|
المؤلف: محمد بن أحمد بن مصطفى بن أحمد المعروف بأبي زهرة (المتوفى: 1394هـ)
الناشر: دار الفكر العربي - القاهرة
عام النشر: 1425 هـ
عدد الأجزاء: 3
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
دينهم، وجحود بالحق. ولقد كان صلى الله تعالى عليه وسلم حريصا على منع القتال حتى عند أخذ الأهبة، فهو يقول لمعاذ بن جبل وقد أرسله إلى اليمن قائدا:
«لا تقتلوهم حتى تدعوهم، فإن أبوا فلا تقاتلوهم، حتى يبدأوكم، فإن بدأوكم، فلا تقاتلوهم حتى يقتلوا منكم قتيلا ثم أروهم ذلك، وقولوا لهم: هل إلى خير من هذا سبيل، فلأن يهدى الله على يديك رجلا واحدا خير مما طلعت عليه الشمس وغربت» .
ونجد من هذه الوصية أن نية السلم قائمة والجيشان قد تلاقيا، فالقائد المسلم لا يقاتلهم إلا بعد أن يدعوهم إلى العهد الذى يكون فيه تأمين حرية الدعوة، ثم هو لا يبدأ القتال، بل يتركهم يبدأون القتال، وحتى بعد هذا البدء لا يقاتلهم حتى يقتلوا فعلا ثم يبين لهم العبرة في ذلك الدم الذى أراقوه ظلما وعدوانا، فإن لم يعتبروا لم يبق إلا السيف ليحكم بأمر الله بينه وبينهم والله خير الفاصلين.
فى المعركة:
355- والرفق ملازم المعركة ذاتها، كما كان في ابتدائها، ذلك أنها حرب نبوة، وليست مغالبة ولا تناحرا، ولقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم في وصف دعوته وحربه: «أنا نبى المرحمة، وأنا نبى الملحمة» ، وفي الحق أن المرحمة والملحمة متلاقيتان، فما كانت الملحمة إلا لأجل المرحمة، إذ الرحمة الحقيقية في هذا العالم هى في قطع الفساد ومنع الشر، وإذا كانت الملحمة فقد تعينت سبيلا للمرحمة.
وإنه كان يصاحب حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عند ابتداء المعركة العمل على تأليف القلوب حتى وقد اشتجرت السيوف؛ ولذلك يوصى عليه الصلاة والسلام جنده وقد أرسلهم للقتال بقوله: «تألفوا الناس وتأنوا بهم ولا تغيروا عليهم حتى تدعوهم فما على الأرض من أهل مدر أو وبر أن تأتونى بهم مسلمين أحب إلى من أن تأتونى بأبنائهم ونسائهم وتقتلوا رجالهم» .
هى حرب رفيقة تتسم بالتأليف، لا بالتقتيل، وبالمحافظة على الأنفس والرجال إلا أن تكون ضرورة ملجئة، فقد كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يوصى بألا يقوم الجيش بإتلاف زرع أو قطع شجر أو قتل الضعاف من الذرية والنساء، والرجال الذين ليس لهم رأى في الحرب، ولم يشتركوا فيها بأى نوع، ومن ذلك قوله في إحدى وصاياه:
(2/516)
«انطلقوا باسم الله وعلى بركة الله لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا، ولا امرأة، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم «1» ، وأصلحوا وأحسنوا إن الله تعالى يحب المحسنين» .
وفي معنى هذه الوصية وصية أخرى، وهى قوله عليه الصلاة والسلام «سيروا باسم الله في سبيل الله تعالى، وقاتلوا أعداء الله ولا تغلوا (تخونوا) ولا تغدروا، ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا» .
ويقول عليه الصلاة والسلام لخالد بن الوليد: «لا تقتل ذرية ولا عسيفا» (أى عاملا) .
وبهذه الوصايا يتبين أن الحرب النبوية الفاضلة لا يصح أن تكون إتلافا وإفسادا، وتحللا من القيود الإنسانية، ولذلك لا يباح في القتال كل شيء، ولا يفعل ما يفعله القواد في هذه الأيام من إهلاك الحرث، والنسل، وإفساد الزرع وإلقاء السم فيه ليتسمم الأحياء.
وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم شدد في منع قتل الأطفال والشيوخ الذين لا يحاربون وليس لهم رأى في الحرب، والنساء، لأن القتال الذى كان من المسلمين إنما كان لدفع الاعتداء والقصاص من المعتدين ماداموا مستمرين أو على نية الاعتداء، وأولئك ما كانوا يقاتلون ولا يعتدون، وليس في طاقتهم أن يقفوا محاربين الدعوة الإسلامية أن تسير في طريقها.
وقد مر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على القتلى فرأى امرأة مقتولة، فقال عليه الصلاة والسلام: ما كانت هذه لتقاتل. وأرسل إلى خالد بن الوليد يأمره بألا يقتل عسيفا ولا ذرية.
ولقد كان عليه الصلاة والسلام يغضب إذا بلغه أن جنده قتلوا صبيانا، ولقد بلغه أن بعض الأطفال قتلهم جند المسلمين، فوقف عليه الصلاة والسلام يقول لجنده: «ما بال أقوام تجاوز بهم القتل حتى قتلوا الذرية، ألا لا تقتلوا الذرية ... ألا لا تقتلوا الذرية» .
وكان عليه الصلاة والسلام يمنع قتل العمال، وكرر منع قتل العسفاء وهم العمال الذين يستأجرون للعمل، لأن حربه عليه الصلاة والسلام لم تكن لقتل الأقوياء القادرين، إنما كانت لمنع اعتداء الذين يحملون السلاح، أو يدبرون الاعتداء، والعمال ليسوا كذلك، إذا لم يكن عملهم لتهيئة أسباب القتال.
__________
(1) وضم: القوم تجمعوا وتقاربوا، والوضم: كل ما يوضع عليه اللحم يوقى به من الأرض، وفي هذا والله أعلم إشارة إلى المحافظة على الغنائم أنفسا كانت أو غير أنفس.
(2/517)
وكان عليه الصلاة والسلام ينهى عن التخريب، فكان يمنع قطع الشجر لأنه لا ضرورة توجب قطعه إلا أن يتخذه العدو مستترا له، ليجعل منه كمينا يكمن فيه لجيش المسلمين، فما كانت حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تسمح بالتخريب.
الفضيلة:
356- ليست حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كحرب الأنذال اللؤماء الذين يضعون السيف في موضع البرء وموضع السقم، إنما هى حرب الخلق القوى الذى لا يضع السيف إلا حيث يكمن الداء، ويستقر، ليقتلع الشر من مكمنه، فلا يقتل إلا من اعتدى وحمل السيف، أو دبر الأمر لمن يحمله.
ولذلك كانت الفضيلة هى المسيطرة في كل أدوارها في ابتدائها وسيرها وانتهائها، وإنها إذ كانت لرد الاعتداء بمثله، فهى مقيدة بالفضيلة لما ذكرنا من أن الله تعالى أمرنا بالتقوى عند رد الاعتداء، فالمعاملة بالمثل مع التقيد بالتقوى توجب على جيش الإيمان ألا ينتهك حرمات الفضيلة لأجل المعاملة بالمثل، فإذا تعارضت الفضيلة مع المعاملة بالمثل كان الواجب مراعاة الفضيلة لأنها المبدأ الذى لا يقبل التخلف كيفما كانت الحال.
وقد يعجب بعض الناس من الفضيلة تحكم في وسط السيوف، وحيث تستباح النفوس، فإنها حيث استبيحت لا يبقى شيء يحترم، ولكنا نقول إنها حرب النبوة المقيدة بقانون السماء، قام بها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ليعلمها للناس، فإنه مادامت الحرب في نظام الوجود الإنسانى، فإنه لا بد من أن تقيد بالفضيلة، وأن يتولى تعليمها خاتم النبيين محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو آخر صرح في نبوة السماء، وأن حرب النبوة هى حرب الفضيلة التى تدفع الرذيلة دفعا. وليس من المعقول أن يكون الباعث عليها الدفاع عن الحق والفضيلة، وتنتهك الحرمات من أهلها في الميدان مجاراة لأراذل المعتدين، فإذا كان العدو منطلقا من كل القيود الخلقية فجيش الفضيلة مقيد بالفضيلة، فإذا كان العدو يهتك الأعراض إن استمكن، أو يقتل النساء والولدان والشيوخ الذين لا يستطيعون حيلة، فإن جيش الإسلام المؤمن لا يجاريهم لأنه مقيد بالفضيلة والخلق القوى.
وإذا كان العدو يمثل بالقتلى، ويشوه أجسامهم بعد القتل، فإن جيش الفضيلة لا يفعل لقول القائد الأعظم المعلم الأوّل للحروب الفاضلة: «إياكم والمثلة»
(2/518)
ولقد قتل المشركون في غزوة أحد حمزة بن عبد المطلب عم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وحبيبه، وأدنى قرابته إليه، وسيد الشهداء كما سماه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ومثلوا بجسمه الطاهر، ومع منزلته منه عليه الصلاة والسلام لم يفكر بأن يمثل بأحد من قتلاهم فيما جد من بعد ذلك.
وإذا كان الأعداء يجيعون الأسرى، أو يقتلوهم بالعطش، فإن جيش المسلمين يعد من أقرب القربات إطعام الأسير، تحقيقا لقوله تعالى في وصف المؤمنين الصادقين في إيمانهم: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (الإنسان- 8) .
احترام الكرامة الإنسانية:
357- وإذا كانت الفضيلة لابد من احترامها في أثناء الحرب، للأمر بتقوى الله تعالى عند رد الاعتداء بمثله، فمن الفضيلة المحافظة على الكرامة، بقوله تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ، وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا (الإسراء- 70) ، فكرامة العدو محترمة ككرامة الولى على سواء، وقد يعد بعض الناس ذلك أمرا غريبا، حيث كانت السيوف متشابكة، إذ أن هذا ليس وقت التكريم، بل هو وقت التقتيل، ولكن لا غرابة، فهى ليست حرب انتقام، ولكنها قمع للشر، ومنع لاستمراره، ولا استمرار يتصور من مقتول.
ولذلك أمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بدفن قتلى قريش، لم يترك جثثهم نهبا لوحوش الأرض وسباع الطير، أمر عليه الصلاة والسلام بوضع جثث القتلى من قريش في القليب وهو بئر جافة.
ولقد نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن الإجهاز على جريح، كما نهى عن تعذيب القتلى، إذ ضعفت قوة الجريح عن أن يقاوم، وذلك كله لاحترام الإنسانية، ولأن القتال ليس القصد منه إلا إضعاف قوة الطغاة، ودفع الاعتداء وليس منها الانتقام.
وأن المعاملة بالمثل التى تفرضها قوانين الحرب، والتى تفرض بحكم رد الاعتداء به لا يسير به المسلم إلى أقصى مداه ولو انتهكت الفضيلة والكرامة الإنسانية، بل إن المسلم بأمر الله تعالى مأمور بالتقوى عند رد الاعتداء، وكانت حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هى المثل السامى في تنفيذ ذلك لأنه الذى يتعلم منه الإنسان إن حارب أخاه الإنسان، فعندئذ يكون قانون الأخلاق هو الذى يحكم لا قانون الغابة.
(2/519)
انتهاء الحرب
358- كانت حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تنتهى بأحد أمور ثلاثة:
أولها- الموادعة- وقد كانت عهود الموادعة التى كان يبرمها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مرغوبا فيها منه صلى الله تعالى عليه وسلم استجابة لقول الله سبحانه وتعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ (الأنفال: 61) ولقول الله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً (البقرة: 208) ولأن الأصل في العلاقة هو السلم، والحرب لا تكون إلا إذا دفعت إليها ضرورة رد الاعتداء بمثله مع التزام الفضيلة كما ذكرنا، وإذا كانت الموادعة فقد زالت ضرورة الحرب، والضرورة تقدر بقدرها.
وقد عقد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم موادعات، كما عقد صلحا، وعقد من بعده صاحباه أبو بكر وعمر رضى الله تعالى عنهما معاهدات صلح آخذين بهديه، مقتبسين من نوره، وكلها كانت تبدو فيها الرغبة في الصلح من جانب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وما كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يدخل في الحرب إلا بعد عرض الصلح، حتى تتحقق ضرورة الحرب.
وإن الموادعة لا يفرضها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بحكم القوة، إن كان هو الغالب، بل يفرضها بالسماحة وإدناء القلوب النافرة.
ولعل أوضح الأمثال في الدلالة على ذلك صلح الحديبية، فقد ذهب إلى مكة المكرمة ومعه جيش كثيف في عدده، قوى في رجاله، مستعد في عدته، ليحج بيت الله الحرام، ولكن ما إن عرضت فكرة المهادنة، حتى سارع عليه الصلاة والسلام إليها وقبل من الشروط ما لا يقبله إلا السمح الكريم، وفيها كما يدل ظاهرها من الإجحاف بالمسلمين ما كان لغير نبى أن يقبله، ولكنه قبله راضيا. ولنذكر الخبر فيها، كما روته الصحاح في السنة:
روى البخارى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خرج في ذى القعدة من العام السادس ليحج إلى بيت الله الحرام. على ألا يقاتل إلا إذا منع، فلما بلغ قريشا عزمه عليه الصلاة والسلام، ومجيئه مع أصحابه، جمعوا له الجموع ليصدوه، ومن معه، فلما علم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك، وقد لبس لباس الحج ونواه ومعه الجيش الكبير- جمع أصحابه، وقال: «أشيروا على» ، فقال أبو بكر:
«يا رسول الله خرجت قاصدا البيت، لا تريد قتل أحد، ولا حرب أحد. فمن صدنا عنه قاتلناه» فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: «امضوا على بركة الله» حتى إذا أشرف على مكة المكرمة قال: «والله لا يسألوننى خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها» .
(2/520)
ولما جاءت رسلهم إليه صلى الله تعالى عليه وسلم قال لهم: «إنا لم نجيء لقتال، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب، وأخذت بهم. فإن شاؤا ما رد لهم، وأخلوا بينى وبينهم» .
عرض عليه الصلاة والسلام الموادعة، وهو القوى بجيشه، وبنصر الله الذى هو فوق كل شيء، فقبلوا المهادنة بشروط كان جلها كما يرغبون:
أولها- أن يعود ولا يحج في عامه هذا، وأن توضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض، وأن يعتمر الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه في العام القابل.
وثانيها- أن من قدم المدينة المنورة من قريش مجتازا إلى الشام فهو آمن على دمه وماله.
وثالثها- أن من أتى محمدا عليه الصلاة والسلام من مكة المكرمة مسلما من غير إذن وليه رده عليهم.
ورابعها- أن من جاء ممن مع محمد عليه الصلاة والسلام مرتدا عن دينه لم يردوه إليه.
هذه كلها شروط كتبت برغبة قريش.
وهناك شرط واحد لمصلحة الدعوة الإسلامية، وهى غاية الغايات، وذلك الشرط أن من قدم مكة المكرمة من أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام حاجا أو يبتغى الرزق فهو آمن على دمه وماله.
وهناك شرط أساسى لمصلحة الطرفين، وهو أن من أراد أن يدخل في عقد مع محمد عليه الصلاة والسلام دخل، ومن أراد أن يدخل في عقد قريش دخل.
وربما تكلمنا عن تفصيل لهذا الكلام عليها في موضعها.
الأمر الثانى الذى تنتهى به الحرب- هو الصلح بإنهاء القتال، لا بالموادعة المجردة فيه، والصلح حينئذ يكون على أساس العدالة والوفاء بكل ما يلتزم كلا الطرفين فيه من حقوق، ويكون ذلك عهدا يجب الوفاء فيه بكل الشروط الجائزة شرعا، وأن العهد الذى لا يكون فيه الدخول في الإسلام تكون قبل الحرب عند التخيير بين الإسلام أو العهد أو الحرب، فيكون مانعا للحرب من أن تقع، لا أن يكون منهيا لها بعد وقوعها.
أما الصلح المنهى للحرب بعد وقوعها، فيكون بإعلان الإسلام في ربوع الديار التى كان النصر فيها للمؤمنين.
(2/521)
والأمر الثالث الذى ينهى الحرب هو الانتصار للمؤمنين، والاستسلام من الكافرين، وهو النوع الثالث من الصلح الذى ذكرناه آنفا.
معاملة المهزومين
359- تبدو السماحة المحمدية، والرفق على أهله في الحرب النبوية عند هزيمة العدو واستسلامه، ويلاحظ أنه في حرب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، لم يهزم المؤمنون هزيمة فيها استسلام قط، إذ أنه لم ينتصر خصوم الإسلام انتصارا ساحقا قط في عصر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، والراشدين من بعده.
وإنه لما هزم المسلمون في غزوة أحد لم يستسلموا، لأن الاستسلام فيه ذلة، والإسلام دين العزة والكرامة، فلا يمكن أن يستسلم المؤمنون بقيادة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، بل إنه عليه الصلاة والسلام جمع متفرق الجيش، وأراد أن يتبع به المشركين، فلما علموا هم بذلك مضوا في طريقهم قافلين، ورضوا من الغنيمة بالإياب، إذ علموا أنه مؤيد من عند الله، وأنه يجاهد في سبيله.
وإذا كانت الحرب تنتهى باستسلام العدو فمحمد عليه الصلاة والسلام في حرب النبوة لا يقول مقالة الغاشمين، ويل للمغلوب، بل تكون العدالة، وتكون السماحة والرفق المحمدى.
كانت آخر حرب للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم مع قريش هى التى انتهت بفتح مكة المكرمة للإسلام والمسلمين، وهنا يلتقى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مع من آذوه، وأعنتوا أصحابه، وساموهم سوء العذاب، ومنهم من مات من شدة التعذيب، وقد هموا بقتله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكنهم كانوا يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.
التقى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بهم، وبكبير حرب الشرك أبى سفيان، فنشر عليه الصلاة والسلام، وهو الغالب والمسيطر، راية الأمان عليهم، فنادى مناديه عليه الصلاة والسلام: «من دخل دار أبى سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن، ومن دخل داره فهو آمن» .
وهكذا كان انتصار النبى عليه الصلاة والسلام الرفيق الرؤف الرحيم نشرا للأمان في ربوع مكة المكرمة حول بيت الله سبحانه وتعالى الحرام. ولما التقى بالملأ من قريش، قال لهم: «ما تظنون أنى فاعل بكم؟! قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال لهم: أقول ما قاله أخى يوسف: لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، اذهبوا فأنتم الطلقاء» . أى حرب تنتهى بهذه السماحة وذلك
(2/522)
الرفق غير حرب النبوة التى قام بها محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وللناس في رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أسوة حسنة.
الأسرى
360- لعل أبلغ ما يدل على أن الحرب النبوية التى دافع بها صلى الله تعالى عليه وسلم عن المؤمنين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، هى حرب لتعليم الناس أن الخلق الكريم يلازمها، وأن الفضيلة تظلها في كل أدوارها، هو معاملة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم للأسرى، لقد كان رفيقا بالأسرى لا يهدر آدميتهم، ولا يعرف تاريخ الإنسانية محاربا كان رفيقا بأسراه كمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم، فقد كان صلى الله تعالى عليه وسلم يوصى بالأسرى، ولما أسر من أسر في غزوة بدر، نزلوا في بيوت الأنصار، وكأنهم في ضيافة لا في أسر، وذلك لقول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «استوصوا بالأسرى خيرا» ولماذا كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يوصى بالأسرى، ويبالغ في الإيصاء بهم؟ والجواب عن ذلك أنهم يؤسرون ونيران الحرب مستعرة، وربما كان بعضهم من قتل الكثير من جيش المسلمين فيكون الاعتداء عليه متوقعا وغليظا لشدة الغيظ، وانبعاث الرغبة في الانتقام، كما فعل الأوربيون والأمريكان فيمن سموهم مجرمى الحرب، فالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو يضرب الأمثال السامية في تلك الحرب النبوية منع إيذاء الأسرى وأمر بإكرامهم منعا لتلك الروح الانتقامية الغليظة.
وقد أخذ المسلمون في أسرى بدر بتلك الوصية الكريمة، حتى إن الذين قد نزلوا في ديارهم كانوا يؤثرونهم على أنفسهم وأولادهم بالطعام.
وإن أولئك الكرام كانوا في جهادين: أولهما جهاد السيف ونيران الحرب ملتهبة، حتى إذا انطفأت كان الجهاد الثانى، وهو ضبط النفس لتكظم الغيظ، لئلا يكون منها ما لا يرضاه الله سبحانه وتعالى بالنسبة للمغلوبين، وخصوصا الأسرى.
لقد تلونا فيما مضى من قولنا قول الله سبحانه وتعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً، وَيَتِيماً وَأَسِيراً (الإنسان: 8) وإن الإسلام يوجب بالنسبة للأسير أمرين:
أولهما: أنه ليس لجيش الإسلام أن يأسر حتى يثخن في الأرض بأن يثقل جيش العدو بالجراح، ولا تكون له قدرة على مواصلة القتال، وقد قال الله سبحانه وتعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ، تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (الأنفال- 67) .
(2/523)
الأمر الثانى: أن القرآن الكريم الذى كان ينفذه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ويبينه كما قال سبحانه وتعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ أن هذا القرآن الكريم يذكر بالنسبة للأسرى أمرين لا ثالث لهما، وهما إما المن عليهم بإطلاق سراحهم، وإما الفداء بالمال أو الرجال، فقد قال الله سبحانه وتعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ، حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ، فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ، وَإِمَّا فِداءً، حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها (محمد- 4) .
وكما أشرنا: أن الفداء قد يكون بالرؤوس، فيطلق من أسارى المسلمين في نظير أن يطلق المسلمون من أسرى الأعداء. وقد يكون بالمال.
وإذا كان الأسير فقيرا ولا مال له، فإنه يتعين تسريحه، ويكون ذلك من الصفح الجميل الذى أمر الله سبحانه وتعالى نبيه به بقوله: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (الحجر: 87) ، وعن أخذ الأمور بالعفو كما قال الله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ
(الأعراف- 199) .
حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عبادة
361- أعظم العبادات الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، وإذا كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد علم المؤمنين الصلاة، وقال: «صلوا كما رأيتمونى أصلى» فقد علمهم الحرب الفاضلة أيضا، بل علم الإنسانية كلها الحرب الفاضلة، ولسان حاله عليه الصلاة والسلام يقول: «حاربوا في سبيل الفضيلة وبالفضيلة كما رأيتمونى أحارب» فحرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد أدت مقصدها، وهو جعل كلمة الله سبحانه وتعالى هى العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، ولا تزال المثل السامية التى صورتها الحرب المحمدية قائمة تهدى وترشد العالمين، ولقد عد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أعلى درجات الزهادة والعبادة الجهاد، ولذلك قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «الجهاد سنام الدين» .
وقد منع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الرهبانية. وقال «لا رهبانية في الإسلام» وبين أن رهبانية الإسلام هى الجهاد، فقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «فى كل أمة رهبانية، ورهبانية هذه الأمة الجهاد» ، وقد علل ذلك الإمام السرخسى بأن فيه العشرة مع الناس، والتفرغ عن عمل الدنيا والاشتغال بما فيه سنام الدين، وفيه أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، وهو صفة هذه الأمة.
وأنه يتشابه المجاهد مع الراهب في ثلاثة أمور، ويختلفان في أمر.
أما الأمور المتشابهة فهى:
(2/524)
أولا- اعتزال الناس جملة، والخروج عن الحياة التى يحياها الناس لأنفسهم آكلين شاربين متمتعين بحلاوة الحياة وما فيها.
وثانيا- أن الراهب يعتزل النساء، والمجاهد التقى الذى نال شرف الجهاد ومعناه يعتزل النساء وينقطع عن الأولاد في مدة الجهاد، وهم فلذات كبده.
وثالثا- أن كليهما قد قدم نفسه لله سبحانه وتعالى- الراهب بالعبادة ليسمو في نظره إلى الروحانية التى تقربه من الله سبحانه وتعالى في زعمه. والمجاهد قد قدم نفسه فعلا لله سبحانه وتعالى ليحمى الحق الذى أمر الله بنصرته، وترى أن المشابهة قائمة، وإن اختلف القصد في كليهما.
ومن هنا كان موضع الافتراق، فالراهب يعتزل الناس لأجل نفسه وعبادته الانفرادية، أما المجاهد فيعتزل الناس، ليحمى الناس، وينفذ أمر ربه، فالأوّل عبادته في دائرة وجوده الشخصى لا تعدوه، والثانى عبادته في دائرة النفع العام. والأوّل لا تخلو عبادته من أثرة، والثانى عبادته كلها إيثار.
وإن الإسلام منع الرهبنة، لأنها فرار من الحياة ومتاعبها، ولذلك تعتبر القوانين الأوربية الرهبان في حكم الأموات، والرهبنة موت اختيارى، والإسلام لا يريد للمتعبد هذا الموت ولا ذلك الفرار، ولكنه يريد المؤمن نافعا للناس، حيا في وسط الأحياء، حاميا لهم من المضار، جالبا لهم المنافع، إذ ليست العبادات الإسلامية سلبية، بل هى إيجابية، هى المشاركة في رفعة النوع الإنسانى، ولذلك يعد كل نفع للأحياء صدقة، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا، فيأكل منه إنسان أو دابة إلا كتب له به صدقة» وإنه ليس معنى ذلك أن الروحانية في الإسلام لا وجود لها، بل إن لها المقام الأوّل، ففى الصوم والصلاة والحج روحانية، بل كلها روحانيه، وفي الاعتكاف روحانية، ولكن روحانية الإسلام ليست انقطاعا عن الحياة والأحياء، بل هى مع ما فيها من سمو نفسى، وتجرد من الجسم وأهوائه وشهواته، هى لتحسين العلاقات الإنسانية، وأن يكون المؤمن مألفا يألف الناس، ويألفونه.
(2/525)
الخلاصة
362- هذه كلمة تقدمنا بها عند الكلام في حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لنرد بها قول الذين يتقولون الأقاويل في حرب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ويزعمون أن الحروب والدمار ليست من أعمال النبيين، وهى فرية افتروها، فإنه مادام الإنسان ابن الإنسان، فإنه لا بد من مغالبة.
ومن وقت أن امتنع إبليس عن السجود لآدم استكبارا أو استعلاء، والمعركة بين الخير والشر قائمة، والعداوة مستحكمة بين الرذيلة تعتدى والفضيلة تدفع، ومن وقت أن نزل آدم وذريته إلى الأرض، وإبليس الذى قال لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (ص- 82، 83) ، من هذا الوقت وقد تحقق قول الله سبحانه وتعالى: اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً، بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ (طه: 123) والنزاع بين الخير والشر قائم. وليس من الفضيلة أن يترك الشر يرتع ولا يدفع، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ، وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (البقرة- 251) .
وإن أولئك الذين يعترضون على قتال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، لا يتصورون الحرب إلا مغالبة بشرية كما تتغالب الوحوش على فريسة تأكلها، أو على غابة تحتلها. ولا يتصورون لفرط ماديتهم أن الحرب تكون لإعلاء الحق وخفض الباطل، وكذلك كانت حروب النبيين موسى وداود، وسليمان، وغيرهم من الأنبياء، وما كان قتالهم شرها إلى الدماء، فمعاذ الله وتنزهت ذاته الكريمة فلا يرسل إلا ملكا كريما.
وننتهى من هذا إلى تقرير هذه الحقائق التى بدت من البحث واضحة نيرة:
الحقيقة الأولى: أن حرب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، كانت أمرا لا بد منه، ليقيم الحق ويخفض الباطل، وما كانت رسالته تدعو إلى استخذاء الخير أمام الشر، وما كانت دعوتهم لتسير في مسارها إلا إذا أزالت الحواجز التى كانت تحاجز دونها، ليتم التبليغ. والناس بعد ذلك يختارون الهداية أو يستمرون على الغواية: فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (الزمر: 41) .
الحقيقة الثانية: أن حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كانت حربا فاضلة مثالية تعلم الإنسان أنه قد يكون محاربا وهو فاضل، وأن الإنسانية تحترم، والسيوف مشتجارة.
الحقيقة الثالثة: أن حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ومن يتبعونه في هديه، ويتخذونه
(2/526)
أسوة في حربه وفي سلمه هى عبادة، لأن رفع الحق، والحرب لرفعه هو في ذاته عبادة، فليست عبادة الإسلام عكوفا في الصوامع من غير عمل نافع، بل كل عمل نافع فيه عبادة إذا نواها المؤمن: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امريء ما نوى..» .
أدوار الحرب المحمدية
363- كان لا بد قبل أن نخوض في حروب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وأدوارها، والمعارك التى خاضها- من أن نسبق بالقول في أوصاف حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فإن ذكر الحرب قد يفزع، ويرهب، فكان من الضرورى أن نعرف القارئين بأنها ليست كحرب الناس تستمد أحكامها من الغلب بالمخلب والناب، وأنها حرب نبوة تدفع إليها الفضائل الإنسانية، ويظلها الحق والخلق الكريم في الباعث عليها، وفي ابتدائها، وفي سيرها، وفي الانتهاء منها، وفي معاملة المغلوبين، ليتميز الخبيث من الطيب، ولكيلا يتطاول ملحد في دين الله على مقام الرسالة، ومكان الهداية، ويقع في القول بغير حق ويفترى بالباطل، فنضع الحقائق بين يديه، فإن شاء استنار بها، وإن طمس الله تعالى على بصيرته فما له من هاد، ويكون كما قال الشاعر:
كناطح صخرة يوما ليوهنها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
وبعد هذه التقدمة نقول أن حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد أخذت أدوارا ثلاثة:
الدور الأوّل: توجه عليه الصلاة والسلام للتصدى لمتاجر قريش ليشعرهم بقوة الحق، وليحملهم على منع الفتنة في الدين، وليدركوا نور الحق بعد أن تبين نوره قويا وهاجا، وليعلموا أنه لا ملجأ لهم من الله سبحانه وتعالى إلا إليه.
والدور الثانى:
تلقيه لمن يهاجمون المدينة المنورة لينالوا من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه. ظانين أنهم بذلك يقتلعون الإسلام من جذوره ولينالوا منه نيلا، قد ابتدأوه في مكة المكرمة، وحاولوا أن يقطعوا شجرته في المدينة المنورة، حاسبين أنه قد استغلظ سوقها.
وفي هذا الدور كانت بدر الكبرى، وأحد، والخندق أو الأحزاب، ومعها كان إجلاء بنى قينقاع، وبنى النضير، وبنى قريظة.
الدور الثالث:
كان في الخروج إلى العرب الذين قاتلوه كافة، فكان حقا عليه أن يقاتلهم كافة، كما أمره الله سبحانه وتعالى بقوله: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً، كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (التوبة- 36) وفي تلك الغزوات كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يعمم
(2/527)
الدعوة إلى الإسلام، لأنه عليه الصلاة والسلام كان يخيرهم بين الإسلام، ويبين حقيقته وأركانه، وبين القتال، وإذا اختاروا السلم كان، وإن اختاروا الحرب، وهزموا، وجدوا في رفق المعاملة ولين القوى وعطفه ما لم يحتسبوا، فيألفونه، ويدخل الإيمان في قلوبهم.
وإنه في هذا الدور قد أخذت الحرب تنتقل من جزيرة العرب إلى خارجها، لأن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أخذ يدعو الملوك ورؤساء الدول إلى الإسلام، أو أن يفتحوا الطريق أما الدعوة الإسلامية، فما آمن منهم إلا النجاشى ملك الحبشة، ومنهم من لم يجب، ومنهم من أساء في الرد، ومنهم من أجاب جوابا رقيقا ولكنه لم يؤمن.
وحدث أن ملك الروم قد قتلت جيوشه من أسلم من أهل الشام، فتعرض المسلمون لفتنة دينية كالتى كانت في مكة المكرمة، وأمر الله سبحانه وتعالى بالقتال لأجلها، فقال الله سبحانه وتعالى:
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (البقرة- 193) ، ولذلك كانت غزوة مؤتة، وغزوة تبوك من بعدها.
وقد تجمع اليهود الذين أجلاهم من المدينة المنورة في خيبر، لينقضوا على المدينة المنورة، فكان لابد أن يساورهم، قبل أن يساوروا المدينة المنورة. وهكذا ...
الدور الأوّل
364- وإن هذا الدور يصح أن نقسمه إلى قسمين: أحدهما لم يلق فيه حربا، ولا قتالا، بل كان اللقاء ينتهى بالمسالمة، وكان فيه تأليف للقلوب النافرة. وتقريب الإسلام من العقول والنفوس، وفيه بيان لقريش أن الإسلام قد أعزه الله سبحانه وتعالي، وأن المسلمين صاروا فوق منالهم، والناس يستقبلونه، وقد أرادوا أن يحولوا بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وبينهم.
والقسم الثانى كان فيه قتل وقتال.
وفي القسم الأوّل كانت غزوات أربع خرج فيها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قبل غزوة بدر الكبرى التى هى ابتداء القسم الثانى من هذا الدور.
وتلك الغزوات التى لم يكن فيها قتال هى غزوة الأبواء، وتسمى ودان وغزوة بواط، وغزوة العشيرة وغزوة بدر الأولى، وكانت بينهما سرية عبد الله بن جحش. والغزوات الثلاث الأولى كانت في الطريق بين المدينة المنورة ومكة المكرمة، وأما بدر فكانت قرب المدينة المنورة، وإن كانت على هذا الطريق.
(2/528)
غزوة ودان: [الأبواء]
وأما ودان فقد كانت في صفر في السنة الثانية، وودان قرية كبيرة من أمهات القرى، وقريب منها الأبواء. وكانت الغزوة بينهما، ولذا صح أن تسمى بكل واحدة منهما. وهما على مقربة من الجحفة، وبين المدينة المنورة، وتبعد عن المدينة المنورة بنحو ثلاثة وعشرين فرسخا.
وقد كان خروج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في جمع من المهاجرين ليس فيهم أنصارى وسبب الخروج أنه علم أن عيرا لقريش قد خرجت، فترصد لها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، لكن وصل بعد فصل العير عنها، ولقى بنى ضمرة، فتوادع معهم على أن ينصروا المسلمين إذا دعوهم إلى النصرة وأنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وأن على المسلمين نصرهم على من يعتدى عليهم.
وكان الذى تولى العقد عن بنى ضمرة مخشى بن عمر «1» الضمرى وكان سيدا في قومه فى زمانه، وقد خلف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم سعد بن عبادة على المدينة المنورة.
وقد أقام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بقية صفر، وكانت غيبته عن المدينة المنورة خمس عشرة ليلة «2» .
غزوة بواط:
365- فى ربيع الأوّل بلغ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن عيرا لقريش مقبلة من الشام، أميرها أمية بن خلف فيها مائة رجل، ومعها ألفا بعير وخمسمائة، فخرج إليهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في جمع مائة من المهاجرين وخلف عنه في المدينة المنورة سعد بن معاذ، وحمل لواءه سعد ابن أبى وقاص، وبواط- بفتح الواو- جبل من جبال جهينة من ناحية رضوى.
ولكن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم عند ما وصل إلى هذا المكان لم يلق كيدا.
غزوة العشيرة «3» :
366- فى جمادى الأولى من هذه (السنة) علم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن عيرا لقريش ذاهبة إلى الشام، فخرج عليه الصلاة والسلام لملاقاتها، فنزل تحت شجرة ببطحاء ابن أزهر يقال
__________
(1) عند ابن هشام وغيره عمرو- المراجع.
(2) نهاية الأرب للنويرى ج 17 ص 4.
(3) يقال عنها العسيرة والعشيرة بالمهملة، وبحذف التاء فيهما.
(2/529)
لها ذات السباق، فصلى عندها فكانت مسجده، وصنع للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم طعام فأكل وأكل أصحابه، ثم استقى له من ماء يقال له المشيرب، وأخذ يتابع البحث عن تلك الشعاب المتعرجة، ثم اعتدل في الطريق حتى نزل العشيرة من بطن ينبع فأقام بها، جمادى الأولى، وليالى من جمادى الآخرة.
ولكن العير قد سبقت ولم يدركها، فلم يلق حربا، ولكنه عاد بتأليف القلوب، فوادع بنى مدلج ومن معهم من حلفاء لهم، فإذا كان لم يدرك العير، ولم يكسب منها مالا، فقد كسب قلوبا، وألفها، وذلك هو أوّل أعمال الرسالة المحمدية.
وقد خلف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على المدينة المنورة أبا سلمة الأسدي، وحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب، ويذكر ابن إسحاق أنه في هذه الخرجة، كنى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على بن أبى طالب كرم الله وجهه بكنية (أبو تراب) فيقول: ويومئذ قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، (لعلى- أبو تراب) قال: فحدثنى يزيد بن خيثم ... عن عمار بن ياسر، قال كنت أنا وعلى بن أبى طالب رفيقين في غزوة العشيرة من بطن ينبع، فلما نزل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أقام بها شهرا، فصالح بنى مدلج وحلفاءهم من بنى ضمرة، فوادعهم فقال لى على بن أبى طالب رضى الله عنه: هل لك يا أبا اليقظان أن هؤلاء النفر من بنى مدلج يعملون في عين لهم ننظر كيف يعملون، فأتيناهم، فنظر إليهم ساعة، فغشينا النوم، فعمدنا إلى صور من النخل في دقعاء من الأرض، فنمنا فيه، فو الله ما أهبّنا إلا ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يحركنا بقدمه، فجلسنا. وقد تتربنا من تلك الدقعاء، فيومئذ قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لعلى: يا أبا تراب، لما عليه من التراب، فأخبرنا بما كان من أمرنا، فقال: ألا أخبركم بأشقى رجلين؟ قلنا: بلى يا رسول فقال عليه الصلاة والسلام: أحيمر ثمود الذى عقر الناقة، والذى يضربك يا على، على هذه، ووضع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم- يده على لحيته» .
وقد علق على ذلك الخبر ابن كثير، فقال: «وهذا حديث غريب من هذا الوجه، له شاهد من وجه آخر في تسمية على أبا تراب، كما في صحيح البخارى: أن عليا خرج مغاضبا فاطمة، فجاء المسجد، فنام فيه، فدخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فسأل عنه، فقالت: خرج مغاضبا، فجاء عليه الصلاة والسلام إلى المسجد فأيقظه، وجعل يمسح التراب عنه، ويقول: «قم يا أبا تراب» .
ونستطرد في ذكر هذه الكنية النبوية الشريفة، فنقول أنها كانت أحب كنية إلى على كرم الله وجهه في الجنة، لأنها تسمية من حبيبه وكافله محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ولأنها اقترنت
(2/530)
بمسحه بيده الكريمة التى أزال بها التراب عن بدنه، كما أزال الغبار عن الحقائق الإنسانية بالشرع الذى حمله وبلغه للخلق.
والخبران متلاقيان كما ذكر الحافظ ابن كثير. فإنهما يدلان على أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ناداه بذلك النداء الحبيب إليه في عدة مواطن.
ولقد فسق ناس عن أمر ربهم، فأذاعوا بين من تبعوهم على غيهم أن هذه الكنية تدل على الحط من مكانة على عند النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فساء قولهم كما ساء فعلهم.
وفي هذه الغزوة كما أشرنا وادع بنى مدلج وحلفاءهم بنى ضمرة، وقد ذكر السهيلى في الروض كتاب الموادعة بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وبنى ضمرة، وهذا نصه كما جاء فيه:
كانت نسخة الموادعة فيما ذكر غير ابن إسحاق «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله لبنى ضمرة، فإنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وأن لهم النصر على من رامهم إلا أن يحاربوا في دين الله ما بل بحر صوفة- وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إذا دعاهم لنصرة أجابوه. عليهم بذلك طاعة الله تعالى وذمة رسوله، ولهم النصر على من بر منهم واتقى» .
بدر الأولى:
367- أقام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في العشيرة ليالى من جمادى الأولي، وبعض ليال من جمادى الآخرة كما ذكرنا، ثم عاد إلى المدينة المنورة، ولكنه لم يقم فيها إلا ليالى قلائل حتى أحس بشبه غارة أزمعتها قريش على المدينة المنورة لتوهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه لا تزال عندهم همة للقتال ولم تكفكف عزيمتهم تلك الإنذارات التى قام بها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ومن أرسله، فقد أغار كرز بن فهر القرشى على سرح المدينة المنورة أى على فنائها فخرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إليه واستعمل على المدينة المنورة زيد بن حارثة، وسار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، حتى بلغ واديا يقال له صفوان من ناحية بدر، ولكن كرزا ومن معه نجوا بأنفسهم، فلم يدركهم جيش الإيمان والفضيلة، ثم رجع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى المدينة المنورة فأقام بها بقية جمادى ورجب وشعبان، وتسمى هذه الغزوة التى لم يلق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قتالا فيها بغزوة بدر الأولى، وهى في مقابل غزوة بدر الكبرى التى سماها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم يوم الفرقان، إذ جعل الله تعالى فيه الكلمة العليا لله والحق والإيمان، والكلمة السفلى للشيطان والكفر، ولقد كان حامل لوائه في بدر الأولى سيف الله على بن أبى طالب.
(2/531)
سرية عبد الله بن جحش:
368- قد علمت أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عند ما جاء إلى المدينة المنورة سالم الذين يقيمون فيها، وعقد معهم الأحلاف البرة من جانبه عليه الصلاة والسلام، وقد رأيت أن غزواته صلى الله تعالى عليه وسلم الأولى لم يكن فيها قتال ولكن كان فيها سلم ومواثيق تؤخذ، وتأليف بين القلوب النافرة ولو استمرت على كفرها، إذ أن وراء التأليف أن تخلص النفوس بطلب الحق، فتشرق من غير أن يدخلها ظلام النفرة.
ومن القبائل من كانت تجيء إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تلقى بالمودة من غير نفاق ولا ريبة، ومنهم قبيلة جهينة فقد روى الإمام أحمد بسنده عن سعد بن أبى وقاص، أنه قال: «لما قدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة المنورة جاءته جهينة، فقالوا: إنك قد نزلت بين أظهرنا، فأوثق حتى نأتيك وقومنا، فأوثق لهم فأسلموا فبعثنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في رجب، وكنا مائة، وأمرنا أن نغير على حى من بنى كنانة إلى جنب جهينة فأغرنا عليهم، وكانوا كثيرا، فلجأنا إلى جهينة، فمنعونا وقالوا لم تقاتلون في الشهر الحرام؟ فقلنا إنما نقاتل من أخرجنا من البلد الحرام في الشهر الحرام، فقال بعضنا لبعض ما ترون، فقال بعضنا: نأتى نبى الله فنخبره، وقال قوم: بل نقيم هاهنا، وقلت أنا (عبد الله بن جحش) فى أناس معى، لا بل نأتى عير قريش، فنقتطعها، وكان الفيء إذ ذاك من أخذ شيئا فهو له، فانطلقنا إلى العير، وانطلق أصحابنا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فأخبروه الخبر، فقام غضبان محمر الوجه، فقال: أذهبتم من عندى جميعا، ورجعتم متفرقين، إنما أهلك من كان قبلكم الفرقة لأبعثن عليكم رجلا ليس بخير كم أصبركم على الجوع والعطش» .
هذه رواية عند الإمام أحمد، وليس في سنده من عرف الطعن فيه، وقد روى مثله مع بعض زيادة فى السند البيهقى في دلائل النبوة، وزاد في متن الحديث أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم استنكر القتال في الشهر الحرام.
والحديث برواية الإمامين أحمد والبيهقى يدل على ثلاثة أمور:
أولها- ما جاء من أن جهينة آمنت إذ بدت البينات، واستعدت لنصرة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
وثانيا- أن المسلمين لم يقاتلوا فعلا، وإن هموا بالقتال، وترددوا عند ما نبهوا إلى الشهر الحرام.
(2/532)
والأمر الثالث- أنه كانت ثمة عير لقريش على أهبة القدوم، ولعل هذا هو الباعث على السرية، ومهما يكن من أمر هذه الرواية التى اتفق عليها إمامان من أئمة الحديث، فإن الأمر الذى أشارت إليه تلك الرواية هو أن السرية سارت بإمرة عبد الله بن جحش، ولكن الذين كانوا فيها على رواية ابن إسحاق كانوا ثمانية ولم يكونوا مائة، وقد عدهم بأسمائهم، وكانوا من المهاجرين، ولم يكن أحد من الأنصار، كشأن كل البعوث والغزوات التى سبق ذكرها، ولعل هذا العدد المحدود. قد قرره النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن رأى الاختلاف، ولعل عدد المائة كان من أسبابه، وكلما قل العدد بعد الاختلاف، وفي الفرقة الهلاك كما قرر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. على أن النص لا يدل على قصر العدد على ثمانية، إنما يدل على أن فيهم هؤلاء المذكورين مع عدد ليس بالقليل، وقد ذكر ابن إسحاق أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كتب كتابا لعبد الله بن جحش أمير السرية وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه، فلما ساربهم يومين فتح الكتاب، فإذا فيه: إذا نظرت في كتابى. فامض حتى تنزل نخلة بين مكة المكرمة والطائف فترصد بها قريشا، وتعلم من الناس أخبارهم، فلما نظر في الكتاب، قال: سمعا وطاعة، وأخبر أصحابه بما في الكتاب، وقال قد نهانى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن أستكره أحدا منكم، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق معي، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماض.
وإن هذا التخيير يدل على أن العدد لم يكن ثمانية، وإلا ما كان ذلك التخيير، فإنه لا يكون إلا في عدد كبير ولو نسبيا، ولا يمكن في العادة أن يكون في ثمانية.
ولعل ذلك التخيير، ما كان من قبل الافتراق، إذ قد يكون سببه وهنا في بعض القلوب، فأراد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ألا يسير إلا من اعتزم وأراد، واستولى على قلبه، وذهب عنه الوهن أو احتماله. سارت السرية بإمرة أميرها، سالكة طريق الحجاز.
ولكن ضل عنهم سعد بن أبى وقاص وعتبة بن غزوان وكانا من الثمانية المقدمين، وكان معهما بعير يعتقبان في ركوبه «1» .
ولكن القافلة سارت، وكان رجاء في أن يهتديا إليها.
مضى عبد الله مع من بقى من أصحابه، حتى وجد عيرا فيها من قريش ومواليهم الحضرمى ابن عبد الله بن عباد، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة المخزومى، وأخوه نوفل، والحكم بن كيسان مولى المغيرة بن شعبة.
__________
(1) هنا كلام ناقص ولعله سقط في الطبع أثبته من كتب السيرة «فند، فتخلفا في طلبه ثم لحقا بالقافلة» ... المراجع
(2/533)
لما رأى السرية أصحاب العير، هابوا لقاءهم، ولكنهم رأوا عكاشة بن محصن من سرية النبوة قد حلق رأسه فأمنوا وقالوا عمّار «أى ناوون العمرة، لا بأس عليكم منهم» .
تشاور الصحابة من أهل السرية، وقد كانوا في آخر رجب، وهو رابع الأشهر الحرم التى بينها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأنها ذو القعدة وذو الحجة، والمحرم، ورجب الذى بين جمادى وشعبان.
ترددوا أيقاتلون في الشهر الحرام، أم يتركونهم، هذه الليلة، وحينئذ يدخلون الحرم، فيمتنعون عليهم، ولا يمكن انتظارهم هذه الليلة الباقية، من رجب الحرام.
وانتهت الشورى بالإجماع على القتال، فرمى أحد السرية عمرو بن الحضرمى فقتله. وأسروا عثمان بن عبد الله بن المغيرة والحكم بن كيسان، وأفلت من القوم، نوفل بن عبد الله.
وعادت السرية بالعير والأسيرين حتى قدموا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
القتال في الشهر الحرام:
369- قدمت السرية إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالعير والأسيرين، ولكن مع ذلك كان قتال في الشهر الحرام ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الحريص على احترام الحرمات قد تأثم من ذلك، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: «ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام» ، ووقف توزيع العير، وحبس الأسيرين، فأسقط في أيدى القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وكان الكلام اللائم من إخوانهم الذين لم يشتركوا في القتال، ولم يبلوا بلاءهم.
أما الأسيران فوقف عليه الصلاة والسلام إطلاقهما حتى يعود سعد بن أبى وقاص وصاحبه، فلما عادا أطلقهما.
وقد قامت قائمة من التشنيع على محمد عليه الصلاة والسلام، جاهر بها المشركون من قريش، وما حركهم احترام الحرمات، والمناسك، وإنما حركهم العير التى أخذت في مقابل ما أخذوا من أموال المهاجرين، وحركهم الغيظ من أن يكون لمحمد عليه الصلاة والسلام قوة تتولى تأديبهم والقصاص منهم، وأنه قد ابتدأ أمر جديد قد انبلج فجره، فظهروا بمظهر المدافعين عن الحرمات، وأن محمدا عليه الصلاة والسلام ينتهكها وهم يصونونها، ونسوا أنهم هم الذين فتنوا المسلمين عن دينهم، وانتهكوا حرمات البيت الحرام، ونسوا أنه حرم الله سبحانه وتعالى الآمن غير مفرقين في هذا الإيذاء بين شهر حرام وشهر حلال.
(2/534)
واليهود قد وجدوها فرصة لائحة تشفى غيظهم، فأخذوا ينثرون من أفواههم ما تنغر به قلوبهم من إحن وعداوة للإسلام أخفوها ابتداء، ولكن بدت من أفواههم رغم أنوفهم. وما تخفى صدورهم أكبر.
حدث هذا، والمجاهدون الأطهار تكاد نفوسهم تذهب حسرات حتى نزل قول الله سبحانه وتعالى:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ، قِتالٍ فِيهِ، قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ، وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ، وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ، وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا (البقرة- 217) .
كانت هذه الآيات الكريمات بردا وسلاما للمؤمنين، وردا قاطعا حاسما للكافرين، وإنه ليس لأولئك الذين انتهكوا الحرمات، من كفر بالله وبالمسجد الحرام وصد عن سبيل الله سبحانه وتعالى، وقتل فى البيت الحرام- أن يتكلموا في انتهاك الأشهر الحرم.
على أنه يجب أن يعلم أن الذين ابتدأوا بالقتال هم المشركون، فقد أغاروا ابتداء على فناء المدينة المنورة، نعم إنهم لم ينالوا مأربا، وفروا فرارا، فهل كان لأهل الإيمان أن يتركوهم ليعيدوا الكرة عليهم، لا يمكن أن يتركوهم ليغزوهم في عقر دارهم.
ومهما يكن من الأمر، فقد كانت هذه الغزوة إرهاصا لبدر الكبرى، فقد كانت العير هى التى استولى عليها المؤمنون.
لماذا كانت هذه الغزوات:
370- قد خرجت غزوات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ثلاث مرات، وخرجت أربع سريات لم يحصل قتال في السرايا، ولا في الغزوات إلا سهما أرسله سعد بن أبى وقاص في سرية عبيدة ابن الحارث بن عبد المطلب، وسهما قتل ابن الحضرمى في سرية عبد الله بن جحش، وكانت سهما عائرة، لأخذ العير، ولا يمكن أن يسمى ذلك قتالا، إنما يسمى محاولة لأخذ مال هو من بين ما اغتصبه المشركون من المؤمنين، إذ أخرجوا من ديارهم وأموالهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله.
إذا لم يكن قتال بمعنى كلمة قتال التى تكون مفاعلة من الجانبين، فلماذا كلف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم نفسه ورجاله مئونة هذا الخروج؟ ونقول في الإجابة عن ذلك:
أ- أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم خرج من مكة المكرمة، وهو هضيم، أو شبه مطرود في ظاهر الأمر، وما هو إلا ليجمع قوة الحق، فكان لابد أن يعمل على إظهار ما أيده الله سبحانه وتعالى به من قوة، تستطيع أن تشعر الظالمين بأن للحق شوكة، وأنهم إذا لم يتركوا الدعوة في طريقها رغبا، فإنهم لا بد أن
(2/535)
يتركوها رهبا، ولا بد للحق في هذه من صولة تكف أذى الباطل، أو على الأقل تجعل الباطل يتردد عند إنزال أذاه، وأنه إن لم يخش صوت الضمير، فإنه يخشى صلصلة السيوف. فكانت هذه السرايا، وتلك الغزوات مظاهر من صولة الحق ليتركوا الدعوة إلى الحق تسير في سبيلها، ولتستيقظ ضمائر كانت نائمة، فمن الضمائر ما لا يستمع لصوت الحق الوادع الرفيق، ولكنه يستيقظ إذا رأى جلجلة القوة، فيخفف من حدة الأذى، ويتبع ذلك أن يسير في طريق الهداية إن لم يكن الضلال قد كتب عليه.
ب- وإنه إذا لم يكن قتال، فقد كان هنا دراسة للمؤمنين في البلاد العربية يتعرفون وهادها، وجبالها، ويدرسون مجاهلها، فيعرفها من لم يكن يعرفها، ويلتقون فيها بالأعراب في أخبيتهم، ومساكنهم، وفي ذلك إعلان الدعوة لمن لم يكن يعلمها، وتوجيه العقول إليها وتوضيحها وبيانها.
وإن في هذه الجولات التى كان يجولها أولئك المؤمنون في السرايا التى بعث بها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تعرفا لمساير عير قريش، وما كانت إلا للتجار الأغنياء فيهم، فما كان للشعب فيها إلا النزر اليسير، وما كانت تلك البعوث التى تتبع عير قريش لأخذها، إلا ليكون هذا بدل ما اغتصبوا، وقد قلت من قبل، إن ذلك لم يكن حصارا اقتصاديا، كما يجرى في عبارات الكاتبين والمحاربين والسياسيين في هذا الحصار. كالذى تجرى كلماته في عصرنا يقصد به التضييق على الأمة التى يعادونها في موارد رزقها، فلا يرسل إليها طعام، ولا المواد الضرورية للحياة والعمران، بحيث يعم الضيق الشعب كله، وما كان ذلك في سرايا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ولا في غزواته إنما كان الاتجاه إلى محاربة التجار الذين كانوا يقومون بالتجارة، وجلهم أو كلهم ممن حاربوا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم واشتركوا في إيذاء أصحابه، وإخراجهم من أموالهم وديارهم، فما كان فعله عليه الصلاة والسلام حربا اقتصادية تعم البرىء والسقيم، بل هو مصادرة لمال ظالم اغتصب أموال المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله كما تلونا الآيات من قبل ذلك.
ج- وإن غزوات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مع ما فيها من نشر الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى بالحكمة والموعظة الحسنة كان فيها تأليف للقلوب، ففيها عقدت اتفاقات على النصرة والإيواء، ففى غزوة الأبواء (ودان) اتفق عليه الصلاة والسلام مع بنى ضمرة على أن ينصروه إذا دعاهم إلى النصرة وينصرهم إذا دعوه.
وفي غزوة العشيرة عقد مع بنى مدلج، وحلفائهم من بنى ضمرة اتفاقا على المناصرة بينه عليه الصلاة والسلام وبينهم ووثقه بكتاب كتب، كما نقلناه من قبل من الروض الأنف للسهيلى.
(2/536)
وإذا كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يغز لحرب، فقد غزا قلوبا، وألفها لتكون قوة لأهل الحق، وليدخل الإيمان إلى قلوبهم، لأن تالف القلوب هو السبيل إلى دخول الحق إليها لكيلا تنفر، فتعمى.
ويلاحظ أن هذه البعوث كلها كان جنودها من المهاجرين، فأمراؤها من المهاجرين، وغزوات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان الجنود فيها من المهاجرين، ولم يكن فيهم من الأنصار أحد، فلم يندب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أحدا من الأنصار إلا في بدر، ولماذا كان ذلك! لا بد أنه كان مقصودا منه صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم يجيء إذا اتفاقيا من غير قصد له بالذات.
والجواب عن ذلك:
أولا: إن المهاجرين هم الذين أوذوا في أبدانهم وكراماتهم من أولئك المشركين، فهم أشد الناس رغبة في القصاص ممن آذوهم والقصاص شريعة لحكمهم، فكانوا أولى بلقاء قريش من غيرهم، ولأنهم هم الذين استضعفوا وأراد المشركون إذلالهم، فكانوا في لقائهم بالمشركين وفرارهم منهم أشد تبيينا لبيان أن الحق قد علا، وأنهم مكن لهم في الأرض، وإن ذلك يكون أروع وأوقع، وماذا تكون حال الصناديد من قريش إذا رأوا عمار بن ياسر وقد أوذى هو وأبوه وماتت أمه تحت حر العذاب، حتى قال لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «اصبروا آل ياسر فإن موعدكم الجنة» ، فماذا يكون وقع ذلك في نفوس الغلاظ إذا رأوا عمارا العملاق واقفا لهم بتمكين الله سبحانه وتعالى.
ثانيا: إن الذين أخرجوا من أموالهم وديارهم هم المهاجرون، فكانوا أحق الناس بأن يطالبوا بمالهم الذى اغتصب، وديارهم التى خربت، وأن يكفوا عن أهليهم وضعفائهم الذين لم يهاجروا شر أولئك العتاة أو يعطوهم وبال أمرهم جزاء بما اكتسبوا.
ثالثا: وهو عمدة الأسباب وقوتها- أن عهد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان على الإيواء والنصرة وأن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم ونساءهم وذرياتهم، ولم يكن في ذلك النص على أن يخرجوا معه في حرب، وإن فهم ضمنا أنهم يكونون معه في الحرب والسلم، فلم يرد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يخرجوا معه في غير ما نص عليه العقد نصا صريحا لا تأويل فيه، ولذا لم يدعهم إلى الخروج معه في هذه الغزوات وتلك السرايا، وكان في المهاجرين غناء بالنسبة لهذا الغزو المحدود.
ولذلك لما جد الجد، وجاء جيش كثيف من المشركين عدته تجاوزت الألف استشارهم، لتكون الإجابة رضا بأن يشتركوا في الحرب، وتلك الاستشارة كانت عند الإقدام من قريش برجلها وعتادها وفرسها، فكانوا عند رجاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فيهم، وعلى ما دفعهم إليه إيمانهم، وهو أوثق العهود.
(2/537)
تحويل القبلة وفرض الصوم
371- لم يكن عمل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الحرب وإرسال البعوث، وعقد المعاهدات، وتنظيم شئون المدينة المنورة وما حولها. لم يكن ذلك عمل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فقط، بل كان عمل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مع ذلك تنظيم الدولة بوحى من الله سبحانه وتعالى، فما كان ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحى يوحى، فأصل الجهاد بوحى من الله سبحانه وتعالى، ولكن الترتيبات الجزئية والترتيبات التنفيذية، وكل ذلك إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ليقوم بمثله من بعده عند انقطاع الوحى، وله في رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أسوة حسنة، ولم يكن تنظيم الدولة فقط، بل كانت التكليفات التى يتلقاها عن الله سبحانه وتعالى من العبادات، والتكليفات الاجتماعية التى من شأنها أن تربى روحا قوية لتجعل من أتباع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قوة متحدة، فى نظام اجتماعى متماسك قوى تربطه أشد عناصر الترابط الاجتماعى الذى يكون مجتمعا متكافلا.
ولذلك كانت الفترة ما بين جمادى الآخرة، أو بالأحرى ما بين رجب ورمضان، أو الشطر الأكبر منه كانت تلك الفترة زمان شرعية أمور من العبادة، تتصل بتقوية النفس وتقوية المجتمع.
وفي هذه الفترة شرع تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة الشريفة، وفي هذه الفترة فرض صوم رمضان، وفرض مع صوم رمضان صدقة الفطر، وهما فرضان اجتماعيان كما سنبين.
وتحويل القبلة إيذان من الله سبحانه وتعالى بإزالة الأصنام، أو الأخذ في أسباب هذه الإزالة.
تحويل القبلة إلى الكعبة الشريفة
372- عند ما فرضت الصلاة بعد الإسراء والمعراج على أنها خمس صلوات، وإن كان لها ثواب خمسين صلاة، إن أقيمت على وجهها، كانت قبلة المسلمين إلى الشام إلى بيت المقدس، ولكن تتوسط الكعبة الشريفة، فيكون الاتجاه إلى الكعبة الشريفة على ناحية بيت المقدس، فكان المصلى يجمع في صلاته بين القبلتين بأمر ربه.
ولما هاجر إلى المدينة المنورة لم يكن الجمع ممكنا، بل لا بد من استدبار إحدى القبلتين، وقد ترك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مكة المكرمة، والكعبة الشريفة تحيط بها الأوثان، ولم يكن ثمة ما يؤذن من الأمور بزوالها، فكان استقبالها لا يخلو من استقبال الأوثان المحيطة بها، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان حريصا على أن تكون الكعبة الشريفة هى القبلة، وحريصا على أن تزول الأصنام عنها.
(2/538)
وقد أمره الله سبحانه وتعالى بأن تكون القبلة إلى بيت المقدس مؤقتا، لأن الله سبحانه وتعالى لم يؤذن بأن تخرج الكعبة الشريفة عما هى عليه، ولعل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم علم بأمر ربه رأى أن استقبال بيت المقدس، واستدبار الكعبة الشريفة أمر مؤقت وأن النهاية إلى الكعبة الشريفة، وأن الاتجاه إليها إيذان بذهاب دولة الأوثان، وطهارة البيت الحرام.
ولذلك كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يضرع إلى الله سبحانه وتعالى أن يقرب الوقت الموعود بالعودة إلى الكعبة الشريفة، لأن العودة إلى الكعبة الشريفة عودة إلى كعبة إبراهيم أبى الأنبياء، ولأن الاتجاه إليها إيذان بنصر الله سبحانه وتعالى، وإيذان بإزالة الأوثان بعد زمن طال أو قصر، وإن كان في عمر السنين والحساب ليس كثيرا.
وفي هذا الوقت كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يضرع إلى الله سبحانه وتعالى أن يقرب البعيد، وكان اليهود يتوهمون أن جعل القبلة إلى بيت المقدس معناه أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم لا يكون خارجا عن أنبياء بنى إسرائيل، وهو وهم باطل سكن في نفوسهم التى تتخيل ثم تخال ثم تعتقد، كشأن أصحاب الديانات الذين لا يؤمنون بالديانة إلا على أن تكون أمانى لهم أو تتفق مع أمانيهم.
قبيل بدر كان الإيذان بزوال دولة الأوثان التى كان يومها يوم الفرقان، قد أذن الله سبحانه وتعالى بتحويل القبلة إلى الكعبة الشريفة، أو بالأحرى إعادة القبلة إلى الكعبة الشريفة، إذ نزل قول الله سبحانه وتعالى:
«سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها، قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ، يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً، وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ، وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ، وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ، إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ. قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ، فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ، وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ. وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ، وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ، وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ»
(البقرة- 142: 145) .
كان تحويل القبلة إلى الكعبة الشريفة، بهذا النص وهو يدل على أمرين:
(2/539)
أحدهما: أن أهل الكتاب هم الذين كانوا يقولون: ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها، وأنهم كانوا فرحين، إذ أن المؤمنين كانوا يتبعون قبلة بيت المقدس.
ثانيهما: أن نص الآية يشير إلى أن جعل القبلة إلى بيت المقدس كان حكما مؤقتا يزول بزوال سببه، ولذلك لا نعتقد أنه نسخ، ولكنه انتهاء حكم مؤقت بانتهاء وقته المعلوم، وقد بين الله سبحانه وتعالى ذلك.
بقى أن تعرف الميقات الذى كان فيه التحويل!! لقد رويت في هذا روايات ظاهرها الاختلاف، ولكن الاتفاق على أنها كانت بعد جمادى الآخرة، والاختلاف أكان ذلك التحويل في رجب أم كان فى شعبان فروى عن قتادة وزيد بن أسلم وعبد الله بن عباس أن ذلك كان في رجب، وروى أنه كان في شعبان، وكلام ابن إسحاق يوميء إلى ذلك، إذ يقول إنها كانت بعد سرية عبد الله بن جحش، وما كانت في آخر رجب ويقول في هذا المقام:
«قال ابن إسحاق كانت بعد غزوة عبد الله بن جحش، ويقال صرفت القبلة في شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من مقدم رسول الله، صلى الله تعالى عليه وسلم. وحكى هذا القول ابن جرير عن ابن عباس، وناس من الصحابة.. قال الجمهور الأعظم: إنما حولت في النصف من شعبان، على رأس ثمانية عشر شهرا من الهجرة.. وعن محمد بن سعد الواقدى أنها حولت يوم الثلاثاء في النصف من شعبان.
ومهما يكن فقد ذكر الحافظ ابن كثير، أنه يميل إلى هذه الرواية التى تقول إنها في النصف من شعبان وذلك لأنه رأى الجمهور الأعظم، كما يقرر ابن كثير، وما كان الجمهور ليتجه إلى رواية إلا إذا ثبتت لديه صحتها، ورأينا دائما أن ما يتلقاه الناس وفيهم العلماء بالقبول لا يرد إلا إذا ثبت بدليل قاطع أو راجح بطلانه.
وإننا قد رأينا أن نصف شعبان يحتفل به المسلمون على أساس أنه يوم مبارك، والاحتفال به يتفق مع كونه اليوم الذى تحولت فيه القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة الشريفة، وكلاهما مقدس، إذ هو فرحة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
وعلى أننا نلاحظ أن ابن كثير قدر المدة بين الهجرة، أو مقدم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بثمانية عشر شهرا، وإنه باستقراء عدد الأشهر من وقت مقدم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى منتصف شعبان لا يكون قد مضى ثمانية عشر شهرا، ذلك أن الهجرة كانت في ليلة الثانى عشر من ربيع الأوّل، فإذا احتسبنا ربيع الثانى وجمادى الأولى والآخرة، ورجبا يكون سبعة عشر شهرا وأياما.
(2/540)
صوم رمضان
373- هذا ما يتعلق بالقبلة، أما فريضة صوم رمضان، فقد روى ابن جرير أن ذلك كان في شعبان كما كان فيه تحويل القبلة إلى الكعبة الشريفة، فهو شهر مبارك.
وقد روى أن فريضة الصوم أخذت ثلاثة أدوار:
الدور الأوّل:
كانت عند ما قدم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة المنورة، فقد وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم عنه، فقالوا: هذا يوم نجى الله سبحانه وتعالى فيه موسى، فقال عليه الصلاة والسلام: نحن أحق بموسى منكم، فصامه، وأمر الناس بصيامه. هذا هو الدور الأوّل، وقد يفهم منه أن ذلك كان باجتهاد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ونحن لا بد أن نقدر مع ذلك وحى الله سبحانه وتعالى، وإلا ما كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ليأمر الناس بعبادة إن لم يكن قد نزل وحى الله سبحانه وتعالى بذلك.
الدور الثانى:
عند ما نزل قول الله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ، كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ، فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ، فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ، وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (البقرة- 183، 184) .
وقد قال ابن كثير في هذا الدور أنه كان المؤمن بخيار بين أن يصوم، وبين أن يفطر، وهذا نص قوله في هذا الدور، فكان من شاء صام، ومن شاء أطعم مسكينا، فأجزأ عنه. وفي ذلك نظر سنبديه، إن شاء الله تعالى بعد ذكر الدور الثالث.
الدور الثالث:
هو فريضة الصيام في شهر رمضان، فقد قال الله سبحانه وتعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ، وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ، فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ، فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ، وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ، وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (البقرة- 185) .
ويذكر ابن كثير في هذا الدور حالين:
إحداهما: أنهم كانوا يأكلون ويشربون حتى يناموا، فإذا ناموا امتنعوا.
(2/541)
والحال الثانية: وهى الأخيرة أن الله سبحانه وتعالى أباح لهم الرفث إلى نسائهم وأن يأكلوا ويشربوا حتى يتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، وقد بين الله سبحانه وتعالى هذه الحال الأخيرة بقوله سبحانه وتعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ، هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ، وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ، عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ، وَعَفا عَنْكُمْ، فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ، وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ، ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ، وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ، تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها، كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (البقرة- 187) .
ولنا أن ننظر في كلام الحافظ ابن كثير من نواح عدة:
الأولى: أنه ذكر أنه عند فريضة الصوم كان المؤمن مخيرا بين أن يصوم، وأن يفطر، ويقدم فدية طعام مسكين، ولعله فهم هذا من قول الله سبحانه وتعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ ونحن نرى متبعين للسلف أو على الأقل لبعضهم أنه لم يكن تخيير بين الصوم والإفطار- أولا، لأن ذلك ينافى الفريضة، وقد ثبتت الفريضة مؤكدة في قول الله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ، كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ (البقرة: 183، 184) . فقد تأكدت الفريضة بالتعبير عنها «بكتب» وبيان أن فريضة الصيام شريعة أزلية، دائمة كتبت على المؤمنين، كما كتبت على غيرهم، ثم أفاد كلام الله سبحانه وتعالى أنها ذريعة إلى تقوى الله، وتقوى الله مطلوبة في كل الأحوال.
الثانية: أن الله سبحانه وتعالى فرض على المترخص بالسفر أو المريض أن يصوم في أيام أخر، فدل على أن الأيام محدودة معلوم وقتها، وعلى أنها لا تفوت وتترك إذا كانت أعذار، بل يجب أن تقضي، ولو كان ثمة تخيير لذكر التخيير هنا وما وجب القضاء في أيام أخر، ويكون ذلك للمسافر أو المريض المقيم.
والثالثة: أن آية كتب عليكم الصيام، فى سياقها شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ (البقرة: 185) فلا يعقل أن تكون آيتان في نص واحد، إحداهما ناسخة والآخرى منسوخة، بل المعنى المتسق هو أن يكون قول الله سبحانه وتعالى شهر رمضان بيانا للأيام المعدودة.
والرابعة: أن قول الله سبحانه وتعالى: «يطيقونه» ، معناها الذين يبلغون أقصى الطاقة في الصوم، ولا قبل لهم بالإعادة من بعد، فإن عليهم الفدية، وقد روى أن هذا النص ينطبق على الشيخ والشيخة
(2/542)
اللذين يبلغان أقصى الطاقة في الصوم، وقد روى ذلك عن ابن عباس، ومثلهما الزمن والمريض بمرض لا رجاء في البرء منه.
والخامسة: أن قول الله سبحانه وتعالى: فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ (البقرة: 184) لا تدل على التخيير، لأن الواضح منها هو صوم التطوع، لا صوم الفريضة.
بقى أن ننظر نظرة فاحصة فيما ذكره من أنه بعد الفريضة، كان الفرض أن يمنع الأكل والشرب، والرفث إلى أزواجهم بعد النوم، وأنه من بعد ذلك أبيح إلى الفجر، ونقول في ذلك إنه لم يثبت من نص قرآنى، ولا من حديث نبوى أنه بمجرد النوم تنتهى إباحة الأكل والشرب، وغيرهما، بل الثابت أنهم فعلوا ذلك، أو أن بعضهم على التحقيق فعل ذلك، أكان هذا من فهم فهموه، أم من نص أدركوه، وإذا كنا نبحث عن النص المروى في ذلك عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فلا نجده فإن الراجح أن يكون ذلك من فهمهم لفرط تورعهم، ويرشح لهذا المعنى قول الله سبحانه وتعالى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ (البقرة: 187) والمعنى أنكم تريدون صيانة أنفسكم، وقد فسر الراغب الأصفهانى الاختيان بأنه مرارة الخيانة، وإنى أرى أن خيانة النفس بتكليفها ما لا تطيق.
ولهذا أرى أن ذلك فهم فهموه، فصحح القرآن الكريم الأمر ووضحه وبينه فلم تكن هذه حالا جديدة.
وإنى أعتقد مؤمنا أن الآيات الكريمة من أوّل فريضة الصيام إلى آخر الآيات الكريمة المتعلقة به نسق واحد، ليس فيها ناسخ ومنسوخ، والله أعلم.
فريضة زكاة الفطر
374- وفي هذه السنة فرض الله سبحانه وتعالى زكاة الفطر، ويبدو من سياق الحوادث أنها كانت تابعة لفريضة الصوم، ولذلك روى أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم خطب بفرض صدقة الفطر، قبل الإفطار في رمضان هذه السنة بيوم أو يومين، وقال الحافظ ابن كثير: وفيها أى في السنة الثانية صلى النبى عليه الصلاة والسلام صلاة العيد، وخرج بالناس فصلى بالناس إلى المصلى، فكانت أوّل صلاة عيد، وخرج بالناس إلى المصلى وصلاها، وخرجوا بين يديه بالحربة، وكانت للزبير وهبها له النجاشي، فكانت تحمل بين يدى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الأعياد.
وكان حملها بين يدى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في مجتمع الأعياد الجامع، إشعارا بالوحدة الجماعية التى تقوم بالعبادة، وأنها قوية عزيزة بعون الله سبحانه وتعالى لا ذلة فيها، بل فيها العزة والكرامة.
(2/543)
وأن زكاة الفطر يبدو من السياق التاريخى أنها شرعت بعد واقعة بدر الكبرى، لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم خطب بها قبل عيد الفطر بيوم أو يومين.
أما الصوم، فمن المؤكد أنه فرض قبل يوم الفرقان في شعبان على الأرجح.
وأن من الرواة المتأخرين من يقول: إن الزكاة التى تفرض في المال، وتسمى زكاة المال قد فرضت فى هذه السنة، فيقول: وفي هذه السنة- أى السنة الثانية- فرضت الزكاة ذات النصب كما ذكر غير واحد من المتأخرين.
وقبل أن ننهى الكلام في رمضان وصدقة الفطر نذكر أمرين جديرين بالنظر:
أولهما: أن صريح الأحاديث الواردة في صدقة الفطر يفيد بأنها فرض، ليست سنة مؤكدة، ولا واجبة وجوبا دون الفرض، كما يقرر الحنفية، ولقد روى الترمذى بسنده أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعث مناديا في حجاج مكة المكرمة «ألا إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم ذكر وأنثى، حر وعبد، صغير أو كبير» أى أنه يجب على الغنى أن يدفع زكاة كل واحد من هؤلاء لأنه يمونهم.
ولقد قال ابن القيم: «وكان من هديه صلى الله تعالى عليه وسلم تخصيص المساكين بصدقة الفطر، ولم يكن يقسمها على الأصناف الثمانية أى المذكورة في قوله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ (التوبة- 60) ولا أمر بذلك، ولا فعله أحد من أصحابه، ولا من بعدهم، بل أحد القولين عندنا (أى الحنابلة) أنه لا يجوز إخراجها إلا على المساكين عامة، وهذا القول أرجح.
وإن هذه الصدقة فيها معنى إشراك المساكين في أفراح العيد بأن يغنوهم عن السؤال في هذا اليوم، كما ورد عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
ثانى الأمرين اللّذين يجب التنبيه إليهما: أن الصيام فرض قبل غزوة بدر يوم الفرقان، لأن الصوم، يربى ضبط النفس وينمى روح الصبر، ويعلى الإرادة، وهذه هى أدوات الجهاد النفسية، فإن عدة الجهاد هو الصبر.
فكان فرضه تمهيدا لما يجىء من بعد، وهو يوم الفرقان.
(2/544)
يوم الفرقان بدر العظمى
375- كانت الغزوات التى قام بها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في أوّل العام الثانى من الهجرة، والسرايا التى قام بها أصحابه بأمر منه، لإشعار قريش بأن الإسلام صارت له قوى تناويء من آذوا أهله. وحاولوا فتنة الضعفاء عن دينهم، فأرهقوهم ليحولوهم عن اعتقادهم، فلم ينالوا خيرا.
وكانت ليتعرف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم داخل البلاد العربية، ويشعرهم بوجود الإسلام، ويتألف قلوبهم ليجمعهم من بعد على كلمة الحق، وقد عقد عليه الصلاة والسلام مع بعضهم مواثيق عدم اعتداء، والنصرة لهم وبهم.
وكان من بعد ذلك أن يلاقى صلى الله تعالى عليه وسلم قريشا لا بسرية يرسلها، ولكن بغزوة يغزوها بنفسه، وقد مهدت الأسباب، وعلم المشركون أنه صار للمسلمين قوة يقدرون معها عواقب أمرهم.
وأنه عليه الصلاة والسلام قاطع عليهم طريق تجارتهم، فقد صارت الحرب قائمة بعد أن أخرجوا المؤمنين من ديارهم، وبعد أن هموا بقتله، وأخذوا العدة، فما أن علم بتجارة لهم ذاهبة إلى الشام أو عائدة، حتى يبادر إليها.
ولما قتل عبد الله بن جحش في سريته ابن الحضرمى كما أسلفنا، وأسر المسلمون من أسروا أحس المشركون من قريش فكانوا يحصنون تجارتهم بحراس.
خرجت قريش بتجارة عليها نحو أربعين مقاتلا، وسارع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قبل سرية ابن جحش ليدركها، ولكنها أفلتت، وكانت فيها أموال ذوى المال من قريش، فأخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يترصدها عند عودتها من الشام، وتتبع أخبار قريش وأخبارها.
العير:
376- علم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن عير قريش قافلة راجعة من الشام، وفيها ثلاثون أو أربعون رجلا، فندب المسلمين إليهم، وقال عليه الصلاة والسلام:
«هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها، لعل الله سبحانه وتعالى ينفلكموها» .
(2/545)
فخف بعضهم استجابة لنداء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وثقل بعضهم، وإن كان على استعداد، لأنهم لم يتوقعوا قتالا، كما كان في السرايا والغزوات السابقة، فإنهم لم يلتقوا بالمشركين، ولم يكن قتال.
وإن أبا سفيان الذى كان على رأس العير التى حمولتها ألف بعير، كان يتخوف من أن يلقاه المسلمون فيأخذوه، كما أخذوا عير ابن الحضرمى وقتلوه، ولذلك كان يتحسس أخبار النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه، ويتعرف حركاتهم.
فكان يسأل من يلقى من الركبان، حتى أصاب خبرا، بأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم استنفر أصحابه للقاء أبى سفيان، وعيره، وتأكد أن المصير الذى سيلقاه هو والعير هو ما لقيه ابن الحضرمى وعيره.
وقد دفع به الحرص على عير قريش إلى أمرين:
أحدهما- أنه مال عن طريق بدر، ونجا بعيره، وجاء محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من المهاجرين فوجدوا العير قد أفلتت منهم، ولم ينالوا منها، وعلموا أن وراءها القتال.
الأمر الثانى: أنه أرسل إلى قريش يستغيث بها لتحمى عيرها التى معه، وليعمل على أمن الطريق من محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى أصحابه وليجهز جيشا يقضى على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى أصحابه.
أرسل ضمضم بن عمرو الغفارى يبين ما تتعرض له العير، وأن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم وصحبه يتعرضون لها، فذهب ضمضم يصرخ ببطن الوادى، واقفا على بعيره وقد جدعه وحول رحله، وشق قميصه ليسترعى الناس، وينبههم إلى ما يقول، ثم قال: «يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة «1» أموالكم مع أبى سفيان، قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث، الغوث» .
كانت تلك الكلمات الحارة مع المظهر الذى ظهر به دافعة القوم إلى أن يندفعوا معتزمين الدفاع عن أموالهم، وإنقاذها، فكانت قريش ما بين رجلين، رجل اعتزم أن يخرج بنفسه، وآخر ينيب عنه من يدافع عن ماله، ومال قريش كلهم، وبينما هم قد تجهزوا وأعدوا العدة بلغهم أن العير قد نجا بها أبو سفيان إذ غير الطريق كما أشرنا، فأرسل إلى قريش يبشرهم بنجاة العير، إذ قال لهم «إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم، ورجالكم وأموالكم فقد نجاها الله، فارجعوا» .
__________
(1) اللطيمة: الإبل التى تحمل الحرير والطيب وغيرهما
(2/546)
وبذلك ذهب السبب الذى كان من أجله الخروج، ولكن لأجل الحقد والعنف في قلوب بعض المشركين، وعلى رأسهم أبو جهل أبى إلا المضى إلى بدر، فقال: «والله لا نرجع حتى نرد بدرا» .
فرد كلامه بعض حلفاء بنى زهرة، وقال وهم بالجحفة:
«يا بنى زهرة قد نجى الله أموالكم، وخلص لكم صاحبكم مخرمة ابن نوفل (وكان في حماة العير) وإنما كفرتم بنعمته وماله، فاجعلوا لى جبنها وارجعوا، فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا على غير ضيعة، لا ما يقول هذا الرجل (أى أبو جهل) فلم يشهدها زهرى واحد» .
ولم يكن بقى من قريش بطن إلا وقد نفر منهم ناس، وبنو عدى بن كعب لم يخرج منهم.
وكانت محاورات في صفوف الذين خرجوا للقتال من شأنها أن توجد ترددا في الخروج، وقد قال بعضهم في محاورة لطالب بن أبى طالب، وقد استعد للخروج «لقد عرفنا يا بنى هاشم، وإن خرجتم معنا أن هواكم لمع محمد» فغضب لذلك طالب. ورجع مع من رجع.
كان هذا التردد والرجوع من بعضهم بعد أن خرجت رجالات قريش للدفاع عن العير، ولا شك أن من بقى مصرا على القتال قد نهنه من عزمته ذلك الخلاف، مع رجوع بعضهم، وخصوصا أن سبب الخروج قد زال.
ومهما يكن من أمر ذلك التردد فقد خرجت قريش على الصعب والذلول في خمسين وتسعمائة مقاتل معهم مائتا فرس يقودونها، وأعداد من الإبل تجاوزت الحسبة، ومعهم القيان يضربن بالدفوف، ويغنين بهجاء المسلمين.
377- لنترك هؤلاء وعيرهم وجيشهم وقيانهم، ولنذكر العطر من أخبار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. لقد خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بنحو تسعة وثلاثمائة أو حول هذا العدد، وكان في هذه المرة من المهاجرين والأنصار قاصدين بدرا، ليلقوا العير هنالك، فلم يدركوها، وفربها أبو سفيان مخالفا طريق بدر جاعلا بدرا على يساره، وبذلك نجا العير ومن معه.
وعلم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مما تحسس من أخبار أن قريشا قد خرجت في هذا العدد بجيش لجب فيه الأفراس والإبل، وأنه إذ فر منه العير فقد لقى النفير، وإنها الحرب لا محالة.
ولذلك أخذ يجمع قلوب جنده، بعد أن جمع عددا وإن كان قليلا في عدده فهو قوى في إيمانه، إنه واثق من المهاجرين والأنصار، ولكن خشى أن يفهم الأنصار أن العهد لا يلزمهم أن يخرجوا معه، بل يلزمهم العهد إن دهم في المدينة المنورة وأن ليس عليهم أن يسيروا معه لقتال عدو لم يجيء إلى بلدهم.
(2/547)
ذلك أن صيغة العهد أنهم قالوا: يا رسول الله- عليه الصلاة والسلام- إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع به أبناءنا ونساءنا.
وربما توهم بعضهم أن هذا العهد لا يلزمهم بالخروج ولا بد من اليقين عند الحروب، لذلك أراد أن يتعرف ما في قلوب أولئك الذين آووا، وهل ينصرونه في هذا الموطن، وقد خرجوا للعير، لا للنفير.
استشار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أصحابه ليظفر بمشورة رجل حسن المشورة، وليتعرف حال جنده مهاجرين وأنصارا بصفة خاصة.
استشار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال أبو بكر وأحسن القول، وقال عمر بن الخطاب فأحسن القول، وما كان يريد قول عمر وأبى بكر، فهو مستيقن بإيمانهما وإقدامهما، ولكنه يريد من وراءهم.
فقام المقداد بن عمرو واقفا وقال:
يا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «امض لما أراك الله، فنحن، والله لا نقول لك، كما قالت بنو إسرائيل لموسى: «اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون» ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا معكما مقاتلون، فو الذى بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك، من دونه، حتى تبلغه»
فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خيرا، ودعا له.
وهنا استيقن من المهاجرين، وبقى أن يطمئن إلى الأنصار الذين قد يتوهمون أن العهد الأوّل لا يلزمهم بالخروج، فقال: أشيروا على أيها الناس (يريد الأنصار) . قال سعد بن معاذ: «والله لكأنك تريدنا يا رسول الله» قال عليه الصلاة والسلام: «أجل» .
قال سعد: «لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لما أردت، فنحن معك، فو الذى بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر، فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا، إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله» .
عندئذ آمن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن الله سبحانه وتعالى قد صدق وعده، وأن معه جيشا يؤمن بالله وبالحق، وأنه لا يتردد، ولذلك سر عليه الصلاة والسلام بقول سعد، ونشطه
(2/548)
قوله، فقال عليه الصلاة والسلام: «سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدنى إحدى الطائفتين، والله لكأنى أنظر إلى مصارع القوم» .
هذا هو جيش النبى صلى الله عليه وسلم عقد العزم، وتؤيده قوة الله سبحانه وتعالى.
الجيشان
378- رأيت الجيش النبوى قد ربط نفسه وقلبه بالحق، ولكن عدده قليل، وعدته ناقصة، فلم يكن فيه إلا فرسان وأربعون بعيرا لأكثر من ثلاثمائة مجاهد، فكانوا يعتقبون البعير، يتبادله أكثر من أربعة، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يعتقب معهم، حتى إذا كان سيره أرادوا إعفاء النبى صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: لست أقل منكم قوة، ولا أقل منكم طلبا للأجر.
وجيش الشر كان خمسين وتسعمائة كما ذكرنا، وكان معهم سبعون فرسا، وكان معهم العدد الكثير الذى يركبونه والذى يذبحونه في مأكلهم، ولكنه تنقصه العزيمة والإيمان، بل الرغبة القاطعة في القتال، فالتردد فيه قد كان من كثيرين منهم، ومنهم من تورط في القتال، ولم يكن له فيه إرادة.
(أ) إنهم خرجوا من أجل حماية عيرهم، ودفعتهم الرغبة في حماية حماها. إلى أن يتقدموا على الصعب والذلول لحمايتها. وإنهم إن لم يفعلوا فقدوا المال ومعه النعمة، ونالتهم المهانة في العرب، وقد أرسل إليهم أبو سفيان يذكر لهم أنه نجا بالعير، وقال: «إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجاها الله فارجعوا» .
وإذا زال السبب فليس لهم ما يبعث حميتهم لقتال، ولكن الحقد الدفين، والحسد لبنى هاشم حرك أبا جهل، فدفعهم إلى المضى في القتال حقدا وحسدا، واندفع معه من هو على شاكلته.
(ب) وجاء بنو زهرة فتخلفوا جميعا لهذا السبب، وقال قائلهم، لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير ضيعة، ورموا أبا جهل بالحمق والجهل.
(ج) إن بعض القرشيين الأقوياء الذين لهم مكانة في قومهم ترددوا في الخروج كأمية بن خلف، فإنه امتنع عن الخروج، جاء في سيرة ابن إسحاق أن أمية بن خلف، كان قد أجمع القعود، وكان شيخا جليلا جسيما فأتاه عقبة بن أبى معيط وهو جالس في المسجد بين ظهرانى قومه بمجمرة يحملها نارا ومجمرا (أى بخورا) حتى وضعها بين يديه. ثم قال: يا أبا على استجمر فإنما أنت من النساء.
(2/549)
قال أمية: قبحك الله، وقبح ما جئت به- وتجهز ذلك الرجل ذو المكانة من غير حماسة، ولكن خشية الملامة، وأبو لهب الذى كان يخذل الوفود العربية في الحج عن متابعة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، امتنع عن أن يذهب إلى القتال بنفسه وأناب عنه العاصى بن هشام بن المغيرة في نظير تركه دينا له كان قد أفلس به، فجعله في نظير خروجه.
ولم يذهب طالب بن أبى طالب، لأنه كما قال بعض القرشيين: كان هوى بنى هاشم مع محمد الهاشمى صلى الله تعالى عليه وسلم.
وكان خروج العباس، وهو الهاشمى الأوّل غريبا لأنه كان يذهب مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عند لقائه مع الأوس والخزرج في العقبة الثانية، ويطمئن على حمايتهم للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ويبين لهم أنه في منعة من قومه، وأنهم إن لم يمنعوه، فليتركوه في حماية قومه، فما كان ليخرج ويقاتل جيش ابن أخيه. وهو يريد هزيمته، بل خرج ليدرأ عن نفسه ملامة قريش الذى يعد من كبرائها، وليكون له دائما السلطان فيهم، ولا يكون فردا ما بينهم.
وإنا نحسب أن أبا سفيان نفسه لم يكن مؤمنا بضرورة هذه الحرب بدليل رسالته التى أرسلها إلى قريش.
(د) وإن قريشا في جملتها خافت من الحرب، ذلك أنهم بعد أن فرغوا من جهازهم وأجمعوا المسير، ذكروا ما كان بينهم وبين بنى بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب، فخشوا أن يأتوهم من ورائهم، وقال قائلهم إنا نخشى أن يأتونا من خلفنا. ونراهم قد فزعوا من الحرب، وظنوا أن ما وراءهم من عورات أكثر مما يستقبلهم من حروب، فما كانوا مؤمنين بالحرب، ولا معتزمين لها إلا ما كان ممن أعماهم الحقد والجهل والحسد- وهم أيضا كانوا يرهبون المؤمنين، ويخافونهم، وكان من بعضهم عند ما التقى الجمعان أو أوشكا على اللقاء في وقت يثبط عن القتال، وقد صار قاب قوسين أو أدنى، ولعله كان يثبط لحقن الدماء، وقد بدا من كلامه ما يدل على أنه يريد الرحم لا الحرب مع الاختلاف في العقيدة.
روى ابن إسحاق بسنده، أنه لما اطمأن القوم (أى المشركون) بعثوا عمير بن وهب الجمحى فقالوا: أحزروا لنا أصحاب محمد. فاستجال بفرسه حول العسكر، ثم رجع إليهم، فقال: ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا، أو ينقصون، ولكن أمهلونى حتى أنظر للقوم كمينا أو مددا فضرب في الوادى حتى أبعد، فلم ير شيئا، فقال: ما وجدت شيئا- ولكنه بين رهبة الموقف وأن العبرة ليست بالعدد، ولكن بقوة النفس وإرادة الموت، فقال مخاطبا الجيش، وهو على أهبة القتال:
(2/550)
«يا معشر قريش، البلايا تحمل المنايا، نواضح «1» يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجل منكم، فإن أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك، فروا رأيكم» .
سمع حكيم بن حزام ذلك القول، ومشى في الناس، فذهب إلى عتبة بن ربيعة فقال له: يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها، هل إلى أمر لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر، قال:
وما ذاك يا حكيم، قال: ترجع بالناس، وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمى (أى الذى قتل في سرية عبد الله بن جحش) قال: قد فعلت أنت على بذلك. إنما هو حليفى، فعلى عقله.
بعد ذلك مباشرة قام عتبة بن ربيعة خطيبا، وقال:
يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه أخيه يكره النظر إليه، قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذلك الذى أردتم، وإن كان غير ذلك ألقاكم، ولم تتعرضوا منه ما يريدون.
تسامع الجيش بذلك، ولكن كان أبو جهل حامل الحطب يريدها ويدفعه الحسد، فحرض عامر ابن الحضرمى أخا عمرو الذى قتله أصحاب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على المناداة بثأره فصرخ واعمراه. فحميت النفوس واشتد الناس واجتمعوا على ما هم عليه من الشر.
وننتهى من هذا إلى أن إرادة الحرب كانت ضعيفة مترددة عند قريش وفي جيشها، إذ زال باعثها وداعيها وتردد ذوو الرأى فيهم، ومنهم من تنادى بالرحم ومنهم من أفزعه حال أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وإرادتهم الموت في سبيل الله سبحانه وتعالى.
فكانت إرادة القتال غير ثابتة، وقوة الجيش تبتديء بالعزمة والإرادة، وما كان من بعضهم إلا انفعالة الحقد، وهى إن أجدت في الابتداء والتحريض لا تستمر عند اللقاء، وعند ما تعض الحرب بنابها، هذه حال جيش الباطل يبدو التخاذل في صفوفه، ووراء التخاذل والتردد الهزيمة لا محالة.
وإنا نقول إن رحمة الله سبحانه وتعالى بأهل الإيمان أن جعل جيش الباطل يحمل في نفسه ذرائع انهزامه، وعوامل خذلانه.
__________
(1) النواضح: الإبل التى يستقى بها الماء، أو تحمله.
(2/551)
379- ولننتقل إلى الجانب الفاضل. وهو جيش محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فقد أجمع القتال، ولم يكن الباعث عليه ما لا يبتغونه، ولا عرضا من أعراض الدنيا يريدونه، ولكنه عدو الله قد جاء إليهم، فلا بد لهم من أن يخوضوا استجابة لله سبحانه وتعالى ولرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، وإن لهم إحدى الحسنيين، إما الغنم وإما الشهادة وكلاهما غنيمة في ذات نفسه.
عند ما رأى المشركون المؤمنين بعين المتحسس منهم هالهم حالهم فاسترهبوهم، وهم القلة الذين بلغوا نحو ثلاثمائة وازدادوا تسعة، وقال ابن كثير: إنهم كانوا ثلاثة عشر وثلاثمائة عدا.
وعلى ذلك أرى الله سبحانه وتعالى المؤمنين المشركين قلة يستهان بها، ولا تهولهم حالها، وقد رأى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك بالرؤيا الصادقة، ورأوهم كذلك رأى العين، وقد قال الله سبحانه وتعالى في ذلك: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا، وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ، وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ، وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ، وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا، وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (الأنفال 43- 44) .
ونرى من هذا أن المشركين كانوا يهلعون من اللقاء، ويترددون ساعته إلا من ركبت الحماقة رؤوسهم، بينما المؤمنون في بشرى من الله سبحانه وتعالى، يستصغرون شأنهم، ويتقدمون غير راهبين، ولا يستنيثون إلا بالله، والله سبحانه وتعالى يلقى في نفوسهم الطمأنينة، والروحانية تظلهم والله سبحانه وتعالى يعينهم، ويمدهم في ذات أنفسهم بالملائكة وفي قلوبهم بالأمن والدعة، وهم ينامون مطمئنين واثقين بالنصر راجين ما عند الله سبحانه وتعالى ولا يستعينون إلا بذاته الكريمة، ولقد قال الله سبحانه وتعالى في حالهم، وهم مقبلون على المعركة:
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ، فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ.
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً، لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ، وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ، وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ، وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ. إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ، فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا، سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ، فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (الأنفال: 9: 13) .
ثم يقول سبحانه: ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (الأنفال- 18) .
(2/552)
جيشان قد تلاقيا أحدهما كثير العدد، والعدة، ولكنه فاقد الإيمان، حتى بالحرب التى أقدم عليها، فقد أوهن الله سبحانه وتعالى كيده وتدبيره، أوهنه بإزالة الباعث على القتال، وأوهنه بالتردد في بعض كبرائهم، وأوهنه بانفصال بعض بطونهم، وأوهنهم بإثارة الأرحام التى قطعوها، وألقى الله سبحانه وتعالى في قلوبهم الرعب عند ما التقى الجمعان.
هذه حالهم، أما حال المؤمنين فإرادة مؤمنة مجمعة، وبشرى من الله سبحانه وتعالى بالملائكة وإيحاء إلى الملائكة بتثبيت المسلمين وإلقاء الطمأنينة في قلوبهم، حتى غشاهم النعاس أمنة، وأرسل لهم المطر خفيفا لتثبت الأرض تحت أقدامهم، واستبدلوا بطلب العير طلب العزة، فقد أرادوا المال ابتداء، ثم أرادوا إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى، كانوا يودون المال، وبعزة الله سبحانه وتعالى أرادوا القوة والعلياء، كما قال الله سبحانه وتعالى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ، وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ (الأنفال- 7) ، جيشان درع أحدهما بالعدد والعدة مع الوهن، والثانى درع بالعزيمة والإيمان والصبر، والرغبة في الشهادة، وإنها إحدى الحسنيين، فإما نالوها، وإما نالوا النصر، وفي كليهما الغنم الكثير.
فهل هما متكافئان؟ أقول إن أهل الخبرة في الحروب يقولون إنهما غير متكافئين، ذلك أن قواد الحروب في القرنين الحاضر والسابق قدروا أثر القوة الحربية المادية بالنسبة للقوة المعنوية بواحد إلى ثلاثة أى أن نتائج النصر أو الهزيمة يكون للقوة المادية فيها الربع. وللقوة المعنوية الروحية ثلاثة الأرباع، وإذا كان عدد المشركين ألفا فهو ألف، أما عدد المؤمنين في ميزان القوة فهو مائتان وألف على الأقل فوق تأييد الله سبحانه وتعالى بالملائكة إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا (الأنفال: 12) ، وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى (الأنفال- 17) .
وإن تقدير النسبة بين قوة المادية إلى قوة الروح بواحد إلى ثلاثة هو تقدير أهل الخبرة، وهم يخطئون ويصيبون، أما تقدير الله سبحانه وتعالى فهو أعلى من ذلك إذ قدر الواحد من أهل الإيمان في حال القوة التى لا ضعف معها، بعشرة من أهل الكفر، فقال الله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ، وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ، إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ. الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ، وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (الأنفال- 64، 65) .
(2/553)
ونرى من هذا النص أن القوة المعنوية عشرة أمثال القوة المادية إذا لم يكن في أوساط المؤمنين ضعاف الإيمان، الذين يخالطون المؤمنين الصادقين خصوصا عند ما كان في المسلمين منافقون. لا يريدون بأهل الإيمان إلا خبالا كما قال الله سبحانه وتعالى فيهم: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ، يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ، وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ.
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ.
هذا هو الضعف في الصفوف، وقد ظهر في غزوة أحد، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يسوى الصفوف للقتال. كما قال الله سبحانه وتعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.
هذه هى النسبة في حال قوة الإيمان. وألا يخالط المؤمنين نفاق قط. وهى قوة الواحد بعشرة فإذا خالط المؤمنين منافقون مع مرضى القلوب كان هناك ضعف فيكون الواحد من المؤمنين يقابل اثنين من المنافقين، فالنسبة الكبرى في حال قوة الإيمان الخالص، والنسبة الثانية إذا كان مرضى القلوب في صفوف المؤمنين، فلا ناسخ ولا منسوخ. كما يقال إن الثانية نسخت الأولى.
التقاء الجمعين يوم الفرقان
380- ذهب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى بدر ليدرك العير، فلم يدركها، وأدركه النفير فلم يكن من القتال بد، وقد أقبلت قريش بخيلائها وفخرها، فتعرف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم العدو، فقدره بين تسعمائة وألف، مما كانوا يعقرون من إبل، فقد قيل له، وقد سأل عن عددهم، فقال المسئول: إنهم كثير لا يحصون، فسأله عما ينحرون من إبل، فقال: يوم تسع، ويوم عشر. فقال: هم بين تسعمائة وألف، فكانوا خمسين وتسعمائة. وسأل عن أشراف رجالاتهم، فذكروا عتبة بن ربيعة وأخاه شيبة، وغيرهم من أشرافها، فقال عليه الصلاة والسلام لمن معه من جند المسلمين ليحثهم على القتال ويحرضهم: «هذه قريش قد ألقت إليكم أفلاذ أكبادها» .
وقد نزلوا من بدر بالعدوة القصوى، وهى كثيب من الرمل مرتفع، بعيد عن بدر، ونزل أهل الإيمان بالعدوة الدنيا من بدر، وهذا ما ذكره الله سبحانه وتعالى بقوله: وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا، وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ، وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا. لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ (الأنفال- 41، 42)
(2/554)
كان اختيار المكان بتوفيق الله سبحانه وتعالى، لا بإرادة أحد، ولو كان بإرادتهم وأمرهم لاختلفوا في المكان والزمان، ولكن الله سبحانه وتعالى دبر الميقات، فجعله في هذا الزمان، ودبر المكان فكان هذا المكان، وكان منزل المؤمنين دهسا رمالا يعوق السير، فأنزل الله سبحانه وتعالى مطرا خفيفا لبّد الأرض، وجعلها معبدة يسهل السير فيها، وأنزل أمامهم على قريش مطرا كثيرا عوق سيرهم.
روى النسائى عن مجاهد: أنزل الله سبحانه وتعالى عليهم المطر، فأطفأ الغبار، وتلبدت الأرض، وطابت به أنفسهم. جاء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، بجيش الإيمان، فنزل على أقرب ماء من بدر، وعرض الأمر على الصحابة فجاء إليه الحباب بن منذر بن الجموح وقال:
يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله تعالى، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخره، أم هو الرأى والحرب والمكيدة؟
قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: بل هو الرأى والحرب والمكيدة.
قال: يا رسول الله هذا ليس بمنزل، فامض بالناس، حتى تأتى أدنى ماء من القوم، فتنزله ثم تغور «1» ما وراءه من القلب، ثم تبنى عليه حوضا فتملؤه ماء، ثم تقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون.
اختار النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ذلك المنزل، وأخذ برأى الحباب بن المنذر كاملا، وبنى الحوض على البئر التى اختارها، وامتلأت ماء لأنه آل إليها كل ماء الآبار التى غورت، ورأى المشركون ذلك فأحسوا بأنها المكيدة التى تحرمهم من الماء.
وقد تواجهت الفئتان وتقابل الفريقان، وحضر الخصمان، واستغاث برب العالمين سيد الأنبياء.
وقد ابتدأت المناوشات بأن رجلا شرسا من بنى مخزوم أحس بمكيدة الماء، وظن أنه يستطيع أن يهدم على المؤمنين الحوض الذى بنوه، فقال: لأشربن من حوضهم، أو لأهدمنه، أو لأموتن دونه «2» ، فخرج إليه وانقض حمزة بن عبد المطلب أسد الله فانقض عليه، فلما التقيا قطع حمزة بسيفه رجله إلى نصف ساقه، ولكنه لحرصه على أن ينفذ ما أقسم عليه حبا إلى الحوض، فضربه حمزة حتى قتله.
كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الجيش كسائر جنده، ولكنه رأى أن يكون في مكان مرتفع ليشرف على حركة جنده، فاتخذ له عريشا على مرتفع من الأرض، ويروى أن سعد بن معاذ هو الذى أشار به على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. يروى ابن إسحاق بسنده أن سعد بن
__________
(1) رويت في هذه الكلمة بحرف الغين، المعجمة، ومعناها تغوير ما حولها ليذهب ماؤها، ورويت بالعين ومعنى تعويرها إفسادها بما يشبه ردمها فينحصر الماء في القليب المختار.
(2) هو الأسود بين عبد الأسد المخزومى.
(2/555)
معاذ قال: يا نبى الله، ألا نبنى لك عريشا تكون فيه ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله تعالى وأظهرنا على عدونا ذلك ما أحببنا، وإن كانت الآخرى جلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا، فقد تخلف عنك أقوام يا رسول الله، ما نحن بأشد حبا لك منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربا، ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، يناصحونك ويجاهدون معك، فأثنى عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ودعا له بخير.
بنى له عليه الصلاة والسلام العريش، وكان فيه فائدة، وهو الرقابة على حركة الجند وعمله، وليكون مع الجند كله ببصره، لا مع فريق منه، فهو يراقبهم، ويعرف أعمالهم.
ولا شك أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان بوجدانه وشعور العطف والرحمة بجيشه يغلب عليه الإشفاق، فعندما رأى جيش قريش ضرع إلى ربه داعيا قائلا:
«اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذى وعدتنى، اللهم أحنهم «1» الغداة» .
