقير وأنهم أغنياء،(2/145)
فغضبت لله تعالى، وقال فنحاص: والله ما قلت هذا، فنزلت الآية تصديقا لأبي بكر رضي الله تعالى عنه» .
وقد قال بعض اليهود لبعض العلماء إنما قلنا إن الله فقير ونحن أغنياء لأنه استقرض أموالنا، فقال له: إن كان استقرضها لنفسه فهو فقير، وإن كان استقرضها لفقرائكم ثم يكافىء عليها فهو الغني الحميد.
ومن شدة عداوتهم: أي اليهود أن لبيد بن الأعصم اليهودي سحر النبي صلى الله عليه وسلم في مشط أي له صلى الله عليه وسلم وقيل في أسنان من مشطه صلى الله عليه وسلم ومشاطة: وهي ما يخرج من الشعر إذا مشط: أي من شعر رأسه صلى الله عليه وسلم، أعطاها لهم غلام يهودي كان يخدمه صلى الله عليه وسلم، وجعل مثالا من شمع. وقيل من عجين كمثال رسول الله صلى الله عليه وسلم وغرز فيه إبرا وجعل معه وترا عقد فيه إحدى عشرة عقدة.
وفي لفظ أن الإبر كانت في العقد، ودفن ذلك تحت راعونة في بئر ذي أروان. وقد مسخ الله ماءها حتى صار كنقاعة الحناء،. فكان يخيل إليه صلى الله عليه وسلم أنه يفعل الفعل ولا يفعله: أي ومكث في ذلك سنة، وقيل سنة أشهر، وقيل أربعين يوما.
قال بعضهم: ويمكن أن تكون السنة أو الستة أشهر من ابتداء تغير مزاجه الشريف، وأن مدة اشتداده كانت في الأربعين، وقيل اشتد عليه ثلاثة أيام. وقد يقال هي أشدّ الأربعين، فلا منافاة. وعند ذلك نزل جبريل عليه الصلاة والسلام وقال له «إن رجلا من اليهود سحرك وعقد لك عقدا ودفنها بمحل كذا فأرسل صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله تعالى عنه فاستخرجها فجاء بها، فجعل كلما حل عقدة وجد صلى الله عليه وسلم بذلك خفة حتى قام كأنما نشط من عقال» وفي رواية: أن اليهودي دفن ذلك بقبر، فأنزل الله تعالى سورة الفلق وسورة الناس وهما إحدى عشرة آية، سورة الفلق خمس آيات، وسورة الناس ست آيات، كلما قرأ آية انحلت عقدة حتى انحلت العقد كلها. وفي لفظ: فإذا وتر في إحدى عشرة عقدة مغروزة بلإبر، فلم يقدروا على حل تلك العقد، فنزلت المعوذتان، فكلما قرأ جبريل آية انحلت عقدة، ووجد صلى الله عليه وسلم بعض الخفة حتى قام عند انحلال العقدة الأخيرة كأنما نشط من عقال، وجعل جبريل يقول: «بسم الله أرقيك، والله يشفيك من كل داء يؤذيك» أي ولعله كان يقول ذلك عند حل كل عقدة بعد قراءة الآية أي وكان ذلك بين الحديبية وخيبر.
وذكر بعضهم أنه بعد خيبر جاءت رؤساء يهود الذين بقوا في المدينة ممن يظهر الإسلام إلى لبيد بن الأعصم وكان أعلمهم بالسحر، فقالوا له: يا أبا الأعصم قد سحرنا محمدا، سحره منا الرجال فلم يصنع شيئا أي ولم يؤثر سحرهم، وأنت ترى أمره فينا وخلافه في ديننا ومن قتل وأجلى، ونجعل لك على سحره ثلاثة دنانير ففعل ذلك. ثم إنه صلى الله عليه وسلم قال «جاءني رجلان» أي وهما جبريل وميكائيل كما في بعض طرق(2/146)
الحديث «فقعد أحدهما عند رأسي والآخر تحت رجلي» فقال أحدهما: ما وجع الرجل؟ فقال الآخر: مطبوب، أي مسحور، فقال: من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: فيم؟ قال في مشط ومشاطة» وفي لفظ «ومشاقة» أي وهي المشاطة. وقيل هي مشاقة الكتان وجف بالجيم والفاء، وقيل بالباء الموحدة طلعة ذكر: أي غشاء طلع الذكر الذي يقال له كوز الطلع، قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذي ذروان» على وزن مروان. وفي لفظ «بئر ذي أروان» وفي لفظ «بئر ذروان» وعليه اقتصر في الإمتاع «تحت صخرة في الماء قال: فما دواء ذلك؟ قال: تنزح البئر ثم تقلب الصخرة فتوجد الكدية فيها تمثال فيه إحدى عشرة عقدة فتحرق: فإنه يبرأ بإذن الله تعالى، ثم أحضر صلى الله عليه وسلم لبيدا فاعترف فعفا عنه لما اعتذر له بأن الحامل له على ذلك حب الدنانير. وقيل له: يا رسول الله لو قتلته، فقال صلى الله عليه وسلم: قد عافاني الله، ما وراءه من عذاب الله تعالى أشد» .
ويحتاج إلى الجمع بين كون جبريل قال له سحرك إلى آخره، وكون جاءه رجلان قعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال أحدهما للآخر ما وجع الرجل إلى آخره قيل وهذا: أي عدم قتل الساحر ربما يعارض القول بأن الساحر يتحتم قتله. وفيه أنه عندنا لا يتحتم قتله، ولا يقتل إلا إذا قتل بسحره واعترف بأن سحره يقتل غالبا.
ولبيد هذا قيل إنه أول من قال بنفي صفات الباري، وقال بها الجهم بن صفوان وأظهرها، فقيل لأتباعه في ذلك الجهمية.
«فعند ذلك بعث صلى الله عليه وسلم عليا وعمار بن ياسر إلى تلك البئر فاستخرجا ذلك» .
وقيل الذي استخرج السحر بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قيس بن محصن.
وفي الصحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها «أنه صلى الله عليه وسلم توجه إلى البئر مع جماعة من أصحابه، فإذا ماؤها كأنه خضب بالحناء، فاستخرجا» أي النبي صلى الله عليه وسلم وجماعته «منها ذلك» .
ويحتاج إلى الجمع بين كون صلى الله عليه وسلم أرسل لاستخراج السحر عليا كرم الله وجهه، وكونه بعث لاستخراجه عليا وعمار بن ياسر، وكونه أمر قيس بن محصن باستخراجه، وكونه صلى الله عليه وسلم ذهب هو وجماعته لاستخراجه، فإذا وتر فيه إحدى عشرة عقدة: أي وإذا فيها إبر مغروزة، ونزلت المعوذتان، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما قرأ آية انحلت عقدة حتى انحلت العقد، فذهب عنه صلى الله عليه وسلم ما كان يجد.
أي ولا ينافي ما تقدم أن القارىء لذلك جبريل عليه الصلاة والسلام، لجواز أن يكون كلاهما صار يقرأ الآية، أو أنه صلى الله عليه وسلم صار يقرأ بعد قراء جبريل.(2/147)
وفي الإمتاع عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت له «أفلا استخرجته؟
قال: لا، أما أنا فقد عافاني الله؛ وكرهت أن أثير على الناس شرا» ومراد عائشة بقولها أفلا استخرجته السحر: أي هلا استخرجت السحر من الجف والمشاطة حتى تنظر إليه، فقال أكره أن أثير على الناس شرا.
قال ابن بطال: أي كره أن يخرجه فيتعلم منه بعض الناس، فذلك هو الشر الذي كرهه صلى الله عليه وسلم: وذكر السهيلي أنه يجوز أنه يكون الشر غير هذا، وهو أنه لو أظهر للناس لربما قتله طائفة من المسلمين، ويغضب آخرون من عشيرته فيثور شر.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها «أنها قالت له صلى الله عليه وسلم: هلا تنشرت» ؟ أي استعملت النشرة قال بعضهم: وفيه دليل على عدم كراهة استعمال النشرة حيث لم ينكر عليها قولها. وكرهها جمع واستندوا لحديث في أبي داود مرفوعا «النشرة من عمل الشيطان» وحمل ذلك على النشرة التي تصحبها العزائم المشتملة على الأسماء التي لا تفهم «فأمر بها فطمت» أي تلك البئر، وحفروا بئرا أخرى، فأعانهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرها حيث طموا الأخرى التي سحر فيها، هذا كلامه، فليتأمل مع ما قبله.
وقيل إنما سحره بنات أعصم أخوات لبيد، ودخلت إحداهنّ على عائشة فسمعت عائشة تذكر ما أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من بصره ثم خرجت إلى أخواتها فأخبرتهن بذلك، فقالت إحداهن: إن يكن نبيا فسيخبر، وإن يكن غير ذلك فسوف يذهله هذا السحر حتى يذهب عقله، فدله الله تعالى عليه.
وقد يجمع بين كون الساحر له صلى الله عليه وسلم لبيدا وكون الساحر له أخوات لبيد بأن الساحر له أخوات لبيد، ونسب السحر إلى لبيد لأنه جاء أنه الذي ذهب به فأدخله تحت راعونة البئر: أي أو في القبر كما تقدم. ولا منافاة، لجواز أن يكون وضعه في القبر مدة ثم أخرجه منه ووضعه تحت تلك الراعونة أي وهي حجر يوضع على رأس البئر يقوم عليه المستقي، وقد يكون في أسفل البئر يجلس عليه الذي ينظف البئر، أي والثاني هو المراد بدليل ما سبق.
وفي النهر لأبي حيان: ونص القرآن والحديث أن السحر تخييل: أي لا يقلب الأعيان ولا شك في وجوده في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما في زماننا الآن فكل ما وقفنا عليه من كتبه فهو كذب وافتراء لا يترتب عليه شيء، فلا يصبح منه شيء ألبتة.
وطعنت المعتزلة وطوائف من أهل البدع في كونه صلى الله عليه وسلم سحر وقالوا: لا يجوز على الأنبياء أن يسحروا، ولو جاز أن يسحروا لجاز أن يجنوا وقد عصموا من الناس.(2/148)
وردّ بأن الحديث الدال على ذلك صحيح، والعصمة إنما وجبت لهم في عقولهم وأديانهم وأما أبدانهم فيبتلون فيها، والسحر إنما أثر في بعض جوارحه صلى الله عليه وسلم فقد تقدم عن عائشة رضي الله تعالى عنها من ذكرها ما أنكر صلى الله عليه وسلم من بصره لكن تقدم أنه صلى الله عليه وسلم صار يخيل له أنه يفعل الشيء ولا يفعله، وهذا متعلق بالعقل.
ثم رأيت أبا بكر العربي قال: لم يقل كل الرواة إنه اختلط عليه صلى الله عليه وسلم أمر، وإنما هذا اللفظ زيد في الحديث لا أصل له.
قال: ومثل هذه الأخبار من وضع الملحدين تلعبا واستجرارا إلى القول وإبطال معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والقدح فيها؛ وأنه لا فرق بين معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبين فعل السحرة، وأن جميعه من نوع واحد هذا كلامه.
وممن كان حريصا على رد الناس عن الإسلام أيضا شاس بن قيس، كان شديد الطعن على المسلمين، شديد الحسد لهم. مر يوما على الأنصار الأوس والخزرج وهم مجتمعون يتحدّثون، فغاظه ما رأى من ألفتهم بعد ما كان بينهم من العداوة، فقال: قد اجتمع بنو قيلة، والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار، فأمر فتى شابا من يهود، فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم؛ ثم اذكر يوم بعاث: أي أيوب الحرب الذي كان بينهم، وما كان فيه، وأنشدهم ما كانوا يتقاولون به من الأشعار ففعل، فتكلم القوم عند ذلك: أي قال أحد الحيين: قد قال شاعرنا كذا، وقال الآخر قد قال شاعرنا كذا، وتنازعوا وتواعدوا على المقاتلة: أي قالوا: تعالوا نرد الحرب جذعا كما كانت، فنادى هؤلاء يا للأوس، ونادى هؤلاء يا للخزرج، ثم خرجوا إليهم وقد أخذوا السلاح، واصطفوا للقتال، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين حتى جاءهم، فقال: «يا معشر المسلمين الله الله» أي اتقوا الله «أبدعوى الجاهلية» أي وهي يا للخزرج يا للأوس «وأنا بين أظهركم؟ بعد أن هداكم الله إلى الإسلام، وألفكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر؛ وألف به بينكم؟ فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فبكوا وعانق الرجال من الأوس الرجال من الخزرج، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى في شاس بن قيس يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً [آل عمران: الآية 99] الآية» .
وقد جاء في ذم هذه الكلمة التي هي دعوى الجاهلية، وهي: يا لفلان قوله صلى الله عليه وسلم «إذا رأيتم الرجل يتعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه، ولا تكنوا» أي قولوا له اعضض على ذكر أبيك ولا تكنوا عنه بالهن؛ فلا تقولوا على هن أبيك، بل قولوا على ذكر أبيك، تنكيلا له وزجرا عما أتى به: أي وقد كان أنزل الله تعالى فيهم(2/149)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [آل عمران: الآية 100] الآية، وقد قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم وهو بين الصفين رافعا بها صوته، فألقوا السلاح وفعلوا ما تقدم.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن يهود كانوا يستفتحون» أي يستنصرون «على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه» أي يقولون سيبعث نبي صفته كذا وكذا نقتلكم معه قتل عاد وإرم كما تقدم عند مبايعة العقبة، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء: يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك وكفر، وتخبرونا أنه مبعوث، وتصفونه لنا بصفته، فقال سلام» أي بالتشديد «ابن مشكم من عظماء يهود بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، ما هو الذي كنا نذكره لكم، فأنزل الله تعالى في ذلك قوله تعالى وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) [البقرة: الآية 89] » .
وقيل في سبب نزول قوله تعالى ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: الآية 91] أنه صلى الله عليه وسلم قال لمالك بن الصيف وكان رئيسا على اليهود: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين، فأنت الحبر السمين قد سمنت من مالك الذي تطعمك اليهود، فضحك القوم، فغضب والتفت إلى عمر رضي الله تعالى عنه، فقال: ما أنزل الله على بشر من شيء، فقالت له اليهود: ما هذا الذي بلغنا عنك؟ فقال:
إنه أغضبني فنزعوه من الرياسة وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف» أي لأن في قوله المذكور طعنا في التوراة.
وقيل «إن يهود المدينة من بني قريظة وبني النضير وغيرهم كانوا إذا قاتلوا من بينهم من مشركي العرب من أسد وغطفان وجهينة وعذرة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: اللهم إنا نستنصرك بحق النبي الأمي الذي وعدت أنك باعثه في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم» وفي لفظ «قالوا: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد نعته وصفته في التوراة فينصرون» وفي لفظ «يقولون: اللهم ابعث النبي الذي نجده في التوراة يعذبهم ويقتلهم» وفي لفظ «أن يهود خيبر كانت تقاتل غطفان، فكلما التقوا هزمت يهود، فدعت يوما: اللهم إنا نسألك بحق محمد النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم، فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فيهزموا غطفان وصار اليهود يسألونه صلى الله عليه وسلم عن أشياء ليلبسوا الحق بالباطل» أي ومن جملة ما سألوه صلى الله عليه وسلم عن الروح؛ فعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، قال «كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث المدينة يتوكأ على عسيب» أي جريدة من جريد النخل «إذ مر بنفر من اليهود، فقال بعضهم لبعض: لا تسألوه لئلا يسمعكم ما(2/150)
تكرهون» وفي رواية: «لئلا يستقبلكم بشيء تكرهونه» أي يجيبكم بما هو دليل عندكم على أنه النبي الأمي وأنتم تنكرون نبوّته «فقاموا إليه فقالوا: يا محمد» وفي رواية «يا أبا القاسم ما الروح؟» وفي رواية «أخبرنا عن الروح فسكت» قال ابن مسعود: فظننت أنه صلى الله عليه وسلم يوحى إليه، فقال وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ [الإسراء: الآية 85] أي التي يكون بها الحيوان حيا قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء: الآية 85] فقالوا: هكذا نجد في كتابنا أي التوراة» وقد تقدم الكلام على ذلك عند الكلام على فترة الوحي.
قال صاحب الإفصاح: إنه إنما سأل اليهود عن الروح تعجيزا وتغليطا؛ لأن الروح تطلق بالاشتراك على الروح للإنسان، وعلى القرآن، وعلى عيسى، وعلى جبريل، وعلى ملك آخر، وعلى صنف من الملائكة، فقصد اليهود أنه بأي شيء أجابهم به، قالوا: ليس هو، فجاءهم الجواب مجملا، فكان هذا الجواب لرد كيدهم، لأن كل واحد مما ذكر أمر من مأمورات الحق تعالى. ولما أنزل الله تعالى في حق اليهود وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: الآية 85] قالوا أوتينا علما كثيرا، أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا، فأنزل الله تعالى قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) [الكهف: الآية 109] وفي الكشاف «أنهم قالوا: نحن مخصوصون بهذا الخطاب أم أنت معنا فيه؟
فقال صلى الله عليه وسلم: نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلا قليلا، فقالوا: ما أعجب شأنك، ساعة تقول وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة: الآية 269] وساعة تقول هذا، فنزلت وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ [لقمان: الآية 27] هذا كلامه «وسألوه صلى الله عليه وسلم متى الساعة إن كنت نبيا» فأنزل الله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي [الأعراف: الآية 187] الآية» .
أي «وجاء يهوديان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألاه عن قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ [الإسراء: الآية 101] ، فقال صلى الله عليه وسلم لهما لا تشركوا بالله شيئا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسرقوا، ولا تسحروا، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا محصنة، وعليكم يا يهود خاصة أن لا تعتدوا في السبت، فقبلا يديه ورجليه صلى الله عليه وسلم وقالا: نشهد أنك نبيّ، قال: ما يمنعكما أن تسلما؟ فقالا: نخاف إن أسلمنا أن تقتلنا يهود» .
أي «وسألوه صلى الله عليه وسلم عن خلق السموات، أي في أيّ زمن، والأرض وما بينهما، أي مدة ما بينهما؟ فقال لهم: خلق الأرض في يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال وما فيها يوم الثلاثاء» أي، ولذلك يقول الناس إنه يوم ثقيل «وخلق البحر والماء والمدائن والعمران والخراب يوم الأربعاء، وخلق السموات يوم الخميس، وخلق الشمس والقمر والنجوم والملائكة يوم الجمعة، قالوا: ثم ماذا يا محمد؟ قال: ثم(2/151)
استوى على العرش، قالوا: قد أصبت لو تممت ثم استراح» أي لو قلت هذا اللفظ، لأنهم يقولون إنه استراح جل وعز يوم السبت، ومن ثم يسمونه يوم الراحة، فأنزل الله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38) [ق: الآية 38] أي تعب فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ [طه: الآية 130] .
وفي رواية «خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء، وخلق الأنهار والأشجار يوم الأربعاء، وخلق الطير والوحش والسباع والهوام والآفة يوم الخميس، وخلق الإنسان يوم الجمعة، وفرغ من الخلق يوم السبت» .
وهذا يشكل على ما تقدم أن مبدأ الخلق يوم السبت حتى يكون آخر الأسبوع يوم الجمعة، وهو الراجح على ما تقدم.
وقد قيل في سبب نزول قوله تعالى شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ [آل عمران: الآية 18] إلى قوله إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران:
الآية 19] أن حبرين من أراضي الشام لم يعلما ببعثته صلى الله عليه وسلم، فقدما المدينة، فقال أحدهما للآخر: ما أشبه هذه بمدينة النبي الخارج في آخر الزمان، فأخبرا بمهاجرة النبي صلى الله عليه وسلم ووجوده في تلك المدينة، فلما رأياه قالا له: أنت محمد؟ قال: نعم، قالا: نسألك مسألة إن أخبرتنا بها آمنا، فقال صلى الله عليه وسلم: اسألاني، فقالا: أخبرنا عن أعظم الشهادة في كتاب الله تعالى، فنزلت هذه الآية، فتلاها صلى الله عليه وسلم عليهما فآمنا» .
قال: وعن قتادة رضي الله تعالى عنه «أن رهطا من اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد هذا الذي خلق الجن والإنس من خلقه» وفي لفظ «خلق الله الملائكة من نور الحجاب، وآدم من حمأ مسنون، وإبليس من لهب النار، والسماء من دخان، والأرض من زبد الماء، فأخبرنا عن ربك من أي شيء خلق؟ فغضب صلى الله عليه وسلم حتى انتقع لونه، فجاء جبريل عليه الصلاة والسلام، وقال له:
خفض عليك، فأنزل الله تعالى عليه قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) [الإخلاص: الآية 1] السورة» أي متوحد في صفات الجلال والكمال، منزه عن الجسمية، واجب الوجود لذاته:
أي اقتضت ذاته وجوده، مستغن عن غيره، وكل ما عداه محتاج إليه اهـ.
أقول: ونزول جبريل بذلك ربما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم توقف ولم يدر ما يقول كما وقع له لما سأله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن سلّام رضي الله تعالى عنه، وقال له صف ربك كما سيأتي.
ثم رأيت عن الشيخين وغيرهما أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ذكر في سبب نزول هذه السورة غير ما ذكر، ولعله ما سيأتي في قصة إسلام عبد الله بن سلام، ولا مانع من تكرر النزول لأسباب مختلفة.
ثم رأيته في الإتقان ذكر أن سورة الإخلاص تكرر نزولها، فنزلت جوابا(2/152)
للمشركين بمكة وجوابا لأهل الكتاب بالمدينة، وقال قبل ذلك إنها إنما نزلت بالمدينة.
وفي دعوى تكرر نزولها يقال: حيث سئل أولا ونزلت جوابا كيف يتوقف ثانيا عند السؤال الثاني حتى يحتاج إلى نزولها مع بعد نسيان ذلك له صلى الله عليه وسلم.
ثم رأيت عن البرهان: قد ينزل الشيء مرتين، تعظيما لشأنه وتذكيرا عند حدوث سببه خوف نسيانه، وهو كما ترى لا يدفع التوقف. وكان من أعلم أحبار يهود عبد الله بن سلام بالتخفيف: وكان قبل أن يسلم اسمه الحصين، فلما أسلم سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله وكان من ولد يوسف الصديق: أي وقد أثنى الله تعالى عليه في قوله تعالى وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ [الأحقاف:
الآية 10] وكان من يهود بني قينقاع كما تقدم. جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسمع كلامه، أي في أول يوم دخل فيه رسول الله دار أبي أيوب أي ولعل الذي سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، هو قوله «يا أيها الناس أفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام» .
فعنه رضي الله تعالى عنه، قال «لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل إليه الناس» أي بالجيم: أسرعوا «فكنت ممن أتى إليه» أي وهذا يدل على أنه جاءه في قباء وسيأتي «قال: فلما رأيت وجهه صلى الله عليه وسلم عرفت أنه وجه غير كذاب» أي لأن صورته وهيئته وسمته صلى الله عليه وسلم تدل العقلاء على صدقه، وأنه لا يقول الكذب، قال عبد الله «فسمعته صلى الله عليه وسلم يقول: أيها الناس إلى آخره» .
أي ولا مانع أن يكون ذلك تكرر منه صلى الله عليه وسلم، وعند ذلك قال: أشهد أنك رسول الله حقا، وأنك جئت بحق ثم رجعت إلى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا، وكتمت إسلامي من اليهود، ثم جئته صلى الله عليه وسلم، أي في بيت أبي أيوب وقلت له لقد علمت اليهود أني سيدهم وابن سيدهم، وأعلمهم وابن أعلمهم، فأخبئني يا رسول الله قبل أن يدخلوا عليك، فادعهم فاسألهم عني قبل أن يعلموا أني أسلمت، فإنهم قوم بهت» أي بضم الباء والهاء «يواجهون الإنسان بالباطل، وأعظم قوم عضيهة» أي كذبا، «وإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا فيّ ما ليس فيّ، وخذ عليهم ميثاقا أني إن أتبعتك وآمنت بكتابك أن يؤمنوا بك وبكتابك الذي أنزل عليك، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فدخلوا عليه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر يهود ويلكم اتقوا الله، فو الله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقا، وأني جئتكم بحق، أسلموا، قالوا ما نعلم، فأعاد ذلك عليهم ثلاثا وهم يجيبونه كذلك، قال فأي رجل فيكم ابن سلّام؟ قالوا: ذاك سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا» وفي رواية «خيرنا وابن خيرنا» بالخاء المعجمة والياء المثناة تحت أفعل تفضيل، وقيل بالمهملة والياء(2/153)
الموحدة، أي أعلمنا بكتاب الله «سيدنا وعالمنا وأفضلنا، قال: أفرأيتم إن شهد أني رسول الله وآمن بالكتاب الذي أنزل عليّ تؤمنوا بي؟ قالوا نعم، فدعاه، فقال: يا ابن سلام اخرج عليهم، فخرج عليهم فقال: يا عبد الله بن سلام، أما تعلم أني رسول الله تجدني عندكم مكتوبا في التوراة والإنجيل، أخذ الله ميثاقكم أن تؤمنوا بي وأن تتبعوني من أدركني منكم؟ قال ابن سلام: بلى يا معشر يهود، ويلكم اتقوا الله، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله حقا، وأنه جاء بالحق» ، قال زاد في رواية «تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة اسمه وصفته، قالوا: كذبت، أنت أشرنا، وابن أشرنا» وهذه لغة رديئة، والفصحى شرنا وابن شرنا بغير همزة وهي رواية البخاري «قال ابن سلام رضي الله تعالى عنه: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله، ألم أخبرك أنهم قوم بهت أهل غدر وكذب وفجور؟» انتهى «فأخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأظهرت إسلامي، وأنزل الله تعالى قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [فصّلت:
الآية 52] يعني الكتاب أو الرسول وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ [الأحقاف: الآية 10] يعني عبد الله بن سلام عَلى مِثْلِهِ [الأحقاف: الآية 10] يعني اليهود فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) [الأحقاف: 10] » .
أقول: هذا السياق لا يناسب ما حكاه في الخصائص الكبرى عن تاريخ الشام لابن عساكر: أن ابن سلام اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم بمكة قبل أن يهاجر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم، أنت ابن سلام عالم أهل يثرب؟ قال نعم، قال: ناشدتك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد صفتي في كتاب الله يعني التوراة؟ قال: أنسب ربك يا محمد، فأرتج النبي صلى الله عليه وسلم» أي توقف «ولم يدر ما يقول، فقال له جبريل: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) [الإخلاص: 1- 4] ، فقال ابن سلام: أشهد أنك رسول الله، وأن الله مظهرك ومظهر دينك على الأديان، وإني لأجد صفتك في كتاب الله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) [الأحزاب: الآية 45] أنت عبدي ورسولي» إلى آخر ما تقدم عن التوراة، فإنه يدل على أن ابن سلام أسلم بمكة وكتم إسلامه، ولو كان كذلك لما قال «فلما رأيت وجهه الشريف عرفت أنه غير وجه كذاب» ولما قال «وكنت عرفت صفته واسمه» ولما سأله عن الأمور الآتية، ولما احتاج إلى الإسلام ثانيا، إلا أن يقال على تسليم صحة ما قاله ابن عساكر جاز أن يكون قال ذلك، وفعل ما ذكر إقامة للحجة على اليهود.
وقد وقع لابن سلام هذا أنه لقي عليا بالربذة وقد خرج بعد قتل عثمان وبعد أن بويع بالخلافة متوجها إلى البصرة لما بلغه أن عائشة وطلحة والزبير ومن معهم خرجوا إلى البصرة في طلب دم عثمان، وكان ذلك سببا لوقعة الجمل، فأخذ بعنان فرس عليّ، وقال: يا أمير المؤمنين لا تخرج منها يعني المدينة، فوالله لئن خرجت(2/154)
منها لا يعود إليها سلطان المسلمين أبدا، فسبه بعض الناس، وقال له: ما لك ولهذا؟ يابن اليهودية، فقال عليّ: دعوه، فنعم الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم» .
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: لقد لقيت عبد الله بن سلام، فقلت له: أخبرني عن ساعة الإجابة يوم الجمعة، فقال في آخر ساعة في يوم الجمعة؟
قلت: وكيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي» وتلك الساعة لا صلاة فيها؟ فقال ابن سلام: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم «من جلس مجلسا ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصلي» .
وفيه أن في الصحيحين «إن في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها مسلم وهو قائم يصلي فسأل الله عز وجل شيئا إلا أعطاه إياه» ثم رأيت عن سنن ابن ماجه أن جواب ابن سلام تلقاه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ونص السنن المذكورة، عن عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه، قال «قلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، إنا لنجد في كتابنا يعني التوراة، في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يسأل الله عز وجل فيها شيئا إلا قضى حاجته، قال عبد الله بن سلام:
فأشار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بعض ساعة؟ فقلت: صدقت يا رسول الله، أو بعض ساعة، قلت: أي ساعة هي؟ قال: آخر ساعة من ساعات النهار، قلت: إنها ليست ساعة صلاة، قال: بلى؛ إن العبد المؤمن إذا صلى ثم جلس لا يحبسه إلا الصلاة فهو في الصلاة» أي ولعل لفظ قائم في رواية الصحيحين يراد به مريد القيام إلى الصلاة، أي صلاة العصر. وقد قيل: إن تلك الساعة رفعت بعد موته صلى الله عليه وسلم. وقيل هي باقية، وهو الصحيح. وعليه، فقيل لا زمن لها معين، وقيل هي في زمن معين وعليه ففي تعيينها أحد عشر قولا، وقيل أربعون قولا.
وقد وقع لميمون بن يامين وكان رأس اليهود مثل ما وقع لابن سلام مع اليهود «فإنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ابعث إليهم واجعلني حكما فإنهم يرجعون إليّ، فأدخله داخلا وأرسل إليهم، فجاؤوه صلى الله عليه وسلم، فقال لهم اختاروا رجلا حكما يكون بيني وبينكم، قالوا: قد رضينا ميمون بن يامين، فقال: أخرج إليهم، فقال: أشهد إنه لرسول الله، فأبوا أن يصدقوه» والله أعلم.
وقد أشار إلى إنكارهم نبوته صلى الله عليه وسلم مع معرفتهم لها صاحب الهمزية يقوله:
عرفوه وأنكروه فظلما ... كتمته الشهادة الشهداء
أو نور الإله تطفئه الأف ... واه وهو الذي به يستضاء
كيف يهدي الإله منهم قلوبا ... حشوها من حبيبه البغضاء
أي عرفوه أنه النبي المنتظر، وأنكروه بظواهرهم، ولأجل ظلمهم كتمت(2/155)
الشهادة به العارفون به. أو نور الإله الذي هو النبوة تذهبه الألسن؟ لا يكون ذلك، وكيف يكون ذلك وهو الذي يستضاء به في الظاهر والباطن، كيف يوصل الإله قلوبا للحق وملؤها البغضاء لحبيبه صلى الله عليه وسلم؟.
أقول: وقيل في سبب نزول سورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) [الإخلاص: الآية 1] أن وفد نجران لما نطقوا بالتثليث، قال لهم المسلمون: من خلقكم؟ قالوا الله، قالوا لهم:
فلم عبدتم غيره وجعلتم معه إلهين؟ فقالوا: بل هو إله واحد؛ لكنه حل في جسد المسيح، إذا كان في بطن أمه، فقالوا لهم: هل كان المسيح يأكل الطعام؟ قالوا: كان يأكل الطعام، فأنزل الله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) تكذيبا لهم في أنه ثالث ثلاثة، والصمد: هو الذي لا جوف له، فهو غير محتاج إلى الطعام.
وقيل سبب نزولها أن قريشا هم الذين قالوا له انسب لنا ربك يا محمد؛ وتقدم ما فيه والله أعلم.
وقد جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في تفسير قوله تعالى يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة: الآية 40] قال الله تعالى للأحبار من اليهود وَأَوْفُوا بِعَهْدِي [البقرة: الآية 40] الذي أخذته في أعناقكم للنبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءكم بتصديقه واتباعه أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة: الآية 40] أنجز لكم ما وعدتم عليه؛ بوضع ما كان عليكم من الإصر والأغلال وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ [البقرة: الآية 41] وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: الآية 42] أي لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي، وبما جاء به وأنتم تجدونه عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم.
قال بعضهم: ولم يسلم من رؤساء علماء اليهود إلا عبد الله بن سلام وضم إليه السهيلي عبد الله بن صوريا، قال الحافظ ابن حجر: لم أقف لعبد الله بن صوريا على إسلام من طريق صحيح، وإنما نسب لتفسير النقاش؛ أي ويضم لعبد الله بن سلام ميمون المتقدم ذكره.
وروي في سبب إسلام عبد الله بن سلام: أي إظهار إسلامه على ما تقدم أنه لما بلغه مقدم النبي صلى الله عليه وسلم أتاه في قباء، فعنه رضي الله تعالى عنه «جاء رجل حتى أخبر بقدومه صلى الله عليه وسلم وأنا في رأس نخلة أعمل فيها وعمتي تحتي جالسة، فلما سمعت بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرت، فقالت لي عمتي: لو كنت سمعت بموسى بن عمران ما زدت، فقلت لها: أي عمة، فو الله هو أخو موسى بن عمران وعلى دينه بعث بما بعث به. قالت يا بن أخي أهو النبي الذي كنا نخبر أنه يبعث مع بعث الساعة وفي لفظ «مع نفس الساعة، فقلت لها نعم» .
أي وقد جاء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما «بعثت بين يدي الساعة(2/156)
بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري» وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال: «بعثت أنا والساعة كهاتين وقال بأصبعيه هكذا يعني السبابة والوسطى» أي جمع بينهما. وفي رواية «بعثت في نفس الساعة سبقتها كما سبقت هذه هذه» وفي رواية «سبقتها بما سبقت هذه هذه وأشار بأصبعيه الوسطى والسبابة» قال الطبري الوسطى تزيد على السبابة نصف سبع أصبع، كما أن نصف يوم من سبعة أيام نصف سبع، أي وقد تقدم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الدنيا سبعة أيام، كل يوم ألف سنة، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم منها، وتقدم في حديث أخرجه أبو داود «لن يعجز الله أن يؤخر هذه الأمة نصف يوم» يعني خمسمائة سنة قال بعضهم: فإن قيل ما وجه الجمع بين هذا وبين قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الساعة «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» لدلالة الرواية الأولى على علمه بها.
أجيب بأن القرآن نطق بأن علمها عند الله لا يعلمها إلا هو. ومعنى قوله «بعثت أنا والساعة كهاتين» أنه ليس بيني وبينها نبي آخر يأتي بشريعة ولا يتراخى إلى أن تندرس شريعتي، فهو صلى الله عليه وسلم أول أشراطها لأنه نبي آخر الزمان، وهذا لا يقتضي أن يكون عالما بخصوص وقتها. قال ابن سلام: وكنت عرفت صفته واسمه: أي في التوراة. زاد في رواية «فكنت مسرّا لذلك ساكتا عليه حتى قدم المدينة فجئته صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا محمد إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، ما أول أشراط الساعة؟
وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أخبرني بهن جبريل آنفا، فقال ابن سلام: ذلك يعني جبريل عدو اليهود من الملائكة» .
وقيل قائل ذلك عبد الله بن صوريا، ولا مانع من أن يكون قال ذلك كل منهما: أي وعن ابن صوريا أنه قال له صلى الله عليه وسلم: «من ينزل عليك بالوحي؟ قال جبريل، قال: ذلك عدّونا لو كان غيره» وفي لفظ «لو كان ميكائيل لآمنا بك لأن جبريل ينزل بالخسف والحرب والهلاك، وميكائيل، ينزل بالخصب والسلم» .
وسبب العداوة أنهم زعموا أنه أمر أن يجعل النبوة فيهم: أي يجعل النبي المنتظر في بني إسرائيل الذين هم أولاد إسحاق فجعلها في غيرهم: أي في ولد إسماعيل.
وقيل سبب عداوتهم لجبريل أنه أنزل على نبيهم أن بيت المقدس سيخربه بختنصر فبعثوا من يقتله من أعظم بني إسرائيل قوة، فأراد قتله فمنعه عنه جبريل وقال: إن كان ربكم أمره بإهلاككم فإنه لا يسلطكم عليه، فصدقه ورجع عنه.
أي فإن بني إسرائيل لما اعتدوا وقتلوا شعياء جاء بختنصر ملك فارس وحاصر(2/157)
بيت المقدس وفتحها عنوة وأحرق التوراة وخرب بيت المقدس.
وقيل في سبب العداوة كونه يطلع النبي صلى الله عليه وسلم على سرهم، ولا مانع من أن يكون كل ذلك سببا للعداوة.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: «أما أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت» أي وهي القطعة المنفردة المعلقة بالكبد. قال بعضهم: وهي في الطعم في غاية اللذة. ويقال إنها أهنأ طعام وأمرؤه.
وروي «أن الثور ينطح الحوت بقرنه فيموت فتأكل منه أهل الجنة، ثم يحيا فينحر الثور بذنبه فتأكله أهل الجنة، ثم يحيا، قال: وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إليه، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع الولد إليها» أي لكن في فتح الباري عن عائشة رضي الله تعالى عنها «إذا علا ماء الرجل ماء المرأة أشبه أعمامه، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أشبه أخواله» والمراد بالعلو السبق.
وعن ثوبان «إذ علا منيّ الرجل منيّ المرأة جاء الولد ذكرا، وإن علا منيّ المرأة منيّ الرجل جاء أنثى» والعلو فيه على بابه هذا كلامه، أي وإذا استوى الماآن جاء خنثى وفي رواية «قالوا له صلى الله عليه وسلم: أين تكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟ ومن أول الناس إجازة وما تحفتهم» أي الناس حين يدخلون الجنة «وما غذاؤهم على أثره، وما شرابهم عليه؟ فأجابهم عليه الصلاة والسلام بأنهم يكونون في ظلمة دون الجسر» ولعل المراد بالجسر الصراط، لكن في رواية مسلم «أين الناس يومئذ؟ قال: على الصراط» ثم رأيت عن البيهقي أن قوله: على الصراط مجاز لكونهم بمجاورته.
ونقل القرطبي على صاحب الإفصاح أن الأرض والسماء يتبدلان مرتين.
المرأة الأولى: تتبدل صفتها فقط، وذلك قبل نفخة الصعق فتناثر كواكبها، وتخسف الشمس والقمر وتتناثر السماء كالمهل، وتنكشط الأرض، وتسير الجبال.
والمرة الثانية: تتبدل ذاتهما، وذلك إذا وقفوا في المحشر، فتتبدل الأرض بأرض من فضة لم يقع عليها معصية وهي الساهرة: أي والسماء تكون من ذهب كما جاء عن علي رضي الله تعالى عنه.
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري: «تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يكفأها الخباز كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة، فيأكل المؤمن من تحت رجليه، ويشرب من الحوض» .
قال الحافظ ابن حجر: ويستفاد منه أن المؤمنين لا يعذبون بالجوع في طول زمان الموقف، بل يقلب الله بقدرته طبع الأرض خبزا حتى يأكلون منها من تحت(2/158)
أقدامهم ما شاء الله من غير علاج ولا كلفة.
قال: ويؤيد أن هذا مراد الحديث ما جاء «تبدل الأرض بيضاء مثل الخبزة يأكل منها أهل الإسلام حتى يفرغوا من الحساب» هذا كلامه، فليتأمل ما مع قبله من أن الأرض تبدل بأرض من فضة، وأن هذا يدل على أن تلك الأرض التي تكون خبزة تكون في موقف الحساب. وما جاء عن عليّ رضي الله تعالى عنه يدل على أنها تكون بعد مجاوزتهم الصراط «وأول الناس إجازة فقراء المهاجرين، وتحفة أهل الجنة حين يدخلونها زيادة كبد النون» أي الحوت «وغذاؤهم ينحر لهم ثور الجنة التي يأكل من أطرافها، وشرابهم من عين تسمى سلسبيلا. وسألوه صلى الله عليه وسلم فقالوا: أخبرنا عن علامة النبي؟ فقال عليه الصلاة والسلام: تنام عيناه ولا ينام قلبه. وسألوه أي طعام حرم إسرائيل على نفسه قبل أن تنزل التوراة؟ قال: أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرض مرضا شديدا وطال سقمه، فنذر لله لئن شفاه الله تعالى من سقمه ليحرمنّ أحب الشراب إليه وأحب الطعام إليه، فكان أحب الطعام إليه لحمان الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها؟ قالوا: اللهم نعم» أي حرمهما ردعا لنفسه ومنعا لها عن شهواتها. وقيل لأنه كان به عرق النسا وكان إذا طعم ذلك هاج به.
وذكر أن سبب نزول قوله تعالى كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ [آل عمران: الآية 93] قول اليهود له صلى الله عليه وسلم «كيف تقول إنك على ملة إبراهيم وأنت تأكل لحوم الإبل وتشرب ألبانها وكان ذلك محرما على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا أي علمه في التوراة، فنحن أولى الناس بإبراهيم منك ومن غيرك، فأنزل الله تعالى الآية تكذيبا لهم أي بأن هذا إنما حرمه يعقوب على نفسه، ومن ثم جاء فيها فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [آل عمران: الآية 93] .
وكانت اليهود إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها أي وفي كلام الواحدي قال المفسرون: كانت العرب في الجاهلية إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يساكنوها في بيت كفعل المجوس هذا كلامه «فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك» أي قال له بعض الأعراب «يا رسول الله البرد شديد والثياب قليلة، فإن آثرناهن بالثياب هلك سائر أهل البيت، وإن استأثرنا بها هلك الحيض فأنزل الله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً [البقرة: الآية 222] الآية فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: اصنعوا كل شيء إلا النكاح» أي الوطء وما في معناه، وهو مباشرة ما بين السرة والركبة، أي فإن الآية لم تنص إلا على عدم قربانهن بالوطء في الحيض.
ومن ثم جاء في رواية «إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهن إذا حضن، ولم يأمركم(2/159)
باخراجهن من البيوت، فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالا إن اليهود قالت كذا فهلا نجامعهن؟ أي نوافقهن، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم» أي وعند ذلك قال بعض الصحابة «فظننا أنه قد وجد أي غضب عليهما فلما خرجا استقبلتهما هدية من لبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل في أثرهما فسقاهما، فعرفنا أنه لم يجد عليهما» .
وذكر المفسرون أن في منع الوطء للحائض اقتصادا من إفراط اليهود وتفريط النصارى، فإنهم لا يمتنعون من وطء الحيض، أي وذكر أن ابن سلام وغيره ممن أسلم من يهود استمروا على تعظيم السبت وكراهة أكل لحم الإبل وشرب ألبانها، فأنكر ذلك عليهم المسلمون فقالوا: إن التوراة كتاب الله فنعمل به أيضا، فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة: الآية 208] : أي وفي رواية «قالوا له ما هذا السواد الذي في القمر؟ فأجابهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك بأنهما كانا شمسين أي شمس في الليل وشمس في النهار، قال الله تعالى فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً [الإسراء: الآية 12] فالسواد الذي يرى هو المحو» أي أثره. قال بعضهم في قوله تعالى وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: الآية 37] أن الليل ذكر والنهار أنثى، فالليل كآدم والنهار كحواء.
وقد ذكر أن الليل من الجنة والنهار من النار، ومن ثم كان الأنس بالليل أكثر وجاء «أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل من علماء اليهود: أتشهد أني رسول الله؟ قال لا، قال أتقرأ التوراة؟ قال نعم، قال: والإنجيل؟ قال نعم، فناشده هل تجدني في التوراة والإنجيل؟ قال: نجد مثلك ومثل مخرجك ومثل هيئتك، فلما خرجت خفنا أن تكون أنت، فنظرنا فإذا أنت لست هو، قال: ولم ذاك؟ قال: معه من أمته سبعون ألفا ليس عليهم حساب ولا عذاب، وإنما معك نفر يسير، قال: والذي نفسي بيده لأنا هو وإنهم لأكثر من سبعين ألفا وسبعين ألفا» وقد سأله صلى الله عليه وسلم اليهود عن الرعد أي والبرق فقال «صوت ملك موكل بالسحاب يسوقه أي بمخراق من نار في يده يزجر به السحاب إلى حيث أمره الله تعالى» .
وعن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال «البرق مخاريق من نار بأيدي ملائكة يزجرون به السحاب» والمخراق المنديل يلف ليضرب به، أي وحينئذ فالمراد بالملك الجنس. وفي رواية «إن الله ينشىء السحاب فينطق أحسن النطق ويضحك أحسن الضحك، ومنطقها الرعد، وضحكها البرق» .
وفي بعض الآثار «لله ملائكة يقال لهم الحيات، فإذا حركوا أجنحتهم فهو البرق» أي وتحريكهم لأجنحتهم يكون غالبا عند الرعد، لأن الغالب وجود البرق عند الرعد.(2/160)
وعن بعضهم قال: بلغني أن البرق ملك له أربعة وجوه، وجه إنسان، ووجه ثور ووجه نسر، ووجه أسد، فإذا مصع بذنبه، أي حركه فذلك البرق، أي وتحريكه غالبا يكون عند وجود الرعد.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «البرق ملك يتراءى» أي يظهر ويغيب وفي رواية «الرعد ملك يزجر السحاب، والبرق طرف ملك» أي ينظر به عند وجود الرعد غالبا. وفي رواية «إن ملكا موكل بالسحاب في يده مخراق، فإذا رفع برقت، وإذا زجر رعدت، وإذا ضربه صعقت» .
وعن مجاهد: «الرعد ملك، والبرق أجنحته يسوق بها السحاب» فيكون المسموع صوته أو صوت سوقه، فليتأمل الجمع بين هذه الروايات.
وذهب الفلاسفة إلى أن الرعد صوت اصطكاك أجرام السحاب، والبرق ما ينقدح من اصطكاكها، فقد زعموا أن عند اصطكاك أجرام السحاب بعضها ببعض تخرج نار لطيفة حديدة لا تمر بشيء إلا أتت عليه إلا أنها مع حدتها سريعة الخمود.
وقيل في سبب نزول قوله تعالى ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها [البقرة: الآية 106] أن اليهود أنكروا النسخ فقالوا: ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافة، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا فنزلت.
«وسألوه صلى الله عليه وسلم مم يخلق الولد؟ فقال: يخلق من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة، أما نطفة الرجل فنطفة غليظة أي بيضاء منها العظم والعصب، وأما نطفة المرأة فنطفة رقيقة أي صفراء منها اللحم والدم؛ فقالوا: هكذا كان يقول من قبلك أي من الأنبياء» وتقدم في ترجمة سطيح إيراد عيسى عليه الصلاة والسلام على ذلك، أي وقالوا إغاظة صلى الله عليه وسلم له ما نرى لهذا الرجل همة، إلا النساء والنكاح، ولو كان نبيا كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء؛ فأنزل الله تعالى وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً [الرّعد: الآية 38] .
فقد جاء «إنه كان لسليمان عليه الصلاة والسلام مائة امرأة وتسعمائة سرية» .
«وسألوه صلى الله عليه وسلم عن رجل زنى بامرأة بعد إحصانه: أي كان شريفا من خيبر زنى بشريفة وهما محصنان، فكرهوا رجمهما لشرفهما، فبعثوا رهطا منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي قالوا لهم إن هذا الرجل الذي بيثرب ليس في كتابه الرجم ولكنه الضرب، فسألوه فأجابهم بالرجم؛ فلم يفعلوا ذلك فقال لجمع من علمائهم:
أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، أما تجدون في التوراة على من زنى بعد إحصان الرجم؟ الرجم فأنكروا ذلك، فقال عبد الله بن سلام كذبتم، فإن فيها آية الرجم فأتوا بالتوراة، فوضع واحد منهم يده على تلك الآية، فقال له ابن سلام ارفع(2/161)
يدك عنها فرفعها فإذا آية الرجم.
أقول: هذا كان في السنة الرابعة، وهو يخالف ما في بعض الروايات «أن بعض أحبار يهود أي وهم كعب بن الأشرف وسعيد بن عمرو ومالك بن الصيف وكنانة بن أبي الحقيق اجتمعوا في بيت المدارس حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وقد زنى رجل من يهود بعد إحصانه بامرأة محصنة من اليهود وقالوا: إن أفتانا بالجلد أخذنا به واحتججنا بفتواه عند الله، وقلنا: فتيا نبي من أنبيائك، وإن أفتانا بالرجم خالفناه، لأنا خالفنا التوراة فلا علينا من مخالفته» .
وفي رواية الصحيحين عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما «أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا له أن امرأة منهم ورجلا زنيا: أي بعد إحصان، فقال لهم رسول الله: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ قالوا: نفضحهما: أي بأن نسود وجوههما، ثم يحملان على حمارين وجوههما من قبل إدبار الحمار» وفي لفظ «يحملان على الحمار، وتقابل أقفيتهما، ويطاف بهما ويجلدان، أي بحبل من ليف مطلي بقار، فقال عبد الله بن سلام: كذبتم إن فيها آية الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك؛ فرفع يده فإذا فيها آية الرجم، فقالوا: صدقت يا محمد، فيها آية الرجم» .
وقد جاء «إن موسى عليه الصلاة والسلام خطب بني إسرائيل فقال: يا بني إسرائيل من سرق قطعنا يده، ومن افترى جلدناه ثمانين جلدة، ومن زنى وليست له امرأة جلدناه مائة جلدة، ومن زنى وله امرأة رجمناه حتى يموت» والله أعلم.
قال «ولما جاؤوا إليه صلى الله عليه وسلم قالوا: يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة زنيا: أي بعد إحصان فقال لهم: ما تجدون في التوراة؟ فقالوا: دعنا من التوراة، فقل لنا ما عندك فأفتاهم بالرجم فأنكروه، فلم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى بيت مدارسهم، فقام على الباب فقال: يا معشر يهود أخرجوا إليّ أعلمكم، فأخرجوا إليه عبد الله بن صوريا وأبا ياسر بن أخطب ووهب بن يهود، فقالوا: هؤلاء علماؤنا، فقال أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى بعد إحصان قالوا: يحم أي يعير ويجتنب، فقال عبد الله بن سلام كذبتم فإن فيها آية الرجم» ، أي وفي رواية «لما سألهم وأجابوه إلا شابا منهم فإنه سكت، فألح عليه صلى الله عليه وسلم في النشدة فقال: اللهم إذ نشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم، ولكن رأينا أنه إن زنى الشريف جلدناه والوضيع رجمناه كان من الحيف، فاتفقنا على ما نقيمه على الشريف والوضيع وهو ما علمت فعند ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أحكم بما في التوراة» ولعل هذا الشاب ابن صوريا، ففي الكشاف «أنه لما أمرهم عليه الصلاة والسلام بالرجم فأبوا(2/162)
أن يأخذوا به، فقال له جبريل عليه السلام: اجعل بينك وبينهم ابن صوريا حكما» أي ووصفه له جبريل «فقال صلى الله عليه وسلم: هل تعرفون شابا أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا؟ قالوا نعم؛ وهو أعلم يهودي على وجه الأرض بما أنزل الله على موسى في التوراة ورضوا به حكما، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنشدك الله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى وفلق البحر، ورفع فوقكم الطور، وأنجاكم، وأغرق فرعون، وظلل عليكم الغمام، وأنزل عليكم المنّ والسلوى والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه، هل تجدون فيه الرجم على من أحصن؟ قال: نعم، فوثب عليه سفلة اليهود، فقال: خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب» ، وفي رواية «قال نعم، والذي ذكرتني به لولا خشيت أن تحرقني التوراة إن كذبتك ما اعترفت لك، ولكن كيف هي في كتابك يا محمد؟ قال: إذا شهد أربعة رهط عدول أنه قد أدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة وجب عليه الرجم، فقال ابن صوريا: والذي أنزل التوراة على موسى هكذا أنزل الله في التوراة على موسى» فليتأمل الجمع بين هذه الروايات على تقدير صحتها «ثم سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء يعرفها من أعلامه، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله النبي الأمي» وهذا مما يدل على إسلامه، وتقدم إنكار صحته عن الحافظ ابن حجر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتوا بالشهود، فجاؤوا بأربعة فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة، فأمر بهما فرجما عند باب مسجده صلى الله عليه وسلم» قال ابن عمر: فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة، فكان ذلك سببا لنزول قوله تعالى إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ [المائدة: الآية 44] ولنزول قوله تعالى وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة: الآية 45] وفي آية أخرى فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [آل عمران: الآية 82] وفي أخرى فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ [المائدة: الآية 44] .
وعن عمرو بن ميمون قال: رأيت الرجم في الجاهلية في غير نبي آدم، كنت في اليمن في غنم لأهلي، فجاء قرد ومعه قردة فتوسد يدها ونام، فجاء قرد أصغر منه فغمزها فسلت يدها من تحت رأس القرد برفق وذهبت معه، ثم جاءت فاستيقظ القرد فزعا فشمها فصاح فاجتمعت القردة، فجعل يصيح ويومي إليها بيده، فذهبت القردة يمنة ويسرة، فجاؤوا بذلك القرد، فحفروا لهما حفرة فرجموهما. وفي لفظ:
رأيت في الجاهلية قردة زنت فرجموها يعني القردة ورجمتها معهم.
قال في الاستيعاب: وهذا عند جماعة من أهل العلم منكر لإضافة الزنا إلى غير المكلف وإقامة الحدود في البهائم، ولو صح هذا لكانوا من الجن، لأن العبادات في الإنس والجن دون غيرهما، هذا كلامه فليتأمل والله أعلم.
وقد ذكر غير واحد أن أحبار يهود غيروا صفته صلى الله عليه وسلم التي في التوراة خوفا على(2/163)
انقطاع نفقتهم، فإنهم كانت على عوامهم لقيامهم بالتوراة، فخافوا أن تؤمن عوامهم فتنقطع عنهم النفقة، أي وكانوا يقولون لمن أسلم: لا تنفقوا مالكم على هؤلاء، يعني المهاجرين فإنا نخشى عليكم الفقر، فأنزل الله تعالى الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النّساء: الآية 37] أي من صفة النبي صلى الله عليه وسلم التي يجدونها في كتابهم، فقد كان فيه «أكحل عين؛ ربعة جعد الشعر، حسن الوجه، فمحوه وقالوا نجده طويلا، أزرق العين، سبط الشعر، وأخرجوا ذلك إلى اتباعهم، وقالوا: هذا نعت النبي الذي يخرج آخر الزمان، وعند ذلك أنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ [البقرة: الآية 174] الآية.
وكان اليهود إذا كلموا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا راعنا سمعك وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ [النساء:
الآية 46] ، ويضحكون فيما بينهم، أي لأن ذلك كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بلسان اليهود السب القبيح، فلما سمع المسلمون منهم ذلك ظنوا أن ذلك شيء كان أهل الكتاب يعظمون به أنبياءهم، فصاروا يقولون ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، ففطن سعد بن معاذ لليهود يوما وهم يضحكون. فقال لهم: يا أعداء الله لئن سمعنا من رجل منكم هذا بعد هذا المجلس لأضربن عنقه: فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا [البقرة: الآية 104] .
وفي رواية أن اليهود لما سمعوا الصحابة رضي الله تعالى عنهم تقول له صلى الله عليه وسلم إذا ألقى عليهم شيئا: يا رسول الله راعنا: أي انتظرنا وتأن علينا حتى نفهم، وكانت هذه الكلمة عبرانية تتسابب بها اليهود، فلما سمعوا المسلمين يقولون له صلى الله عليه وسلم راعنا خاطبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم براعنا يعنون بها تلك السبة، ومن ثم لما سمع سعد بن معاذ ذلك من اليهود قال لهم: يا أعداء الله عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده إن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه، فقالوا: ألستم تقولونها فنزلت «وجاءه صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود بأطفالهم، فقالوا له: يا محمد هل على أولادنا هؤلاء من ذنب؟
قال لا، فقالوا: والذي يحلف به ما نحن إلا كهيئتهم، ما من ذنب نعمله بالليل إلا كفر عنا بالنهار وما من ذنب نعمله بالنهار إلا كفر عنا بالليل، فأنزل الله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ [النّساء: الآية 49] الآية.
وجاء «أن أحبار يهود منهم ابن صوريا: أي قبل أن يسلم على ما تقدم وشاس بن قيس وكعب بن أسيد اجتمعوا وقالوا نبعث إلى محمد لعلنا نفتنه في دينه، فجاؤوا إليه صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم، وإن اتبعناك اتبعك كل اليهود وبيننا وبين قوم خصومة فنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم فنؤمن بك، فأبى ذلك عليهم فنزل قوله تعالى وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ [المائدة: الآية 49] الآية» .(2/164)
ومن اليهود من دخل في الإسلام تقية من القتل، لما قهرهم الإسلام بظهوره واجتماع قومهم عليه، فكان هواهم مع يهود في السر، أي هم المنافقون.
وقد ذكر بعضهم «أن المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة منهم الجلاس بجيم مضمومة فلام مخففة فألف فسين مهملة ابن سويد بن الصامت قال يوما إن كان هذا الرجل صادقا لنحن شر من الحمير، فسمعها عمير بن سعد رضي الله تعالى عنه، وهو ابن زوجة جلاس، أي فإن الجلاس كان زوجا لأم عمير، وكان عمير يتيما في حجره ولا مال له، وكان يكفله ويحسن إليه، فجاء الجلاس ليلة فاستلقى على فراشه فقال: لئن كان ما يقوله محمد حقا فلنحن شر من الحمير. فقال له عمير: يا جلاس إنك لأحب الناس وأحسنهم عندي يدا، ولقد قلت مقالة لئن رفعتها عليك لأفضحنك، ولئن صمتّ عليها: أي سكت عنها ليهلكن عليّ ديني ولأحداهما أيسر علي من الأخرى فمشى إلى رسول صلى الله عليه وسلم فذكر له مقالة جلاس، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جلاس، فحلف بالله لقد كذب عليّ عمير وما قلت ما قال عمير، فقال عمير: بلى والله لقد قلته فتب إلى الله، ولولا أن ينزل القرآن فيجعلني معك ما قلته» .
وجاء «أنه صلى الله عليه وسلم استحلف الجلاس عند المنبر، فحلف أنه ما قال، واستحلف الراوي عنه فحلف لقد قال وقال: اللهم أنزل على نبيك تكذيب الكاذب وتصديق الصادق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم آمين، فنزل قوله تعالى يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ [التّوبة: الآية 74] إلى قوله فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ [التّوبة:
الآية 74] فاعترف الجلاس وتاب، وقيل منه صلى الله عليه وسلم توبته، وحسنت توبته، ولم ينزع عن خير كان يصنعه مع عمير؛ فكان ذلك مما عرف به حسن توبته، فقال صلى الله عليه وسلم لعمير: وقيت أذنك» .
ومنهم نبتل بنون مفتوحة فموحدة ساكنة فمثناة فوقية مفتوحة فلام ابن الحارث قال النبي صلى الله عليه وسلم «من أحبّ أن فلينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث، كان يجلس إليه صلى الله عليه وسلم ثم ينقل حديثه للمنافقين، وهو الذي قال لهم: إنما محمد أذن، من حدثه بشيء صدقه فأنزل الله فيه وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ [التّوبة:
الآية 61] الآية» .
وجاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له «يجلس إليك رجل معك صفته كذا، تقال:
أي للحديث الذي تحدث به، كبده أغلظ من كبد الحمار، ينقل حديثك إلى المنافقين فاحذره» .
ومنهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول وهو رأس المنافقين، ولاشتهاره بالنفاق لم يعدّ في الصحابة، وكان من أعظم أشراف أهل المدينة، وكانوا قبل مجيئه صلى الله عليه وسلم للمدينة(2/165)
قد نظموا له الخرز ليتوجوه ثم يملكوه عليهم، أي كما تقدم، لأن الأنصار من آل قحطان. ولم يتوج من العرب إلا قحطان، ولم يبق من الخرز إلا خرزة واحدة كانت عند شمعون اليهودي، فلما جاءهم الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم انصرف عنه قومه إلى الإسلام فضغن: أي أضمر العداوة، لأنه رأى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سلبه ملكا عظيما، فلما رأى قومه قد أبوا إلا الإسلام دخل فيه كارها مصرا على النفاق، أي وكان له إماء يكرههن على الزنا ليأخذ أجورهن، فأنزل الله تعالى وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ [النّور: الآية 33] الآية.
وقد قيل في سبب نزول قوله تعالى وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا [البقرة:
الآية 14] أي عبد الله بن أبيّ وأصحابه خرجوا ذات يوم، فاستقبلهم قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم أبو بكر وعمر وعلي رضي الله تعالى عنهم. فقال عبد الله بن أبيّ:
انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم فأخذ بيد أبي بكر، فقال: مرحبا بالصديق سيد بني تيم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أخذ بيد عمر، فقال: مرحبا بسيد بني عدي الفاروق القوي في دين الله، الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أخذ بيد عليّ فقال: مرحبا يا بن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه، سيد بني هاشم ما خلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم افترقوا فقال له عليّ: اتق الله يا عبد الله ولا تنافق، فإن المنافقين شرّ خليفة الله تعالى، فقال له عبد الله: مهلا يا أبا الحسن، إليّ تقول هذا؟ والله إن إيماننا كإيمانكم وتصديقنا كتصديقكم. فقال لأصحابه: كيف رأيتموني فعلت؟ فأثنوا عليه خيرا فنزلت.
وقد قال صلى الله عليه وسلم «مثل المنافق مثل الشاة العابرة بين الغنمين» أي المترددة بينهما تعبر إلى هذه مرة وإلى هذه مرة.
وفي السنة الأولى من الهجرة أعرس صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله تعالى عنها كذا في الأصل. وفي المواهب أن ذلك كان في السنة الثانية من الهجرة في شوال على رأس ثمانية عشر شهرا، وقيل بعد سبعة أشهر، وقيل بعد ثمانية أشهر من مقدمه صلى الله عليه وسلم.
قالت عائشة رضي الله تعالى عنها «تزوجني رسول الله وبنى بي في شوال فأيّ نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت أحظى عنده مني» أي فما توهمه بعض الناس من التشاؤم بذلك، لكونه بين العيدين، فتحصل المفارقة بين الزوجين لا عبرة به ولا التفات إليه.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها «جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بيتنا واجتمع إليه رجال ونساء من الأنصار، فجاءتني أمي وإني لفي أرجوحة بين عذقين» أي نخلتين «فأنزلتني من الأرجوحة ولي جميمة» أي شعر «لأني وعكت» أي مرضت «لما قدمنا المدينة» أي أصابتها الحمى.(2/166)
فعن البراء رضي الله تعالى عنه قال «دخلت مع أبي بكر الصديق على أهله فإذا عائشة ابنته مضطجعة قد أصابتها الحمى، فرأيت أباها يقبل خدها ويقول: كيف أنت يا بنية؟ قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: فتمزق شعري، ففرقتها ومسحت وجهي بشيء من ماء ثم أقبلت تقودني حتى وقفت بي عند الباب وإني لأنهج حتى سكن نفسي، ثم دخلت بي، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على سرير في بيتنا وعنده رجال ونساء من الأنصار، فأجلستني في حجره، ثم قالت: هؤلاء أهلك، بارك الله لك فيهم، وبارك لهم فيك، فوثب الرجال والنساء فخرجوا، وبنى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتنا» أي فقد بني بها نهارا.
وفي الصحاح: العامة تقول: بنى بأهله وهو خطأ، وإنما يقال بنى على أهله، قال الحافظ ابن حجر: ولا يغني عن الخطأ كثرة استعمال الفصحاء له: أي كاستعمال عائشة له هنا. وفي الاستيعاب وأقره، عن عائشة رضي الله تعالى عنها «أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه قال: يا رسول الله ما يمنعك أن تبني بأهلك؟ قال: الصداق، فأعطاه أبو بكر اثنتي عشرة أوقية ونشا، فبعث بها إلينا وبنى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي هذا الذي أنا فيه، وهو الذي توفي به، ودفن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم» وفيه أن سياق ما تقدم وما يأتي يدلّ على أنه إنما دخل بها في بيت أبيها بالسنح.
ثم رأيت بعضهم صرح بذلك، فقال «كان دخوله بها عليه الصلاة والسلام بالسنح نهارا» وهذا خلاف ما يعتاده الناس اليوم هذا كلامه. وفي رواية عنها «أتتني أمي وإني لفي أرجوحة مع صواحب لي فصرخت بي، فأتيتها ما أدري ما تريد مني، فأخذت بيدي حتى وقفت بي على باب الدار وأنا أنهج حتى سكن بعض نفسي، ثم أخذت شيئا من ماء فمسحت به وجهي ورأسي، ثم أدخلتني الدار فإذا نسوة من الأنصار في البيت فقلن: على الخير والبركة، وعلى خير طائر، فأسلمتني إليهنّ وأصلحن من شأني، فلم يرعني إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى فأسلمتني إليه وأنا يومئذ بنت تسع سنين» قال بعضهم: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة ولعبتها معها.
أي وعنها رضي الله تعالى عنها أنها كانت تلعب بالبنات أي اللعب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت تأتيها جويريات يلعبن معها بذلك، وربما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسيرهن إليها: أي يطلبهن لها ليلعبن معها. قالت «وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو حنين، فهبت ريح فكشفت ناحية من ستر على صفة في البيت عن بنات لي، فقال: ما هذا يا عائشة؟ قلت: بناتي، ورأى بينهن فرسا لها جناحان من رقاع، قال:
وما هذا الذي أرى وسطهن؟ قلت: فرس. قال: وما هذا الذي عليه؟ قلت جناحان، قال: جناحان! قلت: أما سمعت أن لسليمان خيلا لها أجنحة فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه» وفيه هلا أمرها بتغيير ذلك.(2/167)
وأجيب بأن هذا مستثنى من عدم جواز تصوير ذي الروح، وقولها «أما سمعت أن لسليمان خيلا لها أجنحة» وإقراره صلى الله عليه وسلم لها على ذلك يدل على صحته.
ثم رأيت بعضهم أورد أنه كان لسليمان خيل لها أجنحة، وقد ذكرت ذلك عند الكلام على إسماعيل صلوات الله وسلامه عليه في أوائل هذه السيرة.
وعنها رضي الله تعالى عنها أيضا أنها قالت: «وما نحرت عليّ جزور ولا ذبحت عليّ شاة، أي عند بنائه بها صلى الله عليه وسلم حتى أرسل إلينا سعد بن عبادة بجفنته التي كان يرسلها» وأرسل بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم» أي وفي كلام بعضهم: وروي «أنه صلى الله عليه وسلم ما أولم على عائشة رضي الله تعالى عنها بشيء غير أن قدحا من لبن أهدي من بيت سعد بن عبادة، فشرب النبي صلى الله عليه وسلم بعضه وشربته عائشة رضي الله تعالى عنها باقيه» .
أقول: يجوز أن يكون سعد رضي الله تعالى عنه أرسل بالقدح من اللبن وبالجفنة، وأن بعض الرواة اقتصر على أحدهما.
ثم لا يخفى أنه يجوز أن تكون الرواية الأولى واقعة بعد هذه الرواية الثانية، وأنها ذهبت إلى الأرجوحة ثانيا بعد أن أصلح النساء من شأنها، وفعلت بها أمها ما ذكر، وأنه وقع الاقتصار في الرواية الأولى، والله سبحانه وتعالى أعلم.(2/168)
باب ذكر مغازيه صلى الله عليه وسلم
ذكر أن مغازيه: أي وهي التي غزا فيها بنفسه كانت سبعا وعشرين، أي وهي:
غزوة بواط، ثم غزوة العشيرة، ثم غزوة سفوان، ثم غزوة بدر الكبرى، ثم غزوة بني سليم، ثم غزوة بني قينقاع، ثم غزوة السويق، ثم غزوة قريرة الكدر ثم غزوة غطفان وهي غزوة ذي أمر ثم غزوة نجران بالحجاز ثم غزوة أحد، ثم غزوة حمراء الأسد، ثم غزوة بني النضير، ثم غزوت ذات الرقاع وهي غزوة محارب وبني تغلبة، ثم غزوة بدر الآخرة وهي غزوة بدر الموعد، ثم غزوة دومة الجندل، ثم غزوة بني المصطلق ويقال لها المريسيع، ثم غزوة الخندق، ثم غزوة بني قريظة، ثم غزوة بني لحيان، ثم غزوة الحديبية، ثم غزوة ذي قرد ويقال لها قرد بضمتين. وهي في اللغة:
الصوف الرديء، ثم غزوة حنين، ثم غزوة وادي القرى، ثم غزوة عمرة القضاء، ثم غزوة فتح مكة، ثم غزوة حنين والطائف، ثم غزوة تبوك.
والتي وقع فيها القتال من تلك الغزوات: أي وقع القتال فيها من أصحابه وهو المراد بقول بعضهم كالأصل التي قاتل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع، وهي: غزوة بدر الكبرى وأحد والمريسيع؛ أعني بني المصطلق والخندق وقريظة وخيبر وفتح مكة وحنين والطائف، أي وبعضهم أسقط فتح مكة. قال النووي رحمه الله: ولعل مذهبه أنها فتحت صلحا كما قال إمامنا الشافعي وموافقوه، أي فيصح بيع دورها وإجارتها، واستدل لذلك بأنها لو كانت فتحت عنوة لقسمها بين الغانمين، وسيأتي الجمع بأن أسفلها فتح عنوة، أي لوقوع القتال فيه من خالد بن الوليد مع المشركين؛ وأعلاها فتح صلحا لعدم وجود القتال فيه.
وفي الهدى: من تأمل الأحاديث الصحيحة وجدها كلها دالة على قول الجمهور إنها فتحت عنوة: أي لوقوع القتال بها.
ومما يدل على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يصالح أهلها عليها، وإلا لم يحتج إلى قوله «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن إلى الخ» وإنما لم يقسمها لأنها دار المناسك، فكل مسلم له فيها حق.
أقول: هذا واضح في غير دورها، وسيأتي الجواب عن ذلك، وبما قررناه يعلم أن قول المواهب قاتل صلى الله عليه وسلم في تسع بنفسه، فيه نظر ظاهر، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقاتل بنفسه في شيء من تلك الغزوات إلا في أحد كما سيأتي، وكأنه اغتر في ذلك بقول(2/169)
بعضهم المتقدم قاتل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد علمت المراد منه والله أعلم.
ولا يخفى أنه صلى الله عليه وسلم مكث بضع عشرة سنة ينذر بالدعوة بغير قتال، صابرا على شدة أذية العرب بمكة، واليهود بالمدينة له صلى الله عليه وسلم ولأصحابه لأمر الله تعالى له بذلك:
أي بالإنذار والصبر على الأذى والكف بقوله فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [النساء: الآية 63] وبقوله وَاصْبِرْ [المزمل: الآية 10] ووعده بالفتح، أي فكان يأتيه أصحابه بمكة ما بين مضروب ومشجوج فيقول صلى الله عليه وسلم لهم «اصبروا، فإني لم أومر بالقتال» لأنهم كانوا بمكة شر ذمة قليلة. ثم لما استقر أمره صلى الله عليه وسلم: أي بعد الهجرة وكثرت أتباعه، وشأنهم أن يقدموا محبته على محبة آبائهم وأبنائهم وأزواجهم، وأصرّ المشركون على الكفر والتكذيب أذن الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أي ولأصحابه في القتال، أي وذلك في صفر من السنة الثانية من الهجرة، لكن لمن قاتلهم وابتدأهم به بقوله فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [البقرة: الآية 191] قال بعضهم: ولم يوجبه بقوله تعالى أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ [الحجّ: الآية 39] أي للمؤمنين أن يقاتلوا بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحجّ: الآية 39] أي بسبب أنهم ظلموا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحجّ: الآية 39] ، أي فكان ذلك القتال عوضا من العذاب الذي عوملت به الأمم السالفة لما كذبت رسلهم.
وذكر في سبب نزول قوله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ [النّساء:
الآية 77] الآية «أن جماعة منهم عبد الرحمن بن عوف، والمقداد بن الأسود، وقدامة بن مظعون، وسعد بن أبي وقاص، وكانوا يلقون من المشركين أذى كثيرا بمكة، فقالوا: يا رسول الله كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة، فأذن لنا في قتال هؤلاء، فيقول لهم: كفوا أيديكم عنهم، فإني لم أومر بقتالهم. فلما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأمر بالقتال للمشركين كرهه بعضهم وشق عليه ذلك، فأنزل الله تعالى الآية» .
لا يقال: يدل لما تقدم من أنه قاتل صلى الله عليه وسلم بنفسه في تلك الغزوات ما جاء عن بعض الصحابة «كنا إذا لقينا كتيبة أو جئنا أول من يضرب النبي صلى الله عليه وسلم» لأني أقول لا يبعد أن يكون المراد بالضرب السير في الأرض: أي أول من يسير إلى تلقاء العدو.
ويؤيده ما جاء عن عليّ رضي الله تعالى عنه «لما كان يوم بدر اتقينا المشركين برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أشد الناس بأسا، وما كان أحد أقرب إلى المشركين منه صلى الله عليه وسلم» .
وفي رواية «كنا إذا حمي البأس والتقى القوم بالقوم اتقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي كان وقاية لنا من العدوّ» .
وقد نقل إجماع المسلمين على أنه لم يرو أحد قط أنه صلى الله عليه وسلم انهزم بنفسه في موطن من المواطن، بل ثبتت الأحاديث الصحيحة بإقدامه صلى الله عليه وسلم وثباته في جميع المواطن.
لا يقال: سيأتي في غزوة بدر عن السيرة الهشامية غير معزوّ لأحد أنه قاتل(2/170)
بنفسه قتالا شديدا، وكذلك أبو بكر رضي الله عنه وكانا في العريش يجاهدان بالدعاء، فقاتلا بأبدانهما جمعا بين المقامين وأيضا سيأتي في خيبر ما قد يدل على أنه صلى الله عليه وسلم قاتل بنفسه.
لأنا نقول: سيأتي ما في ذلك مما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يباشر القتال إلا في أحد كما سيأتي، ولم تقاتل معه الملائكة إلا في بدر وإلا في حنين. قيل وأحد، وسيأتي ما في ذلك، ولم يرم صلى الله عليه وسلم بالحصباء في وجوه العدوّ في شيء من الغزوات إلا في هذه الثلاثة على خلاف في الثالثة، أي ولم يجرح أي لم يصبه جراحة في غزوة من الغزوات إلا في أحد، ولم ينصب المنجنيق في غزوة من الغزوات إلا في غزوة الطائف، وفيه أنه نصبه على بعض حصون خيبر، وسيأتي الجمع بينهما، ولم يتحصن بالخندق في غزوة إلا في غزوة الأحزاب.
ثم لا يخفى أن الآية المذكورة: أي التي هي أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) [الحجّ: الآية 39] قال بعضهم: هي أول آية نزلت في شأن القتال، ولما نزلت أخبر صلى الله عليه وسلم بقوله «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» أي وفي لفظ «حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله تعالى، قيل: وما حقها؟ قال زنا بعد إحصان وكفر بعد إسلام، أو قتل نفس» .
أقول: وظاهر هذا السياق يقتضي أن الآية فيها الأمر له صلى الله عليه وسلم بالقتال المذكور.
وقد يتوقف في ذلك، ولعله أمر بذلك بغير الآية المذكورة، لأن الآية إنما هي ظاهرة في الإباحة والمباح ليس مأمورا به، وحينئذ يكون قوله في الآية الأخرى وهي فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [البقرة: الآية 191] للإباحة، لأن صيغة أفعل تأتي لها وإن كان الأصل فيها الوجوب.
وعلى أن قوله صلى الله عليه وسلم «أمرت» وأن أمره كان بغير هذه الآية يحمل على أن المراد الندب، لأن الأمر مشترك بين الوجوب والندب، فلا ينافي ما تقدم من أنه لم يكن وجب عليه القتال حينئذ والله أعلم.
ثم لما رمتهم العرب قاطبة عن قوس، وتعرضوا لقتالهم من كل جانب كانوا لا يبيتون إلا في السلاح، ولا يصبحون إلا فيه ويقولون ترى نعيش حتى نبيت مطمئنين لا نخاف إلا الله عز وجل؛ أنزل الله عز وجل وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً [النّور: الآية 55] ثم أذن في القتال، أي أبيح الابتداء به حتى لمن لم يقاتل أي لكن في غير الأشهر الحرم أي التي هي رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم، أي بقوله فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التّوبة: الآية(2/171)
5] الآية ثم أمر به وجوبا أي بعد فتح مكة في السنة الثانية مطلقا، أي من غير تقييد بشرط ولا زمان بقوله وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التّوبة: الآية 36] أي جميعا في أي زمن.
فعلم أن القتال كان قبل الهجرة وبعدها إلى صفر من السنة الثانية محرّما، أي لأنه كان في ذلك مأمورا بالتبليغ، وكان إنذارا بلا قتال، لأنه نهى عنه في نيف وسبعين آية ثم صار مأذونا له فيه أي أبيح قتال من قاتل ثم أبيح قتال من لم يبدأ به في غير الأشهر الحرم، ثم أمر به مطلقا: أي لمن قاتل ومن لم يقاتل في كل زمن؛ أي في الأشهر الحرم وغيرها.
وظاهر كلام الإمام الإسنوي أن القتال في الحالة الثانية كان مأمورا به لا مباحا كالحالة الأولى. وعبارته: لما بعث صلى الله عليه وسلم أمر بالتبليغ والإنذار بلا قتال، فقال فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [النساء: الآية 63] وقال وَاصْبِرْ [المزمّل: الآية 10] ثم أذن له بعد الهجرة في القتال إن ابتدؤوا فقال فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [البقرة: الآية 191] ثم أمر بذلك ابتداء ولكن في غير الأشهر الحرم فقال فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التّوبة: الآية 5] ثم أمر به مطلقا فقال وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التّوبة: الآية 36] هذا كلامه.
ولا يخفى أن الإسنوي ممن يرى أن «أمر» للوجوب، وهو يقتضي أن يكون الأمر به في الحالة الثانية للوجوب. والراجح ما علمت أن «أمر» مشترك بين الوجوب والندب، وأنه في الحالة الثانية مباح لا مأمور به.
