والميراث يكون ثمرة لهذا العلو، ولأن الكفر باطل والإسلام حق يوجب الميراث، ولا يزول الحق لأجل الباطل.
ولكن الجمهور الأعظم قالوا غير ذلك، وحجتهم صريح السنة قولا وعملا، فقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم كما روي في الصحيحين: «لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر» . وقد ثبت عملا، فإن عقيل بن أبى طالب هو الذي ورث دور أبى طالب، ولم يرث منها جعفر، ولا علي، ولا أم هانئ ولا غيرهم من المسلمين عند وفاة أبي طالب، وقال النبى صلى الله عليه وسلم فى فتح مكة المكرمة: ما ترك عقيل من دار، ولا يرث المسلم الكافر.
وخلاصة القول أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أرسل معاذا محاربا، ومعلما، وجامعا للصدقات والجزية وقاضيا في الخصومات، فكان هاديا مهديا.
ويقول الحافظ ابن كثير في ولايته: كان قاضيا للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وحاكما في الحروب، ومصدقا إليه تدفع له الصدقات.
وقد ذكرنا ما قاله رسول رسول الله معاذ بن جبل فى اليمن هو وصاحبه عبد الله بن قيس (أبو موسى الأشعرى) ليعرف القارئ أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يرسل الرسل من قبله إلى الجهات النائية على أنها سرايا أحيانا، وعلى أنهم معلمون، وإن لم تذهب عنهم صفة السرايا.
فالدعوة الإسلامية أو تبليغ الرسالة المحمدية هي الأصل، وهي الغاية، فإن لم تقف في سبيلها عقبات، اكتفي، وإن وقفت محاجزات الأمراء والملوك كان الجيش المؤمن مزيلا لهذه المحاجزات حتى يخلو وجه الإسلام للدعوة المحمدية دعوة الله والحق.
ولقد كانت كل بعثة محمدية معها قوة، لأنه يجتاز فيافي وقفارا، والأمن غير مستتب، وقد حدث أن جاء ناس من المشركين يخادعون النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وذكروا له أن عندهم من يريد الإسلام فأرسل لهم من يعلمهم، أرسل معهم قراء، فأخذوهم، وباعوهم للمشركين، وآخرون قد قتلوهم، وقد تكرر ذلك، فكان الحذر يوجب على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ألا يرسل قراء وحدهم، بل لا بد من سرية حربية معهم، والله تعالي في عون عباده المخلصين.(3/1035)
بعث علي رضى الله عنه
693- كانت اليمن عدة أقاليم، فبعث عليه الصلاة والسلام عبد الله بن قيس (أبا موسى الأشعرى) إلى مخلاف، وبعث معاذ بن جبل إلى مثله، وكانا متجاورين، فكان كل يذهب إلى صاحبه ولذا أمرهما النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يتطاوعا ولا يختلفا.
وبعث على بن أبى طالب بعد خالد بن الوليد، وهما محاربان، ولكن أمرهما النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، بألا يقاتلا إلا بعد الدعوة إلى الاسلام، والامتناع عن الإجابة إلى الإسلام أو إلى العهد.
ولنذكر وصية النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لعلى بن أبى طالب كما رواها السرخسى فى كتابه شرح السير الكبير للإمام محمد، وهى تشبه وصية النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لمعاذ التى أسلفناها.
وهذه هى الوصية: «إذا نزلت بساحتهم، فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك، فإن قاتلوك فلا تقاتلهم حتى يقتلوا منكم قتيلا، فإن قتلوا منكم قتيلا، فلا تقاتلهم حتى تريهم إياه، ثم تقول لهم: هل لكم إلى أن تقولوا:
لا إله إلا الله، ولأن يهدى الله بك رجلا واحدا خير مما طلعت عليه الشمس وغربت» «1» .
ولكن عليا رضى الله تعالى عنه، لم يقاتل، ولم يكن فى حال يعرض عليهم ما أمره النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يعرضه، لأنه جاء إلى من أرسل إليهم على من أهل اليمن قبله خالد بن الوليد ودعاهم إلى الإسلام أو القتال فأسلموا ولم يقاتلوا، وجمع منهم خالد بن الوليد فيئا وغنائم لم تخمس، فأرسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عليا ليقسمها، أو ليخمسها كما يفهم ذلك من الروايات المتضاربة.
قال البخارى بسنده «بعث النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عليا إلى خالد ليقبض الخمس» وقال أبو بريدة راوى الحديث عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «وكنت أبغض عليا» .
وإنه يبدو من السياق التاريخى أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعث عليا ليأخذ خمس النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وذى القربى واليتامى والمساكين.
وإن ذلك لم يكن وحده هو رسالة خالد، بل كانت رسالته مع ذلك الدعوة إلى الإسلام وتعليمهم، وأن يؤمهم فى الصلاة. قال البراء بن عازب فى رواية البيهقى: «كنت فيمن خرج مع خالد ابن الوليد فأقمنا ستة أشهر يدعوهم إلى الإسلام، فلم يجيبوه، ثم إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعث على بن أبى طالب. فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا، ثم تقدم فصلى بنا فصفنا صفا واحدا، ثم تقدم بين أيدينا، وقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فأسلمت همدان جميعا.
__________
(1) شرح السير الكبير للسرخسى الجزء الأول ص 234 طبع جامعة القاهرة ولم يطبع فيها غيره.(3/1036)
فكتب على إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بإسلامهم، فلما قرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الكتاب خرج ساجدا لله، ثم رفع رأسه وقال: السلام على همدان، السلام على همدان.
ويظهر أن خالدا لم يعد إلى المدينة المنورة. بمجرد مجيء على كرم الله وجهه، بل مكث مدة، ولا نريد أن نفرض أن خالدا كان فى نفسه موجدة من إرسال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عليا، ولكن نترك الحوادث حول على تتحدث والأمور التى تدور حول على تنطق.
لم يكن على رضى الله عنه وكرم الله وجهه محبوبا فى الأوساط العربية، وخصوصا الذين ينتمون إلى أقوام كانت لهم محاربة للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى بدر وأحد والخندق، ثم حنين فقد كان سيف على كرم الله وجهه فى الجنة سريعا إلى الرقاب، كما كان سيف عمه حمزة فى بدر، وقد استطاع الشرك أن يقتل أسد الله حمزة، فبقى لعلى الإحن.
إن عليا جاء لأخذ الخمس الذى يوضع تحت يد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لقرابته، ولقد أخذ على ذلك الخمس، وكان فيه سبية جميلة، فأخذها على، وعاشرها بملك اليمين، فقامت لذلك ضجة، وأمر خالد فيما يظهر أن يبلغ ذلك للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم على أن عليا ملوم فيه، ولنترك الكلمة لأبى بريدة. حدث الإمام أحمد بسنده إلى أبى بريدة «قال أبو بريدة أبغضت عليا بغضا لم أبغضه أحدا، وأحببت رجلا «1» من قريش لم أحبه إلا على بغضه عليا، فبعث ذلك الرجل على خيل فصحبته ما أصحبه إلا على بغضه عليا فأصبنا سبيا، فكتب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. ابعث إلينا من يخمسه فبعث إلينا عليا وفى السبى وصيفة من أفضل السبى، فخمس وقسم، فخرج، ورأسه يقطر فقلنا يا أبا الحسن ما هذا؟ فقال ألم تردوا إلى الوصيفة التى كانت فى السبى فإنى قسمت وخمست فصارت فى الخمس ثم صارت فى أهل بيت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. فكتب الرجل إلى نبى الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقلت ابعثنى، فبعثنى مصدقا فجعلت أقرأ الكتاب وأقول صدق فأمسك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يدى والكتاب. فقال: أتبغض عليا، فقلت: نعم. قال: فلا تبغضه وإن كنت تحبه فازدد له حبا، فوالذى نفس محمد بيده لنصيب آل على أفضل من وصيفة، قال أبو بريدة، فما كان من الناس بعد قول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أحد أحب إلى من على.
إن هذا الخبر يدل على أن عليا رضى الله تعالى عليه كانت تتقصى هفواته ولكنه لم يفعل حراما وحسبنا أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يستنكر فعله، بل أيده. ويدل الخبر أيضا على بغض
__________
(1) سياق الكلام بما يدل على أنه خالد بن الوليد فكلمة الرجل، تشير إليه فى كل ذكر لها.(3/1037)
الرجل الذى أشار إليه لعلى، وأنه كان يريد أن يصوره أمام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى موقف الظنين.
والطريق لم يكن معبدا أمام على، لأنه حيث كان البغض، فإنه يدعثر الطريق، ويصعب الوصول إلى الحق المبين الصريح، ولقد كان لنا أن نعلق على عمل على كرم الله وجهه، لولا أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أقره.
ومع أن الطريق لم يكن معبدا أمامه رضى الله تعالى عليه، فإنه كان شديدا فيما يعتقد أنه الحق، لا تأخذه فيه هوادة، بل ينفذه فى صرامة، لا رفق فيها أو بالأحرى لا لين فيه.
ومن ذلك أنه كان تحت يده إبل الصدقة، وقد روى البيهقى عن أبى سعيد الخدرى:
«كنت فيمن خرج معه (أى على) فلما أخذ من إبل الصدقة سألناه أن نركب منها ونريح إبلنا وكنا قد رأينا فى إبلنا خللا، فأبى علينا وقال إنما لكم فيها سهم كما للمسلمين. فهو لا يريد أن يمكنهم منها قبل أن تقسم السهام وهو غير الوصيفة، فإنه جاء لتسلم خمس النبى صلى الله عليه وسلم وذوى قرابته، فبالاستيلاء، قد استولى على سهمه أما هم فهم يريدون الانتفاع بها من غير تقسيم.
وذهب من ذلك على كرم الله وجهه ليلقى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى حجة الوداع واستخلف على بعض من معه على الغنائم، فسأله الناس ما منعه على كرم الله وجهه فى الجنة، فسألوه ما منعه على فأجابهم.
لما حج على مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقفل راجعا بأمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. ورأى ما حدث فى غيبته فرأى أثر الركوب فى إبل للصدقة فجاء بحق من أنابه وقدمه ولامه على ما فعل وأعاد المنع كما بدأ.
فقال أبو سعيد الخدرى رضى الله تعالى عنه: لئن قدمت المدينة المنورة لأذكرن لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما لقيناه من الغلظة والتضييق.
بلغ ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم، فقضى لعلى وأنصفه فيما فعل، وقال: لقد علمت أنه أحسن فى سبيل الله، ومنها- أنه عندما تعجل فى الحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وخلف ذلك الرجل المتساهل، وقد أعطى ما منع على كان قد كسا الجيش كله حللا، كل رجل حلة، فلما عاد على من الحج، دنوا منه وعليهم الحلل، فلما رأى عليهم الحلل، قال ما هذا؟ قالوا كسانا فلان، فقال لمن خلفه ما دعاك إلى هذا قبل أن تقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتكوا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.(3/1038)
وفى الحق أن توقف على كان فى هذه المسألة سليما لأن هذه الحلل كانت من جزية موضوعة، فما لأحد أن يوزعها، قبل إعلان الرسول صلّى الله عليه وسلم بها. وتلقى أمره فى توزيعها.
كانت الشكوى من على كرم الله وجهه قد شاعت فى الحجيج وكثر القول فيه وكل من تكلم كان مغرضا لا يروم الحق، ولعلى الحق فى كل ما فعل، ولكن البغض له خصوصا من له فى الجيوش الإسلامية مكان من قبل ومن بعد.
ولقد قال فى ذلك الحافظ ابن كثير فى تاريخه: «والمقصود أن عليا كثر فيه القيل والقال من ذلك الجيش بسبب منعه إياهم استعمال إبل الصدقة، واسترجاعه منهم الحلل التى أطلقها لهم نائبه، وعلى معذور فيما فعل لكن اشتهر الكلام فيه فى الحجيج، ولما رجع النبى صلى الله عليه وسلم من حجته وتفرغ من مناسكه، ورجع إلى المدينة المنورة فمر بغدير خم، قام فى الناس خطيبا فبرأ ساحة على، ورفع من قدره، ونبه على فضله، ليزيل ما فى نفوس كثيرين» .
وننبه هنا إلى أمور ثلاثة يوجب الحق التنبيه إليها:
أولها:
أن كلمة ابن كثير بالنسبة لعلى كرم الله وجهه «إنه معذور» لا نرى أنها فى موضعها، والأولى أن يقول أنه كان فيها محقا، ففرق كبير بين المعذور والمحق، فإن المعذور مخطيء له عذر، وأما المحق فإنه غير مخطيء، وما كان على فى أمر الحلل والرواحل إلا محقا منفذا ولو كان فى شدة.
ثانيها:
أن الكلام الذى قيل فى غدير خم انتهى بقول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم:
«اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» .
ثالثها:
أن هذا كله من بغض علىّ كبغض أبى بريدة الذى ذكرناه وبغض الرجل الذى كان يحبه أبو بريدة، وقد نالته موجدة من إرسال على كما أشرنا. وقد عاد قبل عودة على كرم الله وجهه فعمل على إشاعة القيل والقال على إمام الهدى، ولقد كانت عبارة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم توميء إلى أن الذين أشاعوا ذلك معادون لعلى مبغضون له بغض أبى بريدة أولا، ولكن الله تعالى هداه بهداية النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
وعلى رضى الله تعالى عليه جدير بأن ينفس الناس عليه فضله، فقد مكث الرجل ستة أشهر يدعوهم إلى الإسلام، فلم يستجيبوا، وبمجرد لقاء على رضى الله عنه، قد استجابوا لداعى الحق، وعلى فوق ذلك العالم الجليل والشجاع المحارب، وبطل بدر وأحد وهو الذى حمل اللواء. وعلا، ورأى المشركون أنه لا سبيل لأن يبقوا أمامه فعادوا كأنهم المهزومون وهم الذين أصابوا جراحات فى المسلمين.(3/1039)
لقد كان على فريسة المبغضين فى موطنين:
أحدهما: فى جماعة على، وقد برأه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ورد كيد الكائدين وأطفأ نيران الغضب عند من ظهر غضبه.
الموطن الثانى: فى خلافته وخروج البغاة عليه، وتحرك الضغائن، وفى هذه المرة لم يكن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حيا، فلم يقف بغدير خم يقول: «اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» .
تولية على قضاء اليمن:
694- كان القضاء فى العادات العربية يتولاه أسن الرجال، وأكثرهم تجارب، ومعرفه لعادات القبائل، فكان يقضى مثل أكثم بن صيفى الذى عاش حتى بلغ نحو التسعين من عمره، لأن القضاء يحتاج إلى فضل تجربة وفضل تأثير، لتنفيذ الأحكام نفسيا، ويذعن المتخاصمون لها قلبيا ويكون له من الجلال فى وسط قومه ما يجعل قوله فصلا، يؤمنون بالعدل فيه.
ولذلك لما عهد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى على أن يقضى فى اليمن فى غير الحيز الذى كان فيه معاذ بن جبل وأبو موسى الأشعرى إذ كان اختصاصه يعم اليمن كله، لما عهد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك إلى على استصغر سنه وعرض على النبى صلى الله عليه وسلم أنه حدث السن، إذ لم يكن إلا فى حدود الثانية أو الثالثة والثلاثين.
روى ابن ماجة، والإمام أحمد عن على كرم الله وجهه، قال: بعثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فقلت: يا رسول الله، تبعثنى إلى قوم أسن منى، وأنا حدث لا أبصر القضاء، فوضع يده على صدرى، وقال: اللهم ثبت لسانه، واهد قلبه، يا على إذا جاءك الخصمان، فلا تقض بينهما، حتى تسمع من الآخر ما سمعت من الأول، فانك إذا فعلت ذلك تبين لك الحق. فما اختلف على على قضاء بعد.
وإن هذه الدعوة النبوية قد صدقت فى على كرم الله وجهه، فقد ثبت الله تعالى لسانه، حتى كان أخطب الناس بعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأثبت الناس قولا بعده عليه الصلاة والسلام وكان مهديا، فما لان فى حق ولا مالا مبطلأ، وهداه فى القضاء حتى روى أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «أقضاكم على» وكان عمر كما ذكرنا يسأله إذا أعضل عليه القضاء فى مسألة من مسائله، فيقول: مسألة، ولا أبا حسن لها.(3/1040)
وقد رويت عنه روايات فى قضائه دالة على نفاذ بصيرته، وانفتاق عقله الذى هو قبسة من الهدى المحمدى، إذ رضع لبان هذه الهداية صغيرا، وتربى عليها، ونزح بدلو المعرفة من أعظم ينبوع لها:
وقد ذكرت له مسائل فى القضاء هداه الله تعالى إليها، فقد كان يحاول الوصول إلى الحقيقة.
خصوصا فى الأنساب، فلا يترك من ولدا من حلال من غير أب.
تنازع اثنان فى نسب ولد، ولم يكن لأى واحد منهما دليل، وكان المنتظر أن يتهاتر الادعاآن، ولا يكون للولد نسب، فلما لم يجد سبيلا أقرع بينهما، وحكم بالنسب لمن تحكم له القرعة، وعليه أن يدفع الدية للآخر، وبهذا أنصف الرجلين ولم يهدر نسب الولد، وبهذا أخبر الإمام أحمد عن على، وقد أفرد عن غيره بهذا الرأى، وروى عن على كرم الله وجهه قضاء فى مسألة معقدة، وانتهى فيها إلى حكم، لا يزال موضع إعجاب رجال القضاء إلى اليوم.
روى الإمام أحمد أن قوما كان يغير عليهم أسد، فبنوا له زبية (مكانا يتردى فيه) فتدافع الناس فسقط رجل، فتعلق به آخر، ثم تعلق بالآخر ثالث، وتعلق بالثالث رابع، وقد جرحهم جميعا الأسد وماتوا. فجاء أولياء المقتولين، وهموا بأن يقتتلوا. فقال لهم إمام الهدى بعد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، أتريدون أن تتقاتلوا ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حى، إنى أقضى بينكم قضاء إن رضيتم به، فهو القضاء، وإلا أحجز بعضكم عن بعض، حتى تأتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليكون هو الذى يقضى بينكم فمن عدا بعد هذا فلا حق له.
كان قضاء على فى القضية، يسير على مبدأين:
أحدهما أنه لا يبطل دم فى الإسلام، وذلك مبدأ مقرر روى بعبارته عن على كرم الله وجهه فى الجنة.
الثانى- أن العجماء جبار، أى ما تجنى الدواب لا غرامة فيها إلا أن يكون صاحبها المتسبب فيغرم هو الدية كلها أو بعضها.
ونجد أن الأول تسبب فى هلاك الثلاثة بعد، وقد تمكن السبع من الجميع بترديه أولا، ثم تعلقه بالثانى والثانى بالثالث والثالث بالرابع.
وكانت الدية واجبة كاملة لهم جميعا بناء على القاعدة الأولى، ولكن ليستنزل من دية كل واحدة دية من تسبب فى قتله، وقد تسبب فى قتل ثلاثة، فيأخذ ربعا، بإسقاط ثلاثة أرباع لمن تسبب فى قتلهم، فهو السبب فى قتل ثلاثة.
والثانى تسبب فى قتل اثنين، فينقص من ديته الثلثان، فيكون له الثلث، والثالث، تسبب فى قتل الرابع، فيخصم من ديته النصف، والرابع، وهو الذى سقط أخيرا لم يتسبب فى قتل أحد، فلا يخصم من(3/1041)
ديته شيء قط، وبذلك يكون المطلوب ديتان وسدس دية، هذا معنى قول على فى قضائه، فقد قال:
«اجمعوا من قبائل الذين حفروا البئر، ربع الدية، وثلث الدية، ونصف الدية، والدية كاملة» .
فللأول الربع، لأنه هلك، والثانى ثلث الدية والثالث نصف الدية، والرابع الدية، هذا قضاء على، وقد طلبت هذه الديات ممن حفروا البئر، لأنهم المتسببون ابتداء والتسبب الآخر نسبى، فى دائرة التسبب الأصلى.
ولا نعلم فى هذه القضية المعقودة المتشابكة التى ترابطت فيها الأسباب، وتشابكت أعدل من هذا وإذا كان ثمة بعض الانفكاك فى المقدمات أو بتوهم ذلك، فإن قضاء على فى هذا هو أحكم القضاء.
ولكن أولياء المقتولين، لم يرتضوا ذلك، وكان كل ولى يريد دية كاملة لمقتوله.
وذهبوا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وهو فى حجة الوداع، وهو عند مقام إبراهيم، فقصوا عليه القصة، فقال أنا أحكم بينكم، فقال رجل من القوم. يا رسول الله، إن عليا قضى علينا، وقصوا على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قضاء على، فأجازه رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وبعد، فهذا على كرم الله وجهه فى اليمن، كان الداعية المستجاب فى دعوته للإسلام، فامنوا لفرط تقواه، وإشراق نور الإيمان فى قلبه، فما يخرج من القلب يصل إلى القلوب وإخلاص الداعى هو الجاذبية التى تحوط المدعو.
فتهديه إلى الإيمان إن لم تعتكر القلوب. وتفسد الضمائر. وهذا على الحاكم الحازم لم تأخذه فى الحق هوادة، وليس لباطل عنده إرادة وإن شكا الناس منه غلظة فلفساد قلوب تستغلط الحق، وتستطيب الباطل، وقد أنصفه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم منهم- ونعم المنصف العادل.
وهذا على فى قضائه العدل الحكيم، والله ولى المؤمنين.(3/1042)
بعث الصديق ليكون أمير الحج
695- فى زحمة الوفود لم نسر فى مسار التاريخ، فلم نذكر الوقائع فى مواقيتها، ميقاتا بعد ميقات لأن الوفود لم يكن ميقات كل واحد منها محدودا بحد لا يقبل الاختلاط بغيره، ولذا ذكرناها فى مواقيتها على وجه التقريب، لا على وجه التعيين. ومهما يكن فإن غالبها ذكر فى ميقاته وفى مناسباته، ولكن الأمر الذى لم نذكره فى ميقاته، بل ذكر ما بعده- قبله، هو حجة أبى بكر التى تولى فيها إمرة الحج، وهذه أول حجة كانت بإمرة من النبى صلى الله عليه وسلم أى كانت فى ظل الإسلام، بعد أن هدمت الأوثان من فوق الكعبة الشريفة، ومن حولها، بل من حول أم القرى كلها.
كان حج أبى بكر عقب غزوة تبوك التى كانت آخر غزوات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ومن بعدها، أخذ يستقبل الوفود، ويرسل الدعاة إلى الإسلام ويقتفى آثارهم فى دعواتهم، ومقدار الاستجابة لهم، فانتهى بهذه الغزوة، عهد تأمين الدعوة فى عصر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
وتفرغ عليه الصلاة والسلام للدعوة ذاتها، وقد زالت كل المحاجزات المانعة واستمر دخول الناس فى دين الله تعالى أفواجا، وقد ابتدأ ذلك من بعد صلح الحديبية كما أشرنا إلى ذلك فى موضعه من القول.
وعلى ذلك فالدعوة كان لها ثلاثة أدوار:
الدور الأول دور وضع الأسس وتكون جماعة قوية فى إيمانها، وإن كان فيها ضعف فى السلطان، وقلة فى العدد، وأولئك هم الحواريون لمحمد عليه الصلاة والسلام كالحواريين لعيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.
والدور الثانى دور الدعوة، وتذليل العقبات، وإزالة الحجزات فالدعوة لم تكن السبيل أمامها معبدة، بل كان لا بد من عمل لتعبيدها بإزالة كل العقبات التى تقف فى طريقها.
الدور الثالث كان بعد أن زالت العقبات فى الجزيرة العربية وصار الدين لله تعالى وقد كانت حياة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وصحابته من المهاجرين والأنصار الذين حضروا بيعة الرضوان خالصة للدعوة، وتبيين الحقائق الإسلامية، وبذلك كان كل من يبعثهم من أهل بيعة الرضوان، وإن بعث من غيرهم أردفه بواحد من الحواريين الأولين أو أهل بيعة الرضوان، كما فعل مع خالد وعلى رضى الله عنهما بالنسبة لليمن، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل.