وكان أبو بكر مع رسول الله في العريش، ومعاذ بن جبل في نفر من الأنصار يطوفون حوله، والرسول صلى الله تعالى عليه وسلم دائم الدعاء والضراعة إلى ربه يقول فوق ما روينا ما رواه على بن أبى طالب رضى الله عنه: كان رسول الله يكثر الابتهال والتضرع والدعاء، ويقول فيما يدعو «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الأرض» وجعل يهتف بربه عز وجل ويقول:
«اللهم أنجز لى ما وعدتنى، اللهم نصرك» ويرفع يديه إلى السماء حتى سقط الرداء عن منكبيه، وجعل أبو بكر يلتزمه من ورائه، ويسوى عليه رداءه، ويقول مشفقا عليه من كثرة الابتهال، يا رسول الله:
«بعض مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك» . وهكذا كان القائد الرشيد الحكيم لمحبته لجيشه، ولكل رجل من رجاله، ولحرصه على الأمر الباعث على الجهاد، وهو حماية الوحدانية، والقضاء على الوثنية، كان يشتد في الابتهال إلى الله سبحانه وتعالى. وبجوار ذلك كان يجتهد في بث العزيمة على القتال في جيشه الحبيب إليه، فهو يلجأ إلى جنده ليأخذ الأهبة، ويعمل على النصر، ثم يضرع إلى ربه متوكلا عليه مستغيثا، لتجتمع له ولجيشه قوة العمل، وقوة الاعتماد على الله سبحانه وتعالى الذى لا يغير أمر إلا بأمره.
__________
(1) أحنهم: من الحين والهلاك.
(2/556)
ولقد أخذ صلى الله تعالى عليه وسلم يحرض على القتال استجابة لقول الله سبحانه وتعالى:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ (الأنفال: 65) فقال عليه الصلاة والسلام: والذى نفس محمد بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا غير مدبر إلا دخل الجنة. هذا بعض تحريض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. وتحريض الله تعالى كان أقوى من ناحية التحذير فقد قال الله سبحانه وتعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً، فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ. وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ، فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (الأنفال- 15، 16) .
وإذا كان تحريض النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تبشيرا، فتحريض الله سبحانه وتعالى كان تحذيرا، فالأوّل بين عاقبة الخير إن أقدموا. وكلام الله سبحانه وتعالى يبين العاقبة السوء إذا فروا أو أحجموا.
القيادة والتنظيم
381- كانت القيادة حكيمة، وكانت رحيمة، وكانت حازمة، وكانت قوية، فكان عليه الصلاة والسلام أسوة حسنة لقائد الحرب العادلة، كما هو أسوة حسنة للمؤمنين في عمله وخلقه وسننه وقد قال الله سبحانه وتعالى لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (الأحزاب- 21) .
(أ) وأوّل مظاهر قيادته الحكيمة المرشدة، أنه كان وسط الجند في القتال، فلم يكن بعيدا عنهم، بل كان يشرف عليهم ويوجههم، ويشترك في شدائد الحرب، كما يشترك في ثمراتها، سواء أكانت حلوة أم كانت مرة.
روى عن على رضى الله تبارك وتعالى عنه أنه قال: «كنا إذا اشتد الخطب، وحمى الوطيس واحمرت الحدق اتقينا برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتنى يوم بدر، ونحن نلوذ برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو أقرب إلى العدو» ، فالنبى القائد كان في المعركة ولم يكن بمنأى عنها، بنى له أصحابه عريشا، ويظهر أنه لم يستقر فيه إلا بالقدر الذى أشرف به على الجيش، وحرك الجند، ليتبعوا نظامه.
ولقد رأينا من بعد قوادا مسلمين اتبعوا هديه، كصلاح الدين الأيوبى الذى كان يعيش في جيشه، وقطز الذى كان جنديا مع الجنود. فكان النصر.
(2/557)
وخالف طريقه ناس سموا أنفسهم قوادا كانوا يديرون دفة الحرب، وهم في قصور مشيدة، فكانت الهزيمة، وذهب جند الله بإهمالهم.
(ب) وثانى مظاهر قيادة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، المساواة بينه وبين جنده، فقد كان يشعر كل جندى أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بجواره، ويتساوى معه في الحقوق والواجبات الجندية، وليس أدل على ذلك من أنه كان يتعاقب مع على بن أبى طالب ومرثد في جمل واحد، فلما جاءت نوبته في السير أرادا أن يعفياه، فرفض، وقال: لستم أقوى منى، ولا أنا أغنى عن الأجر منكم. وازن بين هذا، وبين جيوش المسلمين، وخصوصا المصريين في العصر الأخير، والأمور المفرقة التى تجعل فريقا يكتوى بنيران الحرب، والآخر ينعم بالخيرات، وينال الفخر إن كان انتصار، ولا شرف يناله الذين اكتووا بنارها، ولذلك كانت الهزيمة تتلوها أختها.
(ج) وثالث مظاهر القيادة النبوية، إشعار الجند بأنهم يعملون مختارين، ولا يعملون مسخرين، وأنهم يطلبون الثواب بحربهم، وأنهم إن انتصروا بهدى الله تعالى نالوا نصرا لأنفسهم، وللحق الذى يدافعون عنه. وإن قتلوا نالوا شرف الشهادة وجنة رضوان، وما بينهم وبين دخول الجنة إلا أن يقاتلوا ويقتلوا، فهم ينالون إحدى الحسنيين، فهم يقاتلون مختارين لله وللحق، ولأنفسهم، فهم في صفقة رابحة اختاروها ولم يسخروا لها، كما قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ، يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ، وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ، فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ، وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (التوبة- 111) .
فالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أودع قلب كل مؤمن من الجند بأنه يقاتل مختارا لنفسه، لا لدنيا يصيبها، ولكن لله وللحق في ذات الحق، فلم يكن أى واحد من جند الله بهداية الإيمان، وقيادة النبى عليه الصلاة والسلام مسخرا أو مجندا، ولكن كان جنديا مختارا.
(د) ورابع الأمور التى لوحظت في قيادة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنها كانت لينة مع حزمه وقوة تنظيمه، فقد كان رفيقا سهلا لينا في قيادته، لا سيطرة، ولكن قيادة رفيقة هادئة هادية مرشدة من غير إعنات ولا غلظة، فكانت القلوب مستجيبة، والأجسام لها تبع، فالتفوا حول القائد الحكيم، يفدونه، ويفدون معه الحق طوعا واختيارا، لا كرها واضطرارا، ولقد كان ذلك من رحمة النبوة، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى في قيادة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ، وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ (آل عمران- 159) .
(2/558)
(هـ) والأمر الخامس الذى لوحظ في قيادة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حرصه على جنده، وإشفاقه عليهم، وإعظامه لأمر آحادهم وجماعتهم، كما ثبت في ضراعته لربه، وخوفه عليهم، فلم يكن الجند معه إلا الأحباب والأولياء، ودعاة الحق وهداته، وأنهم عصابة الله إن هلكوا لا يعبد الله في الأرض، فتتربى فيهم عزة، ويحسون بأنهم موضع المحبة.
وإذا أحسوا بذلك باعوا أنفسهم لله، فلم ينظر إليهم القائد الحكيم كما ينظر بعض قواد المسلمين اليوم، على أنهم أدوات للحرب، كالاتها.
(و) وسادس الأمور التى لوحظت في قيادة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إشراكهم معه فى تحمل التبعة بالشورى يقيمها فيهم، كأمر الله سبحانه وتعالى بقوله فيما تلونا «وشاورهم في الأمر» إن الشورى مع الجند، تجعل الجندى يحس بتحمل التبعة، وأنه ذو رأى في توجيهاته، وذلك يوجد فيه عزة الجندى المتحمل للتبعة وليس كالآلة المتحركة، وفوق ذلك يشارك في تدبير القتال، فيزداد قوة نفس، ومن قوة النفس تكون الإرادة الحازمة الراغبة غير المترددة.
بهذه القيادة الحكيمة اللينة الحازمة، الرقيقة الرحيمة، تربى جند الله تعالى. فكان النصر والغلب.
التنظيم:
382- أول ما اتجه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في تنظيم جيشه جعله صفوفا متتالية أمام العدو، وذلك كقول الله سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ
(الصف- 4) . فهذا توجيه من الله تعالى في القيادة إلى أن يصف الجنود صفوفا، وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هو الذى يبين القرآن الكريم بعمله، وقوله، إن احتاج القرآن الكريم إلى بيان.
وأوّل معركة في الحرب النبوية كانت بدرا الكبرى، فطبق نظام الصف الذى يحبه الله سبحانه وتعالى.
روى ابن إسحاق بسنده أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عدل صفوف أصحابه، وفي يده قدح يعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية، وهو مستنتل «1» من الصف، فطعن عليه الصلاة والسلام فى بطنه بالقدح قائلا: استويا سواد، فقال: يا رسول الله أوجعتنى، وقد بعثك الله تعالى بالحق والعدل، فأقدنى «2» . فكشف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن بطنه، وقال: استقد قال: فاعتنقه فقبل
__________
(1) مستنتل: معناها متقدم في الصف، وفي رواية مستنصل ومعناها خارج من الصف.
(2) أي مكني من القصاص.
(2/559)
بطنه!! فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما حملك على هذا يا سواد؟ قال: يا رسول الله، حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك يمس جلدى جلدك، فدعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم له بخير.
وأصدر أمره إلى جيشه جيش الإيمان ألا يحمل على العدو إلا عند ما يصدر إليهم الأمر بذلك.
وأمرهم أن ينضحوهم، فلا يقاتلون مهاجمين حتى يصدر أمره عليه الصلاة والسلام، لكى يهجموا هجمة رجل واحد غير متفرقين، ولا مانع من أن يكون النبل، فرادى، ومع ذلك كانت أوامره ألا يسرفوا في النبل، بل يتخيرون من يرمونه، ليكون ذلك أنكى للعدو، وأبقى للعدة.
روى ابن إسحاق بسنده أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أمر أصحابه ألا يحملوا حتى يأمرهم، وقال إن اكتنفكم القوم، فانضحوهم عنكم بالنبل.
وفي صحيح البخارى عن أبى أسيد قال لنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم بدر إذا أكثبوكم فارموهم، واستبقوا نبلكم. وأمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن تقطع الأجراس من أعناق الإبل لئلا يشغل الناس بها.
وقد جعل شعار الصحابة في هذه الحرب العادلة «أحد أحد.. وشعار المهاجرين يابنى عبد الرحمن، وشعار الخزرج يا بنى عبد الله، وشعار الأوس يا بنى عبد الله» .
وكانت عدة المؤمنين كما ذكرنا (313) ثلاثة عشر وثلاثمائة، وكانت عدة المهاجرين نيفا وستين على رواية البخارى، وعند الإمام أحمد ستة وسبعين.
وقد أعطى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم اللواء لمصعب بن عمير، وكان أبيض، وأعطى راية المهاجرين وكانت سوداء لعلى بن أبى طالب، وراية الأنصار وكانت سوداء أيضا لسعد بن معاذ، وروى أن راية الأنصار كانت مع الحباب بن المنذر.
وجعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قيس بن أبى صعصعة معه.
هذا تنظيم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، جعل على المهاجرين رجلا منهم، وهو من صناديد الإسلام، وجعل على الأنصار رجلا منهم، لا للتفريق بين المهاجر والأنصارى، ولكن ليأنس كل فريق بصاحبه، وليكون الجهاد الذى يراه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والناس، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
(2/560)
المعركة
383- بعد ذلك التنظيم الذى لم يكن للعرب عهد به كان لابد من اللقاء، بين جيشين أحدهما قوى الإيمان وقد عقد العزم، والثانى غير مؤمن بالله، ولا عزيمة عنده كما بينا في حال الفريقين، وينطبق عليهما قول الله سبحانه وتعالى: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ، فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ. يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ إلى آخر الآيات الكريمات (الحج- 19، 20) .
وإنها إذا كانت الآية فيما يلقاه الكافرون يوم القيامة ففى لفظها ما يوميء إلى حالهم في المعركة.
ابتدأ القتال بالمبارزة، طلبها بعض كبار المشركين، فأجيبوا إليها، وجندلوا بسيفى أسد الله ورسوله حمزة بن عبد المطلب، وفارس الإسلام على بن أبى طالب.
خرج عتبة بن ربيعة، ومعه أخوه شيبة بن ربيعة، وابنه الوليد يطلبون المبارزة فخرج إليهم ثلاثة من الأنصار، فقالوا: ما لنا بكم من حاجة، ولكن نريد أكفاءنا من قومنا، ثم نادى مناديهم: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فاختار لهم الأكفاء من ذوى قرابته الأقربين عمه وابنى عمه، وقد آثرهم بالجهاد والعمل، ولم يرض لهم القعود.
أخرج عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، وحمزة، وعليا، فلما رأوهم سألوهم عن أنفسهم، ويظهر أنهم قد تقنعوا بالسلاح، فلم يعرفوهم فعرفوهم بأنفسهم، فقالوا: أكفاء كرام، فبارز عبيدة عتبة، وبارز حمزة شيبة، وبارز على الوليد، فقتل كل من حمزة وعلى صاحبه، أما عبيدة وعتبة، فاختلفا ضربتين كلاهما أصاب صاحبه، فكر حمزة وعلى بأسيافهما على عتبة فأجهزا عليه.
بعد ذلك أخذ النبل يرمى من الجانبين، وأصيب به بعض المسلمين، ورمى الجيش المحمدى نبلهم بمهارة متخيرا كبارهم، متصيدا زعماءهم، والرمى يمكن التصيد فيه، أما الملاقاة بالسيف، فلا تخير فيها، ولكن اللقاء هو الذى يحدها.
عند ما رأى المشركون ذلك هجموا، فكان لا بد من ملاقاتهم.
وعندئذ تقدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يأمر جيشه بأن يحمل على المشركين حملة رجل واحد، وأخذ حفنة من تراب، فاستقبل بها قريشا، وقال: شاهت الوجوه، ولفحهم بها فلم يكن منهم إلا أصيب منها، ثم قال لأصحابه: شدوا.
فالتحم الجيشان والنبى عليه الصلاة والسلام ينظر من فوق العريش، وهو يحس بأن الله تعالى أنجز وعده، وهزم قريشا وحده وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ، وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى (الأنفال: 17) .
(2/561)
وسعد بن معاذ قائم على باب العريش، متوشح بالسيف في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، يخافون كرة العدو.
وقد أخذ الجيش المحمدى في تقتيل صناديد قريش وزعماء الشرك الذين كانوا يفتنون الناس عن دينهم، ويأسرون فريقا. وقد اشتدت النازلة بالمشركين، وعلموا أن كلمة الله تعالى العليا.
384- هذا ويجب أن نلاحظ أمرين جديرين بالنظر: -
أولهما- أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم ينس رحمه وواجب الوفاء وأن يكون جزاء الإحسان لبنى هاشم الذين ذاقوا مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما ذاقوا، وقريش تقاطعهم في شعبهم، وهم على مثل قومهم من الشرك، فما كان من الوفاء بالعهد، وجزاء المعروف بمعروف مثله أن يقتلهم في الميدان وقد خرجوا لحربه كارهين، وكان من بعض رجالات قريش من لم يؤذ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، بل من سعى سعيه في منع حصار بنى هاشم وبنى عبد المطلب، فكان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الوفى الأمين، لن ينسى إحسان محسن، والله سبحانه وتعالى يقول: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ (الرحمن- 60) .
وهذا العباس بن عبد المطلب الذى كان يذهب مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في بيعة الأوس والخزرج ليستوثق من منعة يثرب للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فهل يتركه تعتوره السيوف.
ولذلك قال لجيشه في رواية ابن عباس:
«إنى عرفت أن رجالا من بنى هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها، لا حاجة لنا بقتالهم، فمن لقى منكم أحدا من بنى هاشم، فلا يقتله، ومن لقى أبا البختري «1» فلا يقتله، ومن لقى العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فلا يقتله» .
فقال بعض من قتل ذووه، وهو أبو حذيفة، (ويظهر أن قوله لم يكن في حضرة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم) ، أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا، ونترك العباس، والله لئن لقيته لألجمنه السيف، فبلغت هذه المقالة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فأثرت في نفسه، فقال لعمر بن الخطاب آسيا: يا أبا حفص:
أيضرب وجه عم رسول الله عليه الصلاة والسلام بالسيف. وفي ذلك إشارة الى موقف العباس في العطف على رسول الله عليه الصلاة والسلام، والفرق بينه وبين أبى لهب.
ولقد ندم أبو حذيفة (ولعله قالها لقتل أبيه) «2» أشد الندم، فكان يقول: ما أنا بامن من تلك الكلمة التى قلت يومئذ، ولا أزال منها خائفا إلا أن تكفرها عنى الشهادة، فقتل يوم اليمامة شهيدا.
__________
(1) عند ابن هشام: بالحاء وليس بالخاء.
(2) هذا التعليل وقع سهوا وما نظنه مقصودا فإن أباه قد قتل في أحد وليس في بدر.
(2/562)
هذا وإن الذين حضروا الموقعة من بنى هاشم لم تمسهم السيوف استجابة لطلب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، لرحمه، ولحدبهم عليه ولمشاركتهم له في الضراء، وما كان القتال لأجل الكفر، بل كان للاعتداء.
أما أبو البخترى وله مقام مشهود في نقض الصحيفة، وقد عرفها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم له فى شديدته كما كانت منه المعونة في الشديدة، فقد لقيه المجذر بن زياد البلوى حليف الأنصار، فقال لأبى البخترى: إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد نهانا عن قتلك.
وكان أبو البخترى له زميل قد خرج معه من مكة المكرمة، فجمعتهما رفقة السفر ولعله كانت بينهما مودة موصولة، فطلب ألا يقتل صاحبه، فقال المجذر: «والله ما نحن بتاركى زميلك، ما أمرنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا بك وحدك» .
فقال أبو البخترى: لا والله، إذن لأموتن أنا وهو جميعا، ولا تتحدث عنى نساء مكة أنى تركت زميلى حرصا على الحياة.
فتنازلا، ولم يسلم أبو البخترى سيفه إلا أن يكون مقتولا، وقال في ذلك:
لن يسلم ابن حرة زميله ... حتى يموت أو يرى سبيله
هذا وفاء محمد عليه الصلاة والسلام في ميدان القتال، والبلاء بلاء.
الملاحظة الثانية: أن الشرك وإن فرق النفوس، قد كانت المودة بين بعض الرجال ما زالت موصولة، لقد كان أمية بن خلف صديقا ودودا لعبد الرحمن بن عوف، فلقيه في بدر فلم يرد أن يقتله بل أراد أن ينقذه، لقد رآه وابنه عليا، وإنه ليقودهما بدل أن يقتلهما- إذ رآه بلال الذى كان عبدا لأمية، وكان يعذبه ليترك الإسلام، فيخرجه إلى رمضاء مكة المكرمة إذا حميت فيضجعه على ظهره، ثم يأتى بالصخرة العظيمة، فتوضع على صدره، ثم يقول: لا تزال هكذا أو تفارق دين محمد، فيقول بلال: أحد أحد.
وجدها بلال الفرصة التى يقتص فيها منه جزاء ما فتنه في دينه، فقال رضى الله تعالى عنه: رأس الكفر أمية بن خلف لا نجوت إن نجا، ثم صرخ بأعلى صوته: يا أنصار الله رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا، فأحاطوا به، وعبد الرحمن بن عوف يذب عنه، ولكنه قتل هو وابنه.
(2/563)
القتل والأسر:
385- كان الجيش الإسلامى يقتل ويأسر، لأنه في حال حرب، ولكن سعد بن معاذ الذى كان يحوط عريش رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، كان يكره الأسر، ولا يريد إلا القتل، وأن يثخن فيهم.
يقول ابن إسحاق: رأى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس، فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم!!» قال: «أجل يا رسول الله كانت أوّل واقعة أوقعها الله تعالى بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل بأهل الشرك أحب إلى من استبقاء أحد» .
ونرى من هذا أن القرآن الكريم نزل بموافقة سعد إذ قال الله سبحانه وتعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ.
نتائج المعركة وأعقابها
386- هذه المعركة اكتفينا في ذكرها بالإجمال لضيق وقتها، فلم تمكث إلا يوما واحدا من صبيحة الليلة السابعة عشرة من رمضان في السنة الثانية، وكان شهرا مباركا، وهو يوم بدر، وفيه آخر فتح بإزالة الأوثان وتطهير بيت الله الحرام.
وإذا كنا ذكرنا المعركة بإيجاز، لأنها في وقت قصير، فقد كانت نتائجها بعيدة الأثر في حياة المسلمين، ذلك أن زعماء الشرك الذين ما كان يرجى فيهم خير، قد قتلوا، ومنهم من كان يؤذى النبى عليه الصلاة والسلام والمؤمنين، ولا يألو في ذلك ولا يقصر، ومنهم أشد مشعليها، ومؤججيها.
وكان عدة من قتل من المشركين سبعين، وأسر منهم سبعون، وكان ممن أسر: النضر بن الحارث الذى كان شريك أبى جهل في إيذاء المسلمين والمبالغة في الأذى، وعقبة بن أبى معيط الذى كان يقف ضد كل داعية للسلام، حتى أشعلت الحرب، فوقف ضد ابنه، وعيره بأنه رضى أن يعيش كالنساء، والحرب قد قامت أسبابها، فقتل النضر على بن أبى طالب، وروى أنه هو أيضا الذى قتل الثانى.
وفي غب «1» المعركة كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حريصا على أن يعرف مال أبى جهل الذى سمى فرعون هذه الأمة، فإذا أدال الله سبحانه وتعالى منه، فقد أدال من فرعون.
يروى ابن إسحاق أنه لما فرغ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من عدوه أمر بأبى جهل أن يلتمس في القتلى، وقد كان هو مقصودا في القتال، لأنه رأس الفتنة، ولقد أحيط بمن يدفعون عنه إن
__________
(1) غب: آخر.. وغب الشىء عاقبته وآخره.
(2/564)
أريد قتله، فكان معه عكرمة وبعض سفهاء القوم، وكان أوّل من لقيه بضربة معاذ بن عمرو بن الجموح أخو بنى مسلمة، فقال: رأيته كالحرجة (أى كالشجرة الكبيرة) وهم يقولون لا يخلص إليه أحد.
فضربته ضربة أطنت قدمه إلى نصف ساقه (أى قطعتها) وضربنى عكرمة على عاتقى فطرح يدى. لم يستطع معاذ الإجهاز عليه، حتى جاء معوذ بن عفراء، فأثبته، ولكن لم يقض عليه أيضا، وإن منعه الحركة حتى جاء عبد الله بن مسعود، وبه رمق فوضع رجله على عنقه، وكان قد آذاه، ثم قال له: أخزاك الله يا عدو الله، ثم حز رأسه، وذهب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
انتهى أمر زعماء الشرك، والذين بقوا منهم كانوا أقل عداء وإيذاء وإن كان قتل ذويهم قد أرث قلوبهم بالأحقاد.
وإنه في هذه المعركة لم يستشهد من المؤمنين إلا أربعة عشر، أى نحو خمس من قتل من المشركين، وإذا أضيف المأسورون، يكون ما أصيب من المسلمين عشر ما أصيب من المشركين، ولقد كانت هذه المعركة شفاء لغيظ المؤمنين الذين أوذوا في الحق وأخرجوا من ديارهم كما قال الله سبحانه وتعالى: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ، وَيُخْزِهِمْ، وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ، وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ. وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ (التوبة 14، 15) .
وإن الأمور الأربعة التى ذكرها الله سبحانه وتعالى قد كانت، فقد عذبهم الله سبحانه وتعالى بأيدى الذين عذبوهم، وأخزاهم الله بالهزيمة، وشفى الله قلوب المؤمنين، وأذهب غيظهم، وكانت المعركة سبيلا لأن يذهب غرور بعض الناس، ويفكروا من جديد في دعوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وهى دعوة الحق.
ويقول ابن كثير في تاريخه في قتل أبى جهل: «كان قتل أبى جهل على يد شاب من الأنصار، ثم بعد ذلك وقف عليه عبد الله بن مسعود وأمسك بلحيته، وصعد على صدره، حتى قال له: لقد رقيت مرتقى صعبا يا رويعى الغنم. ثم قعد هذا حز رأسه وحمله حتى وضعه بين يدى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فشفى الله تعالى به قلوب المؤمنين، وكان هذا أبلغ من أن تأتيه صاعقة، أو أن يسقط عليه سقف منزل أو يموت حتف أنفه- والله أعلم.
وقد ذكر مؤرخو السيرة أنه فيمن خرج يوم بدر بعض المسلمين الذين شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ولكنهم بقوا في مكة المكرمة، وهم مؤمنون فخرجوا مع المشركين تقية، كما خرج بعض بنى هاشم وهواهم مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وإن لم يكونوا قد آمنوا من بعد.
ومن هذه الجماعة المسلمة الحارث بن زمعة بن الأسود، وأبو قيس بن الفاكه، وأبو قيس بن
(2/565)
الوليد بن المغيرة، وعلى بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه بن الحجاج.
وقد قتل هؤلاء يوم بدر....
قال ابن إسحاق، وفي هؤلاء نزل قول الله سبحانه وتعالى إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ، قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ، قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ، قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها، فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً. إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا. فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (النساء 97- 99) .
وسواء أصح أن تكون حال هؤلاء هى سبب النزول أم لم يصح، فإن الآية توجب على كل مؤمن يقيم في أرض الكفر أن يخرج مهاجرا إلى الله حيث يكون قوة للإسلام، ولا يتخذ قوة للكفر، وإن ثبت أن النزول كان لذلك السبب، فإن الآية عامة، وكما يقول علماء الأصول إذ العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.
الكرامة الإنسانية في أعقاب المعركة:
387- قلنا إن حرب الإسلام هى حرب الفضيلة- لا يستباح فيها إلا الدماء، ولا تباح فيها المثلة تكريما للإنسان، ولا يترك فيها أشلاء الإنسان تنهشها الذئاب والغربان، بل إنها تدفن تكريما للإنسان، وذلك لقول الله سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ، وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا (الإسراء- 70) وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كرم الإنسان حيا وميتا، والقتل في الميدان عند الاعتداء، لا يتنافى مع تكريم الإنسان، لأنه العدل، والعدل فيه تكريم الإنسانية دائما، ففيه تكريم الإنسان الفاضل بأخذ الحق له، وتقويم الفاسد بأخذ العدل منه.
ومن هذا المبدأ السامى لم يترك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قتلى بدر من المشركين تنوش جثثهم سباع الحيوان، ولا تنقرها الغربان جيفا ملقاة في الأرض، كما فعلت جيوش في قتلاها أنفسهم، لا في قتلى أعدائهم فقط.
بل إن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد جاء إلى حيث القتلى من قريش في هذه المعركة المباركة فدفنهم في القليب، وهو بئر جافة، وتقول عائشة فيما رواه عنها ابن إسحاق: «أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالقليب فطرحوا فيه، إلا ما كان من أمية بن خلف، فإنه انتفخ في درعه،
(2/566)
فملأها، فذهبوا ليخرجوه فتزايل لحمه. فأقره، وألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة.
وهكذا، فعل ليوارى سوآتهم، وليحمى أجسامهم من سباع البهائم، وسباع الطير.
قال ابن إسحاق: حدثنى بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال مخاطبا جثث القتلى: «يا أهل القليب، بئس عشيرة كنتم لنبيكم، كذبتمونى، وصدقنى الناس، وأخرجتمونى، وآوانى الناس، وقاتلتمونى، ونصرنى الناس، هل وجدتم ما وعد ربكم حقا، فإنى قد وجدت ما وعدنى ربى حقا» .
ويروى أنه نادى طائفة من زعماء الشر فيهم، أو كبراءهم، فقد روى أنه كان يقول: «يا عتبة ابن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، ويا أبا جهل بن هشام- فعدد من كان منهم بالقليب هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا، فإنى قد وجدت ما وعدنى ربى حقا» ويظهر أن الواقعة قد تعددت.
فقال الحاضرون: يا رسول الله، أتنادى قوما قد جيفوا، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوا» .
ومعنى أسمع: أعلم بحقيقة ما أقول، لأن السمع الحقيقى يحتاج إلى جارحة السمع، وقد فقدوها بالقتل، ولأن الله سبحانه وتعالى يقول: وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (فاطر- 22) وفي رواية عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «لقد علموا ما أقول» .
والعبرة في هذه المسألة أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد عمل على كرامة الإنسان بمواراة سوآت هؤلاء، وليبين للأحياء المسلمين الاعتبار في هذه المعركة، وهو أن الله صدق وعده، ونصر عبده، وهزم عدو الله سبحانه وتعالى وعدوهم.
الأسرى
388- أسر من المشركين سبعون، وقد علمت أن سعد بن معاذ رضى الله تبارك وتعالى عنه كان يكره الأسر، ويريد القتل، حتى يثخن المشركين، وذكر للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم رأيه، وأنه كره الأسر، ولكن سياسة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كانت تتجه إلى الاستبقاء بدل القتل، عسى أن يسلموا، ويكونوا قوة للإسلام ولأن يكونوا مؤمنين ولو مالا، خير من أن يقتلوا كفارا في عجلة الحرب.
والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم لا يعمل عملا إلا بمشورة أصحابه، مادام الوحى لم ينزل بأمر، فهو يجتهد فيما يفعل، لا فيما يشرع، وإذا اجتهد في عمل، فالشورى روح العمل، وقوة الجماعة.
(2/567)
قال الإمام أحمد في مسنده بروايته: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما تقولون في هؤلاء الأسرى، فقال أبو بكر: يا رسول الله قومك وأهلك، استبقهم، واستأنهم، لعل الله أن يتوب عليهم.
وقال عمر: يا رسول الله، أخرجوك وكذبوك، قربهم فاضرب أعناقهم؟
وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله انظر واديا كثير الحطب، فأدخلهم ثم أضرمه عليهم نارا.
استمع إليهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقد ابتدأ الرأى رفيقا ثم اشتد حتى صار حريقا، فدخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وتركهم مليا، ليتدبروا مغبة كل قول، ثم خرج عليهم.
فقال عليه الصلاة والسلام: «إن الله ليلين قلوب رجال، حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله سبحانه وتعالى ليشد قلوب رجال، حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم، قال:
فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي، وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (إبراهيم- 36) . ومثلك يا أبا بكر كمثل عيسى، قال: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ، فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ، فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
وإن مثلك يا عمر كمثل نوح، قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (نوح: 26) . وإن مثلك يا عمر، كمثل موسي، قال: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ، وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ، فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (يونس- 88) .
انتهت الاستشارة بأن أبدى رأيان، أحدهما رفيق مؤلف، لا جفوة فيه وهو رأى الصديق رضى الله تعالى عنه، والثانى رأى عنيف، وهو رأى الفاروق عمر بن الخطاب، رضى الله تبارك وتعالى عنه، ويتبع ذلك فى عنفه بأشد في طريقته، وهو رأى عبد الله بن رواحة، إذ كان رأيه القتل بالحرق.
وقد رأى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يأخذ بمبدأ الفداء، إذ فيه رفق أبى بكر، ونفع لجماعة المسلمين، وقد كانوا في غير غنى، ورخص في غير ذلك، فرخص لنفسه في القتل، ورخص لنفسه في المن من غير فداء، وإن كان الأكثر كان الفداء، وكان يسير في الفداء على مقدار الثروة للأسير، وفي العفو بالمن على مبدأ من كان يظن أنه أسلم، وخرج تقية، ويمن أيضا على من يرى في المن عليه كسبا للمسلمين.
وأنه يلاحظ أنه لم يمن على أحد من بنى هاشم مع أنه نهى عن قتلهم، وأنه يعلم أنهم خرجوا مستكرهين ولم يخرجوا محاربين.
وكيفما كانت حالهم من منّ أو فداء فقد أوصى بهم خيرا، وقد نزلوا عند الأنصار، وكأنهم في
(2/568)
ضيافة، لا في أسر، حتى إن الأنصارى كان يفضل الأسير في الطعام على أهله وعياله، وكان يرى الأسير ذلك، فيتعفف، فيشدد عليه الأنصارى، فكانوا يؤثرون على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة.
389- لقد أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بقتل عقبة بن أبى معيط، والنضر بن الحارث؛ لأنهما كانا قائدى الشرك في المعركة، ولأن عقبة هو الذى كان يحرض على القتال بعد أن نجت العير، وأراد بعض كبراء قريش أن يكتفوا بذلك، ولا يقاتلوا حفظا للرحم، كأمية بن خلف، وعتبة ابن ربيعة.
وروى الشعبى أنه لما أمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بقتل عقبة قال: أتقتلنى يا محمد من بين قريش؟ قال: نعم، ثم التفت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى أصحابه، وقال: أتدرون ما فعل هذا بى؟ لقد جاء وأنا ساجد خلف المقام فوضع رجله على عنقى، وغمزها فما دفعها حتى ظننت أن عينى تدوران. وجاء مرة أخرى بسلا شاة فألقاها على رأسى وأنا ساجد، فجاءت فاطمة، فنسلت عن رأسى.
وكان مثل ذلك النضر بن الحارث، وكان حامل لواء المشركين. فكان قتله لما قدم من أذى، ولما فيه من إذلال الشرك وأهله.
وقد أخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الفداء من ذوى الثراء من بنى هاشم، بل شدد فى الأخذ منهم ولم يقبل منهم إلا الفداء.
ولعل أدل شيء على شدته في أخذ الفداء من بنى هاشم مجاوبته مع عمه العباس بن عبد المطلب الذى كان يحبه، وكان يألم لأسره، والشد عليه بالوثاق.
ادعى العباس أنه أسلم من قبل، ومعنى ذلك أنه ليس عليه فداء، لأنه جاء مكرها لا محاربا.
فقال له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: أما ظاهرك فكان علينا، والله أعلم بإسلامك، وسيجزيك خيرا. فادعى أنه لا مال عنده يفدى به نفسه، ومن معه من بنى هاشم عقيل ونوفل ولدى أخيه، فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: فأين المال الذى أودعت أنت وأم الفضل، وقلت: لو أصبت في سفرى هذا فهذا لبنى الفضل وعبد الله وقثم، فقال العباس رضى الله تعالى عنه: والله إنى لأعلم أنك رسول الله، إن هذا شيء ما علمه إلا أنا وأم الفضل.
وقد أخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مائة أوقية من ذهب فداء له ولا بنى أخيه عقيل ونوفل، وعن حليف له هو عتبة بن عمرو أحد بنى الحارث بن فهر.
(2/569)
وهكذا أخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الفداء، لاينى عن ثرى، ولا يعفو إلا عمن يرجى منه خير للإسلام، أو من يمن عليه في نظير أن يمن على مسلم أخذوه عنوة من غير حرب، كما فعل أبو سفيان في معتمر من أصحاب الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أخذه، حتى يفك أسار ابن له، ففك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إساره لذلك.
وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يقبل من الفداء نوعا معنويا، وهو تعليم الأميين من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فإذا كان الأسير ليس له مال يفدى به نفسه، ولكن له علم بالقراءة، فإنه يكون فداؤه أن يعلم بعض الأميين من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم القراءة.
وقد من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على ناس من الأسرى، منهم من كان يظن فيه الإسلام، وقد شهد عبد الله بن مسعود لسهيل بن بيضاء بالإسلام، فقد قال سمعته يذكر الإسلام.
فقبل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم شهادته، ومن عليه.
وممن من عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أبو العاص بن الربيع الأموى زوج زينب بنت الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، فكان زوجا بارا مكرما لزوجه غير مضار لها. وقد أرادت قريش أن تحمله على طلاقها كما طلق ابن أبى لهب ابنة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فتأبى عن ذلك.
فقد كانت زينب رضى الله تعالى عنها بمكة المكرمة فأرسلت فداء لزوجها البار الطيب وبعثت في ضمن الفداء قلادة لها، كانت أم المؤمنين خديجة قد أدخلتها بها على أبى العاص حين بنى بها، فلما رآها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، أثارت ذكريات الزوج الرفيقة الشفيقة والرحم، فرق لذلك رقة شديدة.
وكان للرسول الأمين أن يطلق سراحه، كما أطلق سراح غيره من بنى مخزوم وغيرهم، ولكن لكيلا يكون في نفس أحد ضيق أو حديث نفس، ولتطيب النفوس كلها جعل إطلاق سراحه للصحابة، فقال: «إن رأيتم أن تطلقوا أسيرها، وتردوا عليها الذى لها» ففعلوا.
ويجب أن ننبه هنا لأمرين:
أولهما- أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم رأى ألا تبقى من بعد في مكة المكرمة، وألا تكون في فراش العاص من بعد، فأخذ عليه عهدا أن يخلى سبيلها رضى الله عنها، بأن تهاجر إلى المدينة المنورة، فوفى أبو العاص بذلك.
ثانيهما- أنه لم يكن قد نزل التفريق بين المسلم وغير المسلم، لأنها لا تحل له، إذ أن ذلك نزل عند الحديبية في سورة الممتحنة، فقد قال الله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ
(2/570)
الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ، فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ، فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ، فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ، لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ، وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ، وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا، وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ، وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ، وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا، ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (الممتحنة- 10) .
ويلاحظ هنا أن الله سبحانه وتعالى أشار إلى سبب التحريم وهو الكفر، إذ قال الله سبحانه وتعالى:
فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ولم يقل إلى المشركين، والكفر يشمل الشرك وما عليه النصارى واليهود الذين كفروا بمحمد عليه الصلاة والسلام، وآمنوا بالتثليث، وألوهية المسيح، كما قال الله سبحانه وتعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وقال الله سبحانه وتعالى:
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ.
وهكذا منّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أناس كان يرى خيرا في المن عليهم، أو يرى فيهم عجزا عن أن يقدموا فداء.
فمنّ على المطلب بن حنطب بن الحارث من بنى مخزوم، ومنّ على صيفى بن أبى رفاعة ابن عائذ من بنى مخزوم، وممن منّ عليه أبو عزة عمرو بن عبد الله بن عثمان، وكان محتاجا ذا عيال فمن عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأخذ عليه عهدا ألا يظاهر عليه أحدا، وكان شاعرا، ولكنه نقض ما عاهد عليه الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، ولعب المشركون بعقله، فرجع إليهم بعد أن قرب من الإسلام أو دخل فيه، فقد قال مادحا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، إذ من عليه من غير فداء في قصيدة:
من مبلغ عنى الرسول محمدا ... فإنك حق والمليك حميد
فلما كان يوم أحد أسر أيضا، فطلب أن يمن عليه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا أدعك تمسح عارضيك، وتقول خدعت محمدا مرتين» ويروى أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال فيه «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» .
وهكذا فوض النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يتصرف في الأسرى بما يكون خيرا في ذاته وللمؤمنين، فقتل من قتل منهم، وفدى كثيرين، ومنّ على بعضهم.
(2/571)
بيان الله تعالى لخطأ الأسر
390- نزل القرآن الكريم من بعد القيام بما اتجهت إليه الشورى بالنسبة للأسرى ببيان الخطأ فى أن المسلمين أسروا قبل أن يثخنوا، وهو ما كان يميل إليه سعد بن معاذ الأنصارى رضى الله تبارك وتعالى عنه، ولقد ذكر الخبر كما رواه ابن إسحاق «أنه لما وضع القوم أيديهم يأسرون رأى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في وجه سعد بن معاذ، فقال له: كأنى بك يا سعد تكره ما يصنع القوم. قال: أجل والله يا رسول الله كانت أوّل وقعة أوقعها الله تعالى بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل أحب إليّ من استبقاء الرجال» ولقد قال الله سبحانه وتعالى بعد إنهاء ما أشار إليه الشورى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا، وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى، إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً، يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (الأنفال- 76: 70) .
إذن كان الخطأ، لا في أنهم فدوهم، ولا في أنهم منوا عليهم، ولكن في أنهم أخذوا الأسرى قبل الإثخان، أى قبل أن يثقلوهم بالجراح، حتى لا يستطيعوا أن يثيروا عليهم معركة أخرى، أو تكون صعبة عليهم لكثرة القتلى، ومن بعد ذلك يكون الأسر، ويكون المن أو الفداء، كما قال الله سبحانه وتعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ، حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ، فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ، وَإِمَّا فِداءً، حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها (محمد- 4) .
ويجب أن نذكر هنا ثلاثة أمور:
أولها- فى معنى قول الله سبحانه وتعالى: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ فإن الكتاب الذى قرره الله سبحانه وتعالى، هو أنه لا عقوبة إلا بنص على المنع، ولم يكن ثمة نص على منع أخذ الأسرى، قبل الإثخان، وإن ما فعله النبى صلى الله تعالى عليه وسلم اجتهاد، ولا عقوبة على الاجتهاد في الخطأ.
ثانيا- أن كثيرين ممن كتبوا في الماضى- وتبعهم أهل الحاضر- أن القرآن الكريم نزل موافقا لرأى الإمام الفاروق عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه، فى الأسرى، ونحن نرى أن ما جاء به القرآن الكريم لا يوافق رأى الفاروق، لأن ما جاء به القرآن الكريم، إنما كان معارضة لأصل الأسر قبل الإثخان، ولم يعترض الفاروق على الأسر قبل الإثخان.
(2/572)
إنما الذى كره الأسر قبل الإثخان في القتل سعد بن معاذ رضى الله تبارك وتعالى عنه، فإذا كان ثمة فضل في نزول القرآن الكريم موافقا لما كره سعد، فله في هذا الفضل، يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ (آل عمران- 74) .
ثالثا- وهو الأمر الجدير بالاعتبار عند أهل الاعتبار، وهو أن الله سبحانه وتعالى وحده يعلم الغيب، ويعلم السر وأخفى، وهو سبحانه وتعالى يعلم أن أخذ الأسرى قبل إثخان العدو، خطأ، فلماذا ترك النبى- رسوله وحبيبه- ومعه صحابته يخطئون، وقد كان وحده هو الذى يعلم الصواب.
والجواب عن ذلك أن هذا فيه عظة وعبرة، ذلك أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الذى يوحى إليه، والذى علمه ربه وأدبه فأحسن تأديبه، إذا ترك يتصرف باجتهاده فقد يخطئ، ولا ينزه عن الخطأ أحد ولو كان نبيا، إلا أن يعلمه الله سبحانه وتعالى، فهو وحده العليم الحكيم الذى يعلم المستقبل كالحاضر والماضى، وفي ذلك توجيه للذين يستبدون، وبيان أنهم يخطئون، وليس لهم أن يدفعهم الغرور، فيحسبوا أن آراءهم منزهة عن الخطأ فيتردون بأممهم في أفسد النتائج.
إن ترك محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو الذى يوحى إليه، ثم هو في ذاته أعقل الرجال، إذ كانوا قبل البعثة يهتدون برأيه- يخطيء في رأيه، ثم ينبه إلى الصواب، فيه عبرتان لأولى الأبصار: -.
أولهما- لأنه لا يصح لأحد أن يغتر برأيه، فيحسبه الصواب الذى لا يقبل الخطأ، ويعتقد فى نفسه العلم، وفي غيره الجهل.
الثانية- أنه ليس لأحد أن يستبد في تفكيره الذى يعمل فيه للجماعة، فلا يقول ما قاله فرعون.
ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى، وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ (غافر- 29) .
فعلينا معشر المؤمنين أن نتأدب بأدب الله سبحانه وتعالى، وهو ألا ندلى أنفسنا وجماعتنا بالغرور، فتكون السوءى، فى حاضر الأمة ومستقبلها، وعلينا أن يكون لنا في رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أسوة حسنة، ولا يكون لنا من فرعون، متبوع يتبع، فالحق أحق أن يتبع.
ولقد رأينا في عصرنا إخوان فرعون يطلبون أن يتلى ما يكتب لهم كأنه تنزيل من التنزيل وقد بوؤا بهذا الغرور عنهم، والخنوع من غيرهم- أمتهم سوء الدار، وبئس القرار، ولا حول ولا قوة إلا بالله، إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37- ق) .
(2/573)
الأنفال
391- كان المشركون يحاربون في غير ديارهم وأرضهم، وكان المؤمنون كذلك، ولكن كانوا على مقربة من ديارهم، وكانت الهزيمة قد نزلت بالمشركين، فكانوا شبه فارين بعد المعركة لا يلوون على شيء إلا ما يمكنهم من أن يعودوا إلى ديارهم راضين بإياب بعضهم سالمين.
فكان لا بد أن يغنم المسلمون منهم غنائم، وكانت هذه الغنائم أوّل ما غنمه المسلمون في الحروب، لأنها كانت أوّل حرب كان الاتجاه فيها إلى المنازلة، وأخذ الغنم نتيجة لهذه المنازلة، ولم تكن عيرا مصادرة بل كانت حربا شعواء.
ولذلك اختلف المقاتلون في الأنفال، وهى الغنائم التى تكون قبل القسمة، ولم يكونوا على علم بقسمتها، والمقسطون منهم سألوا عما يفعلون بشأنها، وبعض القاسطين ظنوها لمن أخذها.
وذلك أن المجاهدين كانوا ثلاثة أقسام: قسم واجه العدو كعلى، وحمزة، وغيرهم، وقسم كان من ورائهم، وأولئك جمعوا الغنائم، وقسم حاط العريش الذى كان به الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم.
ويقول في ذلك عبادة بن الصامت وهو من البدريين، «خرجنا مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فشهدت معه بدرا، فالتقى الناس، فهزم الله تعالى العدو، فانطلقت طائفة وراءهم يهزمون ويقتلون، وأكبت طائفة على المغنم يحوزونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى لا يصيب أحد منه غرة، حتى إذا كان الليل، وفاء الناس بعضهم إلى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناه وليس لأحد فيها نصيب.
وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم بأحق بها منا، فنحن نفينا منها العدو، وهزمناهم.
وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: خفنا أن يصيب العدو منه غرة، فاشتغلنا به. كان هذا الخلاف، وكان معه تساؤل: لمن تكون الغنائم؟ فنزل قول الله سبحانه وتعالى:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (الأنفال- 1) .
كانت هذه المناقشة في الغنائم قبل أن ترفع إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فذكر الله سبحانه وتعالى ما يحسم الخلاف، ويقطع مادة النزاع، وهو أن يكون أمرها إلى الله تعالى، وما يحكم به سبحانه وتعالى وإلى الرسول عليه الصلاة والسلام الذى ينفذ حكم الله سبحانه وتعالى، فليس لهم أن يقتسموا
(2/574)
بأنفسهم، بل الأمر لغيرهم فليصلحوا ذات بينهم، ولا يصح أن تكون المادة مفرقة بينهم، وقد جمعهم الحق وجمعهم الجهاد في سبيله..
وما الذى اتبعه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في قسمة الأنفال، فقال بعض الرواة إنه قسمها بين المجاهدين بالسوية، إذ لم يكن حكم تخميس الغنائم قد نزل في قول الله سبحانه وتعالى:
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ، وَلِلرَّسُولِ، وَلِذِي الْقُرْبى، وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ، وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (الأنفال- 41) .
فالنبى عليه الصلاة والسلام على رواية هؤلاء وزع بالسوية بين كل المجاهدين، لأنه لم يكن ما يوجب التفاوت، ولا دليل يرجح طائفة على أخرى.
ويرى ابن كثير أن التوزيع كان حسب التخميس الذى نص عليه قول الله سبحانه وتعالى:
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ الآية، لأنها متصلة الواقعة، فالأمر في التوزيع كان إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى رسوله عليه الصلاة والسلام على حسب هذا الحكم الذى شرعه الله تعالى، فاية الغنائم متصلة بأول السورة التى أشارت إلى التوزيع، وفوق ذلك فإن الآية تشير إلى أن ذلك ما أنزله الله سبحانه وتعالى يوم التقى الجمعان يوم الفرقان.
ولقد روى أن عليا ذكر أن الناقتين اللتين نحرهما عمه حمزة، وهو شارب كانتا من خمسه في الغنائم، ونحن نميل إلى ما اختاره الحافظ ابن كثير.
أثر المعركة في المدينة المنورة
392- كان أثر المعركة في العرب عامة بعيد المدى، فقد سارت الركبان في الصحراء العربية بهزيمة قريش على يد طريدها الذى أخرجته وأصحابه من ديارهم وأموالهم، لأنه ينكر الوثنية، ويدعو إلى الوحدانية ويقول إنه يوحى إليه من عند الله سبحانه وتعالى، فكان ذلك النصر منبها للعرب بحقيقة الدعوة المحمدية وسلامتها وقوتها، فوهنت العقيدة الوثنية بين العرب، وأخذت عقول تدرك الحقائق وتطرح الأوهام التى نسجها الخيال الضال حول الأحجار، وبذلك صارت كلمة الله سبحانه وتعالى هى العليا، وكلمة الشرك هى السفلى، وكان يوم الغزوة بحق يوم الفرقان، إذ فرق فيه الناس وانتقل المسلمون من مستضعفين في الأرض إلى أقوياء يكاثرون الناس بقوتهم، كما قال الله سبحانه وتعالى:
(2/575)
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ، فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ، وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (الأنفال- 26) .
هذه إشارة إلى أثر ذلك النصر المبين في البلاد العربية، لقد نظر إليه العرب على أن الإسلام هو القوة الحقيقية في البلاد العربية، وكان من ذلك أن أخذ الناس يفكرون.
هذا أثره بشكل عام في الجزيرة العربية، أما أثره في المدينة المنورة وما حولها، فقد صار القوة المرهوبة فيها، وكان فيها أخلاط من الوثنيين الذين بقوا على وثنيتهم من الأوس والخزرج، وكانوا يظهرون عقائدهم ولا يخفونها، وكان فيهم يهود، قد أكل الحقد قلوبهم وإن أخفوه، وإن كانوا يعرفون في لحن القول وفي استهزائهم بالمؤمنين أحيانا.
فلما ظهرت قوة المسلمين في بدر، وجد في الفريقين منافقون يظهرون الإسلام بألسنتهم، ويخفون الكفر، ويقولون ما لا يفعلون، وينطقون بما لا يعتقدون، ولقد نزلت فيهم سورة كاملة، وأولها قوله الله سبحانه وتعالى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ. اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا، فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (المنافقون- 1: 3) .
فالقوة الإسلامية التى ظهرت في بدر، هى التى جعلت هؤلاء من المشركين واليهود، يتخذون مظهرهم الإسلامى جنة يتقون بها قوة أهل الإسلام ويشيعون الخبال في صفوف المسلمين، ويخدعون الذين في قلوبهم ضعف.
إن قوة المسلمين جعلت من لا يؤمن بالله سبحانه وتعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام يخضع ببدنه ولا يؤمن بقلبه.
كان ذلك في السنة الثانية التى كانت فيها غزوة بدر. قال ابن كثير «وفيها خضع المشركون من أهل المدينة المنورة واليهود الذين هم بها من بنى قينقاع، وبنى النضير، وبنى قريظة، ويهود بنى حارثة، وصانعوا المسلمين، وأظهر الإسلام طائفة كثيرة من المشركين واليهود، وهم في الباطن منافقون، منهم من هو على ما كان عليه، ومنهم من انحل بالكلية فبقى مذبذبا، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، كما وصفهم الله تعالى في كتابه» .
وهو بهذا يشير إلى قول الله سبحانه وتعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ، وَهُوَ خادِعُهُمْ، وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى، يُراؤُنَ النَّاسَ، وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا. مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ، لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا
(النساء- 112: 143) .
(2/576)
وإنه يتبين من هذا الكلام أنه بعد أن أظهر الله سبحانه وتعالى قوة المسلمين وأعلى كلمة الدين، صار الذين يخالفونه، ويعاشرون المؤمنين بالجوار على ثلاثة أقسام:
أولهم الذين نطقوا بكلمة الإسلام والكفر يسكن قلوبهم، ويستولى عليها وهؤلاء هم الذين قال الله سبحانه وتعالى فيهم وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا، وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ، إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ. اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ، وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (البقرة- 14، 15) فهؤلاء بقوا على كفرهم، وأمد الله تعالى في طغيانهم، لأن مظهرهم كان غير مخبرهم، وقد استمرؤا ذلك حتى زادوا عتوا وفسادا.
والقسم الثانى قوم ضعفت نفوسهم، وانحل تفكيرهم، فهم منافقون، فى إظهارهم الإسلام، ولا عقيدة لهم يؤمنون بها، وإن كانوا إلى عقيدتهم الأولى أميل، ولكن قد انحلت بالتعارض، بين ما يظهرون وما يبطنون، فقد خدعوا المؤمنين وأوغلوا في الخديعة، حتى خدعوا أنفسهم، وهم الذين قال الله سبحانه وتعالى فيهم: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ، لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ، وقد وصف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هذا النوع من المنافقين بقوله عليه الصلاة والسلام: «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين غنمين لا تدرى إلى أيهما تذهب» .
والقسم الثالث وهم أكثر اليهود الذين ثبتوا على دينهم من بنى قينقاع، وبنى النضير، وبنى قريظة وبنى الحارث، وأولئك ثبت أكثرهم على اعتقادهم وجاهدوا بالبقاء عليه، والاعتراض الدينى على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكنهم نافقوا في أنهم لم يخلصوا في العهد الذين عاهدهم عليه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، بل يخفون الخيانة، ويتربصون بالمسلمين الدوائر، ويكاتبون أعداء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ويحرضونهم عليه، ويسرفون على أنفسهم، فينافقون المشركين، ويقولون إن ما هم عليه من شرك خير مما يدعو إليه النبى من توحيد.
وفي الجملة ظهر النفاق بعد النصر المحمدى من أعداء هذا الدين.
ولنخص اليهود، ومن والاهم بكلمة موجزة موضحة:
اليهود
393- عقد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حلفا مع اليهود، جعل فيه له ما لهم، وعليه ما عليهم، وتعاهد معهم على البر والتقوى، لا على التعاون على الإثم، وأنهم في أحيائهم متعاونون على دفع الإثم، وعقل الجانى الذى يجب عليه الدية، وفي الجملة أعطاهم الحرية والحماية، وعقد معهم جماعة،
(2/577)
وأحياء متفرقة عقدا ملزما، ولكن الحسد كان يسكن قلوبهم من أن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم الذى بعث كانوا يتمنون أن يكون من ولد إسحق لا من ولد إسماعيل، وقد كانوا يعرفون أن نبيا سيبعث، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به حسدا من عند أنفسهم، وكلما استيقنوا أنه النبى المبشر به في التوراة ازدادوا ضيقا وغضبا وكفرا، وكلما وجدوا آيات النبوة زادتهم طغيانا وضلالا، وعتوا وفسادا في الأرض، وكأنهم وحدهم سلالة قابيل الذى قتل أخاه، لأنهما قربا قربانا فتقبل من أحدهما، ولم يتقبل من الآخر (قابيل) .
ولننقل شهادة أم المؤمنين صفية بنت حيى بن أخطب، قالت رضى الله تبارك وتعالى عنها:
عند ما قدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة المنورة، ونزل قباء في بنى عمرو بن عوف، غدا عليه أبى حيى بن أخطب، وعمى أبو ياسر بن أخطب مغلسين (أى في غلس) قلت لم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، فأتيا ساقطين يمشيان الهوينى، قالت فهششت إليهما كما كنت أصنع، فو الله ما التفت إلى واحد منهما، مع ما بهما من الغم، وسمعت عمى أبا ياسر، وهو يقول لأبى حيى بن أخطب: أهو هو..؟ قال: نعم والله، قال أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم، قال ما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت. تلك شهادة صادقة من سيدة برة على أبيها، فما جعلته الآية المثبتة لرسالة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم مؤمنا مصدقا بل جعلته عدوا لجوجا في عداوته، وذلك فعل الحسد الذى كان من قابيل على أخيه هابيل إذ تقبل منه الإيمان وحده، والله تعالى يختص برحمته من يشاء.
وحيى بن أخطب وأخوه صورة نفسية لكل يهودى ممن كان بجوار المسلمين بالمدينة المنورة، وبهذه العداوة كانوا يتحركون، وطويت قلوبهم على الضغينة المستكنة.
فلما انتصر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ازدادوا ضيقا، وظنوا أن الدائرة من بعد ستدور عليهم، فأرادوا بغريزة حب البقاء أن يعملوا عملا يظنون فيه بقاءهم، لكيلا يجد المسلمون السبيل لإخراجهم، واتحدوا مع المشركين ممن بقوا في المدينة المنورة، وحملوا أولئك على أن يظهروا الإيمان، ويخفوا الكفران إذ أو عزوا إليهم بخلقهم، الذى اشتهروا به في ماضى أمرهم ونفذوه في حاضرهم.
ولقد انضاف بذلك إلى اليهود بإغرائهم من كانوا قد بقوا على الوثنية من الأوس والخزرج، وإن لم يكونوا الكثرة، ولكنهم بما أظهروا من إيمان يبثون الوهن في قلوب المؤمنين، ويلقون بأسباب الفشل وقد ظهرت رؤوسهم فيما ظهر بعد بدر من الغزوات.
(2/578)
وقد ذكر ابن إسحاق كثيرين ممن نافقوا من اليهود الذين أظهروا الإسلام، وأخفوا عقيدتهم، وأكنوا الأذى للمسلمين، والكيد للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
كما ذكر من الأوس والخزرج من لف لف اليهود، وأظهر الإسلام، وكان كثيرون منهم من الخزرج، وعلى رأسهم عبد الله بن أبى سلول، وإليه كانوا يجتمعون، وهو الذى قال: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ (المنافقون- 8) فى غزوة بنى المصطلق.
والنفر من منافقى الخزرج، وعلى رأسهم عبد الله بن أبى بن سلول هم يمالئون بنى النضير، ويدسون إليهم أنهم معهم عند ما خافوا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فنكثوا في أيمانهم وعهدهم الذى عاهدوه، وأرادوا معاونة المشركين، فقد أرسل إليهم ابن سلول وشيعته أنهم إن خرجوا يخرجوا معهم، عند ما حاصرهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في حصونهم، وأخذوا يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدى المؤمنين، لقد قال ابن أبى والنفر معه: اثبتوا لئن أخرجتم لنخرجن معكم، ولا نطيع فيكم أحدا أبدا، وإن قوتلتم لننصرنكم، وقد أنزل الله سبحانه وتعالى فيهم أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ، وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ، وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ، وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ. لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ... إلى أن قال الله سبحانه وتعالى في وصف ابن أبى ومن معه: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ، فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ، إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (الحشر- 11: 16) .
وكان المنافقون من بقية الأوس والخزرج واليهود يحضرون مسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيستمعون أحاديث المسلمين ويسخرون ويستهزئون، ويبثون الشك في قلوب المؤمنين بأوهام يذكرونها، وبأسئلة مشككة يستجوبون بها.
إخراجهم من المسجد:
394- يقول ابن إسحاق: اجتمع يوما بالمسجد من المنافقين أناس فرآهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتحدثون بينهم خافضى صوتهم، قد لصق بعضهم ببعض، فأمر بهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فأخرجوا من المسجد إخراجا عنيفا.
فكان المؤمن يأخذ برجل المنافق، فيسحبه سحبا، وأحيانا يجذب المؤمن المنافق، وينتره نترا شديدا ويلطم وجهه وهو يشيعه باللعنات قائلا له: «أف لك منافقا خبيثا، اخرج يا منافق من مسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم» .
(2/579)
وأحيانا يجيء المؤمن إلى ذى اللحية الطويلة منهم، فيأخذ بلحيته، ويقوده منها قودا عنيفا، حتى يخرجه من المسجد، وأحيانا يأخذ المؤمن بجمة المنافق ذى الجمة «فيسحبه منها سحبا عنيفا» .
وذلك العنف في الفعل يصحبه عنف في القول، ومن مثل «لا تقربن مسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فإنك نجس، وقول بعضهم غلب عليك الشيطان وأمره» .
وذلك غير الذين كانوا يدفعون من أقفيتهم.
وكانوا هم والذين بقوا على يهوديتهم من يهود أشد الناس أذى للنبى عليه الصلاة والسلام وأصحابه، فالمنافقون كانوا يبثون في المسلمين روح التردد والهزيمة، وفي المسلمين سماعون لهم، كما قال الله سبحانه وتعالي: وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً، وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ، فَثَبَّطَهُمْ، وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ. لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا، وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ، وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ. لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ، وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ، حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ، وَهُمْ كارِهُونَ (التوبة- 46: 48) .
واليهود من وراء المنافقين يتعاونون معهم، ويكيدون معهم، ويمكرون، ويمكر الله سبحانه وتعالى بإفساد تدبيرهم، وكان اليهود يلقون الشك في قلوب المؤمنين يظهرون الإيمان، ثم يعلنون الردة ليشجعوا المسلمين على الردة وليكونوا لهم مثلا لمن يخرج من الإسلام بعد الدخول فيه، وهؤلاء الذين قال الله سبحانه وتعالى فيهم: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ، وَاكْفُرُوا آخِرَهُ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ، أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ، أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ، قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (آل عمران- 72، 73) .
وهكذا كان الإفساد اليهودى، ينافقون، ويدعون الوثنيين إلى النفاق، ويبثون بنفاقهم روح الفرقة بين المسلمين، ويستهزئون ويسخرون من أهل الإيمان، ويجعلون من أنفسهم مثلا لمن يخرج عن الإسلام، كما عبر القرآن الكريم عنهم.
إفساد اليهود بين المسلمين
395- كانت الحرب بين الأوس والخزرج قائمة بين الفريقين، حتى جمع الله سبحانه وتعالى بينهما بالإسلام، وألف بين قلوبهم، فكانت القوة، ولكن اليهود كانوا يعلمون بأنباء العداوة السابقة، فكانوا يبثون فيهم ما يحيى نار العداوة بعد موتها، ويثيرون نارها بعد إطفائها، وفي كل فريق من يسمع لضعف في إيمانه، أو لبقايا العصبية، أو لترات بقيت بعد الحرب.
(2/580)
لقد كان رجل من شيوخ اليهود، وذوى الضغن والحسد اسمه شماس بن قيس، قد هاله أمر محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وما أكرمه الله سبحانه وتعالى به من نصر في بدر، وهاله أن الأوس والخزرج اجتمعوا، وكانوا يعيشون على الفرقة بينهم، فيوالون فريقا على فريق، ويتخذون ممن يوالونهم قوة يثبتون بها أقدامهم، فلما رأوا اجتماعهم بالإسلام، فقال شماس: هكذا اجتمع بنو قيلة بهذه البلاد والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم من قرار.
قدر ذلك الشيخ الخبيث ودبر، فوجد أن يثير الخلاف القديم جذعا، فأثار ما كان يوم بعاث، وهو الذى كان بين الأوس والخزرج، وانتصر فيه الأوس، وكانت بيعة العقبة الأولى، ثم الثانية.
أثار الأمر في هذا اليوم بين الأنصار رضى الله تبارك وتعالى عنهم، وفيهم ضعاف العقول يستطارون فتكلم هؤلاء وتنازعوا، وتفاخروا، واشتدت المجاوبة فتواثب رجلان من الحيين، واحد من الأوس والآخر من الخزرج، وقال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها الآن جذعة، فغضب الحاضرون من الفريقين، واتفقوا على مكان يكون فيه اللقاء، وقالوا: موعدكم الظاهرة.
بلغ ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فعلم أنها فتنة يهودية، وخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم، فقال:
«يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم، بعد أن هداكم الله تعالى للإسلام، وأكرمكم به، وقطع عنكم به أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف بين قلوبكم» .
أدرك أنصار الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فبكوا، وعانق بعضهم بعضا- ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سامعين مطيعين موفورين.
ورد الله سبحانه وتعالى كيد الكافرين من اليهود في نحورهم.
وأنزل الله سبحانه وتعالى في اليهود قول الله سبحانه وتعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً، وَأَنْتُمْ شُهَداءُ، وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (آل عمران- 99) .
وأنزل الله سبحانه وتعالى في المسلمين الذين انساقوا وراء شر اليهود: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ. وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ، وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ
(2/581)
مُسْتَقِيمٍ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ، وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا، وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ، فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً، وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها، كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا، وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (آل عمران- 100: 105) .
ففى هذا النص الكريم تحذير للمؤمنين من اليهود الذين يفرقون جمعهم، وتذكير بما كانت عليه حالهم من قبل، وبيان الطريق لأن يمنعوا الأشرار من الدخول بينهم، وذلك بالتواصى بالخير بينهم، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فمن يقع في الغواية منهم يرشده ذو العقل والحكمة فيهم. وإن التفرق بعد البينات إثم كبير، وله عذاب عظيم.
ليسوا سواء
396- إذا كان ما ذكرناه صادقا على اليهود الذين كانوا بالمدينة المنورة عند ما هاجر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إليها، فالحكم فيه بنى على الغالب الكثير، لا على الجميع، فمنهم ناس اختاروا الإسلام دينا، وآمنوا بالله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم حق الإيمان، كما قال الله سبحانه وتعالى: ... مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ.
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ، وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (آل عمران- 113: 115) فهؤلاء من أهل الكتاب، وأهل الإيمان بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وسيجزون أجرهم مرتين.
ونذكر من هؤلاء اثنين كان كلاهما من أحبار اليهود:
وهما عبد الله بن سلام، ومخيرق.
وجاء من أخبار السيرة في إسلام عبد الله أنه قال:
لما سمعت برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عرفت صفته واسمه وزمانه الذى كنا نتوكف له، أى نترقبه، فكنت أسر ذلك صامتا له، حتى قدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة المنورة.
(2/582)
فهو قد عرف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قبل قدومه المدينة المنورة وتعرف صفات النبوة فيه التى بشر بها في التوراة، وخاطب بذلك بعض أهل بيته، إذ كان فرحا بقدومه ولم يوافقه ابتداء من عرف من أهل بيته، حتى قالت له عمته في فرحته: «والله لو كنت سمعت بموسى بن عمران قادما مازدت، فقال لها المؤمن المخلص الذى لم يشب إخلاصه تعصب لنحلة سابقة: أى عمة هو والله أخو موسى بن عمران، وعلى دينه بعث، ولم تلبث أن وافقته» .
وإذا كان عبد الله بن سلام الحبر اليهودى المخلص قد عرف الحق، وأدرك فقد عرف قومه من اليهود وأدرك انحرافهم، وأنهم اتخذوا آلهتهم هواهم، وهواهم هو شهوة التحيز، حتى جعلوا الدين عنصرا، وليس اعتقادا خالصا فأراد أن يكشف حالهم.
ذهب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد إذ آمن، ولم يعلن إيمانه، فقال له:
يا رسول الله إن يهود قوم بهت (أى يبهتون ويكذبون بالباطل) ، وإنى أحب أن تدخلنى في بعض بيوتك، وتغيا بنى عنهم، ثم تسألهم عني، حتى يخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا بإسلامى فإنهم إن علموا بهتونى، وعابونى.
وأدخلنى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في بعض بيوته، فدخلوا عليه وكلموه، وسألوه ثم سألهم: أين الحصين «1» بن سلام، فقالوا سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وعالمنا.
فلما فرغوا من قولهم خرج عليهم، فقال لهم: «يا معشر يهود، اتقوا الله، واقبلوا ما جاءكم به، والله إنكم لتعلمون أنه لرسول الله، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة باسمه وصفته فإنى أشهد أنه رسول الله، وأومن به وأصدقه وأعرفه، فقالوا: كذبت.
فقلت لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ألم أخبرك أنهم قوم بهت، أهل غدر وكذب، وفجور، فأظهرت إسلامى وإسلام أهل بيتى جميعا.
ولقد كانوا يكثرون من الطعون فيه، ويقولون: إنه من الأشرار عندنا. وهو الذى ذكروا أنه من خيرهم وأعلمهم وأعدلهم، ولكنهم يكفرون بما يعلمون، ويكتمون ما عندهم.
وأما الثانى وهو مخيرق، فقد كان علما من أعلامهم، وحبرا من أحبارهم.
وكان رجلا ذا مال أعطاه الله تعالى بسطة من العلم والمال، وكان يعرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بصفته في التوراة.
__________
(1) وكان اسمه هذا قبل الإسلام.
(2/583)
ولم يكن ممن يجعلون الاعتقاد عنصرية، بل كان ممن يؤمنون بالحق، ويعلمون أن الحق أحق أن يتبع، ويقول ابن إسحاق «غلب عليه إلف دينه، حتى إذا كان يوم أحد، قال: يا معشر يهود، والله إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق» .
ثم أخذ سلاحه، فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بأحد، ودخل في جنده وعهد إلى من وراءه من أهله، فقال: إن قتلت هذا اليوم، فأموالى لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم يصنع فيها ما أراه الله سبحانه وتعالى.
فقاتل حتى قتل، فكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول:
«مخيرق خير يهود»
وقد أسلم في ساعته الشديدة، يوم جاءت قريش تريد أن تغزو المدينة المنورة ثأرا وانتقاما، فأبى إلا أن يكون مع المؤمنين، فاستشهد في سبيل الله تعالى، فكان خيرا في ذاته، وكان خير من في اليهود.
الغيرة:
397- صدق الله سبحانه وتعالى إذ يقول في شأن أهل الكتاب عامة، واليهود خاصة، ... مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ. (المائدة- 66) ، ولكن الكثرة هى التى كان لها لجب وصخب، وهى التى ظهرت بلجاجتها، وعنفها في الكراهية وحسد الناس، وهؤلاء هم الذين ظهروا، وهم الذين ظهر زبدهم، واستمر ظاهرا، فهم يكرهون الناس، أينما كانوا، وحينما ثقفوا.
وقد ذكرنا حالهم بعد غزوة بدر، وأعمالهم التى كانت أثرا لانتصار أهل الإيمان، فإن الخير يجيء إلى المحسود، فيزيد الحاسد بغضا وضراوة.
لقد سكتوا في السنة الأولى عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على إثر المعاهدة التى عقدها، والموالاة التى أولاهم بها، ليكون منهم جماعة مندمجة معه، وهى على دينها، ولسان حاله يقول لهم لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ وليس بيننا وبينكم من بعد إلا التواد، والتعاون على البر والتقوى، والتناصر على أعداء المدينة المنورة الذين يهاجمونها.
كان ذلك، والحسد للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وللذين آمنوا يملأ قلوبهم، والضغن يأكل صدورهم، فإذا كان المؤمنون قد أخلصوا في ولائهم فأولئك قد أضمروا البغض.
ولما كان الانتصار، كان أولى ثمرات الانتصار في قلوبهم المدنفة بالحسد أن تحركوا لإفساد أهل الإيمان وتعاونوا في ذلك مع المشركين.
(2/584)
اجتذبوهم إلى النفاق، فانجذبوا إليه، وكان منهم منافقون، والنفاق يسكن القلوب الحاقدة الحاسدة الضعيفة المستكينة، فكان أوّل أثر مرير من آثار تلك الغزوة المباركة أن ظهر النفاق ناتئا برأسه، ويفت في جماعات المسلمين، ويعملون على تفريق صفوفهم ويشتد أثر النفاق في مدة الحروب، حيث تشتجر السيوف، وتلتحم الأجسام.
ففى غزوة أحد التى كانت في السنة الثالثة، كانوا يبثون في جيش المسلمين روح التمرد والهزيمة، ويأخذون قلوب الضعفاء من المؤمنين يبثون فيها الذعر والخوف، حتى همت طائفتان من جيش الإسلام أن تفشلا، كما قال تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ، تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا، وَاللَّهُ وَلِيُّهُما، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
(آل عمران 121: 123) .
وهاتان الطائفتان كانتا من المنافقين، وضعاف الإيمان، فإذا كان المؤمنون في غزوة بدر قد دخلوا وقلوبهم مستبشرة، فقد دخلوا في غزوة أحد، والمنافقون يبثون فيهم روح التردد والعجز، ولكن الله سبحانه وتعالى عليه نصر المؤمنين إن لم يأخذوا في أسباب الهزيمة، وإن استقاموا على الطريقة، ولم يخالفوا، وأنه إذا كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يعيش في المدينة المنورة والمؤمنون من أصحابه يحيط بهم أولئك المنافقون والمفتونون والحاسدون، فإنه يجب عليه الحذر منهم، وقد نفذ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك بأمر ربه، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا، وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ، قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ. ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ، وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا، وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ، قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ، وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها، وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً، إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (آل عمران 118: 120) ، وهكذا نجد حقد اليهود وصدهم قد أفسد النفوس، وفرق ما بينهم وبين أهل الإيمان.
ولم يقفوا عند حد العمل على إفساد العلاقات الاجتماعية بين الناس، ومحاولة إضعاف الإيمان، وإغراء غير المؤمنين بالنفاق، حتى شاركوهم، بل كانوا يحاولون التشكيك في قلوب المؤمنين، لأنهم يودون أن يكفروا حسدا من عند أنفسهم.
(2/585)
وكانوا في سبيل ذلك يسألون النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أسئلة معنتة لا لتتبين نبوته صلى الله تعالى عليه وسلم، بل يرجون من توجيه هذه الأسئلة ألا يجيب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عن بعضها، فيتخذوا ذلك ذريعة للتشكيك، وإلقاء الريب في قلوب المؤمنين، ولنذكر شيئا من هذه المحاولة.
ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن
398- جادلهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالتى هى أحسن، وهو يعلم أنهم يريدون الكيد بالمسلمين وإلقاء الرعب في قلوبهم، رجاء أن يجدوا ثغرة في الرسالة يطيرون بها فرحا، ولكن الله سبحانه وتعالى أمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يجادلهم، فقال الله سبحانه وتعالى وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (النحل- 125) . لأن ذلك سبيل من سبل الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
كانوا يسألون، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يجيبهم بما آتاه الله سبحانه وتعالى من علم القرآن الكريم والحكمة، فيرد كيدهم في نحرهم، وتثبت الرسالة المحمدية، ويذهب ريب كل مرتاب.
لقد سألوه متى تقوم الساعة، وهم يعلمون من علم الكتاب أن الساعة لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالي، ولكنهم سألوا السؤال، وهم يعلمون الإجابة، فيشككون في أمر البعث الذى يجادل فيه المشركون، وقد حكى الله سبحانه وتعالى السؤال والجواب الحكيم الصادق، فقال الله سبحانه وتعالى:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ، أَيَّانَ مُرْساها، قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ، ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً، يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها، قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (الأعراف- 187) .
ولقد كانت صيغة السؤال من بعضهم توميء بالتشكيك في الرسالة، فقد قال قائلهم: أخبرنا متى تقوم الساعة، إن كنت نبيا كما تقول.
فأمره الله سبحانه وتعالى بأن يجيب ذلك الجواب الصادق، ولو كان السؤال ممن لا يؤمن لأن ذلك هو الحق، والحق أحق أن يتبع.
وسألوه عن الروح، ليعنتوه أيضا، وليلقوا بالريب في نفوس المؤمنين فأمره الله سبحانه وتعالى بأن يقول أنها من أسرار هذا الوجود الذى لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالي، فقال الله سبحانه وتعالى في السؤال والجواب وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ، قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (الإسراء- 85) .
(2/586)
وإن حقيقة الروح لا تزال سرا من أمر الله لا يعلمها أحد سواه، نرى مظاهر وجودها، ولا نعرف حقيقة أمرها، لقد عرف ابن الانسان الكون وظواهره، وأدرك بالاستقراء الأفلاك، وأبراجها وارتفع ابن الأرض إلى السماء، ووصل إلى القمر، بأسباب المادة، لكنه إلى الآن لا يعرف حقيقة الروح ولا كنهها، وإن كان يعرف بعض ظواهرها، وأعراضها.
399- وسألوه عن ذى القرنين ما هو وما كان أمره، وما فعله، فذكر الله سبحانه وتعالى السؤال، وأعلم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالجواب في قول الله سبحانه وتعالى:
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ، قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً. إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً. فَأَتْبَعَ سَبَباً. حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ، وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً، قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ، إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ، وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً. قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ، ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً. وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى، وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً.
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً. حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً. كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً. ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً. حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا. قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً، عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا. قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ، فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً. آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ، حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ، قالَ انْفُخُوا، حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً، قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً. فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ، وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً. قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي، فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ، وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا.
(سورة الكهف: 83: 98)
هذا سؤال قصد به الإعجاز، وإذا عجز محمد عليه الصلاة والسلام عن الإجابة طاروا فرحا، وألقوا بالريب في النفوس، وذلك ما يقصدون، وإليه يهدفون.
ولكن الإجابة كانت علما غزيرا، وتتبعا دقيقا لسيرة ذى القرنين، وما كان له من أعمال لها أثر وذكر ولسان صدق، وكان ذلك البيان العجيب الصادق مسترعيا لعقول وقلوب الذين يستمعون إليه، فكان أثر الإجابة حجة لأهل الإيمان مثبتا لدينهم الذى ارتضوا.
(2/587)
وقد سألوا سؤالا آخر عن القرآن الكريم ليشككوا في أمره، وهو حجة الرسالة المحمدية، ودليلها الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
قالوا: أحق يا محمد، إن هذا الذى جئت به الحق من عند الله، فإنا لا نراه منسقا، كما تنسق التوراة.
فقال لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إنكم لتعرفون أنه من عند الله، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة، ولو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله ما جاؤا به» .
فوجهوا السؤال إلى ناحية أخري، لأن اعتراضهم واهن، إذ أن نسق القرآن الكريم لا يمكن أن يوزن به نسق التوراة، ولو كانت هى الألواح العشر التى نزلت على موسي، فلكل نبى معجزته وآياته.
حولوا السؤال إلى ناحية أخرى قد توجد شكا. قالوا: يا محمد. أما يعلمك هذا إنس ولا جن؟
قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «والله إنكم لتعلمون أنه من عند الله، وإنى لرسول الله تجدون ذلك مكتوبا عندكم في التوراة» .
قالوا في لجاجة: يا محمد، فإن الله يصنع لرسوله إذا بعثه ما يشاء، ويقدر منه على ما أراد، فأنزل علينا كتابا نقرؤه، وإلا جئناك بمثله.
يذكرون بهذا أنهم يستطيعون أن يأتوا بمثله، فيقول الله سبحانه وتعالى على لسان نبيه: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (الإسراء- 88) .
ولسان الحال يقول: ائتوا إن استطعتم، ولكنكم لا تستطيعون، وفيصل الأمر أن تأتوا، ليتبين أمركم، وينكشف خبىء مكركم وضلالكم، إذ تسفهون في أنفسكم بما لم يسفه به المشركون.
ويسألون سؤالا آخر يدل على عقليتهم المادية، وعلى عدم معرفتهم الله سبحانه وتعالى، وصفاته العلية الذى ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم.
وذلك أنهم كانوا متأثرين بالفلسفة اليونانية التى كانت تؤمن بالأسباب والمسببات، ولا تؤمن بغيرها.
فالأسباب العادية جعلوها قانون الوجود، فكل شيء نشأ بالعلية، فالوجود الإنسانى والخلق كله معلول لعلة، والعلة سبب عن آخر، وبهذا أخذت الفلسفة اليونانية، فيحسبون أن العالم كله نشأ بقانون العلية، عن الأوّل، وهو علة لما قبله، وبذلك يكون التسلسل لما لا نهاية.
(2/588)
أرادوا أن يظهر عجز النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بسؤال من هذا النوع، وتناسوا أن الله سبحانه وتعالى هو الفاعل المختار، الفعال لما يريد، وأن إنشاءه للكون، ليس بالسببية أو العلية، بل أنشأه بإرادته المختارة، وهذا سؤالهم الذى دل على كفرهم.
قالوا للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «يا محمد، هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟» فغضب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حتى انتقع لونه، ثم ساورهم غضبا لربه.
ولقد كان غضب الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، لأن هذا السؤال كان من اليهود، وهم أهل كتاب مفروض أنهم يعرفون الله سبحانه وتعالى ويعرفون صفاته، وأنه الأوّل والآخر والظاهر والباطن، وأنه الفاعل المختار، القادر على كل شيء، وليس فوقه شيء، وهو مبدع الوجود، بديع السموات والأرض.
ولم يقع من العرب مثل هذا السؤال، فهم كانوا يعرفون أن الله سبحانه وتعالى وحده خالق الوجود، وأنه ليس فوقه أحد، وإنما شركهم في أنهم كانوا يعبدون مع الله الأوثان التى ابتدعوها، وما أنزل الله تعالى بها من سلطان، فغضب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، لأن اليهود أهل الكتاب أسفوا في التفكير إلى ما لم ينزل إليه المشركون أهل الأوثان، وهكذا تذهب اللجاجة في التعصب إلى أن قالوا ما لا يعقلون.
ويقول راوى هذا الخبر، وهو سعيد بن جبير: فجاءه جبريل عليه السلام، وهو غضبان أسفا، فسكنه وقال له: خفض عليك يا محمد- صلى الله عليه وسلم- وجاءه بجواب ما سألوه عنه:
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ.
كان هذا تنبيها لهم إلى ما أسفوا فيه، ولكنهم نزلوا مرة ثانية عن مرتبة الوثنيين من العرب، وظنوا الله تعالى مادة كالأحياء، وتلك بقية من نزعتهم المادية.
قالوا: «فصف يا محمد، كيف خلقه؟ ذراعه، كيف عضده؟» .
فغضب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كغضبته الأولي، وساورهم، فأتاه جبريل الأمين وجاءه بجواب من الله سبحانه وتعالى عما سألوه، وهو قول الله سبحانه وتعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (الزمر- 67) .
هذه بعض مجاوبات بين اليهود الذين لا يتقيدون بفكر ولا منطق ولا علم بكتاب، ولا إيمان بالله الواحد الأحد، الفرد الصمد الذى ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، والنبى صلى الله تعالى
(2/589)
عليه وسلم يجادلهم بالتى هى أحسن، مع سوء قصدهم، إطاعة لقوله سبحانه وتعالى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (العنكبوت- 46) .
نترك الآن اليهود وأثر الانتصار المحمدى النبوى عليهم، وكيف نافقوا واتجهوا إلى الإيذاء النفسى بكل ضروبه، والنبى عليه الصلاة والسلام والمؤمنون الذين صابروا في ميدان القتال، صابروا اليهود وعلموا شرهم في ميدان الدس، والنميمة والخيانة، والفت في العضد أو ما يسمى بلغة عصرنا الحرب الباردة، فصبروا وانتصروا في الحالين، وكان النصر مؤزرا له ما بعده في تاريخ الإسلام.
فى الفترة بين بدر وأحد
400- كانت فيما بين الغزوتين اللتين كان فيهما تعليم للمسلمين في الحروب، فالأولى علمتهم أسباب النصر، والثانية أرتهم أسباب الهزيمة، وأن طاعة القائد الحكيم فيها النصر، والتقاء القلوب، وكان الظفر المؤزر من بعد ذلك، وإذا لم يكن انتصار حاسم في بعض المواقع كحنين في ابتدائها، وكبعض الغزوات مع الروم، فلم يكن انهزام، ولم يكن خذلان.
وإنه في هذه الفترة بعد الانتهاء من الأولي، والابتداء في الثانية قد كانت شرائع الإصلاح الاجتماعى بتنظيم التعامل بين الناس، والإصلاح الاجتماعي، هو الذى يقيم الجماعة الإسلامية على التعاون الجماعى فوق التعاون الآحادى.
إذا كان الإخاء الذى كونه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تأليفا آحاديا، فقد شرع الله سبحانه وتعالى بعد غزوة بدر الزكاة وهى التعاون الاجتماعى.
لقد شرع الله سبحانه وتعالى قبيل غزوة بدر صدقة الفطر، وهى معاونة من الغنى للفقير والمسكين، ولا يتجاوز المصرف فيها الفقراء والمساكين، على ما حققه الأكثرون من الفقهاء، ومنهم ابن القيم، كما ذكرنا، وأنه لا تصرف في كل مصارف الزكاة على ما سنشير من بعد، ولأنه ورد في الأثر أن الواجب في صدقة الفطر، هو إغناء المساكين عن الحاجة في ذلك اليوم الذى هو فرحة المسلمين جميعا، وهو فرحة عيد الفطر، فيعم الفرح بهذه الصدقة المفروضة على رأى الأكثرين.
وأما الزكاة، فإنها تعاون اجتماعى عام يشمل الفقير والمسكين ذوى الخصاصة، ويشمل غيرهما ممن يكونون في حاجة اجتماعية وإن لم تكن خصاصة.
(2/590)
ولقد بين الله سبحانه وتعالى المصارف بقوله الله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها، وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ، وَالْغارِمِينَ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ، فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (التوبة- 60) .
فهنا نجد أصنافا ثمانية تصرف لها الزكاة التى يجمعها ولى الأمر في كل إقليم من الأقاليم، كما قال عليه الصلاة والسلام «خذها من أغنيائهم وردها على فقرائهم» .
والمصرفان الأولان الفقراء والمساكين، وخلاصة ما انتهى إليه الفقهاء من التفرقة بين الفقير والمسكين، أن الفقير هو المحتاج، ولو كان له كسب، ولكن لا يتكافأ مع حاجاته، أما المسكين فهو العاجز عن الكسب لعاهة أو لشيخوخة أو لمرض مزمن أو نحو ذلك من الأسباب التى تعجز صاحبها عن الكسب قليلا كان أو كثيرا، فكلاهما يستحق، وإن كان المسكين أشد استحقاقا، فإن ضاق بيت المال عن الإنفاق عليهما معا كان المقدم المسكين.
والصنف الثالث من الأصناف الثمانية العاملون عليها، أى الجامعون لها من الأغنياء الذين يجب عليهم أداؤها، والذين ينفقونها على مستحقيها، من بقية الأصناف الثمانية، وإن ذكر العاملين لجمع الزكاة وصرفها في ضمن المصارف يدل على أن الزكاة تكون لها حصيلة مالية قائمة بذاتها توزن فيها مواردها بمصارفها، وتكون جزآ منفصلا عن ميزانية الدولة، ولذلك جعل لها المنظمون لبيوت المال بيت مال للزكاة قائما بذاته. والصنف الرابع المؤلفة قلوبهم، وهم يدخلون في الإسلام، وتؤلف قلوبهم بقدر من المال تثبيتا لإيمانهم وليدعوا إلى الإسلام قبائلهم، ويدنوهم إلى الإسلام.
وهذا مبدأ لم يلغ، وكذب ما ادعاه بعض الناس من أن عمر رضى الله عنه قد ألغاه، وإنما كان عمل الفاروق أنه لم يعطه لناس كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد أعطاهم، وفعل أبو بكر ما فعل الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، فجاء عمر رضى الله عنه ومنعهم، لكيلا يكون حقا مكتسبا، وليس عطاء لمقصد، وأجمع الفقهاء على أنه إذ وجد ما يوجبه وجب صرفه.
ويصح أن يصرف في الدعوة إلى الإسلام، كما يصح الصرف من حصة المؤلفة قلوبهم على الذين يدخلون في الإسلام فيقطعون من ذويهم، ويضيق عليهم في أسباب رزقهم، فيجب أن يعطوا تأليفا لقلوبهم، وتثبيتا لإيمانهم، ومعاونة لمن يستحق المعاونة.
والصنف الخامس إعتاق الرقيق، وذلك لأن الإسلام دين الحرية ودين الكرامة والإنسانية ودين العدالة الحقيقية، ودين الإخاء، فلا يمكن أن يرضى عن أن يكون إنسانا مملوكا لغيره، وإذا كانت المدينة فى عهد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم والراشدين من بعده هى الصورة الاجتماعية العالية التى تنفذ فيها
(2/591)
أحكام الإسلام كاملة موفورة، فإن الزكاة قد بينت أحكامها في السنة الثانية، وأخذ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ينفذ في المجتمع الأحكام الاجتماعية العادلة التى تحمى المجتمع من آفاته، وأن إعتاق العبيد يكون بمعاونة المكاتبين وهم الذين عقدوا مع مالكيهم عقدا على أن يسددوا لهم قيمتهم المالية في سبيل تحرير رقابهم، فهؤلاء يعانون من الزكاة بما يمكنهم من سداد ما عليهم من المال، وقد قال الله سبحانه وتعالى:
وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً، وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ (النور- 33) .
ويكون منه إعتاق من في الرقاب بشرائهم وعتقهم، وقد كان السلف الصالح يفعلون ذلك، يروى أنه في عهد الحاكم العادل عمر بن عبد العزيز كتب إليه والى الصدقات في أفريقية يشكو من أن بيت المال قد اكتظ، ولا يجد فقيرا يعطيه، فأرسل الحاكم العادل أن سدد الدين عن المدينين. فسددها، وأرسل إليه يشكو من اكتظاظ بيت مال الصدقات، فأرسل إليه اشتر عبيدا من عبيد المسلمين وأعتقهم، وبهذا تلاقى الأحرار على نصرة الإسلام، فى عهد سيد الأنام محمد عليه الصلاة والسلام.
والمصرف السادس الغارمون وهم الذين أثقلتهم الديون، وكانوا استدانوا في غير معصية وأنفقوا في غير سرف إذا عجزوا عن سداد الدين، فإن بيت مال الصدقات يسدد الدين عنهم، رفعا لخسيسهم، وكذلك يسدد الدين عمن استدانوا لأمر اجتماعى كالإصلاح بين متخاصمين، أو تحملوا ديات بين المتنازعين في الدماء، فإن بيت المال يعاونهم على سداد ما عليهم من ديون، ولو لم يكونوا عاجزين، لكى يتقدم أهل المروءة لإصلاح ذات البين، ولتخفف عنهم المغارم، فى هذا السبيل.
وإنه يجب المقارنة في هذا بين شريعة الله تعالى التى نزلت على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقانون الرومان الذى كان يعاصر نزولها، فإنه بينما كان ذلك القانون يبيح في بعض عصوره أن يسترق الدائن المدين إذا عجز عن السداد، جاءت الشريعة بمعاونة المدين في سداد دينه، وذلك فرق ما بين شريعة الله وشريعة الإنسان.
والمصرف السابع- هو معاونة ابن السبيل، وهو من كان غريبا لا مال في يده، وإن كان له مال فى بلده، فإنه يعان من بيت مال الصدقات، حتى يثوب، ويصح لبيت المال أن يعينه بالمال، دينا عليه، حتى يعود إلى أهله إذا كان ذا مال يستطيع السداد منه من غير إرهاق ولا مشقة، والأصل أن تكون المعونة تمليكا لا أن تكون دينا.
والمصرف الثامن هو الإنفاق في سبيل الله تعالى، وهو الإنفاق في الجهاد، فللجهاد قدر في مال الزكاة يعادل الثمن أو أكثر على حسب حاجة الجند في عتادهم والإنفاق عليهم.
(2/592)
وبعض العلماء يقول إن كلمة في سبيل الله تشمل كل ما يكون من المنافع العامة، مثل إنشاء الجسور وتعبيد الطرق، وقد قال ذلك القفال الشاسي، على أن يدخل ذلك في المصرف الثامن، لا أن تدخل فيه كل المصارف السابقة، كما فهم بعض الذين يحاولون تعطيل تلك الفريضة الشرعية وهى فريضة الزكاة.
المعاقل والديات
401- ذكرنا أنه في الفترة بين الغزوتين الكبيرتين كان إصلاح اجتماعى عملى واسع النطاق، قبل غزوة بدر كان الإصلاح النفسى بالصلاة والصوم، والاجتماعى المحدود، بصدقة الفطر، وما كان الإصلاح النفسى إلا لتتألف النفوس بالقرب من الله سبحانه وتعالي، والشعور بجلاله وعظمته، فمن قرب من الله رحم عباد الله، ومن رحم عباد الله ائتلف معهم، وكان معهم قوة مصلحة، رافعة دعائم الحق والخير.
وكانت الزكاة من بعد ذلك إصلاحا عمليا يؤخذ بقوة الحاكم الذى يستمد السلطان من الله سبحانه وتعالى لا بمجرد الرغبة والاختيار، وإن الثواب على مقدارهما.
وكانت هذه الفريضة من دعائم المدينة الفاضلة.
ولكن المدينة الفاضلة يجب أن تكون فيها الزواجر الاجتماعية التى تحمى الفضيلة، لأن فضيلة الإسلام إيجابية، فيجب أن يكون لها من القوة ما تدفع به الرذائل.
وكما أن القوة الحربية في الدولة لحمايتها من الاعتداء، فالزواجر الاجتماعية من الحدود والقصاص هى القوة التى تحارب بها الرذائل.
ولقد ذكر ابن جرير الطبرى أنه في السنة الثانية من الهجرة شرعت المعاقل أى الديات، وإذا كانت الديات والمعاقل قد شرعت، فإنه قد شرع القصاص في النفس وفي الأطراف- وذلك لأن الديات قصاص معنوي، عند عدم استيفاء القصاص صورة، ومعنى بالقتل قصاصا أو قطع الأطراف.
فالقصاص قد شرع وجوبه في السنة الثانية، إذ نزل قول الله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى، الْحُرُّ بِالْحُرِّ، وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ، وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى، فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ، فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ. وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ، يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (البقرة- 178: 179) .
(2/593)
وإن ذلك بلا ريب إصلاح اجتماعى خطير، لأنه يحمى الإنسان من أخيه الإنسان ولأنه بقيام القصاص تكون حياة كريمة آمنة لا اعتداء فيها ولا إفساد؛ ولأن ذلك إبطال للعادات الجاهلية التى كان يقتل فيها الألف بالواحد، ولا يقتل قاتل الكبير، بل يقتل من يرى أهله أو قبيله قتله ممن يحسبون أن يكون له كفئا، ولا يرضون أن تكون النفس بالنفس.
ولقد كان في القصاص قتل الروح الحسد والحقد في النفس، أو تخفيف لآثار الحسد، أو حمل للحسود على أن يضبط نفسه، إذ يرى العقاب يترصده، ولقد قال الله سبحانه وتعالى عن أثر الحسد الذى حمل قابيل على أن يقتل هابيل أخاه التقى الذى تقبل الله سبحانه وتعالى قربانه: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ، فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً، وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً (المائدة- 32) .
وإن أحكام الديات بأنواعها كما ذكرنا تابعة لأصل الحكم بالقصاص في هذه الآية، وقد بينت آية القصاص في التوراة أن شريعة النبيين في التوراة القصاص، واستمرت في الإسلام، فقال الله سبحانه وتعالى فى سورة المائدة وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ، وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ، وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ، وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ، وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ، فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (المائدة- 45) .
وبهذا يتبين أنه في الفترة بين الغزوتين كان الإصلاح الاجتماعى بإقامة العدل بين الناس، وسن سنة القصاص، وبيان الديات، حيث لا تتوافر شروط القصاص، أو حيث لا يمكن، والله سبحانه وتعالى أعلم.
بناء على بن أبى طالب بفاطمة رضى الله عنهما:
402- فى هذه السنة بعد غزوة بدر بنى على بن أبى طالب كرم الله وجهه بفاطمة الزهراء رضى الله تبارك وتعالى عنها وصلى الله وسلم على أبيها سيد الخلق أجمعين.
وقد روى البخارى بسنده في ذلك عن على بن أبى طالب رضى الله عنه: قال: كان لى شارف من نصيبى من المغنم يوم بدر، إذ كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد أعطانى شارفين مما أفاء الله من الخمس يومئذ- فلما أردت أن أبنى بفاطمة بنت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، واعدت رجلا صواغا من بنى قينقاع أن يرتحل معى فنأتى بأذخر (نبات نفيس بالصحراء) فأردت أن أبيعه من الصواغين، فأستعين به في وليمة عرسى فبينا أنا أجمع لشارفى من الأقتاب والغرائر والحبال، وشارفاى مناخان إلى جنب حجرة رجل من الأنصار، حتى جمعت ما جمعت فإذا بشارفى قد أخبت (أى قطعت)
(2/594)
أسنمتها، وبقرت خواصرها وأخذ من أكبادها فلم أملك عينى حين رأيت المنظر، فقلت: من فعل هذا؟
قالوا: فعله حمزة بن عبد المطلب وهو في هذا البيت في شرب من الأنصار، وعنده قينته وهى تغنيه، وجاء في غنائها «ألا يا خمر للشرف النواء ... » فانطلقت حتى دخلت على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وعنده زيد بن حارثة.. فقلت: يا رسول الله ما رأيت كاليوم، عدا حمزة على ناقتى فأجب أسنمتها، وبقر خواصرها، وها هو ذا في البيت مع شرب (أى ندامى يشربون الخمر) ، فدعا إلى ردائه، فارتداه، ثم انطلق يمشى، واتبعته أنا وزيد بن حارثة حتى جاء البيت الذى فيه حمزة، فاستأذن، فأذن له، فطفق النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، يلوم حمزة فيما فعل، فإذا حمزة ثمل محمرة عينه فنظر إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ثم صعد النظر فنظر إلى ركبتيه، ثم صعد النظر، فنظر إلى وجهه، ثم قال:
وهل أنتم إلا عبيد لأبى، فعرف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه ثمل، فنكص على عقبيه القهقرى، فخرج وخرجنا معه. هذا لفظ البخارى في روايته.
سقنا هذا الخبر لأن فيه خبرا عن زواج فارس الإسلام على بن أبى طالب وقد كان يناهز الرابعة والعشرين من عمره، وإنا نتيمن دائما بذكر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وآله الأبرار.
والخبر يدل فوق ذلك على أمور:
أولها: أن عليا المجاهد العظيم، ما كان عنده مال لعرسه، فخرج يجمع المال من جوف الصحراء ليستعين بجهده على ذلك، وهو ابن عمه، وربيبه الذى رباه.
ثانيا: أنه يصرح بأن الناقتين من نصيبه في الخمس الذى كان للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم وآله، فدل هذا على أن أنفال بدر خمست ولم توزع بالتساوى، كما ادعى أبو عبيد في كتابه الأموال.
وثالثها: أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في هذا الوقت المثير، لم ينس الاستئذان، فاستأذن على الشرب.
ورابعها: ما تفعله الخمر في النفوس، فمحال أن يصدر عن أسد الله حمزة في صحوه ما صدر عنه.
وخامسا: أن الخمر لم تكن حرمت تحريما قاطعا، ولم يكن قد تبين حكمها بيانا شافيا.
وأنها تغرى بالعداوة والبغضاء، وكادت توجد العداوة بين على وحمزة، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم وحمزة، لولا أنهم الحكماء الأبرار.
(2/595)
حروب في الفترة بين الغزوتين الكبيرتين
403- بعد غزوة بدر الكبرى كان الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم يتعرف ما حوله من القبائل، ويسير إليهم، فبعد سبع ليال من قفوله إلى المدينة المنورة كما قال ابن إسحاق اتجه إلى بنى سليم، فذهب إليهم، وبلغ ماء من مياههم اسمه المكدر، فأقام ثلاث ليال متعرفا أحوالهم وبيئتهم ثم عاد، ولم يلق كيدا وأقام بالمدينة المنورة، وكان ذلك في شوال من السنة الثانية للهجرة، وتسمى غزوة المكدر.
وقد كانت من جولات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في القبائل يتعرف أحوالهم، ويعرف من يلقاه بالدعوة الإسلامية، فهذه تسميتها بالغزوة هى وأشباهها، لا يعنى الحرب، ولكن هى نشر الدعوة، والاستعداد لما يكون من بعد.
وكان كلما خرج خرجة من هذا النوع وغيره، أقام في المدينة المنورة من يخلفه عليها، ولا يختص أحدا دون غيره.
غزوة السويق
404- فى ذى الحجة كانت غزوة السويق:
وسببها أن رجوع فلول جيش قريش المهزوم قد أرث حقد كبراء قريش الذين بقوا من معاندى النبوة ومحاربى الدعوة المحمدية إلى التوحيد، وهجر الأوثان، وعبادة الرحمن وحده.
وأخص من تألم منهم أبو سفيان الذى آلت إليه زعامة الشرك بعد أبى جهل، وعقبة بن أبى معيط، وقد كان أظهر قواد المشركين في بدر.
نذر أبو سفيان ألا يمس الماء رأسه من جنابة حتى يغزو محمدا عليه الصلاة والسلام، وقد كانت رهبة من المسلمين شديدة إثر الهزيمة المنكرة التى منى بها قومه، وقتل الأشياخ منهم، فأورثهم ذلك فزعا وخوفا مع الرغبة الشديدة في الانتقام.
ومع هذه الحال أراد التحلة من يمينه، فخرج في مائتى راكب من قريش، فسلك الطرق النجدية، فنزل بصدر قناة إلى جبل يقال له «يثب» يقرب من المدينة المنورة ثلاثة فراسخ، ولكنه لم يتجه إلى أحد من المسلمين حتى يتصل بيهود بنى النضير الذين كانوا يجاورون النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في المدينة المنورة، وقد علم ما كان يسكن نفوسهم من إحن وبغض للمسلمين مع العقد الذى بينهم، ويظهر أنهم كانوا معهم على مودة كونتها عداوة المسلمين عامة، وعداوة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة.
(2/596)
التقى أبو سفيان ببنى النضير، تحت الليل، فأتى حيى بن أخطب فضرب عليه بابه، فلم يفتح له، ودفعه الحرص ألا يعاونه، فانصرف إلى سلام بن مشكم، وكان السيد على بنى النضير في زمانه.
وصاحب كنزهم الذى اكتنزوه، فقرى أبا سفيان، وأخبره ما كان خفيا عليه من أخبار المؤمنين.
خرج أبو سفيان من المدينة المنورة بعد أن عرف من أسرار المسلمين ما كان يعلمه بنو النضير، فأرسل رجالا ممن معه حتى أتوا ناحية من المدينة المنورة يقال لها العريض، فحرقوا النخيل، وخربوا، ثم وجدوا بها رجلا من الأنصار، وحليفا في حرث يزرعونه، فقتلوهما، وانصرفوا راجعين هاربين، غير مقاتلين، وتخففوا مما يحملون، حتى يسهل الهرب، وتركوا أزوادا مما تزودوا بها.
علم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان أشد حرصا وسبقا إلى الفزع والهيعة إذا تنادوا بها فخرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأقام على المدينة المنورة أبا لبابة.
فسار حتى بلغ المكدر، ولكن كان أبو سفيان ومن معه قد أمعنوا في الهرب فلم يدركوه، ولكن وجدوا زاد جيشه الذى كان يبلغ نحو المائتين.
وكان أكثر مما تركوا سويقا من أزوادهم، فأخذ المسلمون سويقا كثيرا، وجدوا فيه غذاء طيبا.
ولذا سميت الغزوة ذات السويق.
وقد كانت نتيجة هذه الغزوة إرهابا شديدا للمشركين، وإشعار أولئك الأعداء باليقظة من جانب أهل الإيمان، والحذر من ألا يؤخذوا على غرة.
وكان من نتيجتها أيضا أن علم المشركون أن ليس الطريق لهم ولما لهم غير الهزيمة، وأحسوا بذلك أن الإسلام صار قوة للحق لا ينال منه بغرة، وإذا كانوا قد قتلوا اثنين في حرثهما، فما كان ذلك منالا لأبطال.
غزوة ذى أمر
405- أقام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعد غزوة السويق بالمدينة المنورة بقية شهر ذى الحجة يدبر أمر المسلمين وينفذ أحكام القرآن الكريم.
ولم يلبث إلا قليلا حتى اتجه إلى تعرف أحوال البلاد العربية، واتجه إلى نجد التى كان قد أتى من طريقها جيش أبى سفيان الذى فاز بقتلى الحرث، ولم يظفر بمقاتل، فكان مخربا لا محاربا، ثم فر هاربا.