ثم استقر أمر الكفار معه صلى الله عليه وسلم بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام:
القسم الأول محاربون له صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء المحاربون إذا كانوا ببلادهم يجب قتالهم على الكفاية في كل عام مرة أي يكفي ذلك في إسقاط الحرج كإحياء الكعبة، واستدل لذلك بقوله تعالى فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ [التّوبة: الآية 122] أي فهلا نفر. وقيل كان فرض عين، لقصة الثلاثة الذين تخلفوا عن الجهاد في غزوة تبوك. ويحتاج إلى الجواب عن ذلك.
وقيل كان فرض كفاية في حق الأنصار، وفرض عين في حق المهاجرين.
والقسم الثاني أهل عهد وهم المؤمنون من غير عقد الجزية: أي صالحهم ووادعهم على أن لا يحاربوه ولا يظاهروا عليه عدوّهم، وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم.
والقسم الثالث أهل ذمة: أي وهم من عقدت لهم الجزية.
وهناك قسم آخر، وهو من دخل في الإسلام تقية من القتل وهم المنافقون كما تقدم. وأمر صلى الله عليه وسلم أن يقبل منهم علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى، فكان معرضا عنهم إلا فيما يتعلق بشعائر الإسلام الظاهرة كالصلاة فلا يخالف ما رواه الشيخان «لقد(2/172)
هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس، ثم انطلق برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار» فقد ذكر أئمتنا أن ذلك ورد في قوم منافقين يتخلفون عن الجماعة ولا يصلون: أي أصلا بدليل السياق، أي لأن صدر الحديث «أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر» أي جماعتهما «ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، ولقد هممت الخ» .
وفي الخصائص الصغرى: وكان الجهاد في عهده صلى الله عليه وسلم فرض عين في أحد الوجهين عندنا، وكان إذا غزا بنفسه صلى الله عليه وسلم يجب على كل أحد الخروج معه، لقوله تعالى ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ [التّوبة:
الآية 120] ومن ثم وقع لمن تخلف عنه في غزوة تبوك ما وقع.
وأما بعده صلى الله عليه وسلم فللكفار حالان مذكوران في كتب الفقه. وعند الإذن له صلى الله عليه وسلم في القتال خرج لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر صفر من السنة الثانية من الهجرة: أي مكث بالمدينة باقي الشهر الذي قدم فيه وهو شهر ربيع الأوّل وباقي ذلك العام كله إلى صفر من السنة الثانية من الهجرة.
«فخرج صلى الله عليه وسلم غازيا حتى بلغ ودّان» بفتح الواو وتشديد الدال المهملة آخره نون:
وهي قرية كبيرة، بينها وبين الأبواء ستة أميال أو ثمانية. والأبواء بالمد: قرية كبيرة بين مكة والمدينة كما تقدم؛ سميت بذلك لتبوؤ السيول بها. وقيل لما كان فيها من الوباء فيكون على القلب، وإلا لقيل الأوباء. وحينئذ لا تخالف بين تسمية ابن الخفاف لها بغزوة ودّان وبين تسمية البخاري لها بغزوة الأبواء لتقارب المكانين، أي وفي الإمتاع: ودان جبل بين مكة والمدينة.
وأقول: قد يقال لا منافاة، لأنه يجوز أن تكون تلك القرية كانت عند الجبل المذكور فسميت باسمه، والله أعلم.
وكان خروجه صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين ليس فيهم أنصاري يعترض عيرا لقريش ولبني ضمرة أي وخرج صلى الله عليه وسلم لبني ضمرة، فكان خروجه للشيئين كما يفهم من الأصل.
ويوافقه قول بعضهم: وخرج صلى الله عليه وسلم في سبعين رجلا من أصحابه يريد قريشا وبني ضمرة. والمفهوم من سيرة الشامي أن خروجه صلى الله عليه وسلم إنما كان لاعتراضه العير، وإنه اتفق له موادعة بني ضمرة، ويوافقه قول الحافظ الدمياطي: خرج يعترض عيرا لقريش، فلم يلق كيدا. وفي هذه الغزوة وادع بني ضمرة هذا كلامه، أي صالح سيدهم حينئذ، وهو مجدي بن عمر.
وعبارة بعضهم: فلما بلغ الأبواء لقي سيد بني ضمرة مجدي بن عمر الضمري، فصالحه ثم رجع إلى المدينة والمصالحة على أن لا يغزوهم ولا يغزوه ولا(2/173)
يكثروا عليه صلى الله عليه وسلم جمعا ولا يعينوا عليه عدوّا، قال: وكتب بينه وبينهم كتابا نسخته «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا الكتاب من محمد رسول الله لبني ضمرة بأنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وأن لهم النصرة على من رامهم» أي قصدهم «ألا أن يحاربوا في دين الله، ما بلّ بحرصوفة» أي ما بقي فيه ما يبل الصوفة «وأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعاهم لنصره أجابوه عليهم، بذلك ذمة الله وذمة رسوله» أي أمانهما انتهى.
وكان لواؤه صلى الله عليه وسلم أبيض. وكان مع عمه حمزة؛ واستعمل على المدينة سعد بن عبادة، وانصرف إلى المدينة راجعا، فهي أوّل غزواته صلى الله عليه وسلم، أي وكانت غيبته خمس عشرة ليلة، والله أعلم.
غزوة بواط
ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول، أي وقيل الآخر: أي من السنة المذكورة، يريد عيرا لقريش فيها أمية بن خلف، ومائة رجل من قريش وألفان وخمسمائة بعير خرج في مائتين من أصحابه: أي من المهاجرين خاصة، وحمل اللواء وكان أبيض سعد بن أبي وقاص، واللواء: هو العلم الذي يحمل في الحرب يعرف به موضع أمير الجيش. وقد يحمله أمير الجيش، وقد يجعل في مقدم الجيش.
وأول من عقد الألوية إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم: بلغه أن قوما أغاروا على لوط عليه السلام، فعقد لواء وسار إليهم بعبيده ومواليه. قال بعضهم: صرح جماعة من أهل اللغة بترادف اللواء والراية، أي فيطلق على كل اسم الآخر.
وعن ابن إسحاق وابن سعد أن اسم الراية إنما حدث بعد خيبر، واستعمل صلى الله عليه وسلم على المدينة سعد بن معاذ وقيل السائب بن مظعون: أي أخا عثمان بن مظعون وقيل السائب بن عثمان حتى بلغ بواط- بضم الموحدة وفتحها وتخفيف الواو والطاء المهملة- أي وهي جبل الينبع، أي ومن ثم قيل لها غزوة بواط.
قال بعضهم: ومن هذا الجبل تقلع أحجار المسانّ، وهذا الجبل لجهينة من ناحية رضوى، وهو أحد الأجبل التي بني منها أساس الكعبة.
وفيه أنه لم يذكر رضوى في تلك الأجبل الخمس التي كان منها أساس الكعبة المتقدم ذكرها على المشهور.
وقد جاء في الحديث «رضوى رضي الله تعالى عنه» وتزعم الكيسانية وهم أصحاب كيسان مولى علي رضي الله تعالى عنه أن محمد ابن الحنفية مقيم برضوى حي يرزق وهو الإمام المنتظر عندهم.
أي وفي كلام بعضهم أن المنتظر هو محمد القاسم بن الحسن العسكري الذي(2/174)
تزعم الشيعة أنه المنتظر وهو صاحب السرداب، يزعمون أنه دخل السرداب في دار أبيه وأمه تنظر إليه فلم يخرج إليها، وكان عمره تسع سنين، وأنه يعمر إلى آخر الزمان كعيسى، وسيظهر فيملأ الدنيا عدلا كما ملئت جورا، واختفاؤه الآن خوفا من أعدائه. قال: وهو زعم باطل لا أصل له، ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولم يلق كيدا أي حربا وأصل الكيد الاحتيال والاجتهاد ومن ثم يسمى الحرب كيدا، والله أعلم.
غزوة العشيرة
أي وبها بدأ البخاري المغازي، ويدل له ما جاء عن زيد بن أسلم وقد قيل له:
ما أول غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ذات العشيرة. وأجيب عنه بأن المراد ما أول غزوة غزاها وأنت معه.
ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر جمادى الأولى. وفي سيرة الدمياطي الآخرة من تلك السنة.
أي وفي الإمتاع في جمادى الآخرة: ويقال جمادى الأولى، يريد عيرا لقريش متوجهة للشام. يقال إن قريشا جمعت جميع أموالها في تلك العير لم يبق بمكة لا قرشي ولا قرشية له مثقال فصاعدا إلا بعث به في تلك العير إلا حويطب بن عبد العزى، يقال إن في تلك العير خمسين ألف دينار أي وألف بعير. وكان فيها أبو سفيان، أي قائدها. وكان معه سبعة وعشرون وقيل تسعة وثلاثون رجلا منهم مخرمة بن نوفل، وعمرو بن العاص، وهي العير التي خرج إليها حين رجعت من الشام. وكان سببا لوقعة بدر الكبرى كما سيأتي. خرج في خمسين ومائة؛ ويقال في مائتين من المهاجرين خاصة حتى بلغ العشيرة بالمعجمة والتصغير آخره هاء، أي ولم يختلف فيه أهل المغازي كما قال الحافظ ابن حجر. وفي البخاري آخرها همزة، وفيه أيضا العسيرة بالسين المهملة آخره هاء أي بالتصغير. وأما التي بغير تصغير فهي غزوة تبوك كما سيأتي، والتي بالتصغير فقال أيضا لموضع ببطن الينبع: أي وهو منزل الحاج المصري، وهي لبني مدلج. واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد، وحمل اللواء- وكان أبيض- عمه حمزة بن عبد المطلب، خرجوا على ثلاثين بعيرا يتعقبونها، فوجدوا العير قد مضت قبل ذلك بأيام، ورجع ولم يلق حربا. ووداع صلى الله عليه وسلم فيها بني مدلج، قال في الأصل وحلفاءهم من بني ضمرة.
وذكر في المواهب هنا صورة الكتاب الذي كتبه صلى الله عليه وسلم لبني ضمرة في غزوة ودّان الذي قدمناه ثم، فليتأمل ذلك؛ وكنى صلى الله عليه وسلم فيها عليا بأبي تراب حين وجده نائما وهو وعمار بن ياسر وقد علق به التراب، فأيقظه عليه الصلاة والسلام برجله وقال له «قم أبا تراب» لما يرى عليه من التراب: أي الذي سفته عليه الريح؛ ولما قام قال له صلى الله عليه وسلم(2/175)
«ألا أخبرك بأشقى الناس أجمعين: عاقر الناقة والذي يضربك على هذا ووضع يده على قرن رأسه، فيخضب هذه ووضع يده على لحيته» وفي رواية «أشقى الأولين عاقر ناقة صالح، وأشقى الآخرين قاتلك» . وفي رواية «أنه صلى الله عليه وسلم قال يوما لعليّ كرم الله وجهه من أشقى من الأولين؟ فقال عليّ: الذي عقر الناقة يا رسول الله قال: فمن أشقى الآخرين؟ قال عليّ: لا علم لي يا رسول الله قال: الذي يضربك على هذه وأشار إلى يافوخه» وكان كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فهو من أعلام نبوته.
فإنه لما كان شهر رمضان سنة أربعين صار يفطر ليلة عند الحسن، وليلة عند الحسين وليلة عند عبد الله بن جعفر، لا يزيد في أكله على ثلاث لقم ويقول: أحب أن ألقى الله وأنا خميص، فما كانت الليلة التي ضرب صبيحتها أكثر الخروج والنظر إلى السماء، وجعل يقول: والله إنها الليلة التي وعدت، فلما كان وقت السحر وأذن المؤذن بالصلاة خرج إلى المسجد فأقبل الأوز الذي في داره يصحن في وجهه فمنعهن بعض نساء أهل بيته، فقال: دعوهن فإنهن نوائح، فلما دخل المسجد أقبل ينادي «الصلاة الصلاة» فشد عليه عبد الرحمن بن ملجم المرادي لعنه الله من طائفة الخوارج، فضربه الضربة التي أخبر بها صلى الله عليه وسلم، وعند ذلك شد عليه الناس من كل جانب فطرح عليه رجل قطيفة ثم طنبوه وأخذ السيف منه، وقالوا له: يا أمير المؤمنين خلّ بيننا وبين مراد، يعنون قبيلة الرجل الذي ضربه، فقال: لا، ولكن احبسوا الرجل، فإن أنا مت فاقتلوه، وإن أعش فالجروح قصاص. فحبس.
فلما مات رضي الله تعالى عنه غسله الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر، ومحمد ابن الحنفية يصب الماء، وكفن في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة، وصلى عليه الحسن وكبر عليه سبعا، ودفن ليلا؛ قيل بدار الإمارة بالكوفة، وقيل بغير ذلك، وأخفي قبره لئلا تنبشه الخوارج. وقيل حملوه على بعير ليدفنوه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينا هم في مسيرهم ليلا إذ ندّ البعير الذي عليه فلم يدر أين ذهب.
ومن الناس من يزعم أنه انتقل إلى السماء، وأنه الآن في السحاب.
ولما أصيب كرم الله وجهه دعا الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما فقال لهما: أوصيكما بتقوى الله، ولا تبغيا الدنيا، ولا تبكيا على شيء زوى منها عنكما، وقولا الحق فلا تأخذكما في الله لومة لائم. ثم نظر إلى ولده محمد ابن الحنفية فقال: هل حفظت ما أوصيت به أخويك؟ فقال نعم، فقال: أوصيك بمثله، وأوصيك بتوقير أخويك لعظم حقهما عليك، ولا ترينّ أمرا دونهما، ثم قال: أوصيكما به فإنه أخوكما وابن أبيكما وقد علمتما أن أباكما كان يحبه، ثم لم ينطق إلا بلا إله إلا الله إلى أن قبض، فلما قبض أخرج الحسن رضي الله تعالى عنه ابن ملجم من الحبس وقتله.(2/176)
أقول: ذكر بعضهم عن المبرد قال ابن ملجم لعليّ كرم الله تعالى وجهه: إني اشتريت سيفي هذا بألف، وسممته بألف، وسألت الله تعالى أن يقتل به شر خلقه، فقال عليّ: قد أجاب الله دعوتك، يا حسن إذا أنا مت فاقتله بسيفه ففعل به الحسن ذلك ثم أحرقت جثته. وقد ذكر أنه قطعت أطرافه وجعل في قوصرة وأحرقوه بالنار.
وقد ذكر أن عليا قال يوما وهو مشير لابن ملجم: هذا والله قاتلي، فقيل له ألا نقتله؟ فقال: من يقتلني؟ وتبع الأصل في كون تكنية عليّ بأبي تراب في هذه الغزوة شيخه الدمياطي.
واعترضه في الهدى بأنه صلى الله عليه وسلم إنما كناه بذلك بعد نكاحه فاطمة رضي الله تعالى عنها «فإنه صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوما وقال أين ابن عمك؟ قالت: خرج مغاضبا، فجاء إلى المسجد فوجده مضطجعا فيه وقد لصق به التراب، فجعل ينفضه عنه ويقول: اجلس أبا تراب» وقيل إنما كناه أبا تراب لأنه كان إذا غضب على فاطمة في شيء لم يكلمها ولم يقل لها شيئا تكرهه، إلا أنه يأخذ ترابا فيضعه على رأسه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى التراب على رأسه عرف أنه عاتب على فاطمة.
قال في النور: يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم خاطبه بهذه الكنية مرتين، أي ويكون سبب الكنية علوق التراب به، وكونه يضعه على رأسه، والله أعلم.
غزوة سفوان ويقال لها غزوة بدر الأولى
وحين قدم صلى الله عليه وسلم من غزوة العشيرة لم يقم بالمدينة إلا ليالي لم تبلغ العشرة حتى غزا وخرج خلف كرز بن جابر الفهري وقد أغار قبل أن يسلم على سرح المدينة:
أي النعم والمواشي التي تسرح للمرعى بالغداة. خرج في طلبه حتى بلغ واديا يقال له سفوان بالمهملة والفاء ساكنة، وقيل مفتوحة من ناحية بدر، أي ولذا قيل لها غزوة بدر الأولى، وفاته صلى الله عليه وسلم كرز ولم يدركه. وكان قد استعمل على المدينة زيد بن حارثة، وحمل اللواء- وكان أبيض- علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وقد تبعت الأصل في تقديم غزوة العشيرة على غزوة سفوان لما تقدم، وهو عكس ما في سيرة الشامي الموافق لسيرة الدمياطي ولما في الإمتاع، والله أعلم.
باب تحويل القبلة
وحولت القبلة في شهر رجب من السنة المذكورة التي هي الثانية في نصفه، وقيل في نصف شعبان. قال بعضهم: وعليه الجمهور الأعظم، وقيل كان في جمادى الآخرة، أي فقد قيل «إنه صلى الله عليه وسلم في المدينة إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا، وقيل(2/177)
سبعة عشر شهرا وقيل أربعة عشر شهرا، وقيل غير ذلك، وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم صلى في مسجده بعد تمامه إلى بيت المقدس خمسة أشهر» .
والأكثرون على أن تحويلها كان في صلاة الظهر، وقيل العصر، أي ففي الصحيحين عن البراء «إن أول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم أي للكعبة صلاة العصر» .
وقد يقال: لا منافاة لجواز أن يكون المراد أول صلاة صلاها كلها للكعبة صلاة العصر، لأن الظهر صلى نصفها الأول لبيت المقدس ونصفها الثاني للكعبة: ثم رأيت الحافظ ابن حجر فعل كذلك، حيث قال: التحقيق أن أول صلاة صلاها بالمسجد النبوي صلاة العصر، أو أن التحويل في العصر كان في محل آخر للأنصار أي وهم بنو حارثة. وقيل حولت في صلاة الصبح وهو محمول على أن ذلك كان في قباء، لأن الخبر لم يبلغهم إلا حينئذ كما سيأتي، وإنما حولت لأنه صلى الله عليه وسلم كان يعجبه أن تكون قبلته الكعبة سيما لما بلغه أن اليهود قالوا يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا. أي وفي لفظ: قالوا للمسلمين: لو لم نكن على هدى ما صليتم لقبلتنا فاقتديتم بنا فيها.
وفي لفظ «كان يحب أن يستقبل الكعبة محبة لموافقة إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام وكراهة لموافقة اليهود، ولقول كفار قريش للمسلمين لم تقولون نحن على ملة إبراهيم وأنتم تتركون قبلته وتصلون إلى قبلة اليهود؟ أي ولأنه لما هاجر صار إذا استقبل صخرة بيت المقدس يستدبر الكعبة، فشق ذلك عليه صلى الله عليه وسلم، فقال لجبريل: وددت أن الله سبحانه وتعالى صرفني عن قبلة اليهود، فقال جبريل: إنما أنا عبد لا أملك لك شيئا إلا ما أمرت به، فادع الله تعالى، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الله تعالى، يكثر إذا صلى إلى بيت المقدس من النظر إلى السماء ينتظر أمر الله تعالى» أي لأن السماء قبلة الدعاء، وفي رواية، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: وددت أنك سألت الله تعالى أن يصرفني إلى الكعبة، فقال جبريل: لست أستطيع أن أبتدىء الله جل وعز بالمسألة، ولكن إن سألني أخبرته، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرا أمّ بشر بن البراء بن معرور في بني سلمة فصنعت له طعاما، وحانت صلاة الظهر فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه في مسجد هناك، فلما صلى ركعتين نزل جبريل فأشار إليه أن صلّ إلى الكعبة واستقبل الميزاب، فاستدار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، أي فاستدار النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء» أي فقد تحول من مقدم المسجد إلى مؤخره، لأن من استقبل الكعبة في المدينة يلزم أن يستدبر بيت المقدس أي كما أن من يستقبل بيت المقدس يستدبر الكعبة، وهو صلى الله عليه وسلم لو دار كما هو مكانه لم يكن خلفه مكان يسع الصفوف. قيل وكان ذلك وهم راكعون، وفيه أن هذا يستدعي عملا كثيرا في الصلاة وهو مفسد لها عندنا إذا توالى.
وقد يقال: لا مانع لجواز أن يكون ذلك قبل تحريم العمل الكثير في الصلاة،(2/178)
أو أن هذا العمل لم يكن على التوالي.
أقول: وبدخوله أي على أم بشر صلى الله عليه وسلم وعلى الربيع بنت معوذ ابن عفراء، وعلى أم حرام بنت ملحان، وعلى أختها أم سليم، والخلوة بكل منهن، فقد كانت أم حرام بنت ملحان تفلي رأسه الشريفة وينام عندها، استدل أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم جواز النظر إلى الأجنبية والخلوة بها لأمنه الفتنة كما سيأتي، والله أعلم.
وسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين، وقيل كانت تلك الصلاة التي هي صلاة الظهر التي وقع التحول فيها في مسجده صلى الله عليه وسلم، فخرج عباد بن بشر وكان صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومرّ على قوم من الأنصار يصلون العصر وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البيت يعني الكعبة ثم بلغ أهل قباء ذلك وهم في صلاة الصبح في اليوم الثاني أي وهم ركوع، وقد ركعوا ركعة فنادى مناد: ألا إن القبلة قد حولت إلى الكعبة، فتحولوا إليها.
أي وفي البخاري «بينا الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، فاستداروا إلى الكعبة، وفي مسلم بدل صلاة الصبح صلاة الغداة. قال الحافظ ابن حجر: وهو أحد أسمائها.
وقد نقل بعضهم كراهة تسميتها بذلك، ولم ينقل أنهم أمروا بقضاء العصر والمغرب والعشاء، ولا إعادة الركعة التي صلوها من الصبح، وهو دليل على أن الناسخ لا يلزم حكمه إلا بعد العلم به وإن تقدم نزوله. وعلى أنه يجوز ترك الأمر المقطوع به، وهو استقبال بيت المقدس إلى أمر مظنون وهو خبر الواحد.
وأجيب عن هذا الثاني بأن الخبر المذكور احتفت به قرائن أفادت القطع عندهم بصدق المخبر، فلم يتركوا الأمر المعلوم إلا لأمر معلوم أيضا. على أنه يجوز نسخ المتواتر بالآحاد، لأن محل النسخ الحكم، ودلالة المتواتر عليه ظنية كما تقرر في محله. ويقال إن المبلغ لهم عباد بن بشر أيضا فيكون عباد أتى بني حارثة أولا في صلاة العصر ثم توجه إلى أهل قباء فأعلمهم بذلك في وقت الصبح، والقرآن الذي نزل قوله تعالى قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ [البقرة: الآية 144] الآيات أي وإلى هذا يشير بعضهم بقوله:
كم للنبي المصطفى من آية ... غراء حار الفكر في معناها
لما رأى الباري تقلب وجهه ... ولاه أيمن قبلة يرضاها
وعن عمارة بن أوس الأنصاري، قال: صلينا إحدى صلاتي العشي أي وهما الظهر والعصر، فقام الرجل على باب المسجد ونحن في الصلاة، فنادى: إن الصلاة(2/179)
قد وجهت نحو الكعبة فتحول إمامنا نحو الكعبة وقوله تعالى قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ [البقرة: الآية 144] أي متطلعا نحو الوحي ومتشوقا للأمر باستقبال الكعبة فَلَنُوَلِّيَنَّكَ [البقرة: الآية 144] أي نحو لنك قِبْلَةً تَرْضاها [البقرة: الآية 144] أي تحبها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [البقرة: الآية 144] أي نحوه، والمراد بالمسجد الحرام الكعبة وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ [البقرة:
الآية 144] أي الرجوع إلى الكعبة مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة: الآية 5] أي لما في كتبهم من نعته صلى الله عليه وسلم بأنه يتحول إلى الكعبة.
أقول: ولعل هذه القصة التي رواها عمارة هي التي رويت عن رافع بن خديج، قال «أتانا آت ونحن نصلي في بني عبد الأشهل، فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أن يتوجه إلى الكعبة فدار أمامنا إلى الكعبة ودرنا معه» والله أعلم.
«واجتمع قوم من كبار اليهود جاؤوا إليه صلى الله عليه وسلم وقالوا له: يا محمد ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه أي وما كنت عليه قبلة إبراهيم» وهذا بناء على دعواهم أن بيت المقدس كان قبلة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما سيأتي عنهم، وسيأتي ما فيه ثم قالوا ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك «وإنما يريدون بذلك فتنة ليعلم الناس أنه صلى الله عليه وسلم في حيرة من أمره» أي واختبار لما يجدونه في نعته صلى الله عليه وسلم من أنه يرجع عن استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة وأنه لا يرجع عن تلك القبلة، وفي رواية أنهم قالوا للمسلمين: ما صرفكم عن قبلة موسى ويعقوب وقبلة الأنبياء» أي ويوافقه قول الزهري «لم يبعث الله منذ هبط آدم عليه الصلاة والسلام إلى الأرض نبيا إلا جعل قبلته صخرة بيت المقدس» ويوافق هذا ظاهر قول الإمام السبكي رحمه الله تعالى في تائيته:
وصليت نحو القبلتين تفردا ... وكل نبيّ ما له غير قبلة
قال شارحها: يشير إلى أن كل نبي كانت قبلته بيت المقدس، وهو صلى الله عليه وسلم قد شاركهم فيها، أي واختص بالكعبة.
ومن ثم جاء في التوراة في وصفه صلى الله عليه وسلم «صاحب القبلتين» وفيه أن قبلة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم إنما هي الكعبة. فعن أبي العالية كانت الكعبة قبلة الأنبياء، وكان موسى يصلي إلى صخرة بيت المقدس، وهي بينه وبين الكعبة، ومثل هذا لا يقال إلا عن توقيف، أي ويقال بمثل هذا فيما تقدم عن اليهود وعن الزهري، على تسليم صحته من أن صخرة بيت المقدس كانت قبلة لجميع الأنبياء أنهم كانوا يصلون إليها ويجعلونها بينهم وبين الكعبة، فلا مخالفة.
لا يقال: هذا ليس أولى من العكس، أي أن استقبال الأنبياء للكعبة إنما كانوا يجعلونها بينهم وبين صخرة بيت المقدس. لأنا نقول: قد ذكر في الأصل في تفسير(2/180)
قوله تعالى لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ [البقرة: الآية 146- 147] أي يكتمون ما علموا من أن الكعبة هي قبلة الأنبياء، أي المقصودة بالاستقبال، لا أنهم يستقبلونها لأجل صخرة بيت المقدس.
وذكر عن بعضهم أن اليهود لم تجد كون الصخرة قبلة في التوراة، وإنما كان تابوت السكينة على الصخرة، فلما غضب الله على بني إسرائيل رفعه فصلوا إلى الصخرة بمشاورة منهم، أي وادعوا أنها قبلة الأنبياء- وما تقدم عن الزهري تقدم الجواب عنه- ثم قالوا والله إن أنتم إلا قوم تفتنون، فأنزل الله تعالى سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [البقرة: الآية 142] أي الجهات كلها فيأمر بالتوجه إلى أيّ جهة شاء لا اعتراض عليه يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة: الآية 142] أي فكان أوّل ما نسخ أمر القبلة.
فعن ابن عباس أول ما نسخ من القرآن فيما يذكر لنا والله أعلم شأن القبلة فاستقبل صلى الله عليه وسلم بيت المقدس- أي بمكة والمدينة- ثم صرفه الله تعالى إلى الكعبة.
أي وأما قوله تعالى فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة: الآية 115] فمحمول على النفل في السفر إذا صلى حيث توجه.
وما قيل إن سبب نزولها ما ذكره بعض الصحابة، قال «كنا في سفر ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة، فصلى كل منا على حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت» ففيه نظر لضعف الحديث؛ أو هو محمول على ما إذا صلوا باجتهاد.
أي ولما توجه صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، قال المشركون من أهل مكة توجه محمد بقبلته إليكم، وعلم أنكم كنتم أهدى منه، ويوشك أي يقرب أن يدخل في دينكم ومن ثم ارتد جماعة وقالوا مرة هاهنا ومرة هاهنا.
«ولما حوّلت القبلة إلى الكعبة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد قباء فقدم جدار المسجد موضعه الآن، وقالت الصحابة له: يا رسول الله لقد ذهب منا قوم قبل التحول، فهل يقبل منا ومنهم؟ فأنزل الله تعالى قوله وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة: الآية 143] أي صلاتكم إلى بيت المقدس» . وذكر في الأصل «أن الصحابة قالوا:
مات قبل أن تحول قبل البيت رجال وقتلوا، أي وهم عشرون، ثمانية عشر من أهل مكة، واثنان من الأنصار وهما البراء بن معرور، وأسعد بن زرارة فلم ندر ما نقول فيهم؛ فأنزل الله تعالى وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة: الآية 143] الآية» ولفظة القتل وقعت في البخاري.
وأنكرها الحافظ ابن حجر فقال: ذكر القتل لم أره إلا في رواية زهير، وباقي الروايات إنما فيها ذكر الموت فقط، ولم أجد في شيء من الأخبار أن أحدا من المسلمين قتل قبل تحويل القبلة، لكن لا يلزم من عدم الذكر عدم الوقوع، فإن كانت(2/181)
هذه اللفظة محفوظة فتحمل على أن بعض المسلمين ممن لم يشتهر، قتل في تلك المدة في غير الجهاد.
ثم قال: وذكر لي بعض الفضلاء أنه يجوز أن يراد من قتل بمكة من المستضعفين كأبوي عمار، فقلت: يحتاج إلى ثبوت أن قتلهما كان بعد الإسراء، هذا كلام الحافظ وفيه أن الركعتين اللتين كان يصليهما وهو والمسلمون بالغداة وبالعشي قبل فرض الصلوات الخمس كانتا لبيت المقدس، فقد تقدم أنه كان يصلي هو وأصحابه إلى الكعبة ووجوههم إلى بيت المقدس، فكانوا يصلون بين الركنين اليماني والذي عليه الحجر الأسود لأجل استقبال بيت المقدس، وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم لم يلتزم ذلك بل كان في بعض الأوقات يصلي إلى الكعبة في أي جهة أراد.
ثم لما قدم المدينة صار يستقبل بيت المقدس ويستدبر الكعبة إلى وقت التحويل، ومن ثم قال في الأصل «ولما كان صلى الله عليه وسلم يتحرى القبلتين جميعا أي يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس لم يتبين توجهه إلى بيت المقدس للناس حتى خرج من مكة» أي فإنه استدبر الكعبة واستقبل بيت المقدس.
فقول ابن عباس؛ لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، واليهود يستقبلون بيت المقدس، أمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس، معناه أمره الله تعالى أن يستمر على استقبال بيت المقدس، وهذا هو المراد بقوله الذي نقله بعضهم عنه، وهو أنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يصلون بمكة إلى الكعبة، فلما هاجروا أمره الله تعالى أن يصلي نحو صخرة بيت المقدس، أي يستمر على ذلك ويستدبر الكعبة، ثم أمره الله باستقبال الكعبة واستدبار بيت المقدس؛ فلم يقع النسخ مرتين كما قد يفهم من ظاهر السياق ومن قول ابن جرير صلى الله عليه وسلم أول ما صلى إلى الكعبة، ثم صرف إلى بيت المقدس وهو بمكة، فصلى صلاة ثلاث حجج، ثم هاجر فصلى إليه، ثم وجهه الله تعالى إلى الكعبة» هذا كلامه، ومن ثم قال الحافظ ابن حجر: هذا ضعيف، ويلزم منه دعوى النسخ مرتين. قيل وكان أمره بمداومة استقبال بيت المقدس ليتألف أهل الكتاب لأنه كان ابتداء الأمر يحب أن يتألف أهل الكتاب فيما لم ينه عنه، فلا يخالف ما سبق من أنه كان يحب أن يستقبل الكعبة كراهة لموافقة اليهود في استقبال بيت المقدس ولا يخالف هذا قول بعضهم، كان صلى الله عليه وسلم قبل فتح مكة يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينه عنه، وبعد الفتح يحب مخالفتهم، لجواز أن يكون ذلك أغلب أحواله.
وقد يؤخذ من استدامة استقباله لبيت المقدس كان لتألف أهل الكتاب، جواب عما يقال إذا كانت الكعبة قبلة الأنبياء كلهم، فلم وفق إلى استقبال بيت المقدس وهو بمكة؟ بناء على أن صلاته لبيت المقدس وهو بمكة كانت باجتهاد.
وحاصل الجواب أنه أمر بذلك أو وفق إليه، لأنه سيصير إلى قوم قبلتهم بيت(2/182)
المقدس، ففيه تأليف لهم، وقد يوافقه ما في الأصل عن محمد بن كعب القرظي قال: ما خالف نبي نبيا قط في قبلة إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل بيت المقدس، أي فهو مخالف لغيره من الأنبياء في ذلك، وهذا موافق لما تقدم عن أبي العالية: كانت الكعبة قبلة الأنبياء: أي ثم في السنة المذكورة التي هي الثانية فرض صوم رمضان، وفرضت زكاة الفطر، وطلبت الأضحية، أي استحبابا.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه» فرض شهر رمضان بعد ما صرفت القبلة إلى الكعبة بشهر في شعبان، أي على ما تقدم «وكان صلى الله عليه وسلم يصوم هو وأصحابه قبل فرض رمضان ثلاثة أيام من كل شهر، أي وهي الأيام البيض وهي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر» قيل وجوبا.
فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفطر الأيام البيض في حضر ولا سفر، وكان يحث على صيامها» .
وقيل: كان الواجب عليه صلى الله عليه وسلم قبل فرض رمضان صوم عاشوراء، ثم نسخ ذلك بوجوب رمضان.
وعاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم: ففي البخاري، ثم عن ابن عمر رضي الله عنهما «صام النبي صلى الله عليه وسلم عاشوراء، فلما فرض رمضان ترك صوم عاشوراء، هذا والمشهور من مذهبنا معاشر الشافعية أنه لم يجب على هذه الأمة صوم قبل رمضان.
وحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا دلالة فيه على الوجوب، لجواز أن يكون شأنه صلى الله عليه وسلم صيام تلك الأيام على الوجه المذكور حتى بعد فرض رمضان.
وحديث البخاري أيضا لا دلالة فيه، لجواز أن يكون تركه لصوم يوم عاشوراء في بعض الأحايين، بعد فرض رمضان خشية اعتقاد وجوب صومه كرمضان.
ويجاب بمثل ذلك عما في الترمذي، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت «كان عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه موافقه لهم» أي ولم يأمر أحد من أصحابه بصيامه، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان كان رمضان هو الفريضة وترك عاشوراء، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه أي ترك صلى الله عليه وسلم صومه خوفا من توهم أنه فرض كرمضان، وقولها رضي الله تعالى عنها فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه أي لأنه صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة: أي في أيام قدومه للمدينة، وذلك في شهر ربيع الأول وجد اليهود تصومه وتعظمه، فسألهم عن ذلك، فقالوا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرا فنحن نصومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نحن أحق(2/183)
بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه» كما جاء ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وفي كلام الحافظ ناصر الدين عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة يوم عاشوراء، فإذا اليهود صيام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذا؟ قالوا: هذا يوم أغرق الله تعالى فيه فرعون وأنجى فيه موسى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أولى بموسى، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصومه» هذا حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم.
والمدينة يحتمل أن المراد بها قباء، ويحتمل أن المراد بها باطنها، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فلما فرض رمضان قال صلى الله عليه وسلم أي لأصحابه، من شاء صامه ومن شاء تركه، أي قال ذلك لهم خشية اعتقادهم وجوب صومه كوجوب صوم رمضان.
وفي كونه صلى الله عليه وسلم وجدهم صائمين لذلك اليوم إشكال، لأن يوم عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم كما تقدم، أو هو اليوم التاسع منه كما يقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فكيف يكون في ربيع الأول.
وأجيب بأن السنة عند اليهود شمسية لا قمرية، فيوم عاشوراء الذي كان عاشر المحرم واتفق فيه غرق فرعون لا يتقيد بكونه عاشر المحرم، بل اتفق في ذلك الزمن: أي زمن قدومه صلى الله عليه وسلم وجود ذلك اليوم بدليل سؤاله صلى الله عليه وسلم، إذ لو كان ذلك اليوم يوم عاشوراء ما سأل.
ومما يدل على ذلك ما في المعجم الكبير للطبراني عن خارجة بن زيد، قال ليس يوم عاشوراء اليوم الذي تقوله الناس؟ إنما كان يوم تستر في الكعبة، وتلعب فيه الحبشة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يدور في السنة، وكان الناس يأتون فلانا اليهودي فيسألونه، فلما مات اليهودي أتوا زيد بن ثابت فسألوه، فصام صلى الله عليه وسلم ذلك اليوم وأمر بصيامه، حتى إنه أرسل في ذلك اليوم أسلم بن حارثة إلى قومه وهم أسلم وقال: مر قومك بصيام عاشوراء، فقال: أرأيت إن وجدتهم قد طعموا؟ قال: فليتموا أي يمسكوا تعظيما لذلك اليوم.
وفي دلائل النبوة للبيهقي عن بعض الصحابيات قالت «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظم يوم عاشوراء ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو يوم عاشوراء بالرضعاء فيتفل في أفواههم ويقول للأمهات لا ترضعنهن إلى الليل» .
والظاهر أن المراد بيوم عاشوراء هذا اليوم الذي هو عاشر المحرم الهلالي لا الشمسي، وكذا يقال في قوله وقيل سمي الخ فليتأمل.
وقيل: سمي يوم عاشوراء لأن عشرة من الأنبياء أكرمهم الله تعالى فيه بعشر(2/184)
كرامات تاب الله فيه على آدم واستوت فيه سفينة نوح على الجودي أي فصامه نوح ومن معه حتى الوحش شكر الله ورفع الله فيه إدريس، ونصر الله فيه موسى، ونجى فيه إبراهيم من النار وفيه أخرج يوسف من السجن، أي وفيه ولد، ورد فيه على والده يعقوب، وأخرج فيه يونس من بطن الحوت، أي وتاب الله على أهل مدينته، وتاب الله فيه على داود، وعوفي فيه أيوب.
وفي كلام الحافظ ابن ناصر الدين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله عز وجل افترض على بني إسرائيل صوم يوم في السنة» وهو يوم عاشوراء، وهو اليوم العاشر من المحرم، فصوموه ووسعوا على أهاليكم فيه فإنه من وسع على أهله من ماله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته، فصوموه، وهو اليوم الذي تاب الله فيه على آدم، وذكر ما تقدم وزاد عليه، «وأنه اليوم الذي أنزل الله فيه التوراة على موسى، وفيه فدى الله إسماعيل من الذبح، وهو اليوم الذي رد الله فيه على يعقوب بصره، وهو اليوم الذي رد الله فيه على سليمان ملكه، وهو اليوم الذي غفر الله فيه لمحمد صلى الله عليه وسلم ذنبه ما تقدم وما تأخر، وأول يوم خلق من الدنيا يوم عاشوراء، وأول مطر نزل من السماء يوم عاشوراء، وأول رحمة نزلت من السماء يوم عاشوراء، فمن صام يوم عاشوراء فكأنما صام الدهر كله، وهو صوم الأنبياء، الحديث بطوله، ثم قال: هذا حديث حسن، ورجاله ثقات.
وذكر الحافظ المذكور عن بعضهم قال: كنت أفت للنمل خبزا في كل يوم، فلما كان يوم عاشوراء لم تأكل، وتقدم أن الصّرد أول طير صام عاشوراء.
وفي كلام بعضهم: ما قيل في يوم عاشوراء كانت توبة آدم إلى آخر ما تقدم من الأحاديث الموضوعة، وفي كلام بعض آخر: ما يفعل فيه من إظهار الزينة بالخضاب والاكتحال، ولبس الجديد، وطبخ الحبوب والأطعمة والاغتسال والتطيب من وضع الكذابين.
والحاصل أن الرافضة اتخذوا ذلك مأتما يندبون وينوحون ويحزنون فيه، والجهال اتخذوا ذلك موسما وكلاهما مخطىء مخالف للسنة، وأما التوسعة فيه على العيال، فحديثها وإن لم يكن صحيحا فهو حسن، خلافا لقول ابن تيمية إن التوسعة على العيال لم يرد فيها شيء عنه صلى الله عليه وسلم وكان صلى الله عليه وسلم يصوم عاشوراء كما تصومه اليهود، أي ويوم عاشوراء مختلف، لأنه عند اليهود من السنة الشمسية، وعند أهل الإسلام من السنة الهلالية.
وفي مسلم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صام يوم عاشوراء وأمر بصيامه، قال له بعض الصحابة يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان العام المقبل صمنا اليوم التاسع قبله» أي مخالفة(2/185)
لليهود، فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي هذا الحديث إشكال، فإن سياقه يدل على أنه صلى الله عليه وسلم ما صام يوم عاشوراء ولا أمر بصيامه، إلا في السنة التي توفي فيها وهو مخالف لما سبق.
ويجاب عن هذا الإشكال بأن المراد بقوله حين صام: أي حين واظب على صومه. واتفق أن قول بعض الصحابة ذلك كان في السنة التي توفي فيها، وهو صلى الله عليه وسلم كان شأنه موافقة أهل الكتاب قبل فتح مكة ومخالفتهم بعده كما تقدم، وبعض متأخري فقهائنا ظن أن قوله صلى الله عليه وسلم «إذا كان العام المقبل إن شاء الله تعالى صمن اليوم التاسع» من تتمة حديث «ولما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود تصومه فصامه وأمر بصيامه» فاستشكل.
وأجاب، بأن المراد لما قدم من سفرة سافرها من المدينة بعد الهجرة. أي وكان قدومه من تلك السفرة في السنة التي توفي فيها، وقد علمت أنهما حديثان؛ وقد علمت معنى الحديث الذي تتمته إذا كان العام المقبل. وفي كون إغراق فرعون ونجاة موسى كان يوم قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة يلزم عليه أن ذلك اليوم انتقل من ذلك الشهر إلى اليوم العاشر من المحرم الذي هو الشهر الهلالي من السنة الثانية، واستمر كذلك كما هو ظاهر سياق الأحاديث أن الذي واظب على صيامه إنما هو ذلك اليوم، وكونه وافق اليهود على صوم ذلك اليوم، ثم خالفهم في السنة الثانية وما بعدها من أبعد البعيد.
ثم رأيت أبا الريحان البيروتي نازع في ذلك في كتابه «الآثار الباقية عن القرون الخالية» حيث قال: رواية أن الله أغرق فرعون ونجى موسى وقومه يوم قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة لامتحان يشهد عليها بالبطلان، وبين ذلك بما يطول. وحينئذ يكون من جملة ما يحكم عليها بالبطلان إقرارهم على ذلك؛ وكونه صلى الله عليه وسلم صامه وأمر بصيامه وفرض الله عز وجل عليه صلى الله عليه وسلم وعلى أمته صيام شهر رمضان أو الإطعام عن كل يوم مسكينا بقوله تعالى وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ [البقرة: الآية 184] من الأصحاء المقيمين فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً [البقرة: الآية 184] : أي زاد على إطعام المسكين فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة: الآية 184] أي من الفطر والإطعام، فكان من شاء صام، ومن شاء أطعم عن كل يوم مدا.
ثم إن الله تعالى نسخ هذا التخيير بإيجاب صوم رمضان عينا بقوله فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ [البقرة: الآية 185] أي علمه فَلْيَصُمْهُ [البقرة: الآية 185] إلا في حق من لا يستطيع صومه لكبر أو لمرض لا يرجى زواله فيجزيه الإطعام ورخص فيه للمريض، أي إذا كان بحيث تحصل له مشقة تبيح التيمم، وللمسافر أي الذي يباح له قصر الصلاة وإن لم يحصل له مشقة بالكلية مع وجوب القضاء إذا زال المرض والسفر بقوله تعالى وَمَنْ(2/186)
كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: الآية 185] أي فأفطر فعليه صيام عدة ما أفطر من أيام أخر، وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا بعد الغروب أو يدخل وقت العشاء الآخرة، فإذا ناموا أو دخل وقت العشاء الآخرة امتنع عليهم ذلك إلى الليلة القابلة، ثم نسخ الله ذلك، وأحل الأكل والشرب وإتيان النساء إلى طلوع الفجر ولو بعد النوم ودخول وقت العشاء بقوله تعالى أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ [البقرة: الآية 187] ثم قال تعالى وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ [البقرة: الآية 187] ولما فهم بعض الصحابة أن المراد الخيط حقيقة حتى صار يجعل عند وسادته حبلا أبيض وحبلا أسود أنزل الله تعالى من الفجر إشارة إلى أن المراد بياض النهار وسواد الليل.
وذكر في التفسير في سبب نزول هذه الآية: «أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه واقع أهله بعد ما صلى العشاء، فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخاطئة، إني رجعت إلى أهلي فوجدت رائحة طيبة فسولت لي نفسي، فجامعت أهلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما كنت جديرا بذلك يا عمر. فقام رجال فاعترفوا بمثله، فنزلت» وذكر له صلى الله عليه وسلم أن بعض أصحابه سقط مغشيا عليه بسبب الصوم، فسأله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأخبر أنه أهل حرث، وأنه جاء لينظر ما تعمله له زوجته ليتعشى به فغلبته عينه فنام فلم يستيقظ إلا بعد الغروب، فلم يتناول شيئا فأنزل الله تعالى وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [البقرة: الآية 187] الآية: وقوله تعالى كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: الآية 183] جاء في بعض الروايات، أن المراد بهم أهل الكتاب: أي اليهود والنصارى، جاء في بعضها أن المراد بهم النصارى خاصة، وجاء في بعض الروايات أن المراد بهم جميع الأمم السابقة:
فقد جاء «ما من أمة إلا وجب عليها صوم رمضان إلا أنهم أخطؤوه ولم يهتدوا له» وهذه الرواية تدل على أنه لم يصمه أحد من الأمم السابقة. فصومه من خصوصيات هذه الأمة.
وفي الأنساب لابن قتيبة «أول من صام رمضان نوح عليه الصلاة والسلام» هذا كلامه: وفي بعض الروايات ما يفيد أن النصارى صامته، واتفق أنه وقع في بعض السنين في شدة الحر فاقتضى رأيهم تأخيره بين الصيف والشتاء، وأن يزيدوا في مقابلة تأخيره عشرين يوما، وعلى هذا فصومه ليس من خصائص هذه الأمة، وقيل التشبيه إنما هو في مطلق الصوم لا في خصوص صوم رمضان، لأنه كان الواجب على جميع ما تقدم من الأمم صوم ثلاثة أيام من كل شهر، صام ذلك نوح فمن دونه حتى صامه النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم؛ وتقدم أن تلك الأيام التي صامها صلى الله عليه وسلم كانت البيض التي هي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وتقدم أنه قيل: إن صوم ذلك كان واجبا عليه صلى الله عليه وسلم وعلى أمته.(2/187)
وقيل: كان الواجب عليه وعلى أصحابه قبل صوم رمضان عاشوراء، وتقدم رده، وكان فرض زكاة الفطر قبل العيد بيومين «وكان صلى الله عليه وسلم يخطب قبل العيد بيومين يعلم الناس زكاة الفطر فيأمر باخراج تلك الزكاة قبل الخروج إلى صلاة العيد» أي بعد أن شرعت، لأن مشروعيتها تأخرت عن مشروعية صلاة عيد الأضحى، وكان فرض زكاة الفطر قبل فرض زكاة الأموال، وكان فرض زكاة الأموال في تلك السنة التي هي الثانية، ولم أقف على خصوص الشهر الذي وجبت فيه. قال بعضهم:
ولعل هذا محمل قول بعض المتأخرين المطلعين على الفقه والحديث، لم يتحرر لي وقت فرض الزكاة: أي زكاة المال، ولعله عنى ببعض المتأخرين الإمام سراج الدين البلقيني رحمه الله، لأن الإمام سراج الدين البلقيني سئل هل علمت السنة التي فرضت فيها زكاة المال؟ فأجاب بقوله: لم يتعرض الحفاظ ولا أصحاب السير للسنة التي فرض فيها زكاة المال، ووقع لي حديثان ظهر منهما تقريب ذلك ولم أسبق إليه.
ثم قال: فقد ظهر أن زكاة المال بعد زكاة الفطر؛ وقيل قدوم ضمام بن ثعلبة، وقدومه كان في السنة الخامسة هذا كلامه.
وقيل: فرضت زكاة الفطر قبل الهجرة، وعليه يحمل ظاهر ما في «سفر السعادة» كان صلى الله عليه وسلم يرسل مناديا ينادي في الأسواق والمحلات والأزقة من مكة: ألا إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم ومسلمة الحديث.
ورد بأنه لم يفرض قبل الهجرة بعد الإيمان إلا الصلوات الخمس، وكل الفروض فرضت بعد الهجرة. وفيه أنه فرض قيام الليل كما تقدم، وصلاة الركعتين بالغداة والركعتين بالعشي على ما تقدم. إلا أن يقال المراد الفروض الموجودة الآن المستمر فرضها وما تقدم عن «سفر السعادة» يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم يرسل المنادي الذي ينادي في مكة بوجود زكاة الفطر وهو بالمدينة بعد وجوبها بالمدينة «وأمر صلى الله عليه وسلم أن تخرج زكاة الفطر عن الصغير والكبير والحر والعبد والذكر والأنثى صاع من تمر أو صاع من شعير أو صاع من زبيب أو صاع من بر، فكان يصلي العيدين قبل الخطبة بلا أذان ولا إقامة» أي بل يقال: الصلاة جامعة، لكن في «سفر السعادة» «وكان صلى الله عليه وسلم إذا بلغ المصلى شرع في الصلاة من وقته بلا أذان ولا إقامة ولا الصلاة جامعة» والسنة أن لا يكون شيء من هذا كله هذا كلامه «وكانت تحمل العنزة بين يديه، فإذا وصل المصلى نصبت تجاهه» وهي عصا قدر نصف الرمح في أسفلها زج من حديد «وكان تلك العنزة للزبير بن العوام قدم بها من أرض الحبشة، فأخذها منه صلى الله عليه وسلم وكان يصلي إليها» أي أخذها منه بعد وقعة بدر. وقد قتل بها الزبير عبيدة بفتح العين المهملة وبضمها ابن سعيد بن العاص الذي كان يقال له أبو ذات الكرش. قال الزبير: لقيته لا يرى منه إلا عيناه، فقال لي أنا أبو ذات الكرش، فحملت عليه(2/188)
بالعنزة فطعنته في عينه فمات، وأردت إخراجها فوضعت رجلي عليه، ثم تمطيت فكان الجهد أن نزعتها وقد انثنى طرفها. ولما قبض صلى الله عليه وسلم أخذها الزبير، ثم طلبها أبو بكر رضي الله تعالى عنه فأعطاه إياها، فلما قبض أبو بكر رضي الله تعالى عنه أخذها الزبير ثم سألها عمر رضي الله تعالى عنه فأعطاه إياه، فلما قبض عمر أخذها، ثم طلبها عثمان فأعطاه إياها، فلما قتل دفعت إلى علي، ثم أخذها عبد الله بن الزبير فكانت عنده حتى قتل.
«وكان صلى الله عليه وسلم إذا رجع من صلاة عيد الفطر وخطبته يقسم زكاة الفطر بين المساكين» ولعل المراد الزكاة المتعلقة به لأنه تقدم أنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر الناس بإخراجها قبل الصلاة. إلا أن يقال المراد بإخراجها جمعها له صلى الله عليه وسلم ليفرقها.
«وإذا فرغ صلى الله عليه وسلم من صلاة الأضحى وخطبته يؤتى له بكبشين وهو قائم في مصلاه فيذبح أحدهما بيده ويقول: هذا عن أمتي جميعا، من شهد لك بالتوحيد، وشهد لي بالبلاغ» .
وعند الحاكم عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح كبشا أقرن بالمصلى، أي بعد أن قال: بسم الله والله أكبر. وقال: اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي» .
واستدل بذلك على أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن يضحي عن غيره بغير إذنه «ويذبح الآخر ويقول: هذا عن محمد وآل محمد، فيأكل هو وأهله منهما، ويطعم المساكين، ولم يترك الأضحية قط» وهل كانت الأنبياء من بعد إبراهيم تضحي هم وأممهم أو هم خاصة؟ وكان في مسجده صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة قبل أن يوضع له المنبر يخطب ويسند ظهره إلى أسطوانة من جذوع النخل أو من الدوم وهو شجر المقل.
وعبارة بعضهم «كان يخطب الناس وهو مستند إلى جذع عند مصلاه في الحائط القبلي، فلما كثر الناس أي وقالوا له صلى الله عليه وسلم: لو اتخذت شيئا تقوم عليه إذا خطبت يراك الناس وتسمعهم خطبتك، فقال: ابنوا لي منبرا فلما بني له المنبر عتبتين، أي ومحل الجلوس، فكان ثلاث درجات، وقام عليه في يوم جمعة أي وخطب» وفي لفظ «لما عدل إلى المنبر ليخطب عليه وجاوز ذلك الجذع سمع لتلك الأسطوانة حنين كحنين الواله بصوت هائل سمعه أهل المسجد حتى ارتج» أي اضطرب «المسجد، وكثر بكاء الناس لذلك، ولا زالت تحنّ حتى تصدعت وانشقت» أي وفي رواية «سمع له صوت كصوت العشار» أي النوق التي أتى لحملها عشرة أشهر. وقيل التي أخذ ولدها. وفي بعض الروايات «كحنين الناقة الحلوج» وهي التي انتزع ولدها منها. وفي رواية «جأر» بفتح الجيم وبعدها همزة مفتوحة: أي صوت، أو بالخاء المعجمة بلا همزة وهو بمعناه «كخوار الثور، فنزل صلى الله عليه وسلم فالتزمها وحضنها» أي فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكت فيسكت.(2/189)
أي وفي كلام بعضهم: وذكر الإسفراييني «أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاه إلى نفسه فجاءه يخرق الأرض، فالتزمه فعاد إلى مكانه» وفي رواية «ووضع يده عليها، وقال لها اسكني واسكتي فسكتت» وفي رواية «أن هذا» أي الجذع «يبكي لما فقد من الذكر، والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه لم يزل هكذا» أي يحن إلى يوم القيامة. زاد في رواية «حزنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم» وقوله لما فقد من الذكر هو واضح على الرواية الأولى. وأما على الثانية فالمراد لما يفقده من الذكر، وإلى حنين الجذع أشار الإمام السبكي رحمه الله تعالى في تائيته بقوله:
وحن إليك الجذع حين تركته ... حنين الثكالى عند فقد الأحبة
وعن بعضهم قال: قال لي الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه: ما أعطى الله نبيا ما أعطى محمدا صلى الله عليه وسلم، فقلت أعطى عيسى إحياء الموتى، فقال: أعطى محمدا صلى الله عليه وسلم حنين الجذع، فهذا أكبر من ذاك. وفي رواية «لا تلوموه» أي الجذع «على حنينه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفارق شيئا إلا وجد عليه» أي حزن. وفي رواية «أنه قال له: إن شئت أردك إلى الحائط» أي البستان الذي كنت فيه تنبت لك عروقك ويكمل خلقك ويجدد لك خوص وثمرة، وإن شئت أغرسك في الجنة فيأكل أولياء الله من ثمرك.
ثم أصغى له صلى الله عليه وسلم يسمع ما يقول فقال بصوت سمعه من يليه: بل تغرسني في الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فعلت قد فعلت» وفي رواية «لما أصغى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اختار أن أغرسه في الجنة» أي وفي رواية «اختار دار البقاء على دار الفناء» ولا يخالف ما قبله، لأنه يجوز أن يكون السائل من غير من سمع جوابه وأمر به فدفن تحت المنبر، وقيل جعل في السقف وأخذه عنده أبيّ رضي الله عنه بعد أن هدم المسجد وأزيل سقفه، فكان عنده إلى أن أكلته الأرضة وعاد رفاتا أي متكسرا من شدة اليبس.
أقول: في سيرة الحافظ الدمياطي قالوا «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يخطب إلى جذع في المسجد قائما، فقال: إن القيام شق عليّ، فقال له تميم الداري ألا أعمل لك منبرا كما رأيت يصنع بالشام، أي تصنعه النصارى في كنائسهم لأساقفتهم تسمى المرقاة يصعدون إليها عند تذكيرهم فتشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المسلمين في ذلك، فرأوا أن يتخذوه، فقال العباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما إن لي غلاما يقال له كلاب أعلم الناس أي بالنجارة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مره أن يعمله، فأرسله إلى أثلة بالغابة فقطعها ثم عمل منها درجتين ومقعدا، ثم جاء به فوضعه في موضعه اليوم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام عليه» أي وقال «إن أتخذ منبرا فقد اتخذه أبي إبراهيم» أي ولعله صلى الله عليه وسلم عنى به المقام الذي كان يقوم عليه عند بناء البيت وهو الحجر، إلا إن ثبت أن إبراهيم كان له منبر يحدث عليه الناس.(2/190)
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند المنبر يقول «يأخذ الجبار بسمواته وأرضه بيده، ثم يقول: أنا الجبار أنا الجبار، أين الجبارون، أين المتكبرون؟ ويميل يعني النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه وشماله حتى نظرت إلى المنبر يتحرك حتى إني أقول: أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم» وفي رواية عنه «فقال المنبر هكذا وهكذا، فجاء وذهب ثلاث مرات» . وفي رواية عن عائشة رضي الله تعالى عنها «فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم منبره حتى قلن ليحزن، وقال: منبري هذا على ترعة» بضم المثناة فوق وإسكان الراء وبالعين المهملة «من ترع الجنة، أي أفواه جداول الجنة، وقوائم منبري رواتب أي ثوابت في الجنة» وقال صلى الله عليه وسلم «منبري على حوضي» وقال «إن حوضي كما بين عدن إلى عمان، أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، وأطيب رائحة من المسك، أباريقه عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا، وأكثر الناس ورودا عليه يوم القيامة فقراء المهاجرين. قلنا: من هم يا رسول الله؟ قال: الشعثة، رؤوسهم، الدنسة ثيابهم، الذين لا ينكحون المنعمات، ولا تفتح لهم السدد، أي الأبواب الذين يعطون الذي عليهم ولا يأخذون الذي لهم» وقال صلى الله عليه وسلم «ما بين قبري ومنبري» . وفي رواية بدل قبري «بيتي» وفي لفظ «حجرتي» والمراد قبره الشريف، فإنه في حجرته، وحجرته هي بيته صلى الله عليه وسلم «روضة من رياض الجنة» أي يكون بعينه في الجنة بقعة من بقاعها أي ينقلها الله تعالى فتكون في الجنة بعينها.
وقيل إن الصلاة والدعاء فيها يستحق بذلك من الثواب ما يكون موجبا لدخول الجنة، كما قيل بذلك في قوله صلى الله عليه وسلم «الجنة تحت ظلال السيوف» مع أن تلك السيوف كانت بأرض الكفر. وقيل إنها لبركتها أضيفت إلى الجنة كما قيل في الضأن إنها من دواب الجنة.
وقال ابن حزم: ليس على ما يظنه أهل الجهل من أن تلك الروضة قطعة مقتطعة من الجنة. وقال صلى الله عليه وسلم «من حلف على منبري كاذبا ولو على سواك أراك فليتبوأ مقعده من النار» وفي رواية «إلا وجبت له النار» .
أقول: وجاء «أنه صلى الله عليه وسلم كان على المنبر يعتمد على عصا من شوحط» وفي الهدى: لم يعتمد صلى الله عليه وسلم في خطبته على سيف أبدا، وقبل أن يتخذ له المنبر كان يعتمد على قوس أو عصا، أي وقيل كان يعتمد على قوس إن خطب في الحرب وعلى عصا إن خطب في غيره.
واختلف فيها؛ يعني تلك العصا، هل هي العنزة التي كان يصلي إليها أو غيرها، وما يظنه بعض الناس من أنه كان يعتمد على سيف، وأن ذلك إشارة إلى أن الدين قام بالسيف فمن فرط جهله هذا كلامه. وفيه أن بعض فقهائنا ذكر أن اعتماده(2/191)
في خطبته كان على سيف روي ولم يثبت.
وذكر فقهاؤنا تلك الحكمة حيث قالوا: وحكمة اعتماده على العصا أو القوس أو السيف الإشارة إلى أن هذا الدين قام بالسلاح، وقول صاحب الهدى: وكان قبل أن يتخذ المنبر يعتمد على قوس أو عصا، يقتضي أن بعد اتخاذ المنبر لم يعتمد على شيء من ذلك، أي وصرح به صاحب القاموس في «سفر السعادة» حيث قال: لم يكن يأخذ السيف والحربة بيده، بل كان يعتمد على القوس أو العصا، وذا قبل اتخاذ المنبر؛ وأما بعد اتخاذ المنبر فلم يحفظ أنه اعتمد على العصا، ولا على القوس، ولا على غير ذلك هذا كلامه؛ فيكون الاعتماد على ذلك فوق المنبر بدعة، وهو خلاف ما عليه أئمتنا من أنه يسن أن يشغل يمناه بحرف المنبر ويسراه بما يعتمد عليه من نحو العصا، لكن قالوا: كعادة من يريد الضرب بالسيف والرمي بالقوس، وهو لا يأتي في العصا ولا يأتي في السيف إذا كان في غمده.
ووجود المرقى الذي يقرأ الآية والخبر المشهور بدعة، لأنه حدث بعد الصدر الأول ولم أقف على أول زمان فعل فيه ذلك، لكن ذكر بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أمر من يستنصت له الناس عند إرادة خطبته، وعليه إن كان استنصتهم بالحديث فذكر المرقى للخبر ليس من البدعة. إلا أن يقال هو بالنسبة لخطبة الجمعة بدعة، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يذكر الحديث على المنبر، فالسنة أن يذكره الخطيب كذلك.
ففي «سفر السعادة» : وكان صلى الله عليه وسلم في أثناء الخطبة يأمر الناس بالإنصات ويقول «إن الرجل إذا قال لصاحبه أنصت فقد لغا ومن لغا فلا جمعة له» وكان صلى الله عليه وسلم يقول «من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا، والذي يقول أنصت ليس له جمعة» .
وقول الحافظ الدمياطي: كان صلى الله عليه وسلم يخطب على جذع قائما، وأنه قال: إن القيام شق عليّ، يقتضي أن حنين الجذع كان عند قيامه على ذلك المنبر من الخشب، وأنه لم يتخذ قبل ذلك المنبر من الطين الذي قدمناه، وفيه نظر. وكذا في قوله: وقال له تميم الداري إلى آخره، لأن تميما الداري إنما أسلم في السنة التاسعة، وهذا المنبر الذي من الخشب إنما فعل في السابعة أو الثامنة، وعلى هذا اقتصر الأصل حيث قال في الحوادث.
وفيها: أي السنة الثامنة اتخاذ المنبر والخطبة عليه، وحنين الجذع، وهو أول منبر عمل في الإسلام، وهو في ذلك موافق لما قدمه هو: أي الأصل من اتخاذ المنبر له من الطين قبل ذلك، وأنه كان عنده حنين الجذع.
وعلى كون المنبر عمل في الثامنة، لا يشكل كون العباس رضي الله تعالى عنه(2/192)
أمر غلامه بعمله، لأن العباس رضي الله عنه قدم المدينة في السنة الثامنة، لكن في بعض الروايات «أنه صلى الله عليه وسلم دعا رجلا فقال: أتصنع لي المنبر؟ قال نعم، قال: ما اسمك؟ قال فلان، قال لست بصاحبه، ثم دعا آخر فقال له مثل ذلك، ثم دعا الثالث فقال له: ما اسمك؟ قال إبراهيم، قال خذ في صنعته فصنعه» وفي رواية «عمله رجل رومي اسمه باقوم، غلام سعيد بن العاص» أي ولعله هو الذي تقدم ذكره عند بناء قريش للكعبة.
وفي رواية «أنه صلى الله عليه وسلم أرسل إلى امرأة فقال لها: مري غلامك يعمل لي أعوادا أكلم الناس عليها، فعمل له صلى الله عليه وسلم درجات من طرفاء الغابة» ويجوز أن يكون غلام العباس رضي الله تعالى عنه انتقل إلى ملك تلك المرأة، وأنه كان غلاما لسعيد بن العاص، وأنه اشترك في عمله مع إبراهيم المتقدم ذكره فنسب لكل منهما.
فعلم من كلام الأصل في غير الحوادث، أنه كان صلى الله عليه وسلم يخطب أولا على الجذع، ثم على المنبر من الطين، وأن حنين الجذع كان عند قيامه صلى الله عليه وسلم على ذلك المنبر من الطين، وهو مخالف لكلامه في الحوادث، أن حنين الجذع كان عند اتخاذه صلى الله عليه وسلم المنبر من الخشب، وأنه أول منبر عمل في الإسلام. إلا أن يقال أول منبر عمل في الإسلام من خشب، ويكون ذكر حنين الجذع عند القيام عليه من تصرف بعض الرواة، لأن حنين الجذع لم يتكرر حتى يقال جاز أن يكون كان عند قيامه صلى الله عليه وسلم على المنبر من الطين، ثم عند قيامه على المنبر من الخشب.
ثم رأيته في النور رجع كلام الأصل في غير الحوادث إلى كلام الأصل في الحوادث من أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن له منبر من طين حيث قال: قوله أي الأصل فبنوا له منبرا، وهذا الكلام فيه تجوّز، يعني اتخذوا له منبرا، وذلك لأن المنبر كان من طرفاء الغابة وهو شجر معروف هذا كلامه، وليته عكس، لأن هذا منه يقتضي حينئذ أن يكون صلى الله عليه وسلم استمر من حين خطب في المسجد إلى السنة الثامنة يخطب إلى الجذع، لأن المنبر من الخشب اتخذ في السنة الثامنة كما تقدم عن الأصل.
ويشكل عليه قول عائشة رضي الله تعالى عنها في قصة الإفك: فثار الحيان، الأوس والخزرج حتى كادوا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر» لأن قصة الإفك كانت في سنة خمس.
ثم رأيت في كتاب الشريعة للآجري عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه «كان صلى الله عليه وسلم يخطب مسندا ظهره إلى خشبة، فلما كثر الناس قال: ابنوا لي منبرا فبنوا له عتبتين» أي غير المستراح «فلما قام على المنبر يخطب حنت الخشبة» الحديث.(2/193)
وعن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه «لما كثر الناس وصار يجيء القوم ولا يكادون يسمعون رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخطبة، قال الناس: يا رسول الله، قد كثر الناس وكثير منهم لا يكاد يسمع كلامك، فلو أنك اتخذت شيئا تخطب عليه مرتفعا من الأرض ويسمع الناس كلامك،؛ فأرسل صلى الله عليه وسلم إلى غلام نجار لامرأة من الأنصار فاتخذ له مرقاتين من طرفاء الغابة، فلما قام حنت الخشبة التي كان يخطب إليها» هذا كلامه، وهو موافق لما تقدم عن الأصل في الحوادث.
والذي ينبغي الجمع بين الروايتين لأن ما علم من أن اتخاذ المنبر من طرفاء الغابة كان بعد اتخاذه من الطين، لأنه أقوى من الارتفاع من منبر الطين، وكون حنين الجذع عند اتخاذ المنبر من الطرفاء من تصرف بعض الرواة، لأن حنينه إنما كان عند اتخاذ المنبر من الطين، ولم يتكرر حنينه كما تقدم.
ولما ولي معاوية الخلافة كسا ذلك المنبر قبطية، ثم كتب إلى عامله بالمدينة وهو مروان بن الحكم أن يرفع ذلك المنبر عن الأرض، فدعا بالنجارين وفعل ست درج، ورفع ذلك المنبر عليها فصارت تسع درجات. وهذا يدل على أن قوله فاتخذ له مرقاتين أي غير المستراح، ومن ثم تقدم «فعمل له درجات» .
وقيل أمره بحمله إلى الشام، فلما أرادوا قلعه أظلمت المدينة وكسفت الشمس حتى بدت النجوم، وثارت ريح شديدة، فخرج مروان إلى الناس فخطبهم، وقال: يا أهل المدينة إنكم تزعمون أن أمير المؤمنين بعث إليّ أن أبعث إليه بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمير المؤمنين أعلم بالله من أن يغير منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما أمرني أن أكرمه وأرفعه ففعل ما تقدم.
وقيل: إن معاوية لما حج أراد أن ينقل المنبر إلى الشام، فحصل ما تقدم من كسوف الشمس الخ، فاعتذر معاوية للناس وقال: أردت أن أنظر إلى ما تحته وخشيت عليه من الأرضة، وكساه يومئذ قبطية.
ولا مانع من تعدد الواقعة، وأن واقعة معاوية سابقة على واقعة مروان، لقوله:
لأنظر ما تحته، وإلا فمروان رفعه عن الأرض.
ثم إن هذا المنبر أحرق بسبب الحريق الواقع في المسجد أول مرة، فأرسل صاحب اليمن منبرا فوضع موضعه مكث عشر سنين.
وفي الإمتاع: ثم تهافت المنبر النبوي على طول الزمان، فعمل بعض خلفاء بني العباس منبرا واتخذ من أعواد المنبر النبوي أمشاطا يتبرك بها، فاحترق هذا المنبر المجدد في حريق المسجد، فبعث المظفر ملك اليمن منبرا هذا كلامه. ثم أرسل الملك الظاهر بيبرس من مصر منبرا، فرفع منبر صاحب اليمن ووضع منبر الملك(2/194)
الظاهر، فمكث مائة سنة واثنتين وثلاثين سنة، فبدأ فيه أكل الأرضة، فأرسل الظاهر برقوق منبرا، فرفع منبر الملك الظاهر بيبرس ووضع منبر الملك الظاهر برقوق، ومكث ثلاثا أو أربعا وعشرين سنة.
ثم إن السلطان المؤيد شيخ لما بنى مدرسته بالقاهرة التي يقال لها المؤيدية عمل أهل الشام له منبرا وأرسلوا به إليه ليجعله في مدرسته، فوجد أهل مصر قد صنعوا لها منبرا فسير المؤيد منبر أهل الشام إلى المدينة فمكث سبعا وستين سنة. ثم أحرق في الحريق الواقع في المسجد ثاني مرة، ثم جعل موضعه منبر مبني بالآجر مطلي بالنورة، فمكث إحدى وعشرين سنة ثم جعل موضعه المنبر الرخام الموجود الآن.
قيل: وأعجب منبر في الدنيا منبر جامع قرطبة قاعدة بلاد الأندلس بالمغرب.
ذكر أن خشبه من ساج وأبنوس وعود قاقلى، أحكم عمله ونقشه في سبع سنين، وكان يعمل فيه سبع صناع، لكل صانع في كل يوم نصف مثقال ذهب، فكان جملة ما صرف على أجرته عشرة آلاف مثقال وخمسين مثقالا، وبالجامع المذكور مصحف فيه أربع ورقات من مصحف عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه بخط يده، وفيه نقط من دمه. وفي هذا المسجد ثلاثة أعمدة حمر، مكتوب على أحدها اسم محمد صلى الله عليه وسلم. وعلى الثاني صفة عيسى وموسى عليهما الصلاة والسلام، وأهل الكهف.
وعلى الثالث صورة غراب نوح، الجميع خلقة ربانية ولا بدع.
فقد ذكر بعضهم رأيت بحمام القاهرة رخامة عليها مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم مفسرا يقرؤه كل أحد خلقة.
وعن سهل قال «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أول يوم جلس على المنبر أي من الخشب كبّر، فكبر الناس خلفه، ثم ركع وهو على المنبر، ثم رجع فنزل القهقرى، ثم سجد في أصل المنبر، ثم عاد حتى إذا فرغ من الصلاة يصنع فيها كما يصنع في الركعة الأولى. فلما فرغ أقبل على الناس وقال: أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي» وقوله لتأتموا بي: أي تقتدوا بي في مثل هذا الفعل من الإحرام والركوع على المحل المرتفع ثم النزول عنه والسجود تحته ثم الصعود إليه، وهكذا إلى أن تتم الصلاة، وهذا عند أئمتنا مخصوص جوازه بما إذا لم يلزم عليه استدبار القبلة أو توالي حركات ثلاث، وقوله: «ولتعلموا صلاتي» هو واضح، لو كان ذلك أول صلاة. إلا أن يقال المراد ولتعلموا جواز صلاتي هذه.
وفي كلام فقهائنا أنه صلى الله عليه وسلم كان ينزل من المنبر، ويسجد للتلاوة أسفل المنبر، وآخر الأمرين ترك ذلك. فعلم أن منبره صلى الله عليه وسلم كان ثلاث درجات بالمستراح. وحينئذ يشكل إن صح، ما روي أن أبا بكر نزل درجة عن موقفه صلى الله عليه وسلم، وعمر نزل درجة(2/195)
أخرى، وعثمان درجة أخرى. ومن ثم قال في النور: وهذا يدل على أنه كان أكثر من ثلاث درجات. أي أربعة غير المستراح، وإلا يلزم أن يكون عمر وعثمان كانا يخطبان على الأرض.
قال: ويمكن تأويله، هذا كلامه، ولينظر ما تأويله، فإنه يلزم على كونه درجتين غير المستراح، أن يكون الصدّيق كان يخطب على الدرجة الثانية، وعمر يخطب على الأرض، وأن عثمان فعل كفعل عمر. وحينئذ لا يحسن قولهم وعثمان نزل درجة أخرى، إذ لا درجة بعد الدرجة الثانية ينزل عنها. وحينئذ يشكل ما في الإمتاع وهو: كان منبره صلى الله عليه وسلم درجتين ومجلسا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس على المجلس ويضع رجليه إذا قعد على الدرجة الثانية، فلما ولي أبو بكر رضي الله تعالى عنه قام على الدرجة الثانية ووضع رجليه على الدرجة السفلى، فلما ولي عمر رضي الله تعالى عنه، قام على الدرجة السفلى ووضع رجليه على الأرض إذا قعد، فلما ولي عثمان رضي الله تعالى عنه فعل كذلك: أي كفعل عمر ست سنين من خلافته ثم علا إلى موضع وقوفه صلى الله عليه وسلم، هذا كلامه، وكان ينبغي أن يقول: بدل قوله، فلما ولي أبو بكر قام على الدرجة الثانية جلس على الدرجة الثانية، وكذا قوله: فلما ولي عمر قام على الدرجة السفلى جلس على الدرجة السفلى، أي فقد خطب على الأرض وكذا عثمان.
وذكر فقهاؤنا أن منبره صلى الله عليه وسلم كان ثلاث درج غير الدرجة التي تسمى المستراح وتسمى بالمقعد والمجلس، فكان صلى الله عليه وسلم يقف على الثالثة: أي بالنسبة للسفلى، وإذا جلس يجلس على المستراح ويجعل رجليه محل وقوفه إذا قام للخطبة، وكذا الخلفاء الثلاثة كل يجعل رجليه محل وقوفه.
ويذكر أن المتوكل قال يوما لجلسائه وفيهم عبادة: أتدرون ما الذي نقم على عثمان؟ نقم عليه أشياء، منها أنه قام أبو بكر رضي الله تعالى عنه دون مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرقاة، ثم قام عمر رضي الله تعالى عنه دونه بمرقاة، فصعد عثمان رضي الله تعالى عنه ذروة المنبر، فقال له عبادة: ما أحد أعظم منه عليك يا أمير المؤمنين من عثمان، قال: وكيف ذاك. قال: لأنه صعد ذروة المنبر وإنه لو كان كلما قام خليفة نزل عمن تقدمه كنت أنت تخطبنا في بئر عميق، فضحك المتوكل ومن حوله، وكون عثمان صعد ذروة المنبر إنما هو آخر الأمر كما علمت.
وفي كلام بعضهم: أول من اتخذ المنبر خمس عشرة درجة معاوية رضي الله تعالى عنه، وأنه أول من اتخذ الخصيان في الإسلام، وأول من قيدت بين يديه الجنائب، وعثمان أول من كسا المنبر قبطية.
وعن الواقدي أن امرأة سرقت كسوة عثمان للمنبر فأتى بها إليه، فقال لها(2/196)
عثمان: هل سرقت؟ قولي لا، فاعترفت، فقطعها، ثم كساه معاوية كما تقدم، ثم كساه عبد الله بن الزبير، فسرقتها امرأة فقطعها كما قطع عثمان، ثم كساه الخلفاء من بعده.
باب غزوة بدر الكبرى
ويقال لها بدر العظمى، ويقال لها بدر القتال، ويقال بدر الفرقان: أي لأن الله تعالى فرق فيها بين الحق والباطل.
«ثم إن العير التي خرج صلى الله عليه وسلم في طلبها حتى بلغ العشيرة ووجدها سبقته بأيام لم يزل مترقبا قفولها: أي رجوعها من الشأم، فلما سمع بقفولها من الشام ندب المسلمين» أي دعاهم وقال: «هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها، فانتدب ناس» ، أي أجابوا «وثقل آخرون أي لم يجيبوا لظنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يلق حربا، ولم يحتفل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم» أي لم يهتم بها، بل قال «من كان ظهره» : أي ما يركبه «حاضرا فليركب معنا» ولم ينتظر من كان ظهره غائبا عنه» .
ولما خرج صلى الله عليه وسلم إلى بدر قالت له أمّ ورقة بنت نوفل: يا رسول الله ائذن لي في الغزو معك أمرّض مرضاكم، لعل الله يرزقني الشهادة، فقال لها: قري في بيتك، فإن الله يرزقك الشهادة، وكانت قد قرأت القرآن، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها ويسميها الشهيدة» فكان الناس يقولون لها الشهيدة. فلما كان زمن خلافة سيدنا عمر عدا عليها غلام وجارية كانت دبرتهما فغمياها بقطيفة إلى أن ماتت، فجيء بهما إلى سيدنا عمر، فأمر بصلبهما، فكانا أوّل مصلوب بالمدينة، وقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول «انطلقوا بنا نزور الشهيدة» .