اتجه عليه الصلاة والسلام فى الدور الثالث إلى تطهير مكة المكرمة من أن يدخل فيها رجس الجاهلية من عبدة الأوثان. ولقد جرى حج السنة الثامنة على ما كان يجرى عليه من قبل فلم يصد عنها(3/1043)
مشرك، فلما آلت إمرة الحج إلى الإسلام، منع الله المشركين من أن يدخلوا المسجد الحرام فى السنة التاسعة، ونزل قوله تعالى فى سورة براءة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ، فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا، وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، إِنْ شاءَ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ التوبة.
يقول ابن إسحاق إنه بعد تبوك التى انتهت فى رمضان قضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بقية رمضان وشوالا وذا القعدة ثم بعث أبا بكر أميرا على الحج سنة تسع، ليقيم للمسلمين حجهم، والناس من أهل الشرك على منازلهم من حجهم، لم يصدوا بعد عن البيت ومنهم من له عهد مؤقت إلى أمد.
كان هناك إذن عهدان: عهد جاهلى، وهو عام فيه إذن بألا يصدوا عن البيت، وقد كان هذا على العادة الجارية، وقد توثق بعد الحديبية، وعهد خاص قد عقده النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وهذا يبقى إلى أمده.
وإن العهد الذى جرى على مجرى العادة الجاهلية، قد انتهى بأن صار للإسلام الكلمة العليا، وصار التوحيد هو الحاكم، وجاءت ملة إبراهيم الصحيحة فى الإسلام بعد أن انحرف العرب، وعبدوا الأوثان فلم يكن منع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بحكم القرآن الكريم، نقضا للعهد، ولكنه تصحيح للوضع.
أما عهد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فهو قائم على أسسه حتى ينتهى أمره.
وإن أبا بكر ما أن فصل بركبه، حتى لحق به على بن أبى طالب يحمل سورة براءة، وكانت قد نزلت بأنه لا عهد للمشركين عبدة الأوثان فى أن يحجوا البيت الحرام بعد عامهم هذا.
قال ابن إسحاق: لما نزلت سورة براءة على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان قد بعث أبا بكر ليقيم للناس الحج، قيل له: يا رسول الله: لو بعثت بها إلى أبى بكر، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا يؤدى عنى إلا رجل من أهل بيتى» ثم دعا على بن أبى طالب، فقال له اخرج بهذه (آيات من صدر براءة) ، وأذن فى الناس بالحج يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى، أنه لا يدخل الجنة كافر ولا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان له عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عهد فهو إلى مدته، فخرج على بن أبى طالب على ناقة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم البيضاء فلما رآه أبو بكر قال: أمير أو مأمور؟ فقال على: بل مأمور ثم مضيا فأقام أبو بكر للناس الحج إذ ذاك فى(3/1044)
تلك السنة على منازلهم من الحج التى كانوا عليها فى الجاهلية إذا كان يوم النحر قام على بن أبى طالب فأذن فى الناس بالذى أمره به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأجل أربعة أشهر من يوم أذن فيهم، ليرجع كل قوم إلى مأمنهم، وبلادهم، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة إلا عهد كان له عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فهو إلى مدته، فلم يحج بعد ذلك العام مشرك ولم يطف بالبيت عريان.
وروى الإمام أحمد أن على بن أبى طالب قال: بعثت يوم بعثنى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مع أبى بكر فى الحجة بأربعة: لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عهد، فهو إلى مدته. ولا يحج المشركون بعد عامهم هذا.
وهذا الكلام يستفاد منه إبطال العادات الجاهلية فى الحج كطواف غير قريش عرايا، وقريش تمتاز بأن يطوف حجاجها لابسين.
ولقد قسم الحافظ ابن كثير الحجيج من المشركين إلى قسمين من لهم عهد، فإنه يلتزم بعهده إلى نهاية مدته، ومن ليس له عهد يؤجل إلى أربعة أشهر.
وهذا التأجيل وإلغاء العهد ثبت بقوله تعالى فى أول سورة براءة.
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ. وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ، فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ، وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ. إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً، فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ. فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ، وَاحْصُرُوهُمْ، وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، فَإِنْ تابُوا، وَأَقامُوا الصَّلاةَ، وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
وإن هذا النص الكريم فيه الوفاء بالعهد للذين أوفوا بعهودهم، وأن من يكونون غير معاهدين ينتظرون أربعة أشهر، حتى يصلوا إلى مأمنهم فى بلادهم.
وليس معنى الوفاء لذوى العهد الذين عاهدوا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يمكنوا من دخول البيت الحرام وهم باقون على شركهم، فإن الآية الكريمة صريحة فى المنع، إذ قد تلونا قوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ، فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا.(3/1045)
وإن التأجيل أربعة أشهر، إنما هو خاص بقتالهم وقتلهم، فأعطوا مهلة أربعة أشهر ليصلوا إلى مأمنهم ولا يؤخذوا على غرة وقد جاؤا حاجين طائفين فى زعمهم.
696- ونقف هنا وقفة قصيرة فى اختصاص أبى بكر وعلى فى هذه الحجة المباركة.
لقد اختص النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أبا بكر بأن تكون له إمرة الحج، ولما لاقاه على قال أبو بكر أمير أم مأمور، فقال له بل مأمور، هذا ما اختص به أبا بكر، وإن ذلك بلا ريب تشريف لأبى بكر، وإكبار لإمرة الحج فى ذاتها، واختص عليا بأن يكون المبلغ لنزول سورة براءة وفى أكثر الروايات ان النبى صلى الله عليه وسلم قال فى اختصاص على بتبليغ نزول سورة براءة «لا يؤدى عنى إلا رجل من أهل بيتى» إذ ذلك بلا ريب اختصاص فيه تكريم وثقة كاملة من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
وقد أخذ الشيعة الإمامية وغيرهم ممن يجعلون عليا أولى بالخلافة من الشيخين أبى بكر وعمر رضى الله تعالى عنهما، قد أخذوا من هذا أن عليا أفضل أو أولى بالخلافة عنه عليه الصلاة والسلام منهما، لأن الخلافة خلافة عن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم يقوم بما كان يقوم به الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فى أمر أمته ورياستها والقيام بحق التبليغ، الذى هو أخص أوصاف الإمامة الكبرى، ويؤيد هذا قوله عليه الصلاة والسلام: «لا يؤدى عنى إلا رجل من أهل بيتى» فكون الخلافة لعلى كرم الله وجهه فى الجنة لأن الخلافة أداء لبعض أحكام النبوة أو لكلها وإن كان لا نبى بعد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
استدلوا بهذا وبقول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عندما تركه فى المدينة المنورة ليقوم على أهله:
«أنت منى بمنزلة هارون من موسى، غير أنه لا نبى بعدى» .
فأخذوا من هذا الحديث أن لعلى عند النبى صلى الله تعالى عليه وسلم منزلة فوق منزلة غيره من الصحابة الأكرمين، فإذا كان أبو بكر رضى الله تعالى عنه، وعمر الفاروق لهما فضل الصداقة فعلى بالنص له فضل الأخوة، والمشاركة بيد أنه ليس بنبى، ولا يوحى إليه، وإن هذا يجعل عليا فى مكانة أعلى منهما. وبنوا على ذلك أنه وصيه كما بنى الزيدية على هذا أنه أفضل من أبى بكر وعمر وإن لم يكن وصيا.
واستدلوا ثالثا- بقول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى غدير خم عند رجعته من حجة الوداع «من كنت مولاه فعلى مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» وإن هذا يدل على أن الولاء لعلى ولاء للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ومعاداته معاداة للنبى صلى الله عليه وسلم ولم يكن ذلك لأحد من الصحابة غيره، وهو بذلك أولى بالخلافة من غيره، وهو أفضل من الشيخين وغيرهما.(3/1046)
ذلك ما قالوه، وما اتفقوا عليه، فقد اتفق الشيعة جميعا على فضل على رضى الله عنه وأنه مقدم على أبى بكر وعمر وإن اختلفوا فى ذلك كثيرا..
ونحن نقرر أن ما ساقوه يدل بلا ريب على فضل على أولا، وعلى محبة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ثانيا، وعلى أنه عليه الصلاة والسلام كان يعهد إليه بأشد المهام وثاقة بالدين ثالثا.
ولكنه لا يدل على أنه أولى بالخلافة من الشيخين رضى الله تعالى عنهما، لأنه إذا كان قد أنابه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى تبليغ سورة براءة، فقد ولى أبا بكر رضى الله عنه ما هو أمس بالإمرة والخلافة وهو إقامة الحج كما اختاره لإقامة الصلاة وهى الإمامة الصغرى وقد يكون ذلك إيذانا له بالإمامه الكبرى كما جرى على ألسنة بعض الصحابة «اختاره لامر ديننا أفلا نختاره لأمر دنيانا» وعلى ذلك لا نجد فى هذا أن يكون على أولى بغيره من الخلافة.
وأما الدليل الثانى وهو أنه قاله فى معرض توضيح السبب فى تركه وعدم الذهاب معه فى غزوة تبوك فهو بيان محبته له ولصحبته، ردا على الإشاعة الكاذبة التى أشاعها المنافقون والمرجفون وهو أنه تركه استثقالا لصحبته، فكان لا بد أن يظهر محبته ومنزلته عنده، وهى اخوته له، كما أن هارون أخو موسى، ولذلك ازدياد فى القول بما يؤكد هذا المعنى، إذ قال عليه الصلاة والسلام: غير أنه لا نبوة بعدى. وإن عليا كان أخا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى المؤاخاة التى عقدها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وقد بينا ذلك، وذكرنا صحة الخبر ورددنا على ابن القيم فى موضعه.
وكونه أخاه وأبو بكر صديقه أبلغ ما تكون الصداقة فلا دليل فى هذا أيضا على أنه أحق بالخلافة وفوق ذلك أن الخلافة تحتاج إلى الشورى إذ يقول الله تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ.
فإذا كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد ذكر أخوة على، وصداقة أبى بكر، وتقديره لعمر، فليس فى ذلك إلزام، مادام أساس الأمر شورى المسلمين.
وأما الدليل الثالث، وهو حديث غدير خم الذى يقول: «من كنت مولاه فعلى مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» فقد بينا المناسبة التى قيل فيها هذا الحديث، وهو رد الإشاعة الكاذبة، ورد المنافقين أو من عندهم شبهة النفاق، وبيان أنه لا يصح لمؤمن أن يبغض عليا، لأنه إذا كان قد قتل كثيرا فهو فى سبيل الله، وبأمر من الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، فمن يبغضه لذلك إنما يريد أن يحط من قدر الجهاد والمجاهدين، وإذا كانت النفس لا تحب من يكون سببا فى إزهاق نفس حبيب فالإيمان يوجب ألا يظهر ذلك فى قول أو عمل، وفوق ذلك فإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يوافقه فى أحكامه التى حكم بها.(3/1047)
وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ولى كل مؤمن صادق الإيمان، كما قال تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فكل مؤمن ولى للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ويصح أن يقال ذلك عن المؤمنين جميعا بأنهم أولياء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
ومهما تكن قوة هذه الاستدلالات، فإنه من المؤكد أنها تدل على فضل محبة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لعلى كرم الله وجهه وأنه يجب على كل مؤمن يحب الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يحبه، لأنهما يحبانه كما جاء فى غزوة خيبر، ولقد ذكرت ذلك عائشة رضى الله تعالى عنها، فإنه عندما بلغها مقتله، وقفت على قبر الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم تقول:
جئت أنعى حبيبك المرتضى، وصفيك المجتبى، وأحب أصحابك إليك، جئت أنعى إليك على ابن أبى طالب.
فعلى كرم الله وجهه هو الحبيب للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهذا كاف لرفع منزلته ومحبته ولعن كل من ينال منه أو يلعنه.
تنبيهان لا بد منهما:
697- التنبيه الأول:
نقف هنا وقفة قصيرة ننبه فيها إلى أمر جدير بالتنبيه، وهو أننا نقلنا عن الحافظ ابن كثير وغيره من رواة السيرة أن الذين ليس لهم عهد مقيد محدود يؤجلون أربعة أشهر حتى يبلغوا مأمنهم، وإنه بتتبعنا وتبصرنا للآيات الكريمة وجدنا أن هذه الأشهر الأربعة هى الأشهر الحرم، لأنه ذكر بعد ذلك فى الآيات الكريمة ما يدل عليها، فقد قال سبحانه بعد ذلك: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ، فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ، وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ وإن ذلك يبين أن الأشهر التى ذكرت فى قوله تعالى: «فسيحوا فى الأرض أربعة أشهر» ذكرت غير معرفة، ثم عرفت بعد ذلك بذكر أربعة الأشهر معرفة، ومن المقررات النحوية أنه إذا أعيدت النكرة معرفة كان ذلك تعريفا لها.
وإنا نرجح ذلك، والله أعلم بمراده.
التنبيه الثاني:
أنه قرر أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يريد الحج عقب غزوة تبوك، ولكنه كره أن يحج مع المشركين، إذ كان منهم من يحج عريانا وقد زادوا أمورا جاهلية على سنة إبراهيم عليه الصلاة والسلام فى الحج، ولقد جاء ذلك فى تاريخ الحافظ بن كثير، فقد قال عن مجاهد: براءة من الله ورسوله إلى أهل العهد خزاعة ومدلج ومن كان له عهد أو غيرهم فقفل رسول الله صلى الله(3/1048)
تعالى عليه وسلم من تبوك حين فرغ، فأراد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الحج، ثم قال: إنما يحضر المشركون، فيطوفون عراة، فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك، فأرسل أبا بكر وعليا رضى الله عنهما، فطافا بالناس ... فأذنوا أصحاب العهد أن يؤمنوا أربعة أشهر متتاليات» وإن هذا يدل على أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان على نية أن يحضر الحج ولكن عوقه عن ذلك أنه قدر أن سيحضر الحج المشركون، ويطوفون على جاهليتهم عراة، ويظهر انحرافهم عن سنة إبراهيم فى الحج فامتنع عن الحضور حتى لا يكون حضوره عليه الصلاة والسلام فيه نوع إقرار لعملهم ولم يمنعهم من الحج لأنه لم يعلمهم من قبل بأنه لا يجوز لهم أن يقربوا المسجد الحرام. والحكمة الإسلامية فى الأحكام ألا تنفذ الأحكام المانعة إلا بعد العلم بها.
سورة براءة
698- إن المتفق عليه أن أبا بكر رضى الله عنه، ذهب بالناس يحج بهم، وأن عليا رضى الله تعالى عنه، ذهب حامل براءة يتلوها عليهم.
ويروى أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عندما حمّلها عليا رضى الله تعالى عنه قال على:
يا نبى الله تعالى، إنى لست باللسن ولا بالخطيب، فقال عليه الصلاة والسلام: لا بد لى أن أذهب بها أنا، أو تذهب بها أنت، قال على: إن كان لا بد فسأذهب بها أنا، وقال له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم:
«انطلق فإن الله تعالى يثبت لسانك، ويهدى قلبك، ثم وضع يده على فيه. فهذه دعوة أولى من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يثبت لسانه ويهدى قلبه. والثانية كانت بعد ذلك عندما بعثه إلى اليمن داعيا وقاضيا.
وبهذه الدعوة الطيبة الطاهرة المستجابة كان على كرم الله وجهه أخطب الناس بعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
حمل على كرم الله وجهه فى الجنة سورة براءة، أهو حملها كلها؟، وهى من طوال السور، أم حمل الجزء الأول منها الخاص بعهود المشركين ودخولهم البيت الحرام؟.
نقول فى الجواب عن ذلك أن عبارة ابن كثير فى رواياته تفيد أن الذى حمله على هو أول السورة الخاص بالمشركين، ودخولهم البيت، وعهودهم، فقد جاء فيه عن محمد بن كعب القرظى وغيره قالوا بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أبا بكر أميرا على الموسم سنة تسع، وبعث على بن أبى طالب بثلاثين أو أربعين آية من براءة فقرأها على الناس، يؤجل المشركين أربعة أشهر.(3/1049)
وإن هذه الرواية تدل على أنها لم تكن قد نزلت كلها، أو حملت كلها بل حمل منها ثلاثون آية تنتهى بقوله تعالى عن أهل الكتاب: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ، أو أربعون آية تنتهى بقوله: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا، وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
هذا ما رواه ابن كثير، أما ما ذكره ابن إسحاق فإن ظاهره أن السورة كلها أنزلت عقب تبوك وحملها على بن أبى طالب ليتلوها على الناس، ويبين ما يتعلق بالحج.
ويقول فى ذلك ابن إسحاق: نزلت براءة فى نقض ما بين رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وبين المشركين من العهد الذى كانوا عليه فيما بينه وبينهم ألا يصد عن البيت أحد جاءه، ولا يخاف أحد فى الشهر الحرام. وكان ذلك عهدا على ما بينه وبين الناس من أهل الشرك، وكانت بين ذلك عهود بين رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وبين قبائل العرب خصائص إلى آجال مسماة فنزلت فيه، وفيمن تخلف من المنافقين عنه فى غزوة تبوك، وفى قول من قال منهم، فكشف الله تعالى فيها سرائر أقوام كانوا يستخفون بغير ما يظهرون، وظاهر هذا الكلام أن سورة براءة كلها نزلت عقب غزوة تبوك، وأن نصوصها السامية كلها تؤكد هذا المعنى وتوضحه، فهى كما رأينا عند الدعوة إليها تتبين فيها حال مؤمنهم ومنافقهم فى هذه الغزوة عندما دعا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إليها، وحال المخلفين، وأعذار المستضعفين، وما ينبغى أن يكون بالنسبة للجهاد.
وإننا إذا تركنا ظواهر هذه الرواية فإنا نقول: إنها نزلت كلها عقب غزوة تبوك، ولكن ما يحمل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عليا، إلا ببعض من أولها- الذى فيه منع المشركين من البيت الحرام، وصدهم عنه، لأنه لا يعمر مساجد الله إلا من آمن بالله واليوم الآخر، وذلك ما صرح به ابن إسحاق إمام السيرة، فقد قال رضى الله عنه: ولأن ذلك كان يشتمل على ما كلف عليا أن يبلغه، وهى الأمور التى ذكرناها آنفا.
وعبارات ابن إسحاق بعد تعميمه الأول تفيد تخصيصا بأول سورة براءة.
فقد قال: «دعا عليه الصلاة والسلام على بن أبى طالب رضوان الله تعالى عليه، فقال له اخرج بهذه القصة من صدر براءة، وأذن فى الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى، أنه لا يدخل الكعبة المشرفة كافر ولا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عهد، فهو إلى مدته.
وهذا النص يدل على أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حمله صدر سورة براءة، ولم يحمله السورة كلها.(3/1050)
ما اشتملت عليه سورة براءة:
699- وإن الروايات كلها أنها قد نزلت بعد غزوة تبوك، وقد تعد من أواخر السور نزولا، وظاهر الروايات أنها نزلت دفعة واحدة، وأن ما اشتملت عليه يدل على أنها نزلت بعد غزوة تبوك، ففيها أخبار المتخلفين والمعتذرين، ومن ليس عليه حرج، وإنها إذا كانت قد ابتدأت بذكر عهود المشركين، وتحريم دخوله على غير الذين يؤمنون بالله وأنه واحد أحد لا شريك له.
قد توسطتها أخبار المخذلين والمنافقين، وما يجب أن يكون عليه المجاهدون، والدعوة إلى استمرار الجهاد فإنه ماض إلى يوم القيامة، وتركه ذل، أو يؤدى إليه.
لقد ابتدأت السورة الكريمة بذكر منع المشركين من البيت الحرام، ووجوب قتالهم، ونبذ عهودهم إليهم، وأن العهد واجب الوفاء بشروط ثلاثة ألا ينقص المعاهد من التزاماته، وألا يظاهر على المؤمنين، وألا يكون مخالفا للقواعد المقررة فى القرآن الكريم.
وجاءت بعد ذلك ببيان جهاد المشركين فى الأرض العربية، بشرط ألا ينتهكوا حرمة من الحرمات، كحرمة الشهر الحرام، وأن الدماء يحميها العهد إذا استقام المعاهد، فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ، ويحميها الأمان والجوار: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ، ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ
وقد بين سبحانه وتعالى ضلال الشرك، وأنه لا يصح لهم أن يشفعوا لأنفسهم بأنهم تولوا عمارة البيت وتولوا سدانته وسقايته، فإن الإيمان بالله تعالى هو الأول، ولا يمكن أن يكون هذا كذلك، وأن لهم فضلا فى العمارة إن آمنوا بالله واليوم الآخر، إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ (التوبة)
وإذا كانت عمارة المسجد لا تعادل الإيمان بالله واليوم الآخر، وأن عمارة المساجد لا ثواب لها مع الكفر فإنه لا يمكن أن يكون للمشركين ماثر فى أى عمارة، لأن ما يفعله المشرك من خير هباء لا أثر له، إذ يكون كمثل وابل من المطر أصاب أرض قوم، فنزل على أحجار لا تنبت، ولم ينزل على ما ينبت.
ولذلك كان الواجب جهاد المشركين، ولأنهم لا يؤمنون بشيء لا عهد له ولا ذمة، وليس لمؤمن أن يرقب فيهم إلّا ولا ذمة، لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً (التوبة)
ولا طريق إلا الجهاد، وإن الجهاد يوجب أن يكون كله لله تعالى لا يؤثر عليه أحدا من مال أو زوج أو ولد، أو راحة، فإذا كان الجهاد قوة بشرية ونفسية، أو تقديما للنفس والمال، فهو تجرد روحى،(3/1051)
وخصوصى لله تعالى، وصدق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذ يقول: «لكل أمة رهبانية ورهبانية أمتى فى الجهاد» ، ولذلك أمر الله تعالى عند البدء فى الكلام فى الجهاد بعد أن بين أن المشركين يصدون عن سبيل الله ويعادون المؤمنين، وينتهزون فرصة لينقضوا، قال تعالت كلماته:
قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ، وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها، وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ، فَتَرَبَّصُوا، حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ.
وذكرهم سبحانه وتعالى بأن الكثرة، وقوة العدة لا تغنى عن الاتجاه إلى الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم شيئا، ثم ذكرهم بموقعة حنين، إذ لم تغن شيئا، إذ لم يكن الاتجاه إلى الله من الجيش كله كاملا، وإن كان كاملا كل الكمال فى بعضه فأولئك الذين ناداهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد اشتدت الشديدة، وكثر الفرار، وقل الإقدام، حتى كان المجاهدون الأبذال الذين بدلوا بالهزيمة نصرا، وبالفرار إقداما.
وكان الجهاد فى هذا الموضع تتميما للكلام فى البيت، وبيان أنه لا يحميه إلا الجهاد فهو الذى يمنع دخول المشركين، ولذلك ختم آيات البيت الحرام بقوله تعالت كلماته: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا، وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (التوبة)
700- وقد بين الله سبحانه وتعالى معاملة أهل الكتاب من الكفار، بأنه لا يجوز لأهل الإيمان السكوت عن دعوتهم، وإن كانوا فى الجزيرة العربية أهون على أهل الإيمان من المشركين الذين إذ كانوا أقل خطرا وعددا، وإن كان اليهود شرا فى أنفسهم.
ولقد أمر سبحانه وتعالى فى سورة التوبة أن يقاتلوهم، فقال الله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (التوبة)
وبين سبحانه فى السورة حالهم من اتخاذهم المسيح إلها، واتخاذ اليهود عزيرا إلها، وأنهم بذلك يضاهئون قول المشركين فى اتخاذهم الأوثان، فإن الشرك كما يكون بعبادة الأوثان يكون بعبادة الأشخاص.
وذكر سبحانه وتعالى العماد الذى قام عليه انحراف الذين قالوا إنا نصارى عن الوحدانية، وهو أن قام الأحبار والرهبان بين المسيحيين، وبين إدراك الحقائق المسيحية، فقد اتخذ الأحبار والرهبان أربابا ثم ذكر ما(3/1052)
كان عليه الأحبار والرهبان، فقال الله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ. يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ، وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ. يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ، فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ، فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ.