(2/597)
غزا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نجدا يريد غطفان، وخلف على المدينة عثمان بن عفان رضى الله تعالى عنه.
ولقد ذكر الواقدى في تاريخه، فقال: «بلغ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن جمعا من غطفان من بنى ثعلبة تجمعوا بذى أمر يريدون حربه، فخرج إليهم من المدينة المنورة يوم الخميس لثنتى عشرة ليلة خلت من ربيع الأوّل من العام الثالث، واستعمل على المدينة المنورة عثمان بن عفان.
وكان معه أربعمائة وخمسون رجلا وهربت الأعراب في رؤوس الجبال حتى بلغ ماء يقال له ذو أمر فعسكر به، ولم يمكث في هذه الغزوة أكثر من أحد عشر يوما وعاد.
ويذكر الواقدى في هذه الغزوة أن المسلمين أصابهم مطر كثير، ابتلت منه أثواب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فنزل تحت شجرة نشر عليها ثيابه لتجفف على مرأى من المشركين الذين شغلهم خوفهم وهربهم.
ولكن رجلا مندفعا منهم يقال له غورث بن الحارث أغروه بأن يقتل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وهو في أمنه، فيأخذه على غرة.
فذهب ذلك الرجل إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ومعه سيف صقيل، حتى قام على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شاهرا السيف عليه، وقال: «يا محمد من يمنعك منى؟ قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الله، فوقع السيف من يده، فأخذه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال: من يمنعك منى؟ قال: لا أحد، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والله لا أكثر عليك جمعا أبدا» .
ذكر هذه القصة الواقدى في تلك الغزوة وهى غزوة ذى أمر، ولكن البيهقى ذكر في غزوة ذات الرقاع قصة تشبه هذه، وحمل السيف منسوب إلى غورث.
وبعضهم يقول إنهما قصتان، ولكن يلاحظ ابن كثير أن غورث المنسوب إليه حمل السيف واحد في الروايتين، فلا يمكن أن تكون ثمة واقعتان إلا إذا فرضنا أن غورث هذا لم يسلم، ولم يعط عهدا للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأن لا يكثر عليه جمعا أبدا.
والله تعالى أعلم بالحق في الأمر.
(2/598)
غزوة الفروع من بحران
406- كانت قريش لا تريد أن يعيش محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من المؤمنين فى أمن، وما كان يمنعهم من الإغارة على المدينة المنورة إلا أنهم في غب هزيمة، وهى توجد الفزع، فكان الخوف يردهم عن غاياتهم.
والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يعمل على تتبع أحوالهم، وتقصى أخبارهم، ونقص الأرض من أطرافها، وهو يريد بهذا مع تخويفهم أن يتعرف أحوال قبائل العرب، وينشر نور الإسلام متنقلا في أحياء العرب وقبائلهم في منتجعاتهم، ومتعرفا أرضهم.
لذلك خرج من المدينة المنورة تاركا عليها ابن أم مكتوم، وسار يريد قريشا، حتى بلغ بحران، وهو معدن من ناحية مكان يقال له الفروع.
ذهب إلى ذلك المكان فأقام به شهر ربيع الآخر، وجمادى الأولى، وهو في هذه المدة يدرس حال القبائل ويتعرف حالها، ويدعو إلى الإسلام في ربوعها، غير وان ولا مقصر، فذلك عمله الذى بعث له.
فما كان مبعوثا لأجل الحرب، وإنما كان مبعوثا لأجل الهداية، والحرب كانت لحماية الدعوة من الأذى، ولمنع الفتنة في الدين، ولفتح الطريق لها.
ولذلك لا يصح لأحد أن يعترض فيقول إذا كان لم يلق كيدا، ولا حربا ولا عيرا ولا نفيرا فلماذا يترك المدينة المنورة تلك المدة التى ليست قصيرة، لأن الغاية نشر الإسلام، لا مكيدة حرب ولا مصادرة مال، فالغاية هى نشر دعوة التوحيد.
تكشف الوجه اليهودى في قينقاع
407- ذكرنا بإيجاز ما كان يقوم به اليهود، من إثارة للريب في قلوب المسلمين، وما كانوا يحاولون له أن يثيروا روح التردد والهزيمة في المجاهدين، وما ملأ قلوبهم من غيظ بعد غزوة بدر الكبري، وكيف علموا الوثنيين الحقد وسبقوهم إليه، وكيف أخرج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم المنافقين من المسجد، عند ما رآهم يهمزون ويلمزون، ذكرنا ذلك، ولكن طائفة منهم تكشف غيظها، ولم تحف أمرها، لأنها كانت تعيش في وسط المدينة المنورة مع المسلمين، ولم تكن في أطرافها، وأولئك هم بنو قينقاع.
(2/599)
ولقد كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حريصا على أن يدعوهم إلى الحق بالحكمة والموعظة الحسنة، تاركا ما يعرف من أن قلوبهم تنضح بالحقد يبدو على ألسنتهم، فالداعى إلى الحق لا ينى عن الدعوة إليه، ولو كان من يدعوه يهوديا لا يؤمن بشىء، ولا يرضى إلا بالخبال للمؤمنين.
التقى بهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بسوق قينقاع فحدثهم حديث الجار لجاره الذى عاهده يدعوه إلى الرشد، قال عليه الصلاة والسلام لهم: «يا معشر يهود، احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أنى نبى مرسل، تجدون ذلك في كتابكم، وعهد الله تعالى إليكم» فأجابوا هذا الحديث الرشيد الودود بكلام فيه جفوة وحدة قائلين:
يا محمد، إنك ترى أنا قومك، لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة، وإنا والله لئن حاربناك لتعلمن أننا الناس.
لقى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك الجواب المرعد المنذر بالإغضاء، فما كان يحارب المعتدى بالقول، ولكن كان يحارب الفعال.
وذكر ابن إسحاق أن الله تعالى قد أجاب عنه بقوله سبحانه وتعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ. قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (آل عمران- 13) .
وهذه الرؤية المضاعفة كانت حال اللقاء في الحرب، إذ كانوا يرون أنفسهم رأى أعينهم مثل المؤمنين، والله تعالى هو الذى يؤيد بنصره من يشاء قلة كانوا أو كثرة، وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله..
ولكن بنى قينقاع لم يقفوا عند حد القول، فى بث روح التفرقة والشك في أنفسهم، بل انتقلوا من الإساءة بالقول إلى الإساءة بالفعل، وهم على كثب من المسلمين، وكانوا يجاهرون بنقض العهد وأنهم لا يحترمونه، ويتناولون النبى صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين بالذم، والأذى.
ولقد قال ابن إسحاق: إن امرأة من المسلمين قدمت تبيع في سوق بنى قينقاع، وجلست إلى صائغ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ الماجن فقتله، وكان يهوديا، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود فغضب المسلمون، فكان الشر بينهم وبين بنى قينقاع.
(2/600)
عندئذ كان لا بد من الحرب دفاعا عن الفضيلة وعفة النفس، وقد نقضوا العهد بأقبح طريقة.
موقعة بنى قينقاع:
408- أخذ بنو قينقاع من قبل ما حدث مع المرأة، وما كان من تهديد يتطاولون على المسلمين بالسب والأذى، والتحامل، وعدم صون لسانهم عن المسلمين والإسلام، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يصابرهم ويوفى بعهدهم، حتى كان منهم القتل.
حاصرهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في ديارهم، وأقام على المدينة المنورة في أثناء محاصرته لهم التى دامت خمس عشر ليلة بشير بن عبد المنذر وهو أبو لبابة.
ولما اشتد الحصار عليهم واستطال، نزلوا على حكم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. فأجلاهم، ولم يقتلهم، وقد كانوا حلفاء الخزرج الذين منهم رأس المنافقين عبد الله بن أبي، كما كان منهم عبادة ابن الصامت، وقد ناصرهم ابن أبى، وتعرض للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم فقال رأس النفاق: يا محمد أحسن في موالى. فأبطأ عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: يا محمد أحسن في موالى. فأبطأ عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: يا محمد أحسن في موالى. ومع تبجحه فى نداء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من غير وصف الرسالة، إذ غلبه النفاق في النداء، فبدا في لحن قولهم، كما قال الله سبحانه وتعالى: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ (محمد- 30) مع هذا التبجح تجرأ فوضع يده في جيب درع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أرسلنى، وغضب حتى رأوا لوجهه ظللا، ثم قال: ويحك أرسلنى، قال المنافق: «والله لا أرسلك حتى تحسن في موالى. أربعمائة حاسر «1» ، وثلاثمائة دارع «2» قد منعونى من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة، إنى والله امرؤ أخشى الدوائر» وكأنه حسب أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم سيقتلهم، والنبى عليه الصلاة والسلام أراد إجلاءهم. ولم يرد قتلهم، فقال له: هم لك، أى أنه يجليهم، ولا يقتلهم، لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم دفع شرهم بأقل ضرر ينزله بهم.
هذا موقف رأس النفاق، أما موقف المؤمن عبادة بن الصامت، وهو حليفهم مثله، فإنه قال: «أتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم» . ذانكم رجلان: مؤمن ومنافق.
__________
(1) الحاسر: الذى لا درع له.
(2) الدارع: لابس الدرع
(2/601)
يقول ابن إسحاق: إن في ابن أبى وعبادة نزل قول الله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ، يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ. وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ، حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ، فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ، ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ. إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ، وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ، وَهُمْ راكِعُونَ. وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (المائدة- 51: 56) .
وإذا صح أن الآيات الكريمات نزلت لمناسبة موقف رئيس المنافقين، ورجل مؤمن من المؤمنين، فإن الآيات فيها وصف عام لمن يكون ولاؤهم لله ومن يكون ولاؤهم لغيره.
وإن أمر بنى قينقاع قد انتهى بإجلائهم، وطهرت المدينة المنورة من أرجاسهم، وما كان ذلك اعتداء من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، بل كان ذلك لرد اعتدائهم، ولنقضهم للعهد، ولأنهم صاروا جيران سوء، يحق إجلاؤهم ليسلم الناس من فسادهم.
سرية زيد بن حارثة
409- بعد غزوة بدر، وما أصاب قريشا فيها، خافوا طريق المدينة المنورة في وصولهم بمتاجرهم إلى الشام فاختاروا طريقا حسبوه أسلم من هذا الطريق وإن كان أطول، فاختاروا طريق العراق وهو طريق مع بعده لم يكونوا من قبل يسلكونه، فلم يعرفوا مسالكه، فاستأجروا رجلا من بنى بكر بن وائل حليف بنى سهم ليكون لهم دليلا، وليستمدوا من حلفه أمنا لهم.
ولكن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الذى كان يتعرف الصحراء وطرائقها علم بمسلكهم، فبعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إليهم زيد بن حارثة، يتتبع مسالكهم، فلم يفلتوا منه، ولقيهم على ماء يقال له ماء القردة، وهم يستسقون، فأصاب العير، فأحضرها إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقسمت غنائم، ولكن الرجال الذين كانوا يصحبون العير قد نجوا بأنفسهم فارين.
(2/602)
ويقول الواقدى في تاريخ هذه السرية، والعلم بالعير «كان خروج زيد بن حارثة في هذه السرية في مستهل جمادى الأولى على رأس ثمانية وعشرين شهرا من الهجرة (فى السنة الثالثة) وكان رئيس العير صفوان بن أمية، وكان سبب بعثة زيد بن حارثة أن نعيم بن مسعود قدم المدينة المنورة ومعه خبر هذه العير، وهو على دين قومه، واجتمع بكنانة بن أبى الحقيق في بنى النضير، ومعهم سليط بن النعمان، فشربوا فتحدثوا بشأن العير ... فخرج سليط من ساعته، فأعلم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فبعث من وقته زيد بن حارثة، فلقوهم فأخذوا الأموال، وأعجزهم الرجال وإنما أسروا رجلا أو رجلين، وقدموا بالعير، فخمسها، فبلغ خمسها عشرين ألفا، وقسم أربعة أخماسها على السرية. وكان فيمن أسر الدليل فرات ابن حيان، فأسلم رضى الله عنه، وأن هذا الخبر، يعين الوقت، ويذكر طريق العلم بهذه العير.
وإنى أرى خبر نعيم الذى وصل إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في حينه كان من أحد طرق المعرفة، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقظا عالما بما تفعل قريش من أوقات متاجرهم وخروجها إلى الشام، وميقاته، وخروجها إلى اليمن وميقاته، فقد كانوا يألفون مواعيد معلومة يعدون فيها المتاجر، والله سبحانه وتعالى قد أعلم بما يألف قريش، فقال: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ. رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ. فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (سورة قريش) .
فالنبى لابد أن يكون بفراسة المؤمن يعلم أنهم سيخرجون في ذلك الوقت وأنهم إذا لم يمروا به، فإنهم لابد أن يمروا بطريق آخر، وهو طريق العراق، فجاء الخبر متفقا مع ما نحسب أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد حسبه والله أعلم.
كعب بن الأشرف اليهودى
410- هذه حال فردية ولكنها ذات صلة بسير الحروب، بين أهل مكة المشركين والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وما كان يقوم به اليهود في هذه المعارك آحادا وجماعات من تحريض للمشركين وتخذيل للمؤمنين، وبث روح التردد والهزيمة في أهل المدينة المنورة، وإثارة الحروب في مكة المكرمة، وكلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله سبحانه وتعالى.
وكان كعب بن الأشرف يقوم في ذلك بأعمال خطيرة، تؤجج النيران ضد المؤمنين، وكعب من طييء، وأمه من بنى النضير، وظاهر حاله أنه لم يدخل في عهد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم يقف من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ولا المؤمنين موقف المسالة، أو يعتزل، فلم يكن مع هؤلاء وأولئك، بل أظهر العداوة، وعمل تحت سلطانها، وبدا ذلك فيما يأتى:
(2/603)
(أ) أنه لما علم بمقتل المشركين من أهل بدر، أعلن غضبه على المؤمنين، قال: «لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها» ، وبذلك أعلن العداوة المكنونة في نفسه، وماذا يصنع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مع عدو أظهر عداوته، ولم يكن له عهد مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
(ب) أنه كان يهجو النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ويشدد في الهجاء، غير ملاحظ كرامة، ولا حرمة، بل كان منخلعا من كل عهد، ومن كل فضيلة، وكان كالذين آذوا موسى من إخوانه اليهود، وهو متحلل من كل مروءة.
(ج) أنه قدم المدينة المنورة يعلن عداوته للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم ويجاهر بها، ويحرض اليهود على المؤمنين، ويلقى بالشر والفتنة بين المؤمنين من غير حريجة من خلق أو دين أو عهد، وجعل يشبب بنساء المؤمنين، ويشيع قالة السوء عن فضليات هؤلاء النساء.
(د) وكان يحرض يهود على أن تنقض عهدها مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنه كان بأفعاله يجرئ كل من لم يؤمن بمحمد عليه الصلاة والسلام على الخروج عليه، وشن الحرب، ولم يترك بابا من أبواب الكيد إلا دخل إليه، وليس له أهل يرد عليهم فيمنعوه، بل هو منفرد بأعماله مقيم فى حصن، لا ينتمى إلى بنى النضير إلا من جهة أمه، ولا تسرى عليه عهودهم.
(هـ) أنه لم يقف عمله عند العداوة والبغضاء، وإشاعة الفساد، وتحريض يهود، بل إنه تجاوز ذلك، إذ ذهب إلى مكة المكرمة، واستعدى قريشا، فنزل على الذين أوذوا في غزوة بدر، وأخذ يحرضهم على قتال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وربط حباله بحبالهم، ونفسه بنفوسهم، حتى لقد قال له أبو سفيان من فرط ما امتزجت نفوسهم به: «أناشدك أديننا أحب إلى الله أم دين محمد وأصحابه، وأينا أهدى في رأيك، وأقرب إلى الحق، إننا نطعم الجزور الكوماء، ونسقى اللبن على الماء، ونطعم ما هبت الشمال» فقال له كعب اليهودى الكتابى: أنتم أهدى سبيلا، وقال الله سبحانه وتعالى في كتابه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً. أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ، فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً. أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ، وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (النساء- 51: 54) .
وهكذا قد بدت العداوة من أفواههم، والتحريض من أعمالهم، وإرادة الفساد، وإشاعة الفاحشة بين المؤمنين من تصرفاتهم، وكان كعب المثل الواضح في ذلك، وكان يقول القصائد محرضا المشركين على المؤمنين ويقول في شعره محرضا قريشا:
(2/604)
طحنت رحى بدر لمهلك أهله ... ولمثل بدر تستهل وتدمع
ويقول في التحريض من هذه القصيدة:
ويقول أقوام أسر بسخطهم ... إن ابن أشرف- قل- كعبا يفزع
نبئت أن بني المغيرة كلهم ... خشعوا لقتل أبي الحكيم وجدعوا
وابنا ربيعة عنده ومنبه ... ما نال مثل المهلكين وتبع
نبئت أن الحارث بن هشامهم ... في الناس يا بني الصالحات ويجمع
ليزور يثرب بالجموع وإنما ... يحمى على الحسب الكريم الأروع
وهكذا يحرض على القتال، ويرثى القتلى بعبارات تؤجج نيران الحقد ليدفعها إلى الثأر.
411- هذا ما يفعله الرجل اليهودى المنطلق من كل العهود والمواثيق، أيسكت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وهو المحارب الحذر الذى يهجم على مداخل الأذى قبل أن يلج منها العدو، أم يعلنها على قومه أو من ينتمى إليهم من بنى النضير، وأكثرهم لم ينالوا المؤمنين بمثل ما نال، ولا تزر وازرة وزر أخري، والنبى عليه الصلاة والسلام لا يعلن الحرب إلا على من أعلنها، ولما يعلنوها.
أم يسكت ويترك الشر يستشري، ويحاكيه في أفعاله بقية يهود، لا شك أن آخر الدواء الكي، إنه لابد أن يجتث الداء في موضعه، ولا يتركه حتى يفسد الجسم كله، ولا منجاة حينئذ، لم يبق إلا أن يقتل كعبا حسما لمادة الفساد، وما السبيل لدفع شره غير القتل، إنه لا سبيل إلا هو، وأن يقضى على الداء، أن يعلن عليه النبى عليه الصلاة والسلام الحرب، وهل تعلن الحرب على واحد، لقد قلنا أن من ينتمى إليهم لم يكن منه مثل ما فعل.
فلم يبق إلا أن يقتل، وأن يدعو النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من يتولى قتله في مأمنه، وقد اتخذ حصنا يأوى إليه، فحرض عليه الصلاة والسلام من يقتله من غير ضجة، ولا إزعاج لأحد من الآمنين، ولقد انتدب لذلك من رأى في نفسه القدرة من الصحابة، واستأذنوا الرسول في أن يخدعوه بالقول فأذن.
ولقد وجدنا من الغربيين الذين يكتبون في تاريخ الإسلام من أثاروا زوبعة حول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. وكيف يأمر بالقتل غيلة، وهو نبى مرسل، قالوا ذلك، ونسوا أنه نبى محارب لا يدعو إلى الاستسلام للشر، بل يقاومه، ويحتاج لحماية الناس من الضرر، وأنه بمقتضى حكمة النبوة يجب أن يدفع الضرر الكثير بالضرر القليل، وإنه في سبيل أن تحقن الدماء في القتال يجب منع أسبابها، وأن
(2/605)
الذى كان يثير الحرب جذعا هو واحد وقتل واحد شرير خير من قتل جماعة في ميدان الحرب، فهو كان يحرض على الحرب.
قالوا إن القتل كان غيلة، ونحن نقول في ذلك إن الرجل جاهر بالعداوة، وشبب بنساء المسلمين، وحرض اليهود على الانقضاض على المؤمنين ونكث العهود. ولم يكتف بذلك، بل ذهب إلى مكة المكرمة، وأثار الأحقاد ودعا إلى أن يقاتلوا محمدا عليه الصلاة والسلام.
فعل كل ذلك جهارا نهارا، فإذا لم يتوقع من محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أنه يتربص به الدوائر الدائرة، وأنه يريد أن يقضى عليه، لأنه مادة الشر ولسانه، إذا لم يقدر ذلك فهو أبله، ولم يكن كذلك فمحمد عليه الصلاة والسلام أمر بقتله في وقت كان هو يتوقع ذلك، أو ينبغى أن يتوقع ذلك ولا يعد القتل غيلة لمن يتوقع القتل، إن قتل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يشبه من يعلن عن شرير بأنه ارتكب آثاما كثيرة، وأن من أحضره حيا أو ميتا، فله جزاء.
إننا فرضنا أن الحكمة والعدالة والأخلاق توجب التخلص منه، وإذا لم يجز التخلص منه بالطريقة التى حدثت وهى الخديعة، فكيف كان يمكن التخلص، أيحضره من ينتمى إليهم فيقدمونه للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، إنهم لا يفعلون ذلك، ولم يوجد من يتحمل تبعة عمله وما يفعل، وإذا لم يكن ذلك أيأمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بإحضاره بين يديه والحكم عليه بالقتل ويتولى قتله، وما الفرق بين هذا، وبين ما كان من حيث المعنى.
إن قتله كان أمرا لابد منه لما قام به، ويقوم به رئيس الدولة العادلة التى يحكمها ذلك الحاكم العادل، فإنه لا سبيل لدفع فساده وإفساده إلا بقتله بأى طريق كان القتل، وكل ما فعله النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه أباح دمه، جزاء ما ارتكب، ومنعا لاستمراره في غيه، فقد كان يقوم بجريمة مستمرة غير متحرج، فالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان مخيرا بين أمرين إما أن يقتله، وإما أن يتركه يرتع في جريمته، فاختار أسلم الأمرين، اللذين لا مناص من اختيار أحدهما.
وإن أولئك الذين يثيرون الشك حول أعمال محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وحول رسالته السماوية التى كانت رحمة للعالمين- يقولون إن الرسالة السماوية تتنافى مع القتل غيلة، بل تتنافى مع أصل القتل، كما كان من عيسى عليه السلام الذى يروون أنه قال: «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر» .
(2/606)
ونقول في الجواب عن ذلك، إن قمع أعداء الدعوة الدينية لا يتنافى مع الرسالة، فموسى عليه السلام وهو من أولى العزم من الرسل، قد قتل بيده، وقاتل، ودعا بنى إسرائيل إلى القتال، وما تنافى ذلك مع رسالته الإلهية التى نزلت بها التوراة، وهى كتب العهد القديم المقدسة عند اليهود والنصارى معا.
ويحسبون أن الرحمة النبوية تمنع القتل والقتال، ونقول في ذلك إن القتل المشروع يكون بباعث من الرحمة، فليست رحمة النبوة انفعالة رعناء تكون على موضع البرء والسقم، إنما رحمة النبوة تكون بالكافة، ومن الرحمة بالكافة أخذ المذنب بذنبه، ومنع الفساد في الأرض، قال الله سبحانه وتعالى:
وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ، وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (البقرة- 251) والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: «أنا نبى المرحمة، وأنا نبى الملحمة» ، وملحمته نابعة من مرحمته، وكثير من العفو يكون مشتملا على أقسى العذاب، وهو العفو عن الجانى الذى لا رجاء في صلاحه.
والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد اشتملت شريعته على العفو في الأمور التى لا يعود العفو فيها بالشر على الجماعة، كما قال الله سبحانه وتعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (النحل- 126) . فالصبر عن أخذ الجانى بجريمته إنما يكون في الاعتداء على الآحاد الذى لا يتعدى الأمر فيه إلى الجماعة، وقول الله سبحانه وتعالى: خُذِ الْعَفْوَ، وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ إنما هو في الأمور الشخصية التى لا يعود ضررها على الكافة، يقول الله سبحانه وتعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا، وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (فصلت- 34: 36) وهذا واضح أنه في الأمور التى تمس الشخص ولا تصل إلى الجماعة، وكلام النصارى الذى ينسبونه إلى المسيح عليه السلام إنما هو في الأمور التى لا تمس إلا الشخص. وإذا فهموه على أوسع من ذلك، فلكل شرعة ومنهاج، والله ولى الرشاد.
(2/607)
غزوة أحد
412- أهمت قريشا هزيمة بدر الكبري، إذ كانت حقا يوم الفرقان بين الحق والباطل، وقوة المؤمنين وضعفهم، وكانت أوّل هزيمة تنالهم من جيش محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، فكانت مرارة الهزيمة شديدة، لأنها نالت أشياخهم، والزعماء فيهم الذين كانوا يجعلونهم بحكم الجاهلية لا تعدلهم قبائل، وما من بيت من بيوت كبرائهم إلا كان فيه جرح كبير قد ولد ترة شديدة.
وفوق ذلك قد أحسوا بأن دولة الشرك التى كانوا يستمسكون بها قد أخذت تنهار، وقد كانوا يعتبرونها عقيدة آبائهم، وكانوا يقولون: بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا، أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (البقرة- 170) .
وقد وجدوا من بعد ذلك أن مكانتهم في العرب، وشرفهم أخذ ينهار، ولو توالت هذه الحال لزال شرفهم ولزالت مكانتهم، وظنوا أن الأعراب الذين كانوا يخضعون لشرفهم سيخرجون من بعد عن نفوذهم، وأن القبائل العربية، تتسنم مكانهم إن استطاعوا.
ورأوا متاجرهم تساق إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم غنائم تقسم بين أصحابه، وأنهم لا قبل لهم بأن ينفذوا بمتاجرهم إلى الشام ليتوردوا ويستوردوا، وتستقيم لهم رحلة الشتاء والصيف.
رأوا كل هذا وحاولوا أن ينالوا من محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فلم ينالوا، فأغاروا غارة السويق، فما استفادوا كثيرا، بل لم يستفيدوا قليلا.
رأوا كل هذه الدنايا، فهل يسكتون، وإن سكتوا عن متاجرهم، فلن يسكتوا عن شرفهم الذى ثلم، ولن يسكتوا عن الثارات التى ولدتها المقتلة في أشياخهم، ومن كانوا في موطن الزعامة فيهم.
القوة بدل العير
413- مشى عبد الله بن أبى ربيعة، وعكرمة بن أبى جهل، وصفوان بن أمية في رجال من قريش ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم يوم بدر فكلموا أبا سفيان بن حرب ليقودهم إلى المعركة الجديدة، وكانت قيادة المعركة التى هزموا فيها بين أبى جهل، وعقبة بن أبى معيط، فأرادوا توحيد القيادة هذه المرة، وأبو سفيان بقية رجالهم، أو من هو في مكان الزعامة منهم، وأبو سفيان هو الذى نجا بعيرهم، ويريدون أن تكون العير الناجية فداء لثأرهم.
قال هذا الوفد الذى ذهب إلى أبى سفيان، وخاطب أصحاب العير قائلا:
(2/608)
يا معشر قريش: «إن محمدا قد وتركم، وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا ندرك منه ثأرا» .
فنزلوا عن المال، ليكون مادة القتال، وأخذوا الأهبة من الرجال، وأدوات الحرب، لأنهم علموا أنها الذلة والخزى والعار، إن لم يستردوا مكانتهم.
اجتمعت كل بيوتات قريش وبطونهم، ولم يبق أحد منهم الا أخذ الأهبة واستعد للقتال، وأن يضربوا المدينة المنورة ضربة قاصمة، وإن لم يقتلعوا الإسلام منها، فإنهم ينالون مأربا وثأرا، ويستردون شرفا ويدفعون عارا.
وضموا إليهم كنانة وتهامة، وأحباشا كثيرة ممن لهم دربة في القتال بالرماح، وكان منهم وحشى قاتل أسد الله حمزة الذى منى بالعتق إذا قتل حمزة الذى كان سيفه البتار يهد قريشا هدا، فما ذهب ليقاتل، ولكن ذهب ليترصد حمزة، لا ليواجه الجيش، فكأنه ذهب للاغتيال، لا للقتال.
ولم يكتفوا بمن استعانوا بهم من قبائل حول مكة المكرمة وأحباش، بل استعانوا ببعض المشركين من الأوس في يثرب لأن لهم أحقادا كأحقادهم، ولم يرضوا النفاق أو لم يظهروا به، فقد روى قتادة أن أبا عامر بن صيفى أخا بنى ثعلبة، وكان قد خرج من مكة المكرمة مباعدا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ومعه خمسون من غلمان الأوس، وكان قبل قدوم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وتوهمت قريش أو أوهمها أنه إن لقى قومه، لم يختلف عليه أحد.
وقد اجتمع بذلك نحو ثلاثة آلاف، ومعهم مائتا فرس عليها مائتا فارس وكان خالد بن الوليد على مائة جعلها يمين الخيل، وعكرمة بن أى جهل على مائة جعلها على ميسرة الخيل، وإنهم رأوا أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم، إنما يقاتل بحمية الدين، ومؤيدا بروح معنوية تفوق قوة العدد والعدة وتتغلب على الصعاب، فرأوا أن يكون معهم المحرض المعنوى، وهو أن يكون نساؤهم معهم، بحيث يستحون أن يفروا أمامهن، وأن يؤخذن سبايا.
فخرج أبو سفيان بن حرب، وهو القائد بزوجه هند بنت عتبة، وكان لها ثأرات، قتل ابنها وأخوها وأبوها، وخرج عكرمة بن أبى جهل ومعه زوجه أم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة ...
وهكذا كثيرات من عقائل القوم، وذوات الشرف في قريش، ليكون خروجهن محرضا على الجلاد، ومانعا من الفرار، وجملة القول في ذلك أنهم تزودوا بالعدد، وبالسلاح والكراع، وبالمحرضات كلها، لأنهم يعلمون أنهم أمام خصم مزود بكل قوى النفس والإيمان الذى فقدوه.
(2/609)
وجاؤا معهم بالشعراء والخطباء ليحرضوا، وليدفعوا في الجند روح البأس والقوة وحب النضال، ولم يتركوا بابا من أبواب الإعداد إلا دخلوا منه.
وكان ممن اشترك في التحريض على القتال أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحى، وكان قد أسر ببدر الكبرى، فمن عليه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بغير فداء، لأنه فقير كثير العيال، على ألا يظاهر عليه، وبالتالى لا يكون لسانه للتحريض على قتال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
ولكن المشركين مازالوا به حتى أخرجوه عن عهده للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فقد قال له صفوان بن أمية: يا أبا عزة إنك امرؤ شاعر، فأعنا بلسانك، فاخرج معنا، فقال: إن محمد قد منّ على، فلا أريد أن أظاهر عليه، قال: بلي، فأعنا بنفسك، فلك عهد الله على إن رجعت أن أعينك في بناتك وإن أصبت أن أجعل بناتك مع بناتى، يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر.
خرج أبو عزة وأخذ يحرض بنى كنانة هو وغيره على أن ينضموا إلى جيش قريش ومن معهم فى قتال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
ويظهر أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد علم بمخرجهم، وفي كثير من الروايات أن العباس ابن عبد المطلب الذى لم يشترك في هذه الحملة أرسل إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يخبره.
وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان له فوق ذلك العيون يبثها ويتعرف أخبارهم، فيعرف عيرهم وبالأولى يعرف نفيرهم، ولكنه انتظر حتى يقع ما توقع، ويكون أمامهم وجها لوجه، وما كان له أن يلقاهم قبل ذلك في غير مأمنه، وحيث مستقره.
وقد سار جيش قريش سيرته، حتى وصل إلى المدينة المنورة، وانساب في مزارعها، تأكل وتعبث أفراس المشركين وإبلهم، متحدّين مهاجمين.
لقاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لهم
414- كان قدوم ذلك الجيش اللجب إلى المدينة المنورة في أوّل شوال من السنة الثالثة، وكانت الغزوة في منتصفه، وروى أنها كانت في الحادى عشر منه.
وقد أخذ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الأهبة للقاء لا بكثرة العدد والعدة، ولكن بقوة الإيمان والحق وقوة الشورى، وبث روح التعاون، والاندماج النفسى بالشورى، فإن الشورى بين المخلصين تجعل نفوسهم تندمج، وتحس كل نفس بأنها جزء من الأنفس.
وقف عليه الصلاة والسلام بعد الصلاة بين المسلمين، وقد عاينوا، وأحس المؤمنون منهم بأن الأمر خطر، أخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يستشير المسلمين قبل المعركة.
(2/610)
وكان محور الشورى يدور على أمرين: أيخرج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بجيش الإيمان، ويقاتلهم حيث يكون خير مكان للقتال، أم أنه يبقى في المدينة المنورة، فإن أقاموا أقاموا في أسوأ مقام، وقد ينفد منهم الزاد والراحلة، وإن يدخلوا إلى المدينة المنورة ولها مسالكها المبنية بالحجارة والآجر، وكأنها حصن وهم لا يعرفون مداخله. كانت الشورى في أى الأمرين أنكى للعدو، وأقرب إلى النصر، لقد كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يكره الخروج، وروى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال:
«امكثوا واجعلوا الذرارى في الآطام فإن دخل علينا القوم في الأزقة قاتلناهم، ورموا من فوق البيوت» ، وروى ابن إسحاق أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إن رأيتم أن تقيموا بالمدينة، وتدعوهم حيث نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها» .
وإنه مما يسترعى الأنظار أن عبد الله بن أبى ابن سلول كان على هذا الرأى، ولعله جبن اللقاء منه، ولكيلا ينكشف النفاق، أو لأنه يرى أن بعض مواليه اليهود قد يجدها فرصة للانقضاض.
ومهما يكن من مقصده، والله أعلم بذات الصدور، فإنه قد قال:
يا رسول الله، أقم بالمدينة لا تخرج إليهم، فو الله ما خرجنا منها إلى عدولنا قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاؤا.
وقد خالف ذلك الرأى- مع أنه رأى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم- كثيرون من المجاهدين، وكانوا صنفين، صنف من أهل النجدة والبأس والقوة لم يجدوا في الانتظار ما يتفق مع ما عندهم من إقدام، وأنه لابد أن يلاقوهم ولا ينتظروهم ومن هؤلاء حمزة بن عبد المطلب أسد الله، فقد قال في قوة:
«والذى أنزل عليك الكتاب لنجالدنهم» .
وقال رجال من الأنصار الأشداء: ومتى تقاتلهم يا رسول الله إذا لم تقاتلهم عند شعبنا.
والصنف الثانى من الذين لم يحضروا بدرا، وأرادوا أن يكون لهم في هذه الموقعة شرف مثل شرفها، وقالوا: كنا نتمنى مثل هذا اليوم، وندعو الله، فقد ساقه إلينا، وقرب المسير.
وبذلك انتهى الرأى بالخروج، لتكاثر الذين أرادوه، وكثرة الذين أرادوا أن يستعيضوا عن شرف الجهاد في بدر بشرف الجهاد في أحد.
وما كان لمحمد عليه الصلاة والسلام الذى جاء بالشورى، وأمر بها إلا أن يستجيب لحكم الكثرة، ولا يفرض فيه الخطأ، كما يفعل ويروج المستبدون في هذا العصر، إذ يفرضون في أنفسهم
(2/611)
الصواب الذى لا يحتمل الخطأ، وفي تفكير غيرهم الخطأ الذى لا يحتمل الصواب، وتردت بهم الجماعات في مهوى سحيق.
النبى عليه الصلاة والسلام يعد المؤمنين للقتال:
415- أخذ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يتعرف خبر الأماكن التى يلقى فيها العدو المكاثر المكابر، وأنه لكى يختار لجيشه لابد أن يعرف أماكن جيش العدو ويمر في غير ممرهم.
قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كما روى في الصحيحين: هل من رجل يخرج بنا على القوم من كثب، من طريق لا يمر بنا عليهم، فقال أبو خيثمة: أنا يا رسول الله، فأخذ يسير، فنفذ في حرة بنى حارثة، وبين أموالهم، حتى سلك بهم في مال لمربع بن قيظى، وكان رجلا منافقا ضريرا، فلما سمع حس رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من المسلمين، فقام يحثى في وجوههم التراب، ويقول: إن كنت رسول الله فإنى لا أحل لك أن تدخل في حائطى، وأخذ حفنة من التراب في يده، ثم قال: والله لو أنى أعلم أنى لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك، فابتدره القوم ليقتلوه فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تقتلوه، فهذا الأعمى أعمى القلب، أعمى البصر.
ولكن قبل هذا النهى ضربه بعض القوم بالقوس فشج رأسه.
كان هذا الاتجاه من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن نزل على رأى الكثرة ممن استشارهم من المؤمنين.
وقبل أن يخوض بهم المعركة نبههم إلى أنه نزل على آرائهم، فلبس لأمة الحرب، واتخذ درعه استعدادا للميدان، وأخذ يضع الجيش مواضعه.
أحس بعض المؤمنين أنهم استكرهوا الرسول عليه الصلاة والسلام، وقالوا أمرنا رسول الله أن نمكث بالمدينة المنورة، وهو أعلم بالله تعالى وما يريد، ويأتيه الوحى من السماء.
حسبوا أن الأمر من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالبقاء يتصل بالوحى وأمر الله فيه، وظنوا لفرط إيمانهم، ولو كان الأمر كذلك ما أخذ فيه رأى أحد، فلا رأى في أمر الله تعالى ونهيه، ولكن كان من الرسول عليه الصلاة والسلام الرأى في الحرب والمكيدة، ولهذا عرض الأمر عليهم، واختار رأى الكثرة، لأنه الشورى.
(2/612)
ويظهر أنهم رجعوا عن رأيهم على حسب الزعم الذى زعموه، ولكن الشورى ليس معناها التردد، فإن مع التردد الهزيمة، إذ التردد يترتب عليه عدم العزيمة، والعزيمة من قوة الجيش.
ولقد نبههم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى منع التردد، وقال في حكمة النبوة «ما ينبغى لنبى لبس لأمة الحرب وأذن بالخروج إلى العدو أن يرجع، حتى يقاتل، وقد دعوتكم إلى البقاء، فأبيتم إلا الخروج فعليكم بتقوى الله تعالى، والصبر عند البأس، إذا لقيتم العدو، وانظروا ماذا أمركم الله» .
مضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بجيشه من المؤمنين، وكان عدة المشركين نحو ثلاثة آلاف كما ذكرنا، بينما كان عدة المسلمين، وفيهم مرضى القلوب ألفا، وأراد بعض الأنصار أن يستعينوا بحلفاء لهم من اليهود، فقد ذكر الزهرى أن الأنصار استأذنوا الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فى الاستعانة بحلفائهم من المدينة المنورة، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: لا حاجة لنا فيهم، لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أراد أن يكون جيشه ممن يريدون القتال دفاعا عن عقيدتهم، ولأن الله سبحانه وتعالى يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا ما عَنِتُّمْ، قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ (آل عمران- 118) .
وما كان له أن يستعين باليهود في نصرته، وقد كان بينه وبين بنى قينقاع ما كان مما اضطره لأن يخرجهم، وكتب الله عليهم الجلاء.
المنافقون:
416- نقى الله تعالى الجيش الإسلامى من المنافقين فخرج من الألف نحو ثلث الجيش من أتباع عبد الله بن أبى، وأظهر أنه خرج مغاضبا، لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يأخذ برأيه، وكذلك كل مستبد يريد أن يفرض رأيه على غيره، فهو لا يخلو من نفاق، وقد يبلغ في نفاقه ما بلغه منه عبد الله بن أبى رأس النفاق بين المسلمين، وكان خروجه ومن معه إعلاما لأهل الإيمان بنفاقهم، ولقد قال: أطاعهم وعصانى.
ولقد كان من أثر دعوته إلى الخروج أن لامه بعض المخلصين، وهمّ باتباعه بعض المؤمنين فكان ممن لامه ومن معه عمرو بن حزام، وهو يقول له ولمن معه: «يا قوم أذكر كم الله ألا تخذلوا قومكم ونبيكم، عند ما حضر من عدوكم» . فكان من نفاقهم أن قالوا والعدو يساور المدينة المنورة: «لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ولكنا لا نرى أن يكون قتال» فقال الرجل المؤمن عند ما استعصوا عليه: أبعدكم الله أعداء الله، فسيغنى الله تعالى عنكم نبيه.
(2/613)
وقد كان رجوعه سببا في اضطراب بعض المسلمين من المترددين، وإن لم يكونوا من المنافقين، فقد همت طائفتان من المسلمين أن تفشلا والله وليهما.
وهمّ بنو سلمة، وبنو حارثة أن يعودوا مع من عاد مع عبد الله بن أبي، وكان ذلك من فرط جزعهم من لقاء عدد يفوقهم أضعافا، وهو مزود بزاد الضغن والعدة، وقد أثر النفاق في نفوسهم وإن لم يكونوا منافقين.
وهؤلاء هم الذين قال الله سبحانه وتعالى فيهم: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (آل عمران- 121: 122) .
وقد فرح رجال هاتين الطائفتين لقول الله سبحانه وتعالى: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما إذ اطمأنوا إلى أنهم لم يكونوا منافقين وإن كانوا مترددين، لأن الله تعالى ولى المؤمنين، والمنافقون وليهم الشيطان.
وإنه إذ خرج هؤلاء كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يعرض عليه صغار المؤمنين الذين لم يبلغوا الخامسة عشرة، ولم تكن فيهم مهارة في الرماية ولا قوة بدنية تغنى غناء الرجال، فقد ثبت في الصحيحين أن عبد الله بن عمر عرض على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في أحد فرده، وكذلك رد يومئذ أسامة بن زيد، وزيد بن ثابت، والبراء بن عازب ... وغيرهم.
وقد همّ برد رافع بن خديج وكان في مثل هذه السن، فقيل له: إنه يحسن الرماية، فأجازه، لأنها لا تحتاج إلى قوة في البدن، ولكن إلى مهارة في إصابة الهدف.
وكان سمرة بن جندب قد تقدم أيضا في قريب من هذه السنة فهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يرده، فقيل: إنه يصرع رافعا، ويظهر أنه رآه أقوى منه، فأجازه.
مقاعد القتال:
417- أخذ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يبويء المؤمنين مقاعد القتال، وقد صفى الله تعالى الجيش من المنافقين، وثبّت المترددين، فقد قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم داعيا إلى التقوى والصبر، وأن الله تعالى ناصرهم، كما نصرهم ببدر وهم أذلة، ومبشرهم به إن صبروا، فقال الله سبحانه وتعالى حاكيا عن نبيه عليه الصلاة والسلام في تثبيتهم في ذلك اليوم وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ
(2/614)
رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ. بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ. وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ، وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، أَوْ يَكْبِتَهُمْ، فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (آل عمران- 123: 127) ثبت الله سبحانه وتعالى قلب المؤمنين بهذه البشرى، وهى الإمداد الروحى بالملائكة، إن صبروا في الميدان وثبتوا، وذكروا الله تعالى، وأنه فوق كل القوى، وصبرت نفوسهم، فلم تنحرف عن القتال والإيغال وراء العدو، ولم تشغل بالغنيمة عن النصر، وإن صبروا فلم يخالفوا القائد المدرك الذى يدعوهم إلى الرشاد، وإلى أن يتعاونوا جميعا في الميدان، وعلموا أنهم يؤلفون جيشا متعاونا وليسوا فرقا متفرقة تتنافس في الغنائم، ولا تتنافس فى النصر.
تقدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ومضى حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادى إلى الجبل، فجعل ظهر عسكره عنده لكيلا يتمكن المشركون.
وصف الصفوف، كما فعل في بدر، وقلده المشركون في هذا فصفوا الصفوف أيضا وجعل الرماة وعددهم خمسون راميا، وراء ظهر الجيش، وجعل عليهم عبد الله بن جبير أميرا، وأوصاه بأن ينضح عن المسلمين الخيل، وقال له: «انضح الخيل عنا بالنبل، لا يأتونا من خلفنا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك» .
ولبس رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لأمته، وشدد الوصية للرماة، وذلك ليمنع التفاف جيش المشركين حول جيش المسلمين، وعدد المشركين كبير، وجيشهم كثيف.
وبعد أن صف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم جيشه أمره بألا يقاتل، حتى يأمره بالقتال، ليتقدم الجيش على قلب رجل واحد، وظهورهم في حماية الرماة.
وذلك تنظيم حربى لم يعرفوه، ولو أن الرماة أطاعوا ما اضطرب جيش المسلمين، ولا أصابهم قرح في هذه الغزوة، وقد كان أمام جيش الإيمان جيش الشرك يفاخر بكثرته وعدته، وقد اتخذ الأفراس التى تجاوزت مائتين، والإبل مزارع المدينة المنورة مسترادا، ومذهبا، وذلك مما أثار حمية أهل المدينة للقتال حتى قد قال قائلهم، والنبى عليه الصلاة والسلام يشاورهم في الخروج إلى المشركين: أترعى زروع بنى قيلة الأوس والخزرج ولما تضار.
(2/615)
الجيشان
418- التقى الجيشان، ولكن لم تبدأ المعركة ولابد أن نذكر الأوصاف الظاهرة والنفسية للجيشين قبل أن يخوضا المعركة، لأن الحال لهما تنبيء عن المال، والله ولى المؤمنين.
كان جيش المشركين مزودا بكل أسباب القوة المادية فعددهم أضعاف مضاعفة لعدد المؤمنين، ومن ناحية الدوافع النفسية كان يدفعهم إلى القتال أولا الثأر، ومحاولة استرداد مكانتهم في العرب، والخشية على تجارتهم التى كانت مصدر ثروتهم، وقد تهددتها قوة المسلمين، وقد أخذوا عليهم كل مرصد، فوجد الدافع إلى القتال والاستماتة فيه من النفس والنفيس، وأدركوا أن الأمر بينهم وبين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أمر حياة عزيزة كريمة يتفاخرون فيها، أو موت ذليل فيه العار والثبور.
ولقد أخذوا يعدون العدة الحربية في التنظيم آخذين مما صنع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وهو تنظيم الصفوف، فالمحارب مأخوذ بنظام محاربه تسرى إليه بالمحاكاة والمدافعة نظمه ومسالكه.
ولقد أخذوا نساءهم معهم، وكلهن موتورات محنقات، فأرادوا أن يثبتوا بهن، وألا يرتكبن عار الفرار أمامهن، ويسلموهن للسبى.
وكل ذلك لتقوى الروح المعنوية، ولا يفرون يوم الزحف، وقد رأوا محمدا صلى الله تعالى عليه سلم وصحبه يثبتون عند الحرب ولا يفرون يوم الزحف.
ولقد روى أنه لما التقى الناس ودنا بعضهم من بعض قامت هند بنت عتبة في النسوة اللائى معها، وأخذن يضربن بالدفوف ويحرضن على القتال، وكان اللواء في بنى عبد الدار فقالت محرضة لهن:
ويها بنى عبد الدار، ويها حماة الأدبار، ضربا بكل بتار.
إن تقبلوا نعانق ... ونفرش النمارق
أو تدبروا نفارق ... فراق غير وامق
ولقد كان أبو سفيان حريصا على بث الروح الدافعة إلى القتال في جنوده إلى آخر لحظة قبل القتال، لقد كان اللواء لبنى عبد الدار، وروى أبو إسحاق أن أبا سفيان قال لهم يحرضهم على القتال: يا بنى عبد الدار، قد وليتم لواء يوم بدر، فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم، إذا زالت زالوا، فإما أن تكفونا لواءنا، وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه فهموا به وتواعدوه وقالوا نحن نسلم إليك لواءنا ستعلم غدا إذا التقينا، كيف نصنع!!
(2/616)
419- هذا جيش قوى بالعدد، وقوى بالعدة، وبثوا فيه روح القوة وأثاروا فيه الحمية، فكانوا المجتمعين على باطلهم، جمعهم الشر والحقد والثأر.
ولنتجه إلى جيش المؤمنين، ولا يمكن أن نقول أنه في إيمانه وقوة روحه كان أقل من قوة المشركين المدافعة، فإذا كان أولئك يدفعهم الحقد والضغينة والترات، فإن جيش الإيمان يدفعه إيمان قوى راسخ كالرواسى، وحب في الشهادة، وإرادة من عند الله سبحانه وتعالى ومعهم أعظم قواد الأرض إيمانا وروحا، وللمؤمنين فيه أسوة حسنة، ولكن يجب أن نذكر بعض الملاحظات:
(أولاها) أن بعض الذين لم يحضروا بدرا، ورأوا غنائمها، ربما كان من المحرض لهم على القتال والخروج للأعداء- رجاء أن ينالوا من الغنائم أو الأنفال ما ناله إخوانهم من قبل، وإن كان ذلك مع الإيمان والرغبة في أن يفدوا الإسلام بأنفسهم، وجانب المال إن كان بعض الهدف ربما دفع إلى طلبه، فغلب عند ظن النصر، ومن أجل ذلك كان المنع من الأسر قبل أن يثخن المسلمون في العدو، وإذا كان الأسر ممنوعا، فالجرى وراء الغنائم أشد منعا قبل أن يثبت النصر، ويستقر.
(الثانية) أن بعض المقاتلين من جيش المؤمنين بعد تصفيته، وتنقيته من المنافقين كان لا يزال فيه بعض المترددين الذين لم يعقدوا العزم قويا ثابتا، فالطائفتان اللتان همتا بأن تفشلا، لا أستطيع أن أقول أن كل آحادهما عقد العزم، وأصر على القتال وأراد النصر، وأنه لا يذهب بقوة الجيش إلا التردد، فإن كان من بعض آحاده، نقصت القوة بمقدار تردده.
(الثالثة) أن اليهود كانوا حول المدينة المنورة، ولهم ترات، وقد انضم إليهم المنافقون، وهؤلاء يكونون عورة من وراء الجيش المقاتل.
ولكن قيادة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد ذهبت بكل عوامل الضعف، واختفت كل عناصر التردد ابتداء ولم يحدث النزوع إلى الغنائم الذى كان مستكنا في بعض النفوس إلا عند ما لمع بريق الغنيمة، وظهرت بوادر النصر، فلم يكن التتبع للفلول المهزومة من قوات المشركين.
هذا بإنصاف حال الجيشين المقاتلين، وكلمة الله سبحانه وتعالى أعلى، وله وحده العزة، وأنه ناصر جنده إن استقام على الطريقة، واتخذ الصبر في الزحف، والصبر بضبط النفس عدة له، فإن ذلك هو القوة بعد توفيق الله سبحانه وتعالى.
وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد أخذ الأهبة وقوى النفوس، وشحذ العزائم وحقق قول الله سبحانه وتعالى فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ.
(2/617)
المعركة
420- بوأ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لجنده مقاعد للقتال، وقد عنى بأمرين عناية شديدة أولهما بالرماة، فقد شدد عليهم الوصية بألا يبرحوا مكانهم، ومما قاله لهم في ذلك، «احموا لنا ظهورنا إننا نخاف أن يجيئوا من ورائنا، والزموا أماكنكم لا تبرحوا منها، وإن رأيتمونا نقتل فلا تعينونا ولا تدفعوا عنا، وإنما عليكم أن ترشقوا خيلهم بالنبل، فإن الخيل لا تقدم على النبل» .
الأمر الثانى جعل في صفوفه الأولى الأشداء من جند المؤمنين الذين أبلوا بلاء حسنا في غزوة بدر كأسد الله تعالى حمزة بن عبد المطلب، وفارس الإسلام على بن أبى طالب والزبير بن العوام الذين يذكرهم وجودهم بهزيمة بدر فيكون ذلك إرهابا لهم وإيقانا بأن الليلة كالبارحة، ولأنهم يدقون صفوف المشركين دقا، فيفتحون الطريق لمن وراءهم، ويزيلون الرهبة من لقاء أهل الشرك، ولو كثر عددهم، ونهاهم عن أن يقدموا إلا بأمره، ويستأنوا.
وقد أخذ يتفرس الوجوه، ويحرض الأبطال، ويدفع الصناديد إلى البأس، فحمل سيفا ودعا المؤمنين إلى أن يحملوه، ويحموه.
روى الإمام أحمد بسنده أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أخذ سيفا يوم أحد، فقال:
من يأخذ هذا السيف بحقه، فجعلوا ينظرون إليه، فقال: من يأخذه بحقه ... فقال أبو دجانة (سماك) أنا آخذه بحقه. فأخذه ففلق به هام المشركين.
قال ابن إسحق: وكان أبو دجانة رجلا شجاعا يختال عند الحرب، وكانت له عصابة حمراء يعلم بها عند الحرب يعتصب بها، فيعلم أنه سيقاتل، فلما أخذ السيف من يد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم جعل يتبختر بين الصفين بعد أن اعتصب بعصابته. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين رأى أبا دجانة يتبختر: إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن.
كان لواء المشركين مع طلحة بن أبى طلحة، ثم عثمان بن أبى طلحة، وكان حملة اللواء جميعا من بنى عبد الدار. والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أعطى لواء جيش الإسلام على بن أبى طالب، فلما رأى عليه الصلاة والسلام حامل لواء المشركين من بنى عبد الدار طلحة بن أبى طلحة أخذ اللواء من على كرم الله وجهه في الجنة، وأعطاه مصعب بن عمير من بنى عبد الدار.
(2/618)
ابتداء القتال:
421- ابتدأ القتال من قبل المشركين أبو عامر بن صيفى وهو أوسى، كان يسمى الراهب، وسماه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الفاسق عند ما خرج إلى قريش يحرضهم على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان قبل قدوم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة المنورة ذا مكانة في قومه.
فدفعوه ليتقدم جيش الشرك، وكان في نحو خمسين، وظنوا أن ذلك يوهن من قوة الأنصار، ويبعث على التردد، ولذا قال عند ما تقدم ونادى: يا معشر الأوس، فقالوا له: «لا أنعم الله بك عينا» فطاش سهمه ومن معه وخاب فألهم، وقال لما سمع ردهم: «لقد أصاب قومى بعدى شر» .
أذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالقتال، وكانت كلمة التعرف بين المؤمنين أمت أمت، اندفع الصناديد من جيش المسلمين يقتلون في جيش الشرك يضربون، فاندفع أبو دجانة يفلق الهام بسيف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، لأنه تعهد لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يأخذه بحقه حتى إنه ليضرب الرجل على رأسه بالسيف، فيفرقه فرقتين.
وكان النساء قد خرجن في القتال ملثمات، أو ظاهرات بمظهر رجال، فلقى أبو دجانة امرأة قيل إنها هند امرأة أبى سفيان بنت عتبة، فرفع السيف عنها، ولم يجد من كرامة سيف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يقتل به امرأة، ولو كانت تقاتل.
وحمزة بن عبد المطلب يدق جيش المشركين بسيفه دقا، وأوغل بسيفه البتار في جيش المشركين، وهم يفرون منه فرارا، كأنها النعاج تفر من الأسد الهصور.
وحامل لواء الشرك طلحة بن أبى طلحة يطلب المبارزة، فلا يقدم على مبارزته إلا على بن أبى طالب، وما هى إلا جولة من جولات على إلا كانت بعدها الضربة القاصمة التى وصفها المؤرخون بأن ضربات على كانت أبكارا أى لا يضرب إلا ضربة واحدة تكون بكرا منفردة.
الخسارة الفادحة- مقتل حمزة مع المضاء في القتال:
422- كانت الجولة للمسلمين، حتى إن المشركين يفرون فرارا أمام سيوف الله تعالى التى سلها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على الشرك وأهله، وأمام الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله، فيقتلون ويقتلون، فما تقدموا حريصين على الحياة الدنيا، إنما يحرصون على ما عند الله في الآخرة.
(2/619)
قتل حامل اللواء الإسلامى مصعب بن عمير، فحمل اللواء على رضى الله عنه، فما سقط اللواء، ولكن الخسارة الكبرى كانت في مقتل حمزة.
لقد قتل غيلة، ما قتل في مبارزة، ولا في مواجهة فما كان بنو هاشم ليقتلوا إلا غيلة خيانة وجبنا.
لقد تواصت هند، وغيرها من قريش مع وحشى العبد الحبشى الذى يجيد القذف بالرمح، ولا يجيد الضرب بالسيف وما كان يجديه لو أجاده أمام أسد الله تعالى حمزة.
كان حمزة يجندل الأبطال، وما تقدم نحوه أحد إلا جعله يعض التراب مستهزئا به، ساخرا منه، وهو يتبختر، ويدل بمواقفه في القتال.
وقد كان يتربص به العبد الذى جعل سيده جبير بن مطعم قتل حمزة عم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ثمن عتقه، كما قتل حمزة عمه.
كان وحشى يختبيء وراء الأشجار لتسنح له فرصة يرمى فيها رميته، وحمزة، كما قال العبد، يحمل سيفه كالجمل الأورق يهد به الجيش هدا، فرماه بحربته التى لم تخطيء، ونال حريته.
فقتل عم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وسيد الشهداء. كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم «سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قال كلمة حق أمام سلطان جائر فقتله» .
وإذا كان ذلك قد أرضى جبير بن مطعم، وأرضى هند بنت عتبة، فإنه لم يرض الشرف والمروءة، وأرضى النذلة والخيانة، وأنى يكون هذا من فعل أبى دجانة، وقد رأى امرأة محاربة فتركها تنزيها لسيف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يقتل به امرأة تقاتل.
ولكن ما وهن جيش الإسلام، ولا ضعف، وإن ذهبت منه قوة ليس من السهل أن تعوض إذ استشهد منه رجل كان كألف من الرجال الأشداء.
بل استمر جيش الحق في تتبعه لأعداء الله تعالى، فلم يهن، وإن حزن بل مضى في طريقه، وكان هو الغالب، والمشركون يتساقط من بين أيديهم لواؤهم حاملا بعد حامل.
قتل حامل اللواء طلحة بن أبى طلحة، فحمله أخوه عثمان بن أبى طلحة، ثم حمله من بعده أخوه أبو سعد وقد طلب المبارزة من على متحديا، فتصدى له على الذى لم يفر من مبارز، ولم يبارز أحدا إلا نال منه، فبارز حامل لواء المشركين، وهو الذى آل إليه لواء المؤمنين بعد مصعب بن عمير، فاختلفا ضربتين فنبت ضربة ابن أبى طلحة، وضربه على فصرعه، ثم انصرف عنه، ولم يجهز عليه، ولعله لم يجهز عليه، لأن فارس الإسلام لا يقتل مصروعا، بل يقتل من يقف أمامه، وقال على رضى الله تعالى
(2/620)
عنه عند ما قال له بعض أصحابه: أفلا أجهزت عليه، قال: إنه استقبلنى بعورته، فعطفنى عليه الرحم، وعلمت أن الله قد قتله.
لا نقول قابلوا بين على ومن حرض العبد، فإن تلك بطولة على، وهذه أخلاق العبيد. توالى القتلى من حملة لواء المشركين، حتى حملته امرأة.
وصناديد الجيش الإسلامى حتى بعد مقتل حمزة بالخيانة والغيلة والغدر مستمرون في الضرب فى اهتداء، وقد شقوا صفوفهم، كما تشق السكين الكمثرى، وأداروها رحى في صفوفهم، وهم يفرون تاركين أموالهم وعتادهم ومع كثير مما يغنم.
الغنائم القاتلة:
423- تفرق معسكر الشرك، وفر من فر منهم، ولم تغن عنهم كثرتهم شيئا، ولم ينالوا خيرا، ولكنهم لم يسحقوا، ولم يثخنوا وكانوا يفرون فرارا، والعدد لجب كبير، وفيهم قوة الخيل قوة خالد بن الوليد، وقوة عكرمة بن أبى جهل، ومع كل منهم مائة فارس، قد أعدوا العدة، لينقضوا إن وجدوا الفرصة، وكلاهما ذو بصر أريب يدفعه الثأر والحمية.
غر الأمر طلاب الغنائم، وبينما على والزبير، وسعد بن أبى وقاص، وصناديد الأنصار يقصمون ظهور المشركين، حتى حملوهم على أن يتركوا متاعهم، أخذ هؤلاء من وراء أولئك يجمعون الغنائم، ويأخذون الأسلاب، ويتركون أبا دجانة يفلق الهام، ولا يحمون ظهور المؤمنين، والطمع يغرى بالطمع، والمال يغوى ويضل.
ولقد وصف ابن إسحاق المعركة قبل التسابق على الغنائم فقال: أنزل الله نصره على المسلمين وصدقهم وعده، وحسوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن العسكر، وكانت الهزيمة لا شك فيها.
ويقول البطل الزبير بن العوام: «ولقد رأيتنى أنظر إلى خدم هند وصواحبها مشمرات هوارب ما دون أخذهن قليل ولا كثير» .
أخذ ناس يجمعون الغنائم، ورأى الرماة الغنائم تكثر، ويتسابق إليها من يريدونها، فتركوا حماية ظهور المؤمنين، ونضح الخيل بالنبال، وأمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، بألا يتركوا أماكنهم سواء أكان القتل للمؤمنين أم كان على المؤمنين، لأنه لا يريد أن يحيط جيش المشركين الكثير بجيش المؤمنين الذى لم يصل في العدد إلى ربعه.
(2/621)
زايلوا أماكنهم، وعين خالد وعكرمة تترقبهم، ويريدون فرصة ينتهزونها لفعل الخيل، فانقضوا على مواطن الرماة، وأخذوا جيش الإيمان من ظهره.
والجزء الأكبر من جيش قريش يسير في انكسار، ولا يتوقع إلا الهزيمة حتى أخذ ينادى خالد ابن الوليد جيش قريشا بأنه أخذ يضرب جيش محمد صلى الله تعالى عليه وسلم من ظهورهم، فعادوا كلبين على جيش المسلمين يريدون أن ينالوا منالا، وأرادوا محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم ليقتلوه، وإذا كانوا قد أحاطوا بجيش الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فالله سبحانه وتعالى من ورائهم محيط.
قال ابن إسحاق:
انكشف المسلمون فأصاب فيهم العدو، وكان يوم بلاء وتمحيص، أكرم الله سبحانه وتعالى من أكرم من المسلمين بالشهادة، حتى خلص العدو إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فرمى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالحجارة، حتى وقع، فأصيبت رباعيته وشج في وجهه، وكلمات شفته.
وهكذا وصل جيش المشركين إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته الطاهرة، ووقع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في حفرة من الحفر.
وكان أبو عامر الأوسى، قد حفرها ليتردى فيها المسلمون عند هجومهم، فأخذ على بن أبى طالب بيد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما.
وأخذ الصحابة يزيلون وضر الجروح عن وجهه، ونزع أبو عبيدة عامر بن الجراح إحدى الحلقتين من وجهه، نزعها بأسنانه، فسقطت ثنية أبى عبيدة، ثم نزع الآخرى، فسقطت ثنية أخرى.
كان جيش الشرك لا يريد إلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ظانين أنهم إن قتلوه، انتهى الأمر، ولذلك أحاط به الصناديد من المؤمنين الذين كانوا في صدر الجبهة، وأخذوا يذودون عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، والسيوف تعتورهم، ومنهم كثيرون ذهبوا فداء لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان منهم من يخصه بالحماية غير مبال بشىء.
وفي ذلك الوقت اشتدت الحماسة في الدفاع عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان بجواره مصعب بن عمير حامل اللواء يذود فقتله من يريد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ونادى فى قريش أن محمدا قتل، وقد أعطى اللواء لعلى.
(2/622)
وقد اتجهوا إلى النبل يصوبونها على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم واتخذ أبو دجانة من نفسه ترسا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقع النبل في ظهره وهو منحن عليه، حتى كثر النبل، وبينما أبو دجانة يترس دون رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، كان سعد يرمى المشركين بالنبل ليبعدهم عن الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه، والرسول عليه الصلاة والسلام يناوله ما يرمى به، ويقول له: ارم فداك أبى وأمى.
لنترك الذين حول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وما أصاب الرسول، ولنتجه إلى ما جرى في جيش الإيمان بعد الإحاطة بهم.
لقد شاع في المشركين أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد قتل، فأيأس الخبر الجميع، ويئس الضعفاء وتحمس الكثيرون، وصاح فيهم أنس بن النضر: «ماذا تصنعون بالحياة بعده، قوموا وموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم» واستجاب الناس لندائه، وقاتل حتى قتل.
ثم جاء البشير من بعد فترة بأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يقتل، فنهضوا، ونهض معهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من الشعب الذى كان به بجوار أحد، ومعه أبو بكر، وعمر، وعلى، وطلحة، والزبير، وغيرهم من أقوياء المسلمين يستردون الموقف بعد المباغتة التى بلغ الاضطراب فيها أن قتل بعضهم بعضا وقد صارت الأمور لأهل الإيمان فوضى.
وكان أبو سفيان قد أشرف بمن معه على المسلمين، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو في هذه الشدة، لا يعلونا، اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد في هذه الأرض. وندب من أصحابه من أنزلوهم، واستقتل المسلمون في ذلك حتى أزاحوهم عن الجبل، وشقوا طريق قريش، وإن كان الجيش كليلا مكلوما، ولكنها قوة الإيمان المستيقظة في قلوب رجال بدر الكبرى، وبقية سيوفها، وبقية السيف أبقى عددا، كما قال على بطل بدر وأحد.
نهنه ذلك من عزيمة قريش، إذ كانت الحجارة ترمى من الجبل على فرسان خالد الذى أخرجهم من الهزيمة الساحقة، وإن لم يأخذهم إلى نصر حاسم.
وألقى اليأس في قلوبهم من نصر حاسم حالق لقوى المسلمين ما جاء به البشير من أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم حى، يدبر لهم، ويكيد.
عادت القيادة إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن اضطربت أمور الجيش، وحمّل رسول الله اللواء على بن أبى طالب، بعد أن سقط حامله مصعب بن عمير، وإنه بعد أن حمل اللواء
(2/623)
على، وهو الذى يهجم ويضرب، فلا يهمه أيقع الموت عليه أم يقع على عدوه، وبعد أن استولى المسلمون على الهضبة أخذوا يقاتلون، ولم يغن المشركين، إذ استمر خالد في هجومه، فقام المسلمون، وكانت الصفوة المختارة من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومن أمثال أبى دجانة والزبير، وطلحة، وحامل اللواء على فقابلوه بهجوم مضاد وصدوه، بعنف الجبال.
ومضى بريق النصر لقريش عند ما اضطرب جيش المسلمين، وكثر الفتك فيه، وليس عددا كثيرا بجوار عدد المشركين، وعند ما شاع بينهم أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم قد قتل فحسبوا أنهم منتصرون ساحقون لجيش النبى عليه الصلاة والسلام، جيش الإيمان، ولكن ذهب البرق الذى خطف أبصارهم عند ما علا جيش المسلمين إلى الهضبة، وصد هجمات خالد ومن معه، وحمل اللواء على، واللواء حامل النصر، وإن تخاذل خذل من وراءه، وعلى لا يتخاذل، وقد علموا سيفه في بدر وأحد، وكما قال أبو سفيان: يؤتى الجيش من حامل لوائه.
ولا ننسى أن جيش قريش قد أصابته جراح الحرب ابتداء، فالأمل هو الذى داوى جرحه فهجم، وسط اضطراب جيش الإيمان، فلما استقام له الأمر، نغرت جراحهم، وخافوا العقبى، ويئسوا من النصر الساحق، إذ رأوهم وقفوا أمامهم، وقد ذاقوا من قبل وبال الأمر من هجومهم، وإن كانوا قليلا.
عندئذ رأوا أن ينهوا القتال، وقد فرحوا بهذا النصر المؤقت، وخشوا أن يضيع منهم وإنه لابد ضائع، لقياسهم القابل على الماضى، والحاضر لحظة ستصير ماضيا.
424- هذه غزوة أحد التى يقول فيها المؤرخون إن الهزيمة فيها كانت على جيش النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكنى أرى أن تسمية ما أصاب المسلمين هزيمة ليست تسمية تنطبق على الواقع تمام الانطباق، إنما تكون الهزيمة إذا كان جيش الإيمان قد فر فرارا، والآخر قد تبعه في فراره، حتى داهم المدينة المنورة، وكان ما يكون بعد ذلك.
إنما الذى أنهى القتال هم المهاجمون، وكأنما اكتفوا بأن أصابوا مقتلة من المسلمين، ورضوا بذلك لأنهم لا طاقة لهم فيما وراء ذلك، وقد رأوا السيوف الإسلامية تبرق، وذاقوها مرتين، ولذا تتبعهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
وإذا كان ما في أحد لا يسمى هزيمة، فإنه لا يسمى نصرا أيضا لأحد الفريقين. وقد يسمى جراحا للمسلمين، كما سماها القرآن الكريم، إذ سماها قرحا، وسماها إصابة، فقد قال الله سبحانه وتعالى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ، فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ، وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ
(2/624)
النَّاسِ، وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ، وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ. أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ. وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ، فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ، وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ. وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ، وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً، وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (آل عمران- 140: 144) .
425- وقبل أن نترك الكلام في الموقعة التى أنهاها المشركون، ولم ينهها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم يعترف بانتهائها بإنهائهم، بل سار وراءهم حتى فرواهم فرارا. لابد أن نشير إلى أمور ثلاثة:
أولها: أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد قتل مشركا بيده في هذه الغزوة، ذلك أن أبى ابن خلف قد أراد أن يقتل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وقد اعتزم ذلك الآثم وهو في مكة المكرمة، فلما كان يوم أحد أقبل أبى مقنعا بالحديد، وهو يقول: لا نجوت إن نجا محمد، فاستقبله مصعب بن عمير فقتله ولكن قيل أن مصعب بن عمير، قتل غيره، وكان على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يرده بنفسه، فأخذ الرمح وأبصر عليه الصلاة والسلام ترقوة أبى بن خلف من فرجة بين سابغة الدرع، والبيضة الحديد، فصوب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الترقوة من بين الحديد، فطعنه بالحربة، فوقع إلى الأرض عن فرسه، ولم يخرج من طعنته دم، كما يقول الرواة، فأتاه أصحابه، وهو يخور خوار الثور، فقالوا له: ما أجزعك!! إنما هو خدش، فقال: والذى نفسى بيده لو كان الذى بى بأهل ذى المجاز لماتوا أجمعين. فمات إلى النار فسحقا لأصحاب السعير.
ويقول ابن إسحاق في وصف قتل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم له وقد جاء إليه قال: دعوه فلما دنا منه تناول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، الحربة من الحارث بن الصمة، فقال بعض القوم، كما ذكر لى، فلما أخذها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم انتفض انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ بها عن فرسه مرارا.
وإن هذا يدل على قوة بأس النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وإن كان لا يقتل بيده.
الأمر الثانى: أن النساء كن يخرجن في جيش النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يحملن الماء للمجاهدين ويداوين الجرحى إن أمكن ذلك، وقد يضربن بالسيف، إن كانت ضرورة لذلك، يروى أن أم عمارة نسيبة المازنية قد خرجت مع الجيش تحمل سقاء فيه ماء، لتسقى الجيش. وكانت تشد أزر
(2/625)
المجاهدين، فلما أحدق المشركون وأحست بأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يتعرض للمشركين، وقد جعلوه هدفا مقصودا. استلت السيف، وأخذت تذود عنه صلى الله تعالى عليه وسلم مع الذائدين، وترمى بالقوس، حتى نزلت بها جراح شديدة وأصاب عاتقها جرح أجوف له غور.
ولقد كانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تغسل الدم عن وجه أبيها الكريم، وتداوى جرحه. روى البخارى عن سهل بن سعد أنه قال: «أما والله إنى لا أعرف من كان يغسل جرح النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ومن كان يسكب الماء وبما دووى، كانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تغسله، وعلى يسكب الماء بالمجن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها وألصقتها» .
والظاهر من هذا الخبر أن فاطمة الطاهرة بنت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد خرجت مع المجاهدين، فداوت جرح أبيها عليه الصلاة والسلام، أو أن يكون الدم استمر يسيل حتى عاد إلى داره، والله تعالى أعلم.
الأمر الثالث: ما فعله المشركون بالقتلى، وخصوصا الجثمان الطاهر، جثمان حمزة رضى الله عنه، وأقرنه بما فعل على رضى الله عنه عند ما صرع مبارزه ابن أبى طلحة، فقد بدت عورته، فرفع على سيفه وأخذته المروءة والرحم، ولكن أنى تكون امرأة أبى سفيان وأبو سفيان، وعلى البطل الذى يقرع الأقوام في وجوههم، ولا يقرعهم مدبرين.
سلط المشركون النساء على القتلى يمثلن بهم بقيادة هند بنت عتبة زوج أبى سفيان، وأم معاوية، وذكر ابن إسحاق أنه وقعت هند بنت عتبة، والنسوة اللائى معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يجدعن الآذان والأنوف، حتى اتخذت هند من آذان الرجال وأنوفهم خلاخل، وقلائد، وقد أعطت قلائدها الحقيقية وخدمها وأقراطها وحشيا الذى اغتال حمزة غدرا وخيانة وجبنا، وبقرت بطن حمزة، وأخذت كبده فلاكتها ولم تسغها، فلفظتها ثم علت على صخرة مشرفة.
وأنشدت تقول:
نحن جزيناكم بيوم بدر ... والحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان عن عتبة لي من صبر ... ولا أخي وعمه وبكرى
شفيت نفسى وقضيت نذرى ... شفيت وحشى غليل صدرى
فشكر وحشى على عمرى ... حتى ترم أعظمى في قبرى
(2/626)
من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه
426- مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ. وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا. لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (الأحزاب- 23، 24) .
وإن النص السامى الكريم ينطبق على الذين ثبتوا من رجال المؤمنين في أحد، سواء أنزلت الآية فيهم أم كانت عامة، تعم كل رجال الجهاد من المؤمنين.
فقد كان في هذه الغزوة رجال كانوا صادقين في حربهم، وصادقين في إيمانهم منهم سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب الذى كان يدق جيش الشرك دقا، ومنهم أبو دجانة الذى كان يفلق الهام بسيف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأعطى السيف حقه، ومنهم مصعب بن عمير، ومنهم بطل الأبطال على بن أبى طالب الذى حمل اللواء في الشديدة، فكان إعطاء اللواء له إرهابا للشرك، ومنهم طلحة بن عبيد الله، الذى كان له الفضل الأوّل في تحويل الحرب من هزيمة متوقعة للمؤمنين إلى نصر متوقع للمؤمنين، ومن بعده أنهى المشركون القتال خشية أن تكون العاقبة عليهم، لا لهم.
وذلك عند ما طلب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من صحابته الأبطال الذين يحوطونه أن يعلوا إلى الجبل، حتى لا يكون أبو سفيان في علو عليهم.
ولنترك البيهقى يتكلم في دلائل النبوة «انهزم الناس عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وبقى معه أحد عشر رجلا من الأنصار، وطلحة بن عبيد الله وهو يصعد في الجبل فلحقهم المشركون، فقال: ألا أحد لهؤلاء، فقال طلحة: أنا يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام كما أنت، فقال رجل من الأنصار فأنا يا رسول الله فقاتل عنه، وصعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومن بقى معه، ثم قتل الأنصارى فلحقوه، فقال: ألا رجل لهؤلاء، فقال طلحة مثل قوله، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مثل قوله، فقال: رجل من الأنصار فأنا يا رسول الله، فقاتل، وأصحابه يصعدون، ثم قتل فلحقوه، فلم يزل يقول مثل قوله الأوّل، ويقول طلحة أنا يا رسول الله فيستأذنه رجل من الأنصار للقتال، فيأذن له، فيقاتل مثل من كان قبله، حتى لم يبق معه أحد إلا طلحة، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من لهؤلاء؟ فقال طلحة أنا يا رسول الله، فقاتل مثل قتال جميع من كان قبله، وأصيبت أنامله، ثم صعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى أصحابه وهم مجتمعون، وقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: ذلك يوم كان لطلحة.
(2/627)
وإن صعود جيش المسلمين إلى الجبل بعد أن أبعدهم المشركون فيصل بين الاضطراب في جيش المؤمنين، وبين إعادة الخطة، والسير على المنهاج من غير اضطراب، وحامل اللواء على كرم الله وجهه، ولذا أخذوا يضربون أقوى في المشركين بقيادة خالد بن الوليد، وينتصفون منهم، وقد زال عنهم وعث الجروح، وانتظم جيش النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولذلك أنهوا القتال وشيكا، ولم يستمروا خشية أن تدور عليهم الدائرة كما ابتدأ المسلمون يحسونهم بإذنه.
فرحة أبى سفيان بالنصر القريب
427- أنهى أبو سفيان الحرب فرحا، راضيا بما وصل إليه، وإن لم يكن نصرا لهم وسحقا للمسلمين، ولكنه أدرك الثأر وكفى، والوقائع أقنعته بأن يكتفى بذلك، حتى لا يضيع من يده ما أخذ، وهو أنه ثأر، وأخذ ترته، وكفاه ذلك، ولم يقتلع المدينة المنورة، ولم يستطع أن يمنع أسباب مصادرة ماله وعيره، ولكن وقف يفاخر بما وصل إليه، وينادى المؤمنين، يقول:
أفى الجيش محمد؟ أفى القوم محمد؟ أفى القوم محمد؟ نادى ثلاثا، فنهاهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يجيبوه، ثم قال: أفى القوم ابن أبى قحافة؟ أفى القوم ابن أبى قحافة؟ ثم قال: أفى القوم ابن الخطاب، ثم أقبل على أصحابه، قال: أما هؤلاء فقد قتلوا وقد كفيتموهم فما ملك عمر نفسه فقال: كذبت والله يا عدو الله، إن هؤلاء لأحياء كلهم، وقد بقى لك ما يسوءك. فقال:
يوم بيوم بدر والحرب سجال، إنكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها، ولم تسؤنى.
ثم أخذ يرتجز فرحا: اعل هبل، اعل هبل.
فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ألا تجيبونه؟ قالوا: يا رسول الله وما نقول؟ قال قولوا:
الله أعلى وأجل، قال إن لنا العزى، ولا عزى لكم. قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم:
ألا تجيبونه؟! قالوا يا رسول الله فما نقول؟ قال قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم.
وصف المعركة في القرآن الكريم
428- وصف القرآن الكريم المعركة وصفا دقيقا، ووصف نفوس جيش النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وخصوصا الذين كانوا يطلبون المال في المعركة، وآثارهم فيها، فقال الله سبحانه وتعالى:
«هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ. وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ. وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها
(2/628)
بَيْنَ النَّاسِ، وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ.
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا، وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ. أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ. وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ، فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ. وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ، قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ، وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً، وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ. وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا، وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها، وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (آل عمران- 138: 145) .
هذه الآيات الكريمات تصور النتيجة التى انتهت إليها المعركة بالنسبة لما أصاب المسلمين من قرح، وأنه كان اختبارا للمؤمنين ليتميز المجاهدون الصابرون من الضعفاء المترددين، كما أشرنا في وصف الجيش.
وفي النص الكريم ما يشير إلى حقائق ثابتة، ومنها أن الإصابة مرة لا يصح أن تحدث الوهن والحزن، فهما يولدان اليأس من رحمة الله، وليس اليأس من شأن أهل الإيمان، فإنه لا يبأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
ومنها أن القياس بالمماثلة بين ما أصابهم في الماضى، وما أصاب المؤمنين يريح النفوس، وقانون الحياة الذى سنه الله تعالى في الوجود المداولة، حتى يكون النصر النهائى، وما النصر إلا من عند الله العلى الحكيم.
ومنها بيان أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وإن كان صاحب الرسالة لا يصح أن يكون موته أو قتله منهيا لدعوته، بل على المؤمنين من بعده ألا ينقلبوا خاسرين، وعليهم أن يتحملوا الرسالة ويبلغوها للناس ويجاهدوا في سبيلها غير وانين ولا مقصرين.
هذه حال المسلمين في أعقاب المعركة والعبرة فيها.
ولقد وصف الله سبحانه وتعالى المعركة في ابتدائها، ووسطها وما أصاب النفس المحاربة، إن كانت مترددة، والنفس إن كانت مجاهدة، وبين سبحانه وتعالى سبب العجز، فقال تعالت كلماته: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ، حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ، وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ، وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ، مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ، ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ، وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ، وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ، فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ، لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ، وَلا ما أَصابَكُمْ، وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ. ثُمَّ أَنْزَلَ
(2/629)
عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ، وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ، يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ، يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ، يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا، قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ، وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ، وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ.
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ، يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا، وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (آل عمران- 152: 155) .
ونرى في هذه الآيات الكريمات وصفا دقيقا للمعركة، ووصفا للنفوس بينه العالم بما في الصدور.
ونرى الآيات تبين ابتداء المعركة، وقد كان فيها جيش الإيمان يحس الشرك بأن يصيب حسه، وإصابة الحس قتل الأنفس. وإزالة عنصر الحياة فيها، بإزالة الحس الذى هو مظهر.
ويجيء من بعد ذلك الخلاف حول الغنائم، بسبب التردد بين أخذها وبين تركها، وفي الأولى عصيان القائد الأعظم، وفي الثانية عصيان النفس، وطاعة القائد هو أولى بها، وإن كل تنازع عجز، ولذا بين القرآن الكريم أن ذلك فشل ذريع، ثم غلب بعد ذلك العصيان.
وانبثق في هذا الخلاف ما تكن النفوس، فكان منها من يريد الدنيا، وهم الذين تبعوا الغنائم، وأخلوا بالصفوف، وصرف الله تعالى جيشه الذى كان موحدا في الظاهر، لتكون تلك الجراح، والمقتلة التى أصابت المسلمين.
وصور الله تعالى المعركة في انتصارها وكبوتها، إذ هم يصعدون، والرسول عليه الصلاة والسلام يدعوهم في أخراهم.
ثم من بعد ذلك كانت الحسرة، فلم ينالوا مالا، ولم يحافظوا نفسا، وأصابهم غم شديد، بل أصابهم غمان. غم بسبب ضياع الأنفس وضياع المال إذ تعجلوا قبل ميقاته، وغم إذ نالهم، وأحسوا بما كان منهم، فلا يحزنون على مال فاتهم، ولا جروح أصابتهم، إنما هو الغم والغم إنزال غمة بالنفس، تكون منها في ظلام لا يرى ما وراءه، ويصيب النفس بالإعياء المرهق كدا وحسرة.
وإن ذلك كان عاما لمن كان يريد الدنيا، ومن كان يريد ما عند الله، وقد خص الذين يريدون ما عند الله تعالى بعد الغم المتوالى، غما بعد غم، كان الاطمئنان والرضا بما كان مستفيدين من العبر، وكان مظهر هذا الاطمئنان النعاس الذى لا يكون إلا من قرار نفس، واطمئنان حاضر، ورضا بما قدر الله تعالى،
(2/630)
وقد بذلوا في جهادهم كل الأسباب، وقد فاتهم النصر الحاسم كمن كان الشيطان قد استزلهم بأن أوقعهم في الزلل، بما كسبت قلوبهم من طلب للمال.
والآخرون الذين لم ينلهم الاطمئنان لأنهم الذين باشروا سبب الفزع والاضطراب الذى أصاب الجيش قد أهمتهم أنفسهم، فكانوا في هم دائم، لأنهم فقدوا المال الذى كانوا يريدونه، وأصابتهم حسرة من الجراح التى نزلت بهم، وبالمؤمنين، ولأنهم لم يطيعوا.
ولقد حدث من بعضهم أنه بعد الانكسار المؤقت الذى أصاب الجيش فكر بعضهم في أن يكتب إلى عبد الله بن أبى رأس المنافقين، يؤمنون أنفسهم عنده، ويظهرون له الطاعة بعد العصيان.
فقد جاء في تاريخ الحافظ ابن كثير أن بعض الذين كانوا قد هموا بالفشل أنهم قالوا «ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبى فيأخذ لنا أمنة من أبى سفيان، يا قوم إن محمدا قد قتل، فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم، فقال أنس بن النضر: يا قوم إن كان محمد قد قتل، فإن رب محمد لم يقتل، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد، اللهم إنى أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل» .
وقد أشرنا إلى ذلك من قبل، نذكره هنا بيانا لما نشير إليه، فهؤلاء هم الذين أهمتهم أنفسهم، وقد جرهم الشيطان إلى الزلل بسبب ما كسبت نفوسهم من تردد، ومرض نفسى، فكان زللهم نكبة للجيش، وإن لم تؤد إلى هزيمة، وإن هذا يزكى ما قلنا في أوّل القول عند ما وصفنا جيش المسلمين، بأن فيه بعض المترددين دعاة الهزيمة إذا وجدت أسبابها، وأنهم ما جاؤا إلا للغنائم، وأنهم نفسوا على أهل بدر ما نالوا من أنفال، فلم يريدوا القتال إلا لينالوا مثل ما نال الذين سبقوا بالجهاد حقا وصدقا.
تمام المعركة
429- قلنا إن غزوة أحد لم تكن فيها هزيمة على المؤمنين، وإنما الذين أنهوها هم المشركون ولم تكن قد انتهت من قبل المؤمنين.
نعم إنه كانت جراحات في المؤمنين، ولكن لم تثخنهم، وكانت جراحات في المشركين دون جراحات في المؤمنين، ولم يكن عمل المشركين إلا أن جاؤا فأخذوا ببعض ثأراتهم، ولم يأخذوا بها كاملة، فهل نالوا من على نيلا؟ وهل نالوا من الزبير؟ وهل نالوا من أبى دجانة؟ وهل نالوا من طلحة بن عبيد الله؟ فإن كانوا قد نالوا من حمزة، فإن الذين وتروهم كانوا لهم بالمرصاد.
(2/631)
وإذا كان المشركون قد أنهوا الحرب، بما يشبه الفرار عند ما استرد المسلمون جأشهم، واستقاموا لجهادهم، وأخذوا يكيلون لهم، وخافوا على أنفسهم من عودة الوثبة، وأن يحسوهم بإذن الله تعالى كما ابتدأوا، لم ينه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الحرب، ولذا تبعهم بالجند المؤمنين، ولا يجدد الجيش، بل يذهب إليهم بمن كانوا معه، وإذا كان قد فقد من جيشه نحو السبعين، فإنه بقى له فوق ستمائة، وإذا كانوا قد أصابتهم جراحهم، ولكنها لم تثقلهم، وهم بقية السيف وبقية السيف كما قال بطل الجهاد على بن أبى طالب، أبقى عددا.
خروج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم:
430- بعد أن عاد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى المدينة المنورة من المعركة التى كانت يوم السبت 15 من شوال سنة ثلاث، وكان يوم الأحد في الغداة يدعو جنده للذهاب إلى تتبع المشركين، ورأى صلى الله تعالى عليه وسلم ألا يخرج معه إلا من كان من رجاله في أحد، وقد عرض عليه عبد الله بن أبى ومن رجعوا أن يخرجوا معه، فرفض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يخرجوا، وقد فرح المؤمنون بخروجهم وقد قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم «لا يخرجن معى إلا من شهد القتال» فاستجاب الذين أخلصوا دينهم لله قرحى على ما أصابهم من جروح وبلاء، وقد روى أن الله سبحانه وتعالى قال فيهم: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (آل عمران- 172) ..
هذا جانب الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم خرج ليتمم المعركة، بطلب العدو الذى أنهى هو الحرب، ورحاها دائرة، ولم يتركوها رحمة، بل لمجرد الرضا بما وصلوا إليه من ثارات غير كاملة، فالأبطال الذين جندلوا مشايخهم ببدر كأبى دجانة وعلى والزبير ما زالت سيوفهم مشهورة عليهم.
والمشركون من بعد أن أنهوا القتال شبه فارين من نهايته، فإنه روى أنهم أخذوا يتلاومون ويقول بعضهم لبعض: لم تصنعوا شيئا، أصبتم شوكة القوم وحدهم، ثم تركتموهم، ولم تبتروهم بل منهم رؤوس يجمعون لكم.
ذلك قولهم بأفواههم، والحق أن رجالات محمد عليه الصلاة والسلام ما زالت فيهم البقية المرهبة، وما زال الإيمان بنصر الله يملأ قلوبهم.
ولقد هم المشركون أن يرجعوا لولا أنهم علموا الوثبة الإسلامية بقيادة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد ابتدأت العودة إليهم عند ما علا النبى عليه الصلاة والسلام بجيشه فوق الهزيمة، وأخذ يذيقهم وبال أمرهم، فانتهوا لما علموا ذلك ورجعوا عن عزمتهم ورضوا بما نالوا.
(2/632)
خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى حمراء الأسد، وهى تبعد عن المدينة المنورة بنحو ثمانية أميال، وأقام على المدينة المنورة ابن أم مكتوم، وقد لقيه بعض بنى خزاعة، وكانوا يميلون إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مسلمهم وكافرهم فقال قائلهم للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يا محمد إنا والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله تعالى عافاك فيهم، وقائل هذا القول هو معبد بن أبى معبد الخزاعى.
ذهب من ذلك معبد إلى الروحاء وفيها أبو سفيان بن حرب، وقيل أنهم كانوا أجمعوا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكن من غير إقدام، بل على خوف ووجل، ولذلك جبنوا لما علموا بخروج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم للقائهم.
سأل أبو سفيان معبدا قائلا: ما وراءك يا معبد.
قال معبد: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرقون عليكم تحرقا، قد أجمع معه من كان تخلف عنه في يومكم، وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط.
قال أبو سفيان: ويلك ما تقول؟ والله ما أراك ترتحل، حتى ترى نواصى الخيل، وو الله لقد اجتمعنا للكرة عليهم، حتى نستأصل شأفتهم.
قال معبد: فإنى أنهاك عن ذلك.
نهنه من عزمتهم، وقلل من شوكتهم كلام معبد، وقد كانوا على وجل من اللقاء، ولكنهم أرادوا أن يمنعوا محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم من اللحوق بهم، فكلفوا بعض عبد القيس بأن يفزعوا النبى كما فزعوهم فركب عبد القيس النقى بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم وهو بحمراء الأسد، فأخبره بأن أبا سفيان قد أجمع على السير إليه ليستأصل بقيتهم.
فلم يفزع محمد صلى الله تعالى عليه وسلم كما فزع هو بل قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، وقد قال البخارى: إنه أنزل في هذا قول الله سبحانه وتعالى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ، فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً، وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173- آل عمران) وأخيرا ارتد المشركون على أعقابهم خاسئين، ورضوا بما لقوا.
والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يتبعهم، فهل كان المسلمون بعد ذلك في واقعة أحد مهزومين؟ لقد أصابهم قرح والجروح تصيب المقاتلين ولا تعد في قانون الحرب هزيمة، إنما الهزيمة أن يولوا الأدبار ويفروا فرارا.
(2/633)
رحمة النبى القائد صلى الله تعالى عليه وسلم
431- إن القائد الذى يسير وراءه الجيش، ويقدم روحه بين يديه، ويقدم معه على مواقع الردى غير هياب ولا وجل، هو القائد الرحيم الذى يحمى الجند من ورائه بأن يحنو عليهم كما يحنو الأب على أبنائه، فإذا قدمهم للاستشهاد فلمقصد أسمى، يقدم نفسه فيه أمامهم.
وليس القائد المظفر هو الذى يقدم جيشه إلى الميدان، كما يقدم أدوات الحرب، ومعدات القتال، من غير قلب يرحم، وينسى أن الجيوش قلوب تقدم، وأرواح تتقدم فداء للمعنى الإنسانى العالى الذى تقاتل من أجله، وتخوض له مشتجر السيوف، وتلقى بالحتوف نصرا له، وتأييدا لكلمة الحق، إن هذا النوع من القواد الجامدين الذين يحسبون الحرب تخطيطا وليست رحمة، أو تلابسها رحمة لا ينتصر، وإن انتصر مرة، لا يعاوده النصر مرة أخرى، لأنه لا يجد جندا ينصرونه، ولقد رأينا ممن يحسبون أنفسهم قواد الحرب من يرى صرعى جيشه في الصحراء، ولحومهم تنهشها ذئابها، ويقول غير حزين:
هكذا الحرب. ولذلك توالت هزائمه.
ولقد كان بونابرت قائدا مظفرا حتى عاد إلى فرنسا، وترك جنده في روسيا يأكلهم الثلج، وقد أذاقهم لباس الجوع، فكان ذلك مفتاح هزيمته، وما انتصر من بعد ذلك انتصارا حاسما.
وإن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم كان المثل السامى لرحمة القائد بجنده، كأنهم قطع من نفسه، ولقد زكى الله سبحانه وتعالى هذه الرحمة المحمدية النبوية، فقال الله سبحانه وتعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ، وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ، لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ، وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (آل عمران- 159) .
وقد بدت رحمة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بجنده في أحد وعقب الجروح التى أصابت الجيش الإسلامى، فما وجه لوما لأحد، وما جال بخاطره أن يحاكم المقاتلين لأخطاء وقعت، بل كل همه في الميدان أن يسترد الموقف لأصحابه، وأن يقفوا، ولا يخروا صرعى أمام أعدائهم، بل ارتقى بهم إلى الهضبة وأعطى الراية من يحملها بحقها، وناضل، وقاوم، حتى أيأس المشركين من أن يستأصلوا المؤمنين، بل خافوا منهم، وأنهوا القتال وإن لم يكونوا مدحورين، خشية أن يندحروا، إذ رأوا جند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد اشتد بأسهم في القتال مع هذه الجراح التى جرحوها.
وعفا عنهم، ليستبقى نخوتهم وبأسهم لما يأتى، وإن لم يكن ما وقع لا يسر، بل كان يضر، ولم يكتف عليه الصلاة والسلام بالعفو، بل استغفر لهم بأمر ربه.
(2/634)
ولعل شوراهم هى التى جعلتهم يواجهون المشركين، وقد كانوا بمنجاة عن ذلك، لو أخذوا برأى الرسول، ولكن الشورى لم تكن سبب الجراح، إنما عصيان القائد، والخروج عما رسم من نظام كان هو السبب المباشر، ولذلك أمره الله سبحانه وتعالى أن يستمر في الشورى، فخطأ الشورى دائما إلى صواب، لأنه يقوى إرادة الأمة، وصواب الاستبداد دائما إلى خطأ، لأنه يضعف إرادة الأمة، وضعف الإرادة يضعف العزيمة ويفسد النفس، وذلك في ذاته خطأ.
ولقد أخذت الرحمة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالشهداء من الصحابة، فأمر بأن يدفنوا بدل أن يرسلوا إلى أهليهم، ومن أخذه أهله رده إلى الموطن الذى استشهد فيه، وذلك لكيلا تتبعثر أبدانهم الطاهرة، ولكيلا تثير رؤية ذويهم لهم ألما وحزنا، ولكيلا يتصايح أهلوهم بالندب والنواح، فكانت رحمة الله تعالى بهم أن يدفنوا حيث هم، ليعرف الناس فضلهم، ولقد كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من بعد يزور مصارعهم، وسلك ذلك أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، رضى الله تعالى عنهم جميعا، وعلى كان يكرم ذرية أهل بدر وأهل أحد، فيزيد في الصلاة عليهم تكبيرات في صلاة جنازتهم.
ولقد كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يدفن الشهداء، ويجمع في القبر أكثر من واحد، ويختار من كانوا ذوى صحبة بينهم، فيدفنهم في قبر واحد، وكان يقدم في الدفن الأقرأ فالأقرأ، وكلهم شهداء ذوو فضل عظيم ومقام كريم في الإسلام.
وقد كان عليه الصلاة والسلام لا يمنع أن يبكى أهل الشهيد من بكاء عليه حزنا، وإن كان قد فاز بالشهادة، وكان يقول عليه الصلاة والسلام: «البكاء من الرحمن والصراخ من الشيطان» .
وكان يبكى بكاء شديدا على عمه حمزة أسد الله تعالى، حتى إنه رأى نساء الأنصار يبكين قتلاهم فقال صلى الله تعالى عليه وسلم حزينا باكيا، «وحمزة ... لا بواكى لحمزة» .
ومن رحمته عليه الصلاة والسلام بأهل الميت أنه منع السيدة العظيمة عمته صفية من أن ترى أخاها حمزة مقتولا، وقد عبثت العابثات من نساء المشركين بجثمانه الطاهر، ومثلوا به.
قال ابن إسحاق: قد أقبلت صفية بنت عبد المطلب لتنظر إليه (حمزة) وكان أخاها لأبيها وأمها، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم للزبير: الحقها فأرجعها، لا ترى ما بأخيها، فقال لها الزبير، ارجعى يا أمه، إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يأمرك أن ترجعى. قالت: ولم وقد بلغنى أنه قد مثل بأخى، وذلك من الله فما أرضانا بما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله، فلما جاء الزبير إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأخبره بذلك قال: خل سبيلها، فأتته فنظرت إليه واسترجعت واستغفرت.
(2/635)
ولقد دفن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عمه سيد الشهداء حمزة مع ابن أخته عبد الله ابن جحش، وقد مثل به، كما مثل بخاله حمزة.
وهكذا كان النبى عليه الصلاة والسلام القائد الرحيم يعيش بعد الجراح مع الأسر المجروحة يواسيها ولكن مواساة النبوة. والحقيقة: أن قتلاهم شهداء، وأنهم أحياء يرزقون، كما قال سبحانه وتعالى:
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً، بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (آل عمران- 169) . وأنهم قد نالوا خير الحسنيين، وأنهم يتمنون لو يعودون ليقتلوا في سبيل الله شهداء كما قتلوا، ولكن كتب الله أن الذين يموتون لا يرجعون، ولكن يبعثون في يوم الميقات المعلوم.
العدد والحساب
432- وقف أبو سفيان بن حرب الذى كان قائد الشرك مفاخرا قائلا «يوم بيوم بدر، والحرب سجال» زاعما أنهما يومان متقابلان تساويا في الخسارة، فخسارة المسلمين يوم أحد كخسارة المشركين يوم بدر، فهل هما متساويان؟
العدد والحساب فيهما الحكم والإجابة، لقد كان القتلى من المشركين في بدر سبعين، والأسرى مثلهم وفروا يومها منهزمين مدحورين، والسيوف الإسلامية تعمل في أقفيتهم، فهل كانت هذه حال المسلمين: كان القتلى من المسلمين في أحد سبعين، أربعة من المهاجرين، وأكثر من خمسة وستين من الأنصار، ولم يكن من المسلمين أسر قط، وكان القتلى من المشركين في غزوة أحد اثنين وعشرين، وأسير هو أبو عزة الجمحى الذى أسر يوم بدر، وخان العهد الذى أعطاه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على ألا يظاهر عليه، فظاهر على المسلمين وجاء مقاتلا، فأسر، وطلب أن يمن عليه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لفقره، ولبناته، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم الذى يجازى الإحسان بالإحسان، والإساءة بعقابها. قال له: لا أدعك تمسح عارضيك، وتقول خدعت محمدا مرتين، لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين. وأمر به فقتل.
ولم يكن من المؤمنين أسير، ولم يفروا ولم ينهزموا مدحورين، ولم تعمل السيوف في أقفيتهم إذ لم يولوا مدبرين، وإذا كان قد أحيط بهم في الدورة الثانية من أدوار القتال، فقد شقوا طريقهم وارتفعوا عليهم، واختاروا لأنفسهم المكان الملائم، وأخذوا يسلبون نتائج المعركة من أيديهم حتى حسبوها ستفلت من أيديهم بهذا القتال، وتتبعهم المسلمون في اليوم التالى، وإن كانوا مجروحين لم ينهزموا لأنهم يقاتلون فى سبيل الله، فهم ليسوا مع المؤمنين على سواء، ونتيجة الحساب بالمعادلة تنتج أن عند المسلمين زيادة في الغلب.
(2/636)
وإن الجروح التى أصابت جيش الإسلام لا تعد هزيمة. وكما قال صديقنا القائد العظيم اللواء ركن محمود شيت خطاب، إن فقد عشرة في المائة من الجيش مع بقائهم ثابتين، ومع أنهم شقوا الطريق إلى النصر، لا يعد هزيمة بحال من الأحوال.
إنما هو جرح، كما قال الله سبحانه وتعالى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ، وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ آل عمران. فما كانت المداولة بين الناس في الانتصار والانهزام، بل كان في القرح الذى مسهم مثله فكانت الهزيمة لهم ابتداء، ولم يستطيعوا أن ينزلوا بالمسلمين هزيمة مثلها، بل فروا في النتيجة فرارا..
العبرة فيما أصاب المسلمين:
433- ولكن مع ذلك دروس، ففى أحد عبر وأغلاط، هى التى جعلت المسلمين يمسسهم قرح، كما مس المشركين قرح أولا- وقرحهم أشد، لأنه صحبته هزيمة.
وأن الجرح الذى أصاب المسلمين له أسباب:
أولها: أن جيش المسلمين كان فيه من يطلب الغنيمة، لأنه حسب أن النصر مفروغ منه بالقياس على ما كان في بدر، وقد ظهرت نيات هؤلاء قبل المعركة، إذ همت طائفتان أن تفشلا والله وليهما، وظهرت في أثناء المعركة، فقال سبحانه وتعالى: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ والذين يريدون الدنيا سارعوا إلى الغنائم، وعصوا أمر الرسول.
وظهر الذين يريدون الدنيا بعد المعركة، فقد أهمتهم أنفسهم، وندموا على الخروج لأنهم لم يصيبوا مالا وأصابتهم جراح، ولم يعرفوا أن شأن القتال اتباع مناهجه، فإن خرجوا عنها وخالفوا أمر القائد، ينلهم الثبور، وأنهم إن أطاعوا، وسلكوا المنهج المستقيم نصرهم الله تعالى بتوفيقه.
ولقد كان هؤلاء يثيرون التردد في الجهاد في قلوب أهل الإيمان، وقال الله سبحانه وتعالى فيهم:
أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا، قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ، فَبِإِذْنِ اللَّهِ، وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ. وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا، وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا، قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ، هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ، يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (آل عمران- 165: 167) .
(2/637)
وثانيها: أن بعض الجيش الإسلامى بتأثير الذين يريدون الدنيا قد شغلوا بالغنائم، ولم يطاردوا المشركين بعد أن اضطربت صفوفهم بضربات المؤمنين الصادقين أولى البأس من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يتبعوا المشركين حتى يثخنوهم، ويعجزوهم عن أن يحيطوا بهم، ويضربوا فيهم.
وثالثها: عصيان القائد، وذلك من الذين يريدون الدنيا، وقد عارضهم الذين يريدون الآخرة، ولكن الأولين كشفوا ظهر المسلمين.
ولقد كانت نتيجة هذه الجراح عبرة ولم تكن هزيمة، وهى أن الله تعالى محص الذين آمنوا بالله وطلبوا الآخرة من الذين يريدون الدنيا، ولا يفكرون فيما عند الله تعالى في الآخرة.
فإنه في الوقت الذى كان يجرى فيه هؤلاء وراء الغنائم التى كانت وبالا- كان المخلصون الذين يريدون الآخرة قد أحاطوا بالرسول يتلقون عنه ضربات السيوف وينضحون النبل، ويرمون، ويأتمرون بأمر القائد الأعظم، بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد باعوا أنفسهم لله تعالى يقاتلون، فيقتلون ويقتلون حتى شقوا الطريق، وعلوا إلى الهضبة، وأخذوا يكيلون الضربات، حتى أيئسوهم من نصر، وأن يلحقوا بالمسلمين هزيمة، ولقد قال الله سبحانه وتعالى وقد تبين المجاهدون الذين أشرنا إليهم، والذين استردوا الموقف، بعد أن خرج بعمل الذين يريدون الحياة الدنيا وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ. أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ.