فكان أبو سفيان حين دنا بالعير من أرض الحجاز يتجسس الأخبار: أي يبحث عنها ويسأل من لقي من الركبان تخوفا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استنفر أصحابه للعير، أي ويقال: إنه لقي رجلا فأخبره أنه صلى الله عليه وسلم قد كان عرض لغيره في بدايته وأنه تركه مقيما ينتظر رجوع العير فخاف خوفا شديدا، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري: أي استأجره بعشيرين مثقالا، ولا يعرف له إسلام، والذي من الصحابة ضمضم بن عمر الخزاعي ليأتي مكة، أي وأن يجدع بعيره وأن يحول رحله ويشق قميصه من قبله ومن دبره إذا دخل مكة، ويستنفر قريشا، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لعيرهم هو وأصحابه، فخرج ضمضم سريعا إلى مكة، وقبل أن يقدم بثلاث ليال رأت عاتكة بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم، اختلف في إسلامها رؤيا أفزعتها، فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب، فقالت له: يا(2/197)
أخي. والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفظعتني: أي اشتدت علي وتخوّفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة، فاكتم عني ما أحدّثك.
قال: وفي رواية أنها قالت له: لن أحدثك حتى تعاهدني أن لا تذكرها، فإنهم إن سمعوها- تعني كفار قريش- آذونا وأسمعونا ما لا نحب، فعاهدها العباس اهـ.
فقال لها: ما رأيت؟ قالت: رأيت راكبا أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح: أي وهو ما بين المحصب ومكة، ثم صرخ بأعلى صوته: ألا فانفروا يا آل غدر: أي يا أصحاب الغدر وعدم الوفاء إلى مصارعكم في ثلاث: أي بعد ثلاثة أيام.
وفي كلام السهيلي: يا آل غدر بضم الغين والدال جمع غدور، أي إن تخلفتم فأنتم غدر لقومكم، قالت: فأرى الناس اجتمعوا إليه ثم دخل المسجد والناس يتبعونه، فبينما هم حوله مثل به بعيره: أي انتصب به على ظهر الكعبة ثم صرخ بمثلها ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس فصرخ بمثلها، ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت: أي تكسرت، فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار إلا دخلها منه فلقة، فقال لها العباس: والله إن هذه لرؤيا وأنت فاكتميها ولا تذكريها لأحد، ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة، أي وكان صديقا له ذكرها له أي واستكتمه، فذكرها الوليد لابنه عتبة، فتحدث بها ففشا الحديث. قال العباس: فغدوت لأطوف بالبيت وأبو جهل بن هشام في رهط من قريش فعود يتحدثون برؤيا عاتكة، فلما رآني أبو جهل قال: يا أبا الفضل إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا، فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم، فقال أبو جهل لعنه الله: يا بني عبد المطلب متى حدثت فيكم هذه النبية؟ قال: قلت: وما ذاك؟ قال: ذاك الرؤيا التي رأت عاتكة! فقلت: وما رأت؟ قال: يا بني عبد المطلب أما رضيتم أن تستنبىء رجالكم حتى تستنبىء نساؤكم.
وفي رواية: ما رضيتم يا بني هاشم بكذب الرجال حتى جئتمونا بكذب النساء اهـ. قال أبو جهل: قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال: انفروا في ثلاث فسنتربص بكم هذه، الثلاث، فإن يك حقا ما تقول فسيكون، وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء نكتب عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت في العرب. قال العباس: فو الله ما كان مني إليه كبير، إلا أني جحدت ذلك وأنكرت أن تكون رأت شيئا. وفي رواية أن العباس قال لأبي جهل هل أنت منته يا مصفر استه: أي يا مأبون، أو يا جبان، أو الذي يغير لون البرص الذي بمقعدته بالزعفران، فإن الكذب فيك وفي أهل بيتك.
فقال من حضرهما: ما كنت يا أبا الفضل جهولا ولا خرقا، ولقي العباس رضي الله تعالى عنه من أخته عاتكة أذى شديدا حين أفشى من حديثها، قال العباس: فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني أقررتم؟ أي قائلة، أقررتم لهذا(2/198)
الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع، ثم لم يكن عندك غيرة لشيء مما سمعت؟.
ثم قلت لهنّ: وأيم الله لأتعرضن له، وإن عاد قاتلته، وغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا مغضب أرى أني قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه منه، فدخلت المسجد فرأيته، فو الله إني لأمشي نحوه أتعرضه ليعود إلى بعض ما قاله فأوقع به، إذ هو قد خرج نحو باب المسجد يشتد: أي يعدو، فقلت في نفسي ما له لعنه الله؟
أكل هذا فرق؟ أي خوف مني، فإذا هو يسمع ما لم أسمع، سمع صوت ضمضم بن عمرو الغفاري وهو يصرخ ببطن الوادي واقفا على بعيره قد جدع بعيره، أي قطع أنفه وأذناه، وحول رحله وشق قميصه، وهو يقول: يا معشر قريش، اللطيمة اللطيمة: أي أدركو اللطيمة، وهي العير التي تحمل الطيب والبز، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه لا أرى أن تدركوها. وفي لفظ: إن أصابها محمد لم تفلحوا أبدا، الغوث الغوث. قال العباس: فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الأمر، فتجهز الناس سراعا، أي وفزعوا أشد الفزع؛ وأشفقوا: أي خافوا من رؤيا عاتكة.
ويروى أنهم قالوا: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي، والله ليعلمنّ غير ذلك، فكانوا بين رجلين: إما خارج، وإما باعث مكانه رجلا، أي وأعان قويهم ضعيفهم؛ وقام أشراف قريش يحضون الناس على الخروج، وقال سهيل بن عمرو: يا آل غالب أتاركون أنتم محمدا والصباة من أهل يثرب يأخذون أموالكم؟ من أراد مالا فهذا مالي، ومن أراد قوتا فهذا قوتي ولم يتخلف من أشراف قريش إلا أبو لهب، أي خوفا من رؤيا عاتكة، فإنه كان يقول رؤيا عاتكة كأخذ بيد، أي صادقة لا تتخلف وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة: أي استأجره بأربعة آلاف درهم كانت له عليه دينا أفلس بها أي قال له اخرج وديني لك، أي ويقال إن ذلك الدين كان ربا. ومن ثم جاء في لفظ: وكان لاطه بأربعة آلاف درهم، قال أبو عبيد:
وسمي الربا لياطا لأنه ملصق بالبيع وليس ببيع.
وفي كلام البلاذري، أنه قامر أبا لهب على أن يطيعه فيما أراد، فقمره أبو لهب فأسلمه إلى ضيق، أي ضيق عليه بالطلب، ثم قامره فقمره أبو لهب أيضا، فأرسله مكانه إلى بدر وهشام هذا قتله عمر بن الخطاب في هذه الغزوة، حتى أن أمية بن خلف أراد القعود وكان شيخا جسيما ثقيلا، فجاء إليه وهو جالس مع قومه عقبة بن أبي معيط بمجمرة فيها مجمر: أي بخور يحملها حتى وضعها بين يديه. ثم قال: يا أبا عليّ استجمر فإنما أنت من النساء، فقال له: قبحك الله وقبح ما جئت به، أي وكان عقبة كما في فتح الباري سفيها. وكان أبو جهل سلط عقبة على ذلك. وفي(2/199)
لفظ أتاه أبو جهل، فقال له: يا أبا صفوان إنك متى يراك الناس قد تخلفت وأنت سيد أهل الوادي، وفي لفظ: وأنت من أشراف الوادي تخلفوا معك، فسر يوما أو يومين، أي ولا مانع من وجود ذلك كله، فتجهز مع الناس.
أي وسبب تخلفه أن سعد بن معاذ قدم مكة معتمرا فنزل عليه لأن أمية كان ينزل على سعد بالمدينة إذا ذهب إلى الشام في تجارته. فقال سعد لأمية: انظر لي ساعة خلوة لعلي أن أطوف بالبيت، فقال أمية لسعد: انتظر حتى إذا انتصف النهار وغفلت الناس انطلقت فطفت. وفي لفظ: فخرج أمية به قريبا من نصف النهار، فبينما سعد يطوف إذ أتاه أبو جهل فقال: من هذا الذي يطوف؟ فقال له سعد: أنا سعد بن معاذ. فقال له أبو جهل: أتطوف بالكعبة آمنا وقد آويتم محمدا وأصحابه؟
وفي لفظ: آويتم الصباة وزعمتم أنكم تنصرونهم وتعينونهم، أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالما، فتلاحيا: أي تخاصم، وسعد يرفع صوته بقوله: أما والله لئن منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك منه، طريقك على المدينة؟ فصار أمية يقول لسعد: لا ترفع صوتك على أبي الحكم فإنه سيد أهل الوادي وجعل يسكت سعدا. فقال سعد لأمية: إليك عني، فإني سمعت محمدا صلى الله عليه وسلم يزعم أنه قاتلك، قال: إياي؟ قال نعم، قال: بمكة؟ قال: لا أدري، قال: والله ما كذب محمد، فكاد يحدث أي يبول في ثيابه فزعا، فرجع إلى امرأته، فقال: ما تعلمين ما قال أخي اليثربي- يعني سعد بن معاذ؟ قالت: وما ذاك؟ قال زعم أنه سمع محمدا يزعم أنه قاتلي، قالت: فوالله ما يكذب محمد. قال: فلما جاء الصريخ وأراد الخروج، قالت له امرأته: أما علمت ما قال لك أخوك اليثربي؟ قال: فإني إذن لا أخرج، فلما صمم على عدم الخروج بل أقسم بالله لا يخرج من مكة قيل له ما تقدم، فخرج ناويا أن يرجع عنهم.
أي ومعنى كونه صلى الله عليه وسلم قاتله، أنه كان سببا في قتله، وإلا فهو صلى الله عليه وسلم لم يباشر إلا قتل أخيه. وهو أبيّ بن خلف في أحد كما سيأتي. ومن ثم جاء في رواية قال لأمية:
إن أصحابه يعني النبي صلى الله عليه وسلم يقتلونك.
ويحتمل أن سعد بن معاذ رضي الله عنه سمعه صلى الله عليه وسلم يقول «أنا أقتل أبيّ بن خلف» ففهم سعد رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم يريد أمية لا أبيا.
أي وفي الإمتاع: أن أمية بن خلف وعتبة وشيبة ابني ربيعة وزمعة بن الأسود، وحكيم بن حزام استقسموا بالأزلام، فخرج لهم القدح الناهي: أي المكتوب عليه لا تفعل، فأجمعوا على المقام، فجاءهم أبو جهل لعنه الله وأزعجهم، وأعانه على ذلك عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث.
ويقال إن عداسا قال لسيديه عتبة وشيبة ابني ربيعة بأي وأمي أنتما، والله ما(2/200)
تساقان إلا لمصارعكما، فأراد عدم الخروج، فلم يزل بهما أبو جهل حتى خرجا عازمين على العود عن الجيش.
ولما فرغوا من جهازهم، أي وكان ذلك في ثلاثة أيام، وقيل في يومين وأجمعوا السير: أي عزموا عليه وكانوا خمسين وتسعمائة. وقيل كانوا ألفا وقادوا مائة فرس أي عليها مائة درع سوى دروع المشاة. قال ابن إسحاق: وخرجوا على الصعب والذلول: أي لشدة إسراعهم، والصعب: الذي لا ينقاد، والذلول: الذي ينقاد، معهم القيان: أي بفتح القاف وتخفيف المثناة تحت وفي آخره نون جمع قينة:
وهي الأمة مطلقا. وقيل المغنية؛ والمراد هنا الثاني، لقوله في الإمتاع: ومعهم القينات يضربن بالدفوف يغنين: أي بهجاء المسلمين.
وسيأتي في أحد خروج جماعة من نساء قريش معهن الدفوف، وعند خروجهم ذكروا ما بينهم وبين كنانة من الحرب أي والدماء، وقالوا: نخشى أن يأتونا من خلفنا: أي لأن قريشا كانت قتلت شخصا من كنانة، وأن شخصا من قريش كان شابا وضيئا له ذؤابة وعليه حلة خرج في طلب ضالة له، فمر ببني كنانة وفيهم سيدهم وهو عامر بن الخلوج فرآه فأعجبه، فقال له: من أنت يا غلام؟ فذكر أنه من قريش، فلما ولّى الغلام. قال عامر لقومه: أما لكم في قريش من دم؟ قالوا بلى، فأغراهم به فقتلوه، ثم قال بنو كنانة لقريش رجل برجل: فقالت قريش، نعم رجل برجل. ثم إن أخا المقتول ظفر بعامر بمر الظهران فعلاه بالسيف حتى قتله ثم خاط بطنه بسيفه، ثم جاء وعلقه بأستار الكعبة من الليل فلما أصبحت قريش رأوا سيف عامر عرفوه وعرفوا قاتله، أي وكاد ذلك يثنيهم، أي يصرفهم عن الخروج فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك المدلجي- وكان من أشراف بني كنانة- وقال لهم: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه، فخرجوا سراعا وخرج معهم إبليس يعدهم أن بني كنانة وراءهم قد أقبلوا لنصرهم وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ [الأنفال: الآية 48] .
«ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عسكره ببئر أبي عتبة، أي وأمر أصحابه أن يستقوا منها وشرب من مائها» .
وفي الإمتاع عسكر ببيوت للسقيا، وهي عين بينها وبين المدينة يومان كان يستقى له صلى الله عليه وسلم الماء منها.
وقد جاء أن عبده صلى الله عليه وسلم رباحا كان يستقي له من بئر غرس مرة ومن بيوت السقيا مرة. وقال صلى الله عليه وسلم «بئر غرس من عيون الجنة» ومن ثم غسل منها صلى الله عليه وسلم كما سيأتي.
وغرس: اسم عبد كان يقوم عليها، وقيل غير ذلك.(2/201)
وأمر صلى الله عليه وسلم حين فصل من بيوت السقيا أن تعدّ المسلمون، فوقف لهم عند بئر أبي عتبة فعدوا، وهي على ميل من المدينة فعرض أصحابه وردّ من استصغر، أي وكان ممن رده أسامة بن زيد، ورافع بن خديج، والبراء بن عازب، وأسيد بن ظهير وزيد بن أرقم، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، وردّ عمير بن أبي وقاص فبكى فأجازه، وقتل وعمره ستة عشر عاما. وحينئذ يتوقف في رده، لأن الخمسة عشر بلوغ بالسن على ما عليه أئمتنا.
وخرج صلى الله عليه وسلم في خمسة وثلاثمائة رجل، من المهاجرين أربعة وستون، وباقيهم من الأنصار. وقيل كان المهاجرون نيفا وثمانين، وكانت الأنصار نيفا وأربعين ومائتين.
وذكر الإمام الدواني أنه سمع من مشايخ الحديث أن الدعاء عند ذكرهم يعني أصحاب بدر مستجاب، وقد جرب ذلك. وخلف عثمان على ابنته صلى الله عليه وسلم رقية وكانت مريضة، أي وقيل لأنه كان مريضا بالجدري: أي ولا مانع من وجود الأمرين، وقد قال صلى الله عليه وسلم «إن لك لأجر رجل وسهمه» أي وكان أبو أمامة بن ثعلبة الأنصاري أجمع الخروج إلى بدر وكانت أمه مريضة، فأمره صلى الله عليه وسلم بالمقام على أمه، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر وقت توفيت، فصلى على قبرها.
واستعمل صلى الله عليه وسلم أبا لبابة رضي الله عنه واليا على المدينة ورده من المحل المذكور، أي من بئر أبي عتبة كذا في الأصل. وقيل رده من الروحاء، وهو المشهور: وهي قرية على ليلتين من المدينة كما تقدم.
واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بالناس في المدينة، وخلف عاصم بن عدي على أهل قباء وأهل العالية، أي لشيء بلغه عن أهل مسجد الضرار لينظر في ذلك، وكسر بالروحاء خوات بن جبير.
أي وفي كلام ابن عبد البر وقال موسى بن عقبة: خرج خوات بن جبير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ الصفراء أصاب ساقه حجر ودميت رجله واعتلت فرجع، وضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه. وأهل الأخبار يقولون إنه شهد بدرا.
وله في الجاهلية قصة مشهورة مع ذات النحيين: التي تضرب العرب بها المثل فتقول «أشغل من ذات النحيين» وهي خولة «يروى أنه صلى الله عليه وسلم سأله عنها وتبسم، فقال:
يا رسول الله قد رزقني الله خيرا منها، وأعوذ بالله من الحور بعد الكور» وروي «أن صلى الله عليه وسلم قال له: ما فعل بعيرك الشارد» يعرّض بهذه القصة، فقال: قيده الإسلام يا رسول الله، وقيل لم يعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا القول لتلك القضية، وإنما هو لقضية أخرى هي «أن خوّاتا مر بنسوة في الجاهلية أعجبه حسنهن، فسألهن أن يفتلن له قيدا(2/202)
لبعيره وزعم أنه شارد؛ وجلس إليهن بهذه العلة، فمر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتحدث إليهن، فأعرض عنه وعنهن، فلما أسلم سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك البعير وهو يتبسم. وكسر أيضا الحارث بن الصمة.
وبعث له صلى الله عليه وسلم طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد رضي الله تعالى عنهم يتحسسان خبر العير. والتحسس للأخبار بالحاء المهملة: أن يفحص الشخص عن الأخبار بنفسه، وبالجيم: أي يفحص عنها بغيره. وجاء «تحسسوا ولا تجسسوا» ولم يحضرا لهذا القتال، بل رجعا بخبر العير إلى المدينة على ظن أنه صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فلما علما أنه ببدر خرجا إليه فلقياه منصرفا من بدر، وأسهم لكل وصار كل من أسهم له يقول «وأجري يا رسول الله؟ فيقول: وأجرك. ودفع صلى الله عليه وسلم اللواء وكان أبيض إلى مصعب بن عمير، وكان أمامه صلى الله عليه وسلم رايتان سوداوتان: إحداهما مع علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، أي ويقال لها العقاب، وكانت من مرط لعائشة» .
وفي كلام بعضهم: كان أبو سفيان بن حرب من أشراف قريش وكانت إليه راية الرؤساء المعروفة بالعقاب، وكان لا يحملها في الحرب إلا هو أو رئيس مثله، وسيأتي أنه حملها في هذه الغزوة الأب الخامس لإمامنا الشافعي وهو السائب بن يزيد «والأخرى مع بعض الأنصار» وابن قتيبة اقتصر على الأولى. وذكر بعضهم أن بعض الأنصار هذا قيل هو سعد بن معاذ، وقيل الحباب بن المنذر، وهذا يردّ ما تقدم في غزوة بواط عن ابن إسحاق، وما سيأتي في غزوة بني قينقاع. عن ابن سعد أن الرايات لم تكن وجدت وإنما حدثت يوم خيبر.
ومما يؤيد الرد ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى عليا كرم الله وجهه الراية يوم بدر وهو ابن عشرين سنة» وفي الهدى أن لواء المهاجرين كان من مصعب بن عمير، ولواء الخزرج مع الحباب بن المنذر، ولواء الأوس مع سعد بن معاذ، ولم يذكر الرايتين.
وفي الإمتاع أنه صلى الله عليه وسلم عقد الألوية وهي ثلاثة، لواء يحمله مصعب بن عمير، ورايتان سوداوتان: أحداهما مع علي، والأخرى مع رجل من الأنصار وفيه إطلاق اللواء على الراية، وقد تقدم أن جماعة من أهل اللغة صرحوا بترادف اللواء والراية.
وكان صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة على غير لواء معقود. وقال في الأصل: والمعروف أن سعد بن معاذ كان على حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش أي كما سيأتي، قال أي جوابا عما تقدم عن الأصل العريش كان ببدر؛ أي وهذا كان عند خروجهم وفي الطريق، فلا منافاة أي لأنه يجوز أن يكون في بدر دفع الراية لغيره بإذنه صلى الله عليه وسلم ليكون معه في العريش ولبس صلى الله عليه وسلم درعه ذات الفضول، وتقلد صلى الله عليه وسلم سيفه العضب.(2/203)
وحين فصل صلى الله عليه وسلم من بيوت السقيا قال: اللهم إنهم حفاة فاحملهم، وعراة فاكسهم، وجياع فأشبعهم، وعالة فأغنهم من فضلك، فما رجع أحد منهم يريد أن يركب إلا وجد ظهرا، للرجل البعير والبعيران، واكتسى من كان عاريا، وأصابوا طعاما من أزوادهم، وأصابوا فداء الأسارى، فاغتنى به كل عائل.
وكان حبيب بن يساف ذا بأس ونجدة ولم يكن أسلم، ولكنه خرج نجدة لقومه من الخزرج طالبا للغنيمة، ففرح المسلمون بخروجه معهم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يصحبنا إلا من كان على ديننا» أي وفي رواية «ارجع فإنا لا نستعين بمشرك» أي وسيأتي في أحداثه صلى الله عليه وسلم قال «لا ننتصر بأهل الشرك على أهل الشرك» لما رد حلفاء عبد الله بن أبي ابن سلول من يهود «وتكررت من حبيب المراجعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الثالثة قال له: تؤمن بالله ورسوله؟ قال نعم، فأسلم وقاتل قتالا شديدا» .
وفي الإمتاع وقدم حبيب بن يساف بالروحاء مسلما. ولا مخالفة، لجواز أن يكون أسلم قبل الروحاء.
«ولما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يوما أو يومين، ثم نادى مناديه، يا معشر العصاة إني مفطر فأفطروا» .
وذلك «أنه صلى الله عليه وسلم كان قال لهم قبل ذلك أفطروا فلم يفطروا، انتهى وسيأتي في فتح مكة أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بالفطر فلم يفعل جماعة منهم ذلك، فقال أولئك العصاة، وكانت إبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي التي معهم يومئذ سبعين بعيرا، فاعتقبوها كل ثلاثة يعتقبون بعيرا، أي إلا ما كان من حمزة وزيد بن حارثة وأبي كبشة وأنيسة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هؤلاء الأربعة كانوا يعتقبون بعيرا» .
أي وعن عائشة رضي الله تعالى عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالأجراس أن تقطع من أعناق الإبل يوم بدر» .
وفي الإمتاع: فكانوا يتعاقبون الإبل الاثنين والثلاثة والأربعة، وهذا كلامه «فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب كرّم الله وجهه ومرثد يعتقبون بعيرا» وفي لفظ «كان أبو لبابة وعلي والنبي صلى الله عليه وسلم يعتقبون بعيرا» أي وذلك قبل أن يردّ أبا لبابة للمدينة من الروحاء، وبعد أن رده قام مقامه مرثد، وقيل زيد بن حارثة، وقيل زيد كان مع حمزة أي كما تقدم.
ويجوز أن كان مع حمزة تارة، ومع النبي صلى الله عليه وسلم أخرى، فكان إذا كانت عقبة النبي صلى الله عليه وسلم قالا له: أي رفيقاه: اركب حتى نمشي معك، فيقول «ما أنتما بأقوى مني على المشي، وما أنا بأغنى عن الأجر منكما» .
«وكان أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم يعتقبون بعيرا،(2/204)
أي ورفاعة وخلاد ابنا رافع وعبيد بن يزيد الأنصاري يعتقبون بعيرا، حتى إذا كانوا بالروحاء برك بعيرهم عيا، فمرّ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله برك علينا بكرنا، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فتمضمض وألقاه في إناء» أي وفي الإمتاع «فتمضمض وتوضأ في إناء، ثم قال: افتح فاه، فصب منه في فيه ثم صب باقي ذلك عليه، ثم قال: اركبا ومضى فلحقاه؛ وإنه لينفر بهم» أي وأمر صلى الله عليه وسلم بإحصاء من معه، وهو محتمل لأن يكون أمر بذلك ثانيا بعد الروحاء بعد أن رد أبا لبابة «وبعد عدهم في بئر أبي عتبة، فإذا هم ثلاثمائة وثلاثة عشر، ففرح بذلك، وقال عدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر» وهذا قول عامة السلف كما قاله ابن جرير رحمه الله، ومن زاد على ذلك عدّ منهم من رده صلى الله عليه وسلم من الروحاء ومن أسهم له ولم يحضر ومن نقص عن ذلك، وعدهم ثلاثمائة وخمس رجال أو ست رجال أو سبعة رجال، فالجواب عنه لا يخفى.
وكان في الجيش خمسة أفراس: فرسان له صلى الله عليه وسلم وفرس لمرثد، ويقال له السيل، وفرس للمقداد بن الأسود نسب إليه لأنه تبناه في الجاهلية كما تقدم، ويقال لها سبحة، وفرس للزبير ويقال له اليعسوب، وقيل لم يكن في الجيش إلا فرسان، فرس المقداد وفرس الزبير.
وعن علي رضي الله تعالى عنه: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد.
أقول: يجوز أن يكون المراد لم يقاتل يوم بدر فارسا إلا المقداد وغيره ممن له فرس قاتل راجلا؛ ويؤيد ما يأتي «أنه صلى الله عليه وسلم لما قسم الغنيمة لم يميز أحدا عن أحد الراجل مع الراجل والفارس مع الفارس» لكن قد يخالفه قول الزمخشري في خصائص العشرة «كان الزبير رضي الله عنه صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وليس على الميمنة يومئذ فارس غيره» هذا كلامه. إلا أن يقال كون الزبير فارسا على الميمنة لا يخالف كون المقداد فارسا في محل آخر مع الجماعة الذين فيهم سيدنا علي كرّم الله وجهه فقول سيدنا علي لم يكن فينا: أي في الجماعة الملازمين لنا تأمل، والله أعلم.
وفي أثناء الطريق بعرق الظبية لقوا رجلا من الأعراب فسألوه عن الناس فلم يجدوا عنده خبرا، فقال له الناس: سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أفيكم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا نعم، فسلم عليه، ثم قال: إن كنت رسول الله فأخبرني بما في بطن ناقتي هذه؟
فقال له سلامة بن سلامة بن وقش: لا تسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقبل عليّ أنا أخبرك عن ذلك، نزوت عليها ففي بطنها منك سحلة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه أفحشت على الرجل، ثم أعرض عن سلامة فلما نزلوا بواد يقال له ذفران» بكسر الفاء: أي وهو واد قريب من الصفراء أتاه الخبر عن قريش، بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار(2/205)
النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وأخبرهم الخبر: أي قال لهم إن القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول أي مسرعين، فما تقولون؟ العير أحب إليكم من النفير؟ فقالوا: بلى، أي قالت ذلك طائفة منهم العير أحب إلينا من لقاء العدو. وفي رواية هلا ذكرت لنا القتال حتى نتأهب له، إنا خرجنا للعير وفي رواية «يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو، فعند ذلك تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم» وقد روي ذلك عن أبي أيوب رضي الله عنه في سبب نزول قوله تعالى كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) [الأنفال: الآية 5] وعند ذلك قام أبو بكر فقال وأحسن، ثم قام عمر فقال وأحسن، ثم قام المقداد فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل: أي لموسى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) [المائدة: الآية 24] اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون ما دامت منا عين تطرف، فو الله الذي بعثك بالحق نبيا لو سرت بنا إلى برك الغماد- وهي مدينة بالحبشة- لجالدنا: أي ضربنا بالسيوف معك من دونه حتى نبلغه. وفي لفظ «نقاتل عن يمينك وعن يسارك. ومن بين يديك ومن خلفك، قال ابن مسعود:
فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرق لذلك وسر بذلك» .
وفي الكشاف «فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ثم دعا له بخير» .
هذا، وفي العرائس روي «أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لأصحابه يوم الحديبية حين صد عن البيت إني ذاهب بالهدى، فتأخر عند البيت واستشار أصحابه في ذلك، فقال المقداد بن الأسود أما والله لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [المائدة: الآية 24] ولكنا نقول إنا معكم مقاتلون، والله لنقاتلن عن يمينك وشمالك ومن بين يديك، ولو خضت بحرا لخضناه معك، ولو علوت جبلا لعلوناه معك، ولو ذهبت بنا برك الغماد لتابعناك، فلما سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك تابعوه، فأشرق عند ذلك وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم والتعدد ممكن لكنه بعيد ثم قال أشيروا عليّ، فقال عمر: يا رسول الله إنها قريش وعزها والله ما ذلت منذ عزت، ولا آمنت منذ كفرت والله لتقاتلنك، فتأهب لذلك أهبته واعدد لذلك عدته، أي ثم استشارهم ثالثا، فقال أشيروا عليّ أيها الناس ففهمت الأنصار أنه يعنيهم، وذلك لأنهم عدد الناس: أي أكثرهم عددا ومن ثم قيل: وإنما كرر رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستشارة: أي في ذلك المجلس ليعرف حال الأنصار، فإنه تخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه أي جاءه على حين غفلة بالمدينة من عدوه وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم عملا بظاهر قولهم له صلى الله عليه وسلم حين بايعوه عند العقبة «يا رسول الله إناء براء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا، فإذا وصلت إليها فأنت في ذمتنا، نمنعك بما نمنع به أبناءنا ونساءنا، ومن ثم قال له سعد بن معاذ سيد الأوس. وقيل سعد بن عبادة سيد(2/206)
الخزرج وإنما حكي بصيغة التمريض لأنه قد اختلف في عده في البدريين.
والصحيح أنه لم يشهد بدرا فإنه كان تهيأ للخروج فنهش بالمهملة أي لدغته الحية قبل أن يخرج فأقام أي وضرب له بسهم، فقال: لعلك تريدنا معاشر الأنصار يا رسول الله، فقال أجل قال قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، زاد في رواية ولعلك يا رسول الله تخشى أن تكون الأنصار ترى عليها أن لا ينصروك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار، وأجيب عنهم، فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت. وفي لفظ وصل جبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وسالم من شئت، وعاد من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا وإنا لصبر في الحرب، صدق اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك. وفي لفظ: بعض ما تقربه عينك فسر بنا على بركة الله تعالى، فنحن عن يمينك وشمالك وبين يديك ومن خلفك، فسر النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، أي وأشرق وجهه بقول سعد ونشطه ذلك، ثم قال صلى الله عليه وسلم: سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، أي وهما عير قريش ومن خرج من مكة من قريش يريد حماية ذلك العير «فوالله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم» أي فقد أعلمه الله تعالى بعد وعده بذلك الظفر بالطائفة الثانية، وأراه مصارعهم فعلم القوم أنهم ملاقون القتال وأن العير لا تحصل لهم.
ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذفران حتى نزل قريبا من بدر، فركب صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر رضي الله عنه، أي وقيل بدل أبي بكر قتادة بن النعمان، وقيل معاذ بن جبل حتى وقفا على شيخ من العرب أي يقال له سفيان قال في النور: لا أعلم له إسلاما، فسأله صلى الله عليه وسلم عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم. فقال الشيخ، لا أخبركما حتى تخبراني من أنتما فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخبرتنا أخبرناك فقال الشيخ ذاك بذاك قال نعم، قال فإنه قد بلغني أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان صدق الذي أخبرني به فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي نزل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وبلغني أن قريشا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان الذي أخبرني به صدق فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي نزلت به قريش فلما فرغ من خبره قال من أنتما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن من ماء أي من ماء دافق وهو المني، ثم انصرفا عنه.
فقال الشيخ من ماء من ماء العراق؟ فهم أن المراد بالماء حقيقته.
أي لكن في الإمتاع «فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحن من ماء، وأشار بيده إلى العراق.(2/207)
فقال: من ماء العراق» أي وأضيف الماء إلى العراق لكثرته به، وفيه أن هذا من التوراة، وقد تقدم في أوائل الهجرة أنه لا ينبغي لنبي أن يكذب ولو صورة، ومنه التوراة.
لكن في كلام القاضي البيضاوي وما روي «أنه عليه الصلاة والسلام قال لإبراهيم عليه الصلاة والسلام ثلاث كذبات» تسمية للمعاريض كذبا لما شابهت صورتها صورته.
ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه ودعا لهم فقال: اللهم إنهم حفاة فاحملهم اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم جياع فأشبعهم، ففتح الله لهم يوم بدر، فانقلبوا حين انقلبوا وما منهم رجل إلا وقد رجع بجمل أو جملين واكتسوا وشبعوا» أخرجه أبو داود عن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه: أي شبعوا واكتسوا بما أصابوه من كسوة وأزواد قريش.
وفي الإمتاع أن دعاءه صلى الله عليه وسلم المذكور كان عند مفارقته محل معسكره بالمدينة وهو بيوت السقيا كما تقدم، وتقدم فيه زيادة وعالة فأغنهم، فأصابوا الأسرى فاغتنى بهم كل عائل ولا مانع أن يكون دعاؤه صلى الله عليه وسلم بذلك تكرر.
«فلما أمسى صلى الله عليه وسلم بعث عليّ بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص في نفر من أصحابه رضي الله تعالى عنهم إلى بدر يلتمسون الخبر، فأصابوا رواية لقريش معها غلام لبني الحجج وغلام لبني العاص، فأتوا بهما ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، فقالوا: لمن أنتما؟ وظنوا أنهما لأبي سفيان، فقالا: نحن سقاة لقريش بعثونا نسقيهم من الماء فضربوهما، فلما أوجعوهما ضربا قالا: نحن لأبي سفيان فتركوهما، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته قال: إذا صدقا كم ضربتوهما وإذا كذبا كم تركتموها، صدقا والله، إنهما لقريش، أخبراني عن قريش، قالا: هم وراء هذا الكثيب» أي التل من الرمل الذي يرى بالعدوة القصوى: أي جانب الوادي المرتفع «فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم القوم؟ قالا كثير» أي وفي لفظ هم والله كثير عددهم، شديد بأسهم، قال: ما عدتهم؟ قالا لا ندري، أي وجهد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبراه كم هم فأبيا. قال صلى الله عليه وسلم كم تنحرون؟ أي من الجزر كل يوم؟ قالا يوما تسعا ويوما عشرا، فقال صلى الله عليه وسلم: القوم ما بين التسعمائة والألف» أي لكل جزور مائة، ثم قال لهما: فمن فيهم من أشراف قريش؟ قالا: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدي بن نوفل، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وسهيل بن عمرو العامري أي رضي الله تعالى عنه، فإنه أسلم بعد ذلك يوم الفتح، وهو من أشراف قريش(2/208)
وخطبائهم، وسيأتي أنه ممن أسر في هذه الغزاة وعمرو بن عبد ود فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس، فقال: «هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ- أي قطع- كبدها أي أشرافها وعظماءها» وذكر أن مسيرهم وإقامتهم كانت عشر ليال حتى بلغوا الجحفة: أي وهي قرية بقرب رابغ كما تقدم، نزلوا بها عشاء: أي وفي الإمتاع أنهم ردوا القيان من الجحفة.
أقول: هذا والذي في مسلم وأبي داود عن أنس رضي الله تعالى عنه «فإذا هم بروايا قريش فيها رجل أسود لبني الحجاج، فجاؤوا به، فكانوا يسألونه عن أبي سفيان فيقول: ما لي بأبي سفيان علم، فإذا قال ذلك ضربوه، وإذا قال هذا أبو سفيان تركوه» الحديث.
أي وفي الإمتاع «وأخذ تلك الليلة يسار غلام عبيدة بن سعيد بن العاص، وأسلم غلام منبه بن الحجاج وأبو رافع غلام أمية بن خلف، فأتي بهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي» الحديث.
وقد يقال: لا منافاة، لأن بعض الرواة ذكر الثلاثة، وبعضهم اقتصر على اثنين، وبعضهم اقتصر على واحد، والله أعلم.
وكان مع قريش رجل من بني المطلب بن عبد مناف يقال له جهم بن الصلت رضي الله تعالى عنه» . فإنه أسلم في عام خيبر «وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر ثلاثين وسقا، وقيل أسلم بعد الفتح فوضع رأسه فأغفى، ثم قام فزعا، فقال لأصحابه هل رأيتم الفارس الذي وقف عليّ فقالوا لا، قال: قد وقف عليّ فارس فقال: قتل أبو جهل وعتبة وشيبة وزمعة وأبو البختري وأمية بن خلف وفلان وفلان، وعد رجالا من أشراف قريش ممن قتل يوم بدر، أي وقال: أسر سهيل بن عمرو وفلان وفلان، وعدّ رجالا ممن أسر، قال: ثم رأيت ذلك الفارس ضرب في لبة بعيره، ثم أرسله في العسكر، فما من خباء من أخبية العسكر إلا أصابه من دمه، فقال له أصحابه: إنه لعب بك الشيطان، ولما شاعت هذه الرؤيا في العسكر وبلغت أبا جهل قال: قد جئتم بكذب بني عبد المطلب مع كذب بني هاشم سيرون غدا من يقتل» وفي لفظ «قال أبو جهل: هذا نبي آخر من بني المطلب، سيعلم غدا من المقتول، نحن أو محمد وأصحابه، وأول من نحر لهم حين خرجوا من مكة أبو جهل بن هشام عشر جزائر أي بمر الظهران، وكانت جزور منها بعد أن نحرت بها حياة فجالت في العسكر، فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه من دمها» كذا في الإمتاع.
ومن هذا المحل رجع بنو عدي أي تفاؤلا بذلك، ثم نحر لهم سفيان بن أمية بعسفان تسع جزائر، ونحر لهم سهيل بن عمرو بقديد عشر جزائر، وساروا من قديد فضلوا بهائم أصبحوا بالجحفة، فنحر لهم عتبة بن ربيعة عشر جزائر، فلما أصبحوا(2/209)
بالأبواء نحر لهم مقيس بن عمرو الجمحي تسع جزائر أي ويقال إن الذي نحر لهم بالأبواء نبيه ومنبه ابنا الحجاج عشرا، ونحر لهم العباس بن عبد المطلب عشر جزائر، ونحر لهم الحارث بن عامر بن نوفل تسعا، ونحر لهم أبو البختري على ماء بدر عشر جزائر، ونحر لهم مقيس الجمحي على ماء بدر تسعا، أي ثم شغلهم الحرب فأكلوا من أزوادهم، ثم مضى رجلان من الصحابة أي قبل وصوله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، وكذا قبل وصول قريش إلى بدر كما يدل عليه الكلام الآتي خلاف ما يدل عليه هذا السياق إلى ماء بدر «فنزلا قريبا منه عند تلّ هناك، ثم أخذا شنا لهما يستقيان فيه وشخص على الماء وإذا جاريتان يتلازمان: أي يتخاصمان، وتمسك إحداهما الأخرى على الماء، والملزومة تقول لصاحبتها إنما يأتي العير غدا أو بعد غد. فأعمل لهم وأقضيك الذي لك، فقال ذلك الرجل الذي على الماء صدقت، ثم خلص بينهما، وسمع ذلك الرجلان فجلسا على بعيرهما، ثم انطلقا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه بما سمعا ثم إن أبا سفيان تقدم العير حذرا حتى ورد الماء، فلقي ذلك الرجل، فقال له: هل أحسست أحدا؟ قال: ما رأيت أحدا أنكره إلا أني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شنّ لهما ثم انطلقا» .
فأتى أبو سفيان مناخهما فأخذ من أبعار بعيرهما ففتته، فإذا فيه النوى، فقال:
والله علائف يثرب، فرجع إلى أصحابه سريعا فصوّب عيره عن الطريق وترك بدرا بيسار، وانطلق حتى أسرع، فلما علم أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش، أي وقد كان بلغه مجيئهم ليحرزوا العير وكانوا حينئذ بالجحفة إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، وقد نجاها الله تعالى فارجعوا، فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نحضر بدرا فنقيم عليه ثلاثة أيام، فلا بد أن ننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان أي تضرب بالمعازف: أي الملاهي، وقيل الدفوف، وقيل الطنابير وقيل نوع منها يتخذه أهل اليمن، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها وسيأتي في غزاة بدر الموعد أن موسم بدر يكون عند هلال ذي القعدة في كل عام يمكث ثمانية أيام، ويبعد إرادة ذلك لأبي جهل أي إقامتهم ببدر بقية رمضان وتمام شوّال.
قال «ولما أرسل أبو سفيان يقول لقريش ما تقدم، أي ورد عليه أبو جهل بما ذكر قال: هذا بغي، والبغي منقصة وشؤم وعند ذلك رجع منهم بنو زهرة وكانوا نحو المائة انتهى» أي وقيل ثلاثمائة، وقائدهم كان الأخنس بن شريق.
وفي كلام ابن الأثير «فلم يقتل منهم» أي من بني زهرة أحد «ببدر» وفي كلام غيره «ولم يشهد بدر أحد من بني زهرة إلا رجلان قتلا كافرين، فإن الأخنس قال لبني زهرة يا بني زهرة قد نجى الله أموالكم، وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن(2/210)
نوفل، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله، واجعلوا بي حميتها، وارجعوا فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير منفعة لا ما يقول هذا» يعني أبا جهل «وقال لأبي جهل أي وقد خلا به، أترى محمدا يكذب؟ فقال: ما كذب قط، كنا نسميه الأمين، لكن إذا كانت في بني عبد المطلب السقاية والرفادة والمشورة، ثم تكون فيهم النبوّة فأي شيء يكون لنا؟ فانخنس الأخنس ورجع ببني زهرة» أي واسمه أبيّ وإنما لقب بالأخنس من حين رجع ببني زهرة، فقيل خنس بهم فسمي الأخنس، كان حليفا لبني زهرة ومقدما فيهم رضي الله تعالى عنه- فإنه أسلم يوم الفتح، وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المؤلفة قلوبهم» .
ورأيت عن السهيلي «أنه قتل يوم بدر كافرا» وتبعه على ذلك التلمساني في حاشية الشفاء واستدل له بقول القاضي البيضاوي: أن قوله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [البقرة: الآية 204] الآية نزلت في الأخنس بن شريق.
وفي الإصابة أنه كان من المؤلفة، ومات في خلافة عمر.
وعن السدي «أن الأخنس جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأظهر إسلامه وقال: الله يعلم إني لصادق ثم هرب بعد ذلك، فمر بقوم مسلمين فحرق زرعهم، فنزلت وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [البقرة: الآية 204] إلى قوله: وَبِئْسَ الْمِهادُ [الرّعد: الآية 18] .
قال ابن عطية، ما ثبت قط أن الأخنس أسلم، قلت قد أثبته في الصحابة جماعة، ولا مانع أن يكون أسلم ثم ارتد ثم رجع إلى الإسلام، هذا كلام الإصابة.
وفي كلام ابن قتيبة، ولم يسلم الأخنس، وفي كلام بعضهم: ثلاثة ابن وأبوه وجده شهدوا بدرا الأخنس وابنه يزيد وابنه معن فليتأمل ذلك.
«قال وأرادوا بنو هاشم الرجوع، فاشتد عليهم أبو جهل وقال: لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع» انتهى.
ثم لم يزالوا سائرين حتى نزلوا بالعدوة القصوى قريبا من الماء، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون بعيدا من الماء، بينهم وبين الماء رحلة، فظمىء المسلمون وأصابهم ضيق شديد، وأجنب غالبهم، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ، فوسوس إليهم، تزعمون أنكم أولياء الله تعالى وأنكم على الحق وفيكم رسوله، وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم عطاش، وتصلون مجنبين، أي وما ينتظر أعداؤكم إلا أن يقطع العطش رقابكم، ويذهب قواكم، فيحكموا فيكم كيف شاؤوا» .
وفي الكشاف «فإذا قطع العطش أعناقكم مشوا إليكم، فقتلوا من أحبوا، وساقوا بقيتكم إلى مكة، فحزنوا حزنا شديدا وأشفقوا، وكان الوادي دهسا بالسين(2/211)
المهملة، أي لينا كثير التراب تسيخ فيه الأقدام، فبعث الله السماء» أي المطر «فأطفأت الغبار» ، ولبدت الأرض» أي شدتها للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه، أي وطهرهم به وأذهب عنهم رجز الشيطان» أي وسوسته «وشربوا منه وملؤوا الأسقية وسقوا الركائب، واغتسلوا من الجنابة، أي وطابت نفوسهم، فذلك قوله تعالى وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال: الآية 11] أي من الأحداث وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ [الأنفال: الآية 11] أي وسوسته وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ [الأنفال: الآية 11] أي يشدّها ويقويها وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ [الأنفال: الآية 11] أي بتلبيد الأرض حتى لا تسوخ في الرمل «وأصاب قريشا منها ما لم يقدروا على أن يرتحلوا منه أي ويصلوا إلى الماء» أي فكان المطر نعمة وقوة للمؤمنين وبلاء ونقمة للمشركين.
وعن علي رضي الله تعالى عنه «أصابنا من الليل طس من مطر، فانطلقنا تحت الشجر والجحف نستظل تحتها من المطر، وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ربه» .
وعن عليّ رضي الله تعالى عنه «ما كان فينا أي تلك الليلة قائم إلا رسول الله يصلي تحت شجرة ويكثر في سجوده أن يقول، يا حي يا قيوم يكرر ذلك حتى أصبح أي لأن المسلمين أصابهم تلك الليلة نعاس شديد يلقي الشخص على جنبه» .
أي وعن قتادة «كان النعاس أمنة من الله، وكان النعاس نعاسين، نعاس يوم بدر، ونعاس يوم أحد» لأن النعاس هنا كان ليلا قبل القتال؛ وفي أحد كان وقت القتال، وكون النعاس أمنة وقت القتال أو وقت التأهب له وهو وقت المصافة واضح لا قبله.
هذا وذكر الشمس الشامي أنه لما نزلت الملائكة والناس بعد على مصافهم لم يحملوا على عدوهم، وبشرهم صلى الله عليه وسلم بنزول الملائكة حصل لهم الطمأنينة والسكينة، وقد حصل لهم النعاس الذي هو دليل على الطمأنينة، وربما يقتضي أنه حصل لهم النعاس عند المصافة، وإلا فقد يقال إن قوله وقد حصل لهم النعاس جملة حالية، أي والحال أنه حصل لهم قبل ذلك في تلك الليلة؛ لا في وقت المصافة.
ولا يبعد ذلك قوله بعد ذلك: ولهذا قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه:
النعاس في المصاف من الإيمان والنعاس في الصلاة من النفاق، أي لأنه في الأول يدل على ثبات الجنان، وفي الثاني يدل على عدم الاهتمام بأمر الصلاة.
«فلما أن طلع الفجر نادى صلى الله عليه وسلم الصلاة عباد الله، فجاء الناس من تحت الشجر والحجف، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرض على القتال» أي في خطبة خطبها «فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أما بعد فإني أحثكم على ما حثكم الله عليه، إلى أن قال: وإن الصبر في مواطن البأس مما يفرج الله تعالى به الهمّ وينجي به من الغم» الحديث.(2/212)
«ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يبادرهم» أي يسابق قريشا إلى الماء «فسبقهم عليه، حتى جاء أدنى ماء من بدر» أي أقرب ماء إلى بدر من بقية مياهها «فنزل به صلى الله عليه وسلم، فقال له الحباب بن المنذر، يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزل أنزلكه الله تعالى ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، قال: يا رسول الله إن هذا ليس بمنزل؛ فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم» أي إذا نزل القوم: يعني قريشا كان ذلك الماء أقرب المياه، أي محله أقرب المياه إليهم. قال الحباب: فإني أعرف غزارة مائة وكثرته بحيث لا ينزح، فننزله ثم نغور ما عداه من القلب: أي وهي الآبار غير المبنية، ثم نبني عليه حوضا فنملأه ماء فنشرب ولا يشربون؛ لأن القلب كلها حينئذ تصير خلف ذلك القليب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرأي، ونزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرأي ما أشار إليه الحباب، فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس، فسار حتى أتى أدنى ماء من القوم» أي من المحل الذي ينزل به القوم «فنزل عليه، ثم أمر بالقلب فغورت» بسكون الواو.
وقال السهيلي: لما كانت القلب عينا جعلها كعين الإنسان، ويقال في عين الإنسان غرتها فغارت، ولا يقال غورتها أي بالتشديد «وبنى صلى الله عليه وسلم حوضا على القليب الذي نزل به فملأه ماء، ثم قذفوا فيه الآنية، ومن يومئذ قيل للحباب ذو الرأي» وظاهر كلام بعضهم أنه كان معروفا بذلك قبل هذه الغزاة.
وفيه أن ذلك القليب إذا كان خلف ظهورهم وسائر القلب خلفه ما المعنى في تغويرها لأنها إذا لم تغورهم يشربون ولا يشرب القوم. إلا أن يقال: المعنى لئلا يأتوا إليها من خلفهم، فالغرض قطع أطماعهم من الماء، فليتأمل، واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم «بل هو الرأي» على جواز الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم في الحرب نظرا لصورة السبب أو مطلقا لأن صورة السبب لا تخصص، وجواز الاجتهاد له مطلقا هو الراجح.
ومما استدل به على وقوع الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم في الأحكام قوله «إلا الإذخر» عقب ما قيل له إلا الإذخر. قال السبكي: وليس قاطعا، لاحتمال أن يكون أوحي إليه في تلك اللحظة.
هذا، وفي كلام بعضهم أنهم نزلوا على ذلك القليب نصف الليل فصنعوا الحوض وملؤوه وقذفوا فيه الآنية بعد أن استقوا منه، وسيأتي ما يؤيده.
«وقال سعد بن معاذ: يا نبي الله ألا نبني عريشا» أي وهو شيء كالخيمة من جريد يستظل به «تكون فيه ونعد عندك ركائبك ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله تعالى وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا، فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حبا منهم(2/213)
ولا أطوع لك منهم، لهم رغبة في الجهاد ونية، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك، إنما ظنوا أنها العير يمنعك الله بهم ويناصحونك ويجاهدون معك، فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له بخير، أي وقال: أو يقضي الله خيرا من ذلك يا سعد أي وهو نصرهم وظهورهم على عدوهم ثم بني» أي ذلك العريش «لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي فوق تل مشرف على المعركة كان فيه» .
أي وعن علي رضي الله تعالى عنه «أنه قال لجمع من الصحابة، أخبروني عن أشجع الناس؟ قالوا أنت؛ قال: أشجع الناس أبو بكر، لما كان يوم بدر جعلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشا فقلنا: من مع رسول الله صلى الله عليه وسلم» أي من يكون معه «لئلا يهوي إليه أحد من المشركين، فوالله، ما دنا منا أحد إلا أبو بكر شاهرا بالسيف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يهوي إليه أحد إلا أهوى إليه» أي ولذلك حكم عليّ أنه أشجع الناس. وبه يرد قول الشيعة والرافضة إن الخلافة لا يستحقها إلا عليّ، لأنه أشجع الناس، أي وهذا كان قبل أن يلتحم القتال، وإلا فبعد التحامه كان عليّ على باب العريش الذي به صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وسعد بن معاذ قائمان على باب العريش في نفر من الأنصار كما سيأتي.
ومما استدل على أن أبا بكر أشجع من علي أن عليا أخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يقتله إلا ابن ملجم، فكان إذا دخل الحرب ولاقى الخصم علم أنه لا قدرة له على قتله، فهو معه كالنائم على فراشه. وأما أبو بكر فلم يخبر بقاتله، فكان إذا دخل الحرب لا يدري هل يقتل أو لا، ومن هذه حاله يقاسي من التعب ما لا يقاسيه غيره.
ومما يدل على ذلك ما وقع له في قتال أهل الردة، وتصميمه العزم على مقاتلة مانعي الزكاة مع تثبيط سيدنا عمر له عن ذلك.
«فلما كان الصباح أقبلت قريش من الكثيب» هذا يؤيد القول بأنه صلى الله عليه وسلم سار بأصحابه ليلا يبادرهم إلى الماء، لأن ذلك بعد طلوع الفجر وصلاة الصبح كما تقدم، لأن الظاهر من قول الراوي أقبلت: أي عليهم هم ماكثون.
ويؤيده أيضا ما في مسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليلة بدر» أي بعد أن وصل إلى محل الوقعة «هذا مصرع فلان إن شاء الله غدا ووضع يده على الأرض، وهذا مصرع فلان ها هنا، وهذا مصرع فلان هاهنا. قال أنس: ما ماط أحدهم عن موضع يده صلى الله عليه وسلم» أي ما تنحى فليتأمل الجمع.
ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا وقد أقبلت بالدروع الساترة والجموع الوافرة والأسلحة الشاكية أي التامة قال: «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها» أي كبرها(2/214)
وعجبها وفخرها «تجادلك: أي تعاديك وتخالف أمرك وتكذب رسولك، فنصرك» أي أنجز نصرك «الذي وعدتني» أي وفي لفظ «اللهم إنك أنزلت على الكتاب وأمرتني بالثبات، ووعدتني إحدى الطائفتين، أي وقد فاتت إحداهما وهي العير وإنك لا تخلف الميعاد. اللهم أحبهم» أي أهلكهم «الغداة» وفي رواية «اللهم لا تفلتن أبا جهل فرعون هذه الأمة، اللهم لا تفلتن زمعة بن الأسود، اللهم وإسحاق عين أبي زمعة، وأعم بصر أبي زمعة، اللهم لا تفلتن سهيلا» الحديث.
«ولما اطمأنت قريش أرسلوا عمير بن وهب الجمحي- أي رضي الله تعالى عنه- فإنه أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، وشهد أحدا معه صلى الله عليه وسلم فقالوا: احزر لنا أصحاب محمد» أي انظر لنا عدتهم «فاستجال بفرسه حول عسكر النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع إليهم، فقال: ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصون قليلا، ولكن أمهلوني حتى أنظر للقوم كمينا أو مددا، فذهب في الوادي حتى أبعد فلم ير شيئا ثم رجع إليهم وقال:
ما رأيت شيئا، ولكني قد رأيت يا معشر قريش البلايا» أي وهي في الأصل النوق تبرك على قبر صاحبها، فلا تعلف ولا تسقى حتى تموت «تحمل المنايا» أي الموت «أي نواضح يثرب تحمل الموت النافع» أي البالغ.
زاد بعضهم: ألا ترونهم خرسا لا يتكلمون، يتلمظون تلمظ الأفاعي، لا يريدون أن ينقلبوا إلى أهلهم، زرق العيون كأنهم الحصا تحت الجحف، يعني الأنصار قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما نرى أن نقتل منهم رجلا حتى يقتل رجل منكم فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك؟ فروا رأيكم؛ فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس، فأتى عتبة بن ربيعة فقال: يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها، هل لك إلى أن لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر؟ قال: وما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس؛ فقام عتبة خطيبا فقال: يا معشر قريش إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا والله لئن أصبتموه لا يزال رجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه وابن خاله ورجلا من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك أكفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون، أي يا قوم أعصبوها اليوم برأسي، أي اجعلوا عارها متعلقا بي، وقولو جبن عتبة وأنتم تعلمون أني لست بأجبنكم.
أي وفي لفظ آخر «أن حكيم بن حزام قال لعتبة بن ربيعة: تجير بين الناس وتحمل دم حليفك عمرو بن الحضرمي» أي الذي قتله واقد بن عبد الله في سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة، وهو أوّل قتيل قتله المسلمون «وتحمل ما أصاب محمد من تلك العير أي الذي غنمه عبد الله بن جحش» كما سيأتي في السرايا «فإنهم لا(2/215)
يطلبون من محمد إلا ذلك؟ فقال عتبة نعم قد فعلت، أي هو حليفي فعليّ عقله وما أصيب من المال، ونعم ما قلت، ونعم ما دعوت إليه، وركب عتبة جملا له وصار يجيله في صفوف قريش يقول: يا قوم أطيعوني فإنكم لا تطلبون غير دم ابن الحضرمي وما أخذ من العير، وقد تحملت ذلك.
زاد بعضهم «أنه قال: يا معشر قريش أنشدكم الله في هذه الوجوه التي تضيء ضياء المصابيح» يعني قريشا «أن تجعلوها أندادا لهذه الوجوه التي كأنها عيون الحيات» يعني الأنصار، وهذا كما ترى وما يأتي أيضا يضعف قول من قال إنه صلى الله عليه وسلم عقل ابن الحضرمي أي أعطى ديته.
«وقد كان صلى الله عليه وسلم لما رأى قريشا أقبلت من الكثيب وعتبة على جمل أحمر قال:
إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر» .
أي وفي رواية «إن يكن أحد يأمر بخير فعسى أن يكون صاحب الجمل الأحمر أن يطيعوه يرشدوا. ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم راكب الجمل الأحمر يجيله في صفوف قريش، قال: يا علي ناد حمزة وكان أقربهم إلى المشركين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
من صاحب الجمل الأحمر، وماذا يقول لهم؟ فقال: هو عتبة بن ربيعة ينهى عن القتال» وحينئذ يكون قوله صلى الله عليه وسلم إن يكن في أحد من القوم خير الخ من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم.
«ثم قال عتبة لحكيم بن حزام انطلق لابن الحنظلية» يعني أبا جهل «قال حكيم: فانطلقت حتى جئت أبا جهل فوجدته قد سل درعا له من جرابها» أي أخرجها منه، فقلت له: «يا أبا الحكم إن عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا للذي قال، فقال: انتفخ والله سحره» أي رئته كلمة تقال للجبان.
وفي لفظ أنه قال لعتبة، وقد جاء إليه، أنت تقول هذا؟ والله لو غيرك يقول هذا لأعضضته أي قلت له اعضض على بظر أمك أن قد ملأت رئتك وجوفك رعبا كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، وقال لحكيم: ما بعتبة ما قال، ولكنه قد رأى أن محمدا وأصحابه أكلة جزور أي في قلة بحيث يكفيهم الجزور وفيهم ابنه أي وهو أبو حذيفة رضي الله تعالى عنه، فإنه كان ممن أسلم قديما «فقد تخوفكم عليه» .
أي وفي رواية أنه قال: يا معشر قريش إنما يشير عليكم عتبة بهذا، لأن ابنه مع محمد ومحمد ابن عمه، فهو كره أن تقتلوا ابنه وابن عمه، فغضب عتبة وسب أبا جهل وقال، سيعلم أينا أفسد لقومه.
أي ومن غريب الاتفاق أن أم أبان بنت عتبة بن ربيعة المذكور كان لها أربعة(2/216)
إخوة وعمان، كل منهم حضر بدرا اثنان من إخوتها مسلمان، واثنان مشركان، وواحد من عميها مسلم، والآخر كافر، فالأخوان المسلمان: أبو حذيفة ومصعب بن عمير ولعله كان أخاها لأمها، والكافران: الوليد بن عتبة وأبو عزيز، والعم المسلم معمر بن الحارث ولعله كان أخا لعتبة لأمه، والعم الكافر شيبة بن ربيعة، وكان من حكمة الله تعالى أن الله جعل المسلمين قبل أن يلتحم القتال في أعين المشركين قليلا استدراجا لهم ليقدموا، ولما التحم القتال جعلهم الله في أعين المشركين كثيرا ليحصل لهم الرعب والوهن، وجعل الله المشركين عند التحام القتال في أعين المسلمين قليلا ليقوى جأشهم على مقاتلتهم.
ومن ثم جاء عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: لقد قلّوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل أتراهم سبعين، قال: أراهم مائة، وأنزل الله تعالى وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ [الأنفال: الآية 44] ، ومن ثم قال الله تعالى قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ [آل عمران: الآية 13] أي يرى أولئك الكفار المؤمنين مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ [آل عمران: الآية 13] .
أي وقد ذكر أن قباث بن أشيم رضي الله تعالى عنه- فإنه أسلم بعد ذلك- قال في نفسه يوم بدر: لو خرجت نساء قريش بأكمتها لردّت محمدا وأصحابه. وعنه أنه قال: لما كان بعد الخندق قدمت المدينة سألت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هو ذاك في محل المسجد مع ملأ من أصحابه، فأتيته وأنا لا أعرفه من بينهم، فسلمت عليه فقال صلى الله عليه وسلم «يا قباث أنت القائل يوم بدر: لو خرجت نساء قريش بأكمتها ردت محمدا وأصحابه، فقال قباث: والذي بعثك بالحق ما تحدث به لساني ولا ترفرفت به شفتاي ولا سمعه مني أحد، وما هو إلا شيء هجس في قلبي» وحينئذ يكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم «أنت القائل: أي في نفسك، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأن ما جئت به الحق» .
«ولما بلغ عتبة ما قاله أبو جهل قال: سيعلم مصفر استه من انتفخ سحره أنا أم هو» وقد تقدم معنى مصفر استه.
وذكر السهيلي هنا أن هذه الكلمة لم يخترعها عتبة ولا هو أبو عذرتها، فقد قيلت لبعض الملوك وكان مترفها لا يغزو في الحروب يريدون صفرة الخلوق والطيب، وسادة العرب لا تستعمل الخلوق والطيب إلا في الدعة وتعيبه في الحرب أشد العيب. وأظن أن أبا جهل لما علم بسلامة العير استعمل الطيب والخلوق، فلذلك قال له عتبة هذه الكلمة وإنما أراد مصفر بدنه، ولكنه قصد المبالغة في الذم، فخص منه بالذكر ما يسوؤه أن يذكر هذا كلامه.(2/217)
وذكر «أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إليهم يقول:
ارجعوا فإنه إن يلي هذا الأمر مني غيركم أحب إليّ من أن تلوه مني، فقال حكيم بن حزام: قد عرض نصفا فأقبلوه، فوالله لا تنصرون عليه بعد ما عرض من النصف، فقال أبو جهل: والله لا نرجع بعد أن مكننا الله منهم. ثم إن أبا جهل بعث إلى عامر بن الحضرمي أي أخو المقتول الذي هو عمرو، وقال هذا حليفك: يعني عتبة يريد أن يرجع الناس، وفي لفظ «يخذل الناس عن القتال، وقد تحمل دية أخيك من ماله يزعم أنك قابلها، ألا تستحي أن تقبل الدية من مال عتبة، وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم فاذكر مقتل أخيك، وكان عامر كأخيه المقتول من حلفاء عتبة» وسيأتي ذلك «فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف أي كشف استه أي وحثا عليه التراب، ثم صرخ واعمراه واعمراه، فثارت النفوس» أي وعامر هذا لا يعرف له إسلام.
أي وفي الاستيعاب: عامر بن الحضرمي قتل يوم بدر كافرا، وأما أخوهما العلاء فمن فضلاء الصحابة رضي الله تعالى عنهم، أي وقد كان يقال إنه مجاب الدعوة وأنه خاض البحر هو وسريته التي كان أميرا عليها، وذلك في زمن خلافة عمر رضي الله تعالى عنه، ويقال يبس حتى رئي الغبار من حوافر الخيل بكلمات قالها ودعا بها، وهي «يا عليّ يا حكيم، يا عليّ يا عظيم، أنا عبيدك، وفي سبيلك نقاتل عدوك، اللهم فاجعل لنا إليهم سبيلا» .
وقد وقع نظير ذلك: أي دخول البحر لأبي مسلم الخولاني التابعي، فإنه لما غزا الروم مع جيشه مروا بنهر عظيم بينهم وبين العدوّ، فقال أبو مسلم: اللهم أجزت بني إسرائيل البحر وإنا عبادك في سبيلك، فأجزنا هذا النهر اليوم. ثم قال: اعبروا بسم الله فعبروا، فلم يبلغ الماء بطون الخيل.
وكذا وقع نظير ذلك لأبي عبيد الثقفي التابعي أمير الجيوش في أيام سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه فإن دجلة حالت بينه وبين العدو، فتلا قوله تعالى وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا [آل عمران: الآية 145] ثم سمى الله تعالى، واقتحم بفرسه الماء، واقتحم الجيش وراءه ولما نظر إليهم الأعاجم صاروا يقولون ديوانا ديوانا: أي مجانين ثم ولوا مدبرين، فقتلهم المسلمون وغنموا أموالهم» وله أخ يقال له ميمون وهو الذي حفر البئر التي بأعلى مكة التي يقال لها بئر ميمون ولم أقف على إسلامه.
وأما أختهم التي هي الصعبة وهي أم طلحة بن عبيد الله فصحابية رضي الله تعالى عنها كانت أولا تحت أبي سفيان بن حرب فطلقها، فخلف عليها عبيد الله، فولدت له طلحة الذي قال في حقه صلى الله عليه وسلم «من أراد أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله» .(2/218)
ثم إن الأسود بن عبد الأسد المخزومي، وهو أخو أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد، وكان رجلا شرسا، سيىء الخلق، شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم «وجاء أنه أول من يعطى كتابه بشماله، كما أن أخاه أبا سلمة أول من يعطى كتابه بيمينه كما تقدم قال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم، أو لأهدمنه، أو لأموتن دونه، فلما خرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فلما التقيا ضربه حمزة فأطن قدمه بنصف ساقه» أي أسرع قطعها «فطارت وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دما، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه أي وشرب منه وهدمه برجله الصحيحة يريد أن تبر يمينه» فاتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض، وأقبل نفر من قريش حتى وردوا ذلك الحوض منهم حكيم بن حزام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوهم، فما شرب منه رجل يومئذ إلا قتل كافرا إلا ما كان من حكيم بن حزام فإنه لم يقتل، ثم أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، فكان إذا اجتهد في يمينه قال: لا والذي نجاني يوم بدر» .
وعلى أن هذا الحوض كان وراء ظهره صلى الله عليه وسلم يكون مجيء هؤلاء للحوض من خلفه صلى الله عليه وسلم فليتأمل.
«ثم إن عتبة بن ربيعة التمس بيضة» أي خوذة «ليدخلها في رأسه، فما وجد في الجيش بيضة تسع رأسه لعظمها فاعتجر على رأسه ببرد له» أي تعمم به ولم يجعل تحت لحيته من العمامة شيئا، وخرج بين أخيه شيبة وابنه الوليد حتى فصل من الصف ودعا للمبارزة، فخرج إليه فتية من الأنصار، ثلاثة إخوة أشقاء: هم معوذ ومعاذ وعوف بنو عفراء، وقيل بدل عوف عبد الله بن رواحة، فقالوا: من أنتم؟
قالوا: رهط من الأنصار، قالوا: ما لنا بكم من حاجة» وفي رواية «أكفاء كرام، إنما نريد قومنا» أي وفي لفظ «ولكن أخرجوا إلينا من بني عمنا» أي وفي لفظ «أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بالرجوع فرجعوا إلى مصافهم، وقال لهم خيرا» لأنه كره أن تكون الشوكة لغير بني عمه وقومه في أول قتال «وعند ذلك نادى مناديهم: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا علي» وفي لفظ «قوموا يا بني هاشم فقاتلوا بحقكم الذي بعث به نبيكم إذ جاؤوا ببطلانهم ليطفئوا نور الله، قم يا عبيدة بن الحارث، قم يا حمزة، قم يا علي، فلما قاموا ودنوا قالوا لهم، من أنتم، أي لأنهم كانوا ملبسين لا يعرفون من السلاح» قال عبيدة:
عبيدة، وقال حمزة: حمزة، وقال عليّ: عليّ: قالوا نعم أكفاء كرام، فبارز عبيدة بن الحارث وكان أسنّ القوم، كان أسنّ من النبي صلى الله عليه وسلم بعشر سنين عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علي الوليد، فأما حمزة فلم يمهل أن قتل شيبة، وأما علي فلم يمهل أن قتل الوليد، واختلف عبيدة وعتبة بينهما بضربتين كلاهما أثبت صاحبه، وكرّ حمزة وعليّ بأسيافهما على عتبة فذففاه» بالمهملة والمعجمة «واحتملا صاحبهما(2/219)
فجراه إلى أصحابه، أي وأضجعوه إلى جانب موقفه صلى الله عليه وسلم، فأفرشه رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمه الشريفة فوضع خده عليها، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد أنك شهيد، أي بعد أن قال له عبيدة: ألست شهيدا يا رسول الله؟ فتوفي في الصفراء، ودفن بها عند مرجع المسلمين إلى المدينة» .
وقيل برز حمزة لعتبة وعبيدة لشيبة وعليّ للوليد، واختلف عبيدة وشيبة بينهما بضربتين كلاهما أثبت صاحبه وقعت الضربة في ركبة عبيدة فأطاحت رجله وصار مخ ساقه يسيل، ثم مال حمزة وعليّ على شيبة فذففا عليه.
أي ويقال إن شيبة لما صرع من ضربة عبيدة قام، فقام إليه حمزة فاختلفا ضربتين لم يصنع سيفهما شيئا فاعتنق كل واحد منهما صاحبه فأهوى عبيدة وهو صريع فضرب شيبة فقطع ساقة فذفف عليه حمزة.
وقيل بارز عليّ شيبة وبارز عبيدة الوليد. فقد روى الطبراني بإسناد حسن عن علي أنه قال «أعنت أنا وحمزة عبيدة بن الحارث على الوليد، فلم يعب النبي صلى الله عليه وسلم علينا ذلك» .
وقال الحافظ ابن حجر: وهذا أصح الروايات ولكن المشهور أن عليا كرم الله وجهه إنما بارز الوليد، وهذا هو اللائق بالمقام، لأن عتبة وشيبة كانا شيخين كعبيدة وحمزة، بخلاف عليّ والوليد فكانا شابين. وقتل حمزة طعيمة بن عدي أخا المطعم بن عدي وتقدم أن المطعم مات قبل هذه الغزاة بستة أشهر كافرا.
قيل وهذه المبارزة أول مبارزة وقعت في الإسلام.
وفي الصحيحين عن أبي ذر «أنه كان يقسم قسما إن هذه الآية هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الحجّ: الآية 19] نزلت في حمزة وصاحبه وعتبة وصاحبه يوم بدر» .
وفي البخاري عن علي رضي الله تعالى عنه أنه أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة.
وقيل أول من يقف بين يدي الله للخصومة علي ومعاوية «ثم تزاحم الناس ودنا بعضهم من بعض. وقد كان عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم صفوف أصحابه بقدح في يده» أي بسهم لا نصل له ولا ريش «فمر بسواد» بتخفيف الواو لا بتشديدها كما زعمه ابن هشام بن غزية بفتح الغين المعجمة وكسر الزاي وتشديد الياء «أي حليف بني النجار وهو خارج من الصف، فطعنه صلى الله عليه وسلم في بطنه بالقدح وقال استو يا سواد، فقال: يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني» أي مكني من القود أي القصاص «من نفسك، فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال استقد» أي خذ القود أي القصاص «فاعتنقه فقبل بطنه الشريف، فقال: ما حملك على هذا يا سواد، فقال: يا(2/220)
رسول الله حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم بخير» .
وفيه أن هذا لا قود فيه ولا قصاص عندنا فليتأمل. وسواد هذا جعله صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر عاملا على خيبر كما سيأتي.
أي وفي حديث حسن عن عبد الرحمن بن عوف قال «صفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فبدرت منا بادرة أمام الصف، فنظر إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال معي معي» .
أقول: وقع له صلى الله عليه وسلم مع بعض الأنصار: أي وهو سواد بن عمرو مثل هذا الذي وقع له مع سواد بن غزية.
ففي أبي داود «أن رجلا من الأنصار كان فيه مزاح، فبينما هو يحدّث القوم يضحكهم إذ طعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في خاصرته بعود كان في يده» وفي لفظ «بعرجون» وفي آخر «بعصا، فقال أصبرني يا رسول الله» أي أقدني «ومكني من نفسك لأقتص منك، فقال اصبر» أي اقتص «قال: إن عليك قميصا وليس عليّ قميص فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه فاحتضنه وجعل يقبل كشحه» .
أي ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه ما التصق ببدنه مسلم وتمسه النار كذا في الخصائص الصغرى. وفيها في محل آخر: ولا تأكل النار شيئا مس جسده، وكذلك الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
«ثم لما عدّل الصفوف قال لهم: إن دنا القوم منكم فانضحوهم» أي ادفعوهم «عنكم بالنبل، واستبقوا نبلكم» أي لا ترموهم على بعد، فإن الرمي مع البعد غالبا يخطىء فيضيع النبل بلا فائدة، أي وقال لهم «لا تسلوا السيوف حتى يغشوكم.
وخطبهم خطبة حثهم فيها على الجهاد وعلى المصابرة فيه. منها: وإن الصبر في مواطن البأس مما يفرج الله عز وجل به الهم وينجي به من الغم» وهذا السياق يدل على تكرر هذه الخطبة: أي وقوعها قبل مجيئهم إلى محل القتال وبعد مجيئهم إليه.
ولا مانع منه.
«ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى العريش فدخله ومعه أبو بكر ليس معه فيه غيره وسعد بن معاذ قائم على باب العريش متوشح بسيفه مع نفر من الأنصار، يخافون على رسول الله صلى الله عليه وسلم كرة العدوّ أي والجنائب مهيأة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن احتاج إليها ركبها.
ولما اصطف الناس للقتال رمى قطبة بن عامر حجرا بين الصفين وقال: لا أفر إلا إن فرّ هذا الحجر، وكان أول من خرج من المسلمين مهجع» بكسر الميم وإسكان الهاء فجيم مفتوحة فعين مهملة «مولى عمر بن الخطاب، فقتله عامر بن الحضرمي بسهم أرسله إليه» ونقل بعض المشايخ أنه أول من يدعى من شهداء هذه الأمة، وأنه صلى الله عليه وسلم(2/221)
قال يومئذ «مهجع سيد الشهداء» أي من هذه الأمة، فلا ينافي ما جاء «أن سيد الشهداء يوم القيامة يحيى بن زكريا، وقائدهم إلى الجنة وذابح الموت يوم القيامة، يضجعه ويذبحه بشفرة في يده والناس ينظرون إليه» لكن جاء «سيد الشهداء هابيل» إلا أن تجعل الأولية إضافية، فيراد أول أولاد آدم لصلبه.
قيل وكون مهجع أول قتيل من المسلمين لا ينافي كون أول قتيل من المسلمين عمير بن الحمام، لأن ذاك أول قتيل من المهاجرين، وعمير أول قتيل من الأنصار، ولا ينافي ذلك أن أول قتيل من الأنصار حارثة بن قيس: أي قتل بسهم لم يدر راميه.
ففي البخاري عن حميد، قال: سمعت أنسا يقول «أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام، قتل بإرسال سهم إليه» ، أي فإنه أصابه سهم غرب: أي لا يعرف راميه، وهو يشرب من الحوض.
وفي كلام ابن إسحاق: أول من قتل من المسلمين مهجع مولى عمر بن الخطاب، ومن بعده حارثة بن سراقة. وقد جاءت أم حارثة وهي عمة أنس بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت «يا رسول الله حدّثني عن حارثة، فإن يكن في الجنة لم أبك عليه ولكن أحزن، وإن يكن في النار بكيت ما عشت في دار الدنيا» . وفي رواية «إن يكن في الجنة صبرت، وإن يكن غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء، فقال: يا أم حارثة إنها ليست بجنة ولكنها جنات، وحارثة في الفردوس الأعلى، فرجعت وهي تضحك وتقول بخ بخ لك يا حارثة» وهذا قد يخالف قول ابن القيم كالزمخشري أن الجنة التي هي دار الثواب واحدة بالذات كثيرة بالأسماء والصفات، وهذا الاسم الذي هو الجنة يجمعها من أسمائها: جنة عدن، والفردوس، والمأوى، ودار السلام، ودار الخلد، ودار المقامة ودار النعيم، ومقعد صدق، وغير ذلك مما يزيد على عشرين اسما.
أي وعن الواقدي أنه بلغ أمه وأخته وهما بالمدينة مقتله، فقالت أمه: والله لا أبكي عليه حتى يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله، فإن كان في الجنة لم أبك عليه وفي رواية: «أصبر وأحتسب، وإن كان ابني في النار بكيته» .
وفي رواية: «ترى ما أصنع، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر جاءت أمه فقالت: يا رسول الله قد عرفت موقع حارثة من قلبي فأردت أن أبكي عليه، ثم قلت لا أفعل حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان في الجنة لم أبك عليه، وإن كان في النار بكيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هبلت» وفي رواية «ويحك أو هبلت، أجنة واحدة إنها جنان كثيرة، والذي نفسي بيده إنه لفي الفردوس الأعلى ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإناء من ماء فغمس يده فيه ومضمض فاه ثم ناوله أم حارثة فشربت، ثم ناولت ابنتها فشربت(2/222)
ثم أمرهما ينضحان في جيوبهما ففعلنا فرجعتا من عند النبي صلى الله عليه وسلم وما بالمدينة امرأتان أقر عينا منهما ولا أسر» .
وقد كان حارثة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو له بالشهادة، فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لحارثة يوما وقد استقبله «كيف أصبحت يا حارثة؟ قال: أصبحت مؤمنا بالله حقا، قال: انظر ما تقول، فإن لكل قول حقيقة، قال: يا رسول الله عزلت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي واظمأت نهاري، فكأني بعرش ربي بارزا، وكأني انظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتعاوون فيها، قال: أبصرت فالزم عبد:
أي أنت عبد بذر الله الإيمان في قلبه قال: فقلت ادع الله لي بالشهادة فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وقال أبو جهل وأصحابه حين قتل عتبة وشيبة والوليد تصبرا، لنا العزى ولا عزى لكم، ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله مولانا ولا مولى لكم، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار» .
أقول: سيأتي وقوع مثل ما قال أبو جهل وأصحابه من أبي سفيان وأنه أجيب بمثل هذا الجواب في يوم أحد، والله أعلم.
«وصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ما وعده من النصر» أي وهذا العريش هو المراد بالقبة في قول البخاري. عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو في قبة يوم بدر: اللهم أنشدك عهدك» الحديث ويقول «اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم فلا تعبد» أي وفي مسلم «أنه صلى الله عليه وسلم قال: اللهم: إنك إن تشأ لا تعبد في الأرض» قال ذلك في هذا اليوم وفي يوم أحد.
قال العلماء: فيه التسليم لقدر الله تعالى، والردّ على غلاة القدرية الذين يزعمون أن الشر غير مراد لله ولا مقدور له.
وذكر الإمام النووي أن كونه قال ما ذكر يوم بدر هو المشهور. وفي كتب التفسير والمغازي أنه يوم أحد، ولا معارضة بينهما، فقاله في اليومين هذا كلامه.
أي يجوز أن يكون قال ذلك في يوم بدر وفي يوم أحد. وفي رواية: «اللهم إن ظهروا على هذه العصابة ظهر الشرك ولا يقوم لك دين أي لأنه صلى الله عليه وسلم علم أنه آخر النبيين، فإذا هلك هو ومن معه لا يبقى من يتعبد بهذه الشريعة» . وفي لفظ آخر «اللهم لا تودّع مني ولا تخذلني، أنشدك ما وعدتني» لأنه كان وعده النصر وفي رواية «ما زال يدعو ربه مادّا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبه، فأخذ أبو بكر رداءه وألقاه على منكبه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كفاك تناشد ربك فإنه سينجز لك ما وعدك» أي وفي رواية «والله لينصرنك الله، وليبيضن وجهك» أي وفي لفظ «قد ألححت على ربك» وكون وعد الله لا يتخلف لا ينافي الإلحاح في الدعاء(2/223)
لأن الله يحب الملحين في الدعاء، وإنما قال أبو بكر ما ذكر لأنه شق عليه تعب النبي صلى الله عليه وسلم في إلحاحه بالدعاء، لأنه رضي الله تعالى عنه رقيق القلب شديد الإشفاق على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل لأن الصديق كان في تلك الساعة في مقام الرجاء والنبي صلى الله عليه وسلم كان في مقام الخوف، لأن الله يفعل ما يشاء، وكلا المقامين سواء في الفضل ذكره السهيلي.