(التوبة)
وإن الله تعالى إذ بين وجوب الجهاد لكل من يعتدى على الحق ويعاند أهله، وينابذهم على سواء، بين سبحانه وتعالى أن الأشهر الحرم القتال فيها حرام، فذكر السنة فى التقويم المتصل بالقمر والشمس والأشهر الحرم منها. فقال تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ، وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ. إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً، وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً، لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ، فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ، زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (التوبة)
غزوة تبوك فى سورة براءة:
701- قلنا إن سورة براءة من آخر السور نزولا، ويبدو من سياقها كما قلنا أنها نزلت دفعة واحدة، لمناسبة ما كان من العهود فيها ابتداء وما كان من عمل المنافقين، ولمناسبة تطهير البيت من رجس الجاهلية ومنع المشركين من دخوله، ولكن الشطر الأكبر منها كان يتعلق بغزوة تبوك التى كانت آخر غزوات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
وقد امتازت هذه الغزوة أنها كانت بعد أن أوشك الإسلام أن يعم البلاد العربية أو عمها، وإنها كانت وقد خفض العرب الذين كانوا يتاخمون الفرس والرومان من نفوذهم، ورضوا بالإسلام دينا، وخلصوا بذلك من ربق الفرس والرومان واعتزوا بعزة الإسلام.(3/1053)
وامتازت أيضا هذه الغزوة بأن ظهر التخاذل فى أولها، حتى كان التثاقل، وبث الظنون فى المسلمين من المنافقين، وضعاف الإيمان، ثم فيها بيان حال الذين ينتحلون الأعذار ولا عذر لهم، وحال الذين يستأذنون فى التخلف، فيؤذن لهم أو لا يؤذن، وفيها عمل التخذيل فى جيوش الحق من أين تجيء، وإلى أين تتجه.
وإذا كانت غزوة تبوك آخر الغزوات المحمدية ففيها العبر التى توجب على كل جيش أن يتعرفها، ويأخذ بعظاتها، حتى يكون الجيش الإسلامى قويا، قد تجنب أسباب الخور وأسباب التردد والهزيمة، والتخاذل، والآفات التى تعترى الجيوش من أهل التردد والنفاق، وما يحدثه من تخاذل.
وقد كانت سورة براءة وعاء هذه التجارب النبوية فى تلك الغزوة التى لم تشتمل على قتال، ولكن كشفت فيها النفوس كشفا، وابتلى فيها المؤمنون بالنفاق، والتثاقل ودعاة الخذلان، وكيف عالج محمد صلى الله تعالى عليه وسلم تلك الأحوال بهداية ربه.
وإذا كان الجهاد ماضيا إلى يوم القيامة، فقد كانت سورة براءة تصويرا للآفات التى تعترى الجيوش فى تكوينها، وفى سيرها، وفى الاتجاه إلى غايتها من غير التواء.
ولقد بينت نفوس المترددين، وعدم إيمانهم بالحق الذى يؤيدونه، وفيها بيان للمجاهدين المعتز بهم وأول الآفات عدم العزيمة الموجهة المدافعة، والتثاقل عندما يحق الجهاد، وقد قال تعالى فى ذلك: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ، أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ. إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً، وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها، وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى، وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا، وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة)
وتستمر الآيات الكريمة السامية فى بث الهمم ودفع العزائم، لأن تكوين الجيش يكون بإيجاد دفعة قوية عازمة، والاستعداد لتحمل المكاره والوثوق بتأييد الله تعالى إن خلصت النيات، واستحصدت العزائم.
ولقد بين سبحانه وتعالى بالإشارة السبب فى تثاقل حركتهم وهو توقع المشقة، وإن توقع المشقة يجب أن يكون فى تقدير المجاهد، وعزمه الحديد.(3/1054)
وبين سبحانه وتعالى أن الخور يعترى النفوس ويخلق المعاذير للاستئذان فى التخلف، ولا يستأذنك مؤمن إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (التوبة)
وقد بين الله سبحانه وتعالى أن المنافقين والمترددين يثيرون روح الضعف والهزيمة لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (التوبة)
وقد كشف الله نفوس أولئك المخذلين من أهل التردد وضعاف المؤمنين، وبين ما تنطوى عليه نفوس المنافقين من أنهم يتمنون الهزيمة للمؤمنين. إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ. قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (التوبة)
وقد كان منهم من يؤثر أن ينفق فى الجيش فرارا من أن يكون فى ضمن المجاهدين، فبين الله تعالى أنه لن تقبل نفقاتهم، لأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، وما منعهم أن تقبل نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى، ولا ينفقون إلا وهم كارهون.
لمز المنافقين فى الصدقات وغيرها:
702- النفاق هو داء الجماعات فى السلم وفى الحرب، ففى الحرب يخذلون، ويبثون روح التردد، والتشكيك فى الدعوة، الدعوة إلى الأثرة، والجهاد إيثار، وإلى الحرص، والجهاد فداء، وإلى متع الدنيا، والجهاد رهبانية إيجابية، يدفع إلى الحياة العاملة المكافحة.
أما فى السلم، فإنهم يشككون فى تصرفات الأبرار المخلصين، ليوهموا الناس، أن كل الناس مثلهم، ليس فيهم أخيار منزهون، وأبرار متقون.
فهم يلمزون كل عمل صالح، ويوهنونه، ويثيرون الريب، وإن اتقاءهم بعدم السماع لهم، فهم أثاروا القول حول الصدقات التى يوزعها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، يقول سبحانه وتعالى فى ذلك:
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ، فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا، وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ. وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ، إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ.(3/1055)
وقد بين الله تعالى للأمة كلها مصارف الصدقات، حتى لا يمارى منافق وليطمئن كل مؤمن، وقد وزعها سبحانه وتعالى توزيعا فيه التكافل الاجتماعى الكامل.
والمنافقون يؤذون النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ويؤذون كل داعية للخير، لأنهم والخير نقيضان، إذا كشف أمرهم لا يقولون كشف الله تعالى سرهم، بل يقولون إن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، يسمع أخبارهم، ويتعرف أسرارهم، وأن له من يسعى عليهم، ويقول سبحانه وتعالى فى ذلك:
«ومنهم الذين يؤذون النبى، ويقولون هو أذن، قل أذن خير لكم، يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين، ورحمة للذين آمنوا منكم، والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم» .
والمنافق دائما كثير الحلف بالله لضعفه النفسى، إذ النفاق منشؤه ضعف النفس لا مجرد إرادة النفع، فهو يحلف لستر موقفه، ولأنه مهين يريد رضا من ينافق معهم، ويخشى أن ينفضح سره، ويعرف أمره.
وإنهم مع كفرهم، وعدم إذعانهم للحق لفرط ضعفهم، يخشون أن تنزل سورة تكشف حالهم يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ، قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ
ومع هذا الهلع من أن يكشف سترهم يحادون الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، ويستهزئون بايات الله تعالى، ويتخذونها فى مجامعهم هزؤا وسخرية، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ، إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ
والمنافقون أشرار قد استمكن الشر فى نفوسهم، لأن الكتمان تفرخ فيه الرذائل، والضوء يكشفها، ولأن محاولتهم ستر أحوالهم، توقعهم فى رذائل مترادفة رذيلة بعد رذيلة وكل واحدة تجر أختها، حتى يستمرئوا الشر، ويكون دينهم، ويختم الله على قلوبهم فلا يصل إليها خير، ولا ينضح منه ومن اللسان إلا الشر، ولذلك قال الله تعالى: الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ، وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ، فَنَسِيَهُمْ، إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ
وقد بين سبحانه وتعالى عقابهم، وأنه عقاب الذين من قبلهم، وكانوا أشد قوة، واستمتعوا بالشر، ونالوا من الدنيا، وخاضوا فى أهل الإيمان مثل الذى خاضوا.(3/1056)
ويضرب الله تعالى الأمثال من قوم نوح، وعاد وثمود، وقوم إبراهيم، وأصحاب مدين والمؤتفكة، فإن هؤلاء كفروا برسلهم، وكان النفاق والمنافقون من ورائهم، والنفاق غذاء الجحود، إذ يدفع الجاهلين إلى الكفر والعناد.
وفى مقابل ما توعد الله به المنافقين كان وعد الله تعالى للمؤمنين.
جهاد النفاق والكفر:
703- إذا كان النفاق يفعل فى الجماعات ذلك الفعل، فإن جهاده يكون فى مرتبة جهاد الكفر، بل يكون قبل جهاد الكفر، وذلك لأن الكفر لا يستغلظ سوقه إلا بالنفاق، والمنافقون هم الذين يفسدون العقول فيصورون الحسن قبيحا والقبيح حسنا، ولذا أمر الله تعالى نبيه الكريم، وأمته فقال تعالى:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ، وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
(التحريم)
ويبين سبحانه وتعالى ما يفعله المنافقون فى الجماعات الإسلامية، ووجوب جهادهم، وذلك الجهاد يكون بألا يسمع لقولهم، ولو كانوا يحلفون، فذلك دأبهم يقولون وينكرون ما يقولون، ويحلفون أنهم ما قالوا. ومن جهادهم أن يكشف أمرهم، ومن جهادهم أن يحذر منهم، ومن جهادهم ألا نخوض فى خوضهم، ومن جهادهم ألا نمكنهم من الجماعات الإسلامية.
وقد ذكر سبحانه أمارات النفاق أو بعضها، وأولها الكذب، وثانيها نقض العهد، والشح على الخير، ويقول سبحانه وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ، وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ. فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ. فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ، وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ.
أى أنهم فى نفاق مستمر، نافقوا عندما أعطوا العهد، ولما اختلفوا زاد نفاقهم بسبب أنهم يكذبون، ويكذبون على الله سبحانه وتعالى، وهو يعلم سرهم وما يتجاوبون به بينهم، وأن المرء إذا سار فى الشر أوغل فيه، وكلما سار زاد فسادا.
وإنهم لا يكتفون بأن يشحوا على الخير، بل يتجاوزون ذلك إلى أن يلمزوا فى القول موهنين شأن الذين يتصدقون الصدقات المفروضة ويتطوعون بأكثر مما فرض، وهكذا يكون أهل الخير فريسة أهل النفاق، يصغرون، ويهجنون ما يكون منهم، ويستضحكون من أعمالهم. ولكن فَلْيَضْحَكُوا، قَلِيلًا، وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (التوبة)(3/1057)
والنبى عليه الصلاة والسلام يغضى عن سيئاتهم، ويستغفر لهم رجاء أن يهداهم الله، فيبين الله تعالى لنبيه الكريم صلى الله تعالى عليه وسلم، أن النفاق إذا استمكن فى النفس، غلق باب الهداية، وكان حجابا كثيفا لا يصل إليه النور قط: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً، فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (التوبة)
وإن من جهاد النفاق أن يحتاط النبى صلى الله تعالى عليه وسلم والمخلصون للجيش الإسلامى، فلا يمكنوا أحدا من المنافقين من الدخول فيه، لأنهم يلقون فيه بروح الهزيمة والفشل، ولذلك قال سبحانه:
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ، فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ، فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً، وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا، إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (التوبة) هذا أمر قاطع لخير خلق الله تعالى فى هذا الوجود الإنسانى، وقد أمر سبحانه وتعالى كشفا لأمرهم وجزاء لهم بما ارتكبوا فى الدنيا، بمنع الصلاة عليهم، فقال تعالى: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً، وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ، إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (التوبة)
وقد بين سبحانه وتعالى أن الرضا بالشر، إذا توالى طبع الله تعالى على قلب صاحبه، فأصبح غير قابل لأن ينفذ نور الإيمان إليه، ولذلك قال تعالي رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ، وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ؛ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (التوبة)
وقد ذكر سبحانه وتعالى من بعد ذلك جهاد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم والذين جاهدوا معه، فبين أن لهم الخيرات، وأنهم الفائزون، وأنه سبحانه أعد لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها.
أعذار النفاق:
704- أعذار النفاق دائما واهية، لأنه لا عذر لهم، فهم ينتحلونها، وكان النفاق ابتداء فى المدينة المنورة عندما دخلها الإسلام، ووجد نفاق فى الأعراب عندما عم الإسلام، فهو يتسع باتساع عموم الإسلام وشموله، لأن النفاق يكون إذا كان كفر مع وجود قوة للحق، ولم يخرج الأعراب الذين كانوا يحيطون بالرومان، لم يخرجوا كلهم للحرب فى تبوك، ولذلك قال تعالي: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (التوبة)(3/1058)
وقد بين الله سبحانه وتعالى الأعذار التى من شأنها أن تقبل، والأعذار التى لا يمكن أن تقبل، وبذلك يتميز العذر الحقيقى عن أعذار المنافقين التى لم يكن لها مسوغ، فقال تعالت كلماته: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ، إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (التوبة)
هؤلاء هم الذين يكون لهم عذر، ولا يؤاخذون فى التخلف، وهم الذين فيهم ضعف فى القوة، أو فى المال بألا يجدوا ما ينفقون منه، ولا يكون مع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ما يعينهم به.
أما غير ذلك فلا يعد عذرا، ولكن يعد تخلفا وقعودا فى وقت يجب أن تتضافر فيه القوى كلها وتجمع الجموع دائما. وقد أخرج إلى التجمع من التقدم للرومان الذين تعد جيوشهم بمئات الألوف لا بالعشرات منها.
ولذلك ذكر سبحانه وتعالى أنه لا تقبل منهم أعذار، وإنما عليهم السبيل فهم مسئولون عن تقاعدهم، وهو يدل على أن الإيمان لم يدخل قلوبهم.
وقد أشرنا إلى أن النفاق لم يكن من الخزرج الذين كانوا بالمدينة المنورة، بل كان منهم، وكان من الأعراب الذين دخلوا فى الإسلام، ولما يدخل الإيمان قلوبهم، وكانوا فى مجموعهم أميل إلى الكفر. وإن كان فى بعضهم إيمان، وقد قسمهم الله سبحانه وتعالى إلى ثلاثة أقسام:
أولها: قسم لم يدخلوا فى الإسلام بقلوبهم، وإن خضعوا له بأبدانهم. وأظهروا الطاعة، وقد قال تعالى فيهم: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (التوبة)
وأولئك علموا الإسلام ممن هم فى باطن الصحراء وحول المدينة المنورة وخضعوا ولم يستجيبوا لداعى الإيمان، وذلك لأنهم حديثو عهد بالدخول، ولأنهم خضعوا للقوة، وحيثما كان الخضوع للقوة كان النفاق والكفر.
والقسم الثانى: دخلوا فى الإسلام، كما يدل ظاهر القرآن الكريم ولكنهم برموا بالصدقات، وعدوها مغرما، ولم يعدوها مغنما، وهؤلاء، إن كانوا مسلمين يعدون من ضعفاء الإيمان، وهذا القسم(3/1059)
قال تعالى فيه: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً، وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (التوبة)
والقسم الثالث: المؤمن الصادق فى إيمانه، المتعرف لأحكامه، وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ، أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ، سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (التوبة) وهؤلاء هم الذين أشربوا حب الإيمان.
وقد ذكر سبحانه وتعالى أن النفاق فى داخل المدينة المنورة، وقد علم أمر الكثيرين منهم، وأحوالهم، وكادوا يعرفون باستخفافهم وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ (التوبة)
وذكر سبحانه وتعالى أن النفاق من الأعراب حول المدينة المنورة، ولقد ذكر الاثنين، فقال سبحانه وتعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ، وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ (التوبة)
ما بين الإيمان والضعف والنفاق:
705- إن الإيمان فى قوة تدفع فيعمل، فأولئك هم المهاجرون والأنصار ومن اتبعوهم بإحسان، والضعف تردد وقد يتجه إلى الله تعالى فيعترف بتقصيره أو ذنبه، فيكون منه الندم، ورجاء الخير، وقد ذكرهم سبحانه وتعالى بقوله: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً، وَآخَرَ سَيِّئاً، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ (التوبة) وهؤلاء تطهر بعضهم التوبة والصدقات ولذلك قال تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ، وَتُزَكِّيهِمْ بِها (التوبة) وذلك لأن الصدقة تطفيء المعصية، كما يطفيء الماء النار.
وأولئك الذين لم يعترفوا بذنبهم، فى التخلف عن القتال من غير معذرة هؤلاء مرجئون إلى رحمة الله تعالى إما أن يعترفوا، ويتوبوا كإخوانهم ممن تخلفوا من غير معذرة تسوغ التخلف، وإما أن يستمروا فى غيهم يعمهون، وهؤلاء يعذبهم الله بذنوبهم، ولقد قال الله تعالى: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ، وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (التوبة)
ولقد ذكر سبحانه من بعد ذلك أن المنافقين فى المدينة المنورة الذين مردوا على النفاق لم يكتفوا بالقعود عن الجهاد. وتثبيط المؤمنين عنه، بل تعدوا وأرادوا التفريق بين المؤمنين، فأنشأوا مسجدا لا ليقيموا فيه الصلوات، بل ليكون وكرا لهم، وليجروا فيه خياناتهم، واتصالاتهم بأعداء الإسلام من الرومان، وليفرقوا بين(3/1060)
المؤمنين، وسمى هذا المسجد مسجد الضرار، ولقد قال الله تعالى فى مسجدهم هذا وفيهم: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ، وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً، لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ، فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ. أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ، فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (التوبة)
هذا شأن المنافقين، وذلك شأن ضعفاء الإيمان. وأما شأن المؤمنين، فإنهم قد باعوا أنفسهم لله تعالى وأموالهم، فيقتلون ويقتلون وينفقون غير مدخرين نفسا ولا مالا فى سبيل الله، ولقد وصفهم الله أكرم وصف، فقال تعالي: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ، الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (التوبة) ووصفهم بالسائحين هنا يراد به المجاهدون الذين يضربون فى الأرض جهادا فى سبيل الله سبحانه وتعالى، ولقد قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم «سياحة أمتى فى الجهاد» .
وبين سبحانه وتعالى من بعد أن العمل الصالح هو الذى يرفع إلى الله تعالى لا القرابة: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ، وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ، وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ (التوبة) مع ذلك لم يغفر الله تعالى لأبى إبراهيم.
وإن من المؤمنين ناسا تخلفوا، وأحسوا أنهم ارتكبوا كبرا، وما أبدوا معذرة، لأنهم لا يريدون أن يكذبوا على الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، حتى لا يرتكبوا جريمتين: جريمة التخلف والكذب على الله، وأولئك لا بد أن يتطهروا، فقاطعهم المؤمنون تربية لنفوسهم، وتزكية لقلوبهم، وقد ذكرنا أمرهم فى قصة غزوة تبوك، فرضوا أن يعذبوا بالهجران عن أن يكذبوا على الله ورسوله، حتى تاب الله تعالى عليهم: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا، حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ، بِما رَحُبَتْ، وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ، وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ، ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (التوبة) وبعد ذلك التقسيم الحكيم، والخير العظيم ذكر سبحانه ما كان واجبا على المؤمنين والأعراب، فقال تعالى: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ(3/1061)
رَسُولِ اللَّهِ، وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ، وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ، وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا، إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ، إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً، وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ، لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (التوبة) .
وقد أشار سبحانه وتعالى إلى الوفود، الذين يجيئون ليتعلموا من المسلمين فذكر سبحانه وتعالى أنه ليس للمؤمنين جميعا أن ينفروا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد جاءت الوفود، كما أشرنا فى السنة التاسعة والعاشرة، حتى قبض صلى الله تعالى عليه وسلم، ولقى الرفيق الأعلى، فقال تعالى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً، فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (التوبة)
ثم ذكر سبحانه وتعالى وجوب الجهاد فى ختام السورة، كما أوجبه فى أولها فقال تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (التوبة)(3/1062)
بعض ما في سورة براءة من حكم وعبر
706- نزلت سورة براءة عند حج الصديق رضى الله تعالى عنه، وعقب غزوة تبوك، ويلاحظ أنه أول حج تولى إمرته مؤمن من المؤمنين، ونفذ فيه مناسك الحج على مقتضى حكم الإسلام، وقد حطمت الأصنام، فكان الحج إسلاميا بالنسبة للمسلمين، ولكن المشركين كانوا يسيرون على ما كانوا عليه، ولم يمنعوا، لأنه لم يكن قد جاء الأمر بمنعهم، والإسلام لا يطبق إلا ما ينزل به الوحى، ولم يكن قد نزل الوحى بهذا المنع. ولكن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم امتنع عن أن يتولى بنفسه القيام بالحج، حتى لا يكون فى ذلك إقرار لما يفعلون، فأناب أبا بكر عنه.
ولما كانت هذه السورة مبينه لمنع المشركين من الحج، لأن هذا الحج أول حج إسلامى، وإن رنق بفعل أهل الجاهلية، وكانت مشتملة على أول المنع، وكانت هذه السورة بعد آخر غزوة غزاها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وقد اشتملت على منع المشركين أن يدخلوا المسجد بعد عامهم هذا، واشتملت على ما يجب لحفظ الجيوش الإسلامية وحمايتها، والحذر من الدخلاء فيها وكانت غزوة تبوك التى أخذت منها العبرة.
واشتملت السورة على ما يجب أن يتوقاه المؤمنون فى بناء جماعتهم، وما يجب أن يتحلوا به من صفات ليتكون منهم بناء اجتماعى قوى.
وأول ما يستفاد منه هو التوقى من أهل النفاق فإنهم العنصر المخرب فى بناء المجتمع، ولا يمكن أن يتماسك مجتمع إذا ساده النفاق، أو تحكم فيه المنافقون، ولذا أكثرت السورة الكريمة من ذكر النفاق وأحواله، وأن أهله لا يلتئمون، ولا يندمجون فى أهله، بل يكونون بمنأى عن شعوره، وعما يحس به، فهم يؤذون فضلاءه، ويستهزئون بفعل الخير، ويخوضون فى شؤون أهل الفضل والخير، وإذا قيل لهم فى ذلك، قالوا إنا نخوض ونلعب، وإن قلوبهم دائما تكون فى جانب، والمجتمع يكون فى جانب آخر.
ولذلك وجب أن يكون الجيش خاليا من المنافقين، فلا يخرجوا فيه لأنهم يخذلون المجاهدين، ويثبطون هممهم، ويتخذون من الضعفاء وأهل التردد، والهزيمة فريسة ينفثون فيها سمومهم، وإنهم يتخاذلون فى وقت الشدة، ويفرحون بما ينزل بأهل الحق من مصيبة تسوءهم، فإن تصبهم مصيبة يفرحوا بها، وإن تصبهم حسنة تسوءهم.
وإن الضعفاء إن اعترفوا بذنوبهم، وتابوا قبل الله سبحانه وتعالى، وإن كانوا قد خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، فإذا كانوا قد أساؤا بالقعود، فقد أحسنوا بالاعتراف ومع الاعتراف الندم ومع الندم التوبة، فهم لم(3/1063)
يصروا على الشر، وفرق بينهم وبين الذين انتحلوا أعذارا، وكذبوا، وحلفوا وهم يعلمون أنهم كاذبون، وما قصدوا إرضاء الله، بل قصدوا إرضاء العباد، فلم يتوبوا، وارتكبوا الشر وأصروا عليه إصرارا.
وإنه إذا كانت التوبة الصادقة جبت ما قبلها. وبينت السورة الكريمة أمورا ثلاثة تدخل فى بناء المجتمع الصالح، وإذا لم تكن تخريب.
أولها: أن الجهاد تجريد النفس عن أعلاق الدنيا، وما يتعلق بالأحباب والمحبوبات من الأشياء والمتع، وأن المجاهد إن لم يتجرد ذلك التجرد، فإن على الأمة أن تتربص حينها، وتذهب قوتها، إن الأمة التى تريد الحياة يجب أن تتسربل سربال الجهاد، وتستشعر حياته، ولا جهاد مع الأثرة، ولا جهاد مع التعلق بالحياة، فإن لم تفعل فإنها تذل وتهون، ويتحقق فناؤها فى غيرها، وتعيش ذليلة مهينة.
ثانيها: أن النفاق كما أشرنا هو مقوض الجماعات يمنع توافر الثقة بين آحادها، والثقة أساس بنيانها، فما لم توجد الثقة لا توجد المحبة، والمحبة هى الرباط الذى يربط بين الآحاد، ويربط الجماعة، ولا يقطع حبال المودة والمحبة إلا أن يظن الإنسان بأخيه شرا ولا يمكن أن يكون التئام بين الأمة إذا كان كل واحد يتظنن بأخيه، والنفاق هو المادة التى بها تقطع الصلات. ولذلك وصف الله تعالى المنافقين والكافرين بأنهم يقطعون ما أمر الله به أن يوصل، وما أمر الله به أن يوصل هو المودة والمحبة والأخوة، وإن النفاق يفسد نفوس المنافقين، فيأمرون بالمنكر، وينهون عن المعروف ويفسدون الناس فتسرى عدواهم إلى الضعفاء ويلقون بالفرقة بين الأقوياء وما ساد النفاق فى قوم إلا تقطعوا فرقا ومزقوا مزقا.