وقد تبين المجاهدون الصابرون، وكان منهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا، وإن غزوة أحد مهما تكن نتيجتها قرر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنها جرح أصيب به المسلمون من الشرك، فقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا يصيب المشركون منا مثلها، حتى يفتح الله علينا» .
دعاء الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في أحد:
434- رأينا أن نتيمن بذكر دعاء الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في أعقاب المعركة في شدتها على أهل الإيمان، روى الإمام أحمد رضى الله تعالى عنه في مسنده، وبالسند المتصل أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما كان يوم أحد، وانكفأ المشركون، قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم «استووا حتى أثنى على ربى عز وجل، فصاروا خلفه صفوفا، فقال اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادى لما أضللت، ولا مضل لمن هديت،
(2/638)
ولا معطى لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مبعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إنى أسألك النعيم المقيم الذى لا يحول ولا يزول، اللهم إنى أسألك النعيم يوم العيلة، والأمن يوم الخوف، اللهم إنى عائذ بك من شر ما أعطيتنا، وشر ما منعتنا، اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا، ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب، إنه الحق» .
هذا الدعاء الذى رواه الإمام أحمد، قد رواه النسائى أيضا في سننه.
وهكذا دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هو وأصحابه الذين يريدون الحق متجهين إلى الله تعالى لا يرضون إلا رضاه في جهادهم، واستشهادهم ورغبتهم فيما عنده، وخرج بهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، واتجاههم إلى الله تعالى، واستووا وراءه صفوفا حامدين شاكرين، غير ناكصين، زادتهم المحنة إيمانا وتسليما، وإذعانا وتفويضا، فما ارتابوا، بل ازدادوا إيمانا ويقينا، رغبة في حمية دينية، وقوة ربانية، وما ضعفوا ولا استكانوا.
وبذلك كان التمحيص بهذه الشدة، فنفت الأخباث، وبقى الجوهر، وصقل.
وبينما المؤمنون يدعون مع النبى صلى الله عليه وسلم ذلك الدعاء كان الذين أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، «يقولون هل لنا من الأمر من شيء ... يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا» .
ويقول لهم المنافقون الذين رأوا ضعفهم، وضعضعة نفوسهم، لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا، قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
أعقاب أحد
435- بينا أن الجيش الإسلامى لم يهزم في أحد، ولم ندع أنه انتصر، لأنهم خرجوا من القتال، ولم يمكنوا المسلمين من أن يضربوهم الضربة القاصمة، بل إنهم خرجوا راضين بالجراح في شبه اختلاس لا لقاء ولما ركبوا إبلهم تأكد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنهم عائدون، فعاد إلى المدينة المنورة، حتى يداوى الجيش جروحه، ثم خرج إليهم في حمراء الأسد، عساه يدركهم لينال جيش الإيمان منهم.
(2/639)
ولكن عبد الله بن عباس رضى الله عنه يرى أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم نصره الله تعالى فى أحد، فقد أثر عنه أنه قال: ما نصر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في موطن نصره في يوم أحد، فأنكر عليه ذلك، فقال بينى وبينكم كتاب الله تعالى، إن الله سبحانه وتعالى يقول: «ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه» والحس القتل، ولقد كان لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولأصحابه أول النهار حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة.
وإذا قتل أصحاب اللواء كان دليلا على عظم كفة المسلمين. فإن الكفة راجحة، وكفتهم غير راجحة، فقد قتل كل حملة لوائهم، حتى رفعته امرأة.
أما المؤمنون، فكان لواؤهم مع مصعب بن عمير، وأخذ يقاتل منافحا عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فقتل، واستطاع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يشق إلى الهضبة ويحمل اللواء على بن أبى طالب، فانحسروا دون لواء المسلمين، ولم ينالوا خيرا. ومع أن المسلمين لم يهزموا، وجيش الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم لم يسقط لواؤه، قد تشايع بين اليهود والمنافقين أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هزم وجيشه، وسموا الجراح التى أصابت المسلمين هزيمة وانتهزوها فرصة لإظهار الشماتة والتهكم، حتى قال قائلهم لو كان نبيا ما هزم، وأخذوا يعيرون إخوانهم أو من ليسوا لهم إخوانا، بأنهم لو كانوا معهم ما قتلوا وما أصيبوا.
ولقد بلغ بهم التهكم أن كبير المنافقين عبد الله بن أبى صارح بالتهكم، ووقف كعادته يظهر أنه يؤيد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو في قوله يسخر، كما كان يسخر من قبل.
قال ابن إسحاق في سيرته «كان عبد الله بن أبى له مقام يقومه كل جمعة، لا ينكر له شرف فى نفسه وفي قومه، وكان فيهم شريفا، إذا جلس رسول الله يوم الجمعة وهو يخطب قام فقال: أيها الناس هذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بين أظهركم، أكرمكم الله تعالى به، وأعزكم به، فانصروه وعزروه واسمعوا له، وأطيعوا» ثم يجلس.
وما كان ذلك منه إلا نفاقا، إذ كان يستر كفره بهذه الكلمات، ويبث الكفر والنفاق والتردد في نفوس المؤمنين.
وقد رآه المؤمنون يبث روح التردد والهزيمة في جيش الإيمان، ثم ينسحب ليفت في العضد، ويبث روح التردد، حتى همت طائفتان أن تفشلا.
(2/640)
ولكنه كان دائبا على إظهار مالا يخفيه، فقد وقف كذلك، والجيش الإسلامى قد عاد جريحا، ولم يكن مهزوما، وقد وقف كما كان يقف كل جمعة، فأدرك المؤمنون تهكمه، وأخذوه بثيابه، وقالوا: اجلس أى عدو الله والله لست لذلك بأهل، وقد صنعت ما صنعت.
فخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول: «والله لكأنما قلت هجرا أن قمت أشدد أمره.. فوثب إليّ رجال يجبذوننى» .
قال له رجال من الأنصار: ارجع يستغفر لك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، قال: والله ما أبغى أن يستغفر لى، إنه يقول يريد الشماتة، وكما قال سبحانه وتعالى فيه وفي أصحابه، ومرضى القلوب:
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ. وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ.
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (محمد- 31) ..
أصابت المنافقين فرحة شديدة، قد بدت البغضاء من أفواههم، وكما قال سبحانه وتعالى:
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ، وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها، وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً، إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (آل عمران- 120) .
هذا ما كان من أهل النفاق
اليهود:
436- كانت فرحة اليهود شديدة، وأوجدت فيهم طمعا، إنهم موتورون من المسلمين بما كان لبنى قينقاع جزاء ما اقترفوا، وكانوا يتوقعون أن ينزل بهم ما نزل بهم، فلما كانت أحد طمعوا بدل أن يستمر خوفهم، وظنوها فرصة سنحت، وكانوا يتربصون بالمؤمنين الدوائر.
ولا شك أن فرحتهم كانت عظيمة، وخصوصا أنه كان منهم من قاتل مع المشركين، وهو أبو عمار الراهب، وحسب أن مجيئه يخذل أهل يثرب عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
ولقد بدت البغضاء من أقوالهم، وأفعالهم، حتى ليهمون أن يقتلوا النبى صلى الله عليه وسلم غيلة بأن يرموا عليه صلى الله تعالى عليه وسلم حجرا من سطح بعض بيوتهم، ومعه أصحابه أبو بكر، وعمر، وعلى، رضى الله تعالى عنهم جميعا، ولكن الله تعالى نجاه منهم.
وقد كان المسلمون يظنون بهم الظنون لفرط ما كان من عداوتهم سرا وجهرا، وظاهرا وباطنا.
(2/641)
ويجب أن نقول هنا ما قاله الله سبحانه وتعالى فيهم لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (آل عمران: 113) .
وإن أولئك هم الذين أسلموا من اليهود عند حضور النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى المدينة المنورة كعبد الله بن سلام، وفريقه الذين آمنوا بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم فله جزاء- الحسنيان.
ومعهم عدد قليل أسلموا مخلصين في شدة أحد، ويذكر التاريخ منهم مخيرق، قال فيه ابن إسحاق: كان ممن قتل يوم أحد، مخيرق، وكان أحد بنى ثعلبة، فلما كان يوم أحد قال: يا معشر يهود، والله لقد علمتم أن قصد محمد عليكم لحق، قالوا: إن اليوم يوم السبت، قال: لا سبت لكم، فأخذ سيفه وعدته، وقال: إن أصبت فمالى إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم يصنع به ما شاء، ثم غدا فقاتل مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى قتل، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم:
مخيرق خير يهود.
وقد روى السهيلى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جعل أموال مخيرق وكانت سبع حوائط، أى حدائق- أوقافا في المدينة المنورة.
ويظهر أنها كانت أوّل أوقاف سنها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهى حجة للذين أجازوا الأحباس ولم يمنعوها، فهى عمل نبوى ثابت إلى يوم القيامة.
ولقد دخل بعض أهل يثرب ممن لم يكونوا دخلوا في الإسلام حرب أحد، فأسلموا وقتها، ومن هؤلاء أصرم بن عبد الأشهل عمرو بن ثابت بن وقش.
أخذته الحمية عند ما جاءت قريش، ومعها الأحابيش وغيرهم يغيرون على المدينة المنورة في أحد، فخرج مع المحاربين وقد دخل الإيمان قلبه، وكان من قبل يأبى الإسلام على نفسه ويستنكره من قومه، فلما كان يوم أحد حمل سيفه، ودخل في عرض الناس، فقاتل، حتى أثبتته الجراح، وبينما رجال من بنى عبد الأشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة إذا هم به، فقالوا: إن هذا للأصيرم، وما جاء به ولقد تركناه وإنه لمنكر، فسألوه فقالوا ما جاء بك يا عمرو أحدب على قومك أم رغبة في الإسلام؟ فقال رغبة في الإسلام، آمنت بالله ورسوله وأسلمت، ثم أخذت سيفى، وغزوت مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقاتلت حتى أصابنى ما أصابني، فلم يلبث أن مات.
وقد أسلم وهو داخل المعركة، وآمن بالله ورسوله، ولم يكن وقت بين إسلامه وتقدمه للصلاة ومقتله، وقد شهد له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالجنة.
(2/642)
روى أبو هريرة عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «حدثونى عن رجل دخل الجنة لم يصل قط، فسألوه من هو؟ فقال: أصيرم بن عبد الأشهل عمرو بن ثابت» .
هذه أمور قد أحاطت أحدا، وأعقبتها في داخل المدينة المنورة، وما حولها، أما أثرها في بلاد العرب، والقبائل المصاقبة في المدينة المنورة، وما تحمله النبى صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنون في أعقابها، فنتركه إلى الكلام في سرايا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وغزواته من بعدها.
الأحكام المستفادة مما أتبعه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في أحد
437- كانت غزوة بدر الكبرى إيذانا بشرعية القتال دفاعا عن النفس، ودفعا للاعتداء.
وحماية للدعوة، كما صرح بذلك القرآن الكريم، فى قوله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (الحج- 39) . وفي قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (البقرة- 190) . وفي قوله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ (البقرة- 193) وقوله تعالى:
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ، وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ، وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (البقرة- 216) .
وهكذا نزلت آيات كثيرة في إباحة القتال، بل وجوبه دفعا للفساد، كما قال تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ، وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ.
(البقرة- 251) .
كان هذا لمناسبة أوّل قتال، أما في أحد، فقد شرعت أحكام تفصيلية في الجهاد من عمل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من تكوينه لجيشه، ومن استقباله لعدوه:
(أ) ومن هذه الأحكام التى ثبتت في هذه الغزوة أنه لا يخرج إلى الجهاد من لم يبلغ الخامسة عشرة إلا إذا كان قوى الجسم، كقوة الشبان البالغين، أو كانت له مهارة فنية في الحروب، كالرمى بالنبل، فقد أجاز اثنين ممن دون الخامسة عشرة بقليل لمهارة أحدهما في الرمى، ولقوة الثانى في المصارعة.
وقد أجاز صلى الله تعالى عليه وسلم خروج النساء في الغزو، يسقين الغزاة، ويداوين الجرحى،
(2/643)
والقتال إن تعين القتال عليهن، كتلك التى كانت تناضل مع المناضلين عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقد أحاط به المشركون يحاولون قتله، فردهم الله تعالى بغيظهم لم ينالوا منه عليه الصلاة والسلام شيئا.
ولذلك أجاز الفقهاء خروج المرأة مع الجيش مداوية ومقاتلة، وقال بعضهم: لا يحل لها ركوب الخيل إلا أن تكون محاربة.
(ب) ومنها أنه إذا أخذت الأهبة للجهاد لا يجوز أن يترددوا، فإن التردد يلقى بالخذلان في النفوس، والاختلاف والتدابر، ولذلك لما لبس النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لأمة الحرب، وغير المجاهدون رأيهم، قال صلى الله تعالى عليه وسلم «ما كان لنبى لبس لأمة الحرب أن يخلعها» وكذلك الأمر في كل أمر ينتهى بالشورى لا يصح أن يكون موضع تردد حسما للأمور وفضا للنزاع.
(ج) ومنها أنه يجوز للمجاهدين مجتمعين أن يأخذوا طريقهم، ولو في أرض مملوكة ملكا خاصا، كما اجتاز النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بجيشه بعض الحدائق، ولم يلتفت إلى اعتراض المعترضين، لأن الملك الخاص له حق الصيانة، إلا إذا ترتب على الحقوق الخاصة ضرر عام، فإذا لم يكن للجيش طريق إلا الملك الخاص، لم يمنع من سلوكه مهما يكن اعتراض صاحبه، ولذلك لم يلتفت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى اعتراض الأعمى صاحب الحديقة، وقال إنه أعمى البصر والبصيرة.
(د) ومنها جواز أن يتمنى المجاهد في سبيل الله الشهادة من غير مواناة ولا استسلام بل في حزم وعزة وقوة. وتمنى الموت منهى عنه في غير هذا المقام كما قال عبد الله بن جحش عند ما تقدم للجهاد «اللهم لقنى من المشركين رجلا عظيما كفره، شديدا حرده، فأقاتله، فيقتلنى ويسلبنى ثم يجدع أنفى وأذنى، فإذا لقيتك فقلت: يا عبد الله بن جحش، فيم جدعت!! قلت: فيك يا رب» .
ويظهر أن ذلك الدعاء بعد أن رأى المشركين يمثلون بالقتلى.
(هـ) ومنها أن المسلم إذا قتل نفسه أثم، ودخل النار، ولو كان ذلك من جراح شديدة، وذلك أن مسلما اسمه قزمان أبلى يوم أحد بلاء شديدا حتى أثخن بالجراح، فلما اشتدت به نحر نفسه، فأثمه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، لأنه يئس من روح الله تعالى وبأنه: لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (يوسف- 87) .
(و) ومنها أن السنة في الشهداء ألا يغسلوا ولا يكفنوا في غير ثيابهم التى كانوا يجاهدون بها، بل يدفن فيه بدمه وكلومه إلا أن يسلبها فيكفن في غيرها.
(2/644)
(ز) ومنها أن السنة في الشهداء أن يدفنوا في مصارعهم، ولا ينقلوا إلى مكان آخر، وذلك لتكون زيارة قبورهم فيها عبرتان: عبرة الاستشهاد والجهاد، وعبرة رؤية المكان الذى صارعوا فيه وجاهدوا حتى نالوا أعلى الحسنيين.
وقد حصل في أحد أن بعض الصحابة نقلوا قتلاهم إلى المدينة المنورة، فنادى منادى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم برد القتلى إلى مصارعهم، قال جابر بن عبد الله بينما أنا في النظارة، إذ جاءت عمتى بأبى وخالى، كما دلّتهما على ناضح فدخلت بهما المدينة لتدفنهما في مقابرنا، وجاء رجل ينادى: ألا إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يأمركم أن ترجعوا القتلى فتدفنوهم في مصارعهم حيث قتلت، فرجعنا بهما، حيث دفناهما في القتلى حيث قتلا.
وبعمل الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم صارت السنة في الشهداء أن يدفنوا في مصارعهم.
(ح) ومنها جواز أن يدفن الرجلان والثلاثة في قبر واحد فإن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، كان يدفن الرجلين والثلاثة في القبر، ويقول أيهم أكثر أخذا في القرآن؟ فإذا أشاروا إلى رجل قدمه في اللحد وإذا كان رجلان بينهما محبة في الدنيا دفنهما معا في قبر واحد لما كان بينهما من المحبة فدفن عبد الله بن عمرو بن حزم، وعمرو بن الجموح في قبر واحد لما كان بينهما من المحبة.
(ط) ولقد حدث عند ما كان الاضطراب في جيش المؤمنين بسبب المفاجأة أن قتل بعض المؤمنين مؤمنا يحسبه كافرا، فإنه لا يذهب دم المقتول هدرا، بل تكون ديته في بيت المال، كما فعل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فودى الذين قتلوا خطأ من المؤمنين، لأنه بقيادته صلى الله تعالى عليه وسلم وهو ولى أمر المؤمنين.
(ى) ومنها أن ذوى الأعذار يرفع عنهم واجب الجهاد، ولكنهم إن خرجوا مجاهدين كان لهم ثواب الجهاد، وإن قتلوا كانوا شهداء، فرخصة التخلف لعذرهم رخصة ترفيه، لا تسقط الواجب، ولكن تسوغ التخلف، كمن يصوم وهو صاحب رخصة كمرض أو سفر، فإن الصوم يجزى عنه إذا صام، وإن أفطر فعدة من أيام أخر.
وقد خرج عمرو بن الجموح وهو أعرج، وليس على الأعرج حرج، فلم يمنعه النبى من أن يجاهد، فجاهد حتى استشهد، وتولى دفنه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مع شهيد كان له معه صحبة ومحبة.
(2/645)
(ك) ومنها أن العدو إذا طرق الديار لا يجب على المؤمنين أن يخرجوا لقتاله، ولا يجب عليهم أن ينتظروا حتى يدخل عليهم الديار، بل ينظرون إلى ما يكون المصلحة والمكيدة في الحرب، فإن كان الأوّل أشد نكاية اتبع وإن كان الآخر التزم كما فعل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
(ل) ومنها وجوب الشورى، كما استشار النبى صلى الله تعالى عليه وسلم جند المؤمنين، ليدخل الجند مطمئنين، آمنين راضين، غير مرهقين في نفوسهم، ولا في تفكيرهم، فيكون ذلك أرجى للنصر.
(م) ومنها ألا يصلى على الشهيد، فإنه ثبت أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يصل على شهداء أحد، ولم يصل على شهيد مات في المعركة في أى غزوة من الغزوات، لأن شهادته تغنيه عن دعاء الأحياء، وصلاة الجنازة دعاء وتضرع واستغفار.
(ن) وقد قال ابن القيم أنه يجوز للمجروح أن يصلى قاعدا، ولو كان إماما. ويقول في ذلك:
إن الإمام إذا أصابته جراحة صلى بهم قاعدا، وصلوا وراءه قعودا، كما فعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في هذه الغزوة واستمرت على ذلك سنته إلى حين وفاته.
ولكن، هل يجوز أن يصلى المأموم واقفا وراء الإمام الذى يصلى قاعدا! إن ذلك موضع خلاف بين الفقهاء، ليس هذا موضعه.
هذه الأمور التى ذكرناها كلها كانت من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في هذه الغزوة، وما يعمله يكون بيانا لحكم شرعى يتبع، ولا شك أن بعض هذه الأحكام تدخل تحت أنواع ثلاثة من الأحكام التكليفية، فمنها ما يدخل تحت حكم الجواز، والمصلحة ترجحه أو توجبه، كما رأينا في خروج النساء في الحرب والجهاد، فإنه جائز أو مباح، وقد يكون مستحبا إذا كان في الرجال كفاية وفي النساءعون. وقد يكون واجبا إذا كان الجرحى يحتاجون إلى عدد كبير من المداوين.
وكما رأينا في الذى خرج وعنده عذر فإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أجازه، فإنه يكتفى بالجواز، ابتداء، ولكن إن كان ذا بأس وشدة مع عذره، فإن الأولى الخروج مع رخصة القعود.
وهو في الحالين شهيد إن استشهد، له جزاء الشهداء، ومجاهد إن نجا، له جزاء المجاهدين ...
والله أعلم.
(2/646)
صدى أحد وسرايا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم
438- تسايرت الركبان بموقعة أحد، وقريش تدعى أنها هزمت محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم، وتنشد بذلك شعرا والشعر في البلاد العربية كان أداة النشر، وطريق الإعلام، فإن حدثا يذكر فى قصيدة جدير بأن تعلم به القبائل العربية في قاصيها ودانيها، ولما كانت النفوس مستشرفة لأن تعرف ما بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وقريش أخرجوه من مكة، أو خرج بأمر ربه، وصارت بينه وبينهم مغالبة شديدة هم يغالبون بجاهليتهم وغطرستهم، وهو يجاهد بالحق ويدفع به الباطل.
وقد رأوا الحق يدفع الباطل يوم الفرقان، وذاع في البقاع أمر الهزيمة التى فروا فيها فرارا، فذلت أنوفهم أو كادت، وزلزلت هيبتهم، وقد كانوا شرف العرب ومحتدهم.
فكان لا بد أن يشيعوا أنهم أخذوا ثاراتهم. ونالوا مأربهم ليستردوا هيبتهم، ويستعيدوا شرفهم الذى مزق محمد صلى الله تعالى عليه وسلم رايته.
إذا كانت بدر قد هزت مكانة قريش في العرب، وحركت عليهم من كانوا ينفسون عليهم مكانتهم، فكان لا بد أن يشيعوا ما زعموه هزيمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم في أحد، وأن يملئوا بها الأجواء، وأن يرددوها في كل مكان، وقد صارت المعركة بين مكة والطائف وما حولهما، ومدينة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
تحركوا لمناوأة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، والأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله، طمعت قبائل في المسلمين، بعد أن كبتهم الله ببدر، وتحركت عوامل محرضة على أهل الإيمان مجزئة عليهم، ونشر الأخبار عما زعموه هزيمة يؤلب على المؤمنين، ويثير الأضغان من عبدة الأوثان عليهم، فكثر الغدر والخيانة من قبائل العرب، وكثرت مداهنة قريش.
والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه يصابرون ويجاهدون.
وبمقدار ما كانت قريش تزدهى كان يعتريها أمران:
أحدهما: أنهم لم يشتفوا من أعدائهم رجال الإيمان، فما زال من عملوا سيوفهم في رقاب المشركين في بدر من صناديد المؤمنين أحياء وسيوفهم مشهورة ينتظرون الأمر لتضرب، فإذا كانوا قد نالوا من حمزة، فأمامهم على بن أبى طالب، والزبير بن العوام، وسعد بن أبى وقاص، وأبو عبيدة عامر بن
(2/647)
الجراح، وأمامهم وزيرا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أبو بكر وعمر، وأمامهم نور الله ورسوله يسطع فتغشى أبصارهم.
ثانيهما: أنهم يتوجسون خيفة من جولة لأهل الإيمان تجتالهم وخصوصا أنهم يتربصون بهم حتى يؤمنوا، فما داموا على شركهم، واعتدائهم فسيوف الحق من ورائهم.
لذلك كانوا يتبعون أخبار المؤمنين، ويعملون على تحريض القبائل على أهل المدينة، ويعطون العطايا لمن يأتونهم برجل من أهل الإيمان أو رجال، ويشترون منهم من يتمكنون منهم من رجال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، والأعراب أشد كفرا ونفاقا يسايرونهم، ويتمنون الأمانى منهم، وإنك لتراهم يعملون الغدر والخيانة لينالوا مأربهم.
ولذلك نرى سرايا للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم ينالونها بالغدر والخيانة عن طريق أولئك الأعراب. والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يحترس ويعلم خبايا الأمور، ويتعرف الأخبار، ويحاول أن يقعد لهم في كل مرصد.
ويرسل السرايا التى سماها صديقنا اللواء شيت خطاب دوريات تتعرف ما في البلاد والقبائل، ومنها من يعود بالغنائم، ومنها من يترصده الأعراب ليقدموه قربانا للمشركين، ومنهم من يظهر الميل إلى الإسلام فيبعث النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من يهداهم، فإذا بهم يخونون ويغدرون، فيقتلونهم قربا للمشركين أو يبيعونهم لهم ليأخذوا منهم تراتهم.
سرية لبنى أسد
439- جمع طليحة الأسدى وأخوه سلمة ابنا خويلد عددا كبيرا من بنى أسد ليقصدوا حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم رجاء أن ينالوا عند زعماء مكة منالا، وقد ظنوا أن المدينة أصبحت ترام منهم، وممن على شاكلتهم بعد أن أشاعت قريش خبر هزيمة مزعومة.
فعلم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بما تمالئوا عليه وما أرادوا، وما كان ليتركهم حتى ينفذوا ما يريدون، وإن كان فوق طاقتهم.
فأرسل أبا سلمة في خمسين ومائة من المهاجرين والأنصار وأوصاه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيرا.
سار حتى وصل إلى قطن وهو ماء لبنى أسد.
(2/648)
ويظهر أنهم مع ما كانوا قد أزمعوه من حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فوجئوا، فأذهلتهم المفاجأة، فتفرقوا مذعورين، وتركوا نعما كثيرة لهم من الإبل والغنم.
غنم ذلك كله أبو سلمة، وأسر منهم ثلاثة مماليك، وقفل راجعا إلى المدينة ومعه هذه الغنائم، وقد أخذ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم خمس الغنائم، وكان فيها عبد، وقد وزع خمسه وقسم أبو سلمة خمسه بين أصحابه كما شرع الله تعالى في الغنيمة، فقد قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ، وَلِلرَّسُولِ، وَلِذِي الْقُرْبى، وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ (الأنفال- 41) .
وإن أبا سلمة رضى الله تعالى عنه قد أخرجه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في هذه السرية في المحرم من السنة الرابعة أى بعد خمسة وثلاثين شهرا من الهجرة.
ولقد مكث فيها نحو بضع عشرة ليلة ومات بعدها، لجرح أصابه في أحد، ولقد قال ابنه عمرو «كان الذى جرح أبى أبو أسامة الجشمي، فمكث شهرا يداويه فبرأ، فلما برأ بعثه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في المحرم (يعنى من سنة أربع) فغاب بضع عشرة ليلة، فلما دخل المدينة انتقض به جرحه فمات لثلاث بقين من جمادى الأولى» .
وهكذا أدى ذلك الشهيد واجبه مرتين إحداهما في أحد، وقد جرح جرحا قاتلا، وكرمه رسول الله تعالى بأن أرسله في سرية إلى بنى أسد، ثم تحرك الجرح فمات شهيدا، ولكن بين أهله.
ولعل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم اختاره ليرسله إلى بنى أسد، لأنه منهم، إذ هو أبو سلمة بن عبد الأسد أبى طلحة الأسدى. فيرسل عليه السلام الرجل المؤمن على رأس المقاتلين من المؤمنين ليقاتل المشركين من قومه، فتكون الفائدة من ناحيتين، إحداهما- تأديب المشرك لحمله على الإيمان، والثانية التأكيد في محو العصبية الجاهلية، وإحياء الوحدة الإسلامية.
يوم الرجيع
440- الرجيع مكان على ثمانية أميال من عسفان، وقد قال ابن كثير تابعا للواقدى (غزوة الرجيع) وما ارتضينا ذلك العنوان، إلا لأنه كان الأمر فيه أمر خيانة وغدر من بعض المشركين بتحريض من قريش، لينالوا بعض ما بقى من ثأرهم، وإنه لا يزال كثيرا كما ذكرنا، فأكثر الذين وتروهم من شجعان المسلمين لا يزالون يحملون السيوف، ليخوضوا بها في صفوف المشركين مرة أخرى أو مرات.
وقصة الرجيع كما روتها السيرة وصحاح السنة، هى قصة غدر ولؤم بتحريض من المشركين.
(2/649)
قدم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد غزوة أحد رهط من عضل والقارة، وهما بطنان من الهون بن خزيمة بن مدركة.
قالوا: يا رسول الله إن فينا إسلاما، فابعث معنا نفرا من أصحابك يفهموننا الدين، ويقرئوننا القرآن، ويعلموننا شرائع الإسلام. فبعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نفرا من أصحابه. قال ابن إسحاق بسنده أن عدتهم ستة، وقال البخارى بسنده في صحيحه أن عدتهم عشرة، وقال ابن إسحاق إن الذى أمره رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على وفد الإيمان والدعوة هو مرثد بن أبى مرثد الغنوى الذى كان أخا لحمزة بن عبد المطلب سيد الشهداء في المؤاخاة التى آخى بها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار.
وفي رواية البخارى أن الذى أمره عليهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هو عاصم بن ثابت ابن الأفلح «1» ، وأن رواة الحديث والأخبار يرجحون رواية البخارى.
ويؤيد رواية البخارى الواقدى.
انطلق ذلك الوفد المؤمن مغادر المدينة متجها إلى عضل والقارة دعاة هداية، وليسوا محاربين، وما كانوا يعلمون أن القوم يأتمرون في غدر وخيانة وكذب لم يعرف في أشراف العرب.
حتى إذا كان الرجيع بين عسفان ومكة المكرمة، وهو بالهذيل غدروا بهم ونادوا مستصرخين وفوجيء وفد الهداية إلى الإسلام برجال بأيديهم السيوف قد غشوهم.
وأرادوا أن يأخذوهم بالغش والخديعة كما استنفروهم بها. فقالوا لهم: إنا والله ما نريد قتلكم ولكن نريد أن نصيب شيئا من أهل مكة المكرمة. وربما كانوا صادقين، وإن ذلك من انخداع العرب بما زعمه المشركون من نصر نالوه، وقد قالوا في خديعتهم: «لكم علينا عهد وميثاق ألا نقتلكم» .
فترت بذلك عزيمة بعض المؤمنين بعد أن أخذوا سيوفهم ليقاتلوا ويموتوا مجاهدين، ولا يموتوا مستسلمين.
قال عاصم بن ثابت، ومرثد بن أبى مرثد، وخالد بن بكير من العشرة الكرام أو الستة على اختلاف العدد، لا نقبل من مشرك عهدا ولا عقدا أبدا.
__________
(1) فى ابن هشام: ابن الأقلع.
(2/650)
وقد كانوا على حق، لأنهم ابتدؤا بالغدر والخيانة أو تسليط الغادرين الخائنين، وعلى فرض أنهم صادقون فيما يعاهدون عليه من أنهم لا يقاتلونهم فإنهم سيسلمونهم لأهل مكة المكرمة ليصيبوا منهم شيئا، ولا شك أن أهل مكة المكرمة سينزلون بهم أذى، القتل أقله.
ولذلك قاتل أولئك الثلاثة، وقتلوا، فاختاروا أن يقتلوا مجاهدين من أن يقتلوا مستسلمين، أما إخوانهم فلم يرتضوا ذلك الموقف الشجاع الذى كانت نهايته شهادة في غير استسلام واستخذاء، بل في قوة وإيمان وجهاد.
استسلم الباقون ظانين أن لهم عهودا، وقد ذكر منهم ابن إسحاق ثلاثة وهم: زيد بن الدثنة، وخبيب بن عدى، وعبد الله بن طارق.
ولنذكر بعض ما فعلوه بعاصم بن ثابت الذى أصاب من قريش في ميدان القتال، فقد أصاب فى أحد ابنى امرأة من قريش فنذرت إن تمكنت منه أن تشرب الخمر في قحفة عاصم، فلما قتل طلبت رأسه، وقد قيل، عند ما أرادت ذلك، نبه رجل أبا سفيان بن حرب كيف يصنع برأس ابن عمه فلم يستخف ولم يلم، وماذا ينتظر من أبى سفيان زوج هند التى فعلت ما فعلت، فلم ينكر، ولكن الله تعالى حمى رأس المؤمن التقى من أن يمسها الأنجاس فحامت حولها الزنابير لتحميها.
ولنتجه من بعد إلى الذين رضوا بمواثيق المشركين، ولم يتنبهوا إلى قول الله تعالى: لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً.
لقد أسروهم، ثم خرجوا بهم إلى مكة المكرمة ليبيعوهم بها، حتى إذا كانوا بالظهران، وهو واد قرب مكة المكرمة، استطاع أن يفك أحد الثلاثة عبد الله بن طارق يده من رباطها، وأخذ سيفه، فاستأخر عنه القوم، وباعدوه حينا من لقاء سيفه، ولكن رموه بالحجارة حتى قتلوه، فمات غير مستسلم، وإن كان قد وثق بعهدهم الذى عاهدوا عليه.
وأما الآخران خبيب بن عدى، وزيد بن الدثنة فقد باعوهما من قريش بأسيرين من هذيل كانا بمكة المكرمة.
فابتاع خبيبا بنو الحارث بن عمار بن نوفل، وكان خبيب هو الذي قتل أباهم الحارث يوم بدر فمكث عندهم أسيرا، يسومونه الخسف والهوان، ولكنه كان في سعة نفس من إيمانه، ومهما يروموه من إهانة، فنفس المؤمن لا تهون، وكأنه وثق بعهدهم ليرى الله تعالى الناس المؤمن إذا خدع، وصبره إذا أوذى ليرتفع إلى درجات المجاهدين بالصبر، كما هو مجاهد في ميدان القتال،
(2/651)
قدموه ليقتلوه صلبا، فاستأذنهم حتي يصلي ركعتين فصلاهما، ثم أقبل عليهم مستبشرا يقول للجلادين:
أما والله لولا أن تظنوا أنى إنما طولت جزعا من الموت، لاستكثرت من الصلاة.
ولقد علم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بصلاته عند القتل مستشهدا فأقره، فكانت سنة نبوية بإقراره عليه الصلاة والسلام.
رفعوه من بعد صلاته إلى خشبة الصلب، فلما أوثقوه قال: اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك فبلغه الغداة ما يصنع بنا، اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا.
وهكذا مات خبيب بطلا في ميدان الجهاد النفسى، كما مات أصحابه عاصم ومن معه في جهاد مستشهدين، ولم يلقوا سيوفهم.
وهكذا قتلوا خبيبا صلبا وهو يقول صابرا:
ولست أبالى حين أقتل مسلما ... على أى شق كان في الله مصرعى
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع
وفي اليوم الذى صلب فيه خبيب صلب فيه أيضا زيد بن الدثنة. وكان صابرا راضيا مطمئنا، فى سعة من الإيمان، قال له عند صلبه زعيم الشرك أبو سفيان بن حرب: أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه، وإنك في أهلك، قال: والله ما أحب أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم في مكانه الذى هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وإنى جالس في أهلى.
وعندئذ قال زعيم الطاغوت: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد (صلى الله تعالى عليه وسلم) محمدا، ثم قتل الشهيد الصابر.
وإن يوم الرجيع يدل على أمور ثلاثة:
أولها: ما كان من تحريض قريش من غدر وخيانة واستخدام أخس أنواع الخيانة.
وثانيها: أن قريشا لم يشتفوا لثاراتهم من بدر، وأنهم أنهوا الحرب في أحد غير مختارين، والا لبقوا حتى يأخذوا بكل ثاراتهم، وأنه قد جدت لهم في أحد ثارات أخرى.
وثالثها: أن العرب بسبب الدعاية التى قامت بها قريش من إشاعة أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم قد هزم قد وجد فيهم من يعمل لحسابها، ويرجو رضاها، ولم يكن شىء من ذلك بين بدر وأحد، ولكنه كان بعد أحد لإشاعة الهزيمة الكاذبة. والله أعلم.
(2/652)
سرية عمرو بن أمية ويوم بئر معونة
441- هذا يوم آخر بعد يوم الرجيع لاحق به، ويتجلى فيه الغدر، كما يتجلى فيه العمل من القبائل لحساب قريش، ويذهب في هذا اليوم نتيجة الغدر نحو أربعين من المؤمنين لا ستة ولا عشرة.
وإن هذا الغدر كان يبيت في مكة المكرمة، ويدبر أمره في قريش، وقبل يوم بئر معونة نذكر ما نواه أبو سفيان من غدر بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم ومحاربته له.
وهذا الخبر هو كما قال الواقدى: كان أبو سفيان بن حرب قد قال لنفر من قريش بمكة المكرمة، ما أحد يغتال محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم، فإنه يمشى في الأسواق، فيدرك ثأرنا، ومؤدى هذا أنهم إلى الآن لم يدركوا ثأرهم، وأنى يدر كونه؟ فأتاه رجل، وقال له: إن أنت وفيتنى خرجت له حتى أغتاله، فإنى هادى الطريق خريت، معى خنجر مثل خافية النسر، قال أبو سفيان: أنت صاحبنا وتفقه، وقال له: اطو أمرك، فإنى لا آمن أن يسمع أحد، فينميه إلى محمد، لا يعلمه أحد.
سار الرجل خمس ليال حتى وصل إلى المدينة فسأل عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فوجده في جماعة من أصحابه يحدث في مسجده، فلما رآه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أدرك بفراسة المؤمن وبإعلام الله أن هذا الرجل يريد غدرا، قال الرجل: أيكم ابن عبد المطلب. فقال الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم: أنا ابن عبد المطلب.
ذهب الرجل ينفذ ما دبر مع أبى سفيان ينحنى على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كأنه يساره، فتنبه بعض الصحابة وجذبه أسيد بن حضير وقال له: تنح عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وجذب داخل إزاره، فإذا الخنجر، فقال: يا رسول الله هذا غادر، فأسقط في يد الأعرابى، وقال دمى، دمى يا محمد، وأخذ أسيد بن حضير بلببه.
قال له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: أصدقنى ما أنت وما أقدمك، فإن صدقتنى نفعك الصدق وإن كذبتنى فقد اطلعت على ما هممت به.
قال الأعرابي: فأنا آمن؟ قال عليه الصلاة والسلام: وأنت آمن، فأخبره بخبر أبى سفيان، فوضعه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عند أسيد بن حضير فلما جاء الغد قال له: قد أمنتك، فاذهب حيث شئت، أو خير لك من هذا؟ قال: وما هو؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأنى رسول الله، فشهد الرجل الشهادة.
(2/653)
علم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما يدبر له في مكة، وما يريدونه منه، وقد انتقلوا من الحرب إلى الاغتيال، وبدا ذلك يوم الرجيع، ثم تبين أنه يبيت لشخصه الكريم في مكة.
فأرسل سرية لتعرف ما في مكة، وتفعل مع أبى سفيان ما كان سيفعله بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ، فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ (البقرة- 194) .
أرسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري، وكان فارسا فاتكا من فتاك العرب، قد آمن وحسن إسلامه، وسلمة بن أسلم، ليتعرفا أحوال مكة المكرمة، وليصيبا من أبى سفيان.
ذهبا إلى مكة المكرمة وصليا وطافا بالبيت.
وقد علم أهل مكة المكرمة بهما، وكان عمرو كما ذكرنا فاتكا في الجاهلية يخشى بأسه، فتجمعت الجموع لملاقاته، ولكنه تركهم، وقد عرف حالهم وما يدبرون، ولم يتمكن من أحد، وعاد وصاحبه، وقد تمكن هو من قتل الذين كانوا يتبعونه فرادى، فقتل بعضهم، وأسر بعضهم، وأتى بمن أسر للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان قد سبقه سلمة بن أسلم.
بئر معونة:
442- فى نفس هذا الشهر وهو صفر في السنة الرابعة من الهجرة وكان أمر هذه السرية أن أبا براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة قدم المدينة، فعرض عليه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الإسلام ودعاه إليه، ويقول ابن إسحاق «فلم يسلم ولم يبعد عن الإسلام، قال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد تدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إنى أخشى عليهم أهل نجد. قال أبو براء:
أنا لهم جار، فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك.
اطمأن النبى الكريم الحريص على تبليغ رسالة ربه، حينما وجد موطنا من موطن التبليغ، وخصوصا عند ما أعلن أبو البراء أنهم في جواره.
اختار النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لإمرتهم المنذر بن عمرو أخا بنى ساعدة، وكانوا كما روى ابن إسحاق أربعين، وكما روى البخارى سبعين. ولنترك الكلمة للبخارى:
(2/654)
قال: بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سبعين رجلا لحاجة يقال لهم القراء، فعرض لهم حيان من بنى سليم، رعل وذكوان عند بئر يقال له بئر معونة فقالوا: والله ما إياكم أردنا وإنما نحن مجتازون في حاجة للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فقتلوهم.
ويقول البخارى بروايته في أوصافهم وبيان أنهم طلبوا من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يمدهم بمن يعلمهم وإن رعلا وذكوان وعصية وبنى سليم استمدوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على عدد فأمدهم بسبعين من الأنصار، كنا نسميهم القراء في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنهار، ويصلون بالليل، حتى إذا كانوا ببئر معونة قتلوهم وغرروا بهم، فبلغ ذلك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فقنت شهرا يدعو في الصباح على أحياء العرب من رعل وذكوان وعصية.
ولقد روى أنهم قالوا وقد عملت السيوف فيهم «بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضى عنا وأرضانا» كانوا يعلمون الناس الإسلام، وقد بعثهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لذلك، ولذا نرجح أنهم ما كانوا مقاتلين، ولم يستمدوا على العدو، كما يفهم من الرواية الأولى للبخارى.
ولننظر من بعد ذلك إلى تفصيل الرحلة التى انتهت بالغدر المقيت عند الله وعند كل كريم.
ذهبوا كما أمرهم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم هداة مرشدين كما طلب أبو البراء، وأرسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مع المنذر بن عمرو كتابا إلى عامر بن الطفيل يبين فيه أنهم مبلغون لا محاربون، ولكنه إبان ذاك كان عدوا للمؤمنين، فلم يرع جوار ولا ذمة صاحبه في الشرك أبى براء الذى ما زال بالنبى حتى أرسل من أرسل وكان كارها ابتداء، ولكنه التبليغ الذى حمله سهل إرسال هؤلاء، ولم يكن الغدر متوقعا.
ولذلك قتل من أعطاه الكتاب.
ولقد ذكر البخارى في أخبار عامر بن الطفيل، أنه حسب النبوة ملكا، فخير النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بين ثلاث خصال بثلاث يكون للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أهل السهل، وله أهل المدر، أى يكون للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم الوبر في الصحراء، وله هو أهل القرى، أو أن يكون خليفة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، أو أن يغزو النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بغطفان.
كانت هذه حال عامر بن الطفيل إبان ذاك، وقد علم بالجوار.
ولم يكتف بذلك، بل استصرخ بنى عامر على أولئك المؤمنين، وقد علموا بجوار أبى البراء، فامتنعوا وقالوا: لن نخفر جوار أبى البراء وقد عقد لهم عقدا وجوارا.
(2/655)
فاستصرخ عليهم قبائل من بنى سليم عصية وذكوان ورعل فأجابوه إلى ذلك الغدر اللئيم، فخرجوا حتى غشوا المؤمنين، فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم حملوا سيوفهم، وقاتلوا، ولكنهم كانوا يقاتلون من أحاطوا بهم حتى قتلوا عن آخرهم كما ذكر.
ولم ينج منهم إلا كعب بن زيد أخو زيد بن النجار، فإنهم تركوه وبه رمق، فحسبوا أنه مات، وكان عمرو بن أمية الضمرى في سرح القوم ورجل من الأنصار.
وفرا من القتل، فأخبرا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. فقنت ثلاثين يوما لما أصاب رسله، صلى الله تعالى عليه وسلم.
443- تلك قصة بئر معونة في صفر، وبئر معونة بين مكة المكرمة والمدينة المنورة.
ونلاحظ في هذه القصة بعض أمور:
أولها: أن أبا براء ما كان مسلما، وربما له ميل إلى الإسلام ولكنه زعيم في قومه، ويريد أن يكون مع قومه، فلا يكرههم حتى لا ينفروا ولكن يريد الدعوة إليهم، حتى إذا استأنس بإسلامهم أعلن إسلامه واكتفى بأن جعل الدعاة إلى جواره.
ثانيها: أن الغادر عامر بن طفيل كان يعمل لحساب الشرك أو لحساب مكة، وما كان ليفعل لولا أنه وجد في قريش قوة، وهى ما أشاعوها من هزيمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم.
وثالثها: أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد أرسل إليهم مبلغين حفظة عبادا يحتطبون نهارا، ويقومون ليلا، ولم يرسل معهم أبطال حرب كالزبير وسعد بن أبى وقاص وعلى بن أبى طالب، وإن كان هؤلاء في عبادتهم وزهادتهم لا يقلون عن الأولين، لأنهم أسود فوارس بالنهار قوامون بالليل.
رابعها: أن هذه ثانى غدرة برسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، مبلغين ليغدر بهم، وكانت الأولى في يوم الرجيع، وهذه في بئر معونة.
فهل كان خدع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو قائد الأمة سهلا بهذا الشكل، فنقول:
لم يكن الخدع بعيدا عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو بشر كسائر البشر، يحتاط، وكفاه، وقد فرض الله سبحانه أن يخدع، والكريم المخلص يخدع، والخب اللئيم الذى يفرض الشر لا يسهل خدعه كالكريم الطيب الذى يفرض في الناس الخير، وقال سبحانه وتعالى في ذلك: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ، فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ. وَأَلَّفَ بَيْنَ
(2/656)
قُلُوبِهِمْ، لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ، إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
(الأنفال: 64- 63) .
ففرض أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد يخدع من الخب الغادر اللئيم.
وأن الرجل المؤمن الحكيم، - وقد أوتى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الحكمة وعلمها الناس-، يخدع من ناحية ما يريد وما هييء له.
وقد أحب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تبليغ رسالة ربه وهداية العرب إلى الوحدانية، وعبادة الله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له، وذلك عمله الذى بعثه الله تعالى له، وما كان قتاله إلا دفاعا. فالقتال لحماية الدعوة من الاعتداء، ولم يكن هدفا مقصودا لذاته، فإذا جاء من سهل له الدعوة استجاب، والحر الأبى لا يفرض الغدر ابتداء، ولكن يفرض الغدر حتما إذا كان الأمر من غادر.
وفي الحق أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم خدع في المرة الأولى لأنه رسول يريد تبليغ أمر ربه، قال تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ (المائدة- 67) فما كان له أن يتردد في إجابة من دعوه ليعلمهم الإسلام، وليقضى الله أمرا كان مفعولا.
هذا في يوم الرجيع، أما يوم بئر معونة، فما كان مخدوعا، بل كان يقظا، وخشى على من أرسلهم من خشونة أهل نجد، وجفوتهم، وأنهم أعراب غلاظ، وما وافق حتى عقد عهدا بالجوار، وكان مكتوبا بدليل أنه قدمه رسول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل فمزقه بسيفه، وبدليل أن بنى عامر رفضوا أن يصرخوا ابن الطفيل إذ استصرخهم حفظا للجوار.
ولكن الغدر والخيانة جعلاه يستصرخ بغيرهم، كما أصرخوه، وكان ما كان من قتل الأطهار العباد الزهاد الذين يحتطبون بالنهار، ويقومون بالليل.
ولقد أدرك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم غدر الغادرين، وربما ظن بقلبه الطاهر الربانى أنه لم يكن حريصا في إرسالهم، فقنت ثلاثين يوما استغفارا لربه، فما كان غير حريص، ولا مخدوعا في هذا.
وإنه مهما يكن الأمر في هذا، فإنه من المؤكد أن مسارعة عامر بن الطفيل لهذا الغدر، ما كانت إلا لإشاعة أن المؤمنين هزموا في أحد، فتكشفت قلوب الغادرين والمداهنين لقريش، الذين ظنوا فيهم القوة، والله ولى المؤمنين.
(2/657)
غزوة بنى النضير
444- أشرنا إلى أن غزوة أحد، والظن بأن المسلمين هزموا فيها أظهر حقدا دفينا، فى المنافقين واليهود، وما كانوا يترددون في إعلانه رهبة وخوفا أظهروه حقدا وطمعا.
ولما توالى الغدر بالمؤمنين لم يكن ليكف اليهود والمنافقين عن أن يقوموا بدورهم في الغدر، وهم على مقربة من المؤمنين، فهم أقدر، وغدرهم أنكى، لذلك أخذ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حذره منهم، وكان يترصد حركاتهم، وغدر غيرهم كان إرهاصا بغدرهم، وإظهار ما تنطوى عليه نفوسهم، وبدا غيظهم في أفواههم وغدرهم ظهر في بعض أعمالهم.
قتل عمرو بن أمية الضمرى اثنين قد أعطاهما الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم جواره، وكان القتل خطأ، فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لأدينّهما، أى لأدفعن إلى أهلهما الدية.
وكان الاتفاق الذى تم العهد عليه عند ما قدم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى المدينة المنورة أن يتعاونا في أداء الديات.
ذهب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى يهود بنى النضير، ومعه أبو بكر وعمر وعلى ليستأدى ما وجب عليهم من المعاونة في دية هذين القتيلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمرى خطأ.
فلانوا في القول، ولكنهم استخفوا غدرا، قالوا له: نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه.
ولاحظ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه خلا بعضهم إلى بعض، وتساروا في القول، وفراسة المؤمن مدركة يقظة، وكان الذى تناجوا به غدرا، وقال بعضهم لبعض: لن تجدوا الرجل على مثل هذه الحال.
وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هو ومن معه من كبار أصحابه، قالوا: فمن رجل يعلو على هذا البيت، فيلقى عليه صخرة فيريحنا منه، فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب، وقال: أنا لذلك، وصعد ليلقى الصخرة.
رأى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خلوتهم بعضهم ببعض وحركاتهم المريبة فأدرك أن في هذا شيئا يبيتونه، وقد رأى الغدر في يوم الرجيع وبئر معونة، فلا بد أن يكون قد تسارع ظن الغدر إليه صلى الله تعالى عليه وسلم، وخصوصا أن حركاتهم كثرت، وتأخروا عن الإجابة، وقد أعلم الله تعالى نبيه بما أرادوا من غدر، والله يكتب ما يبيتون.
(2/658)
والصحابة قد استطالوا الزمن، وركبتهم ظنون الغدر، وكما قال ابن إسحاق: استلبثوا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، أى اعتقدوا أنه لبث زمنا طويلا، فسألوا عنه رجلا مقبلا من المدينة المنورة داخلا المدينة.
أقبل أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى انتهوا إليه، فأخبرهم صلى الله عليه وسلم بحركاتهم، وبما كانوا قد أرادوا من الغدر.
إجلاؤهم:
445- لم يجيبوا داعيه إلى المعاونة التى يفرضها عليهم العهد الذى عاهدوا عليه، وأعطوه كلاما لينا، ودبروا تدبيرا خبيثا، وكان ذلك غدرا في العهد ابتداء، وما كان ليرضى أن يعيشوا معه، وهم ينقضون الميثاق الذى وثقه عليهم، ووفى به من جانبه صلى الله تعالى عليه وسلم، والمواثيق عهود فيها واجبات وحقوق متبادلة تلزم كل فريق، بمقدار ما يلزم الآخر، ولا يمكن أن يكون جوار حسن من غير عهود توفى، ومواثيق تربط بالمودة، أو بالوفاء، فكان الجلاء أمرا لا بد منه، وفوق ما علمه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من إرادة الغدر به، والقضاء عليه، فلم يكن لبقاء الجوار مكان، وكان على أخفهم حملا، وأقلهم عددا أن يرحل، ويترك الأرض لأهلها، يعيشون في أمن واستقرار فلا يعيش الثعبان بين ظهورهم.
بعث رسول الله يأمرهم بالخروج من جواره لنقضهم العهد أولا، إذ لم يعينوا في دية الرجلين ولأنهم هموا بالغدر ثانيا، وإذا كانوا يدعون أنهم لم يفعلوا مع علم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم اليقينى بذلك فإنهم يكفيهم نقض الميثاق في المعاونة، ولا سبيل لإقامتهم معه من غير وفاء بعهد وثقوه.
أرسل لهم محمد بن مسلمة أن يخرجوا، وأرسل إليهم عبد الله بن أبى بن سلول ينهاهم عن الخروج، وأنهم معهم، ولئن قوتلوا ليقاتلن معهم.
ويقول ابن كثير في تاريخه: بعث إليهم أهل النفاق يثبتونهم، ويحرضونهم على المقام، ويعدونهم النصر، فقويت عند ذلك نفوسهم، وحمى حيى بن أخطب، وبعثوا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ونابذوه بنقض اليهود.
أعلنوا بهذا نقض الميثاق جملة لا الجزء الخاص بالاستعانة في الديات، فكان هذا إعلانا للحرب من جانبهم. وما كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ليتركهم ينقضون العهد، ويهمون بالغدر في غير اكتراث بعهد ولا حسن جوار ويهمون بالقتال ولا يقاتلهم.
(2/659)
أمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالخروج إليهم، مهما يؤيدهم المنافقون سرا أو علنا، فجعل على المدينة ابن أم مكتوم، وكان ذلك في شهر ربيع الأوّل.
سار بمن معه من المهاجرين والأنصار فنزل بساحتهم فحاصرهم وتحصنوا بحصونهم، وقد أوهمهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه سيقطع نخيلهم ويحرقها فنادوه: أن يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيب من صنعه، فما بال قطع النخيل وتحريقها.
ويظهر أنهم توهموا ذلك، أو أوهموا لتضعف نفوسهم، ويهون عليهم الاستسلام، ولم يقطع ولم يحرق كما تدل الآية الكريمة التى بينت مالهم في سورة الحشر، وهى سورة جلائهم.
وقد ذكرنا أن المنافقين وعلى رأسهم عبد الله بن أبى قد بعثوا إليهم ابتداء بأنهم معهم ليثبتوا ويتمنعوا، فثبتوا وتمنعوا، وكان الحصار، وقد استمروا في غيهم، وقالوا لهم: لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم.
تربص اليهود ذلك من المنافقين، وصدقوهم، وتوقعوا أن ينصروهم، وهم بين المسلمين، فما فعلوا شيئا، فاضطرب أمر اليهود وانزعجوا، وقذف الله تعالى في قلوبهم الرعب.
عندئذ اضطروا لأن يعودوا ويقبلوا الجلاء الذى طلبه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من غير حرب ولا حصار، وإعنات، ولكن لم يرضوا بسبب تحريض أهل النفاق.
عادوا وطلبوا من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يجليهم، ويكف عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم.
أجابهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، فكان الرجل منهم يأخذ من بيته ما يخلع به بابه، فيضعه على ظهر بعيره، فينطلق به.
خرجوا إلى خيبر، حيث تجمعوا في حصونها مع بنى قينقاع، ومنهم من ذهب إلى الشام، فكان من أشرافهم الذين ذهبوا إلى خيبر ابن أبى الحقيق، وحيى بن أخطب، فكانوا لهم سادة، ودانوا لهم بالطاعة.
وقد نزل في بنى النضير، وما كان من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وما أمر الله تعالى نزل أكثر سورة الحشر، قال الله تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ، لِأَوَّلِ الْحَشْرِ، ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ، فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي
(2/660)
الْمُؤْمِنِينَ، فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ. وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ، فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ، وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ وقد حاصرهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأجلاهم في ست عشرة ليلة.
أحكام شرعية اقترنت بغزوة بنى النضير
446- أحكام شرعية ثلاثة اقترنت بغزوة بنى النضير، أو شرعت بعدها:
أولها منع التخريب:
وذلك أن النبي صلي الله تعالى عليه وسلم كان منه ما توهموا أنه سيقطع نخلهم بعد أن استطال حصارهم، فاحتجوا عليه صلي الله تعالى عليه وسلم بأنه نهي عن التخريب وعيبه، وكيف يقطع النخل مع هذا؟.
والحقيقة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لم يقطعه وإن هم بقطع النخل إفزاعا لهم، وتخويفا ليسارعوا بالاستسلام، وقد كانوا تحصنوا بحصونهم، ويرمون الحجارة من فوقها، وكان لا بد أن ينزلهم من صياصيهم، وهي الحصون، والآية الكريمة صريحة في أنه أمر بقطع الثمار، لا بقطع الأصول بل أبقي ما أبقى قائما علي أصوله كصريح الآية، ولو كان صلي الله تعالى عليه وسلم قد قطع الأصول ما بقي نخيل تقوم عليها ثمار.
ولبيان الموضوع كاملا نذكر الفقه فيه، وأساسه هذه الآيات التي تلوناها في واقعة الجلاء، أن النهي عن قطع النخيل والتخريب بشكل عام قد جاء في وصية أبي بكر الصديق لبعض جنده، وما كان أبو بكر إلا متبعا للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وها هى ذى: -
روى الإمام أحمد في مسنده أن أبا بكر بعث الجيوش، وبعث يزيد بن أبي سفيان أميرا، فقال وهو يمشى ويزيد راكب: إما أن تركب، وإما أن أنزل، فقال الصديق: ما أنا براكب، وما أنت بنازل، إني أحتسب خطاى هذه في سبيل الله، إنك ستجد قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم في الصوامع فدعهم وما زعموا، وستجد قوما قد فحصوا أوساط رؤوسهم من الشعر، وتركوا منها أمثال العصائب، فاضربوا ما فحصوا بالسيف، وإني موصيك بعشر: لا تقتلن امرأة، ولا صبيا، ولا كبيرا هرما، ولا تقطعن شجرا مثمرا ولا نخلا ولا تحرقها، ولا تخربن عامرا، ولا تعقرن شاة أو بقرة إلا لمأكلة، ولا تجبن ولا تغل» .
(2/661)
هذه توصية أبى بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولا بد أن تكون بهدى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولذلك ننفى أن يكون النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد قطع نخيل بنى النضير، فمحال أن يكون النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أمر في موضع، وأبو بكر ينهى بإطلاق، ولأن القرآن الذى نزل في واقعة الجلاء لم يذكر قطع النخيل، وهى الأصول بل الذى فيه أنه قطعت ثمار، وبقيت أخرى على أصولها قائمة.
ولكن مع ذلك لما اشتدت لجاجة الحروب بين المسلمين والمشركين أو الكفار بشكل عام اختلفت الفقهاء في جواز التخريب في أرض العدو من قطع أشجار، وتهديم بنيان، وذبح الحيوان لغير مأكلة، أو إهلاكه بشكل عام.
فكثيرون من الفقهاء أجازوه، لأن الحرب لا تبقى ولا تذر، ولأنه إذا أبيحت الأنفس، فكيف يصان ما عداها وهو دونها، ويستندون في ذلك إلى أخبار نسبت للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم في غزواته.
أولها: وهو في قصة بنى النضير أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أمر بتخريب بنى النضير، وقال الله تعالى في ذلك يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ.
ثانيها: أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أمر بأن يحرق قصر مالك بن عوف، وقد كان أميرا لجيش المشركين في الطائف، ورمى بالمنجنيق حصنا للطائف.
ثالثها: أنه عليه الصلاة والسلام أمر بقطع كروم العنب لثقيف في الطائف، وقد ذكر في المغازى أنهم عجبوا عند إرادة قطعها، وقالوا: «كيف نعيش بعد قطعها» .
هذه حجج الأكثرين من الفقهاء الذين قالوا ما قالوا تحت سلطان لجاجة الحروب وشدتها، وعدم تحرجها من قبل المشركين.
أما الفريق الآخر من الفقهاء وإن لم يكونوا الأكثر فقد تمسكوا بقول الصديق الذى لا يمكن أن يخرج عن قول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ولا عن عمله، فمنعوا التخريب، وعلى رأس هذا الفريق فقيه الشام الأوزاعى، فقد قرر أنه لا يجوز التخريب إلا إذا ألجأت إليه ضرورة حربية، كأن يتحصن المحاربون بحصن ولا يمكن الوصول إليهم إلا بهدمه، أو تكون الأشجار غابة كثيفة، قد اتخذوها مستترا يكمنون للمسلمين فيها، وينقضون عليهم من مساترها.
(2/662)
وإن الناظر إلى أدلة الذين أباحوا التخريب في غير ضرورة ملجئة، لا يجدها منتجة لإباحته بإطلاق فإن تخريب النبى لبيوت بنى النضير، لأنهم اتخذوها حصونا يقذفون منها الحجارة على المؤمنين، فكان لا بد أن تزال تلك الحصون دفعا للأذي، فكانت الضرورة ملجئة لذلك، وقد قرر الجميع أن الضرورة تقدر بقدرها.
وإن قصر عوف بن مالك كان قد اتخذه حصنا، وكذلك الحصون التى رميت بالمنجنيق في ثقيف، فما كان رميها إلا لضرورة حربية، لا للتخريب والإفساد.
أما ما هم به النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من قطع كروم العنب لثقيف؛ فلأنهم كانوا يتخذون منها الخمر، والخمر حرام، ويظهر أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يقطع، وإنما أمر فقط بالقطع، أو قطع قليلا لإفزاعهم، وذلك ليحملهم على التسليم بدل الاستمرار على القتال، وبذلك تحقن الدماء، ولذلك سلموا بمجرد أن رأوا المسلمين يعتزمون قطعها.
وإنه بمراجعة الشريعة في مصادرها من كتاب وسنة وآثار للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم وصحابته الكرام نجد أنها لا تدل على جواز التخريب، بل تمنعه.
ولنقف عند الآيات الكريمة التى تلوناها في قصة إجلاء بنى النضير، فنجد أن الآيات لا تبيح التخريب بإطلاق وفي كل الأحوال، وأن القطع الذى ذكره القرآن إنما هو في قطع الثمار لا في قطع الأشجار، وذلك في قوله تعالى: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها، فَبِإِذْنِ اللَّهِ (الحشر: 5) إلى آخر الآيات الكريمات التى تلوناها.
وذلك لأن اللينة المراد بها الثمرة، والمعاجم في اللغة تؤيد ذلك. لأن كلمة لينة جمعها لون وهو بالاتفاق نوع من ثمر النخل، ولأن الآية تخير بين قطع اللينة أو بقائها على أصولها. وذلك يقتضى أن تكون ثمرة قائمة على الأصول تبقى أو تقطع، والأصول النخيل، فلم يذكر في القرآن إباحة قطعها، ولأن الآثار الواردة في غزوة بنى النضير التى هى موضوع الآيات الكريمات تفيد أن الصحابة ما كانوا يقطعون النخيل، بل كانوا يقطعون الثمر.
فقد روى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم استعمل أبا ليلى المازنى وعبد الله بن سلام على نخيل بنى النضير قبل إجلائهم، فكان أبو ليلى يقطع العجوة، وهى تمر جيد، وابن سلام يقطع اللون وهو تمر ردىء، فقيل لأبى ليلى: لم قطعت العجوة؟ قال: لأنها أغيظ لهم، وقيل لابن سلام:
لم قطعت اللون؟ قال لأنى علمت أن الله تعالى مظهر نبيه ومغنمه أموالهم، فأحببت إبقاء العجوة، وهى خيار أموالهم، وإن قطع الثمار لا يعد تخريبا، لأنه سيكون مأكلة.
(2/663)
والذى ننتهى إليه بالنسبة لما يكون في الحرب من هدم وتحريق وتخريب أنه يستفاد من مصادر الشريعة وأعمال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فى حروبه: -
أولا: أن الأصل هو عدم قطع الشجر وعدم تخريب البناء، لأن الهدف من الحرب ليس إيذاء الرعية، ولكن دفع أذى الراعى الظالم. وبذلك وردت الآثار.
ثانيا: أنه إذا تبين أن قطع الشجر وهدم البناء توجبه ضرورة حربية لا مناص منها، كأن يستتر العدو به ويتخذه وسيلة لإيذاء جيش المؤمنين، فإنه لا مناص من قطع الأشجار، وهدم البناء، على أنه ضرورة من ضرورات القتال، كما فعل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في حصن ثقيف.
ثالثا: أن كلام الفقهاء الذين أجازوا الهدم والقطع يجب أن يخرج، على أساس هذه الضرورات، لا على أساس إيذاء العدو والإفساد المجرد، فالعدو ليس هو الشعب إنما العدو هم الذين يحملون السلاح ليقاتلوا.
غنائم بنى النضير والحكم العام في الغنائم كلها
447- كانت غنائم بنى النضير هى أوّل غنائم من أهل القرى من أرض، ونخيل، وحصون، فهى التى سنت ما يتخذ من حكم الاستيلاء على الأراضى: أوزع على المحاربين أم تكون محبوسة على مصالح المسلمين، فيكون لهم غلاتها، وتبقى تحت أيدى أصحابها، على ألا تكون أيديهم أيدى ملاك رقبة، بل ملاك منفعة على خراج يؤدونه.
ويقول الفقهاء: إن ذلك الخراج هو بمثابة أجرة للأرض قد استأجروها به، وإليك النص الذى جاء في هذه الأراضى:
قال الله تعالى عقب إجلاء بنى النضير، وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ، فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ، وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ، وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ، وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا، وَاتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً، وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ، وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ، فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
(2/664)
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ، وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (الحشر- 6: 10) .
ونجد هذا النص الكريم قسم ما أفاء الله تعالى به على رسوله والمؤمنين معه قسمين: أحدهما مالا يعد شيئا ثابتا أو أرضا، بل هو مال غير ثابت فالأمر فيه إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوزعه كما شرع الله تعالى له، وقد أشار إلى ذلك بقوله سبحانه وتعالى: وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ ويوزعه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بمقتضى أمره في قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ، فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ (الأنفال- 41) إلى آخر الآية الكريمة.
والقسم الثانى هو ما أفاء الله تعالى به من أهل القرى، وهو الأموال الثابتة من نخيل قائم وأرض زراعية.
وهذه قد جعلها الله تعالى لله وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.
وهنا يجيء البحث فيه: أتقسم الأراضى بين الغانمين وتخمس كما تخمس الغنائم، فيكون لله وللرسول وذى القربى واليتامى والمساكين الخمس، وأربعة الأخماس للمجاهدين.
رأى بعض الصحابة- وكان بلال أشدهم أن تقسم الأرض قسمة الغنائم، ورأى عمر وعلى وجمع من الصحابة أن تكون محبوسة غلاتها على مصالح المسلمين، وقد بدا ذلك الخلاف عند الاستيلاء على أرض سواد العراق، وقد جمع عمر الصحابة خارج المدينة المنورة، وأخذ يجادلهم ويجادلونه ثلاث ليال سويا، هو يحتج بألا يكون المال دولة بين الأغنياء، وقال إن الله سيفتح فارس ومصر والشام، فلو قسمت فماذا يبقى لسد الثغور وماذا يبقى للذرية.
وهم يعارضون بأنها غنائمهم، وأشد من يعارضه بلال وصحب له، فكان عمر الفاروق يقول:
اللهم اكفنى بلالا وصحبه.
وبعد ثلاث ليال أراد أن يحكم بينه وبين مخالفيه طائفة من الأنصار خمسة من الأوس وخمسة من الخزرج، فلما التقوا به ذكر لهم أنه ما أزعجهم إلا ليحكموا بينه وبين مخالفيه، وبعد أن عرض وجهة نظره من الوجهة المصلحية الاجتماعية، ذكر لهم أنه وجد قوله تعالى: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى إلى آخر الآيات، وفصل القول ووزع الأقسام التى تشتمل عليها الآية، وذكر أن الغلات أولا للمهاجرين، ثم للذين آووا ونصروا ثم للذين اتبعوهم ثم للذين جاؤا من بعدهم، يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا، وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ.
(2/665)
ولما تلا عليهم الآيات انقطع الخلاف. وصار الإجماع على أن تكون الأرض محبوسة لمنافع المسلمين بحكم هذه الآية.. ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى، فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ...
وأن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أعطى ثمرات أرض بنى النضير للمهاجرين ليرفع بذلك مؤنتهم عن الأنصار، إذ كانوا قد ساهموهم في الأموال والديار، ولم يعط مع المهاجرين من الأنصار إلا أبا دجانة وسهل بن حنيف لحاجتهما.
ومؤدى ذلك أنه وزع الأموال والثمرات على ذوى الحاجة وذوى القربى واليتامى والمساكين وفعل ذلك مع الذين اتبعوا من مهاجرين وأنصار، ثم من جاؤا بعدهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
تحريم الخمر
448- جاء تحريم الخمر في أعقاب غزوة بنى النضير، كما جاء في سيرة ابن إسحاق وصحاح السنة. وظاهر القول أن ذلك التحريم هو البيان الشافى لحقيقة الخمر الذى طالما دعا ربه إليه الرجل الذى ينظر بنور الله تعالى عمر بن الخطاب رضى الله تبارك وتعالى عنه، وهو قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ، فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (المائدة: 90، 91) وبذلك كان التحريم القاطع.
وإن القرآن الكريم والنبى الأمين عليه الصلاة والسلام لم يكن منهما ما أقر الخمر أو أباحها، إنما كانت موضع عفو قبل إعلان التحريم القاطع، فكل أمر يسكت القرآن الكريم عنه، وهو يتنافى مع معانى الإسلام، فإنه يكون محل عفو الله تعالى، ويقال: إنه عفو، ولا يقال: إنه مباح، فمرتبة العفو تقتضى أن يكون الأمر غير مستحسن في ذاته، ولا يرضى عنه الإسلام، ولا الخلق الإسلامى، ولكن لم يجيء النص بالتحريم فيكون موضع عفو حتى يجيء النص المحرم.
وتحريم الخمر قد جاء في القرآن الكريم على أربع مراتب.
أولها: بيان أنه أمر غير حسن في ذاته، وقد أشار سبحانه وتعالى إلى ذلك في قوله: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً (النحل- 67) . أى تتخذون منه مسكرا، وفي مقابل المسكر رزق حسن، ولا يمكن أن يكون مقابل الرزق الحسن حسنا مثله، فهذا النص يشير إلى استنكار الخمر، وأنها ليست أمرا حسنا.
(2/666)
الثانية: بيان أنها إثم ضار، وإذا كان فيها نفع فإثمها أكبر من نفعها.
ولذلك جاء الاستنكار المؤيد بالسبب، فقال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ، وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما (البقرة- 219) .
ومن المقررات في الشرائع والعقول أن الأمر الذى يكون ضرره أكبر من نفعه يكون محرما، إذ أن التحريم والإباحة والندب تناط بالضرر والنفع، فما يكون نفعه أكبر يكون مطلوبا، وما يكون ضرره أكبر، يكون ممنوعا، وإن الله سبحانه وتعالى خلق الأمور وقد اختلط نفعها وضررها، فلا يوجد ما هو نافع نفعا محضا، ولا يوجد ما هو ضار ضررا محضا، والعبرة بالكثرة والقلة، ويتفاوت الطلب بتفاوت المصلحة، ويتفاوت النهى بتفاوت المضرة.
فكان هذا النص دالا على التحريم، لكن بغير دلالة صريحة شافية، ولذلك كان الفاروق رضى الله تعالى عنه يقول: «اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا» .
المرتبة الثالثة: التربية على الامتناع من الخمر، بأن تتعود النفس التى مردت عليها التخلى عنها طول النهار وأطراف الليل، فإذا جاء التحريم القاطع الحاسم الشافى تكون النفس المؤمنة قد تربت على أن تنفطم عنها، فتنفطم بالأمر القاطع.
وذلك بقول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ (النساء- 43) إن الصلاة ركن الدين وعمود اليقين، ولا بد أن يقيموها، وهى مفرقة في أوقات النهار وزلفا من الليل.
فإذا كان الصباح لا يشربون حتى يقربوا صلاة الصبح وهم في صحو كامل، فيمرنون على ترك صبوح الخمر.
والنهار عمل لا لهو فيه، ولا خمر، بل أمر جد، وإذا جاء الزوال لا يقربون من الخمر، لأنهم يقربون من الصلاة، فلا يشربون حتى لا يقربوا صلاة الظهر وهم سكارى لا يعلمون، وكذلك العصر، وكذلك صلاة العشاءين، وبذلك يفوت عليهم شرب الخمر مساء فيفوت عليهم الغبوق كما فات عليهم الصبوح.
ولا يكون لهم إلا ما بعد العشاء، وإن بعد العشاء يكون النوم بعد الكد واللغوب.
المرتبة الرابعة: التحريم القاطع بعد أن أدركوا أنها شيء غير حسن. وبعد أن أدركوا أن ضررها أكبر من نفعها، وبعد أن مرنوا على الاستغناء عنها بعد أن ألفوها. وصارت خلب أكبادهم، ونبع نفوسهم،
(2/667)
ولذلك نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (المائدة- 90) وقد كان التحريم مشددا ذاكرا سبحانه وتعالى حكمته بأنها توقع العداوة والبغضاء، وقد ذكرنا ما كان بين على وعمه حمزة، لولا أنهما من بيت النبوة وكنفها، وأنها تصد عن ذكر الله لأنها تضعف صوت الضمير، وتجعله في غفوة، فلا يدرك الخير، وهى تصد عن الصلاة، وحسبها هذه الأمور شرا.
وهنا نلاحظ أنه كان ذلك الإصلاح الاجتماعى بعد الحرب، لأن المجتمع الفاضل يجب أن يحمى نفسه من العدو والمهاجم المردي، ويحمى نفسه من الماثم الداخلية، فكان جهاد النفس في محاربة الخمر وإجلاء شيطانها بعد محاربة اليهود، وإجلائهم، فاجتمع الجهادان.
أثر غزو بنى النضير في يهود
449- ذكرنا بنى النضير، وكيف أظهروا ما كمن في نفوسهم من شر، وهموا بقتل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، حتى اضطر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لإجلائهم، لأنه لا يعيش والحيات والأفاعى بجواره، ينقضون العهود والمواثيق، ويريدون فرصة للانقضاض عليه، لينتهزوها.
وإن اليهود في ماضيهم وحاضرهم لا يؤمنون إلا بالقوة، فإن رأوها خضعوا وذلوا، ونافقوا، وربما يكون منهم من تهديه صدمة القوة إلى الحق.
ولم يكن بالمدينة المنورة من اليهود إلا بنو قريظة، فأرعدوا في أنفسهم، وكان منهم من يفكر في الرجوع إلى الذى يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.
كان منهم رجل ديان باليهودية، وهو عمر بن سعدى القرظي، فأقبل على أرض بنى النضير بعد جلائهم، فلما طاف بمنازلهم ورأى خرابها، وقد صارت يبابا ليس بها داع ولا مجيب.
فهداه ما رأى عليه حال إخوانه إلى أن ينظر في التوراة، وما فيها من صفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ومال قلبه لأن يعلن ما كتموه، وأن يظهر ما أخفوه، وقد بدت العبر.
التقى بقومه من بنى قريظة وقال لهم:
رأيت اليوم عبرا، قد عبرنا بها، ورأيت منازل إخواننا خالية بعد ذلك العز والمجد والشرف الفاضل، والعقل البارع، قد تركوا أموالهم، وملكها غيرهم، وخرجوا خروجا ذليلا ... وأوقع ببنى قينقاع، فأجلاهم وهم أهل عدة وسلاح ونجدة، فحصرهم، فلم يخرج إنسان منهم وأسر باقوهم، حتى سباهم، وكلم فيهم، فتركهم على أن أجلاهم من يثرب.
(2/668)
يا قوم: قد رأيتم ما رأيتم، فأطيعوني، وتعالوا نتبع محمدا، والله إنكم لتعلمون أنه نبى قد بشرنا به ...
فأسكت القوم، ولم يتكلم أحد إلا كعب بن أسد.
قال له: ما يمنعك يا أبا عبد الرحمن من اتباعه؟ قال: أنت يا كعب. قال: فلم وما حلت بينك وبينه قط؟!.
وقال بعض اليهود الحاضرين: «بل أنت صاحب عهدنا وعقدنا، فإن اتبعته اتبعناه، وإن أبيت أبينا» كان ذلك التفاؤل من اليهود بعد أن رأوا ما كان لبنى النضير، ثم ما كان من قبل لبنى قينقاع، فهز ذلك أعصابهم، وحملهم على التفكير فيما بين أيديهم، وما عندهم من كتاب، أصابتهم حيرة بلا شك، فأمامهم حق عرفوه، وإن لم يذعنوا له، وما عليهم من تعصب ينأى بهم عن الحق، وما يحسبون أو يرجون في أعدائه من أن يكون لهم غلب، وبذلك يجزيء عنهم، ويأمنون جانبه، ثم ما أفزعهم مما رأوا فى إخوانهم من بنى قينقاع وبنى النضير.
جعلهم حب الذات، وهو ديدنهم أن يفكروا ويعتبروا بما كان، وما من طمع بأن يكفيه أمره غيرهم فيكونوا نظارة يرون ما يسرهم من غير أن يضاروا، وذلك شأنهم دائما، يتقون الأذى بسيوف غيرهم، ولا يحملون هم السيوف ما وجدوا إلى ذلك سبيلا.
ولقد انتهى ترددهم بأن أصروا على كفرهم. وألقوا حبالهم مع المشركين من كفار قريش.
وكانت التدبيرات معهم. وقد ظهر ذلك أشد ظهور في معركة الخندق. إذ تحالفوا مع المنافقين والمشركين، على أن يضربوا من الأمام بأيدى المشركين ومن الخلف بأيدى اليهود. وفي الوسط اليهودى يوهنون ويفسدون ويدلون على عورات المؤمنين، ولنترك القصص للحوادث يتبع بعضها بعضا.
غزوة ذات الرقاع
450- ذات الرقاع بقعة فيها نخل، وقيل سميت ذات الرقاع، لأن الألوية كان فيها رقاع، وقيل غير ذلك، فقيل أنهم كانوا يربطون على أرجلهم الخرق والرقاع من شدة الرياح.
كانت هذه الغزوة في آخر جمادى من السنة الثالثة.
وكان الاتجاه في هذه الغزوة إلى بنى محارب، وبنى ثعلبة من غطفان، وخرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في أربعمائة مقاتل.
(2/669)
وذلك لما كان من عامر بن الطفيل، وقتل أكثر من سبعين والقراء من المؤمنين خديعة وغدرا مما يدل على الاستهانة بالرسول وجيشه بعد غزوة أحد التى ادعى فيها بغير الحق هزيمة المؤمنين وإشاعة ذلك فى الصحراء ليستردوا هيبتهم، ويحرضوا العرب على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من المؤمنين.
وكان لا بد للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم من أن يعلن قوة الإيمان، وأن يقتص من الذين قتلوا الأبرار الأتقياء من أصحابه غدرا وخيانة.
خرج إليهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في أربعمائة رجل كما ذكرنا، فوجد جمعا عظيما من غطفان، فلما تراءى الجمعان تهيب كل صاحبه، ويقول ابن إسحاق خاف الناس بعضهم بعضا، ولم يكن قتال، فلم ينل محمد صلى الله تعالى عليه وسلم منهم، ولم يقتص لأولئك الأبرار الذين قتلوا خيانة وغدرا.
ولكنهم إذا كانوا لم يقتصوا منهم لكثافة عددهم وكانوا عددا كبيرا وبعد الشقة بين موضع القتال والمدينة، فإن النبى عليه الصلاة والسلام قد أرهبهم، واسترد ما كان للجيش الإسلامى من هيبة، وذهبت سورة ما أنشأته قريش لنفسها..
وفوق ذلك، ارتاد البلاد العربية، وتعرف مداخلها، ثم أشار لقريش إلى أنه يرصدهم كل مرصد، ويتتبع متاجرهم إن أراد، وما كان الدخول في معركة يشك في نتيجتها خيرا من أن يصل إلى الأمور من غير حرب، وأما القصاص لأولئك الأبرياء الذين ذهبوا في غدر دنيء، وخفر للعهد لا يرضى عنه عربي، ولا يقبله من له مروءة، فإن أمر ذلك إلى الله، والمستقبل القريب، وإن ربك لبالمرصاد، وما كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لينتقم إذا استجابوا لله وآمنوا بما أنزل على الرسول.
صلاة الخوف
451- كانت الأهبة للحرب من جانبهم عنيفة شديدة، وإن كان الله تعالى قد ألقى في قلوبهم الرعب، وكان على المؤمنين أن يحذروهم، ولقد كان المشركون يتفاهمون فيما بينهم على أن ينقضوا على المسلمين إذا حان وقت صلاتهم، وهم يعلمون، وجرى على ألسنتهم أن الصلاة أحب إليهم من كل شيء، فكانوا يطمعون أن يصيبوا منهم غرة وقت صلاتهم، ولكن الله تعالى قد علم جنده الحذر، فقال عز من قائل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ (النساء- 71) .
(2/670)
ولذلك شرعت صلاة الخوف لمثل هذه الحال، ونزلت آية شرعيتها في هذه الغزوة، فقال تعالت كلماته: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا، إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً. وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ، فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ، وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ، وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا، فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ، وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ، وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ، فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ، وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً. فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً، وَعَلى جُنُوبِكُمْ، فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ، فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ، إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً. وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ، إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ، وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (النساء- 104) .
ويظهر أن الآيات الكريمات قد نزلت في وقت ذلك اللقاء بين المؤمنين والمشركين الذى كان فيه الحذر من الجانبين، وهذه الآيات تدل على أحكام شرعية.
أولها: قصر الصلاة الرباعية لأجل السفر أو الخوف ودل على ذلك قوله تعالى: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ.
وثانيها: أنها ثبتت صلاة الخوف بها، وظاهرها الذى تدل عليه أنه يصلى ركعتين، وليحرم الجميع بالصلاة معه، ولكن تجيء طائفة منهم النبى بأسلحتها، ولتصل معهم ركعة، والطائفة الآخرى تحرس المصلين مع تسلح المصلين أنفسهم، فإذا أتم الركعة مع هذه الطائفة، تأتى الطائفة الآخرى، مع أسلحتها، ولتأخذ حذرها، ويصلى صلى الله تعالى عليه وسلم الركعة الثانية مع الطائفة الآخري، ويسلم صلى الله تعالى عليه وسلم عند كمال صلاته.
ومن بعد ذلك تصلى كل طائفة الركعة الباقية لها مع بقاء الآخرى حارسة، فالطائفة التى ابتدأت الصلاة مع النبى تكون ركعتها لاحقة لأنها الثانية، والطائفة الآخرى التى جاءت الأولى تصلى مسبوقة، لأن مافاتها هو الركعة الأولى.
ونلاحظ في صلاة الخوف:
أولا- أنها ركعتان، وروى أنها كانت الأربع في حال الخوف من غير سفر، وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكذلك كل إمام يقسم المسلمين فرقتين إحداهما تحرس، وقد أحرمت للصلاة، ويصلى بالآخرى- وإن ذلك يقتضى الحراسة الدائمة، مع عدم الانقطاع عن الصلاة.
(2/671)
وثانيا: أن الصلاة تكون بإمامة القائد، أو من يقوم مقامه ليكون الجمع بين الصلاة والإمامة أى تكون الصلاة جماعة.
وثالثا: أن ينتفع الجميع بفضل الجماعة فإن فضل الجماعة ينالها الملاحق، وهو الذى يقطع الصلاة بعد الدخول فيها، ثم يتمها، والمسبوق، وهو يتأخر دخوله فيها، ثم يعيد ما سبق به. وله فضل الجماعة.
وقد روى ابن هشام عدة روايات في صلاة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في الخوف وقد تعددت هذه الصلاة في مواطن كثيرة، ولبها واحد.
فقد روى عن جابر بن عبد الله قال: «صلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بطائفة ركعتين ثم سلم، وطائفة مقبلون على العدو، جاؤا فصلى بهم ركعتين أخريين» .
والآية تنطبق على هذه الرواية ولا تخرج عما قلنا، بيد أن الرواية تدل على أن النبى صلى بهم أربعا، وكل صلى ما فاته. وروى عن جابر أيضا قال: صلى بنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فركع بنا جميعا، ثم سجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وسجد معه الصف الأوّل فلما رفعوا سجد الذين يلونهم بأنفسهم، ثم تأخر الصف الأوّل، وتقدم الصف الثانى حتى قاموا مقامهم، ثم ركع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بهم جميعا، ثم سجد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وسجد الذين يلونه معه، فلما رفعوا رؤوسهم سجد الآخرون بأنفسهم فركع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بهم جميعا، وسجد كل واحد منهم بأنفسهم سجدتين.
وإننا نرى في عبارة هذه الرواية اضطرابا، ولا نرى أن الآية تنطبق عليها، والأولى أحق بالأخذ، وعليها الفقهاء الأربعة.
وتدل الآيات السابقة على أن الصلاة لا تسقط في سفر أو حضر، ولا أمن ولا خوف.
وأنها في الخوف والسفر قد تقصر، أو تكون بالإيماء، ولكن لا تسقط، لأنها ذكر الله، ويجب أن يكون العبد قائما به في كل حال، ولو على الجنوب.
وإنه إذا كان الأمن والاطمئنان يجب أن تقام الصلاة كاملة مقومة على وجهها بركوعها وسجودها. والائتمام الكامل والجماعة الكاملة كما قال تعالى: فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ، إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (النساء- 103) أى معينا في مواقيته، لا يجوز التخلف عنها في أى حال، ولا عذر في تركها، لأنها مخاطبة العبد لربه، وذلك هو الدين القيم.
(2/672)
فى ذات الرقاع:
452- إذا كانوا قد غدروا بالسبعين قارئا، وقد أمنوهم، فقتلوهم وقد جاؤا بأمان مكتوب فمزقوه وفجروا بقتلهم، ولم يرعوا إلا ولا ذمة، إذا كانوا قد فعلوا ذلك، فقد كان منهم من أراد أن يرتكب ما هو أشد من ذلك غدرا، وأبعد أثرا، وأفجر فعلا.
فقد روى ابن إسحاق بسنده أن رجلا اسمه غورث بن الحارث من بنى محارب، قال لقومه:
ألا أقتل لكم محمدا؟ قالوا: وكيف تقتله؟ قال: أفتك به، فأقره الغادرون، وأعادوا غدرهم جذعا، وكانوا الغادرين في العرب، ولم يكونوا الشجعان الأبطال.
أقبل الرجل إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو جالس آمن وسيفه في حجره، فقال الرجل: يا محمد انظر إلى سيفك هذا؟
فجعل الرجل يهز السيف، ويهم به، فكبته الله، ثم قال: يا محمد، أما تخافنى؟ قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: لا، يمنعنى الله تعالى منك.
هذه رواية ابن إسحاق، وفي الصحيحين عن جابر أنه غزا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم غزوة نجد، أى ذات الرقاع، فلما قفل راجعا أدركته القافلة في واد كثير العضاة، فتفرق الناس يستظلون، وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تحت ظل شجرة، فعلق بها سيفه، قال جابر فنمنا نومة، فإذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يدعونا، فأجبناه، وإذا عنده أعرابي، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن هذا اخترط سيفي، وأنا نائم، فقال من يمنعك منى قلت الله، فشام السيف وجلس، ولم يعاقبه» .
وفي رواية مسلم زيادة، وهى عن جابر: «أقبلنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، حتى إذا كنا بذات الرقاع، وكنا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فجاءه رجل من المشركين وسيف رسول الله معلق على شجرة، فأخذه فاخترطه، وقال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «تخافنى؟ قال: لا، قال: فما يمنعك منى؟ قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الله يمنعنى منك.
ويروى أن السيف سقط من يد الرجل فأخذه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال: من يمنعك منى فقال الرجل خاضعا: كن خير آخذ، قال تشهد أن لا إله إلا الله، قال: لا، ولكن أعاهدك على ألا أقاتلك، ولا أقاتل من يقاتلونك، فخلى سبيله، فأتى أصحابه، وقال: جئتكم من عند خير الناس.
(2/673)
وتعدد الروايات لا يمنع صدقها، وهى يتمم بعضها بعضا، ولا اختلاف بينها، وكلها يذكر أنها كانت في ذات الرقاع.
وإذا كانت قد ذكرت في غيرها، فإن ذلك دليل على تكرارها، ولا تنافى بين الروايات.
وقد ذكرنا هذه القصة لأمرين:
أولهما: ما انحدر إليه بعض المشركين من أخلاق تتنافى مع مراعاة الجوار والمروءة، وفيها إرادة الغدر والقتل من غير مواجهة، وكيف استباحوا ذلك بالنسبة للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم كفرا وفسوقا وعنادا.
ثانيها: أن ذلك بلا ريب فيه أمر خارق للعادة، لأن السيف تنقبض عليه اليد في وقت إرادة الضرب ثم يسقط من يده على غير إرادة منه، وقد اعتزم الشر وبيته ودبره، فلما حانت ساعته، خانته يده، وقد كان ذلك من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في أمور كثيرة، ولكن لم يجعلها دليل نبوته، ولم يتحد بها العرب، بل تحدى بالقرآن وحده، لأنه ما جاء بالخوارق الحسية، كعصا موسى وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك من الحوادث التى تنقضى بمجرد وقوعها، بل كانت معجزته باقية، لأن رسالته باقية، لا تنقضى بزمانها، وهى القرآن الباقى الخالد الذى يتحدى الناس في كل جيل وفي كل مكان.
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (الإسراء- 88) .
(2/674)
النبى بين أصحابه
453- شغلتنا أخبار الغزوات والسرايا عن النواحى الأدبية التى كانت بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وصحابته والتى كانت تربط القلوب بالمودة الراحمة، فقد كان رؤفا رحيما، يعين المحتاج ويواسى الضعيف، وما كان ليخرج بهم إلى ميادين القتال، إلا وهم يشعرون برحمته، ومودته فكان نبى المرحمة ونبى الملحمة، ولا بد قبل الملحمة من المرحمة، فإن النصر وسيلته الرحمة بالجند والرعية، ورعاية العشير لعشرائه.
رأى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جابر بن عبد الله قد تأخر عن الرفاق، إذ هم يمضون وهو متخلف عنهم، وكان سبب تخلفه عن الركب أن جمله ضعيف، فسأله مالك؟: قال يا رسول الله أبطأ بى جملى هذا، فقال له محمد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنخه، وقطع جابر عصا من شجرة بأمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فأخذها ونخسه بها نخسات ثم قال لجابر:
اركب، فركبه، وقال جابر: والذى بعثك بالحق يواهق ناقته مواهقة، أى يسارعها ولا يبطؤ.
هكذا كانت مراعاة القائد لجنده، يتتبع الضعيف فيقويه، والمتخلف فلا يتركه حتى يسير معه ببركة الله، وما سقنا الخبر لذلك فقط، بل سقناه لهذا، ولأنها بركة بأمر خارق للعادة.
وإن حديث الجمل لا ينتهى بذلك، بل إن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يبتاع الجمل، فيريد أن يهبه له جابر، فيأبى إلا الشراء، ثم يساومه، طلبه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بدرهم فأبي، فزاده إلى درهمين فأبي، فما زال يزيده حتى جعل ثمنه أوقية من ذهب، ولكنه يهبه للرسول، بعد أن ساوم هذه المساومة.
وإذا كان قد تعرف حال صاحبه وهو في السفر، فلا بد أن يؤنسه ويعينه، ويتعرف حاله. فسأله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قائلا: يا جابر، هل تزوجت؟ قال: نعم يا رسول الله. قال عليه الصلاة والسلام أثيبا أم بكرا، قال: لا بل ثيبا. قال عليه الصلاة والسلام أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك. قال جابر: يا رسول الله إن أبى أصيب يوم أحد، وترك بنات له سبعا، فنكحت امرأة جامعة، تجمع رؤسهن وتقوم عليهن، قال له الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم العطوف الألوف: أصبت إن شاء الله.
ولكن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم لا يكتفى بذلك الود الراحم، بل إنه يقيم الوليمة لزواج صاحبه، فإذا وصل إلى مكان يبعد عن المدينة بنحو ثلاثة أميال اسمه صرار، نحر جزورا، يأكل هو وأهله.
كان ذلك والجمل في يد جابر.
(2/675)
فرأى إزاء تلك المحبة والمودة أن يرسل الجمل إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد وهبه له، فرده النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إليه، وأرسل معه ثمنه، وهو الأوقية من الذهب التى ارتضاها ثمنا له.
ولننقل كلام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لنرطب به أسماعنا، ونملأ به قلوبنا.
لما رأى الجمل قال: ما هذا؟ قالوا: هذا جمل جابر، فقال: أين جابر، فذهب إليه فقال الرسول الكريم صلى الله تعالى عليه وسلم: «يا ابن أخى خذ برأس جملك فهو لك» ودعا بلالا فقال له: اذهب بجابر. وأعطه أوقية ذهب.
ذكرنا هذه القصة لنعرف مودة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ورأفته بهم، وملاحظته وإدخال السرور على نفوسهم، وإذهاب العنت عنهم، لتكون منهم قوة في الأرض، فليست القوة، بالفظاظة والتحكم، إنما القوة بالمحبة والتراحم والتودد.
غزوة بدر الآخرة
454- فى نهاية غزوة أحد من قبل المشركين نادى أبو سفيان مهددا، أو واعدا بأن موعدكم بدر من العام المقبل. وما كان أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ليخافوا اللقاء، وقد أدوه في أعقاب قفول قريش.
ولذلك خرج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى بدر في شهر شعبان من السنة الرابعة فيلقاهم بمنى ولينتصف لجرحى أحد وشهداء المسلمين، وخصوصا سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب عمه وأخاه في الرضاعة. خرج في ذلك الميقات. وأقام على المدينة المنورة عبد الله بن عبد الله بن أبى بن سلول، أى ابن رئيس المنافقين ولم يكن كأبيه، بل كان برا تقيا، ومؤمنا صادقا. حتى إنه لما اشتد أمر النفاق، قال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: دعنى أقتل عبد الله بن أبى حتى لا يقتله مؤمن فيحنقنى. اختاره رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على المدينة، لمكانته في الإيمان وأهله، ولتبرأ نفسه من سقامها. وفي الوقت الذى كان يقيم فيه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عبد الله بن عبد الله بن أبى مقامه على المدينة، كان أبوه عبد الله بن أبى يثبط المسلمين عن الخروج للقاء قريش، فيروى عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم استنفر الناس لموعد أبى سفيان، وانبعث المنافقون يثبطونهم،
(2/676)
فسلم الله تعالى أولياءه، وخرج المسلمون وصحبه إلى بدر. وأخذوا معهم بضائع، وقالوا: إن وجدنا أبا سفيان، وإلا اشترينا من بضائع موسم بدر. خرج المسلمون كما ترى يتمنون أن يكسروا أنف الشرك.
خرج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى بدر ومعه نحو خمسمائة وألف، وقد خرج على نية لقاء العدو حتى نزل وانتظر ثمانى ليال، عساه يلقى قريشا بقيادة أبى سفيان كما وعد أو توعد، ولكنه لم يجيء في الميقات.
وأبو سفيان كان قد أراد الخروج على تردد، فخرج في أهل مكة، حتى نزل مجنة من ناحية الظهران، ولكنه مع خروجه ووصوله إلى ذلك المكان كان التردد لا يزال يسيطر عليه، خشية العاقبة، ولذا بدا له أن يعود من حيث نزح، وقال في سبب نكوصه لقومه:
«يا معشر قريش إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب ترعون فيه الشجر، وتشربون اللبن، فإن عامكم هذا عام جدب وإنى راجع فارجعوا» ... فكان أهل مكة المكرمة يسمون الجيش الذى خرج بقيادة أبى سفيان ثم عاد جيش السويق يقولون إنما خرجتم تشربون السويق.
ولعل هذه النظرة وذلك القول فيه لوم وتهكم، لأنهم خرجوا للقتال وعادوا من غير لقاء أو قرب منه. وإن هذا يدل على أن أبا سفيان تخاذل عن اللقاء، والسبب الذى استحله للعودة وهو الجدب كان قائما وقت الخروج فكان أولى أن يمنع الخروج، لا أن يوجبه. ولكنه فكر وقدر الهزيمة، وقد ذاق مرارتها في بدر، فاثر العافية، ورضى من الغنيمة بالإياب.
وأتى إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وهو بماء بدر بعض بنى ضمرة الذين كان قد وادهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في غزوة ودان التى غزاها، وقال للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم:
يا محمد أجئت للقاء قريش، وقد يوهم سؤاله أنه مال مع المائلين لقريش بعد أحد، وإشاعة قريش أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم هزم، وما كانت هزيمة.
قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «نعم أخا بنى ضمرة وإن شئت رددنا- أى ما كان بيننا وبينك من موادعة- وجالدناك حتى يحكم الله بيننا وبينك» .
قال: لا، والله يا محمد ما لنا بذلك من حاجة.
رجع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى المدينة، ولم يلق حربا، وكان النكوص من جانبهم وإن ذلك بلا ريب يزيل ما كانوا يرجونه من إشاعة الهزيمة ليوهنوا شأن النبى والمؤمنين في بلاد العرب، ويعلو شأنهم فيتهيبهم الناس دونه.
(2/677)
ولقد قال الواقدى إن جيش المؤمنين في مدة إقامته الليالى الثماني، اتجروا، إذ لم يجدوا قتالا، وكانت سوق تعقد في ثمانية أيام، فرجعوا في وفر مالي، وقد ربحوا من الدرهم درهمين، أى أنهم باعوا واشتروا وكسبوا فزاد رأس مالهم ضعفين. وهذا كما قال الله تعالى: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ، وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (آل عمران- 174) .
غزوة دومة الجندل
455- وهى مكان يبعد عن المدينة بمسيرة نحو خمس عشرة ليلة من ناحية الشام. وقد كانت سرايا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وغزواته، أكثرها في ناحية مكة المكرمة وما حولها، ونجد وما يقاربها. وفي هذه الغزوة اتجه ناحية الشام، ليكون ذلك إعلاما لقيصر الروم الذى كان يحكم الشام.
بأمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهذا الدين الجديد فيتعرف الحال والمال، فيكون ذلك تنبيها له ما بعده، كما سيجيء الأمر في الغزوات التى اتجهت إلى لقاء الرومان في حياة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
لذلك اتجه صلى الله تعالى عليه وسلم إلى دومة الجندل ليدنو إلى أدنى الشام من الصحراء العربية، ولأن دومة الجندل كان بها جمع كبير، وأنهم كانوا يشبهون قطاع الطريق. فيسرقون من يمر بهم وينتهبونه. ومع ذلك كان فيه سوق عظيمة. فكان لابد أن يغزوها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من المدينة المنورة في شهر ربيع الأوّل من السنة الخامسة، واستعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفارى.
ونرى من هذا أنه ما كان يخص نوعا، معينا من الرجال باستعماله في المدينة وهو غائب عنها، وفي ذلك إشعار للمؤمنين بأن الولاية حق لكل مؤمن من غير نظر إلى قبيل أو نوع من الرجال.
ندب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الناس، وخرج في ألف من المسلمين، وكان يسير بالليل. ويكمن بالنهار. ولعل الوقت كان صيفا، فكان السير ليلا أخف وأيسر، وعلى أى حال، فهو كتمان للمسير. والحرب خدعة، وكان يسير ومعه دليل من بنى عذرة، وهو هاد خريت.
لما دنا من دومة الجندل، وقد وصل الخبر إليهم، فتفرقوا فنزل بساحتهم، فلم يجد أحدا فأقام بها أياما، وبث سراياه، داعية إلى الإسلام بين الأقوام متعرفة فاحصة وقد أسلم على يديه من أسلم، ثم عاد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد شهر من خروجه.
(2/678)
النبى في المدينة
456- كانت غزوة بدر الآخرة في شعبان من السنة الرابعة، ثم كانت من بعد غزوة دومة الجندل في ربيع الأوّل من السنة الخامسة؛ فمكث الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم من غير غزو نحو ستة أشهر أو تزيد، فماذا كان يعمل؟
ونقول في ذلك: كان يقوم بحق التبليغ للرسالة، فما بعث محمد صلى الله تعالى عليه وسلم للقتال، ولكن بعث لتبليغ رسالة ربه، وما كان القتال إلا دفعا للذين يقفون في سبيل الدعوة، أو يكيدون للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وللمؤمنين، أو يريدون أن يفتنوا الناس عن الإسلام، فالقتال كان لحماية الدعوة، وهى الأصل، وبيان أحكام الله تعالى للعباد، هى تبليغ الرسالة والله تعالى يقول في كتابه العزيز:
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ، وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ (المائدة- 67) .
كانت إقامة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في المدينة في الفترات التى تكون بين الغزوات لبيان حقائق الرسالة المحمدية، والأحكام الشرعية، وتعليم المؤمنين ما يدعو إليه ربهم، وتحفيظهم ما يتيسر لهم من حفظ القرآن بحيث يحفظه مجموعهم، ويحفظ بعضهم كله كزيد بن ثابت. فكان عمله عليه السلام في فترات السلم تبليغ ما أمره الله تعالى به، وبيان الطريق لتنفيذه وتطبيقه، وتعليم الناس ما لا يمكن معرفته إلا بالتدريب عليه.
لقد رأينا بعد غزوة بنى النضير نزول القرآن بتحريم الخمر، فالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، يتولى تنفيذ ذلك التحريم، ببيان العقوبات الزاجرة المانعة من الشرب، فقد جيء له بشارب، فضربه بالنعال أربعين بنعلين، فكانت ثمانين، فاعتبر كثيرون من الصحابة حد الخمر ثمانين، وشدد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في المنع، فقال في شارب الخمر: إذا شرب، فاضربوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاقتلوه.
وجاء قوم يقولون إنا بأرض برد نستدفيء بالخمر، فنهى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عن شربها، فقالوا إنهم لا يمتنعون، قال: فقاتلوهم. وبذلك بين لهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أحكام الشرع، ودربهم على تنفيذ ما أمر الله به، وما نهاهم عنه، ويقيم الحدود التى شرعها الله تعالى، ويحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه بما أنزل الله تعالى.
وقد بين لهم صلى الله تعالى عليه وسلم أحكام الزواج، وشرح لهم المحرمات، وعلمهم الفرق بين ما هو سفاح، وما هو نكاح، وما للرجل على امرأته، وما عليه من حقوق، وبين أحكام الملكية
(2/679)
الخاصة، وبجوارها الملكية العامة، وما على الآحاد من الناس من حقوق، وما عليه من واجبات، ويتلقى الذين جاؤا إليه ليتعلموا الإسلام. ويرسل إلى كل عشيرة أو قبيلة من يعلمها أمر دينها، ويتحقق بذلك قوله تعالى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ (التوبة- 122) . فهو يرشد ويهدى بنفسه من يجيئون إليه. ومن هم قريبون منه، ويرسل رجاله إلى من يرشدونهم ويتلقى القرآن، من لدن حكيم عليم، ويأمر من بحضرته ممن يحسنون الكتابة أن يكتبوا ما ينزل به الروح الأمين.
ويعلمهم صلى الله تعالى عليه وسلم أحكام البيوع والشروط، والمعاملات والديون وما يتعلق بها، وغير ذلك من الأحكام التى تنظم الجماعة الإسلامية وتكون منها المدينة الفاضلة، وهو في هذا يبلغ رسالة ربه.
(2/680)
غزوة الخندق
457- كانت غزوة دومة الجندل في ربيع الأوّل من السنة الخامسة، وبعدها بستة أشهر كانت غزوة الخندق، إذ كانت في شوال من السنة الخامسة، وفي هذه الأشهر الستة كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يبلغ الدعوة، ويعلم المؤمنين مباديء الإسلام في المجتمع والفضيلة. والمعاملات المالية، وغير المالية، ويبث دعاته في البلاد العربية، وأخبارها تتجاوزها إلى ما وراء تلك البلاد، تسرى فيها كما يسرى النور، وهو آمن مطمئن، لم يزعجه غاز يغزو مدينته، ولا غادر يغدر به في دعوته الحق، يجيئه المؤمنون به فرادى من كل القبائل، ينضمون إلى صفوفه، أو يعودون دعاة إلى أقوامهم إن وجدوا فيهم.