وحين رأى المسلمون القتال قد نشب عجوا بالدعاء إلى الله تعالى، فأنزل الله تعالى عند ذلك إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) [الأنفال: الآية 9] أي متتابعين. وقيل ردفا لكم ومددا لكم. وقيل وراء كل ملك ملك آخر.
ويوافق ذلك ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أمدّ الله نبيه يوم بدر بألف من الملائكة فكان جبريل في خمسمائة وميكائيل في خمسمائة، فأمده الله تعالى بالملائكة ألف مع جبريل وألف مع ميكائيل؟» وجاء «أمدّه الله بثلاثة آلاف: ألف مع جبريل، وألف مع ميكائيل وألف مع إسرافيل» وهذا رواه البيهقي في الدلائل عن علي بإسناد فيه ضعف.
وقيل وعدهم الله تعالى أن يمدهم بألف ثم زيدوا في الوعد بألفين، ثم زيدوا في الوعد بألفين أيضا.
وقيل أمدهم الله تعالى بثلاثة آلاف من الملائكة ثم أكملهم بخمسة آلاف، قال الله تعالى إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) [آل عمران: الآية 124] أي ألف من جبريل، وألف مع ميكائيل، وألف مع إسرافيل بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) [آل عمران: الآية 125] فإن ذلك كان يوم يدر على ما عليه الأكثر، وقيل يوم أحد كان الإمداد فيه بذلك: أي بثلاثة آلاف، ثم وقع الوعد بإكمالهم خمسة آلاف معلقا على شرط، وهو التقوى، والصبر عن حوز الغنائم فلم يصبروا ففات الإمداد بما زاد على الثلاثة آلاف.
وهذا الثاني هو الذي في النهر لأبي حيان، كان المدد يوم بدر بألف من الملائكة، ويوم أحد بثلاثة آلاف، ثم بخمسة لو صبروا عن أخذ الغنائم فلم يصبروا، فلم تنزل، هذا كلامه، وهو واضح لأن عدم صبرهم عن أخذ الغنائم وعدم امتثال أمره إنما كان في أحد لا في بدر.
وروى البيهقي عن حكيم بن حزام رضي الله عنه أن يوم بدر وقع نمل من السماء قد سدّ الأفق، فإذا الوادي يسيل نملا، أي نازلا من السماء فوقع في نفسي أن هذا شيء أيد به صلى الله عليه وسلم وهي الملائكة.(2/224)
أي وروي بسند حسن عن جبير بن مطعم قال: رأيت قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون مثل البجاد الأسود مبثوث حتى امتلأ الوادي، فلم أشك أنها الملائكة، فلم يكن إلا هزيمة القوم. والبجاد: كساء مخطط من أكسية الأعراب، وسيأتي وقوع مثل ذلك في حنين.
قال: وإنما كانت الملائكة شركاء لهم في بعض الفعل ليكون الفعل منسوبا للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه، وإلا فجبريل قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه كما فعل بمدائن قوم لوط، وأهلك قوم صالح وثمود بصيحة واحدة، وليهابهم العدّ وبعد ذلك، حيث يعلمون أن الملائكة تقاتل معهم.
وبهذا يرد ما قيل لم تقاتل الملائكة يوم بدر، وإنما كانوا يكثرون السواد، وإلا فملك واحد كاف في إهلاك أهل الدنيا كلهم.
وجاء «لولا أن الله حال بيننا وبين الملائكة التي نزلت يوم بدر لمات أهل الأرض خوفا من شدة صعقاتهم وارتفاع أصواتهم» .
وجاء في حديث مرسل «ما رئي الشيطان أحقر ولا أدحر ولا أصغر من يوم عرفة إلا ما رئي يوم بدر» أي وكذا سائر مواسم المغفرة والعتق من النار كأيام رمضان سيما ليلة القدر.
وجاء «إن إبليس جاء في صورة سراقة بن مالك المدلجي الكناني في جند من الشياطين» أي مشركي الجنّ في صور رجال من بني مدلج من بني كنانة معه رايته، وقال للمشركين لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ [الأنفال: 48] اهـ أي كما قال لهم ذلك عند ابتداء خروجهم وقد خافوا من بني كنانة قوم سراقة، وقد تقدم أنه كان وحده. ولا منافاة لجواز أن يكون جنده لحقوا به بعد «قال: فلما رأى جبريل والملائكة» وفي رواية: وأقبل جبريل إلى إبليس فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين أي وهو الحارث بن هشام أخو أبي جهل انتزع يده من يد الرجل، ثم نكص على عقبيه وتبعه جنده، فقال له الرجل: يا سراقة أتزعم أنك لنا جار؟ فقال إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ [الأنفال: الآية 48] وتشبث به الحارث بن هشام رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك وقال له: والله لا أرى إلا خفافيش يثرب، فضربه إبليس في صدره فسقط، وعند ذلك قال أبو جهل: يا معشر الناس لا يهمنكم خذلان سراقة، فإنه كان على ميعاد من محمد، ولا يهمنكم قتل عتبة وشيبة أي والوليد فإنهم قد عجلوا، واللات والعزى لا نرجع حتى نقرن محمدا وأصحابه بالجبال، وصار يقول: لا تقتلوهم خذوهم باليد.
وذكر السهيلي أنه يروى أن من بقي من قريش وهرب إلى مكة وجد سراقة بمكة، فقالوا له: يا سراقة خرقت الصف، وأوقعت فينا الهزيمة، فقال: والله ما(2/225)
علمت بشيء من أمركم، وما شهدت، وما علمت، فما صدّقوه حتى أسلموا وسمعوا ما أنزل الله، فعلموا أنه إبليس هذا كلامه.
قال قتادة: صدق إبليس في قوله إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ [الأنفال: الآية 48] وكذب في قوله إِنِّي أَخافُ اللَّهَ [المائدة: الآية 28] والله ما به مخافة من الله.
قال في ينبوع الحياة: ولا يعجبني هذا، فإن إبليس عارف بالله، ومن عرف الله خافه، أي وإن لم يكن إبليس خافه حتى الخوف.
قيل وإنما خاف أن يكون هذا اليوم هو اليوم الموعود الذي قال فيه سبحانه وتعالى يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ [الفرقان: الآية 22] .
ورأيت عن سيدي علي الخواص أنه لا يلزم من قول إبليس ذلك أن يكون معتقدا له بالباطن كما هو شأن المنافقين.
ورأيت عن وهب أن اليوم المعلوم الذي أنظر فيه إبليس هو يوم بدر قتلته الملائكة في ذلك اليوم. والمشهور أنه منظر إلى يوم القيامة، ويدل لذلك ما روي أن إبليس لما ضرب الحارث في صدره لم يزل ذاهبا حتى سقط في البحر ورفع يديه وقال: يا رب موعدك الذي وعدتني، اللهم إني أسألك نظرتك إياي، وخاف أن يخلص إليه القتل.
هذا، وفي زوائد الجامع الصغير عن مسلم أن سيدنا عيسى عليه السلام يقتل إبليس بيده بعد نزوله وفراغه من صلاته، ويرى المسلمين دمه في حربته.
وفي كلام بعضهم: ولعل المراد بيوم القيامة الذي أنظر إليه إبليس ليس نفخة البعث بل نفخة الصعق التي بها يكون موت من لم يمت من أهل السموات وأهل الأرض، قيل إلا حملة العرش وجبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، وهؤلاء ممن استثنى الله تعالى في قوله وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [الزمر: الآية 68] ثم يموت جبريل وميكائيل ثم حملة العرش ثم إسرافيل ثم ملك الموت فهو آخر من يموت.
وفي كلام بعضهم: الصعق أعم من الموت، أي فالمراد ما يشمل الغشي وذهاب الشعور، أي فمن مات قبل ذلك وصار حيا في البرزخ كالأنبياء والشهداء لا يموت، وإنما يحصل له غشي وذهاب شعور، ويكون المستثنى من القسم الأول من تقدم ذكره من الملائكة، ومن القسم الثاني موسى صلوات الله وسلامه عليه، فإنه جوزي بذلك: أي بعدم الغشي وذهاب الشعور بما حصل له من ذلك بسبب صعقة الطور.
وفيه أنه صلى الله عليه وسلم لم يجزم بذلك بل تردد في ذلك حيث قال «فأكون أوّل من رفع(2/226)
رأسه» أي أفاق من الغشي «فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوام العرش فلا أدري أرفع رأسه» أي أفاق «من الغشي قبلي، أو كان ممن استثنى الله فلم يصعق» . وفي رواية «فإذا موسى متعلق بقائمة العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أم كان ممن استثنى الله؟» ولعل بعض الرواة ضم هذا الخبر لخبر الشيخين «أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة،، فإذا موسى الخ» وفيه نظر لأن المراد بيوم القيامة عند نفخة البعث ونفخة الصعق سابقة عليها كما علمت.
ويلزم على هذا التردد مع كون الخبرين خبرا واحدا إشكال جزمه صلى الله عليه وسلم بأنه أوّل من تنشق عنه الأرض.
وأجاب شيخ الإسلام بما يفيد أنهما خبران لا خبر واحد حيث قال: لتردد كان قبل أن يعلم أنه أوّل من تنشق عنه الأرض، أي فهما حديثان لا حديث واحد.
فإن قيل قوله صلى الله عليه وسلم «لا تخيروني على موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأصعق معهم فأكون أول من يفيق، فإذا موسى» الحديث يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم ليس أفضل من موسى.
قلنا هو كقوله صلى الله عليه وسلم «من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب» وذلك منه صلى الله عليه وسلم تواضع؛ أو كان قبل أن يعلم أنه أفضل الخلق أجمعين. وقيل الوقت المعلوم خروج الدابة، وإذا خرجت قتلته بوطئها.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن إبليس إذا مرّت عليه الدهور وحصل له الهرم عاد ابن ثلاثين سنة، وهذه النفخة التي هي نفخة الصعق مسبوقة بنفخة الفزع التي تفزع بها أهل السموات والأرض فتكون الأرض كالسفينة في البحر تضربها الأمواج، وتسير الجبال كسير السحاب، وتنشق السماء، وتكسف الشمس، ويخسف القمر وهي المعنية بقوله تعالى يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) [النازعات:
6، 7] وبقوله تعالى إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها [الحج: 1، 2] الآية، وقال تعالى فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [النمل: 87] قيل وهم الشهداء.
فقد جاء «إن الأموات يومئذ لا يعلمون بشيء من ذلك، قلنا: يا رسول الله فمن استثنى الله تعالى في قوله إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [النّمل: الآية 87] فقال: أولئك الشهداء، وإنما يصل الفزع إلى الأحياء بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) [آل عمران: الآية 169] وقاهم الله فزع ذلك اليوم وأمنهم منه» .
واقتصاره صلى الله عليه وسلم على ذكر الشهداء وسكوته عن الأنبياء لما هو معلوم من الأصل أن مقام الأنبياء أرقى من مقام الشهداء، وإن كان قد يوجد في المفضول ما لا يوجد(2/227)
في الفاضل. ومن ثم قيل: الرزق خاص بالشهداء، ومن ثم اختصوا بحرمة الصلاة عليهم.
ويقال إنه كان مع المسلمين يوم بدر من مؤمني الجنّ سبعون، أي لكن لم يثبت أنهم قاتلوا فكانوا مجرد مدد.
«ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خفق خفقة أي مالت رأسه من النعاس ثم انتبه فقال:
أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه» وفي لفظ «آخذ برأس فرسه يقوده على ثناياه النقع» أي الغبار «وهو يقول: أتاك نصر الله إذ دعوته» .
أي وفي رواية «أن جبريل عليه الصلاة والسلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما فرغ من بدر على فرس حمراء معقودة الناصية قد خضب الغبار ثنيته عليه درعه وقال: يا محمد إن الله بعثني إليك وأمرني أن لا أفارقك حتى ترضى أرضيت» .
أي ولا مانع من تعدد رؤيته صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه الصلاة والسلام، وأن هذه بعد تلك، وأن المرة الأولى مساقها يقتضي أنها كانت مناما، وأن الغبار في المرة الثانية كان أكثر منه في المرة الأولى بحيث علا على ثناياه.
«ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العريش إلى الناس فحرضهم وقال: والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة فقال عمير بن الحمام» بضم الحاء المهملة وتخفيف الميم «وبيده تمرات يأكلهن بخ بخ» كلمة تقال لتعظيم الأمر والتعجب منه «ما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء، ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل» أي وفي رواية «أنه صلى الله عليه وسلم قال: قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، فقال عمير بن الحمام بخ بخ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم تبخبخ» أي مم تتعجب «فقال:
رجاء أن أكون من أهلها» أي وفي رواية «ما يحملك على قولك بخ بخ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، فأخذ تمرات فجعل يلوكهن ثم قال.
والله إن بقيت حتى ألوكهن» وفي لفظ إن حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة فنبذهن وقاتل أي وهو يقول:
ركضنا إلى الله بغير زاد ... إلا التقى وعمل المعاد
والصبر في الله على الجهاد ... وكل زاد عرضة النفاد
غير التقى والبرد والرشاد
ولا زال يقاتل حتى قتل رضي الله تعالى عنه وسيأتي في غزاة أحد مثل هذا لبعض الصحابة أبهمه جابر رضي الله تعالى عنه في ألقاء التمرات من يده ومقاتلته حتى قتل.(2/228)
فعن جابر رضي الله تعالى عنه قال: «قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد: أرأيت إن قتلت فأين أنا؟ قال: في الجنة، قال: فألقى تمرات في يده، ثم قاتل حتى قتل» أخرجه البخاري ومسلم والنسائي، وسيأتي ما في ذلك.
وقال عوف بن الحارث ابن عفراء «يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده» أي ما يرضيه غاية الرضا «قال: غمسه يده في العدو حاسرا» أي لا درع له ولا مغفر «فنزع درعا كانت عليه فقذفها ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل رضي الله تعالى عنه» فالضحك في حق الله كناية عن غاية رضاه.
وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال في طلحة بن الغمر «اللهم الق طلحة يضحك إليك وتضحك إليه» أي ألقه لقاء كلقاء المتحابين المظهرين لما في أنفسهما من غاية الرضا والمحبة فهي كلمة وجيزة تتضمن الرضا مع المحبة وإظهار البشر، فهي من جوامع كلمه التي أوتيها صلى الله عليه وسلم.
وقاتل في ذلك اليوم معبد بن وهب زوج هريرة بنت زمعة أخت سودة بنت زمعة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها بسيفين «ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حفنة من الحصباء» بالمد «أمره بذلك جبريل عليه الصلاة والسلام» كما جاء في بعض الروايات: أي قال خذ قبضة من تراب وارمهم بها «فتناولها صلى الله عليه وسلم» .
وفي رواية «أنه قال لعلي كرم الله وجهه ناولني فاستقبل بها قريشا، ثم قال:
شاهت الوجوه» أي قبحت الوجوه أي وزاد بعضهم «اللهم أرعب قلوبهم، وزلزل أقدامهم، ثم نفخهم» أي ضربهم بها «فلم يبق من المشركين رجل إلا ملأت عينه» وفي رواية «وأنفه وفمه لا يدري أين يتوجه يعالج التراب لينزعه من عينيه» أي فانهزموا وردفهم المسلمون يقتلون ويأسرون.
هذا، والمحفوظ المشهور أن ذلك إنما كان في حنين، لكن يوافق الأول ما نقله بعضهم أن قوله تعالى وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الأنفال: الآية 17] نزل يوم بدر، هكذا قال عروة وعكرمة ومجاهد وقتادة، قال هذا البعض، وقد فعل عليه الصلاة والسلام مثل ذلك في غزوة أحد هذا كلامه.
وفي رواية «أنه صلى الله عليه وسلم أخذ ثلاث حصيات فرمى بحصاة في ميمنة القوم وحصاة في ميسرة القوم؛ وحصاة بين أيديهم، فقال: شاهت الوجوه؛ فانهزم القوم» وهذه الحصيات الثلاث قال جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما وقعن من السماء يوم بدر كأنهن وقعن في طست، فأخذهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرمى بهن في وجوه المشركين، أي يمنة ويسرة وبين أيديهم وحين رمى صلى الله عليه وسلم بذلك قال لأصحابه: شدوا فكانت الهزيمة، وأنزل الله تعالى وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الأنفال: الآية 17] .(2/229)
وقد يقال: لا مانع من اجتماع الأمرين، وكل منهما مراد من الآية. قال، وقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بنفسه قتالا شديدا. وكذلك أبو بكر رضي الله تعالى عنه كما كانا في العريش يجاهدان بالدعاء قاتلا بأبدانهما جمعا بين المقامين انتهى.
أقول: كذا نقل بعضهم عن الأموي، ويتأمل ذلك، فإني لم أقف عليه في كلام أحد غيره، وكأنّ قائل ذلك فهم مباشرته صلى الله عليه وسلم للقتال مما تقدم عن علي رضي الله تعالى عنه «لما كان يوم بدر اتقينا المشركين برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أشد الناس بأسا» ولا دلالة في ذلك، والله أعلم.
نعم ذكر ابن سعد «أنه لما انهزم المشركون رئي رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثرهم مصلتا السيف يتلو هذه الآية سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) [القمر: الآية 45] وهذه الآية ذكر في الإتقان أنها مما تأخر حكمه عن نزوله، فإنها نزلت بمكة، وكان ذلك يوم بدر.
فعن عمر رضي الله تعالى عنه: قلت أيّ جمع، فلما كان يوم بدر وانهزمت قريش نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم مصلتا السيف يقول سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) [القمر: الآية 45] فكانت ليوم بدر، أخرجه الطبراني في الأوسط، ولو قاتل صلى الله عليه وسلم لجرح أو قتل من قاتله، ولو وقع ذلك لنقل لأنه مما تتوفر الدواعي على نقله.
وسيأتي في أحد عن النور «أنه صلى الله عليه وسلم لم يقتل بيده الشريفة قط أحد إلا أبي بن خلف لا قبله ولا بعده» وإلى رميه بالحصا أشار صاحب الهمزية بقوله:
ورمى بالحصا فأقصد جيشا ... ما العصا عنده وما الإلقاء
أي ورمى صلى الله عليه وسلم بالحصا جيشا فأصابهم كلهم بها، أي شيء إلقاء عصا موسى عليه الصلاة والسلام على حبال سحرة فرعون وعصيهم عند ذلك الحصى المرميّ به لا يقاربه ذلك الإلقاء ولا يدانيه، لأن ذاك وجد له نظير وهو إلقاء السحرة الحبال والعصي، والرمي بالحصا لم يوجد له نظير.
أي وقال صلى الله عليه وسلم حينئذ «من قتل قتيلا فله سلبه ومن أسر أسيرا فهو له» كما في الإمتاع «فلما وضع القوم أيديهم يأسرون نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد فوجد في وجهه الكراهية لما يصنع القوم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم، قال: أجل والله يا رسول الله كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل» أي الإكثار منه والمبالغة فيه أحب إليّ من استبقاء الرجال.
وذكر بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه «إنكم قد عرفتم أن رجالا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا إكراها لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله» أي بل يأسره وذكر أبا البختري بن هشام، أي فقال «من لقي أبا البختري فلا يقتله» أي لأنه كان ممن قام في نقض الصحيفة ونص على العباس بن(2/230)
عبد المطلب، فقال أبو حذيفة رضي الله تعالى عنه: أيقتل آباؤنا وأبناؤنا وإخواننا وعشيرتنا ويترك العباس؟ أي لأنه تقدم أن أباه عتبة وعمه شيبة وأخاه الوليد أول من قتل من الكفار مبارزة وعشيرته وهي بنو عبد شمس قد قتل منها جماعة، لئن لقيته يعني العباس لألجمنه السيف هو بالمهملة والمعجمة، فبلغت أي تلك المقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: يا أبا حفص أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف؟ فقال عمر: والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي حفص: يا رسول الله دعني أضرب عنقه يعني أبا حذيفة بالسيف، فو الله لقد نافق، فكان أبو حذيفة يقول: ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلتها يومئذ ولا أزال منها خائفا إلا أن تكفرها عني الشهادة، فقتل يوم اليمامة شهيدا في جملة من قتل فيها من الصحابة وهم أربعمائة وخمسون، وقيل ستمائة رضي الله تعالى عنهم.
ولقي المجذر رضي الله تعالى عنه أبا البختري فقال له «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن قتلك، فقال: وزميلي؟ أي ورفيقي وكان معه زميل له خرج معه من مكة أي قال له جنادة بن مليحة، فقال له المجذر: لا والله ما نحن بتاركي زميلك، ما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بك وحدك، قال: لا والله إذا لأموتن أنا وهو جميعا لا تتحدث عني نساء مكة أني تركت زميلي، أي يقتل حرصا على الحياة، فقتله المجذر أي بعد أن قاتله، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال والذي بعثك بالحق لقد جهدت عليه أن يستأسر فآتيك به فأبى إلا أن يقاتلني فقتلته» .
أقول: لعل المجذر فهم أن ما عدا من نهى عن قتله يقتل وإن استأسر حتى قال ما نحن بتاركي زميلك، أي ولا بد من قتله وإن استأسر، فكان ذلك حاملا لأبي البختري على أن لا يستأسر ويترك زميله فيقتل خوف السبة والله أعلم.
أي وكان من جملة من خرج مع المشركين يوم بدر عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله تعالى عنهما وكان اسمه قبل الإسلام عبد الكعبة، وقيل عبد العزى، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن وكان من أشجع قريش وأشدهم رماية، وكان أسن ولد أبيه وكان صالحا وفيه دعابة، فلما أسلم قال لأبيه لقد أهدفت لي أي ارتفعت لي يوم بدر مرارا فصدفت عنك أي أعرضت عنك، فقال أبو بكر: لو هدفت لي لم أصدف أي أعرض عنك، فالمراد بكونه أهدف له ارتفع وهو لا يشعر بذلك، فلا ينافي ما قيل إن عبد الرحمن بن أبي بكر يوم بدر دعا إلى البراز، فقام إليه أبوه أبو بكر ليبارزه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «متعنا بنفسك يا أبا بكر، أما علمت أنك عندي بمنزلة سمعي وبصري» .
أي وفي بعض السير أن الصديق قال لولده عبد الرحمن يوم بدر وهو مع المشركين لم يسلم: أين مالي يا خبيث؟ فقال له عبد الرحمن كلاما معناه: لم يبق(2/231)
إلا عدة الحرب التي هي السلاح وفرس سريعة الجري وجنان يقاتل عليه شيوخ الضلال، أي وهذا يدل على أن الصديق رضي الله تعالى عنه ترك مالا عند أهله لما هاجر، وهو قد يخالف ما تقدم عن ابنته أسماء من قولها: إن أبا بكر أرسل ابنه عبد الله فحمل ماله وكان خمسة آلاف درهم إلى الغار، فدخل علينا جدي أبو قحافة الحديث، ولعل ماله الذي عناه الصديق ما كان من نحو أمتعة وبعض مواشي لا النقد فلا مخالفة.
ويروى عن ابن مسعود أن الصديق رضي الله تعالى عنه دعا ابنه يعني عبد الرحمن يوم أحد إلى البراز، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «متعنا بنفسك، أما علمت أنك مني بمنزلة سمعي وبصري» فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ [الأنفال: الآية 24] ولا مانع من التعدد حتى في نزول الآية، لكن يبعد نزولها في أحد أيضا كون أبي بكر يدعو للمبارزة بعد نزولها أولا في بدر.
ثم رأيت ابن ظفر قال في الينبوع: إنه لم يثبت أن أبا بكر دعا ابنه للمبارزة، وإنما هو شيء ذكر في كتب التفسير، فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ [الأنفال: الآية 24] فالآية مدنية لا مكية وبه يرد ما ذكر أن سببها أن أبا بكر سمع والده أبا قحافة يذكر النبي صلى الله عليه وسلم بشر فلطمه لطمة سقط منها، فأخبر أبو بكر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له لا تعد لمثلها، فقال: والله لو حضرني السيف لقتلته به.
وفي كلام الزمخشري أن عبد الرحمن أسلم في هدنة الحديبية وهاجر إلى المدينة ومات سنة ثلاث وخمسين بمحل بينه وبين مكة ستة أميال، وحمل على أعناق الرجال إلى مكة، وقدمت أخته عائشة رضي الله تعالى عنها من المدينة فأتت قبره فصلت عليه.
أي وفي هذا اليوم الذي هو يوم بدر قتل أبو عبيدة بن الجراح أباه وكان مشركا، فإن أباه قصده ليقتله فولى عنه أبو عبيدة لينكفّ عنه فلم ينكف عنه، فرجع عليه وقتله وأنزل الله تعالى لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة: الآية 22] الآية.
وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه قال: لقد لقيت أمية بن خلف وكان صديقا لي في الجاهلية ومعه: أي مع أمية ابنه عليّ أي آخذ بيده وكان عليّ ممن أسلم والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة قبل أن يهاجر، ففتنهم أقاربهم عن الإسلام ورجعوا عنه وماتوا على كفرهم، وأنزل الله تعالى فيهم إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ [النّساء: الآية 97] الآية، أي وهم الحارث بن ربيعة، وأبو قيس بن الفاكه، وأبو قيس بن الوليد، والعاص بن منبه، وعلي بن أمية المذكور.(2/232)
وفي السيرة الهشامية: وذلك أنهم كانوا أسلموا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حبستهم آباؤهم وعشريتهم بمكة، وفتنوهم فافتتنوا:
أي رجعوا عن الإسلام، ثم ساروا مع قومهم إلى بدر فأصيبوا جميعا، وسياقه كما ترى يقتضى أنهم لم يرجعوا إلى الكفر إلا بعد الهجرة، وسياق ما قبله ربما يقتضي أنهم رجعوا إلى الكفر قبل أن يهاجر صلى الله عليه وسلم.
قال عبد الرحمن بن عوف: وكان معي أدراع استلبتها أي فأنا أحملها، فلما رآني أمية ناداني باسمي الأوّل يا عبد عمرو فلم أجبه، لأنه كان قال لي لما سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، أترغب عن اسم سماك به أبوك؟ فقلت: نعم. قال:
الرحمن لا أعرفه، ولكني أسميك بعبد الإله كما تقدم فلما ناداني بعبد الإله، قلت نعم.
أي وظاهر السياق يقتضي أنه عرف أنه المراد بذلك، وأنه ترك إجابته قصدا، حيث جعله عبدا للصنم. ويحتمل وهو الأقرب أنه لم يجبه لعدم معرفته أنه المراد بذلك الاسم، لكونه هجر بالمرة، فلما ناداه أمية بما ذكر عرفه وعرف أنه المراد بذلك لما ذكر «وعند ذلك قال له أمية: هل لك فيّ فأنا خير لك من هذه الأدراع التي معك؟ قلت نعم، فطرحت الأدراع من يدي وأخذت بيده وبيد ابنه عليّ وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط، ثم قال لي: يا عبد الإله من الرجل منكم المعلم بريشة نعامة في صدره؟ أي كانت في درعه بحيال صدره. قلت: ذاك حمزة بن عبد المطلب. قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل وقيل قائل ذلك ابنه ثم خرجت أمشي بهما، فو الله إني لأقودهما إذ رآه بلال معي وكان هو الذي يعذب بلالا بمكة على أن يترك الإسلام أي كما تقدم، فقال بلال: رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا. فقلت: أي بلال، أفبأسيري؟ أي تفعل ذلك بهما، قال: لا نجوت إن نجا وكررت وكرر ذلك، ثم صرخ بأعلى صوته يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا وكرر ذلك، فأحاطوا بنا فأصلت رجل السيف» أي سله من غمده «وذلك الرجل هو بلال فضرب رجل ابنه فوقع وصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط، فضربوهما بأسيافهم فهبروهما» .
أقول: الذي في البخاري عن عبد الرحمن بن عوف «أن بلالا لما استصرخ الأنصار، قال: خشيت أن يلحقونا فخلفت لهم ابنه لأشغلهم به فقتلوه ثم أتونا حتى لحقوا بنا، وكان أمية رجلا ثقيلا» أي كما تقدم «فقلت ابرك، فألقيت نفسي عليه لأمنعه، فتخللوه بالسيوف من تحتي حتى قتلوه، فأصاب أحدهم رجلي بسيفه» أي ظهر قدمه.
وفي كلام ابن عبد البر. قال ابن هشام: قتل أمية بن خلف معاذ ابن عفراء(2/233)
وخارجة بن زيد وحبيب بن أساف اشتركوا فيه.
قال ابن إسحاق: وابنه علي قتله عمار بن ياسر وحبيب بن أساف، هذا شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتزوّج بنت خارجة بعد أن توفي عنها أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه؛ وهو جد حبيب شيخ مالك رضي الله تعالى عنه والله أعلم.
وكان عبد الرحمن بن عوف يقول: يرحم الله بلالا، ذهبت أدراعي وفجعني بأسيري أي وفي رواية: لما كان يوم بدر حصل لي درعان ولقيني أمية، فقال: خذني وابني فأنا خير لك من الدرعين، فألقيت الدرعين فأخذتهما، فلما قتلا صار يقول:
يرحم الله بلالا فلا درعيّ ولا أسيريّ، أي لأنه صلى الله عليه وسلم جعل في هذه الغزاة أن كل من أسر أسيرا فهو له كما تقدم وسيأتي: أي فله فداؤه، وهو يخالف ما عليه أئمتنا أن مال فداء الأسرى ورقابهم إذا استرقوا كسائر أموال الغنيمة، إلا أن يقال ذاك كان في صدر الإسلام ترغيبا في الجهاد، ثم استقر الأمر على ما قاله فقهاؤنا، أي وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من له علم بنوفل بن خويلد؟ فقال علي كرّم الله وجهه: أنا قتلته، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: الحمد لله الذي أجاب دعوتي فيه» أي فإنه لما التقى الصفان نادى نوفل بصوت رفيع: يا معاشر قريش اليوم يوم الرفعة والعلاء، فقال صلى الله عليه وسلم «اللهم اكفني نوفل بن خويلد» وفي كلام بعضهم ما يفيد أن قتل علي كرّم الله وجهه له كان بعد أن أسره جبار بن صخر، فقد جاء «أن جبارا بينما هو يسوقه إذ رأى عليا، فقال: يا أخا الأنصار من هذا واللات والعزى؟ إنه ليريدني، فقال: هذا علي بن أبي طالب، فعمد له علي كرم الله وجهه فقتله، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي جهل أن يلتمس في القتلى وقال: إن خفي عليكم» أي بأن قطع رأسه وأزيل عن جثته «انظروا إلى أثر جرح في ركبته، فإني ازدحمت يوما أنا وهو على مائدة لعبد الله بن جدعان ونحن غلامان وكنت أسن منه: أي أكبر من بيسير، فدفعته فوقع على ركبتيه فجحش» أي خدش «على أحديهما جحشا لم يزل أثره به» .
أي ولعل هذا هو محمل قول بعضهم إنه صلى الله عليه وسلم صارع أبا جهل، فإنه لم يصح أنه صارعه، ولعل هذا الأثر هو الذي عناه ابن مسعود رضي الله تعالى عنه بقوله: لما قتلت أبا جهل لعنه الله، وقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قتلت أبا جهل، فقال لي عقيل وهو أسير عند النبي صلى الله عليه وسلم: كذبت ما قتلته؛ فقلت له: بل أنت الكذاب الآثم يا عدوّ الله، قد والله قتلته، قال: فما علامته؟ قلت: إن بفخذة حلقة كحلقة الجمل المحلق، قال صدقت، وكان أبو جهل، قد استفتح أي طلب الحكم على نفسه، لأنه لما دنا القوم بعضهم من بعض قال: اللهم أقطعنا للرحم وأتانا بما لا نعرف فأخنه: أي أهلكه الغداة، أي زاد بعضهم: اللهم من كان أحب إليك وأرضى عندك، وفي لفظ: اللهم(2/234)
أولانا بالحق فانصره اليوم، فأنزل الله تعالى إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ [الأنفال: الآية 19] .
أقول: كون أبي جهل طلب الحكم على نفسه واضح لو سكت عن قوله وأتانا بما لا نعرف، إذ هو نص فيه صلى الله عليه وسلم.
وفي تفسير سهل أن أبا جهل قال يوم بدر: اللهم انصر أفضل الدينين عندك وارضاهما لك، أي وفي رواية اللهم انصر خير الدينين، اللهم ديننا القديم ودين محمد الحادث، فنزل إِنْ تَسْتَفْتِحُوا [الأنفال: الآية 19] يعني تستنصروا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ [الأنفال: الآية 19] .
وفي أسباب النزول للواحدي أن المشركين حين أرادوا الخروج من مكة أخذوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين، وأهدي الفئتين، وأكرم الحزبين، وأفضل الدينين، فأنزل الله تعالى الآية.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه كان يستفتح بصعاليك المهاجرين» والله أعلم.
قال معاذ بن عمرو بن الجموح: رأيت أبا جهل وقد أحاطوا به وهم يقولون أبو الحكم لا يخلص إليه، فلما سمعتها عمدت نحوه وحملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه: أي أسرعت قطعه، فوالله ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخة النوى، والمرضخة: بالخاء المعجمة وبالمهملة. وقيل الرضخ بالمعجمة: كسر الرطب، وبالمهملة كسر اليابس، وضربني ابنه أي عكرمة رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك على عاتقي فطرح يدي، فتعلقت بجلدة من جسمي، وأجهضني القتال: أي شغلني عنه، فلقد قاتلت عامة يومي، وإني لأستحسها خلفي، فلما آذتني وضعت عليها قدمي ثم تمطيت عليها حتى طرحتها. وفي رواية «أنه جاء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبصق عليها، أي ولصقها فلصقت» وإلى ذلك يشير الإمام السبكي في تائيته، لكن قال ابن عفراء: ولا منافاة لجواز أن يكون معاذ بن عمرو بن الجموح ابن عفراء، وسيأتي ما يدل على ذلك بقوله:
وبانت بها كف ابن عفراء فاشتكى ... إليك فعادت بعد أحسن عودة
إلا أن قوله بها يرجع لغزاة أحد، وقد علمت أن ذلك إنما هو ببدر، واحتمال تكرر ذلك في أحد وفي بدر لشخص واحد بعيد، إلا أن يثبت النقل بذلك، ثم مر بأبي جهل وهو عقير معوذ بضم الميم وتشديد الواو مفتوحة ومكسورة ابن عفراء، فضربه حتى أثبته وتركه وبه رمق، أي وما جاء في بعض الروايات ضربه حتى برد بفتح الموحدة والراء والدال المهملة: أي مات لا ينافيه؛ لأنه يجوز أن يكون المراد صار في حالة من مات بأن صار إلى حركة المذبوح، ومن ثم جاء في بعض الروايات(2/235)
حتى برك بالكاف بدل الدال أي سقط إلى الأرض: أي إلى جنبه، وإلا فقطع قدمه مع نصف ساقه لا يفضي غالبا أن يسقط إلى جنبه، ومعوذ هذا لا زال يقاتل حتى قتل. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ورأيت أبا جهل بآخر رمق فعرفته فوضعت رجلي على عنقه، ثم قلت له هل أخزاك الله يا عدو الله؟ قال: وبم أخزاني؟ أعار عليّ رجل قتلتموه: أي ليس بعار على رجل قتلتموه. وفي رواية:
أعمد من رجل قتلتموه، أي أنا سيد رجل قتلتموه، لأن عميد القوم سيدهم: أي فلا عار عليّ في قتلكم إياي.
وجاء أنه قال: لو غير أكار قتلني، والأكار: الزراع يعني الأنصار لأنهم كانوا أصحاب زرع: أي لو كان الذي قتلني غير فلاح لكان أحب إليّ وأعظم لشأني، ولم يكن عليّ في ذلك نقص، لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعبا، أخبرني لمن الديرة؟ أي النصرة والظفر اليوم. زاد في رواية، لنا أو علينا؟ قلت لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي الصحاح في دبر بالباء الموحدة، والدبرة: الهزيمة في القتال.
ومما يدل للأول ما تقدم من قول أبي جهل: أخبرني على من كانت الدبرة لنا أو علينا؟ وفي مغازي ابن عقبة التي قال فيها مالك رضي الله تعالى عنه مغازي موسى بن عقبة أصح المغازي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على القتلى والتمس أبا جهل فلم يجده حتى عرف ذلك في وجهه ثم قال: اللهم لا تعجزني فرعون هذه الأمة، فسعى له الرجال حتى وجده ابن مسعود الحديث. وفي الصحيحين عن أنس رضي الله تعالى عنه لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من ينظر لنا ما صنع أبو جهل؟ فانطلق ابن مسعود رضي الله تعالى عنه فوجده قد ضربه ابن عفراء حتى برد» ولمسلم «برك» أي وهو المراد من الأول كما تقدم، فأخذ بلحيته فقال: أنت أبو جهل» الحديث، وأخذه بلحيته لا ينافي وضع رجله على رقبته، لجواز أن يكون جمع بينهما. قال ابن مسعود: ثم احتززت رأسه.
وفي رواية رويت عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال «لما ضربته بسيفي لم يغن شيئا فبصق في وجهي وقال خذ سيفي فاحتزّ به رأسي من عرشي، ليكون أنهى للرقبة، والعرش: عرق في أصل الرقبة، ففعلت كذلك، ثم جئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله هذا رأس عدوّ الله أبي جهل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله الذي لا إله غيره، أي ورددها ثلاثا» وروى الطبراني «الله قتلت أبا جهل» بنصب الجلالة، وهو بهذا اللفظ عندنا كناية يمين، ومثل النصب الرفع والجر «قال: قلت نعم والله الذي لا إله غيره، ثم ألقيت رأسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله تعالى» أي ويقال إنه صلى الله عليه وسلم سجد خمس سجدات شكرا، ويقال إنه قال «الله أكبر، الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده» وكون أبي(2/236)
جهل بصق في وجه ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وقال له خذ سيفي الخ، ينافي كونه وصل إلى حركة المذبوح، إلا أن يقال يجوز أن يكون في أول الأمر كان كذلك ثم تراجعت إليه روحه حتى قدر على ما ذكر فليتأمل، مع ما يأتي.
قيل وبهذا أي بحمل رأس أبي جهل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يردّ على الزهري قوله:
لم يحمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم رأس قط ولا يوم بدر وحمل رأس لأبي بكر رضي الله عنه فأنكره. ويجاب بأن البيهقي رحمه الله قال: ما روي من حمل رأس أبي جهل قد تكلم في ثبوته وبتقدير صحته فهو من محل إلى محل لا من بلد إلى بلد، أي من بلد الكفر إلى دار الإسلام: أي الذي أنكره أبو بكر رضي الله عنه، فإنه أنكر نقل الرأس من بلد الكفر إلى بلد الإسلام.
وقد جوّزه من أئمتنا الماوردي والغزالي إذا كان في ذلك مكايدة للكفار. وفي النور: تحصلنا على جماعة حملت رؤوسهم إليه صلى الله عليه وسلم: أبو جهل، وسفيان بن خالد، وكعب بن الأشرف، ومرحب اليهودي، والأسود العنسي على ما روي، وعصماء بنت مروان، ورفاعة بن قيس أو قيس بن رفاعة: أي ورأس عتبة بن أبي وقاص الذي كسر رباعيته صلى الله عليه وسلم وشق شفته السفلى يوم أحد كما سيأتي.
وفي وضع ابن مسعود رضي الله تعالى عنه رجله على عنق أبي جهل وقطع رأسه تصديق لتعبيره للرؤيا التي رآها لأبي جهل وقال له: إن صدقت رؤياي لأطأنّ رقبتك ولأذبحنك ذبح الشاة.
وفي رواية أن ابن مسعود رضي الله عنه وجده مقنعا في الحديد وهو منكب لا يتحرك فرفع سابغة البيضة: أي الخودة عن قفاه لأن سابغة البيضة ما يغطى بها العنق، ومن ثم يقال بيضة لها سابغ، فضربه فوقع رأسه بين يديه.
وعن ابن مسعود كما في المعجم الكبير للطبراني: انتهيت إلى أبي جهل وهو صريع وعليه بيضة ومعه سيف جيد ومعي سيف رديء فجعلت أنقف رأسه وأذكر نقفا كان ينقف رأسي بمكة، فأخذت سيفه فرفع رأسه فقال: على من كانت الدبرة؟ ألست برويعينا بمكة؟ فقتله ثم سلبه، فلما نظر إليه إذ هو ليس به جراح، وإنما هي أحدار:
أي أورام في عنقه ويديه وكتفيه كهيئة آثار السياط: أي آثار سود كسمة النار: أي ليس به جراح من جراح الآدميين داخل بدنه، فلا ينافي ما تقدم من قطع ابن الجموح لرجله.
ويجوز أن يكون ضرب ابن عفراء له حتى أثبته لم ينشأ عنه جراحة داخل بدنه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: ذاك ضرب الملائكة، أي فإن الملائكة عليهم السلام كانت لا تعلم كيف قتل الآدميين فعلمهم الله تعالى ذلك بقوله تعالى فَاضْرِبُوا فَوْقَ(2/237)
الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ [الأنفال: الآية 12] أي مفصل، فكانوا يعرفون قتلى الملائكة من قتلاهم بآثار سود كسمه النار. ولا ينافي ذلك وصفه بالخضرة في بعض الروايات، لأن الأخضر لشدة خضرته ربما قيل فيه أسود، وتلك الآثار في الأعناق، والبنان الظاهر أن ذلك يكون موجودا حتى بعد مفارقة الرأس أو اليد ليستدل به على أن مفارقة الرأس أو اليد من فعل الملائكة، وينبغي أن يكون هذا: أي ضربهم فوق الأعناق والبنان أكثر أحوالهم، فلا ينافي وجود أثر ضربهم في الكتفين كما تقدم وفي الوجه والأنف.
فعن بعض الصحابة رضي الله عنهم: كنا ننظر إلى المشرك أمامنا مستلقيا فننظر إليه فإذا هو قد حطم أنفه وشق في وجهه كضربة السوط فاحضر ذلك الموضع، وفسر بعضهم الأعناق بالرؤوس، وهو غير مناسب لما ذكر هنا.
وروي عن سهل بن حنيف عن أبيه رضي الله عنه قال «لقد رأيتنا يوم بدر وأن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك» أي يرفعه عليه «فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف» ويمكن الجمع بين هذا وما قبله بأن ضرب الملائكة في الأعناق تارة يفصلها وتارة لا، وفي الحالتين يرى أثر ذلك أسود في العنق ليستدل به على أنه من فعل الملائكة كما تقدم.
وفي رواية عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال «انتهيت إلى أبي جهل يوم بدر وقد قطعت رجله وهو صريع وهو يذب الناس عنه بسيف له، فقلت: الحمد لله الذي أخزاك يا عدو الله، قال: هل هو إلا رجل قتله قومه، قال: فجعلت أتناوله بسيف لي غير طائل فأصبت يده، فبدر» أي سقط سيفه «فأخذته فضربته حتى قتلته، ثم خرجت حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم كأنما أقلّ من الأرض» أي أحمل من شدة الفرح «فأخبرته، فقال: الله الذي لا إله إلا هو» وفي لفظ تقدم «لا إله غيره رددها ثلاثا» وفي رواية عن ابن مسعود «فاستحلفني صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، ثم قال: الحمد لله الذي أعز الإسلام وأهله ثلاث مرات وخر ساجدا: أي خمس سجدات شكرا» كما تقدم.
وفي رواية: صلى ركعتين. قال ابن مسعود رضي الله عنه: ثم إنه صلى الله عليه وسلم خرج يمشي معي حتى قام عليه فقال: الحمد لله الذي أخزاك يا عدو الله، هذا كان فرعون هذه الأمة» زاد في لفظ «ورأس قاعدة الكفر، ونفلني سيفه أي وكان قصيرا عريضا فيه قبائع فضة وحلق فضة» ومع قصره كان أقصر من سيف ابن مسعود فلا منافاة.
أقول: يجوز أن يكون المضيّ إليه بعد إلقاء الرأس بين يديه صلى الله عليه وسلم استعظاما لقتله، أي وأن ابن مسعود في هذه الرواية سكت عن قطع رأسه والمجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا مخالفة؛ وقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم يوما وقد أخذ بمجامع ثوبه «أولى(2/238)
لك فأولى ثم أولى لك فأولى» أي وعيدا على وعيد «فقال: ما تستطيع أنت ولا ربك بي شيئا، وإني لأعز من مشى بين جبليها، فأنزل الله تعالى فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) [القيامة: الآيات 31- 31] وقيل نزلت كالتي قبلها في عدي بن ربيعة لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر القيامة فأخبره به، فقال: لو عاينت هذا اليوم لم أصدقك، أو يجمع الله هذه العظام؟ فأنزل الله تعالى أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) [القيامة: الآية 3] الآيات، والله أعلم.
وعن قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن لكل أمة فرعونا وإن فرعون هذه الأمة أبو جهل، قتله الله شر قتله» بكسر القاف الهيئة. قتلته الملائكة، وفي لفظ قتله ابن عفراء وقتلته الملائكة، وقد ذففه: أي أجهز عليه ابن مسعود وابن عفراء هذا يجوز أن يكون هو معاذ بن عمرو بن الجموح. ويجوز أن يكون أخاه معاذ بن الحارث، وكونه قتله لأنه أزال منعته كما تقدم.
وفي مسلم عن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: إني لواقف يوم بدر في الصف، نظرت عن يميني وعن شمالي، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، فغمزني أحدهما فقال يا عم هل تعرف أبا جهل بن هشام؟ قلت نعم، وما حاجتك به؟ قال: بلغني أنه كان يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لو رأيته لم يفارق سوادي سواده: أي شخص شخصه حتى يموت الأعجل منا: أي الأقرب أجلا، فغمزني الآخر فقال مثلها، فعجبت لذلك، أي لحرص كل منهما على ذلك وإخفائه عن صاحبه ليكون المختص به فلم أنشب: أي ألبث أن نظرت إلى أبي جهل يزول في الناس: أي بالزاي يتحول من محل إلى محل آخر، فقلت لهما ألا تريان؟
هذا صاحبكما الذي تسألان عنه، فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه أي أشرفا به على القتل فصيراه إلى حركة مذبوح، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه، فقال أيكما قتله؟ فقال كل واحد منهما أنا قتلته، قال: هل مسحتما سيفيكما؟ قال لا، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في السيفين، فقال كلاكما قتله، وقضى بسلبه: أي ما عدا سيفه لهما، فلا ينافي ما سبق من اعطائه لابن مسعود رضي الله عنه، وهما معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ ابن عفراء بن الحارث، فهما: أي معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن الحارث ابنا عفراء، غاية الأمر أن الأول اشتهر بأبيه عمرو بن الجموح، والثاني اشتهر بأمه التي هي عفراء.
وقول الحافظ ابن حجر: إن معاذ بن عمرو بن الجموح ليس اسم أمه عفراء يجوز أن يكون مستنده في ذلك مقابلة ابن الجموح بابن عفراء في كلامهم المقتضي ذلك، لأن يكون ابن الجموح ليس ابن عفراء.
ولا يشكل على ذلك ما في النور نقلا عن الإمام النووي، أن عمرو بن(2/239)
الجموح وابني عفراء: أي معاذ ومعوذ اشتركوا في قتل أبي جهل، لأن معاذا الثاني ابن الحارث، فكل من عمرو بن الجموح والحارث تزوج عفراء، وكل سمى ولده منها بمعاذ. ويدل لذلك ما يأتي عن الإمتاع أنه صلى الله عليه وسلم قال «رحم الله ابني عفراء اشتركا في قتل فرعون هذه الأمة، ولما قيل له: يا رسول الله من قتله معهما، قال الملائكة، ولم يقل عمرو بن الجموح» لكن رأيت بعضهم ذكر أن عفراء شهد لها بدرا سبع بنين ثلاثة من الحارث بن رفاعة، وهم معوذ ومعاذ، وعامر، وأربعة من بكر بن عبد ياليل، وهم خالد وأساس وعاقل وعامر، واستشهد منهم ببدر معاذ ومعوذ وعاقل هذا كلامه، وذكر عامر في الأول تقدم بدله ذكر عوف وهو واضح، فقد تقدم أن عوف بن الحارث ابن عفراء قال «يا رسول الله ما يضحك الرب الخ» ولم يذكر هذا البعض أن من أولادها معاذ بن عمرو بن الجموح، وهو يؤيد ما تقدم عن الحافظ، وعن الإمام النووي، فعليك بالتأمل. وقيل قضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح.
أقول: أي لكونه هو الذي أزال منعته فاستحق سلبه، ولا ينافي ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لهما «كلاكما قتله» لجواز أن يكون أتى بذلك ملاطفة للثاني وترغيبا له في الجهاد، لأن له مشاركة ما في قتله، لأنه زاد في إثخانه إلى أن صيره إلى آخر رمق.
ويرده كونه صلى الله عليه وسلم أشركهما في سلبه، ومن ثم قال فقهاؤنا: يعطي السلب لمن أثخن دون من قتل: أي بعد ذلك، فقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلب أبي جهل لمثخنيه ابني عفراء دون قاتله ابن مسعود، لكن هذا القيل قال به بعض آخر من فقهائنا، وهو الموافق لما في البخاري في كتاب فرض الخمس: معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ ابن عفراء قتلا أبا جهل ثم تنازعا فيه، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى السيفين فرأى فيهما أثر الدم فقال: كلاكما قتله، وقضى بسلبه لمعاذ بن الجموح، قال الأصحاب لأنه أثخنه والآخر جرحه بعده، وقوله: كلاكما قتله تطييب لقلب الآخر هذا كلامه فليتأمل، فإن الذي أظنه أن كونه رأى أثر الدم في سيفيهما خلط من الراوي لأن ذلك كان في قتل ابن الأشرف، ويؤيد الخلط ما تقدم عن ابن مسعود أنه لم ير فيه أثر جراح داخل بدنه.
وفي الإمتاع أنه صلى الله عليه وسلم قال «يرحم الله ابني عفراء فإنهما قد اشتركا في قتل فرعون هذه الأمة ورأس أئمة الكفر، فقيل: يا رسول الله من قتله معهما؟ قال: الملائكة، وذففه ابن مسعود» وهذا السؤال يقتضي أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم «إنهما قد اشتركا في قتل فرعون هذه الأمة» أن غيرهما شاركهما في ذلك، فليتأمل.
وفي شرح الروض وهو من أجل كتبنا أن عبد الله بن رواحة وابني عفراء تقاتلا مع أبي جهل مبارزة وأنه صلى الله عليه وسلم علم ذلك وأقره؛ وجعلوا ذلك دليلا على إباحة مبارزة القوي لكافر لم يطلب المبارزة.(2/240)
أي وأما ما تقدم من أمره صلى الله عليه وسلم لحمزة وعليّ وعبيدة بن الحارث بمبارزة عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة فذاك لكافر طلب المبارزة فقد تقدم أن عتبة خرج بين أخيه شيبة وولده الوليد حتى فصل من الصف ودعا للمبارزة، وأنه خرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة إخوة أشقاء وهم: معاذ ومعوذّ وعوف بنو عفراء، وقيل بدل عوف عبد الله بن رواحة، فلم يرضوا بمبارزتهم، فعند ذلك أمر صلى الله عليه وسلم من ذكر بمبارزتهم، وعندي أن ما ذكره في شرح الروض من مبارزة عبد الله بن رواحة وابني عفراء لأبي جهل، ذكر أبي جهل اشتباه، وإنما هو لهؤلاء الثلاثة ولم تقع منهم مقاتلة، وكيف يبارز ثلاثة واحدا؟ فليتأمل.
وجاء في الحديث «إن الله قتل فرعون هذه الأمة أبا جهل، فالحمد لله الذي صدق وعده، ونصر دينه» والله أعلم.
وكان على الملائكة يوم بدر عمائم بيض قد أرسلوها إلى ظهورهم، أي إلا جبريل فإنه كان عليه عمامة صفراء، أي وقيل حمراء.
قال بعضهم: وكان بعضهم بعمائم خضر وبعضهم بعمائم صفر، وبعضهم بعمائم حمر أي وبعضهم بعمائم بيض، وبعضهم بعمائم سود، فلا منافاة.
وذكر أن عمامة جبريل عليه السلام يوم أغرق فرعون كانت سوداء، قال وفي رواية «سيماهم عمائم سود» وعند ابن مسعود رضي الله عنه «كان سيما الملائكة يوم بدر عمائم قد أرخوها بين أكتافهم خضر وصفر وحمر» اهـ أي وبيض وسود.
وفي كلام بعضهم: نزلت الملائكة يوم بدر بعمائم صفر، ورواية بيض وسود ضعيفة.
وفي كلام ابن إسحاق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال «كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض قد أرخوها على ظهورهم إلا جبريل، فإنه كان عليه عمامة صفراء من نور» أي وكانوا يوم أحد بعمائم حمر ويوم حنين كذلك» .
في الجامع الصغير «كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم سود، ويوم أحد عمائم حمر» وما ذكر لا ينافي ما قيل سيماهم ببدر عمائم صفر قد أرخوها بين أكتافهم. وما جاء «كان على الزبير رضي الله عنه ببدر عمامة صفراء معتجرا بها، فقال صلى الله عليه وسلم: نزلت الملائكة عليّ بسيماء أبي عبد الله» يعني الزبير رضي الله عنه، لجواز أن يكون أكثرهم كان بعمائم صفر.
وقد ذكر أن الزبير رضي الله عنه قاتل يوم بدر قتالا شديدا حتى كان الرجل يدخل يده في الجراح في ظهره وعاتقه.
وقد سئل الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى عن قوله تعالى يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ(2/241)
آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [آل عمران: الآية 125] ما السمة التي كانت عليهم؟ فأجاب بأن ابن أبي حاتم ذكر في تفسيره بأسانيد عن علي كرم الله وجهه أنها الصوف الأبيض في نواصي خيولهم وأذنابها.
وعن مكحول وغيره أنها العمائم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها كانت عمائم بيض قد أرسلوها إلى ظهورهم، وفي سنده رجل ضعيف. وعنه أيضا عمائم سود، وفي سنده متروك، ثم قال: ورواية البيض والسود ضعيفة هذا كلامه، أي وعلى تقدير صحتها يجاب بما قدمنا. وكان شعار الأنصار: أي علامتهم التي يتعارفون بها في ذلك إذا جاء الليل أو وقع اختلاط «أحد أحد» أي وشعار المهاجرين يومئذ «يا بني عبد الرحمن» .
أي وعن زيد بن علي قال: كان شعار النبي صلى الله عليه وسلم أي المهاجرين أو هو حتى لا يشتبه بغيره «يا منصور أمت» ويقال «أحد أحد» وشعار الخزرج «يا بني عبد الله» وشعار الأوس «يا بني عبيد الله» .
وعن ابن سعد يقال كان شعار الجميع يومئذ «يا منصور أمت» .
أي وقد يقال: لا منافاة بين هذه الرواية وما قبلها من الروايات، لأن المراد بالجميع المجموع، لكن يحتاج إلى الجمع بين تلك الروايات السابقة على تقدير صحتها وكانت خيل الملائكة بلقا.
وعن علي رضي الله تعالى عنه قال: كان سيما الملائكة: أي سيما خيلهم يوم بدر الصوف الأبيض، أي وفي لفظ: بالعهن الأحمر في نواصي الخيل وأذنابها.
أي ولا منافاة، لجواز أن يكون بعضهم كذا، وبعضهم كذا، وعند ذلك قال صلى الله عليه وسلم «سوّموا خيلكم فإن الملائكة قد سومت» فهو أول يوم وضع فيه الصوف أي في نواصي الخيل وأذنابها، ولم أقف على لون الصوف الذي وضع في ذلك.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال «حدثني رجل من بني غفار قال: أقبلت أنا وابن عم لي حتى صعدنا في جبل يشرف بنا على بدر ونحن مشركان ننتظر الوقعة على من تكون الدبرة» أي الغلبة «فننهب مع من ينهب، فبينا نحن في الجبل إذ دنت منا سحابة، فسمعنا فيها حمحمة الخيل، فسمعت قائلا يقول: اقدم حيزوم، فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه» أي غشاؤه «فمات مكانه، وأما أنا فكدت أهلك ثم تماسكت» وأقدم بضم الدال من التقدم: كلمة يزجر بها الخيل، وحيزوم بالميم وربما قيل بالنون اسم فرس جبريل، ولعلها هي الحياة وأحدهما اسم لها والآخر لقب، وقيل لها الحياة لأنها ما مسها شيء إلا صار حيا وهي التي قبض من أثرها أي من تراب حافرها السامري، نسبة إلى سامر، قرية أو طائفة: ما ألقاه في العجل الذي(2/242)
صاغه من حلي القبط فكان له خوار: أي صوت، فكان إذا خار سجدوا وإذا سكت رفعوا، قال في النهر: الظاهر أنه قامت به الحياة.
وقيل لما صنعه السامري أجوف تحيل لتصويته بأن جعل في تجويفه أنا بيب على شكل مخصوص وجعله في مهب الرياح فتدخل في تلك الأنابيب فيظهر له صوت يشبه الخوار. وفي كلام بعضهم: فرس جبريل التي هي حيزوم كان صهيله التسبيح والتقديس، وإذا نزل عليها جبريل عليه السلام علمت الملائكة أن نزوله للرحمة، وإذا نزل منشور الأجنحة علمت أن نزوله للعذاب، أي وحينئذ فنزول جبريل عليه السلام عليها يوم بدر كان لرحمة المسلمين، وإن كان عذابا على الكافرين، ويكون نزوله لا عليها بل منشور الأجنحة إذا كان لمحض العذاب.
ويحتمل أن يكون حيزوم غير فرس الحياة، وإليه ذهب السهيلي رحمه الله، فقال: والحياة أيضا فرس لجبريل عليه السلام.
قال الحافظ ابن حجر: ومن الأخبار الواهية أن الموت كبش لا يجد ريحه شيء إلا مات، والحياة فرس بلقاء أثنى، أي خطوتها- كما في العرائس- مدّ البصر، وهي التي كان جبريل عليه السلام والأنبياء عليهم السلام يركبونها أي كلهم كما في العرائس، لا تمر بشيء ولا يجد ريحها شيء إلا حيي.
هذا، وفي أثر مرسل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: من القائل يوم بدر من الملائكة أقدم حيزوم؟ فقال جبريل عليه السلام: يا محمد ما كل أهل السماء أعرف.
قال ابن كثير: وهذا الأثر يردّ قول من زعم أن حيزوم اسم فرس جبريل عليه السلام، أي وفيه أنه لا يبعد أن يقول أحد من الملائكة لفرس جبريل اقدم حيزوم، ولا يعرف ذلك القائل، وكأنّ الحافظ ابن كثير رحمه الله فهم من قوله صلى الله عليه وسلم من القائل الخ، أن ذلك الفرس لذلك القائل، نعم إن كان هذا الأثر وقع بعد الرواية التي تلي هذه وهي جاءت سحابة الخ، أو أن ذلك الأثر سقط من لفظة لفرسه، والأصل من القائل يوم بدر من الملائكة لفرسه، اتجه ما فهمه ابن كثير رحمه الله فليتأمل، قال:
وفي رواية «جاءت سحابة فسمعنا أصوات الرجال والسلاح، وسمعنا رجلا يقول لفرسه: اقدم حيزوم، فنزلوا على ميمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاءت سحابة أخرى نزل منها رجال كانوا على ميسرته، فإذا هم على الضعف من قريش فمات ابن عمي، وأما أنا فتماسكت وأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم وأسلمت» ومن ثم ذكر في الصحابة.
وفي النور: هذا الرجل مذكور في الصحابة، وليس في الحديث أي الرواية الأولى ما يدل على إسلامه إلا أن تحديثه لابن عباس رضي الله تعالى عنهما بهذه المعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم يشعر بإسلامه هذا كلامه.(2/243)
وفيه أن قوله ونحن مشركان يدل على أنه كان مسلما عند تحديثه لابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن الغمام الذي ظلل بني إسرائيل في التيه هو الذي يأتي الله تعالى فيه يوم القيامة، وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر.
أي وعن علي رضي الله تعالى عنه «هبت ريح شديدة ما رأيت مثلها قط ثم جاءت أخرى كذلك، ثم جاءت أخرى كذلك، ثم جاءت أخرى كذلك، فكانت الأولى جبريل نزل في ألف من الملائكة» أي لعلها أمامه أخذا من قوله «وكانت الثانية ميكائيل، نزل في ألف من الملائكة عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الثالثة إسرافيل نزل في ألف من الملائكة عن ميسرة رسول الله صلى الله عليه وسلم» وفي ذلك سكوت عن الرابعة، أي زاد في الإمتاع «وكان إسرافيل وسط الصف لا يقاتل كما يقاتل غيره من الملائكة» .
وظاهر هذا أن كلا من جبريل وميكائيل قاتل، وتقدم أنهم في هذه الغزاة التي هي غزاة بدر قيل لم يمدوا إلا بألف من الملائكة، ورواية ألفين ضعيفة جاءت عن علي رضي الله تعالى عنه، فتكون هذه الرواية التي جاءت عن علي أيضا كذلك، ولا نظر لما تقدم عن بعضهم أن إمدادهم يوم بدر بثلاثة آلاف أولا، وأنهم وعدوا أن يمدوا بخمسة آلاف إن ثبتوا وصبروا وهو ما عليه الأكثر، لما علمت أن ذلك إنما كان في أحد، وسيأتي ذلك مع زيادة. قال بعضهم: ولم تقاتل الملائكة إلا في يوم بدر، أي وفي غيره يكونون مددا من غير مقاتلة، وسيأتي أنهم قاتلوا يوم أحد ويوم حنين.
ففي مسلم عن سعد بن أبي وقاص «أنه رأى عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد، يعني جبريل وميكائيل عليهما السلام، يقاتلان كأشد القتال» .
قال الإمام النووي رحمه الله: فيه أن قتال الملائكة لم يختص بيوم بدر، وهذا هو الصواب، خلافا لمن زعم اختصاصه، فإن هذا صريح في الرد عليه.
أقول: يمكن الجمع بأن المختص ببدر قتال الملائكة عنه وعن أصحابه، وفي غيره كان عنه صلى الله عليه وسلم خاصته، فلا منافاة؛ ثم رأيتني ذكرت هذا الجمع في غزوة أحد عن البيهقي، وتعقبته بما جاء أن الملائكة قاتلت في ذلك اليوم عن عبد الرحمن بن عوف. وعلى تسليم ورود ذلك فيه أنهم لو قاتلوا يوم أحد لظهر أثر قتلهم كما ظهر في يوم بدر.(2/244)
وقد يقال: مرادهم بالمقاتلة يوم أحد المدافعة من غير أن يوقعوا فعلا، وفي يوم بدر المراد بالمقاتلة إيقاع الفعل، والله أعلم.
وانكسر سيف عكاشة بتشديد الكاف أكثر من تخفيفها- ابن محصن وهو يقاتل به فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم جذلا من حطب: أي أصلا من أصول الحطب وقال له قاتل بهذا يا عكاشة، فلما أخذه من رسول الله صلى الله عليه وسلم هزه فعاد في يده سيفا، طويل القامة، شديد المتن، أبيض الحديد، فقاتل به رضي الله عنه حتى فتح الله تعالى على المسلمين، وكان ذلك السيف يسمى العون.
ثم لم يزل عند عكاشة وشهد به المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم لم يزل متوارثا عند آل عكاشة. وعكاشة، مأخوذ من عكش على القوم: إذا حمل عليهم، والعكاشة: العنكبوت، وسيأتي مثل ذلك في أحد لعبد الله بن جحش.
وانكسر سيف سلمة بن أسلم رضي الله عنه فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قضيبا كان في يده: أي عرجونا من عراجين النخل وقال: اضرب به، فإذا هو سيف جيد فلم يزل عنده.
قال: وعن خبيب بن عبد الرحمن قال «ضرب خبيب جدي يوم بدر فمال شقه، فتفل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأمه ورده فانطبق» .
وعن رفاعة بن مالك رضي الله عنه قال «لما كان يوم بدر رميت بسهم ففقئت عيني، فبصق عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا لي، فما آذاني منها شيء» اهـ.
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتلى من المشركين أن ينقلوا من مصارعهم التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وجودها؟ فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر يقول: هذا مصرع عتبة بن ربيعة، وهذا مصرع شيبة بن ربيعة، وهذا مصرع أمية بن خلف، وهذا مصرع أبي جهل بن هشام، وهذا مصرع فلان غدا إن شاء الله تعالى، أي ويضع صلى الله عليه وسلم يده الشريفة على الأرض، فما تنحى أحدهم عن موضع يده» كما تقدم عن أنس، وتقدم عنه أن ذلك كان ليلة بدر بعد أن وصل إلى محل الوقعة، إذ لا يتصور وضع يده على الأرض إلا إذا كان بمحل الوقعة.
وبه يعلم ما ذكره بعضهم أن إخباره صلى الله عليه وسلم بمصارع القوم تكرر منه مرتين قبل الوقعة بيوم أو أكثر ويوم الوقعة، هذا كلامه، إلا أن يقال قوله يوم الوقعة هو بناء على أنه صلى الله عليه وسلم وصل بدرا في النهار. والقول بأن ذلك كان ليلا بناء على أنه وصل بدرا ليلا. ومعلوم أنه إنما وضع يده في محل الوقعة.
ثم أمر صلى الله عليه وسلم أن يطرحوا فطرحوا في القليب، إلا ما كان من أمية بن خلف فإنه(2/245)
انتفخ في درعه فملأه فذهبوا ليحركوه فتزايل: أي تقطعت أوصاله فأقروه وألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة.
وهذا دليل على أن الحربي لا يجب دفنه، وبه قال أئمتنا، بل قالوا: يجوز إغراء الكلاب على جيفته.
وفي سنن الدارقطني «كان من سنته صلى الله عليه وسلم في مغازيه إذا مر بجيفة إنسان أمر بدفنه لا يسأل عنه مؤمنا كان أو كافرا» أي ولكثرة جيف الكفار كره صلى الله عليه وسلم أن يشق على أصحابه أن يأمرهم بدفنهم فكان جرهم إلى القليب أيسر، وكان الحافر لهذا القليب رجل من بني النجار، فكان فألا مقدما لهم ذكره السهيلي.
«ولما ألقي عتبة والد أبي حذيفة رضي الله عنه في القليب تغير وجه أبي حذيفة ففطن» بفتح الطاء «له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: لعلك دخلك من شأن أبيك شيء، فقال: لا والله، ولكني كنت أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا، فكنت أرجو أن يهديه الله للإسلام، فلما رأيت ما مات عليه أحزنني ذلك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير وقال له خيرا» .
أقول: وذكر فقهاؤنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أبا حذيفة عن قتل أبيه في هذه الغزاة وقد أراد ذلك، والله أعلم.
«ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف على شفير القليب» أي قيل بعد ثلاثة أيام من إلقائهم في القليب وذلك ليلا، أي وفي الصحيحين عن أنس رضي الله تعالى عنه «كان صلى الله عليه وسلم إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان اليوم الثالث أمر صلى الله عليه وسلم براحلته فشدّ عليها رحلها ثم مشى واتبعه أصحابه حتى قام على شفة الركي» أي وهو القليب «وجعل يقول: يا فلان ابن فلان ويا فلان ابن فلان هل وجدتم ما وعد الله ورسوله حقا؟ فإني وجدت ما وعدني الله حقا» .
وجاء في بعض الطرق نداؤهم بأسمائهم، فقال: «يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، ويا أبا جهل بن هشام» وهذا يقتضي أنه في تلك الرواية نطق بلفظ يا فلان ابن فلان ولا يخفى بعده فليتأمل.
واعترض بأن أمية بن خلف لم يكن من أهل القليب لما علمته. وأجيب بأنه كان قريبا من القليب «بئس عشيرة النبي، كنتم كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس، فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها. وفي رواية أجسادا قد أجيفوا. وفي لفظ: قد جيفوا، فقال: صلى الله عليه وسلم ما أنتم بأسمع، وفي رواية: لأسمع لما أقول منهم، وفي رواية: لقد سمعوا ما قلت غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا شيئا» .(2/246)
وعن قتادة رضي الله عنه أحياهم الله تعالى حتى سمعوا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم توبيخا لهم وتصغيرا ونقمة وحسرة.
أقول: والمراد بإحيائهم شدة تعلق أرواحهم بأجسادهم حتى صاروا كالأحياء في الدنيا للغرض المذكور؛ لأن الروح بعد مفارقة جسدها يصير لها تعلق به، أو بما يبقى منه ولو عجب الذنب فإنه لا يفنى وإن اضمحل الجسم بأكل التراب، أو بأكل السباع أو الطير أو النار، وبواسطة ذلك التعلق يعرف الميت من يزوره ويأنس به ويردّ سلامه إذا سلم عليه كما ثبت في الأحاديث. والغالب أن هذا التعلق لا يصير الميت به حيا كحياته في الدنيا، بل يصير كالمتوسط بين الحي والميت الذي لا تعلق لروحه بجسده، وقد يقوى حتى يصير كالحي في الدنيا، ولعله مع ذلك لا يكون فيه القدرة على الأفعال الاختيارية، فلا يخالف ما حكي عن السعد اتفقوا على أنه تعالى لم يخلق في الميت القدرة والأفعال الاختيارية هذا كلامه، والكلام في غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والشهداء رضي الله عنهم: أي شهداء المعركة، أما هما فتعلق أرواحهم بأجسادهم تصير به أجسادهم حية كحياتها في الدنيا ويكون لهم القدرة والأفعال الاختيارية.
فقد روى البيهقي رحمه الله في الجزء الذي ألفه في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في قبورهم عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون «وجاء» إن علمي بعد موتي كعلمي في الحياة» .
وروى أبو يعلى عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «لينزلن عيسى ابن مريم عليه السلام، ثم إن قام على قبري وقال: يا محمد لأجبته» ومن ثم قال الإمام السبكي: حياة الأنبياء والشهداء كحياتهم في الدنيا، ويشهد له صلاة موسى عليه السلام في قبره، فإن الصلاة تستدعي جسدا حيا، وكذا الصفات المذكورة في الأنبياء ليلة الإسراء كلها صفات الأجسام.
ولا يلزم من كونها حياة حقيقية أن تكون الأبدان معها كما كانت في الدنيا من الاحتياج إلى الطعام والشراب، وأما الادراكات كالعلم والسمع فلا شك أن ذلك ثابت لهم ولسائر الموتى، هذا كلامه وسائر الموتى شامل للكفار، أي وأكل الشهداء وشربهم في البرزخ لا عن احتياج بل لمجرد الإكرام، وكون الشهداء اختصوا بذلك دون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا مانع منه، لأن المفضول قد يخص بما لا يوجد في الفاضل، ألا ترى أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام شرعت الصلاة عليهم وجوبا وحرمت على الشهداء، وبهذا يردّ قول بعضهم في الاستدلال على حياة الأنبياء بقوله تعالى وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) [آل عمران: الآية 169] والأنبياء أولى بذلك لأنهم أجلّ وأعظم، وما من نبي إلا وقد جمع بين(2/247)
النبوة ووصف الشهادة، فيدخلون في عموم لفظ الآية، ولأنه صلى الله عليه وسلم قال في مرض موته «لم أزل أجد ألم الطعام الذي أكلته بخيبر فهذا أو ان انقطاع أبهري من ذلك السم» فثبت كونه صلى الله عليه وسلم حيا في قبره بنص القرآن، إما من عزم اللفظ أو من مفهوم الموافقة.
ووجه رده أن الأولوية قد تمنع بل أصل القياس، لما علمت أنه قد يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل، والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وإن جمعوا بين النبوة والشهادة، إلا أن المراد في الآية شهداء المعركة لا مطلق الشهادة، إذ شهادة المعركة لم تحصل لأحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
ثم لا يخفى أن الذي ثبت حياة الأنبياء وصلاتهم في قبورهم وحجهم، وأما صومهم وأكلهم وشربهم في ذلك فلم أقف على ما يدل على ذلك في شيء من الأحاديث والآثار، وقياسهم في ذلك على الشهداء علمت أنه قد يمنع لما أنه قد يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل.
والذي يدل على أنهم يحجون ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة فمررنا بواد، فقال: أيّ واد هذا؟
فقالوا: وادي الأزرق، فقال صلى الله عليه وسلم: كأني أنظر إلى موسى عليه الصلاة والسلام واضعا أصبعيه في أذنيه له جؤار إلى الله تعالى بالتلبية مارا بهذا الوادي، ثم سرنا حتى أتينا على ثنية، فقال صلى الله عليه وسلم: كأني أنظر إلى يونس عليه الصلاة والسلام على ناقة حمراء عليه جبة صوف مارا بهذا الوادي ملبيا» وقد جاء في موسى عليه السلام «أنه كان على بعير» وفي رواية «على ثور» ولا منافاة لجواز أن يكون تكرر حجه أو ركب البعير مرة والثور أخرى. ولا يخفى أن رزق الشهداء يصدق على الجماع، لأنه مما يتلذذ به كالأكل والشرب.
ثم رأيت سيدي أبا المواهب الشاذلي رحمه الله ونفعنا ببركاته، قال في كتابه المسمى «بعنوان أهل السر المصون في كشف عورات أهل المجون» وأخبر سبحانه عن الشهداء أنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وحمله أهل العلم على الحقيقة وأنهم يأكلون ويشربون وينكحون حقيقة، وقائل غير هذا أي أن الأكل والشرب عبارة عن لذة تحصل لهم كاللذة الناشئة عن الأكل والشرب والنكاح صرف هذه الآية عن ظاهرها من غير ضرورة تلجىء إلى ذلك، ثم قاس الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على الشهداء في ذلك، لما تقدم من أنهم أجلّ وأعظم، وما من نبي إلا وقد جمع بين النبوة والشهادة. وقد علمت جواب من منع القياس.
ثم رأيت عن إفتاء شيخنا الشمس الرملي الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم والشهداء رضي الله عنهم يأكلون في قبورهم ويشربون ويصلون ويصومون ويحجون.
ورفع الخلاف هل ينكحون؟ فقيل نعم. وقيل لا، وأنهم يثابون على صلاتهم(2/248)
وصومهم وحجهم، ولا تكليف عليهم في ذلك لانقطاع التكليف بالموت، بل من قبيل التكرمة ووقع الدرجات هذا كلامه، ولعل مستنده في إثبات ما عدا الصلاة والحج للأنبياء قياسهم على الشهداء، وقد علمت ما فيه وإثبات الخلاف الذي ذكره شيخنا في نكاح الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا أدري هل هو خلاف أهل عصره أو من تقدمهم.
على أن إثبات النكاح للأنبياء عليهم الصلاة والسلام ربما يبعده ما ذكروه في حكمة قوله صلى الله عليه وسلم «حبب إليّ من دنياكم النساء والطيب» حيث لم يقل من دنياي ولا من الدنيا، فإنه أشار بهذه الإضافة إلى أن النساء والطيب من دنيا الناس لأنهم يقصدونهما للاستلذاذ وحظوظ النفس، وهو عليه الصلاة والسلام منزه عن ذلك.
وإنما حبب إليه النساء لينقلن عنه محاسنه ومعجزاته الباطنة والأحكام السرية التي لا يطلع عليها غالبا غيرهن وغير ذلك من الفوائد الدينية.
وحبب إليه الطيب لملاقاته للملائكة، لأنهم يحبونه ويكرهون الريح الخبيث، لأن حقيقة الإكرام أن يحصل له في البرزخ ما كان يلتذ به في الدنيا، ليكون حاله فيه كحاله في الدنيا.
وفيه أن الحكمة المذكورة لا تناسب قوله صلى الله عليه وسلم «فضلت على الناس بأربع وعدّ منها كثرة الجماع» وهم كغيرهم في هذا التعلق متفاوتون بحسب مقاماتهم، وإنه يعبر عن قوة هذا التعلق بعود الحياة، ومنه ما ذكر عن قتادة وتعود الروح، ومنه قول بعضهم: أرواح الأنبياء والشهداء بعد خروجها من أجسادها تعود إلى تلك الأجسام في القبر، وأذن لهم في الخروج من قبورهم والتصرف في الملكوت العلوي والسفلي.
ومن ثم قال ابن العربي رحمه الله تعالى: رؤية المصطفى عليه الصلاة والسلام بصفته العلوية إدراك له على الحقيقة، وعلى غير صفته العلوية إدراك للمثال ويعبر عنه بردها.
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «ما من أحد يسلم عليّ إلا رد الله تعالى عليّ روحي حتى أرد عليه السلام» أي إلا قوي تعلق روحي، وذلك إكراما لهذا المسلم حيث لا يردّ عليه سلامه إلا وقد قوي تعلق روحه الشريفة بجسده الشريف، والروح بناء على أنها غير عرض مع كونها في مقاماتها لها تعلق بجسدها وبما يبقى منه كما تقدم، كالشمس في السماء الرابعة ولها تعلق بالأرض، وربما عبر عن ضعف هذا التعلق بصعودها وطلوعها، وبناء على أنها عرض تزول ويعود مثلها، وقد أوضحت ذلك في «النفحة العلوية في الأجوبة الحلبية عن الأسئلة القروية» وهي أسئلة سئلت عنها من بعض أهل(2/249)
القرى المصرية، وذكرت أن هذا أولى مما أطال به الجلال السيوطي من الأجوبة مع ما فيها مما لا يخفى. ورأيت في حديث عن عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن لله ملكا أعطاه سمع العباد كلهم، وإنه ما من أحد يصلي عليّ صلاة إلا بلغنيها، وإني سألت ربي عز وجل أن لا يصلي عليّ أحد صلاة إلا صلى الله عليه بها عشرة أمثالها» وذكر الحافظ الذهبي أن راوي هذا الحديث تفرد به متنا وإسنادا والله أعلم.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها أنكرت قوله صلى الله عليه وسلم لقد سمعوا ما قلت وقالت، إنما قال لقد علموا أن الذي كنت أقول حق، وقالت: إنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أي بقوله في حق أهل القليب «ما أنتم بأسمع منهم» أنهم الآن ليعلمون أن الذي أقول لهم هو الحق، أي لا أنهم يسمعون ما أقول بحاسة سمعهم التي كانت موجودة في الدنيا، ثم قرأت أي محتجة على ذلك قوله تعالى إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى [النّمل: الآية 80] الآية، وبقوله وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر: الآية 22] .