ولقد بين القرآن الكريم صور النفاق فى هذه السورة بما لم يبين به فى سورة أخرى، وإذا كانت سورة (المنافقون الصغرى) قد بينت خلالا للمنافقين فى أطواء نفوسهم وانحرافاتهم، ومعاملتهم فسورة براءة، وقد أسميها سورة النفاق الكبرى قد بينت حالهم عندما تشتد الشديدة وعندما تكون الحرب وعندما تكون الأزمات.
وبينت أن النفاق قد يتجاوز العلاقات الإنسانية إلى مظاهر العبادات، فهم ينشئون مسجدا يكون ملتقى لاجتماعاتهم المريبة، ويبنونه إرصاد للاتصال بينهم وبين الرومان فى الشام، فهو إرصاد لمن حارب الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ويتظاهرون بأنه مسجد، فيكشف الله سترهم، ويكون فى التاريخ الإسلامى مسجد الضرار.
وإنه يجب لكى تكون الجيوش مجتمعة القوى لا بد أن تكون مجتمعة العزم، وذلك بإبعاد المنافقين وعدم دعوتهم فإنهم يريدون الفتنة، ويبتغونها والفتنة فى الجيوش طريق مؤكد لهزيمتها.(3/1064)
الأمر الثالث: الذى ذكرته السورة الكريمة وأكدته، أمر المترددين والضعفاء فى إيمانهم لا فى أبدانهم فإن أولئك يجب أن يخلو الجيش منهم، لأنهم يكونون العش الذى يفرخ فيه المنافقون، ويبثون فيهم روح الفزع والخوف، والفرار يوم الزحف.
وإن أمر هؤلاء مرجأ، عساهم أن يتوبوا، ولكنهم لا يكونون فى جيش قوى يخط خطوط النصر.
وأخيرا إن سورة براءة درس حكيم للأمة المجاهدة وقد جعل سبحانه وتعالى من غزوة تبوك التى لم يحدث فيها قتال، بل رجع المسلمون منها ولم يلقوا كيدا، وقد جعلها تعالى درسا فى ذلك فكان التكوين انتقاء للأقوياء، ومن تسلل فيه من الضعفاء وأهل النفاق كشف أمرهم.
وفى سورة براءة بيان حال الذين وصل إليهم الإسلام، فاعتنقوه بحكم اتباع القوى، لا بحكم الاقتناع كأولئك الأعراب الذين كانوا يتغلغلون فى البلاد العربية، فدخلوا فى الإسلام، ولما يدخل الإيمان قلوبهم، وبينت السورة الكريمة أن مظاهر الخضوع الكامل الزكاة، فإن دفعها من يدفعها مغرما، سواء أكان الدفع طوعا أم كرها، فهو ليس من أهل الإيمان، وإن قدم الطاعة، وإن دفعها قربات إلى الله تعالى فإنه يكون مؤمنا مخلصا لله تعالى وللجماعة الإنسانية.
هذه كلمات موجزة فى حكمة نلتمسها فى نزول سورة براءة عقب غزوة تبوك، وعند حج الصديق رضى الله تبارك وتعالى عنه بتأمير النبى صلى الله تعالى عليه وسلم له، والله سبحانه وتعالى هو الحكيم الخبير، لا يسأل عما يفعل، وكلنا نسأل عما نفعل، وإذا تلمسنا الحكمة فإنما نقرب إلى الأفهام ولا نتعرف الأسباب فنحن نقارب، ونطلب المعرفة من الله العلى الحكيم.(3/1065)
انتشار الدعوة الإسلامية
707- ابتدأ نور الإسلام فى قلوب تقبلت حقيقته، كما تتقبل الأرض الطيبة النقية البذر الصالح، والماء الذي يسقى ويغذي، وكما يتقبل الأحياء ضياء الشمس، فتهتدي بها في الدجنة الحالكة، فتقبله الضعفاء لأنهم وجدوا فيه المعاذ والملجأ والنور والبصر، والهداية إلي الحق في وسط الظلمات المتكاثفة عليهم، والظلم المرهق وتبعوه طائعين، راضين.
وإنه إذا كان الفقر قد أرهقهم فيه ظلم الظالمين، فقد أعطاهم قوة احتمال للعذاب والأذي الذي نزل بهم ممن أظلمت نفوسهم، وختم علي قلوبهم، ولعل الله سبحانه وتعالي يختار المؤمنين الأولين لكل نبي من هؤلاء الفقراء والعبيد، لأنهم هم الذين لقوا الصدمة الأولي فيما نالوا من ألم الفقر في حياتهم يتحملون ألم الأذي، ويكونون نواة الاستجابة، وكذلك كان الحواريون لعيسي عليه السلام، فلم يكونوا من الأقوياء الأشراف، بل كانوا من الصيادين والعشارين، وغيرهم من الضعفاء.
ولقد كان الأقوياء الذين دخلوا في الإسلام ابتداء عددا قليلا، كأبي بكر وعثمان وحمزة بن عبد المطلب ثم عمر بن الخطاب، وأبي عبيدة عامر بن الجراح، وغيرهم في عدد قليل كانوا يداوون ندوب النفوس الفقيرة لتصبر وتصابر، وليكونوا قوة نسبية هادية.
والنبي صلي الله تعالى عليه وسلم يؤذي في نفسه ويتطامن ليكون الهادي الرشيد المرشد، وليكون النذير العريان، كما قال عن نفسه عليه الصلاة والسلام، فلا سيطرة تفرض الدين والرأى، كما قال تعالي:
لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (الغاشية)
حتي إذا اشتد الطغيان ولم يعد في قوس الصبر منزع، وسمع مقالة الله تعالى لنوح: لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ استيأس من إيمان أهله اتجه إلي القبائل في موسم الحج، يعرض عليها دعوة الإسلام، وأن ينصروه وأن يحموا دعوته من قومه، فاستعد لإجابته من استعد ونفر منه من نفر، ولكن قد بلغت دعوته القبائل كلها أو جلها، ما بين منكر جاف، وما بين مؤات مؤتلف راض غير مختلف، والذين اختلفوا كان السبب الأكبر اختلاف قومه عليه، فكانوا ينتظرون ولا يعادون استقلالا، ولكن ربما يعادون تبعا وتقليدا لقريش أقوي قبائل العرب، وأشدها نفوذا وسلطانا.
فما سوغت لغيرهم من الذين يتبعونهم أن يخالفوهم، ولكن الله تعالي هدي أهل يثرب، فامنوا وبايعوه علي النصرة والإيواء، وفتحوا الصدور للضعفاء وآووا ونصروا.(3/1066)
ولكن قريشا هي القوي، وهي البعيدة النفوذ فى البلاد العربية قاصيها ودانيها، وهي في البيت الحرام الذي جعله الله تعالي مثابة للناس وأمنا، وهو أول بيت للعبادة وضع للناس وهم الذين يتولون فتنة المؤمنين الذين آمنوا، وهم الذين اضطهدوا محمدا صلى الله عليه وسلم وصحبه، وهم الذين هموا بقتل النبي صلي الله تعالى عليه وسلم فكان حقا عليه الهجرة وأن يحمي المؤمنين الذين لا يزالون في مكة المكرمة، فكان لا بد أن ينازلهم بالحق كما اعتدوا عليه بالباطل، وأن يمنعهم من الاسترسال في الشر:
وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ، وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (البقرة) ودفع الشر بمجازاة أهله ليس شرا بل خير كله، وهو الخير القوي الغالب، وليس الخير المستسلم الذليل.
وإن الإسلام فضائله إيجابية، وليست سلبية، فضائله عاملة قوية وليست ضعيفة مستكينة فلا بد إذن من المغالبة.
فكانت المقابلة وكانت الدعوة وبيان الحقائق الإسلامية والشرائع التي تبني بها المدينة الفاضلة، وتقوم فيها الإنسانية الكاملة وتكون مثلا ساميا.
كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في هذه الفترة المجاهدة، يجاهد في ميدانين متكاملين غير متنافرين يحارب أعداء الحق، ليجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله تعالي هي العليا، ويبث السرايا داعية إلى الحق، وفي يدها السيف لقمع الشر، إن حال دون الحق حائل، ويرسم الخطط للجيوش الإسلامية الهادية غير الباغية.
وإن الغزوات الكبري كانت من المشركين، والنبي صلي الله تعالي عليه وسلم يدافع، ولا يهاجم، فالمدينة المنورة كانت مقصدهم، والوقائع كانت علي مقربة منها، فغزوة بدر كانت علي مقربة من المدينة المنورة، وقد جاءت قريش بقضها وقضيضها، نعم إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم هم بأن يصادر عيرهم، كما صادروا أموال المؤمنين، ولكنهم هم الذين جاؤا بالجيش ليحاربوا، وقد ردوا خاسرين.
ثم كانت غزوة أحد، وقد جاؤا بها للثأر، وأرادوا اقتلاع الإسلام من مأمنه، وأصاب المسلمين جراح، ولكنهم هم نكصوا علي أعقابهم لم ينالوا خيرا، وإن جرحوا.
ثم لما عجزت قريش أن تنال من محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وحدها جمعت الجموع، وحزبت الأحزاب من البلاد العربية، وذهبوا لإزالة المدينة المنورة والإسلام، ولكن هزموا بالريح والرعب فعادوا علي أعقابهم خاسرين مذعورين.(3/1067)
هذا هو الميدان الأول لجهاد النبى صلي الله تعالى عليه وسلم. أما الميدان الثاني فهو تربية المؤمنين وتعليمهم أحكام الدين، وبيان الشريعة الإسلامية، وتنظيم المجتمع على أساس العدل والفضيلة ومكارم الأخلاق، وهو ميدان الرسالة المحمدية، وهو غايتها ومقصدها، وما كان القتال إلا لحماية الدعوة الإسلامية، وتوصيلها للقلوب والمجتمعات، الآحاد والجماعات.
وإنه في أثناء اللقاآت الحربية كانت المبادئ الإسلامية تسري إلي النفوس وسط صليل السيوف، فكانت تصل إلي القلوب، والمقاتل متأثر بالمقاتل مأخوذ به، وخصوصا إذا رأوا من خوارق العادات، ما لا عهد لهم به، لقد كانت غزوة الأحزاب من قبائل متفرقة، ورأوا عيانا أن الهزيمة لم تكن بسيف ولا بقوة، ولكن بريح عاصف اقتلع أخبيتهم وألقي الفزع والذعر في نفوسهم، وأمامهم رجل يقول إنه رسول من عند الله سبحانه وتعالي، فهلا يفتح ذلك قلوبا مغلقة، وآذانا تستمع إلي صوت الحق، إنهم لا بد أن يعودوا إلي أقوامهم، ويذكروا لهم ما عاينوا أو شاهدوا، وما رأوا بعين البصر، وإن ذلك لا بد أن يصل شئ منه إلي البصيرة.
ولقد كانت غزوة الخندق آخر الغزوات التي غزتها قريش للمدينة المنورة، وقد استيأسوا من بعد ذلك وعلموا أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم غير مخذول، وأن أحجارهم التى لا تسمع ولا تبصر، ولا تضر ولا تنفع، ولا تغني عنهم، حتي أخذ بعض عقلائهم يدركون ما هم فيه من ضلال، وأنه لا بد لهم من أن يسمعوا صوت العقل والضمير، وقد بدا ذلك في بعض كبرائهم كما أشرنا.
الحديبية:
708- كانت الحديبية خطوة للدعاية إلى الإسلام من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فقد ذهب إلي مكة المكرمة بجيش عدته نحو خمسمائة وألف أو يزيدون وما ذهب ليقتلع مكة المكرمة، كما كانوا يذهبون إلي المدينة المنورة، بل ذهب ليقيم شعائر الله تعالي، ولتعظيم البيت، وعلى ألا يسألوه خطة فيها تعظيم البيت إلا سلكها.
وقد تم عقد الاتفاق علي مدة عشر سنين، لا يقاتلهم، وعلي أن يعود من عامه هذا، وقد سمي الله تعالى ذلك فتحا مبينا.
وإنه حقا كان فتحا للإسلام، فقد لانت قلوب كانت مستعصية، وتفتحت آذان كان فيها وقر عن سماع الحق، فإذا كانت لم تفتح إلا آجلا، فقد فتحت القلوب نور هذه المدينة، وكان من قريش أنفسهم من يتجه إلي الإسلام ويتعرف غاياته، ومراميه، وأنه الحق والعقل، وملة إبراهيم عليه السلام والقبائل التى كانت ترى أمارات النبوة، ولكن تنتظر قريشا، ورأيها فى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم- أخذت(3/1068)
قلوبهم تصغي، وأفئدتهم تتجه نحوه، فأسلم الكثيرون، وتهيأت للإسلام قلوب كثيرين، ولما اتجه عليه الصلاة والسلام إلى خيبر لاقتلاع اليهود من بلاد العرب، كان العرب جميعا مناصرين.
وعندما اتجه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم إلي الرومان أحسوا بعزة العرب تغالب سلطان بني الأصفر، وقد كان أمرهم مرهوبا مخوفا، قد استكان بعضهم له رهبا لا رغبا، فلما رأوا محمدا صلي الله تعالى عليه وسلم الهاشمي القرشي العربي يغزو بنى الأصفر، أحسوا بعزة عربية لا بد أن يكونوا معها، وإذا كانوا مع الروم في بؤسهم فقد هداهم التفكير فى عزتهم إلي ألا يكونوا معهم في تبوك، وإن ذلك بلا ريب يفتح قلوبهم لأن يدركوا الإسلام، ويتدبروا في أمره وغايته، ورأوا أنه السبيل الوحيد لعزتهم، ورفع نير الرومان ونفوذهم.
ولقد ذكر كتاب السيرة أنه دخل فى الإسلام ما بين فتح مكة المكرمة وغزوة الحديبية ناس كثيرون بلغوا أضعاف ما دخلوا من وقت البعث المحمدي، إلي الحديبية، أي بلغ فى سنتين أضعاف أضعاف من دخل فيه في مدي تسع عشرة سنة.
ولما كان فتح مكة المكرمة، ودخلت قريش في الإسلام، دخل فيه الذين يترددون وقد لانت قلوبهم، لأنهم رأوا أهل مكة المكرمة، الذين كان لهم مكان المتبوع يدخلون فدخلوا.
ولذلك جاءت الوفود تتري في العام التاسع، بعد أن فتحت في رمضان من العام الثامن، ولقد جاءت تلك الوفود مسلمة معلنة إسلامها، تريد معرفة أحكام دينها وما يجب أن يقوم به المسلم، وما يجوز له وما لا يجوز.
وكان النبي صلي الله تعالي عليه وسلم يرسل البعوث لتعليمهم، ولتأديب الذين يحاولون إيذاء المؤمنين أو العبث بالمقومات الدينية، فكان أحيانا يرسل السرايا، وأحيانا يرسل فقهاء الصحابة، كما أرسل أبا موسي الأشعري ومعاذ بن جبل ولما أرسل خالد بن الوليد، وهو القائد المحارب كان مكلفا أن يدعو إلى الإسلام، لا أن يجرد سيف القتال، ثم أرسل علي بن أبي طالب عالم الصحابة، فتولي تعليمهم، وأخذهم بأحكام الإسلام، ثم ولاه القضاء، فانفتق ذهنه بدعوة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ونطق لسانه بالحكمة وفك عقدا من مشكلات القضاء وأقره النبي صلى الله تعالى عليه وسلم.
وهكذا نري أن البلاد العربية- أهل الوبر وأهل المدر- قد دخلها الإسلام، وتقبله قلوب مؤمنة مذعنة، وعلم أمره بعض الناس، ولكن لم يدخل قلوبهم فأطاعوا وخضعوا، ولكن لم تؤمن قلوبهم، وإن علم الإسلام، كان الإسلام كالغيث يصيب أرضا نقية فيمدها بالزرع وتأتي بأطيب الثمرات، وكان(3/1069)
يصيب أرضا تحفظ الماء ولا تنتفع به، ولكنها تكون موردا لطالبه، وكان يصيب أرضا مجدبة لا تحفظه ليكون مصدر سقي ورعي، ولا تنتفع به.
ولقد كان الناس بعد أن علموا الإسلام علي هذه الأنواع الثلاثة، فكان منهم الذين آمنوا وأخلصوا دينهم لله تعالي، وأولئك الذين كانوا في المدينة المنورة، وبعض مدائن البلاد العربية، ورجال كانوا في البادية.
ومنهم من علموا الإسلام وحفظوه، ولكن لم يعملوا به، وأطاعوا، ولكن لم تذعن قلوبهم، ومنهم الذين مر عليهم الإسلام فعرفوا أن هناك دينا يحارب الوثنية، ويدعو إلي الوحدانية، وإحياء ديانة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ولكن التدين لم يكن موضع اهتمامهم، فمر عليهم علم الإسلام كما يمر الماء فى الميزاب يتحدر ولا يبقي منه شئ، وأكثر هؤلاء كان فى أعراب البادية، ولهذا قال الله تعالي: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ (التوبة) ومهما تكن حال الذين علموا الإسلام، ووصلتهم الدعوة الإسلامية كاملة، فإن التبليغ قد تم وكمل العلم. وما علي النبي صلى الله تعالي عليه وسلم أن يدخل الهداية في القلوب، ولكن عليه أن يبلغ، وينذر ويبشر كما قال تعالي:
إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ إن عليه أن يبين المورد العذب وعلي الناس أن يردوه، فمن ورده استقي، ومن لم يرده شقي، وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، أكمل رسالته في أمرين:
أولهما: أن الشريعة نزلت عليه كاملة، فأصولها كلها قد نزلت عليه، وعلمها أصحابه ليحملوا العبء كاملا من بعده، فبين أحكام العبادات، والزواجر الاجتماعية والعلاقات الإنسانية فى معاملات بين الناس وعلاقات بين الدولة الإسلامية وغيرها، وأحكام الحروب الفاضلة، وغير ذلك مما يسير بالإنسانية في طريق السلام والكمال.
وثانيهما: أبلغ الدعوة كاملة لقومه العرب، ليكونوا المبلغين للناس كافة، أو حماة هذا التبليغ، ويتولي علماؤهم الدعوة، ويتولي سائرهم حماية هذه الدعوة، والله بكل شئ عليم، وإنه لم يبق بعد الكمال إلا الوداع.(3/1070)
حجة الوداع
709- كانت حجة الوداع فى آخر التبليغ المحمدى، إذ عم العلم بالدعوة الإسلامية البلاد العربية كلها، وخرج نور الإسلام إلى الشام، فدخل فيه من العرب الذين كانوا يخضعون لحكم الرومان، وسميت حجة الوداع، لأن النبي صلي الله تعالى عليه وسلم انتقل إلي الرفيق الأعلي بعدها بأمد قصير، ولأن العبارات فى خطبة الوداع كانت تفيد بأن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم لا يلقاهم بعد عامهم هذا، وسميت حجة البلاغ. لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يذكر فى خطبتها عبارة التبليغ، ونحن نرى أنها سميت حجة البلاغ، لأنها خاتمة البلاغ إلى البلاد العربية، فعمهم العلم بالدعوة الإسلامية، ودخلوا في الإسلام وأشرب حبه في قلوب بعضهم، حتى صاروا مؤمنين، وقدم بعضهم الطاعة له ولأحكامه، ولما يدخل الإيمان قلوبهم.
وقد حمل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عبء الدعوة وتبليغ ما علموا وما أدركوا من حضرة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، فحمل الأمانة الذين شاهدوا وعاينوا وقبسوا من نور الوحى الإلهي، وإن كان قد ختم الوحي برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهم الذين رضي الله تعالي عنهم ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فى بيعة الرضوان، كأبى بكر وعمر وعثمان وعلي، وأبي عبيدة وغيرهم من الذين كانوا كالحواريين لعيسي عليه الصلاة والسلام، حمل هؤلاء الأطهار الأمانة، ورعوها حق رعايتها، وكانت البلاد العربية كلها بعد أن ارتد من ارتد، قد تجردت لحماية الدعوة، حتي أشربوا حب الإيمان، فكانت القيادة الحربية أحيانا لغير أهل البيعة، ولكن يكون بجوارهم مرؤسون لهم من بعض أهل البيعة، كأبي عبيدة، كان بجوار خالد بن الوليد، وإن كنا نعتقد أن خالدا ممن دخل الإيمان قلبه، ولكن لم يكن كأهل البيعة في العلم بالإسلام، وأحكامه وفرائضه.
وأحيانا تكون القيادة لأهل البيعة كما كان في فتح فارس، فقد كان القائد سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المبشرين بالجنة.
الخروج لحجة البلاغ، وما قام به من مناسك:
710- يقول ابن القيم: إن الحج فرض في السنة التاسعة، وما كان من حج الناس قبلها إنما كان على العادة التي كانت عند العرب، ولذلك لم يرسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أميرا علي الحج إلا في السنة التاسعة، ولم يحج هذا العام، لأن المشركين كانوا يحجون علي عادة الجاهلية، فأرسل أبا بكر ولم يذهب بنفسه، حتي لا يكون فى سكوته إقرار لهذه الأمور الجاهلية، ولما منعت بمنع المشركين من القرب من المسجد الحرام، قام صلى الله تعالى عليه وسلم بالحج وتولي إمرته بنفسه.(3/1071)
وقد اعتزم الخروج من المدينة المنورة ميمما وجهه شطر المسجد الحرام لست بقين من ذى القعدة ولما عزم أعلن على الحج في المدينة المنورة وما حولها- فقدموا يريدون الحج مع رسول الله صلى الله تعالي عليه وسلم، ولما شاع الخبر في البلاد العربية، وافاه في الطريق خلق كثير، لا يحصون فكانوا من بين يديه، وعن يمينه وعن شماله على قدر رؤية البصر.
خرج بمن حول المدينة المنورة نهارا في التاريخ الذى أشرنا إليه وخطب الذين صحبوه من المدينة المنورة وعلمهم مناسك الحج، وكان كلما وفد عليه، وهو فى طريقه، وفد علمه مناسك الحج، وأبعدهم عن بقايا الجاهلية التي كان المشركون يتخذونها في بيت الله الحرام كالطواف عرايا.
وبين لهم كيف يكون الإحرام، ومواقيت الحج، وبين لهم أنواع الإحرام وما يلزم في كل نوع فبين لهم أن من أحرم بالحج والعمرة فعليه أن يسوق الهدي، ولا يتحلل إلا يوم النحر بعد أداء الحج، فيتحلل بنحر الهدي يوم النحر، ومن نوي العمرة ولم يسق الهدي فله أن يتحلل بنحر بعد السعي بين الصفا والمروة، والطواف بالبيت سبعا، يجب في ثلاث منها الهرولة، ويستلم في ابتداء كل واحدة الحجر الأسود تعرفا لكمالها.
وفى السعي سبعا بين الصفا والمروة يرمل بين الميلين الأخضرين، وأنه يلبي بعد الإحرام بأن يقول لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك، والملك لا شريك لك لبيك.
ثم بعد أن علم هذه المناسك قولا، وأراهم إياها عملا من بعد أن أحرم من ذي الحليفة ميقات المدينة المنورة، وعلمهم المواقيت كلها، وأنه يحرم عندها أو قبلها ولا يمر عليها إلا محرما.
وأهل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعد إحرامه بالحج والعمرة، وأهل بعض من معه، بالحج فقط، لأن العمرة تدخل فيه، وبالعمرة فقط، وقد فهم بعض الناس من إهلاله بالحج والعمرة أنه كان قارنا أى جامعا بينهما لأنه ساق الهدي ومن أهل بالحج كان مفردا أي لم ينو العمرة في حجته، ومن أهل بالعمرة فقط فإنه متمتع. لأنه المتمتع، يهل بالعمرة، ويؤديها ثم يتحلل منها، ثم ينوي الحج، ويذبح الهدي يوم النحر، وقد سمي القرآن القران تمتعا فجمع بينه وبين التمتع في عبارة واحدة، وهي قول الله تعالى:
فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ، تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ، ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَاتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ.