وكان اليهود من بنى خزاعة بجواره، قد يكيدون له، وإن كانوا لا يظهرون، يمالئون الأعداء، ويتضافرون مع المشركين ممن يرسلونهم من بنى النضير الذين أجلوا، فهم جميعا ملة واحدة في الكيد للمسلمين وإرادة اقتلاعهم، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يسالمهم، ويحذرهم، يخادعونه، والله خادعهم.
ونوجه الأنظار إلى أن الغزوات المحمدية ما كانت تتجاوز شهرا في سيرها، وذلك قليل في عمر الدعوة الإسلامية. وهى كأمر يعرض فيدفع، ثم ينصرف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى تبليغ رسالة ربه. وبيان شرعه والدفاع بالحجة والبرهان عن العقيدة والرسالة أمام اليهود، وأمام المشركين لا يألو جاهدا، فهو يجادل ويبلغ ويعلم، ويحفظهم القرآن ويعلمهم الحكمة، فيرددون أحاديثه، وينقلون أعماله، والرسالة يتكامل تبليغها.
كيف كانت غزوة الخندق وأسبابها:
458- إن السياق التاريخى للوقائع يشير إلى أن القرشيين تضعضعت نفوسهم ويظهر أنهم ما كانوا ليقدموا على حرب وحدهم، خشية من محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من جند أشداء فقد مكثوا لا يقاتلونه ولا يذهبون سنتين كاملتين. وإن كانوا يشجعون عليه غيرهم من غطفان وغيرهم، ممن غدروا وخانوا، وهم كانوا يهابون لقاء المؤمنين الأشداء الذين يطلبون الحياة من وراء الموت، ولا يضنون بنفوسهم على الاستشهاد.
كل قبيلة من الأعداء كانت تخاف المؤمنين وحدها، وإذا كانوا قد اجتمعوا على الشرك والكفر فإنهم أرادوا أن يجتمعوا على القتال، ينتفضون على المؤمنين مجتمعين، ويقتلعونهم من المدينة لتعود كما كانت دار شرك ويهود كما كانت أولا.
(2/681)
وإذا كانت الحاجة إلى نصر الشرك تدعوهم إلى الاجتماع، فقد أخذ كبار اليهود الذين طردوا من المدينة يدبرون لهم، ويدخلون في صفهم، فاجتمع ناس من بنى قينقاع، وبنى النضير، بالمشركين يحرضونهم على الاجتماع، وأن يكونوا معهم، والمنافقون يرونهم، وبنو قريظة من ورائهم، فكان اليهود مدبرين، أو مشتركين في التدبير.
قال ابن إسحاق بسنده «إنه كان من حديث الخندق أن نفرا من اليهود منهم سلام بن أبى الحقيق النضري، وحيى بن أخطب النضري، وكنانة بن الربيع بن أبى الحقيق، وهوذة بن قيس الوائلي، وأبو عمار الوائلى في نفر من بنى النضير، وبنى وائل.... وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقالوا إنا سنكون معكم عليه، حتى نستأصله.
قالت لهم قريش: يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأوّل، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه، قال اليهود أهل الكتاب الذين يدعون أنهم يتبعون التوراة: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق. وهكذا نرى حقدهم وعنادهم دفعهم إلى الكفر في دينهم، ولقد نزل فيهم قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (النساء- 51، 52) .
ولم يكتف هؤلاء اليهود بتحريض قريش الذين لم يكونوا محتاجين إلى تحريض، ولكن يحتاجون إلى من يؤازرهم، بل إن أولئك النفر من اليهود خرجوا إلى غطفان من قيس بن غيلان فدعوهم إلى حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وأخبروهم أنهم يكونون معهم، وأن قريشا قد تابعوهم. اجتمعت الأرض كلها، واجتمعت قريش، وغطفان، اجتمع هؤلاء ومعهم اليهود وغيرهم فخرجت قريش بقيادة أبى سفيان بن حرب.
وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن، وكان في بنى فزارة.
وبنو مرة وقائدهم الحارث بن عوف المرى.
وغير هؤلاء من القواد الذين كانوا يقودون جماعات.
اجتمع هؤلاء ومعهم قبائل من العرب، ليغزوا المدينة، وقد أمر الله تعالى نبيه بأن يقاتلهم كافة، وإنه لناصره كما قال تعالى: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (التوبة- 36) .
(2/682)
سمع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بمسيرهم، وجاءه الخبر بكثرة الجموع، وما دبروا، وما استحصدوا له.
وروى أن أبا سفيان أرسل مرعدا مهددا بهذه الجموع التى جمعها، وكتب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كتابا هذا نصه:
أما بعد ... فإنك قد قتلت أبطالنا، وأيتمت الأطفال، وأرملت النساء والآن قد اجتمعت القبائل والعشائر يطلبون قتالك، وقلع آثارك، وقد جئنا إليك نريد نصف نخل المدينة، فإن أجبتنا إلى ذلك، وإلا أبشر بخراب الديار وقلع الآثار.
تجاوبت القبائل من فزار ... لنصر اللات في بيت الحرام
وأقبلت الضراغم من قريش ... على خيل مسومة ضرام
وقد نقل هذا الكتاب في كتاب السيرة لابن جرير الطبرى.
وقد أكد هذا الكتاب ما وصل إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من أخبار ولم يجد تهديده لاعتماد النبى والمؤمنين على الله.
ورد عليه الصلاة والسلام كتابه قائلا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم
وصل كتاب أهل الشرك والنفاق، والكفر والشقاق، وفهمت مقالتكم، فو الله ما لكم عندى جواب إلا أطراف الرماح وأشفار الصفاح، فارجعوا ويلكم عن عبادة الأصنام، وأبشروا بضرب الحسام وبغلق الهام وخراب الديار، وقلع الآثار، والسلام على من اتبع الهدى.
ونشك في نسبة هذا الكتاب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لما فيه من السجع.
ومهما تكن قيمة الرواية، فإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مضى في الاستعداد.
فجمع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم صحابته، واستشارهم فيما يصنع مع هذه الجموع، لقد كانوا أكثر من أن يخرجوا إليهم، ولا أن يتركوهم يدخلون المدينة، وخصوصا أن بنى قريظة على مقربة من المؤمنين يدلونهم على عورات المسلمين، لا هذا ولا ذاك يصلحان للعمل، ولا بد من عمل يكون وقاية حتى يجىء نصر الله تعالى، وقد وعد به، فقال تعالى: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
(الروم: 47)
(2/683)
استشار أصحابه، فتقدم سلمان الفارسي، وأشار بالخندق، لأن ذلك كان يصنعه الفرس في حروبهم ليحولوا بينهم وبين القوى المهاجمة، وكان في زمن موسى عليه السلام.
اختار الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك الرأي، وهو جديد في العرب، قد تروعهم فكرته، ويفزعهم أمره، فأخذ في تنفيذه.
فجمع المسلمين ليحفروه، حتى إذا جاءت الأحزاب وجدوه حائلا بينهم وبين مأربهم.
حفر الخندق:
459- كان على أهل المدينة أجمعين أن يشتركوا في حفر الخندق، والنكبة في ذلك الهجوم العام تعم أهل المدينة أجمعين ولا تخص، فإن الشر إذا طم لا يفرق.
ولكن المنافقين يستأذنون في التخلف، ويعتذرون بالضعف، وما كان ضعف الأجسام، فالعذر فيه، إنما كان عذرهم في ضعف الإيمان.
ومنهم من استجابوا للدعوة، ولكنهم عند ما اشتدت الشديدة، أخذوا يتسللون لواذا، لأنهم لا يريدون أن يشتركوا في نصرة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ولو كان في ذلك إنقاذ للمدينة التى تؤويهم من أن تخرب بيد المشركين، ولقد قال سبحانه وتعالى فيهم:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً، قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً، فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (النور- 62، 63)
ومع ذلك تخلفت طائفة من المنافقين ابتداء. وذهبت أخري، ولكنها كانت أشد نكاية من الأولى لأنها كانت تخذل وتوهن قوة العاملين، إذ كانت تتسلل لواذا غير عاملة تثير الإحساس بالشدة.
وليشجعوا من يمكن أن تخور عزائمهم، والأمر صعب شديد.
تقدم المؤمنون الصادقون لحفر الخندق، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم معهم، يحفر ويشتد في الحفر، حتى يستر التراب جلد جسمه صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو لا ينى عن العمل بجد لاغب، ولا يقبل أن يعفيه المؤمنون، ولسان حاله يقول أنه ليس أقل منهم في طلب الجزاء، ولا أضعفهم.
(2/684)
كان حفر الخندق في ذاته عملا شاقا مجهدا، وقد أقبل عليه المؤمنون ببشر وترحاب، وكانوا ينشدون الرجز: والنبى يشاركهم بأن يقول معهم آخر كلمات الرجز الذى ينشدونه وكان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يقول ما يناسبه مما يثير همة المؤمنين بالدعاء لهم. فيروى أنه كان يقول: اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة وذلك تشجيع للعمل، وترنم بما يرجو المؤمنون.
وهم ينشدون:
نحن الذين بايعوا محمدا ... على الإسلام ما بقينا أبدا
وينشدون أيضا:
والله لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الأولى قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا
كانوا ينشدون هذه الأشعار، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم لا ينشد الأشعار، ولا ينبغى الشعر له. فما كان يتابعهم في البيت من الأبيات، ولكنه كان يجهر بالقافية معهم مشاركة في الوجدان والإحساس من غير أن يقول ما لا ينبغى له أن يقوله.
وهكذا كان شأنه صلى الله تعالى عليه وسلم في كل ما كانوا ينشدونه يشاركهم في النشيد باخر القوافى.
460- ولقد اقترن حفر الخندق بمشقة شديدة إذ ابتدأ في غداة يوم شديد البرودة.
وقد قسم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما يحفر من الخندق بين صحابته من الأنصار والمهاجرين فكان يجعل لكل عشرة من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أربعين ذراعا.
وقد اختلف الصحابة فيمن يكون سلمان الفارسى منهم. لأنه صاحب الفكرة التى هداه الله تعالى إليها. ولقد قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: سلمان منا آل البيت.
ولقد كان العمل شاقا، ولم يكن القوت كافيا، لأن كثيرين من الصحابة قد انقطعوا عن موارد أرزاقهم، فاجتمع لديهم شدة العمل وقسوته والجوع. ولكن الإيمان كان يخفف كل شدة، والصبر يوجد قوة احتمال، ورعاية الله تعالى فوق كل شدة.
(2/685)
وقد ذكر ابن إسحاق وغيره من الرواة أنه قد حدثت خوارق كثيرة على يدى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في تلك الشدة التى اشترك فيها كل أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. وهو على رأسهم.
قال ابن إسحاق: وكان في حفر الخندق أحاديث بلغتنى فيها من الله عبرة في تصديق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وتحقيق نبوته، عاين ذلك المسلمون.
منها- معجزة الكدية (وهى صخرة شديدة صلبة) فكان مما بلغنى أن جابر بن عبد الله كان يحدث أنه اشتدت عليهم في بعض الخندق كدية، فشكوها إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأتى بإناء من ماء فتفل فيه ثم دعا بما شاء الله تعالى أن يدعو به، ثم نضح ذلك الماء على تلك الكدية فو الذى بعثه بالحق نبيا لا نهالت حتى عادت كالكثيب» .
هذا كلام ابن إسحاق: وقد رويت مسألة الكدية بروايات أخرى، ذكر الثانية ابن إسحاق كما ذكر الأولي، وقد ذكرت الثانية في كتب السنة الصحاح الآخرى.
قال ابن إسحاق في الرواية الآخرى، وحدث عن سلمان الفارسى أنه قال ضربت في ناحية من الخندق، فغلظت على صخرة، ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قريب مني، فلما رآني أضرب، ورأى شدة المكان عليّ فأخذ المعول من يدي، فضرب ضربة لمعت تحت المعول برقة ثم ضرب به أخرى فلمعت تحته برقة أخرى، ثم ضرب به الثالثة، فلمعت تحته برقة أخرى. قلت (أى سلمان) بأبى أنت وأمى ما هذا الذى رأيت لمع تحت المعول وأنت تضرب؟ قال: أوقد رأيت ذلك يا سلمان، قلت نعم، قال: أما الأولى فإنه قد فتح علينا اليمن، وأما الثانية فإنه قد فتح علينا الشام والمغرب، وأما الثالثة فإن الله تعالى قد فتح علينا بها المشرق.
هذه رواية تخالف الآخري، ولا مانع من أن يكون الأمران قد وقعا، وخصوصا أن الأولى رواها جابر والثانية رواها سلمان الفارسي، ولكل رواية واقعة، وفي كل واحدة منهما خارق للعادة، ففى الأولى كانت نضحة الماء الذى فيه تفل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد أذابت الصخر فجعلته ككثيب الرمال.
والخارق في الثانية أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد أجرى الله تعالى على يديه ما كشف له به أنه سيفتح الله تعالى أمة اليمن وما وراءها والشام وما وراءها إلى المغرب، والمشرق، وهو يمتد إلى الهند والصين.
(2/686)
ونحن لا ننكر خوارق العادات، ولا يمكن أن ننكرها قط على نبينا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكن يجب أن نؤكد هنا، ما أكدناه من قبل، وهو أن هذه الخوارق التى أجراها الله تعالى على يد رسوله محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ليست هى معجزته التى تحدى فيها الناس أن يأتوا بمثلها، إنما المعجزة الكبرى هى القرآن الذى تحدى العالمين أن يأتوا بمثله، ولا يمكن أن يأتوا بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.
الجوع والطعام:
461- قلنا إن حفر الخندق اقترن بمشقة شديدة في الحفر ذاته، وبمشقة أشد في الجوع للبعد عن قلب المدينة، ولانقطاع المؤمنين عن العمل للرزق، بالانصراف للحفر، غير مدخرين أى جهد لغيره، وحتى ما يقوم به الأود، وإن الجهاد في سبيل الله غذاء النفوس يقبلون عليه ولو تعبت في سبيله الأبدان، وأرهقت الأجساد؛ لأنهم يريدون ما عند الله، وعنده الفوز العظيم.
وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هو الأسوة الحسنة في الصبر وضبط النفس، والجلادة وتحمل الجوع، حتى إنه صلى الله تعالى عليه وسلم ليشد الحجر على بطنه حيث لا يجد ما يذوقه.
لقد عرض البخارى حديث جابر عن الكدية، وجاء فيه «إنا يوم الخندق نحفر حفرة، فعرضت كدية شديدة، فجاؤا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أنا نازل، ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام، لا نذوق ذواقا» .
تلك صورة للجوع الذى كانوا فيه، وهم يجالدون، ويبذلون ما لا يبذله إلا أقوياء الرجال في دينهم ونفوسهم، وهنا نجد الخوارق تكون في بركة الطعام القليل الذى يتغذى منه العدد الكثير.
ويذكر ابن إسحاق في ذلك روايتين في بركة الطعام.
أولاهما: البركة في تمر ابنة بشير: ذكر ابن إسحاق بسنده «أن ابنة لبشير بن سعد أخت النعمان بن بشير حدثت فقالت: دعتنى أمى عمرة بنت رواحة أخت عبد الله بن رواحة الشاعر الأنصارى فأعطتنى حفنة من تمر في ثوبي، ثم قالت: أى بنية اذهبى إلى أبيك وخالك عبد الله بن رواحة بغذائهما فأخذتها، فانطلقت بها، فمررت برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأنا ألتمس أبى وخالي، فقال عليه الصلاة والسلام: «تعالى يابنية ما هذا الذى معك» فقلت: يا رسول الله هذا تمر بعثتنى به أمى إلى أبى بشير بن سعد وخالى عبد الله بن رواحة يتغذيانه.
(2/687)
قال صلى الله تعالى عليه وسلم: هاته. فصببت في كفى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فما ملأهما ثم أمر بثوب فبسط له، ثم دعا بالتمر عليه، فتبدد فوق الثوب، ثم قال لإنسان عنده اصرخ في أهل الخندق أن هلمّ إلى الغداء فاجتمع أهل الخندق، فجعلوا يأكلون منه، وجعل يزيد، حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه ليسقط من أطراف الثوب.
الثانية: وهى تشبه هذه. وإن كان قد اختلف موضوعها، ذكر ابن إسحاق عن جابر بن عبد الله أنه قال: عملنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الخندق، وكانت عندى شويهة ليست جد سمينة، فقلت: لو صنعناها لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فأمرت امرأتى فطحنت لنا شيئا من الشعير، صنعت لنا منه خبزا، وذبحت تلك الشاة، فشويناها لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. فلما أمسينا وأراد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الانصراف من الخندق، قلت: يا رسول الله إنى قد صنعت لك شويهة كانت عندنا، فأحب أن تنصرف معى إلى منزلي، وإنما أريد أن ينصرف معى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وحده، فلما قلت له ذلك قال نعم، ثم أمر فصرخ صارخ أن انصرفوا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى بيت جابر بن عبد الله. قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون.
أقبل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأقبل الناس معه، فجلس وأخرجناها إليه فبرك وسمي، ثم أكل، وتواردها الناس، وكلما فرغ قوم قاموا وجاء ناس، حتى صدر أهل الخندق عنها، أى أن الشاة غير السمينة كفتهم جميعا.
ولا شك أن هذين الخبرين بهاتين المسألتين يدلان على خارق للعادة جرى على يدى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكم للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم في ذلك من خوارق، منه ما ذكرنا، فى لقائه عليه الصلاة والسلام، وغذائه في بيت أم معبد وهو في طريقه إلى الهجرة.
وإن الخبر يدل فوق ذلك على الجهد الشديد الذى أصاب الصحابة ومعهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من قلة الطعام.
ويدل على أمر سام، وهو فضل التعاون، وهو أنه كان لا ينفرد أحدهم بطعام عن الباقين بإرادة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وهديه وحكمته.
(2/688)
اللقاء
462- أقبلت قريش ومن معها من كنانة وتهامة والأحباش وكانوا في عدد كبير بلغ آلافا منهم وممن معهم ونزلوا في أسيال رومة بين مكانين أحدهما اسمه الجرف، والآخر اسمه زغابة، وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد، ونزلوا عند أحد. وكان عدد قريش أربعة آلاف، وعدد من معهم ستة آلاف، وكانت لهم قيادات مختلفة، فكان يقود قريشا أبو سفيان بن حرب، وكانت غطفان بقيادة عيينة بن حصن وكان ثمة قواد يقودون أعدادا ليست بالكبيرة نسبيا، فكانت أشجع بقيادة مسعود ابن رخيلة وعددهم أربعمائة، وكانت سليم يقودهم سفيان بن عبد شمس، وعددهم سبعمائة.
لم تكن لهؤلاء قيادة موحدة ترسم الخطة، ويتبعها الجميع، وإن جعل كل قيادة علي قومها يتولي القوم رجل منهم، وقد يكون ذلك مفيدا في ذاته، ولكن يجب أن تكون ثمة قيادة عامة ترسم للجميع.
ومهما يكن فهم لم يختلفوا لأنهم جاؤا إلي المدينة، فلم يجدوا ما يمكنهم من الهجوم جميعا أو متفرقين، وما كان سبب الهزيمة التى منوا بها بنصر الله للمؤمنين بالريح والرعب.
ولقد جاؤا إلي المدينة يحسبون أنهم يغيرون عليها، وليفرقوا أو يقضوا عليهم ويسبوا نساءها، لقد جاؤا بعد ما تم حفر الخندق.
فوجئوا بأنهم لا قبل لهم بأن يدخلوا المدينة، فوجئوا بالخندق يحول بينهم وبين أن يقتحموا جند المؤمنين، ولم يكن لهم عهد بمثله، ورأوا كيدا لم يكن بتدبير عربي، بل بعقل آخر، وبذلك لم يروا أن مهمة القضاء علي محمد وأصحابه سهلة، إنها تحتاج إلي تدبير آخر غير ما دبروا، وأن يدخلوا إلي المدينة من غير هذا المكان. فإنه لا يمكن أن يدخل منه جند كثيف كعددهم.
عندئذ تحرك حيي بن أخطب الذي جمع متفرقهم، وإن لم يكونوا مندمجين موحدين في قيادتهم، وإنه إذا نجح في تحريضهم، لا يمكن أن يتخاذل عن أن يضم إليهم بنى قريظة، وقد كانوا يتمنون الغوائل للمؤمنين. ويريدون الوبال لهم، وربما كان لهم سعي في الحركة، وإن لم يكن ظاهرا، تسلل إليهم حيي ليكونوا وراء المؤمنين، وقد يحيط الجميع بهم، وليجدوا منفذا إلي المدينة عن طريقهم، ويعملوا معهم، ويكون المشركون من فوقهم، وبنو قريظة من أسفلهم.
لم يكن بنو قريظة ممن يغامرون وكانوا حريصين علي الحياة كشأن اليهود كما قال تعالى فيهم «وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ» (البقرة- 96) .
دخل حيي بن أخطب علي كبيرهم كعب بن أسد القرظي، الذي وادع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم علي قومه وعاهده، وقد رده ابتداء ردا عنيفا، وقال له: إنك امرؤ مشئوم، وإني قد عاهدت محمدا، فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا، وبعد أن عرض بشجاعته، فتح له الباب.
(2/689)
ولننقل لك الحديث لتعرف ما كانت تجري به الأمور، وما كان يسري في النفوس.
قال حيي: ويحك يا كعب، جئتك بعز الدهر، وببحر طام، جئتك بقريش علي قادتها وسادتها حتي أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة، وبغطفان علي قادتها وسادتها حتي أنزلتهم علي جانب أحد، قد عاهدونى وعاقدوني علي ألا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدا ومن معه.
قال له كعب: جئتني والله بذل الدهر، وبجهام قد هراق ماؤه (أي بسحاب قد نزل ماؤها) فإني لم أر من محمد إلا وفاء وصدقا.
فلم يزل حيي يتحايل بالقول، ويفتل بالذروة والغارب حتي سمع له واستجاب لما يطلب، وبذلك كشف طبع اليهودي، فهو لا يفي بعهد شرفا وكرامة ولكن يفي مضطرا خوف الذل والمهانة، ولذلك وافق عند ما أقنعه بأن القوة مع قريش، وأمنه علي مستقبله، فأعطاه عهدا وأعطاه ميثاقا قائلا له: لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك، حتي يصيا بني ما أصابك.
اطمأن كعب، فنقض العهد. وهو من شيمته، وما كان التمسك إلا حرصا منه علي نفسه، وخوفا عليها، فأتاه الشيطان من ناحية نفسه، فاقتنع، والعداوة فيه أصيلة.
ولذلك سرعان ما انضمت قريظة إلي الأحزاب التي جاءت من المدينة وكان ذلك فيما بينهم وبين حيي، وعمل علي أن يبلغه لقريش ومن معهم.
ولكن وصل الخبر إلي النبي صلي الله تعالى عليه وسلم، وهو الحذر الحريص الذي لا يؤتي من غفلة صلى الله تعالى عليه وسلم.
أراد النبي صلي الله تعالى عليه وسلم أن يستوثق ليكون الخبر كالعيان فأرسل إلي بني قريظة سيد الأوس سعد بن معاذ، وسيد الخزرج سعد بن عبادة ومعهما عبد الله بن رواحة. وقال لهم: انطلقوا حتي تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا، فإن كان حقا فالحنوا إليّ لحنا أعرفه ولا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا علي الوفاء فيما بيننا فاجهروا به أمام الناس.
ذهبوا إليهم فوجدوهم علي أخبث حال، نالوا من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنكروا العهد وقالوا: لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد، وقالوا منكرين من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فلم يطق سعد بن معاذ صبرا فشاتمهم وشاتموه، وقال له سعد بن عبادة: دع عنك مشاتمتهم، فما بيننا وبينهم أدني من المشاتمة.
(2/690)
عاد السعدان إلي رسول الله صلي الله تعالى عليه وسلم، وذكرا لرسول الله صلي الله تعالى عليه وسلم غدرهم، ولكن بلحن القول، لا بصريحه حتى لا يفت ذلك في أعضاد المسلمين.
463- جاء المشركون من أعلي واليهود من أسفل، والمنافقون في داخل المسلمين يقولون ويوهنون العزائم، ويضعون في النفوس روح التردد والهزيمة والنفاق، وزلزلت قلوب ضعفاء المؤمنين، وظنوا بالله الظنون، حتي قال بعض ضعفاء الإيمان قول غير المؤمنين: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن علي نفسه أن يذهب إلي الغائط، ووجد من يستأذن في التخلف من أولئك الضعاف في إيمانهم، حتى قال بعضهم: يا رسول الله، إن بيوتنا عورة من العدو، وذلك علي ملأ من رجال قومه، فأذن لنا أن نرجع إلي دارنا.
وإن أبلغ التصوير للنفوس في هذا الهول هو كلام الله تعالى عن الأحزاب وآثارهم، فيصف ما في الأنفس العليم بذات الصدور، يقول سبحانه:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً. إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ، وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا.
هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً. وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً. وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ، يا أَهْلَ يَثْرِبَ، لا مُقامَ لَكُمْ، فَارْجِعُوا، وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ، يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ، وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ، إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً. وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها، وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً. وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا. قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ، وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا. قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً، وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ، وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا. أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ، فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ، أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ، أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً. يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ، وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا. لَقَدْ
(2/691)
كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً. وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً. مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا. لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً. وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً.
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً. وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (الأحزاب- 9: 27) .
هذا أدق وصف لحال النفوس في ذلك الهول، فهل وهنت إرادة النبي صلي الله تعالى عليه وسلم أوضعفت عزيمته، بل كان يؤمن بنصر الله تعالى ويدبر الأمور، ويأخذ الأهبة بعزم الرسول، وهو من أولي العزم من الرسل، فضرب المثل لمن معه من المؤمنين.
464- تقدم للميدان بثلاثة آلاف من المقاتلين، وأمر بالذراري والنساء أن تكون في أطم، أي مبان متينة تكون كالحصون لكيلا يكونوا تحت عين بني قريظة، ولكيلا يكون المجاهدون في فزع علي نسائهم وذريتهم ولكيلا يصيبوا منهم غرة.
وإن النبي صلي الله تعالى عليه وسلم وضع حراسة علي المدينة خشية أن ينقضوا عليها، فأقام سلمة بن أسلم علي مائة من الرجال، وأقام زيد بن حارثة علي ثلاثمائة أخري لحراسة المؤمنين من اليهود.
وذلك كله حذرا من المشركين، وكان لا بد من اتخاذ المكيدة، والحرب مكيدة وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (الأنفال- 30) . فأراد عليه الصلاة والسلام أن يخذل المشركين بعضهم عن بعض بإثارة الطمع في بعضهم، فيتخلون عن باقيهم، فأراد أن يطمع غطفان ومن معها من نجد، فأرسل إلي عيينة بن حصن وإلي الحارث بن عوف بن أبي حارثة من قوادهم، فطلب إليهما المصالحة علي أن يأخذوا ثلث ثمار المدينة، فقبلوا ذلك طمعا منهم، وأن يعودوا، وكتبوا الكتاب من جانبهم ولم يكن من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم شهادة ولا عزيمة صلح، لأنه لا يمكنه أن يعزم ذلك من غير مشورة أهل الثمار، فلما عرض عليهم من بعد أن جاء الكتاب، وكان ذلك العرض أن بعث إلى سعد بن معاذ سيد الأوس وسعد بن عبادة سيد الخزرج، فذكر لهما ذلك، واستشارهما.
(2/692)
قالا له: يا رسول الله، أمر تحبه فتصنعه أم شيء أمرك الله به لا بد لنا من العمل به؟ قال صلي الله تعالي عليه وسلم: بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك، إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم إلي أمر ما.
قال سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء علي الشرك بالله، وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا شراء أو بيعا، أفحين أكرمنا الله تعالى بالإسلام، وهدانا إليه، وأعزنا به وبك تعطيهم أموالنا، والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم.
قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: فأنت وذاك. فتناول سعد الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب، وبذلك انتهت إرادة الصلح، إن كانت.
وقد أفاد عرض الصلح أمرين عظيمين.
أولهما: أن النبي صلي الله تعالى عليه وسلم علم عزمة أصحابه، وأنهم يريدون لقاءهم.
ثانيهما: أن ذلك أطمع غطفان ومن معها من القبائل، والطمع إذا سكن حل العزيمة وقد ترتب علي ذلك الإطماع، أنهم تململوا بطول الحصار وجري بينهم وبين القرشيين خلاف، وهموا أن يعودوا من حيث جاؤا من غير أن ينالوا شيئا.
465- بهذا العرض خذل النبي صلي الله تعالى عليه وسلم بين قريش وبين من جاؤا بهم من الأعراب، وبقي أن يخذل بين اليهود وبين المشركين، وساق الله تعالى إليه من رضي بأن يكون لسان ذلك التخذيل.
فقد أتي رجل من غطفان هو نعيم بن مسعود وقال: يا رسول الله إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت، فقال صلي الله تعالى عليه وسلم: إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة.
خرج نعيم بن مسعود حتى أتي بني قريظة وكان لهم نديما في الجاهلية فقال: يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم، إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون علي أن تجلوا منه إلي غيره، وإن قريشا وغطفان قد جاؤا لحرب محمد وأصحابه وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فإن رأوا نهزة أصابوها وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم، وخلوا بينكم وبين الرجل، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم،
(2/693)
حتي تأخذوا منهم رهناء من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم علي أن تقاتلوا معهم محمدا حتى تناجزوه.
قالوا: لقد أشرت بالرأى.
كان هذا تنبيه صدق لبني قريظة، وإن كان القصد تخذيلهم عن قريش، ولم يكن كاذبا.
ذهب من بعد إلي أبي سفيان بن حرب قائد قريش، وقال: عرفتم ودى لكم، وفراقي محمدا، وإنه قد بلغني أمر قد رأيت عليّ حقا أن أبلغكموه نصحا لكم، فاكتموا عني! فقالوا: نفعل، قال: تعلموا أن معشر يهود قد ندموا علي ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وأرسلوا إليه، إنا قد ندمنا علي ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم فنعطيكهم، فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك علي ما يبقي فنستأصلهم، فأرسل إليهم أن نعم، فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا، فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا.
ثم خرج إلي غطفان فقال لهم مثل ما قال لقريش.
بعد هذا التحذير من ذلك المسلم التقي المدرك، أرسل أبو سفيان عكرمة بن أبي جهل يستنهض قريظة للقتال وقال لهم: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك منا الخف والحافر، فاغدوا للقتال حتي نناجز محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه، وكان اليوم يوم سبت، فاعتذروا، وقالوا: لا نعمل فيه شيئا، وكان بعضنا قد أحدث فيه حدثا، فأصابه ما لم يخف عليكم ... ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدا، حتي تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا، حتي نناجز محمدا، فإنا نخشي إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال، أن تتشمروا إلي بلادكم وتتركونا، والرجل في بلدنا لا طاقة لنا به، ولا طاقة لنا بذلك منه.
هكذا أدركت قريش أن بني قريظة تريد أن تأخذ لنفسها أمانا من الرجعة فيما تقول، وهي تريد قتلهم، وأدركت قريظة أنهم لا يريدون تأمينها. وبذلك تم ما أريد من التخذيل بينهم، وأشد التخذيل ما يكون بفقد الثقة وأن يتظنن كل فريق.
ولكن الفريقين مع ذلك استمروا في غيهم، فكانوا يبثون العيون علي أطم المسلمين التي بها الذراري والنساء، لينقضوا عليهم، وينالوا من النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه.
فإذا كان للتخذيل أثر، ففي فقد الثقة بين الفريقين، ولكن عداوة النبي صلي الله تعالى عليه وسلم ما زالت تجمع بينهما، فلم تنخلع قريظة عن الإيذاء وإرادة الانقضاض علي بيوت المؤمنين.
(2/694)
عين من اليهود حول أطم آل النبى:
466- كانت صفية بنت عبد المطلب عمة النبي صلي الله تعالى عليه وسلم في أطم (حصن) لحسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه، ولم يكن محاربا، فكان من الصبيان والنساء، ولم يكن الحجاب قد نزل، قالت صفية، فمر بنا رجل من يهود، فجعل يطيف بالحصن، وقد حاربت قريظة، وقطعت ما بينها وبين رسول الله صلي الله تعالى عليه وسلم، فعلمت ابنة عبد المطلب من أنه يطيف بمساكن الذراري والنساء، ومن أن قريظة قطعت ما بينها وبين النبي صلي الله تعالى عليه وسلم، أن هذا الرجل عين علي المسلمين، ويريد عورات النبي صلي الله تعالى عليه وسلم.
قالت السيدة صفية لحسان الشاعر، ليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، ورسول الله صلي الله تعالى عليه وسلم والمسلمون في نحور عدوهم لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا، إن أتانا آت، وإن هذا اليهودي يطيف بالحصن، وإني والله ما آمنه أن يدل علي عورتنا من وراءنا من يهود، وقد شغل عنا رسول الله صلي الله تعالى عليه وسلم، وأصحابه، فانزل إليه فاقتله: قال حسان: يغفر الله لك يا بنة عبد المطلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا. ولما لم أر عنده شيئا احتجزت (أي شدت وسطها) ثم أخذت عمودا، ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود، حتي قتلته، فلما فرغت منه ورجعت إلي الحصن، فقلت: يا حسان انزل إليه فاسلبه، فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل، فقال: مالى بسلبه من حاجة يا بنة عبد المطلب.
وقد ذكرنا هذه القصة لا لنثبت شجاعة أخت حمزة أسد الله، ولا لحال حسان رضي الله عنه، ولكن ذكرناها، لنعلم منها كيف كان اليهود حريصين علي أن يأتوا دور النبي والصحابة في غيبتهم.
الجيشان:
467- تلاقي الجيشان: يعتز جيش الشرك بكثرة العدد وكثرة العدة، وأنه من جميع العرب، ويعتز بأنه استطاع بمحالفته لبني قريظة أن يحيط بالمدينة، وأنه يستطيع الانقضاض عليها من طريق حلفائه، ولكن لم يتنبه بأن فيه ضعفا، بتفرق كلمته، إذ أن تعدد القواد، لا يوجد كلمة قيادة موحدة تحسن الهجوم الموحد، وبذلك لا تغني عنهم كثرتهم شيئا، لأن الكثرة المتفرقة خير منها القلة المتحدة، المتالفة المتازرة، وهذا عيب ذاتي في أصل تكوين الجيش من أحزاب.
(2/695)
وفوق ذلك ما كان من إطماع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لغطفان وعدتهم ستة آلاف في صلح يأخذون فيه ثلث ثمار المدينة، وإن ذلك يثير طمعهم، ويفت في عضدهم، وإن كان أمر الصلح لم يبت فيه، ولكن بابه مفتوح لم يغلق.
ثم فوق هذا وذاك فقد الثقة بينهم وبين قريظة الذى لم يجعل ثمة فائدة في التحالف معهم، وإن كانوا قد عملوا في إيجاد الذعر بين المؤمنين، وربما كان منهم من حاول الهجوم على دور النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وآل بيته الكرام، وقد رأينا عيونهم تنبث في المدينة.
هذا جيش المشركين ومن معهم، أما جيش أهل الإيمان، فقد خلصته الشدة من المنافقين فيه وضعفاء الإيمان من الذين زلزلوا، وكان خالصا صافيا، وليس فيه إلا من قال الله فيهم: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ، وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (الأحزاب- 23) .
اجتياز الخندق
468- فوجيء المتجمعون من المشركين بالخندق، إذ لم يكونوا يعرفونه فلم يكونوا أهل حروب جماعية، فعرفوا تدبيرها ومكايدها كما أشرنا من قبل، ورأوه سدا يحول بينهم وبين أن ينقضوا جمعا متكاتفا على المدينة، فيقتلعوا الإسلام منها اقتلاعا، وبذلك طاش أوّل هدف لهم.
ولكن بعضهم وجدوا ثغرة منه فقد استطاع بعض فرسانهم أن يقتحمها ومنهم عكرمة بن أبى جهل، وبعض بنى مخزوم، وعمرو بن عبد ود العامرى العربى المرهوب الذى حضر بدرا وأثخن بالجراح، ولم يحضر يوم أحد لجراحه، وقد خرج يوم الخندق معلما ليرى مكانه، ويعلم أنه جاء لشفاء غيظه.
وقد خرج مناديا للمبارزة، وأراد على أن يخرج له فرده النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مرتين حتى عير المسلمين، فعندئذ خرج على إليه ولم يمنعه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
فلما التقيا قال له على داعيا إلى الهدى: يا عمرو، إنك قد كنت عاهدت الله ألا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذت منه خيرهما.
قال عمرو: أجل.
قال على: فإنى أدعوك إلى الله ورسوله وإلى الإسلام. قال: لا حاجة لى بذلك.
(2/696)
قال على: فإنى أدعوك إلى النزال. فقال له: لم يابن أخى، فو الله ما أحب أن أقتلك، قال له على: لكنى والله أحب أن أقتلك، فحمى عمرو عند ذلك واقتحم عن فرسه، وعقره. ونزل للقاء على، ويظهر أن عليا كان راجلا، فأبى أن يقاتل عليا إلا راجلا.
ثم أقبل على على، فتجاولا وضرب ضربة تلقاها على بدرقته، ولكنها اخترقتها وجرحت رأس على، فضربه على ضربة في ترقوته فقتلته، وكانت ضربات على أبكارا: عندئذ كبر المسلمون، فعلم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن عليا رضى عنه قد قتله.
أقبل على نحو رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ووجهه يتهلل، فقال له عمر بن الخطاب:
هل استلبته درعه، فإنه ليس للعرب درع خير منها، قال على: ضربته، فاتقانى بسوءته، فاستحييت ابن عمى أن أسلبه.
ويظهر أنه كان عظيما بين المشركين يعزونه فأرسلوا يطلبون جثمانه بمال يقدمونه، فأعطاهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إياه، وقال: هو لكم لأننا لا نأكل ثمن الموتى.
كان أولئك الذين قد اجتازوا الخندق وفيهم عكرمة، وغيره، وفي بعض الروايات فيهم خالد بن الوليد، قد رأوا ما كان بين على وعمرو بن عبد ود الذى كان كما قيل لم يهزم في مبارزة قط، ولم يلبثوا من بعد مقتله إلا أن يجتازوا الخندق كما بدأوا، وما تقدم أحد منهم لعلى بعد أن قتل عمرو بن عبدود.
وقد ذكر ابن جرير في تاريخه أن نوفل بن عبد الله بن المغيرة تورط في الخندق، ورماه المؤمنون بالحجارة وجعل يقول: قتلة أحسن من هذه، فنزل إليه على وقتله، وروى أن الذى قتله الزبير بن العوام، وطلبت قريش جثته بعد قتله في نظير مال، فأعطاه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من غير مال، وقال لا نأكل ثمن الموتى.
الهجوم على بيوت المؤمنين
469- استمر الحصار قائما بعد الهجمة التى هجمها الذين اجتازوا الخندق من مكان ضيق غير مرتفع، وقد قتل اثنان من المشركين فيه، وهما نوفل المخزومى، وعمرو بن عبد ود العامرى، ثم الرهبة بعد ذلك من اجتيازه، وكان النبل من الجيش منهمرا كالسيل، والمسلمون ينالونهم بالرمى أيضا، وقد قتل منهم واحد بالنبل، وقتل من المسلمين خمسة، أصيبوا فقتلوا والسادس كان هو سعد بن معاذ الصحابى الجليل الذى كان ثانى اثنين ذهبا إلى بنى قريظة، ورأوا خيانتهم للعهد في وقت الشديدة، وسعد رضى الله عنه كان قد خرج إلى الميدان بدرع غير سابغة، فذراعاه كانتا عاريتين، وأصابه سهم في
(2/697)
أكحله، أثبته، ولكنه دعا الله تعالى ألا يموت إلا بعد أن يرى في بنى قريظة جزاء غدرهم فعاش رضى الله تعالى عنه، حتى كان هو الحاكم فيهم ثم قبضه الله تعالى إليه راضيا مرضيا.
كانت المناوشة إذا بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم والمشركين، إذ عجزوا عن أن يصلوا إلى المؤمنين والخندق أمامهم، والمؤمنون الصادقون من على وإخوانه من ورائه، ومعهم سيوف تبرق.
فلم يكن لهم إلا الهجوم على بيت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من أسفل المدينة، وإن ذلك كما يظهر من جانب قريظة، فهو الجانب الذى يمكن أن يجيء الشرك إلى المدينة من جانبه، وإن الظن أن بنى قريظة هم الذين قاموا به تأييدا لحلفائهم الذين نقضوا الميثاق من أجلهم، وليشفوا غيظهم، ولينالوا ثأر بنى النضير وبنى قينقاع من إخوانهم، وإن كان ما أصابهم إنما هو بالاعتداء ونقض العهد، وغدرهم برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
يقول ابن كثير في تاريخه نقلا عن عقبة بن موسى «وجهوا نحو منزل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كتيبة فقاوموهم يوما إلى الليل، فلما حانت صلاة العصر رجعت الكتيبة فلم يقدر النبى ولا أحد من أصحابه الذين كانوا معه، أن يصلوا الصلاة على نحو ما أرادوا، فانكفأت الكتيبة مع الليل، وروى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: شغلونا عن الصلاة ملأ الله بطونهم وقلوبهم وقبورهم نارا» .
وإن هذا الخبر يفيد أن الذين كانوا على حراسة المؤمنين من خيانة بنى قريظة هم الذين قاتلوهم، وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لحق بأولئك المجاهدين الأبرار، وردوهم فلم ينالوا شيئا من بيوت المؤمنين، وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إذ لحق بأولئك المجاهدين ترك حراسة الخندق للمجاهدين من المؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله تعالى عليه، وما بدلوا تبديلا.
وإن كانوا لم ينالوا منالهم، فقد أزعجوا البيوت في المدينة، وتلك هى الجريمة الكبرى التى ارتكبها القرظيون بنقضهم للميثاق كشأن أسلافهم وأعقابهم من بعدهم، وإن ذلك أمارة اشتداد البلاء، وأن الجمع بين صلاة العصر والمغرب في وقت المغرب قد ثبت في صحاح السنة في هذه الموقعة.
فقد رواه البخارى ومسلم والترمذى والنسائى، وصيغته كما في البخارى عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس فجعل يسب كفار قريش، وقال: يا رسول الله ما كدت أصلى حتى كادت الشمس تغرب، قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «والله ما صليتها» فنزلنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فتوضأ للصلاة، وتوضأنا، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس. ثم صلى بعدها المغرب.
(2/698)
وإن هذا يدل على جواز الجمع بين الصلاتين جمع تأخير لعذر الحرب، وأجازه أحمد لعذر الحرب ولغيره.
دعاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم واستجابته
470- أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا، حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (البقرة- 214) .
اشتد البلاء على الرسول والذين معه، فقد كانوا محاصرين نحو عشرين ليلة، وكان من القرظيين تلك الخيانة، وإن هموا بكتيبة غليظة أن يغزوا بيت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
نعم إنه لم تكن الشديدة على المؤمنين وحدهم، بل كان جيش الشرك في ليال برد شديدة البرودة، وقد قل الزاد، وجف الحافر- وأصابهم سوء الظن بعضهم ببعض حتى قال أبو سفيان متكلمهم إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة. كانت حال المؤمنين قابلة للصبر بالإيمان، أما غيرهم فلا إيمان يعزيهم، ولا رجاء فيما عند الله يشجعهم، وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم دائم الاتجاه إلى ربه، ورويت عنه في هذه الواقعة عدة أدعية نبوية مفوضة ضارعة، تكررت فكانت الاستجابة كما قال تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ.
وكان من دعائه في هذه الشدة ما رواه الإمام أحمد أنه قال: «اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا» ، ومن دعائه ما رواه الإمامان مسلم والبخارى «اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب اهزم الأعداء، اللهم اهزمهم وزلزلهم وانصرنا عليهم» .
ومن دعائه ما رواه البخارى عن أبى هريرة أنه كان يقول: «لا إله إلا الله وحده، أعز جنده، وأعز عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده» .
وقد استجاب الله تعالى لرسوله، ومن أحق بالاستجابة من الرسول، والدعاء عبادة، وأى عبادة أطهر وأنقى وأخلص من عبادة الرسول.
أرسل الله عليهم ريحا صرصرا عاتية في يوم برد شديد البرودة، وأرواح الله الطاهرة تبث الرعب في نفوسهم، وفسد ما بينهم وبين أنفسهم، فتخاذلت غطفان عن قريش، وتظننت قريظة فيها وتظننوا فيها بل روى أنهم أرسلوا إلى الرسول يطلبون إليه الصلح على أن يرد بنى النضير إلى أرضهم.
(2/699)
جاءهم الخوف وقد سكن قلوبهم، وجاءت الريح تزعجهم، حتى أن أبا سفيان يقول: لقينا من شدة الريح ما ترون! ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا، فإنى مرتحل.
ارتحلوا مذعورين مخذولين، وتركوا من ورائهم متاعهم.
وما نالوا من المؤمنين، فقد قتلوا بالنبال من المؤمنين ستة، وقتل المؤمنون منهم ثلاثة فيهم عمرو بن عبدود، الذى كان يعد بالعدد من الرجال، ولا يعد بالواحد، قتله فارس الإسلام على بن أبى طالب ولننقل ما ذكر الله تعالى في بيان ختام الواقعة، ونكرر التلاوة إذ تلوناه من قبل:
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ، وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (الأحزاب- 25) .
قال الله تعالى في أثناء وصف القصة، وبيان نتائجها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها، وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً.
وبذلك انتهت معركة الأحزاب، التى اهتزت لها الجزيرة العربية كلها، ونادت بالويل والثبور، وأنها مقتلعة الإسلام من موطنه، فباؤا بخسران مبين، منهزمين في الميدان، ومضطربين في نفوسهم، وقد رأوا من آيات ربهم الكبرى ما رأوا.
فقد جاء في كتاب مغازى الواقدي: لما ملت قريش كتب أبو سفيان كتابا وبعثه مع أبى سلمة الخشنى. جاء فيه:
باسمك اللهم، فإنى أحلف باللات والعزى وأساف ونائلة وهبل، لقد سرت إليك في جمعنا، وإنا لا نريد ألا نعود إليك أبدا، حتى نستأصلكم، فرأيناك قد كرهت لقاءنا، فجعلت مضايق وخنادق، ليت شعرى من علمك هذا، فإن نرجع عنكم، فلكم منا يوم كيوم أحد تنتصر فيه النساء.
فكتب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم:
من محمد رسول الله إلى أبى سفيان بن حرب. أما بعد فقد أتانى كتابك، وقد غرك بالله الغرور.
أما ما ذكرت أنك سرت إلينا في جمعكم، وأنك لا تريد أن تعود حتى تستأصلنا، فذلك أمر الله يحول بينك وبينه، ويجعله لنا حتى لا تذكر اللات والعزى، وأما قولك من علمنا الذى صنعنا من ذلك، فإن الله ألهمنى ذلك، لما أراد من غيظك، وغيظ أصحابك، وليأتين عليك يوم أكسر فيه اللات والعزى، وأساف ونائلة وهبل حتى أذكرك ذلك.
(2/700)
نتائج غزوة الخندق
471- كانت لهذه الغزوة نتائج طيبة:
(أ) إذ رد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا، وقد بذلوا أقصى ما يستطيعون فيها، جمعوا العرب ليغزوا المدينة فما رجعوا إلا بستة من القتلى يقابلهم ثلاثة فيهم فارسهم وقد قتله فارس المسلمين على كرم الله وجهه.
وإن أثر هذا أن ألقى اليأس في قلوبهم من أن ينالوا من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وما كانوا ليستطيعوا أن يقوموا بمثل ما قاموا به، فكان لسان حالهم يقول، لا نستطيع لمحمد سبيلا، ولقد قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «لا تغزوكم قريش بعد عامكم هذا. ولكنكم تغزونهم» ، ولقد أشار القرآن الكريم بذلك، فقال تعالى وهو أصدق القائلين وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ.
(ب) وإن العرب الذين كانوا قد طمعوا في المؤمنين بعد غزوة أحد التى أشاع المشركون فيها أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم وصحبه قد هزموا، قد استكانوا، ولم يعودوا طامعين في نصر، بل نأى بهم الخوف عن أن ينالوا منالا، أو يدبروا أمرا، فلا يفكروا في اعتداء أو غدر، أو ممالأة، وإن ذلك اليأس قد يدفعهم إلى التفكير فيما يدعو إليه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ولذلك كثر الذين يجيئون إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم داخلين في الإسلام أفواجا وفرادى، إذ أن الغواشى قد زالت، ومن ذلك كانت وفود القبائل العربية يجيئون يتعرفون الإسلام.
(ج) وأن الآيات المادية قد تؤثر في أولئك الماديين الحسيين، وخصوصا إذا كانت في موطن الفزع، فإنها إذا جاءت من غير سبب يألفونه ويعرفونه، فإنها قد تأخذ عقولهم إلى التفكير السليم وتخلعها من الوثنية، إذ يدخل إليها نور الحق شيئا فشيئا، والنور كلما دخل أشرق، وإذا أشرق اتجهوا إلى الحق وطلبوه وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
(د) وإن اليهود قد ظهرت نياتهم لمرأى العين، وانكشفت وصار ما تخفيه صدورهم أمرا معروفا.
فقد كانت هذه الشديدة، التى ادلهمت مبينة ما يبيته اليهود للمؤمنين، بل تكشفت الوجوه ولم تسترها همزة النفاق، وصاروا وجها لوجه أمام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
(هـ) وقد بينت واقعة الخندق أن أهل الباطل جمعهم متفرق، فقد اجتمعوا، ولكن سرعان ما اختلفت نوازغهم بين المشركين أنفسهم، بما أبداه غطفان من الميل للصلح والعودة، وبما كان بين المغيرين والقرظيين.
(2/701)
غزوة بنى قريظة
472- إن هذه الغزوة إحدى نتائج الفشل الذريع الذى منيت به غزوة قريش ومن معهم للمدينة. وحيلولة الخندق بينهم وبين أن يدخلوها.
فإن بنى قريظة قد ارتضوا نكث العهد، أو نقض الميثاق الذى كان بينهم وبين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد حاولوا أن ينقضوا على عورات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
لقد حسبوها فرصة للقضاء على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وأن تكون المدينة لهم بدل أن يكونوا في عهد معه وسلم وأمان، ويكون لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين.
وقد مالئوا وعاونوا، وأقدموا على مهاجمة بيت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ومن معه من المؤمنين، ولما رد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال، أدركوا أن الفرصة قد أفلتت من أيديهم وكانت عاقبة أمرهم خسرا.
أولئك المشركون رجعوا إلى ديارهم، ورضوا أن يثوبوا، وعادوا إلى ديارهم لا يغير عليهم مغير، ولا يأخذ منهم أحد جزاء ما اقترفوا، أما بنو قريظة، فإنهم سيؤدون الحساب على ما ظاهروا عليه المشركين، وعلى نقضهم العهد الموثق.
لذلك كله امتلأت قلوبهم رعبا، وكانت النتيجة كما قال الله تعالى: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً. وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ، وَدِيارَهُمْ، وَأَمْوالَهُمْ، وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً.
كان بين يدى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أحد أمور ثلاثة: إما أن يعفو عنهم، ويتركهم آمنين في ديارهم، وهم بجوار المؤمنين الذين خانوهم، وإن ذلك غير ممكن؛ لأن العفو لا يكون إلا لمن يرجى منه خير، وكيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلّا ولا ذمة.
وإما أن يخرجهم من ديارهم كما أخرج بنى النضير من ديارهم، ولكن لا تكون ثمة عدالة، ولا مساواة بينهم وبين بنى النضير، لأن بنى النضير نقضوا الميثاق بما دون ذلك، ولأنهم لم يهاجموا بيوت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد أوتيت من فوقها ومن أسفل منها، وأحيطت بكتائبهم، وكتائب الشرك، فكانوا إحدى الكوارث، أو أشدها فاعلية بعد أن حال الخندق بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وبين أعدائه.
(2/702)
هذان أمران ليس من المعقول تطبيق أحدهما أو هما، وليس من العدل تطبيق الثاني. لم يبق إذن إلا القتال، وعندئذ تقول الحقيقة ويل للخائن المغلوب، وإنه إذا كان قتال، فإن نتيجته معروفة من قبل وقوعه، إذ أنهم سيبادون عن آخرهم، ويكون ذلك شفاء لقلوب المؤمنين الذين زاغت منهم الحناجر بسبب انضمامهم للمشركين.
أرادوا أن يخرجوا كما خرج بنو النضير، فلم يرض النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، لعدم التساوى بين حالهم، وحال بين النضير، فاختار النبى صلى الله تعالى عليه وسلم القتال بأمر ربه ولكنهم استسلموا.
أمر الله:
473- جاء أمر الله تعالى بأن يخرج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لقتال بنى قريظة، فروى أن جبريل أمين الوحى جاء يقول للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: وقد وضعت السلاح يا محمد؟
قال: نعم، فقال جبريل: فما وضعت الملائكة السلاح. إن الله عز وجل يأمرك يا محمد بالمسير إلى بنى قريظة.
سار النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى بنى قريظة بأمر الله، وإن منطق الحرب يدعو إلى ذلك، والحذر الذى أمر الله به يوجب ذلك.
أمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مستجيبا لأمر ربه فأذن في الناس من كان سامعا مطيعا، فلا يصلين العصر إلا في بنى قريظة.
استعمل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في المدينة ابن أم مكتوم.
أعطى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم الراية لعلى بن أبى طالب.
سار على رضى الله تعالى عنه، حتى إذا دنا من حصونهم سمع منهم مقالة قبيحة في رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكأنهم مستمرون على غيهم.
فرجع حتى لقى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وظن الرسول أنهم قالوا فيه وعلى لا يريد أن يسمع منهم أذى لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
دنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من حصونهم، وقال لهم: «يا إخوان القردة. هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟ قالوا: يا أبا القاسم ما كنت جهولا» .
(2/703)
مضى إليهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن اجتمع جيشه، والراية مع على حتى نزل على بئر من آبارهم؟
وكان من بين أصحابه من لم يصل العصر إلا في وقت العشاء، لأنهم انتظروه إلى العشاء، وقد قال: لا يصلين أحد العصر إلا في بنى قريظة، فينتظرونه حتى يصلى بهم العصر، فصلوا العصر بها في وقت العشاء فما عابهم صلى الله تعالى عليه وسلم.
حاصرهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لقتالهم، وهو ما أمر الله به، وهو الأمر بالمعقول فى ذاته كما ذكرنا من قبل، ولكنهم لم يخرجوا لقتال.
حاصرهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار، وكان معهم في حصن كعب بن أسد حيى بن أخطب الذى حرضهم على نقض العهد ووعد كعبا أن يكون في حصنه يصيبه ما يصيبه إذا لم يصب المشركون من محمد شيئا، فوفى بما وعد.
لما أيقنوا أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم غير تاركهم حتى يناجزهم القتال، تقدم إليهم كعب ابن أسد، وقد رأوا أنه لابد من الحرب، خيرهم بين ثلاثة: أحدها- الإيمان بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال في ذلك: نبايع الرجل ونصدقه فو الله لقد تبين لكم أنه لنبى مرسل، وأنه الذى تجدونه في كتابكم فتأمنون على أموالكم وأبنائكم ونسائكم، قالوا: لا نفارق حكم التوارة أبدا، ولا نستبدل به غيره.
والثانية أن يقاتلوا منفردين عن الأولاد والنساء بعد فشلهم، فرفضوا.
والثالثة أن يصيبوا غرة من محمد يوم السبت إذ ربما لا يكون مستعدا لقتالهم، لأنه يعلم أنهم لا يقاتلون يوم السبت.
رضوا أخيرا بالاستسلام، ولكنهم لا يعرفون النتيجة، فأرسلوا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يرسل إليهم أبا لبابة، فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يشكون في وجهه، فرق لذلك، ولما سألوه أترى أن ننزل عن حكم محمد، قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه بأنه الذبح، قال أبو لبابة، والله فما زالت قدماى عن مكانها، حتى عرفت أنى قد خنت الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم انطلق أبو لبابة على وجهه، ولم يأت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح مكانى هذا، حتى يتوب الله على بما صنعت. وذلك هو الضمير المؤمن القوى، وقد استبطأه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم علم أمره.
(2/704)
ولنؤجل قصة أبى لبابة وتوبة الله تعالى عليه إلى ما بعد ما آل إليه أمر بنى قريظة الذى استحقوه عدلا وصدقا- فقد غدروا، ونقضوا الميثاق، وحاولوا آثمين إزالة دولة الإسلام، ولكن قضى الله أمرا كان مفعولا.
نزولهم على حكم سعد بن معاذ:
474- نزلوا على حكم سعد بن معاذ، وقد كان من الأوس من يطمع في أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم سيجليهم عن المدينة، كما فعل مع بنى قينقاع، وبنى النضير، مع تفاوت الجرائم التى وقعت من هؤلاء، وأن الأولين لم يمالئوا على من جاؤا لاقتلاع الإسلام من المدينة كما فعل هؤلاء، والأولون لم يكونوا مقاتلين، بل كانوا غادرين ناقضين للميثاق فقط، فكان المنطق الاكتفاء بجلائهم، إذ لا يبقون من غير ميثاق محترم.
أما بنو قريظة فقد نقضوا وقاتلوا، وهاجموا بيت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فوجب أن يعاملوا معاملة مقاتلين، وبمثل ما عاملوا به المؤمنين، وبمثل ما كان ينتظر أن يعاملوا به المؤمنين، لو كان الأمر قد تم للأحزاب كما يريدون.
نزلوا على حكم سعد بن معاذ الأوسى، وقد جيء به راكبا، إذ لم يكن يستطيع المسير للجرح الذى أصابه من السهم وأثبته، بل أثخنه، وبعض قومه من الأوس قالوا له مشفقين على بنى قريظة: يا أبا عمرو أحسن في مواليك، فإن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، إنما ولاك لتحسن فيهم. فلما أكثروا عليه قال: «لقد آن بسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم» .
عند ما قابل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم سعدا، التفت إلى أصحابه، وقال: قوموا إلى سيدكم، فقاموا إليه، وقال الأنصار: إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم، فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه ... ثم بعد كلام أصدر الحكم، وهذا نصه:
إنى أحكم فيكم أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذرارى والنساء.
هذا هو الحكم، وقد أيده رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله: «ولقد حكمت بحكم الله من فوق سبع سموات» ، نفذ فيهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حكم معاذ وأثبت قبل التنفيذ أنه حكم الله تعالى فيهم، فقتل الرجال إلا بعضا قليلا أعطاهم بعض الصحابة أمانا ليد سابقة قدموها لهم.
وقسم أموالهم غنيمة بين المسلمين، وبها تبين تقسيم الغنائم، وسبى النساء.
(2/705)
نظرة في الحكم:
475- لا شك أن الحكم شديد، ولكنه عادل، والنظر لا من ناحية أنه عادل، ولكن أما كان موضع للتخفيف، ونقول في ذلك:
إنهم مقاتلون، واستمرت لهم صفة المقاتلين إلى آخر لحظة، وعلى بن أبى طالب، عند ما تقدم لهم خاطبهم على أنهم مقاتلون، وقال رضى الله عنه، وهو يهاجمهم، لأذوقن ما ذاق حمزة، ولأفتحن حصنهم، فلما رأوا العزيمة في على ومعه الزبير، وأنهم مغلوبون لا محالة، وطلبوا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، فهم ارتضوا ما ينفذ فيهم قبل أن ينزل الحكم فيهم، فهم الذين نفذوا الحكم فيهم إذ ارتضوا المحكم فيهم، ومن المقررات القانونية أن من ارتضى محكمين ليحكموا فيه، فقد فوض لهم، ولهم بهذا التفويض أن يحكموا بما يرونه عدلا، ولقد حكم، وهو الذى ذهب إليهم ليحول بينهم وبين تنفيذ نقض الميثاق فردوه ردا نكرا، وعرف أنهم يريدون اقتلاع الإسلام، وقتل أهله.
ولقد خضع المدبرون منهم لحكمه، وأدركوا أنه بما قدمت أيديهم، حتى لقد روى أن حيى ابن أخطب عند ما قدم للقصاص قال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: والله ما لمت نفسى في عداوتك، ولكن من يخذل الله يخذله، ثم أقبل على الناس، فقال: أيها الناس، إنه لا يأس بأمر الله كتاب وقدر، وملحمة كتبها، ثم تقدم لضرب عنقه.
وهكذا كانوا يحسون بأن ما نزل بهم قصاص، وما للناس يقولون كان على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، أن يشفق عليهم. ومع ذلك إذا لم يقتل رجالهم، فماذا يصنع معهم، أيعفو عنهم، ولو تمكنوا لقتلوه وقتلوا الإسلام، وشردوا أهل المدينة. إن العفو عن الجانى ظلم في ذاته، أم يخرجهم من أرضهم ويجردهم من أموالهم، وذلك لا يخلو من عفو، وقد قلنا إنه في هذا المقام ظلم، ثم ماذا يكون إذا خرجوا، وفيهم أكثر من سبعمائة مقاتل، ألا يكونون حربا عليه، ويتجمعوا يؤلبون يهود الجزيرة العربية، ويكون قد أشفق عليهم لينقضوا عليه إن وأتتهم الفرصة، كمن يشفق على اللصوص ليجمعوا أمرهم، ويستلبوه ما يعتز به، ويأخذوا ما عنده.
إنه لم يكن إلا القتل، كفاء ما صنعوا، وهم الذين قتلوا أنفسهم بما دبروا وبما فعلوا، قد يقال أنهم قد صاروا أسري، والأسرى لا يقتلون، ونقول في الجواب عن ذلك: إن المسلمين والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يشدوا الوثاق، لأنهم منهيون عن ذلك بحكم آية الأسرى إذ يقول سبحانه وتعالى:
ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ، تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا، وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (الأنفال- 67) .
(2/706)
فما كان للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يشد الوثاق وهو لم يثخن فيهم جراحا، ولم ينل منهم نيلا، بل إنهم هم الذين ارتضوا حكما معينا، والقتال من جانب المسلمين قائم، لم تعد السيوف إلى أجفانها ولا القلوب إلى جنوبها.
بل إن قتالهم امتداد لقتال الأحزاب الذين مالئوهم لم ينته، وإذا كان المشركون قد ألقى الله في قلوبهم الرعب، ففروا، فأولئك قد بقوا، وكان حقا عليهم أن يقاتلوا فما قاتلوا.
وقد يقول قائل: إن النبيين رحماء، ونقول لهم إن العدالة رحمة والقصاص حياة، ورحمة الإسلام دفع الظلم، واقتلاعه عن أساسه، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال: أنا نبى المرحمة، وأنا نبى الملحمة، والله سبحانه وتعالى عزيز حكيم.
أحكام شرعية
476- قد كانت أحكام شرعية خاصة بالصلاة قد ثبتت عمليا في غزوة الأحزاب وبنى قريظة، كما كانت أحكام شرعية قد ثبتت في توزيع الغنائم بالنسبة لتقسيم أموال بنى قريظة، ولعلها أكبر أموال وزعت من الغنائم إلى هذا الوقت من الغزوات.
وبالنسبة للصلاة في غزوة الخندق عند ما هو جمت بيوت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أخرت صلاة العصر، إلى ما بعد الغروب، فجمع صلى الله تعالى عليه وسلم بين العصر والمغرب جمع تأخير.
وقد قال الذين اتبعوا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن عذر الحرب مسوغ للجمع، وكثيرون من الفقهاء الذين اتبعوا ذلك جوزوا الجمع في كل عذر، وتكون الصلاة المؤخرة أداء لا قضاء.
وفي غزوة بنى قريظة، كان الجمع بين العصر والمغرب، ذلك أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في دعوتهم إلى اللحاق ببنى قريظة قال: ألا لا تصلوا العصر إلا في بنى قريظة، فقال بعضهم عزم علينا ألا نصلى حتى نأتى بنى قريظة. فإنما نحن في عزيمة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فليس علينا إثم، وأخروا إلى وقت المساء فجمعوا بين العصر والمغرب في وقت المغرب. وطائفة من الناس صلوا احتسابا.
ولم يلم أحدا من الطائفتين، وهذا يدل على جواز الجمع جمع تأخير، ويدل على أن الخطأ مرفوع عنه الإثم، كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ، وكان ذلك استجابة لدعاء المؤمنين الذى حكاه الله تعالى عنهم بقوله تعالى: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا
(2/707)
إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا، رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا، أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (البقرة- 286) . ولا شك أن إحدى الطائفتين مخطئة فيما عملت، ولكنها اجتهدت.
توزيع الغنائم:
477- كان ما استولى عليه في بنى النضير أموالا ثابتة، وما غنم في الوقائع السابقة؛ لم يكن كثيرا، أما ما كان في غزوة بنى قريظة فكان أموالا كثيرة بالنسبة لما سبقها، وخصوصا في الأموال المنقولة، ولذلك كان التوزيع فيها تطبيقا للنص القرآنى، وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ، وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ (الأنفال- 41) .
وقد قال ابن إسحاق في ذلك ما نصه: قسم أموال بنى قريظة ونساءهم، وأبناءهم على المسلمين، وأعلم في ذلك سهمان الخيل وسهمان الرجال، وأخرج منها الخمس (أى خمس الله ورسوله وذى القربى) وكان (من بعد الخمس) فى أربعة الأخماس، فكان للفارس ثلاثة أسهم للفرس سهمان، ولفارسه سهم، وللراجل (من ليس له فرس) سهم، وكانت الخيل يوم بنى قريظة ستا وثلاثين، وكان أوّل فيء وقع فيه السهمان، وأخرج منهما الخمس، فعلى سنتها وما مضى من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقعت المقاسم، ومضت السنة في المغازى.
ونقول إن هذا التقسيم لم يكن أوّل تقسيم بالأسهم، فقد سبق أن اخترنا ما قرره الحافظ ابن كثير فى تاريخه أن آية وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ قد نزلت قبل تقسيم أنفال بدر، وأن على بن أبى طالب نال من خمسه راحلتين.
ولكن يظهر أن الجديد هو ما قرره النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من أن يكون للفارس ثلاثة أسهم اثنان للفرس، وواحد للفارس، وأن لمن لا فرس له سهما، ولم يكن ذلك التقسيم في أنفال بدر لأنه لم يكن فرسان غنمت، بل كان هناك للمسلمين فرس واحد، قيل أنها للزبير بن العوام رضى الله تعالى عنه، هذا ما يظهر لى، والله سبحانه وتعالى أعلم.
تنبيهات:
478- أولها:
أن أبا رافع سلام بن أبى الحقيق اليهودى كان من أشد اليهود تحريضا على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فهو ممن جمع جموع قريش وغطفان، وكان يحرضهم، حتى
(2/708)
كانت غزوة الأحزاب، وكان ما كان من بنى قريظة، ويظهر أنه لم يفعل ما فعل حيى بن أخطب من إقحام نفسه مع بنى قريظة لعهد له مع كعب بن أسد من أن يكون معه في حصنه إن انتصروا أو هزموا.
ولكن عين الحق لا تغافل عن ذلك الذى حرض العناصر المعادية للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم في كل أرض العرب، وأنه على استعداد لمثلها، فكان الحذر الذى أمر الله به في قوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ يوجب على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يتولاه قبل أن يعيد إفساده وتحريضه لما بدأه، فأرسل إليه من المؤمنين من قتله في حصنه الذى يقيم فيه بخيبر.
الثانى:
أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يميز بين الرجال والصبيان في بنى قريظة، ليتبين من يستحق القتل، ومن أعفى منه من الذرارى تنفيذا لحكم سعد بن معاذ رضى الله تبارك وتعالى عنه، كان يميز بخروج شعر الفرج، فمن نبت له ذلك الشعر قتل، ومن لا ينبت له لا يقتل، روى عن ابن عطية القرظى قال: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد أمر أن يقتل من بنى قريظة كل من أنبت منهم وكنت غلاما فوجدنى لم أنبت فخلوا سبيلى.
وروى مثله أهل السنن الأربعة عن طريق آخر.
الثالث:
قوة الضمير في أبى لبابة، لقد سأله القرظيون أينزلون على حكم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، فأشار إلى عنقه بأنه الذبح، وما أن قالها، حتى استيقظت النفس اللوامة، وعلم أنه خان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، إذ كشف أمرا لم يأذن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بكشفه، وما كان له ذلك، لذلك انطلق هائما على وجهه، ولم يأت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وارتبط بعمود من عمد المسجد، وقال: لا أبرح مكانى هذا، حتى يتوب الله على مما صدمت، وأعاهد الله تعالى ألا أطأ أرض بنى قريظة أبدا ولا أرى في بلد خنت فيه الله ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أبدا.
ولما استبطأه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وعلم أمره قال الرسول الكريم، أما والله لو جاءنى لاستغفرت له، فأما إذ فعل ما فعل، فما أنا بالذى أطلقه من مكانه، حتى يتوب الله تعالى عليه وإن التوبة النصوح تجب ما قبلها، وعلم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بوحى من ربه أنه تاب على أبى لبابة، وأبلغ ذلك إلى أم سلمة، إذ كان في بيتها وأذن لها أن تبشره به، إذ قالت: أفلا أبشره يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، بلى إن شئت، فقامت على باب حجرتها، ونادت أبا لبابة فى المسجد، فقالت: يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله تعالى عليك، فثار الناس ليطلقوه. فقال: لا، حتى
(2/709)
يكون رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هو الذى يطلقنى، فلما مر عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه.
وقد أقام أبو لبابة رابطا نفسه بالجذع ست ليال تأتيه امرأته في وقت كل صلاة، فتحله للصلاة ثم يعود فيرتبط بالجذع، وقالوا إنه نزل فيه قوله تعالى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً، وَآخَرَ سَيِّئاً، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (التوبة- 102) .
وهكذا حكم الضمير، أو النفس اللوامة تحس بذنوبها لتتوب، وترجو المغفرة فتذل لله سبحانه وتعالى، ولقد قال الصوفية «إن معصية، أورثت ذلا وانكسارا خير من طاعة، أورثت دلا وافتخارا» «1» وكذلك كانت نفس أبى لبابة الذى ما كذب، ولكنه ظن أنه خان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، إذ أخبر بالحكم قبل صدوره، وبالأمر قبل ظهوره.
رابعها: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعث بسبايا بنى قريظة إلى نجد فابتاع بها خيلا وسلاحا، وذلك ليكون منها قوة للمسلمين، وإعداد للعدة لقوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ، وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ.
وقد اختار صلى الله تعالى عليه وسلم من نسائهم ريحانة بنت عمرو إحدى نساء بنى قريظة لنفسه وأراد لها الإسلام فتعصت عنه، وأبت أن تدخل في الإسلام، زاعمة أنها تبقى على اليهودية، ولكن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكرهها، ولم يصنع ما قد يكون إغراء مانعا من اختيار سليم حر، ولكنها جاءت إليه من بعد ذلك طائعة فأسلمت، فسر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من إسلامها، وقد عرض عليها صلى الله تعالى عليه وسلم أن يعتقها، ثم يتزوج منها زواج الحرة المختارة، فاختارت أن تستمر على رقها، ليكون أسهل عليها، إذ لا تتحمل واجبات الزوجية، فلم تزل عنده إلى أن توفى صلى الله تعالى عليه وسلم. ولم تذكر بين أزواجه صلى الله تعالى عليه وسلم.
479- وإن قصة سبى نساء بنى قريظة تدل على أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد أنشأ الرق على أعدائه في ميدان القتال، لتكون المعاملة بالمثل، إذ لو أسروا من المسلمين لا سترقوا، والله تعالى يقول: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ، وَاتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (البقرة- 194) وإن المشركين كانوا يسترقون من غير قتال، فقد ذكرنا أنهم أخذوا بعض المسلمين غدرا، وباعوهم في مكة المكرمة، وسامهم أهل مكة المكرمة سوء العذاب، فلا تثريب على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إذا أخذ من بنى قريظة سبايا، وباعهن بخيل من نجد.
__________
(1) القول لابن عطاء الله السكندري: (رب معصية أورثت ذلا وانكسارا خير من طاعة أورثت عزا واستكبارا) .
(2/710)
وإن هذا يدل على أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالنسبة للرق عامل بنى قريظة، ومن وراءهم من المشركين بمثل ما كانوا يعاملون به المؤمنين، حتى في غير حرب، ولكن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عاملهم بالمثل في حرب كان الاعتداء من جانبهم، فهم اعتدوا مرتين، الأولى بالخيانة وتتبع عورات المؤمنين، والثانية بأنهم هم والمشركون كانوا يسترقون المؤمنين لو تمكنوا منهم، وقد تمكن منهم القرشيون فباعوهم وعذبوهم، كما ذكرنا في يوم الرجيع.
الإيماء بالصلاة للضرورة
480- أجيز الإيماء بالصلاة للضرورة وفي حال المنازلة إذا خيف فوات الصلاة، وقد أخرنا الكلام في هذا عن الكلام في جمع الصلاتين جمع تأخير، لأن هذا يتعلق برجل أراد أن يجمع الناس من عرفة ليغزوا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في المدينة، وهو خالد بن سفيان بن نبيح الهذلى، وكان ذلك عقب غزوة بنى قريظة، وقد تأكد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قد اعتزم الشر، وأراد القتال، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يعمل على حسم الشر قبل وقوعه، فإذا كان رجل يجمع ويحرض، وأخذ ينفذ ما شرع فيه يستأصله النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قبل أن ينفذ شره، لأن الحذر يوجب ذلك، ولأنه إن يتركه جمع الجموع، وكان القتل في الجمع أكثر عددا من قتل واحد، ولذلك كان يؤثر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قتل رجل على حرب مع رجال لحماية الأنفس من المحاربين ولو كانوا مشركين، فعسى أن يخرج الله تعالى الكفر من قلوبهم، ويستبدل به الإيمان.
أرسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى خالد بن سفيان عبد الله بن أنيس وقال له: إنه بلغنى أن خالد بن سفيان بن نبيح الهذلى يجمع لى الناس ليغزوني، وهو بعرفة.
خرج ابن أنيس متوشحا سيفه، فأقبل نحوه، وخشى أن يكون بينهما مجاوبة تشغله عن الصلاة، والصلاة لا يسقط فرضها، فصلى وهو يمشي، يوميء بالركوع والسجود حتى لقيه، فقال له خالد: من الرجل؟ قال: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل، فجاءك لذلك، قال: أجل أنا في ذلك، وسار معه قليلا، حتى استمكن منه فقتله.
ومن هذا نرى جواز الصلاة بالإيماء في الحرب للضرورة، إذ أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد أقر ما صنع في عبادته في الصلاة، وأقر بما قام به من جهاد.
وإن ذلك لا يعد القتل فيه بطريق الغدر أو الغيلة، لأنه انتدب للقتال، فيجب أن يتوقع أن ينزل به مثل ما يدبر، ولأن قتله نجاة لكثيرين، والضرر القليل يحتمل في سبيل دفع ضرر أكبر، وإن هذا يدل
(2/711)
على أنه بعد غزوة الخندق كانت نفوس تحاول التمرد على حكم الواقع تزعم أنها تستطيع القضاء على المسلمين، وقد صارت الدولة بأيديهم يغزون، ولا يغزوهم أحد.
مدة غزوة الخندق
481- وقد قطع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في غزوة الخندق، وبنى قريظة بقية شوال.
وذى القعدة وبعضا من ذى الحجة.
وبعد الخندق وما تبعه تزوج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أم حبيبة بنت أبى سفيان قائد الشرك، ثم تزوج بزينب بنت جحش.
ولقد كان من قبل تزوج سودة بنت زمعة، وعائشة بنت الصديق، وتزوج بعد بدر حفصة بنت صاحبه ووزيره عمر بن الخطاب، وتزوج بعد أحد أم سلمة، ثم تزوج بعد غزوة بنى المصطلق جويرية بنت الحارث، ثم من بعد خيبر صفية بنت حيى بن أخطب.
ونترك الكلام في أزواج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الكلام في باب خاص بذلك وأسبابه وحكمته.
(2/712)
زواج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأم المؤمنين زينب
482- نزل في السورة التى تسمت باسم غزوة الأحزاب أمران، تحريم التبنى، وتطبيق التحريم فى زواج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأم المؤمنين زينب بنت جحش، ولذلك أوجبنا على أنفسنا الكلام في زواجها في هذا المقام، لأن هذا الزواج كان تطبيقا لحكم شرعى، وأعقب زواجها حكم شرعى، فحق علينا بيان الأحوال التى أحاطت بزواجها.
نزل تحريم التبنى في أوّل سورة الأحزاب، إذ قال الله تبارك وتعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ، وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ، وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ، ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ، وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ، وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ.
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ، وَمَوالِيكُمْ (الأحزاب- 3، 4) .
كان ذلك تحريما قاطعا، لا ريب فيه، ولذلك جاز للرجل أن يتزوج امرأة من يتبناه لأنه ليس ابنه، ووصف زوجة الابن التى يحرم الزواج منها بأن يكون ابنه من صلبه، لا أن يكون ابنا بالادعاء، ولذلك قال الله تعالى في ذلك في باب المحرمات وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ (النساء- 23) .
ذلك لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، يقرر حكم الإسلام بأن تكون الأسرة مترابطة بالأرحام لتكون قوية، ولا يكون فيها دخيل ليس من رحمها، ولا من صلبها، ولا من دمها، لأنه يفسدها، ويحرم ذا الحقوق من حقوقه، وينافى القاعدة المقررة في القرآن بقوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ.
483- ولقد كان التبنى شائعا في البلاد العربية مأخوذا من القانون الرومانى، وقد ألحق النبى صلى الله تعالى عليه وسلم زيد بن حارثة به بناء على ذلك العرف المأخوذ من قانون الرومان، وذلك قبل البعث المحمدى، وقبل نزول الوحى على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
ذلك أن زيدا هذا كان عبدا للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فعثر عليه أهله عنده صلى الله تعالى عليه وسلم، وأرادوا أن يفتدوا رقه بثمنه، فقال محمد صلى الله تعالى عليه وسلم: هو لكم إن اختاركم، فأرادوا أخذه، فاختار أن يبقى مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فأعتقه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وألحقه به بعد البعثة إكراما له، كما كان العرف في البلاد العربية، ولم يعد ابن حارثة فكان ينادى زيد بن محمد.
(2/713)
وقد تزوجته القرشية زينب بنت جحش، وهى نسيبة بين العرب، على أنه قرشى، وأنه أعظم العرب وأوسطهم نسبا، وهو من أنفسهم، كما قال الله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ (التوبة: 138) على قراءة فتح الفاء.
فلما نزلت الآيات التى تلوناها بتحريم التبنى، ونفى الادعياء، تململت بحياتها مع زيد إذ أنه لم يعد ابن محمد، بل أصبح الأمر الحقيقى فيه أنه ابن حارثة.
شكا الزوج من تعالى زينب عليه بنسبها، فكان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يقول له: أمسك عليك زوجك واتق الله.
وكان الله تعالى قد أمر نبيه محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم بألا يمنع زيدا من طلاقها لأن الله تعالى قد قضى أمرا، وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ (الأحزاب: 36) .
قضى الله سبحانه وتعالى أن يطلق زيد زينب، وإذا انتهت العدة تزوجها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأمر الله، ليكون ذلك تطبيقا عمليا لمنع التبنى، وليضرب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك الأمثال على إهمال التبنى ونفيه نفيا مؤكدا بالعمل.
تزوجها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تنفيذا لأمر ربه ولكيلا يكون حرج في أزواج أدعيائهم.
ولم يكن زواجه عليه الصلاة والسلام شهوة أو رغبة إلا أن تكون استجابة لأمر الله تعالى، وكذبت الإسرائيليات التى أدخلت على كبار المؤرخين كابن جرير الطبرى الذى تولى كبر إذاعة هذا الكذب الإسرائيلى والنصرانى، وكذب أولئك الكتاب الأوربيون الذين راحوا يروجونها آثمين، وإن كانوا لا يعرفون الإثم، وكذب الذين يقلدونهم تقليدا أعمى، ويحتذون حذوهم كحذو النعل بالنعل.
484- وإن الآيات في هذا المقام صريحة بأمر الله تعالى بالزواج، وصريحة في أن ذلك لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا، وصريحة في أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ليس أبا لأحد من رجالهم، صريحة في كل ذلك، ومع ذلك كان التقليد وترويج الكذب لهما الأثر، ففسد الفهم، وكانت الآفة في نفوسهم وفهمهم، لا في الوقائع ذاتها.
ولنتل الآية، وهى توضح الحقيقة. وتكذب الكذابين، والذين إيف تفكيرهم بالكذب الرائج، قال الله تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ
(2/714)
الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً. وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ، وَاتَّقِ اللَّهَ، وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ، وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ (الأحزاب- 36، 37) ، والذى أخفاه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هو أمر الله تعالى له بالزواج منها بعد طلاقها، وأن الله تعالى قدر له أن يطلقها، وهذا هو الذى أبداه فلا حب ولا عشق، والذى كان يخشاه من الناس أن يصدعهم بالزواج من امرأة دعيه، وذلك أمر غير مألوف عندهم، وكان يجب أن يخشى الله تعالى ولا يخشى الناس، لأن إرضاء الناس بغير الحق لا يجوز من داعية إلى الحق صادع به.
ثم يقول سبحانه وتعالت كلماته في الأمر الذى أبداه فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (الأحزاب- 37) . ولقد بين سبحانه من بعد ذلك أن الزواج بأمره سبحانه، وأنه ليس على النبى من حرج في تنفيذ أمر الله تعالى، همس الناس، أو صمتوا، فقال تعالت كلماته: ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ، سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً. الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ، وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً. ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ، وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ، وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (الأحزاب- 28، 40) .
وبهذه النصوص ثبت تحريم التبنى، وعدم الاعتراف به في الإسلام، وطبق ذلك على سيد الأنبياء والمرسلين والعف الكريم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، فلعن الله الأفاكين في هذا الزمان الذين لا يفكرون، ويقصدون إلى الأمر المختلف، ولا يحاولون أن يتعرفوا المعنى المؤتلف.
منع دخول بيوت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من غير استئذان:
كان منزل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بيتا للمؤمنين أجمعين، وخصوصا أنه كان على مقربة من المسجد، بل إنه متصل به، وكان أقرب البيوت إليه، بيت عائشة رضى الله عنها.
485- ويظهر أن المسلمين ما كانوا يجدون حرجا في الدخول إلى منزله عليه الصلاة والسلام، والمؤمنون الذين أشربوا آداب الإسلام، وهذب الإسلام طبعهم يستأذنون، ولا يدخلون لغير موجب، ولا يتخذون فيه مجلسا، فلما كان ناس لم يتحلوا بهذا النوع من التهذيب الإسلامى، كان لا بد من بيان ينهى، وقد كان، وسمى علماء الحديث الآيات التى بينت ذلك النهى آيات نزول الحجاب، بأن لا يدخل أحد إلا بإذن، وألا يدخل بيت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مستأنسا لحديث.
(2/715)
ونزل ذلك الحجاب في ليلة زفاف زينب بنت جحش الصالحة المعتصمة بدينها للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فقد روى عن أنس بن مالك أنه لما تزوج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم زينب بنت جحش، دعا القوم فطعموا وجلسوا يتحدثون، فإذا هو يتهيأ للقيام فلم يتهيأوا، فلما رأى ذلك قام فقاموا، وقعد ثلاثة نفر، وجاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ليدخل، فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا، فأخبرت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنهم انطلقوا.
486- روى الخبر، البخارى ومسلم.
وخلاصته كما ترى أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أولم لهم بوليمة، فلما طعموا لم ينتشروا، فتهيأ للقيام فلم يقوموا ثم قام فعلا، فقام من قام، وبقى ثلاثة لم يشعروا بما ينبغى فبقوا، فدخل صلى الله تعالى عليه وسلم إلى أهله وهم جلوس، ثم انطلقوا بعد.
وروى البخارى حديثا آخر في هذا المعنى عن أنس خادم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكنه يثبت أن الدعوة كانت عامة وواسعة، يقول أنس: بنى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بزينب بنت جحش، فأرسلت على الطعام داعيا، فيجىء قوم، فيأكلون ويخرجون ويجىء القوم فيأكلون ويخرجون، فدعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه، فقلت يا نبى الله ما أجد أحدا أدعوه، قال ارفعوا طعامكم، وبقى ثلاثة رهط يتحدثون في البيت، فخرج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة فقال: السلام عليكم أهل البيت، ورحمة الله وبركاته، قالت: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، كيف وجدت أهلك، بارك الله لك، فتقرى حجر نسائه كلهن، ويقول لهن، كما يقول لعائشة، ويقلن له، كما قالت عائشة، ثم رجع فإذا رهط ثلاثة في البيت يتحدثون وكان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم شديد الحياء، والروايات متلاقية، وإن كان في بعضها زيادة تفصيل.
487- كان هذا سببا مقاربا لنزول آية منع دخول بيت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فنزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ، وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا، فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ، إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ، وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ، ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ، وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ، وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً، إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً. إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً. لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ، وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ، وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ، وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ، وَاتَّقِينَ اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً
(الأحزاب- 53، 55) .
(2/716)
هذا تعليم من الله تعالى لقوم يحتاجون إلى هذا التعليم وهو تهذيب وتأديب، ليكون المجتمع مبنيا على مودة ورحمة، وألا يكون إيذاء نفسى، يكبته الحياء عند أهل الحياء.
وجوب الاستئذان عامة:
أوجب الإسلام بنص القرآن ألا يدخل أحد بيتا حتى يستأنس بأهله ويسلم عليهم ويستأذن منهم، لتربية النفوس، ولتكون الثقة كاملة بين الناس فلا يرتاب مرتاب، ولا يشك شاك، وقد قال الله في ذلك: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ، حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا، وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ، وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ. لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (النور- 27، 29) .
488- وبين سبحانه حكم من يكونون في داخل البيت من الخدم، ومن ملكت أيمانهم، فأوجب الاستئذان في العشية، وقبل صلاة الفجر، ومن بعد الظهيرة، فقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ، وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ، وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ، وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ، لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ، طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ، كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ، فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً، فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ، وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (النور- 51، 60) .
غزوة بنى لحيان
489- بنو لحيان هم الذين جاؤا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يطلبون إليه أن يرسل إليهم من يعلمهم الإسلام ويحفظهم القرآن، فأرسل إليهم ستة من أصحابه المؤمنين الفقهاء في الإسلام، وتبين أنهم أرادوا أن يقدموهم لقريش أسرى يسترقونهم، فقتلوا بعضهم، وباعوا الباقين بمكة المكرمة فعذبهم المشركون، ثم قتلوهم أفجر قتلة، إذ قتلوهم صلبا.
كان لا بد أن يؤدبهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على سوء ما فعلوا، وليس ذلك انتقاما كما يتوهم من لا يستطيعون تمحيص الحقائق، إنما هو قصاص أولا، ولا بد أن يتولى القصاص
(2/717)
ولى الذين قتلوا، ووليهم الله ورسوله والمؤمنون. كما قال تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا (المائدة- 55) .
ثم لابد من تأديبهم، بإنزال أشد النكال بهم، لأنهم خدعوا في أمر الدعوة، فلابد أن ينزل بهم ما يكون فيه عبرة لغيرهم، حتى لا يرتكبوا تلك الخديعة باسم الهداية.
بعد بنى قريظة أقام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالمدينة بقية ذى الحجة من سنة خمس، والمحرم وصفر وشهرى ربيع، يعلم الناس أمر دينهم، ويبلغ الدعوة، ويتصل بالقبائل العربية داعيا مرشدا، ويعلم شعار الإسلام ومبادئه لأصحابه الذين حملوا فقه الإسلام لمن بعده.
وفي جمادى الأولى خرج إلى بنى لحيان يطالب بأصحاب الرجيع خبيب بن عدى وأصحابه، وكان ذلك في سنة ست من الهجرة.
ولقد ذكر البيهقى أن ذلك كان في سنة أربع، ولكن ابن إسحاق ذكر أنه كان في سنة ست، ونحن نختار ما اختاره ابن إسحاق، فهو أوثق في أخبار السيرة، كما قال الشافعى رضى الله عنه: الناس فى السيرة عيال على محمد بن إسحاق.
خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في جمع من أصحابه، وأراد أن يصيب من الغادرين غرة، فخرج من المدينة إلى طريق على الشام، ليوهم أولئك أنه يقصد غيرهم، والحرب خدعة، وبعد أن سار أمدا عرج على اليسار متجها إلى مكة، وأغذ السير سريعا، ليدركهم قبل أن يتنبهوا إلى مقصده.
ولكنهم حذروا خوفا، وقد أدركوا أن القوة قد آلت إلى أهل الإيمان بقيادة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وتمنعوا في رؤس الجبال. وعندئذ علم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه أخطأ من غرتهم ما أراد. فاتجه إلى غسان في مائتى راكب من أصحابه حتى نزلها، وأرسل اثنين من الفرسان يتعرفان النواحى.
وإن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن سار في القبائل متعرفا داعيا، مبينا شرع الله تعالى لمن يلقاه من أهل الصحراء، قفل راجعا إلى المدينة المنورة. وإنه في هذه الرحلة المباركة، وإن لم يتمكن من تأديب الفجرة الغادرين على غدرهم وخيانتهم فقد تعرف البلاد على حالها والصحراء وقبائلها، وهو يدعو إلى دينه، حيثما وجد سبيلا للدعوة وأرهب مع ذلك أهل الشر من القبائل العربية، ونشر هيبة الإسلام فيها مما جعلهم يفكرون في أمر هذا الدين الجديد الذى جاء بالحق والقسطاس، ومعه القوة التى تحميهما.
(2/718)
فالنبى لم يرجع من الغنيمة بالإياب، بل رجع بالغنيمة الكبرى، وهى نشر الدعوة، ومعرفة الذين يدعوهم وبسط سلطان الله في الأرض العربية، ليعمها الإسلام، ثم يكون من بعد ذلك لمن وراءها من أرض الشام، وغيرها.
غزوة ذي قرد
490- خرجت غطفان بعد الخندق محنقة، لأنها طمعت في صلح. ولم يعزمه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بل كان مراوضة لتخذيلهم عن قريش، وقد تم بعض ذلك، عادت مع قريش مذمومة مدحورة، ولكن ما لم تستطعه بحرب أرادت أن تأخذه بالسلب والنهب والإغارة الجزئية، والغصب، ثم الفرار، فصاروا كشطار العرب، بل كلصوصهم، يستوى في ذلك من كان قائدا، ومن كان مقودا.
أغار عيينة بن حصن الفزارى في خيل من غطفان على نوق لقاح للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالغابة، وفيها رجل من بنى غفار وامرأته. فقتلوا الرجل، وساقوا المرأة مع اللقاح، وكانوا بهذا كقطاع الطريق الذين يقومون بالسلب والنهب، ورأوا أن ذلك أنكى للمسلمين من أن يلتقوا معهم في حرب تشتجر فيها السيوف، وإن كان ذلك أبعد عن المروءة، والخلق العربى الكريم.
كان بعض فرسان المؤمنين قد علم بأمرهم، منهم سلمة بن الأكوع، ومعه غلام لطلحة بن عبيد الله معه فرس، وقد أصبح يريد الغابة، حتى إذا كانوا بثنية الوداع نظر إلى بعض خيول المعتدين، فصرخ: واصباحاه، ثم خرج يشتد في آثار القوم، وكان رجلا قويا مثل السبع، حتى لحق القوم، وأخذ يردهم بالنبل، ويقول، إذا رمى: خذها وأنا ابن الأكوع. اليوم يوم الوضّع (أى اللئام) . وكانوا من قوة الرمى يحاولون أن ينقضوا عليه، فإذا وجهت خيلهم نحوه انطلق هاربا من لقائهم وجها لوجه، ولكنه يعارضهم ليتمكن من الرمى، فإذا رمى يقول: خذها وأنا ابن الأكوع، ولما بلغ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما كان من هؤلاء، وسمع صياح ابن الأكوع دعا الفرسان من المهاجرين والأنصار، فكان أوّل فارس تقدم المقداد بن الأسود، وتوالى من بعد ذلك الفرسان الذين يتبعونهم فارسا بعد فارس. وقد رأى رجلا من رزين اسمه أبو عياش، معه فرس، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لو أعطيت هذا الفرس رجلا هو أفرس منك، فقال رضى الله عنه: أنا أفرس الناس، ولكنه ما جرى به خمسين ذراعا، حتى طرحه أرضا. فتولى الفرس غيره، وهكذا تولى الفرسان يلاحقون الفارين السالبين.
(2/719)
خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مع الفرسان، وأقام على المدينة ابن أم مكتوم، وسار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من أصحابه، واستنقذوا بعض اللقاح، ولم ينقذوها كلها، ولكنهم قتلوا من أدركوه من القوم، واستمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في سيره حتى نزل بالجبل من ذى قرد، وتلاحق عليه الناس، وأقام عليه يوما وليلة.
عاد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد قسم على كل مائة رجل جزورا. وقد نجت امرأة الغفارى على ناقة من إبل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عند ما شغل القوم بالفرار من فرسان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
وكانت قد نذرت لله تعالى إن نجاها عليها أن تنحرها، فتبسم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عند ما علم عزمتها، وقال بئسما جزيتها أن حملك الله عليها ونجاك بها، ثم تنحرينها، إنه لا نذر فى معصية الله تعالى، ولا فيما لا تملكين، إنما هى ناقة من إبلى، فارجعى إلى أهلك على بركة الله تعالى.
وقد روى حديث امرأة الغفارى عن الحسن البصرى موقوفا.
وبذلك انتهت هذه الغزوة التى دفعت غارة من غارات الأعراب.
غزوة بنى المصطلق
419- ذكر ابن إسحاق بسنده أنها كانت في شعبان من سنة ست من الهجرة، وروى أنها كانت في شعبان سنة خمس، وقال الواقدى في تاريخه إنها كانت بعد ليلتين من شعبان سنة خمس.
ولقد ذكر بعض الكاتبين في عصرنا أنه يستحيل أن تكون في سنة ست، لأنه جاء في عقبها حديث الإفك، وذكر فيه مجاوبة بين سعد بن عبادة وسعد بن معاذ وملاحاة بينهما وسعد بن معاذ كان قد مات أثر جرح بعد قريظة سنة خمس.
وإن هذه الملاحاة لم تكن بين ابن عبادة وسعد بن معاذ، وإنما كانت بين أسيد بن حضير، وسعد بن عبادة، وعلى ذلك لا دليل من حديث الإفك على أنها كانت في الخامسة.
وفي الحقيقة أنا لا نجد في الروايات ترجيحا بينها، ونميل إلى أنها كانت في الخامسة، وقبل الخندق غير ترجيح، ولكن نأخذ بترتيب ابن إسحاق، ونضعها بعد الخندق، لأننا نقبل أن نكون عيالا
(2/720)
على ابن إسحاق، كما قال الشافعى رضى الله تبارك وتعالى عنه: «الناس عيال في السيرة على محمد بن إسحق» .
علم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن بنى المصطلق يجمعون الجموع له، وهم من خزاعة، وعلى منهاج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه إذا تأكد أن قوما يريدون الإغارة عليهم بادرهم قبل أن يبادروه، فإنه ما غزى قوم في عقر دارهم إلا ذلوا.
أقام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على المدينة المنورة أباذر الغفارى وخرج إليهم كما يقول الواقدى في سبعمائة من أصحابه، حتى التقى في ماء عندهم يسمى المريسيع.
وكان لواء المهاجرين مع أبى بكر الصديق، ولواء الأنصار مع سعد بن عبادة، وقيل كان لواء المهاجرين مع عمار بن ياسر.
وأمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن ينادى فيهم فنادى أن قولوا لا إله إلا الله تمنعوا وأموالكم فأبوا إلا القتال.
فقاتلهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بجيش المؤمنين فما أفلت منهم، فقتل منهم عشرة، وأسر سائرهم وسبى نساءهم.
وقد حدث في هذه الغزوة أن رجلا من المؤمنين اسمه هشام بن صبابة أصابه رجل من الأنصار وهو يظن أنه مباح الدم من الأعداء.
كان ذلك القتل خطأ فكان له دية مسلمة إلى أهله، وقد وداه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
فجاء أخوه مقيس بن صبابة من مكة المكرمة مظهرا الإسلام، فطالب بالدية فأعطاه الرسول الدية، وأقام مع المؤمنين حتى تمكن من قتل قاتل أخيه، مع أن القتل كان خطأ، ثم عاد مرتدا إلى مكة المكرمة، وبذلك ارتكب جريمتين: أما الجريمة الأولى: فهى أنه قتل بعد أن أخذ الدية، والقتل كان خطأ فلا قصاص وأخذ الثأر معتديا آثما.
والجريمة الثانية أنه ارتد بعد إسلام أظهره.
ولهاتين الجريمتين كان يستحق إباحة دمه وإحداهما تسوغ قتله.
ولذلك أباح النبى صلى الله تعالى عليه وسلم دمه، ولذلك كان من الذين أهدر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم فتح مكة المكرمة دماءهم، وإن تعلقوا بأستار الكعبة.
(2/721)
وإن هذا يدل على أن الردة توجب القتل، ويصدق عليه قول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم:
«من بدل دينه فاقتلوه» .
ودلالة إباحة دم مقيس هذا لقتله قاتل أخيه أو لردته، ولذلك كانت الدلالة احتمالية من حيث تعيين السبب.
إثارة فتنة وإطفاؤها:
492- فى هذه الغزوة ثارت فتنة، ولكن أطفأها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بحكمته.
ذلك أن الناس كانوا يردون الماء، وفيهم أجير لعمر بن الخطاب يقال جهجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم أجير عمر هذا مع سنان بن وبر الجهنى حليف بنى عوف من الخزرج فاقتتلا، فصاح الجهنى: يا معشر الأنصار، وصاح أجير عمر: يا معشر المهاجرين.
ولم يجب الأنصار صرخة حليفهم، ولا المهاجرون صرخة أجيرهم، ولكن النفاق استغل ذلك لتكون تارة ثائرة.
غضب عبد الله بن أبى بن سلول زعيم المنافقين مع رهط من رجاله، وكان في مجلسهم زيد ابن أرقم، ولم يكن منافقا بل كان مؤمنا.
قال ابن أبى بن سلول: قد ناقرونا، وكاثرونا في بلادنا والله ما عدنا وجلابيب قريش (أى المهاجرين) إلا كما قال الأوّل: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ثم أقبل على من حضره من قومه، فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير دوركم.
سمع ذلك زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأبلغه الخبر بعد فراغه من غزوة عدوه، وكان عنده عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فقال له عمر: مر به عباد بن بشر فليقتله.
قال ذلك عمر بحمية الإيمان، ولكن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو الحليم الذى يعالج النفوس والأمور قال: «فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه» ولكن أذن بالرحيل، فارتحل الناس.
(2/722)
فالعلاج إن لم يكن حاسما للفتنة، فهو مانع من أن تتأجج نيرانها، ذلك أن الفتن إذا عرضت للنفوس، وتبادلتها الأقوال، ورددتها الألسنة يكثر القول الذى يلهبها، وإطفاؤها أو تخفيفها يمنع ترديدها، وشغل الناس بغيرها.
فكان الأمر بالرحيل شغلا للناس عنها.
جاء عبد الله بن أبى بن سلول إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ينفى ما نسب إليه، لأن المنافق يستتر دائما، ويمنع أن ينكشف، فإذا بدا بعض أمره حاول إعادة ستره.
قال ساترا كاذبا حالفا: ما قلت ما قال، ولا تكلمات به.
وكان في زعم قومه شريفا عظيما، فقال بعض من حضر من الأنصار من أصحابه حدبا على ابن أبى، أو تخفيفا لوقع الأمر، قال: عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل.
ومهما يكن من الأمر فقد عالج النبى الموقف بشغل الناس بالرحيل قبل ميقاته، حتى لقد قال أسيد بن حضير للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: يا نبى الله لقد رحت في ساعة مبكرة ما كنت تروح فى مثلها.
قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أو ما بلغك ما قاله صاحبكم؟ قال: وأى صاحب يا رسول الله؟ قال: عبد الله بن أبى بن سلول. قال: وما قال؟ قال زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال: فأنت يا رسول الله والله تخرجه إن شئت وهو الذليل وأنت العزيز.
ثم قال: يا رسول الله، ارفق به، فو الله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبت منه ملكا.
مشى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصار في صدر ذلك اليوم الثانى حتى آذتهم الشمس.
ويقول في تعليل ذلك ابن إسحاق: وإنما فعل ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ليشغل الناس عن الحديث الذى كان بالأمس.
إنه عند ما نزل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن آذتهم الشمس، ومست جنوبهم الأرض حتى ناموا.
(2/723)
وفي النوم لم يذكروا ما كان من خلاف، ولم يحسوا إلا بالتعب، فشغلهم التعب الجسمى عن القلق النفسى، فانطفأت نار هذه الفتنة، لتكون فتنة أشد إيذاء، وأبلغ تأثيرا، وكانت أيضا من النفاق والمنافقين، وشاعت نيرانها، حتى شملت بعض المؤمنين من الأنصار، وبعض المهاجرين من ذى القربى ممن أشيعت حولها الفتنة.
ولقد قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عند ما بلغه التنادى يا معشر المهاجرين، ونادى الآخر يا معشر الأنصار، قال النبى: دعوها فإنها منتنة، أى دعوى خبيثة جاهلية، حتى نتنت بقدمها.
وعند ما علم عبد الله بن عبد الله بن أبى، وقد كان مؤمنا قوى الإيمان بما قال أبوه، وما حرض به، مشى إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إنه قد بلغنى أنك تريد قتل عبد الله بن أبى فيما بلغك عنه، فإن كنت لابد فاعلا فمرنى، فأنا أحمل إليك رأسه. فو الله لقد علمت الخزرج ما كان بها من رجل أبر بوالده منى، وإنى أخشى أن تأمر به غيرى فيقتله فلا تدعنى نفسى أنظر إلى قاتل أبى يمشى في الناس، فأقتل رجلا مؤمنا بكافر، فأدخل النار، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: بل نرفق به، ونحسن صحبته ما بقى معنا.
وكان لفعله أثر شديد في نفس النبى وإن كان قد عالجه بما كان فيه الوقاية من تفاقمها، فقد كان لها أثر في نفوس المؤمنين، فكان قوم ابن أبى حريصين على منعه من أى فتنة ولومه على كل قول يكون منه بما يدل على قلبه، فكانوا هم الذين يعاقبونه، ويأخذونه فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لعمر بن الخطاب، كيف ترى يا عمر، أما والله لو قتلته يوم قلت لأرعدت أنوف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته. فقال عمر رضى الله تعالى عنه مذعنا: قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أعظم بركة من أمرى.
هذا وقد أنزل الله تعالى جزآ من سورة المنافقين في هذا الأمر، فقد قال الله تعالى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ. اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ، فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ. وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ، وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ، يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ، هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ، وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ. سَواءٌ
(2/724)
عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ. هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا، وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ. يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (المنافقون- 1- 8) .