ويجاب بأنه لا مانع من إبقاء السمع هنا على حقيقته، لأنه إذا قوي تعلق أرواح هؤلاء الكفار بأجسادهم بحيث صاروا أحياء كحياتهم في الدنيا للغرض المذكور لا مانع من سماعهم بحاسة سمعهم لبقاء محل تلك الحاسة منهم، كما أن الجسد بذلك التعلق يقوى على الجلوس للسؤال في القبر والسماع المنفي في الآيتين بمعنى السماع النافع، وقد أشار إلى ذلك الجلال السيوطي رحمه الله بقوله نظما:
سماع موتى كلام الخلق قاطبة ... جاءت به عندنا الآثار في الكتب
وآية النفي معناها سماع هدى ... لا يقبلون ولا يصغون للأدب
لأنه تعالى شبه الكفار الأحياء بالأموات في القبور في أنهم لا ينتفعون بالدعاء إلى الإسلام النافع.
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة رضي الله عنه بشيرا لأهل العالية: أي وهي محل قريب من المدينة على عدة أميال، وزيد بن حارثة بشيرا لأهل السافلة بها راكبا ناقته القصوى، وقيل العضباء بما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فجعل عبد الله بن رواحة ينادي في أهل العالية: يا معشر الأنصار أبشروا بسلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل المشركين وأسرهم، ونادى زيد بن حارثة في أهل السافلة بمثل ذلك، أي ويقولان: قتل فلان وفلان، أي وأسر فلان وفلان من أشراف قريش، وصار عدو الله كعب بن الأشرف يكذبهما ويقول: إن كان محمد قتل هؤلاء القوم فبطن الأرض خير من ظهرها، قال أسامة بن زيد رضي الله عنهما فأتانا الخبر حين سوّينا التراب على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي ولما عزي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «الحمد لله دفن(2/250)
البنات من المكرمات» وفي رواية «من المكرمات دفن البنات» ويعجبني قول الباخرزي رحمه الله تعالى:
القبر أخفى سترة للبنات ... ودفنها يروى من المكرمات
أما رأيت الله عز اسمه ... قد وضع النعش بجنب البنات
وجاء عثمان رضي الله عنه من رقية هذه بولد يقال له عبد الله فاكتنى به؛ وكان قبل ذلك يكنى أبا عمرو، وتزوج بعدها أختها أم كلثوم بوحي.
فقد روي «أنه صلى الله عليه وسلم رأى عثمان بن عفان مهموما بعد موت رقية رضي الله عنها، فقال له: ما لي أراك لهفانا مهموما، فقال له: يا رسول الله وهل دخل علي أحد ما دخل عليّ انقطع الصهر بيني وبينك، فبينما هو يحاوره إذ قال صلى الله عليه وسلم: هذا جبريل عليه السلام يأمرني عن الله عز وجل أن أزوجك أختها أم كلثوم على مثل صداقها وعلى مثل عشرتها، فزوجه إياها، ولما تزوجها دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا بنية أين أبو عمرو؟ قالت: خرج لبعض حاجاته قال: كيف رأيت بعلك؟ قالت: يا أبت خير بعل وأفضله، فقال: يا بنية كيف لا يكون كذلك وهو أشبه الناس بجدك إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، وأبيك محمد» وجاء «عثمان من أشبه أصحابي بي خلقا» وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قال لي جبريل عليه السلام: إن أردت أن تنظر من أهل الأرض شبيه يوسف الصديق فانظر إلى عثمان بن عفان» ولتزوجه ببنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له ذو النورين، ولم يجمع أحد منذ آدم إلى اليوم بين بنتي نبي غيره رضي الله عنه، ومن ثم لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا عنه قال: ذاك امرؤ يدعى في الملأ الأعلى ذا النورين.
ولما ماتت أم كلثوم تحته وذلك سنة تسع قال صلى الله عليه وسلم «زوجوا عثمان، لو كان لي ثالثة لزوجته إياها، وما زوجته إلا بوحي من الله» وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال له «لو أن لي أربعين بنتا زوجتك واحدة بعد واحدة حتى لا يبقى منهن واحدة» وأم عثمان بنت عمته صلى الله عليه وسلم أروى بنت عبد المطلب، توأمة عبد الله أبي النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: وقال رجل من المنافقين لأبي لبابة رضي الله عنه: قد تفرق أصحابكم تفرقا لا يجتمعون بعده أبدا، قد قتل محمد وغالب أصحابه، وهذه ناقتة عليها زيد بن حارثة لا يدري ما يقول من الرعب، قال أسامة: فجئت حتى خلوت بأبي لبابة وسألته عما أسره له الرجل، فأخبرني بما أخبره، به، فقلت: أحق ما تقول، قال:
أي والله حق ما أقول يا بني، فقويت نفسي ورجعت إلى ذلك المنافق، فقلت: أنت المرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم لنقدمنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم فيضرب عنقك، فقال:
إنما هو شيء سمعته من الناس يقولونه، انتهى. أي وهذا كان قبل أن يجتمع أسامة بأبيه زيد بن حارثة.(2/251)
ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا إلى المدينة، فلما خرج من مضيق الصفراء قسم النفل، أي الغنيمة، وكانت مائة وخمسين من الإبل، وعشرة أفراس ومتاعا وسلاحا وأنطاعا وثيابا وأدما كثيرا حمله المشركون للتجارة، ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قتل قتيلا فله سلبه، ومن أسر أسيرا فهو له» أي كما تقدم، ولعله تكرر ذلك منه صلى الله عليه وسلم مرتين: مرة للتحريض على القتال، ومرة عند القسمة، فالمقسوم ما بقي بعد إخراج السلب وإخراج الأسرى قسم على المسلمين بالسوية بعد الاختلاف فيه، فادّعى من قاتل العد وصده أنهم أحق به، وادعى من جمعه أنهم أحق به، وادعى من كان يحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش أن غيرهم ليس بأحق به منهم، أي لأن سعد بن معاذ رضي الله عنه قام على باب العريش الذي به صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه في نفر من الأنصار، وفي رواية عن عبادة بن الصامت «أن جماعة خرجت في أثر العدّ وعند انهزامه، وجماعة أكبوا على جمع الغنيمة فجمعوها، وجماعة عند انهزام العدو أحدقوا به صلى الله عليه وسلم في العريش خوفا أن يصيب العدّو منه غرة ولعل هؤلاء كانوا زيادة عمن كان مع سعد بن معاذ على باب العريش؛ فادعى من أكب على جمعها أنهم أحق بها، وادعى من عداهم أن أولئك ليسوا بأحق بها منهم» .
أي وكون جماعة أحدقوا به صلى الله عليه وسلم بعد انهزام العدوّ، قد يقال: لا ينافي ذلك ما تقدم عن ابن سعد «أنه لما انهزم المشركون دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثرهم بالسيف مصلتا يتلو هذه الآية سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) [القمر: الآية 45] لجواز أن يكون صلى الله عليه وسلم خرج في أثرهم برهة من الزمان، ثم عاد إلى العريش فأحدق به هؤلاء مع من تقدم، فأنزل الله تعالى سورة الأنفال يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [الأنفال:
الآية 1] .
فالنفل قد يطلق على الغنيمة كما هنا كما أشرنا إليه، وسماها الله تعالى أنفالا لأنها زيادة في أموال المسلمين، وكذا الفيء المذكور في سورة الحشر التي نزلت في غزوة بني النضير يطلق على الغنيمة وسمي فيئا لأن الله تعالى أفاءه على المؤمنين:
أي رده عليهم من الكفار، فإن الأصل أن الله تعالى إنما خلق الأموال إعانة على عبادته، لأنه إنما خلق الخلق لعبادته، فقد رد إليهم ما يستحقونه كما يعاد، ويرد على الرجل ما غصب من ميراثه وإن لم يقبضه قبل ذلك. ومنه قول بعضهم: كان أهل الفيء بمعزل عن أهل الصدقة، وأهل الصدقة بمعزل عن أهل الفيء، كان يعطي من الصدقة اليتيم والمسكين والضعيف، فإذا احتلم اليتيم نقل إلى الفيء أي إلى الغنيمة، وأخرج من الصدقة فنزعه الله من أيديهم، فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي يضعه حيث شاء فدلت الآية على أن الغنيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ليس لأحد من المقاتلة شيء منها، ثم نسخت هذه الآية بقوله تعالى وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَ(2/252)
لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الأنفال: الآية 41] والأربعة أخماس الباقية للمقاتلة، أي فكان ذلك الخمس يخمس خمسة أخماس:
واحد له صلى الله عليه وسلم يفعل فيه ما أحب، والأربعة من ذلك الخمس لمن ذكر في الآية، والأربعة الأخماس الباقية تكون للمقاتلة.
وسيأتي في سرية عبد الله بن جحش لنخلة «أنه صلى الله عليه وسلم خمس العير الذي جاء به عبد الله كذلك، فجعل خمس ذلك لله، وأربعة أخماسه للجيش» وقيل عبد الله هو الذي خمسها كذلك، وأقرّه صلى الله عليه وسلم على ذلك، وهي أول غنيمة في الإسلام وأوّل غنيمة خمست، فكان تخميسها قبل نزول الآية، لما علمت أن نزول تلك الآية كان بعد بدر فهي من الآيات التي تأخرت تلاوتها عن حكمها، قال بعضهم: وكان ابتداء تحليل الغنائم لهذه الأمة في وقعة بدر كما ثبت في الصحيحين، وذلك في قوله تعالى فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً [الأنفال: الآية 69] فأحل الغنيمة لهم.
أقول: وفيه أن هذا قد يعين القول بأنه صلى الله عليه وسلم وقف غنائم نخلة حتى رجع من بدر، ويضعف ما سبق من أنه صلى الله عليه وسلم خمسها، أو أن عبد الله هو الذي خمسها قبل بدر، وأقرّه صلى الله عليه وسلم على ذلك، وقد علمت أن ما أصابه من بدر قسمة بين المسلمين سواء أي لم يتميز فيه أحد عن أحد، الراجل مع الراجل والفارس مع الفارس سواء، وفيه تفضيل الفارس على الراجل في ذلك اليوم، وسيأتي التصريح بذلك، وهذا يؤيد القول بأن الجيش كان فيه خمسة أفراس أو فرسان، دون القول بأنه لم يكن فيه إلا فرس واحد على ما تقدم، حتى هو صلى الله عليه وسلم كان سهمه كسهم واحد منهم، أي كفارس منهم بناء على ما تقدم أنه صلى الله عليه وسلم كان له فرسان إلا ما اصطفاه وهو سيفه ذو الفقار كما سيأتي، وحينئذ يكون قول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه «يا رسول الله أتعطي فارس القوم الذي يغيظهم مثل ما تعطي الضعيف» أراد بالفارس فيه القوي.
ففي مسند الإمام أحمد، قال سعد بن أبي وقاص «قلت: يا رسول الله الرجل يكون حاجته للقوم يكون سهمه وسهم غيره سواء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثكلتك أمك، وهل تنصرون إلا بضعفائكم» وما في مسند الإمام أحمد يدل على أن مراد سعد بالفارس القوي لمقابلته في هذه الرواية بالضعيف، فلا ينافي أنه أعطى الفارس لفرسه سهمين وله سهم كالراجل.
وقد أسهم لمن لم يحضر، كمن أمره صلى الله عليه وسلم بالتخلف لعذر منعه من الحضور كعثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، فإنه صلى الله عليه وسلم خلفه لأجل مرض زوجته رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم، أو لما كان به رضي الله تعالى عنه من الجدري على ما تقدم، ولهذا عدّ من البدريين، وأبي لبابة لأنه صلى الله عليه وسلم خلفه على أهل المدينة، وعاصم بن عدي فإنه خلفه على أهل قباء والعالية، ولمن أرسله لكشف أمر العدوّ يتجسس خبره فلم(2/253)
يجىء إلا وقد انقضى القتال، وهما طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد كما تقدم، والحارث بن حاطب، أمره بما مر في بني عمرو بن عوف وخوات بن جبير والحارث بن الصمة لأن كلا منهما كسر بالروحاء كما تقدم.
وبهذا يظهر التوقف في قول الجلال السيوطي في الخصائص الصغرى: وضرب لعثمان رضي الله تعالى عنه يوم بدر بسهم ولم يضرب لأحد غاب غيره، رواه أبو داود عن ابن عمر قال الخطابي: هذا خاص بعثمان، لأنه كان يمرّض ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا كلامه.
وأسهم صلى الله عليه وسلم لأربعة عشر رجلا قتلوا ببدر، ولعلهم ماتوا بعد انقضاء الحرب، فلا يشكل على ما قاله فقهاؤنا أن من مات قبل انقضاء الحرب لا حق له.
وتنفل صلى الله عليه وسلم زيادة على سهمه سيفه ذا الفقار؛ أي وكان لمنبه بن الحجاج أي وقيل لابنه العاص قتل أيضا يوم بدر، وقيل كان لعمه نبيه، وفي كلام أبي العباس بن تيمية أنه كان لأبي جهل، أي ويمكن أن يكون ذلك السيف كان في الأصل لأبي جهل، ثم أعطاه لمنبه بن الحجاج أو لغيره ممن ذكر لا يقال أو بالعكس، لأن سيف أبي جهل أخذه ابن مسعود كما تقدم فلا مخالفة.
وتنفل أيضا صلى الله عليه وسلم جمل أبي جهل وكان مهريا، ولم يزل يغزو عليه حتى ساقه في هدي الحديبية كما سيأتي، وهذا الذي كان يأخذه زيادة على سهمه أي قبل قسمة الغنيمة إذا كان صلى الله عليه وسلم مع الجيش يقال له الصفي والصفية عبدا أو أمة أو دابة أو سيفا أو درعا، لكن في الإمتاع عن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما «كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صفي من المغنم حضر أو غاب» قال بعضهم: وهو محسوب من سهمه صلى الله عليه وسلم، وقيل يكون زائدا عليه، إلا أن يقال ذاك الذي وقع فيه الخلاف كان بعد نزوله آية التخميس، وهذا كان قبل ذلك، فلا يخالف ما سبق أن ما أخذه قبل القسمة كان زائدا على سهمه المساوي لسهام القوم، أي وكان في الجاهلية يقال للذي يأخذه الرئيس إذا غزا بالجيش المرباع وهو ربع الغنيمة، ولم يسمع مرباع إلا في الربع دون غيره من الخمس ومما بعده. والصفايا أشياء كان يصطفيها الرئيس لنفسه من خيار ما يغنم، والنشيطة: ما أصابه الجيش في طريقه قبل أن يصل إلى مقصده وكان للرئيس النقيعة أيضا، وهو بعير ينحره قبل القسمة فيطعمه الناس، كذا في شرح الحماسة للتبريزي.
قال: وقد سقط في الإسلام النقيعة والنشيطة، وأمر صلى الله عليه وسلم عليا كرم الله وجهه فقتل النضر بن الحارث بالصفراء.
أي وفي الإمتاع «أنه صلى الله عليه وسلم نظر إلى النضر وهو أسير، فقال النضر لليسير الذي(2/254)
بجانبه: محمد والله قاتلي، فإنه نظر إليّ بعينين فيهما الموت، فقال له: والله ما هذا منك إلا رعب، وقال النضر لمصعب بن عمير رضي الله تعالى عنه: يا مصعب أنت أقرب من هذا إليّ رحما فكلم صاحبك أن يجعلني كرجل من أصحابي يعني المأسورين، هو والله قاتلي، فقال مصعب: إنك كنت تقول في كتاب الله كذا وكذا، وتقول في نبيه صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، وكنت تعذب أصحابه.
وفي أسباب النزول للسيوطي وأقره، وكان المقداد رضي الله تعالى عنه أسر النضر، فلما أمر صلى الله عليه وسلم بقتله، قال المقداد: يا رسول الله أسيري، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إنه كان يقول في كتاب الله ما يقول، وقد رثته أخته، وقيل بنته رضي الله تعالى عنها فإنها أسلمت بعد ذلك يوم الفتح فقالت من أبيات:
أمحمد يا خير ضنء كريمة
والذي رأيته في الحماسة:
أمحمد ولأنت ضنء نجيبة ... في قومها والفحل فحل معرق
أي له عرق في الكرم، والضنء: الولد
ما كان ضرك لو مننت وربما ... منّ الفتى وهو المغيظ المحنق
وحين سمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى حتى أخضل أي بلّ لحيته، وقال لو بلغني هذا الشعر قبل قتله لمننت عليه، أي لقبول شفاعتها عندي بهذا الشعر، وليس معناه الندم، لأنه صلى الله عليه وسلم لا يفعل إلا حقا.
أي وكان للنضر هذا أخ يقال له النضير بالتصغير وكان أسنّ المهاجرين، وقيل كان من مسلمة الفتح، وربما يدل له أنه صلى الله عليه وسلم أمر له بمائة بعير من غنائم حنين، فجاءه شخص يبشره بذلك، فقال: لا آخذها، فإني أحسب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعطني ذلك إلا تألفا على الإسلام وما أريد أن أرتشي على الإسلام، فقيل له إنها عطية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلها، وأعطى المبشر منها عشرة أبعرة.
ثم قتل صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط بعرق الظبية بضم الظاء المعجمة وهي شجرة يستظل بها، قال وحين قدم للقتل: من للصبية يا محمد؟، قال النار.
وجاء عن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن عقبة لما قدم للقتل نادى: يا معشر قريش ما لي أقتل من بينكم صبرا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: بكفرك وافترائك على رسول الله صلى الله عليه وسلم» أي وفي لفظ «ببزاقك في وجهي» أي فإن عقبة كان يكثر مجالسته صلى الله عليه وسلم واتخذ ضيافة فدعا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكل من طعامه حتى ينطق بالشهادتين ففعل، وكان أبيّ بن خلف صديقه فعاتبه وقال صبأت يا عقبة، قال لا ولكن أبى أن يأكل من طعامي وهو في بيتي فاستحييت منه، فشهدت له الشهادة(2/255)
وليست في نفسي، فقال وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمدا فلم تطأ قفاه وتبزق في وجهه وتلطم عينه، فوجده صلى الله عليه وسلم ساجدا في دار الندوة ففعل به ذلك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا ألقاك خارج مكة إلا علوت رأسك بالسيف» كذا في الكشاف، وفي لفظ آخر «بكفرك، وفجورك، وعتوّك على الله ورسوله، وأنزل الله فيه وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ [الفرقان: الآية 27] الآية» .
وذكر ابن قتيبة «أنه صلى الله عليه وسلم لما أمر بقتل عقبة، أي وقد قال: يا معشر قريش ما لي أقتل من بينكم! أي وأنا واحد منكم، قال له: يا محمد ناشدتك الله والرحم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أنت إلا يهودي من أهل صفورية» وفي رواية «قال له: إنما أنت يهودي من أهل صفورية» أي فليس هو من قريش: أي لا رحم بيني وبينك: أي لأن أمية جد أبيه خرج إلى الشام لما نافر عمه هاشم كما تقدم فأقام بصفورية ووقع على أمة يهودية ولها زوج يهودي من أهل صفورية فولدت له أبا عمرو الذي هو والد أبي معيط على فراش اليهودي فاستلحقه بحكم الجاهلية، ثم قدم به مكة وكناه بأبي عمرو وسماه ذكوان مع أن الولد للفراش، وقيل كان عبدا لأمية فتبناه. فلما مات أمية خلفه على زوجته.
ويدل لهذا الثاني ما ذكره بعض المؤرخين أن معاوية رضي الله تعالى عنه سأل رجلا من علماء النسب وفد عليه: كم عمرك؟ قال أربعون ومائتا سنة قال: كيف رأيت الزمان؟ فقال سنيات بلاء، وسنيات رخاء، يهلك والد، ويخلف مولود، فلولا الهالك لامتلأت الدنيا، ولولا المولود لم يبق أحد، فقال له: هل رأيت عبد المطلب؟ قال نعم، أدركته شيخا وسيما متسما جسيما، يحف به عشرة من بنيه كأنهم النجوم، فقال له: هل رأيت أمية بن عبد شمس؟ يعني جده، قال نعم: رأيته أخفش أزرق ذميما، يقوده عبده ذكوان، فقال: ويحك كف، فقد جاء غير ما ذكرت ذاك ابنه. فقال: أنتم تقولون ذلك.
والقاتل لعقبة عاصم بن ثابت، وقيل علي رضي الله تعالى عنهما، أي وقيل صلب على الشجرة.
أقول: قال محمد بن حبيب الهاشمي: هو أول مصلوب في الإسلام، ورده ابن ابن الجوزي بأن أول من صلب في الإسلام خبيب بن عدي.
وقد يقال: لا مخالفة، لأن المراد بالثاني، أول مصلوب من المسلمين، وبالأول أول مصلوب من الكفار.
وذكر أن أول من استعمل الصلب فرعون، ولعل المراد به فرعون موسى بن عمران لا فرعون إبراهيم الخليل وهو أول الفراعنة، ولا فرعون يوسف بن يعقوب(2/256)
وهو ثاني الفراعنة، وفي قول إن فرعون يوسف هذا هو فرعون موسى بمعنى أنه بقي إلى زمن موسى عليه السلام، وكان هلاكه على يده.
وفي كلام ابن قتيبة عن سعيد بن جبير ضم طعيمة بن عدي إلى عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، أي لأنه ممن قتل معهما صبرا، وفيه نظر، فقد تقدم أن القاتل له حمزة رضي الله عنه في الحرب وسيأتي في أحد أن قتل حمزة كان سبب قتله لطعيمة المذكور.
ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قدم المدينة قبل الأسارى بيوم. أي وروي عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لما قدمت إلى المدينة وكنت جائعا استقبلتني امرأة يهودية على رأسها جفنة فيها جدي مشوي، فقالت: الحمد لله يا محمد الذي سلمك كنت نذرت لله إن قدمت المدينة سالما لأذبحن هذا الجدي ولأشوينه ولأحملنه إليك لتأكل منه، فأنطق الله الجدي فقال: يا محمد لا تأكلني فإني مسموم» أي بخلاف ما وقع له صلى الله عليه وسلم في خبير، فإنه لم يخبره الذراع بذلك إلا بعد أكله منه كما سيأتي، وسيأتي أنه سأل المرأة عن سبب ذلك وهنا لم يسألها.
ولما قدم صلى الله عليه وسلم أي قاربها خرج المسلمون للقائه وتهنتئه بما فتح الله عليه فتلاقوا معه بالروحاء، أي وقال لهم سلمة بن سلامة بن وقش ما الذي تهنونا به، فو الله إن لقينا أي ما لقينا إلا عجائز صلعا كالبدن المعقولة فنحرناها فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «أولئك الملأ من قريش» أي الأشراف والرؤساء وتلقته الولائد عند دخوله المدينة بالدفوف والولائد جمع وليدة: وهي الصبية والأمة وتلك الولائد يقلن:
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع
وتلقاه أسيد بن الحضير، فقال: الحمد لله الذي أظفرك وأقرّ عينك.
«ولما أقبلوا من بدر فقدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقفوا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عليّ، فقالوا: يا رسول الله فقدناك، فقال إن أبا الحسن وجد مغصا في بطنه فتخلفت عليه، ثم لما قدمت الأسارى فرّقهم بين الصحابة وقال: استوصوا بهم خيرا» .
وكان أول من قدم مكة بمصاب قريش ابن عبد عمرو رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك، فقال: قتل عتبة وشيبة وأبو الحكم وأمية وفلان وفلان من أشراف قريش، أي وأسر فلان وفلان فقال صفوان بن أمية وكان يقال له سيد البطحاء، وكان من أفصح قريش لسانا، وكان جالسا في الحجر: والله إن يعقل أي ما يعقل هذا سلوه عني، فسألوه، أي قالوا: ما فعل صفوان، فقال: هو ذاك الجالس في الحجر، وقد رأيت أباه وأخاه حين قتلا.(2/257)
وعن عكرمة مولى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال «قال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب» أي ثم وهبه العباس له صلى الله عليه وسلم وسيأتي الكلام عليه في السرايا، وكان العباس رضي الله تعالى عنه أسلم وأسلمت زوجته: أي أم الفضل، قيل إنها أول امرأة أسلمت بعد خديجة كما تقدم، وهي أم أولاده، وهم: عبد الله؛ وعبيد الله، وعبد الرحمن، والفضل، وقثم، ومعبد، وأمّ حبيب.
قيل رآها صلى الله عليه وسلم وهي تدب بين يديه فقال: إن بلغت وأنا حي تزوجتها فقبض صلى الله عليه وسلم قبل أن تبلغ قال ابن الجوزي: فليس في الصحابيات من كنيتها أم الفضل إلا زوج العباس، قال أبو رافع: وأسلمت أنا وكنا نكتم الإسلام أي لأن العباس كان يكره خلاف قومه، لأنه كان ذا مال كثير وأكثره متفرق فيهم، أي وسيأتي الجواب عن كونه أسر وأخذ منه الفداء مع كونه مسلما، وسيأتي أنه لم يظهر إسلامه إلا يوم الفتح.
فلما جاء الخبر عن مصاب قريش ببدر سرّنا ذلك، فو الله إني لجالس إذ أقبل أبو لهب يجرّ رجليه بشر حتى جلس عندنا، فبينا هو جالس إذ قدم أبو سفيان بن الحارث وكان مع قريش في بدر، فقال له أبو لهب: هلمّ إلي عندك الخبر، فقال:
والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاؤوا ويأسروننا كيف شاؤوا، وأيم والله ما لمت الناس، لقينا رجال بيض على خيل بلق بين السماء والأرض، والله ما يقوم لها شيء، قال أبو رافع: فقلت والله تلك الملائكة، فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة وثاورته: أي وأثبته: أي قام كل للآخر فاحتملني وضرب بي الأرض، ثم برك علي يضربني، فقامت أم الفضل إلى عمود وضربته به ضربة في رأسه أثرت شجة منكرة، وقالت: استضعفته أن غاب سيده، تعني العباس، فقام موليا ذليلا، فو الله ما عاش إلا سبع ليال حتى رمي بالعدسة: أي ما عاش صحيحا قبل أن يرمى بالعدسة إلا سبع ليال: أي وهي بثرة تشبه العدسة من جنس الطاعون، قتلته، فلم يحفروا له حفيرة ولكن أسندوه إلى الحائط وقذفوا عليه الحجارة خلف الحائط حتى واروه، أي لأن العدسة قرحة كانت العرب تتشاءم بها، ويرون أنها تعدي أشد العدوى، فلما أصابت أبا لهب تباعد عنه بنوه وبقي بعد موته ثلاثة أيام لا تقرب جنازته ولا يحاول دفنه حتى أنتن، فلما خافوا السبة: أي سب الناس لهم في تركه فعلوا به ما ذكر.
وفي رواية: حفروا له، ثم دفعوه بعود في حفيرته وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها «أنها كانت إذ مرت بموضعه، ذلك غطت وجهها» .(2/258)
أقول: قال في النور: وهذا القبر الذي يرجم خارج باب شبيكة، أي الآن ليس بقبر أبي لهب، وإنما هو قبر رجلين لطخا الكعبة بالعذرة، وذلك في دولة بني العباس، فإن الناس أصبحوا وجدوا الكعبة ملطخة بالعذرة فرصدوا للفاعل فمسكوهما بعد أيام، فصلبا في ذلك الموضع، فصار يرجمان إلى الآن، والله أعلم.
فلما ظهر الخبر ناحت قريش على قتلاهم أي شهرا، وجزّت النساء شعورهن، وكنّ يأتين بفرس الرجل أو راحلته وتستر بالستور وينحن حولها ويخرجن إلى الأزقة، ثم أشير عليهم أن لا تفعلوا فيبلغ محمدا وأصحابه فيشمتوا بكم ولا نبكي قتلانا حتى نأخذ بثأرهم، وتواصوا على ذلك، وكان الأسود بن زمعة بن عبد المطلب أصيب له في بدر ثلاثة، ولداه وولد ولده، وكان يحب أن يبكي عليهم، وكان قد ذهب بصره أي بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم عليه بذلك، لأنه كما تقدم كان من المستهزئين بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، إذا رآهم يقول: قد جاءكم ملوك الأرض ومن يغلب على ملك كسرى وقيصر، ويكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يشق عليه، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمى، وتقدم ذلك؛ وتقدم سبب عماه.
وفي كلام بعضهم كان صلى الله عليه وسلم دعا على الأسود هذا بأن يعمي الله تعالى بصره ويثكل ولده فاستجاب الله تعالى له سبق العمى إلى بصره أولا، ثم أصيب يوم بدر بمن نعاه من ولده أي وهو زمعة وهو أحد الثلاثة الذين كان يقال لكل واحد منهم زاد الراكب كما تقدم، وأخوه عقيل والحارث فإنهما قتلا كافرين ببدر، فتمت إجابة الله تعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا به قد سمع صوت باكية بالليل، فقال لغلامه انظر هل أحل النحب: أي البكاء، هل بكت قريش على قتلاهم لعلي أبكي، فإن جوفي قد احترق، فلما رجع الغلام قال إنما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلته، فأنشد من أبيات:
أتبكي أن يضل لها بعير ... ويمنعها من النوم السهود
فلا تبكي على بكر ولكن ... على بدر تقاصرت الجدود
والسهود بضم السين المهملة: عدم النوم. والبكر: الفتى من الإبل. والجدود:
بضم الجيم جمع جد بفتحها، وهو الحظ والسعد، وبعد هذين البيتين بيت آخر وهو:
ألا قد ساد بعدهمو رجال ... ولولا يوم بدر لم يسودوا
يعرض بأبي سفيان فإنه رأس قريش. قال: وقد جاء في بعض الروايات اختلاف الصحابة فيما يفعل بالأسرى لما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترون في هؤلاء الأسرى إن الله قد مكنكم منهم؟ أي وقد يخالف هذا ما سبق من قوله إن من أسر أسيرا فهو له.(2/259)
وقد يقال: لا مخالفة لأن معنى كونه له أنه مخير فيه بين قتله وأخذ فدائه، ولعله لا يخالف ما تقدم أنه صلى الله عليه وسلم. لما أراد قتل النضر قال المقداد رضي الله تعالى عنه وكان أسره: يا رسول الله أسيري، فقال له إنه كان يقول في كتاب الله ما يقول وفي رواية «استشار صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعليا» أي وفي رواية «أبا بكر وعمر وعبد الله بن جحش فيما هو الأصلح من الأمرين القتل وأخذ الفداء؟ فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله أهلك وقومك» وفي رواية «هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، قد أعطاك الله الظفر ونصرك عليهم، أرى أن تستبقيهم وتأخذ الفداء منهم فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار، وعسى الله أن يهديهم بك فيكونون لنا عضدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تقول يا بن الخطاب؟ قال: يا رسول الله قد كذبوك وأخرجوك وقاتلوك، ما أرى ما أرى أبو بكر ولكن أرى أن تمكنني من فلان قريب» وفي لفظ «نسيب لعمر فأضرب عنقه، وتمكن عليا من أخيه عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه أي العباس رضي الله تعالى عنه فيضرب عنقه، حتى يعلم أنه ليست في قلوبنا مودة للمشركين، ما أرى أن تكون لك أسرى فاضرب أعناقهم، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم» أي وقال ابن رواحة رضي الله تعالى عنه «نظروا واديا كثير الحطب فأضرمه عليهم نارا، فقال العباس رضي الله تعالى عنه وهو يسمع:
ثكلتك رحمك، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي ولم يرد عليهم، فقال بعض الناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال بعض الناس يأخذ بقول ابن رواحة، ولم يقل قائل يأخذ بقول عمر، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله ليلين قلوب أقوام فيه حتى تكون ألين من اللين، وإن الله ليشدنّ قلوب أقوام فيه حتى تكون أشد من الحجارة، مثلك يا أبا بكر في الملائكة مثل ميكائيل ينزل بالرحمة لعله لا ينزل إلا بالرحمة، فلا ينافي أن جبريل ينزل بالرحمة في بعض الأحايين كما تقدم قريبا، ومن ثم جاء في الحديث «أرأف أمتي بأمتي أبو بكر» «ومثلك في الأنبياء مثل إبراهيم حيث يقول فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم: الآية 36] ، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى ابن مريم إذ قال إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) [المائدة: الآية 118] » .
قيل إن قوله فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة: الآية 118] من مشكلات الفواصل، إذ كان مقتضى الظاهر فإنك أنت الغفور الرحيم.
ورد بأن العزيز الذي لا يغلبه أحد ولا يغفر لمن استحق العذاب إلا من ليس فوقه أحد يرد عليه حكمه. والحكيم: هو الذي يضع الشيء في محله.
«ومثلك يا عمر في الملائكة مثل جبريل، نزل بالشدة والبأس والنقمة على أعداء الله تعالى» أي أغلب أحوالك ذلك، فلا ينافي أنه ينزل بالرحمة في بعض(2/260)
الأوقات كما تقدم «ومثلك في الأنبياء مثل نوح عليه الصلاة والسلام إذ قال رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: الآية 26] ومثلك في الأنبياء مثل موسى عليه الصلاة والسلام إذ قال رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88) [يونس: الآية 88] » .
قال الجلال السيوطي رحمه الله في الخصائص الصغرى: ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أن من أصحابه من يشبه بجبريل وبإبراهيم وبنوح وبموسى وبعيسى وبيوسف وبلقمان الحكيم وبصاحب يس هذا كلامه.
وقد علمت أن أبا بكر رضي الله عنه شبه بميكائيل ولم يذكر ميكائيل، ولينظر من شبه من أصحابه بيوسف، ثم رأيتني ذكرت فيما تقدم قريبا أنه عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، ولينظر من شبه من أصحابه بلقمان الحكيم وبصاحب يس.
ثم قال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: «لو توافقتما ما خالفتكما، فلا يفلتن منهم أحد إلا بفداء أو ضرب عنق» .
وقد وقع له صلى الله عليه وسلم أنه قال مثل ذلك لهما. وقد اختلفا في تولية شخصين أراد صلى الله عليه وسلم تولية أحدهما على بني تميم، فقال أبو بكر: يا رسول الله استعمل فلانا، وقال عمر:
يا رسول استعمل فلانا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنكما لو اجتمعتما لأخذت برأيكما ولكنكما اختلفتما عليّ أحيانا، فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات: الآية 1] الآية؛ واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم مثلك يا أبا بكر الخ على جواز ضرب المثل من القرآن، وهو جائز في غير المزح ولغو الحديث وإلا كره، ونسبة الاختلاف في أسارى بدر لأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما لا تخالف ما سبق من نسبته إلى الصحابة رضي الله تعالى عنهم، لأنه يجوز أن يكونا هما المرادين بالصحابة؛ وعدم ذكر عليّ رضي الله تعالى عنه مع إدخاله في الاستشارة وكذا عبد الله بن جحش على ما تقدم، لأنه يجوز أن يكون وافق أحدهما، أي فقد ذكر ابن رواحة مع عدم إدخاله في الاستشارة.
وفي كلام الإمام أحمد رحمه الله «استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس في الأسارى يوم بدر، فقال: إن الله قد مكّنكم منهم، قال: فقام عمر رضي الله تعالى عنه فقال:
يا رسول الله اضرب أعناقهم، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عاد فقال: يا أيها الناس إن الله قد مكنكم منهم، وإنما هم إخوانكم بالأمس، فقام عمر رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم، فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم، ثم عاد فقال للناس مثل ذلك، فقام أبو بكر رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء، قال: فذهب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان فيه من الغم، فعفا عنهم وقبل الفداء، فلما كان الغد غدا عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو وأبو بكر(2/261)
يبكيان، فقال يا رسول الله: ما يبكيكما؟» وفي لفظ «ماذا يبكيك أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت وإلا تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كاد لمسنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم، لو نزل عذاب ما أفلت منه إلا ابن الخطاب» .
وفي مسلم والترمذي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: أبكي للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء» أي للعذاب الذي كاد أن يقع على أصحابك لأجل أخذهم الفداء: أي إرادة أخذه «لقد عرض عليّ عقابهم أدنى» أي أقرب «من هذه الشجرة» لشجرة قريبة منه صلى الله عليه وسلم «وأنزل الله تعالى ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) [الأنفال: الآية 67، 68] الآيات» .
أقول: قال بعضهم: في هذه الآيات دليل على أنه يجوز الاجتهاد للأنبياء، لأن العتاب الذي في الآيات لا يكون فيما صدر عن وحي ولا يكون فيما كان صوابا، وإذا أخطؤوا لا يتركون عليه بل ينبهون على الصواب.
وأجاب ابن السبكي رحمه الله بأن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم، أي ما كان هذا لنبي غيرك ولا يخفى عليك ما فيه.
وفي كلام بعضهم ما يقتضي أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام غير نبينا صلى الله عليه وسلم يجوز أن يقروا على الخطأ لأن من بعد من يخطىء منهم يبين خطأه بخلاف نبينا صلى الله عليه وسلم لا نبي بعده يبين خطأه فلا يقر على الخطأ. وفيه أن بعد نبينا عليه الصلاة والسلام عيسى عليه الصلاة والسلام أنه يوحى إليه.
ونظر بعضهم في وقوع الخطأ من الأنبياء واستمرارهم عليه بأنه غير لائق بمنصب النبوة، لأن وجود من يستدرك الخطأ لا يدفع مقتضيه.
وفيه جواز وقوع الخطأ والعمل به قبل مجيء الاستدراك، وتقدم جواز الاجتهاد له مطلقا لا في خصوص الحرب، واستثناء عمر ربما يفيد أن جميع الصحابة رضي الله تعالى عنهم وافقوا أبا بكر على أخذ الفداء، وخالفوا عمر مع أنه تقدم قريبا أن سعد بن معاذ كره ذلك قبل عمر، فقد تقدم أن المسلمين لما وضعوا أيديهم يأسرون رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ فوجد في وجهه الكراهية لما يصنع القوم.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم، قال أجل والله يا رسول الله كانت أول وقعة أوقعها الله تعالى بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل أحب إليّ من استبقاء الرجال، ومن ثم قال «لو نزل عذاب لم يفلت منه إلا ابن الخطاب وسعد بن معاذ» كما سيأتي. وفيه أن ابن رواحة كرهه بل أشار بإحراقهم بالنار.(2/262)
وفي الأصل «أن جبريل عليه الصلاة والسلام نزل على النبي صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر فقال: إن شئتم أخذتم منهم الفداء ويستشهد منكم سبعون بعد ذلك، فنادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه فجاؤوا أو من جاء منهم أي وهم المعظم فقال: إن هذا جبريل يخبركم بين أن تقدموهم فتقتلوهم، وبين أن تفادوهم ويستشهد قابلا منكم بعدتهم، فقالوا بل نفاديهم فنتقوى به عليهم ويدخل قابلا منا الجنة سبعون وفي لفظ ويستشهد منا عدتهم. فليس في ذلك ما نكره وهو كما ترى، يدل على أن الصحابة وافقوا أبا بكر رضي الله عنهم على أخذ الفداء، ولعل هذا الإخبار بالتخيير كان بعد الاستشارة التي تكلم فيها أبو بكر وعمر، وأن بكاءه صلى الله عليه وسلم كان بعد هذه الاستشارة الثانية، وقول صاحب الهدى بكاؤه صلى الله عليه وسلم وبكاء الصديق رحمة وخشية أن العذاب يعم ولا يصيب من أراد ذلك خاصة يفيد أن الذي أشار بأخذ الفداء طائفة من الصحابة لا كلهم.
أقول: وفيه أن هذا يشكل عليه قوله «لو نزل عذاب ما أفلت منه إلا ابن الخطاب، وسعد بن معاذ» فإن فيه تصريحا بأن العذاب لو وقع لا يعم وأنه لا يصيب إلا من أشار بالفداء. وفيه أن من أشار بالفداء غاية الأمر أنهم اختاروا غير الأصلح من الأمرين، واختيار غير الأصلح لا يقتضي العذاب، على أن حل أخذ الفداء علم من واقعة عبد الله بن جحش التي قتل فيها ابن الحضرمي، فإنه أسر فيها عثمان بن المغيرة والحكم بن كيسان ولم ينكره الله تعالى، وذلك قبل بدر بأزيد من عام؛ إلا أن يقال أراد الله تعالى تعظيم أمر بدر لكثرة الأسارى فيها مع شدة تصلبهم في مقاتلته صلى الله عليه وسلم. وفي المواهب كلام في الآية المذكورة يتأمل فيه.
ورأيت فيها عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «لولا أني لا أعذب من عصاني حتى أقدم إليه الحجة لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم» .
وعن الأعمش سبق منه أنه لا يعذب أحدا شهد بدرا، ومن ثم جاء كما يأتي «أن رجلا قال: يا رسول الله إن ابن عمي نافق، أي ائذن لي أن أضرب عنقه، فقال له:
إنه شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت:
40] » والله أعلم، ولا ينافي قتل سبعين منهم في قابل: أي في أحد كون بعض الأسارى في بدر مات في الأسر ولم يؤخذ فداؤه، وهو مالك بن عبيد الله أخو طلحة بن عبيد الله، وكون بعضهم أطلق من غير أخذ فداء، لأن المنكر عدم قتل أولئك السبعين الذي أسروا.
قال بعضهم: اتفق أهل العلم بالسير على أن المخاطبين بقوله تعالى أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها [آل عمران: الآية 165] هم أهل أحد: أي قد أصبتم يوم بدر مثلي من استشهد منكم يوم أحد سبعين قتيلا وسبعين أسيرا، والله أعلم.(2/263)
وتواصت قريش على أن لا يعجلوا في طلب فداء الأسرى لئلاء يتغالى محمد وأصحابه في الفداء، فلم يلتفت لذلك المطلب بن أبي وداعة السهمي، بل خرج من الليل خفية وقدم المدينة فأخذ أباه بأربعة آلاف درهم، وقد كان صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه رضي الله تعالى عنهم لما رأى أبا وداعة أسيرا: إن له بمكة ابنا كيسا تاجرا ذا مال، وكأنكم به قد جاء في طلب فداء أبيه، أي فكان أول أسير فدي، واسم أبي وداعة الحارث وذكر في الصحابة. قال الزبير بن كبار: زعموا أنه كان شريكا للنبي صلى الله عليه وسلم بمكة.
أي والمشهور أن شريكه صلى الله عليه وسلم إنما هو السائب بن أبي السائب الذي قال في حقه، وقد أسلم يوم الفتح وقد جعل الناس يثنون عليه «أنا أعلمكم به هذا شريكي نعم الشريك كان لا يداري، ولا يماري» وفي رواية أنه لما قال صلى الله عليه وسلم «أنا أعلمكم به قال: صدقت بأبي أنت وأمي، كنت شريكك فنعم الشريك، لا تداري ولا تماري» وعند ذلك بعثت قريش في فداء الأسارى، وكان الفداء فيهم على قدر أموالهم، وكان من أربعة آلاف إلى ثلاثة آلاف درهم إلى ألفين إلى ألف، ومن لم يكن معه فداء أي وهو يحسن الكتابة دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة يعلمهم الكتابة، فإذا تعلموا كان ذلك فداءه.
وجاء جبير بن مطعم وهو كافر: أي إلى المدينة يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: في أسارى بدر فقال له صلى الله عليه وسلم «لو كان شيخك أو الشيخ أبوك حيا فأتانا فيهم لشفعناه» وفي رواية «لو كان مطعم حيا وكلمني في هؤلاء النفر» وفي رواية «في هؤلاء النفر» وفي رواية «في هؤلاء النتنى لتركتهم له» لأن المطعم كان أجار النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم من الطائف، وكان ممن سعى في نقض الصحيفة كما تقدم ذلك.
وكان من جملة الأسارى عمرو بن أبي سفيان بن حرب أخو معاوية: أي أسره عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه فقيل لأبي سفيان افد عمرا ابنك، قال:
أيجمع عليّ دمي ومالي، قتلوا حنظلة يعني ابنه، وهو شقيق أم حبيبة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، وأفدي عمرا دعوه في أيديهم يمسكونه ما بدا لهم، فبينما أبو سفيان إذ وجد سعد بن النعمان أخا بني عمرو بن عوف أي قد وفد من المدينة معتمرا فعدا عليه أبو سفيان فحبسه بابنه عمرو، فمضى بنو عمرو بن عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه خبر سعد بن النعمان، وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبي سفيان فيفكون به صاحبهم، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعثوا به إلى أبي سفيان فخلى سبيل سعد أي ولم يذكر عمرو هذا فيمن أسلم من الأسارى، والظاهر أنه مات على شركه.
وكان في الأسارى زوج بنت النبي صلى الله عليه وسلم زينب رضي الله عنها، وهو أبو العاص بن الربيّع بكسر الموحدة وتشديد الياء مفتوحة. قال في الأصل: ختن(2/264)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي بناء على ما تقوله العامة أن ختن الرجل زوج ابنته والمعروف لغة أن ختن الرجل أقارب زوجته مثل أبيها وأخيها، ومع ذلك لا ينبغي أن يقال في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم ختن أبي العاص ولا ختن عليّ لإيهامه النقص.
وفي حفظي أن عند المالكية من قال عنه صلى الله عليه وسلم يتيم أبي طالب وختن حيدرة كان مرتدا. وفي عبارة أو بدل الواو، ورواية أو مبينة للمراد من رواية الواو وأن ما أفهمته من اعتبار الجمعية ليس مرادا، وحيدرة: اسم عليّ رضي الله تعالى عنه، وأبو العاص أسلم بعد ذلك كما سيأتي، وهو ابن خالتها هالة بنت خويلد أخت خديجة أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها وأبو ولدها عليّ الذي أردفه صلى الله عليه وسلم خلفه يوم فتح مكة، ومات مراهقا وأبو بنتها أمامة التي كان يحملها صلى الله عليه وسلم في الصلاة، أي وكان يحبها حبا شديدا.
فعن عائشة رضي الله تعالى عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهديت له هدية فيها قلادة من جذع، فقال: لأدفعنها إلى أحب أهلي إليّ، فقالت النساء: ذهبت بها ابنة أبي قحافة فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامة بنت زينب فعلقها في عنقها» وتزوجها عليّ بعد موت خالتها فاطمة رضي الله تعالى عنها بوصية من فاطمة، زوجها له الزبير بن العوام، وكان أبوها أوصى بها إلى الزبير، ومات عنها فتزوجها المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب فماتت عنده، وكان تزويجها للمغيرة بوصية من عليّ رضي الله تعالى عنه، فإنه لما حضرته الوفاة قال لها: إني لا آمن أن يخطبك معاوية، وفي لفظ هذا الطاغية بعد موتي، فإن كان لك في الرجال حاجة فقد رضيت لك المغيرة بن نوفل عشيرا، فلما انقضت عدّتها أرسل معاوية إلى مروان أن يخطبها عليه ويبذل لها مائة ألف دينار، فلما خطبها أرسلت إلى المغيرة بن نوفل: إن هذا الرجل أرسل يخطبني، فإن كان لك حاجة فيّ فأقبل، فجاء وخطبها من الحسن بن علي، أي فزوجها منه.
أي ولا يخالف ما تقدم أن المزوج لها الزبير بن العوام، لأنه يجوز أن يكون الحسن كان هو السبب في تزويج الزبير لها فبعثت زينب رضي الله تعالى عنها في فداء زوجها أبي العاص قلادة لها كانت أمها خديجة رضي الله تعالى عنها أدخلتها بها عليه حين بنى بها أي والجائي بها أخوه عمرو بن الربيع، ولا يعلم لعمرو هذا إسلام «فلما رأى تلك القلادة رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة، وقال للصحابة: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها قلادتها فافعلوا، قالوا نعم يا رسول الله، فأطلقوه وردوا عليها القلادة، وشرط عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخلي سبيل زينب» أي أن تهاجر إلى المدينة.
أي وقد كان كفار قريش مشوا إليه أن يطلق زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما طلق ولدا أبي لهب بنتي النبي صلى الله عليه وسلم قبل الدخول بهما رقية وأمّ كلثوم كما تقدم، وقالوا له:(2/265)
نزوجك أيّ امرأة من قريش شئت، فأبى ذلك، وقال: والله لا أفارق صاحبتي، وما أحبّ أن لي بها امرأة من قريش، فشكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وأثنى عليه بذلك خيرا، فلما وصل أبو العاص مكة أمرها باللحوق بأبيها فخرجت.
وقد كان صلى الله عليه وسلم أرسل زيد بن حارثة ورجلا من الأنصار قال لهما: تكونان بمحل كذا لمحل قريب من مكة حتى تمرّ بكما زينب فتصحباها حتى تأتيا بها.
أي وذكر أن حماها كنانة بن الربيع أخا زوجها قدم لها بعيرا فركبته واتخذ قوسه وكنانته، ثم خرج بها نهارا يقودها في هودج لها وكانت حاملا، فتحدث بذلك رجال من قريش فخرجوا في طلبها حتى أدركوها بذي طوى، فكان أول من سبق إليها هبار بن الأسود رضي الله تعالى عنه، فإنه أسلم بعد ذلك، ونخس البعير بالرمح فوقعت وألقت حملها.
وفي رواية أنه سبق إليها هبار ورجل آخر يقال له نافع، وقيل خالد بن عبد قيس. ثم إن كنانة برك ونثر كنانته وأخذ قوسه وقال: والله لا يدنو مني رجل إلا وضعت فيه سهما، فجاء إليه أبو سفيان في رجال من قريش، وقال له: كف عنا نبلك حتى نكلمك فكف، ثم قال له: إنك لم تصب في فعلك، فإنك خرجت بالمرأة جهارا على رؤوس الأشهاد وقد عرفت مصيبتنا التي كانت وما دخل علينا من محمد، فيظن الناس إذا خرجت زينب علانية على رؤوس الناس من بين أظهرنا أن ذلك من ذلّ أصابنا، وأن ذلك منا من ضعف ووهن، ولعمري ما لنا بحبسها عن أبيها من حاجة، ولكن ارجع بها حتى إذا هدأت الأصوات وتحدث الناس أن قد رددناها فسر بها سرا فألحقها بأبيها ففعل، وأقامت ليالي ثم خرج بها ليلا حتى أسلمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه.
وفي رواية «أنه صلى الله عليه وسلم قال لزيد بن حارثة: ألا تنطلق فتجيء بزينب؟ قال بلى يا رسول الله، قال فخذ خاتمي فأعطها فانطلق زيد، فلم يزل يتلطف حتى لقي راعيا، فقال: لمن ترعى؟ قال لأبي العاص، قال: فلمن هذه الغنم؟ قال لزينب بنت محمد، فتكلم معه، ثم قال له: هل إن أعطيتك شيئا تعطها إياه ولا تذكره لأحد؟ قال نعم، فأعطاه الخاتم، فانطلق الراعي إلى زينب وأدخل غنمه وأعطاها الخاتم فعرفته، فقالت: من أعطاك هذا؟ قال: رجل، قالت: فأين تركته؟ قال بمكان كذا وكذا، فسكتت حتى إذا كان الليل خرجت إليه، فلما جاءته قال لها زيد: اركبي بين يديّ على بعيري: قالت لا، ولكن اركب أنت بين يدي، فركب وركبت خلفه حتى أتت المدينة وذلك بعد شهرين من بدر. وكان صلى الله عليه وسلم يقول زينب أفضل بناتي أصيبت بي» أي بسببي.
ومن العجب أن هذه العبارة ساقها الإمام سراج الدين البلقيني في فتاويه في(2/266)
حق فاطمة رضي الله تعالى عنها حيث قال: وقد روى البزار في مسنده من طريق عائشة رضي الله تعالى عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: هي خير بناتي، لأنها أصيبت فيّ» هذا كلامه، ولينظر ما الذي أصيبت فاطمة بسببه صلى الله عليه وسلم. وقد يقال إصابتها بسبب موته صلى الله عليه وسلم في حياتها.
ثم رأيت الحافظ ابن حجر أجاب بذلك حيث قال لأنها رزئت بأبيها فكان في صحيفتها أي فهو من أعلام نبوته، أو أن قوله في زينب ما ذكر كان قبل ما وهب الله لفاطمة من الكمالات.
وقد سئل الإمام البلقيني رحمه الله تعالى هل بقية بناته صلى الله عليه وسلم، أي بعد فاطمة سواء في الفضل أو يفضل بعضهنّ على بعض ولم يجب عن ذلك، ولا مخالفة بين خروج زينب إلى زيد وخروج حميها بها إلى زيد. وبهذا: أي بتأخر هجرة زينب يظهر التوقف في قول ابن إسحاق أما بناته صلى الله عليه وسلم فكلهنّ أدركن الإسلام وأسلمن وهاجرن معه، إلا أن يقال المراد اشتركن معه في الهجرة، وتقدم ما في قوله وأسلمن، وكون الجائي في فداء أبي العاص أخوه عمرو يخالف ما جاء «أن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله تعالى عنها أرسلت في فداء أبي العاص وأخيه عمرو بن الربيع بمال وبعثت فيه بقلادة» الحديث ولعلها تصحيف، وأن الأصل بعثت في فداء أبي العاص أخاه عمرو بن الربيع، ويدل لذلك أنه صلى الله عليه وسلم قال في هذه الرواية «إن رأيتم أن تردوا لها أسيرها فأطلقوه» ولم يقل أسيريها، وكان في الأسارى سهيل بن عمرو العامري.
وتقدم أنه كان من أشراف قريش وخطبائها، فقد سئل سعيد بن المسيب عن خطباء قريش في الجاهلية، فقال الأسود بن عبد المطلب وسهيل بن عمرو، وسئل عن خطبائهم في الإسلام، فقال معاوية بن أبي سفيان وابنه يعني يزيد وسعيد بن العاص وابنه يعني عمرو بن سعيد وعبد الله بن الزبير.
ولعل هذا لا يخالف ما تقدم من قول الأصمعي: الخطباء من بني مروان، عتبة بن أبي سفيان أخو معاوية، وعبد الملك بن مروان: ومما يؤثر عن عتبة: ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم كما تقدم. وقال عمر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
دعني أنزع ثنيتي سهيل بن عمرو يدلع أي بالدال والعين المهملتين يخرج لسانه، أي لأنه كان أعلم، والأعلم إذا نزعت ثنيتاه لم يستطع الكلام فلا يقم عليك خطيبا في موطن أبدا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أمثل به فيمثل الله تعالى بي. وإن كنت نبيا، وعسى أن يقوم مقاما لا تذمه فكان كذلك: فإنه لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أكثر أهل مكة الرجوع عن الإسلام حتى خافهم أمير مكة عتاب بن أسيد رضي الله عنه(2/267)
وتوارى، فقام سهيل بن عمرو رضي الله عنه خطيبا، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم ذكر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت، ألم تعلموا أن الله قال إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) [الزّمر: الآية 30] وقال وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: الآية 144] الآيات، وتلا آيات أخر، ثم قال: والله إني أعلم أن هذا سيمتد امتداد الشمس في طلوعها وغروبها فلا يغرنكم هذا من أنفسكم: يعني أبا سفيان، فإنه ليعلم من هذا الأمر ما أعلم، لكنه قد ختم على صدره حسد بني هاشم، وتوكلوا على ربكم فإن دين الله قائم وكلمته تامة، وإن الله ناصر من نصره ومقوّ دينه، وقد جمعكم الله على خيركم يعني أبا بكر رضي الله تعالى عنه وقال: إن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوة، فمن رأيناه ارتد ضربنا عنقه، فتراجع الناس وكفوا عما هموا به.
وعند ذلك ظهر عتاب بن أسيد رضي الله عنه، وقدم مكرز بن حفص في فداء سهيل، فلما ذكر قدرا أرضاهم به قالوا له هات، فقال اجعلوا رجلي مكان رجله وخلوا سبيله حتى يبعث إليكم بفدائه فخلوا سبيل سهيل وحبسوا مكرزا، وكان في الأسارى الوليد بن الوليد أخو خالد بن الوليد، أفتكه أخواه هشام وخالد، فلما افتدي أسلم، فعاتبوه في ذلك، فقال كرهت أن يظن بي أني جزعت من الأسر، ولما أسلم وأراد الهجرة حبسه أخواه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو له في القنوت كما تقدم، ثم أفلت ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء كما سيأتي أي وكان في الأسارى السائب وهو الأب الخامس لإمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه، وكان صاحب راية بني هاشم في ذلك اليوم: أي التي يقال لها في الحرب العقاب، ويقال لها راية الرؤساء، ولا يحملها في الحرب إلا رئيس القوم، وكانت لأبي سفيان أو لرئيس مثله، ولغيبة أبي سفيان في العير حملها السائب لشرفه، وفدى نفسه.
وأما أبوه الرابع الذي هو شافع الذي ينسب إليه إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه الذي هو ولد السائب لقي النبي صلى الله عليه وسلم وهو مترعرع فأسلم، وكان في الأسارى وهب بن عمير رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك، وأسره رفاعة بن رافع وكان أبوه عمير شيطانا من شياطين قريش، وكان ممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك فجلس يوما مع صفوان بن أمية رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك، وكان جلوسه معه في الحجر فتذاكرا أصحاب القليب ومصابهم فقال صفوان ما في العيش والله خير بعدهم، فقال عمير والله صدقت، أما والله لولا دين عليّ ليس له عندي قضاء وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي كنت آتي محمدا حتى أقتله، فإن لي فيهم علة ابني أسير في أيديهم، فاغتنمها صفوان، وقال له عليّ دينك أنا أقضيه عنك؛ وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا، قال عمير فاكتم(2/268)
عني شأني وشأنك، قال افعل ثم إن عميرا أخذ سيفه وشحذه، بالمعجمة: أي سنه وسمه: أي جعل فيه السم، ثم انطلق حتى قدم المدينة فبينما عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر إذ نظر إلى عمير حين أناخ راحلته على باب المسجد متوشحا السيف، فقال: هذا الكلب عدوّ الله عمير ما جاء إلا بشر، فدخل عمر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، هذا عدوّ الله عمير بن وهب، قد جاء متوشحا سيفه، قال صلى الله عليه وسلم: فأدخله عليّ، فأقبل عمر رضي الله عنه حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه، والحمالة بكسر الحاء المهملة: العلاقة فمسكه بها وقال لرجال ممن كانوا معه من الأنصار ادخلوا على رسول الله فاجلسوا عنده، فإن هذا الخبيث غير مأمون، ثم دخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر رضي الله عنه آخذ بحمالة سيفه في عنقه، قال: أرسله يا عمر، ادن يا عمير، فدنا ثم قال عمير: أنعموا صباحا، وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام تحية أهل الجنة، ما جاء بك يا عمير، فقال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم يعني ولده وهبا فأحسنوا فيه، قال: فما بال السيف، قال: قبحها الله من سيوف وهل أغنت عنا شيئا، قال صلى الله عليه وسلم: أصدقني ما الذي جئت له؟ قال: ما جئت إلا لذلك، قال صلى الله عليه وسلم: بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر فذكرتما أصحاب القليب من قريش. ثم قلت لولا دين عليّ وعيالي لخرجت حتى أقتل محمدا فتحمل لك صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك، قال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما تأتي به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لا أعلم ما أتاك به إلا الله تعالى، فالحمد لله الذي هدانا للإسلام وساقني هذا المساق، ثم شهد شهادة الحق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقهوا أخاكم في دينه وأقرئوه القرآن، وأطلقوا أسيره ففعلوا ذلك، ثم قال: يا رسول الله إني كنت جاهدا على اطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله، فأنا أحب أن تأذن لي فأقدم مكة فأدعوهم إلى الله وإلى الإسلام لعل الله يهديهم وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أوذي أصحابك في دينهم، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلحق بمكة وأسلم ولده وهب رضي الله عنه.
وكان صفوان حين خرج عمير يقول: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن تنسيكم وقعة بدر. وكان صفوان يسأل عنه الركبان، حتى قدم راكب فأخبره عن إسلامه، فحلف أن لا يكلمه أبدا وأن لا ينفعه بنفع أبدا.
أي ولما قدم عمير لم يبدأ بصفوان، بل بدأ ببيته وأظهر الإسلام ودعا إليه، فبلغ ذلك صفوان، فقال: قد عرفت حيث لم يبدأ بي قبل منزله أنه قد نكس وصبأ،(2/269)
ولا أكلمه أبدا. ولا أنفعه ولا عياله بنافعة.
ثم إن عميرا وقف على صفوان وناداه: أنت سيد من سادتنا، رأيت الذي كنا عليه من عبادة الحجر والذبح له أهذا دين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فلم يجبه صفوان بكلمة، وعند فتح مكة هو الذي استأمنه صلى الله عليه وسلم لصفوان كما سيأتي.
وكان في الأسارى أبو عزيز بن عمير أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه قال أبو عزيز: مر بي أخي مصعب فقال للذي أسرني: شدّ يدك به فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك، فقلت له يا أخي هذه وصايتك بي، فبعثت أمه في فدائه أربعة آلاف درهم ففدته بها.
وكان في الأسارى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، أي وقد شدوا وثاقه فأنّ فلم يأخذه صلى الله عليه وسلم نوم فقيل ما سهرك يا رسول الله؟ قال: لأنين العباس، فقام رجل وأرخى وثاقه، وفعل ذلك بالأسارى كلهم، والذي أسره أبو اليسر كعب بن عمرو، وكان ذميما أي بالمهملة: صغير الجثة والعباس جسيما طويلا فقيل للعباس رضي الله تعالى عنه: لو أخذته بكفك لوسعته كفك، فقال ما هو إن لقيته فظهر في عيني كالخندمة أي وهو جبل من جبال مكة، أي وأبو اليسر هذا هو الذي انتزع راية المشركين، وكنت بيد أبي عزيز بن عمير. قال: وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل كعبا وقال له:
كيف أسرت العباس؟ قال: يا رسول الله، لقد أعانني عليه ملك كريم، أي وفي رواية «أن العباس رضي الله تعالى عنه لما قيل له ما تقدم قال: والله إن هذا ما أسرني، لقد أسرني رجل أبلج من أحسن الناس وجها على فرس أبلق فما أراه في القوم، فقال الذي جاء به: والله أنا الذي أسرته يا رسول الله، فقال: اسكت فقد أيدك الله بملك كريم.
وفي الكشاف أن العباس عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أخذ أسيرا ببدر لم يجدوا له قميصا وكان رجلا طوالا، فكساه عبد الله بن أبيّ ابن سلول قميصه، وجعل صلى الله عليه وسلم فداء العباس أربعمائة أوقية. وفي رواية مائة أوقية. وفي رواية أربعين أوقية من ذهب.
وفي رواية جعل على العباس أيضا فداء عقيل ابن أخيه ثمانين أوقية، أي وجعل عليه فداء ابن أخيه نوفل بن الحارث.
وفي رواية «أنه صلى الله عليه وسلم قال له: افد نفسك يا عباس وابني أخيك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث ابني عبد المطلب وحليفك عتبة بن عمرو، ففدى نفسه بمائة أوقية وكل واحد بأربعين أوقية» وسيأتي ما يدل على أنه إنما فدى نفسه وابن أخيه عقيل فقط، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم «تركتني فقير قريش ما بقيت» وفي لفظ «تركتني أسأل الناس في كفي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين المال الذي دفعته لأم الفضل؟(2/270)
يعني زوجته وقلت لها إن أصبت فهذا لبني الفضل وعبد الله وقثم» وفي كلام ابن قتيبة «فللفضل كذا، ولعبد الله كذا، وقثم كذا، فقال: والله إني لأعلم أنك رسول الله، إن هذا شيء ما علمه إلا أنا وأم الفضل» زاد في رواية «وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله» .
وفي رواية «أن العباس قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لقد تركتني فقير قريش ما بقيت فقال له: كيف تكون فقير قريش، وقد استودعت بنادق الذهب أم الفضل، وقلت لها إن قتلت فقد تركتك غنية ما بقيت» .
وفي رواية «أين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل؟ فقال: أشهد أن الذي تقوله قد كان، وما اطلع عليه إلا الله» وتقدم عن أبي رافع مولى العباس أن العباس رضي الله تعالى عنه وزوجته أم الفضل كانا مسلمين، بل تقدم أنها أول امرأة أسلمت بعد خديجة رضي الله تعالى عنها، وكانا يكتمان إسلامهما، وأن أبا رافع كان كذلك.
ومما يؤيد إسلام العباس رضي الله تعالى عنه أنه جاء في بعض الروايات «أن العباس رضي الله تعالى عنه قال: علام يأخذ منا الفداء وكنا مسلمين؟ أي وفي رواية: كنت مسلما، ولكن القوم استكرهوني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: الله أعلم بما تقول إن يك حقا فإن الله يجزيك؛ ولكن ظاهر أمرك أنك كنت علينا. وقد أنزل الله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً [الأنفال: الآية 70] أي إيمانا يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ [الأنفال: الآية 70] أي من الفداء الآيات، فعند ذلك: أي عند نزول الآيات قال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: لوددت أنك كنت أخذت مني أضعافا فقد آتاني الله خيرا منها مائة عبد» وفي لفظ «أربعين عبدا كل عبد في يده مال يضرب به، أي يتجر فيه، وإني لأرجو من الله المغفرة» أي وهذا القول من العباس رضي الله تعالى عنه يدل على تأخر نزول هذه الآيات.
وجاء «أن العباس رضي الله تعالى عنه خرج لبدر ومعه عشرون أوقية من ذهب ليطعم به المشركين، فأخذت منه في الحرب، فكلم النبي صلى الله عليه وسلم أن يحسب العشرين أوقية من فدائه، فأبى وقال: أما شيء خرجت تستعين به علينا فلا نتركه لك» وجاء في بعض الروايات «أن العباس رضي الله تعالى عنه لما أسر تواعدت طائفة من الأنصار على قتله، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لعمر: لم أنم الليلة من أجل عمي العباس، زعمت الأنصار أنهم قاتلوه، فأتى عمر الأنصار فقال لهم أرسلوا العباس، فقالوا والله لا نرسله، فقال لهم عمر: فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي، فقالوا: إن كان رضي فخذه فأخذه عمر، فلما صار في يده قال له يا عباس أسلم، فوالله لأن تسلم أحب إليّ من أن يسلم الخطاب» .
أي وفي أسباب النزول للواحدي: لما أسر العباس يوم بدر أقبل المسلمون(2/271)
عليه يعيرونه بكفره بالله وقطيعة الرحم، وأغلظ عليّ له من القول، فقال العباس: ما لكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا، فقال له عليّ: ألكم محاسن؟ قال نعم، إنا لنعمر المسجد الحرام، ونحيي الكعبة، ونسقي الحاج، ونفك العاني، فأنزل الله تعالى ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ [التّوبة: الآية 17] الآية.
وجاء أنه قال للمسلمين: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد، لقد كنا نعمر المسجد الحرام، ونسقي الحاج، فأنزل الله تعالى أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [التّوبة: الآية 19] الآية.
وذكر بعضهم أن العباس رضي الله تعالى عنه كان رئيسا في قريش، وإليه عمارة المسجد الحرام، فكان لا يدع أحدا يتشبب فيه، ولا يقول فيه هجرا. والتشبيب:
ترقيق الشعر بذكر النساء والهجر: الكلام الفاحش، فكانت قريش اجتمعت وتعاقدت على تسليم ذلك للعباس، وكانوا عونا له على ذلك.
ومن ثم قيل في العباس: هذا والله هو الشرف: يطعم الجائع، ويؤدب السفيه، فإن طعامه كان لفقراء بني هاشم. وقيل وسوطه معد لسفهائهم، وإذا كان ذلك لسفهاء بني هاشم فلسفهاء غيرهم بطريق الأولى.
والظاهر أن ذلك لا يختص بسكونهم في المسجد كما قد يدل عليه الرواية الأولى، ولا ينافي هذا أي قول عمر له أسلم إلى آخره، ما تقدم عن مولاه أبي رافع، من أن العباس كان مسلما، ومن قوله للنبي صلى الله عليه وسلم إنه كان مسلما، ومن إتيانه بالشهادتين عنده صلى الله عليه وسلم، لأن ذاك لم يظهره علانية بل أظهره له صلى الله عليه وسلم فقط ولم يعلم به عمر ولا غيره، ولم يظهر النبي صلى الله عليه وسلم إسلام العباس رفقا به، لما تقدم أن العباس كان له ديون متفرقة في قريش، وكان يخشى إن أظهر إسلامه ضاعت عندهم.
ومن ثم لما قهرهم الإسلام يوم فتح مكة أظهر إسلامه: أي فلم يظهر إسلامه إلا يوم الفتح، وكان كثيرا ما يطلب الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكتب له مقامك بمكة خير لك.
أي وفي رواية «استأذن العباس رضي الله تعالى عنه النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فكتب إليه: يا عم أقم مكانك الذي أنت فيه، فإن الله عز وجل يختم بك الهجرة كما ختم بي النبوّة» فكان كذلك.
وفي رواية أنه قال لابن عمه نوفل بن الحارث بن عبد المطلب «افد نفسك يا نوفل، قال: ما لي شيء أفدي به نفسي، قال: افد نفسك من مالك الذي بجدة» وفي لفظ «بأرماحك التي بجدة فقال: أشهد أنك رسول الله، والله ما أحد يعلم أن لي بجدة أرماحا غير الله» أي وفدى نفسه ولم يفده العباس.(2/272)
ويدل لذلك ما رواه البخاري عن أنس «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بمال من البحرين» أي من خراجهما «فقال انثروه في المسجد، فكان أكثر مال أتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم» أي كان مائة ألف «وكان أول خراج حمل إليه صلى الله عليه وسلم وكان يأتي في كل سنة» .
وحينئذ لا يعارض هذا قوله صلى الله عليه وسلم لجابر «لو قد جاء مال البحرين أعطيتك فلم يقدم مال البحرين حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم» لأن المراد أنه لم يقدم في تلك السنة.
ولما نظر ذلك المال في المسجد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه فكان لا يرى أحدا إلا أعطاه، فجاءه العباس، فقال: يا رسول الله أعطني، إني فاديت نفسي وفاديت عقيلا، أي ولم يقل نوفلا ولا حليفه عتبة بن عمرو، فقال: خذ فحثى في ثوبه، ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال مر بعضهم يرفعه إليّ، قال لا قال: فارفعه أنت علي، قال لا، فنثر منه، ولا زال يفعل كذلك حتى بقي ما يقدر على رفعه على كاهله أي بين كتفيه، ثم انطلق وهو يقول: إنما أخذت ما وعد الله فقد أنجز فما زال صلى الله عليه وسلم يتبعه بصره عجبا من حرصه حتى خفي.
ومنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفر من الأسارى بغير فداء، منهم أبو عزة عمرو الجمحي الشاعر كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بشعره، فقال: يا رسول الله إني فقير وذو عيال وحاجة قد عرفتها فامنن عليّ، فمنّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي وفي رواية قال له: إن لي خمس بنات ليس لهن شيء فتصدق بي عليهن ففعل وأعتقه، وأخذ عليه أن لا يظاهر عليه أحدا. أي ولما وصل إلى مكة قال سحرت محمدا.
ولما كان يوم أحد خرج مع المشركين يحرض على قتال المسلمين بشعره، فأسر وقتل صبرا وحملت رأسه إلى المدينة كما سيأتي.
أي فعلم أن أسرى بدر؛ منهم من فدي ومنهم من خلي سبيله من غير فداء، وهو أبو العاص، وأبو عزة، ووهب بن عمير؛ ومنهم من مات؛ ومنهم من قتل وهو النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط كما تقدم.
ولما بلغ النجاشي نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر فرح فرحا شديدا. فعن جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أن النجاشي أرسل إليه وإلى أصحابه الذين معه بالحبشة ذات يوم، فدخلوا عليه فوجدوه جالسا على التراب لابسا أثوابا خلقة، فقالوا له: ما هذا أيها الملك؟ فقال لهم: إني أبشركم بما يسركم، إنه قد جاءني من نحو أرضكم عين لي فأخبرني أن الله عز وجل قد نصر نبيه، وأهلك عدوه فلانا وفلانا وعدد جمعا التقوا بمحل يقال له بدر كثير الأراك كنت أرعى فيه غنما لسيدي من بني ضمرة، فقال له جعفر ما لك جالس على التراب عليك هذه الأخلاق؟ قال: إنا نجد فيما أنزل الله على عيسى أن حقا على عباد الله أن يحدثوا الله عز وجل تواضعا عندما أحدث لهم نعمة.(2/273)
وفي رواية: كان عيسى صلوات الله وسلامه عليه إذا حدث له من الله نعمة ازداد تواضعا، فلما أحدث الله تعالى نصرة نبيه صلى الله عليه وسلم أحدثت هذا التواضع.
وفي رواية إنا نجد في الإنجيل أن الله سبحانه وتعالى إذا أحدث بعبده نعمة وجب على العبد أن يحدث الله تواضعا، وإن الله قد أحدث إلينا وإليكم نعمة عظيمة الحديث.
قال: ولما أوقع الله تعالى بالمشركين يوم بدر واستأصل وجوههم، قالوا إن ثأرنا بأرض الحبشة، فلنرسل إلى ملكها ليدفع إلينا من عنده من أتباع محمد فنقتلهم بمن قتل منا فأرسلوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة رضي الله تعالى عنهما- فإنهما أسلما بعد ذلك- إلى النجاشي ليدفع إليهما من عنده من المسلمين، فأرسلوا معهما هدايا وتحفا للنجاشي. فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى النجاشي عمرو بن أمية الضمري بكتاب يوصيه فيه على المسلمين انتهى. وفي الأصل هنا ما يوافقه.
وفيه أن عمرو بن أمية الضمري لم يكن أسلم بعد، أي لأنه كما في الأصل شهد بدرا وأحدا مع المشركين. وأول مشهد شهده مع المسلمين بئر معونة، وأسر في ذلك وجزت ناصيته وأعتق، وكان ذلك في سنة أربع كما سيأتي. قال: فلما وصل عمرو وعبد الله إلى النجاشي ردهما خائبين.
أي فعن عمرو بن العاص قال: دخلت على النجاشي فسجدت له، فقال:
مرحبا بصديقي أهديت لي من بلادك شيئا؟ فقلت نعم أيها الملك، أهديت لك أدما كثيرا ثم قربته إليه، فأعجبه، وفرق منه أشياء بين بطارقته، وأمر بسائره فأدخل في موضع، وأمر أن يكتب ويتحفظ به، قال عمرو: فلما رأيت طيب نفسه قلت: أيها الملك إني رأيت رجلا خرج من عندك يعني عمرو بن أمية الضمري. وهو رسول عدو لنا قد وترنا وقتل أشرافنا وخيارنا فأعطينه فأقتله، فغضب ثم رفع يده فضرب بها أنفي ضربة ظننت أنه قد كسره، فجعلت أتقي الدم بثيابي. وفي رواية: ثم رفع يده فضرب بها أنف نفسه، ظننت أنه قد كسره. وقد يجمع بوقوع الأمرين منه، وعند ذلك قال عمرو: فأصابني من الذل ما لو انشقت لي الأرض لدخلت فيها فرقا منه، ثم قلت: أيها الملك لو ظننت أنك تكره ما قلت ما سألتكه، فقال: يا عمرو، تسألني أن أعطيك رسول الله رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، والذي كان يأتي عيسى ابن مريم لتقتله؟ قلت وتشهد أنت أيها الملك أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: نعم أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أشهد بذلك عند الله يا عمرو، فأطعني واتبعه، فوالله إنه لعلى الحق. قلت له: أفتبايعني له على الإسلام، قال:
نعم، فمدّ يده فبايعته على الإسلام، ثم خرجت إلى أصحابي وقد كساني، فلما رأوا(2/274)
كسوة الملك سروا بذلك وقالوا: هل من صاحبك قضاء لحاجتك؟ يعنون قتل عمرو بن أمية الضمري، فقلت لهم: كرهت أن أكلمه أول مرة وقلت أعود إليه، قالوا: الرأي ما رأيت وفارقتهم. وهذا يدل على أنه كان معه ومع عبد الله جماعة آخرون من قريش. ويحتمل أنه عنى بأصحابه عبد الله بن ربيعة، ويؤيد الأول ما يأتي فليتأمل.
وكأني أعمد إلى حاجة، فعمدت إلى موضع السفن فوجدت سفينة قد شحنت، فركبت معهم ودفعوها من ساعتهم حتى انتهوا إلى الشعبية، وهو محلّ معروف كان موردة لجدة: أي كان ترسي به السفن قبل وجود جدة كما تقدم، فخرجت من السفينة فابتعت بعيرا وتوجهت إلى المدينة حتى إذا كنت بالهداة: اسم محل، إذا رجلان وهما خالد بن الوليد وعثمان بن أبي طلحة، فرحبا بي وإذا هما يريدان الذي أريد، فتوجهنا إلى المدينة.
فقد علمت ما في إرسال عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي عقب وقعة بدر من أنه كان في ذلك الوقت كافرا، لأنه شهد مع الكفار أحدا.
ومن ثم قال في الأصل هنا: فلما كان شهر ربيع الأول، وقيل المحرم سنة سبع، أي وقيل سنة ست حكاه ابن عبد البر عن الواقدي من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام، وبعث به عمرو بن أمية الضمري، فلما قرىء عليه الكتاب أسلم، وكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزوجه أم حبيبة ففعل. وكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه من بقي عنده من أصحابه ويحملهم ففعل، وقد تقدم القول عند ذكر الهجرة إلى أرض الحبشة أن توجه عمرو بكتابي رسول الله صلى الله عليه وسلم في المحرم سنة سبع يدعوه في أحدهما إلى الإسلام، والثاني في تزويجه عليه الصلاة والسلام أم حبيبة وقيل إرسال عمرو كان في شهر ربيع الأول منها.