وإن الروايات تتضافر علي أن حجه صلي الله تعالى عليه وسلم كان قرانا وأنه عليه الصلاة والسلام يرتضي لنفسه أشدها كلفة، ولا شك أن القران يجمع كمالين: الهدى يساق ويعلم من أول إهلاله(3/1072)
والاستمساك بالتحريم في مناسك الحج، حتي تؤدي كلها من السعي والطواف والوقوف بعرفات ثم بالمزدلفة، ثم الذهاب إلي مني بعد المشعر الحرام، والتمتع فيه رخصة في أحد الأمرين ففيه رخصة التحلل قبل الحج، ثم الإحرام له، والحج بإفراده من غير عمرة معه فيه رخصة من عدم الالتزام بالهدي، فاختار سبحانه وتعالي القران، لأنه لا سهولة فيه أولا، ولأن فيه تعليم العمرة عملا ثانيا، ولأن فيه سوق الهدي من أول الحج، وإشعاره بوضع مزادة فيه، فقد وضع المزادة وشق جانبا من سنام زاملته، كان ذلك كله تعليما، وما كان ليعلم ذلك عمليا لو كان قد أحرم بالحج مفردا، أو أحرم متمتعا، فكان القران فيه كمال التعليم.
ومع أنه صلي الله تعالي عليه وسلم اختار لنفسه القران نسكا فى الحج فقد رخص للناس، من غير بيان أيها أفضل فى أن يختاروا بين الأنساك الثلاثة. القران، أو التمتع، أو الإفراد، ولكنه اشترط في حال القران سوق الهدى، وفى التمتع الهدي يوم النحر.
وقد حدث فى أثناء سير ركب النبي صلي الله تعالى عليه وسلم أن أصاب الحيض أم المؤمنين عائشة، فأمرها بالاستمرار فى حجها علي ألا تدخل المسجد الحرام، وتطوف، وولدت أسماء بنت عميس زوج أبي بكر ولده محمد بن أبى بكر، وقد أمرها أن تغتسل لإحرامها، كما أمر عائشة رضي الله عنها وعن أبيها.
مضي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لحجته، والمسلمون وراءه يتعلمون من عمله، وهو يلبى، كلما تحول من مكان إلي مكان، وكلما علا مرتفعا، أو انخفض في واد.
وقد منع أن يصاد حيوان من الحرم، وأن يؤكل صيد الحرم، لأنه حرام فما يؤدي إليه يكون حراما، ولكن أباح للمحرمين أن يأكلوا صيد غيرهم ممن يكونون في حل.
وفى أثناء سيره، كان يبين العبر فيما مر به من أرض، وبوادى عسفان فقال لصاحبه أبي بكر، يا أبا بكر أي واد هذا؟ قال: وادي عسفان، فقال صلي الله تعالى عليه وسلم. «لقد مر به هود وصالح» .
711- ومن الروايات الراجحة يثبت أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان قارنا جمع بين الحج والعمرة فى إهلال واحد، وقد ساق الهدي وكان ثلاثا وستين بدنة، ولما جاء إليه علي من اليمن أشركه في بدنه. وقد قلد البدنة وأشعرها.
ولكن لم يكن من معه قارنين، بل قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كان منهم من كان قارنا كالرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ومنهم من أفرد بالحج، ومنهم من تمتع، فقد روي ابن أبى شيبة أن عائشة رضي الله عنها قالت: «خرجنا مع رسول الله صلي الله تعالى عليه وسلم، للحج علي ثلاثة(3/1073)
أنواع، فمنا من أهل بعمرة وحجة، ومنا من أهل بحج مفرد، ومنا من أهل بعمرة مفردة، فمن كان أهل بحج وعمرة معا، لم يحلل من شئ مما حرم منه، حتي يقضي مناسك الحج، ومن أهل بعمرة مفردة فطاف بالبيت، وبالصفا والمروة حل ما حرم منه، حتي يستقبل حجا. وإن هذا يدل علي أمرين:
أحدهما: أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان قارنا، ولم يدع الناس جميعا إلي القران، لأنه ربما يكون فيهم من لا يستطيع الهدي، ومن لا يحتمل تحريم محرمات الحج مدة طويلة، فأجاز لهم التمتع والقران والإفراد، وبين لهم ما يلزم كل نوع من هذه النسك، ولم ينه عن واحد منها، بل لم يبين أفضلها، وإن كان الأفضل يعرف من اختيار النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا من قوله، وربما يفهم من التخيير من غير مفاضلة المساواة فيها.
وإن الحق أن كلا له فضله في حاله، ففي حال الضعف، أو عدم القدرة علي الهدي يكون الأيسر، هو الأفضل، لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يختار الأيسر، فما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثما.
وقد رأي عمر وعثمان رضي الله عنه قد تبعه أن يكون الإفراد أولي، حتي لا يخلو البيت الحرام من قاصديه طول العام، لأنه إذا شاع اجتماع العمرة والحج في أشهر الحج، ما قصد البيت في أثناء العام، وعمر يريد ألا يخلو البيت طول العام من قاصديه.
ولقد تبع ذلك عثمان رضي الله عنه، لأنه قد تعهد عند مبايعته أن يعمل بكتاب الله تعالي وسنة رسوله صلي الله تعالي عليه وسلم، وسنة الشيخين أبي بكر وعمر، واختيار الإفراد في الحج كان من سنة عمر رضي الله عنه، ولم يقره علي ذلك كثير من الصحابة كسعد بن أبي وقاص وعلى بن أبى طالب وعبد الله بن عباس، وعائشة رضي الله تعالي عنها.
وقد روي أبو داود والإمام أحمد أن معاوية قال وكان في ملأ من أصحاب رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم: أنشدكم بالله أتعلمون أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نهي عن جلود النمور أن يركب عليها؟ قالوا اللهم نعم، قال: وتعلمون أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نهي عن لباس الذهب إلا مقطعا، قالوا: اللهم نعم، قال أتعلمون أنه نهي عن الشرب فى أواني الذهب والفضة؟ قالوا اللهم نعم، قال: «وتعلمون أنه نهى عن المتعة (أي الجمع بين العمرة والحج) قالوا اللهم لا» . «قال فوالله إنها لمعهن» .
وإن هذا يدل على أن معاوية اتبع ما سار عليه عثمان اتباعا لعمر، للمقصد الاجتماعي الذي رآه، ولعل معاوية ظن، أو أراد أن يوهم أن عمله وعمل ذي النورين عثمان لنهي النبي صلى الله تعالى عليه(3/1074)
وسلم. والحقيقة- أن لا نهي عن نوع من الأنساك الثلاثة «القران والتمتع والإفراد» وخصوصا أن التمتع بالجمع بين العمرة والحج قد نص عليه في القران الكريم، وما كان لأحد مهما تكن مكانته بين المسلمين أن ينهي عن أمر أجازه القرآن الكريم وبين أحكامه.
ولكن عمر رضى الله تعالي عنه اختار الإفراد لهذا المعنى الاجتماعي الذي ذكرناه، وخالفه فيه كثيرون من الصحابة، حتي إن ابنه عبد الله لم يوافقه.
وخالف علي عثمان رضى الله تعالي عنه، ورد نهيه عن التمتع ردا شديدا وأعلن التمتع أمامه وفي حضرة جمع من الصحابة.
ولقد روي أن عبد الله بن عمر كان يري التمتع بالقران، أو مجرد الجمع في أشهر الحج بين العمرة والحج قارنا أو متمتعا، فقال قائل إن أباك نهي عن العمرة «أي مع الحج» فقال الصحابي التقي:
«أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أحق أن يتبع أم أمر أبي؟! ولقد قال ابن عباس لمن كان يعارضه في القران والتمتع بعمل عمر «يوشك أن ينزل عليكم حجارة من السماء. أقول لكم قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر» .(3/1075)
الأماكن التى نزلها، والأدعية التى ذكرها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
712- نهض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وسار فى الطريق إلي مكة المكرمة بعد إهلاله من ذي الحليفة بالعمرة والحج، أي قارنا وسار في طريقه حتي نزل بذي طوي وصلي بها الصبح.
ثم اغتسل، من يومه، ونهض إلى مكة المكرمة فدخلها من الثنية العليا التي تشرف على الحجون، ثم سار حتي دخل المسجد الحرام واستقبل الكعبة الشريفة، وقال: «اللهم زد بيتك هذا تشريفا وتعظيما ومهابة» .
ويروي أنه كان عند رؤيته البيت الحرام يقول هذا الدعاء: «اللهم أنت السلام ومنك السلام، حينا ربنا بالسلام، اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة» .
ولقد طاف، ولما حاذي الحجر الأسود استلمه، ثم أخذ عن يمينه، وجعل البيت عن يساره، ولما فرغ من طوافه، جاء خلف المقام، وقال «واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى» وصلي ركعتين، والمقام بينه وبين البيت. فلما فرغ من صلاته، أقبل إلي الحجر الأسود فاستلمه مرة أخرى.
ثم اتجه إلي الصفا من الباب الذي يقابله، وقرأ قوله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ، فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ، فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما (البقرة) .
بعد السعي، استمر صلى الله تعالى عليه وسلم ممسكا بإحرامه، فلم يتحلل، وفعل مثل من أفرد بالحج، أما من تمتع بالعمرة إلي الحج، وكان مهلا بالعمرة فقط فإنه تحلل، واستمر متحللا، حتى نوي الحج من بعد ذلك.
استمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على إحرامه، حتي تحلل يوم النحر، والذين كانوا معه ولم يسوقوا الهدي، وقد أهلوا بالعمرة تحللوا بعد طوافها حتي إذا كان يوم التروية وهو اليوم الثامن من ذي الحجة أهلوا بالحج، وصاروا فى إحرام، حتى تحللوا يوم النحر.
ثم اتجه صلى الله تعالى عليه وسلم إلي مني، ومعه من صحبه من المسلمين، ومنهم من كان يلبي، ومنهم من كان يكبر، والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم لم ينه أحدا.
وقد صلي عليه الصلاة والسلام بالمسلمين في مني صلاة الظهر والعصر وجمع بينهما جمع تقديم في وقت الظهر، وقد سار من بعد ذلك إلي عرفة.(3/1076)
ويقول ابن القيم: ضربت له قبة بنمرة، وهي فى شرقي عرفات فنزل بها حتي إذا زالت الشمس أمر بناقته القصواء فرحلت ثم سار حتي أتى بطن الوادي، فخطب الناس وهو علي راحلته خطبة عظيمة قرر فيها قواعد الإسلام، وهدم فيها قواعد الشرك والجاهلية، وقرر فيها تحريم المحرمات التى اتفقت الملل على تحريمها، وهي الدماء والأموال والأعراض، ووضع فيها أمور الجاهلية تحت قدميه، ووضع فيها ربا الجاهلية كله وأبطله، وأوصاهم بالنساء خيرا، وذكر الحق الذي لهن وعليهن، وأن الواجب لهن الرزق والكسوة بالمعروف، ولم يقدر ذلك بتقدير، وأباح للأزواج ضربهن إذا أدخلن إلى بيوتهن من يكره أزواجهن، وأوصي الأمة فيها بالاعتصام بكتاب الله، وأخبر أنهم لن يضلوا ما داموا معتصمين به، ثم أخبرهم أنهم مسئولون عنه، واستنطقهم بماذا يقولون، وبماذا يشهدون، فقالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت، ونصحت، فرفع أصبعه إلي السماء، أن يبلغ شاهدهم غائبهم.
ذكر ابن القيم خلاصة الخطبة التي كانت بعرفة، ولم يذكر نصها، ولا ندري لماذا لم يذكر النص، وقد ذكر النص ابن إسحاق في السيرة، فقد قال:
«مضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على حجته، فأرى الناس مناسكهم، وأعلمهم سنن حجهم، وخطب الناس خطبته التى بين فيها ما بين.
فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال:
أيها الناس اسمعوا قولى، فإنى لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا فى هذا الموقف أبدا.
أيها الناس إن دماءكم وأموالكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلغت، فمن كانت عنده أمانة، فليؤدها إلى من ائتمنه عليها.
وإن كل ربا موضوع، ولكن لكم رؤوس أموالكم، لا تظلمون ولا تظلمون، قضى الله تعالى أنه لا ربا، وإن ربا عمى العباس بن عبد المطلب موضوع كله.
وإن كل دم كان فى الجاهلية موضوع، وإن أول دم أضعه دم ابن عمى ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان مسترضعا فى بنى ليث فقتله هذيل، فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية.
أما بعد أيها الناس، فإن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه أبدا، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضى به مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم.(3/1077)
أيها الناس، إنما النسيء زيادة فى الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما، ويحرمونه عاما، ليواطئوا عدة ما حرم الله، فيحلوا ما حرم الله، ويحرموا ما أحل الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا فى كتاب الله منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات ورجب مضر الذى بين جمادى وشعبان.
أما بعد أيها الناس، فإن لكم على نسائكم حقا، ولهن عليكم حقا، لكم عليهن ألا يوطئن «1» فرشكم أحدا تكرهونه وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن فى المضاجع، وتضربوهن ضربا غير مبرح فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيرا، فإنهن عندكم عوان، لا يملكن لأنفسهن شيئا، وإنكم إنما أخذتموهن، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فاعقلوا أيها الناس قولى، فإنى قد بلغت، وقد تركت فيكم ما إن استعصمتم به، فلن تضلوا أبدا، أمرا بينا، كتاب الله وسنة نبيه.
أيها الناس اسمعوا قولى واعقلوه تعلمن أن المسلم أخو المسلم، وإن المسلمين إخوة، فلا يحل لامريء من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمن أنفسكم. اللهم هل بلغت.
ويقول ابن إسحاق: «ذكر لى أن الناس قالوا: اللهم نعم.. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: اللهم اشهد» .
وهنا ننبه إلى أمرين آخرين يتعلقان بالخطبة.
أولهما: أن الجمع كان حاشدا، والخلق كانوا مزدحمين ازدحاما لم يكن له مثيل من قبل، فقد جاء الناس من كل فج من الجزيرة العربية ليسعدوا بصحبة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فى حجته.
ولذلك لم يكن من الممكن أن يسمع الناس جميعا صوت النبى صلى الله عليه وسلم، وهو يتكلم، فكان بجواره صارخ يصرخ للناس بما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن إسحاق:
كان الرجل الذى يصرخ فى الناس بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ربيعة بن أمية بن خلف يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قل يا أيها الناس، إن رسول الله يقول: هل تدرون أى شهر هذا فيقولون الشهر الحرام..» .
__________
(1) معناها يدخلن بيوتكم من لا تريدون دخولهم.(3/1078)
وهكذا كان ذلك الصارخ ينطق بما قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ليسمع القاصى والدانى، والقريب والبعيد من حضرة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
ثانيهما: إنه روى عن بعض الثقات زيادة عما روينا من الخطبة الجامعة وزيادة الثقة مقبولة ومن الزيادات التى رويت قول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وذلك قوله صلى الله تعالى عليه وسلم:
أيها الناس، إن الله قد أدى لكل ذى حق حقه، وإنه لا يجوز وصية لوارث، والولد للفراش وللعاهر الحجر، فمن ادعى إلى غير أبيه، أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا.
713- بعد أن وقف بعرفات وألقى خطبته الجامعة، لما غربت الشمس، واستحكم غروبها، كما قال ابن القيم، بحيث ذهبت الصفرة- اتجه إلى المزدلفة فأفاض من عرفة إليها، وأردف إليه على ناقته أسامة بن زيد، وهو يقول: «أيها الناس عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بالإيضاع «1» ، ثم جعل يسير العنق وكان فى مسيره هذا لا ينقطع عن التلبية كلما علا، أو انحدر» .
وقد صلى المغرب والعشاء فى وقت العشاء فجمع بينهما جمع تأخير، بأذان واحد، وإقامتين.
ثم سار من بعد ذلك إلى منى بعد أن نام، ولما اتجه إلى منى أمر من معه ألا يرموا الجمار إلا بعد طلوع الشمس.
وقد رمى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الجمار ثم نحر، ثم تحلل من الإحرام، وقد كان معه بدن كثيرة، نحر بيده منها ثلاثا وستين فى النحر بمنى، ثم نحر على بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه الباقى، وأمره أن يتصدق بلحومها وجلودها فى المساكين.
وقد ذكر ابن القيم أنه خطب فى منى خطبة عظيمة بليغة، وكل كلامه عليه الصلاة والسلام بليغ، وقال ابن القيم فى هذه الخطبة، أعلمهم فيها بحرمة يوم النحر، وفضله عند الله تعالى، وحرمة مكة المكرمة على جميع البلاد وأمر بالسمع والطاعة، لمن قادهم بكتاب الله تعالى، وأمر الناس أن يأخذوا مناسكهم عنه، وقال: لعلى لا أحج بعد عامى هذا، وعلمهم مناسكهم، وأنزل المهاجرين والأنصار منازلهم، وأمر الناس ألا يرجعوا بعده كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض، وأمرهم بالتبليغ عنه وأخبر أنه رب مبلغ أوعى من سامع، وقال فى خطبته: لا يجنى جان إلا على نفسه، وأنزل المهاجرين عن يمين القبلة والأنصار عن يسارها، والناس حولهم، وفتح الله تعالى أسماع الناس حتى سمعها أهل منى فى منازلهم.
__________
(1) أى ليس بالإسراع، وهو المسير بين الإسراع والإبطاء.(3/1079)
وقال فى خطبته قلت: «اعبدوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأطيعوا ذا أمركم تدخلوا جنة ربكم» وودع حينئذ الناس.
ويفهم من كلام ابن القيم هذا أن خطبة الوداع ليست التى ألقيت فى عرفات، إنما خطبة الوداع هى هذه لأنها متأخره عن الأولى، والوداع للأخيرة، ولأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذكر فيها الوداع والذى أراه أن الحجة كانت حجة الوداع، فكل ما فيها من كلام يتضمن معنى الوداع.
وبعد أن نحر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حلق وفعل أصحابه ما فعل، اتجه إلى البيت الحرام، فطاف طواف الإفاضة، وهو طواف الزيارة، وهو الركن من الحج.
وشرب من زمزم، ثم عاد إلى منى، وبعد الزوال رمى الجمار، فابتدأ بالأولى التى تلى مسجد الخيف ثم الوسطى، ثم العقبة.
وتكرر ذلك فى أيام التشريق، الثلاثة التى تلى يوم النحر.
وقد خطب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم خطبة ثانية فى منى، وهى ثالثة الخطب باحتساب خطبة عرفة، ويقول ابن القيم فى هذه الخطبة:
خطب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الناس بمنى خطبتين، خطبة يوم النحر، وقد تقدمت، والخطبة الثانية فى أواسط أيام التشريق قبل ثانى يوم النحر، قال فيها: «وهل تدرون أى شهر هذا، قالوا الله ورسوله أعلم قال هذا الشهر الحرام، ثم قال إنى لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد هذا، ألا فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا فى بلدكم هذا حتى تلقوا ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فليبلغ أدناكم أقصاكم، ألا هل بلغت» .
ويروى أنه نزلت بعرفة آية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً.
ويروى أنه نزلت بمنى سورة إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً.
لقد انتهى حج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهى الحجة الأولى والأخيرة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فلم يحج قبلها فى مكة المكرمة لما كان يحوط الكعبة الشريفة من أوثان، وما كان يفعله أهل الجاهلية من ذلك، ويلاحظ أن حج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان قرانا كما ذكرنا، ولم يلزم الناس، ولم يذكر للناس أنه أفضل من غيره، وإن كان أفضل لأن النبى صلى الله تعالى(3/1080)
عليه وسلم قد اختاره، وأنه مع ذلك ترك الناس أحرارا يختارون من أنواع الحج الثلاثة ما يكون أسهل عليهم، فمن ساق هديا يختار القران إن أراد، ومن لم يسق وأهل بالعمرة، لم يسق هديا، فقد اختار التمتع، ومن أهل بالحج ابتداء، فقد اختاره ولا يسوق هديا.
وقد كان المسلمون الذين صحبوا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى حجته منهم من اختار القران، ومنهم من اختار التمتع، ومنهم من اختار الإهلال بالحج، ولا حرج ما دام يختار ما يستطيعه، ولا يشق عليه.
وما يروى من أن عمر اختار للمسلمين الإفراد فى خلافته، لم يكن ذلك إلزاما، وكيف يلزم مؤمن المسلمين بغير ما ألزمهم به الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم يعرف عنه أنه وضع عقابا على من قرن أو تمتع، وكيف ذلك وابنه عبد الله لم يوافقه، ولكن عمل عمر كان رأيا.
وهو رأى له وجهه، وهو ألا يخلو البيت الحرام من زواره.
دعاؤه صلى الله تعالى عليه وسلم فى عرفة:
714- لقد كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كثير الدعاء فى حجه، لأنه فى ضيافة الرحمن وفى أرض الله، ففى كل منسك من مناسك الحج كان يدعو الله تعالى، ولقد كان يدعو عندما أهل بالعمرة والحج، وكان يدعو فى طوافه، وفى سعيه، ويدعو فى عرفة وفى الشهر الحرام.
ولقد روى عن على رضى الله عنه أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان دعاؤه على عرفة فى الموقف: اللهم لك الحمد كالذى نقول، وخير مما نقول، اللهم لك صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى، أعوذ بك من عذاب القبر ووسوسة الصدر، وشتات الأمر، اللهم إنى أعوذ بك من شر ما تهب به الريح.
وروى عن على أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم دعا أيضا فقال على: «إنه دعانى يوم عرفة أن أقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم اجعل فى بصرى نورا وفى سمعى نورا، وفى قلبى نورا اللهم اشرح لى صدرى ويسر لى أمرى اللهم إنى أعوذ بك من وسواس الصدر وشتات الأمر، وشر فتنة القبر، وشر ما يلج فى الليل، وشر ما يلج فى النهار، وشر ما تهب به الرياح، وشر بوائق الدهر» .(3/1081)
وروى عن ابن عباس أنه كان فيما دعا به النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى حجة الوداع.
«اللهم إنك تسمع كلامى، وترى مكانى، وتعلم سرى وعلانيتى، ولا يخفى عليك شيء من أمرى، أنا البائس الفقير المستغيث المستجير، الوجل المشفق، المعترف بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل ابتهال الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عبرته، وذل لك جسده، ورغم لك أنفه، اللهم لا تجعلنى بدعائك رب شقيا، وكن بى رؤوفا رحيما، يا خير المسئولين» .
وروى أبو داود الطيالسى فى سنده عن ابن عباس قال: رأيت أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم دعا عشية عرفة لأمته بالمغفرة والرحمة، فأكثر الدعاء فأوحى إليه أنى قد فعلت إلا ظلم بعضهم بعضا، وأما ذنوبهم فيما بينى وبينهم فقد غفرتها، فقال: يا رب إنك قادر على أن تثيب هذا المظلوم خيرا من مظلمته. وتغفر لهذا الظالم. فلم يجب تلك العشية.
هذه أخبار عن أدعية النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهى سامية فى معناها، وقد رويت، وفى بعض رجالها ضعف عند رجال الحديث والله سبحانه وتعالى أعلم.
العودة إلى المدينة المنورة
715- عاد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى المدينة المنورة بعد أن أدى مناسك الحج، وبينها للناس، وفى أثناء عودته عند غدير خم وهو قريب من الجحفة، وصله شكوى الشكاة من على كرم الله وجهه فى الجنة.
ويقول الحافظ ابن كثير إنه خطب فى اليوم الثامن عشر من ذى الحجة، خطبة عظيمة وكان بغدير خم تحت شجرة هناك فبين فيها أشياء كثيرة، وذكر من عدل على رضى الله تعالى عنه وأمانته وقربه إليه ما أزاح به ما كان فى نفوس كثيرة من نفوس كثيرين من الناس عنه.
لقد أقبل أهل اليمن يشكون عليا من شدته فى منع ركوب إبل الصدقة، وتوزيع حلل البز فى غيبته، ونزعها منهم.
فجاء فى خطبة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما وافق فيه على مسلك على كرم الله وجهه فى الجنة، فقال: أيها الناس، لا تشكو عليا، فوالله إنه لأخشى فى ذات الله من أن يشكى.
وفى بعض الروايات الصحيحة أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أخذ بيد على، فأقامه عن يمينه، وقال: ألست أولى من كل امريء من نفسه، قالوا بلى، قال فإن هذا مولى أنا مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه.(3/1082)
فلقى عمر بن الخطاب عليا، فقال له: «هنيئا لك أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة» وقد روى حديث من كنت مولاه فعلى مولاه اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه.
رواه أصحاب السنن الأربع والإمام أحمد بطرق صحيحة.