هذا حكم الله على المنافقين، وقد حكم الله تعالى بأنهم لا يفقهون، ولا يجزيهم استغفار الرسول لهم، لأنهم عثوا في كفرهم إذ الكفر من غير نفاق جهل وحمق وعناد، ومنشؤه غالبا من عدم إدراكهم الحق، فهم لا يذعنون، وتوبتهم قريبة إذا زالت غواشى الضلال والجهالة. أما النفاق فهو دركتان فى الكفر هو عناد وحقد من غير جهل، ومحاولة لستر الحقائق وإبعادهم ذرائع الإيمان عن نفوسهم، ومحاولتهم طمس الحقائق في قلوبهم، فطبع على قلوبهم، ولذلك وصفهم الله سبحانه وتعالى بأنهم لا يفقهون، فلا يشق نور الحق قلوبهم المعتمة.
الأسرى والسبايا من بنى المصطلق:
493- أثخن المسلمون في بنى المصطلق، إذ لم تبق فيهم قوة يستطيعون أن يغيروا بها على المؤمنين فإنه قتل منهم من قتل، وسيق الباقون أسرى وسبايا، ولم يسترقهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نهائيا فقد شد الوثاق ابتداء، وقيل إنه وزعهم غنائم على المحاربين، ولكنه أطلقهم في النهاية، ونرى أنه تدرج في معاملة الأسرى، ونرجح بهذا المعنى أن غزوة بنى المصطلق كانت بعد غزوة قريظة، ذلك أنه فى غزوة قريظة قتل الرجال، وسبى النساء، وباعهن في نجد في خيل اشتراها في مقابلهن قوة للمسلمين.
أما في هذه وهى غزوة بنى المصطلق فقد تصرف صلى الله تعالى عليه وسلم تصرفا حكيما أدى إلى ألا يباع منهم أحد، حتى بعد تقسيمهم بين الغانمين، وألا يسبى منهم امرأة بعد تقسيمهم.
فإن كتب السيرة تروى ما ثبت في صحاح السنة، وذلك أن الناس قسموا الرجال والنساء بينهم، وأبقى رسول الله جويرية بنت الحارث التى صارت من بعد من أمهات المؤمنين، ولنترك الكلمة لابن هشام الذى روى بعض الروايات، فهو يقول:
يقال أنه لما انصرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من غزوة بنى المصطلق ومعه جويرية بنت الحارث، دفعها إلى رجل من الأنصار وديعة وأمره بالاحتفاظ بها. وقدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة، فأقبل أبوها الحارث بن ضرار لفداء ابنته، فلما كان بالعقيق نظر إلى الإبل التى جاء بها
(2/725)
للفداء، فرغب في بعيرين منها، فغيبهما في شعب» من شعاب العقيق، ثم أتى إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال: «يا محمد، أصبتم ابنتى، وهذا فداؤها» فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «فأين البعيران اللذان غيبتهما بالعقيق في شعب كذا وكذا» فقال الحارث: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك محمد رسول الله، فو الله ما اطلع على ذلك إلا الله تعالى.
أسلم الحارث، وأسلم معه ابنان له وناس من قومه، وأرسل إلى البعيرين، فجاء بهما الرسول؛ فدفع الإبل إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ودفعت إليه ابنته جويرية، فأسلمت، وحسن إسلامها، فخطبها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من أبيها، فزوجه إياها، وأصدقها أربعمائة درهم.
وقد أعتق بعد ذلك كل من كان في يده واحد منهم، وقالوا: أنسترق أصهار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
هذا ما قاله ابن هشام، ولم يذكر الرواية التى اعتمد عليها، وإن كانت الصحاح توميء إلى ذلك، وإن لم تفصله ذلك التفصيل، وهذا الخبر يدل على أن الرق لم يكتب على أم المؤمنين جويرية.
ولكن ابن إسحاق روى عن أم المؤمنين ما يفيد أن رقا قد كتب عليها، وإليك ما روى عن عائشة رضى الله تعالى عنها وعن أبيها، وإليك ما رواه عروة بن الزبير عن عائشة قالت: «لما قسم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سبايا بنى المصطلق، وقعت جويرية بنت الحارث في سهم ثابت بن قيس أو لابن عم له، فكاتبت على نفسها، وكانت امرأة حلوة ملاحة، لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه، فأتت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مستعينة في كتابتها ... فدخلت؟ فقالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث، سيد قومه، وقد أصابنى من البلاء ما لم يخف عليك فوقعت في السهم لثابت بن قيس أو لابن عم له، فكاتبته على نفسى، فجئتك أستعين على كتابتي، قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «هل لك في خير من ذلك؟ قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: أقضى عنك كتابتك وأتزوجك، قالت: نعم يا رسول الله، قال: قد فعلت» .
وإن الفارق بين الروايتين أن ما ذكره ابن هشام، أن أباها هو الذى زوجها من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنه لم يجر عليها الرق إذ افتداها أبوها بالإبل، وذكر فيها الصداق، وهو أربعمائة درهم، أما رواية ابن إسحق فكتبت أن الرق قد كتب عليها، وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم دفع عنها ما كاتبت عليه.
ونحن نرى أن سياق ابن هشام أكثر انسجاما، واتساقا مع أحكام الإسلام، إذ أن وليها هو الذى زوجها، وذلك مبدأ مقرر في الإسلام، ولم يجز للمرأة أن تعقد زواجها بنفسها إلا أبو حنيفة رضى الله تعالى عنه، وخالفه جمهور الفقهاء.
(2/726)
وفوق ذلك في رواية ابن إسحق ما قد يكون علة في الحديث، ففيه أنه نسب لعائشة رضى الله تعالى عنها وقد وصفتها بأنها امرأة حلوة مليحة: «فو الله ما أن رأيتها على باب حجرتى فكرهتها، وعرفت أنه سيرى منها صلى الله تعالى عليه وسلم ... ما رأيت فدخلت» وإنا نرى أن هذه العبارة، لا يليق أن تنسب لعائشة، لمكانتها في الإسلام، ولا أن ينسب ما تضمنته للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
وكتب السنة لم تذكر ما ذكرته رواية ابن إسحاق.
ومهما كان الأمر في هذه الروايات فإن زواج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ترتب عليه عتق قومها جميعا.
وإنا نقول إن زواجه صلى الله تعالى عليه وسلم منها كاف لأن يدع المسلمون ما بأيديهم من الأسرى والسبايا، إذ عتق بزواجها رجال مائة دار من العرب، وقد أسلم قومها، ودخلوا في ظل الإسلام، وكانت تجمع منهم الزكاة.
خطأ في الإدراك:
494- لما أسلموا صاروا في ظل الدولة الإسلامية وتابعين لحكم المدينة، فأرسل إليهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الوليد بن عقبة بن أبى معيط ليجمع منهم الزكاة.
لما سمعوا به ركبوا إليه، فظنهم مغيرين عليه فهابهم، ويظهر أنهم كانوا يستقبلونه لا ليغيروا ولا ليثوروا، ولا ليحاربوا.
عاد إلى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره أن القوم قد هموا بقتله، ومنعوه ما قبلهم من صدقتهم، فأثار بذلك ثائرة بعض المسلمين، وكان منهم من أكثر في القول بغزوهم.
وما كان أساس الأمر إلا سوء فهم للأمور، فقد قدم وفدهم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
قالوا يا رسول الله: سمعنا رسولك حين بعثته إلينا، فخرجنا إليه لنكرمه ونؤدى إليه ما قبلنا من الصدقة، فانشمر راجعا، فبلغنا أنه زعم لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أننا خرجنا لنقتله، وو الله ما جئنا لذلك.
والظاهر أن إساءة الفهم كانت منه، وفرض أنهم جاؤا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خوفا من غزو جرى على ألسنة بعض المؤمنين بعيد، لأنه من الضرورى حمل حال المؤمن على
(2/727)
الصلاح، ولذا قيل أنه نزل في هذا الموضع قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (الحجرات- 6) والله أعلم بما تخفى الصدور.
حديث الإفك
495- اختصت غزوة بنى المصطلق بأن جاء في أعقابها أمور تتبعها أحكام لسياسة الجماعة، وإصلاح النفوس ومداواة مرضى القلوب.
فكان فيها معاملة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لمن وقعوا في الأسر والسبى بعد أن أثخن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في محاربيه، وقد كان عمله يتجه إلى المن بدل الفداء وقتل الرجال وسبى النساء، وعمل الرسول سنة متبعة، فهو لا يفرض الرق إلا إذا كان يتوقع أن تكون بينه وبين من أسر منهم حرب، وقد كان يتوقع مع اليهود حربا قد يأسرون من المسلمين فيها، فيسترقون ويسبون فعاملهم بما يتوقع أن يعاملوا بمثله، والحرب بينه وبينهم لم تنته بعد، ولم يثخن في قوتهم، بل لا تزال لهم قوة مرهوبة ولم يكن يتوقع من بنى المصطلق من بعد ذلك حربا، وكان في أثنائها نفاق المنافقين الذين اتجهوا إلى إشعال فتنة بين المهاجرين والأنصار وهم قوة الإسلام، وقد عالج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الأمر بالترفق بالمنافقين، حتى ينكشف أمرهم ويلفظهم قومهم، ويكون تأديبهم من أهليهم، ثم لا يكون لنفاقهم قوة التأثير، إذ لا يخدع بهم أحد من أهل الإيمان، وينالهم الضلال، وبذلك بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كيف يعامل المنافقون بتركهم، حتى يذوى عودهم من ذات نفسه مع التحذير منهم.
والأمر الخطير في ذات نفسه، وكان فيه إيذاء للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم وأهله، وهو حديث الإفك، الذى كان في ذاته إثما عظيما، وفي آثاره خطيرا في المجتمع، إذ من شأنه أن يشيع الفاحشة في المجتمع، ويدنسه بظهور الرذيلة فيه، وفوق ذلك فيه هجوم على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وفيه استهانة بمقام صاحب الرسالة الذى كرمه الله تعالى في السموات وفي الأرض، وقال الله تعالى في شأنه لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (الأحزاب- 21) .
وقد اشترك في هذا الحديث المنافقون وعلى رأسهم عبد الله بن أبى الذى قالت فيه أم المؤمنين عائشة الطهور: إن الذى تولى كبره عبد الله بن أبى.
وكان مع المنافقين زلل لبعض المهاجرين والأنصار، فلم تنزه فيه ألسنة أهل الإيمان من قبيل الاستهانة بالأخبار، وقبولها من غير تمحيص، ولا التفات لمغزاها ومرماها، بل كان تشهيا للحديث مجردا
(2/728)
من كل اعتبار، فكان هذا من بعد تنبها إلى وجوب العمل على حماية المجتمع من مروجات الشر، ومن الخرص بالظنون، والاحتفاظ بكرامات البيوتات، ولقد قال تعالى في ذلك: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ، لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ.
والخير فيما شرف الله به بيت النبوة، وفيما أعقبه من تطهير نفوس الذين خاضوا فيه بإقامة الحد عليهم بجلدهم ثمانين جلدة، ثم ما بين الله سبحانه وتعالى أن الإثم الذى اكتسبه بعض المهاجرين لا يمنع معونتهم من خير يسدى، فحسبهم عقوبة الحد الزاجر.
496- ونذكر الآن حديث الإفك، كما جاء في كتب السيرة وصحاح السنة:
كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يختار من نسائه للسفر معه عند ما يريد السفر بالقرعة، فكانت القرعة في غزوة بنى المصطلق على أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق، فخرجت معه في هذه الغزوة وفي عودتها نزلت لحاجتها، فتخلفت عن الركب، ولنترك لابنة الصديق ذكر القصة، وقد وافق ما جاء في الصحيحين عن هذا الأمر.
قالت في سفره عليه الصلاة والسلام لبنى المصطلق، «فلما فرغ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من سفره ذلك جاء قافلا حتى إذا كان قريبا من المدينة، نزل منزلا فبات فيه بعض الليل، ثم أذن مؤذن في الناس بالرحيل، فارتحل الناس فخرجت لبعض حاجتى؛ وفي عنقى عقد ... فلما فرغت انسل من عنقى ولا أدرى، فلما رجعت إلى الرحل ألتمسه في عنقى فلم أجده، وقد أخذ الناس في الرحيل فرجعت إلى مكانى الذى ذهبت إليه، فالتمسته، حتى وجدته.
وجاء القوم خلافى الذين كانوا يرحلون إلى البعير (أى أنهم ساقوا البعير الذى كان يقلها) وقد كانوا قد فرغوا من رحلته فأخذوا الهودج، وهم يظنون أنى فيه كما كنت أصنع، فاحتملوه، فشدوه على البعير، ولم يشكوا أنى فيه، ثم أخذوا برأس البعير، فانطلقوا به، فرجعت إلى المعسكر، وما فيه داع ولا مجيب، قد انطلق الناس، فتلففت بجلبابى، ثم اضطجعت مكانى، وعرفت أنى لو افتقدت لرجع الناس إليّ، فو الله إنى لمضطجعة، إذ مربى صفوان بن المعطل السلمى، وكان قد تخلف عن العسكر لبعض حاجاته، فلم بيت مع الناس، فرأى سوادى فأقبل حتى وقف، وكان يرانى قبل أن يضرب الحجاب فلما رآنى قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ظعينة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنا متلفلفة في ثيابى، قال:
فما خلفك يرحمك الله؟ فما كلمته ثم قرب إلى البعير فقال: اركبى، واستأخر منى، فركبت وأخذ برأس البعير وانطلق سريعا يطلب الناس، فو الله ما أدركنا الناس، وما افتقدت حتى أصبحت ونزل الناس، فلما
(2/729)
اطمأنوا طلع الرجل يقود بى، فقال أهل الإفك ما قالوا، وارتج العسكر، والله ما أعلم بشيء من ذلك، ثم قدمنا المدينة» .
هذه عبارة أم المؤمنين الصادقة بنت الصديق تبين الواقعة، كما هى؛ وكما عاينت وشاهدت، ولنتركها تذكر ما شاع ومن أشاع، فهى تحكى الوقائع، وتحكى خلجات نفسها المؤمنة الباكية وهى في غضارة الصبا.
«فلم ألبث أن اشتكيت شكوى شديدة لا يبلغنى من ذلك شيء، وقد انتهى الحديث إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وإلى أبوى، لا يذكرون منه قليلا ولا كثير، إلا أنى قد أنكرت من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعض لطفه بى، وكنت إذا اشتكيت رحمنى ولطف بى، فلم أزل في شكواى، فأنكرت ذلك منه، كان إذا دخل على وعندى أمى تمرضنى، قال: كيف تيكم؟
لا يزيد على ذلك، حتى وجدت في نفسى فقلت: يا رسول الله- حين رأيت ما رأيت من جفائه لى- لو أذنت لى، فانتقلت إلى أمى فمرضتنى، قال: لا عليك. فانقلبت إلى أمى، ولا علم لى بشيء، مما كان حتى نقهت من وجعى بعد بضع وعشرين ليلة ... فخرجت ليلة لبعض حاجتى ومعى أم مسطح ابنة أبى رهم بن عبد، فو الله إنها لتمشى إذ عثرت في مرطها، فقالت: تعس مسطح، قلت: بئس لعمرو الله ما قلت لرجل من المهاجرين، وقد شهد بدرا!! قالت: أو ما بلغك الخبر، فأخبرتنى بالذى كان من قول أهل الإفك، قلت: أو قد كان هذا؟ قالت: نعم والله قد كان، فو الله ما قدرت على قضاء حاجتى، ورجعت، فو الله ما زلت أبكى، حتى ظننت أن البكاء سيصدع كبدى، وقلت لأمى: يغفر الله لك!! تحدث الناس بما تحدثوا به، ولا تذكرى لى من ذلك شيئا!! قالت: أى بنية خففى عليك الشأن، فو الله لقل ما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر، إلا كثرن وكثر الناس عليها.
قالت: وقد قام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فخطبهم، ولا أعلم بذلك فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس ما بال رجال يؤذوننى في أهلى، ويقولون عليهم غير الحق. والله ما علمت عليهم إلا خيرا، ويقولون ذلك لرجل ما علمت منه إلا خيرا، ولا يدخل بيتا من بيوتى إلا وهو معى.
قالت أم المؤمنين عائشة: وكان كبر ذلك عند عبد الله بن أبي بن سلول في رجال من الخزرج مع الذي قال مسطح، وحمنة بنت جحش، وذلك أن أختها زينب بنت جحش كانت عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم تكن امرأة من نسائه يناصبني في المنزلة عنده غيرها، فأما زينب فعصمها الله بدينها، فلم تقل إلا خيرا، وأما حمنة فأشاعت من ذلك ما أشاعت، تضارني لأختها، فشقيت بذلك.
(2/730)
فلما قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تلك المقالة قال أسيد بن حضير: يا رسول الله إن يكونوا من الأوس نكفيكهم، وإن يكونوا من إخواننا الخزرج، فمرنا أمرك، فو الله إنهم لأهل أن تضرب أعناقهم.
فقام سعد بن عبادة، وكان قبل ذلك يرى رجلا صالحا، فقال: كذبت لعمرو الله، ما تضرب أعناقهم، أما والله ما قلت هذه المقالة إلا لأنك قد عرفت أنهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا.
فقال أسيد بن حضير: كذبت لعمرو الله، ولكنك منافق تجادل عن المنافقين، وتساور الناس.
حتى كاد يكون بين هذين الحيين من الأوس والخزرج شر.
فدخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عليّ، فدعا على بن أبى طالب، وأسامة بن زيد، فاستشارهما، فأما أسامة فأثنى خيرا ثم قال: يا رسول الله أهلك، وما نعلم عنهم إلا خيرا، وهذا الكذب والباطل.
وأما على فإنه قال: يا رسول الله إن النساء لكثير، وإنك لقادر أن تستخلف، وسل الجارية فإنها ستصدقك، فدعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بريرة يسألها، فقام إليها فضربها ضربا شديدا «1» .
ويقول: أصدقى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فتقول (بريرة) : والله ما أعلم إلا خيرا، وما كنت أعيب على عائشة إلا أنى كنت أعجن عجينى، فامرها أن تحفظه، فتنام عنه، فتأتى الشاة فتأكله.
ثم دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وعندى أبوى، وعندى امرأة من الأنصار، وأنا أبكى وهى تبكى، فجلس، فحمد الله تعالى، وأثنى عليه، ثم قال: يا عائشة، إنه قد بلغك من قول الناس فاتقى الله، إن كنت قد قارفت سوآ مما يقول الناس، فتوبى إلى الله، فإن الله يقبل التوبة عن عباده، فقلص الدمع، حتى ما أحس منه شيئا. وانتظرت أبوى أن يجيبا عنى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فلم يتكلما، وأيم الله لأنا كنت أحقر في نفسى وأصغر شأنا من أن ينزل في قرآنا يقرأ، ويصلى به الناس، ولكنى كنت أرجو أن يرى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما يكذب الله به عنى لما يعلم من براءتى، ويخبر خبرا، وأما قرآنا ينزل في، فو الله لنفسى كانت أحقر عندى من ذلك.
ولما لم أر أبوى يتكلمان قلت لهما ألا تجيبان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. فقالا: فو الله لا ندرى بما نجيبه، ووالله ما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل على آل أبى بكر في تلك الأيام، فلما استعجما على استعبرت فبكيت، فقلت: لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبدا، والله إنى لا أعلم إن أقررت
__________
(1) أكثر الروايات لم تذكر الضرب، وما كان لعلي أن يضرب في حضرة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وفسر السهيلي الضرب بالقول الشديد.
(2/731)
بما يقول الناس، والله تعالى يعلم أنى منه بريئة لأقولن ما لم يكن، ولئن أنا أنكرت يقولون لا تصدقونى، ثم التمست اسم يعقوب أذكره، ولكن سأقول كما قال أبو يوسف: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ، فو الله ما برح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مجلسه، حتى تغشاه من الله ما كان يتغشاه، فسجى بثوبه، ووضع وسادة من أدم تحت رأسه، فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت، فو الله ما فزعت، وما باليت، قد عرفت أنى بريئة، وأن الله تعالى غير ظالمى، وأما أبواى فو الذى نفس عائشة بيده ما سرى عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، حتى ظننت لتخرجن أنفسهما حزنا من أن يأتى من الله تحقيق ما قال الناس، ثم سرى عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فجلس، وإنه ليتحدر عن وجهه مثل الجمان- فى يوم شات- فجعل يمسح العرق من وجهه، ويقول: أبشرى يا عائشة قد أنزل الله عز وجل براءتك.
قلت: الحمد لله.
ثم خرج على الناس فخطبهم، وتلا عليهم ما أنزل الله تعالى من القرآن الكريم، ثم أمر بمسطح ابن أثالة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش ممن أفصح بالفاحشة فضربوا حدهم.
497- ذكرنا القصة مع طولها، كما جاءت على لسان المجنى عليها، وقد اخترنا تلك الرواية لما فيها من جمع لكل معانى الروايات، لأنها تصور نفس تلك الصبية الكريمة التى لم تكن قد تجاوزت الرابعة عشرة من سنها.
امتحن الله تعالى تلك الصبية الطاهرة لزوج أعظم رجل في الوجود الإنسانى وابنة صاحبه في الغار، وهى في سن قريب من الطفولة، امتحنت أولا- بأن تخلفت عن الركب، وصارت في أرض قفر وحدها، فلم تصرخ ولم تولول، بل فوضت مؤمنة أمرها لربها، وتجلببت بجلبابها، ونامت آمنة مطمئنة منتظرة أمر الله فيها عالمة أن الله لا يضيعها، ويجيء رجل مكتمل عرف بالتقوى، بل قيل أنه حصور ليس له في النساء أرب، فاسترجع عند ما رآها، وعجب أن يرى في الليل، وفي هذا المكان الموحش، وهو يسترجع ويقول: ظعينة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وينيخ لها البعير، فتركبه من غير معونة أحد، وليس معها مكان الرحيل بها وهو هودجها، إذ أنه حمل على بعيرها، زعم من رفعوه إليها أنها فيه، لصغر ثقلها.
وإنها من بعد ذلك تستقبل المدينة بصخبها وجلبها، ونفاق بعضها، وفضول الأكثرين الذين لا يتركون الظن أو التظنن، وهو من الإثم، كما قال الله تعالى: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ (الحجرات- 12) .
وإذا ظنوا أشاعوا غير ناظرين إلى عاقبة، ولا إلى أثر القول، ولا إلى موضوع القول، ومكانة صاحبته فى أهلها وبعلها، ومكان من يناله السوء من إشاعة، ويندفع في ترداده غير عالم له بحقيقة، ولكنها ظن السوء المجرد وشهوة قول الفتنة، والفضول الذى يسود بعض الناس، وما أصدق قول الله تعالى في وصف
(2/732)
الذين خاضوا، وهم الجماعات الإنسانية قلوا أو كثروا، وهو يقدم لهم أحسن الأدب، وما يجب التحلى به عند ما يقال القول من أحمق مأفون، أو منافق مفتون، يقول تعالت كلماته: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ، وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ. وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ. يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (النور 15- 17) .
نعم إنهم تلقوه بألسنتهم، لا بعيونهم، وأخذوه من الألسنة المرددة، لا من مصادر العلم المتيقنة، وأشاعوه بالأفواه لتزجية القول في المجالس، والسمر الماجن الفاسد، ويحسبون ذلك أمرا سهلا، معتادا، وهو عند الله تعالى أعظم الفرية، وإن المؤمن لا يتلقاه بالترويج والإشاعة إنما يرده، أو يبعدوا الفضول عن أنفسهم، وإنه لا ينبغى ترداده، بل رده، لأنه بهتان عظيم.
وهنا قد شاعت قالة السوء، ورددها المهاجر والأنصارى والمنافق والمخلص في غير تحر ولا احتراس عن لغو القول وبهتانه، هنا نجد عظمة الرسول، وإيمانه بأن الطيبين للطيبات وحسن ظنه بأهله. وقوة إيمانه النبوى وضبط نفسه، وصبره، فيقول شاكيا الناس إلى الناس: ما بال رجال يؤذوننى في أهلى، ويقولون عليهم غير الحق، والله ما علمت عليهم إلا خيرا، ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيرا، ولا يدخل بيتا من بيوتى إلا وهو معى.
لام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الرجال الذين أشاعوا القول الكاذب، وتضمن قوله لوم الذين استمعوا إليهم.
ولقد كان ذلك إنهاء لترداد القول، لأن الذى نفى الخبر وكذبه هو صاحب الشأن، وهم من علموه لا ينطق عن الهوى. فكان ذلك إطفاء للثائرة.
ولكن إذا كان ذلك القول من أخلاق النبوة فقد بقى حكم البشرية، والبشرية لها سلطان لم تكذب ولم تصدق، ولكن النفس ارتابت، والارتياب ينساب في النفوس إذا كانت له أسباب ولو بالظن الذى لا دليل على صدقه.
وهنا نجد التعليم العالى من محمد صلى الله تعالى عليه وسلم لمن يختبره الله تعالى بمثل تلك القالة الآثمة. فهو لا يسارع إلى أهله يبادرهم بالاتهام أو الإيذاء، أو غير ذلك مما يرتكبه ابن الإنسان في غضبه أو ريبه، بل إنه يتلقى ذلك بالصبر الكظيم الهاديء الذى يميل إلى التبرئة، ولا يميل إلى الاتهام.
ولكن أمرا لا يملكه وهو ألا يبدو عنه أثر للألم المكين، وإن لم يظهر لعنا ولا سخطا، بل إنه لا يفكر في أن يذكر لها الخبر، حتى تتبرأ، فتكون الزوبعة قد هدأت والسحابة العارضة قد تبددت، ولكنها
(2/733)
لا تعلم، وقد كانت غافلة عما يجرى بين الناس من قول، قد أطفأه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بإعلان كذبه وبهتانه.
ولكن الصبية الطاهرة المؤمنة تعلم، والقول يجرى بشأنها من الآثمين الذين لعنهم الله تعالى في كتابه، إذ قال: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (النور- 24) وأى ذنب أعظم إثما من رمى هذه المؤمنة الغافلة الوفية ابنة الصديق وزوج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بمنطق العقل والإيمان لا يصدق، وبمنطق النفس البشرية يرتاب، فاستشار خواصه، فكلهم كذب، وشدد في التكذيب، وهو يقول إنك طيب لا يختار الله تعالى لك إلا طيبا، نسب ذلك لعمر بن الخطاب الفاروق.
وقد سأل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم اثنين من القريبين من بيته، وهما أسامة بن زيد، وعلى بن أبى طالب.
سأل أسامة، فأثنى خيرا، وكلامه في أم المؤمنين عائشة يترقرق فيه بشر الاطمئنان. وسأل عليا القاضى الذى قال فيه «أقضاكم علي» فأجاب إجابة قوية لم يتهم ولم يكذب، ولم يثن، ولم يهاجم، بل وقف كما يقولون موقفا محايدا.
وفي الحق إن ذلك هو السبيل لإزالة الريب، قال: يا رسول الله إن النساء لكثير، وإنك لقادر على أن تستخلف. وإن هذا لا شك ما كانت أم المؤمنين ترضاه من على بطبيعة المرأة المحبة المخلصة المثالية، وهو مهما يكن أثره في قلب أم المؤمنين يؤيد حياد على في القضية، وهو يجعله أقرب إلى الاتباع، يقول على القاضى المحقق: سل الجارية فإنها تصدقك، أخذ التحقيق طريقه، فسأل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بريرة، فقالت ما أدخل الاطمئنان في قلب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وابتدأ يزيح غشاء الشك.
قالت: والله ما أعلم إلا خيرا، وما كنت أعيب على عائشة شيئا، إلا أنى كنت أعجن عجينى، فامرها أن تحفظه، فتنام عنه، فتأتى الشاة فتأكله.
كان الاطمئنان وإن لم يكن كاملا، وخصوصا أن الوصف الذى وصفتها به هو من أسباب إشاعة قول السوء من الأفاكين الآثمين، فإذا كانت غلبة النوم تسببت في أن تأكل الشاة عجين بريرة، فقد كانت غلبة النوم هى التى فتحت باب الاتهام الآثم للأفاكين.
بعد أن استأنس النبى بدليل البراءة بعد أن برأها بإيمانه، وبعد أن علمت هى، واجهها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهى حبه في الدنيا والآخرة، قال لها ما يدل على أنه غير خاف ولا تارك
(2/734)
له، يا عائشة، إنه قد كان ما بلغك من قول الناس فاتقى الله، وإن كنت قد قارفت سوآ مما يقول الناس، فتوبى إلى الله. فإن الله يقبل التوبة عن عباده.
لقد كانت تبكى، فجف الدمع من قوله، لأنها كانت ترجو فيه الرضا بعد الجفوة، ترجوه رضا مطلقا لا رضا معلقا، وترجو ألا يكون منه، وهو الحبيب الرسول النفى المطلق في مواجهته، وتلفتت الصبية المؤمنة المحصنة الطاهرة أن يجيب عنها أحد، وقد قال أحب حبيب لها في الوجود ما لا يقطع بالنفى المطلق، المثبت لبراءتها، فلم يجب أبواها، وكانت في حيرة البريء الذى يجرى حوله الاتهام، ويحيط بها من كل جانب، رأت أنها إن كذبت لا تصدق، وإن أثبتت كذبت.
فتركت أمرها لله تعالى، لا ترجو سواه، وما كانت تظن أنها بلغت مبلغ أن ينزل قرآن يتلى ويصلى به في براءتها، وإنها تزعم أنها أصغر من ذلك، ولكن مقامها عند الله كبير لأنها صبرت مطمئنة إلى حكم الله تعالى، ورضيت بأن يكون وحده هو الذى يعلن براءتها، فنزلت الآيات الكريمات المبرئات بالدليل، إذ قال تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ، لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ، وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ. لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً، وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ. لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ، فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ. إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً، وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ. وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا، سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ. يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ، وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ
(2/735)
وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ، وَأَيْدِيهِمْ، وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ. الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ، وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (النور- 11، 26) .
498- هذه حادثة الإفك والبهتان، وننظر فيما تشير إليه الآيات الكريمات التى نزلت ببراءة الطاهرة الصادقة بنت الصديق أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها.
تشير الآية الكريمة أولا إلى أن أكثر الشر في الجماعة يجيء من أمور يحسبها الناس أمورا هينة وليست هينة في ذاتها، بل هى إثم كبير، كما أنها ليست هينة في آثارها لأنها تحل المجتمع وتشيع الفاحشة فيه، وتهون الرذائل ويكون فيه رأى عام غير فاضل، بل رأى عام فاسد، ولا تفرخ الرذائل إلا في رأى عام فاسد، ولذلك شدد القرآن الكريم في وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ليكون رأى عام فاضل يحث على الفضيلة، ويدفع الرذيلة.
وتدل الآية ثانيا على أن الشهادة في الفاحشة، لا تكون إلا بأربعة شهداء وإلا كان القول كاذبا عند الله تعالى مهما تكن مكانة القائل الاجتماعية، ولذلك اقترن بهذه القالة الفاسدة حد القذف.
وتدل ثالثا على أن الظالم لا يظلم ولا يمنع من الخير مادام قد استوفى عقابه على ما ارتكب، لقد كان أبو بكر رضى الله تبارك وتعالى عنه يمد مسطحا وهو ذو قرابة به، فلما خاض في حديث الإفك، قطع عنه فنزل نهى الله تعالى عن ذلك في قوله تعالى في الآيات التى تلوناها، وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى إلى آخر الآية الكريمة.
وتدل هذه الآية على أمرين:
أولهما: أن الزكاة يجوز إعطاؤها للعصاة وقد أخطأ في ذلك بعض الفقهاء، فإنها قد تمنعهم من كثير من الجرائم، وقد تدنى قلوب العصاة، فإن الجفوة تولد الجرائم، والعطاء يرطب النفوس فلا تجفو، وتحس بأن عيشها مؤتلفة مع الجماعة أدنى إلى الراحة.
ثانيهما: أن الإعطاء عند الجفوة يقرب ويمنع البعد، وأن الصدقة تطفيء المعصية وتجلب الغفران، ألا ترى إلى قوله تعالى: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ولقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم «ليس الواصل بالمكافىء، إنما الواصل من يصل رحمه عند القطيعة» .
وتدل رابعا على طهارة نساء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم طهارة مطلقة لأن الخبيثات للخبيثين والطيبات للطيبين، فتلك سنة الله تعالى في خلقه، ولم تكن مخالفتها إلا في امرأة فرعون التى ذكرها القرآن
(2/736)
بالخير، وقد كانت مع شر خلق الله، وكذلك في امرأة نوح ولوط اللتين خانتا هذين الرسولين الطاهرين، وقد قال تعالى في ذلك: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ، إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا، وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ، وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (التحريم- 11، 12) .
ويقول الله تعالى قبل هاتين الآيتين: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما، فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (التحريم- 10) .
فكان نساء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من الطيبات.
الأثر النفسى من على كرم الله وجهه:
499- يبدو من سياق القصة كما روتها أم المؤمنين عائشة رضى الله تبارك وتعالى عنها أن كلام على رضى الله تعالى عليه لم يقع من نفسها موقع الرضا، كما وقع كلام أسامة، وكما وقع كلام الصحابة الذين قالوا خيرا.
وذلك لأن عليا كرم الله وجهه لم يكن في كلامه ما يرضى، ولكن كان في كلامه ما يكون سبيلا لإنهاء الموضوع، ولكيلا يشغل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأمر عارض.
وما كان يرضى كلام على عائشة، لأنه لم يشهد بالبراءة كما شهد غيره، ولعلها كانت ترى أنه أعلم ببراءتها أكثر من غيره من الصحابة، ولأن له بالبيت الذى هى فيه صلة، فشهادته تكون أقوى من شهادة غيره.
ولأنه قال كلاما لا يرضى من لها مكانة عائشة في قلب النبى، لأنه قال: النساء غيرها كثيرات وأن له أن يستخلف غيرها.
وإذا كان ذلك لم يرض البريئة الطاهرة، فإنه كان السبيل إلى صرف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى التحقيق، ووراء التحقيق كان الاطمئنان الابتدائى، ثم كان وراءه الإبراء لها من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ثم الإبراء لها من الله تعالى.
ولقد استرسل المؤرخون في ذكر ما بينها وبين على كرم الله وجهه، حتى جعلوه سبب الخروج عليه في واقعة الجمل، وقالوا ما قالوا في ذلك.
(2/737)
ونحن نقول إنه بلا ريب لم يرض على عاطفتها، ولكنها في ظنى ما أبغضته، وإن خالفته على كلام في ذلك، وإن الدليل على أنها لم تبغضه أنه عند ما نعى إليها ذهبت إلى قبر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقالت: جئت أنعى إليك أحب أصحابك إليك، جئت أنعى إليك صفيك المجتبى، وحبيبك المرتضى، على بن أبى طالب.
وما كان من شأنها أن تبغض أحب أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إليه، فرضى الله عنها وكرم الله وجهه.
حد القذف
500- أحسب أن حد القذف قد شرع لهذه المناسبة التى شاعت فيها قالة السوء، وحديث الإفك، لأن الآيات جاءت متصلة بعضها ببعض، إذ أنه ذكر فيها نصاب الشهادة بالزنا، وهو أربعة شهداء وأنه إذا لم يكن الشهداء الأربعة، فإن الرامى بالزنا يكون كاذبا، وهذا الحد هو جزاء الكذب، وقد ذكر الله تعالى الحد في قوله تعالى:
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً، وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ، وَأَصْلَحُوا، فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. ونلاحظ أن الآية دلت على عقوبة أصلية مادية، وهى ضربهم ثمانين جلدة، وذكرت عقوبتين تابعتين معنويتين.
إحداهما: ألا تقبل لهم شهادة أبدا، لأنهم كذبوا في مقام يجب الاحتراس فيه، ولأن الله تعالى وصفهم بأنهم الكاذبون، وحصرهم في وصف الكذب فقال تعالى: لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ، وكيف تقبل شهادة من حصر فى الكذب بحكم الله تعالى، ولذلك منع قبول شهادتهم أبديا، فقال تعالى: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً.
الثانية من العقوبات التبعية وصفهم بالفسق، وهذا الوصف يستمر إذا لم يتوبوا، فالاستثناء بالتوبة إنما هو من وصف الفسق، فلا يكون التائب توبة نصوحا فاسقا، بل لا يكون مذنبا، لأن التوبة تجب الذنوب، كما قال تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (طه- 82) .
ولقد طبق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حد القذف على مسطح وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش، أخت أم المؤمنين زينب بنت جحش التى منعها دينها من أن تخوض في حديث
(2/738)
الإفك مع أنها الضرة التى كانت تناصى عائشة رضى الله عنهما المنزلة عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان قد نزل حد القذف من قبل.
وهنا يرد سؤال: إن الذين تحدثوا حديث الإفك كانوا أكثر من ثلاثة، فقد تناول القول به غير ثلاثة، بل إن أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها قالت: إن الذى تولى كبره عبد الله بن أبى، فلماذا لم يقم الحد، إلا على هؤلاء الثلاثة.
ونقول في الجواب عن ذلك أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذكر أن هؤلاء قد صرحوا بالرمى ويظهر أنه قام الدليل على أنهم تكلموا، ولم يقم الدليل على غيرهم.
ولكن أم المؤمنين عائشة قالت إن الذى تولى كبره رأس المنافقين فكيف لا يحد، وهو الآثم الأوّل.
ونقول في الجواب عن ذلك أنه بلا ريب هو الذى تولى كبر هذا، بالتنبيه على ما يسهل على غيره الرمى، من غير أن يصرح بالرمى، ويدس الخبر في الناس بلحن القول من غير تصريح، فيحمل الناس على أن يتكلموا، وهو لا يظهر الكلام إلا بين خاصته الذين يشيعون الإفك بتوجيه الأذهان إليه من غير أن يصرحوا، فهم يوعزون بالقول، ولا يظهرون، ويدفعون غيرهم، ولا يتكلمون، وتلك حال المنافقين يستترون ولا يتكلمون، وبذلك تتحقق في غيرهم شروط إقامة الحد، ولا تتحقق فيهم، والله أعلم.
والقذف هو الرمى بالزنى، سواء أكان رميا للرجل أو المرأة.
حد اللعان
501- واللعان نزل عقب بيان حد القذف وقبل حديث الإفك، وحد القذف سببه رمى الرجل أو المرأة بالزنا إذا لم يكن بينهما عقد زواج، أى يكون المقذوف ليس زوجا للقاذف.
أما اللعان فإنه يكون عند ما يرمى الزوج زوجته، واللعان أن يحلف الزوج الرامى أربع مرات أنه صادق فيما يرمى به زوجته من الزنا أو نفى الولد منه، والخامسة أن لعنة الله تعالى عليه إن كان من الكاذبين، فالحلف تضمن سلبا وإيجابا، والإيجاب كان بالحلف على وقوعه، والسلب كان بالحلف باستحقاق لعنة الله إن كان كاذبا.
وقد ثبت بقوله تعالى بعد آية حد القذف: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ، فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ. وَالْخامِسَةُ
(2/739)
أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ. وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ. وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (النور- 6، 9) .
وكان اللعان إذا كانت الزوجية قائمة وقت الرمى بالزنا بأن تكون قائمة حقيقة، أو حكما بأن تكون في عدة الطلاق الرجعى.
واختص رمى الزوج لزوجته بألا تكون شهادة أربعة، لأنه لا سبيل لأن يحضر أربعة يشهدون واقعة زنى زوجته، ولأن الغيظ الذى يكون عليه الزوج لابد أن يطفأ ولو بالقول في حضرة الحاكم.
ولقد جاء رجل إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: يا رسول الله، إن الرجل يجد الرجل مع أهله، وإن قتله قتلتموه، وإن تكلم ضربتموه، وإن سكت، سكت على غيظ، اللهم بين، فنزلت آية اللعان مبينة كاشفة.
وإنه إذا تم اللعان فرق بين الزوجين، فرقة أبدية عند جمهور الفقهاء، وأجاز أبو حنيفة العودة إليها بعقد جديد ومهر جديد إذا كذب نفسه.
وقد قال بعض الناس في أيامنا هذه هل يطبق حد اللعان إذا رمت المرأة زوجها بالزني، ولم يكن عندها شهداء أربعة.
ونقول في الجواب عن ذلك أن اللعان ورد بالنص في حال ما إذا رمى الزوج زوجته، وكان تفصيله في الحلف أربعة إيجابية، وواحد سلبى، أما المرأة، فكان أربعة سلبية وواحد إيجابى.
ولا يمكن ثبوت الحدود إلا بالنص، إذ أنها تدرأ بالشبهات، فإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: «ادرأوا الحدود بالشبهات ما استطعتم» .
ولا يمكن أن نثبته بالقياس، لأن علة القياس غير ثابتة بقدر واحد في المقيس والمقيس عليه، إذ أن المرأة وعاء النسل للرجل، فمن حقه أن ينفى نسب الولد إذا كان من غيره، ولأن زنى المرأة أشد خطرا على الأنساب من زنا الرجل، فليسا مشتركين في علة التخفيف من القذف إلى اللعان، ولأن المرأة في بيت الرجل، فالحكم منه بالزنا عليها قد يكون من غير حضور شهداء، يشهدون.
أما الرجل فالزنا منه في أكثر الأحوال يكون خارج المنزل، فعلمها به، إما أن يكون من غير بينة، بل بالحدس والتخمين أو بإخبار الناس من غير تعيين للمخبرين، وذلك هو الغالب، وإما أن يكون بمخبرين معينين، وفي هذه الحال تثبت الرمى بالزني، ويكون حينئذ حد القذف، وما يترتب عليه من عقوبات مادية وتبعية، والله سبحانه وتعالى هو العليم بذات الصدور.
(2/740)
حد الزنا
502- الآيات تتلى وإليك آية حد الزنا، وآية حد القذف، وآيات الإفك، وهذا التوالى الكافى ينبيء عن أن يكون النزول في وقت واحد أو متقارب، ومناسبة واحدة.
ونشير في هذا المقام إلى أن الزنا وردت فيه آيات يبين بعضها بعضا.
أولها: قوله تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ، أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا. وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما، إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (النساء- 16) .
فهاتان الآيتان تفيدان أن ثمة عقوبة تخص المرأة، وأخرى تعم الرجل والمرأة، فأما التى تخص المرأة، فإمساكها في البيوت حتى تموت أو يجعل الله تعالى لها سبيلا بالزواج، كما هو الظاهر الواضح.
وأما التى تعم الرجل والمرأة، فهو الإيذاء، وقد جاءت السنة بعقوبة للرجل تقابل عقوبة المرأة التى تخصها، وهو التغريب سنة، وهذا يقابل الإمساك في البيوت.
والإيذاء لهما بينته آية النور، ولم تكن ناسخة، كما جاء على أقلام كثيرين من الكتاب، لأن النسخ لا يصار إليه إلا إذا تعذر التوفيق بين النصين، والجمع هنا ممكن، وهو واجب، لأن كل آية تتمم الآخرى أو تبينها، كما في الآيات الواردة في عقوبة الزنا.
والإيذاء المبين في سورة النور هو قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً، وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ، وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (النور- 2، 3) .
وجاءت بعد ذلك آيات حد القذف، ثم آيات اللعان ثم حديث الإفك والبهتان الذى يصور جريمة الرمى بالزنا، وأنها تشيع الفاحشة في الدين، وتفسد الجماعة، وتجعلها تعيش في مجتمع معتم بالرذيلة، والاستهانة بها.
ويجب التنبيه هنا إلى أمرين- أحدهما- أننا لا نقول جازمين أن هذه الآيات المتعلقة بهذه الحدود، قد نزلت كلها عقب غزوة بنى المصطلق أو في أثنائها، أو عند حديث الإفك، والذى يغلب علينا أن حد القذف والزنى قد نزل قبلها بقليل أو بكثير كما أشرنا، ولذلك طبق حد القذف على الذين
(2/741)
ارتكبوا ذلك الإثم، ولا يقال إنه قد طبقت عليهم عقوبة لم تكن ثابتة وقت ارتكابهم ما حقت عليهم بسببها، وإن العقوبات تطبق على الحوادث اللاحقة ولا تطبق على الحوادث السابقة، كما يقرر علماء القانون الوضعى، وإن كان في ذلك القول نظر يوجب تمحيصه.
التنبيه الثانى: أن العقوبات في الإسلام تسير سيرا طرديا مع منازل المرتكبين، فتكبر العقوبة مع كبر المجرم، وتصغر مع صغره، لأن الجريمة مهانة، والمهانة تهون على الصغير، لأن نفسه مهينة في نظره، والمهانة من ذى المنزلة أمر كبير.
ولذلك جعل الإسلام العقوبة المقدرة على العبد نصفها إذا وقعت الجريمة على الحر، وقد قال تعالى في شأن الإماء فَإِذا أُحْصِنَّ، فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ، فإذا كانت الحرة إذا زنت تجلد مائة، فإنه إذا زنت الأمة تجلد خمسين.
وكذلك الأمر بالنسبة للعبد، وكذلك الأمر بالنسبة لكل الحدود، لا فرق بين حد وحد، وكل ذلك في العقوبات القابلة للتنصيف.
ولقد أجمع الفقهاء على أنه يجب تخفيف ما على العبد بعد تنصيفه، فيكون السوط الذى يجلد به العبد أخف من سوط الحر.
الحديبية
503- انتشر الإسلام في الصحراء العربية، تبعه من تبعه، وعلم بأمره الكثيرون، وكان من الأعراب مؤمنون كما كان منهم مسلمون، أعلنوا إسلامهم، وإن لم تؤمن قلوبهم، وكان منهم من استمر على شركه، ولكن صار في المسلمين قوة ولهم هيبة تجعل الذين بقوا على شركهم ينظرون إلى الدعوة للتوحيد، والإيمان بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم على أنها ذات مكانة جعلتهم يفكرون ويقدرون، ولا يكتفون بالرد بادى الرأى، والإنكار المطلق من غير تفكير ولا تدبر.
والقول الجملى أن الريب دخل قلوبهم من ناحية عبادة الأوثان، وهم يعلمون الله تعالى بذاته وصفاته، ولا شك أن ريبهم في أوثانهم هو الطريق لأن يدخلوا في دين الفطرة مؤمنين آمنين، صارت الدعوة الإسلامية تملأ الآفاق، ولم يعد أحد من الأعراب أو من لف لفهم يفكر في غزو المدينة فهى محروسة بحراسة الله تعالى، مصونة بكلاءة الله تعالى.
فإذا كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد أمن غزو الأعراب، أو أن يدخلوا في أحلاف مع أعدائه، فقد آن له أن يتجه إلى قريش الذين يناصبونه العداوة، لا ليقاتلهم، فهو لا يقاتل إلا دفاعا، كما رأينا في سراياه وغزواته السابقة.
(2/742)
ولكن قريشا تعاديه والحرم المكى الشريف تحت سلطانها، فلا بد أن يفرغ من عداوتها، تمكينا للدعوة، وتعبيدا للسبيل إلى الحج، الذى هو نسك من نسك الإسلام، ولأنه صلى الله تعالى عليه وسلم يريد التفرغ لليهود الذين تجمعوا في خيبر، وهم وحدهم الذين يريدون الانقضاض على المدينة، زاعمين أنها ديارهم أخرجهم منها، وقتل من قتل منهم.
فكان لابد أن يعرف أمر قريش، وأن يعرف أهم يسهلون له أداء فريضة الحج، بقية ديانة إبراهيم فى أرض العرب، أم أنهم يقفون في سبيله كما وقفوا دائما. لابد أن يقرن النية بالعمل، فذهب ليحج، وكانت موقعة الحديبية التى سماها الله تعالى فتحا مبينا، لأنها أزالت الحواجز النفسية التى كانت تحاجز بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وبين قريش، والتقى بهم الأمين الحبيب الذى عرفوه في صباه، وشبابه، وزالت المحاجزات بسبب الخلاف والنفور، والحرب.
غزوة الحديبية:
504- فى ذى القعدة سنة ست من الهجرة النبوية، كما تطابقت كل الروايات، وهى من أشهر الحج، اعتزم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من أصحابه الحج، وكان معه سبعمائة، ولكن قال جابر بن عبد الله: كان معه أربع عشرة مائة أى نحو 1400، وهذا معقول، فقد كان جيشه صلى الله تعالى عليه وسلم مرهبا لقريش، وما كان يرهبها ما دون الألف، ولقد ذكر ذلك العدد، وهو 1400 (أربعمائة وألف) البخارى وغيره، ورقم السبعمائة لابن إسحاق.
خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهم لا يريدون حربا، بل يريدون حجا جامعا، ولكنه ما أن وصل إلى عسفان حتى لقيه بشر بن سفيان الكعبى، ويظهر أن قريشا قد علمت أو ظنت خروج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهى الحذرة المتحفزة.
قال بشر بن سفيان: يا رسول الله، هذه قريش قد سمعت بمسيرك، فخرجوا معهم العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور، وقد نزلوا بذى طوى، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموا إلى كراع الغميم.
قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الرحيم بقومه راجيا الإسلام فيهم، وإن حاربوه: يا ويح قريش قد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بينى وبين سائر العرب، فإن أصابونى كان ذلك الذى أرادوا، وإن أظهرنى الله تعالى عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة فما تظن قريش، فو الله لا أزال أجاهد على هذا الذى بعثنى الله به، حتى يظهره، أو تنفرد هذه السالفة.
(2/743)
بعد هذا لم يرد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يلقى مقاتليهم، حتى لا يسبق السيف الرأى، وهو يريد أن يحج، ولا يريد أن يرغمهم، بل يريدهم مختارين، لأن الاختيار يؤلف، والقتال ينفر، والإجبار بالسيف يرمض النفس، ويكلمها، ولا يريد عليه السلام كلما، بل يريد شفاء للقلوب من غيظها.
ندب رجلا يخرج بالمسلمين إلى طريق غير طريقهم فسار في طريق وعث، حتى وصل ثنية المراد مهبط الحديبية من أسفل مكة.
ولما رأت خيل قريش كروا راجعين ليكونوا بمكة المكرمة والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالجيش إلى ثنية المراد. بركت ناقته، وكأن الله تعالى قد اختار له هذا المكان، فلما بركت الناقة قال الناس خلأت، فقال عليه السلام: (ما خلأت) وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعونى قريش اليوم إلى خطة يسألونى فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها، قال ذلك لأنه جاء وهو الهادى الداعى إلى الحق ليقرب نفوسهم بعد الحرب التى شنوها، ومكنه الله تعالى منهم.
قال لجيشه: انزلوا، فقالوا: ما بالوادى ماء، ولم يكن به ماء، ولكن قلب مطمورة، فأعطى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم سهمه رجلا من رجاله، فنزل به في قليب من تلك القلب وغرز فيه السهم، فجلس النبى للرواء حتى شرب الناس.
المراسلة بين الفريقين:
505- كان مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم جيش قوى، ولم تكن مكة على استعداد للحرب، ولو أراد أن يدكها بجيشه دكا لفعل، ولكنه أتى للحج، وليطفئ حربا، ويبر رحما، ويزيل نفرة، وليذهب بوحشة الحروب التى خلفتها.
ولذلك أعلن المسالة وإرادة الحج من غير أن يقهرهم أو يذلهم.
جاء إليه بديل بن ورقاء مع رجال من خزاعة فكلموه صلى الله تعالى عليه وسلم، وسألوه ما الذى جاء به، فأخبرهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه ما جاء يريد حربا، وإنما جاء زائرا للبيت ومعظما لحرمته، وقال ما قاله من قبل لغيره.
رجعوا إلى قريش، فقالوا لهم: يا معشر قريش، إنكم تعجلون على محمد وإن محمدا لم يأت لقتال، إنما جاء زائرا لهذا البيت، فاتهموهم وجابهوهم، وقالوا: وإن جاء لا يريد قتالا، فو الله لا يدخلها علينا عنوة ولا تحدث بذلك العرب، ولكنهم مع هذه العنجهية لم يزيلوا ما بينهم وبين النبى صلى الله
(2/744)
تعالى عليه وسلم، فأرسلوا له مكرز بن حفص بن الأخيف أخا بنى عامر بن لؤى، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما رآه مقبلا: هذا رجل غادر، وقد كلمه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بأنه ما جاء للقتال، ولكن لزيارة البيت.
ومع أن قريشا لا تريد حتى زيارة البيت أرسلت حليس بن علقمة، وكان يومئذ سيد الأحباش الذين كانوا يعينونهم في القتال فلما رآه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال عليه السلام: إنه من قوم يتألهون- أى يذعنون- لظاهر العبادة، فابعثوا الهدى في وجهه حتى يراه، فلما رأى ما يسيل عليه من عرض الوادى من قلائد أشعرت بأنه هدى للحج، قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله.
اكتفى حليس بالنظر إلى الهدى عن المحادثة، فرجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، إعظاما لما رأى. حدثهم بما رأى فقالوا له: اجلس فإنما أنت أعرابى لا علم لك.
غضب الحليس عند ذلك، وقال:
يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، أفصد عن بيت الله تعالى من بعد ما جاء معظما له، والذى نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد.
فقالوا لحليس: مه، كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.
ما زالوا طامعين في أن يكون لهم من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما يرضيهم من غير أن يقاتلوه، فأرسلوا إليه عروة بن مسعود الثقفى، وقد ذكر لقريش أنه بمنزلة الولد، لأن أمه كانت من بنات عبد شمس، وقد ذكر من جاء إليهم بعد لقائه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنهم لقوه بالتعنيف وسوء الحظ كما قالوا لبديل الخزاعى، وكما قالوا للحليس سيد الأحباش، تبين أن صلتهم به وثيقة، وأنه سيكون أمينا في رسالته مع رغبته في نصرتهم، وقال في ذلك: قد سمعت بالذى نابكم، فجمعت من أطاعنى من قومى ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسى، قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم.
خرج عروة بن مسعود هذا، وقد اطمأن إلى ثقتهم به، حتى أتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم قال: جمعت أوشاب الناس، ثم جئت بهم إلى بيضتك لنقضها (أى يكسرها لهم) .
إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل «1» قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبدا، والله الكافى بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا.
__________
(1) العوذ المطافيل، النوق التى معها أولادها، والعوذ جمع عائذ، وهى هنا الناقة أى الناقة ذات الأطفال.
(2/745)
وكان أبو بكر رضى الله عنه خلف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال له: أنحن ننكشف عنه.
ثم جعل يتناول لحية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو يكلمه مما يدل على جرأته وصلفه وخشونته وعبثه.
وكان المغيرة بن شعبة واقفا على رأس النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو بالحديد، فكلما مد يده إلى لحية النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يقرع يده، ويقول: اكفف يدك عن وجه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبل ألا تصل إليك- أى تقطع فلا تصل إليك-.
قال عروة الغليظ الجافى للمغيرة بن شعبة: ما أفظك، وما أغلظك؟ فتبسم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
رد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بنحو مما كلم به من سبقوه.
قام عروة بن مسعود الثقفى من عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد رأى ما يصنع به أصحابه، وعاد إلى قريش يقول لهم.
«يا معشر قريش، إنى قد جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشى في ملكه، وإنى والله ما رأيت ملكا في قوم قط، مثل محمد في أصحابه، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا فروا رأيكم» .
كان كل الرسل الذين يرسلونهم يؤكدون لهم أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم ما جاء لقتال، بل جاء حاجا، ويريد أن يصل الرحم التى قطعوها.
غدر وعفو:
506- غدر من جانب قريش، وعفو من جانب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، فإنه فى الوقت الذى تأكد لهم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما جاء مقاتلا، لأنه جاء محرما وساق الهدى، ولأنه في الشهر الحرام، ولأنه جاء يطلب المودة، ولا مودة في قتال، فى هذا الوقت فكرت قريش في الاعتداء، فإنه روى عن ابن عباس أنهم بعثوا أربعين أو خمسين رجلا منهم، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليصيبوا من أصحابه أحدا.
(2/746)
فأخذ أولئك أخذا، وسيقوا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وكانوا قد رموا المعسكر بالحجارة والنبل، وكان للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يأخذهم رهائن أو نحو ذلك. ولكن الرسول الكريم صلى الله تعالى عليه وسلم قد عفا عنهم.
رسول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم:
507- كانت الرسل يجيئون إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من قبلهم، ومنهم من ينقل الأمر كما هو، وربما كان منهم من يحرف في القول، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يريد أن يوجه الخطاب إليهم برسول يرسله إليهم، يتعرف أحوالهم وما تطويه نفوسهم، وما يقدر عليه ويفعله من بعد ذلك يكون عن بينة.
اتجه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الفاروق عمر بن الخطاب، وهو نعم الرسول، وقد كان في الجاهلية يقوم ببعض أعمال السفارة بين القبائل، وبين العرب وغيرهم، ولكن عمر ببطشه وقوته على الشرك، كان يعمل حساب لقائه معهم، وقد يحبسونه، فلا يؤدى حق السفارة التى اختاره لها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولذا قال غير راد لأمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكن يعرض الأمر عليه، قال: يا رسول الله، إنى أخاف قريشا على نفسى، وليس بمكة من بنى عدى بن كعب أحد يمنعنى، وقد عرفت قريش عداوتى إياها، وغلظتى عليها، ولكن أدلك على رجل أعز بها منى، عثمان بن عفان، فدعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عثمان بن عفان، فبعثه إلى أشراف قريش، وأبى سفيان، يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وإنما جاء زائرا لهذا البيت معظما لحرمته.
ذهب عثمان إلى مكة المكرمة للقيام بهذه السفارة، وهو الرجل الذى لا عنف فيه، وهو أموى له عصبة من بنى أمية تمنعه وتجيره.
وقد التقى أوّل ما التقى بأبان بن سعيد بن العاص الأموى حين دخل مكة المكرمة أو قبل أن يدخلها، وهو في طريقه إليها، فلقيه لقاء المحبة بسبب الرحم، ولأن عثمان رضى الله عنه كان رفيقا ودودا، وحمله بين يديه، وأجاره، بأن جعله في جواره، وذلك يوجب عليه حمايته، واستمر في جواره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
انطلق عثمان، حتى أتى أبا سفيان وعظاماء قريش، فبلغهم رسالة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وسلمها إليهم، وأنه ما جاء للقتال، وإنما جاء زائرا للبيت معظما لحرمته.
(2/747)
وقد قبلوا كلامه من غير استنكار ولا رد، ورحبوا بعثمان رضى الله عنه، وعرضوا عليه أن يطوف بالبيت آمنا مطمئنا.
ولكن عثمان أبى أن يطوف، ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم غير ممكن من الطواف.
فقال ذو النورين التقى عثمان: ما كنت لأطوف حتى يطوف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
وبذلك أدى عثمان رسالة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكنهم استبقوه، لا ليؤذوه، ولعل ذلك لاستشارته أو الاستفسار منه، أو ودا ومحبة، أو حفاوة وتكريما.
وعندئذ راجت الأقوال بين المسلمين بأن عثمان قتل، وتبلبلت الأفكار واضطربت النفوس ووجدت عزمة القتال، ولم يكن مرادا ابتداء ولا مقصودا.
بيعة الرضوان
508- خرج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه من المدينة يريدون الحج ولم يريدوا قتالا، ولما غاب عثمان رضى الله عنه في مكة المكرمة، وشاعت القالة بأنه رضى الله تعالى عنه قد قتل، ولم يكن ذلك بعيد الاحتمال، أخذ أهبته للقتال لأن الاعتداء وقع بقتل الرسول، وهو رسول سلام أمر منكر وقبيح في ذاته، وفوق ذلك يتضمن في ذاته رفضا للسلام واعتداء على من أرسله، إذ الرسول لا يقتل، ولكن يرد إلى مأمنه، سواء أرفضوا الرسالة أم قبلوها.
لا بد إذن من الأهبة، وما خرجوا للقتال، فلا بد من أخذ البيعة به، لأن القتال برضا الجند، وتلك سنة نبوية في كل حروبه عليه الصلاة والسلام، فإنه يريد جندا مختارا يقدم نفسه برضا واختيار، محتسبا النية لله تعالى. طالبا ما عند الله.
لذلك أخذ البيعة على من معه، وكان يبايعهم على الموت، وعلى ألا يفروا من الميدان، لأن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم قرر القتال، وقال: لا نبرح حتى نناجز القوم، لأنهم بقتلهم ذا النورين عثمان يكونون قد رفضوا السلام.
كانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، فبايع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كل من معه، ولم يتخلف عن البيعة أحد إلا واحد، وما كان ليلتفت إليه.
ولقد رضى الله عن أولئك الذين قبلوا أن يغيروا ملابس الإحرام ويلبسوا ملابس القتال، وقال الله تعالى فيهم: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَعَلِمَ ما فِي
(2/748)
قُلُوبِهِمْ، فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ، وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً. وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها، وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً. وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها، فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ، وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ، وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً. وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً. وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ، ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا. وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ، وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ، مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ، وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (الفتح- 18، 24) .
وهكذا رضى الله تعالى عن أهل بيعة الرضوان، ووهبهم سبحانه وتعالى من بعد ذلك مغانم كثيرة، وبين سبحانه وتعالى أن أوّل هذه الغنائم أن كف أيديهم عنكم، فكانت هذه غنيمة عاجلة، وكان هذا فتحا مبينا، كما سنذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
عقد صلح على هدنة
509- اقتنعت قريش بأن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم، ما جاء لقتال، وقد عادت القضب إلى أجفانها بعد أن عاد عثمان رضى الله عنه، واطمأنت القلوب، وعادت رغبة السلام وعزمته إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو يريد خطة تمنع القتال، وتحفظ الحرمات.
بعثت قريش سهيل بن عمرو من بنى عامر بن لؤى، وقالوا: له ائت محمدا نصالحه ولا يكن فى صلحه، إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فو الله لا تحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبدا.
ولا شك أن هذا شرط، - كما يقول علماء القانون- تعسفى وتحكمي، ولكن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الرؤف الرحيم، كما وصفه رب العزة، لم يمانع في قبول ذلك، وإن ضج أصحابه بالرفض، وهم لا يعلمون ما يعلم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وما توجبه الرسالة، وتحتمه الدعوة إلى الإسلام، فما كانت دعوة الإسلام رهبا، بل كانت رغبا، وما كانت بالسيف بل كانت بالموعظة الحسنة.
اجتمع سهيل مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وتم الاتفاق المبدئى على ما اشتمل عليه من التزامات، خلاصتها:
أولا: لا يزور المسلمون البيت حاجين هذا العام.
(2/749)
ثانيا: وضع الحرب عشر سنين.
ثالثا: أن من خرج من مكة إلى المدينة المنورة يرده النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ومن عاد إلى مكة المكرمة مرتدا لا ترده مكة المكرمة إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
رابعا: من أراد أن يدخل في عهد محمد صلى الله تعالى عليه وسلم دخل والتزم بالتزامه، ومن أراد أن يدخل مع قريش دخل، والتزم بالتزامهم.
لما تم الاتفاق الشفوى وقف عمر رضى الله عنه غضبان أسفا، وقال لأبى بكر: يا أبا بكر أليس حقا برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؟ قال أبو بكر: بلي، قال: أو لسنا بالمسلمين، قال: بلى.
قال: أو ليسوا بالمشركين، قال: بلى. قال: فعلام نعطى الدنية في ديننا، فقال أبو بكر رضى الله عنه:
يا عمر، الزم غرزه، أى أمره، فإنى أشهد أنه رسول الله، فقال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله.
ثم أتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ألست رسول الله!! قال:
بلي، قال: أو لسنا بالمسلمين!! قال: بلي، قال: أو ليسوا بالمشركين!! قال: بلى. قال الفاروق:
علام نعطى الدنية في ديننا، قال الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم الرفيق الأمين: أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يضيعنى.
عندئذ سكن عمر رضى الله عنه، وعلم أنه أمر الله تعالى، فسكت عنه الغضب، وكان ذا نفس لوامة، فندم على ما كان منه من قول، وكان يقول: ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي، وأعتق من الذى صنعت يومئذ مخافة كلامى.
كتابة الصلح:
510- تم الاتفاق على ما تشتمل عليه الوثيقة، ثم دعا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه، فقال: اكتب. بسم الله الرحمن الرحيم، فاعترض سهيل ابن عمرو ممثل المشركين عند كتابة العهد، وقال: لا أعرف هذا ولكن اكتب باسمك اللهم، فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم، فكتبها، ثم قال: اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو، فاعترض أيضا سهيل، وقال: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: اكتب، هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو:
(2/750)
(أ) اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس، ويكف بعضهم عن القتال، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه.
(ب) وأن بيننا عيبة مكفوفة أى (لا عداوة) ، وأنه لا إسلال ولا إغلال أى (لا سرقة ولا خيانة) .
(ج) وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل فى عقد قريش وعهدهم دخل فيه.
وقد شهد على العقد بعض المشركين، ومن المسلمين أبو بكر وعمر، وعلى بن أبى طالب، وسعد بن أبى وقاص، وعبد الرحمن بن عوف.
وبعد تمام العهد تواثبت خزاعة، فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت، بنو بكر، فقالوا:
نحن في عقد قريش وعهدهم.
هذا ما كتب في العقد، وكان هناك أمر عملى توجب قريش تنفيذه، وقد رضيه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. فقد قالوا تتميما للعهد، وإنك ترجع عنا عامك هذا لا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك، فدخلتها بأصحابك، فأقمت فيها ثلاثا، ومعك سلاح الراكب:
السيوف في القرب لا تدخلها بغيرها.
قبل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وآثرها، مع ما فيها من شطط المشركين، لأنه يريد سلاما، وأن معه جيشا لا قبل لقريش به، وكان يستطيع أن يقاتل، والحجة قائمة عليهم، ولكنه النبى عليه الصلاة والسلام المسالم الذى يعظ بالحكمة ويدعو بالرفق، وليس غليظ القلب.
أبو جندل:
511- وبينما هم في مجلس الصلح لم يفارقوه، بل لم يتموا كتابته إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو الذى يمثل المشركين عند كتابة العقد، جاء وهو يرسف في الحديد، فلما رأى سهيل أبا جندل، قام إليه، فضرب وجهه وأخذ بتلبيبه، ثم قال: يا محمد قد لجت القضية بينى وبينك قبل أن يأتيك هذا، وهذا أوّل من أقاضيك عليه، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: إنا لم نقض الكتاب بعد، قال سهيل: فو الله إذن لم أصالحك على شىء. وقد جاء في البخارى مع هذا الكلام أن النبى صلى الله
(2/751)
تعالى عليه وسلم قال: فأجزه لي، قال: ما أنا بمجيزه لك، قال: بلى فافعل، قال: ما أنا بفاعل، وقال بعض الحاضرين من المشركين: قد أجزناه لك، ولكن سهيلا هو وليه.
قال أبو جندل: أى معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما، ألا ترون إلى ما قد لقيت. وقد جاء في رواية ابن إسحاق أنه وثب عمر بن الخطاب مع أبى جندل يمشى إلى جانبه، ويقول: اصبر يا أبا جندل، فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب، ويدنى قائم السيف منه، ويقول عمر: رجوت أن يأخذ السيف، فيضرب به أباه، فضن الرجل بأبيه، وذهبت القضية.
والنبى يمضى في عقده، مع ما أثاره في نفسه ونفوس المؤمنين مجيء أبى جندل يوسف في قيوده، وقال لأبى جندل: اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم.
مع تلك الكلمات التى تلقى بروح الصبر والاطمئنان في قلب أبى جندل كانت الثائرة تغلى في قلوب المسلمين، ولكن لا يتكلمون احتراما لمقام العهد، ولأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال إنه لا يخالف أمر ربه، ولكن الفاروق ثار بالقول مرة أخري، يقول: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل، قال: بلى: قال: فلم نعطى الدنية في ديننا إذن، فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: أعطيها وهو ناصرى.
قال عمر: أولست كنت تحدثنا أننا سنأتى البيت فنطوف به، قال: بلي، أفأخبرتك أنا نأتيه هذا العام؟ فإنك آتيه ومطوف به. وهذه رواية البخاري، وقد جمعنا بينها وبين رواية ابن إسحاق، فقدرنا أن عمر قالها مرتين وهو مظهر غضب المؤمنين مع طاعتهم ورضاهم بما حكم صلى الله تعالى عليه وسلم استجابة لأمر ربه.
التحلل من الإحرام:
512- كان لا بد أن يتحلل المسلمون من إحرامهم، على أن يؤدوا عمرة في عام آخر، وذلك بأن يقصروا شعرهم أو يحلقوه، وقد دعاهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يحلقوا رؤسهم وينحروا، وابتدأ هو فحلق، وحلقوا وقصروا من بعده، وهذه رواية ابن إسحاق بسنده.
ولكن روى في البخارى أنه قال لأصحابه رضى الله عنهم لأنهم جميعا أهل بيعة الرضوان، قال لهم: قوموا فانحروا ثم احلقوا، فو الله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات.
(2/752)
فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، وكانت معه في هذه الغزوة فذكر ما لقى من الناس، فقالت أم سلمة بعاطفة المحبة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، والعاطفة الشريفة تنطق بالحق أحيانا قالت أم سلمة: يا نبى الله، أتحب ذلك، اخرج، ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة، حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك، فخرج، فلم يكلم أحدا منهم، حتى فعل ذلك، ثم نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه.
فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما، لعصيانهم، وهذه رواية البخاري، وقد كان فيها خبر الحلق وخبر النحر معا، وقصة النبى عليه الصلاة والسلام مع أم سلمة رضى الله عنها، وإن هذا التفصيل زاد به البخارى عن ابن إسحاق، وزيادة الثقة مقبولة في ذاتها.
أحكام ثبتت في الحديبية
513- بعد صلح الحديبية جاء نسوة إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مؤمنات مهاجرات، ولم يردهن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، لأنهن لم يشملهن العهد، الذى يوجب رد من يجيء مسلما من غير ولى أمره، وفي هذا جاء النص الذى يحرم بقاء المسلمة في عصمة كافر سواء أكان كتابيا أم كان من المشركين، ولذا قال الله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ، فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ، فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ، لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ، وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ، وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ، وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ، وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا، ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (الممتحنة- 10، 11) .
وقد قال الحافظ ابن كثير: جاءت نسوة مؤمنات. فأنزل الله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ- حتى بلغ- بِعِصَمِ الْكَوافِرِ ... (الممتحنة 10) فطلق عمر ابن الخطاب امرأتين كانتا في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية بن أبى سفيان، والآخرى صفوان بن أمية، ثم رجع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى المدينة المنورة.
قال ذلك ابن كثير في سرد ما كان في الحديبية، ولذلك قلنا إن تحريم زواج المسلمة بغير المسلم، وزواج المسلم بالمشركة جاء في الحديبية بعد إمضاء الصلح.
(2/753)
وهذه الآية تدل على ثلاثة أمور:
أولها- أن المسلمة لا تجوز للكافر سواء أكان كتابيا أم كان مشركا، والكتابى كافر لا كما أوهمت كتابة المحدثين ممن لا يمحصون الحقائق، ويقولون ما يقولون مجاملة، أو موادة للنصارى الذين لا يوادون المسلمين، فالنصرانى كافر بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وبما نزل على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وبالوحدانية، واليهودى كافر بالقرآن الكريم وبمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ووصف الله في القرآن الكريم اليهود والنصارى بأوصاف الكفر فقال الله سبحانه وتعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ (المائدة- 73) وقال الله سبحانه وتعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ (البينة- 1) .
والذين يجيزون زواج المسلمة بغير المسلم قد خرجوا عن إطار الإسلام، لأنهم أنكروا القرآن الكريم وأنكروا أمرا معروفا من الدين بالضرورة، وأجمع عليه المسلمون.
وتدل ثانيا على أن المسلم لا يجوز أن يتزوج مشركة، ومن كان عنده مشركة فليفارقها، وقد فهم ذلك الإمام عمر رضى الله تبارك وتعالى عنه، ففارق امرأتين كانتا تحته، وهما مشركتان، وأخذ ذلك من النهى في قوله تعالى: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ أى لا تتمسكوا بزواج الكافرين إن كان بينكم وبينهن زواج، لأن الكوافر جمع كافرة، لا جمع كافر، إذ لا يجمع وصف العاقل الذى يكون على وزن فاعل على فواعل، ولكن تجمع فاعلة على فواعل، كفاطمة وفواطم، وقافلة وقوافل، وأريد المشركات، لأنه الذى يتفق مع إباحة الكتابيات بقوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ، وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ (المائدة- 5) .
وتدل ثالثا- على أن العدالة توجب عند فسخ الزواج بهذا الحكم الشرعي، أن يرد إلى الأزواج المشركين ما أنفقوا على أزواجهم اللائى انفسخ زواجهن بالإسلام، فيرد إليهم الصداق، لأن الفسخ كان بحكم الإسلام يعد من قبل الزوجة.
وفي مقابل ذلك من ينفسخ زواجها من المشركات بحكم إسلام أزواجهن عليهن أن يردوا إلى المؤمنين ما أنفقوا من أموال، فى هذه الزيجة، وذلك لأن امتناعهن عن الدخول في الإسلام، وقد دخل الزوج في الإسلام يعد تفويتا لحقه فوجب التعويض عما أنفق، لأن سبب الفرقة من جانبها.
وإن المسلمين يستجيبون لحكم الإسلام، فيردون ما وجب من إعطاء ما أنفق هؤلاء، لأنه مما يؤدى إليه عقد المسالمة وما تؤدى إليه العدالة التى هى خاصة الإسلام مع العدو والولى على سواء، لقوله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى (المائدة- 8) .
(2/754)
ولكن لا يضمن أهل الإيمان أن يؤدى المشركون ما يجب عليهم إذا انفسخ الزواج بين المشركة والمسلم؛ ولذلك فرض القرآن الكريم أنهم لا يدفعون، والحكم في هذه الحال أن يؤخذ مما يجب إعطاؤه للمشركين مما أنفقوا، ويسدد للمؤمنين الذين استحقوا ما أنفقوا، ولم يؤد إليهم حقهم.
ويفهم منه أن بيت مال المؤمنين هو الذى يؤدى ما أنفق المشركون في الزيجة التى فسخت بحكم إسلام الزوج، لأن ذلك تنفيذ لحكم شرعى عام، ولأنه ما يوجبه روح العهد الذى عقد في الحديبية.
وأن المشركين يجب عليهم مجتمعين أن يؤدوا للمؤمنين ما أنفقوا في الزواج الذى فسخ للإصرار على الشرك، فإذا لم يؤد أخذ حق المؤمن من مجموع ما كان يجب على المؤمنين، هذا تفسير قوله تعالى: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ، فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا (الممتحنة- 11) وقد أخذنا المعنى في تفسير هذه الآية من تفسير الحافظ ابن كثير لهذه الآيات.
وإن هذا الحكم يفيد بطريق الإشارة إلى أن سبب التفريق إن كان من جانب الزوجة يجب عليها أن ترد ما أنفق الزوج بالمعروف، وتقدير المعروف للقاضي، كما كان تقدير ذلك في عصر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لأمر المؤمنين. وبمقتضى تلك الإشارة: إذا أسلم زوج من لا دين لها، ولم ترض الدخول في دين كتابى أو الإسلام، فإنه يجب عليها أن ترد ما أنفق زوجها، أو ما خسر بسبب امتناعها عن الدخول في دين سماوى.
تنبيهات:
514- الأوّل:
أن هذه الأحكام الفقهية أخذت من نص الآية، وتفسيرها الذى يعد من التفسير بالآثار وهو تفسير الحافظ ابن كثير، ولم نرجع إلى كتب الفقه التى اختلفت فيها، ولا نقول إن هذه الأحكام منسوخة فإنا لا نعلم لها ناسخا، ولأنا نقول إن القرآن الكريم ليس فيه منسوخ وخصوصا في الأحكام الفقهية.
الثانى:
أن أكثر المحدثين ذكر أن هذه الآيات نزلت والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يغادر الحديبية، فقد قال أبو ثور: أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو بأسفل الحديبية حين صالحهم على أنه من أتاه منهم رده إليهم، فلما جاءه النساء نزلت هذه الآية، وأمره سبحانه وتعالى أن يرد الصداق إلى أزواجهن، وحكم على المشركين إذا جاءتهم امرأة من المسلمين (أى كانت تحت مسلم) وبقيت على شركها أن يردوا الصداق إلى أزواجهن.
(2/755)
التنبيه الثالث:
أنه لم يكن ذلك الحكم هو الوحيد الذى كان في غزوة الحديبية، وإن كان ثبوت هذا الحكم بالنفي، بل هناك أحكام أخرى ثبتت بعمل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، قد عقد لها ابن القيم في كتابه (زاد المعاد في هدى خير العباد) فصلا قائما بذاته فلنتبعه في ذلك.
أحكام فقهية أخرى:
515- نشير هنا إلى بعض ما ذكره ابن القيم:
(أ) منها إن الإحرام بالعمرة في أشهر الحج يجوز ويصح ويلزم الاستمرار فيه، وأن الإحرام بالعمرة وإن كان يجوز من غير مواقيت الإحرام، وهى الأماكن التى خصها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأن المسافر عليه أن يحرم بالحج قبل اجتيازها، غير أن الإحرام من الميقات للعمرة أفضل، فإنه صلى الله تعالى عليه وسلم أحرم بها من ذى الحليفة، كما أحرم بالحج.
(ب) ومنها أن إشعار الهدى سنة وأنه لا مثلة فيه، وذلك بأن يحدث في جسمه عند سوقه ما يدل على أنه مخصص للذبح في مكة المكرمة، وبالتالى فإن سوق الهدى للعمرة سنة في ذاته عند الإحرام، وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ساق الهدى وأشعره، وكان في جملة ما ساق من هدى جمل لأبى جهل كان من أنفال بدر، وإن كان مغايظة للمشركين، وهذا يدل على أن غيظ المشركين ليفل من حدة سلطانهم، ولإثبات أن كلمة الله هى العليا، وأن العاقبة للمتقين، وأنه سبحانه وتعالى قال: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ، وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ، إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (التوبة- 120) ومنها جواز الاستعانة بالمخلص من غير المسلمين إذا كان في الاستعانة به فائدة ولا ريب فيه، ولا مظنة لأن يترتب على الاستعانة إيذاء، من أى نوع كان، وإلا يمنع سدا للذريعة وذلك لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم استعان بعيينة الخزاعى، وكان كافرا، وجعله عينا على المشركين وكان أقرب إلى أن يعرف أحوالهم، لاختلاطه بهم، والمصلحة في ذلك، ولا ضرر. والحق في هذه القضية أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يستعن به ابتداء، بل إنه هو الذى قدم معلوماته، وإن خزاعة مسلمهم وكافرهم كانوا على مودة بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
ولذلك عند ما تم العهد بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وبين قريش دخلوا في عهده ولم يدخلوا في عهد قريش كبنى بكر، ورد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم للمشركين عهدهم عند ما عاونوا بنى بكر على خزاعة واستعد لفتح مكة المكرمة.
(2/756)
وذكر ابن القيم أن من الأحكام الفقهية التى ظهرت في الحديبية استحباب مشورة الإمام رعيته وجيشه استخراجا لوجه الرأى وأمنا لطاعتهم، وتعرفا لمصلحة يختص بها بعضهم دون بعض، واستجابة لأمر الله في قوله تعالى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ (آل عمران- 159) . وقد مدح سبحانه وتعالى عباده المؤمنين، بقوله تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ (الشورى- 38) .
ونحن نرى أن النصوص توجب أن يستشير الإمام الرعية في إدارة شئونهم، وقد نرى استحباب ذلك في القتال، لا في شئون الكافة.
ومنها أن المشركين والفجار والفسقة وأهل البدع إذا طلبوا أمرا يعظمون به حرمة من حرمات الله تعالى، أو أمرا هو حق في ذاته أجيبوا إليه، فكل من يطلب أمرا هو حق في ذاته، أو محبوب لا إثم فيه، أجيب الطلب، ولو كان فاسقا مبتدعا، أو باغيا على الحق، أو مشركا، إلا أن يكون في ذلك ما يؤدى إلى التجرؤ على أهل الحق أو معاونة آثم لذات الإثم وإن ذلك موقف دقيق، إذ التعرف على حق لا يجر إلى باطل أمر دقيق لا يدركه إلا أهل الإيمان وأهل الإدراك السليم.
ومنها أن الحرم ليس مقصورا على المسجد الذى هو مكان الطواف؛ بل الحرم يشمل ذلك، وما حول مكة المكرمة، وأن كلمة الحرم تشمل كل ما حول مكة المكرمة.
ومنها أن المحصر بالحج أو العمرة وهو الذى يمنع من الوصول إلى البيت الحرام، وقد أحرم لزيارته معتمرا أو حاجا ينحر الهدى حيث أحصر، ومنها أن المصالحة مع الكفار جائزة، ولو كان فيها ضيم ظاهر إذا ترتب على ذلك مصلحة للمسلمين، والضيم ظاهر، والعبرة بالنتيجة، وإن كان الضيم في ذاته ضرر، فإنه يقدم بدفع أقل الضررين، وإن الصلح بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وكفار قريش في هذا الوقت كان خيرا في عواقبه، وإن لم يكن ظاهرا لكل المؤمنين أو لكثرتهم.
وهكذا كانت أعمال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تفيد أحكاما شرعية، سواء أكانت تتعلق بتدبير مصلحى، أو عبادة مقررة ثابتة.
وإنه إذا كان الأمر مصلحة، وجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يبدى ما يراه مصلحة، أو يعين على الواجب، لأن ذلك من قبيل النصيحة في الدين التى تجب المبادرة بها، فقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم، «الدين النصيحة لله ولرسوله، ولكتاب الله، ولخاصة المسلمين وعامتهم» .
ولذلك تقدمت السيدة أم المؤمنين أم سلمة تطلب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يبادر هو بالعمل، فإذا حلق ونحر تبعوه، لأن العمل يؤثر في الاتباع أكثر من القول، ولم يجد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم غضاضة في أن يتبع ما أشارت به غير متردد، لأن الحق أحق أن يتبع، ولأن الحق
(2/757)
واجب الاتباع في ذاته، من غير نظر إلى مكانة الداعى بالنسبة للمشير، ولا إلى مقامه بالنسبة لمقامه، ولنتعلم أن هدى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن نتبع حيثما كان وممن يكون، ولنجعل للمرأة الكريمة الطاهرة العاقلة مكانتها وحق التقدير والاعتبار.
كانت الحديبية فتحا
516- عند قفول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة بعد صلح الحديبية نزلت سورة الفتح، فقد قال تعالى في ذلك:
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ، وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (الفتح- 1، 2) .
فسمى الله تعالى ذلك الصلح، وما وفق الله تعالى النبى عليه الصلاة والسلام للقيام، فتحا وليس دنية في الدين كما خطر على عقول بعض المتقين من كبار المؤمنين، وكان فتحا لأنه أنهى القتال بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وبين قريش، وذلك في ذاته فتح، ولأنه فتح قلوبا كانت مغلقة وعقولا كانت عليها غشاوة حتى إنه أحصى عدد المؤمنين قبل الحديبية في مدى تسع عشرة سنة، ومن أسلم فى سنتين بعد الحديبية، فكان مثل الأوّل أو يزيد، لذلك كله كانت الحديبية فتحا، ولم تكن دنية، وفوق ذلك كانت تمهيدا لدخول مكة المكرمة بالفتح الأعظم الذى لم يجر فيه دم، ولم يكن قتال إلا فى بعض المتمردين، وكانوا قليلين، وكان فتحا، لأن المؤمنين استطاعوا تنفيذا لأحكام الصلح أن يدخلوا معتمرين، ثم متحللين محلقين ومقصرين.
وغفران ذنب الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ليس على حقيقة معنى الغفران، إنما هو متضمن الرضا والقبول لكل ما يفعله الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، سواء أكان في الماضى أم الحاضر أو القابل، فكل ما يفعله الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم مغفور، وتسميته ذنبا من قبل المجاز، فهو ليس إلا خطأ لأن ما يعتب به عليه، خطأ كما أخطأ في الأسري، وكما كان يقع منه، ليكون أسوة للناس، فيقروا بأن الإنسان إذا خضع لفكره وعقله ربما يخطيء ولو كان نبيا مرسلا، ولو كان خاتم النبيين محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم، والصراط المستقيم الذى هداه الله تعالى هو طريق الدعوة فقد صار معبدا لا عوج فيه بعد هذا الفتح المبين، وإنه كان من الفتح المبين تضافر أهل الإيمان بالبيعة، فقد قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ، يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، فَمَنْ
(2/758)
نَكَثَ، فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ، وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (الفتح- 10) .
ولقد كان من الفتح المبين أن نقيت جماعة الإسلام ممن لم تستقم قلوبهم وتكون خالصة للحق لا تبتغى سواه، ولذلك لم يخرج مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في الحديبية إلا من أراد الله سبحانه وتعالى، وأراد الحج، لا المغانم وما وراءها. ولذلك قال الله سبحانه وتعالى فيهم في سورة الفتح: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ، يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ، قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ، فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (الفتح- 15) .
ولقد أشار سبحانه وتعالى إلى الذين يستقبلهم المسلمون من أولى البأس والشدة، ولقد كان الذين خرجوا للاعتمار تعرضوا لاحتمال الحرب فتضافروا وبايعوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أن يبيعوا أنفسهم لله تعالى، ولا يفروا، وقال سبحانه وتعالى ما تلونا من قبل: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ، فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ، وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً. وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً. وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها، فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ، وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ، وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً
(الفتح- 18، 20) .
وإنه كانت الحديبية التى سماها الله تعالى الفتح المبين سبيلا لأن يتجه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى اليهود وينفرد لهم، ثم بعد ذلك يكون الاتجاه إلى الرومان، كما قال الله سبحانه وتعالى:
سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ، تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ (الفتح- 16) .
وأولئك هم الرومان، والدخول إلى أرض الشام.
وإن الغاية توجب تحمل الوسائل، ولو كانت قاسية على النفس، وما كان للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يتجه إلى اليهود، وخضد شوكتهم في البلاد وقد اتخذوها للأذى والإيقاع ولم ينفع عهد ولا ذمة. ما كان أن يتجه إلى أولئك، وشوكة قريش تجرح من وراءه، فلابد أن يؤمن ظهره بعهد، ولو كان فيه ما توهمه بعض المؤمنين غبنا فاحشا، ولكنه الطريق المستقيم لتوجيه الدعوة الإسلامية إلى مواطنها.
وإن ذلك تصديق رؤيا النبى عليه الصلاة والسلام التى رآها، بأنه سيدخل المسجد الحرام، ولكنها لا تتحقق واقعة إلا في عام قابل، وكان ذلك الصلح، فقد قال الله سبحانه وتعالى:
(2/759)
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ، لا تَخافُونَ، فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا، فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ، لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (الفتح- 27، 28) .
وهكذا كان ذلك الصلح فتحا وطريقا للفتح، ودخل به الناس في دين الله أفواجا، أفواجا.
يقول ابن شهاب الزهرى التابعى بحر العلم كما قال الإمام مالك، قال في الحديبية «فما فتح فى الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة، ووضعت الحرب أوزارها، وأمن الناس بعضهم بعضا، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يتكلم أحد في الإسلام ليقول شيئا، إلا دخل فيه، ولقد دخل في تلك السنين (أى التى كانت قبل فتح مكة المكرمة) قدر ما كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر» .
ونضيف: وقضى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على نفوذ اليهود قضاء كاملا، واتجه إلى خارج الجزيرة العربية ينشر الإسلام فيها.
تنفيذ الصلح
517- كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حريصا كل الحرص على الوفاء بالعهد، لأن الوفاء بالعهد في ذاته قوة، ولأن الله تعالى يقول: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ، وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا.
ولقد شك بعض المؤمنين في وفاء المشركين في عهدهم هذا، فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: وفوا لهم، واستعينوا بالله تعالى عليهم.
ولذلك اتجه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الوفاء.
ولقد كان بعض المؤمنين ينظر إلى الأمر في هذا الاتفاق غير مطمئنين، إلا طاعة الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فقد شق عليهم أمران:
أحدهما: ألا يتمكنوا من دخول البيت الحرام وقد أحرموا، ومعهم القوة التى يستطيعون أن يدخلوا بها، وليس عند قريش القوة الكافية لردهم، ولذلك تباطئوا في الاستجابة للتحلل من الإحرام بالحلق أو التقصير، على ما قصصنا من قبل.
(2/760)
الأمر الثانى: الشطط في شروط قريش، وفي إملاء العقد، وأشد شطط وغبن أن من خرج مسلما لا يقبله النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، بل يرده إلى وليه، ومن عاد إلى مكة المكرمة مرتدا لا يردونه، فقد كان ظاهر الشرط أن فيه غبنا على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، إذ فيه عدم مساواة، ولكن إن نظرنا إلى الشطر الثانى وهو عدم رد من يخرج من الإسلام إلى الشرك، فإنه عند التأمل لا نجد فيه ضررا على المسلمين فما حاجة الإسلام إلى مرتد حائر، فليذهب إلى حيث شاء، بدلا من أن يكون شوكة في المسلمين، وقد يرضى أن يبقى منافقا، وينضم إلى صفوف أهل النفاق، فيكون عينا على المسلمين وعلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
وأما بالنسبة للجزء الأوّل من الشرط، وهو أن من خرج من مكة المكرمة مسلما يرد إلى وليه، فقد كان بلا شك شاقا في ذاته، وخصوصا عند ما دخل عليهم أبو جندل يرسف في قيوده.
وإن هذا الجزء من الشرط وإن كان شاقا في مظهره صعب التحمل إلا لمن كان قوى الإيمان، فإن تطبيقه أدى في نتائجه إلى الضرر على المشركين، ولم يضار به النبى صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنون، حتى إن المشركين الذين كان الشرط من جانبهم ولمصلحتهم هم الذين طلبوا إلغاءه.
ولنذكر تطبيقه كما أوضحت كتب السيرة وصحاح السنة:
كان أوّل من طبق عليه الشرط أبو بصير عتبة بن شيد بن جارية، وكان ممن أسلم وحبس بمكة المكرمة، وقد استطاع أن يخرج من محبسه، وأراد الذهاب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فكتب إليه بعض المشركين يطلبون تسليمه بمقتضى الشرط وبعثوا رسولين يتسلمانه، وهما رجل من بنى عامر ابن لؤي، ومولى له، فقدما على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وعنده أبو بصير فقال له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «يا أبا بصير، إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا» قال: يا رسول الله أتردنى إلى المشركين يفتنوننى في دينى. قال الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم: «يا أبا بصير انطلق، فإن الله تعالى سيجعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا» .
انطلق معهما، واندمج معهما في الحديث، وأظهر الاستسلام، حتى اطمأن إليه العامري، فقال: يا أخا بنى عامر أصارم سيفك هذا؟ قال نعم، قال أنظر إن شئت، فاستله أبو بصير، وأراد أن يختبر صرامته ثم علاه به حتى قتله، فولى المولى مسرعا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو جالس فى المسجد، فقال: إن هذا الرجل قد رأى فزعا، ثم قال له: ويحك مالك؟ قال إن صاحبكم قد قتل صاحبي، وبينا هو يشرح حاله، وكيف قتل العامري، طلع أبو بصير متوشحا بالسيف حتى وقف على
(2/761)
رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال: يا رسول الله قد وفيت ذمتك، وأدى الله عنك عند ما أسلمتنى ليد القوم، وقد امتنعت بدينى أن أفتن أو يعبث بي، قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: ويل أمه إنه محش حرب إن كان معه رجال، وفي رواية البخارى أنه قال: ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد.
وقع في نفسه أنه سيرد إليهم بعد أن قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وإنها تفيد بلحنها أن له أن يعتمد على نفسه، وهو قادر على أن يعتمد.
خرج من حضرة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وسار حتى وصل إلى سيف البحر. وقد علم المستضعفون بخبر أبى بصير، وقول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأنه محش حرب إن كان معه رجال، فكل مستضعف يعمل على تخليص نفسه ويكون من رجال أبى بصير، فانفلت أبو جندل الذى جاء إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يرسف في قيوده، ورده صلى الله تعالى عليه وسلم والتحق بأبى بصير.
وصار كل مستضعف لا يذهب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لأنه سيرده، بل يذهب إلى رجال أبى بصير على سيف البحر.
وكونوا منهم عصابة تقطع طريق تجارة قريش؛ فما كانوا يسمعون بعير خرجت لقريش إلا تعرضوا لها، يقتلون رجالها، ويأخذون مالها، فلم يكن من مصلحتهم التمسك بشرطهم. بل إنهم تركوا الأخذ بالشرط، وأنهم إذ كانوا لا مأوى لهم، لهم الحق بأن يفعلوا بهم جزاء ما آذوهم، ولا حلف معهم إلا الأذى الذى قدموه لهم، وخوف الفتنة دفعهم لأن يقفوا ذلك الموقف منجاة لأنفسهم.
أرسلت قريش إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تناشده الرحمة إلا آواهم، وضمهم إليه، ولا يردهم. كان هذا الشرط الذى أزعج النفس المؤمنة ماله أن يكون خيرا للمؤمنين، وهو شرط عليهم، إنها النبوة التى أدركت ما لا يدركه عمر، ولا غيره، وإنه إلهام الله الذى جرى على لسان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «سيجعل للمستضعفين فرجا ومخرجا» .
وإنه لما توسلت قريش إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في إلغاء العمل بهذا الشرط، أرسل إلى أبى بصير أن يجيء إلى المدينة المنورة هو ومن معه، ليكونوا قوة للمؤمنين، فكتب إليه بالمجيء إلى المدينة المنورة، ولكن الكتاب لم يصله إلا وهو على فراش الموت، فتوفي، ولكن رجع أصحابه إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
(2/762)
هجرة المستضعفين:
518- وبعد أن فتح لمن يسلم بدار الشرك الباب للذهاب إلى المسلمين وألغى ذلك الشرط كان يحث النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الذين يسلمون ألا يبقوا مستضعفين في أرض الشرك، بل عليهم أن يهاجروا، وإن ذلك مبدأ الإسلام أن يتجمع المسلمون، ولا يستمروا متفرقين في الأرض.
ومنع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من إقامة المسلم بين المشركين ما دامت عنده قدرة على الخروج من بين ظهرانيهم، وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تراءى نارهما. وقال: من حارب مع مشرك وسكن معه فهو مثله، وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تخرج الشمس من مغربها. وقال: ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم بها.
وبذلك طلب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من كل مستضعف أن يهاجر إلى حيث يتجمع المسلمون ما دام قادرا على ذلك، لأنه بهجرته إلى المسلمين يتحقق أمران.
أحدهما: أنه يخرج من حال استضعاف، وذلك بالخروج من ولاية الكفر أو الشرك إلى حيث العزة والمنعة وولاية المؤمنين فهم أهل ولاية الله وولاية الحق، وهى القوة وهى الأمن والقرار. ولقد أوجب القرآن الكريم ذلك فقال: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها، فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً. إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا. فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً. وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ، فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (النساء- 97، 100) .
وإن نصوص النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عامة، ونص القرآن الكريم ملزم لا مناص من تنفيذه.
الأمر الثانى: أن في الهجرة تجميع المسلمين، وفي الجماعة قوة ليست في الفرد. وإن ذلك أمكن للوحدة، وأحفظ لهيبة أهل الإسلام.
وإنه قد يعترض على جعل الهجرة بالانتقال من أرض الاستضعاف إلى حيث القوة الإسلامية مبدأ دائما ومطلوبا مستمرا. قد يعترض على ذلك بقول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح» .
(2/763)
ونقول في الجواب: إن الحديث مخصوص بالهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، أو بالهجرة من مكة المكرمة إلى غيرها، وأن الهجرة مطلوبة قبل الفتح، لأن المسلمين فيها كانوا يفتتنون عن دينهم، وكانوا في ذلة، ولا يستطيعون القيام بشعائر دينهم. فلما فتح الله تعالى على المسلمين مكة المكرمة، وصارت فيها الأحكام الإسلامية وصارت ولاية من ولايات الإسلام، لم يعد للهجرة سبب يوجبها، بل إنها أصبحت غير مطلوبة، وربما تضر ولا تنفع لأنها لو استمرت لخلا البيت الحرام من سكان حوله يقومون بسدانته، وهى أحب أرض الله إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وإلى ربه، وهى التى جعلها أرضا مباركة.
سرايا وبعوث
519- كانت سنة ست من الهجرة، خصبة بالدعوات الإسلامية وبث السرايا والبعوث لأجل تعرف الناس، والدعوة الإسلامية، وبيان حقائق الإسلام.
وقد كان أبرز ما فيها غزوتان: غزوة بنى المصطلق على الرواية التى تقرر أنها كانت في هذه السنة، وغزوة الحديبية أو صلحها، وكانت وحدها فتحا مبينا وتمهيدا للفتح الأكبر في سنة ثمان من الهجرة.
وكانت ثمة سرايا قبل الحديبية سنة ست، لأنها عقب غزوة الأحزاب للمدينة المنورة، وقد رأى النبى عليه الصلاة والسلام ما رأى من قوة الإسلام برهانا وعقيدة، وقوته مادية بحيث تبين أنه لا يغلب لأنه مؤيد من الله تعالى، ففيها كان بعث أبى عبيدة بن الجراح إلى ذى القصة في أربعين رجلا مشاة حتى أتوها فهربوا منه في رؤس الجبال، وأسر منهم رجلا حضر به لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكان ذلك في ربيع من سنة ست.
وفيها بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم زيد بن حارثة إلى بنى سليم فدلتهم امرأة من مزينة على محلة من محال بنى سليم، فأصابوا منها نعما وشاة وأسروا رجالا كان فيهم زوج هذه المرأة التى دلتهم واسمها حليمة فوهبه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لها وأطلقهما.
وفي سنة ست هذه قبل صلح الحديبية أخذت أموال قريش، وكان فيها أموال كانت مع العاص ابن الربيع الذى كان زوجا لزينب بنت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأطلقه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من غير فداء على أن يعيد زينب لأبيها فبر بما وعد.
لما أخذ المال الذى كان معه، وقتل من كان معه، وفرهو إلى المدينة المنورة، فلما جاءها استجار بزينب بنت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فأكرمه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأجاز
(2/764)
جوار زينب وأمر برد الناس ما أخذوا من العير، فرد كل واحد ما أخذ من هذه العير، حتى لم يفقد منها شيئا، حمل أبو العاص بن الربيع المال إلى مكة المكرمة، ورده إلى أهله، ورد ما كان لهم من الودائع، فلما تم ذلك أعلن إسلامه، وخرج مهاجرا إلى المدينة المنورة.
وإن هذه الرواية التى رواها ابن إسحاق تدل على أن إسلامه كان سنة ست، وكان قبل نزول آية:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ... الآيات الكريمات (الممتحنة- 10) .
وهذه رواية الواقدى أيضا، ولكن الحافظ ابن كثير يقول إن إسلامه كان سنة ثمان، وأن إسلامه تأخر عن تحريم بقاء المسلمات- أى زواج الكفار منهن-، وأنهم لا يحلون لهن، وإنى أميل إلى رواية الواقدي، ورواية ابن إسحاق، وهى أكثر اتساقا مع الآية.
فى شعبان سنة ست أيضا كانت سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل يدعوهم إلى الإسلام، ولم يكن لقتال، وقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن هم أطاعوا فتزوج بنت ملكهم، فأسلم القوم، وتزوج عبد الرحمن بن عوف بنت ملكهم تماضر بنت الأصبع الكلبية، وهى أم أبى سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وكانت هذه السرية في شعبان.
وفي هذه السنة سنة ست أيضا أرسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه في مائة رجل إلى حى من بنى أسد بن بكر، وذلك أنه بلغ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه جمع لهم جمع يريدون به أن يمدوا يهود خيبر يعاونونهم على المسلمين، وهذا يدل على أنهم كانوا يستعدون لحرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فبعث عليا إليهم، فسار إليهم ليلا ونهارا، حتى أصاب منهم عينا لهم، فأقر أنهم بعثوا إلى خيبر، وأنه هو الذى يعرض عليهم أن تعطى خيبر لهم تمر خيبر.
وبذلك علم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنهم يجمعون الجموع له، ولذلك لم يكن غريبا أن يتجه إليهم بعد الحديبية، لأنه تفرغ لهم.
سرية عكل وعرينة
520- يقول ابن كثير إن هذه سرية كانت في سنة ست قبل الحديبية وقد نقلها عن الواقدى، وقال كانت في شوال سنة ست، أى قبل الحديبية بشهر، إذ الحديبية كانت في ذى القعدة الذى ولى شوالا.
(2/765)
وقالوا: إن السرية كانت بقيادة كرز بن جابر الفهرى إلى العرنيين الذين قتلوا راعى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم واستاقوا النعم، فبعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في آثارهم كرز بن جابر فى عشرين فارسا فردوهم، هذه قصة هذه السرية، خرج ناس استولوا على إبل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقتلوا راعيها، فبعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هذه السرية، فردت الإبل.
وفي القصة أخبار نجد من الواجب أن نذكرها، ونبين مقدار الاطمئنان في الرواية ونسبتها إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
جاء في البخارى ومسلم عن أبى قلابة عن أنس بن مالك رضى الله تعالى عنه أنه قدم رهط من عكل ورعينة فأسلموا، واجتووا المدينة المنورة فأتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فذكروا ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: الحقوا بالإبل فاشربوا من أبوالها وألبانها، فذهبوا وكانوا فيها ما شاء الله تعالى ثم قتلوا الراعى وسرقوا الإبل، فجاء الصريخ إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فلم ترتفع الشمس حتى أتى بهم، فأمر بمسامير فأحميت فكواهم بها، وقطع أيديهم وأرجلهم وألقاهم في الحرة يستقون فلا يسقون حتى ماتوا، وفي رواية عن أنس أنه قال: فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه من العطش، وفي رواية للبخارى ومسلم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أمر فسمل أعينهم.
ولقد قال كمال الدين بن الهمام- من كبار فقهاء الحنفية: رواه جماعة المحدثين.
ولكن مهما تكن عدد المصادر التى روته فإنه حديث آحاد. وإن أهل الخبرة في علم الحديث يقولون إن رواته ثقات، وإن سنده متصل، وإنه لا إنكار في سنده، وإن كان آحادا، ولكنا ننظر في متنه، فإن الحديث يضعف بإحدى طريقين إما بضعف سنده، أو بضعف متنه بأن يكون مخالفا للمقررات الشرعية.
وإنا نرى أن متنه يخالف المباديء التى قررها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لوجوه.
أولها: أن فيه مثلة، بسمل الأعين، وأن المثلة منهى عنها، وإن قالوا أن المثلة لم يكن قد نهى عنها، فإننا أولا نقرر أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يمثل بأحد من قتلى أحد، ولا من قتلى الخندق، فدل هذا على أنها كان منهيا عنها من قبل. وإن قيل إن الصحابة فعلوا معهم ذلك، لأنهم ارتكبوا ما يوجب حدا، وإذا كان الحد، فهو حد الحرابة الذى بينه الله تعالى بقوله: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا ... إلى آخر الآيات.
وليس فيها سمل الأعين. ولا يقال إن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يأمر به، لأنه علمه في الرواية ولم ينكر.