وسيأتي ذكر كتابي النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي مع عمرو عند ذكر كتبه إلى الملوك، هذا كله كلام الأصل فليتأمل ما فيه.
ثم رأيت صاحب النور قال: قد رأيت غير واحد صرح بأن النجاشي أسلم في السنة السابعة؛ يعنون من الهجرة، وهذا يعكر على تصديقه وإسلامه عند إرسال عمرو بن العاص وعبد الله بن ربيعة: أي عقب بدر، حيث قال أنا أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخر ما تقدم هذا كلامه.
أي فكيف يكون إرسال عمرو بن أمية إلى النجاشي ليسلم. وقد يجاب بأن المراد إظهار إسلامه، أي بعث له عمرو بن أمية لأجل أن يظهر إسلامه ويعلن به بين(2/275)
قومه، أي لأنه كان يخفي إسلامه عن قومه. ولما بلغ قومه أنه اعترف بأن عيسى صلوات الله وسلامه عليه عبد الله ووافق جعفر بن أبي طالب على ذلك سخطوا وقالوا له: أنت فارقت ديننا، وأظهروا له المخاصمة، فأرسل النجاشي إلى جعفر بن أبي طالب وأصحابه فهيأ لهم سفنا وقال: اركبوا فيها، وكونوا كما أنتم، فإن هربت فاذهبوا حيث شئتم، وإن ظفرت فأقيموا. ثم عمد إلى كتاب فكتب: هو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، ويشهد أن عيسى عبده ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم، ثم جعله في ثيابه عند منكبه الأيمن وخرج إلى الحبشة وقد صفوا له، فقال: يا معشر الحبشة ألست أرفق الناس بكم؟ قالوا بلى، قال: فكيف رأيتم سيرتي فيكم؟ قالوا: خير سيرة، قال: فما لكم؟ قالوا: فارقت ديننا، وزعمت أن عيسى عبد، قال: فماذا تقولون أنتم في عيسى؟ قالوا: نقول هو ابن الله، فقال لهم النجاشي ووضع يده على صدره على قبائه وقال: هو يشهد أن عيسى ابن مريم ولم يزد على هذا، وإنما يعني ما كتب فرضوا منه ذلك.
ويذكر أن عليا رضي الله عنه وجد ابن النجاشي عند تاجر بمكة فاشتراه منه وأعتقه مكافأة لما صنع أبوه مع المسلمين، وكان يقال له نيزر مولى علي كرم الله وجهه.
ويقال إن الحبشة لما بلغهم خبره أرسلوا وفدا منهم إليه ليملكوه ويتوجوه ولم يختلفوا عليه فأبى وقال: ما كنت لأطلب الملك بعد أن منّ الله عليّ بالإسلام.
على أن ابن الجوزي رحمه الله ذكر أن ذهاب عمرو بن العاص إلى النجاشي كان عند منصرفه مع قريش في غزوة الأحزاب أي لا عقب بدر.
فعن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه: لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق، جمعت رجالا من قريش كانوا يرون مكاني ويسمعون مني، فقلت لهم:
تعلمون والله أني لأرى أمر محمد يعلو لأمور علوا منكرا، وإني قد رأيت رأيا فما ترون فيه؟ قالوا: وما رأيت؟ قال: أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي، فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا أن نكون تحت يدي محمد، وإن ظهر قومنا فنحن ممن قد عرفوا، فلن يأتينا منهم إلا خير، فقالوا: إن هذا هو الرأي، فقلت: اجمعوا ما يهدى له وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم، فجمعنا له أدما كثيرا، ثم خرجنا إليه، فوالله إنا لعنده إذ جاءه عمرو بن أمية الضمري بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن جعفر وأصحابه الحديث.
وهذا لا يمنع أن يكون عمرو بن العاص وفد على النجاشي هو وعبد الله بن ربيعة عقب بدر، فيكون وفود عمرو بن العاص على النجاشي كان ثلاث مرات: مرة مع عمارة عقب مهاجرة من هاجر إلى الحبشة، ومرة مع عبد الله بن ربيعة عقب بدر،(2/276)
وهذه المرة الثالثة التي كانت عقب الأحزاب، وإن إرسال عمرو بن أمية وإسلام عمرو بن العاص على يد النجاشي كان في هذه المرة الثالثة.
وحينئذ لا يشكل إرسال عمرو بن أمية للنجاشي، لأنه كان مسلما حينئذ، فيكون ذكر مجيء عمرو بن أمية إلى النجاشي في المرة الثانية التي كانت عقب بدر اشتباه من بعض الرواة وكذا ذكر إسلام عمرو بن العاص على يد النجاشي في المرة الثانية من تخليط بعض الرواة.
ثم رأيته في «الإمتاع» قال: وقد رويت قصة الهجرة إلى الحبشة وإسلام النجاشي من طرق عديدة مطولة ومختصرة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل عمرو بن أمية الضمري في أموره لأنه كان من رجال النجدة، أي ومعلوم أنه كان لا يرسله إلا بعد إسلامه، وإسلامه قد علمت أنه كان سنة أربع. وفي الأصل أنه صلى الله عليه وسلم أرسله إلى مكة بهدية لأبي سفيان بن حرب.
أي ولعل المراد بذلك ما حكاه بعض الصحابة قال «دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أراد أن يبعثني بمال إلى أبي سفيان يقسمه في قريش بمكة بعد الفتح وقال لي:
التمس صاحبا، قال: فجاءني عمرو بن أمية، فقال: بلغني أنك تريد الخروج إلى مكة وتلتمس صاحبا، قلت: أجل، قال: فأنا لك صاحب، قال: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: وجدت صاحبا، فقال: من؟ قلت: عمرو بن أمية الضمري، فقال: إذ هبط بلاد قومه فاحذروه، فإنه قد قال القائل: أخوك البكري ولا تأمنه، وقد أسلم عبد الله ولده قبل أبيه عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، روي «أنه صلى الله عليه وسلم قال فيهما وفي أم عبد الله: نعم البيت عبد الله وأبو عبد الله وأم عبد الله» وكان صلى الله عليه وسلم يفضل عبد الله على أبيه، لأنه كان من عباد الصحابة وزهادهم وفضلاهم وعلمائهم، ومن أكثرهم رواية.
وذكر ابن مرزوق رحمه الله «أن ابن عمرو رضي الله تعالى عنهما مر ببدر فإذا رجل يعذب ويئنّ، فناداه يا عبد الله، قال: فالتفت إليه، فقال: اسقني، فأردت أن أفعل فقال الأسود الموكل بتعذيبه: لا تفعل يا عبد الله، فإن هذا من المشركين الذين قتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم» رواه الطبراني في الأوسط. زاد السيوطي في الخصائص «فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم» فأخبرته قال: أو قد رأيته؟ قلت نعم، قال: ذاك عدوّ الله أبو جهل، وذاك عذابه إلى يوم القيامة» .
وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن الشعبي «أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني مررت ببدر فرأيت رجلا يخرج من الأرض فيضربه رجل بمقمعة حديد» وفي لفظ «بعمود حديد حتى يغيب في الأرض، ثم يخرج فيفعل به مثل ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك أبو جهل يعذب إلى يوم القيامة» .(2/277)
وما جاء في فضل من شهد بدرا «أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين أو كلمة نحوها، قال جبريل عليه السلام: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة» وفي رواية «إن للملائكة الذين شهدوا بدرا في السماء لفضلا على من تخلف منهم» وجاء بعض الصحابة رضي الله تعالى عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال «يا رسول الله إن ابن عمي نافق، أي وقد كان من أهل بدر، أتأذن لي أن أضرب عنقه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إنه شهد بدرا، وعسى أن يكفر عنه» وفي رواية «وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر وقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» .
قال وفي الطبراني بسند جيد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اطلع الله على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، أو قال: فقد وجبت لكم الجنة» أي غفرت لكم ما مضى وما سيقع من الذنوب، أي وهو يفيد أن ما يقع منهم من الكبائر لا يحتاجون إلى التوبة عنه، لأنه إذا وقع يقع مغفورا، وعبر فيه بالماضي مبالغة في تحققه، وهذا كما لا يخفى بالنسبة للآخرة لا بالنسبة لأحكام الدنيا، ومن ثم لما شرب قدامة بن مظعون الخمر في أيام عمر جلده وكان بدريا أي وقد يقال هذا يقتضي وجوب التوبة في الدنيا فإذا لم تقع لا يؤاخذ بذلك في الآخرة لأن وجوب التوبة في أحكام الدنيا.
لا يقال: إذا سلم أن الذنب إذا وقع منهم يقع مغفورا لا معنى لوجوب التوبة، وإنما حد عمر رضي الله تعالى عنه قدامة زجرا عن شرب الخمر. لأنا نقول: بل لوجوب التوبة في الدنيا معنى وإن كان الذنب إذا وقع مغفورا، لأن المراد بذلك عدم المؤاخذة في الآخرة، وذلك لا ينافي وجوب التوبة عنه في الدنيا، لأنه لا تلازم بين وجوب التوبة في الدنيا وبين غفران الذنب في الآخرة.
هذا، وفي الخصائص الصغرى نقلا عن شرح «جمع الجوامع» أن الصحابة كلهم لا يفسقون بارتكاب ما يفسق به غيرهم. وقدامة هذا كان متزوجا أخت عمر رضي الله تعالى عنه، وكان عمر متزوجا بأخت قدامة وهي أم حفصة رضي الله عنها، فكان خالا لحفصة ولأخيها عبد الله، وكان عاملا لعمر في بعض النواحي أي البحرين، فقدم الجارود سعد بن عبد القيس على عمر من البحرين وكان قدامة واليا عليها، فأخبر عمر أن قدامة سكر، قال: وإني رأيت حدّا من حدود الله حقا عليّ أن أرفعه إليك، فقال له عمر: من يشهد معك؟ قال أبو هريرة: فشهد أبو هريرة رضي الله عنه أنه رآه سكران، أي قال: لم أره يشرب، ولكني رأيته سكران يقيء، فأحضر قدامة، فقال له الجارود: أقم عليه الحد، فقال له عمر رضي الله عنه: أخصم أنت أم شاهد؟ فصمت ثم عاوده، فقال له عمر رضي الله عنه: لتمسكن أو لأسوءنك،(2/278)
فقال: ليس في الحق. وفي لفظ: أما والله ما ذلك بالحق أن يشرب ابن عمك وتسوءني، فأرسل عمر رضي الله عنه إلى زوجته قدامة أي بعد أن قال له أبو هريرة رضي الله عنه: إن كنت تشك في شهادتنا فأرسل إلى ابنة الوليد يعني زوجته، فجاءت فشهدت على زوجها بأنه سكر، فقال عمر لقدامة: أريد أن أحدك، فقال:
ليس لك ذلك، لقول الله عز وجل لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا [المائدة: الآية 93] ، فقال له عمر: أخطأت التأويل، فإن بقية الآية إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [المائدة: الآية 93] فإنك إن اتقيت اجتنبت ما حرم الله تعالى عليك، ثم أمر به فحد، فغاضبه قدامة ثم حجا جميعا، ففي قوم استيقظ عمر رضي الله تعالى عنه من نومه فزعا، فقال: عجلوا بقدامة، أتاني آت، فقال: صالح قدامة فإنه أخوك، فاصطلحا.
أي وقد احتج بهذه الآية أيضا جمع من الصحابة شربوا الخمر، وهم أبو جندل، وضرار بن الخطاب، وأبو الأزور، فأراد أبو عبيدة رضي الله عنه وهو وال بالشام أن يحدهم، فقال أبو جندل لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [المائدة: الآية 93] فكتب أبو عبيدة إلى عمر بذلك، وقال: خصمني أبو جندل بهذه الآية. فكتب عمر لأبي عبيدة: إن الذي زين لأبي جندل الخطيئة زين له الخصومة فاحددهم، فلما أراد أبو عبيدة أن يحدهم، قال أبو الأزور لأبي عبيدة: دعنا نلقى العدوّ غدا، فإن قتلنا فذاك، وإن رجعنا إليكم فحدونا، فلقوا العدوّ فاستشهد أبو الأزور وحدّ الآخران.
وفي حواشي البخاري للحافظ الدمياطي «أن نعيمان كان ممن شهد بدرا وسائر المشاهد وأتى في شربه الخمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحده أربعا أو خمسا أي من المرات، فقال رجل من القوم اللهم العنه، ما أكثر ما يشرب وأكثر ما يحد! فقال عليه الصلاة والسلام: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله» ولعل هذا التعليل لا ينظر لمفهومه.
وعند الإمام أحمد رحمه الله عن حفصة رضي الله تعالى عنها، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إني لأرجو أن لا يدخل النار إن شاء الله تعالى أحد شهد بدرا والحديبية» ولعل الواو بمعنى أو. ويدل لذلك ما في بعض الروايات عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال «لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة» .
ولا ينافي ما في مسلم والترمذي عن جابر «أن عبد الحاطب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطبا إليه، فقال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار، فقال:
كذبت، لا يدخلها فإنه شهد بدرا والحديبية» لأنه يجوز أن يكون ذلك لكونه: أي(2/279)
الجمع بين بدر والحديبية هو الواقع لحاطب.
وفي الطبراني عن رافع بن خديج رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر «والذي نفسي بيده لو أن مولودا ولد في فقه أربعين سنة من أهل الدين يعمل بطاعة الله تعالى كلها ويجتنب معاصي الله كلها إلى أن يرد إلى أرذل العمر أو يردّ إلى أن لا يعلم بعد علم شيئا لم يبلغ أحدكم هذه الليلة» .
وكان صلى الله عليه وسلم يكرم أهل بدر ويقدمهم على غيرهم. ومن ثم جاء جماعة من أهل بدر للنبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في صفة ضيقة ومعه جماعة من أصحابه فوقفوا بعد أن سلموا ليفسح لهم القوم فلم يفعلوا، فشق قيامهم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لمن لم يكن من أهل بدر من الجالسين: قم يا فلان، قم يا فلان بعدد الواقفين، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الكراهة في وجه من أقامه، فقال: «رحم الله رجلا يفسح لأخيه، فنزل قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا [المجادلة: الآية 11] الآية فجعلوا يقومون لهم بعد ذلك» أي ولعل المراد يجلسونهم مكانهم.
وفي الخصائص الصغرى: وخصّ أهل بدر من أصحابه صلى الله عليه وسلم بأن يزادوا في الجنازة على أربع تكبيرات تمييزا لهم لفضلهم.
وقد ذكر أن عمر بن عبد العزيز بن مروان كان يختلف إلى عبيد الله بن عبد الله ليسمع منه، فبلغ عبيد الله أن عمر ينتقص عليا رضي الله تعالى عنه، فأتاه عمر فأعرض عبيد الله عنه وقام ليصلي، فجلس عمر ينتظره، فلما سلم أقبل عليه، وقال له: متى بلغك أن الله سخط على أهل بدر بعد أن رضي عنهم، ففهمها عمر وقال:
معذرة إلى الله وإليك، والله لا أعود، فما سمع بعد ذلك يذكر عليا كرّم الله وجهه إلا بخير.
غزوة بني سليم
ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من بدر لم يقم إلا سبع ليال حتى غزا بنفسه، يريد بني سليم. واستعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري أو ابن أم مكتوم.
أي وفي رواية أبي داود لأن استخلاف ابن أم مكتوم إنما كان على الصلاة بالمدينة دون القضايا والأحكام، فإن الضرير لا يجوز له أن يحكم بين الناس، لأنه لا يدرك الأشخاص ولا يثبت الأعيان، ولا يدري لمن يحكم ولا على من يحكم، أي فأمر القضايا والأحكام يجوز أن يكون فرضه صلى الله عليه وسلم لسباع فلا مخالفة. فلما بلغ ماء من مياههم يقال له الكدر، أي وقيل لهذا الماء الكدر، لأن به طيرا في ألوانها كدرة،(2/280)
فأقام صلى الله عليه وسلم على ذلك ثلاث ليال، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق حربا، أي وكان لواؤه صلى الله عليه وسلم أبيض حمله علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
وكان في تلك السنة تزويج عليّ بفاطمة رضي الله تعالى عنهما: أي عقد عليها في رمضان وقيل في رجب، ودخل بها في ذي الحجة. وقيل بعد أن تزوّجها بنى بها بعد سبعة أشهر ونصف، أي فيكون عقد عليها في أول جمادى الأولى. وكان عمرها خمس عشرة سنة، وكان سن عليّ يومئذ إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر، أي وأولم عليها بكبش من عند سعد وآصع من ذرة من عند جماعة من الأنصار. ولما خطبها عليّ قال صلى الله عليه وسلم «إن عليا يخطبك فسكتت» أي وفي رواية قال لها «أي بنية إن ابن عمك عليا قد خطبك فماذا تقولين؟ فبكت، ثم قالت: كأنك يا أبت إنما أدخرتني لفقير قريش، فقال صلى الله عليه وسلم: والذي بعثني بالحق ما تكلمت في هذا حتى أذن لي الله فيه من السماء، فقالت فاطمة رضي الله عنها: رضيت بما رضي الله ورسوله» .
وقد كان خطبها أبو بكر ثم عمر فسكت صلى الله عليه وسلم. وفي رواية قال لكل انتظر بها القضاء، فجاآ أي أبو بكر وعمر رضي الله عنهما إلى علي كرم الله وجهه يأمرانه أن يخطبها، قال علي «فنبهاني لأمر كنت عنه غافلا فجئته صلى الله عليه وسلم فقلت: تزوّجني فاطمة، قال: وعندك شيء؟ قلت فرسي وبدني: أي درعي، قال: أما فرسك فلا بدّ لك منها، وأما بدنك فبعها فبعتها بأربعمائة وثمانين درهما فجئته صلى الله عليه وسلم بها فوضعها في حجره فقبض منها قبضة فقال: أي بلال ابتع لنا بها طيبا.
وفي رواية «لما خطبها قال له صلى الله عليه وسلم ما تصدقها» وفي لفظ «هل عندك شيء تستحلها به؟ قال: ليس عندي شيء، قال: فأين درعك الحطمية التي أعطيتك يوم كذا وكذا؟ قال عندي، فباعها من عثمان بن عفان بأربعمائة وثمانين درهما. ثم إن عثمان رضي الله عنه رد الدرع إلى علي كرم الله وجهه فجاء عليّ بالدرع والدراهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا لعثمان بدعوات» .
وفي فتاوى الجلال السيوطي أنه سئل هل لصحة ما قيل إن عثمان بن عفان رأى درع علي رضي الله تعالى عنهما يباع بأربعمائة درهم ليلة عرسه على فاطمة رضي الله عنها فقال عثمان: هذا درع علي فارس الإسلام لا يباع أبدا، فدفع لغلام علي أربعمائة درهم وأقسم أن لا يخبره بذلك ورد الدرع معه، فلما أصبح عثمان وجد في داره أربعمائة كيس، في كل كيس أربعمائة درهم، مكتوب على كل درهم:
هذا ضرب الرحمن لعثمان بن عفان، فأخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: هنيئا لك يا عثمان.
وفيها أيضا أن عليا خرج ليبيع إزار فاطمة ليأكل بثمنه، فباعه بستة دراهم، فسأله سائل فأعطاه إياه، فجاء جبريل في صورة أعرابي ومعه ناقة، فقال: يا أبا(2/281)
الحسن اشتر هذه الناقة، قال: ما معي ثمنها، قال: إلى أجل، فاشتراها بمائة ثم عرض له ميكائيل في صورة رجل في طريقه، فقال: أتبيع هذه الناقة؟ قال نعم، قال: بكم اشتريتها؟ قال: بمائة، قال: آخذها بمائة ولك من الربح ستون، فباعها له، فعرض له جبريل فقال: بعت الناقة؟ قال نعم، قال: ادفع إليّ ديني، فدفع له مائة ورجع بستين، فقالت له فاطمة: من أين لك هذا؟ قال: ضاربت مع الله بستة فأعطاني ستين، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فقال: البائع جبريل والمشتري ميكائيل، والناقة لفاطمة تركبها يوم القيامة له أصل أم لا؟.
فأجاب عن ذلك كله بأنه لم يصح، أي وهي تصدق بأن ذلك لم يرد فهو من الكذب الموضوع.
ولما أراد صلى الله عليه وسلم أن يعقد خطب خطبة منها «الحمد لله المحمود بنعمته، المعبود بقدرته، الذي خلق الخلق بقدرته، وميزهم بحكمته، ثم إن الله عز وجل جعل المصاهرة نسبا وصهرا وكان ربك قديرا. ثم إن الله أمرني أن أزوج فاطمة من عليّ على أربعمائة مثقال فضة، أرضيت يا علي؟ قال رضيت» بعد أن خطب علي كرّم الله وجهه أيضا خطبة منها: الحمد لله شكرا لأنعمه وأياديه، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة تبلغه وترضيه: أي وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال «يا عليّ اخطب لنفسك، فقال عليّ الحمد لله الذي لا يموت، وهذا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم زوّجني ابنته فاطمة على صداق مبلغه أربعمائة درهم فاسمعوا ما يقول واشهدوا. قالوا: ما تقول يا رسول الله؟ قال:
أشهدكم أني قد زوّجته» كذا رواه ابن عساكر. قال الحافظ ابن كثير: وهذا خبر منكر. وقد ورد في هذا الفصل أحاديث كثيرة منكرة وموضوعة أضربنا عنها.
ولما تمّ العقد دعا صلى الله عليه وسلم بطبق بسر فوضع بين يديه ثم قال للحاضرين انتهبوا.
وقول علي كرم الله وجهه: نبهاني لأمر كنت عنه غافلا لا ينافي ما روي عن أسماء بنت عميس أنها قالت: قيل لعلي: ألا تتزوج بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ما لي صفراء ولا بيضاء ولست بمأبور بالباء الموحدة: يعني غير الصحيح الدين، ولا المتهم في الإسلام: أي لا أخشى الفاحشة إذا لم أتزوج. وليلة بنى بها قال صلى الله عليه وسلم لعلي: لا تحدث شيئا حتى تلقاني، فجاءت بها أم أيمن حتى قعدت في جانب البيت وعليّ في جانب آخر، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لفاطمة ائتيني بماء، فقامت تعثر في ثوبها. وفي لفظ في مرطها من الحياء، فأتته بقعب فيه ماء، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومج فيه، ثم قال لها: تقدمي، فتقدمت، فنضح بين ثدييها وعلى رأسها وقال: اللهم إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم. ثم قال: ائتوني بماء، فقال علي كرم الله وجهه: فعلمت الذي يريد، فقمت وملأت القعب فأتيته به، فأخذه فمج فيه وصنع بي كما صنع بفاطمة ودعا لي بما دعا لها به، ثم قال: اللهم بارك فيهما،(2/282)
وبارك عليهما، وبارك لهما في شملهما: أي الجماع، وتلا: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) والمعوذتين، ثم قال أدخل بأهلك باسم الله والبركة، وكان فراشها إهاب كبش: أي جلده، وكان لهما قطيفة إذا جعلاها بالطول انكشفت ظهورهما وإذا جعلاها بالعرض انكشفت رؤوسهما.
ثم مكث صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام لا يدخل على فاطمة. وفي اليوم الرابع دخل عليهما في غداة باردة وهما في تلك القطيفة، فقال لهما: كما أنتما وجلس عند رأسهما ثم أدخل قدميه وساقيه بينهما، فأخذ علي كرم الله وجهه إحداهما فوضعها على صدره وبطنه ليدفئها وأخذت فاطمة رضي الله عنها الأخرى فوضعتها كذلك.
وقالت له في بعض الأيام: يا رسول الله ما لنا فراش إلا جلد كبش ننام عليه بالليل ونعلف عليه ناضحنا بالنهار، فقال لها صلى الله عليه وسلم يا بنية اصبري، فإن موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام أقام مع امرأته عشر سنين ليس لهم فراش إلا عباءة قطوانية: أي وهي نسبة إلى قطوان: موضع بالكوفة، أي ولعل العباءة التي كانت تجلب من ذلك الموضع كانت صفيقة. وعن علي رضي الله تعالى عنه: لم يكن لي خادم غيرها.
وعنه رضي الله تعالى عنه «لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأني لأربط الحجر على بطني من الجوع، وإن صدقتي اليوم لتبلغ أربعين ألف دينار» ولعل المراد في السنة.
قال الإمام أحمد بن حنبل: ما ورد لأحد من الصحابة ما ورد لعلي رضي الله تعالى عنه أي من ثنائه صلى الله عليه وسلم عليه.
وسبب ذلك أنه كثرت أعداؤه والطاعنون عليه من الخوارج وغيرهم، فاضطر لذلك الصحابة أن يظهر كل منهم من فضله ما حفظه ردا على الخوارج وغيرهم.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ما نزل في أحد من الصحابة من كتاب الله ما نزل في عليّ. نزل في عليّ ثلاثمائة آية.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: كل ما تكلمت به في التفسير فإنما أخذته عن علي كرم الله وجهه.
ومن كلماته البديعة الوجيزة: لا يخافنّ أحد إلا ذنبه، ولا يرجونّ إلا ربه، ولا يستحي من لا يعلم أن يتعلم، ولا من يعلم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول الله أعلم.
ما أبردها على الكبد إذا سئلت عما لا أعلم أن أقول الله أعلم.
ومن ذلك: العالم من عمل بما علم ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، تخالف سريرتهم علانيتهم، ويخالف علمهم(2/283)
عملهم، يجلسون حلقا فيباهي بعضهم بعضا، حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم من مجالسهم تلك إلى الله.
وقال صلى الله عليه وسلم لعلي «يهلك فيك رجلان: محب مطر، وكذاب مفتر مكره لك يأتي بالكذب المفترى» وقال له «يا علي ستفترق أمتي فيك كما افترقت في عيسى ابن مريم» وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال «إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني في أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب، فلا آذن، ثم لا آذن، ثم لا آذن إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم، فإنما هي بضعة مني، يريا بني ما أرابها، ويؤذيني ما آذاها» .
غزوة بني قينقاع
بضم النون وقيل بكسرها أي وقيل بفتحها، فهي مثلثة النون، والضم أشهر:
قوم من اليهود وكانوا أشجع يهود، وكانوا صاغة، وكانوا حلفاء عبادة بن الصامت رضي الله عنه وعبد الله بن أبيّ ابن سلول. فلما كانت وقعة بدر أظهروا البغي والحسد، ونبذوا العهد أي لأنه صلى الله عليه وسلم كان عاهدهم وعاهد بني قريظة وبني النضير أن لا يحاربوه، وأن لا يظاهروا عليه عدوه.
وقيل على أن لا يكونوا معه ولا عليه. وقيل على أن ينصروه صلى الله عليه وسلم على من دهمه من عدوه أي كما تقدم، فهم أول من غدر من يهود؟ فإنه مع ما هم عليه من العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قدمت امرأة من العرب بجلب لها: أي وهو ما يجلب ليباع من إبل وغنم وغيرهما فباعته بسوق بني قينقاع وجلست إلى صائغ منهم. أي وفي الإمتاع أن المرأة كانت زوجة لبعض الأنصار، أي ومعلوم أن الأنصار كانوا بالمدينة، أي وقد يقال: لا مخالفة، لجواز أن تكون زوجة بعض الأنصار من الأعراب وأنها جاءت بجلب لها، فجعلوا أي جماعة منهم يراودونها عن كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها. قال وفي رواية: خله بشوكة وهي لا تشعر، فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا منها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون أي وتقدم وقوع مثل ذلك، وأنه كان سببا لوقوع حرب الفجار الأول.
ولما غضب المسلمون على بني قينقاع أي وقال لهم صلى الله عليه وسلم «ما على هذا أقررناهم» تبرأ عبادة بن الصامت رضي الله عنه من حلفهم، أي قال: يا رسول الله أتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وتشبث به عبد الله بن أبي ابن سلول أي لم يتبرأ من حلفهم كما تبرأ منه عبادة بن الصامت، أي وفيه نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [المائدة: الآية 51] إلى(2/284)
قوله فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ [المائدة: الآية 56] فجمعهم صلى الله عليه وسلم وقال لهم «يا معشر يهود احذروا من الله مثل ما أنزل بقريش من النقمة» أي ببدر «وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أني مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله تعالى إليكم، قالوا: يا محمد إنك ترى أنا قومك أي تظننا أنا مثل قومك، ولا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت لهم فرصة، إنا والله لو حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس» وفي لفظ «لتعلمن أنك لم تقاتل مثلنا» أي لأنهم كانوا أشجع اليهود وأكثرهم أموالا وأشدهم بغيا، فأنزل الله تعالى قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ [آل عمران: الآية 12] الآية، أي وأنزل الله وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ [الأنفال: الآية 58] الآية فتحصنوا في حصونهم، فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولواؤه وكان أبيض بيد عمه حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه.
قال ابن سعد: ولم تكن الرايات يومئذ.
وقد قدّمنا أن هذا يرده ما تقدم في ضمن غزاة بدر من أنه كان أمامه رايتان سوداوتان إحداهما مع علي ويقال لها العقاب، ولعلها سميت بذلك في مقابلة الراية التي كانت في الجاهلية تسمى بهذا الاسم، ويقال لها راية الرؤساء، لأنه كان لا يحملها في الحرب إلا رئيس، وكانت في زمنه صلى الله عليه وسلم مختصة بأبي سفيان رضي الله عنه، لا يحملها في الحرب إلا هو أو رئيس مثله إذا غاب كما في يوم بدر.
والأخرى مع بعض الأنصار، وسيأتي في خيبر أن العقاب كان قطعة من برد لعائشة رضي الله عنها.
واستخلف صلى الله عليه وسلم على المدينة أبا لبابة، وحاصرهم خمس عشرة ليلة أشد الحصار، لأن خروجه صلى الله عليه وسلم كان في نصف شوّال، واستمر إلى هلال ذي القعدة الحرام، فقذف الله في قلوبهم الرعب وكانوا أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخلي سبيلهم، وأن يجلوا من المدينة: أي يخرجوا منها، وأن لهم نساءهم والذرية وله صلى الله عليه وسلم الأموال، أي ومنها الحلقة التي هي السلاح. والظاهر من كلامهم أنه لم يكن لهم نخيل ولا أرض تزرع، وخمست أموالهم أي مع كونها فيئا له صلى الله عليه وسلم لأنها لم تحصل بقتال ولا جلوا عنها قبل التقاء الصفين، فكان له صلى الله عليه وسلم ولأصحابه الأربعة الأخماس.
أقول: ولا يخفى أن من جملة أموالهم دورهم، ولم أقف على نقل صريح دال على ما فعل بها، وعلم أنه صلى الله عليه وسلم جعل هذا الفيء كالغنيمة. ومذهبنا معاشر الشافعية أن الفيء المقابل للغنيمة كالواقع في هذه الغزوة وغزوة بني النضير الآتية كان في زمنه صلى الله عليه وسلم يقسم خمسة أقسام، له صلى الله عليه وسلم أربعة منها، والقسم الخامس يقسم خمسة أقسام له صلى الله عليه وسلم منها قسم، فيكون له أربعة أخماس وخمس الخمس والأربعة الأخماس الباقية من الخمس، منها واحد لذوي القربى، وآخر لليتامى، وآخر للمساكين، وآخر لابن(2/285)
السبيل، فجميع مال الفيء مقسوم على خمسة وعشرين سهما منها أحد وعشرون سهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأربعة أسهم لأربعة أصناف، هم: ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، ولعل إمامنا الشافعي رضي الله عنه رأى أن ذلك كان أكثر أحواله صلى الله عليه وسلم وإلا فهو هنا وفي بني النضير كما سيأتي لم يفعل ذلك بل خمسه هنا، ثم استقل به: أي لم يعط الجيش منه، وقد جعل صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى بين بني هاشم أي وبنات هاشم وبني أي وبنات المطلب دون بني أخويهما عبد شمس ونوفل من أن الأربعة أولاد عبد مناف كما تقدم.
ولما فعل ذلك جاء إليه صلى الله عليه وسلم جبير بن مطعم من بني نوفل وعثمان بن عفان من بني عبد شمس فقالا: يا رسول الله، هؤلاء إخواننا من بني هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله منهم، أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا» وفي لفظ «ومنعتنا وإنما قرابتنا وقرابتهم واحدة» وفي رواية «أن بني هاشم شرفوا بمكانك منهم وبنو المطلب، ونحن ندلي إليك بنسب واحد ودرجة واحدة فبم فضلتهم علينا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيئا واحد هكذا، وشبك بين أصابعه» زاد في رواية «أنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا في إسلام» أي لأن الصحيفة إنما كتبت على بني هاشم والمطلب، لأنهم هم الذين قاموا دونه صلى الله عليه وسلم ودخلوا الشعب.
وبعده صلى الله عليه وسلم صار الفيء أربعة أخماس للمرتزقة المرصدة للجهاد؟ وخمس الخامس لمصالح المسلمين، والخمس الثاني منه لذوي القربى، والخمس الثالث منه لليتامى، والخمس الرابع منه للمساكين، والخمس الباقي منه لابن السبيل.
ثم لا يخفى أنه صلى الله عليه وسلم إذا كان مع الجيش وغنم شيئا بقتال أو إيجاف خيل أو جلا عنه أهله بعد التقاء الصفين كان من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن يختار من ذلك قبل قسمته، ويقال لهذا الذي يختاره الصفيّ والصفية كما تقدم.
أقول: وتقدم عن الإمتاع عن محمد بن أبي بكر رضي الله عنهما خلافه، وتقدم هل صفيه صلى الله عليه وسلم كان محسوبا عليه من سهمه أو لا؟ قيل نعم، وقيل كان خارجا عنه وتقدم الجواب عن ذلك في غزاة بدر أن هذا الخلاف لا ينافي الجزم ثم بأنه كان زائدا على سهمه صلى الله عليه وسلم، لأن ذلك قبل نزول آية تخميس الغنيمة، فكان سهمه صلى الله عليه وسلم كسهم واحد من الجيش، فصفيه يكون زائدا على ذلك.
وأما سهمه صلى الله عليه وسلم بعد نزول آية التخميس للغنيمة فهو خمس الغنيمة، فيجري فيما يأخذه قبل القسمة الخلاف، هل يكون زائدا على ذلك الخمس أو يكون محسوبا منه؟ فلا مخالفة بين إجراء الخلاف والجزم، والله أعلم.(2/286)
وقيل لما نزلت بنو قينقاع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتفوا فكتفوا فأراد قتلهم، فكلمه فيهم عبد الله بن أبي ابن سلول وألح عليه؛ أي فقال: يا محمد أحسن في مواليّ فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم، فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلفه، أي وتلك الدرع هي ذات الفضول، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك أرسلني وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه سمرة لشدة غضبه، ثم قال: ويحك أرسلني، فقال:
والله لا أرسلك حتى تحسن في مواليّ، فإنهم عترتي وأنا امرؤ أخشى الدوائر، فقال صلى الله عليه وسلم: خلوهم لعنهم الله ولعنه معهم، وتركهم من القتل، أي وقال له: خذهم لا بارك الله لك فيهم، وأمر صلى الله عليه وسلم أن يجلوا من المدينة؛ أي ووكل بإجلائهم عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه وأمهلهم ثلاثة أيام فجلوا منها بعد ثلاث، أي بعد أن سألوا عبادة بن الصامت أن يمهلهم فوق الثلاث، فقال: لا ولا ساعة واحدة، وتولى إخراجهم، وذهبوا إلى أذرعات بلدة بالشام، أي ولم يدر الحول عليهم حتى هلكوا أجمعون بدعوته صلى الله عليه وسلم في قوله لابن أبيّ «لا بارك الله لك فيهم» .
ويذكر أن ابن أبيّ قبل خروجهم جاء إلى منزله صلى الله عليه وسلم يسأله في إقرارهم فحجب عنه، فأراد الدخول، فدفعه بعض الصحابة فصدم وجهه الحائط فشجه، فانصرف مغضبا، فقال بنو قينقاع: لا نمكث في بلد يفعل فيه بأبي الحباب هذا ولا تنتصر له وتأهبوا للجلاء. قال: وقيل الذي تولى إخراجهم محمد بن مسلمة رضي الله عنه، أي ولا مانع أن يكونا: أي عبادة بن الصامت ومحمد بن مسلمة اشتركا في إخراجهم.
ووجد صلى الله عليه وسلم في منازلهم سلاحا كثيرا، أي لأنهم كما تقدم أكثر يهود أموالا وأشدهم بأسا، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلاحهم ثلاث قسيّ، قوسا يدعى الكتوم:
أي لا يسمع له صوت إذا رمى به، وهو الذي رمى به صلى الله عليه وسلم يوم أحد حتى تشظى بالظاء المشالة كما سيأتي وسيأتي ما فيه، وقوسا يدعى الروحاء، وقوسا يدعى البيضاء، وأخذ درعين: درعا يقال له السغدية أي بسين مهملة وغين معجمة، ويقال إنها درع داود التي لبسها صلى الله عليه وسلم حين قتل جالوت، والأخرى يقال لها فضة، وثلاث أرماح، وثلاثة أسياف: سيف يقال له قلعي، وسيف يقال له بتار، والآخر لم يسم انتهى أي وسماه بعضهم بالحيف، ووهب صلى الله عليه وسلم درعا لمحمد بن مسلمة، ودرعا لسعد بن معاذ رضي الله عنهما والله تعالى أعلم.
غزوة السويق
لما أصاب قريشا في بدر ما أصابهم نذر أبو سفيان أن لا يمس رأسه ماء من جنابة: أي لا يأتي النساء، ولعل هذه العبارة وهي لا يمس رأسه ماء من جنابة وقعت(2/287)
من بعض الصحابة. مراده بها ما ذكر من أنه لا يأتي النساء. ويؤيده ما جاء في بعض الروايات: لا يمس النساء والطيب حتى يغزو محمدا؛ أو أن ذلك قاله أبو سفيان، بناء على أنهم كانوا يغتسلون من الجنابة.
ومن ثم ذكر الدميري أن الحكمة في عدم بيان الغسل في آية الوضوء كون الغسل من الجنابة كان معلوما قبل الإسلام بقية من دين إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام، فهو من الشرائع القديمة.
وفي كلام بعضهم: كانوا في الجاهلية يغتسلون من الجنابة، ويغسلون موتاهم ويكفنونهم، ويصلون عليهم؛ وهو أن يقوم وليه بعد أن يوضع على سريره ويذكر محاسنه ويثني عليه، ثم يقول: عليك رحمة الله ثم يدفن.
وما ذكره الدميري تبع فيه السهيلي حيث قال: إن الغسل من الجنابة كان معمولا به في الجاهلية بقية من دين إبراهيم وإسماعيل، كما بقي فيهم الحج والنكاح، فكان الحدث الأكبر معروفا عندهم، ولذلك قال تعالى وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا [المائدة: الآية 6] فلم يحتاجوا إلى تفسيره. وأما الحدث الأصغر فلما لم يكن معروفا عندهم قبل الإسلام لم يقل وإن كنتم محدثين فتوضؤوا، بل قال فَاغْسِلُوا [المائدة: الآية 6] الآية.
فخرج أبو سفيان في مائتي راكب من قريش ليبر بيمينه حتى نزل بمحل بينه وبين المدينة نحو بريد. ثم أتى لبني النضير: أي وهم حي من يهود خيبر ينسبون إلى هارون أخي موسى بن عمران عليهما الصلاة والسلام تحت الليل، فأتى حيي بن أخطب، أي وهو من رؤساء بني النضير وهو أبو صفية أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، فضرب عليه بابه، فأبى أن يفتح له، لأنه خافه، فانصرف عنه وجاء إلى سلام بن مشكم سيد بني النضير أي وصاحب كنزهم: أي المال الذي كانوا يجمعونه ويدخرونه لنوائبهم وما يعرض لهم أي وكان حليا يعيرونه لأهل مكة، فاستأذن عليه، فأذن له واجتمع به، ثم خرج إلى أصحابه، فبعث رجالا من قريش فأتوا ناحية من المدينة فحرقوا نخلا منها ووجدوا رجلا من الأنصار. قال في الإمتاع: وهذا الأنصاري هو معبد بن عمرو وحليفا لهم فقتلوهما ثم انصرفوا راجعين، فعلم بهم الناس، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبهم في مائتين من المهاجرين والأنصار: أي واستعمل صلى الله عليه وسلم على المدينة بشير بن عبد المنذر. وكان خروجه لخمس خلون من ذي الحجة.
وجعل أبو سفيان وأصحابه يخففون للهرب أي لأجله، فجعلوا يلقون جرب السويق أي وهو قمح أو شعير يقلى ثم يطحن ليسفّ، تارة بماء، وتارة بسمن، وتارة بعسل وسمن وهو عامة أزوادهم، فيأخذه المسلمون ولم يلحقوا بهم، وانصرف(2/288)
رسول الله راجعا إلى المدينة، وكانت غيبته خمسة أيام.
غزوة قرقرة الكدر
ويقال قرقرة الكدرة ويقال قراقر. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعا من بني سليم وغطفان بقرقرة الكدر: أي لعله بلغه أنهم يريدون الإغارة على المدينة بعد أن غزاهم صلى الله عليه وسلم كما تقدم. وقرقرة الكدر: أرض ملساء فيها طيور في ألوانها كدرة عرف بها ذلك الموضع، كما تقدم أن الماء الذي بأرضهم الذي بلغه صلى الله عليه وسلم ولم يجد به أحدا منهم يسمى الكدر، لوجود ذلك الطير به، فسار إليهم في مائتين من أصحابه، وحمل لواءه عليّ بن أبي طالب، واستخلف على المدينة ابن أمّ مكتوم، وتقدم في تلك أنه استخلف على المدينة سباع بن عرفطة أو ابن أمّ مكتوم وتقدم ما فيه، فلما سار إليه أي إلى ذلك الموضع لم يجد به أحدا، وأرسل نفرا من أصحابه إلى أعلى الوادي واستقبلهم في بطن الوادي فوجد خمسمائة بعير مع رعاة، منهم غلام يقال له يسار فحازوها وانحدروا بها إلى المدينة، فلما كانوا بمحل على ثلاثة أميال من المدينة خمسها صلى الله عليه وسلم، فأخرج خمسة وقسم الأربعة الأخماس على أصحابه، فخص كل رجل منهم بعيران، ووقع يسار في سهمه صلى الله عليه وسلم، فأعتقه صلى الله عليه وسلم لأنه رآه يصلي أي وقد أسلم، وتعلم الصلاة من المسلمين بعد أسره، أي وفي كون هذا غنيمة حيث قسمه كذلك وقفة.
وكانت مدة غيبته صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة، فعلم أنه صلى الله عليه وسلم غزا بني سليم؛ وأنه وصل إلى ماء من مياههم يقال له الكدر لوجود ذلك الطير به، وأنه استعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري أو ابن أمّ مكتوم. وهنا وقع الجزم بالثاني، وأن الأولى لم يذكر أنه وجد فيها شيئا من النعم.
وظاهر هذا يدل على التعدد، وجرى عليه الأصل، أي وحينئذ تكون تلك الطيور توجد في ذلك الماء وفي تلك الأرض. فعلى هذا يكون صلى الله عليه وسلم غزا بني سليم مرتين: مرة وصل فيه لذلك الماء ولم يجد شيئا من النعم، ومرة وصل فيها لتلك الأرض ووجد بها تلك النعم، ولم أقف على أن محل ذلك الماء سابق على تلك الأرض، أو أن تلك الأرض سابقة على محل ذلك الماء.
وفي السيرة الشامية أن غزوة بني سليم هي غزوة قرقرة الكدر، فعليه يكون إنما غزا بني سليم مرة واحدة، أي وحينئذ يكون الماء الذي كان به ذلك الطير كان في تلك الأرض الملساء أو قريبا منها، فليتأمل. والحافظ الدمياطي جعل غزوة بني سليم هي غزوة بحران الآتية؛ وسنذكرها.(2/289)
غزوة ذي أمرّ
بتشديد الراء: اسم ماء، أي وسماها الحاكم غزوة أنمار، ويقال إنها غزوة غطفان.
بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلا يقال له دعثور بضم الدال وإسكان العين المهملتين ثم مثلثة مضمومة ابن الحارث: أي الغطفاني من بني محارب جمع جمعا من ثعلبة ومحارب بذي أمر: أي وهو موضع من ديار غطفان، أي ولعل به ذلك الماء المسمى بما ذكر كما تقدم، يريدون أن يصيبوا من أطراف المدينة، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أربعمائة وخمسين رجلا لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان، وأصاب أصحابه رجلا منهم: أي يقال له جبار، وقيل حباب بكسر الحاء المهملة وبالباء الموحدة من بني ثعلبة، فأدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره من خبرهم، أي وقال له: لن يلاقوك ولو سمعوا بمسيرك إليهم هربوا في رؤوس الجبال، وأنا سائر معك، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم للإسلام فأسلم وضمه صلى الله عليه وسلم إلى بلال، أي وأخذ به ذلك الرجل طريقا وهبط به عليهم، فسمعوا بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم فهربوا في رؤوس الجبال: أي فبلغوا ماء يقال له ذو أمر، فعكسر به صلى الله عليه وسلم، وأصابهم مطر أي كثير بلّ ثياب رسول الله صلى الله عليه وسلم وثياب أصحابه فنزع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبيه ونشرهما على شجرة ليجفا، واضطجع أي بمرأى من المشركين واشتغل المسلمون في شؤونهم فبعث المشركون دعثورا الذي هو سيد القوم وأشجعهم المجمع لهم:
أي فقالوا له: قد انفرد محمد فعليك به أي وفي لفظ أنه لما رآه قال: قتلني الله إن لم أقتل محمدا، فجاء دعثور ومعه سيفه حتى قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: من يمنعك مني اليوم؟ وفي رواية الآن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله، ودفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده، أي بعد وقوعه على ظهره، فأخذ السيف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: من يمنعك مني؟ قال لا أحد، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله. وفي رواية وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، ثم أتى قومه أي بعد أن أعطاه صلى الله عليه وسلم سيفه فجعل يدعوهم إلى الإسلام، وأخبرهم أنه رأى رجلا طويلا دفع في صدره فوقع على ظهره، فقال: علمت أنه ملك فأسلمت، ونزلت هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ [المائدة: الآية 11] الآية، ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولم يلق حربا، وكانت مدة غيبته إحدى عشرة ليلة.(2/290)
غزوة بحران
بفتح الموحدة وتضم وسكون الحاء المهملة، وعبر عنها الحافظ الدمياطي بغزوة بني سليم كما تقدم.
لما بلغه صلى الله عليه وسلم أن ببحران: وهو موضع بالحجاز معروف، بينه وبين المدينة ثمانية برد جمعا كثيرا من بني سليم، خرج في ثلاثمائة من أصحابه لست خلون من جمادى الأولى، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، أي ولم يظهر وجها للسير وأحث السير حتى بلغ بحران، فوجدهم قد تفرقوا في مياههم، أي وكان صلى الله عليه وسلم قبل أن يصل إلى ذلك بليلة لقي رجلا من بني سليم، فأخبره أن القوم تفرقوا، فحبسه مع رجل وسار إلى أن وجدهم كذلك، فأطلق الرجل، وأقام بذلك المحل أياما، ثم رجع ولم يلق حربا، وكانت غيبته عشر ليال.
وعلى مقتضى هذا السياق تبعا للأصل يكون غزا بني سليم ثلاث مرات: مرة عقب بدر، وهذه الغزوة، وغزوة ذي أمر كانتا في السنة الثالثة من الهجرة.
وفي تلك السنة التي هي الثالثة عقد عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، على أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موت أختها رقية، وتقدم وقت موتها.
وعقد صلى الله عليه وسلم على حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، وذلك في شعبان لما انقضت عدة وفاة زوجها خنيس بن حذيفة من شهداء بدر، بعد أن عرضها عمر على أبي بكر فلم يجبه لشيء، وعرضها على عثمان فلم يجبه لشيء، فقال عمر: يا رسول الله قد عرضت حفصة على عثمان فأعرض عني، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله قد زوّج عثمان خيرا من ابنتك، وزوج ابنتك خيرا من عثمان» فتزوج عثمان أم كلثوم، وتزوّج صلى الله عليه وسلم حفصة.
وتزوّج أيضا صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة في رمضان. وتزوّج زينب بنت جحش بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب في تلك السنة.
وقيل تزوّجها في السنة الرابعة، وصححها في الأصل. وقيل في الخامسة، وكان اسمها برة بفتح الموحدة، واسم أمها برة بضمها، فغير صلى الله عليه وسلم اسمها وسماها زينب، وقال لها صلى الله عليه وسلم «لو كان أبوك مسلما لسميناه باسم رجل منا، ولكن قد سميته جحشا» أي والجحش في اللغة السيد.
وقد كان صلى الله عليه وسلم جاء إليها ليخطبها لمولاه زيد بن حارثة، فقالت: لست بناكحته، قال: بل فانكحيه، قالت: يا رسول الله أؤامر: أي أشاور نفسي فإني خير منه حسبا، فأنزل الله تعالى وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ(2/291)
أَمْرِهِمْ [الأحزاب: الآية 36] الآية، فقالت عند ذلك رضيت.
وفي رواية أنها وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فزوّجها من زيد، فسخطت هي وأخوها، وقالا: إنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجها عبده فنزلت الآية.
أي وعن مقاتل «أن زيد بن حارثة لما أراد أن يتزوّج زينب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله اخطب علي؟ قال له: من؟ قال: زينب بنت جحش، فقال له:
لا أراها تفعل، إنها أكرم من ذلك نسبا، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كلمتها أنت وقلت زيد أكرم الناس عليّ فعلت، قال: إنها امرأة لسناء» أي فصيحة، والمراد لسانها طويل، فذهب زيد إلى علي رضي الله تعالى عنه، فحمله على أن يكلم له النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلق معه عليّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه، فقال: إني فاعل ذلك ومرسلك يا علي إلى أهلها لتكلمهم ففعل، ثم عاد فأخبره بكراهتها وكراهة أخيها لذلك فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم يقول: قد رضيته لكم، وأقضي أن تنكحوه، فانكحوه، وساق إليهم عشرة دنانير وستين درهما ودرعا وخمارا وملحفة وإزارا وخمسين مدا من الطعام وعشرة أمداد من التمر أعطاه ذلك كله رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم بعد ذلك جاء صلى الله عليه وسلم بيت زيد يطلبه فلم يجده، فتقدمت إليه زينب، فأعرض عنها، فقالت له: ليس هو هنا يا رسول الله فادخل، فأبى أن يدخل وأعجبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي لأن الريح رفعت الستر فنظر إليها من غير قصد فوقعت في نفسه صلى الله عليه وسلم، فرجع وهو يقول «سبحان مصرّف القلوب» وفي رواية «مقلب القلوب» وسمعته زينب يقول ذلك، فلما جاء زيد أخبرته الخبر، فجاء إليه صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله لعل زينب أعجبتك فأفارقها لك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك زوجك، فما استطاع زيد إليها سبيلا بعد ذلك اليوم، أي فلم يستطع أن يغشاها من حين رآها صلى الله عليه وسلم إلى أن طلقها.
فعنها رضي الله تعالى عنها: لما وقعت في قلب النبي صلى الله عليه وسلم لم يستطعني زيد وما امتنعت منه، وصرف الله تعالى قلبه عني، وجاءه يوما وقال له: يا رسول الله إن زينب اشتدّ عليّ لسانها وأنا أريد أن أطلقها، فقال له اتق الله وأمسك عليك زوجك، فقال: استطالت عليّ، فقال له إذن طلقها فطلقها. فلما انقضت عدّتها أرسل زيدا لها فقال له اذهب فاذكرها عليّ فانطلق، قال: فلما رأيتها عظمت في صدري، فقلت: يا زينب أبشري أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك، قالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي: أي أستخيره. فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس يتحدث مع عائشة إذ نزل عليه الوحي بأن الله زوّجه زينب، فسريّ عنه وهو يبتسم، وهو يقول: من يذهب إلى زينب فيبشرها أن الله زوجنيها من السماء؟ وجاء إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن، قالت: دخل عليّ وأنا مكشوفة الشعر، فقلت: يا رسول الله بلا خطبة ولا إشهاد؛ قال: الله المزوج، وجبريل الشاهد، أي وأنزل الله تعالى وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ(2/292)
وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ [الأحزاب: الآية 37] الآية، فهذه الآية نزلت في زيد رضي الله عنه وقد قالها صلى الله عليه وسلم في حق ولده أسامة، فقد جاء «أحب أهلي إليّ من أنعم الله وأنعمت عليه أسامة بن زيد وعلي بن أبي طالب» فنعمة الله على زيد وعلى ولده أسامة الإسلام. ونعمة النبي صلى الله عليه وسلم عليهما العتق، لأن عتق أبيه عتق له تأمل.
وإنما توجه هذا العتب أي لأن الله تعالى كان أعلم نبيه أن زينب ستكون من أزواجه صلى الله عليه وسلم، فلما شكا إليه زيد قال له أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب: الآية 37] وأخفى منه في نفسه ما الله مبديه ومظهره، وهو ما أعلمه الله به من أنك ستتزوّجها، فالذي أخفاه ما كان الله أعلمه به وَتَخْشَى النَّاسَ [الأحزاب: الآية 37] أي اليهود والمنافقين أن يقولوا تزوج امرأة ابنه وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ [الأحزاب: الآية 37] في إمضاء ما أحبه ورضيه لك وأعطاك إياه.
وقد جعل الله تعالى طلاق زيد لها وتزوّج النبي صلى الله عليه وسلم إياها لإزالة حرمة التبني.
قال تعالى لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ [الأحزاب: الآية 37] .
وأو لم صلى الله عليه وسلم عليها بما لم يولم به على نسائه وذبح شاة وأطعم، فخرج الناس وبقي رجال يتحدّثون في البيت بعد الطعام، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ففي البخاري «فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يخرج ثم يرجع وهم قعود يتحدثون» وفي البخاري أيضا «فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلق إلى حجرة عائشة، فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، فقالت: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته كيف وجدت أهلك، بارك الله لك، ثم دخل حجر نسائه كلهنّ يقول كما قال لعائشة، ويقلن له كما قالت عائشة. ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم فوجد القوم في البيت يتحدثون قال أنس رضي الله تعالى عنه: وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء، فخرج فطلبها إلى حجرة عائشة، فأخبر أن القوم خرجوا، فرجع حتى وضع رجله في أسكفة البيت داخله وأخرى خارجه أرخى الستر بيني وبينه فنزلت آية الحجاب» . قال في الكشاف وهي أدب الله تعالى به الثقلاء.
وفي مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت «خرجت سودة بعد ما ضرب علينا الحجاب تقضي حاجتها أي بالمناصع: محل كان أزواجه صلى الله عليه وسلم يخرجن إليه بالليل للتبرز، وكانت امرأة جسيمة، فرآها عمر بن الخطاب، فقال: يا سودة والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين، فانكفأت راجعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي ليتعشى وفي يده عرق، فدخلت، فقالت: يا رسول الله إني خرجت، فقال لي عمر كذا وكذا، قالت: فأوحى الله تعالى إليه، ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه، فقال: إنه قد أذن لكنّ أن تخرجن لحاجتكن» وكان قول عمر لسودة ما ذكر حرصا على أن ينزل الحجاب. قالت عائشة رضي الله تعالى عنها، فأنزل الله الحجاب، وفيه أنه تقدم(2/293)
عنها أن قول عمر لسودة كان بعد أن ضرب الحجاب.
وقد يقال المراد بالحجاب هنا عدم خروجنّ للبراز فلا ترى أشخاصهنّ، والحجاب المتقدم عدم رؤية شيء من أبدانهن فلا مخالفة فليتأمل.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت «دخلت على زينب بنت جحش وعندي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبلت عليه، فقالت له: ما كل واحدة منا عندك إلا على خلاء: أي على ما أردت، ثم أقبلت عليّ تسبني فردعها النبي صلى الله عليه وسلم فلم تنته. فقال لي سبيها فسببتها وكنت أطول لسانا منها حتى جف ريقها في فمها، ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل سرورا» أي وفي يوم غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على زينب لقولها في صفية بنت حيي:
تلك اليهودية، فهجرها لذلك ذا الحجة والمحرم وبعض صفر، ثم أتاها بعد وعاد إلى ما كان معها.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت «أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم تستأذن والنبي صلى الله عليه وسلم معي، فأذن لها فدخلت عليه، فقالت: يا رسول الله إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة» أي أن تعدل بينهنّ وبينها «فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أي بنية ألست تحبين ما أحب؟ فقالت بلى، قال فأحبي هذه يعنيني، فقامت فاطمة فخرجت فجاءت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فحدثتهنّ بما قالت وبما قال لها فقلن لها: ما أغنيت عنا من شيء، فارجعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: والله لا أكلمه فيها أبدا.
فأرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش فاستأذنت عليه وهو في بيت عائشة فأذن لها، فدخلت فقالت: يا رسول الله أرسلني أزواجك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة، ثم وقعت: أي زينب بي تسمعني ما أكره، فطفقت أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى يأذن لي فيها، فلم أزل حتى عرفت أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يكره أن أنتصر، فوقعت بها أسمعها ما تكره، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال لها: إنها ابنة أبي بكر» أي محل الفصاحة والشهامة.
وسبب ذلك أي طلبهنّ أن يعدل بينهن وبين عائشة أن الناس كانوا يتحرّون بهداياهم يوم عائشة يبتغون بذلك مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
غزوة أحد
وكانت في شوال سنة ثلاث باتفاق الجمهور. وشذ من قال سنة أربع. وأحد جبل من جبال المدينة، قيل سمي بذلك لتوحده وانفراده عن غيره من الجبال التي هناك، وهذا الجبل يقصد لزيارة سيدنا حمزة ومن فيه من الشهداء. وهو على نحو(2/294)
ميلين، وقيل على ثلاثة أميال من المدينة؛ يقال إن فيه قبر هارون أخي موسى عليهما الصلاة والسلام، وفيه قبض، فواراه موسى به. وكانا قدما حاجين أو معتمرين.
وعن ابن دحية أن هذا باطل بيقين، وأن نص التوراة أنه دفن بجبل من جبال بعض مدن الشام.
وقد يقال لا مخالفة، لأنه يقال المدينة شامية، وقيل دفن بالتيه هو وأخوه موسى عليهما الصلاة والسلام كما تقدم.
قال صلى الله عليه وسلم «إن أحدا هذا جبل يحبنا ونحبه، إذا مررتم به فكلوا من شجره ولو من عضاهه» أي وهي كل شجرة عظيمة لها شوك. والقصد الحث على عدم إهمال الأكل من شجرة تبركا به.
وقال صلى الله عليه وسلم «أحد ركن أركان من أركان الجنة» أي جانب عظيم من جوانبها وفي رواية «على باب من أبواب الجنة» ولا يخالف ما قبله، فإنه جاز أن يكون ركنا بجانب الباب. وفي رواية «جبل من جبال الجنة» ولا مانع أن تكون المحبة من الجبل على حقيقتها، وضع الحب فيه كما وضع التسبيح في الجبال المسبحة مع داود عليه السلام، وكما وضعت الخشية في الحجارة التي قال الله فيها وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة: الآية 74] .
وقيل هو على حذف مضاف: أي يحبنا أهله وهم الأنصار. أو لأن اسمه مشتق من الأحدية، وأخذ من هذا أنه أفضل الجبال. وقيل أفضلها عرفة. وقيل أبو قبيس وقيل الذي كلم الله عليه موسى. وقيل قاف.
ولما أصاب قريشا يوم بدر ما أصابها مشى عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية رضي الله تعالى عنهم، فإنهم أسلموا بعد ذلك، ورجال أخر من أشراف قريش إلى أبي سفيان رضي الله تعالى عنه، فإنه أسلم بعد ذلك أيضا، وإلى من كان له تجارة في تلك العير: أي التي كان سببها وقعة بدر، وكانت تلك العير موقوفة في دار الندوة لم تعط لأربابها، فقالوا: إن محمدا قد وتركم: أي قتل رجالكم ولم تدركوا دماءهم، وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثأرا عمن أصاب منا: أي وقالوا نحن طيبو النفوس أن تجهزوا بربح هذه العير جيشا إلى محمد، فقال أبو سفيان: وأنا أول من أجاب إلى ذلك وبنو عبد مناف معي فجعلوا لذلك ربح المال، فسلم لأهل العير رؤوس أموالهم وكانت خمسين ألف دينار، وأخرجوا أرباحها وكان الربح لكل دينار دينار أي فكان الذي أخرج خمسين ألف دينار. وقيل أخرجوا خمسة وعشرين ألف دينار، وأنزل الله تعالى في تلك إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ(2/295)
عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ [الأنفال: الآية 36] .
وتجهزت قريش من والاهم من قبائل كنانة وتهامة. وقال صفوان بن أمية لأبي عزة يا أبا عزة إنك رجل شاعر فأعنا بلسانك، ولك عليّ إن رجعت أن أغنيك، وإن أصبت أجعل بناتك مع بناتي، يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر، فقال: إن محمدا قد منّ عليّ أي وأخذ علي أن لا أظاهر عليه أحدا حين أطلقني وأنا أسير في أسارى بدر فلا أريد أن أظاهر عليه، قال بلى فأعنا بلسانك.
فخرج أبو عزة ومسافع يستنفران الناس بأشعارهما. فأما مسافع فلا يعلم له إسلام، لكن في كلام ابن عبد البر: مسافع بن عياض بن صخر القرشي التيمي له صحبة، وكان شاعرا لم يرو شيئا ولا أدري هل هو هذا أو غيره. وأما أبو عزة فظفر به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الوقعة بحمراء الأسد: أي المكان المعروف الآتي بيانه قريبا، وتقدم استطرادا، ثم أمر صلى الله عليه وسلم عاصم بن ثابت فضرب عنقه وحملت رأسه إلى المدينة كما سيأتي، وتقدم استطرادا.
ودعا جبير بن مطعم بن عدي رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك غلاما له حبشيا يقال له وحشي رضي الله تعالى عنه، فإنه أسلم بعد ذلك، وكان يقذف بحرية له قذف الحبشة قلما يخطىء بها، فقال له: اخرج مع الناس، فإن أنت قتلت حمزة عم محمد بعمي طعيمة بن عدي فأنت عتيق، أي لأن حمزة هو القاتل له. وقيل وحشي كان غلاما لطعيمة، وإن ابنة سيده طعيمة قالت له: إن قتلت محمدا أو حمزة أو عليا في أبي فإني لا أدري في القوم كفؤا له غيرهم فأنت عتيق، وخرج معهم النساء بالدفوف.
وفي كلام سبط ابن الجوزي: وساروا بالقيان والدفوف والمعازف والخمور والبغايا، هذا كلامه. وخرج من نساء قريش خمس عشرة امرأة: أي مع أزواجهن.
ومنهنّ هند زوج أبي سفيان رضي الله تعالى عنها، فإنها أسلمت بعد ذلك. أي وأم حكيم بنت طارق مع زوجها عكرمة رضي الله تعالى عنهما، فإنهما أسلما بعد ذلك، وسلافة مع زوجها طلحة بن أبي طلحة، وأم مصعب بن عمير يبكين قتلى بدر وينحن عليهم، يحرضنهم على القتال، وعدم الهزيمة والفرار. وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أرسل به إليه عمه العباس، أي بعد أن راودوه على الخروج معهم، فاعتذر بما لحقه من القوم يوم بدر ولم يساعدهم بشيء، وذلك في كتاب جاء إليه صلى الله عليه وسلم وهو بقباء، أرسله العباس مع رجل استأجره من بني غفار وشرط عليه أن يأتي المدينة في ثلاثة أيام بلياليها ففعل كذلك، فلما جاءه الكتاب فك ختمه ودفعه لأبي فقرأه عليه أبي بن كعب واستكتم أبيا، ونزل صلى الله عليه وسلم على سعد بن الربيع فأخبره بكتاب العباس، أي فقال:
والله إني لأرجو أن يكون خيرا فاستكتمه إياه، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده(2/296)
قالت له امرأته: ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال لها: لا أم لك وما أنت وذاك؟
فقالت: قد سمعت ما قال وأخبرته بما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاسترجع وأخذ بيدها ولحقه صلى الله عليه وسلم فأخبره خبرها وقال: يا رسول الله إني خفت أن يفشو الخبر فترى أني أنا المفشي له وقد استكتمتني إياه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خلّ عنها.
وسارت قريش وهم ثلاثة آلاف رجل. وقال بعض الحفاظ جمع أبو سفيان قريبا من ثلاثة آلاف من قريش والحلفاء والأحابيش، وخرج معه أبو عامر الراهب في سبعين فارسا من الأوس. قال في الأصل: والأحابيش الذين حالفوا قريشا، وهم:
بنو المصطلق وبنو الهون بن خزيمة، اجتمعوا عند حبشي، وهو جبل بأسفل مكة، وتحالفوا على أنهم مع قريش يدا واحدة على غيرهم ما سجى ليل ووضح نهار، ومارسا حبشي مكانه، فسموا أحابيش باسم الجبل. وقيل سموا بذلك لتحبشهم: أي تجمعهم، وفيهم مائتا فارس أي وثلاثة آلاف بعير وسبعمائة دارع حتى نزلوا مقابل المدينة بذي الحليفة: أي وهو ميقات أهل المدينة الذي يحرمون منه، أي وأرجفت اليهود والمنافقون، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عينين له: أي جاسوسين فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبرهم.
ويقال إن عمرو بن سالم الخزاعي مع نفر من خزاعة فارقوا قريشا من ذي طوى وجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه خبرهم وانصرفوا. ولما وصلوا: أي كفار قريش ومن معهم للأبواء أرادوا نبش قبر أمه صلى الله عليه وسلم، والمشير عليهم بذلك هند بنت عتبة زوج أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما، فقالت: لو بحثتم قبر أم محمد فإن أسر منكم أحدا فديتم كل إنسان بأرب من آرابها: أي جزء من أجزائها، فقال بعض قريش: لا يفتح هذا الباب وإلا نبش بنو بكر موتانا عند مجيئهم، وحرست المدينة، وبات سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وسعد بن عبادة وعليهم السلاح في المسجد بباب رسول الله حتى أصبحوا.
ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا قال: «رأيت البارحة في منامي خيرا رأيت بقرا تذبح، ورأيت في ذبابة سيفي: أي وهو ذو الفقار «ثلما» بإسكان اللام. وفي لفظ «وكأن ظبة سيفي انكسرت» وفي لفظ «ورأيت سيفي ذا الفقار انفصم من عند ظبته فكرهته، وهما مصيبتان. ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة» وفي رواية «ورأيت أني في درع حصينة أي وأني مردف كبشا. قال صلى الله عليه وسلم بعد أن قيل له ما أولتها؟ قال:
قال: فأما البقر فناس من أصحابي يقتلون» وفي لفظ «أولت البقر بقرا يكون فينا.
وأما الثلم الذي رأيت في سيفي فهو رجل من أهل بيتي» أي وفي رواية «من عترتي يقتل» وفي رواية «رأيت أن سيفي ذا الفقار فلّ، فأولته فلا فيكم» أي وفلول السيف كسور في حده، وقد حصل في حد سيفه كسور، وحصل انفصام ظبته وذهابها فكان(2/297)
ذلك علامة على وجود الأمرين. وأما الدرع الحصينة فالمدينة: أي وأما الكبش فإني أقتل كبش القوم: أي حاميهم وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشرّ مقام وإن هم دخلوا علينا قاتلنا فيها، أي فأنا أعلم بها منهم وكانوا قد شبكوا المدينة بالبنيان من كل ناحية، فهي كالحصن، وكان ذلك رأي أكابر المهاجرين والأنصار. قال: ووافق على ذلك عبد الله ابن أبي سلول، أي فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل يستشيره ولم يستشره قبل ذلك، قال:
يا رسول الله أقم بالمدينة ولا تخرج فوالله ما خرجنا منها إلى عدوّ لنا قط إلا أصاب منا، ولا دخلها إلا أصبنا منه، فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا أقاموا بشرّ مجلس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم الصبيان بالحجارة من ورائهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاؤوا. اهـ.
وهذا هو الظاهر خلافا لما ذكره بعضهم من أنه صلى الله عليه وسلم دعا عبد الله بن أبي ابن سلول ولم يدعه قط قبلها فاستشاره، فقال: يا رسول الله أخرج بنا إلى هذه الأكالب، إذ لا يناسب ذلك ما يأتي عنه من رجوعه وقوله خالفني الخ، وإنما قال ذلك رجل من المسلمين ممن أكرمه الله بالشهادة يوم أحد. وقال رجال: أي غالبهم أحداث أحبوا لقاء العدوّ وغالبهم ممن أسف على ما فاته من مشهد بدر، أخرج بنا إلى أعدائنا لا يرونا أنا جبنا عنهم وضعفنا، أي فيكون ذلك جراءة منهم علينا، والله لا نطيع العرب في أن تدخل علينا منازلنا.
وفي لفظ أن الأنصار قالوا: يا رسول الله ما غلبنا عدو لنا أتانا في دارنا أي في ناحية من نواحيها فكيف وأنت فينا ووافقهم على ذلك حمزة بن عبد المطلب. وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم طعاما حتى أجادلهم بسيفي خارج المدينة، كل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم كاره للخروج، فلم يزالوا برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وافق على ذلك، فصلى الجمعة بالناس ثم وعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد وأخبرهم أن لهم النصرة ما صبروا، وأمرهم بالتهيؤ لعدوّهم، ففرح الناس بذلك، ثم صلّى بالناس العصر وقد حشدوا: أي اجتمعوا؛ وقد حضر أهل العوالي ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته ومعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فعمماه وألبساه، وصف الناس ينتظرون خروجه صلى الله عليه وسلم، فقال لهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير: استكرهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج فردّوا الأمر إليك، أي فما أمركم به وما رأيتم له فيه هوى ورأيا فأطيعوه فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد لبس لأمته وظاهر بين درعين أي لبس درعا فوق درع، وهما: ذات الفضول، وفضة التي أصابها من بني قينقاع كما تقدم، وذات الفضول هذه هي التي أرسلها إليه صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة رضي الله عنه حين سار إلى بدر، وهي التي مات صلى الله عليه وسلم عنها وهي مرهونة عند اليهودي، وأفتكها أبو بكر رضي(2/298)
الله عنه، وأظهر الدرع وحزم وسطها بمنطقة من أدم من حمائل سيفه صلى الله عليه وسلم: وأنكر الإمام أبو العباس بن تيمية أنه صلى الله عليه وسلم تمنطق حيث قال: لم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم شد وسطه بمنطقة.
وقد يقال: مراد ابن تيمية المنطقة المعروفة وليس هذا منها. وفيه رد على بعضهم في قوله: كان له صلى الله عليه وسلم منطقة من أدم فيها ثلاث حلق من فضة، والطرف من فضة.
وقد يقال: لا يلزم من كونه له منطقة أن يكون تمنطق بها فليتأمل.
وتقلد صلى الله عليه وسلم السيف، وألقى الترس في ظهره، أي وفي رواية: فركب صلى الله عليه وسلم فرسه السكب، وتقلد القوس، وأخذ قناته بيده، أي ولا مانع أن يكون جمع بين ذلك، فقالوا له: ما كان لنا أن نخالفك. ولا نستكرهك على الخروج فاصنع ما شئت. وفي رواية: فإن شئت فاقعد، أي وقال: قد دعوتكم إلى القعود فأبيتم وما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه، أي وفي رواية: حتى يقاتل.
وأخذ منه أن يحرم على النبي نزع لأمته إذا لبسها حتى يلحق العدوّ ويقاتل، وبه قال أئمتنا: أي وقيل إنه مكروه واستبعد. وقوله صلى الله عليه وسلم «وما ينبغي لنبي» يقتضي أن سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مثله في ذلك، أي لأن نزع ذلك يشعر بالجبن، وذلك ممتنع على الأنبياء صلى الله عليه وسلم قاله في النور.
وما اختص به من المحرمات فهو مكروه له، لأن المحرم في المنهيات كالواجب في المأمورات.
وعقد صلى الله عليه وسلم ثلاثة ألوية: لواء للأوس وكان بيد أسيد بن حضير، ولواء للمهاجرين وكان بيد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وقيل بيد مصعب بن عمير، أي لأنه كما قيل لما سئل عمن يحمل لواء المشركين؟ فقيل طلحة بن أبي طلحة:
أي من بني عبد الدار، فأخذه صلى الله عليه وسلم من علي ودفعه لمصعب بن عمير، أي لأن مصعب بن عمير من بني عبد الدار وهم أصحاب اللواء في الجاهلية كما تقدم؛ وسيأتي. ولواء للخزرج كان بيد الحباب بن المنذر، وقيل بيد سعد بن عبادة.
وخرج في ألف، وقيل تسعمائة، ولعله تصحيف عن سبعمائة لما سيأتي أن عبد الله بن أبي ابن سلول رجع معه ثلاثمائة، فبقي سبعمائة من أصحابه صلى الله عليه وسلم منهم مائة دارع. وخرج السعدان أمامه صلى الله عليه وسلم يعدوان: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة دارعين.
واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، أي وسار إلى أن وصل رأس الثنية، أي وعندها وجد كتيبة كبيرة، فقال: ما هذا؟ قالوا: هؤلاء حلفاء عبد الله بن أبي ابن سلول من يهود، فقال: أسلموا؟ فقيل لا، فقال: إنا لا ننتصر بأهل الكفر على أهل الشرك(2/299)
فردهم: أي وهؤلاء اليهود غير حلفائه من بني قينقاع، فلا يقال هذا إنما يأتي على أن إجلاء بني قينقاع كان بعد أحد، لأنهم هم حلفاؤه من يهود كما تقدّم، لأنا نمنع انحصار حلفائه من يهود في بني قينقاع.
وسار صلى الله عليه وسلم وعسكر بالشيخين، وهما أطمان: أي جبلان وعند ذلك عرض قومه فردّ جمعا: أي شبابا لم يرهم بلغوا خمس عشرة سنة، بل أربع عشرة سنة، كذا نقل عن إمامنا الشافعي رضي الله عنه، ونقل عنه بعضهم أنه قال: لم يرهم بلغوا أربع عشرة سنة: منهم عبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وأسامة بن زيد، وزيد بن أرقم، والبراء بن عازب، وأسيد بن ظهير، وعرابة بن أوس، خلافا لمن أنكر صحبته، وعرابة هذا هو القائل فيه الشماخ:
رأيت عرابة الأوسي يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
وأوس والده هو القائل في يوم الأحزاب: إن بيوتنا عورة كما سيأتي، وأبو سعيد الخدري، وسعد بن خيثمة رضي الله تعالى عنهم، أي وزيد بن حارثة الأنصاري كان أبوه حارثة من المنافقين من أصحاب مسجد الضرار، ورافع بن خديج، وسمرة بن جندب.
ثم أجاز صلى الله عليه وسلم رافع بن خديج لما قيل له إنه رام، وأصيب في ذلك اليوم بسهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أشهد له يوم القيامة، ومات في زمن عبد الملك بن مروان لما نقض عليه ذلك الجرح، وعندما أجازه قال سمرة بن جندب لزوج أمه: أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم رافع بن خديج وردني وأنا أصرعه، فأعلم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال تصارعا، فصرع سمرة بن جندب رافعا فأجازه.
وممن رده صلى الله عليه وسلم يوم أحد لصغر سنه سعد ابن حبتة، عرف بأمه حبتة؛ فلما كان يوم الخندق رآه صلى الله عليه وسلم يقاتل قتالا شديدا فدعاه ومسح على رأسه ودعا له بالبركة في ولده ونسله؛ فكان عما لأربعين، وخالا لأربعين، وأبا لعشرين، ومن ولده أبو يوسف صاحب أبي حنيفة رضي الله عنهم، وتقدم في بدر أنه صلى الله عليه وسلم رد زيد بن ثابت، وزيد بن أرقم. وأسيد بن ظهير، فما فرغ العرض إلا وقد غابت الشمس، فأذن بلال بالمغرب، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه، ثم أذن بالعشاء فصلى بهم وبات، واستعمل على الحرس تلك الليلة محمد بن مسلمة في خمسين رجلا يطوفون بالعسكر، ونام رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي وذكوان بن عبد قيس يحرسه لم يفارقه لما قال صلى الله عليه وسلم: من يحفظنا الليلة حتى كان السحر.
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال «لقد رأيت» أي في النوم «الملائكة تغسل حمزة رضي الله(2/300)
عنه، وأدلج رسول الله في السحر فحانت صلاة الصبح بالشوط» حائط بين المدينة وأحد، ومن ذلك المكان رجع عبد الله بن أبي ابن سلول ومن معه من أهل النفاق وهم ثلاثمائة رجل، وهو يقول: عصاني وأطاع الولدان ومن لا أرى له علما ما ندري علام نقتل أنفسنا؟ ارجعوا أيها الناس فرجعوا، فتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام وهو والد جابر رضي الله عنهما، وكان في الخزرج كعبد الله بن أبي يقول: يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا بضم الذال المعجمة: قومكم ونبيكم: أي تتركوا نصرتهم وإعانتهم عندما حضر من عدوهم، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكن لا نرى أنه يكون قتالا وأبوا إلا الانصراف، فقال لهم: أبعدكم الله أي أهلككم الله أعداء الله، فسيغني الله تعالى عنكم نبيه. وفيه أن قوله المذكور يخالف قوله علام نقتل أنفسنا، إلا أن يقال على فرض أنه يقع قتالا، علام نقتل أنفسنا.
فلما رجع عبد الله بن أبي ابن سلول بمن معه، قالت طائفة: نقتلهم، وقالت طائفة أخرى: لا نقتلهم وهما أن يقتتلا، والطائفتان هما بنو حارثة من الأوس وبنو سلمة من الخزرج، فأنزل الله تعالى فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ [النّساء:
الآية 88] أي ردهم إلى كفرهم بما كسبوا.
وفي كلام سبط ابن الجوزي: ولما رأى بنو سلمة وبنو حارثة عبد الله بن أبي قد خذل، هموا بالانصراف وكانوا جناحين من العسكر ثم عصمهما الله، وأنزل قوله تعالى إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا [آل عمران: الآية 122] الآية فبقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعمائة رجل.