فكان حقا أن يكون أولى أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد بينا ذلك فيما مضى، وبينا أنه مع صحته لا يدل على أنه أولى بالخلافة من الشيخين أبى بكر وعمر، فالخلافة تقتضى النظر إلى أمور كثيرة، يصح أن يكون بعضها محبة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكن ليست كلها، فمحبة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لا تجعل غيره ليس أهلا للخلافة. والله تعالى أعلم.
الوداع بعد التمام
716- نزل قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً قال الرواة فى الصحاح، إن نزولها كان والمسلمون واقفون بعرفة يوم الجمعة، فلما سمعها عمر بكى فقيل له ما يبكيك؟ قال ما بعد الكمال إلا النقصان، والنقصان هو وداع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الدنيا، وكأنه فهم رضى الله عنه بعقله المدرك وبصيرته النافذة. أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بلغ رسالة ربه، وأنه إذ بلغها، فلم يبق إلا أن يذهب إلى ربه وقد أدى واجبه وبلغ وأنذر وبشر وعلم الناس علم الشريعة، وعلم القرآن الكريم.
وأنه صلى الله تعالى عليه وسلم علم بعلم ربه أنه قد آن الوداع فكان فى خطبه فى الحج: لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا.
ولقد نزل وسط أيام التشريق سورة النصر: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً وقالوا إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد عرف إنه الوداع وقد فسر ابن عباس فى حضرة جمع من الصحابة بأن السورة تدل على أجل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ووافق عليه عمر رضى الله عنه، ولم يعترض عليه أحد، وذلك بطريق الإشارة أو التظنن لأنه إذا تم النصر، وعم الاسلام فقد آن أوان المفارقة.
وإن آيات القرآن الكريم تدل على أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مبعثه وحياته لأجل محدود، وأنه ليس بمخلد وأن وفاته كغيره من البشر أقرب إليه من حبل الوريد لبشره.(3/1083)
1- ومنها قوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ.
2- ومن ذلك قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ، وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً، وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ.
3- ومنها قوله تعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ، وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ، فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ هذه قبسة من الآيات القرآنية، وغيرها كثير.
ومن الأحاديث التى تنبأ فيها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بقرب أجله ولقاء ربه قوله لابنته فاطمة: «إن جبريل كان يعارضنى القرآن الكريم فى كل سنة مرة وإنه عارضنى به العام مرتين وما أرى ذلك إلا اقتراب أجلي» .
4- وروى البخارى، كان يعتكف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى رمضان عشرة أيام فلما كان العام الذى توفى فيه اعتكف عشرين يوما.
وهكذا تتضافر الأخبار عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه توقع وفاته فى العام الذى حج فيه، أو بعده بقليل.
بعث أسامة بن زيد
717- ومع أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يتوقع الموت القريب وقد ظهرت أماراته كان قائما بواجب التبليغ وإعزاز الإسلام لآخر لحظة من لحظاته فالواجب مستمر لا يعوقه مرض إن كان قادرا على الإرسال والبعث، ولا يعوقه توقع الموت وقربه، لأنه مادامت الحياة، فالواجب قائم.
بعث اسامة إلى أرض فلسطين:
وقد أجمع الرواة على أنه عليه الصلاة والسلام جعل فى إمرته الشيخين أبى بكر وعمر ولقد بنى الشيعة على ذلك أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وقد توقع الموت ودخل جسمه المرض وأذن بوداع بعثهما فى جيش أسامة ليخلوا الجو لعلى كرم الله وجهه ولا ينازعانه الخلافة.(3/1084)
ولا نحسب أن ذلك يصلح تعليلا، أو حكمة لتولى أسامة إمرة الشيخين، وقد كان يمكن أن يولى أحدهما الجيش، والآخر يعاونه، فإن ذلك قد يتحقق فيه ما فرضوه مقصدا للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، والحق أن اختيار النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لأسامة يمكن أن تتعرف حكمته بغير ذلك.
فأبوه زيد بن حارثة- كان القائد الأول للمسلمين الذى كان يحمل الراية، وقد قتله الرومان، فكان من حكمة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يمكنه من قتلة أبيه، فيكون أكثر حمية من غيره، وأشد حماسة، وأيضا فإن أسامة كان شابا، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم وقد توقع الموت عزم أن يولى الشباب.
وأن زيدا لم يكن قرشيا، بل كان أبوه من الموالى أعتقه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وتبناه، حتى ألغى التبنى بحكم القرآن الكريم من بعد الهجرة، وإن تعيينه وهو بهذه الحال، بيان لأن السيادة لا تكون دائما للقرشيين، وتوكيدا لهذا المعنى السامى جعل شيخين من شيوخ قريش والمسلمين فى إمرته وكانت لهما مكانتهما فى قريش جاهلية وإسلاما، فكان جعله أميرا عليهما منعا للسيطرة القرشية، ومنعا للأرستقراطية الإسلامية.
وإن هذه الأمور تلمس لحكمة فعل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ليست تعليلا دقيقا ولقد كان هذا البعث آخر سرية أرسلها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكأنها كانت إشارة إلى أن يتجه المسلمون بالدعوة الإسلامية إلى خارج الجزيرة العربية، ولقد شدد عليه الصلاة والسلام فى تنفيذ هذه السرية، شدد فيها وهو حى وشدد فى التوصية بتنفيذها إذا مات ولكن لم تنفذ إلا بعد مماته.
وتخلف عنها الشيخان أبو بكر وعمر، فأما أبو بكر، فقد اختبره الله بالخلافة، وارتداد الأعراب، وكان لا بد أن يبقى ليحمى المدينة المنورة، وليحمى العقيدة، وليحمل المرتدين على التوبة.
وأما عمر فلأنه كالوزير لأبى بكر، استأذن أسامة فى أن يبقى بجواره فى هذه الشديدة لتكون قوة المسلمين المؤمنين متضافرة، فى دفع هذا البلاء والشديدة شديدة، والبلاء بلاء، فقد اجتمع أبو بكر وعمر وعلى والزبير وطلحة، وعبيدة وعبد الرحمن بن عوف ليصدوا الردة، ويتحقق قول الله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ، فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ، يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ،(3/1085)
الوداع
718- عاد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لخمس بقين من ذى الحجة فى السنة العاشرة، وعاش أكرمه الله تعالى بقية ذى الحجة، والمحرم كله، واعتراه بعد ذلك وجع مرض الموت متجها إلى لقاء الرفيق الأعلى فى صفر من السنة الحادية عشرة، روى أن ذلك ابتدأ فى الليلة الحادية عشرة منه وروى أنه ابتدأ لليال بقين منه فى آخره، ثم كانت الوفاة بعد حياته المباركة للبشرية كلها فى ربيع الأول، وروى فى أوله فى ليال مضت منه، وروى أنه فى الثانى عشر منه، ويرجح ذلك الأكثرون من الرواة، وكان ذلك فى يوم الاثنين من ذلك الشهر الذى كان فيه ميلاده ومبعثه، وهجرته، ثم توديعه الدنيا إلى لقاء ربه الكريم.
وكانت أمارات الوداع ظاهرة بينة، ونذكر أمورا ثلاثة كانت فى أول مرضه.
أولها:
أنه روى عبد الله بن عمرو بن العاص عن أبى مويهبة مولى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. قال: بعثنى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من جوف الليل، وقال إن الله تعالى أمرنى أن أستغفر لأهل هذا البقيع فانطلقت.
وفى رواية الإمام أحمد عن أبى مويهبة أنه قال: «أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يصلى على أهل البقيع، فصلى عليهم ثلاث مرات، فلما كانت الثالثة قال يا أبا مويهبة أسرج دابتى، فركب ومشيت حتى انتهت إليهم فنزل عن دابته، وأمسكت الدابة، فوقف فقال: ليهنكم ما أنتم فيه مما فيه الناس، أتت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع بعضها بعضا، الآخرة أشد من الأولي، فليهنكم ما أنتم فيه مما فيه الناس ثم رجع فقال يا أبا مويهبة إنى خيرت بين مفاتيح ما يفتح على أمتى، ولقاء ربى فاخترت لقاء ربى.
وإن هذه الرواية تدل على أن الصلاة على أهل البقيع من موتى الصحابة كانت قبل ذهابه عليه الصلاة والسلام إلى قبورهم، وخطابه إياهم.
وقد روى ابن إسحاق عن ابن مسعود عن عائشة أنها قالت: رجع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من البقيع، وأنا أجد صداعا فى رأسى وأقول وارأساه، فقال: بل أنا والله يا عائشة وارأساه، ثم قال: وما ضرك لو مت. قلت: والله لكأنى بك لو فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتى، فأعرست فيه إلى بعض نسائك.
وفى هذا الخبر نجد أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد أعلن تقديره وتكريمه لصحابته، وهم أموات كما كانوا أحبابه، وهم أحياء.(3/1086)
الأمر الثانى:
الذى يجب التنبيه إليه أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أوصى بالأنصار خيرا.
روى البيهقى بسنده أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه فى مرض موته وقد اشتد به وعكه خرج فجلس على المنبر فكان أول ما ذكر بعد حمد الله تعالى والثناء عليه ذكر أصحاب أحد فاستغفر لهم ثم قال:
«يا معشر المهاجرين، إنكم أصبحتم تزيدون، والأنصار على هيئتها لا تزيد وإنهم عيبتى التى أويت إليها، فأكرموا كريمهم، وتجاوزوا عن مسيئهم. ثم قال عليه الصلاة والسلام: أيها الناس إن عبدا من عباد الله تعالى قد خيره الله تعالى بين الدنيا، وبين ما عند الله فاختار ما عند الله، ففهمها أبو بكر رضى الله تعالى عنه من بين الناس فبكى، وقال: «بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا وأموالنا يا رسول الله» .
وإن هذه الرواية فيها الوصية بالأنصار، لأنهم قوة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهم الذين آووا ونصروا وقد نفذت هذه الوصية فى عهد الراشدين وعمر بن عبد العزيز، أما ما كان من بنى أمية نحو الأنصار فالله أعلم بهم وهو مجازيهم عليه.
الأمر الثالث:
ما رواه البخارى عن الفضل بن عباس أنه قال: أتانى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو يوعك وعكا شديدا وقد عصب رأسه، فقال خذ بيدى يا فضل، فأخذت بيده حتى قعد على المنبر ثم قال: ناد فى الناس، فناديت الصلاة جامعة فاجتمعوا فقام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خطيبا فقال:
أما بعد أيها الناس قد دنا منى خلوف من بين أظهركم، ولن أفى هذا المقام فيكم، وقد كنت أرى أن غيره غير مغن عنى حتى أقوم فيكم، ألا فمن كنت قد جلدت له ظهرا، فهذا ظهرى فليستقد منه ومن كنت أخذت له مالا فهذا مالى، فليأخذ منه، ومن كنت قد شتمت له عرضا، فهذا عرضى فليستقد منه، ولا يقولن قائل إنى أخاف الشحناء من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ألا وإن الشحناء ليست من شأنى ولا من خلقى، وإن أحبكم إلى من أخذ حقا كان له على، أو حللنى، فلقيت الله عز وجل، وليس لأحد على مظلمة، فقام رجل، وقال: يا رسول الله لى عندك ثلاثة دراهم فقال عليه الصلاة والسلام، أما أنا فلا أكذب قائلا، ولا أستحلفه على يمين، فيم كانت لك عندى؟
قال أما تذكر أنه مر بك سائل فأمرتنى، فأعطيته ثلاثة، قال عليه الصلاة والسلام: «أعطه يا فضل» .
ثم عاد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مستمرا فى مقالته الأولى وقال: أيها الناس من عنده من الغلول شيء فليرده، فقام رجل فقال يا رسول الله عندى ثلاثة دراهم غللتها فى الله فقال عليه الصلاة والسلام، فلم غللتها؟ قال: كنت محتاجا إليها. قال عليه الصلاة والسلام: خذها منه يا فضل.(3/1087)
ثم عاد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مستمرا فى مقالته الأولى وقال: يا أيها الناس من أحس من نفسه شيئا فليقم أدعو له. فقام إليه رجل، فقال: «إنى لمنافق، وإنى لكذوب، وانى لشؤوم» فقال عمر بن الخطاب: ويحك لقد سترك الله لو سترت على نفسك؟. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مه يا ابن الخطاب فضوح الدنيا أهون عند الله من فضوح الآخرة، اللهم ارزقه صدقا وإيمانا وأذهب عنه الشؤم إذا شاء.
توديعه لابنته:
719- اختبر الله نبيه عليه الصلاة والسلام وهو بشر بفقد أولاده، واحدا بعد الآخر، لقد رزقه تعالى من خديجة أحب أزواجه إليه ستة: ذكران وأربع بنات، فقد القاسم والطيب وهو فى قوة شبابه، وفقد بعد ذلك وهو فى دار الهجرة ثلاث بنات من بناته، فقد رقية وهو فى غزوة بدر الكبرى ثم فقد زينب ثم أم كلثوم.
وأصيب وهو فى كهولته بموت إبراهيم أصغر أولاده، وكان قرة عين، وقال بعد دفنه متحاملا على أصحابه ناظرا إلى أحد: يا جبل إنك لا تحمل ما أحمل. وقال نبى البشر ذلك، وهو هاديء، فبكى عليه الصلاة والسلام والبكاء من الرحمن، والصراخ من الشيطان.
لم يبق له من أولاده إلا فاطمة الزهراء زوج أحب أصحابه إليه، فتجمع حب من فقدوا جميعا إذ صارت هى الوحيدة، والمستأثرة بالأبوة المحبة العطوف.
وكان لا بد أن يخصها بوداع لها بعد ذلك الوداع العام الذى ذكرناه.
وروى فى الصحيحين عن عائشة رضى الله تعالى عنها قالت: اجتمع نساء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عنده، لم يغادر منهن امرأة فجاءت فاطمة (رضى الله عنها) تمشى، لا تخطيء مشيتها مشية أبيها، فقال عليه الصلاة والسلام مرحبا يا بنتى فأقعدها عن يمينه (أو شماله) اختلاف فى الرواية، ثم سارّها بشيء فبكت، ثم سارها فضحكت، فقلت لها خصك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالسرار، وأنت تبكين فقلت أخبرينى ما سارك، فقالت ما كنت لأفشى سر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فلما توفى عليه الصلاة والسلام قلت: أسألك لما لى عليه من الحق لما أخبرتنى. قالت أما الآن فنعم، فقد سارنى فى الأولى، قال لى إن جبريل كان يعارضنى فى القرآن الكريم كل سنة مرة وقد عارضنى فى هذا العام مرتين ولا أدرى ذلك إلا لاقتراب أجلى، فاتقى الله واصبرى فنعم السلف أنا لك فبكيت ثم سارنى فقال أما ترضين أن تكونى سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة، فضحكت.(3/1088)
هذا وداع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لابنته، ويروى أنه قال لها إنها ستكون أول أهله لحاقا به.
هذا وداع الأب البار لابنته الزهراء سيدة نساء هذه الأمة.
إنك ميت وإنهم ميتون
720- روى البخارى أن عبد الله بن مسعود دخل على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له: إنك لتوعك وعكا شديدا!! فقال له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أجل، إنى أوعك كما يوعك الرجلان منكم، قلت إن لك أجرين!! قال عليه الصلاة والسلام نعم: نعم، والذى نفسى بيده، ما على الأرض مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه، إلا حط الله عنه خطايا كما تحط الشجرة ورقها.
وروى عن أبى سعيد الخدرى أنه وضع يده على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم إنى لا أستطيع أن أضع يدى عليك لشدة حماك، فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء، كما يضاعف لنا الأجر» .
وروى البخارى فى صحيحه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال فى مرضه: «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون، ثم الأمثال فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان فى دينه صلابة شدد عليه» .
أخذ المرض يدب إلى جسم نور الوجود محمد صلى الله تعالى عليه وسلم حتى ضعف، ومن قرابته من يحسب أن ما فيه من ذات الجنب، وكان هذا رأى أقرب أهله إليه العباس وكان من طبهم لذلك أن يلد المريض فى فمه، وقد لدوا رسول الحق صلى الله تعالى عليه وسلم وهو فى غفوة منه، فلما صحا أحس بأثره فى فمه، فأمر بأن يلد من كان فى حضرته واستثنى العباس، ولعله لمكانته من كبر السن، وفعل ذلك مع علمه بأن الذى أمر بلده هو عمه العباس رضى الله تعالى عنه، وقال عليه الصلاة والسلام فى اللد والتخوف من ذات الجنب: «إنها من الشيطان وما كان الله تعالى ليسلطه على» .
اشتد المرض برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولزم فراشه، فاستأذن نساءه فى أن يمرض فى بيت عائشة وقد روى البخارى خبرها فى ذلك قالت لما ثقل المرض على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم واشتد، استأذن أزواجه أن يمرض فى بيتى، فأذن له، فخرج، وهو بين الرجلين تخط رجلاه الأرض بين العباس بن عبد المطلب وبين رجل آخر. ولقد سئل ابن عباس عن الرجل الآخر الذى لم(3/1089)
تذكر اسمه فقال السائل- لا- قال ابن عباس هو على بن أبى طالب. لم تذكر اسم على فعفا الله عنها، ورضى عنها.
نقل الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم إلى بيت عائشة، وقد اشتدت الحمى، فكان يقول:
أهريقوا الماء على، فأراقوا عليه صلى الله تعالى عليه وسلم ماء كثيرا، حتى لقد روت أم المؤمنين عائشة أنه أهريق عليه سبع قرب من الماء، لم تحل أو كيتهن.
ولقد قالت عائشة رضى الله تعالى عنها فيما رواه البخارى كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات، ومسح عنه بيده، فلما اشتكى وجعه الذى توفى فيه طفقت أنفث عليه بالمعوذات التى كان ينفث بها.
صلاة أبى بكر:
721- اشتد المرض على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وشق عليه أن يؤم الناس للصلاة، فكان لا بد أن ينيب أحدا من المؤمنين الأولين الذين كانوا من أول الناس إسلاما، وكان خليله وصديقه وصفيه أبو بكر أول الرجال إسلاما هو المختار، فاختاره ليصلى بالمسلمين فلا تتعطل الإمامة للصلاة، ويخشى أن تتعطل الصلاة، وهى عمود الإسلام، ولا دين من غير صلاة.
روى الامام أحمد أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يخرج للصلاة فصلى بالناس عمر رضى الله تعالى عنه، وكان ذلك استجابة لقول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذ قال مروا من يصلى بالناس، فلم يكن من كبار الصحابة إلا عمر وزير رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الثانى، وكان عمر رضى الله تعالى عنه رجلا مجهرا، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأين أبو بكر، فبعث إلى أبى بكر، وهذا الخبر يدل على أن الإمام عمر ما صلى إلا فى غيبة أبى بكر، والاستجابة لأمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أمرا عاما، إذ يقول: مروا من يصلى بالناس، ثم عين من بعد صلاة عمر من يؤم الناس وهو أبو بكر رضى الله تعالى عنه.
روى البخارى عن الأعمش عن عائشة قالت لما مرض النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مرضه الذى مات فيه فحضرت الصلاة، فأذن بلال، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقيل له: إن أبا بكر رجل أسيف إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلى بالناس. وأعاد عليه الصلاة والسلام أمره فأعادوا كلامهم، فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: إنكن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصل، فخرج أبو بكر فوجد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى نفسه خفة، فخرج يهادى بين رجلين، كأنى أنظر إلى رجليه تخطان من(3/1090)
الوجع، فأراد أبو بكر أن يتأخر فأومأ إليه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن مكانك ثم أتى حتى جلس إلى جانبه، قيل للأعمش الراوى عن عائشة: فكان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وأبو بكر يصلى بصلاته، والناس يصلون بصلاة أبى بكر فأومأ برأسه. نعم.
وقد استمر أبو بكر طول مدة مرض النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يصلى بالناس، حتى توفى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وانتهى إلى الرفيق الأعلى، تاركا وراءه ذلك الميراث الإنسانى الخالد، وهو شريعة الله تعالى التى بلغها، وعلم الناس بها ما بين مشرق ومغرب فى الجزيرة العربية، ثم ترامى أمرها إلى ما وراءها.
وقد انقطع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى مرضه ثلاثة أيام لم يخرج إلى الناس فيها، وكان يصلى بهم أبو بكر كما ذكرنا، وقد كانت آخر صلاة صلى مع الناس صلاة الظهر، قبل الثلاث.
وروى البخارى عن أنس بن مالك رضى الله تعالى عنه، وكان ملازما للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن أبا بكر كان يصلى بهم فى وجع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الذى توفى فيه، حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف فى الصلاة، فكشف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ستر الحجرة ينظر إلينا، وتبسم يضحك، فهممنا أن نفتتن من الفرح برؤيا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم خارج للصلاة، فأشار إلينا أن أتموا صلاتكم، وأرخى الستر، وتوفى من يومه.
هكذا كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قائما على تبليغ رسالة ربه، حتى آخر جزء من حياته، فهو إذ يحتضر ينظر إلى مقدار استجابة الناس لدعوته إلى ربه، حتى إذا اطمأن تبسم ضاحكا، ثم أسلم نفسه لله تعالى، الذى قبضه إليه، ففاضت روحه الطاهرة، وانتقل إلى الرفيق الرحيم، انتقل إلى الملأ الأعلى.
لكل أجل كتاب:
722- استبشر المسلمون خيرا عندما أزاح عليه الصلاة والسلام الستر لينظر إليهم وهم يصلون وقد تبسم ضاحكا، فظنوا البرء والسلامة، وقد فرحوا، حتى كادوا يخرجون من الصلاة فرحا، ولم يظنوا أنها الوداع الأخير، ورؤية البلاغ الكامل الذى اعتقد أنه قد أتم تبليغ الرسالة.
كان ذلك فى يوم الاثنين إذ كانت هذه الرؤية المودعة، الأجل المكتوب، وكان أبو بكر الصديق الأمين قد اطمأن بهذه النظرة، فذهب إلى السنح حيث يقيم، ولكن ما لبث إلا قليلا، حتى نعى الناعى(3/1091)
رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فجاء لتكتحل عيناه برؤية الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم الذى كان ملء السماء والأرض وكان مسجى فى فراشه، ولنترك الخبر الأليم كما وصفته أم المؤمنين عائشة حب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، لنترك لها البيان:
بينما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على منكبى، إذ مال رأسه نحو رأسى فظننت أنه يريد من رأسى حاجة فخرجت من فيه نقطة باردة، فوقعت فاقشعر لها جلدى فظننت أنه غشى عليه، فسجيته ثوبا فجاء عمر، والمغيرة بن شعبة فاستأذنا فأذنت لهما، وجذبت إلى الحجاب. فقال عمر واغشياه ما أشد غشى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم قاما، فلما دنوا من الباب قال المغيرة لقد مات رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال عمر: كذبت، بل أنت رجل تحوطك فتنة، إن رسول الله لا يموت حتى يفنى المنافقين، فكأن عمر رضى الله تعالى عنه كبر أن يموت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما يموت الناس، وقد دفعه إلى ذلك فرط محبته، وجاء أبو بكر الصديق، فنظر إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال إنا لله وإنا إليه راجعون. مات رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم أتاه وقبل رأسه وقبل جبينه، وقال واصفياه، ثم قبل جبهته، وقال: واخليلاه، مات رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
خرج عمر رضى الله عنه إلى المسجد يخطب فى الناس، ويقول: إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا يموت حتى يفنى المنافقين. عندئذ تقدم أبو بكر ثم قال: إِنَّكَ مَيِّتٌ، وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ، وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ، وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً، وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (آل عمران) فمن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت، ومن كان يعبد محمدا، فإن محمدا قد مات.
وروى أن أبا بكر عندما قبل جبهة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال: فداك أبى وأمى ما أطيبك حيا وميتا.
وروى أن عمر رضى الله عنه توعد بالقطع أو القتل من يقول إن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم قد مات.