(2/766)
ثانيها: أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عن القتل عطشا، ولقد قالت الرواية أنه تركهم يموتون عطشا- حتى إنهم كانوا يكدمون الأرض من شدة العطش حتى ماتوا، ولا يقال أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما أمر بذلك، ولكن مفهوم هذه الرواية أنه علم، ولم ينكر.
ثالثها: أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإن القتل قصاصا لا يبرر ذلك» ، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكن ليبيح ذلك في الحرب على أنهم ربما يعتبرون مقاتلين.
والخلاصة أننا لا نرى أن ذلك الخبر تصح نسبته للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، لمخالفته للمقررات الإسلامية التى قررها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولذلك لا نقول إنه صحيح النسبة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
حد الحرابة
521- الفقهاء يسوقون قصة العرنيين وما نسب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كسبب في حد الحرابة أو قطع الطريق، ويرون أن ما نسب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فعله ينطبق على ما نص الله تعالى في كتابه من حد قطاع الطريق، ولكن ذكرنا أن ما ينسب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فعله، لا ينطبق كله على ما في حد الحرابة فليس في نص القرآن الكريم سمل الأعين، كما أنه ليس في نص القرآن الكريم القتل بالعطش، حتى يكدموا الأرض من شدة العطش، فلا يستسقون، وقد كذبنا نسبته للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم لذلك.
ومهما يكن فإننا نذكر النص القرآنى في هذا المقام، ومدى ما ينطبق من قصة العرنيين عليه.
يقول الله تعالى في بيان هذا الحد: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ، أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ، ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ، فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (المائدة: 32، 33) .
ولا شك أن وصف الحرابة ينطبق على هؤلاء العرنيين، وقد نزلت بهم بعض عقوباتها، وهو قطع الأرجل والأيدى.
وما دمنا قد تعرضنا للحرابة أو لقطع الطريق، فإنه يجب أن نشير لبعض أحكامه، على قدر ما يتسع له المقام في سيرة النبى عليه الصلاة والسلام الطاهرة، ويترك تفصيله لكتب الفقه، ولموضعه من بحوثنا في كتاب الجريمة وكتاب العقوبة في الفقه الإسلامى «1» .
__________
(1) الناشر: دار الفكر العربى.
(2/767)
المحاربون أو قطاع الطريق ناس يخرجون متفقين على القتل أو السرقة، وتكون لهم قوة يقاومون بها الدولة إفسادا من غير تأويل يتأولونه، بل سعيا بالشر والإفساد، ونرى ما يراه المالكية أنه لا تقتصر جرائم الحرابة على القتل والسرقة، بل تشمل كل المعاصى، كالزنا وشرب الخمر، ويدخل فيها كل المخدرات سواء أكانت سائلة أم جامدة، وسواء أكانت تتناول بالشرب أم بالتدخين.
وسواء أكانت هذه القوة التى يكونها المحاربون في مدينة أم غير مدينة ماداموا يستطيعون أن يقوموا بجرائمهم بعيدين عن أن يجاب المستغيث إذا استغاث، وللفقهاء كلام وخلاف في هذا المقام.
ويعد من المحاربين الجماعة التى تنفق على ارتكاب جرائمها. بطريق الغيلة وذلك في رأى مالك، والنص القرآنى يحتمل ذلك كله.
والعقوبات المقررة، هى القتل، والصلب، وتقطيع الأيدى والأرجل من خلاف والنفى من الأرض بالإبعاد في مكان ناء لا يستطيعون فيه ارتكاب جرائمهم. وعد الإمام أبو حنيفة أن من النفى السجن، لأن المقصود منع اجتماعهم.
وأكثر الفقهاء أن الإمام العادل يضع العقوبة على قدر الجريمة: فإن تولوا القتل قتلوا ولا فرق بين من باشره، ومن لم يباشره، لأن من لم يباشره كان معينا مع من باشره.
وإذا سرقوا وقتلوا، قتلوا وصلبوا، ويستوى في العقوبة المباشر وغير المباشر.
وإذا سرقوا وانتهبوا الأموال ولم يقتلوا فإنه تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، فإذا قطعت اليد اليمنى، يقطع معها الرجل اليسرى.
وإذا كانوا قد اتفقوا وهموا بالشر، ولكن لم يمكنوا فإن العقوبة تكون النفى، بتفريقهم بعيدا عن مكان تجمعهم.
هذا ما اختاره جمهور الفقهاء تابعين للتابعين في أقوالهم، ومن الصحابة عبد الله بن عباس رضى الله عنهما.
ويرى الإمام مالك رضى الله عنه أن الإمام مخير في هذه العقوبة أيا كانت الجريمة التى ارتكبوها، لأن الجريمة الأصلية هى الاتفاق على ارتكاب هذه المعاصى، ولو لم يمكنوا من تنفيذ إحداها، والإمام ينظر إلى ما هو الأنجع في ردعهم.
(تم بعون الله الجزء الثانى، ويليه الجزء الثالث)
(2/768)
الجزء الثالث
رسائله صلى الله تعالى عليه وسلم- طرد اليهود من البلاد العربية- تعميم الدعوة الإسلامية فى البلاد العربية- إسلام العرب- حال الأعراب- خروج الدعوة إلى أطراف الشام- حجة الوداع- زوجاته صلى الله تعالى عليه وسلم.
(3/771)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
مقدمة الجزء الثالث
بحمد الله وتوفيقه، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فإنا نقدم الجزء الثالث من السيرة الطاهرة المطهرة، سيرة خاتم النبيين وسيد المرسلين محمد صلى الله تعالى عليه وسلم.
وفى هذا الجزء تكلمنا فى نشره للدعوة الإسلامية فى ربوع البلاد العربية، ومجاوزة حدودها إلى الشام والرومان ومصر، وإلى فارس، والعراق.
ففيه الكتب التى أرسلها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى أمراء العرب، وإلى قيصر الرومان، ومقوقس مصر، والنجاشى فى الحبشة.
وفيه كان إجلاء اليهود عن البلاد العربية والاتجاه إلى الشام بالفتح المبين فكانت مؤتة، ومساورة الشام فى تبوك.
ثم كانت الدعوة المحمدية مبثوثة فى كل البقاع والأصقاع العربية حتى دانت بالطاعة للإسلام خاضعين، وبيان حال الأعراب، ثم كان كمال الدين بيانا للأحكام، وتوجيها للعمل.
ثم بيان انتقال النبى إلى الرفيق الأعلى صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن أشرق نوره فى الأرض، وبلغ رسالة ربه.
اللهم املأ قلوبنا إيمانا بها، وأعمالنا طاعة لها، وأبعد الزيغ عن عقولنا، واغفرلنا ذنوبنا ما نعلم منها وما لا نعلم، إنك سميع الدعاء.
محمد أبو زهرة
(3/773)
رسائله صلى الله تعالى عليه وسلم
522- وفى هذه السنة بعد الحديبية فرض الحج. وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ومن معه من جيش الإيمان كانوا قد أحرموا للحج.
وشرع الحج فريضة من بعد الحديبية مباشرة، وقالوا إنه كان قد شرع، وفرضه الله تعالى فى هذا الوقت مع أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يحج إلا فى السنة العاشرة.
وهذا رأى أكثر الفقهاء، فالحج لا يجب فور القدرة عليه، ولكن يجب أداؤه فى مدى العمر، وقال بعض الفقهاء يجب فور الاستطاعة على أدائه، وقالوا إن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أخره إلى العاشرة لأنه لم يكن مستطيعا ذلك قبل العاشرة، لأن الأصنام لم تزل قبل التاسعة، وكان مشغولا بالدعوة، وبيان الشرع، حتى نزلت الآية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً (المائدة) وسرد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الفرائض الشرعية بإيجاز، وأشهد المؤمنين على التبليغ.
وإنه بعد الحديبية تفرغ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم للدعوة، فلم يرسل سرايا للقتال.
ولكن أرسل رسلا للدعوة إلى الإسلام، وتبليغ الدعوة.
قال الواقدى: فى ذى الحجة من سنة ست بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ستة نفر مصطحبين حاطب بن أبى بلتعة إلى المقوقس صاحب الإسكندرية.
وبعث شجاع بن وهب إلى الحارث بن شمر الغسانى ملك عرب النصارى.
ودحية بن خليفة الكلبى إلى قيصر، هرقل ملك الروم.
وبعث عبد الله بن حذافة السهمى إلى كسرى ملك الفرس.
وبعث سليط بن عمرو العامرى إلى هوزة بن على الحنفى.
وعمرو بن أمية الضمرى إلى النجاشى ملك النصارى بالحبشة، وهو أصحمة بن أبحر.
وسنتكلم عن الرسائل التى كانت مع هؤلاء الرسل عند الكلام على مكاتبة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. والذى نقوله هنا هو أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد تفرغ للتبليغ، ولم يعد مقصورا على الجزيرة العربية وما حولها بل تجاوزها إلى الأقاليم الآخرى.
(3/775)
إلى خيبر
523- أنهى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما بينه وبين قريش بصلح مدته عشر سنين، ليكون للدعوة والتبليغ وإن لم يترك ذلك التبليغ أبدا، فلم تشغله الحرب عن التبليغ بل كان التبليغ فى أثناء الحروب، وليتجه إلى اليهود أولا، وإلى حرب الشام ثانيا، لأن الروم فى الشام قتلوا بعض من آمنوا من أهل الشام، ففعلوا مثل ما فعلت قريش، فحق قتالهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين لله.
ولذلك كان سيره من الحديبية إلى خيبر، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما كان يقاتل إلا فى ميدان واحد، فبعد أن انتهى من قريش انفرد لليهود الذين نقضوا معه كل العهود وكانوا إلبا عليه، يحرضون ويفسدون ويدسون. وكانت خيبر فى ذى الحجة على رواية عبد الرحمن بن أبى ليلى، فقد فسر قوله تعالى: وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً قال يعنى خيبر فقال إنها كانت فى ذى الحجة من السنة السادسة بعد عشرين يوما من صلح الحديبية، والواقدى يروى بسنده عن شيوخه أنها كانت فى السنة السابعة من الهجرة.
وقد عين الوقت ابن إسحاق فقال: قام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالمدينة المنورة حين رجع من الحديبية ذا الحجة وبعض المحرم ثم خرج فى بقية المحرم إلى خيبر.
وبعض الروايات قالت إن غزوة خيبر كانت فى صفر سنة سبع.
ومهما يكن تعيين الزمن، فإن غزوة خيبر كانت أمرا لا بد منه، لأنه اجتمع أعداؤه من اليهود، وما كانوا يألون المؤمنين إلا خبالا؛ وينتهزون الفرصة لينقضوا.
وقد رأينا أنهم يمالئون غطفان، ويستخدمون قوة منهم، وقد بعث النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على بن أبى طالب ليتعرف أمرهم والتقى بعين لهم، وأسر من أسر منهم.
فكانوا بلا شك يريدون أن ينتهزوا معاونة ليغيروا عليه أو يعاونوا من يحاربونه، وكان فيهم غلظة وشدة.
فلما اتجه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لغزو بنى النضير لكيلا يكون لليهود سلطان فى بلاد العرب كان لا بد أن تنضم إليهم غطفان، ولشدة عداوتهم للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولقربهم من منازلهم، ولسبق تحالفهم مع الأحزاب لغزو المدينة، ولكن الله ردهم بغيظهم لم ينالوا خيرا، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ، وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (الأحزاب- 25) .
وقد احتاط صلى الله تعالى عليه وسلم لذلك، فنزل موقعا يفصل بين غطفان وخيبر. ولنسرد قصة هذه الغزوة من وقت ابتدائها.
(3/776)
خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قاصدا خيبر، فلما أشرف عليها أخذ يضرع إلى الله تعالى طالبا النصر والمعونة، فقال لأصحابه: قفوا؛ وأخذ يدعو، وهم يرددون معه.
اللهم رب السموات وما أظللن، ورب الأرضين وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما أذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها، وخير ما فيها، ونعوذ بك من شر أهلها وشر ما فيها، أقدموا باسم الله تعالى.
خرج رسول الله إلى خيبر، سلك على عصر، وهو جبل قريب من المدينة المنورة، فبنى به مسجدا، ثم مر على الصهباء، ثم أقبل بجيشه ونزل بواد يقال له الرجيع، وهو فاصل بين خيبر غطفان، لكيلا يمكنهم من مظاهرة اليهود عليه، فحال بينهم، ولكنهم كانوا قد خرجوا لليهود لينفذوا ما أرادوا من معاونتهم، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أرسل إلى ديارهم جماعة من مقاتليه، ليزعجوهم، فلما سمعوا من ورائهم حس أولئك الذين ذهبوا خلفهم فى أموالهم وأهليهم ظنوا أن المؤمنين خالفوهم إليهم، فرجعوا على أعقابهم، فأقاموا فى أهليهم وأموالهم.
وبذلك أمن رسول الله عليه الصلاة والسلام شرهم، وخلوا هم بينه وبين اليهود، واختاروا لأنفسهم السلامة.
القائد حامل الراية:
524- دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أرض خيبر وكانت أرض زرع وحرث، وقد خرجوا يحملون أدوات من مساحى يحملونها لحرث الأرض ومكاتل يجمعون فيها الثمار، أو ينقلون السماد الطبيعى من مكان إلى مكان بها، فلما رأوا جيش النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذعروا وقالوا محمد والخميس.
تقدم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم لفتح قريتهم بحصونها، وقد قال ابن القيم، وصاحب معجم البلدان: كانت لهم حصون، هى حصن ناعم وحصن القموص، وقلعة الزبير، وحصن النطاة، والكتيبة والوطيح، والسلام، وهما حصنا أبى الحقيق، وحصن الزبير، وحصن الصعب بن معاذ.
كانت القيادة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومعه ستمائة وألف مقاتل، فيهم مائتا فارس، وكان قائد اليهود سلام بن مشكم ومعه أربعمائة وألف مقاتل، ولما قتل تولى القيادة أبو زينب بن الحارث.
وكان حامل راية المؤمنين بطل الجهاد على بن أبى طالب، فإنه ليلة أراد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم غزو خيبر قال: لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، وإليك الرواية كما رواها البخارى.
(3/777)
قال البخارى بسنده «إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله. فبات الناس يذكرون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، كلهم يرجو أن يعطاها فقال عليه الصلاة والسلام: أين على بن أبى طالب، فقالوا: يا رسول الله يشتكى عينيه، فأرسل إليه فأتى فبصق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى عينيه ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية فقال: يا رسول الله أقاتلهم، حتى يكونوا مثلنا. فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: انفذ على رسلك، حتى تنزل ساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدى الله بك رجلا واحدا خير من أن يكون لك حمر النعم.
ابتدأ القتال حول الحصون، ويقول ابن إسحاق: تقدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الأموال يأخذ الأقرب فالأقرب منها، وفى هذه الأثناء خرج المرحب فارسهم فقصده على بن أبى طالب فقتله.
ثم تدانى جيش المؤمنين، يأخذ الأدنى فالأدنى، وأول حصن فتحوه والراية فى يد على كرم الله وجهه حصن ناعم، ثم القموص حصن أبى الحقيق، وكلما فتح حصن فر من كانوا فيه إلى الحصن الذى يليه، فيجتمع فيه مع من آلوا إليه فارين من حر السيف وقوة الإيمان، وكانت المبارزات أحيانا.
ولقد فتح القموص بعد حصار دام عشرين ليلة كما جاء فى سيرة ابن إسحاق، وكان فى أرض وخمة شديدة الحر، فجهد أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جهدا شديدا لوخم الأرض وحرارتها.
ولقد تحركت اليهود من بعد ذلك كما قال الواقدى إلى قلعة الزبير، وهى حصن منيع، فأقام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى حصاره ثلاثة أيام.
وقد جاء رجل يهودى يظهر من أمره أنه مال إلى الإسلام، كما يدل قوله وعمله، فقال للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: يا أبا القاسم إنك لو أقمت شهرا ما بالوا، إن لهم سردابا وعيونا تحت الأرض.
يخرجون بالليل فيشربون منها، ثم يرجعون إلى قلعتهم، فيمتنعون منك، فإن قطعت مشربهم عليهم خرجوا لك، فسار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى مائهم، فلما قطع عليهم خرجوا فقاتلوا أشد القتال وقتل من المسلمين يومئذ نفر وأصيب من اليهود عشرة، وافتتحه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكان آخر حصون النطاة.
(3/778)
وقد أحس المسلمون بقلة الزاد، وقالوا: والله يا رسول الله قد جهدنا وما بأيدينا شيء، فلم يجدوا عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شيئا يعطيهم إياه، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم ضارعا إلى ربه: «اللهم إنك عرفت حالهم، وأن ليست بهم قوة، وأن ليس بيدى شيء ما أعطيهم إياه فافتح عليهم أعظم حصونها غناء، وأكثرها طعاما وودكا» فغدا الناس، ففتح الله عز وجل حصن الصعب بن معاذ، وما بخيبر حصن كان أكثر طعاما وودكا منه.
وإنه بعد أن فتحت حصون النطاة قبل حصن الصعب بن معاذ تحول إلى الشق، وكانت به حصون ذوات عدد، فكان أول حصن بدأ به حصن أبى الحقيق، فقام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على قلعة يقال لها سموان، فقاتل عليها أشد القتال، فخرج منهم رجل يقال له عزول، فدعا إلى البراز، فبرز له الحباب بن المنذر، فقطع الحباب يده اليمنى، فأتبعه الحباب فقطع عرقوبه وبرز رجل آخر فقام إليه رجل من المسلمين، فقتله اليهودى، فنهض إليه أبو دجانة فقتله وأخذ سلبه، وأحجموا عن البراز.
بعد أن أحجم اليهود عن البراز كبر المسلمون وتحاملوا على الحصن فدخلوه، وأمامهم أبو دجانة فوجدوا فيه أثاثا ومتاعا وغنما وطعاما، وهرب من كان فيه من المقاتلة وتقحموا الحصن كأنهم الضباب، ثم تحولوا إلى حصن آخر من حصون الشق، وهو حصن البزاة وامتنعوا به أشد الامتناع، فزحف إليهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه، وتراموا بالنبل، ورمى معهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بيده الكريمة، حتى أصاب نبلهم بنانه عليه الصلاة والسلام، فأخذ عليه الصلاة والسلام من الحصى، فرمى حصنهم بها، فرجف بهم حتى ساخ فى الأرض، وأخذهم المسلمون أخذا باليد. هذا ما ذكره الواقدى فى تاريخه.
ويقول الواقدى مسترسلا فى بيان فتح الحصون:
ثم تحول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى أهل الأظبية والوطيح والسلام حصنى أبى الحقيق، وتحصنوا أشد التحصين، وجاء إليهم كل من انهزم من النطاة إلى الشق، فتحصنوا معهم فى حصن وكان حصنا منيعا وفى الوطيح والسلام، وجعلوا لا يطلعون من حصونهم، حتى هم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن ينصب المنجنيق عليهم، فلما أيقنوا بالهلكة، وقد حصرهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أربعة عشر يوما (أى فى هذه الحصون الأخيرة) نزل إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حصون بن أبى الحقيق وطلب الصلح بعد أن تأكد أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم نصب المنجنيق ليقضى على البنيان إذ تحصنوا بها ولا سبيل إلى الوصول إليهم إلا بهدمها لأنها حصون لا مساكن.
(3/779)
ويتبين من هذا البيان أمران:
أحدهما: أن الحصون التى أحصيناها كان كل واحد منها عنوانا لمجموعة حصون، وقد توالى سقوطها مجموعة مجموعة، بلا تخريب، ولكن يقاتل من فيها حتى يفروا إلى حصن آخر وراءها، ولذلك يقول ابن إسحاق: كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يتدنى، أى يحارب الأدنى، فالذى يليه، حتى إذا تجمعوا فى الحصون الأخيرة، التقت فيها جموعهم الفارة، وتقاتلوا مستميتين، وبذلك طال الحصار، واشتد من خارجها. كما اشتدوا هم فى الدفاع من داخلها. فهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعمل المنجنيق، إذ لا يمكن الوصول إلى المقاتلين إلا بالهدم، ولا يلجأ إليه بمقتضى قانون الإسلام فى الحرب إلا عند الضرورة، إذا تترس به العدو ولا سبيل للوصول إليه، إلا بهدمه.
فلما رأوا أنهم مقتولون لا محالة سلموا.
الأمر الثانى: أن أشد قتال لقيه المسلمون كان فى خيبر، لأنهم قاتلوا قوما فى حصون، ولم يكن القتال فى العراء، والأعداء لا يواجهون المؤمنين، بل يقاتلون من وراء حصونهم: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ (الحشر: 2) .
وقد انتصر المسلمون فى هذه الموقعة، فكان آخر انتصار على معقل اليهود فى البلاد العربية، ولم يستطيعوا فيها تدميرا من بعد، ولكن كان خبثهم فيما وراءها وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (آل عمران: 54) وكان قتلى المسلمين: 21 شهيدا وسبى وقتل كثيرون من اليهود.
الصلح والغنائم
525- لما هم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بنصب المنجنيق، وأيقنوا بالهلكة نزل إليه ابن الحصين مستسلما طالبا الصلح على النجاة بأنفسهم وتسليم ما بأيديهم، فصالحه بالإجمال على حقن دمائهم، وسيرهم، ويخلون بين رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وبين ما كان لهم من الأرض والأموال، الصفراء والبيضاء والكراع والحلقة، وعلى أنه ليس لهم إلا ما كان على ظهر الناس يعنى لباسهم، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قابلا عرضهم: «وبرئت منكم ذمة الله، وذمة رسوله، إن كتمتم شيئا» ، فصالحوه على ذلك.
قال ابن كثير: ولما كذبوا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأخفوا المسك (الجلد) الذى كان فيه أموال كثيرة لحيى بن أخطب، فتبين أنه لا عهد لهم فقتل ابن أبى الحقيق وطائفة من أهله بسبب نقض العهود والمواثيق.
(3/780)
هذا إجمال يجب أن نذكره بشيء من التفصيل معتمدين على السنة الصحيحة خصوصا فى التفرقة بين الأرض والنخيل والأموال المنقولة من صفراء وبيضاء وسبايا فإن لذلك موضعا فى الأحكام الشرعية.
إنه كان الاتفاق على أن يجلوا على أن يحملوا معهم ما تحمله الركائب ويتركوا الأموال المنقولة والنخيل وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أحصى أموالهم المنقولة من النقود والمتاع والجواهر، وقسمها بين القائمين على أساس أن الفارس له سهم ولفرسه سهمان، ومن لا فرس له وهو راجل فى الحرب سهم واحد، ولم يسهم للنساء بل رضخ لهن، والعبيد، فقد رضخ لهم بأن أعطاهم قدرا من الغنائم غير معين بتعيين ولا سهم.
روى أبو داود والإمام أحمد عن عمير مولى أبى اللحم قال: شهدت مع سادتى، فكلموا فىّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقلدنى سيفا، فإذا أنا أجره، فأخبر أنى أنا مملوك لى شىء من المتاع، وهذا الخبر يدل بظاهره على أن العبد يجوز له أن يملك، ولا يقال العبد وما ملكت يداه لسيده، وهذا رأى الظاهرية.
وذكر محمد بن إسحق أنه حضر فى غزوة خيبر بعض النساء يحملن الماء، ويداوين الجراح فرضخ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لهن، وقد روى عن امرأة من غفار، قالت: أتيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى نسوة من بنى غفار، فقلنا: يا رسول الله قد أردنا أن نخرج معك إلى وجهك فنداوى الجرحى، ونعين المسلمين بما استطعنا، قال: على بركة الله تعالى، فخرجنا معه.
فلما فتح الله تعالى خيبر رضخ لنا من الفيء ...
وروى الامام أحمد عن بعض النساء أنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى غزوة خيبر وأنا سادسة ست نسوة، فبلغ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فأرسل إلينا فدعانا، فقال ورأينا فى وجهه الغضب، فقال: «ما أخرجكن؟ وبأمر من خرجتن؟ قلنا: خرجنا، نناول السهام، ونسقى السويق ومعنا دواء للجرحى، ونغزل الشعر، فنعين به فى سبيل الله، فأمرنا فانصرفنا، فلما فتح الله خيبر أخرج لنا سهاما كسهام الرجال، ولعل المراد أنه أعطاهن، كما أسهم للرجال، لا أن سهامهن مساوية لسهام الرجال.
هذا التقسيم كان فى الأموال المنقولة، من صفراء وبيضاء وتمر ومتاع وغير ذلك من الأموال التى تنقل، أو الأموال السائلة، كما يعبر علماء المال فى عصرنا هذا.
(3/781)
خيانة وجزاؤها:
526- وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد عاهدهم على أن يقدموا كل صفراء وبيضاء، وكل طعام ومتاع على ألا يكثر منه، وأن العهد كان على ذلك، فإذا كشف شيء كان مكتوما، فإن العهد ينقض، فلما تبين أنهم كتموا مالا نقض العهد، وقتل ابنى أبى الحقيق بسبب هذا النقض، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل، والآن نفصل كيف كان اكتشاف الإخفاء وكيف أظهر.
حدث البيهقى عن عبد الله بن عمر ... أنهم غيبوا مسكا فيه مال وحلى لحيى بن أخطب، وكان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما فعل مسك حيى بن أخطب الذى جاء به من النضير؟ فقالوا: أذهبته النفقات والحروب، فقال عليه الصلاة والسلام: العهد قريب، والمال أكثر من ذلك ... وكان حيى قبل ذلك دخل خربة يطوف بها، فذهبوا فطافوا فى هذه الخربة فوجدوا المسك فى الخربة وبذلك كان نقض العهد، ويظهر أن الذين كانوا يسترون على هذا المسك هما ابنا أبى الحقيق فقتلهما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم ينقض العهد برمته، بل نقضه بالنسبة للذين كتموه، وكانوا يعلمون بموضعه وأن الله تعالى قسم الأموال المنقولة بالأسهم، وكان سهم لله ولرسوله ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.
ووزع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سهم ذى القربى على بنى هاشم، وبنى المطلب ولم يوزع على بنى عبد شمس ولا بنى نوفل، فمشى عثمان بن عفان من بنى عبد شمس، وهم الأمويون، وجبير بن مطعم من بنى نوفل، وقالا للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: أعطيت بنى عبد المطلب من خمس خيبر وتركتنا ونحن وهم بمنزلة واحدة منك، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن بنى هاشم وبنى عبد المطلب شيء واحد، لم يفارقونا فى جاهلية ولا إسلام.
وإنه لم يناصب أحد من بنى المطلب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عداوة، والمطلب هو الذى ربى عبد المطلب، وعندما ضربت قريش حصارا على بنى هاشم فى شعب أبى طالب انضم إليهم فى الحصار بنو المطلب، ورضوا أن يكون ما ينزل بالهاشميين ينزل بهم، فكانوا قائمين بحق القربى، بينما أبو لهب الهاشمى أخو أبى طالب لم يرض الدخول مع إخوته.
الأرض والنخيل:
527- هذا هو الأمر فى تقسيم البيضاء والصفراء والمتاع وسائر المنقولات، أما الأرض، فإنها لم تقسم كما قسمت الأموال، بل الأمر فيها كان على غير ذلك.
(3/782)
ذلك أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عندما أراد إجلاءهم بمقتضى الشرط الذى أخذه عليهم، قالوا يا محمد، دعنا نكون فى هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها، ولم يكن لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا لأصحابه عمال يقومون عليها، وكانوا لا يفرغون أن يقوموا عليها، فأعطاهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خيبر، على أن لهم الشطر من كل زرع ونخيل وشئ ما بدا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
ويستفاد من هذا أمران (أحدهما) أن الأرض تبقى فى أيدى المغلوبين، على أنهم غير مالكين لرقبتها، بل يعملون فى زراعتها ومراعاة أشجارها، ومساقاتها، ولهم شطر ما يخرج من زرع وثمر، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يأخذ الشطر، وكان يوزعه فى مصارف الغنائم.
الأمر الثانى أن ذلك غير ملزم للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، بل له أن ينزع الأرض من أيديهم إذا أراد، ولا يريد إلا ما يكون فيه مصلحة للمسلمين.
وقال فى ذلك الامام مالك رضى الله عنه: إن الإمام مخير فى الأراضى المفتوحة إن شاء قسمها، وإن شاء أرصدها لمصالح المسلمين وإن شاء قسم بعضها، وإن شاء أرصد بعضها لما ينوبه فى الحاجات والمصالح.
وشطر الغلات الذى يئول للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم روى أنه كان يوزعه توزيع الغنائم، فيكون خمسه لله، وللرسول عليه الصلاة والسلام، ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وأربعة الأخماس للغانمين، وكانوا أهل بيعة الرضوان، وغيرهم نحو أربعمائة وألف، ومن انضم إليهم من مجاهدى خيبر، فبلغ الجميع خمسمائة وألفا فكان يقسم الريع مقسم الغنيمة بينهم.
وروى أبو داود أن النصف الذى كان يخص المسلمين ما كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يقسمه قسمة الغنائم، بل كان يبقيه لمن نزل به من الوفود، والأمور ونوائب الناس، أى يجعله لمصالح المؤمنين من غير تخصيص، ويقول الحافظ ابن كثير: قد تفرد بهذه الرواية أبو داود.
ومهما يكن من الأمر بالنسبة لغلة النصف فإنه يتبين من هذا أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم جعل الأرض فى أيدى أهلها على أن يكونوا زارعين حارثين مصلحين فى الأرض غير مالكين لرقبتها، بل رقبتها لجماعة المسلمين، ولذلك كان للإمام أن يخرجهم منها حيثما كان فى ذلك مصلحة المسلمين.
وأن ما فعله عمر رضى الله تبارك وتعالى عنه فى أرض سواد العراق الذى أشرنا إليه عند الكلام فى أموال بنى النضير، يشبه هذا، وكان للإمام عمر رضى الله تعالى عنه أن يحتج به عندما خالفه جمع من الصحابة كان على رأسهم بلال رضى الله عنه.
(3/783)
وأن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أقام عبد الله بن رواحة على المقاسمة بينهم وبين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فكان يأتيهم كل عام، فيخرجها عليهم، ويضمنهم الشطر، وكان عادلا لا يظلمهم، ولا يطفف شيئا من نصيب المسلمين، فشكوا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شدة حرصه.
ولقد أرادوا أن يرشوه فقال: يا أعداء الله تطعموننى السحت، والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إلى، ولأنتم أبغض إلى من عدتكم من القردة والخنازير، ولا يحملنى بغضى إياكم، وحبى إياه على ألا أعدل إياكم.
فهو لا يظلم لعداوة، ولا لمحبة، ولذلك قالوا: بهذا قامت السموات والأرض. ولما قتل عبد الله بن رواحة، فى مؤتة، ولى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعده جبار بن صخر رضى الله تعالى عنه وكان من أهل الخبرة، فى خرص الزروع والثمار.
528- وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوزع الزرع والثمار فى النصف الذى يخص المسلمين على تقسيم الغنائم وخصص أراضى لإخراج سهم من الأسهم، فجعل ما ينتجه حصن الشق ونطاة فى أسهم المسلمين ما ينتج منهما يكون نصفه قسمة على حسب سهام الفاتحين.
وكان ما ينتجه حصن الكتيبة مخصصا لخمس الله ورسوله عليه الصلاة والسلام وذى القربى.
واليتامى والمساكين وابن السبيل وطعم رجال سواء بالصلح بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى أهل فدك.
وكان لنطاة والشق ثمانية عشر سهما، لنطاة خمسة والباقى للشق يأخذ الفاتحون هذه الأسهم الثمانية عشر.
وقسمت الثمانية عشر على 1800 سهم، أى أن كل سهم فى النطاة والشق كان مقسما على مائة.
ويقول ابن اسحاق «قسم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الكتيبة وهى واد خاص بين قرابته وبين نسائه، وبين رجال مسلمين، ونساء أعطاهم» وقد ذكر المقادير التى كان يعطيها لذوى قرابته ونسائه، ولبعض رجال المسلمين، فكان يقسم على الضعفاء وذوى الصلة كل على مقدار حاجته.
وهكذا كان التقسيم للغلات، ولم يقسم الأرضين، ولكن كان لكل طائفة سهام فى حصن معين من حصون خيبر، ولقد كان بعض المؤمنين يشرفون على الأرض من حيث إنتاجها وصلاحها،
(3/784)
وكان يتولى مقاسمة اليهود عبد الله بن رواحة أولا، فلما استشهد رضى الله تعالى عنه، تولاها جبار بن صخر، واستمر طول حياة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
فلما انتقل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى نفذ أبو بكر ما كان يفعله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم لما توفى الصديق نفذ عمر شطرا من إمارته ما كان يفعله النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ثم بدا له أن يخرج الأرض من أيدى اليهود، ويعطيها ذوى السهام فيها. وذلك لأمرين: أولهما أنهم قتلوا فى عهد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم رجلا أنصاريا، وهو عبد الله بن سهل وكان قد خرج فى أصحاب له يمتارون تمرا فانفرد عنهم، ووجد فى عين قد دقت ثم طرح فيها فأخذوه وأخفوه، ثم قدموا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأقام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم القسامة، واتهمهم من بعد ذلك عمر فى عهده بأنهم قتلوه.
واعتدوا ثانية فى عهد عمر على عبد الله بن عمر فقد خرج هو والزبير بن العوام والمقداد بن الأسود إلى أموال المسلمين بخيبر يتعهدونها، وتفرقوا فى الأموال فقدعوا يديه (أى خلعوا أى أزيلت عن مفاصلها، وأصلح زملاؤه يده) .
فلما حضر إلى أمير المؤمنين فقال هذا عمل يهود، ثم قام فى الناس خطيبا، فقال:
«أيها الناس، إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، كان قد عامل يهود خيبر على أنا نخرجهم إذا شئنا، وقد عدوا على عبد الله بن عمر فقدعوا يديه، كما بلغكم مع عدوكم على الأنصارى قبله، لا شك أنهم أصحابه ليس هناك عدو غيرهم. فمن كان له مال بخيبر فليلحق به، فإنى مخرج يهود» .
وهذا مؤداه أنهم أصبحوا غير أمناء على المؤمنين، وقد ارتبطوا معهم بعلاقة المزارعة فكانوا يعاملونهم معاملة عدو، لا معاملة معاون.
الأمر الثانى الذى أوجب على عمر أن يخرجهم وخصوصا بعد ما أظهروا عداوتهم وحقدهم، أنه علم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال «لا يصبحن بجزيرة العرب دينان» ، فكان لا بد من إجلائهم، فدعاهم إلى الجلاء، وقال: من كان عنده عهد من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فليتجهز للجلاء. وإذا كان بقاؤهم فى الأرض فقد كان بالمشيئة وليس عودا دائما. وقد خصص النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لكل ذى سهم دائم جزآ من الأرض يجمع شطر ثماره، فلما أجلى سيدنا عمر رضى الله عنه اليهود، قال لأصحاب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «أيها الناس إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عامل يهود خيبر على أن يخرجهم إذا شاء، فمن كان له مال فليلحق به.
فإنى مخرج يهود» .
(3/785)
وجعل لكل مستحق من أسهم ثمراتها، على ما يخرجه سهمه يديره حيثما يريد.
وبالنسبة لأزواج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فخيرهن رضى الله عنهن وعنه فقال لهن:
من أحب منكن أن أقسم فإنى أقسم مائة وسق على أن يكون لها أصلها وأرضها وماؤها ومن الزرع عشرين وسقا من شعير فعلنا، ومن أحب أن يعزل الذى لها فى الخمس كما هو فعلنا.
ويستفاد من هذا أن سيدنا عمر ما أخذ من نصيب فى سهم ذوى القربى على أنه لهن ليس بالوراثة، بل أخذه لهن من الخمس الذى لله وللرسول عليه الصلاة والسلام، ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، فقد جعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لكل واحد مائة وسق أو مائتى وسق على اختلاف الرواية فى ذلك. وعشرين وسقا من شعير من غير اختلاف فى ذلك، فكان هذا استحقاقا ابتداء لا وراثة عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فخيرهن عمر رضى الله تعالى عنه بين أن يجرى عليهن ما كان يجريه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من أوساق، وبين أن يعزل لهن ما ينتج ذلك، كما فعل مع كل المستحقين فى خيبر.
فدك
529- لما رأى يهود فدك ما نزل بيهود خيبر، وهم أهل الحصون الممنوعة أصابهم الرعب، ورأوا أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد أبقى الأرض فى أهل خيبر يرعونها ويغرسونها، ويصلحون شجرها على أن يكون لهم نصف ما ينتج، أى يعاملون كما عامل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أهل خيبر، وفدك أرض من أرض خيبر يسكنها يهود، لم يكن لهم حصون، ولم يقاتلهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكن ألقى الرعب فى قلوبهم، فاستسلموا.
وقال رواة سيرة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم: إنها كانت كلها خالصة للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم كالشأن فى أموال بنى النضير، فلم تقسم سهاما كما قسم إنتاج خيبر، بل كانت كلها للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
ويقول ابن كثير: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يعزل منها نفقة أهله لسنة، ثم يجعل ما بقى كمال الله تعالى يصرف فى الكراع والسلاح ومصالح المسلمين.
ويجب علينا فى هذا المقام أن نعيد تلاوة ما نزل فى أموال بنى النضير التى عدها العلماء بأنها كفدك فقد قال تعالى فى أموال بنى النضير وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ، فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ، وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ عَلى كُلِ
(3/786)
شَيْءٍ قَدِيرٌ. ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى، وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ، وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً، وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا، وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ، وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ، فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ، وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا، رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (الحشر: 6: 10)
وإنه إذا كانت المقايسة ثابتة بين أموال بنى النضير، وفدك، فإن التعبير بأنها خالصة للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم مؤداه أنها لا تقسم مقسم الغنائم فلا يكون للفاتحين المجاهدين أربعة الأخماس كما هو الشأن فى الغنائم، وإنما يكون مصرفها مصرف خمس الغنائم لله ولرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ولذى القربى واليتامى والمساكين، لذلك يصرفه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى مصالح المسلمين، ويبقى له ما يكفيه وأهله منه بالمعروف.
وعلى ذلك نقرر أنه لم يكن مملوك الرقبة للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم حتى يورث، ويجرى فيه النزاع على الملكية كما توهم كتب السيرة وكتب التاريخ.
والذى أحسبه أن الاختلاف فى إدارتها، وتولى صرفها فى مصارفها باعتبار أنها ليست فى ظل الولاية العامة، بل لها ولاية خاصة، هى ولاية النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ومن يخلفه من أهله، وبذلك انتهى أمرها فى عهد عمر رضى الله تبارك وتعالى عنه، ولنترك الكلمة بعد ذلك للحافظ ابن كثير فى تاريخه:
كانت هذه الأموال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة، وكان يعزل منها نفقة أهله لسنة، ثم يجعل ما بقى مجعل مال الله تعالى يصرفه فى الكراع والسلاح ومصالح المسلمين، فلما مات رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، اعتقدت فاطمة وأزواج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، أو أكثرهن أن هذه الأراضى تكون موروثة عنه ولم يبلغهن ما ثبت عنه من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم نحن معشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه يكون صدقة.
ولما طلبت فاطمة وأزواج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم نصيبهن من ذلك، وسألوا الصديق أن يسلمه إليهن وذكر لهم قول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم «لا نورث ما تركناه صدقة» وقال: أنا
(3/787)
أعول من كان يعول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، والله لقرابة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أحب إلى أن أصل من قرابتي، وصدق رضى الله عنه وأرضاه، فإنه البار الراشد، فى ذلك التابع للحق.
نحن لا نظن أن السيدة الزهراء التى هى قطعة من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يكون طلبها للميراث، وإنما طلبها أن تتولى هى الصدقة.
وقد صرح ابن كثير أن فاطمة طلبت بلسان العباس وعلى أن ينظرا فى هذه الصدقة وأن يصرفا ذلك فى المصارف التى كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يصرفها فيها، فأبى عليهم الصديق ذلك، ونحن لا نفرض أنهم طلبوا ميراثا، فعلى كرم الله وجهه ما كان يجهل أن الأنبياء لا يورثون، وهو فقيه الصحابة، وكما قال صلى الله تعالى عليه وسلم أقضى الصحابة.
ويقول الحافظ ابن كثير أن فاطمة رضى الله تبارك وتعالى عنها، والصلاة والسلام على أبيها غضبت عليه فى ذلك ووجدت فى نفسها بعض الموجدة، ولم يكن لها ذلك، والصديق من قد عرفت هى والمسلمون محله من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقيامه فى نصرة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وتوفيت فاطمة بعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ... «فلما كانت أيام عمر بن الخطاب سألوه أن يفوض أمر هذه الصدقة إلى على والعباس، وثقلوا عليه بجماعات من سادات الصحابة ففعل عمر ذلك لكثرة أشغاله، واتساع مملكته، وامتداد رعيته» .
هذه عبارات الحافظ ابن كثير، وله مقامه فى علم السنة، والأخذ بمنهاج السلف، ولكن نلاحظ أن عباراته فى حق فاطمة التى تنتهى عترة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إليها لم تكن لائقة بمقامها من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فإذا كان للصديق مكانته، فلفاطمة مكانتها من المحبة لأنها قطعة منه صلى الله تعالى عليه وسلم، فقوله عنها ما كان لها ذلك فيه تعد للحدود، بدليل أن عمر بن الخطاب من بعده نفذ ما طلبت، فلم تكن متجنية عندما وجدت موجدة على الصديق صديق أبيها.
وهناك عبارة لا نوافقه عليها، لأنه يقول أنهم ثقلوا على عمر رضى الله عنه بجماعة من سادات الصحابة، فإن هذه العبارة لا يصح أن تقال فى على ولا فى عمر، فمقام على أجل من أن يعبر عنه فى طلبه واحتكامه إلى الصحابة بكلمة ثقلوا، وما كان عمر بن الخطاب فاروق الإسلام من صفاته أن يخضع لإثقال أحد من الصحابة، فهو القوى فى الحق الذى لا يخشى فيه لومة لائم، وما كنا نود أن يقع هذا من الحافظ ابن كثير العالم السلفى الإمام، إنما الأمر الذى يتصور أن يكون من العباس وعلى أنهما احتكما إلى جمع من الصحابة فنزل عمر عند رأيهم، لأنه رآه أنه الحق، ولنذكر بقية ما قصه الحافظ ابن كثير.
(3/788)
فهو يقول أن الصدقة أعطيت لعلى والعباس رضى الله عنهما، فتغلب على على عمه العباس فيها، ثم تساوقا يختصمان إلى عمر، وقدما بين أيديهما جماعة من الصحابة، وسألا عمر أن يقسمها بينهما، فينظر كل واحد فيما لا ينظر فيه الآخر، فامتنع عمر عن ذلك أشد الامتناع، وخشى أن تكون هذه القسمة تشبه قسمة المواريث وقال: انظرا فيها، وأنتما جميع، فإن عجزتما عنها، فادفعاها إلى، والذى تقوم السماء والأرض بأمره، لا أقضى فيها قضاء إلا هذا، فاستمرا فيه، ومن بعد إلى ولدهما إلى أيام بنى العباس تصرف فى المصارف التى كان يصرف فيها أموال بنى النضير وفدك، وسهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من خيبر.
حوادث ذات مغزى في خيبر
530- فى أثناء خيبر، وفى أعقابها وجدت حوادث تدل على قوة إيمان بعض المؤمنين، وصدق ما وعدوا الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، وحوادث فيها غدر من اليهود، وسماحة من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وهو الغالب.
منها أمر الأسود الراعى:
قصته تدل كيف يدخل الإسلام إلى القلوب المخلصة التى لم يرنقها هوى وما غلبت عليها شهوات، كان مع اليهود عبد أسود أجير عندهم يرعى غنما لهم وقد سمع اليهود يقولون أنه يدعى أنه نبى مرسل، فساقه هذا لأن يذهب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يسأله عما يدعو إليه، وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذى نصر بالضعفاء والمساكين لا يحقر أحدا أن يدعوه إلى الإسلام، ولذا عرضه عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فأسلم، وجمع قلبه الطيب بين الإيمان والأمانة.
فدعته الأمانة بعد الإيمان أن يقول لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إنى كنت أجيرا لصاحب هذه الغنم، وهى أمانة عندى، فكيف أصنع بها، لم يقل له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنها للمؤمنين بحكم أنها غنيمة للغالب، ولكنه أجرى أمانة الرجل على رسلها، بل قال له اضرب فى وجوهها، فإنها سترجع إلى ربها، فأخذ حفنة من الحصا، فرمى بها فى وجوهها، وقال: ارجعى إلى صاحبك فوالله لا أصحبك أبدا، فخرجت مجتمعة كأن سائقا يسوقها، حتى دخلت الحصن، ثم تقدم إلى ذلك الحصن ليقاتل مع المسلمين، فأصابه حجر قتله.
قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إنه شهيد وأنه دخل الجنة.
(3/789)
ومنها قصة أعرابى يجاهد ويرد المغنم:
531- روى البيهقى بسنده، أن رجلا من الأعراب جاء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فامن به واتبعه فقال: أهاجر معك، فأوصى به بعض أصحابه، وغزا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وغنم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقسم المغنم، وقسم لهذا الأعرابى المؤمن، فأعطى ما قسم له، فقال: ما هذا؟ قالوا: قسم قسمه لك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما على هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك على أن أرمى هاهنا- وأشار إلى حلقه بسهم- فأموت فأدخل الجنة، فقال الرسول الأمين صلى الله تعالى عليه وسلم: إن تصدق الله يصدقك. رفض المال ولو أنه حق وحلال، ومنحة الغنيمة أخذها بحقها، وذلك فى سبيل أن يكون عمله خالصا لوجه الله تعالى، فهو لا يرد الحلال، ولكن لا يريد عوضا للجهاد.
ولما نهضوا للقتال كان معهم، فقتل بسهم أصابه حيث أشار إلى حلقه، فحمل إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فقدمه لله شهيدا، وقال: «اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا فى سبيلك، قتل شهيدا، وأنا عليه شهيد» .
وقد ضرب هذا الأعرابى المؤمن أعلى مثل للإيمان، وطلب ما عند الله وحده لا شيء سواه، فطلب رضوانه ولا يريد مغنما، فرضى الله تبارك وتعالى عنه.
مؤمن يتحايل لماله بمكة المكرمة:
532- وإن الإسلام فتح الطريق أمامه، لا تحول بينه وبين انتشاره قوة الطغاة، ولا صد عن سبيل الله، أخذ يطوف فى البلاد العربية فيعشو إليه من يريد الهداية، ومن يصغى قلبه للحق والنور والهداية.
وكان من ذلك إسلام الحجاج بن علاط السلمى، فإنه لما فتحت خيبر وزال كل ما كان يصد عن الإسلام جاء الحجاج هذا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إن لى مالا عند صاحبتى أم شيبة بنت أبى طلحة وكانت زوجه، وله منها ولد وأموال متفرقة فى تجارة مكة المكرمة والمؤمن يكون حريصا غير مستهين ولا يكون بخيلا، وفرق بين البخل والحرص، لأن الحرص معناه ألا يفرط فى حق اكتسبه بحله، ولا يكون هملا فرطا لا يعطى كل ذى حق حقه، ولا يفرط فى حقه مع التسامح فى موضعه أما البخل فإنه يشح بالمال ولا يضعه فى مواضعه.
فالمؤمن حريص غير مفرط، ولا بخيل، أراد الحجاج أن يصل إلى ماله وهو بمكة المكرمة، ولو أعلن إسلامه منع ماله، فاستأذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يخفى أمره، ويقول ما يسهل
(3/790)
الوصول إلى ماله من غير تعمد للكذب، ولا خدع لمؤمن، فأذن له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
خرج الحجاج إلى مكة المكرمة، حتى إذا التقى برجال من قريش يستمعون الأخبار، ويسألون عن أمر الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد بلغهم أنه سار إلى خيبر، وهم يعلمون أنها قرية الحجاز، ريفا ومنعة ورجالا، فهم يتحسسون الأخبار، ويسألون الركبان.
فلما قابلوا الحجاج، ولم يكونوا علموا بإسلامه، ولم يظهره لهم، فسألوه عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وعن أمر خيبر، وقالوا له قد بلغنا أن القاطع (أى محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم) قد سار إلى خيبر، (وهى بلد يهود وريف الحجاز) .
قال: قد بلغنى ذلك، وعندى من الخبر ما يسركم، هزم هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط، وقتل أصحابه قتلا لم نسمع أبدا بمثله قط، وأسر محمد أسرا، وقالوا: لا نقتله، حتى نبعث به إلى أهل مكة، فيقتلوه بين أظهرهم.
أعينونى على جمع مالى بمكة المكرمة، وعلى غرمائى، فإنى أريد أن أقدم خيبر، فأصيب من فل محمد وأصحابه قبل أن يسبقنى التجار إلى هنالك.
فقاموا فجمعوا له ماله يحثون الغرماء على ذلك.
وكان له عند امرأته مال موضوع، وأراد أن يأخذه، فطلب منها لعله يصيب من فرص البيع قبل أن يسبقه التجار.
تسامع الناس بخبر هزيمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، والناس يصغون دائما إلى ما يحبون، ويذيعونه وينشرونه فرحين مستبشرين، ويعميهم حبهم عن فحص الخبر ووزنه أو الشك فيه، بل يطمئنون إلى ما يحبون من غير تمحيص.
وفى مكة المكرمة محبون للنبى من ذوى قرباه، وعلى رأسهم العباس عم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فهاله الخبر، فذهب إلى الحجاج فسأله: ما الخبر الذى جئت به، فأشار إلى العباس أن عنده أخبارا وطلب إليه أن يسايره حتى يفرغ من جمع ماله، ويلقاه فى خلاء.
حتى إذا فرغ من جمع كل شيء كان له بمكة المكرمة، وأجمع الخروج لقى العباس رضى الله عنه، وقال: احفظ عنى حديثى يا أبا الفضل ثلاثا، فإنى أخشى الطلب، ثم قل ما شئت، قال:
أفعل، قال: فإنى والله لقد تركت ابن أخيك عروسا على بنت ملكهم صفية بنت حيى، ولقد افتتح
(3/791)
خيبر، وصارت له ولأصحابه ولقد أسلمت. وما جئت إلا لأخذ مالى فرقا من أن أغلب عليه، فإذا مضت ثلاث ليال، فأظهر أمرك فهو والله على ما نحب.
مكث العباس ثلاث ليال لا يلتقى بالناس، حتى إذا خرج لبس حلة، وتطيب، وأخذ عصاه، وخرج حتى أتى الكعبة المشرفة، فلما رأوه قالوا والله هذا التجلد لحر المصيبة.
قال: كلا والله الذى حلفتم به، لقد افتتح محمد صلى الله تعالى عليه وسلم خيبر، ونزل عروسا على بنت ملكهم، وأحرز أموالهم وما فيها، فأصبحت له، ولأصحابه. قالوا: من جاءك بهذا الخبر؟ قال: الذى جاءكم بما جاءكم به، ولقد دخل عليكم مسلما، فأخذ ماله، وانطلق ليلحق بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه، فيكون معه، قالوا: يالعباد الله أفلت عدو الله، أما والله لو علمنا لكان لنا وله شأن، ولم ينشبوا أن جاءهم الخبر.
ونقف وقفة قصيرة فى هذا، أيعد الرجل قد كذب، وهل يعد هذا الكذب إثما، ونقول قبل الإجابة أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يأذن له بالكذب، بل أذن بالقول، بأن يورى ولا يكذب، وأن يحاول من غير أن يتورط فى قول غير صحيح فى ذاته ولا فى موضعه.
ولكن هل يعتبر كذبا أن يوهم بالقول، ثم يوضح هو الحقيقة، وهو بين قوم ظالمين، ولا يمكن أن يصل إلى حقه المشروع إلا إذا أوهمهم، ثم أزال وهمهم بقول الحق الصريح، وهو قد ترك للعباس أن يصحح القول، ويبين مقصده من إيهامهم.
وإنى أحسب أنه لم يكذب ويصر على ما أدخله فى نفوسهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(3/792)
زواج النبي صلي الله تعالي عليه وسلم بأم المؤمنين صفية
533- كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم شفيقا رفيقا رؤفا فى ذات نفسه وبالناس. وقد رأى صفية وأختها. يمر بهما بلال رضى الله عنه فى وسط قتلى اليهود، فنادى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بلالا لائما له قائلا: «أليس فى قلبك رحمة تمر بالفتاتين فى وسط القتلى من أهلهما» وكانت إحداهما مذعورة نافرة وكانت صفية ساكنة مستسلمة تاركة نفسها للمقادير.
والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقرب القلوب، ولا ينفرها، وييسر ولا يعسر، وكما كان عليه الصلاة والسلام يقول «يسروا ولا تعسروا، واكفوا ولا تنفلوا» .
وقد كانت صفية فى قسمه، فلم يرد أن يبقيها على الرق أو أن يفرض عليها رقا تأليفا ورفقا، وكان يمكن أن ينال ما ينال بملك اليمين، ولم يكن حراما، ولكنه يبغض الرق ولا يريد أن ينشيء رقا على أحد قط، وخصوصا إذا كانت ابنة رئيس القوم، فهو لا يحب الذلة ينزلها بإنسان بعد عزة. ولذلك أعتقها وتزوجها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وجعل صداقها عتقها، وكان زوجها ابن عمها فى جملة القتلى.
ولقد دخل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعد استبراء رحمها بحيضة تحيضها، ولم يكن لها عدة، لأنه لا عدة من كافر، وخصوصا أن عدتها تكون عدة وفاة، وهى تكون للإحداد على الزوج السابق، ولا حداد على كافر، ولكن لا يصح أن يدخل بحامل، فتركها صلى الله تعالى عليه وسلم، حتى تستبرىء.
ولقد نظر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى وجهها، فوجد أثر كدمة فى وجهها فسألها عنها فقصت خبر رؤيا لها رأتها، بعد بضع ليال من زواجها بابن عمها، وتلك أنها رأت فى منامها كأن قمر السماء وقع فى حجرها، فقصت رؤياها على ابن عمها، فلطم وجهها، وقال: أتتمنين ملك يثرب أن يصير بعلك. وقد تحققت رؤياها وكانت صادقة، فجاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وفتح حصونها وكانت فى السبايا. فكرمها بأن أعتقها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وتزوجها.
ولقد أقام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وليمة لزواجها، وقال أنس: أقام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وليمة بين خيبر والمدينة المنورة ثلاث ليال فدعوت المسلمين إلى وليمته، وما كان فيها من خبز ولحم، وما كان فيها إلا أن أمر بلال بالأنطاع فبسطت فألقى فيها التمر والسمن، فقال المسلمون: أجدى أمهات المسلمين.
(3/793)
ولقد كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم رفيقا فى معاملته لها، وقد اعتذر لها من قتل أبيها وزوجها، إذ كان أبوها يحرض عليه القبائل، ويؤلب عليه الناس وما كان يستطيع أن يتركه يؤلب العرب عليه، وقتل زوجها، لأنه خان العهد وأخفى مال أبيه، ونقض الذمة، وكان يتألف قلبها بسماحته ورفقه؛ حتى صار أحب الناس إلى قلبها.
وإن زواج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من السيدة صفية فيه فوائد اجتماعية، فهو أولا يطفيء ما فى قلوب المؤمنين بالنسبة لليهود، وضرب المثل السامى فى معاملة السبايا، فهى كانت منهن، فاختارها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم زوجا بدل أن يتخذ منها أمة يدخل عليها بملك اليمين، وهو يضرب الأمثال فى حسن العشرة الزوجية، فيكون خير الناس لأهله، كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم:
«خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلى» . وإن هذا الزواج فيه مداواة للجروح المكلومة، لقد أمرها بلال على القتلى من قومها، فأكرمها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ورفعها إلى أعلى درجات النساء وهو أن تكون من أمهات المؤمنين.
وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يصلح بينه وبين اليهود فجعلهم شركاء للمؤمنين، فكان من الحق أن يتألفهم، وأن يرأف بهم، وإن ذلك الزواج تأليف وتقريب، وإبعاد للنفور ولكنهم جاحدون دائما.
غدر وسماحة
534- كان سلام بن مشكم الحامل الأول للواء اليهود، ولما قتل حمل غيره اللواء وقد بقيت امرأته من بعده بحقدها وضغنها على من قتلوا زوجها عامة، وخاصة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. وأرادت قتل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأداة القتل عند النساء، وهو السم، وتظاهرت بالمودة واتجهت إلى إهداء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم شاة، وضع السم فى أجزائها، وتعرفت ما يحبه النبى عليه الصلاة والسلام من أجزاء الشاة، فقيل لها الذراع فزادتها سما، وأكثرت فيها.
أهدت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الشاة، فجاءت بها ووضعتها بين يديه، تناول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذراع الشاة التى هى أحب أجزائها إليه، فلاك منها مضغة فلم يسغها، لعل ذلك لأنها أسرفت فى وضع السم فيها، فكان غريب المذاق، ولذلك رماها من يده ولم يأكلها ولفظها، وكان معه على الطعام صاحب له هو بشير بن البراء بن معرور، فأكل هو الآخر، فأساغها ولعل ذلك لعدم ظهور السم، وإن كان كامنا، ومات بشر من أكلته هذه، ولكن ذلك لم يكن فور تناولها.
(3/794)
ولقد قال عليه الصلاة والسلام عندما لفظها: «ان هذا العظم ليخبرنى بأنه مسموم» ودعا المرأة وسألها فاعترفت، وصرحت بالعداوة قائلة: بلغت من قومى ما لم يخف عليك، ثم أردفت ذلك بقولها، فقلت إن كان ملكا استرحت منه، وإن كان نبيا فسيخبر.
وقد تجاوز عنها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ويظهر أن بشرا لم يكن قد مات بأثر السم، وإلا ما تجاوز النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عنها، لأنها قتلت نفسا غدرا وعامدة.
وإن عمل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان السماحة كلها، والسماحة دائما تقرب، ولا تنفر، وإن العلماء يقولون إن هذا الفعل الذى لاك به النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مضغة اللحم، ولم يسغها كان له أثر فى جسمه صلى الله تعالى عليه وسلم، حتى يقال أنه عندما ضعف جسمه الكريم بمرض الموت أحس به يسرى فى بدنه.
يروى أنه قال فى مرضه الذى توفى فيه، لأم بشر بنت البراء بن معرور، وقد جاءت إليه تعوده قال لها: «يا أم بشر إن هذا الأوان وجدت انقطاع أبهرى التى أكلت مع أخيك بخيبر» .
ويا بنى العلماء على ذلك أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد مات شهيدا.
وهكذا نجد غدرا واضحا، وسماحة غالبة لمداوة جروح النفوس، وإذا كان اليهود ابتداء قد حاولوا رمى الحجر عليه، وهو جالس بجوار جدارهم، فقد حاولته امرأة حقود بالسم تقتله به، وظهر أثره عندما ضعف بالمرض فمات شهيدا وهو أعظم الشهداء.
(3/795)
قدوم جعفر بن أبى طالب ومن معه من المهاجرين
535- انتصر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى خيبر انتصارا مؤزرا. زال سلطان اليهود فى جزيرة العرب فقوض قوتهم العسكرية، وفل من شوكتهم، وجعل العدو يسير وراء الإسلام، ولا يواجهه، وبقى أن يعود الغرباء إلى عزة الإسلام، وقد خرجوا فرارا من إذلال المشركين؛ عادوا ليتحملوا عبء الجهاد أعزاء، بدل أن يبقوا مستضعفين، ولو كانوا ضيوفا بين قوم كرماء وملك كريم.
عاد جعفر بن أبى طالب ومعه المهاجرون الذين هاجروا إلى الحبشة، ونالوا فضل الهجرتين. لقى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الرفيق ابن عمه الحبيب جعفر بن أبى طالب، فقبله بين عينيه والتزمه، وقال: ما أدرى بأيهما أنا أسر بفتح خيبر أم بقدوم جعفر.
عندما اطمأن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعزة الإسلام التى أعزه الله تعالى العلى القدير بها، بعد غزوة الأحزاب، وقد صار الإسلام يغزو أعداءه، ويخضد شوكتهم، ويدعو الناس بدعوة الحق، وهو فى أمن، وخصوصا بعد الحديبية، عندئذ أرسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى أتباعه بعد الحديبية؛ يدعوهم إلى أن يحضروا ليجاهدوا مع إخوانهم، فهم فى غربتهم وكان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حريصا عليهم، يشعرهم بأنهم منه وهو منهم.
بعث إلى النجاشى الكريم- عمرو بن أمية الضمرى، ليسهل لهم عودتهم، بعد أن أكرم ضيافتهم، فحملهم فى سفينتين، فقدم على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو بخيبر.
عاد المهاجرون إلى الحبشة، وكانوا من بطون مختلفة، ومن أسر قريشية، وغير قريشية مختلفة، جمعهم الحق والإيمان والهجرة. وإن فرقت البطون والأسر.
فكان من الهاشميين جعفر بن أبى طالب، ومعه امرأته أسماء بنت عميس الخيثمية وولد له فى الحبشة عبد الله بن جعفر.
ومن بنى أمية خالد بن سعيد بن العاص، وامرأته وابنه سعيد بن خالد.
ومن بنى عبد الدار بن قصى الأسود بن نوفل بن خويلد.
ومن بنى تيم بن مرة بن كعب الحارث بن صخر وامرأته.
(3/796)
وهكذا من بطون قريش وقد أحصاهم ابن إسحاق عدا فكان عددهم ستة عشر رجلا، ومعهم أولادهم الصغار الذين صحبوهم أو ولدوا فى الحبشة.
كان ممن حضر أبو موسى الأشعرى، وعدد من الأشعريين، كانوا هم عم أبى موسى الأشعرى وأخاه أبا بردة.
وكان مع مهاجرى الحبشة فى السفينتين نساء من هلك من المسلمين هنالك.
وقد روى البخارى أن أبا موسى الأشعرى لم يكن من مهاجرى الحبشة، بل كان ممن آمن بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو باليمن، ولما علم بهجرة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هاجر إليه، فالتقى فى الحبشة بجعفر بن أبى طالب، ولنترك الكلمة للبخارى عن أبى موسى الأشعرى قال «بلغنا مخرج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فخرجنا مهاجرين إليه ... فى ثلاث وخمسين رجلا من قومى، فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشى بالحبشة، فرافقنا جعفر بن أبى طالب، فأقمنا معه حتى قدمنا جميعا، فرافقنا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حين افتتح خيبر، فكان أناس من الناس يقولون لنا سبقناكم بالهجرة» .
ويروى البخارى مناقشة كانت بين أسماء بنت عميس امرأة جعفر بن أبى طالب وعمر بن الخطاب رضى الله عنهما. ذلك أن أسماء زارت أم المؤمنين حفصة رضى الله عنها. فدخل عمر أبو حفصة وعندها أسماء.
فقال عمر: الحبشية هذه، البحرية هذه.
قالت أسماء: نعم.
قال عمر رضى الله عنه: «سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فغضبت أسماء وقالت: كلا والله كنت مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم وكنا فى دار البيداء والبغضاء بالحبشة، وذلك فى الله، وفى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأيم الله لا أطعم طعاما، ولا أشرب شرابا، حتى أذكر ما قلت للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم وأسأله، لا أكذب ولا أزيغ، ولا أزيد عليه» .
ذهبت فى هذه الحماسة إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقالت: يا نبى الله إن عمر قال كذا وكذا وقلت كذا وكذا.
(3/797)
قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حاكما بين هذين المؤمنين المخلصين: «ليس بأحق منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان» .
هذا حديث كان يجرى بين الصحابة أيهما أسبق للهجرة أأولئك الذين هاجروا من مكة المكرمة إذ هاجر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من مكة المكرمة، أم أولئك الذين هاجروا فرارا من فتنة المشركين، وبسبب بعدهم وغربتهم لم يهاجروا مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى المدينة المنورة، بل حبسهم البعد والغربة عن أن يهاجروا مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
وفى ذلك الشرف والإخلاص فليتنافس المتنافسون، وفى كل فضل، فالذين هاجروا مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم نالوا نعمة الجهاد فى غزوات وسرايا، فجاهدوا فى بدر وأحد، وبنى قينقاع، وبنى النضير، ثم تحملوا البلاء فى حفر الخندق، وزلزال غزوة الأحزاب فى الخندق، ثم كان لهم فضل الصبر فى الحديبية، وليس صبر القتال، ولكنه صبر النفس، وضبطها، ثم بيعة الرضوان.
وفضل مهاجرى الحبشة أنهم كانوا فى غربة معزولة، وكانوا مستضعفين فى الأرض يبغون الجهاد ولا يدركونه، حتى أنقذهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فجاؤا إليه ليحملوا عبء الجهاد كإخوانهم، ويزول عنهم بلاء الاغتراب إلى بلاء الجهاد، وعزته.
وادى القرى
536- كان حول خيبر أو على مقربة جيوب لليهود، لم يقدعها هزائم أهل الحصون فكانوا يعلون برؤسهم حاسبين أنهم ينالون من المسلمين نيلا.
فكان اليهود بوادى القرى ينهدون برؤسهم، ولم يعتبروا بما كان فى خيبر، وبينما النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بوادى القرى أصيب رجل من المؤمنين بسهم فقتل.
وأخذ يهود وادى القرى، يجمعون أنفسهم، وانضم إليهم ناس من العرب، فلم يكن بد من القتال وهم أهون فى أنفسهم وعند الله من خيبر ومن كان وراءهم.
هيأ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أصحابه للقتال وصفهم، وأعطى اللواء سعد بن عبادة، وأعطى راية إلى الحباب بن المنذر، وراية إلى سهل بن حنيف، وراية إلى عباد بن بشر، وتقدم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يدعوهم إلى الإسلام، وأخبرهم أنهم إن أسلموا أحرزوا أموالهم، وحقنوا دماءهم وحسابهم على الله.
(3/798)
فلم يجيبوا داعى الله، وآثروا القتال فخرج رجل منهم يطلب المبارزة، فبرز إليه الزبير بن العوام فقتله، ثم برز آخر فبرز إليه على فقتله، حتى قتل منهم أحد عشر، وكلما قتل رجل منهم كرر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الدعوة إلى الإسلام، وإلى الله عز وجل ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم.
ولكنهم عموا وصموا عن دعوة الحق، فكان القتال الذى ابتدأوه بالسهم القاتل لرجل من المؤمنين ولم تجدهم الدعوة إلى الإسلام، وكان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يصلى كلما حضر وقت الصلاة، ثم يدعوهم، لم يجد ذلك كله فقاتلهم، حتى أمسى، وغدا عليهم، فلم ترتفع الشمس قيد رمح حتى أعطوا ما بأيديهم من مال وسلاح. وبذلك فتحت أرض وادى القرى عنوة، ولم تكن بصلح كفدك، وقد أقام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أربعة أيام، ذهب بعدها إلى تيماء.
ولقد قسم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أموال وادى القرى، كما قسم خيبر، فكانت الأموال ابتداء مخمسة أربعة أخماس للفاتحين وخمسها لله ولرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ولذى القربى واليتامى والمساكين، وابن السبيل. والأرض والنخيل بقيت فى أيديهم على أن يكون لهم نصف ما تنتج، وللنبى صلى الله تعالى عليه وسلم النصف، وتكون الثمار والزروع موزعة توزيع الغنائم.
ولقد كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يقوم بهذه القسمة على اعتبار أن كل أموال خيبر، ومن سار مسارها، وهم أهل وادى القرى، غنائم تخمس، وقد خمس الأموال المنقولة وخمس نتاج الأرض والنخيل، وبقية الأموال الثابتة.
وذلك لأن الفاتحين من أهل المدينة المنورة كانوا عددا قليلا، ولم يكونوا كثرة كبيرة وكان جميع أهل المدينة المنورة مجاهدين، وكان نصيب الفقراء والمساكين واليتامى ثابتا، غير موزع على غيرهم، والكراع والسلاح وما يحتاج إليه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يؤخذ من حصة الله والرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، إذ يستبقى لنفسه من هذا الخمس نفقة سنة، وينفق الباقى على المصالح العامة للمسلمين.
ولما جاء عهد عمر رضى الله عنه نفذ الأمر فى خيبر، وما يشابهها كما قسم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو يتضمن المعانى التى ذكرناها، وهو بقاء الأرض تحت أيدى أهلها، وكان يقول رضى الله تبارك وتعالى عنه «أما والذى نفسى بيده لولا أن أترك آخر الناس ليس لهم شيء ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم خيبر ولكنى أتركها خزانة لهم يقتسمونها» .
ولذلك ترك أرض سواد العراق فى أهلها، وجعل خراجها لمصالح المسلمين مستندا إلى ما قرره القرآن الكريم بالنسبة لأرض بنى النضير، ونعتقد أنه هو ما قرره النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى أرض
(3/799)
خيبر، فمعناه لا يخرج عنه، لأن جماعة المؤمنين كانوا جميعا مجاهدين أو يتامى أو أبناء سبيل أو مساكين، ولكل حظ، وكان أولئك معروفين فى المدينة المنورة. فلما اتسعت رقعة الدولة كان الخراج موزعا على مصالح المسلمين، وسد حاجة المحتاجين بشكل عام.
صلح تيماء
537- بما كان فى خيبر ووادى القرى انتهت قوة اليهود العسكرية فى بلاد العرب، ولكن بقى فيها ناس لم يخضعوا لحكم الإسلام وسلطانه، ويكونون تابعين له من غير أن يضاروا فى دينهم، ولا يرهقوا فى عقائدهم وهم يهود تيماء، وكانت على مقربة من الشام ولم يعتبر الإمام عمر رضى الله عنه أرضهم من أرض العرب التى لا يجتمع فيها دينان.
وأهل تيماء من اليهود عندما علموا ما نزل بخيبر ووادى القرى، وما سامحهم فيه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من معاملة عندما علموا ذلك لم يريدوا قتالا، وجاؤا ودفعوا الجزية، وصالحوا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عليها، وجزيتهم كانت جزية على الأرض وهو الخراج، وجزية على الرؤس على ما هو مبين فى كتب الفقه، وإعطاء الجزية إقرار بخضوعهم لحكم الإسلام على أن يكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم من أحكام القصاص والحدود، وسنتكلم بعد ذلك فى الأحكام الشرعية التى أخذت من أقوال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى غزوة خيبر، وما جاء بعدها، فإنا لا نترك ذلك، ولكن أخرناه حتى ننتهى من القتال والحرب والتسليم وشروطه.
إجلاء عمر لليهود
538- أجلى عمر بن الخطاب اليهود، يهود خيبر ووادى القرى الذين يسكنون فى الجزيرة العربية عملا بقول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا يجتمع فى جزيرة العرب دينان» .
ولكنه لم يجل أهل تيماء، لأن أرضهم لم تكن فى داخل الجزيرة، بل كانت فى أطراف الشام، وهم قد قبلوا أن يكونوا ذميين لهم ذمة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم ينقض أحد منهم ذمة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهم لم تفتح أرضهم عنوة، بل كانت صلحا، فلم تكن ثمة مشابهة بينهم وبين خيبر ووادى القرى، والحديث النبوى لا ينطبق عليهم، لأنهم كانوا فى طرف الشام الذى يصاقب جزيرة العرب، وبذلك جمع عمر رضى الله عنه بين المحافظة على عهد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ومصلحة المسلمين، جزاه الله تعالى عن الإسلام خيرا.
(3/800)
الأحكام الشرعية التى تقررت في خيبر
539- كثرت الأحكام التى شرعت فى أثناء غزوة خيبر لطولها ولتنوع أحداثها، وهى جزء من تبليغ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم رسالة ربه فما كان نبيا للقتال، بل كان نبيا مبلغا رسالة ربه؛ فهو المطلوب فى السلم وفى الحرب، وهو مطلوبه بالذات والقصد الأول، وما كانت الحرب إلا دفاعا ومنعا للفتنة، وتعبيد الطريق لكى تسير فى مسارها لا يحول حائل بينها وبين القلوب؛ ولا إكراه فى الدين من بعد أن تصل الدعوة فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (الزمر: 41) . فالدعوة هى لب الرسالة والحرب لدفع ما يعترض طريقها.
ومن أظهر الأحكام الشرعية التى ثبتت فى خيبر.
إباحة المزارعة والمساقاة:
540- وأظهر الأحكام هو ما صنعه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مع أهل خيبر من دفع الأرض إليهم على نصف غلاتها والأرض مملوكة للمسلمين. فدفعها إليهم على نصف الغلات مزارعة ومساقاة. لأن دفع الأرض لزراعتها على سهم معلوم للمالك مزارعة. ودفع الشجر لإصلاحه على سهم معلوم للمالك مساقاة. والاتفاق بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وبين يهود خيبر يتضمن الزرع وإصلاح الشجر فهو يتضمن مزارعة ومساقاة معا.
ومن قال أن عقد المزارعة فاسد، فقد رد السنة وذلك غير جائز.
وإن المزارعة والمساقاة إجارة ابتداء، وقد تكون إجارة فاسدة. وهى مشاركة انتهاء. وإن ذلك وصف فقهى؛ وليس حكما شرعيا والحكم الشرعى قد ثبت بفعل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فإنه صحيح فلا مشاحة فيه، وللفقهاء أن يطبقوا أقيستهم الفقهية كما يرون ما يكون منها صالحا للتطبيق وما لا يكون صالحا يردونه وعمل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وما يؤدى إليه من إباحة فوق ما يقررون من أقيسة قد تخطيء وقد تصيب ولا قياس مع النص.
وإن هذه المزارعة كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لا يقدم البذر، بل كان البذر والعمل من العامل وعمل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يجيز ذلك النوع من الزراعة كما يجيز أن يكون البذر والأرض من صاحب الأرض، وكما يجوز أن يكون البذر منهما.
ويشبه ابن القيم الأرض برأس المال فى المضاربة، وقد يضيف إليه المالك البذر وربما لا يضيفه كما فعل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
(3/801)
ومهما يكن الوصف الشرعى عند الفقهاء فإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد فتح باب الاستغلال لمن له أرض ولا يستطيع زراعتها بنفسه، لمشاغل تشغله كأولئك المجاهدين أو المرضى. أو لعدم خبرة أو غير ذلك من الأسباب المعوقة له عن الزراعة بنفسه.
وقد كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يقسم الثمرات قسمة الغنائم، والله سبحانه وتعالى هو الحكيم العليم.
تحريم أكل لحم الحمر الإنسية:
541- ثبت نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن أكل لحم الحمر الأنسية، وأباح عليه الصلاة والسلام أكل لحم الخيل، فقد رأى صلى الله تعالى عليه وسلم، بعض أصحابه يأكلون لحم الحمر الإنسية، فى خيبر فنهاهم عنها، وروى ابن إسحاق بسنده عن بعض من شهد خيبر قال: أتانا نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن أكل لحوم الحمر الإنسية، والقدور تفور بها، فكفأناها على وجوهها.
وقد روى الحافظ ابن كثير أنه نادى منادى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم «إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر فإنها رجس فأكفئوها، والقدور تفور بها» .
وإن هذه النصوص الواردة فى تحريم لحوم الحمر الإنسية صحيحة تضافرت رواياتها من عدة جهات، وهنا يسأل الباحث لماذا كان تحريمها، وهى تأكل العشب ولا تأكل اللحم وليست ذات ناب، ولا تعد من السباع المنهى عنها بأى صورة من الصور.
يقول بعض الباحثين، ومنهم بعض التابعين أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عنها فى خيبر، لأنها كانت تحمل الأمتعة، وكانت ضرورية للناس فى استعمالها، ولذلك قال ابن عباس أنها ليست حراما لذاتها ولكن كانت فى خيبر ممنوعة الأكل لهذا.
ولكن يرد ذلك التأويل أمران:
أولهما: أن الخيل كانت ألزم للجهاد من الحمر. ومع ذلك أبيحت لحومها مع أن الحاجة إليها أشد وألزم- الأمر الثانى- أن صريح الحديث الذى رواه ابن اسحاق أنها رجس فهى محرمة لذاتها أى لحمها وأن فيه ما يمنع أكلها.
(3/802)
ولقد قيل فى سبب تحريمها فى خيبر بالذات أن الحمير فى خيبر كانت قذرة لأنها جلالة وكانت تأكل العذرة.
وقيل أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم منع أكلها؛ لأنهم كانوا يأكلونها قبل قسمتها من الغنائم؛ وقد يقال أنه ينافى ذلك وصف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: بأنها رجس. ولكن يجاب عن هذا بأنها كانت رجسا أى مالا خبيثا، لأنها لم تكن قد قسمت، فمعنى رجسها أنها لم تكن كسبا حلالا طيبا بل كانت كسبا خبيثا غير طيب.
ويقول الحافظ ابن كثير فى تاريخه: إن تحريمها هو مذهب جمهور العلماء سلفا، وخلفا، وهو مذهب الأئمة الأربعة، ولعل من المفارقة فى مذهب مالك أن يحرم لحم الحمر الأنسية، ويبيح أكل لحم الكلب، وله فى إباحة لحم الكلب اجتهاد يتصل بنص قرآنى، إذ أن القرآن الكريم أباح أكل صيده فى قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ، قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ، وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ، فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَاتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ. ويقول الامام مالك فى ذلك، كيف يؤكل صيده، ويحرم لحمه.
وبعض العلماء لهذه التأويلات المختلفة قال إن أكل لحمها مكروه، لأن التحريم يثبت بدليل يقبل التأويل ففيه شبهة! ومال ذلك الكراهة لا التحريم القاطع.
تحريم سباع البهائم:
542- ثبت فى غزوة خيبر تحريم أكل سباع البهائم، وهى الحيوانات التى تعيش على أكل اللحوم، أو كل ذى ناب، كما يعبر الحديث النبوى، فقد روى ابن اسحاق بسنده أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم نهى يومئذ- أى يوم خيبر- عن أربع: عن إتيان الحبالى من السبايا، وعن أكل الحمار الأهلى، وعن أكل كل ذى ناب من السباع، وعن بيع المغانم حتى تقسم.
وقد تكلمنا فى النهى عن أكل لحوم الحمير الأهلية.
ونتكلم عن أكل كل ذى ناب من السباع، وهو ما يسمى فى عرف الفقهاء بسباع البهائم، وهى محرمة لذاتها، لهذا النص، ولحمها نجس، ولعابها وهو تبع للحمها نجس أيضا.
هذا وإن لحم سباع البهائم، أو كل ذى ناب كما عبر القرآن الكريم يكون حراما بالنص، ويحرم سباع الطير، كالنسر والحدأة والغراب وغيرها من أكلة اللحوم بالقياس على ذى الناب من سباع البهائم.
(3/803)
تحريم وطء الحبالى من السبايا وغيرهن:
543- ثبت تحريم الدخول بالحبالى من السبايا، وقد ورد ذلك فى الحديث السابق المروى بسند ابن إسحاق رضى الله تبارك وتعالى عنه.
وقد روى أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «لا يحل لامريء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقى ماءه زرع غيره، (يعنى الحبالى من السبايا) ولا يحل لامريء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع مغنما، حتى يقسم، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها، ولا يحل لامريء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس من فيء المسلمين، حتى إذا أخلقه رده» .
ونرى أن الحديث منع أمورا تتعلق بالمغانم، ومنع الدخول بالحبالى من السبايا، ونريد أن نتكلم فى هذا الجزء الأخير، لأنه موضوع قولنا ونؤخر الباقى.
والكلام فى الدخول بالحبالى، وقد نهى عنه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ولم ينه عن سببه فيما يتعلق بالسبايا. ذلك أن سبب الدخول بالسبايا هو ملك اليمين، فلم يكن ثمة نهى عنه، بل الملكية تثبت، ولكن لا يترتب عليها أثرها وهو الدخول، لأنه إذا كان السبب قد وجد، فقد كان المانع، وهو كونها حاملا، وأن دخوله يسقى به ماءه زرع غيره، وهو المنهى عنه. فلا بد قبل أن يدخل بالمسبية من استبراء رحمها بالولادة إن كانت حاملا، وأن تحيض مرة إذا كانت حائلا، لأن الحيض أمارة أنه لا حمل، فيحل الدخول. وأن السبب هنا، وهو الملكية حكم شرعى، ثبت بحكم تقسيم الغنائم، فهو سبب شرعى، وليس بسبب جعلى يقوم به المكلف.
ونثير هنا بحثا: هل السبب الجعلى، وهو عقد الزواج يكون كالسبب الشرعى، بأن يحل عقد الزواج على الحامل، كما يثبت سبب الملكية.
لقد فصل الفقهاء الأمر فى ذلك بالاستناد إلى ما قرره النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من وجوب العدة من كل دخول كان بسبب أمر ليس حراما عند الشارع، أو عفا عنه. فإن العقد على الحامل حرام وذلك لأن لها عدة، ولا عقد فى حال العدة، فإذا كان من زواج صحيح أو دخول بشبهة تسقط الحد، وتمحو وصف الزنا، فإن العقد لا يصح، لأنها ذات عدة، والعقد على معتدة باطل، ولذلك يكون السبب باطلا، والدخول يكون زنا.
وإذا كانت حاملا من زنا، فهل يجوز الدخول وهل يصح العقد، اتفق الفقهاء على أن الدخول لا يجوز، لأنه ينطبق عليه الحديث، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقى ماءه زرع غيره، ولكن أيصح إنشاء العقد على الزانية.
(3/804)
قالوا أنه إذا انتهت عدتها يصح العقد بالإجماع إذا تابت، وإذا كانت العدة لم تنته، فإنه من المقررات الشرعية أنه لا عدة للزانية، ولو كانت حاملا بيد أنه يصح الزواج من غير الحامل. أما الحامل فينعقد زواجها من صاحب الحمل، لأنه لا يسقى ماءه زرع غيره، وكره بعض الفقهاء أن يدخل بغير الحامل قبل استبراء الرحم.
أما إذا كان العاقد غير صاحب الحمل، فقد قال بعض الفقهاء يصح الزواج ولا يدخل بها كما بينا، أما صحة الزواج فلأنه لا عدة لها تمنع صحته، لأنها ليست فى عصمة أحد، والزانى لا عصمة له.
وأما الدخول بها فممنوع بنص الحديث الذى ينص عليه فى غزوة خيبر وهو عام فى منع أن يسقى ماءه زرع غيره، ونسب هذا القول إلى أبى حنيفة والشافعى ومحمد من أصحاب أبى حنيفة.
وقالت طائفة أخرى من الفقهاء منهم مالك وأبو يوسف من أصحاب أبى حنيفة وأحمد فى رواية عنه وزفر من أصحاب أبى حنيفة رضى الله عنهم أن الزواج لا يصح، لأنه إذا كان الدخول لا يجوز وهو غاية العقد، لأن القصد الأول المتعة، ولا فائدة من عقد لا تترتب عليه لوازمه، وما دام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد نهى عن الدخول بالحامل، بالنهى عن أن يسقى ماءه زرع غيره فقد نهى عن الزواج، لأن النهى عن الأمر اللازم نهى عن الملزوم.
ولأن النهى لأجل حق الحمل، وحق الحمل يراعى، لأنه لا جناية منه. وإذا عقد على المرأة وتبين أنها كانت حاملا وقت الزواج فإن العقد لا يكون صحيحا، لأنه لا يفرض أنها كانت حاملا من زنا. إذ يجب حمل حال المؤمن على الصلاح، بل يفرض أنه كان من زواج وشبهة تسقط الحد وتمحو وصف الزنا.
قسمة الغنائم ومالا تقسم منها ووقتها:
544- ثبت أن المال الذى يقسم غنيمة الأموال المنقولة وثمرات الأموال غير المنقولة ويكون للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل الخمس، وأربعة الأخماس للغانمين، وأنه يعطى للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم سهمان للفرس، وسهم لصاحبه، وذلك لأن نفقات الفرس كبيرة، ويريد الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أن تكون ذات قوة دائما لأنها عدة القتال، ولتشجيع المجاهدين على اتخاذها للجهاد، وفى بعض الروايات أنه جعل للفرس سهما، ولصاحبها سهما، ولكنه غير الرواية المشهورة.
وإنه يلاحظ أمران بالنسبة للغنائم:
(3/805)
أولهما: أنها لا تملك قبل القسمة، ولذلك صرح النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى غزوة خيبر أنه لا يجوز بيع من له فيها قبل أن يقسم له قسم ويدخل فى حوزته، ولذا قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فيما روينا من قبل ولا يحل لامريء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يركب دابة من فيء المسلمين، حتى إذا أعجفها ردها فيه، ولا يحل لامريء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس ثوبا من فيء المسلمين، حتى اذا أخلقه رده. وهذا الحديث يدل على أنه لا يملك. ولا يصح أن ينتفع به قبل القسمة.
الأمر الثانى: الذى يجب التنبيه عليه أن الطعام الذى لا يدخر، لا يخمس، لأنه لا يعد غنيمة، ولأنه يدفع غائلة الجوع الذى يصيب المجاهدين، وحال مغبة الجوع، وكان الجوع يصيب المسلمين فعلا فى غزوة خيبر، وإنه إذا لم يتناول قبل القسمة كان الناس فى مخمصة، والطعام بين أيديهم، وإن ذلك ابتلاء فوق الابتلاء بالجهاد والصبر على شدائده.
يروى ابن إسحاق بسنده عن عبد الله بن مغافل المدنى أنه قال: «أصبت من خيبر جراب شحم فاحتملته على عنقى إلى رحلى وأصحابى، فلقينى صاحب المغانم الذى جعل عليها، فأخذه بناحيته، وقال: هلم، حتى تقسمه بين المسلمين، قلت: لا والله لا أعطيه وجعل يجاذبنى الجراب، فرآنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فتبسم ضاحكا، ثم قال لصاحب المغانم: خل بينه وبينه، فأرسله، فانطلقت إلى رحلى وأصحابى فأكلناه» .
وهناك أمر يجب التنبيه عنه، وهو غلول الغنيمة، فهو محرم تحريما قاطعا، لأنه سرقة فى مال الله تعالى: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ، وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ، ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ.
وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لا يمكن أن يغل، وليس من شأنه وكماله أن يغل هو، أو يقر غلول أحد، أو يسكت عنه، والغلول الأخذ من الغنيمة خفية، وإذا كان لا ينطبق عليه حد السرقة، لأن مال الغنائم ليس فى حرز مثله، ولأن المحارب له شبهة حق فيه، والحدود تدرأ بالشبهات، فإنه شدد الله تعالى فى عقوبته فى الآخرة. وفى غزوة خيبر، بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم شدة العقوبة فى الآخرة.
وقد كان بين المحاربين رجل اسمه مدعم، وقد أخذ من الغنائم شملة، وفتش متاعه بعد مقتله فوجد فيه مع الشملة خرزا من خرز يهودى يساوى درهمين، وهو غلول مهما تكن قيمته.
وقد جاء سهم فقتله وهو بوادى القرى، فقال الناس: هنيئا له بالشهادة فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «كلا والذى نفسى بيده أن الشملة التى أخذها يوم خيبر لم يصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا» فأخرجه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من صفوف الشهداء بفعلته التى فعلها.
(3/806)
الأمانة واجبة مع الأعداء:
545- إن الأمانة عدالة، بل إن العدالة ذاتها تدخل فى ضمن الأمانات ولذلك قرنها سبحانه وتعالى بها فى قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها، وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ، إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ.
وفى غزوة خيبر بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن الأمانة فى مال الأعداء واجبة، لا تبرر العداوة إهمالها، وإذا كانت أموال الأعداء تغنم فى القتال ويأخذها المسلمون، ويقسمونها بينهم، فإن ذلك قانون الحروب، وليس من قانون الإسلام خيانة الأمانة ولو لعدو يحارب.
روى موسى بن عقبة عن عروة بن الزبير أنه جاء عبد حبشى أسود من أهل خيبر، كان فى غنم لسيده، فلما رأى أهل خيبر قد حملوا السلاح سألهم: ماذا تريدون؟ قالوا: نقاتل هذا الرجل الذى يزعم أنه نبى، فوقع فى نفسه ذكر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فأقبل بغنمه، حتى عمد إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له: إلى من تدعو؟ قال: أدعوك إلى الإسلام، أن تشهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله وألا تعبد إلا الله، فقال العبد: فماذا يكون لى إن شهدت بذلك، وآمنت بالله، قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الجنة إن مت على ذلك، قال الرجل المؤمن: يا رسول الله إن هذه الغنم عندى أمانة، إذ كان يرعاها، وهنا أمره النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يؤدى أمانته، ولم يقل أنها غنيمة للمسلمين، ولم يضمها إلى أموال الله، لأن الأمانة يجب أن تراعى لذاتها، لا فرق فيها بين عدو محارب، وولى مناصر، بل قال الرسول الأمين: أخرجها من عسكرنا، وارمها بالحصا، فإن الله سيؤدى عنك أمانتك. ففعل، فرجعت الغنم إلى سيدها فعرف اليهودى أن غلامه قد أسلم.
ولقد قتل ذلك العبد الأمين بأمانة الله تعالى فى خيبر شهيدا، فأدخل فى قماط الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم.
وإن هذا درس حكيم للذين يخونون أموال الناس، ويبررونها بعداوة لهم، وقد يكونون ظالمين فى العداوة كما هم ظالمون بالخيانة، والله عليم بذات الصدور.
النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تفوته الصلاة:
546- إن الأعذار تكون على الناس أجمعين، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم من أصل البشرية، فيجرى عليه ما يجرى على الإنسان ويرهقه ما يرهق الإنسان.
(3/807)
ولقد كان فى خيبر أن نام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حتى أشرقت الشمس، وقد وقف حارسه ينبهه إذا نام، ويوقظه إذا استغرق الناس، فضرب الله تعالى على آذانه أيضا فنام ولم يوقظ حتى أشرقت الشمس، ومع أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم تنام عيونهم ولا تنام قلوبهم، ففى خيبر استغرق صلى الله تعالى عليه وسلم فى النوم بعينه. وإن كان قلبه يقظا لم ينم، وذلك ليعلن الله تعالى إنسانيته، وليكون عمله أسوة للناس فى تدارك ما فاته، لأن المؤمنين يتخذونه أسوة حسنة، ولأنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: صلوا كما رأيتمونى أصلى، فهو يبين لهم الصلاة فى حال الأداء وحال القضاء معا.
ولنذكر قصة ذلك، كما جاءت فى صحاح السنة وفى كتب السيرة- فى غزوة خيبر: روى أبو داود بسنده أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين قفل راجعا من خيبر، سار ليلا حتى أدركنا الكرى، وقال لبلال اكلأ الليل، وبلال يحرسه، وغلبت بلالا أيضا عيناه، وهو مستند إلى راحلته فلم يستيقظ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا بلال، ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس، وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أولهم استيقاظا، ففزع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال: يا بلال، فقال: أخذ بنفسى الذى أخذ بنفسك بأبى أنت وأمى يا رسول الله. فاقتادوا رواحلهم شيئا، ثم توضأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فأمر بلالا، فأقام الصلاة، وصلى بهم الصبح، فلما أن قضى الصلاة قال: من نسى صلاة فليصلها إذا ذكرها، فإن الله تعالى يقول: «وأقم الصلاة لذكرى» وإن هذا الحكم يستفاد منه أمران:
أولهما: وجوب قضاء الصلاة إذا فاتته بنوم أو نسيان مما لا قبل له بدفعه كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم «من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها» .
ثانيهما: أن قضاء الصلاة كما يكون بالانفراد يكون بأدائها جماعة مع إقامة الصلاة، وذلك بلا ريب هو الأفضل، لأن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة، فالجماعة لا تسقط عند القضاء، كما يتوهم بعض الناس.
ويجب أن نبين هنا أن بعض الفقهاء يقرر أن القضاء يغنى غناء الأداء فى حال فوات الصلاة بالنوم والنسيان، ولا يغنى القضاء غناء الأداء إذا كان فوات الأداء من غير هذين العذرين. ويكون القضاء واجبا فى هذين العذرين ولا يكون واجبا فى غيرهما.
بل إن التوبة تكون هى الرافعة للإثم، والقضاء لا يغنى عنها، وذلك لأن فوات الوقت وترك الصلاة من غير عذر لا يسقط وجوب أدائها، فلا يغنيه فتيلا القضاء بعد ذلك، لأن الصلاة ليست نقدا يكون فى مقابل نقد، إنما الصلاة شرعت تهذيبا للنفوس فى مواقيتها، فهى عبادة مقصودة فى أوقاتها لتجلو
(3/808)
صدأ القلوب فى الصباح، وصدأها فى الظهيرة، وفى الأصيل وفى العشية، كما قال الله سبحانه وتعالى:
فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَعَشِيًّا، وَحِينَ تُظْهِرُونَ فالصلاة فى أوقاتها مطلوبة فى ذاتها وفى الوقت تطهيرا للنفس، وإزالة لصدئها، ولا تترك حتى يعلوها الصدأ ويتراكم فلا يزال، ولا يصلح ذلك الإثم إلا التوبة.
ونحن نرى أنه لا بد من التوبة، وقد يجدى القضاء مع التوبة، والله تعالى غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا، ثم اهتدى.
تحريم المتعة في خيبر
547- جاء فى تاريخ الحافظ ابن كثير: وقد تكلم الناس فى الحديث الوارد فى الصحيحين عن طريق الزهرى عن عبد الله والحسن ابنى محمد بن الحنفية عن أبيهما عن على بن أبى طالب رضى الله تبارك وتعالى عنهم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الأهلية. هذا لفظ الصحيحين عن طريق مالك وغيره عن الزهرى، وهو يقتضى تحريم نكاح المتعة يوم خيبر، وهو مشكل فى وجهين: أحدهما: أن يوم خيبر لم يكن ثم نساء يستمتعون بهن، إذ قد حصل الاستغناء، بالسبايا عن نكاح المتعة. الثانى: أنه قد ثبت فى صحيح مسلم عن الربيع بن ميسرة عن معبد عن أبيه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أذن لهم فى المتعة زمن الفتح، ثم لم يخرج من مكة المكرمة حتى نهى عنها، وقال: «إن الله تعالى حرمها إلى يوم القيامة» فعلى هذا يكون قد نهى عنها، ثم أذن فيها ثم حرمت فيلزم النسخ مرتين، وهو بعيد، ومع هذا فقد نص الشافعى على أنه لا يعلم شيئا أبيح ثم حرم، غير نكاح المتعة، وما حداه إلى هذا إلا الاعتماد على هذين الحديثين.
إن هذا الذى ساقه الحافظ ابن كثير يدل على أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عن المتعة فى خيبر، وما أقامه من إشكال لا يرد الحديث الصحيح الذى أجمع عليه الشيخان.
فالإشكال الذى ساقه بتوافر السبايا فى خيبر يدل على النهى ويؤكده، ولا ينقضه، لأنه حيث توافرت السبايا لا يكون شكوى من العزوبة، فلا يكون للمتعة موضع، فلا يكون إذن، فهو موثق للتحريم وليس بناقض له.
أما الإشكال الثانى: فقد رده هو بتكرار الإذن، ثم تكرار النهى، وكونه بعيدا فى نظره يرد كلام الشافعى رضى الله تعالى عنه، وإذا كان بعيدا، فإنا نرجح حديثا أجمع عليه الشيخان على حديث انفرد به أحدهما.
(3/809)
ومهما يكن ما ارتاه الحافظ بن كثير من إشكال حول حديث الشيخين فإنه من المؤكد أنه كان ثمة نهى عن المتعة فى خيبر، سواء أجاء إذن بعد ذلك، ثم نهى أم لم يجيء.
حقيقة المتعة:
548- وجد فى هذه الأيام ناس فى مصر لا حريجة تدفعهم ولا دراسة تمنعهم، يدعون إلى المتعة، فعلينا أن نذكر حقيقتها كما هى عند الذين يدعون إليها، ومن حقيقتها يتبين أهى متفقة مع المباديء الشرعية المقررة فى الزواج، وهى مباديء علمت من الدين بالضرورة.
وقد عرفها العلماء بأنها اتفاق بين رجل وامرأة بحضرة شهود على أن يعاشرها مدة معلومة، على مهر، أو أجرة معلومة، وقال صديق خان فى كتابه (سبل السلام) لا تتجاوز مدتها خمسة وأربعين يوما، ولكن المشهور أنها تصح بأكثر من هذه المدة.
واذا أخلت المرأة بتسليم نفسها جزآ من المدة نقص من الأجرة ما يقابلها، فهى إجارة لبضع المرأة كإجارتها للرضاعة.
وتختص بالأحكام الآتية:
1- لا تورث فيها، فإذا مات أحد الطرفين لا يرثه الآخر، لأن الميراث ثبت بين الزوجين وهما ليسا زوجين باتفاق الفقهاء.
2- لا يقع فيها طلاق ولا ظهار ولا إيلاء ولا غير ذلك مما هو من أحكام إنهاء الزواج، ولكن ينتهى الأمر فيها بانتهاء المدة.
3- أن العدة فيها حيضتان لا تزيدان عن خمسة وأربعين يوما، أو بأقل الأجلين.
4- أنه ليس فيها عدة وفاة، لأنها خاصة بالأزواج، بل العدة هى حيضتان، وأخيرا هى عند الذين أباحوها من الشيعة ليست من الزواج فى شيء مطلقا. فتلك الأحكام التى ذكرناها منقولة من كتبهم، منها أخذناها، وفيها نردها.
وإن الأحكام التى يقررها لها الشيعة الإمامية التى أجازوها تنبه لا محالة إلى أنها ليست زواجا، وليس لها أحكام، وهى من قبل اتخاذ الخلائل كما يعبر الأوربيون، وكما هى لغة الفساق فى هذا العصر، أو بتعبير هى من قبيل اتخاذ الأخدان المنهى عنه فى القرآن الكريم نهيا أبديا قاطعا، اذ لا يحل فى العلاقة بين الرجل والمرأة إلا الزواج، الذى يكون ما عداه امتهانا للمرأة إذ تتخذ متاعا، لقضاء لبانة الرجل يذوقها، ثم
(3/810)
يرميها، ويستأجرها مستمتعا بأجر، ولقد قال الله سبحانه وتعالى مبينا أن الفروج لا تحل إلا بالزواج، أو بملك الأيمان، فقال الله سبحانه وتعالى فى وصف المؤمنين: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ.
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ، فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ.
فهذا النص قاطع فى أنه لا تباح الفروج إلا بالزواج، أو ملك اليمين، وأن من ابتغى وراء الزواج أو ملك اليمين فهو عاد أثيم، فالذى يتخذ المتعة فى الفروج عاد أثيم.
ولقد نهى القرآن الكريم نهيا قاطعا عن اتخاذ الأخدان، وليست المتعة إلا من قبيل اتخاذ الأخدان أو اتخاذ الخلائل، كما ذكرنا، فتحريمها ثابت بنص قرآنى، إذ يقول الله سبحانه وتعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أى أحل لكم الزواج غير تلكم المحرمات السابقات أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ، وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ فاتخاذ الأخدان حرام بهذا النص، ويقول الله سبحانه وتعالى فى شأن زواج الإماء: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ، بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ، وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ.
وينهى عن اتخاذ الأخدان عند بيان حل النساء الكتابيات؛ فيقول سبحانه وتعالي: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ، وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ، وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ، إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ.
واتخاذ الأخدان أو اتخاذ الخلائل، الذى هو اتفاق مع امرأة على أن يتعاشرا من غير زواج مدة معلومة بأجر، فإذا انتهت المدة افترقا، وهو والمتعة شيء واحد.
نهى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عن المتعة:
549- لم يرد عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إذن بالمتعة صريح قط، إنما الذى ورد فيها نهى صريح عنها، وفهم الذين فهموا الإذن بها من النهى عنها، لأن النهى يجب أن يكون له موضوع ولا موضوع للنهى فى المتعة إلا إذا كان إذن بها.
ولقد اتفق العلماء على أن أول نهى عنها كان فى خيبر، ثم تتابع النهى بعد ذلك فى خمسة مواضع أخرى فنهى عنها فى عمرة القضاء، وفى غزوة تبوك وغزوة فتح مكة المكرمة، وعام الفتح، وفى
(3/811)
حجة الوداع، ولولا تضافر الأخبار بأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد أذن بها لقلنا أن ذلك التكرار كان لتأكيد المنع، إذ كانت عادة عميقة فى الجاهلية، فكان التأكيد لقلع جذورها من نفوسهم. ولكن تكاثرت الأخبار بالفعل قبل الإذن، فتقبل الأمرين الإذن من غير إباحة مطلقة، بل بضرورة الفردية الشديدة فى الحرب، والأمر الثانى النهى القاطع فى تحريمها إلى يوم القيامة. ويصح أن نقول أن النهى فى أوله كان لمن أذن له قبله. والنهى من بعد ذلك كان نهيا ناسخا إلى يوم القيامة.
وفوق ذلك بيان التحريم القاطع فى القرآن الكريم الذى لا إذن فيه قط، وهو العزيمة التى لا رخصة فيها، ولا مظنة لرخصة قط.
550- فلننظر بعد ذلك فى أمرها. لقد أجمع فقهاء السنة جميعا أنها محرمة تحريما أبديا إلى يوم القيامة، وقد روى أن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما كان يترخص فيها للضرورة فى حال الحرب، وهى التى قيل أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أذن بها لشدة العزوبة فى بعض حروبه، وإذ كان لم يعرف أنه أذن بذلك فى حرب معينة، ولقد نهاه على كرم الله وجهه عن أن يفتى بهذه الرخصة، وبين له أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد نهى عنها، وقال مخاطبا ابن عباس: «إنك امرؤ تائه- لقد نسخها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم- ووالله لا أوتى بمستمتعين إلا رجمتهما» .
ويروى أن عبد الله بن عباس رضى الله تعالى عنهما قد رجع عن ترخصه، وأفتى بالمنع.
ولم يقل أحد قط من علماء الجماعة أنها مباحة لضرورة الشباب الذين يتعذر عليهم الزواج، فتلك فرية من رجل لا يتحرج في قوله، ولا يتعمق في علم، ولا يهتم بحرام ولا حلال.
بقي أن ننظر في الشيعة الإمامية فنقول أننا نرى المتأخرين منهم يفتون بها، ولا نري الأئمة أو الأوصياء قالوها، وإن وجد من ادعاها لهم.
وتنقل لك المصادر الفقهية الشيعية التي تنفي عن أئمة الشيعة المهديين وعلي رأسهم الإمام أبو عبد الله جعفر الصادق، وأبوه العظيم أبو جعفر محمد الباقر بن علي زين العابدين.
فقد روي أن بساما الصير في سأل أبا عبد الله جعفر الصادق عن المتعة، فقال رضي الله تبارك وتعالى عنه: إنها الزنا.
ولقد جاء في الكافي عن يحيي بن زيد فقيه العراق أنه قال: أجمع آل رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم على كراهة المتعة والنهي عنها.