ومن هذا يعلم ما في المواهب من قوله: ويقال إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالانصراف لكفرهم، بمكان يقال له الشوط، لأن الذين ردهم صلى الله عليه وسلم لكفرهم حلفاء عبد الله بن أبيّ ابن سلول من يهود، وكان رجوعهم قبل الشوط. والذين رجع بهم عبد الله كانوا منافقين، ورجوعه بهم كان من الشوط، ولم يكن مع المسلمين يومئذ إلا فرسان:
فرس لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرس لأبي بردة. وقيل لم يكن معهم فرس، أي وهذا القيل نقله في «فتح الباري» عن موسى بن عقبة وأقرّه. وقالت الأنصار أي لما رجع ابن أبي: يا رسول الله ألا نستعين بحلفائنا من يهود: أي يهود المدينة، ولعلهم عنوا بهم بني قريظة، لأن بني قريظة من حلفاء سعد بن معاذ وهو سيد الأوس.
قال بعضهم: كان في الأنصار كأبي بكر في المهاجرين، فقال صلى الله عليه وسلم: لا حاجة لنا فيهم.
أقول: وحينئذ يكون المراد قالت طائفة من الأنصار وهم الأوس ولم يكونوا سمعوا قوله صلى الله عليه وسلم «إنا لا نستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك» والله أعلم.
وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: من يخرج بنا على القوم من كثيب: أي من طريق قريب(2/301)
لا يمرّ بنا عليهم، فقال أبو خيثمة: أنا يا رسول الله، فنفذ به من حرة بني حارثة وبين أموالهم حتى دخل في حائط للمربع بن قيظي الحارثي وكان رجلا منافقا ضريرا فقام يحثي التراب، أي في وجوههم، ويقول: إن كنت رسول الله فإني لا أحل لك أن تدخل حائطي، وفي يده حفنة من تراب وقال: والله لو أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك، فابتدر إليه سعد بن زيد فضربه بالقوس في رأسه فشجه، وأراد القوم قتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقتلوه، فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر» أي وغضب له ناس من بني حارثة كانوا على مثل رأيه: أي منافقين لم يرجعوا مع من رجع مع عبد الله بن أبيّ، فهمّ بهم أسيد بن حضير حتى أومأ أي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بترك ذلك ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشعب من أحد، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد. قال: واستقبل المدينة، وصف المسلمين في جبل أحد: أي بعد أن بات به تلك الليلة، وحانت الصلاة صلاة الصبح والمسلمون يرون المشركين فأذن بلال وأقام، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه صفوفا، وخطب خطبة حثهم فيها على الجهاد.
ومن جملة ما ذكر فيها «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة إلا صبيا أو امرأة أو مريضا أو عبدا مملوكا» . وفي رواية «إلا امرأة أو مسافر أو عبد أو مريض» بالرفع، وعليها فالمستثنى محذوف: أي إلا أربعة. وما ذكر بدل منها، قال «ومن استغنى عنها استغنى الله عنه، والله غني حميد، ما أعلم من عمل يقربكم إلى الله تعالى إلا وقد أمرتكم به، ولا أعلم من عمل يقربكم من النار إلا وقد نهيتكم عنه، وإنه قد نفث: أي أوحى وألقى «في روعي» بضم الراء أي قلبي «الروح الأمين» أي الذي هو جبريل «إنه لن تموت نفس حتى تستوفي أقصى رزقها لا ينقص منه شيء وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله ربكم وأجملوا» أي أحسنوا «في طلب الرزق، لا يحملنكم استبطاؤه أن تطلبوه بمعصية الله، والمؤمن من المؤمن كالرأس من الجسد إذا اشتكى تداعى إليه سائر جسده والسلام عليكم» انتهى.
أي ولما أقبل خالد بن الوليد رضي الله عنه، فإنه أسلم بعد ذلك ومعه عكرمة بن أبي جهل رضي الله تعالى عنه، فإنه أسلم بعد ذلك كما تقدم، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام وقال له: استقبل خالد بن الوليد فكن بإزائه، وأمر بخيل أخرى فكانوا من جانب آخر، ولعل المراد وأمر جماعة بأن يكونوا بإزاء خيل أخرى للمشركين، لأنه تقدم أنه لم يكن معهم إلا فرس أو إلا فرسان.
أي وما وقع في الهدى أن الفرسان من المسلمين يوم أحد كانوا خمسين رجلا سبق قلم وقال: لا تبرحوا حتى أوذنكم وقال، لا يقاتلن أحد حتى آمره بالقتال، وكان الرماة خمسين رجلا، وأمر عليهم عبد الله بن جبير وقال: انضح الخيل عنا(2/302)
بالنبل لا يأتونا من خلفنا، وأثبت مكانك إن كانت لنا أو علينا.
أي وفي رواية «إن رأيتمونا تتخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا ظهرنا على القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم» زاد في رواية «وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا» . قال وفي رواية أنه قال: أي للرماة «الزموا مكانكم لا تبرحوا منه، فإذا رأيتمونا نهزمهم حتى ندخل في عسكرهم فلا تفارقوا مكانكم، وإن رأيتمونا نقتل فلا تغيثونا ولا تدفعوا عنا وارشقوهم بالنبل. فإن الخيل لا تقدّم على النبل، إنا لن نزال غالبين ما مكثتم مكانكم، اللهم إني أشهدك عليهم» انتهى.
وأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفا أي وكان مكتوبا في إحدى صفحتيه.
في الجبن عار وفي الإقبال مكرمة ... والمرء بالجبن لا ينجو من القدر
وقال «من يأخذ هذا السيف بحقه، فقام إليه رجال فأمسكه عنهم من جملتهم علي رضي الله تعالى عنه قام ليأخذه، فقال: اجلس، وعمر رضي الله تعالى عنه فأعرض عنه والزبير رضي الله تعالى عنه، أي وطلبه ثلاث مرات، كل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنه حتى قام إليه أبو دجانة وقال: ما حقه يا رسول الله؟ قال تضرب به في وجه العدوّ حتى ينحني، قال: أنا آخذه بحقه، فدفعه إليه وكان رجلا شجاعا يختال عند الحرب» أي يمشي مشية المتكبر «وحين رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبختر بين الصفين قال: إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن» أي لأن فيها دليلا على عدم الاكتراث بالعدوّ.
وعند اصطفاف القوم نادى أبو سفيان بن حرب: يا معشر الأوس والخزرج خلوا بيننا وبين بني عمنا وننصرف عنكم، فشتموه أقبح شتم، ولعنوه أشد اللعن.
قال: وخرج رجل من المشركين على بعير له فدعا للبراز، فأحجم عنه الناس حتى دعا ثلاثا، فقام إليه الزبير، فوثب حتى استوى معه على البعير ثم عانقه، فاقتتلا فوق البعير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذي يلي حضيض الأرض مقتول، فوقع المشرك، فوقع عليه الزبير فذبحه، فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال «لكل نبي حواري، وإن حواري الزبير» وقال صلى الله عليه وسلم «لو لم يبرز إليه الزبير لبرزت إليه» لما رأى من إحجام الناس عنه انتهى.
وخرج رجل من المشركين بين الصفين، أي وهو طلحة بن أبي طلحة، وأبو طلحة والده اسمه عبد الله بن عثمان بن عبد الدار، وكان بيده لواء المشركين لأن بني عبد الدار كانوا أصحاب لواء المشركين، لأن اللواء كان لوالدهم عبد الدار كما تقدم. وطلب طلحة المبارزة مرارا فلم يخرج إليه أحد. فقال: يا أصحاب محمد زعمتم أن قتلاكم إلى الجنة وأن قتلانا إلى النار وفي رواية قال يا أصحاب محمد(2/303)
إنكم تزعمون أن الله تعالى يعجلنا بسيوفكم إلى النار ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة، فهل أحد منكم يعجلني بسيفه إلى النار؟ أو أعجله بسيفي إلى الجنة كذبتم، واللات والعزى لو تعلمون ذلك حقا لخرج إليّ بعضكم، فخرج إليه علي بن أبي طالب فاختلفا ضربتين، فقتله علي رضي الله تعالى عنه.
أي وفي رواية: فالتقيا بين الصفين فبدره عليّ فصرعه أي قطع رجله ووقع على الأرض وبدت عورته. فقال: يابن عمي أنشدك الله والرحم، فرجع عنه ولم يجهز عليه. فقال له بعض أصحابه: أفلا أجهزت عليه؟ فقال: إنه استقبلني بعورته فعطفني عليه الرحم، وعرفت أن الله قد قتله.
وفي رواية قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما منعك أن تجهز عليه؟ فقال: ناشدني الله والرحم، فقال: اقتله، فقتله» .
أي ووقع لسيدنا علي كرم الله وجهه مثل ذلك في يوم صفين مرتين: الأولى حمل على بسر بن أرطأة، فلما رأى أنه مقتول كشف عن عورته، فانصرف عنه.
والثانية حمل على عمرو بن العاص، فلما رأى أنه مقتول كشف عن عورته فانصرف عنه علي كرّم الله وجهه.
فأخذ لواء المشركين أخو طلحة وهو عثمان بن أبي طلحة، وعثمان هذا هو أبو شيبة الذي ينسب إليه الشيبيون فيقال بني شيبة، فحمل عليه حمزة فقطع يده وكتفه حتى انتهى إلى مؤتزره، فرجع حمزة وهو يقول: أنا ابن ساقي الحجيج يعني عبد المطلب، فأخذه أخو عثمان وأخو طلحة وهو أبو سعيد بن أبي طلحة؛ فرماه سعد بن أبي وقاص فأصاب حنجرته فقتله، فحمله مسافع بن طلحة بن أبي طلحة الذي قتله علي رضي الله تعالى عنه، فرماه عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح فقتله، ثم حمله أخو مسافع وهو الحارث بن طلحة، فرماه عاصم فقتله، أي فكانت أمهما وهي سلافة معهما، وكل واحد منهما بعد أن رماه عاصم يأتي أمه ويضع رأسه في حجرها فتقول له: يا بني من أصابك؟ فيقول: سمعت رجلا حين رماني يقول: خذها وأنا ابن أبي الأفلح، فنذرت إن أمكنها الله من رأس عاصم أن تشرب فيه الخمر، وجعلت لمن جاء برأسه مائة من الإبل.
وسيأتي مقتل عاصم في سرية الرجيع، فحمله أخو مسافع وأخو الحارث وهو كلاب بن طلحة، فقتله الزبير، أي وقيل قزمان، فحمله أخوهم وهو الجلاس بن طلحة، فقتله طلحة بن عبيد الله، فكل من مسافع والحارث وكلاب والجلاس الأربعة أولاد طلحة بن أبي طلحة كل قتل كأبيهم طلحة؛ وعميهم وهما عثمان وأبو سعيد.
وعند ذلك حمله أرطأة بن شرحبيل، فقتله علي بن أبي طالب، وقيل حمزة،(2/304)
فحمله شريح بن قارظ، فقتل أي ولم يعرف قاتله، ثم حمله أبو زيد بن عمرو بن عبد مناف بن هاشم بن عبد الدار، فقتله قزمان، فحمله ولد لشرحبيل بن هاشم، فقتله قزمان أيضا، ثم حمله صواب غلامهم: أي وكان حبشيا، فقاتل حتى قطعت يده ثم برك عليه فأخذه لصدره وعنقه حتى قتل عليه: أي قتله قزمان. وقيل القاتل له سعد بن أبي وقاص وقيل علي.
وقد كان أبو سفيان قال لأصحاب اللواء: أي لواء المشركين من بني عبد الدار يحرضهم على القتال: يا بني عبد الدار، إنكم تركتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما تؤتى الناس من قبل راياتهم إذا زالت زالوا، فإما أن تكفونا لواءنا، وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه، فهموا به وتواعدوه وقالوا: نحن نسلم إليك لواءنا؟
ستعلم غدا إذا التقينا كيف نصنع؟ وذلك الذي أراد أبو سفيان.
قال ابن قتيبة: ويقال إن هذه الآية نزلت في بني عبد الدار إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) [الأنفال: الآية 22] .
ولما صرع صاحب لواء المشركين: أي الذي هو طلحة بن أبي طلحة استبشر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: أي لأنه كبش الكتيبة أي الجيش: أي حاميهم الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم في رؤياه المتقدمة أنه مردفا كبشا وقال: أوّلت ذلك أني أقتل كبش الكتيبة، فهذا كبش الكتيبة.
وعند وجود ما ذكر من قتل أصحاب اللواء صاروا كتائب متفرقة، فجاس المسلمون فيهم ضربا حتى أجهضوهم: أي أزالوهم عن أثقالهم، أي وكان شعار المسلمين يومئذ: أمت أمت، وشعار الكفار: يا للعزى، وهي شجرة كانوا يعبدونها:
يا لهبل، وهو صنم كان داخل الكعبة منصوبا على بئر هناك، وسيأتي في فتح مكة أنه كان خارجها بجانب الباب.
وقد يقال: لا منافاة لأنه يجوز أن يكون في أوّل الأمر كان داخل الكعبة ثم أخرج منها وجعل بجانبها.
أي وخرج عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فإنه أسلم بعد ذلك، فقال: من يبارز؟ فنهض إليه أبو بكر شاهرا سيفه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم شم سيفك وارجع إلى مكانك ومتعنا بنفسك، وتقدم طلب عبد الرحمن للمبارزة أيضا في يوم بدر، وتقدم عن ابن مسعود أن الصديق دعا ابنه يعني عبد الرحمن يوم أحد إلى البراز، وهو يخالف ما هنا إلا أن يقال إنه هنا يجوز وقوع كل من الأمرين: أي طلب المبارزة من الصدّيق لولده عبد الرحمن، وطلب المبارزة من عبد الرحمن لوالده الصديق.(2/305)
وقد وقع الصديق رضي الله تعالى عنه أن العرب لما ارتدت بعد موته صلى الله عليه وسلم خرج مع الجيش شاهرا سيفه، فأخذ علي رضي الله تعالى عنه بزمام راحلته وقال له: إلى أين يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أقول لك كما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: شم سيفك، ولا تفجعنا بنفسك وارجع إلى المدينة، فوالله لئن فجعنا بك لا يكون للإسلام نظام أبدا، فرجع وأمضى الجيش.
وفي أوّل الأمر حملت خيل المشركين على المسلمين ثلاث مرات، كل ذلك تنضح بالنبل فترجع مفلولة أي بالفاء متفرقة، وحمل المسلمون على المشركين فنهكوهم: أي أضعفوهم قتلا، فلما التقى الناس وحميت الحرب قامت هند في النسوة اللاتي معها وأخذن الدفوف يضربن بها خلف الرجال ويقلن:
ويها بني عبد الدار ... ويها حماة الأدبار
صربا بكل بتار
وويها: كلمة إغراء وتحريض، كما تقول: دونك يا فلان. والأدبار: الأعقاب، أي الذين يحمون أعقاب الناس، والبتار: السيف القاطع، ويقلن:
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
مشى القطا النوازق ... والمسك في المفارق
والدر في المخانق ... إن تقبلوا نعانق
ونفرش النمارق ... أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق
والطارق: النجم، قال تعالى وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) [الطارق: الآيات 1- 3] قيل هو زحل: أي نحن بنات من بلغ العلو وارتفاع القدر كالنجم. واعترض بأنها لو أرادت النجم قالت: نحن بنات الطارق.
ثم رأيت أن هذا الرجز لهند بنت طارق، وحينئذ فليس المراد بطارق النجم، وإنما هو الرجل المعروف، كأنها قالت نحن بنات طارق المعروف بالعلو والشرف.
وعن بعضهم قال: جلست بمكة وراء الضحاك، فسئل عن قول هند يوم أحد:
نحن بنات طارق، ما طارق؟ فقلت: هو النجم، فقال لي: كيف ذلك؟ فقلت له:
قال الله تعالى وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) [الطارق: الآيات 1- 2] والنمارق: الوسائد الصغار.
والمراد نفرش ما تجعل عليه الوسائد مع جعلها عليه، والوامق المحب، أي فراق غير محب، لأن غير المحب لا يرجع إذا غضب، بخلاف المحب. ومن ثم(2/306)
قيل: غضب المحب في الظاهر مهابة سيف، وفي الباطن كسحابة صيف.
قال: وكان صلى الله عليه وسلم إذا سمع ذلك: أي تحريض هند بما ذكر يقول «اللهم بك أحول» بالحاء المهملة، أي أمنع «وبك أصول، وفيك أقاتل، حسبي الله ونعم الوكيل» انتهى.
أي وفي رواية «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقي العدو قال: اللهم بك أصاول؛ وبك أحاول» أي أطالب.
وقاتل أبو دجانة حتى أمعن في الناس. فعن الزبير قال: وجدت، أي غضبت، في نفسي حين سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف: أي الذي قال فيه: من يأخذه بحقه ثلاث مرات وأنا ابن عمته، فمنعنيه وأعطاه أبا دجانة، فقلت: والله لأنظرن ما يصنع فاتبعته فأخذ عصابة حمراء: أي أخرجها من ساق خفه وكان مكتوبا على أحد طرفيها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ [الصّف: الآية 13] وفي طرفها الآخر: الجبانة في الحرب عار، ومن فرّ لم ينج من النار، فعصب بها رأسه فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت، أي لأنهم كانوا يقولون ذلك إذا تعصب بها، فجعل لا يلقى أحدا إلا قتله أي وكان إذا كلّ ذلك السيف يشحذه: أي يحده بالحجارة، ولم يزل يضرب به العدو حتى انحنى وصار كأنه منجل، وكان رجل من المشركين لا يدع لنا جريحا إلا ذفف عليه: أي أسرع قتله فدعوت الله أن يجمع بينه وبين أبي دجانة، فالتقيا، فاختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاها بدرقته فعضت الدرقة على سيفه وضربه أبو دجانة فقتله، ثم رأيته حمل بالسيف على رأس هند: أي بنت عتبة زوج أبي سفيان وقيل غيرها ثم رد السيف عنها.
قال أبو دجانة: رأيت إنسانا يحمس الناس: أي بالسين المهملة حمسا شديدا:
أي يشجعهم، وبالشين المعجمة: يوقد الحرب ويثيرها، فعمدت إليه، فلما حملت عليه بالسيف ولول: أي دعا بالويل: أي قال: يا ويلاه، فعلمت أنه امرأة، فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة.
وقاتل حمزة بن عبد المطلب قتالا شديدا، ومرّ به سباع بن عبد العزى، فقال له حمزة: هلم أي أقبل، يا ابن مقطعة البظور، لأن أمه أم أنمار مولاة شريق والد الأخنس كانت ختانة بمكة.
أي وفي البخاري «يا سباع يا ابن أم أنمار مقطعة البظور، أتحادّ الله ورسوله؟» أي تحاربهما وتعاندهما.
وفيه لما اصطفوا للقتال خرج سباع فقال: هل من مبارز، فخرج إليه حمزة، فشدّ عليه، فلما التقيا ضربه حمزة فقتله. وفي رواية: فكان كأمس الذاهب. أي وكان تمام واحد وثلاثين قتلهم حمزة.(2/307)
وفيه أنه سيأتي عن الأصل: وقتل من كفار قريش يوم أحد ثلاثة وعشرين رجلا، وأكب حمزة عليه ليأخذ درعه. قال وحشي غلام جبير بن مطعم: إني لأنظر إلى حمزة يهد الناس بسيفه يهد بالدال المهملة: يهدم وبالدال المعجمة: يقطع. أي وقد عثر حمزة، فانكشف الدرع عن بطنه فهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت في ثنيته بالمثلثة: وهو موضع تحت السرة وفوق العانة. وفي لفظ:
فندرته حتى خرجت من بين رجليه، فأقبل نحوي فغلب فوقع، فأمهلته حتى إذا مات جئته فأخذت حربتي، ثم تنحيت إلى العسكر، ولم يكن لي في شيء حاجة غيره.
أي وفي لفظ آخر: كان حمزة يقاتل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسيفين وهو يقول: أنا أسد الله، فبينا هو كذلك إذ عثر عثرة وقع منها على ظهره، فانكشفت الدرع عن بطنه، فطعنه وحشي الحبشي بحربته.
ثم لما قتل أصحاب لواء المشركين واحدا بعد واحد، ولم يقدر أحد يدنو منه، انهزم المشركون وولوا لا يلوون على شيء، ونساؤهم يدعون بالويل بعد فرحهم وضربهم بالدفوف وألقين الدفوف، وقصدن الجبل كاشفات سيقانهن يرفعن ثيابهنّ، وتبع المسلمون المشركين يضعون فيهم السلاح وينتهبون الغنائم، ففارقت الرماة محلهم الذي أمرهم صلى الله عليه وسلم أن لا يفارقوه، ونهاهم أميرهم عبد الله بن جبير، فقالوا له:
انهزم المشركون فما مقامنا هاهنا؟ وانطلقوا ينتهبون. وثبت عبد الله بن جبير مكانه وثبت معه دون العشرة وقال: لا أجاوز أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنظر خالد بن الوليد إلى خلاء الجبل من الرماة وقلة من به منهم، فكرّ بالخيل ومعه عكرمة بن أبي جهل رضي الله تعالى عنهما فإنهما أسلما بعد ذلك، فحملوا على من بقي من الرماة فقتلوهم مع أميرهم عبد الله بن جبير أي ومثلوا به. ومن كثرة طعنه بالرماح خرجت حشوته وأحاطوا بالمسلمين. فبينما المسلمون قد شغلوا بالنهب والأسر، إذ دخلت خيول المشركين تنادي فرسانها بشعارها: يا للعزى يا لهبل، ووضعوا السيوف في المسلمين وهم آمنون. وتفرقت المسلمون في كل وجه وتركوا ما انتهبوا، وخلوا من أسروا، وانتقضت صفوف المسلمين، واختلط المسلمون وصار يضرب بعضهم بعضا من غير شعار: أي من غير أن يأتوا بما كانوا ينادون به في الحرب يتعارفون به في ظلمة الليل، وعند الاختلاط وهو: أمت أمت مما أصابهم من الدهش والحيرة، ولم يزل لواء المشركين ملقى حتى أخذته عمرة بنت علقمة ورفعته لهم، فلاثوا، أي بالمثلثة: استداروا به واجتمعوا عنده، ونادى ابن قمئة بفتح القاف وكسر الميم وبعدها همزة أن محمدا قد قتل. وقيل المنادي بذلك إبليس: أي متمثلا بصورة جعال أو جعيل بن سراقة، وكان رجلا صالحا ممن أسلم قديما، وكان من أهل الصفة. قيل وهو الذي غير النبي صلى الله عليه وسلم اسمه يوم الخندق وسماه عمرا كما سيأتي،(2/308)
وسيأتي ما فيه.
ثم إن الناس وثبوا على جعال ليقتلوه فتبرأ من ذلك القول، وشهدت له خوات بن جبير وأبو بردة بأن جعالا كان عندهما وبجنبهما حين صرخ ذلك الصارخ.
وقيل المنادي بذلك إزب العقبة، قال ذلك ثلاث مرات، أي لأنه لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صرخ الشيطان به قال: هذا إزب العقبة بكسر الهمزة وسكون الزاي، والإزب: القصير كما تقدم.
وقد ذكر أن عبد الله بن الزبير رأى رجلا طوله شبران على رحله فقال: ما أنت؟ قال إزب، قال: ما إزب؟ قال: رجل من الجن، فضربه على رأسه بعود السوط حتى هرب، أي ويجوز أن يكون ذلك صدر من الثلاثة، وهم ابن قمئة، وإبليس وإزب العقبة، فرجعت الهزيمة على المسلمين، أي وقال قائل: يا عباد الله أخراكم: أي احترزوا من جهة أخراكم، فعطف المسلمون على أخراهم يقتل بعضهم بعضا وهم لا يشعرون، وانهزمت طائفة منهم إلى جهة المدينة ولم يدخلوها. وقال رجال من المسلمين حيث قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ارجعوا إلى قومكم يؤمنوكم. وقال آخرون: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل أفلا تقاتلون على دين نبيكم وعلى ما كان عليه نبيكم حتى تلقوا الله شهداء.
أي وفي «الإمتاع» أن ثابت بن الدحداح: قال يا معشر الأنصار إن كان محمد قد قتل فإن الله حيّ لا يموت، قاتلوا على دينكم، فإن الله مظفركم وناصركم، فنهض إليه نفر من الأنصار، فحمل بهم على كتيبة فيها خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطاب، فحمل عليه خالد بن الوليد بالرمح فقتله وقتل من كان معه من الأنصار رضي الله تعالى عنهم.
وكان من جملة من انهزم عثمان بن عفان والوليد بن عقبة وخارجة بن زيد ورفاعة بن معلى، فأقاموا ثلاثة أيام، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذهبتم فيها عريضة، وأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ [آل عمران: الآية 155] قال: وقال جماعة: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبيّ ليأخذ لنا أمانا من أبي سفيان، يا قوم إن محمدا قد قتل فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم.
وانهزمت طائفة منهم حتى دخلت المدينة، فلقيتهم أم أيمن رضي الله عنها فجعلت تحثو التراب في وجوههم وتقول لبعضهم: هاك المغزل فاغزل به، وهلم سيفك اهـ:
أي أعطني سيفك، أي فالمنهزمون في ذلك اليوم طائفتان: طائفة لم تدخل المدينة، وأخرى دخلتها. وفيه أن أم أيمن كانت في الجيش تسقي الجرحى.
أي فقد جاء «أن حباب بن العرقة رمى بسهم فأصاب أم أيمن وكانت تسقي(2/309)
الجرحى فوقعت وتكشفت فأغرق عدوّ الله في الضحك، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفع إلى سعد سهما لا نصل له وقال ارم به، فوقع السهم في نحر حباب فوقع مستلقيا حتى بدت عورته فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال: استقاد لها سعد» أجاب الله دعوته، أي وفي رواية: «اللهم استجب لسعد إذا دعاك، فكان مجاب الدعوة. وقد يقال: لا منافاة بين كون أم أيمن كانت في الجيش وبين كونها كانت في المدينة لجواز أن تكون رجعت ذلك الوقت من الجيش إلى المدينة.
وقال رجال: أي من المنافقين لما قيل قد قتل محمد الذين بقوا ولم يذهبوا مع عبد الله بن أبي ابن سلول: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا. أي وقال بعضهم لو كان نبيا ما قتل فارجعوا إلى دينكم الأول.
وفي النهر أن فرقة قالوا نلقي إليهم بأيدينا فإنهم قومنا وبنو عمنا. وهذا يدل على أن هذه الفرقة ليست من الأنصار بل من المهاجرين.
قال: وعن الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه. قال: لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد حين اشتدّ علينا الخوف وأرسل علينا النوم، فما منا أحد إلا وذقنه في صدره، فو الله إني لأسمع كالحلم قول معتب بن قشير. أي ويقال ابن بشير، وكان ممن شهد العقبة: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا فحفظتها، فأنزل الله تعالى في ذلك قوله ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً [آل عمران: الآية 154] الآية.
وعن كعب بن عمرو الأنصاري رضي الله تعالى عنه. قال: لقد رأيتني يومئذ في أربعة عشر من قومي إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصابنا النعاس أمنة منه، أي لأنه لا ينعس إلا من يأمن، ما منهم أحد إلا غط غطيطا، حتى إن الجحف: أي الدرق تتناطح. ولقد رأيت سيف بشر بن البراء بن معرور سقط من يده وما يشعر، وإن المشركين لتحثنا اهـ وتقدم في بدر أنه حصل لهم النعاس ليلة القتال لا فيه على ما تقدم. وتقدم أن النعاس في الصف من الإيمان وفي الصلاة من الشيطان.
وثبت صلى الله عليه وسلم لما تفرقت عنه أصحابه، وصار يقول: إليّ يا فلان، إليّ يا فلان أنا رسول الله، فما يعرّج إليه أحد والنبل يأتي إليه من كل ناحية والله يصرفه عنه.
أي وفي الإمتاع أنه صلى الله عليه وسلم قال «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب، أنا ابن العواتك» فليتأمل. فإن المحفوظ أنه إنما قال ذلك في حنين وإن كان لا مانع من التعدد.
وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة أي من أصحابه منهم أبو طلحة فإنه استمرّ بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم يحوز عنه بحجفته. وكان رجلا راميا شديد الرمي، فنثر كنانته بين(2/310)
يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي وصار يقول: نفسي لنفسك الفداء، ووجهي لوجهك الوقاء، فلم يزل يرمي بها. وكان الرجل يمرّ بالجعبة بضم الجيم من النبل فيقول صلى الله عليه وسلم انثرها لأبي طلحة، أي وكسر ذلك اليوم قوسين أو ثلاثة، وصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرف: أي ينظر إلى القوم. وفي لفظ: ليرى مواضع النبل، فيقول له أبو طلحة: يا نبي الله بأبي أنت وأمي لا تشرف يصبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك انتهى، أي ويتطاول أبو طلحة بصدره يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واستدل بذلك على أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه يجب على كل مؤمن أن يؤثر حياته صلى الله عليه وسلم على حياته. قال: فلا خلاف أن هذا لا يجب لغيره، وهذا المذكور عن أبي طلحة من قوله: نحري دون نحرك نقله ابن المنير عن سعد بن أبي وقاص فقال ولهذا قال سعد يوم أحد: نحري دون نحرك، ولا زال صلى الله عليه وسلم يرمي عن قوسه أي المسماة بالكتوم لعدم تصويتها إذا رمى عنها حتى صارت شظايا: أي ذهب منها قطع.
وفي رواية: رمى عن قوسه حتى اندقت سيتها، والسية: ما انعطف من طرفي القوس اللذين هما محل الوتر. قال: وما زال صلى الله عليه وسلم يرمي عن قوسه حتى تقطع وتره وبقيت في يده منه قطعة تكون شبرا في سية القوس، فأخذ القوس عكاشة بن محصن ليوتره له. فقال: يا رسول الله لا يبلغ الوتر، فقال: مده يبلغ. قال عكاشة: فو الذي بعثه بالحق لمددته حتى بلغ وطويت منه لفتين أو ثلاثا على سية القوس، ورمي صلى الله عليه وسلم بالحجارة وكان أقرب الناس إلى القوم اهـ.
أي وأنكر الإمام أبو العباس بن تيمية كونه صلى الله عليه وسلم رمى عن قوسه حتى صارت شظايا، أي لأنه يبعد وجود رميه صلى الله عليه وسلم من غير إصابة، ولو أصاب أحدا لذكر، لأنه مما تتوفر الدواعي على نقله. وقاتل جماعة من أصحابه منهم سعد بن أبي وقاص، فإنه كان من الرماة المذكورين رمى بقوسه. قال سعد: لقد رأيته: يعني النبي صلى الله عليه وسلم يناولني النبل ويقول «ارم فداك أبي وأمي» حتى إنه ليناولني السهم ما له نصل فيقول ارم به. وقد تقدم أنه رمى بسهم من تلك السهام التي لا نصل لها لمن رمى أم أيمن.
قال: وفي رواية عن سعد قال «أجلسني رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامه، فجعلت أرمي وأقول: اللهم سهمك فارم به عدوّك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم استجب لسعد، اللهم سدد رميته، وأجب دعوته، حتى إذا فرغت من كنانتي نثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في كنانته» اهـ أي فكان سعد مجاب الدعوة كما تقدم.
ولما سعى أهل الكوفة به إلى سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه، أرسل جماعة للكوفة يسألون عن حاله من أهل الكوفة، فصاروا كلما سألوا عنه أحدا قال خيرا(2/311)
وأثنى عليه معروفا، حتى سألوا رجلا يقال له أبو سعدة ذمه وقال: لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية. فلما بلغ سعدا ذلك قال: اللهم إن كان كاذبا فأطل عمره، وأدم فقره، وأعم بصره، وعرضه للفتن، فعمي، وافتقر، وكبر سنه، وصار يتعرض للإماء في سكك الكوفة؛ فإذا قيل له: كيف أنت يا أبا سعدة؟ يقول: شيخ كبير فقير مفتون أصابتني دعوة سعد.
قيل لسعد: لم تستجاب دعوتك من دون الصحابة؟ فقال: ما رفعت إلى فمي لقمة إلا وأنا أعلم من أين جاءت، ومن أين خرجت؟ أي لأنه جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما «تليت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً [البقرة: الآية 168] فقام سعد بن أبي وقاص وقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة. فقال: والذي نفس محمد بيده إن العبد ليعقد اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما» .
وقد جاء في الحديث «من كان مأكله حراما، ومشربه حراما، وملبسه حراما فأنى يستجاب له» فليتأمل هذا الجواب.
وقد يقال: مراد سعد بقوله: ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، أي ممن يأكل الحلال الطيب ويميز عند الأكل بين الحرام وبين غيره حتى أكون مستجاب الدعوة.
ولعل المراد بالأكل ما يشمل الشرب. ولعل السكوت عن اللبس لأنه نادر بالنسبة للأكل، وجوابه صلى الله عليه وسلم بقوله «والذي نفس محمد بيده» تقرير لما فهمه سعد رضي الله عنه أن من يأكل غير الحلال لا يكون مستجاب الدعوة تأمل.
والحق أن سبب استجابة دعوة سعد دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك، ولعله إنما لم يجب بذلك لمن سأله بقوله لم تستجاب دعوتك من بين الصحابة، لأنه يجوز أن يكون دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك تأخر عن هذا فليتأمل.
وفي الشرف «أن سعدا رضي الله عنه رمى يوم أحد ألف سهم ما منها سهم إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له ارم فداك أبي وأمي، ففداه في ذلك اليوم ألف مرة» .
وعن علي كرم الله وجهه «ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فداك أبي وأمي إلا لسعد رضي الله عنه» وفي رواية «فما جمع صلى الله عليه وسلم أبويه لأحد إلا لسعد رضي الله تعالى عنه» .
قال في النور: الرواية الأولى أصح، لأنه أخبر فيها أنه لم يسمع، أي لأنه حينئذ لا يخالف ما جاء عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع لأبيه الزبير رضي الله عنه بين أبويه، أي قال له فداك أبي وأمي كسعد» أي وذلك في(2/312)
يوم الخندق حيث أتاه بخبر بني قريظة، وكذا الرواية الثانية لا تخالف، لأنها محمولة على سماعه.
وعلى الأخذ بظاهرها، وعدم حملها على ذلك يجاب بما قال في النور: ظهر لي أن عليا كرم الله وجهه إنما أراد تفدية خاصة وهي ألف مرة أو في خصوص أحد.
وكان صلى الله عليه وسلم يفتخر بسعد فيقول: «هذا سعد خالي، فليراني امرؤ خاله» لأن سعدا رضي الله عنه كان من بني زهرة، وكانت أم النبي صلى الله عليه وسلم منهم كما تقدم: أي «وكان رضي الله عنه إذا غاب يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لي لا أرى الصبيح المليح الفصيح؟» .
ولما كف بصره رضي الله عنه قيل له: لو دعوت الله سبحانه أن يرد عليك بصرك، فقال: قضاء الله أحب إليّ من بصري.
ولما حضرت الوفاة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه دعا بخلق جبة من صوف فقال: كفنوني فيها فإني كنت لقيت فيها المشركين يوم بدر، وإنما كنت أخبئها لهذا.
وممن كان مشهورا بالرماية سهيل بن حنيف رضي الله عنه، وكان ممن ثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم الذي هو يوم أحد. قال بعضهم: وكان بايعه صلى الله عليه وسلم يومئذ على الموت، فثبت معه صلى الله عليه وسلم حتى انكشف الناس عنه، وجعل ينضح بالنبل يومئذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال صلى الله عليه وسلم: نبلوا سهيلا: أي أعطوه النبل.
وجاء «أن خاله صلى الله عليه وسلم وهو الأسود بن وهب بن عبد مناف بن زهرة استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا خالي ادخل، فدخل فبسط له صلى الله عليه وسلم رداءه وقال: اجلس عليه إن الخال والد، يا خال من أسدى إليه معروف فلم يشكر فليذكر، فإنه إذا ذكر فقد شكر» وقال له «ألا أنبئك بشيء عسى الله أن ينفعك به؟ قال بلى، قال: إن أربي الربا استطالة المرء في عرض أخيه بغير حق» .
وعن أم عمارة المازنية رضي الله عنها: أي وهي نسيبة بالتصغير على المشهور، زوج زيد بن عاصم رضي الله عنه قالت «خرجت يوم أحد لأنظر ما يصنع الناس ومعي سقاء فيه ما أسقي به الجرحى، فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه والربح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقمت أباشر القتال، وأذب عنه بالسيف، وأرمي عن القوس حتى حصلت الجراحة إليّ رئي على عاتقها جرح أجوف له غور، فقيل لها من أصابك بهذا؟ قالت ابن قمئة، لما ولى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل يقول: دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير، فضربني هذه الضربة وضربته ضربات، ولكن عدو الله كان علي درعان» .(2/313)
قال: وفي كلام بعضهم خرجت نسيبة يوم أحد وزوجها زيد بن عاصم وابناهما خبيب وعبد الله رضي الله عنهم وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «رحمكم الله أهل البيت» .
وفي رواية «بارك الله فيكم أهل بيت» قالت له أم عمارة رضي الله عنها: ادع الله أن نرافقك في الجنة، فقال: اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة: أي وعند ذلك قالت رضي الله عنها: ما أبالي ما أصابني من أمر الدنيا» .
وقال صلى الله عليه وسلم في حقها «ما التفت يمينا ولا شمالا يوم أحد إلا ورأيتها تقاتل دوني» اهـ أي وقد جرحت رضي الله عنها اثني عشر جرحا بين طعنة برمح أو ضربة بسيف، وعبد الله ابنها رضي الله عنهما هو القاتل لمسيلمة الكذاب لعنه الله.
فعنها رضي الله عنها قالت: يوم اليمامة تقطعت يدي وأنا أريد قتل مسيلمة، وما كان لي ناهية: أي مانعة حتى رأيت الخبيث مقتولا، وإذا ابني عبد الله بن زيد يمسح سيفه بثيابه، فقلت: أقتلته؟ فقال نعم، فسجدت لله شكرا.
ولا ينافيه ما اشتهر أن قاتله وحشي. فعن وحشي رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي بعد أن قدم عليه في وفد ثقيف وأسلم كما سيأتي «يا وحشي اخرج فقاتل في سبيل الله كما كنت تقاتل لتصد عن سبيل الله، فلما كان خروج المسلمين لقتال مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة لما ولي الصديق رضي الله عنه الخلافة وارتدت العرب، خرجت معهم فأخذت حربتي، فلما رأيته تهيأت له وتهيأ له رجل من الأنصار من الناحية الأخرى، كلانا يريده، وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها فوقعت فيه، وشد عليه الأنصاري فضربه بالسيف فربك أعلم أينا قتله قال بعضهم: والأنصاري هو عبد الله بن زيد أي كما تقدم، وقيل غيره.
أي وفي كلام بعضهم: اشترك في قتل مسيلمة الكذاب لعنه الله أبو دجانة، وعبد الله بن زيد، ووحشي رضي الله عنهم. وفي تاريخ ابن كثير رحمه الله الاقتصار على وحشي وأبي دجانة.
وقد يقال: لا مخالفة، لأن كلا من الرواة روى بحسب ما رأى. وذكر ابن كثير أن ما يروى عن أبي دجانة رضي الله عنه من ذكر الحرز المنسوب إليه إسناده ضعيف لا يلتفت إليه.
وقد نقل عن وحشي رضي الله عنه أنه قال: قتلت بحربتي هذه خير الناس وشر الناس وكان عمر مسيلمة حين قتل مائة وخمسين سنة.
وذكر أن أبا دجانة رضي الله عنه تترس دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار يقع النبل على ظهره وهو منحن حتى كثر فيه النبل.
وقاتل دونه صلى الله عليه وسلم زيادة بن عمارة حتى أثبتته الجراحة: أي أصابت مقاتله، فقال صلى الله عليه وسلم:(2/314)
ادنوه مني فوسده قدمه الشريف، فمات رضي الله عنه وخده على قدمه الشريف صلى الله عليه وسلم.
وقاتل مصعب بن عمير رضي الله عنه دون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتله ابن قمئة لعنه الله وهو يظنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فرجع إلى قريش فقال: قتلت محمدا.
وقيل القاتل لمصعب رضي الله عنه أبي بن خلف لعنه الله، فإنه أقبل نحو النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول أين محمد لا نجوت إن نجا، فاستقبل مصعب بن عمير رضي الله عنه فقتل مصعبا، فاعترضه رجال من المسلمين؟ فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخلوا طريقه، أي فأقبل وهو يقول يا كذاب أين تفر، وتناول النبي صلى الله عليه وسلم الحربة من بعض أصحابه أي وهو الحارث بن الصمة أو الزبير بن العوام على ما سيأتي، فخدشه بها في عنقه خشدا غير كبير احتقن الدم: أي لم يخرج بسبب ذلك الخدش، فقال قتلني والله محمد، فقالوا: ذهب والله فؤادك، أي وفي لفظ: ذهب والله عقلك، إنك لتأخذ السهام من أضلاعك فترمي بها، فما هذا والله ما بك من بأس، ما أخدعك، إنما هو خدش، ولو كان هذا الذي بك بعين أحدنا ما ضره، فقال: واللات والعزى لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز؟ أي السوق المعروف من جملة أسواق الجاهلية كان عند عرفة كما تقدم. وفي لفظ: لو كان بربيعة ومضر أي وفي لفظ: بأهل الأرض لماتوا أجمعون. إنه قد كان قال لي بمكة أنا أقتلك، فوالله لو بصق عليّ لقتلني أي فضلا عن هذه الضربة لأنه كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم في مكة: يا محمد إن عندي العود يعني فرسا له أعلفه في كل يوم فرقا بفتح الراء: هو مكيال معروف يسع اثني عشر مدا من ذرة أقتلك عليها فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أقتلك إن شاء الله، فحقق الله تعالى قول نبيه صلى الله عليه وسلم.
هذا، وعن سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن أبي بن خلف قال حين أفتدي:
أي من الأسر ببدر: والله إن عندي لفرسا أعلفها كل يوم فرقا من ذرة أقتل عليها محمدا، فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بل أنا أقتله إن شاء الله.
أقول: يمكن الجمع بأنه تكرر ذلك من أبي لعنه الله ومن النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
وفي رواية «أبصر صلى الله عليه وسلم ترقوته» بالفتح لا بالضم «من فرجة من سابغة الدرع» وهي ما يغطى به العنق من الدرع كما تقدم «فطعنه طعنة أي كسر فيها ضلعا» بكسر الضاد وفتح اللام وتسكينها «من أضلاعه» أي وهو المناسب لما في بعض الروايات «أن النبي صلى الله عليه وسلم طعنه طعنة وقع فيها مرارا من على فرسه وجعل يخور كما يخور الثور إذا ذبح، وإنه صلى الله عليه وسلم لما أخذ الحربة من الحارث بن الصمة، وقيل من الزبير بن العوام رضي الله عنه انتفض بها انتفاضة شديدة ثم استقبله فطعنه في عنقه» .
أقول: ولا مخالفة بين كون الطعنة في عنقه وكونها في ترقوته، لأن الترقوة في أصل العنق.(2/315)
ولا مخالفة أيضا بين كون الحاصل من الطعنة خدشا مع اعتنائه صلى الله عليه وسلم بالطعنة وناهيك بعزمه صلى الله عليه وسلم، لأن كون الخدش في الظاهر، أي بحسب ما يظهر للرائي والشدة في الباطن أقوى في النكاية. ودليل وجود الشدة في الباطن وقوعه مرارا، وكونه خار كالثور الذي يذبح، وكون الطعن في العنق يفضي إلى كسر الضلع من خوارق العادات، لكن رأيت في رواية أنه ضرب تحت إبطه فكسر ضلعا من أضلاعه.
وقد يقال يجوز أن تكون الحربة نفذت من المكان المذكور. قال في النور:
ولم يقتل بيده الشريفة صلى الله عليه وسلم قط أحدا إلا أبي بن خلف لا قبل ولا بعد، ثم مات عدوّ الله وهم قافلون به إلى مكة: أي بسرف بفتح السين المهملة وكسر الراء، وهو المناسب لوصفه لأنه مسرف وقيل ببطن رابغ.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال «إني لأسير ببطن رابغ بعد هدّو من الليل إذا نار تأجج لي لهبها، وإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذب بها يصيح العطش، وناداني: يا عبد الله، فلا أدري أعرف اسمي، أو كما يقول الرجل لمن يجهل اسمه يا عبد الله؟ فالتفت إليه، فقال: اسقني، فأردت أن أفعل، وإذا رجل وهو الموكل بعذابه يقول: لا تسقه هذا قتيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا أبيّ بن خلف لعنه الله» رواه البيهقي.
ويدل لهذا ما جاء في الحديث «كل من قتله نبي أو قتل بأمر نبي في زمنه يعذب من حين قتل إلى نفخ الصعقة» وجاء «أشدّ الناس عذابا من قتله نبي» أي وفي رواية «اشتد غضب الله عز وجل على رجل قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسحقا لأصحاب السعير» .
وفي رواية «اشتد غضب الله عز وجل على رجل قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله» أي لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مأمورون باللطف والشفقة على عباد الله، فما يحمل الواحد منهم على قتل شخص إلا أمر عظيم ورسول الله صلى الله عليه وسلم أكملهم لطفا ورفقا وسعة بعباد الله.
وفي شرح التقريب احترز بقوله في سبيل الله عمن يقتله حدا أو قصاصا لأن من يقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله كان قاصدا قتله صلى الله عليه وسلم، وقد اتفق ذلك لأبيّ بن خلف لعنه الله، وقد تقدم أن ابن مرزوق رحمه الله ذكر أن ابن عمر مرّ ببدر فإذا رجل يعذب ويئن، فناداه يا عبد الله، فالتفت إليه فقال اسقني، فأردت أن أفعل فقال الأسود الموكل بتعذيبه. لا تفعل يا عبد الله، فإن هذا من المشركين الذين قتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أي أصحابه، رواه الطبراني في الأوسط، ولا بعد في تعدد الواقعة.
ثم رأيت في الخصائص الكبرى ما يقتضي التعدد فإنه ذكر فيها أن ابن عمر رضي الله عنهما ذكر ذلك: أي مروره ببدر للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه صلى الله عليه وسلم قال له ذلك أبو جهل، وذلك عذابه إلى يوم القيامة. وقد ذكرت ذلك في الكلام على غزوة بدر.(2/316)
ووقع صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي حفرت للمسلمين: أي التي حفرها أبو عامر الفاسق والد حنظلة غسيل الملائكة رضي الله عنه، واسم أبي عامر عبد عمرو، مات كافرا بأرض الروم، فر إليها لما فتحت مكة ليقعوا فيها وهم لا يعلمون، فأغمي عليه صلى الله عليه وسلم، وجحشت: أي خدشت ركبتاه، فأخذ علي كرم الله وجهه بيده، ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما.
وكان سبب وقوعه صلى الله عليه وسلم أن ابن قمئة لعنه الله علاه صلى الله عليه وسلم بالسيف فلم يؤثر فيه السيف إلا أن ثقل السيف أثر في عاتقه الشريف، فشكا صلى الله عليه وسلم منه شهرا أو أكثر، وقذف صلى الله عليه وسلم بالحجارة حتى وقع لشقه، ورماه صلى الله عليه وسلم عتبة بن أبي وقاص أخو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بحجر، فكسر رباعيته اليمنى السفلى، وشق شفته السفلى:
أي ودعا عليه صلى الله عليه وسلم بقوله «اللهم لا يحول عليه الحول حتى يموت كافرا» . وقد استجاب الله تعالى ذلك، وقتله في ذلك اليوم حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه.
قال حاطب: لما رأيت ما فعل عتبة برسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أين توجه عتبة؟ فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى حيث توجه فمضيت حتى ظفرت به، فضربته بالسيف فطرحت رأسه، فنزلت وأخذت فرسه وسيفه وجئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: رضي الله عنك رضي الله عنك مرتين: أي ولا يخالف هذا قول بعضهم فمات بعد بقليل، لكن يخالف القول بأنه مات بعد أن أسلم بعد الفتح وأنه أثبت ولم يولد لعتبة ولد أو ولد ولد إلا وهو أهتم: أي ساقط مقدّم أسنانه أي التي هي الرباعيات أبخر يعرف ذلك في عقبه، وكسرت البيضة أي الخوذة على رأسه صلى الله عليه وسلم وشج وجهه الشريف، شجه عبد الله بن شهاب الزهري رضي الله عنه فإنه أسلم بعد ذلك، وهو جد الإمام الزهري رحمه الله. ويجوز أن يكون من قبل أمه، أي ويقال له عبد الله الأصغر، أي ولعل هذا حصل منه قبل أو بعد قوله دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف إلى جنبه ما معه أحد ثم جاوزه، فعاتبه في ذلك صفوان فقال: والله ما رأيته، أحلف بالله إنه منا ممنوع.
وجدّ الإمام الزهري من قبل أبيه يقال له عبد الله بن شهاب، ويقال له عبد الله الأكبر رضي الله عنه كان من مهاجري الحبشة، توفي بمكة قبل الهجرة. وأشار صاحب الهمزية رحمه الله إلى أن هذه الشجة لم تشنه صلى الله عليه وسلم بل زادته جمالا بقوله:
مظهر شجة الجبين على البر ... ء كما أظهر الهلال البراء
ستر الحسن منه بالحسن فاعجب ... لجمال له الجمال وقاء
فهو كالزهر لاح من سجف الأك ... مام والعود شق عنه اللحاء
أي مظهر وجهه الشريف أثر جرح جبينه: أي جبهته مع برئها ظهورا كظهور(2/317)
الهلال ليلة استهلاله، ستر ذلك الوجه الحسن الأصلي بالحسن العارض بسبب ذلك الجرح، فأعجب لجمال أصلي له الجمال العارض وقاية وساتر، فهو: أي ما ظهر بذلك الجرح كالزهر إذا ظهر من ستره وكالعود الذي يتطيب به إذا أزيل عنه قشره، وقال حسان رضي الله عنه في وصف جبينه الشريف صلى الله عليه وسلم:
متى يبدو في الداجي البهيم جبينه ... يلح مثل مصباح الدجى المتوقد
وجرحت وجناته صلى الله عليه وسلم بسبب دخول حلقتين من المغفر في وجنتيه بضربة من ابن قمئة لعنه الله، وقال له لما ضربه: خذها وأنا ابن قمئة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقمأك الله عز وجل: أي صغرك وأذلك. وقد استجاب الله فيه دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإنه بعد الوقعة خرج إلى غنمه فوافاها على ذروة الجبل: أي أعلى الجبل، فأخذ يعترضها فشد عليه كبشها فنطحه أرداه من شاهق الجبل فتقطع. وفي رواية: فسلط الله عليه تيس جبل، فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة قطعة.
أقول: ويمكن الجمع بأنه لما نطحه ذلك الكبش ووقع من شاهق الجبل إلى أسفل سلط الله عليه عند ذلك تيس الجبل فنطحه حتى قطعه قطعا زيادة في نكاله وخزيه ووباله، لعنة الله عليه، والله أعلم.
«ولما جرح وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم صار الدم يسيل على وجهه الشريف، وجعل صلى الله عليه وسلم يمسح الدم. وفي لفظ: ينشف دمه وهو يقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم» أي وفي رواية «اشتد غضب الله على قوم أدموا وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) [آل عمران: الآية 128] أي وفي رواية «صار صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم العن فلانا وفلانا: أي اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن سهيل بن عمرو، اللهم العن صفوان بن أمية فأنزل الله تعالى الآية» .
فإن قيل كيف هذا مع قوله تعالى وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: الآية 67] .
أجيب بأن هذه الآية نزلت بعد أحد.
وعلى تسليم أنها نزلت قبله، فالمراد عصمته من القتل. قال الشيخ محيي الدين بن العربي رحمه الله: لا يخفى أن أجر كل نبي في التبليغ يكون على قدر ما ناله من المشقة الحاصلة له من المخالفين له، وعلى قدر ما يقاسيه منهم. وله أجر الهداية لمن أطاعه ولا أحد أكثر أجرا من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإنه لم يتفق لنبي من الأنبياء ما اتفق له صلى الله عليه وسلم في كثير من طائعي أمة أجابته، ولا في كثير عصاة أمة دعوته الخارجين عن الإجابة.
وامتص مالك بن سنان الخدري وهو والد أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما(2/318)
دم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ازدرده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من مس دمي دمه لم تصبه النار» .
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال «من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا» وأشار إليه فاستشهد في هذه الغزاة. وفي لفظ «من سره أن ينظر إلى من لا تمسه النار فلينظر إلى مالك بن سنان رضي الله عنه» ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم أمر هذا الذي امتص دمه بغسل فمه ولا أنه غسل فمه من ذلك، كما لم ينقل أنه أمر حاضنته أم أيمن بركة الحبشية رضي الله عنها بغسل فمها ولا هي غسلته من ذلك لما شربت بوله صلى الله عليه وسلم.
فعنها رضي الله عنها أنها قالت «قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل إلى فخارة أي تحت سريره فبال فيها فقمت وأنا عطشى فشربت ما في الفخارة وأنا لا أشعر، فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا أم أيمن قومي إلى تلك الفخارة فأهريقي ما فيها، فقالت:
والله لقد شربت ما فيها، فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال: لا يجفر» بالجيم والفاء «بطنك بعده أبدا» وفي لفظ «لا تلج النار بطنك» وفي أخرى «لا تشتكي بطنك» أي ويجوز أنه صلى الله عليه وسلم قال: هذه الألفاظ الثلاثة وكل روى بحسب ما سمع منها، فتكون هذه الأمور الثلاثة تحصل لأم أيمن رضي الله عنها وفي رواية بدل فخارة «إناء من عيدان» بالفتح: الطوال من النخل، فإن صحا حملا على التعدد لأم أيمن رضي الله عنها، ولا مانع منه.
وقد شرب بوله صلى الله عليه وسلم أيضا امرأة يقال لها بركة بنت ثعلبة بن عمرو، كانت تخدم أم حبيبة رضي الله عنها؛ جاءت معها من الحبشة: أي ومن ثم قيل لها بركة الحبشية.
وفي كلام ابن الجوزي: بركة بنت يسار مولاة أبي سفيان الحبشية خادمة أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، هذا كلامه.
ولا مخالفة، لأنه يجوز أن يكون يسار لقبه ثعلبة، وكانت معها في الحبشة ثم قدمت معها مكة، كانت تكنى بأم يوسف، فقال لها صلى الله عليه وسلم حين علم أنها شربت ذلك «صحة يا أم يوسف» فما مرضت قط حتى كان مرضها الذي ماتت فيه.
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لها «لقد احتظرت من النار بحظار» وشرب دمه صلى الله عليه وسلم أيضا أبو طيبة الحجام، وعليّ كرم الله وجهه، وكذا عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما.
فعن عبد الله بن الزبير قال «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحتجم، فلما فرغ قال: يا عبد الله اذهب بهذا الدم فأهرقه حتى لا يراك أحد، قال فشربته، فلما رجعت قال: يا عبد الله ما صنعت؟ قلت: جعلته في أخفى مكان علمت أنه يخفى على الناس، قال:(2/319)
لعلك شربته، قلت نعم، قال: ويل للناس منك وويل لك من الناس» وكان بسبب ذلك على غاية من الشجاعة.
ولما وفد أخوه شقيقه عروة بن الزبير أحد الفقهاء السبعة من المدينة على عبد الملك بن مروان قال له يوما: أريد أن تعطيني سيف أخي عبد الله، فقال له عبد الملك: هو بين السيوف ولا أميزه، فقال له عروة: إذا حضرت السيوف ميزته أنا، فأمر عبد الملك بإحضارها، فلما أحضرت أخذ منها سيفا مفلل الحد، وقال هذا سيف أخي، فقال له عبد الملك: كنت تعرفه قبل الآن؟ قال لا، فقال كيف عرفته؟
قال بقول النابغة الذبياني:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
وأخذ من ذلك بعض أئمتنا طهارة فضلاته صلى الله عليه وسلم، حيث لم يأمره بغسل فمه، ولم يغسل هو فمه، وأن شربه جائز حيث أقر على شربه.
وما أورده في الاستيعاب أن رجلا من الصحابة اسمه سالم حجمه صلى الله عليه وسلم ثم ازدرد دمه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «أما علمت أن الدم كله حرام» أي شربه غير صحيح، فقد قال بعضهم هو حديث لا يعرف له إسناد فلا يعارض ما قبله. على أنه يمكن أن يكون ذلك سابقا على إقراره على ذلك والله أعلم.
ونزع أبو عبيدة عامر بن عبد الله الجراح رضي الله تعالى عنه إحدى الحلقتين من وجنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقطت ثنية أبي عبيدة، ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى.
وقيل الذي نزعهما عقبة بن وهب بن كلدة. وقيل طلحة بن عبيد الله، ولعل الثلاثة عالجوا إخراجها، وكان أشدّهم لذلك أبو عبيدة رضي الله عنه.
قال بعضهم: ولما سقط مقدم أسنان أبي عبيدة صار أهتم ولم ير قط أهتم أحسن من أبي عبيدة، لأن ذلك الهتم حسن فاه.
وكان أوّل من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة، وقول القائل قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك. قال: عرفت عينيه تزهران، أي تضيئان وتتوقدان من تحت المغفر، وهو ما يجعل على الرأس من الزرد، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليّ أن أنصت.
وعن بعض الصحابة قال: لما صرخ الشيطان قتل محمد لم نشك في أنه حق، وما زلنا كذلك حتى طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين السعدين فعرفناه بكتفيه إذا مشى، ففرحنا حتى كأنه لم يصبنا ما أصابنا، فلما عرف المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم نهضوا به ونهض معهم نحو الشعب فيهم أبو بكر وعمر وعلي وطلحة والزبير والحارث بن الصمة رضي الله عنهم.(2/320)
وفي خصائص العشرة للزمخشري؛ وثبت يعني الزبير رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وبايعه على الموت، هذا كلامه فليتأمل.
وقول بعض الرافضة انهزم الناس كلهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه ممنوع، وقوله: وتعجبت الملائكة من شأن عليّ، وقول جبريل عليه السلام وهو يعرج إلى السماء «لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا عليّ» قوله وقتل عليّ كرم الله وجهه أكثر المشركين في هذه الغزوة، فكان الفتح فيها على يديه وقال: أصابتني يوم أحد ست عشرة ضربة سقطت إلى الأرض في أربع منهنّ، فجاءني رجل حسن الوجه حسن اللحية طيب الريح وأخذ بضبعي فأقامني، ثم قال:
أقبل عليهم فقاتل في طاعة الله وطاعة رسول الله فإنهما عنك راضيان.
ولما أخبرت النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا علي أما تعرف الرجل؟ فقلت: لا، ولكن شبهته بدحية الكلبي، فقال صلى الله عليه وسلم: يا علي أقرّ الله عينك فإنه جبريل عليه السلام، جميعه رده الإمام أبو العباس بن تيمية بأنه كذب باتفاق الناس وبين ذلك بما يطول.
قال: وأقبل عثمان بن عبد الله بن المغيرة على فرس أبلق وعليه لامة كاملة قاصدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوجه للشعب، وهو يقول: لا نجوت إن نجا، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فعثر بعثمان فرسه في بعض تلك الحفر ومشى إليه الحارث بن الصمة رضي الله عنه، فاصطدما ساعة بسيفهما ثم ضربه الحارث على رجله فبرك وذفف عليه وأخذ درعه ومغفره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الحمد لله الذي أحانه» أي أهلكه.
وأقبل عبيد الله بن جابر العامري يعدو فضربه الحارث على عاتقه فجرحه فاحتمله أصحابه. ووثب أبو دجانة رضي الله عنه إلى عبيد الله فذبحه بالسيف ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى.
ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فم الشعب خرج عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه حتى ملأ درقته ماء وغسل به صلى الله عليه وسلم عن وجهه الشريف الدم وهو يقول: «اشتدّ غضب الله على من أدمى وجه نبيه» أي والسياق يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك أيضا بعد قوله «كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم» ونزول تلك الآية، فإن ذلك كان قبل غسل وجهه الشريف.
قال: ثم أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلو الصخرة التي في الشعب، فلما ذهب لينهض لم يستطع: أي لأنه صلى الله عليه وسلم ضعف لكثرة ما خرج من دم رأسه الشريف ووجهه مع كونه صلى الله عليه وسلم عليه درعان، فجلس تحت طلحة بن عبيد الله فنهض به حتى استوى عليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أوجب طلحة» أي فعل شيئا استوجب به الجنة حين صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع انتهى.(2/321)
أي وقيل إن طلحة رضي الله عنه كان في مشيه اختلاف لعرج كان به، فلما حمل النبي صلى الله عليه وسلم تكلف استقامة المشي لئلا يشق عليه صلى الله عليه وسلم فذهب عرجه ولم يعد إليه.
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم انطلق حتى أتى أصحاب الصخرة: أي الجماعة الذين من الصحابة الذين علوا الصخرة: أي التي في الشعب، فلما رأوه وضع رجل سهما في قوسه وأراد أن يرميه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا رسول الله، ففرحوا بذلك وفرح رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وجد في أصحابه من يمنع: أي ولعل هذا الذي أراد رميه صلى الله عليه وسلم لم يعرفه ولا من معه من الصحابة لارتفاع الصخرة.
قال: وعطش صلى الله عليه وسلم عطشا شديدا: أي ولم يشرب من الماء الذي جاء به علي كرم الله وجهه في درقته، لأنه صلى الله عليه وسلم وجد له ريحا فعافه: أي كرهه فخرج محمد بن مسلمة رضي الله عنه يطلب له ماء فلم يجد. فذهب إلى مياه فأتى منها بماء عذب، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له بخير.
وفي بعض الروايات أن نساء المدينة خرجن وفيهنّ فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتنقته وجعلت تغسل جراحاته، وعليّ كرم الله وجهه يسكب الماء فتزايد الدم، فلما رأت ذلك أخذت شيئا من حصير: أي معمول من البردي فأحرقته بالنار حتى صار رمادا، فأخذت ذلك الرماد وكمدته حتى لصق بالجرح فاستمسك الدم انتهى، أي لأن البردي له فعل قويّ في حبس الدم لأن فيه تجفيفا قويا.
وفي حديث غريب أنه صلى الله عليه وسلم داوى جرحه بعظم بال أي محرق.
وقد يقال: يجوز أن يكون الراوي ظنّ ذلك البردي المحرق عظما محرقا بناء على صحة تلك الرواية. وعن وضع هذا الرماد الحار عبر بعضهم بأنه صلى الله عليه وسلم اكتوى في وجهه وجعله معارضا للحديث الصحيح في وصف السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة من غير حساب بأنهم لا يكتوون.
وعارضه أيضا بأنه صلى الله عليه وسلم كوى سعد بن معاذ مرتين ليرقأ: أي ينقطع الدم من جرحه، وكوى أسعد بن زرارة رضي الله عنه لمرض الذبحة.
ففي كلام بعضهم: كان موت أسعد بن زرارة رضي الله عنه بمرض يقال له الذبحة فكواه النبي صلى الله عليه وسلم بيده وقال: بئس الميتة لليهود؛ يقولون أفلا دفع عن صاحبه وما أملك له ولا لنفسي شيئا.
وأجيب بأن هذا الحديث محمول على من اكتوى خوفا من حدوث الداء، أو لأنهم كانوا يعظمون أمره ويرون أنه يقطع الداء، وإذا لم يكو العضو عطب وبطل، وهو محمل قوله صلى الله عليه وسلم «لم يتوكل من اكتوى» أو على من يفعله مع قيام غيره من الأدوية مقامه.(2/322)
ومحمل ما في الخصائص الكبرى أن الملائكة كانت تصافح عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه وتسلم عليه من جانب بيته ثلاثين سنة حتى اكتوى أي لبواسير كانت به فكان يصبر على ألمها، فلما ترك الكيّ عادت الملائكة إلى سلامها عليه، لأن ذلك قادح في التوكل.
وما في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال «الشفاء في ثلاثة: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنا أنهي أمتي عن الكيّ» وفي رواية «وما أحبّ أن أكتوي» أي فالنهي للتنزيه لا للتحريم وإلا لم يفعله عمران مع علمه بالنهي.
قال في الهدى: وأراد صلى الله عليه وسلم بقوله: وأنا أنهي إلى آخره: أي أنه لا يؤتى بالكيّ إلا إذا لم ينجع الدواء فلا يأتي به أولا ومن ثم أخره.
قيل والفصد داخل في شرطة المحجم. والحجامة في البلاد الحارة أنفع من الفصد، هذا كلامه.
وبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب مع أولئك النفر من أصحابه إذ علت طائفة من قريش الجبل معهم خالد بن الوليد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إنهم لا ينبغي لهم أن يعلونا، اللهم لا قوّة لنا إلا بك» فقاتلهم عمر بن الخطاب وجماعة من المهاجرين حتى أهبطوا من الجبل، أي ونزل قوله تعالى وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ [آل عمران: الآية 139] أي لا تضعفوا عن الحرب، ولا تحزنوا على ما فاتكم من الظفر بالكفار.
ولعل هذا كان قبل أن يعلو صلى الله عليه وسلم الصخرة كما تقدم. أو لعل الجبل كان أعلى من تلك الصخرة.
قال: وفي بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم قال لسعد «ارددهم، قال: كيف ارددهم وحدي؟ فقال له ارددهم» قال سعد رضي الله عنه: فأخذت سهما من كنانتي فرميت به رجلا منهم فقتلته، ثم أخذت سهما فإذا هو سهمي الذي رميت به آخر فقتلته ثم أخذت سهما آخر فإذا هو سهمي الذي رميت به آخر فقتلته، ثم أخذت سهما فإذا هو سهمي الذي رميت به فرميت به آخر فقتلته، فهبطوا من مكانهم، فقلت: هذا سهم مبارك، فكان عندي في كنانتي لا يفارق كنانتي، وكان بعده عند بنيه انتهى.
أي وحينئذ يحتاج إلى الجمع بين هذا: أي كون سعد ردهم وحده بهذا السهم. وما قبله الدال على أن الرادّ لهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجماعة من المهاجرين.
وروي عنه أنه قال «لقد رأيتني أرمي بالسهم يوم أحد فيرده عليّ رجل أبيض(2/323)
حسن الوجه لا أعرفه حتى كان بعد» أي حتى بعد انقضاء الحرب لم أعرفه، فظننت أنه ملك، أي وفي رواية عنه أنه قال «رميت بسهم فرده عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وسهمي أعرفه حتى واليت بين ثمانية أو تسعة، كل ذلك يرده عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: هذا سهم دم» أي يصيب «فجعلته في كنانتي لا يفارقني» .
أقول: ولا منافاة بين هذا وبين قوله ثم أخذت سهما، لأن قوله المذكور لا ينافي أن يكون أخذه بمناولته صلى الله عليه وسلم لا من كنانته كما قد يتبادر، ولا بين قوله فيرده عليّ رجل أبيض حسن الوجه لا أعرفه، لأنه يجوز أن يكون ذلك الرجل كان يرد السهام التي كان يرمي بها حتى لا تفنى سهامه إلا هذا السهم فإنه لم يرده له، بل يناوله له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرده عليه. ولا منافاة بين قوله: حتى واليت بين ثمانية أو تسعة وبين إخباره بقوله: ثم أخذت سهما إلى أن عدد خمس مرات، لأنه يجوز أن تكون تلك الخمسة قتل فيها وفيما زاد لم يقتل بل جرح فليتأمل والله أعلم.
وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهر ذلك اليوم وهو جالس من الجراحة التي أصابته.
وصلى المسلمون خلفه قعودا: أي ولعلّ ذلك كان بعد انصراف عدوهم. وإنما صلى المسلمون خلفه صلى الله عليه وسلم قعودا موافقة له صلى الله عليه وسلم وقد نسخ ذلك.
أو أن من صلى قاعدا إنما هو لما أصابهم من الجراح وكانوا هم الأغلب، فقيل صلى المسلمون خلفه قعودا؛ فقد جاء أنه وجد بطلحة رضي الله عنه نيف وسبعون جراحة من طعنة وضربة ورمية وقطعت أصبعه. وفي رواية أنامله. وعند ذلك قال حسن، فقال له صلى الله عليه وسلم: «لو قلت بسم الله لرفعتك الملائكة عليهم السلام والناس ينظرون إليك حتى تلج بك في جوّ السماء» زاد في لفظ «ولرأيت بناءك الذي بني الله لك في الجنة وأنت في الدنيا» .
وفي البخاري عن قيس بن أبي حازم قال «رأيت يد طلحة بن عبيد الله شلاء وقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد» أي من سهم، وقيل من حربة ونزف به الدم حتى غشي عليه؛ ونضح أبو بكر رضي الله عنه الماء في وجهه حتى أفاق، فقال ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال له أبو بكر: هو بخير، وهو أرسلني إليك، فقال: الحمد الله كل مصيبة بعده جلل أي قليلة.
وكان يقال لطلحة رضي الله عنه الفياض، سماه بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة العشيرة كما تقدم. وسماه طلحة الجود في أحد، لأنه أنفق في أحد سبعمائة ألف درهم. وسماه في أحد أيضا طلحة الخير.
وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أصيب فوه فهتم وجرح عشرين جراحة.
قال وفي رواية عشرين جراحة فأكثر، وجرح في رجله فكان يعرج منها.(2/324)
وأصاب كعب بن مالك رضي الله عنه سبعة عشر جراحة. وفي رواية عشرون جراحة قال عاصم بن عمر بن قتادة: كان عندنا رجل غريب لا ندري ممن هو، أي يظهر الإسلام يقال له قزمان، وكان ذا بأس وقوة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر يقول إنه لمن أهل النار، فلما كان يوم أحد قاتل قزمان قتالا شديدا أي فكان أول من رمى من المسلمين بسهم، وكان يرمي النبال كأنها الرمال ثم فعل بالسيف الأفاعيل فكان يكت كتيت الجمل. وقتل ثمانية أو تسعة من المشركين. ولما أخبر صلى الله عليه وسلم بذلك قال إنه من أهل النار، فأعظم الناس ذلك، وأثبتته الجراحة فاحتمل إلى دار بني ظفر، لأنه كان حليفا لهم فجعل رجال من المسلمين يقولون: والله لقد ابتليت اليوم يا قزمان فأبشر، فيقول بماذا أبشر؟ فو الله: ما قاتلت إلا على أحساب قومي: أي على شرفهم ومفاخرهم: أي مناصرة لهم، ولولا ذلك ما قاتلت: أي فلم يقاتل لإعلاء كلمة الله ورسوله وقهر أعدائهما.
أي وفي رواية أن قتادة رضي الله عنه قال له: هنيئا لك الشهادة يا أبا الغيداق؟
فقال إني والله ما قاتلت يا أبا عمرو على دين، ما قاتلت إلا على الحفاظ أن تسير إلينا قريش حتى تطأ أرضنا، فلما اشتدت عليه الجراحة أخذ سهما من كنانته فقتل به نفسه: أي قطع به عروقا في باطن الذراع يقال لها الزواهق: أي وفي رواية: فجعل ذباب سيفه في صدره أي بين ثدييه كما في رواية ثم تحامل عليه حتى قتل نفسه.
قال في النور: وهو الصحيح، ولا مانع أن يكون فعل كلا من الأمرين، أي وعند ذلك جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال أشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وما ذاك؟ قال:
الرجل الذي ذكرت آنفا أنه من أصحاب النار فعل كذا وكذا.
وقد جاء: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» فنص عليه، وحينئذ قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة» .
ففيه إشارة إلى باطن الأمر قد يكون بخلاف ظاهره. وقال صلى الله عليه وسلم «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» أي وقد أشار إلى هذا الإمام السبكي رحمه الله تعالى في تائيته بقوله:
وقلت لشخص يدعي الدين إنه ... بنار فألقى نفسه للمنية
هذا وفي كلام ابن الجوزي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، فقال لرجل ممن يدّعي الإسلام: هذا من أهل النار، فلما حضرنا القتال قاتل الرجل قتالا شديدا فأصابته جراحة فقيل: يا رسول الله، الرجل(2/325)
الذي قلت إنه من أهل النار، فإنه قاتل اليوم قتالا شديدا وقد مات، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم كما قال: إلى النار. ثم قيل إنه لم يمت ولكن به جراحة شديدة. فلما كان من الليل لم يصبر على الجراحة فقتل نفسه، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الله أكبر، أشهد أني عبد الله ورسوله، فأمر بلالا فنادى في الناس: إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلم وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» وهذا الرجل اسمه قزمان من المنافقين، هذا كلامه فليتأمّل، فإن تعدّد الشخص المسمى بهذا الاسم فيه بعد. ولعلّ ذكر خيبر بدل أحد اشتباه من الراوي. وقوله صلى الله عليه وسلم «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» عام فيدخل في كل من الملك والعالم الذي جعل تسليكه وتعليمه مصيدة للدنيا وأكل الحرام فإن الله يحيي بهما قلوبا؛ ويهدي بهما إلى سواء السبيل مع أنهما فاجران.
وقتل الأصيرم أصيرم بني عبد الأشهل. قال بعضهم: كان الأصيرم يأبى الإسلام على قومه بني عبد الأشهل، فلما كان يوم خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد جاء إلى المدينة، فسأل عن قومه، فقيل له بأحد، فبدا له في الإسلام: أي رغب فيه فأسلم ثم أخذ سيفه ورمحه ولأمته، وركب فرسه، فغدا- بالغين المعجمة- حتى دخل في عرض الناس أي بضم العين المهملة وبالضاء المعجمة: جانبهم وناحيتهم، فقاتل حتى أثبتته الجراحة أصابت مقاتله، فبينما رجال من بني عبد الأشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة إذا هم به، فقالوا والله إن هذا الأصيرم، فسألوه ما جاء بك مناصرة لقومك، أم رغبة في الإسلام؟ فقال: بل رغبة في الإسلام، آمنت بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم، ثم جئت وقاتلت حتى أصابني ما أصابني، ثم لم يلبث أن مات في أيديهم فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنه لمن أهل الجنة» وكان أبو هريرة يقول: حدّثني عن رجل دخل الجنة ولم يصل: يعني الأصيرم. ويصدق عى هذا قوله عليه الصلاة والسلام «وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار» الحديث.
أي وممن يدخل الجنة ولم يصلّ الأسود الراعي لبعض يهود خيبر، الذي جاء للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله أعرض عليّ الإسلام فعرضه عليه فأسلم. ثم تقدم ليقاتل فأصابه حجر فقتله وما صلى صلاة قط كما سيأتي في غزاة خيبر.
وقتل حنظلة بن أبي عامر الفاسق رضي الله عنه، وأبو عامر هذا هو الذي كان يسمى في الجاهلية الراهب، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق كما تقدم، وكان هو وعبد الله بن أبي ابن سلول من رؤوس أهل المدينة وعظمائها المتوّجين للرياسة على أهلها.
وكان أبو عامر من الأوس، ويقال له ابن صيفي، وكان عبد الله من الخزرج.
فعبد الله بن أبي أظهر الإسلام. وأما أبو عامر فأصرّ على الكفر إلى أن مات طريدا وحيدا إجابة لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث دعا عليه بذلك. وإلى ذلك أشار إلى الإمام(2/326)
السبكي رحمه الله في تائيته بقوله:
ومات ابن صيفي على الصفة التي ... ذكرت وحيدا بعد طرد وغربة
وقد كان أبو عامر هذا خرج من المدينة مباعدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه خمسون غلاما، وقيل خمسة عشر من قومه من الأوس، فلحق بمكة وكان يعد قريشا أنه لو لقي قومه: أي الأوس لم يختلف عليه منهم رجلان. فلما جاء مع قريش نادى: يا معشر الأوس أنا أبو عامر، وقالوا له: لا أنعم الله بك عينا يا فاسق، أي وفي لفظ قالوا له: لا مرحبا بك ولا أهلا يا فاسق. ولا مانع من صدور الأمرين منهم، فلما سمع ردّهم عليه قال لعنه الله: لقد أصاب قومي بعدي شرّ، ثم قاتل قتالا شديدا.
وهو الذي حفر الحفائر ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون، التي وقع في إحداها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم، أي وكان هو أوّل من أثار الحرب وضرب بأسهم في وجوه المسلمين، واستأذن ولده حنظلة رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله فنهاه عن قتله.
وسبب قتل حنظلة رضي الله تعالى عنه أن حنظلة ضرب فرس أبي سفيان فوقع على الأرض فصاح وعلاه حنظلة رضي الله عنه يريد ذبحه فرآه شدّاد بن الأوس كذا في الأصل قيل وصوابه شدّاد بن الأسود، فحمل عليه فقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن صاحبكم، يعني حنظلة، لتغسله الملائكة» أي وفي رواية «رأيت الملائكة تغسل حنظلة بين السماء والأرض بماء المزن في صحاف الفضة فسئلت صاحبته أي زوجته وهي جميلة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين أخت ولده عبد الله رضي الله عنهما، فقالت: خرج جنبا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لذلك غسلته الملائكة» فإنه دخل عليها عروسا تلك الليلة التي صبيحتها أحد، وقد كان استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك: أي في الدخول بها، فلما صلى الصبح غدا يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلزمته، فكان معها فأجنب منها ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى العدّو فعجل عن الغسل إجابة للداعي.
وفي رواية أنها قالت: خرج وهو جنب حين سمع الهاتفة: أي الصياح بالخروج للعدّو. وفي لفظ: الهائعة. وفي لفظ: الهيعة، من الهياع: وهو الصياح الذي فيه فزع. وقد جاء في الحديث «خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه» فلما سمع هيعة طار إليها.