وروى أن خطبة أبى بكر كانت أطول مما ذكرنا، ويروى أنه رضى الله عنه، حنى على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقبله وبكي، وكل هذه أخبار ثقات، يجمع بينها، ولا تنافر فيها، فكل حفظ ما سمع، وشهد بما رأى، والناس جميعا كانوا فى فزع وجزع.(3/1092)
وخطبة أبى بكر التى هى أطول مما ذكرنا ابتداء، قال فيها:
ليس ما يقول ابن الخطاب شيئا، توفى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم قال باكيا، والذى نفسى بيده، رحمة الله عليك يا رسول الله، ما أطيبك حيا وميتا، ثم غشاه بالثوب، ثم ذهب إلى المسجد سريعا، وقال: إن الله عز وجل نعى نبيه إلى نفسه، وهو حى بين أظهركم، ونعاكم إلى أنفسكم، وهو الموت حتى لا يبقى منكم أحد إلا الله عز وجل قال تعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ، وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً، وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (آل عمران) وقال تعالى لمحمد إِنَّكَ مَيِّتٌ، وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ وقال تعالى كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ. وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (الرحمن) وقال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ (آل عمران) .
إن الله عمر محمدا وأبقاه حتى أقام دين الله، وأظهر أمر الله، وبلغ رسالة الله، وجاهد فى سبيل الله، ثم توفاه الله على ذلك، وقد ترككم على الطريقة، فلن يهلك هالك إلا من بعد البينة والشفاء، فمن كان يعبد الله ربه، فإن الله حى لا يموت فاتقوا الله أيها الناس، واعتصموا بدينكم، وتوكلوا على ربكم، فإن دين الله تعالى قائم، وإن كلمة الله تامة، وإن الله ناصر من ينصره، ومعز دينه، وإن كتاب الله تعالى بين أظهرنا، وهو النور والشفاء، وبه هدى الله تعالى محمدا، وفيه حلال الله تعالى وحرامه، والله لا يبالى من أجلب علينا من خلق الله، إن سيوف الله تعالى لمسلولة ما وضعناها بعد، ولنجاهدن من خالفنا، كما جاهدنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فلا يبغين أحد إلا على نفسه.
هاتان خطبتان للصديق رضى الله تعالى عنه، فى يوم الفزع الأكبر، ولعله كان يكرر قوله كلما رأى هلعا، وجزعا، ليرد إليها شارد لبها، وقد طاشت أحلام، وهلعت قلوب، فكان يكرر التثبيت.
غسل الجثمان الطاهر ودفنه:
723- اتجه المؤمنون إلى إقامة خليفة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبل أن يغسل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ويوارى جثمانه الطاهر، فقد اجتمع الأنصار، وعلى رأسهم سعد ابن عبادة ليفكروا فى هذا، فأسرع إليهم أبو بكر وعمر رضى الله عنهما خشية أن يتفرق أمر المؤمنين، فى سقيفة بنى ساعدة، وأنهوا أمر الخلافة باختيار أبى بكر رضى الله تعالى عنه خليفة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم يحضر الاجتماع أحد من بنى هاشم أو أقرباء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم(3/1093)
الأدنون، العباس وعلى وغيرهما من بنى هاشم، ولعل ذلك كان لانشغالهم بأمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
وقد انتقل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ضحى يوم الاثنين، فمكث بقية يوم الاثنين وبعض يوم الثلاثاء، حتى إذا تمهدت الأمور وتمت كما ذكر الحافظ بن كثير شرعوا فى تجهيز النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
ويقول ابن إسحاق: لما بويع أبو بكر أقبل الناس على جهاز رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقد كانت وفاته يوم الاثنين، وغسله ودفنه ليلة الأربعاء.
اجتمع الناس لغسل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وليس فى البيت إلا أهله، وعمه العباس ابن عبد المطلب، وعلى بن أبى طالب، والفضل بن عباس، وقثم بن العباس، وأسامة بن زيد بن حارثة، ودخل من بعد أوس بن خولى الأنصارى البدرى الخزرجى نادى عليا، فقال: يا على ننشدك الله، وحظنا من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال له على: ادخل فحضر الغسل.
وغسل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وعليه قميصه، وتولى الغسل على كرم الله وجهه فأسنده إلى صدره، وعليه قميصه، وكان العباس وفضل وقثم يقلبونه مع على، وكان أسامة بن زيد وصالح مولاه يصبان الماء، وجعل على يغسله، ولم ير منه شيئا، وهو يقول بأبى أنت وأمى ما أطيبك حيا وميتا، وكانوا يغسلونه صلى الله تعالى عليه وسلم بالماء، والسدر، جففوه، ثم صنع به مما اختلط بالماء.
وقد كفنوه صلى الله تعالى عليه وسلم فى ثلاثة أثواب اثنان أبيضان وثالث حبرة.
ودفن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى بيت عائشة حيث مات، لخبر نسب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن الأنبياء يدفنون حيث يموتون.
وقد تولى دفنه عليه الصلاة والسلام أربعة من أهله ومواليه العباس وعلى، والفضل ابن عباس، وصالح مولاه، لحدوا له لحدا، ونصبوا اللبن نصبا.
هكذا انتهت الحياة الدنيوية لأكرم خلق الله على الله، وأكرم إنسان للإنسانية، عاش حياته مجاهدا منذ خلقه الله تعالى إلى أن قبضه سبحانه وتعالى إليه، جاهد الرذيلة غلاما، فكان الفاضل فى صباه، وكان الأمين فى شبابه لم تكن الحياة أمامه رخاء سهلا، بل ذاق اليتم، وإن لم يقهر، كما يقهر اليتامى، وذاق طعم الفقر، وإن لم يترب نفسه، حتى إذا كلف أداء الرسالة حمله، حمل عبئها، وذاق مرارة الأذى فى(3/1094)
سبيلها، وهو صابر مصابر، حتى إذا هاجر حمل السيف مجاهدا، كما حمل القرآن الكريم هاديا معلما، يعلى الإنسانية ويكرمها، ويسامح ويواد، حتى كان الإنسان الكامل فى هذا الوجود؛ وإذا كان قد دفن جسده فلن تدفن شريعته.
تركة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم
724- لم يترك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مالا. ولم يكن لديه فى آخر حياته عند وعكة الموت إلا ذهبة تصدق بها فى آخر حياته، فلم يكن مالكا لمال، ولكن إذا كان مال كان لما يقدمه للبر، فكان يعيش على خبز الشعير، ويمر المال بيده، مرور الماء، ويسيل إلى الضعفاء والمساكين، وأبناء السبيل واليتامى فلا يبقى فى يده شيء، وإذا بقى لا يكون ميراثا لأهله، وهو يقرر فى شريعته «نحن معاشر الأنبياء لا نورث وما تركناه صدقة» ، فكأن كل ما يتركه صدقة لا يملكه ولد ولا عم، بل فى مصرف الخير والبر، فما كان الأنبياء ليختزنوا مالا، ولا يورثوا تراثا، ولكن يورثون علما، وشرعا، وبلاغا للناس، فذلك ميراثهم، وهو خير تركة زاخرة، وهى العلم الكامل.
ولقد كان ثمة خلاف فى أرض «فدك» ذكرناه فى موضعه، ولم تكن فدك كما يصور التاريخ ملكا للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، بل كان على حكم ملك اليتامى والمساكين والفقراء، وأبناء السبيل، يصرف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما يفيء إليه من غلاتها فى مصارفها، وكان لأهل البيت وذوى القربى حظ مقسوم، ولما جرى الخلاف بين سيدة نساء المؤمنين فاطمة الطاهرة بنت أطهر من أقلته الأرض، وأظلته السماء، لم يكن خلافا على الملكية، كما توهم عبارات المؤرخين، بل كان خلافا على إدارتها، وصرفها فى مصارفها، إذ كان فيها نفقات لأمهات المؤمنين، فيتولى ذوو القربى ما كان يتولاه هو عليه الصلاة والسلام، فعارض فى ذلك الصديق رضى الله عنه.
ثم كان من بعده أن وافق عمر رضى الله تعالى عليه، على أن تكون الإدارة بين العباس وعلى، على ما ذكرنا من قبل. وإن الميراث العظيم الذى تركه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم شريعته، وهى محفوظة بحفظ القرآن الكريم إذ يقول سبحانه وتعالي: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (الحجر) .(3/1095)
زوجات النبي صلى الله تعالى عليه وسلم
725- يحلو لبعض الكتاب غير المسلمين أن يقولوا، إن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم كان رجلا شهوانيا، بدليل أنه تزوج نحو ثلاث عشرة، وتوفى عن تسع وقد أسرفوا على أنفسهم فى القول، وعلى الحقيقة فطمسوها فى زعمهم، ولكن الحق أبلج، نير يكشف دائما ما يكون من غمة يحاول أصحابها أن يعموا الحق ويدلسوا على أهله.
لقد زعموا أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم شهوانى، لزواجه، ونحن نتخذ من زواجه دليلا على أنه لم يكن شهوانيا، بل كان أقرب إلى أن يكون سلبيا، لا تغلبه شهوة، ولا يسيطر عليه هوى فى أى ناحية من النواحى.
لقد تزوج أم المؤمنين خديجة وهو شاب مكتمل القوى فى الخامسة والعشرين من عمره، وكانت هى فى الأربعين من عمرها، وعاش معها نحو ست وعشرين سنة، أى تجاوزت نحو السادسة والستين، وأنجب منها ستة أولاد، ولم يفكر فى أن يتزوج عليها، وكان معروفا بالعفة، والشهوات تتقزز فى نفس أمثاله ممن هم فى مثل سنه، وهو بالنسبة لهم العفيف النزيه الذى لم يزن بريبة قط، ونساء قريش يتمنين أن يكون ضجيعا لهن، ولكنه كان فى عزوف عن كل شهوة، ونظرة إلى النساء.
حتى إذا توفيت أم المؤمنين خديجة وقد تكاثرت مشاغله، فكان مشغولا بالدعوة إلى التوحيد ومكابدة الأذى الذى تفاقم بعد وفاة خديجة وعمه أبى طالب.
ولقد كان التعدد من بعد ذلك، ولمقاصد ليست هى الشهوة، كما أن الشهوة ليست بعض هذه العناصر، والدلائل تدل على أنها كانت بعيدة كل البعد.
وإنا نذكر أن هذا التعدد كان إما لأن امرأة بعض الصحابة الذين جاهدوا معه قد قتل وهو يهاجر، وكانت امرأته أهلها فى الشرك، فإما أن تعود إليهم فتتعرض للعذاب والردة ولا أحد معها فى دار الهجرة من قومها، فيتحمل هو عبء الزواج منها حفاظا لها ورعاية، ولا ينظر فى ذلك إلى أنها يرغب فى الزواج منها، أو ليس فيها ما يرغب إلا رعايتها وحمايتها، إما هذا، وإما ليربط بها مع معين له فى التبليغ، فيرتبط معه برباط المصاهرة مع رباط الإيمان، وإما لإنقاذ امرأة من الرق، من غير نظر إلى كونها جميلة أو غير ذلك.
وإما لبيان أحكام شريعة فيطبقها عملا، ليكون أسوة للناس فى محاربة أمر جاهلى قد اعتادوه، وإن لم يقره الإسلام، فيفعله النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لكيلا يكون حرج على الناس أن يفعلوه. وإما ليرتبط بالقبائل العربية، ليتخذ منها دعاة للإسلام. وإما لإزالة النفرة، وجلب المودة.(3/1096)
هذه بعض مقاصد التعدد وكلها أو جلها لحماية المرأة من الضياع، فقد حمل نفسه عليه الصلاة والسلام بأمر ربه عبء ذلك، فكان الزواج تكليفا، لا للرغبة بله الشهوة.
وهذا إجمال، ولنذكر تفصيله فى زواج كل امرأة من أمهات المؤمنين بعينها.
لقد كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن يعقد زواجه ممن كتب عليه أن يتزوجها، لا يدخل بها إلا بعد أن يتأكد رضاها بهذا الزواج، وأنها راغبة فيه راضية، فيطلب إليها أن تهب نفسها له.
726- وعدد زوجات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ثلاث عشرة وكانت له جاريتان مارية القبطية وريحانة بنت زينب، وقد أعتق ريحانة فأسلمت، ولحقت بأهل لها، وبقيت مارية، وروى أنه أعتقها وتزوجها، وبقيت عنده، حتى توفى صلى الله تعالى عليه وسلم.
وأول أزواجه صلى الله تعالى عليه وسلم أم المؤمنين خديجة، وقد ذكرنا خبر هذا الزواج فى موضعه من حياة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد بقى معها نحو ست وعشرين سنة كما أشرنا، وكان له منها أولاده الستة، القاسم والطيب، وقد ماتا قبل الهجرة، أو قبل البعثة، ورقية وأم كلثوم وزينب وفاطمة، وماتا قبله، ولم يمت بعده إلا فاطمة، وقد ماتت رضى الله عنها بعد وفاته بستة أشهر، وبأولادها حفظت العترة المحمدية فى ولديها الحسن والحسين وهما سيدا شباب أهل الجنة، كما ورد بذلك الأثر عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. ولم يتزوج فى حياتها غيرها، كما ذكرنا.
وتزوج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من بعدها قبل الهجرة سودة بنت زمعة، وكانت نحو سن خديجة أى فى ست وستين من عمرها، ولم تكن فى جمال خديجة.
وكانت قد أسلمت مع زوجها، وهاجرا إلى الحبشة فرارا من أذى الجاهليين من قريش، ومات بعد أن عادا، وكان أهلها لا يزالون على الشرك، فإذا عادت إليهم فتنوها فى دينها، فتزوجها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حماية لدينها من الفتنة.
وتزوج من بعدها أم المؤمنين عائشة بنت صاحبه الصديق، وكانت فى نحو التاسعة من عمرها فما كانت لتشتهى لأنها كانت ضاوية، حتى يقال إنه تزوجها للشهوة، ولم يدخل بها إلا بعد الهجرة، وما كان الزواج إذن لشهوة يبتغيها، ولكن لصحبة بالصديق يوثقها، بالمصاهرة، وهى تشبه النسب، وقد كان أحد وزيريه.
ويروى أنه تزوجها قبل سودة، ولكن الرواية الراجحة ما ذكرنا، ولعل التقارب فى الزمن بين الزواجين لم يعين السابق منهما تعيينا دقيقا فى الروايات.(3/1097)
3- وبعد الهجرة تزوج عليه الصلاة والسلام حفصة بنت عمر بن الخطاب وكانت زوجا لخنيس بن حذافة مات عنها مؤمنا.
وكان الزواج لتوثيق الصحبة بأبيها رضى الله عنه، فقد كان الوزير الثانى للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم. وما أحاط بزواجه يدل على أن مودته عليه الصلاة والسلام هى التى دفعت إلى هذا الزواج، ذلك أن عثمان رضى الله تعالى عليه لما ماتت زوجته رقية وغزوة بدر قائمة، رغب عمر رضى الله عنه فى أن يزوج ابنته حفصة من عثمان رضى الله تعالى عنه، فعرض عليه، فسكت عثمان، فشكا عمر ذلك للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال سيتزوجها من هو خير من عثمان، وسيتزوج عثمان من هى خير من حفصة، فتزوج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حفصة، وتزوج عثمان أم كلثوم بنت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
وترى من هذا أن زواجه عليه الصلاة والسلام منها كان ربطا للمودة وإرضاء للقلوب.
4- وتزوج عليه الصلاة والسلام والحرب قائمة بينه صلى الله تعالى عليه وسلم وبين المشركين بقيادة كبيرهم أبى سفيان، تزوج أم حبيبة رملة بنت أبى سفيان هذا.
كانت قد سافرت مع زوجها عبد الله بن جحش إلى الحبشة، ولكنه تنصر، وخرج عن الإسلام فكانت بين أن ترجع لأبيها زعيم الشرك فتفتن فى دينها، وبين أن تعود إلى المدينة المنورة لا مأوى لها، فاواها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بزواجه منها، فبعث النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عمرو بن أمية الضمرى إلى أرض الحبشة فخطبها عليه الصلاة والسلام، فزوجها منه عثمان بن أبى العاص، ودفع النجاشى صداقها. وهو أربعمائة دينار. وبعث بها إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
وبهذا الزواج أصاب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هدفين: أحدهما أنه وقاها من الشرك وأن تفتن فى دينها، وأصهر من أبى سفيان الذى سر منه، ورحب به، وروى أنه قال: نعم الفحل محمد.
5- وتزوج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم زينب بنت خزيمة، وهى من بنى عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة، ويقال لها أم المساكين، وقد قتل زوجها يوم أحد، وكان ذلك إيواء لها، وتشجيعا لها على إعانة المساكين، ولكنها لم تلبث إلا قليلا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم توفيت فى حياته عليه الصلاة والسلام.
6- وتزوج النبى عليه الصلاة والسلام زينب بنت جحش، وكانت زوجا لزيد بن حارثة، وقد تزوجته على أنه ابن محمد صلى الله تعالى عليه وسلم إذ أطلق النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك الاسم، لما رفض أن يعود مع أهله، ورضى أن يبقى مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فلما أنزل الله(3/1098)
سبحانه وتعالى على نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ، وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ (الأحزاب) تململت ببقائها مع زيد، إذ تبين أنه ليس بقرشى، وقد تململ زيد من كبريائها واستأذن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى طلاقها، فقال له: اتق الله وأمسك عليك زوجك، وقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم أن يتزوجها بعد أن يطلقها زيد، ولكنه أخفى ذلك، وخشى مقالة الناس أن يقولوا تزوج محمد زوجة ابنه.
ولكن الله تعالى أمره بقوله تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ (الأحزاب) وإن الله تعالى أمره بذلك لكى لا يكون على المؤمنين حرج فى أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا فأمر النبى عليه الصلاة والسلام بذلك الزواج لكى تزول تلك العادة المستحكمة فيهم وهى عادة التبنى التى سرت إليهم من الرومان، وليست من طبائع القرابة، بل هى كذب، وافتراء وفساد للأسرة، إذ يدخل فيها ما ليس منها.
727- واقرأ الآيات التى اشتملت على ذلك:
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً. وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ، أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ، وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ، وَتَخْشَى النَّاسَ، وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ، فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها، لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ، إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا. ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً. الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ، وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ، وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً. ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ، وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً»
(الأحزاب- 36: 40) .
هذا أمر زينب بنت جحش، وزيد بن حارثة كما ساقها القرآن الكريم، وهى تدل:
أولا: أنه فى الجاهلية كان يعتبر الدعى- أى المتبنى- ابنا وألغى الله تعالى حكم هذه العادة، وقد تلونا من قبل فى أول سورة الأحزاب ما يدل على ذلك.(3/1099)
ثانيا: على أن الله تعالى اقتضت حكمته أن يؤكد إبطال ذلك الحكم الجاهلى الذى يدخل فى الأسرة بحكم النسب من ليس منها، فلا تتعاطف بحكم الفطرة، وتفسد الأسر، واقتضت حكمته أن يكون تأكيد الإبطال بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يتزوج زوجة دعيه، وقد فسدت العلاقات بينهما بتململ القرشية من أن تكون تحت غير قرشى هو عتيق وليس ابنه، فاستكبرت، وتململ زيد من كبريائها فأراد تطليقها، فقال له الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أمسك عليك زوجك، وهو يعلم أن الله كتب أن يطلقها، وكتب على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أن يتزوجها، ولكنه يخفى فى نفسه ما لا يبديه من أن الله تعالى كتب الطلاق من زيد، وللزواج منه صلى الله تعالى عليه وسلم لأنه يخشى أن يجابه العرب، بمخالفة ما ألفوا.
ولقد أمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يتزوجها بعد الطلاق لكيلا يكون على المؤمنين حرج فى أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهم وطرا. كما دلت الآيات:
ثالثا: على أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكن أبا لأحد من رجال العرب، إن انتفت أبوة الأدعياء، هذا ما تدل عليه الآيات الكريمات بظاهرها، ومقصدها ومرماها.
ولكن الذين يفسدون المعانى، ويريدون الكيد للإسلام اخترعوا هذا اختراعا فى العهد الأموى، اخترعها يوحنا الدمشقى ونشرها بين المسلمين ليقولها أتباعه، وينشروها بين بعض التابعين، وقد توهم صدقها بعض الذين تبهرهم الروايات من غير تمحيص، ومع الأسف كان من بين هؤلاء أبو جعفر بن جرير فنقلها مصدقا لها، ونقلها أكثر المفسرين عنه، حتى بين كذبها وافتراءها ابن كثير فى كتابه تفسير القرآن العظيم، رضى الله تعالى عنه، وعفا الله عن الطبرى فى أن نشر ذلك الضلال، وإن نقل الكذب لا يحوله إلى صدق، ولو كان الطبرى ناقله.
ومن الغريب أن حملوا الآية الفرية التى افتروها، وكان المتعصبون من غير المسلمين هم الذين ادعوها، لقد ادعوا أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم رآها تغتسل، فوقع فى قلبه حبها، فأراد من زيد أن يطلقها ليتزوجها، وادعوا أن ذلك هو ما أخفاه، وخشى من الناس، وأن الله أبداه، وإن ذلك لا يمكن أن ينطبق بحال من الأحوال على معانى الآية وظواهرها، إلا أن يكون ذلك اختراعا اخترعوه، ويدل على مناهضة الآية لهذه المعانى الفاسدة ما يأتى:
أولا: أن الزواج منها لم يكن كما تدل الآية برغبة من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، حتى تكون الشهوة هى المحركة، بل إن الزواج كان بأمر الله تعالى وذلك بنص الآية بقوله تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ.(3/1100)
ولأن الله تعالى نسب التزويج إلى ذاته العلية، بأن الله تعالى هو الذى قال: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها وذكر سبحانه وتعالى السبب فى هذا الزواج الذى فرضه الله تعالى وتولى تعالى عقده ليس الشهوة، وإنما هو ألا يكون على المؤمنين حرج فى أن يتزوجوا أزواج الذين يتبنونهم وليس شهوة، ولا ما يشبهها.
والخشية التى خشيها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هى مجابهة ما عليه الجاهلية، فعاتبه سبحانه وتعالى على هذه الخشية بأن الله تعالى أحق بأن يخشاه فيطيع أوامره.
وثانيا: أن الله تعالى قال: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ فيقولون هو العشق الذى أخفاه، والآية تناقض ذلك، لأن الله تعالى ما أبدى عشقا، ولكن أبدى الأمر بالزواج، فكان هو الذى أخفاه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على زيد، وقال: أمسك عليك زوجك واتق الله.
وثالثا: أن الآية الكريمة تدل بنصها ومغزاها على أن موضوعها منع أن يكون المتبنى ابنا، ولذلك أمر الله تعالى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يتزوج امرأة دعيه، ليكون بيانا للشرع عمليا، كما بينه النص القرآنى، قولا مفروضا بالمنع المؤكد.
ولذلك أكد سبحانه وتعالى النفى بقوله تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ، وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ هذا هو المعنى الجلى من غير تلبيس كذاب، ولا اتباع متوهم.
وكنا نود أن يدرك المفسرون، والذين يتكلمون فى معانى القرآن الكريم، وأخبار النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حقيقة هذه الفرية، ومصدرها، الذى أراد إفشاءها كيدا للمسلمين بعد أن بين ابن كثير الحافظ للسنة، كذب هذه الرواية، ورد كلام ابن جرير ردا قويا.
وكنا نود أن يتعرف الذين يكذبون الآن فى السيرة ذلك، وكنا نحسب أن لهم ذوقا بيانيا، وعمقا فى دلالات الألفاظ ومراميها، كنا نود منهم أن يمحصوا القول ويدركوه، ولكن غلبت النزعة الروائية التى نسمع أمثالها منسوبا إليهم، فكتبوا فيما تصدوا له من كلام فى السيرة عنوانا يقول: النبى العاشق، وقد كتبوا تحت العنوان تلك الفرية المفتراة على أنها وقائع وقعت، وكأنها قصة من الروايات التى كتبوها.
وتبعهم من يقلدونهم من غير أن يفرقوا بين حق وباطل، ولا أقول عفا الله عنهم، لأن أقوالهم لا تزال تردد منسوبة إليهم، ولهم فى المجتمع الأدبى مكانة، جزاهم الله تعالى بمقدارها.(3/1101)
زواجه عليه الصلاة والسلام ببقية نسائه:
728- 7- وتزوج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أم سلمة واسمها هند بنت أبى أمية بن المغيرة، وهى مخزومية، وقد مات عنها زوجها، أبو سلمة، وهو عبد الله بن عبد الأسد.
وعند موت زوجها، وقد توفى عنها وهى شابة طلب إليها أن تتزوج من بعده، ودعا لها مخلصا أن يتزوجها من هو خير منه، وقد رأى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنها ذات عيال، ويحتاجون إلى من يرعاهم، وكانت هى وزوجها مهاجرة، فانقطعت عن ذويها، ولا بد لها هى وأولادها من يحوطهم ويرعاهم، فكان عليه الصلاة والسلام، وتزوجها لرعايتها ورعاية أولادها.