وفي رواية: وقد كان غسل أحد شقيه، فخرج ولم يغسل الشق الآخر. وقد رأت هي تلك الليلة أن السماء قد فرجت فدخل فيها ثم أطبقت. وجاء أنها أشهدت أربعة من قومها عليه بالدخول بها خشية أن يكون في ذلك نزاع، قالت: لأني رأيت السماء فرجت فدخل فيها ثم أطبقت، فقلت هذه الشهادة وعلقت منه بعبد الله بن حنظلة رضي الله عنه في تلك الليلة. وعبد الله هذا هو الذي ولاه أهل المدينة عليهم(2/327)
لما خلعوا يزيد بن معاوية. وكان ذلك سببا لوقعة الحرة ولم تمثل قريش بحنظلة رضي الله عنه لكون والده معهم الذي هو أبو عامر الراهب لعنه الله.
وفي الإمتاع: وجعل أبو قتادة الأنصاري يريد التمثيل من قريش لما رأى من المثلة بالمسلمين، فقال له صلى الله عليه وسلم «يا أبا قتادة إن قريشا أهل أمانة، من بغاهم العواثر أكبه الله تعالى إلى فيه، وعسى إن طالت بك مدة أن تحقر عملك مع أعمالهم وفعالك مع فعالهم. لولا أن تبطر قريش لأخبرتها بما لها عند الله. فقال أبو قتادة:
والله يا رسول الله ما غضبت إلا لله ولرسوله، فقال: صدقت، بئس القوم كانوا لنبيهم» قال: وجاء «أنه صلى الله عليه وسلم همّ أن يدعو عليهم، فنزلت الآية المذكورة أي لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران: الآية 128] فكف عن الدعاء عليهم» أي وفيه أنها نزلت بعد قوله «اللهم العن فلانا وفلانا» إلى آخر ما تقدم عن بعض الروايات، إلا أن يقال أراد صلى الله عليه وسلم المداومة على الدعاء عليهم. وعن أبي سعيد الساعدي قال: ذهبنا إلى حنظلة رضي الله عنه فإذا رأسه يقطر ماء انتهى.
أي فعلم أنه لا منافاة بين كونه صلى الله عليه وسلم دعا عليهم وبين كونه همّ بالدعاء عليهم، لأنه يجوز أن يكون المراد همّ بتكرير الدعاء عليهم. وفي البخاري ومسلم والنسائي عن جابر رضي الله عنه قال: «قال رجل يوم أحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن قتلت فأين أنا؟
قال في الجنة فألقى تمرات كن في يده فقاتل حتى قتل» قال في طرح التثريب، قال الخطيب: كانت هذه القصة يوم بدر لا يوم أحد، فأشار إلى تضعيف رواية الصحيحين التي فيها يوم أحد، ولا توجيه لذلك، بل التضعيف تفسير هذه بهذه: أي جعلهما قصة واحدة وكل منهما صحيحة وهما قصتان لشخصين. هذا كلامه، وقد تقدّم في غزاة بدر الحوالة على هذه فليتأمل، أي وأقبل رجل من المشركين مقنعا بالحديد يقول أنا ابن عويف فتلقاه رشيد الأنصاري الفارسي فضربه على عاتقه فقطع الدرع وقال خذها وأنا الغلام الفارسي؛ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرى ذلك ويسمعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هلا قلت خذها وأنا الغلام الأنصاري» فعرض لرشيد أخو ذلك المقتول بعد وكأنه كلب وهو يقول: أنا ابن عويف فضربه رشيد على رأسه وعليه المغفر ففلق رأسه وقال: خذها وأنا الغلام الأنصاري، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:
«أحسنت يا أبا عبد الله» وكان يومئذ لا ولد له.
وقتل عمرو بن الجموح رضي الله عنه، وكان أعرج شديد العرج، وكان له بنون أربعة مثل الأسد، يشهدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد. فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه وقالوا له: قد عذرك الله، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن بنيّ يريدون أن يحبسوني عن الخروج معك، فو الله إني أريد أن أطأ بعرجتي هذه الجنة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أنت فقد أعذرك الله فلا جهاد عليك، وقال لبنيه: ما عليكم أن(2/328)
لا تمنعوه لعل الله يرزقه الشهادة» فأخذ سلاحه وخرج وأقبل على القبلة وقال: اللهم ارزقني الشهادة ولا تردّني خائبا إلى أهلي فقتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده إن منكم من لو أقسم على الله لأبرّه. منهم عمرو بن الجموح ولقد رأيته يطأ في الجنة بعرجته» أي كشف له عن حاله يوم القيامة، أي وفي رواية أنه قال «يا رسول الله أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى أقتل أمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة؟ فمرّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: كأني أنظر إليك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة» .
أقول: لكن يمكن الجمع بأنه في أول دخوله الجنة يطؤها برجله غير صحيحة ثم تصير صحيحة. وعمرو بن الجموح رضي الله عنه كان في الجاهلية على أصنامهم: أي سادنا لها، وكان في الإسلام يولم عنه صلى الله عليه وسلم إذا تزوج.
وقد وقع منه صلى الله عليه وسلم مثل ذلك لأنس بن النضر عم أنس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم «فإنه لما كسرت أخته الربيع ثنية جارية من الأنصار فطلب أهلها القصاص، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكسر ثنية الربيع قال أخوها أنس المذكور والله لا تكسر ثنية الربيع، وصار كلما يقول صلى الله عليه وسلم: كتاب الله القصاص، يقول والله لا تكسر ثنية الربيع، فرضي القوم بالأرش، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرّه» وقال صلى الله عليه وسلم ذلك في حق البراء بن مالك أخي أنس بن مالك رضي الله عنهما. فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ربّ أشعث أغبر لا يؤبه به لو أقسم على الله لأبرّه منهم البراء بن مالك» ومصداق ذلك ما وقع له رضي الله عنه في مقاتلة الفرس، فإن الفرس غلبوا المسلمين فقالوا له: يا براء أقسم على ربك، فقال: أقسم عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم وألحقتني بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم، فحمل رضي الله عنه وحمل المسلمون معه فقتل عظيم الفرس وانهزم الفرس، ثم قتل البراء رضي الله عنه.
ومما وقع أنه كان مع أخيه أنس رضي الله عنه عند بعض حصون العدوّ بالعراق وكانوا يلقون كلاليب معلقة في سلاسل محماة يخطفون بها الإنسان، فكان من جملة من خطف أنس رضي الله عنه، فأقبل البراء رضي الله عنه وصعد محلا عاليا وأمسك السلسلة بيده ولا زال حتى قطع السلسلة، ثم نظر إلى يده فإذا عظمها يلوح ليس عليه لحم، ونجى الله أنسا رضي الله عنه بذلك وقال صلى الله عليه وسلم ما تقدم في حق أويس القرني رضي الله عنه.
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن خير التابعين رجل يقال له أويس بن عامر القرنيّ، فمن لقيه منكم فمروه أن يستغفر لكم» وفي رواية خطابا لعمر رضي الله عنه «يأتي عليك أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن كان به برص فبرىء منه إلا موضع درهم، له أمّ هو بها بار لو أقسم على الله لأبرّه فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل» والله أعلم.(2/329)
وقتل أيضا أحد بني عمرو بن الجموح وهو خلاد رضي الله عنه. وقتل أخو زوجته هند بنت حزام وهو عبد الله والد جابر رضي الله عنه، فحملتهم هند على بعير لها تريد أن تدفنهم في المدينة، فلقيتها عائشة رضي الله عنها وقد خرجت في نسوة يستروحن الخبر فقالت لها عائشة رضي الله عنها: جاء خبر الجيش، فقالت: أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فصالح وكل مصيبة بعده جلل، واتخذ الله من المؤمنين شهداء. ثم قالت لها: من هؤلاء؟ قالت: أخي عبد الله وابني خلاد وزوجي عمرو بن الجموح رضي الله عنهم، فبرك بهم البعير وصار كلما توجه إلى المدينة يبرك، وإن وجه إلى أرض أحد نزع، فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته، فقال: إن الجمل مأمور فقبرهم بأحد، وقال صلى الله عليه وسلم لهند «يا هند ما زالت الملائكة مظلة على أخيك من لدن قتل إلى الساعة ينظرون أين يدفن» ولعلّ هذا كان قبل أن ينادي بردّ القتلى إلى مضاجعهم.
قال جابر رضي الله عنه: كان أبي أول قتيل للمسلمين، قتله أبو الأعور السلمي.
وفي الصحيح أن عائشة رضي الله عنها وأم سليم كانا يسقيان الناس يفرغان من القرب في أفواه القوم.
أي ولا مخالفة لأنه يجوز أن يكون ذلك شأن عائشة بعد وصولها لأحد، أي وقد كان صلى الله عليه وسلم خلف اليمان والد حذيفة وثابت بن وقس في الآطام مع النساء والصبيان لأنهما كانا شيخين كبيرين، فقال أحدهما لصاحبه: لا أبالك، ما ننتظر؟ فوالله إن بقي لواحد منا في عمره إلا ظمأ حمار، أفلا نأخذ أسيافنا ثم نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم لعل الله يرزقنا الشهادة، فأخذا أسيافهما ثم خرجا حتى دخلا في الناس من جهة المشركين ولم يعلم المسلمون بهما. فأما ثابت فقتله المشركون، وأما اليمان فاختلفت عليه أسياف المسلمين فقتلوه ولم يعرفوه.
وذكر السهيلي أن في تفسير ابن عباس رضي الله عنهما أن الذي قتله خطأ هو عتبة بن مسعود أخو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وعتبة هو أول من سمى المصحف مصحفا. وعند ذلك قال حذيفة أبي فقالوا ما عرفناه. فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يديه فتصدق حذيفة رضي الله عنه بديته على المسلمين فزاده ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا. واسم اليمان حسيل، وقيل له اليمان لأنه نسب إلى جدّه اليمان بن الحارث وقيل إنما قيل له اليمان لأنه أصاب دما في قومه، فهرب إلى المدينة، فحالف بني الأشهل فسماه قومه اليمان لمحالفته اليمانية: أي وهم أهل المدينة.
ومما يؤثر عن حذيفة رضي الله عنه، أنه قيل له: من ميت الأحياء؟ قال: الذي لا ينكر المنكر بيديه ولا بلسانه ولا بقلبه.
وفي الكشاف: وعن حذيفة رضي الله عنه أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل(2/330)
أبيه وهو في صف المشركين أي قبل أن يسلم، فقال صلى الله عليه وسلم له: دعه يليه غيرك. هذا كلامه، ولم أقف على أي غزاة كان ذلك فيها وسياق ما قبله يدل على أنه كان من الأنصار، كان حليفا لبني عبد الأشهل ولم يحفظ أن أحدا من الأنصار قاتله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام فليتأمل.
ثم إن هندا زوجة أبي سفيان والنسوة اللاتي خرجن معها صرن يمثلن بقتلى المسلمين يجدعن: أي يقطعن من آذانهم وأنوفهم، واتخذن من ذلك قلائد، وبقرت:
أي شقت هند بطن سيدنا حمزة رضي الله عنه، وأخرجت كبده فلاكتها: أي مضغتها فلم تستطع أن تسيغها: أي تبتلعها، فلفظتها أي ألقتها من فيها أي لأنها كانت نذرت إن قدرت على حمزة رضي الله عنه لتأكلن من كبده. ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها أخرجت كبد حمزة قال: هل أكلت منه شيئا؟ قالوا لا قال: إن الله قد حرّم على النار أن تذوق من لحم حمزة شيئا أبدا أي ولو أكلت منه أي استقرّ في جوفها لم تمسها النار.
وفي رواية «لو أدخل بطنها لم تمسها النار» لأن حمزة أكرم على الله من أن يدخل شيء من جسده النار.
أي ورأيت في بعض السير أنها شوت منه ثم أكلت.
وقد يقال: لا منافاة، لجواز حمل الأكل على مجرد المضغ من غير إساغة.
قال وفي رواية أن وحشيا هو الذي بقر بطن حمزة رضي الله عنه وأخرج كبده وجاء بها إلى هند، أي وقال لها ماذا لي إن قتلت قاتل أبيك، قالت سلني، فقال: هذه كبد حمزة فأعطته ثيابها وحليها، ووعدته إذا وصلت إلى مكة تدفع له عشرة دنانير.
وجاء بها إلى مصرع حمزة رضي الله عنه فجدعت أنفه وأذنيه، أي وفي لفظ:
فقطعت مذاكيره، وجدعت أنفه وقطعت أذنيه، ثم جعلت ذلك كالسوار في يديها وقلائد في عنقها، واستمرّت كذلك حتى قدمت مكة.
وفي النهر لأبي حيان أن وحشيا جعل له على قتل حمزة أن يعتق فلم يوف له بذلك فندم على ما صنع.
ثم إن هندا علت على صخرة مشرفة فصرخت بأعلى صوتها وأنشدت أبياتا. ثم إن زوجها أبا سفيان أشرف على الجبل كذا في البخاري أنه أشرف. وفي رواية كان بأسفل الجبل.
وقد يقال: لا مخالفة لجواز وقوع الأمرين معا، ثم صرخ بأعلى صوته:
أنعمت فعال، إن الحرب سجال: أي ومعنى سجال: مرّة لنا ومرّة علينا، يوم أحد بيوم بدر، وأنعمت بكسر التاء خطابا لنفسه، أو للأزلام، لأنه استقسم بها عند(2/331)
خروجه إلى أحد، فخرج الذي يحب وهو أفعل والفاء من فعال مفتوحة وليست من أبنية لكلمة وهي أمر: أي ارتفع عن لومها: أي النفس أو الأزلام يقال: عال عني:
أي ارتفع عني ودعني أي وزاد في لفظ: يوم لنا ويوم علينا، ويوم نساء ويوم نسرّ، حنظلة بحنظلة وفلان بفلان.
أي وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال: الحرب سجال، وقد قال تعالى إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران: الآية 140] وقد نزل ذلك في قصة أحد باتفاق.
ثم قال أبو سفيان: إنكم ستجدون في القوم. وفي رواية في قتلاكم مثلة لم آمر بها ولم تسرني. وفي رواية: والله ما رضيت وما سخطت، وما أمرت وما نهيت:
وفي لفظ: ما أمرت ولا نهيت، ولا أحببت ولا كرهت، ولا ساءني ولا سرني أي وفي لفظ: أما إنكم ستجدون في قتلاكم مثلا ولم تكن عن رأي سراتنا ثم أدركته حمية الجاهلية فقال: أما إنه إن كان كذلك لم نكرهه. ومر الحليس سيد الأحابيش بأبي سفيان وهو يضرب بزج الرمح في شدق حمزة رضي الله عنه ويقول ذقه عقق:
أي ذق طعم مخالفتك لنا وتركك الذي كنت عليه يا عاق قومه، جعل إسلامه عقوقا، فقال الحليس: يا بني كنانة، هذا سيد قريش يفعل بابن عمه ما ترون، فقال أبو سفيان: اكتمها عني فإنها زلة. وقال أبو سفيان: اعل هبل أي أظهر دينك، أو ازدد علوا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قم يا عمر فأجبه، فقل: الله أعلى وأجلّ، لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، فقال أبو سفيان إنكم تزعمون ذلك، لقد خبنا إذا وخسرنا، وهبل هذا تقدّم أنه صنم، وتقدم الكلام عليه.
ورأيت في كلام الشيخ محيي الدين بن العربي رحمه الله تعالى أنه الحجر الذي يطؤه الناس في العتبة السفلى من باب بني شيبة، وبلط الملوك فوقه البلاط. ثم قال أبو سفيان: إن لنا العزى ولا عزى لكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الله مولانا ولا مولى لكم» ثم قال أبو سفيان لعمر، أي بعد أن قال له: هلم يا عمر. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائته فانظر ما شأنه فجاءه، فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر أقتلنا محمدا؟ قال عمر رضي الله عنه: لا وإنه ليسمع كلامك الآن. قال أنت أصدق عندي من ابن قمئة وأبرّ: أي لأنه لما قتل مصعب بن عمير ظنه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال قتلت محمدا كما تقدّم.
وفي رواية أن أبا سفيان نادى: أفي القوم محمد، أفي القوم محمد، قال ذلك ثلاثا فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه. ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة قالها ثلاثا.
ثم قال أفي القوم عمر قالها ثلاثا. وفي رواية: أين ابن أبي كبشة أين ابن أبي قحافة أين ابن الخطاب: ثم أقبل على أصحابه. فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا وقد كفيتموهم،(2/332)
إذ لو كانوا أحياء لأجابوا فما ملك عمر رضي الله عنه نفسه أن قال: كذبت والله يا عدّو الله إن الذي عددت لأحياء كلهم، وقد بقي لك ما يسوؤك، ثم نادى أبو سفيان: إن موعدكم بدر العام المقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه: قل نعم بيننا وبينكم موعد.
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. وقيل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. فقال: اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون وماذا يريدون، فإن كانوا قد جنبوا الخيل: أي جعلوها منقادة بجانبهم وامتطوا الإبل: أي ركبوا مطاها: أي ظهورها لأن المطا الظهر فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة، والذي نفسي بيده إن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لأناجزهم. قال علي كرم الله وجهه أو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل وتوجهوا إلى مكة، أي بعد أن تشاوروا في نهب المدينة. فأشار عليهم صفوان بن أمية أن لا تفعلوا، أي وقال لهم. فإنكم لا تدرون ما يغشاكم وفزع الناس لقتلاهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
هل من رجل ينظر إلى ما فعل سعد بن الربيع: أفي الأحياء هو أم في الأموات، أي زاد في رواية فإني رأيت الأسنة قد أشرعت إليه. فقال رجل من الأنصار: أي وهو أبي بن كعب، وقيل محمد بن مسلمة، وقيل زيد بن حارثة، وقيل غير ذلك. ويجوز أن يكون أرسلهم كلهم. قال: أنا أنظر لك يا رسول الله. أي وفي رواية: قال للمرسل: إن رأيت سعد بن الربيع فأقره مني السلام وقل له: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تجدك. فنظر فوجد جريحا وبه رمق أي بقية روح. فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات؟ فقال: أنا في الأموات قد طعنت اثنتي عشرة طعنة، وإني قد أنفذت مقاتلي، فأبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عني السلام، وقل له إن سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله عنا خيرا ما جزي نبيا عن أمته، وأبلغ قومك عني السلام، وقل لهم إن سعد بن الربيع يقول لكم: لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف. وفي رواية: شفر يطرف أي يتحرك. قال: ثم لم أبرح حتى مات، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبره، أي وفي رواية أنه رأى الذي أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم يدور بين القتلى فقال له: ما شأنك؟ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لآتيه بخبرك. قال: فاذهب إليه الحديث.
وفي رواية إن محمد بن مسلمة رضي الله عنه نادى في القتلى يا سعد بن الربيع مرة بعد أخرى، فلم يجبه حتى قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني أنظر ما صنعت، فأجابه بصوت ضعيف الحديث. أي وفي رواية: اقرأ على قومي مني السلام، وقل لهم يقول لكم سعد بن الربيع الله الله وما عاهدتم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة(2/333)
فو الله ما لكم عند الله عذر الحديث. وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رحمه الله نصح لله ولرسوله حيا وميتا» وخلف بنتين فأعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم من ميراثه الثلثين فكان ذلك بيان المراد من الآية، وهي قوله تعالى فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ [النّساء: الآية 11] وفي ذلك نزلت: أي اثنتان فما فوقهما. أي وحينئذ لا يحتاج إلى قياس البنتين على الأختين، بجامع أن للواحدة منهما النصف.
ودخلت بنت له على أبي بكر رضي الله عنه فألقى لها رداءه لتجلس عليه، فدخل عمر رضي الله عنه فسأله عنها. فقال: هذه ابنة من هو خير مني ومنك. قال:
ومن هو يا خليفة رسول الله؟ قال: رجل تبوأ مقعده من الجنة وبقيت أنا وأنت، هذه ابنة سعد بن الربيع رضي الله عنه.
وخرج رسول الله يلتمس عمه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه. فقال له رجل: رأيته بتلك الصخرات وهو يقول: أنا أسد الله وأسد رسوله: اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء النفر أبو سفيان وأصحابه، وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء بانهزامهم وهذا الدعاء نقل عن أنس بن النضر عم أنس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه غاب عن بدر فشق عليه ذلك، فلما كان يوم أحد ورأى انهزام المسلمين، أي وكان قد قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إني غبت عن أوّل قتال وقع قاتلت فيه المشركين والله لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع. فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء: يعني أصحابه، وأبرأ إليك مما فعل هؤلاء: يعني المشركين. ولما سمع قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ما تصنعون بالحياة بعده، موتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم استقبل القوم. أي وقال لسعد بن معاذ: هذه الجنة ورب الكعبة أجد ريحها دون أحد، وقاتل رضي الله عنه حتى قتل. أي ووجدوا فيه بضعا وثمانين جراحة، ما بين ضربة بسيف أو طعنة برمح، أو رمية بسهم. ولما قتل مثل به المشركون، فما عرفته أخته الربيع إلا ببنانه.
قال ابن أخيه أنس بن مالك رضي الله عنه: لما نزل قوله تعالى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب: الآية 23] الآية، قلنا إن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه من المؤمنين رضي الله عنه.
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو حمزة فوجده ببطن الوادي قد بقر بطنه ومثل به فجدع أنفه وأذناه، أي وقطعت مذاكيره، فنظر صلى الله عليه وسلم إلى شيء لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه. أي وقال «لن أصاب بمثلك، ما وقفت موقفا أغيظ لي من هذا، وقال: رحمة الله عليك، فإنك كنت ما علمتك، فعولا للخيرات، وصولا للرحم، أما والله لأمثلنّ بسبعين» وفي رواية «بثلاثين رجلا منهم مكانك» وفي رواية «لئن ظفرني الله تعالى بقريش في موطن من المواطن لأمثلن بسبعين منهم مكانك» ولما(2/334)
رأى المسلمون جذع رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمه قالوا: لئن أظفرنا الله تعالى بهم يوما من الدهر لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إن الله تعالى أنزل في ذلك وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النحل: الآية 126، 127] الآية، فعفا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصبر، ونهى عن المثلة، وكفر عن يمينه، وكان نزول هذه الآيات بعد أن مثل صلى الله عليه وسلم بالعرنيين. وستأتي قصتهم في السرايا.
واعترضه ابن كثير رحمه الله بأن هذه الآيات مكية وقصة أحد في المدينة بعد الهجرة بثلاث سنوات، فكيف يلتئم هذا مع هذا، هذا كلامه.
وقد يقال: يجوز أن يكون ذلك مما تكرر نزوله فليتأمل. وعن ابن مسعود رضي الله عنه «ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم باكيا أشد من بكائه على حمزة رضي الله عنه، وضعه في القبلة ثم وقف على جنازته وانتحب حتى نشق» أي شهق «حتى بلغ به الغشي يقول: يا عم رسول الله، وأسد الله، وأسد رسول الله، يا حمزة يا فاعل الخيرات، يا حمزة يا كاشف الكربات، يا حمزة يا ذابّ» أي بالذال المعجمة «يا مانع عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم» أي قال ذلك لا مع البكاء. فلا يقال هذا من الندب المحرم وهو تعديد محاسن الميت، لأن ذلك مخصوص بما إذا قارنه البكاء وليس من نعي الجاهلية المكروه: وهو النداء بذكر محاسن الميت؛ على أن النداء بذلك محل كراهته إذا كان على وجه التفاخر والتعاظم، ولم يكن وصفا لنحو صالح للحث على سلوك طريقته.
وقال صلى الله عليه وسلم «جاءني جبريل عليه السلام، وأخبرني بأن حمزة مكتوب في أهل السموات السبع: حمزة بن عبد المطلب أسد الله، وأسد رسوله. وأمر صلى الله عليه وسلم الزبير رضي الله عنه أن يرجع أمه صفية أخت حمزة رضي الله عنها عن رؤيته، فقال لها: يا أمه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعي، فدفعت في صدره وقالت: لم؟ وقد بلغني أنه مثل بأخي، وذلك في الله فما أرضاني بما كان في الله من ذلك» أي أنا أشد رضا بذلك من غيري «لأحتسبن، ولأصبرنّ إن شاء الله تعالى، فجاء الزبير رضي الله عنه، فأخبره صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: خل سبيلها، فجاءت واسترجعت واستغفرت له» .
وفي رواية «إن صفية لقيت عليا والزبير رضي الله عنهما، فقالت لهما:
ما فعل حمزة: فأرياها أنهما لا يدريان» أي رحمة بها «فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أخاف على عقلها فوضع صلى الله عليه وسلم يده الشريفة على صدرها ودعا لها فاسترجعت وبكت» أي لما رأته، أي وفي رواية «لما منعها عليّ والزبير رضي الله عنهما قالت: لا أرجع حتى أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما رأته قالت: يا رسول الله أين ابن أمي حمزة؟(2/335)
قال صلى الله عليه وسلم: هو في الناس. قالت: لا أرجع حتى أنظر إليه، فجعل الزبير رضي الله عنه يحبسها، فقال صلى الله عليه وسلم: دعها فلما رأته بكت وصارت كلما بكت بكى صلى الله عليه وسلم، ثم أمر به فسجي ببرده» وفي رواية «قال ألا كفن؟ فقام رجل من الأنصار فرمى بثوبه عليه، ثم قام آخر فرمى بثوبه عليه. فقال صلى الله عليه وسلم: يا جابر هذا الثوب لأبيك وهذا لعمي» وهذا يدل على أن والد جابر رضي الله عنهما استمر لم يقبر إلى ذلك الوقت، وهو خلاف ظاهر سياق ما تقدم.
وفي رواية «وجاءت صفية معها بثوبين لحمزة، فكان أحدهما لحمزة، والآخر لرجل من الأنصار» ولعله والد جابر رضي الله عنهما، ولعله لما جاءت صفية بالثوبين جعل صلى الله عليه وسلم أحدهما لحمزة، والآخر لوالد جابر، وترك ثوبي الرجلين.
وفي رواية «كفن حمزة رضي الله عنه بنمرة، كانوا إذا مدوها على رأسه انكشفت رجلاه، وإن مدوها على رجليه انكشفت رأسه، فمدوها على رأسه، وجعلوا على رجليه الإذخر» وفي لفظ «الحرمل» أي ويحتاج إلى الجمع بين هاتين الروايتين على تقدير صحتهما والمشهور حديث النمرة.
وقد يقال: إنما اختار صلى الله عليه وسلم النمرة على الثوب، لأنه كان بها دم الشهادة أو أراد صلى الله عليه وسلم أن لا يكون لأحد على حمزة رضي الله عنه منة. ويؤيد الأول ما يأتي «ولم يكفنوا إلا في ثيابهم التي قتلوا فيها» فليتأمل، فإن السياق يقتضي أن ذلك إنما هو عن احتياج، وسيأتي ما يصرح به وسيأتي ما يعارضه فليتأمل.
وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: قتل مصعب بن عمير رضي الله عنه يوم أحد، وكفن في وبرة إن غطي بها رأسه بدت رجلاه، وإن غطي بها رجلاه بدا رأسه.
وفي رواية «قتل مصعب بن عمير، فلم يترك إلا نمرة إذا غطينا بها رجليه خرج رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: غطوا بها رأسه، واجعلوا على رجليه الإذخر» .
وكان مصعب بن عمير هذا قبل الإسلام فتى مكة شبابا وجمالا ولباسا وعطرا ولما أسلم رضي الله عنه تشعث.
وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه كان صائما وقد جيء له بطعامه، فقال: قتل مصعب بن عمير رضي الله عنه وهو خير مني، فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه، وإن غطيت رجلاه بدا رأسه، وقد بسط لنا من الدنيا ما بسط، وأعطينا من الدنيا ما أعطينا، وخشيت أن أكون عجلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام.
وعن أنس رضي الله عنه قال: قلت الثياب، وكثرت القتلى، فكان الرجل(2/336)
والرجلان والثلاثة في الثوب الواحد، ثم يدفنون في قبر واحد.
وقال صلى الله عليه وسلم في حق حمزة رضي الله عنه «لولا أن تجزع صفية ونساؤنا» أي يتطاول جزعهن ويدوم. وفي رواية «لولا تجد صفية في نفسها» أي يطول ذلك «وتكون سنة من بعدي لتركنا حمزة ولم ندفنه حتى يحشر من بطون الطير والسباع» وفي رواية «حتى تأكله العافية ويحشر من بطونها، ليشتد غضب الله على من فعل به ذلك ثم صلى عليه فكبر أربع تكبيرات، ثم أتى بالقتلى يوضعون إلى جنب حمزة أي واحد بعد واحد فيصلي على كل واحد منهم مع حمزة، ثم يرفع ويؤتى بآخر فيصلي عليهم وعليه معهم حتى صلى عليه اثنتين وسبعين صلاة» . وفي رواية «اثنتين وتسعين صلاة» وهذا غريب وسبعين ضعيف.
والرواية الأولى تقتضي أن جملة من قتل بأحد اثنان وسبعون. والرواية الثانية تقتضي أنهم كانوا اثنين وتسعين.
وقوله واحدا بعد واحد قد يخالف ما تقدم عن أنس رضي الله عنه، من جعل الرجلين أو الثلاثة في كفن واحد فليتأمل.
وجاء «أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي على عشرة عشرة» أي يؤتى بتسعة وحمزة عاشرهم فيصلي عليهم. ثم ترفع التسعة وحمزة مكانه، ويؤتى بتسعة أخرى فيوضعون إلى جنب حمزة فيصلي عليهم، حتى فعل ذلك سبع مرات، وحينئذ يكون جملة من قتل ثلاثة وستين. وسيأتي الكلام على عدتهم، وقيل كبر عليهم، كبر تسعا وسبعا وخمسا أي بعد أن كبر على حمزة وحده أربعا فلا ينافي ما تقدم. ولم أقف على عدد المرات التي كبر فيها ما ذكر.
وجاء أن قتلى أحد لم يغسلهم، ولم يصل عليهم ولم يكفنهم إلا في ثيابهم التي قتلوا فيها أي غير الجلود، أخذا مما يأتي: أي ولا يضر تتميم ستر بعضهم بالإذخر. وحينئذ لا يكون تكفين حمزة بنمرته، ومصعب ببردته وتتميم تكفينهما بالإذخر عن احتياج كما تقدم عن عبد الرحمن بن عوف. وعن أنس رضي الله عنهما أي وقال مغلطاي: وصلي على حمزة والشهداء من غير غسل، وهذا أي دفنهم من غير غسل إجماع إلا ما شذ به بعض التابعين وفيه نظر ظاهر.
وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال «لقد رأيت الملائكة تغسل حمزة» وتقدم أن هذا السياق يقتضي أن هذه رؤيا نوم. وحينئذ يظهر التوقف فيما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قتل حمزة جنبا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكر. ولعل الراوي عن ابن عباس ذكر حمزة بدل حنظلة غلطا.
أما الصلاة عليهم؛ فقال إمامنا الشافعي رضي الله عنه: جاءت الأخبار كأنها(2/337)
عيان من وجوه متواترة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على قتلى أحد.
وما روي أنه صلى عليهم وكبر على حمزة سبعين تكبيرة لم يصح، وقد كان ينبغي لمن عارض بذلك: أي بما روى هذه الأحاديث الصحيحة أن يستحيي على نفسه؛ أي فإن من رواة ذلك الحديث الدالة على أنه صلى عليهم سعيد بن ميسرة عن أنس رضي الله عنه. وقد قال فيه البخاري إنه يروي المناكير. وقال ابن حبان: يروي الموضوعات، ومن جملة رواته: أي رواة ذلك الحديث مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقد قال فيه البخاري: منكر الحديث، ومن ثم ذكر ابن كثير أن الذي في البخاري «أمر صلى الله عليه وسلم بدفن شهداء أحد بدمائهم ولم يصلّ عليهم ولم يغسلوا» . وهو أثبت من صلاته عليهم.
وأما حديث عتبة بن عامر: أي الذي رواه الشيخان وأبو داود والنسائي وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين صلاته على الميت: أي دعا لهم كدعائه للميت كالمودع للأحياء والأموات أي حين علم قرب أجله، أي فذلك كان توديعا لهم بذلك. قال: قال السهيلي رحمه الله: لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلى على شهيد في شيء من مغازيه إلا في هذه الرواية في أحد، وكذلك لم يصل أحد من الأئمة بعده صلى الله عليه وسلم اهـ.
وفي النور «أنه صلى الله عليه وسلم صلى على أعرابي في غزوة أخرى» . وفي البخاري عن جابر رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في قتلى أحد بدفنهم بدمائهم ولم يغسلوا ولم يصلّ عليهم» بكسر اللام. وفي رواية «ولم يصلّ عليهم» بفتح اللام.
لا يقال: خبر جابر لا يحتج به لأنه نفي، وشهادة النفي مردودة مع ما عارضها من خبر الإثبات. لأنا نقول: شهادة النفي إنما ترد إذا لم يحط بها على الشاهد ولم تكن بحضوره وإلا فتقبل بالاتفاق. وهذه قضية معينة أحاط بها جابر وغيره علما.
واستدل أئمتنا على أن الشهيد لا يغسل ولو كان جنبا بقصة حنظلة رضي الله عنه، لأن تغسيل الملائكة لا يكتفي به في إسقاط الحرج عن المكلفين من الإنس لعدم تكليفهم، بخلاف تغسيل الجن فإنهم مكلفون ودفنوا بثيابهم، ونزع عنهم الحديد والجلود.
أي وأسلم وحشي رضي الله عنه بعد ذلك، فإنه في يوم فتح مكة فرّ إلى الطائف. ثم وفد مع أهل الطائف لما وفدوا ليسلموا. وقد قيل له بعد أن ضاقت عليه: ويحك والله إنه لا يقتل أحدا من الناس دخل دينه. قال وحشي: فلم يرعه صلى الله عليه وسلم إلا أني قائم على رأسه أشهد شهادة الحق. فقال لي: أنت وحشي؛ وسألني كيف قتلت حمزة فأخبرته. ثم قال: ويحك، غّيب عني وجهك فلا أراك. وفي رواية: لا(2/338)
ترني وجهك. وفي رواية: تفل في وجهي ثلاث تفلات. وقيل تفل في الأرض وهو وجد مغضب: أي وحينئذ لحق بالشام. وكان وحشي لا يزال يحد في الخمر في زمن عمر رضي الله عنه حتى خلع من الديوان قال عمر رضي الله عنه: قد علمت أنه لم يكن الله ليدع قاتل حمزة رضي الله عنه: أي لم يكن ليتركه من الابتلاء. وهذا أي تكرر حدّه في شرب الخمر. وإخراجه من ديون المجاهدين من أقبح أنواع الابتلاء، عافانا الله من ذلك.
وروى الدارقطني في صحيحه عن سعيد بن المسيب رحمه الله أنه كان يقول:
عجبت لقاتل حمزة كيف ينجو؛ أي من الابتلاء، حتى بلغني أنه مات غريقا في الخمر. أي وذلك مع ما تقدم ابتلاء فظيع له رضي الله عنه.
وممن مثل به عبد الله بن جحش بدعوة دعاها على نفسه. فقال: أي قبل أحد بيوم: اللهم ارزقني غدا رجلا شديدا بأسه فيقتلني ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني.
فإذا لقيتك قلت: يا عبد الله فيم جدع أنفك وأذنك؟ فأقول فيك وفي رسولك. فيقول الله: صدقت، قال: وليس هذا من تمنى الموت المنهيّ عنه انتهى، أي لأن المنهي عنه أن يكون ذلك لضرّ نزل به فليتأمل.
وجاء أن عبد الله بن جحش انقطع سيفه يوم أحد، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرجون نخلة، فصار في يده سيفا، وكان يسمى العرجون. ودفن هو وخاله حمزة رضي الله عنهما في قبر واحد، أي وإنما كان حمزة خاله، لأن أم عبد الله أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان القاتل له أبو الحكم بن الأخنس بن شريق، وأبو الحكم هذا قتل كافرا يوم أحد. وقال صلى الله عليه وسلم ادفنوا عبد الله بن عمرو أي وهو والد جابر رضي الله عنهما وعمرو بن الجموح وهو زوج عمة جابر رضي الله عنهم في قبر واحد لما بينهما من الصفاء. وعبد الله بن عمرو هذا قد أصابه جرح في وجهه ومات ويده على جرحه، فأميطت يده عن وجهه فانبعث الدم، فردت يده إلى مكانها فسكن.
ويقال إن السيل حفر قبر عبد الله بن عمرو والد جابر رضي الله عنهما وعمرو بن الجموح فوجدا لم يتغيرا كأنهما ماتا بالأمس. وأنه أزيلت يد عمرو عن جرحه ثم أرسلت فرجعت كما كانت. وكان ذلك بعد الواقعة لست وأربعين سنة.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: استصرخنا إلى قتلانا بأحد، وذلك حين أجرى معاوية رضي الله عنه العين في سوط مقبرة شهداء أحد، وأمر الناس بنقل موتاهم فأخرجناهم رطابا تنثني أطرافهم، وذلك على رأس أربعين سنة، ولعله وما قبله لا يخالف قول السهيلي وذلك بعد ثلاثين سنة، وأصابت المسحاة قدم حمزة رضي الله عنه فانبعث دما.(2/339)
وذكر أنه فاح من قبورهم مثل ريح المسك. وفي لفظ نحو خمسين سنة مع أن أرض المدينة سبخة يتغير الميت في قبره من ليلته: أي لأن الأرض لا تأكل لحوم شهداء المعركة كالأنبياء عليهم الصلاة والسلام. زاد بعضهم: قارىء القرآن، والعالم، ومحتسب الأذان. ويدل للأخير ما في الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: المؤذن المحتسب كالمتشحط في دمه لا يدود في قبره أي كشهيد المعركة لا يأكله الدود في القبر. وقد نظم هؤلاء الشيخ التتائي المالكي رحمه الله تعالى فقال:
لا تأكل الأرض جسما للنبي ولا ... لعالم وشهيد قتل معترك
ولا لقارىء قرآن ومحتسب ... أذانه لإله مجرى الفلك
ودفن خارجة بن زيد وسعد بن الربيع رضي الله عنهما في قبر واحد، لأنه كان ابن عمه وولده خارجة وهو زيد بن خارجة الذي تكلم بعد الموت.
ذكر أن خارجة أخذته الرماح فجرح بضعة عشر جرحا فمرّ به صفوان بن أمية بن خلف فعرفه فأجهز عليه، وقال: الآن شفيت نفسي حين قتلت الأماثل من أصحاب محمد. قتلت خارجة بن زيد، وقتلت أوس بن أرقم، وقتلت أبا نوفل، ودفن النعمان بن مالك وعبد بني الحسحاس في قبر واحد، وربما دفنوا ثلاثة في قبر، وصار صلى الله عليه وسلم يقول «احفروا وأوسعوا وأعمقوا» وكان صلى الله عليه وسلم يقول «انظروا أكثر هؤلاء جمعا» أي حفظا للقرآن «فقدموه في القبر» أي في اللحد.
واحتمل ناس من المدينة قتلاهم إلى المدينة، فردهم صلى الله عليه وسلم ليدفنوا حيث قتلوا وبه استدل أئمتنا رحمهم الله على حرمة نقل الميت قبل دفنه من محل موته إلى محل أبعد من مقبرة محل موته.
وفيه أنهم قالوا: إلا أن يكون بقرب مكة أو المدينة أو بيت المقدس، نص على ذلك إمامنا الشافعي رحمه الله.
وقد يجاب بأن هذا مخصوص بغير الشهيد. أما هو فالأفضل دفنه بمحل موته ولو بقرب ما ذكر كما بحث ذلك بعض المتأخرين من أئمتنا. ويشهد له ما هنا.
ولا يشكل دفن اثنين أو ثلاثة في لحد على قول فقهائنا بحرمة جمع اثنين في لحد ولو الوالد وولده، لأن محل ذلك حيث لا ضرورة ككثرة الموتى ومشقة الحفر لكل واحد كما هنا.
ثم رأيت في بعض السير: وقد ثبت في صحيح البخاري «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين والثلاثة في القبر الواحد» . وإنما أرخص لهم في ذلك لما بالمسلمين من الجراح التي يشق معها أن يحفروا لكل واحد واحد.(2/340)
وفي رواية «فحملوهم إلى المدينة فدفنوهم في نواحيها، فجاء منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ردوا القتلى إلى مضاجعهم، فأدرك المنادي واحدا لم يكن دفن فردّ ومن دفن أبقوه.
ولما أشرف صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد قال «أنا شهيد على هؤلاء، وما من جرح يجرح في الله إلا والله يبعثه يوم القيامة يدمي جرحه، اللون لون الدم والريح ريح المسك» .
وفي رواية «إنه ليس مكلوم يكلم في الله تعالى إلا وهو يأتي يوم القيامة لونه» أي لون الكلم أي الجرح «لون الدم، وريحه ريح مسك» أي وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا، لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا» أي يمتنعوا عن الحرب «فقال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم هذه الآية وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ [آل عمران: الآية 169] الآية.
وقد بينت في «النفخة العلوية» أن الأرواح في البرزخ متفاوتة في مستقرها أعظم تفاوت، فلا تعارض بين الأدلة الدالة على تلك الأقوال المختلفة، وحينئذ تكون أرواح الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع كونها في الملأ الأعلى متفاوتة فيه، وأرواح المؤمنين غير الشهداء أو غير الأطفال. منها ما هو سماوي ومنها ما هو أرضي.
وأرواح الأطفال في حواصل عصافير الجنة عند جبال المسك. وأرواح الشهداء منهم من تكون روحه على باب الجنة. ومنهم من تكون داخلها، وحينئذ إما أن تكون في جوف طير أخضر أو طير أبيض. ومنهم من تكون روحه على صورة الطير.
وفي كلام القرطبي رحمه الله قال علماؤنا: أرواح الشهداء طبقات مختلفة، ومنازل متباينة يجمعها أنهم يرزقون، أي وتقدّم الكلام على رزقهم.
أي ومن جملة من قتل من الصحابة يوم أحد أبو جابر أي كما تقدّم فقال صلى الله عليه وسلم لجابر رضي الله عنه «يا جابر ألا أخبرك ما كلم الله تعالى أحدا قط» لعل المراد من هؤلاء الشهداء كما يرشد إليه السياق «إلا من وراء حجاب وإنه كلم أباك كفاحا، فقال: سلني أعطك، فقال: أسألك أن أردّ إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، فقال الرب عز وجل: إنه سبق مني أنهم لا يرجعون إلى الدنيا. قال: أي رب فأبلغ من ورائي، فأنزل الله تعالى وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً [آل عمران: الآية 169] الآية.
أي ولا مانع من تعدد النزول للآية فلا يخالف ما تقدم قريبا.(2/341)
أي وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال «لما قتل أبي جعلت أبكي وأكشف الثوب عن وجهه، فجعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينهوني والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينهني، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تبكيه أو لا تبكيه، ما زالت الملائكة عليهم السلام مظلة له بأجنحتها حتى رفع» أي وسيأتي أن جابرا رضي الله عنه لم يحضر القتال.
وعن بشير ابن عفراء رضي الله عنهما قال «أصيب أبي يوم أحد، فمرّ بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال: أما ترضى أن تكون عائشة أمك، وأكون أنا أباك» .
ومرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني دينار قد أصيب زوجها وأخوها وأبوها وفي رواية: «وابنها يوم أحد، فلما نعوا لها، قالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي ما فعل به، قالوا: خيرا يا أم فلان، وهو بحمد الله كما تحبين. قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فلما رأته صلى الله عليه وسلم قالت: كل مصيبة بعدك جلل تريد صغيرة. والجلل كما يقال للشيء الصغير يقال للشيء الكبير، فهو من الأضداد. وفي لفظ «أنها مرت بأخيها وأبيها وزوجها وابنها صرعى. وصارت كلما سألت عن واحد وقالت من هذا قيل لها هذا أخوك وابنك وزوجك وأبوك، فلم تكترث بذلك، بل صارت تقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: أمامك حتى جاءته أخذت بناحية ثوبه، ثم جعلت تقول:
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي إذ سلمت من عطب» .
وأصيبت يوم أحد عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته. أي فأرادوا قطعها، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «لا فدعاه فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده» أي أخذها بيده الشريفة «وردها إلى موضعها» أي براحته الشريفة «وقال: اللهم اكسه جمالا فكانت أحسن عينيه وأحدّهما نظرا؛ وكانت لا ترمد إذا رمدت الأخرى» .
أي وجاء في قتادة رضي الله عنه أنه قال «كنت يوم أحد أتقي السهام بوجهي عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان آخرها سهما ندرت منه حدقتي، فأخذتها» أي رفعتها «بيدي أي وقلت: يا رسول الله إن لي امرأة أحبها وأخشى أن تراني تقذرني أي وقال له صلى الله عليه وسلم إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت رددتها ودعوت الله تعالى لك، فقال: يا رسول الله إن الجنة لجزاء جزيل، وعطاء جليل، وإني مغرم بحب النساء. وأخاف أن يقلن أعور فلا يردنني، ولكن تردها وتسأل الله تعالى لي الجنة فردها ودعا لي بالجنة» .
وجاء عن قتادة رضي الله عنه «أنه صلى الله عليه وسلم لما رآها في كفي» أي مرفوعة دمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم ق قتادة كما وقى وجه نبيك بوجهه، فاجعلها أحسن عينيه وأحدّهما نظرا، أي بعد أن ردها إلى موضعها براحته الشريفة» كما تقدم، وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله في وصف راحته الشريفة:(2/342)
وأعادت على قتادة عينا ... فهي حتى مماته النجلاء
أي وأعادت تلك الراحة الشريفة على قتادة بن النعمان رضي الله تعالى عنه عينا له ذهبت، فهي إلى مماته الواسعة: أي الكثيرة النظر.
قال الشيخ ابن حجر الهيتمي: ويجمع بين رواية العين الواحدة ورواية الثنتين.
أي فقد جاء في حديث غريب «أصيبت عيناي فسقطتا على وجنتي، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعادهما وبصق فيهما، فعادتا تبرقان» بأن أحد الرواة ظن أن الساقطة واحدة وبعضهم أن الساقط ثنتان، فأخبر كلّ بحسب علمه.
ومن قواعدهم أن زيادة الثقة مقبولة، وبها تترجح رواية إحدى الثنتين، هذا كلامه فليتأمل. وكون ذلك كان يوم أحد هو المشهور. وقيل يوم الخندق.
وقد حكى أبو عمر بن عبد البر أن رجلا من ولد قتادة قدم على عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه؛ فقال له: من الرجل؟ فقال:
أنا ابن الذي سالت على الخد عينه ... فردت بكف المصطفى أحسن الرد
فعادت كما كانت لأول أمرها ... فيا حسن ما عين ويا حسن ما رد
فقال عمر بن عبد العزيز:
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
فوصله عمر وأحسن جائزته.
ورمى كلثوم بن الحصين بسهم في نحره، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبصق عليه فبرأ. وحضرت الملائكة عليهم السلام يوم أحد ولم تقاتل.
قال: ويؤيده قول مجاهد رحمه الله: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر، لكن جاء عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال «رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه كأشد القتال؛ وما رأيناهما قبل ولا بعد، أي وهما جبريل وميكائيل عليهما السلام» ولا منافاة، فقد قال البيهقي رحمه الله: لم يقاتلوا يوم أحد عن القوم أي فلا ينافي أنهم قاتلوا عنه صلى الله عليه وسلم خاصة اهـ.
أقول: ويجوز أن يكون المراد بمقاتلتهما دفعهما عنه صلى الله عليه وسلم. وفيه أنه جاء عن الحارث بن الصمة رضي الله تعالى عنه قال «سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الشعب عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه، فقلت: رأيته في جنب الجبل، فقال: الملائكة تقاتل معه. قال الحارث: فرجعت إلى عبد الرحمن، فإذا بين يديه سبعة صرعى فقلت: ظفرت يمينك أكل هؤلاء قتلت؟ قال: أما هذا وهذا فأنا(2/343)
قتلتهما. وأما هؤلاء فقتلهم من لم أره، فقال صدق الله ورسوله» أي ومقاتلة الملائكة عن خصوص عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه لا ينافي مقاتلتهم يوم بدر عن عموم القوم.
وفي الإمتاع، كان قد نزل قبل أن يخرج صلى الله عليه وسلم إلى أحد قوله تعالى أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) [آل عمران: الآية 124، 125] فلم يصبروا وانكشفوا فلم يمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بملك واحد يوم أحد، فليتأمل والله أعلم.
ولما قتل مصعب بن عمير رضي الله عنه وسقط اللواء أخذه ملك في صورة مصعب: أي فإنه لما قطعت يده اليمنى أخذ اللواء بيده اليسرى، أي وهو يقول وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: الآية 144] الآية، فلما قطعت جثى على اللواء وضمه بعضديه إلى صدره وهو يقول وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: الآية 144] الآية، ولم تكن هذه الآية نزلت، بل قالها لما سمع قول القائل قتل محمد، وإنما نزلت: أي بعد قوله في ذلك اليوم كما في الدرّ فهو من القرآن الذي نزل على لسان بعض الصحابة ثم قتل، أي وهذا لا ينافي ما تقدم، من أنه قاتل دونه صلى الله عليه وسلم، فقتله ابن قمئة لعنه الله وهو يظنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قتله أبيّ بن خلف لعنه الله، لأنه يجوز أن يكون قتله هو على هذه الكيفية المذكورة.
ثم رأيت في بعض الروايات أن ابن قمئة فعل به هذه الكيفية، أي ثم قتله، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للملك الذي على صورة مصعب، تقدم يا مصعب، فالتفت إليه الملك فقال: لست بمصعب، فعرف صلى الله عليه وسلم أنه ملك أيد به.
وفي رواية أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
أقدم مصعب، قال: يا رسول الله، ألم يقتل مصعب؟ قال: بلى ولكن ملك قام مقامه وتسمى باسمه، أي فلا ينافي ذلك قول الملك له صلى الله عليه وسلم لما قال له تقدم يا مصعب:
لست بمصعب، لأن مراده لست بمصعب الذي هو صاحبكم.
ورأيت في رواية أنه لما سقط اللواء أخذه أبو الروم أخو مصعب، ولم يزل في يده حتى دخل المدينة، فليتأمل، ووجود هذا الملك يخالف ما تقدم عن الإمتاع، من أنه صلى الله عليه وسلم لم يمدّ بملك واحد.
ولما أراد صلى الله عليه وسلم أن يتوجه إلى المدينة ركب فرسه، وخرج المسلمون حوله عامتهم جرحى، أي ومعه أربع عشرة امرأة، فلما كانوا بأصل أحد قال صلى الله عليه وسلم: اصطفوا حتى أثنى عليّ ربي عز وجل، فاصطف الرجال خلفه صفوفا، وخلفهم النساء.
فقال «اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا(2/344)
هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما أبعدت ولا مبعد لما قربت» الحديث.
ثم توجه صلى الله عليه وسلم للمدينة، فلقيته حمنة بنت جحش بنت عمته صلى الله عليه وسلم أخت زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها، فقال لها صلى الله عليه وسلم احتسبي، قالت: من يا رسول الله؟
قال: خالك حمزة، قالت إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [البقرة: الآية 156] غفر الله له، هنيئا له الشهادة.
ثم قال لها: احتسبي، قالت: من يا رسول الله؟ قال: زوجك مصعب بن عمير، فقالت:
واحزناه وصاحت وولولت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن زوج المرأة لبمكان ما هو لأحد، لما رأى من تثبتها على أخيها وخالها، وصياحها على زوجها ثم قال لها: لم قلت هذا؟
قالت: تذكرت يتم بنيه فراعني، فدعا لها صلى الله عليه وسلم ولولدها أن يحسن الله تعالى عليهم الخلف، فتزوّجت طلحة بن عبيد الله، فكان أوصل الناس لولدها وولدت له محمد بن طلحة.
قال: وجاءت أم سعد بن معاذ تعدو نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على فرسه وسعد بن معاذ آخذ بلجامها. فقال له سعد: يا رسول الله أمي؛ فقال صلى الله عليه وسلم: مرحبا بها، فوقف لها، فدنت حتى تأملت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنها عمرو بن معاذ. فقالت: أما إذا رأيتك سالما فقد اشتويت المصيبة: أي استقليتها؛ ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل من قتل بأحد: أي بعد أن قال لأم سعد: يا أم سعد أبشري، وبشري أهلهم أن قتلاهم ترافقوا في الجنة جميعا، وقد شفعوا في أهلهم جميعا، قالت: رضينا يا رسول الله، ومن يبكي عليهم بعد هذا؟!. ثم قالت: يا رسول الله ادع لمن خلفوا. فقال: اللهم أذهب حزن قلوبهم، واجبر مصيبتهم، وأحسن الخلف على من خلفوا.
وسمع صلى الله عليه وسلم نساء الأنصار يبكين على أزواجهنّ، أي وأبنائهنّ وإخوانهنّ. فقال:
حمزة لا بواكي له، أي وبكى صلى الله عليه وسلم، ولعله رضي الله عنه لم يكن له بالمدينة لا زوجة ولا بنت، فأمر سعد بن معاذ نساءه ونساء قومه أن يذهبن إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكين حمزة بين المغرب والعشاء. أي وكذلك أسيد بن حضير أمر نسائه ونساء قومه أن يذهبن إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكين حمزة.
أي ولما جاء صلى الله عليه وسلم بيته حمله السعدان وأنزلاه عن فرسه ثم اتكأ عليهما حتى دخل بيته، ثم أذن بلال لصلاة المغرب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على مثل تلك الحال يتوكأ على السعدين، فصلى صلى الله عليه وسلم، فلما رجع من المسجد من صلاة المغرب سمع البكاء، فقال: ما هذا؟ فقيل نساء الأنصار يبكين حمزة، فقال: رضي الله عنكن وعن أولادكن، وأمر أن تردّ النساء إلى منازلهن.(2/345)
وفي رواية: خرج عليهنّ، أي بعد ثلث الليل لصلاة العشاء فإن بلالا أذن بالعشاء حين غاب الشفق، فلم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما ذهب ثلث الليل نادى بلال: الصلاة يا رسول الله، فقام من نومه وخرج وهنّ على باب المسجد يبكين حمزة رضي الله عنه. ولا يخالف ما سبق، لأن بيت عائشة رضي الله عنها كان ملاصقا للمسجد، فقال لهنّ: ارجعن رحمكنّ الله، لقد واسيتن معي، رحم الله الأنصار، فإن المواساة فيهم كما علمت قديمة.
أي ولا منافاة، لأنه يجوز أن يكون الأمر عند رجوعه من صلاة المغرب كان لطائفة وبعد ثلث الليل كان لطائفة أخرى، وصارت الواحدة من نساء الأنصار بعد لا تبكي على ميتها إلا بدأت بالبكاء على حمزة رضي الله عنه ثم بكت على ميتها.
ولعل المراد بالبكاء النوح، وباتت وجوه الأوس والخزرج تلك الليلة على بابه صلى الله عليه وسلم بالمسجد يحرسونه خوفا من قريش أن تعود إلى المدينة.
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم نهى نساء الأنصار عن النوح، وقال له الأنصار: يا رسول الله، بلغنا أنك نهيت عن النوح، وإنما هو شيء نندب به موتانا، ونجد فيه بعض الراحة، فائذن لنا فيه، فقال صلى الله عليه وسلم: إن فعلن، فلا يخمشن، ولا يلطمن، ولا يحلقن شعرا، ولا يشققن جيبا.
وجاء أنه في يوم أحد دفع عليّ كرّم الله وجهه سيفه لفاطمة رضي الله عنها وقال لها اغسليه غير ذميم، فقال صلى الله عليه وسلم: إن تكن أحسنت فقد أحسن فلان وفلان وعدّد جماعة، أي منهم سهل بن حنيف وأبو دجانة.
وما روي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم في يوم أحد دفع سيفه ذا الفقار لابنته فاطمة رضي الله عنها وقال: اغسلي عنه دمه، لقد صدقني اليوم، وناولها علي كرم الله وجهه سيفه وقال: وهذا فاغسلي عنه دمه، فو الله لقد صدقني اليوم، فقال صلى الله عليه وسلم لعلي كرم الله وجهه: لئن صدقت القتال لقد صدق معك سهيل بن حنيف وأبو دجانة.
وعن ابن عقبة لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم سيف علي كرم وجهه مختضبا دما، قال: إن تكن أحسنت القتال فقد أحسن عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح والحارث بن الصمة وسهل بن حنيف. وكونه صلى الله عليه وسلم دفع سيفه لابنته فاطمة رضي الله عنها رده الإمام أبو العباس بن تيمية، بأنه صلى الله عليه وسلم لم يقاتل في ذلك اليوم بسيف، لكن في النور أن هذا الحديث لم يتعقبه الذهبي. قال: ففيه ردّ على ابن تيمية هذا كلامه فليتأمل.
والأكثر على أن الذين قتلوا يوم أحد من المسلمين سبعون: أربعة من المهاجرين، وهم: حمزة ومصعب وعبد الله بن جحش وشماس بن عثمان، وقيل(2/346)
ثمانون: أربعة وسبعون من الأنصار وستة من المهاجرين. قال الحافظ ابن حجر:
لعل الخامس سعد مولى حاطب بن أبي بلتعة. والسادس ثقيف بن عمرو حليف بني عبد شمس، وعدهم في الأصل ستة وتسعين، وهذا لا يناسب ما تقدم في بدر من قوله صلى الله عليه وسلم: إن شئتم أخذتم منهم الفداء، ويستشهد منكم سبعون بعد ذلك، وقتل من المشركين ثلاثة وعشرون، وقيل اثنان وعشرون.
أقول: انظر هذا مع ما تقدم من أن؟؟؟ وحده قتل واحدا وثلاثين. ورأيت في الطبقات لمولانا الشيخ عبد الوهاب الشعراني نفعنا الله ببركاته، أن أويسا القرني كان مشغولا بخدمة والدته، فلذلك لم يجتمع بالنبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقد روي أنه اجتمع به مرات وحضر معه وقعة أحد وقال: والله ما كسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم حتى كسرت رباعيتي ولا شجّ وجهه الشريف حتى شجّ وجهي، ولا وطىء ظهره حتى وطىء ظهري، قال: هكذا رأيت هذا الكلام في بعض المؤلفات والله أعلم بالحال هذا كلامه، ولم أقف على أنه عليه الصلاة والسلام وطىء ظهره في غزوة أحد، فإن مجموع ما دلت عليه الأخبار أنه صلى الله عليه وسلم شجّ وجهه، وكسرت رباعيته، وجرحت وجنتاه وشفته السفلى من باطنها ووهى منكبه، وجحشت ركبته.
ثم رأيت بعض المؤرخين ذكر أن سيدنا عمر رضي الله عنه سمع بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول وهو يبكي: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضلك عند ربك أن جعل طاعتك طاعته، فقد قال تعالى مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء:
الآية 80] بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عند ربك أن أخبرك بالعفو عنك قبل أن يخبرك بذنبك، فقال عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: الآية 43] إلى أن قال: فلقد وطىء ظهرك، وأدمي وجهك، وكسرت رباعيتك، فأبيت أن تقول إلا خيرا فقلت «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» .
ومما يدل على أن أويسا لم يجتمع بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم «خير التابعين رجل يقال له أويس القرني» وما أخرجه البيهقي عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «سيكون في التابعين رجل من قرن يقال له أويس بن عامر» وفي رواية أن عمر قال لأويس استغفر لي، فقال: كيف أستغفر لك وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال له عمر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن خير التابعين رجل يقال له أويس» والمراد من خير التابعين كما في بعض الروايات، فلا ينافي ما نقل عن أحمد بن حنبل وغيره أن أفضل التابعين سعيد بن المسيب.
ومما يدل على أن أويسا لم يكن موجودا في زمنه صلى الله عليه وسلم ما جاء في الجامع الصغير سيكون بعدي في أمتي رجل يقال له أويس القرني، وإن شفاعته في أمتي مثل ربيعة ومضر» .(2/347)
وفي أسد الغابة أن أويسا أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، وسكن الكوفة وهو من كبار تابعي الكوفة، وكان يسخر به.
ووفد رجل ممن كان يسخر به مع جماعة من أهل الكوفة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال عمر: هل هاهنا أحد من القرنيين، فجاء ذلك الرجل، فقال له عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال «إن رجلا يأتيكم من اليمن يقال له أويس القرني وقد كان به بياض، فدعا الله تعالى فأذهب عنه إلا قدر الدينار أو الدرهم، فمن لقيه منكم فمروه أن يستغفر لكم» فأقبل ذلك الرجل لما قدم الكوفة إلى أويس قبل أن يأتي أهله، فقال له أويس: ما هذا بعادتك؟ قال: سمعت عمر رضي الله عنه يقول: كذا وكذا فاستغفر لي، قال: لا أفعل حتى تجعل لي عليك أن لا تسخر بي ولا تذكر قول عمر لأحد فالتزم له ذلك فاستغفر له، وقتل أويس يوم صفين مع عليّ كرم الله وجهه.
ولما وصل صلى الله عليه وسلم المدينة أظهر المنافقون واليهود الشماتة والسرور، وصاروا يظهرون أقبح القول، أي ومنه: ما محمد إلا طالب ملك، ما أصيب بمثل هذا نبيّ قط؛ أصيب في بدنه، وأصيب في أصحابه، ويقولون: لو كان من قتل منكم عندنا ما قتل.
واستأذنه صلى الله عليه وسلم عمر في قتل هؤلاء المنافقين، فقال: أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: بلى، ولكن تعوذا من السيف، فقد بان أمرهم وأبدى الله تعالى أضغانهم، فقال صلى الله عليه وسلم: نهيت عن قتل من أظهر ذلك، وصار ابن أبيّ لعنه الله يوبخ ابنه عبد الله رضي الله عنه وقد أثبتته الجراحة فقال له ابنه: الذي صنع الله لرسوله والمسلمين خير.
قال: وكانت عادة عبد الله بن أبيّ ابن سلول إذا جلس صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على المنبر قام فقال: «أيها الناس: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم أكرمكم الله تعالى به وأعزكم، فانصروه وعزروه واسمعوا له وأطيعوا ثم يجلس» فبعد أحد أراد أن يفعل كذلك، فلما قام أخذ المسلمون بثوبه من نواحيه وقالوا له: اجلس عدو الله، والله لست لذلك بأهل وقد صنعت ما صنعت، فخرج وهو يتخطى رقاب الناس وهو يقول: كأني إنما قلت هجرا، وقال له بعض الأنصار: ارجع يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: والله ما أبتغي أن يستغفر لي، وأنزل الله تعالى قصة أحد في آل عمران، وهي قوله تعالى وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ [آل عمران: الآية 121] الآية.(2/348)
غزوة حمراء الأسد
لما كان صبيحة قدومه صلى الله عليه وسلم من أحد أذن مؤذنه صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا خلف قريش، وأن لا يخرج إلا من حضر أحدا، وذلك إرهابا للعدو، وليبلغهم أنه صلى الله عليه وسلم خرج في طلبهم ليظنوا به صلى الله عليه وسلم قوة، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم: أي يضعفهم عن عدوهم.
قال: وقيل لأنه صلى الله عليه وسلم بلغه أن أبا سفيان يريد أن يرجع بقريش إلى المدينة ليستأصلوا من بقي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد بلغه أن المشركين قالوا له: لا محمدا قتلتم، ولا الكواكب أردفتم، بئس ما صنعتم ارجعوا.
أي وفي لفظ أنهم لما بلغوا بعض الطريق قدموا فقالوا بئس ما صنعتم، إنكم قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم، ارجعوا فاستأصلوهم قبل أن يجدوا قوة وشوكة، فقذف الله في قلوبهم الرعب.
ويذكر أن عبد الله بن عوف جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم صبيحة قدومه صلى الله عليه وسلم من أحد وأخبره أنه أقبل من أهله حتى إذا كان بمحل كذا إذا قريش قد نزلوا به؛ فسمع أبا سفيان وأصحابه يقولون: ما صنعتم شيئا قد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم فارجعوا نستأصل من بقي، وصفوان بن أمية يأبى ذلك عليهم ويقول: يا قوم لا تفعلوا فإني أخاف أن يجمع عليكم من تخلف عن الخروج، فارجعوا والدولة لكم، فإني لا آمن إن رجعتم أن تكون الدولة عليكم، فقال صلى الله عليه وسلم: أرشدهم صفوان، وما كان يرشد فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر رضي عنهما، وذكر لهما الخبر: أي ما أخبر به عبد الله بن عوف فقالا: يا رسول الله اطلب العدو لا يقتحمون على الذرية. فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاة الصبح ندب الناس، وأمر بلالا أن ينادي إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم بطلب عدوكم، ولا يخرج إلا من حضر القتال بالأمس، انتهى.
وعند تهيئه صلى الله عليه وسلم للخروج جاء جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فقال: يا رسول الله إنما تخلفت عن أحد، لأن أبي خلفني على أخوات لي سبع، أي وقيل وهو الصحيح إنهن تسع، وقال: يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعل الله يرزقني الشهادة فتخلف على أخواتك فاستخلفت عليهن واستأثر علي بالشهادة، فائذن لي يا رسول الله معك، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يخرج معه أحد لم يشهد القتال بالأمس غيري. واستأذنه رجال لم يحضروا القتال أي منهم عبد الله بن أبي قال له أنا راكب معك، فأبى ذلك عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.(2/349)
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلوائه وهو معقود لم يحل، فدفعه لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ويقال لأبي بكر الصديق رضي الله عنه واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم. وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسه: أي المسمى بالسكب، ولم يكن مع أصحابه فرس سواه، وعليه الدرع والمغفر وما يرى إلا عيناه وخرج الناس معه: أي جميع من كان معه صلى الله عليه وسلم في أحد.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت في قوله تعالى الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ [آل عمران: الآية 172] الآية، قالت لعروة بن الزبير:
يا بن أختي كان أبوك الزبير رضي الله عنه وأبو بكر لما أصاب نبيّ الله ما أصاب يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا فقال: من يرجع في أثرهم، فانتدب منهم سبعون رجلا. قال ابن كثير وهذا السياق غريب جدا، فإن المشهور عند أصحاب المغازي أن الذي خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد كل من شهد أحدا وكانوا سبعمائة كما تقدم، قتل منهم سبعون وبقي الباقي، هذا كلامه فليتأمل مع ما تقدم.
قال: والظاهر أنه لا تخالف، لأن معنى قولها يعني عائشة: أنهم سبقوا غيرهم، ثم تلاحق بهم الباقون وخرجوا وبهم الجراحات ولم يعرجوا على دواء جراحاتهم: أي لم يلتفتوا لذلك، والمراد دواء غير تكميد جراحهم بالنار، وهو أن تسخن خرقة وتوضع على العضو الوجع، ويتابع ذلك مرة بعد أخرى ليسكن الوجع، فلا يخالف أنهم فعلوا ذلك: أي أوقدوا النيران يكمدون بها جراحاتهم تلك الليلة.
فمنهم من كان به تسع جراحات وهو أسيد بن حضير رضي الله عنه، وعقبة بن عامر رضي الله عنه. ومنهم من كان به عشر جراحات، وهو خراش بن الصمة رضي الله عنه ومنهم من كان به بضع عشرة جراحة، وهو كعب بن مالك رضي الله عنه.
ومنهم من كان به بضع وسبعون جراحة، وهو طلحة بن عبيد الله، وقطعت أصبعه.
قيل السبابة، وقيل البنصر فشلت بقية أصابع يده وهي اليسرى. وفي رواية أنامله كما تقدم. ومنهم من كان به عشرون جراحة، وهو عبد الرحمن بن عوف كما تقدم: أي وجرح من بني سلمة أربعون جريحا فقال صلى الله عليه وسلم لما رآهم «اللهم ارحم بني سلمة» .
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مجروح، وفي وجهه أثر الحلقتين، ومشجوج في وجهه، ومكسورة رباعيته وشفته السفلى قد جرحت من باطنها: أي وفي المنتقى:
وشفته العليا قد كلمت من باطنها متوهن منكبه الأيمن لضربة ابن قمئة لعنه الله، وركبتاه مجروحتان من وقعته في الحفيرة، وتلقاه صلى الله عليه وسلم طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، فقال له يا طلحة أين سلاحك؟ فقال: قريب، فذهب وأتى بسلاحه وبصدره تسع جراحات من تلك الجراحات التي به، وهي كما تقدم بضع وسبعون جراحة.
يقول طلحة وأنا أهم بجراح رسول الله صلى الله عليه وسلم مني بجراحي. ثم أقبل عليّ رسول الله(2/350)
صلى الله عليه وسلم فقال: يا طلحة أين ترى القوم، فقلت: بالسفالة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك الذي ظننت، أما إنهم يا طلحة لن ينالوا منا مثلها حتى يفتح الله مكة علينا. وقال صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه «يا بن الخطاب: إن قريشا لن ينالوا منا مثل هذا حتى نستلم الركن» اهـ.
وكان دليله صلى الله عليه وسلم في السير ثابت بن الضحاك، وليس هو أخا جبير، وقيل أخوه، ولا زالوا سائرين حتى عسكروا بحمراء الأسد: أي وهو محل بينه وبين المدينة ثمانية أميال، أي وقيل عشرة أميال.
وعن رجل من الأنصار قال «شهدت أحدا أنا وأخي، فرجعنا جريحين، فلما أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو، فقال لي أخي: أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم» وفي لفظ «إن تركنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لفسق والله ما لنا من دابة نركبها، فخرجنا وكنت أيسر جراحا منه، فكنت إذا غلب حملته عقبه ويمشي عقبة حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون من حمراء الأسد، أي وذلك عند العشاء وهم يوقدون النيران، فجاءتهما الحرس وكان على حرسه تلك الليلة عباد بن بشر مع طائفة، فلما أتي بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما ما حبسكما؟ فأخبراه بغلبتهما فدعا لهما بخير وقال لهما: إن طالت بكما مدة كانت لكما مراكب من خيل وبغال وإبل وذلك ليس بخير لكم» أي هذان الرجلان عبد الله ورافع ابنا سهيل بن رافع والذي ضعف عن المشي رافع، والحامل له عبد الله.
وأقام المسلمون بذلك المحل ثلاث ليال، وكانوا يوقدون في كل ليلة من تلك الليالي خمسمائة نار حتى ترى من المكان البعيد. وذهب صوت معسكرهم ونيرانهم في كل وجه، فكبت الله تعالى عدوّهم. قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: وكان عامة زادنا التمر.
وحمل سعد بن عبادة رضي الله عنه ثلاثين بعيرا حتى وافت حمراء الأسد وساق جزرا لتنحر، فنحروا في يوم اثنين وفي يوم ثلاثاء. ولقي كفار قريش معبدا الخزاعي، وكان يومئذ مشركا بالروحاء، وكان رأى خروجه صلى الله عليه وسلم خلف قريش، فأخبرهم بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم لطلبهم، وقد كانوا أرادوا الرجوع إلى المدينة فكسرهم خروجه فتمادوا إلى مكة. قال: لما كان صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد لقيه معبد الخزاعي وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم تحبه صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد والله لقد عزّ علينا ما أصابك في نفسك وما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله تعالى أعلى كعبك، وأن المصيبة كانت لغيرك. ثم مضى معبد حتى كان بالروحاء. فلما رأى أبو سفيان معبدا قال: هذا معبد وعنده الخبر، ما وراءك يا معبد؟ قال: تركت محمدا وأصحابه قد خرجوا لطلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرقون عليكم تحرقا، قد(2/351)
اجتمع معه من كان تخلف عنه بالأمس من الأوس والخزرج، وتعاهدوا على أن لا يرجعوا حتى يلقوكم فيثأروا: أي يأخذوا ثأرهم منكم، وغضبوا لقومهم غضبا شديدا، وندموا على ما فعلوا فيهم من الحنق شيء لم أر مثله قط، قال: ويلك ما تقول؟ قال: والله ما أرى أن ترحل حتى ترى نواصي الخيل، فقال: والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم، قال: فإني أنهاك عن ذلك، فانصرفوا سراعا اهـ.
أي وعند انصرافهم أرسل أبو سفيان مع نفر يريدون المدينة أن يخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأنهم أجمعوا على الرجعة، فلما بلغوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، قال: صلى الله عليه وسلم: حسبنا الله ونعم الوكيل، فأنزل الله تعالى الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ [آل عمران: الآية 172] الآية، وقال صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده لقد سومت لهم الحجارة، ولو رجعوا لكانوا كأمس الذاهب» أي وأرسل معبد الخزاعي رجلا يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بانصراف أبي سفيان ومن معه خائفين، فانصرف إلى المدينة، وظفر صلى الله عليه وسلم في حمراء الأسد بأبي عزة الشاعر الذي منّ عليه وقد أسر ببدر من غير فداء لأجل بناته؛ وأخذ عليه عهدا أن لا يقاتله ولا يكثر عليه جمعا ولا يظاهر عليه أحدا كما تقدم، فنقض العهد، وخرج مع قريش لأحد، وصار يستنفر الناس ويحرضهم على قتاله صلى الله عليه وسلم بأشعاره كما تقدم. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يفلت فأسر. ثم قيل: إن المشركين لما نزلوا بحمراء الأسد تركوه نائما، فاستمرّ حتى ارتفع النهار، وكان الذي أخذه عاصم بن ثابت، وما أسر أحد من المشركين غيره في تلك الوقعة، وقيل أسره عمير بن عبد الله.
وفي النور: لا أستحضر أحدا في الصحابة اسمه غمير بن عبد الله، فلما جيء به إليه صلى الله عليه وسلم قال: يا محمد أقلني وامنن علي؛ ودعني لبناتي، وأعطيك عهدا أن لا أعود لمثل ما فعلت، فقال صلى الله عليه وسلم: لا والله لا تمسح عارضيك بمكة. وفي لفظ: تمسح لحيتك تجلس بالحجز، تقول خدعت محمدا. وفي لفظ: سحرت محمدا مرتين اضرب عنقه يا زيد. وفي لفظ: يا عاصم بن ثابت. وفي لفظ: يا زبير، وقال صلى الله عليه وسلم «لا يلدغ» بالدال المهملة والغين المعجمة. وفي لفظ «لا يلسع المؤمن من حجر مرتين» فضرب عنقه.
وذكر أن رأسه حمل إلى المدينة مشهورا على رمح. قال بعضهم: وهو أول رأس حمل في الإسلام، أي ولا ينافيه ما قيل إن أول رأس حمل في الإسلام رأس كعب بن الأشرف كما سيأتي في السرايا، لإمكان أن يراد أن رأس أبي عزة أوّل رأس حمل إلى المدينة على رمح. ولعل هذا لا ينافي ما حكاه بعضهم أن عمرو بن الجموح كان رابع الأربعة الذين دخلوا على سيدنا عثمان الدار، وكان مع علي كرم الله وجهه في مشاهده. فلما ولي معاوية رضي الله عنه فر هاربا إلى العراق فنهشته حية فدخل غارا ومات، فأخبر بذلك زياد والي العراق، فأرسل من حز رأسه وأرسل(2/352)
به إلى معاوية، فكان أول رأس نقل في الإسلام من بلد إلى بلد.
قال بعضهم في معنى هذا المثل: أي لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين: إنه ينبغي للمرء أن يستعمل الحزم، وهذا المثل لم يسمع من غيره صلى الله عليه وسلم. ومورده أن شخصا جرد سيفه وقصد النبي صلى الله عليه وسلم فضربه ليقتله فاخطأت الضربة، فقال: كنت مازحا يا محمد فعفا عنه، ثم عاد لمثل ذلك مرة أخرى وقال مثل ذلك، فأمر صلى الله عليه وسلم بقتله وقال «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» .
وأمر صلى الله عليه وسلم في ذلك المحل بقتل معاوية بن المغيرة بن أبي العاص وهو جد عبد الملك بن مروان لأمه، وقد كان لجأ إلى ابن عمه عثمان بن عفان رضي الله عنه: أي فإنه لما رجع الكفار من أحد ذهب على وجهه ثم أتى باب عثمان فدقه، فقالت أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم زوج عثمان من أنت؟ قال: ابن عم عثمان، فقالت:
ليس هو هاهنا، فقال: أرسلي إليه. فله عندي ثمن بعير كنت اشتريته منه، فجاء عثمان، فلما نظر إليه قال: أهلكتني وأهلكت نفسك، فقال: يا بن عم لم يكن أحد أمس بي رحما منك فأجرني، فأدخله عثمان رضي الله عنه منزله وصيره في ناحية، ثم خرج عثمان ليأخذ له أمانا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن معاوية بالمدينة فاطلبوه، فدخلوا منزل عثمان، فأشارت إليهم أم كلثوم رضي الله عنها بأنه في ذلك المكان، فأخرجوه وأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بقتله، فقال عثمان رضي الله عنه: والذي بعثك بالحق ما جئت إلا لآخذ له أمانا، فهبه لي، فوهبه له وأجله ثلاثا، وأقسم صلى الله عليه وسلم إن وجده بعدها قتله.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد، فأقام معاوية ثلاثا يستعلم أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأتي بها قريشا، فلما كان في اليوم الرابع عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فخرج معاوية هاربا، فأدركه زيد بن حارثة وعمار بن ياسر رضي الله عنهما، فرمياه حتى قتلاه، وقد كان صلى الله عليه وسلم بعثهما إليه وقال لهما إنكما ستجدانه بموضع كذا وكذا: أي بموضع بينه وبين المدينة ثمانية أميال، فوجداه به فقاتلاه. وقيل تبعه علي كرم الله وجهه فقتله، وكان صلى الله عليه وسلم بعث ثلاثة نفر من أسلم طليعة في آثار القوم، فلحق اثنان منهم للقوم بحمراء الأسد فقتلوهما فوجدهما صلى الله عليه وسلم قتيلين بحمراء الأسد فدفنهما في قبر واحد. ولا يأتي هنا الجواب المتقدم في قتلى أحد.
وجاءه صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام بعد رجوعه إلى المدينة، بأن الحارث بن سويد في قباء فانهض إليه واقتص منه بمن قتله من المسلمين غدرا يوم أحد وهو المجذّر، وتقدم أنه بالذال المعجمة مشددة مفتوحة ابن زياد، وتقدم أنه بكسر الذال المعجمة وفتحها وتخفيف المثناة تحت، لأن سويدا كان قد قتل زيادا أبا المجذر، في الجاهلية، فظفر المجذر بسويد والد الحارث فقتله في أبيه وذلك قبل الإسلام، وكان(2/353)