8- وتزوج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جويرية بنت الحارث ويقول ابن هشام فى زواجها: «لما انصرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من غزوة بنى المصطلق، ومعه جويرية بنت الحارث- دفع بجويرية إلى رجل من الأنصار وديعة عنده- وأمره بالاحتفاظ بها، وقدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة المنورة، فأقبل أبوها الحارث بن أبى ضرار بفداء ابنته، فلما كان بالعقيق نظر إلى الإبل التى جاء بها للفداء، فرغب فى بعيرين منها، فقال: يا محمد أصبتم ابنتى، وهذا فداؤها، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: فأين البعيران اللذان غيبتهما بالعقيق فى شعب كذا. فقال الحارث:
أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله صلى الله تعالى عليك وسلم، فو الله ما اطلع على ذلك أحد. فأسلم الحارث، وأسلم معه ابنان له......» .
وإن الغزاة كانوا قد أسروا من قومها نحو مائة، فلما تزوجها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من أبيها، وكانت قد أسلمت أطلق كل من كان فى يده أحد من الأسرى أسراه. وقال: كيف نسترق أصهار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فعتق بزواجه عليه الصلاة والسلام أهل مائة من بيوت بنى المصطلق، وتقول أم المؤمنين عائشة فى ذلك: «ما كانت امرأة أبرك على قومها من جويرية، لقد عتق بها مائة بيت من بيوت قومها» .
ونرى من هذا أن زواج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان بقصد عام، وهو أن يعتق هؤلاء الناس وألا يسجل على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إنشاء الرق، فيكون ممنوعا إلى الأبد، ولو كان الأعداء يسترقون منا، ومن غير أن يتركهم يسترقون، فيكون مباحا إلى الأبد.
فما كان الزواج شهوة، بل كان للعتق.(3/1102)
9- وتزوج صلى الله تعالى عليه وسلم صفية بنت حيى بن أخطب، وقد سيقت مع أختها، ومرّ بهما بلال على قتلى خيبر، والذين أسروا فيمن أسر منهم، فلام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بلالا، وقال له: أليس فى قلبك رحمة، أتمر بالفتاتين على قتلى قومهما. وعرض الفتاتين ليتزوجهما بعض الصحابة فتزوجت أختها وبقيت هى فتزوجها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ليطيب نفسها وليرقأ جرحها.
10- وتزوج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ميمونة بنت الحارث بن حزن الهلالية وقد اختارها زوجا له العباس بن عبد المطلب لتوثيق ما بينه عليه الصلاة والسلام وبين القبائل العربية وقد أصدقها العباس رضى الله عنه من ماله أربعمائة درهم ويروى أنها هى التى وهبت نفسها للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك أنها لما علمت خطبة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قالت للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: البعير وما عليه لله ولرسوله. وكانت على بعير عندما انتهت إليها الخطبة وقد قال الله تعالى:
وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ......
729- هؤلاء عددهن عشر وهن بعد خديجة وبضمهن إليها يكون العدد إحدى عشرة وكلهن دخل بهن ولذلك يعدون أمهات المؤمنين ولا يتزوجن أحدا بعده ولذلك قال تعالى:
«وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ» (الأحزاب) وقال فى منع زواجهن من بعده: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً (الأحزاب) .
ويقول الرواة إن عدد أزواج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ثلاث عشرة فهن أمهات المؤمنين ومات عن تسع إذ ماتت فى حياته خديجة وزينب أم المساكين.
وتزوج باثنتين لم يدخل بهما وهما- أسماء بنت النعمان الكندية تزوجها فوجد بها بياضا فى إبطها فسرحها بمعروف ومتعها بعد أن طلقها وقد كانت كندية وقبائل كندة كانت بعيدة عن المدينة المنورة، وقد أسلمت فكان لا بد أن يربط النبى صلى الله تعالى عليه وسلم برباط بينها وبينه ليؤنسها بهذه المصاهرة فى هذا البعد المترامى.
والثانية: امرأة من سلالة النعمان اسمها أميمة بنت النعمان بن شرحبيل وقد أراد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يتزوجها لأنها من أطراف الجزيرة العربية فى الجنوب وهو عليه الصلاة والسلام يريد أن يقرب البعيد ويزيل الوحشة وقد كانت المصاهرة رباطا وثيقا بين كبراء القبائل تنهى حربا أو تدفع قتالا وما كان على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من غضاضة فى أن يوثق ما بينه وبين القبائل بهذه المصاهرة.(3/1103)
ويروى فى زواجه منها أنه عليه الصلاة والسلام عندما دخل بها وكان عليه الصلاة والسلام إذا تزوج امرأة طلب منها أن تهب نفسها له عليه الصلاة والسلام استيثاقا من رضاها به زوجا فقد كان يعقد أولياء المرأة وخشية ألا يكون ذلك برضا حر فيه اختيار كامل فلما اختلى بها قال لها هبى نفسك لى اعترتها نعرة جاهلية فقالت وهل تهب الملكة نفسها للسوقة ثم قالت أعوذ بالله فقال عليه الصلاة والسلام لقد عذت بمعاذ عظيم فطلقها وسرحها سراحا جميلا.
العبرة
730- هذه زيجات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بلغت عدتهن ثلاثة عشر من الأزواج ماتت اثنتان فى حياته الكريمة الطاهرة وهما أم المؤمنين خديجة أفضلهن وأكثرهن عطفا وقد سمى عام موتها مع عمه الحانى الكريم عام الحزن والثانية زينب أم المساكين رضى الله عنها.
واثنتان لم يدخل بهما وطلقهما قبل الدخول لعيب جسمانى فى إحداهما ولنفرة من الثانية بدت فى قولها وقد عاشت إلى ستين عاما بعد الهجرة وكانت تسمى نفسها الشقية لحرمانها من جوار أكرم من فى الوجود من خلق الله سبحانه وتعالى.
وقد كان يعتزل بعضهن أحيانا ويرجيء الاتصال بهن أحيانا وعلى أى حال فقد انتهى الحل له صلى الله تعالى عليه وسلم بهذا العدد إذ تحققت فيه كل المقاصد الاجتماعية التى تتعلق بالدعوة وقال تعالى فى ذلك:
تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ، ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً. لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً.
وإن هذا النص الكريم يدل على أمرين جليلين:
أولهما: منع الحل بعد هذا العدد، إذا استوفى التعدد بالنسبة لتعدد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مقصده وإن هذا العدد خاص بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم فقد قال تعالى من قبل فى تحليل هذا القدر من العدد: خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ (الأحزاب) .(3/1104)
ثانيهما: أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكن يتصل بنسائه جميعا كل ليلة- كما توهم عبارات بعض المحدثين- مما أخذ منه أعداء الإسلام ادعاء أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان شهوانيا واستندوا إلى أقوال هؤلاء وإلى تهافت بعضهم فى القول حتى إنه ليقول كان عند النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قوة أربعين رجلا، فالآية ترد كل هذا، فقد كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يرجيء من يشاء منهن ويؤوى إليه من يشاء ويعتزل بعضهن ويبتغى من يعتزل من بعد ذلك، مما ينافى ما ادعاه بعض المحدثين من أنه عليه الصلاة والسلام كان يمر عليهن ويتصل بهن واحدة واحدة كل ليلة مما فتح الباب للمغرضين والكذابين من أعداء الإسلام والمنحرفين ممن تسموا بأسماء المسلمين.
بقى أن نتكلم فى بعض أسباب هذا التعدد:
قد أشرنا من قبل إلى أن تعدد زوجات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان لإيواء الضعيفات من أزواج المهاجرين اللائى لا مأوى لهن فى هذه الغربة التى انقطعن فيها عن أهليهن، ولربط الصلات بينه وبين كبار أصحابه، ولمنع تحكم الوثنيين فيمن تربطهم رابطة نسب من نساء المهاجرين الذين يقتلون أو يموتون أو يرتدون وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى ذلك فى قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ (الأحزاب)
ويستفاد من هذا النص أن زواج المهاجرات كان للرحم التى تربطه بهن من عمومة أو خؤولة وأن ذلك يشمل قرابته لقريش فلا يضيعهن عند موت أزواجهن شهداء بل لا بد أن يتولى هو إيواءهن فى ظله الظليل.
وقد رأيت أن بعضهن تزوجها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأمر ربه تبيينا للشرع وتنفيذا لأحكامه وقد تعرض النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأمر ربه لمجابهة العرب فيما كانوا يألفون ويرونه أمرا طبيعيا لا يخالف وقد تأثر به بعض المؤمنين حتى إن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد حدث منه ذلك قبل الحكم بالمنع فبين الله تعالى أنه ضد الحقيقة وأن البنوة تكون من الصلب لا من الادعاء وأشار سبحانه وتعالى إلى أنه إدخال فى النسب ما ليس منه إذ قال سبحانه: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ (الأحزاب) .
731- وهناك أمران آخران فى حكمة تعدد زوجات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم غير ما(3/1105)
سبق ذكره أو أشير إليه من أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يتزوج لتوثيق المعاونة بمن يحب من أصحابه وإعانة الضعيفات من النساء حتى إنه كان يتحمل عبء من ليس له ولى من قريب أو ذى حسب ولكيلا ترتد بعد إيمان، والارتباط بالمصاهرة بين من تنأى ديارهم وقد يلحون فى العداوة بينهم وبينه صلى الله تعالى عليه وسلم.
نقول هناك أمران غير هذا الذى ذكرناه أو أشرنا إليه.
أحدهما: أن يتولى نساء النبى صلى الله تعالى عليه تعليم نساء المسلمين فى أمور دينهن فما كان النساء بعد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى عهد الصحابة والتابعين يغشين مجالس العلم يتعلمن أمور الدين بل كن يذهبن إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يسألنه فى حياته، ومن بعده كن يسألن أزواجه أمهات المؤمنين، كعائشة وأم سلمة وغيرهما ممن عمرن بعد الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ولعله من فضول القول أن نقول إن كثيرا من الأحكام الخاصة بالمرأة رويت عن أم المؤمنين عائشة رضى الله تعالى عنها وعن أبيها الصديق.
وإن حفصة أم المؤمنين كانت الأمينة على المصحف الذى انتهت كتابته فى عصر أبيها الإمام الفاروق رضى الله تعالى عنه وجزاه عن الإسلام خيرا.
ولعل الأمر الإلهى بألا ينكحن من بعده أبدا كما تلونا من قبل كان لهذا المعنى وليتفرغن لتعليم النساء أحكام الدين وفضائله وآدابه وروحه ومعناه وأخبار النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى أهله وفى ذاته الطاهرة وإنك لترى من ذلك الشئ الكثير فى رواية عائشة رضى الله عنها فقد كان لها ذكاء يندر فى نساء العرب وإنه قد نزكى ما روى من أنه يؤخذ منها نصف الدين وهو النصف الخاص بأحكام النساء.
ثانيها: أن نساء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كن يتخذن قدرة حسنة للنساء فى عفتهن واحتسابهن وآدابهن لأنهن أخذن باداب النبوة والمرأة تتأثر بالمرأة أكثر مما تتأثر بالرجال وتصلح بصلاح صواحبها من النساء وتفسد بفساد صواحبها منهن، فالمرأة تصلح المرأة أو تفسدها. وإنا لنرى ذلك واضحا اليوم وإنه كان كذلك فى الماضى فالإنسان ابن الإنسان.
وإن الله تعالى تعهد نساء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالإرشاد والتأديب لأنهن الأسوة والقدوة قال تعالى: وهو أصدق القائلين: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا. وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً. يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً. وَمَنْ(3/1106)
يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً.
يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً. وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً. وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً.
فنساء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بهذا التأديب الإلهى الذى لم يخرجن عن نطاقه كن بالنسبة للنساء الصورة المثالية والقدوة القائمة الثابتة لنساء المؤمنين بل نساء العالمين ولأنهن المثل السامى عقب ذلك بما يجب أن تكون عليه المؤمنات المقتديات بنساء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فقال تعالى عقب ما أمر به نساء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بما أمر به من إرشاد. وتهذيب. وتوجيه للعلو:
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ. وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ. وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ. وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (الأحزاب) .
هذا وإن الاقتران فى التلاوة بين إرشاد نساء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ومنزلتهن وبين أوصاف المؤمنات يشير إلى أن أخلاق نساء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مثل أعلى لنساء المؤمنين ويوعز باتباعهن واتخاذهن مثلا ساميا غاليا لأنهن القدوة الصالحة الطيبة.
وإذا كان فى الآيات أمر بأن يقرن فى بيوتهن بألا يخرجن إلى الطرقات متبرجات متزينات يبدين زينتهن ما ظهر منها وما خفى، بل يلتزمن القرار فى البيت لا يخرجن إلا لمصلحة تقتضى الخروج فلا يقررن فى البيت إلا للاستعداد للخروج فتغص الطرقات بهن. هذا وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بتفرق نسائه فى القبائل والعشائر من بعض وفائه قد عم تعليمه وعمت الآداب الإسلامية والأخلاق الكريمة نساء المسلمين. وكلما كثر العدد عم الهدى المحمدى وشاع وسار فى الأمة سريان النور فى الأرضين.(3/1107)
أما بعد
732- فهذه سيرة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم خاتم النبيين، لا ندعى أننا وصلنا إلى الغاية من تصويرها أو توضيحها أو أزلنا غشاوة عنها ولا ندعى أننا تسامينا حتى أدركناها وعلمنا أسرارها وكنهها ونورها فى هذا الوجود ولكنا رأيناها فوق طاقاتنا وأدركنا منها ما استطعنا إدراكه وسددنا وقاربنا وإذا لم تبلغ الشأو ونصل إلى الغاية فإننا قصدنا وأردنا واحتسبنا النية ومثلنا كمثل من أراد أن يبلغ قمة تتصل بالسماء فعجز عن بلوغها فرضى بأن يقف على السطح ويرى النور فوقها فحسبه منها المشاهدة دون الوصول ولقد رأينا فيما رأينا قمة العلم النبوى وإن لم نستوعبه واستغرقنا نور الهداية وإن لم ندرك كل ما جرى.
اللهم اغفر لنا تقصيرنا فإن منشأه قصورنا وإنا نتلمس ونقرب ولا نعلو فإن ذلك فوق طاقتنا وتجاوز وسعنا وهو فوق تكليفنا فإنك قلت وقولك الحق لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ولا تكلفنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما كان وعدد ما يكون وعدد ما هو كائن إلى يوم القيامة إنك نعم المعين ونعم النصير وإنك الموفق والهادى وما توفيقنا إلا بك وهو يشد العزم فى محيط قدرتنا ويقرب البعيد يا أرحم الراحمين.
تم الكتاب بأجزائه الثلاثة بحمد الله وتوفيقه فى 3 مجلدات(3/1108)
فهرس المحتويات
المجلد الأول
الموضوع الصفحة
مقدمة 5
تمهيد 9
الاضطراب الفكرى 9
المجوسية 10
المانوية- المزدكية 11
البراهمة 12
البوذية 16
الكونفوشيوسية 18
وثنية اليونان والرومان 21
مزج الفلسفة بالدين 21
العرب- دخول الوثنية أرض العرب 26
أرض النبوة الأولى 30
إبراهيم أبو العرب 34
بناء الكعبة 35
موسى كلف الرسالة فى أرض العرب 37
أرض العرب مأوى الفارين بدينهم 39
اختصاص الجزيزة العربية 43
الله أعلم حيث يجعل رسالته 44
مكة المكرمة 47
المكان والزمان 55
البشارات 61(3/1109)
الموضوع الصفحة
محمد فى التوراة 65
محمد فى الإنجيل 68
على فترة من الرسل 69
محمد من أوسط قريش نسبا 73
النسب الطاهر 78
الجنين المبارك 93
أصحاب الفيل 94
ولد الهدى 98
ظواهر تعلن مكانته صلى الله عليه وسلم 100
تاريخ مولده صلى الله عليه وسلم 103
إرضاعه صلى الله عليه وسلم 108
أخبار شق الصدر 112
موت الطهور آمنة 116
فى حضن عبد المطلب 120
فى كنف أبى طالب 121
إلى العمل 123
حماية الله تعالى 124
التجارة 125
سفره مع عمه صلى الله عليه وسلم 126
إرهاص وبشارة بالنبوة 127
محمد التاجر 131
مشاركته فى الأمور الجامعة 132
حرب الفجار 133(3/1110)
الموضوع الصفحة
حلف الفضول 135
الزواج 137
إرهاصات الرحلة 141
الإملاك 142
أغناه الله وواساه 146
إعادة بناء الكعبة 149
بناء قريش 152
الحمس 156
التكامل الإنسانى فى محمد صلى الله عليه وسلم 161
وفور عقله صلى الله عليه وسلم 162
بلاغته صلى الله عليه وسلم 165
الخلق الكامل 174
العابد- عبادته قبل البعثة 201
عبادته بعد البعثة 206
الزاهد- قبل البعثة 208
زهده بعد البعثة 210
الصابر المصابر 216
العادل 224
بعد البعثة 225
الشجاع 229
بعد البعثة 230
الرجل 234
خاتم النبوة 240(3/1111)
الموضوع الصفحة
تقدمه صفات النبى صلى الله عليه وسلم 241
البشارات بالنبى المنتظر 242
ما كان يروج بين العرب من أخبار نبى يرسل 248
علم النبوة عند سكان الفارس قبل أن يلقاه 252
يهود تخبر عن النبى (صلى الله عليه وسلم) المنتظر 255
البعثة المحمدية- التجلى الأعظم 265
التقى بالروح القدس 272
فترة غياب روح القدس 275
الشهر الذى نزل فيه الوحى 278
أول ما نزل من القرآن الكريم 279
مراتب الوحى وشكله 281
دعوة الحق 285
مراتب الدعوة 286
أول من أسلم 288
أول أسرة فى الإسلام 292
فرضية الصلاة 297
وأنذر عشيرتك الأقربين 299
بين أبى طالب وأبى لهب 304
فاصدع بما تؤمر 305
استجابته صلى الله عليه وسلم لأمر ربه 309
السابقون السابقون 311
الإسلام يخرج إلى القبائل 313
المناوأة 315(3/1112)
الموضوع الصفحة
تلقى الناس الدعوة 322
الذين استجابوا لله والرسول 325
إسلام حمزة 328
إسلام عمر 330
بين عهدين 333
جدل المشركين 338
الاستغانة بأهل الكتاب 343
إسماعهم القرآن الكريم 346
الإيذاء والفتنة 349
مهابة محمد عليه الصلاة والسلام 356
الهجرة إلى الحبشة 360
النضال والمصابرة فى مكة 372
المقاطعة والصحيفة 375
الرسول صلى الله عليه وسلم مستمر فى دعوته 379
سعى فى نقص الصحيفة 383
نقض الصحيفة فعلا 386
انطلاق الدعرة الإسلامية 387
عام الحزن 389
ما كان بعد موت أبى طالب 397
فى الطائف 402
سماع الجن له 406
انشقاق القمر 409
الإسراء والمعراج 413(3/1113)
الموضوع الصفحة
انتشار الإسلام فى البلاد العربية 423
وفد نصارى نجران 425
عرض الرسول نفسه على القبائل 426
ما بين الروم والفرس 431
اللقاء بالأوس والخزرج 433
بدء إسلام الأنصار 435
أول جمعة أقيمت بالمدينة المنورة 439
ابتداء الهجرة 447
هجرته صلى الله عليه وسلم 452
وصول النبى صلى الله عليه وسلم إلى قباء 465
دخول المدينة 467
خطبة لرسول صلى الله عليه وسلم 468(3/1114)
الموضوع الصفحة
المجلد الثانى
مقدمة 477
إنشاء دولة الإسلام 479
مع اليهود 485
أول أعماله صلى الله عليه وسلم الإخاء 490
عهده- صلى الله عليه وسلم مع اليهود 498
الأذان 500
الإذن بالقتال 504
الحرب الفاضلة 511
حربه (صلى الله عليه وسلم) عبادة 524
أدوار الحرب المحمدية 527
بدر الأولى 531
القتال فى الشهر الحرام 534
تحويل القبلة وفرض الصوم 538
فريضة زكاة الفطر 543
يوم الفرقان، بدر العظمى 545
التقاء الجمعين يوم الفرقان 554
نتائج المعركة وأعقابها 564
الأنفال 574
أثر المعركة فى المدينة المنورة 575
اليهود 577
إفساد اليهود بين المسلمين 580
المجادلة بالتى هى أحسن 586(3/1115)
الموضوع الصفحة
بين بدر وأحد 590
المعاقل والديات 593
بناء على بن أبى طالب بفاطمة رضى الله عنها 594
حروب فى الفترة بين الغزوتين الكبيرتين 596
كعب بن الأشرف اليهودى 603
غزوة أحد- القوة بدل العير 608
استشهاد حمزة رضى الله عنه 619
الغنائم القاتلة 621
وصف المعركة فى القرآن الكريم 628
تمام المعركة 631
أعقاب أحد 639
أحكام مستفادة 643
صدى أحد- والرايا 647
غزوة بنى النضير 658
أحكام شرعية 661
غنائم بنى النضير والحكم العام فى الغنائم كلها 664
تحريم الخمر 666
غزوة ذات الرقاع 669
صلاة الخوف 672
النبى بين أصحابه 675
غزوة بدر الآخرة 676
النبى فى المدينة 679
غزوة الخندق- أسبابها 681(3/1116)
الموضوع الصفحة
اللقاء 689
عين من اليهود حول أطم آل النبى صلى الله عليه وسلم 695
الجيشان 695
نتائج غزوة الخندق 701
غزوة بنى قريظة 702
أحكام شرعية 707
زواج النبى صلى الله عليه وسلم بأم المؤمنين زينب 713
غزوات أخرى 713
إثارة فتنة وإطفاؤها 722
حديث الإفك 728
أحكام شرعية 738
الحديبية 742
بيعة الرضوان 748
صلح وهدنة 749
أحكام ثبتت فى الحديبية 753
كانت الحديبية فتحا 758
حد الحرابة 767(3/1117)
الموضوع الصفحة
المجلد الثالث
مقدمة 773
رسائله صلى الله عليه وسلم 775
إلى خيبر 776
الصلح والغنائم 780
فدك 786
حوادث ذات مغزى فى خيبر 789
زواجه (صلى الله عليه وسلم) بأم المؤمنين صفية 793
قدوم جعفر من الحبشة 796
صلح تيماء وإجلاء عمر لليهود 800
أحكام شرعية تقررت فى خيبر 801
شرعية الجزية 822
سرايا النبى صلى الله عليه وسلم 827
عمرة القضاء فى القرآن الكريم 835
إسلام خالد بن الوليد 838
إسلام عمرو بن العاص 842
سرايا التعرف فى البلاد 845
غزوة مؤتة 846
بعث الرسائل إلى الملوك 857
الذمى 874
الفتح المبين 877
ذل الغدر 881
حرمه مكة المكرمة 898(3/1118)
الموضوع الصفحة
محطم الأوثان 899
أحكام فقهية شرعت فى الفتح 904
المبايعة على الإسلام 911
غزوة هوازن وحنين 917
أحكام شرعية فى غزوة حنين وهوازن 930
غزوة الطائف 934
عمرة الجعرانة 941
السرايا بعد هوازن 945
غزوة تبوك 950
كتاب قيصر إلى النبى صلى الله عليه وسلم 961
عصمة الله لنبيه صلى الله عليه وسلم 966
مسجد الضرار 969
الثلاثة الذين خلفوا 970
الوفود 977
رسول ملك حمير 998
المغزى فى هذه الوفود 1028
بعث معاذ بن جبل 1031
تولية على قضاء اليمين 1040
بعث الصديق ليكون أمير الحج 1043
سورة براءة 1049
غزوة تبوك فى سورة براءة 1053
جهاد النفاق والكفر 1057
الحكم والعبر من سورة براءة 1063(3/1119)
الموضوع الصفحة
انتشار الدعوة الإسلامية 1066
الحديبية 1068
حجة الوداع- البلاغ 1071
العودة إلى المدينة 1082
بعث أسامة بن زيد 1084
الوداع 1086
إنك ميت وإنهم ميتون 1089
زوجاته عليه الصلاة والسلام 1096
العبرة 1104
أما بعد، ختام 1108(3/1120)