(3/812)
ولقد روى البيهقى عن ابن شهاب الزهرى أنه قال أن ابن عباس رضى الله عنهما ما مات حتى رجع عن هذه الفتيا، ولقد قال سعيد بن جبير لابن عباس: ما تقول فى المتعة، فقد أكثر الناس فيها، وأنه نقل عنك الفتوى بجوازها، فقال ابن عباس: والله ما أفتيت بهذا، وإلا فهى كالميتة لا تحل إلا للضرورة ونحن لا نجد أى ضرورة تبيحها حتى يكون أقرها عند الاضطرار كالميتة، وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد صرح بأنه لا ضرورة عند الشباب تلجئهم إلى ذلك كما يدعى من لا حريجة للدين فى قلبه، فقد قال: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء» ومادام باب الصوم مفتوحا فإنه لا ضرورة تسوغ المتعة، أو ترخص فيها.
وإن فقهاء الشيعة الإمامية الذين جاؤا بعد عصر أئمة الشيعة ادعوا أنه لا نسخ فيها واستدلوا على بقائها بما يأتى:
أولا: أنه ثبت الإذن بها بالإجماع، فقد أجمع المسلمون على أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد أذن بها، وإن الأدلة التى ثبت فيها النسخ أخبار آحاد، وهى لا تنقض الأمر المجمع عليه، وقد روى عن ابن مسعود أنه أفتى بها، وفى الصحيحين أنه قال: رخص رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لنا أن ننكح المرأة إلى أجل بالشيء، ثم قرأ قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ.
وأن عبارات النسخ التى وردت فى أقوال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إنما هى منصبة على الميراث والطلاق.
ثانيا: قالوا إن قوله تعالى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ تدل على إباحتها، وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ.
وإن هذا الكلام غير صحيح فى جملته وتفصيله، وهو جاء بعد عهد الأئمة والأوصياء، وهو باطل من وجوه:
أولها: أن الآية التى ساقوها هى فى بيان أحكام النكاح الصحيح المرتب لآثار، ولم يكن موضوعها المتعة، إنما موضوعها النكاح، لأنها بيان لنهاية المحرمات، إذ يقول سبحانه وتعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ ... إلى قوله تعالى وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ، فالاستمتاع هو استمتاع الزوجين، يعرف هذا المدلول من له أدنى إلمام بالعربية، وفوق ذلك فإنه سبحانه وتعالى قال بعد ذلك: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ، وبدليل قوله
(3/813)
تعالى فى النص الكريم: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ولا شك أن المتعة لا توجب إحصانا يوجب الرجم.
وثانيا: أن الإجماع لم ينعقد على إباحتها، والتعبير بإباحتها خطأ، فلم يقل المحققون بأنها كانت مباحة إنما أذن فيها، كما أذن بأكل الميتة، فإن الإباحة تكون لأمر ذاتى فى الفعل، أما الإذن فإنه يكون لضرورة سوغت الإذن، وإذا عبر بعض الأئمة بالإباحة فمن قبيل التسامح فى التعبير.
وإن العلماء من بعد نهى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد أجمعوا على نسخها فلا موضع للقول بالإجماع، وإذا كان قد أثر عن ابن عباس أنه أذن بها فى حال الضرورة الحربية فقط، فقد روى أنه رجع عن رأيه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولقد قالوا- أى بعد عصر الأئمة والأوصياء عندهم- أن الإجماع انعقد على إباحتها بين الشيعة والسنة وانفرد أهل السنة بالنسخ، ونقول لهم أن الأدلة التى أذنت بها هى التى نسختها، فلا يقال إجماع على الإذن، وعدم إجماع على النسخ، فالأدلة ملزمة فى الأمرين.
وثالثها: أن ثبوت النسخ لم يكن بخبر آحاد، بل لأنها فى ذاتها محرمة كالميتة والخنزير والدم المسفوح، وما أهل لغير الله به، وذلك ثابت بالقرآن الكريم، فى قوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ قاطعة فى إثبات التحريم، لأنه من المؤكد المتفق عليه أن علاقة المتعة ليست علاقة زوجية، فهى لا تعد زوجة بدليل أنه لا يجرى فيها طلاق ولا ميراث، ولا عدة زوجية، لا فى حال الموت ولا فى حال الانفصال.
والنهى عن اتخاذ الأخدان المتكرر يدل على تحريمها لأنها ليست إلا كذلك، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم عندما أذن بها كان لضرورة. فى مخالفة المحرم تحريما قاطعا كمبدأ عام، وقد قال العلماء فى ذلك: قاعدة الضرورات تبيح المحظورات.
وقد نسخ الإذن فى حال الضرورة فى حال الحرب ضرورة لما استأنس الناس بالإسلام، وأشربوا حبه وعودوا الصبر وضبط النفس بالإيمان.
وفى الحق أن المتعة من بقايا الجاهلية وهى كما قررنا من نوع اتخاذ الأخدان، فلما كان المؤمنون قريبى عهد بالجاهلية عد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك ضرورة لهم فى الحرب، فأذن بها للذين لا يزالون فى نفوسهم بعض العادات الجاهلية، ولذلك لم يؤثر عن أحد من المؤمنين الراسخين أنه استساغها كأبى بكر وعمر وعلى وأحد من المهاجرين الأولين والأنصار والسابقين، وهم كانوا يحضرون كل
(3/814)
حروب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مجاهدين، وكان فيهم شباب أقوياء فى أبدانهم كعلى بن أبى طالب، والجميع كانوا أقوياء ولعل الذين شكوا العزوبة من الأعراب أو ممن لا قدم لهم فى الإسلام فالنهى عنها ثابت بالقرآن الكريم ونسخ الإذن للضرورة ثابت بالسنة، ونقول متحدين أأباحها أحد فى حال السلم والإقامة حتى تبيحوها معشر الشيعة فى الحل والترحال والسلم والحرب فى السفر والحضر. ويجيء من لا حرمة للحقائق عنده لتبليغ كلامهم لأنه يبيح المحرمات، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ورابعها: أن ادعاء أن الحديث الناسخ خبر آحاد، ادعاء باطل، وذلك لأمرين:
(أ) أنه قاله فى جيش فتلقاه أكثر من خمسة وألف، فمستحيل أن يكون ناقله واحدا، بل الذى نقله يؤمن تواطؤه على الكذب، ونقله هذا الجمع إلى الأمة كلها، ففرض الآحادية باطل لا شك فى ذلك.
(ب) أن الأمة كلها أجمعت على ذلك ورمى على كرم الله وجهه وهو الوصى الأول عندهم ابن عباس فقال له إنك امرؤ تائه، ولقد كان ابن عباس فى وقت قول هذا الإذن غلاما، وكان فى مكة المكرمة، لم يهاجر أبوه إلى المدينة المنورة، ولذلك كان الوصف بأنه تائه، وصفا صحيحا من إمام الهدى على.
ونكرر القول هنا بأن أئمة الشيعة، أو الأوصياء فى لغتهم لم ينقل عن أحد منهم.
ولنختم الكلام فى المتعة التى هى أمر فاسد فى ذاته بكلمتين:
أولاهما: أن المتعة بحكم القرآن الكريم حرام، وإذا لم نلتفت إلى النص القرآنى (ولا يصح ذلك) لا تكون مباحة، لأن ما يكون معمولا به فى الجاهلية ويحرمه الإسلام، لا يقال أنه كان مباحا، ثم حرم، لأن الإباحة تقتضى أنه لم يكن فى ذاته قبيحا، وهو كذلك، بل يقال إنه قبل التحريم كان محل عفو، وكذلك كان التعبير فيما يحرمه، وقد كان أهل الجاهلية يستبيحونه عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ.
الثانية: نذكر ما يشترطه الشيعة فى شروط صحة المتعة مما ينأى بها عن معنى الزواج من كل الوجوه، لقد ذكروا لها شروطا وركنا.
أما الركن فهو إالايجاب والقبول، وأما الشروط فهى ثلاثة:
أولها: ذكر المهر، وهو الأجرة، فإذا لم يذكر الأجر تفسد المتعة، كالإجارة إذا لم تذكر الأجرة لا تنعقد الإجارة، فهى فى حقيقتها اجارة المرأة للمتعة كإجارتها للخدمة على سواء.
(3/815)
والشرط الثانى: ذكر الأجل أو المدة، وذلك لا بد منه فى الإجارة الخاصة بالأجير الوحد أو الأجير الخاص، بيد أن ذلك شرط فى الأجير الوحد إذا كانت الإجارة لمدة معلومة ولم تطلق من غير زمان كأن يستأجره لغير مدة على أن تكون الأجرة كل يوم، أو كل أسبوع كذا، أو كل شهر، والإجارة فى المتعة أخص من ذلك، لأن الأجرة فيها على مجموع المدة.
ثالثها: ويشترط لكى تستحق المرأة الأجرة كاملة أن تمكنه منها طول المدة، فإذا لم تقدم نفسها فترة من المدة المتفق عليها، فإنه ينقص من الأجرة بمقدارها، ومثلها فى ذلك من استأجر دارا ليسكنها، فتعذر الانتفاع بالسكن فيها مدة، فإنه ينقص من الأجرة ما يقابل الفترة التى تعذر الانتفاع فيها.
وقالوا فى أحكامها أن الولد الذى يجيء ثمرتها يثبت نسبه، ولكنه يقبل النفي، فإذا نفى النسب انتفى من غير لعان، وبذلك يكثر الأولاد الذين لا آباء لهم، إذ لا يوجد من يلحق نسبهم به، ولا حاجة إلى لعان فى نفى نسب إذ اللعان فى حال قيام الزوجية ولا زوجية.
وقد ذكرنا أن الانفصال فيها يتم بانتهاء المدة، كما تنتهى المدة بانتهاء مدة الإجارة تماما إذ كانت الاجارة الخاصة مقدرة بمدة معلومة، فهى إجارة لبضع المرأة، فحكمها كسائر الإجارات، وأيضا لا توارث بينهما، وعدتها استبراء الرحم بحيضتين بحيث لا تزيد على خمسة وأربعين يوما.
أيها الناس هذه هى المتعة، أو بعبارة أدق إجارة بضع المرأة لمدة معلومة فهل هى صالحة للتطبيق فى عصرنا إن فرضنا صحتها، وهو مستحيل، إنها لا تليق بكرامة المرأة، بل فيها أشد الامتهان لها، والنزول بها إلى مرتبة الخادم التى تستأجر فى شرفها وهى دون المرضع، ثم هى تكثر الأولاد غير الشرعيين.
فكروا أيها الناس إن كان ثمة موضع للتفكير.
إنها الزنا كما قال الإمام محمد الباقر، وابنه أبو عبد الله جعفر الصادق.
فهل مع هذه الأضرار الاجتماعية الخطيرة، نبيحها بغير إباحة الشرع لشبابنا، الذين لم يتزوجوا، ونقضى على الأسرة، ولا نقول لشبابنا ما قاله الرسول الأمين صلى الله تعالى عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أحصن للفرج، وأغض للبصر ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» .
أيها الناس أطيعوا الله ورسوله عليه الصلاة والسلام ولا تستمعوا إلى المتفيهقين المتعالين فى هذا الزمان، والله سبحانه وتعالى هو الهادى إلى سواء السبيل رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا، وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً.
(3/816)
تحريم ربا البيوع
551- ثبت أن تحريم ربا البيوع كان فى غزوة خيبر، أو أن تطبيقه كان واضحا فى غزوة خيبر، وربما كان تحريمه قبل ذلك، ولكنا نرى أول تطبيق كان فى غزوة خيبر أو مقترنا فى الزمان بها، فحق علينا أن نذكره ونحن نتكلم فيها، كما تكلمنا فيما تنبهنا له، من الأحكام العملية التكليفية التى ظهرت فى أثناء الغزوات التى ذكرناها من قبل.
وقبل أن نخوض فى بيان ما ذكر فى تحريم ربا البيوع فى غزوة خيبر نقول:
إن كلمة ربا فى الأحكام الشرعية تطلق بإطلاقين، أحدهما لغوي، والثانى عرفى إسلامى اصطلاحى فقهى، والقسمان متمايزان مختلفان.
فالقسم الأول: اللغوى هو ربا الجاهلية وهو ربا الديون بأن يقرض دينا، ويزيد فى الدين كلما زاد الأجل، فالزيادة تكون فى نظير الأجل، وهذه الزيادة هى الربا. وهو الذى نزلت الآيات القرآنية بتحريمه فى مثل قوله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا، لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا إلى قوله تعالى وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ. وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ.
والتحريم فى هذا النوع من الربا عام، سواء أكان القرض للاستهلاك أو الاستغلال، ومن يفرق بينهما يفسر الأحكام القرآنية كما يهوى، لا كما تدل عليه.
القسم الثانى: ربا البيوع، وهو ربا لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم سماه ربا، فهو حقيقة عرفية، وقد جاء فيه الحديث الشريف «الذهب بالذهب مثلا بمثل يدا بيد، والفضة بالفضة مثلا بمثل يدا بيد والبر بالبر مثلا بمثل يدا بيد، والشعير بالشعير مثلا بمثل يدا بيد، والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد، فقد أربي» .
ونرى من هذا أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم سماه ربا فهو ربا، وقد طبق النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك النوع من الربا فى غزوة خيبر، فحق لنا أن نتكلم ببعض القول فيه.
فقد جاء فى السيرة النبوية لابن هشام: قال ابن إسحاق: حدثنى يزيد بن عبد الله بن قسيط أنه حدثه ابن الصامت قال: نهانا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم خيبر عن أن نبيع أو نبتاع تبر الذهب بالذهب العين. وتبر الفضة بالورق العين، وقال: ابتاعوا تبر الذهب بالورق العين، وتبر الفضة بالذهب العين.
(3/817)
وأن معنى الحديث أن يباع الذهب بالذهب مثلا بمثل، والفضة بالفضة مثلا بمثل، فإن تعذرت المماثلة بين التبر والذهب العين، فإنه لا يصح البيع، بل يجب أن يتخالف الجنس فيباع تبر الذهب بالفضة، وتبر الفضة بالذهب لأن المماثلة فى هذه الحال غير واجبة.
ولقد جاء بعد ذلك الحديث السابق وهو أعم من الذهب والفضة وجاء بعد ذلك فى أحاديث أخرى التمر بالتمر مثلا بمثل يدا بيد أى اشتراط القبض فى الحال ثابت، ولا يصح التأجيل وأن الردئ لا يضاعف فى سبيل الجيد من هذه الأصناف، وقد ثبت فى غزوة خيبر، فقد جاء فى تاريخ الحافظ ابن كثير أن البخارى روى عن أبى سعيد الخدرى وأبى هريرة أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر، فجاء بتمر جنيب، فقال عليه الصلاة والسلام: أكل تمر خيبر هكذا؟
فقال: لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة، فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تفعل هذا بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا.
وإن هذا الحديث الصحيح يدل على أمور ثلاثة:
أولها: أن تطبيق ربا البيوع كان فى خيبر، ولعله كان ابتداء تحريمها.
وثانيها: أن الجنيب بلح جيد، وأن غيره دونه، ولذلك كانوا يلاحظون هذه التفرقة عند المبايعة، فالجنيب يبادل بضعفه، أو الاثنين بثلاثة، وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عن البيع بغير المماثلة فى التمر والبر والشعير والذهب والفضة، والملح، والزيت فى بعض الروايات، وغيرها من المطعومات.
ثالثها: الطريق فى التعامل بهذه الأشياء التى لا يصح البيع فيها إلا بالتماثل فى الكيل أو الوزن عند اختلافها فى الجودة، قد بينه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يبيع الرديء، ويشترى بثمنه جيدا وهذا الحديث الذى جاء فى خيبر روى فى معناه أن رجلا جاء إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وقال:
عندى بسر وأريد رطبا، فقال له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: بع البسر، واشتر رطبا.
وهذه الفتوى النبوية فيها فائدة لمن عنده بسر، وفائدة لغيره، ففائدة صاحب البسر أنه استبدل به رطبا، وهو ما يشبهه، وفائدة المشترى أنه أخذ البسر، وربما يبتغيه، وهناك فائدة لثالث، وهو أن يأكل من ليس عنده بسر، ولا رطب، فلا يحرم من البلح حرمانا كاملا.
وقبل أن نترك هذا الخبر الذى جاء تطبيقه فى غزوة خيبر لا بد من التعرض بالإجمال لموضوعين:
أحدهما حكمة التحريم، والثانى العلة القياسية التى يمكن أن يطبق فيها النص على غير هذه الأنواع من المبيعات.
(3/818)
الحكمة فى تحريم البيوع فيها إلا بالمثل:
552- إن هذه الأشياء التى ذكر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لا يصح بيعها إلا بما يماثلها كيلا أو وزنا، كالقمح والشعير، والملح، والذهب والفضة، هى من الضروريات للحياة، ومنع بيعها إلا بمثلها، وأن تكون مقبوضة يدا بيد، إنما المنع لكيلا يكون التبادل محصورا فى المالكين لها فقط، فإنه إذا ساغ بيع البر بالبر ملاحظا فيه أن الجيد يكون فى مقابل ضعف الرديء وكذلك الشعير والتمر والملح، فإن التبادل فيها يكون مقصورا على الذين يملكونها دون غيرها، وقد يؤدى ذلك إلى أن يحرم منها من لا ينتجونها ولا يملكونها، وإن ذلك قد يؤدى إلى احتجازها عمن لا يملكون وهم مضطرون إليها، فيكون توزيع الإنتاج بين الناس بالعدل والقسطاس المستقيم.
وإن ذلك يمنع الاحتكار أو يسد ذرائعه، وتكون الأقوات متوافرة لدى الناس، إذ أن ملاكها يكونون مضطرين لأن يبيعوها، ولا يختزنوها طلبا لحاجاتهم.
وإن النقدين الذهب والفضة، كانا ولا يزال الذهب مقياس قيم الأشياء، وبهما تقوم المنافع فى الثمرات والأثواب والأقوات، وإذا اتخذ المقياس النقدى موضعا للاتجار اضطربت الموازين، واختلت المقاييس، وكانت الاضطرابات الاقتصادية، وحسبك ما تراه الآن وقت أن تحلل الناس من الذهب، واستبدلوا بها النقد الورقي، وقد اضطربت فيه العلاقات الاقتصادية، وصعب التعامل من ضعف الأوراق وقوتها مما صعب الاتجار، وتعذر جلب الأرزاق فى أرض الله، وتكدسها فى أرض أخرى. ولقد ادعى بعض الكتاب من الأوربيين أن حديث الذهب بالذهب مثلا بمثل يدا بيد، والفضة والبر والشعير، وغيرها من المطعومات قد وضعه اليهود على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ليبعدوا العرب عن الاتجار، وتبقى التجارة فى أيديهم.
وذلك كلام لا تبرره الحقائق، للوجوه الآتية:
أولها: أن حديث بيوع الربا روته كل الصحاح، حتى كاد يخرج عن حد الأحاديث إلى ما يقرب من المتواتر، ومن المؤكد أنه مستفيض مشهور تلقته الأمة كلها بالقبول، والأحاديث المكذوبة لا يمكن أن يكون لها ذلك الوصف من الاستفاضة والشهرة.
ثانيها: أن هذا الحديث ثبت أنه طبق فى خيبر، وروى البخارى وغيره تطبيقه فى خيبر، وذلك فى الوقت الذى دكت فيه حصون اليهود دكا ولم يكن لهم قوة، ولم يكن لهم أمل إلا أن يكونوا زارعين يحرثون ويغرسون، ويصلحون النخيل، وسائر الأشجار، ولم يكن لهم قوة يستطيعون بها الاتجار، بل كانوا نتيجة الحرب أذلاء مستضعفين، وقد كانوا يريدون غير ذلك، فحيل بينهم وبين ما يشتهون.
(3/819)
ثالثها: أن اليهود المقيمين فى ظل الدولة الإسلامية فى أحكام العقود وشروط صحتها كالمسلمين، فلا يمكن أن يخالفوها، وهى مطبقة عليهم، وعلى المؤمنين على سواء، عملا بالقاعدة الإسلامية العادلة «لهم ما لنا وعليهم ما علينا» .
علة القياس فى الأموال الربوية:
553- هذه هى الحكمة، وهى المصلحة الاجتماعية والإنسانية فى بطلان البيع إلا مثلا بمثل يدا بيد وإن هذه الأموال التى ذكرت تحريم الفاضل فيها معلولة، أى أن الحكم يشتمل على هذه الأشياء المذكورة، وعلى غيرها مما يكون فى معناها، كالزيوت، والذرة، وغيرها مما يتحقق فيه معناها الذى اعتبر سببا للتحريم، أو علة له.
والفرق بين العلة والحكمة أن الحكمة هى المصلحة الثابتة التى تكون وصفا مناسبا للحكم، وغاية له يتعرفها المكلف مما احتوى عليه الأمر التكليفى.
والعلة هى الوصف المنضبط الذى يتحقق فى الأمر الذى جاء به التكليف، وكانت الحكمة متحققة فيه غالبا، فالفرق بينهما هو الانضباط، وأن العلة تكون وعاء للمصلحة التى هى العلة.
وقد اتفق الفقهاء الذين يقيسون الأمور غير المنصوص على حكمها على الأمور المنصوص على حكمها، اتفقوا على الحديث الشريف الوارد فى تحريم الأصناف المذكورة، والمروية بروايات مختلفة معلل المعنى وليس نصا تعبديا مقصورا على موضعه، وكذلك كل الأمور المتعلقة بمعاملات الناس، فالنصوص معللة أى تثبت فى كل موضع تثبت فيه العلة، قد اتفق الفقهاء على أن علة التحريم فى النقدين الذهب والفضة بأن لا بيع فيها إلا بالمثل يدا بيد هو الثمنية، وكونها ميزانا لقياس قيم الأشياء، ومقدار ما فيها من نفع يشبع حاجات الناس، فكل ما يتحقق فيه الثمنية يجرى فيه حكم الذهب والفضة.
وكان الاختلاف بين فقهاء القياس فى علة التحريم فى غيرهما، فقال أبو حنيفة وأصحابه: علة التحريم اتحاد التقدير بالكيل أو الوزن واتحاد الجنس، فالذرة بالذرة مثلا بمثل يدا بيد، لاتحاد الكيل واتحاد الجنس، وكذلك الزيت بالزيت، وحينئذ يحرم التفاضل، ويحرم تأجيل أحد العوضين، وكل ذلك فى الأمور التى يقر العرف التفاوت فيها كالحديد ونحوه، فإن التفاضل والتأجيل يجوز.
فأبو حنيفة رأى أن تكون العلة أمرا ماديا ظاهريا يصلح أن يكون جامعا بين الأمرين، والشافعى نظر فى غير الأثمان إلى كونه مطعوما، فجعل العلة فى منع التفاضل كونه مطعوما، إذ التفاضل فيه يؤدى إلى أن تحتكر الأطعمة فى يد منتجيها أو المستولين عليها، لأنه إذا جرى فيها التفاضل فى التعامل بها، بأن يبيع
(3/820)
البر الرديء بضعف البر الجيد، كان التعامل بين المالكين للبر ولا يأخذه من ليس عنده بر قط، وأنه إذا امتنع التفاضل فى مبادلة الجيد بالرديء، كان لا بد أن يأكل من ليس عنده جيد من البر ولا رديء، فإنه يلزم حينئذ أن يبيع الرديء ليشترى جيدا أو العكس، فيقع الطعام فى يد المحروم.
وأنه إن اتحد الجنس منع التأجيل ومنعت الزيادة، ويسمى التأجيل ربا النساء، ويسمى التفاضل ربا الفضل، هذا ما قاله الشافعي، وهو يتحد مع الحنيفة فى أن سبب منع التفاضل والتأجيل فى النقدين الذهب والفضة هو الثمنية، وأنها مقاييس القيم والمالية فى الأموال، فلا يصح أن تكون سلعة تباع وتشترى ويجرى فيها الاتجار، وإلا اضطراب الميزان، كما نرى الآن فى الأوراق النقدية، وما يترتب على علوها وانخفاضها من اضطراب اقتصادى.
وقالت طائفة من حذاق المالكية، أن العلة فى التحريم فى الأمور المنصوص على تحريم التفاضل والتأجيل فيها هى الطعم والادخار، بأن تكون من المطعومات، وأن تكون قابلة للادخار، فتكون من الأطعمة التى لا يفسدها الادخار كالبر والشعير والتمر، والملح، وما يشبهها من الأطعمة، والفواكه المجففة التى تدخر، كالزبيب ونحوه.
وذلك لأن كونها من الأطعمة، وقابلة للتخزين يؤدى للاحتكار الأثيم، والاحتكار من أسباب الأزمات ويزيدها حدة.
تنبيهات:
قبل أن نترك الكلام فى الربا الذى اقترن تحريمه بغزوة خيبر، فنزل فى إبانها، وهو ربا البيوع، لا بد أن نذكر أمورا ثلاثة هى توجيه الأنظار إلى الوقائع، وما يقترن بها، وما يجرى حولها.
أول هذه التنبيهات: هو الاجابة عما يجول فى النفس لماذا كان تحريم ربا البيوع فى خيبر؟
وتلك الإجابة.. أن فتح خيبر كان فتحا جديدا بالنسبة للعلاقات المالية التى يجرى فى ظلها التبادل المالى، فكانت فيها شرعية المزارعة والمساقاة ولم تكن تجرى كثيرا فى يثرب.
وثانيها: تحريم البيوع التى تؤدى إلى الاحتكار فى الأطعمة، وقد حرمه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تحريما قاطعا، فجعل أموالا معينة غير خاضعة للاتجار المطلق، لأن باب التجارة انفتح بغزوة خيبر، فكان لا بد من جعله فى إطار لا يؤدى إلى الاحتكار.
الأمر الثانى: أن الربا القوى وهو ربا الديون أو ربا الجاهلية حرام لا شك فيه لا يسع مسلما أن ينكره، أما ربا البيوع فلم يثبت إلا بالأحاديث الواردة فيه، وهى أحاديث لا تثبت قطعيا ويقينا، ولكن تثبت العمل.
(3/821)
ولقد كان ابن عباس رضى الله تعالى عنه ينكر ربا البيوع، ويقول أنه لم يثبت، وكان يقول مسندا لقول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم! «إنما الربا ربا النسيئة، وهو ربا الجاهلية» ولقد سئل الإمام أحمد ابن حنبل: ما الربا الذى لا يسع مسلما أن يجهله، فقال: أن يعطى الرجل دينا ويزيده فى الأجل فى نظير الزيادة فى الدين، وأن من ينكر أمرا علم من الدين بالضرورة يكون خارجا عن الإسلام.
الأمر الثالث: أنه مع الأسف أن كثيرين ممن كتبوا فى الربا، وحللوا وحرموا بغير ما أنزل الله، ومنهم من بلغوا مناصب تجعلهم مسئولين عن أقوالهم أمام الله وأمام الناس، من خلطوا بين ربا البيوع، وربا الجاهلية الذى ثبت بالقرآن الكريم، فضل عنهم فهم الربا، وضلوا فى أنفسهم، وأضلوا الناس ضلالا بعيدا، ولم يكن جهلهم لضرورة يعذرون فيها، بل كانت بين أيديهم أسباب العلم، فتركوها ليتعلقوا بما يرضى الناس ولا يرضى الله.
شرعية الجزية
554- كان أول تطبيق للجزية فى تيماء التى كان فتحها بعد خيبر، فقد جاء فى الصحيح أنها فرضت فيها الجزية على أهلها، فكان على أهلها جزية الرؤس، وعلى أرضها الخراج وهى جزية الأرض، والجزية فرضت بنص القرآن الكريم إذ يقول الله سبحانه وتعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ، وَهُمْ صاغِرُونَ أى خاضعون للحكم الإسلامى غير متمردين بل مندمجون، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وإن قتال خيبر ووادى القرى، واستسلام تيماء، كان من قتال أهل الكتاب، وقد بين الغاية وهى أن يسلموا أو يستسلموا، وفى الحال الأخيرة يدفعون الجزية عن يد، وهم خاضعون طائعون، وأنه يظهر أن أول جزية فرضت كانت فى تيماء.
وقبل أن نذكر ما عمله النبي صلي الله تعالي عليه وسلم في الجزية، نقول أنها ليست للإذلال، كما أخذ بعض الناس من ظاهر لفظ وهم صاغرون، إنما هى لأمرين:
أولهما: إظهار الطاعة للحاكم المسلم، وإمام المسلمين غير مضارين في دينهم، ولا مغيرين لعقائدهم ومبادئهم الدينية، ولا مرهقين فى أمرها.
ثانيهما: أنها تكون في مقابل ما يفرض علي المسلمين من فرائض مالية ليسهموا بها فى بناء المجتمع الإسلامي، فالمسلم يفرض عليه بحكم الإسلام أداء الزكاة، والدولة هي التي تجمعها، وتفرقها علي الفقراء والمساكين والعالمين عليها والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل، وفي سبيل الله تعالي يشمل الجهاد، وكل المصالح والمرافق العامة للدولة.
(3/822)
وعلى المسلم كذلك زكاة الفطر وكفارات النذور والأيمان والقتل الخطأ، والظهار، وفدية الصيام وكفارته، وكل هذه مغارم تصرف لعلاج آفات الفقر فى المجتمع.
فكان العدل يوجب أن يفرض على غير المسلم الذى يعيش فى ظل الإسلام فرائض تقابل ذلك، فكانت الجزية، وكان الخراج، يصرف منها على المصارف العامة للدولة الإسلامية التى تظل المسلم والكتابى على سواء، ولذلك كانت حاجات أهل الذمة تسد من بيت مال الجزية والخراج، من أجل هذين الأمرين فرضت الجزية، وإنها أمر عادل لا إذلال فيه، ولا شبه إذلال. ولكن طاعة وتسليم وخضوع للدولة ونظامها مع حرية التدين.
555- ولننظر فى نظام الجزية كما طبقه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان أول تطبيقه فى تيماء عقب خيبر، فنجد الحافظ ابن كثير فى تاريخه الكبير يذكر أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حمل أهل تيماء على الجزية وقال فى ذلك نقلا عن الواقدى «لما بلغ يهود تيماء ما وطئ به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خيبر وفدك ووادى القرى صالحوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على الجزية، وقدموا بأيديهم أموالهم» .
وهذا الخبر من الواقدى فى تاريخه، وزكاه أن الحافظ ابن كثير نقله واعتمده، وهو يدل على أن الجزية فرضت عقب خيبر أو فورها، ولم تطبق عليها لأنها فتحت عنوة، ولم تفتح صلحا، وكان المفروض أن يجلوهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكنه أبقاهم كما طلبوا، واحتفظ لنفسه بحق الإجلاء فى أى وقت شاء، وأجلاهم عمر من بعد ذلك عملا بما احتفظ به النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فلم يكن تطبيق الجزية عليهم لأنها لم تكن قد نزلت آية الجزية، وإنما كان ذلك، لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم رأى تأجيل الجلاء فى حقهم، لأنهم كانوا أقوياء، ولو أبقوا بالجزيرة العربية لاستطاعوا بكثرتهم أن يكون لهم سلطان، ولكيلا يجتمع فى جزيرة العرب دينان.
أما أهل تيماء فقد انتهوا مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم صلحا، ولم يقرر إجلاءهم، وكانوا فى أطراف الشام والجزيرة العربية، ولذلك لم يخرجهم الإمام عمر رضى الله تبارك وتعالى عنه، إذ هم ليسوا فى داخل الجزيرة، ولم يحتفظ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بحق إخلائهم.
وننتهى من هذا الجزء إلى أن الجزية فرضت قبل الفتح، ولم تكن شرعيتها بعد الفتح، ولكن الإمام ابن القيم يقرر أن الجزية لم تقرر إلا بعد الفتح «وأما هديه فى أخذ الجزية فما أخذ من الكفار إلا بعد نزول سورة براءة فى السنة الثامنة من الهجرة، فلما نزلت آية الجزية أخذها من المجوس، وأخذها من أهل
(3/823)
الكتاب، كما نصت آية سورة براءة التى تلوناها من قبل، وذكرنا معنى قوله تعالى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ.
ونميل إلى المثبت، ولا نميل إلى النافى، نميل إلى رواية أبى الفداء التى ذكرت أنه عقد الجزية على أهل تيماء، وإن كنا نرى أن ما ذكره ابن القيم له وجه.
وفى الحق أن أهل خيبر، لم يعقدوا عقد جزية قط، إلا ما كان فى تيماء. وأنه أوجب الجلاء عليهم، أى أهل خيبر، فلما حاولوا أن يبقوا فى الأرض زارعين غارسين وكان هو ورجاله مسئولين عن زراعة الأرض تركها مزارعة على أن حق الإجلاء ثابت، وهو الأصل، وكذلك فعل فى فدك.
صحيفة مكذوبة:
ولكن الباعث عند ابن القيم على نفى عقد الجزية لخيبر وجيه كل الوجاهة، ذلك أنه فى عبر التاريخ الإسلامى من بعد ذلك ادعوا- أى يهود- أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عقد معهم عقد جزية وقدموه وثيقة لهم، وهو مكذوب من كل الوجوه، ويحمل فى نفسه دليل كذبه.
وقد أثبت كذبه ابن تيمية من عشرة وجوه، ذلك أنه فى عصر ابن تيمية فى آخر القرن السابع، وأول القرن الثامن أنه راجت تلك الوثيقة المكذوبة عند من جهل بالسنة والمغازى، حتى أن بعض العلماء أو الأمراء طلب من شيخ الإسلام ابن تيمية أن يقرر ما اشتملت عليه تلك الوثيقة المكذوبة ويطلب العمل على تنفيذها لليهود والعمل بها فيسكن اليهود فى الجزيرة العربية فى مكانهم القديم، ولعلهم يريدون أن يختاروا فى وسط الجزيرة العربية مقاما لهم.
ولذلك تحرك الإمام ابن تيمية لبيان كذبها يكشف ما فيه، لأن ما فيها دليل التكذيب.
ومما بين كذبها أن فيها كما يدعون شهادة جمع من الصحابة ذكر منهم على بن أبى طالب وسعد بن معاذ. وسعد بن معاذ كان قد مات متأثرا بسهم عائر فى الخندق وقريظة، وهما كانتا قبل خيبر بسنتين.
ومنها أنه أسقط عنهم المكس والسخرة، ولم يكن للمكس والسخرة موضوع فى عصر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وأن الله تعالى قد أعاذ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه من السلف الصالح والرعيل الأول من فرض المكس والسخرة، فإن ذلك من وضع الملوك الظالمين الفاسقين.
(3/824)
ومنها أنه لم يذكر قط فى سيرة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا سيرة أحد من أصحابه مثل هذه الوثيقة.
ومنها أن هذه الوثيقة لم يذكرها قط أحد من علماء الحديث، لا فى الصحاح ولا فى السنن ولا غيرها، بل لم تذكر حتى فى الأخبار الموضوعة، فمن أين جاؤا بها إلا أن يكون ذلك من افترائهم البهات، كما لم يذكرها أحد من أهل الفقه والإفتاء، فهى كلام دخيل على الإسلام والمسلمين وهو افتراء من اليهود، فى عهد الحكام الغاشمين الجاهلين، ولم يذكروه إلى القرن الخامس حيث العلم الإسلامى يدون ويجمع، ويقول فى ذلك ابن تيمية رضى الله تبارك وتعالى عنه «ما أظهروه فى زمن السلف لعلمهم أنهم إن زوروا مثل ذلك ظهر بطلانه، فلما كان بعض الدول فى وقت فتنة وخفاء بعض السنة زوروا ذلك وأظهروه وساعدهم على ذلك طمع بعض الخائنين لله وللرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم يستمر لهم ذلك حتى كشف الله تعالى أمرهم.
وإنه بذلك يتبين أن اليهود ادعوا أن أهل خيبر لهم عقد جزية ليتخذوا منه سبيلا ليقيموا فى أرض خيبر بالحجاز، ولكن الله كشف أمرهم، وخيب رجاءهم.
ومهما يكن الأمر فإنه لم يكن من اليهود أهل عهد بجزية إلا أهل تيماء فى رواية الواقدى. والله تعالى أعلم، وقد تبين كذبهم من قولهم، وقد أعلنوا هذه الوثيقة المكذوبة بعد ثلثمائة من الهجرة، ثم زوروا مثلها سنة سبعمائة.
الجزية التى كان يأخذها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم:
556- نذكر بالإجمال الجزية التى كان يأمر بها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ويقول الواقدى أنه أخذها من أهل تيماء بعقدها وشروطه.
لقد قالوا أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يعين من تؤخذ منهم، وإن عين مقاديرها من مختلف الأجناس، وذكر بعض شروط عقدها والتزاماتها على ولى أمر المؤمنين والتزاماتها عليهم.
ولم يظهر لدى أهل السيرة والمغازى والآثار مقدارها إلا فى نصارى نجران الذين عقد معهم فى مرجعه من تبوك، وكان الاتفاق كما سنبين بالتفصيل من بعد، عندما نتكلم فى سياقنا على وفود نجران وغيرهم.
(3/825)
وخلاصة عقد الذمة أنه تضمن:
أولا: أنه لا يهدم لهم بيعة، ولا يمنع منهم قس من أداء شعائرهم الدينية، ولا يفتنون فى دينهم ما لم يحدثوا أحداثا يكون من شأنها نقض التزامهم.
وثانيا: أن يلتزموا أحكام المعاملات المالية الإسلامية، بحيث لو ثبت أنهم يأكلون ربا الجاهلية ترد عليهم ذمتهم لأنهم نقضوها.
ثالثا: أن يلتزموا بأحكام الحدود والقصاص، بحيث يجرى عليهم ما يجرى على المسلمين فيها على سواء، وقد أخذ من نصارى نجران الجزية من الثياب، أخذها منهم مجتمعين على قسطين الأول فى صفر، وكان ألف حلة، وفى رجب ألف مثلها إلى آخر العام أو إلى نهاية المحرم.
وللمسلمين أن يأخذوا على وجه العارية ثلاثين درعا يدرعون به، وثلاثين فرسا، يحاربون عليها، أو بعبارة عامة ثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزو بها المسلمون، والمسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليهم.
ولم تكن الجزية مقيدة بجنس، بل تصح بالدنانير والدراهم، كما تصح بالثياب، على حسب ما يقدرون عليه، وعلى حسب حاجة المسلمين إليه.
وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لما أرسل معاذ بن جبل ليجمع الجزية أمره أن يأخذ من كل رجل بلغ الحلم دينارا.
ولم يفرضها على النساء والعبيد والمرضى، بل فرضها على القادرين دون المؤمنين والعاجزين، وإن الجزية كانت تؤخذ من نصارى العرب، إلى أن أجلى عمر بن الخطاب النصارى عن الجزيرة العربية نفسها، وإن بقى بعضهم فى أطرافها كاليمن، فكانت تؤخذ منهم الجزية كما تؤخذ من اليهود المقيمين بها، ولم يغادروها إلى داخل الجزيرة.
ونلاحظ فى الجزية التى أمر بها الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أمورا ثلاثة:
أولها: أنها لم تكن معينة فى جنس، بل كان يعين على أساس التيسير عليهم، فكانوا تتيسر عليهم الدنانير فهى الأصل فى التقدير، وإن لم تتيسر الدنانير وتيسرت الثياب أو غيرها أخذ مما يتيسر عليهم أداؤه.
ثانيها: أنها ليست المقدار فى الجماعة. بل تنقص وتزيد على حسب حاجة المسلمين، وقدرة من يعطونها.
وثالثها: أنها تسقط أو تدفع جملة على حسب طاقة الدافعين من غير إفراط ولا تفريط.
(3/826)
سرايا بعد خيبر
557- بعد غزوة خيبر، وما تبعها من وادى القرى وتيماء، ما كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من حرب غير تعرف لاختبارها، وما يجرى فيها بعد الحديبية، ولقد تم كسر الشوكة اليهودية، والقضاء على القوة العسكرية اليهودية فى البلاد العربية، ومنعهم من أن يعملوا على بث العداوة والبغضاء بين العرب، وتحريض أعداء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا بد أن يكون بث سراياه حول مكة المكرمة، أو على مقربة منها، ليتعرف أخبارها وأحوالها فى مدة العقد، ولكى ينبذ إليهم عهدهم إن ثبت لديه منهم خيانة، أو استعداد لها، فإنه عليه الصلاة والسلام كان يأخذ للأمر أهبته قبل أن يقع عند توقعه، ولكنه لا يغدر، ولا يخيس فى عهوده مبتدئا.
ولذلك أخذ يبعث السرايا فى داخل الصحراء، وعلى مقربة من مكة المكرمة.
سرية أبى بكر الصديق إلى فزارة
558- يروى الإمام أحمد فى مسنده أنه بعث النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أبا بكر الصديق فى سرية إلى بنى فزارة، ولم يكن أبو بكر رضى الله تعالى عنه رجل الحرب، وإن كان من المجاهدين فى الصف الأول. ولكنه رجل رأى وتدبير، ومعرفة بحال العرب، وهو المدرك عند تعرف أحوال العرب، فيما يحيط بما يقرب من مكة المكرمة وما حولها.
وقد سار الصديق رضى الله تبارك وتعالى عنه بمن معه، حتى كان ببنى فزارة، فنزل عند الماء، وكان ذلك ليلا، ليباغتهم، فلما صلى الصبح بالمؤمنين معه شن الغارة بأصحابه، فقتلوا من بالماء وحالوا بينهم من النساء والرجال والذرية من فزارة، وبين الجبل الذى يكتنفهم، ورموا بالسهام بينهم وبينه لكيلا يجتازوا مكانهم.
وتتبعوهم حتى ساقوهم إلى أبى بكر عند الماء، وفيهم امرأة وابنتها، فنفل أبو بكر الابنة، وكانت ذات جمال، ولم ينل من هذا النفل شيئا حتى وصل إلى المدينة المنورة حيث يوزع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فلم يكشف ثوبا للفتاة.
ذهب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالجارية، فقال له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم:
هب المرأة لى، فقال له: يا رسول الله لقد أعجبتنى، وما كشفت لها ثوبا، فسكت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وتركنى، حتى إذا كان من الغد قال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما قال، ورد هو بما كان، وتكرر ذلك مرة أخرى من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ومنه، حتى انتهى الأمر
(3/827)
بأن قال له: هى لك يا رسول الله. وما كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يريدها لنفسه، ولكن يريدها لفداء المستضعفين من المؤمنين بمكة المكرمة، ولذلك بعث بها إلى مكة المكرمة ليفدى بها مستضعفين بمكة المكرمة، ففداهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بهذه المرأة.
وقد روى مثل هذا مسلم فى صحيحه والبيهقى فى دلائل النبوة.
سرية عمر بن الخطاب
559- أورد الواقدى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعث عمر بن الخطاب رضى الله عنه فى ثلاثين رجلا إلى بعض أرض هوازن وراء مكة المكرمة بأربعة أميال، أى أنها على مقربة من مكة المكرمة، ولقد كان عمر رضى الله عنه من أعرف الناس بالعرب طبعا وخلقا، وهو ذو الفراسة القوية، والبصيرة النافذة المدركة.
ويظهر أنه كان ذاهبا إلى هذه الجهة ليتعرف ويتخبر، لا ليقاتل فقط.
ومهما يكن فقد سار الفاروق ومعه دليل من بنى هلال، وكان يسير ليلا ويكمن نهارا، وهو يتعرف ما أمامه، وما وراءه حتى وصل إلى بعض هوازن فهربوا من لقائه ومن معه.
عاد عمر أدراجه من غير قتال، ولكنه عاد بزاد من المعرفة عن مكة المكرمة وما حولها، وقد أشار عليه أصحابه أن يذهب إلى خثعم، ولكنه أبى، لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يأمره بالذهاب إليهم، وهو يصدر عن أمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
سرية عبد الله بن رواحة إلى يسير اليهودى
560- كان اليهود وإن فقدوا القوة العسكرية فى أرض العرب لا تزال فلول منهم مبعثرين فى أرضهم ويخشى أن يكون منهم تجمع فى جزء منها، ويكون قوة تؤلب على الإسلام، ولذلك كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يتتبع أخبارهم ومن يظهر منهم، فيقضى عليهم أجزاء حتى يجعلهم جذاذا بدل أن يتجمعوا حوله.
روى الواقدى بسنده عن الزهرى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعث عبد الله بن رواحة فى ثلاثين راكبا، إذ بلغه أن يسير بن رزام اليهودى يجمع بنى غطفان ليغزو بهم، وبنو غطفان قد كانوا يمالئون اليهود فى خيبر، قبل أن يغزو النبى صلى الله تعالى عليه وسلم اليهود، وأنه حال بينهم وبين نصرتهم، حتى تمكن من دك حصون اليهود وفتحها.
(3/828)
ويظهر أن يسير بن رزام هذا أراد أن يحيى ذلك التعاون القديم، فبلغ ذلك محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم وهو الحذر الذى يمنع الشر قبل وقوعه.
ذهب إليه عبد الله بن رواحة، وأوهمه أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعث إليه ليستعمله على أرض خيبر، فيظهر هو ومن معه، فتبعهم بثلاثين رجلا من رجاله اليهود ومع كل منهم رديف من المؤمنين، ولما بلغوا مكانا معينا ندم يسير بن رزام على مسايرته ابن رواحة فيما قال، فأراد أن ينزع سيف عبد الله بن رواحة، ويهوى به عليه، ففطن له ابن رواحة، فزجر بعيره، وتمكن من يسير، فضربه ضربة قطعت رجله.
ولقد ضرب اليهودى عبد الله بن رواحة فى وجهه فشجه شجة عميقة.
وانكفأ كل رجل من المسلمين على رديفه من اليهود فقتله، ولم ينج منهم غير رجل واحد، ولم يصب من المسلمين أحد إلا شجة ابن رواحة.
ولقد قالوا أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تفل على شجة ابن رواحة فلم تتقيح ولم تؤذه حتى مات.
ونرى من هذا حذر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من اليهود، وتتبعهم، حتى لا تقوم لهم قائمة فى أرض العرب.
سرية بشير بن سعد إلى بنى مرة من فدك
561- بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى بنى مرة من فدك بشير بن سعد فى ثلاثين راكبا، فاستاق نعم بنى مرة، فقاتلوه، وقتلوا كل من معه، واستمر هو على القتال فقاتل وحده قتالا شديدا، ثم أوى إلى فدك، ونزل عند رجل يهودى، وكان غريبا أنه لم يغدر به، ثم كر راجعا إلى المدينة المنورة.
وقد بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لبنى مرة هؤلاء غالب بن عبد الله ليقتص للذين قتلوهم من المؤمنين، وليفلوا شوكتهم.
وكان معه عدد من الصحابة فيهم أسامة بن زيد رضى الله تعالى عنه وغيرهم، وقد اقتصوا لمن قتلوا من المسلمين، وكان مما حدث أن قتل أسامة بن زيد رجلا قال لا إله إلا الله محمد رسول الله،
(3/829)
فقد قالوا أنه قتل مرداس بن نهيك حليف بنى مرة، وقال عندما علاه بالسيف: لا إله إلا الله. فلامه الصحابة على ذلك، حتى سقط فى يده وندم على ما فعل.
ولما قدموا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال له: يا أسامة من لك بلا إله إلا الله؟
فقال: يا رسول الله إنما قالها تعوذ بها من القتل. قال: فمن لك يا أسامة بلا إله إلا الله، فوالذى بعثه بالحق مازال يرددها حتى تمنيت أن ما مضى من إسلامى لم يكن، وإنى قد أسلمت يومئذ ولم أقتله، وقال:
إنى أعطى الله عهدا ألا أقتل رجلا، يقول لا إله إلا الله أبدا.
مضى غالب بن عبد الله بما معه يقتص من الذين قتلوا المؤمنين، وتتبعهم حتى خضد شوكتهم، وولوا الأدبار ولم يعد لهم قوة فى الأرض يستطيعون أن يعيثوا بها فى الأرض فسادا.
وكان مع رحلة غالب هذا فى البلاد يتتبع جيوب اليهود، حتى صار على مقربة من مكة المكرمة وقد طهر كل جيوب اليهود، وأدب الأعراب حتى استقامت أمورهم.
سرية أبي حدود
562- كان لا يزال فى الجزيرة العربية من بقايا خيثم وغيرها من يحاول محاربة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن ظهر نور الإسلام فى البلاد العربية، وبدأ قويا يحملهم على التفكير السليم فى العقيدة، وإن لم يكن لتطهير العقول من رجس الوثنية، فاتقاء لسوء المغبة.
بلغه عليه الصلاة والسلام أن رجلا له مكانة فى قومه من خيثم يريد أن يجمع قيسا على محاربة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فبعث أبا الحدود، ورجلين من المسلمين، وقال لهم عليه الصلاة والسلام: «اخرجوا إلى هذا الرجل، حتى تأتوا منه بخبر وعلم» .
وأركبهم على ناقة عجفاء، وقال: تبلغوا على هذه.
خرج الرجال الثلاثة ومعهم سلاحهم، وتحسسوا أمر ذلك الرجل، فوجدوه يجمع من يجمع من الناس، أو على استعداد لأن يجمع، فقتلوه بسهم أصاب فؤاده، وانتهى أمره.
واستمر أبو الحدود فى سريته حتى بعثه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى أضم، ونزلوا بطنه وقد مر رجل اسمه عامر بن الأضبط النخعى، فألقى السلام، فقتله رجل من المؤمنين اسمه مجشم ابن جثامة لعداوة كانت بينهما مع أنه ألقى السلام، إذ جاء غير مقاتل، ولا مريد للقتال.
وقد حدثت أمور فى هذه السرية الصغيرة دلت على مباديء سامية فى الإسلام.
(3/830)
أولها: أن أبا الحدود الذى بعثه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى هذه السرية كان قد ذهب لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يطلب مهر زواجه، وأن ذلك يدل على مدى قوة التعاون بين المؤمنين فى تلك الفترة من تاريخ الإسلام التى تعد نورا لكل الأزمان إن اتبع المسلمون مباديء الإسلام.
فقد روى أن أبا الحدود هذا الذى بعث بهذه السرية ذهب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وقد تزوج امرأة من قومه فأصدقها مائتى درهم، ذهب إليه عليه الصلاة والسلام يستعين به على زواجه منها، فقال له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: كم أصدقتها؟ قال: مائتى درهم، فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: سبحان الله، والله لو كنتم تأخذونها من واد مازدتم، والله ما عندى ما أعينك به.
وقد أرسله على رأس هذه السرية لعله يصيب ما يصدق به امرأته.
وثانيها: أنه لا يصح قتل من ألقى السلام؟ لأن السلام يدافع، ولا يقتل من يسالم فقد نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً، تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا، فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ، كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً، وذلك عند قتل مجشم بن جثامة عامر بن الأضبط، وقد أسف ذلك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: «اللهم لا يغفر لمجشم» وكان دعاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك لأنه قتل نفسا بغير حق، وأن الله لا يغفر ذنوب من يعتدى على حقوق العباد، إلا بعفو ممن اعتدى عليه.
وقد طالب عيينة بن بدر بدم عامر بن الأضبط، وهو سيد قومه بنى عامر.
وقد كان الطلب تأخر إلى غزوة حنين فيما يظهر من السياق، فطلب إليه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يقبل خمسين بعيرا، حتى يرجع إلى المدينة المنورة فيعطيه خمسين، فرد، ثم قبل من بعد.
وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد دفع الدية من بيت مال المسلمين وأن ذلك أكمل تعاون، وأكمل حرص على الدماء، مع أنه ثبت أن المقتول لم يكن قد أسلم.
وقد قال علماء السنة والسيرة أن السرايا والبعوث التى جاءت بعد خيبر ووادى القرى- لم تكن سرايا ذات خطر فى توجيه الحروب، ولكنها كانت لحوادث صغيرة، أو لبث روح الإجلال للإسلام، وفل شوكة من يريدون للإسلام نكاية، أو للتعرف بأحوال العرب، أو هى أشبه بالدوريات التى تمر بالبلاد احتياطيا، وتأديبا لكل من تحدثه نفسه بالاعتداء على المسلمين بأى نوع من الاعتداء.
(3/831)
عمرة القضاء
563- كان اتفاق النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى عقد صلح الحديبية على أن يبعد عن مكة المكرمة هذا العام، وحتى لا يتحدث الناس أنه دخلها على الرغم من أهلها، ثم يدخلها فى العام المقبل معتمرا، من غير سلاح إلا ما يحمل باليد ويمكث ثلاثة أيام يسعى ويطوف، ثم يتحلل.
فلما جاء ذو القعدة اتجه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى العمرة التى سميت عمرة القضاء، كما سميت عمرة القصاص، لأنها كانت قصاصا من صد المشركين للمؤمنين عن العمرة، وقالوا إنه نزل فى ذلك قوله تعالى: وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ.
ونرى أن النص السامى «والحرمات» إنما نزل فى القتال فى شهر الحرام، فقد قال تعالى الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ، وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ أى إذا انتهكوا حرمة البيت وصدوا عنه، وانتهكوا حرمات الشهر الحرام، فعليهم أن يتوقعوا مثل ما فعلوا، فالحرمات قصاص.
اتجه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى العمرة، ودعا الذين حضروا الحديبية إليها، ومن أراد من غيرهم الاعتمار، فما عليه من حرج فى ذلك، ولكن العمرة واجبة بالنسبة لمن أحرموا لها فى الحديبية، ولم يتموها، كمن شرع فى صوم فعلا، ثم يفطر بعد النية، فإنه عليه قضاء ذلك اليوم، وقد ابتدأ فعلا بالأداء، فلما لم يتمه صار واجبا عليه القضاء.
خرج مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم معتمرون من المدينة المنورة، وساقوا الهدى، وقالوا إن الهدى فى عمرة القضاء هذه كان بعضه من البقر ورخص لهم ذلك.
وقد نوى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلاحرام من ميقاته، وكان يلبى عليه الصلاة والسلام، والمسلمون يلبون معه، وكان محمد بن سلمة على الخيل والسلاح، وسار بها إلى مر الظهران، فالتقى بنفر من قريش، ويظهر أن ذلك أرهب قريشا وأفزعهم.
سألوا محمد بن سلمة فقال: هذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصبح غدا فى هذا المنزل إن شاء الله تعالى. ورأوا سلاحا كثيرا مع بشير بن سعد ومحمد بن سلمة.
خرج النفر من قريش إلى مكة المكرمة فأخبروهم بالذى رأوا من السلاح ففزعت قريش، وقالوا:
ما أحدثنا حدثا، وإنا على كتابنا وهو عهدنا فلم يغزونا؟
(3/832)
وبعثوا إليه مكرز بن حفص فى نفر منهم، حتى لقوه ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى أصحابه، والهدى والسلاح قد تلاحقوا.
قالوا: يا محمد، ما عرفت صغيرا ولا كبيرا بالغدر، تدخل بالسلاح فى الحرم على قومك، وقد شرطت لهم ألا تدخل إلا بسلاح المسافر، السيوف فى القرب.
فقال لهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: إنى لا أدخل عليهم بالسلاح. حينئذ اطمأنت قريش.
ساق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الهدى يرعى فى الزرع والثمر وهو يلبى كما ذكرنا والمسلمون من ورائه يرجعون تلبيته، وحبس الهدى بذى طوى.
وقد خرجت قريش من مكة المكرمة إلى رؤس الجبال، وأخلوا مكة المكرمة، وقالوا: لا ننظر إليه ولا إلى أصحابه، غضبا من هذه الزيارة المباركة ولخشية أن يكون النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه يميلون قلوبهم للوحدانية واتباع الهدى، فإن النظر إلى الفعال يؤثر بأكثر مما تؤثر الأقوال.
ومنهم من كان يذهب به الفضول إلى تعرف ما يفعله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه، فقد روى ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: صفوا إليه عند دار الندوة لينظروا إليه وإلى أصحابه، ولقد طاف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهرول فى ثلاثة أطواف، وسعى بين الصفا والمروة، وأرسل فى بعضها، مظهرا أنه وأهل الإيمان عندهم القوة، والقدرة إذا كانت ساعة الجد، وذلك لأن قريشا قالوا عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: إنه يقدم عليكم، وقد وهنتهم حمى يثرب.
فلما دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم اضطبع بردائه، فجعل بعضه تحت عضده اليمنى، وجعل طرفه على منكبه الأيسر، وقال: «رحم الله امرآ أراهم اليوم من نفسه قوة» ثم استلم الركن، وخرج يهرول، ويهرول أصحابه حتى استلم الركن اليمانى، مشى حتى يستلم الحجر الأسود، ثم هرول كذلك ثلاثة أطواف.
وظن كثيرون أن هذه الهرولة، وهى المشية التى تظهر فيها القوة، خاصة بالحال التى كان فيها المسلمون وهى ظن المشركين أنه قد وهنت قوتهم، وأضعفتهم الحمى.
ولكن لما كانت حجة الوداع، هرول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى الطواف ثلاث مرات، فكانت سنة مشروعة واجبة الاتباع.
(3/833)
وقد روى الشيخان البخارى ومسلم من حديث ابن عباس رضى الله تعالى عنهما «قدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم صبيحة رابعة ذى القعدة سنة سبع، فقال المشركون، إنه يقدم عليكم، وقد وهنتهم حمى يثرب، فأمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا بين الركنين، ولم يمنعه أن يرسلوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم» .
وهكذا نجد كل المشقات التى يكلفها الإسلام تكون فى الطاقة، ولا تكون إرهاقا وقد ظنوا كما أشرنا أن هذه الهرولة لقول المشركين ما قالوا، ولكنها ثبت أنها سنة- كما قلنا- بحجة الوداع.
جاء فى الواقدى: لما قضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نسكه، دخل البيت، فلم يزل فيه، حتى أذن بلال الظهر فوق ظهر الكعبة الشريفة، وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أمره بذلك وكان بين من هم حول دار الندوة بعض رجال من قريش، كما أشرنا فكان منهم عكرمة بن أبى جهل فذكر أباه، وقال: لقد أكرم الله أبا الحكم، أن لم يسمع هذا العبد يقول ما يقول، وقال صفوان بن أمية: فقد أكرم الله أبى قبل أن يرى هذا، وقال خالد بن أسيد: الحمد لله الذى أمات أبى ولم يشهد هذا اليوم، حتى يقوم بلال ينهق فوق البيت.
ورجال غير هؤلاء من قريش لما رأوا ذلك غطوا وجوههم، وهكذا انتصر النبى عليه الصلاة والسلام والمسلمون من بعد ما ظلموا، وغاظوا بالإيمان أهل الشرك.
أقام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى مكة المكرمة ثلاثة أيام أدى شعائر العمرة ونال أجر مجاورة البيت هو وأصحابه، وقريش فى غيظ وكمد، لأن دعوة التوحيد وشعار التوحيد دخل مكة المكرمة، وهم يرون، ولا يستطيعون حولا.
وفى اليوم الثالث، كانت هناك رغبتان: رغبة الود والرحمة من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه وهى إقامة وليمة يتناولون معا طعاما ما يكون عربون السلام الدائم من بعد ذلك، ورغبة أخرى مناقضة، هى النعرة الشديدة وإبداء العداوة والبغضاء.
فى اليوم الثالث جاءه حويطب بن عبد العزى فى نفر من قريش ليخرجوا الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، قد وكلتهم قريش لإخراج الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، فقالوا له: قد انقضى أجلك فاخرج عنا.
فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: وما عليكم لو تركتمونى فأعرست (أقسمت) بين أظهركم، وصنعنا لكم طعاما فحضرتموه، فقالوا: لا حاجة لنا فى طعامك، فاخرج عنا.
(3/834)
لم يكن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم محاربا، بل داعيا إلى الله، حيثما وجد إلى الدعوة سبيلا، فهو لا بد أن يقرب بالمودة داعيا هاديا مرشدا مهما تكن نفرتهم، فهو مطالب بإدناء القاصى، وإيناس النافر، مهما تكن الأحوال، فانتهز هذه الفرصة ليلتقى بهم، ويدعو بالحق فيهم.
ولقد لقى فعلا بعضهم، ودعاهم إلى الحق، وإن لم يكن فى داخل المسجد الحرام.
ولقد تزوج صلى الله تعالى عليه وسلم ميمونة بنت الحارث، تأليفا للقلوب وإدناء لها، بإشارة عمه العباس بن عبد المطلب، وهى أخت امرأته، ولذلك تولى هو صيغة الزواج مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، إذ جعلت أمرها إلى أختها أم الفضل، وكانت هذه مع العباس رضى الله تعالى عنه فوكلت أم الفضل زوجها العظيم الذى شارك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى صيغة العقد، ولم يكتف بذلك، بل دفع العباس صداق زواجها من ابن أخيه أربعمائة درهم، أثابه الله تعالى على محبته لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وحدبه العظيم عليه فى شدته بين قريش، وفى نصرته، بعد أن أدال الله من دولة الأوثان.
خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وفاء بالعهد، واستجابة لقريش الذين رفضوا مودته، ولكنه خلف مولاه أبا رافع، ليكون مع زوجه أم المؤمنين ميمونة، حتى أتاه بسرف قرب التنعيم فوافى فيها زوجه، وبنى بها ثم عاد إلى المدينة المنورة فى ذى الحجة.
ولقد كانت هذه العمرة تأليفا وتقريبا، وإن حاول المشركون أن يبعدوا ولا يقربوا، وأن ينفروا ولا يتوادوا، ولكن كان منهم من لانوا للإسلام، واتخذوا سبيلهم للإيمان، وحسبك أن تعلم أنه كان عقب هذه العمرة إسلام خالد بن الوليد، الذى سمى سيف الإسلام، فكان سيفا مشهورا فى كل الحروب فى عهد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعد ذلك، وفى عهد أبى بكر وأكثر عهد عمر رضى الله عنهم أجمعين.
عمرة القضاء فى القرآن الكريم
564- كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد رأى رؤيا صادقة أنه سيدخل المسجد الحرام مع أصحابه محلقين رؤسهم ومقصرين، وقد كان بعد هذه الرؤيا صلح الحديبية، وما كان فيه، وتحلل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال عمر غضبان أسفا: ألم تعدنا بأن نطوف، فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: ما وعدتك هذا العام، ولقد بين الله أن صدق الرؤيا كان فى عمرة القضاء، لا فى الحديبية، وإن كانت الحديبية أول الفتح، أو التمهيد له، فقال تعالى:
(3/835)
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ، لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ، لا تَخافُونَ، فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا، فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً، يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ، ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ، فَاسْتَغْلَظَ، فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ، يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً.
حكم شرعى فى عمرة القضاء
565- كانت عمارة بنت سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب تقيم فى مكة المكرمة مع أمها سلمى بنت عميس. وذلك أن بعض القرشيين مع إرسالهم حويطبا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، يطلبون منه الخروج، أتوا عليا، فقالوا: قل لصاحبك اخرج عنا فقد مضى الأجل.
ولما خرج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ومعه على رضى الله عنه- تبعته عمارة هذه ابنة سيد الشهداء تنادى: يا عم، يا عم، فتناولها على، فأخذها بيده، وقال لفاطمة الزهراء: دونك ابنة عمك لحمايتها.
ثم قال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «علام نترك ابنة عمنا يتيمة بين ظهرانى المشركين» فلم ينه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عن إخراجها معهم.
ثم تنازع فيها إليه ثلاثة، ولكل واحد منهم صلة خاصة بها. وكل يدعى أنه أحق بها من غيره تنازعها زيد بن حارثة، وعلى بن أبى طالب، وجعفر بن أبى طالب.
وحجة زيد التى يدلى بها أن حمزة كان أخاه فى المؤاخاة، فقد آخى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بين زيد وحمزة، فطالب بها على أنه أولى الناس بها، لأنه وصيها، وابنة أخيه فى الإخاء.
وطالب بها على لأنها ابنة عمه، فهو أولى بها، وهو الذى أخرجها من المشركين فله ولاؤها وولايتها.
وطالب بها جعفر، لأنها ابنة عمه، ولأن خالتها زوجه، وهى أسماء بنت عميس.
وتحاكم الثلاثة إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فحكم لجعفر، وقال: أما أنت يا زيد فمولى الله تعالى ومولى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأما أنت يا على فتشبه خلقى وخلقى، وأنت يا جعفر أولى بها تحتك خالتها، ولا تنكح المرأة على خالتها، ولا على عمتها، فقضى بها لجعفر.
(3/836)
فلما قضى بها لجعفر، قام فحجل حول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: ما هذا يا جعفر، قال: يا رسول الله كان النجاشى إذا أرضى أحدا، قام فحجل حوله.
وقال جعفر للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: إنها ابنة أخى من الرضاعة......
فزوجها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سلمة بن أبى سلمة، فهو صلى الله تعالى عليه وسلم لم يتركها حتى زوجها.
وإن هذه القصة أفادت أحكاما فى الحضانة وفى الولاية على النفس، وفى ولاية التزويج فى الحضانة، فقد أثبت فى الحضانة أنه لا بد أن تمسك الحاضنة عند ذى رحم محرم، وجعفر كان ذا رحم محرم، وكان محرما لها، لأنها ابنة أخيه رضاعا وامرأته خالتها، ولا يتزوجها على خالتها. وأفادت أن الولى على النفس بالنسبة للزواج لا يشترط أن يكون ذا رحم محرم، فإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم زوجها، وهو عاصب ليس ذا رحم محرم منها.
وأثبت أن الأولياء إذا كانوا فى مرتبة واحدة زوج أفضلهم، فكان جعفر وعلى، ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أولاد عم، فزوج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
ودل الخبر على أن الولى العاصب الأقرب إذا غاب قام فى الولاية من يليه فى القرب، والولى الأقرب هو العباس رضى الله تبارك وتعالى عنه، وكان قد أسلم، وهو عمها، والباقى أولاد عمها، فهو أقرب منهم جميعا، ولكنه كان غائبا، فيتولى التزويج من يليه، فتولى أفضل من يليه.
سرية ابن أبى العوجاء السلمى
566- كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لا ينى عن الدعوة إلى الإسلام، لأنه رسالته، وهو يستمع دائما إلى قوله تعالى يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ.
فكان يدعو إلى الإسلام، ويقرب القلوب وهو فى مكة المكرمة، وقد أثمر ثمراته فى أهل مكة المكرمة بعد ذلك فكانوا يدخلون فى الإسلام طالبين الرفعة عن طريقه.
فلما انتهت عمرة القضاء، فى ذى الحجة فى السنة السابعة أخذ يوجه الدعوات إلى الجزيرة العربية فأرسل بعدها أبا العوجاء إلى بعض القبائل على قرب من ثلة فى خمسين فارسا يدعو إلى الإسلام أو العهد، أو القتال.
(3/837)
وقد كان لهم عين بالمدينة المنورة فذهب وأخبرهم بسرية الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وحذرهم فجمعوا جموعا كثيرة.
فجاء ابن أبى العوجاء وهم مستعدون، فلما رآهم أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وتجمعهم دعوهم إلى الإسلام، فلم يجيبوهم بالقول الرافض، ولكن أجابوهم بالعمل المقاوم، فرموهم بالنبل، وقالوا لا حاجة لنا إلى ما دعوتم إليه.
وجعلت الإمدادات تجيء إليهم، حتى أحدقوا بالخمسين فارسا من المؤمنين من كل جانب، وقاتل المؤمنون قتالا شديدا، حتى قتل أكثرهم، وأصيب ابن العوجاء بجراحات كثيرة، فتحامل حتى رجع بمن بقى من أصحابه.
وهكذا كانت التضحيات فى سبيل الدعوة من أهل الغدر والنفاق.
إسلام خالد بن الوليد
567- قلنا أن عمرة القضاء كانت فرصة لتقريب البعيد، وإيناس الغريب عن الإسلام بمبادئه، والربط بالمودة، وإذا كانت نفوس جافية لم تستجب لداعى المودة والرحم، فإن العقلاء قد سرت إلى نفوسهم دعوة الحق، وأخذوا يرون الإسلام فى علاء، وعرفوا ذلك من منطق القوة، ومنطق الهداية ومنطق العقل، وقد زالت الغمة، وكشفت الحقائق، وكان من هؤلاء وعلى رأسهم خالد بن الوليد، الذى سمى بحق من بعد سيف الإسلام، وإن لم ينل مرتبة المجاهدين الأولين والبلاء بلاء، والقوى كلها تكاتفت على المسلمين.
لقد كانت نفس خالد المدركة التي تحس مائلة عن الشرك إلي دعوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان يرى أنه يخوض في الدفاع عن الشرك إلي غير غاية.
ولنترك الكلمة، لما روى خالد بن الوليد فى حديثه عن إسلامه.
قال: لما أراد الله تعالي بي ما أراد من الخير قذف في قلبي الإسلام، وحضرني رشدي فقلت، قد شهدت هذه المواطن كلها علي محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، فليس لي موطن أشهده- أو أنصرف وأنا أري أني موضع في غير شيء، وأن محمدا سيظهر، فلما خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلي الحديبية خرجت في خيل المشركين، فلقيت رسول الله بأصحابه بعسفان، فقمت بإزائه، وتعرضت له، فصلى الظهر أمامنا فهممنا أن نغير عليهم، ثم لم يعزم لنا، وكانت فيه خير. فاطلع علي ما في أنفسنا مما ألهم به، فصلي بأصحابه صلاة العصر صلاة الخوف، فوقع ذلك منا موقعا فقلت:
الرجل ممنوع فاعتزلنا، وعدل عن سير خطنا وأخذ ذات اليمين.
(3/838)
فلما صالح قريشا بالحديبية ودافعته قلت فى نفسى أى شيء بقى أأذهب إلى النجاشى؟ فقد اتبع محمدا وأصحابه عنده آمنون، أفأخرج إلى هرقل فأخرج من دينى إلى نصرانية أو يهودية؟ أفأقيم فى دارى؟.
فأنا فى ذلك إذ دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى عمرة القضاء، فتغيبت، ولم أشهد حضوره.
وكان أخى الوليد بن الوليد قد دخل مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى عمرة القضاء فطلبنى، فلم يجدنى، فكتب إلى كتابا فإذا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فإنى لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام، وعقلك عقلك، ومثل الإسلام ما جهله أحد، وقد سألنى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عنك، وقال:
أين خالد، فقلت: يأتى الله تعالى به، فقال: ما مثله يجهل الإسلام؟!، ولو كان جعل نكايته وحده مع المسلمين كان خيرا له، ولقدمناه على غيره، فاستدرك يا أخى ما قد فاتك من مواطن صالحة» .
فلما جاءنى كتابه نشطت للخروج، وزادنى رغبة فى الإسلام، سؤال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عنى، وأرانى فى المنام كأنى فى بلاد ضيقة مجدبة، فخرجت فى بلاد خضراء واسعة، فقلت إن هذه لرؤيا، فلما أن قدمت المدينة المنورة قلت لأذكرنها لأبى بكر، فقال: مخرجك الذى هداك الله تعالى للإسلام، والضيق الذى كنت فيه من الشرك.
فلما أجمعت الخروج إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قلت: من أصاحب إلى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم!!، فلقيت صفوان بن أمية، فقلت: يا أبا وهب، أما ترى ما نحن فيه، إنما نحن كأضراس، وقد ظهر محمد صلى الله تعالى عليه وسلم على العرب والعجم، فلو قدمنا على محمد واتبعناه، فإن شرف محمد شرف لنا، فأبى أشد الإباء، وقال لو لم يبق غيرى ما اتبعته أبدا، فافترقنا وقلت هذا رجل قتل أخوه وأبوه ببدر، قلت فاكتم على فلقيت عكرمة بن أبى جهل، فقال مثل ما قال صفوان بن أمية فخرجت إلى منزلى فأمرت براحلتى، فخرجت بها إلى أن لقيت عثمان بن أبى طلحة، فقلت إن هذا لى صديق فلو ذكرت له ما أرجوه، ثم ذكرت من قتل من آبائه فكرهت أن أذكره، فقلت وما على، وأنا راحل من ساعتي، فذكرت له ما آل الأمر إليه، فقلت إنما نحن بمنزلة ثعلب فى جحر لو صب عليه ذنوب من ماء لخرج، وقلت له نحوا مما قلت لصاحبى، فأسرع الإجابة وقلت له إنى غدوت إليهم، وأنى أريد أن أغدو، وهذه راحلتى ... فأدلجنا سرا، فلم يطلع علينا الفجر، حتى التقينا فغدونا حتى انتهينا إلى الهدة. فوجدنا عمرو بن العاص، بها، فقال: مرحبا بالقوم، فقلنا: وبك، فقال إلى
(3/839)
أين مسيركم؟ فقلنا وما أخرجك؟ فقال وما أخرجكم؟ قلنا الدخول فى الإسلام، واتباع محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، قال وذلك الذى أقدمنى، فاصطحبنا جميعا حتى دخلنا المدينة المنورة، فأنخنا بظهر الحرة ركابنا فأخبر بنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فسربنا فلبست من صالح ثيابى، ثم عمدت إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فلقينى أخى فقال: أسرع فإن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد أخبر بك فسر لقدومك، وهو ينتظركم، فأسرعنا المشى، فاطلعت عليه، فما زال يبتسم لى حتى وقفت عليه، فسلمت عليه بالنبوة، فرد على السلام بوجه طلق، فقلت إنى أشهد أن لا اله إلا الله، وأنك رسول الله صلى الله تعالى عليك وسلم، فقال تعال، ثم قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «الحمد لله الذى هداك، قد كنت أرى لك عقلا، ورجوت ألا يسلمك إلا إلى خير» قلت يا رسول الله، إنى قد رأيت ما كنت أشهد من تلك المواطن عليك مما أبرأ منه فادع الله أن يغفر لى ذلك، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «الإسلام يجب ما كان قبله» ، قلت يا رسول الله على ذلك فقال صلى الله تعالى عليه وسلم «اللهم اغفر لخالد بن الوليد، كل ما أوضع فيه من صد عن الله ورسوله» .
هذا ما نقله الواقدى بالرواية عن إسلام خالد بن الوليد.
وذكرناه بطوله، لأنه حكاية نفسه، وبيان خواطره، وبيان ما وجهه إلى الإسلام توجيها نفسيا، أهو الاعتقاد الجازم الذى ينبعث من النفس، أم هو المصلحة، ولا يمنع أن يكون الباعث هو المصلحة، ثم يشرب قلبه حب الإيمان، ويكون من الصادقين فى إيمانهم، ثم يكون من بعد ذلك من المحاربين فى الإسلام، وربما يكون من المجاهدين، إن صح التعبير.
كان خالد ممن لم يدخلوا مكة المكرمة من قريش غيظا من الإسلام وأهله وكراهية- عندما دخل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مكة المكرمة معتمرا حاجا. فدل هذا على النفرة الشديدة من الإسلام وأهله، ولكنه جاء بعد ذلك وأراد أن يكون مع المسلمين، ولم يكن كعمر الفاروق الذى كان ألبا على المسلمين ثم رق قلبه للإسلام وقذف الله فى قلبه بنوره، فكان قوة فى الإسلام، وفارقا بين الضعف والاختفاء، والقوة والاستعلان، فى وقت ضنت فيه الألسنة عن الحق، والقلوب عن الإيمان، ولا كحمزة أسد الله، فإنه لم يقف قط ضد الإسلام، وأسلم ابتداء حمية لابن أخيه، ثم صار بطل الجهاد، لا بطل الحرب، فقد يكون بطل الحرب غير مجاهد، وقد يكون بطل الجهاد لم تعرف له فى الحرب مكيدة، كبلال وعمار، وغيرهما من المؤمنين الأولين الذين كانوا اللبنة الأولى فى بناء الإسلام، وعلى بلائهم وأذاهم قام الإسلام.
(3/840)
كان خالد فى إسلامه ليس واحدا من هؤلاء ولا كواحد منهم، ولكنه فكر وقدر فى البقاء على وثنية مكة المكرمة، أتكون مصلحته، أم المصلحة فى أن يسير فى الركب لتحفظ له مكانة المحارب الفذ والقائد النادر المثال.
وجد مكة المكرمة قد سدت ولم تكن مكان العزة، ورأى محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم هو ومن معه يعلون ولا ينخفضون، فهو إلى علاء، ومن فى مكة المكرمة إلى غيره أو استسلام له.
ونفذ إدراكه إلى سر فى علو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو أنه ممنوع بمنع الله تعالى كالذى تسرب إلى نفسه وهو فى خيل المشركين يرقبون صلاة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم بأصحابه.
ولكن كأن ومضة نفسية، لا نقول إنها انطفأت، ولكن نقول إن سباق تاريخ نفسه بنفسه يدل على أن ذلك لم يكن هو المسير الموجه إلى إيمانه.
بل كان الموجه أولا- أنه رأى أن لا مقام له بمكة المكرمة حيث سدت أبواب مظاهر النبوغ.
ثم كان الموجه ثانيا- أنه لم يكن له ملجأ فى الحبشة، لأن أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم سبقوه، والنجاشى يؤمن بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم ويحبه، وفكر فى أن يلجأ إلى الروم، وينتقل من دين قومه إلى اليهودية أو النصرانية، وربما كان ذلك فاتحا له باب النور، ليخرج من دين قومه إلى دين رجل من قومه، شرفه شرفهم، كما عبر هو.
ثم كان الموجه ثالثا- الكتاب الذى بعث به إليه أخوه الوليد وقد ذكر فيه سؤال رسول الله وذكره، وذكر عقله، وذكر أن له موضعا فى حروب المسلمين تعرف فيها مكانته، وتتميز فيها قيادته.
اتجه إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم لهذه الأمور، ولم يكن منها إيمانه بالعقيدة إيمانا دافعا مؤمنا مطمئنا مهديا، إلا أن يكون ما لاحظه من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إذ حول الصلاة القائمة إلى صلاة خوف، عندما حدثته نفسه إبان ذلك إلى الانقضاض على المؤمنين فى صلاتهم.
ولما ذهب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وتطلق البشير النذير فى وجهه، رضى بالإسلام دينا، وغفر الله تعالى له لدعوة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم له بالغفران.
وإنا لا ننقص من مقام خالد بن الوليد القائد المحارب ذى الدربة فى القتال، إذا قلنا إنه ابتدأ دخوله فى الإسلام بأنه رأى فى دخوله فيه المصلحة بعد أن صارت القوة الوحيدة فى البلاد العربية للإسلام- لأنه إذا رأى فى ذلك مصلحة شخصية دنيوية، فإنها كانت باب النور إليه، ودخل الإسلام قلبه، وصار مؤمنا بالله واليوم الآخر، والملائكة والنبيين.
(3/841)
ولعل ما قلناه هو السر فى أن عمر بن الخطاب فاروق الإسلام الذى لم يفر أحد فريه فى الإسلام، لم يكن يعامله معاملة المطمئن إليه، وإن كان يقدر مقدرته الحربية.
إسلام عمرو بن العاص
568- يتشابه إسلام عمرو بن العاص مع إسلام خالد بن الوليد، وإن كان فى إسلام خالد معان توميء إلى أنه أدرك بعض معانى الوحى، بدليل ما لاحظه فى صلاة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وإدراكه أن الله تعالى مانع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنه غير مسلمه وإدراكه مكانة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بين العرب والعجم، وأن شرفه هو شرف قريش، بل كانت المصلحة الدافعة أوضح فى عمرو بن العاص.
لو نذكر كيف دخل الإسلام قلبه بما حكاه الواقدى عنه.
يقول عمرو بن العاص: «كنت للإسلام مجانبا معاديا، حضرت بدرا مع المشركين فنجوت، ثم حضرت أحدا فنجوت، ثم حضرت الخندق فنجوت، فقلت فى نفسى: والله ليظهرن محمد على قريش فلحقت بمالى، وأقللت من الناس (أى من لقائهم) ، فلما حضر الحديبية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وانصرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى الصلح، ورجعت قريش إلى مكة المكرمة، جعلت أقول يدخل محمد قابلا مكة المكرمة، ما مكة المكرمة بمنزل ولا الطائف، ولا شيء خير من الخروج، وأنا بعد ناء عن الإسلام، وأرى لو أسلمت قريش كلها لم أسلم، فقدمت مكة المكرمة، وجمعت رجالا من قومى، وكانوا يرون رأيى، ويسمعون منى، ويقدموننى فيما نابهم فقلت لهم كيف أنا فيكم، فقالوا ذو رأينا، ومدرهنا فى يمن نفس، وبركة أمر. قلت تعلمون أنى والله لأرى أمر محمد أمرا يعلو الأمور علوا منكرا وإنى قد رأيت رأيا. قالوا وما هو؟ قلت: نلحق بالنجاشى فنكون معه، فإن يظهر محمد كنا عند النجاشى، ونكون تحت يد النجاشى أحب إلينا من أن نكون تحت يد محمد، وإن تظهر قريش فنحن من قد عرفوا. قالوا: هذا الرأى- قلت فاجمعوا ما نهديه له.
جمعوا أحب ما يهدى إليه وهو الأدم، وذهبوا إلى النجاشى.
ثم يقول عمرو بن العاص فى لقائه مع النجاشى، فو الله إنا لعنده إذ جاء عمرو بن أمية الضمرى وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد بعثه بكتاب كتبه يزوجه أم حبيبة بنت أبى سفيان، فدخل عليه، ثم خرج من عنده، فقلت لأصحابى: هذا عمرو بن أمية الضمرى، ولو دخلت على
(3/842)
النجاشى فسألته اياه، فأعطانيه فضربت عنقه، فإذا فعلت ذلك سرت قريش وكنت أجزأت عنها حتى قتلت رسول محمد.
فدخلت على النجاشى، فسجدت له، كما كنت أصنع، فقال: مرحبا بصديقى أهديت لى من بلادك شيئا!! قلت نعم أيها الملك أهديت لك أدما كثيرة. ثم قدمته فأعجبه، وفرق منه شيئا بين بطارقته، وأمر بسائره فأدخل فى موضع وأمر أن يكتب ويحتفظ به، فلما رأيت طيب نفسه قلت: أيها الملك إنى رأيت رجلا خرج من عندك، وهو رسول عدو لنا قد وترنا، وقتل أشرافنا وخيارنا فأعطنيه فأقتله.
فغضب من ذلك ورفع يده، فضرب بها أنفى ضربة، ظننت أنه كسره، فجعلت أتلقى الدم بثيابى، فأصابنى من الذل ما لو انشقت بى الأرض لدخلت فيها فرقا منه.
ثم قلت: أيها الملك لو ظننت أنك تكره ما قلت ما سألتك، فاستحيا وقال: «يا عمرو تسألنى أن أعطيك رسول من يأتيه الناموس الأكبر الذى كان يأتى موسى، والذى كان يأتى عيسى- لتقتله» .
قال عمرو: فغير الله قلبى عما كنت عليه، وقلت فى نفسى: عرفت هذا الحق العرب والعجم، وتخالف أنت، ثم قلت: أتشهد أيها الملك بذلك؟
قال الملك: نعم أشهد عند الله يا عمرو، فأطعنى واتبعه، فو الله إنه لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه. كما ظهر موسى على فرعون وجنوده. قلت: أتبايعنى على الإسلام، قال نعم. فبسط يده، فبايعنى على الإسلام، ثم دعا بطست، فغسل عنى الدم، وكسانى ثيابا، وكانت ثيابى قد امتلأت بالدم فألقيتها.
ثم خرجت على أصحابى، فلما رأوا كسوة النجاشى سروا بذلك، وقالوا هل أدركت من صاحبك ما أردت؟ قلت: كرهت أن أكلمه فى أول مرة، وقلت: أعود إليه، فقالوا الرأى ما رأيت ففارقتهم، وكأنى أعمد إلى حاجة، فعمدت إلى موضع السفن، فأجد سفينة قد شحنت وتدفع فركبت معهم، ودفعوها، حتى انتهوا إلى الشعبة.
وخرجت من السفينة، ومعى نفقة، وابتعت بعيرا، وخرجت أريد المدينة المنورة مررت على الظهران ومضيت حتى إذا كنت بالهدة، فإذا رجلان قد سبقانى بغير كثير يريدان منزلا، وأحدهما داخل فى الخيمة، والآخر يمسك الراحلتين، فنظرت فإذا خالد بن الوليد، فقلت أين تريد قال محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم. دخل الناس فى الإسلام، فلم يبق أحد، والله لو أقسمت لأخذ برقابنا كما يؤخذ برقبة الضبع فى مغارتها، قال عمرو وأنا والله أردت محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم أو أردت الإسلام، فخرج عثمان بن أبى طلحة فرحب بى فنزلنا جميعا فى المنزل، ثم اتفقنا حتى أتينا المدينة المنورة فما أنسى
(3/843)
قول رجل لقيناه ببئر أبى عنبة يصيح يا رباح يا رباح فتفاء لنا، بقوله وسرنا، ثم نظر إلينا، فأسمعه يقول: قد أعطت مكة المكرمة المقادة بعد هذين فظننت أنه يعنينى، ويعنى خالد بن الوليد، وولى إلى المسجد سريعا، فظننت أنه بشر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بقدومنا، فكان كما ظننت وأنخنا بالحرة، فلبسنا من صالح ثيابنا، ثم نودى بالعصر فانطلقنا على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وإن لوجهه تهللا والمسلمون حوله قد سروا بإسلامنا فتقدم خالد بن الوليد فبايع، ثم تقدم عثمان بن أبى طلحة فبايع، ثم تقدمت، فوالله ما هو إلا أن جلست بين يديه فما استطعت أن أرفع طرفى حياء منه، فبايعته على أن يدعو الله سبحانه وتعالى أن يغفر لى ما تقدم من ذنبى، فقال إن الإسلام يجب ما قبله والهجرة تجب ما قبلها، فوالله ما عدل بى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وبخالد بن الوليد أحدا من أصحابه فى أمر حزبه منذ أسلمنا» .
نقلنا الحديث بطوله، وكنا نود أن نحذف الجزء الأخير، وهو أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لم يعدل أحدا من أصحابه. فإنا لا نحسب يمينه فى هذا برة إن كانت صحيحة النسبة إليه، لقد كانت بعد ذلك غزوة مؤتة وتبوك وفتح مكة المكرمة وهوازن وحنين فلم يعدل بهما على بن أبى طالب والزبير بن العوام وأبا عبيدة عامر بن الجراح، وسعد بن أبى وقاص. إن هذه اليمين غير البرة فرية عليه أو غير ذلك، ولماذا كان اللواء لزيد بن حارثة، ثم لجعفر بن أبى طالب، ثم لعبد الله بن رواحة، ولم يتولها خالد إلا حيث لم يكن وال يحملها.
ومهما يكن من أمر هذه اليمين، فإن ما جاء على لسانه يدل كما دل كلام صاحبه على أن إسلامهم ابتداء كان لمصلحة، وقد أشرب قلوبهم الإيمان من بعد.
هذا عمرو كان يقول لو أسلمت قريش كلها ما أسلم، ثم يخرج ببعض قومه ليحرض النجاشى على المؤمنين، ويحاول أن يتمكن من قتل رسول من عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيلطمه النجاشى لطمة جدعت أنفه. هذه اللطمة هى التى نبهته إلى الحق، أم نبهه غضب النجاشى، وإرادة إرضائه. ليس فى الوقائع التى ذكرها ما يدل على أنه رأى فى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن الله مانعه، فهو لم ير شيئا من ذلك، ولذلك نقول إن إسلامه كان لمصلحته الشخصية الدنيوية ولعل الإسلام قد دخل قلبه من بعد ذلك حتى صار إيمانا، وهذا ما رجحناه.
وفى قصة عمرو بن العاص عن نفسه ما يدل على أنه رجل لا يظهر فى الهيجاء، ويبغى لنفسه الانحياز عن مواطن الردى، فهو يحضر بدرا، وينجو، وأحدا وينجو، والخندق وينجو، ويظهر أنه لم يقتل ولم يقاتل بل كان من النظارة أو المدبرين، كما كان شأنه فى القتال بين إمام الهدى على بن أبى طالب ومعاوية يدبر فى حرب البغاة.
(3/844)
وسيأتى من الأنباء مقامه هو وخالد بجوار صحابة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الذين رضى الله تعالى عنهم، ورضوا عنه فى بيعة الرضوان.
سرايا للتعرف في البلاد
569- أخذ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، يرسل سرايا لمعرفة البلاد وحال القبائل، وخصوصا التى لا يأمن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم جانبها.
فقد بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شجاع بن وهب فى أربعة وعشرين إلى جمع من هوازن وأمرهم أن يغيروا عليهم، وكان بعثه يسير الليل ويكمن النهار، جاؤهم على غرة، وأوعز شجاع إلى أصحابه إلى ألا يمعنوا فى الطلب، فأصابوا نعما كثيرة وشاء، فاستاقوا ذلك، حتى قدموا المدينة المنورة، فكانت سهامهم خمسة عشر بعيرا لكل رجل.
ثم قدم أهلوهم مسلمين، فشاور النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أميرهم فى رد السبايا إليه، فردهن، ويقول الحافظ ابن كثير فى تاريخه: قد تكون هذه السرية هى المذكورة فيما رواه الشافعى عن مالك عن نافع أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعث سرية قبل نجد. فكان فيهم عبد الله بن عمر، فأصابت إبلا كثيرة. فبلغت سهامنا اثنى عشر بعيرا. ونفلنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعيرا بعيرا وإنا نحسب أنهما سريتان. إحداهما قبل نجد والآخرى أرسلت إلى هوازن.
إلي بني قضاعة
570- أخذت سرايا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تتجه إلى أرض الشام ليرتادوا الأراضى التى تتاخم أرض الشام، فيتعرف حالها تمهيدا، أو كشفا للغزوة التى تتجه إلى الشام من بعد، فبعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كعب بن عمير الغفارى إلى بنى قضاعة من أرض الشام فى خمسة عشر رجلا، فوجدوا جمعا منهم كبيرا فدعوهم إلى الإسلام، فلم يستجيبوا لهم، ورشقوهم بالنبل. فلما رأى ذلك أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قاتلوهم أشد قتال وكانوا قلة فكاثرهم المشركون بكثرتهم حتى قتل المؤمنون فى سبيل الدعوة إلى الإسلام، وكان فى القتلى جريح اشتدت جراحه، حتى ظن أنه بين الموتى، فما أن أقبل الليل حتى تحامل حتى وصل إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فهم بأن يبعث إليهم، فبلغه أنهم انسابوا فى الصحراء إلى موضع آخر.
وقد يسأل سائل لماذا يرسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم سرايا قليلة العدد يتغلب عليهم المشركون بالكثرة التى لا قبل لهم بها، فيقتلون جميعا أو كثرتهم.
(3/845)
ونقول فى الجواب عن ذلك، إن سرايا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كانت ابتداء للتبليغ والدعوة، ولكنهم كانوا يلتقون بقوم غلاظ لا يجيبون، وإن أمكنتهم الفرصة يقاتلون، وقد رأينا فى هذه السرية الأخيرة، كيف كانت الدعوة إلى الإسلام ابتداء، فردوا ثم رشقوهم بالنبال، ثم قتلوهم، فما ذهبوا مقاتلين، ولكن ذهبوا داعين إلى الحق مبلغين رسالة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الأمين.
غزوة مؤتة
571- كان الإسلام يسرى سريان النور، والشام لم يكن بعيدا عن البلاد العربية، بل كانت به قبائل من العرب، فالغساسنة منهم، وإذا كان الإسلام يسرى نوره فيعم الآفاق القربية فقد كان من عرب الشام من دخل فى الإسلام، أو كان من العرب من سافر إلى الشام.
وأولئك المسلمون، وإن كانوا عددا قليلا ضاقت بهم صدور النصارى حرجا، فقتل والى الشام من قبل الرومان من أسلم من عرب الشام، ولا بد أن يحمى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه أولئك الذين يفتنون عن دينهم لتمنع الفتنة عنهم، ويقول فى ذلك ابن تيمية فى رسالة القتال: إن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما بعث إلى حرب الروم فى مؤتة إلا بعد أن قتل الوالى الرومانى من أسلم فى الشام.
هذه كانت بعض الأسباب فى سرية مؤتة وقد كان هناك سبب مباشر قوى، وهو أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعث الحارث بن عمير الأزدى بكتابه إلى الشام، ثم إلى ملك الروم فعرض له شرحبيل بن عمرو الغسانى، فأوثقه رباطا، ثم قدمه فضرب عنقه، ولم يقتل من رسل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم غيره إلى ذلك الوقت، فاشتد ذلك عليه حين بلغه الخبر، وكان لا بد أن يقف أمام هذا الغدر بقوة، ولو كانت مقابل قوة الرومان.
وذلك لأنهم فتنوا المؤمنين، بقتل بعضهم فكان ذلك إرهابا لمن يهم بالدخول فى الإسلام ولأنهم قتلوا رسول النبى الأمين صلى الله تعالى عليه وسلم فى وقت قد صارت عند النبى صلى الله تعالى عليه وسلم القوة الفاصلة العليا فى البلاد العربية، فكان لا بد لذلك من أن يقاوم ذلك الغدر، لأن السكوت يكون ذلة لأهل الإيمان، وذلة للعرب أجمعين، وهم بصدد أن يقوموا بدعوة الحق وحماية الشعوب من طغاتها.
فى جمادى الأولى من السنة الثامنة بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعثة إلى البلقاء من الشام، وكانت عدتها ثلاثة آلاف رجل، ولعلها أكبر الغزوات إلى الآن عددا.
(3/846)
وجعل الأمير على هذه البعثة زيد بن حارثة، فإن قتل زيد كان الأمير جعفر بن أبى طالب، فإن قتل جعفر كان الأمير عبد الله بن رواحة، فإن قتل، فليرتض المسلمون رجلا يكون أميرا عليهم، فلما فصلوا عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الشام، ومضوا حتى أرض الشام، فبلغ الناس أن هرقل قد نزل فى ماب من أرض البلقاء فى مائة ألف من الروم وانضم إليهم عدد من نصارى العرب، وبلغ عدد من انضم مائة ألف أخرى.
عندما رأى جيش الإسلام ذلك كان منه من راعه العدد والسلاح، وقالوا نكتب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا، لنمضى إليه، عندما سمع عبد الله بن رواحة ذلك الكلام المتردد. وقف وقال:
يا قوم، والله، إن التى تكرهون للتى خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد، ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذى أكرمنا الله به، فانطلقوا، فإنما هى إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة.
قال الناس بعد هذا الكلام المؤمن القوى: قد والله صدق ابن رواحة، وتقدم جيش الرومان، وإن كانوا يبلغون مائتى ألف، وتقدم جيش الإسلام وهو يؤمن بقوله تعالي: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ تقدم المؤمنون فى غير وجل من كثرة عدد العدو، وقلتهم.
تقدم الصفوف زيد بن حارثة، وهو يحمل راية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان على ميمنة الجيش رجل من بنى عذرة اسمه قطبة بن قتادة، وعلى الميسرة رجل من الأنصار اسمه عباية بن مالك وانتحى المسلمون قرية من قرى البلقاء، فالتقوا بالرومان عندها.
وإذ كان المؤمنون قد أخذتهم ابتداء رهبة العدد والسلاح، فقد أخذت الرومان رهبة الإيمان، وإذا كان قد استطاع المؤمنون أن يتغلبوا على ما أصاب نفوسهم من فزع العدد، فإن المائتى ألف لم يستطيعوا أن يتغلبوا على فزعهم من أنهم يلقون قوما مؤمنين أحب اللقاء إليهم لقاء ربهم.
قد التقى الفريقان، الفريق المؤمن، وهو يهاجم دفاعا عن أهل الإيمان الذين قتلهم والى الرومان، ودفاعا عن كرامة الإسلام التى أهينت بقتل رسول الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وكرامة العرب وهم مزودون بمعان دافعة، وكان جيش الرومان الكثيف فى عدده وعدته، لا غاية له إلا أن يرد هؤلاء المزودين بالقوة المعنوية، وبنصرهم السابق، ولذلك كان اتجاههم إلى قتل حملة الراية التى هى رمز التقدم إن تقدم حاملها، إذ كلما تقدم زاد الهجوم قوة واحتداما وهم خائفون من هذا الهجوم، وإن النبى صلى الله
(3/847)
تعالى عليه وسلم ألهم، وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (النجم 3- 5) ، ألهم، أن حملة الراية سيكونون المقصودين، فرتب الولاية بينهم فجعلها لزيد بن حارثة لقوة إيمانه، وليعلم أنه لا شرف إلا بالإيمان والعمل الصالح، ثم تكون لجعفر بن أبى طالب الذى هاجر مرتين، لكى يعلم الناس أنه لا يضن بأهله عن مواطن الردى، ثم لعبد الله بن رواحة ولم يجعلها من بعده لأحد، ولم يكن خالد من بين الأمراء الذين ذكرهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم واصطفاهم لأنه كان قريب عهد بالإسلام.
كان هم جيش الروم أن يرد المهاجمين، ولذلك اتجه إلى القواد، وجعلهم غايته، فقتلهم واحدا بعد واحد، وكان هم جيش المؤمنين أن ينتصفوا لإخوانهم الذين فتنوا فى دينهم فقتلوا من الرومان مقتلة عظيمة، حتى قال خالد بن الوليد إنه أبدل فى يده ستة سيوف، ولم يبق إلا صفحة يمينة، فسل نفسك لم كان يخشى السيف فى يد خالد من هؤلاء، الذين سارت فيهم قوة الإيمان، كما تسير السكين فى قطعة الزبد.
وأولئك القواد العظام الذين عينهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ما كان ليقتل إلا بعد أن عبروا، ولا يلقى الراية من يده إلا بعد رقاب عدد من الكافرين من النصارى واليهود فزيد حب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وحامل رايته قتل عددا حتى قتل.
وجعفر بن أبى طالب حامى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، قاتل حتى أحس بأن فرسه لا تسعفه، فنزل عنها، وأخذ يقاتل راجلا، وراية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يحملها على يمينه، فلما قطعوها حملها على شماله، فلما قطعوها حملها بين يديه، حتى قتل، فكان فى الجنة الطيار ذلجناحين.
وهكذا كان عبد الله بن رواحة كصاحبيه أقدم عليها من غير تردد، فكان كالصاعقة على الكافرين، حتى استشهد، وهو حامل الراية.
ولا يصح أن تسقط راية المؤمنين، وانتهى أمرها إلى ثابت بن أقوم بن العجلان، ولكنه أحس بأنه دونها، فقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت! قال: ما أنا بفاعل، فاصطلحوا على خالد بن الوليد، فلما حملها أخذ يقاتل، وسيفه البتار يقطع الرقاب.
ولكنه وهو القائد المدرك علم أنه وإن كانت الجولة إلى الآن للمؤمنين، ولو قتل حاملو الراية لا بد أن يزحمهم الروم ونصارى العرب ويهودهم بكثرة العدد، لأنها تطيل القتال، ولا تتحمل القلة الطول مهما يكن ما عندهم من معنويات صابرة مؤمنة.
(3/848)
اتجه خالد إلى الانحياز تمهيدا لانسحاب منظم، وفى هذا الوقت ابتدأت قوات الروم بتخاذل بعضها من العرب، وبعضهم انضم إلى خالد عند انسحابه. يحكى ابن إسحاق أنه كان من حدس كاهنة، حين سمعت بجيش النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مقبلا، قالت لقومها من حدس، قالت لهم أنذركم قوما خرزا (أى مبصرون مدركون) ينظرون شزرا، ويقودون الخيل تترى، ويهريقون دما عكرا. فأخذوا بقولها واعتزلوا من بنى لخم، وكان من الذين صلوا الحرب يومئذ بنو ثعلبة، فلما انصرف خالد بالناس انصرفوا معه وعادوا قافلين إلى أرضهم.
فالجيش الرومانى، لم يكن متماسكا، وإن كان كثير العدد، لتعدد الأجناس فيه، فلم تغن كثرتهم عنهم شيئا، ونجا المسلمون منهم، ونجواهم بأنفسهم، وإن جرحوا جرحا شديدا.
عندما رأى خالد كثرة الكافرين، كما ذكرنا، أخذ يبدل فى مواقف جيشه، فجعل الميمنة ميسرة، والميسرة ميمنة، والصدر خلفا والخلف صدرا فظنوا أنه قد جاءه المدد، فلهذا أنزل الله تعالى فى قلوبهم الرعب من لقاء المسلمين فاثروا النجاة بأنفسهم، ولم يتبعوا جيش المسلمين فى تراجعهم، ورضوا من الغنيمة بالإياب، وأخذ خالد بجيش الإيمان، حتى عاد إلى المدينة المنورة سالما به، لم يفقد فى هذه المعركة إلا اثنى عشر قتيلا منهم الأمراء الثلاثة زيد بن حارثة، وجعفر، وعبد الله بن رواحة رضى الله تعالى عنهم جميعا، وتسعة معهم، فكان عدد القتلى اثنى عشر قتيلا.
ولكن لم يتعود أهل المدينة المنورة أن تعود إليهم جنودهم من المعركة، حتى فى أحد بقيادة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
وقد نال المشركون منهم نيلا وجراحا فلم يعد الجنود من المعركة فارين أو شبه فارين، بل كان الجمع الذى أصيب بالجراح قد أخذ يكر وراء المشركين كرا، وتبعهم إلى حمراء الأسد راجعين فارين من تجدد اللقاء، ورضوا بالإياب.
لم يعجب أهل المدينة المنورة صنيع الجيش الذى قاده القائد المدرك بالانحياز ثم الانسحاب، لأنهم لم يتعودوه، وسموهم الفرارين، وأخذ الصبيان يحثون التراب على وجوههم، وقد خرج إليهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مستقبلا فأمر بتنحية الصبيان إلا أولاد جعفر بن أبى طالب فضمهم إليه، وقال إنهم الكرارون، أو العكارون، كما جاء فى بعض الصحاح والسنة، وسماهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم متحيزين إلى فئة، فهو فئة المسلمين، وكان ذلك تطبيقا لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
(3/849)
لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ. وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ، إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
وتحيزوا إلى فئة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فدخلوا فى استثناء الآية، ولم يدخلوا فى موضع نهيها.
نتيجة الغزوة
572- انتهت هذه الغزوة بنجاة الجيش الإسلامى من أن يقع فريسة لجيش الكفر، المتكاثف، وحسب ذلك نصرا مبينا، وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أدرك قبلها نتيجة المعركة، فإنه عندما علم أن خالدا تولى القيادة، وحمل الراية قال: تولى الراية سيف من سيوف الله يفتح الله تعالى عليه، وما كانت لتسمى النتيجة فتحالو كانت النهاية أن يرضى الجيش من الغنيمة بالإياب.
ولقد قال بعض كتاب السيرة أن النتيجة كانت السلامة، ولم تكن نصرا.
ولكنا نقول أنها كانت نصرا لأسباب:
منها أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم سماها فتحا، وسمى الذين عادوا إلى المدينة المنورة كرارا.
ومنها أن المسلمين ساقوا غنائم ولم يؤخذ منهم شيء.
ومنها أن قتلى المؤمنين كانوا اثنى عشر، وقتلاهم لا تحصى عددا، فقتلى المسلمين كانوا أقل عددا، وفيها كان النصر المؤزر، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله تعالى هى العليا.
ولقد قال فى ذلك الحافظ ابن كثير فى تاريخه: «هذا عظيم جدا، أن يتقاتل جيشان متعاديان فى الدين أحدهما وهو القلة التى تقاتل، فى سبيل الله وعدتها ثلاثة آلاف، وأخرى كافرة، وعدتها مائتا ألف مقاتل، من الروم مائة ألف، ومن النصارى العرب مائة ألف، يتبارزون ويتصاولون، ثم مع هذا كله لا يقتل من المسلمين إلا اثنا عشر، وقد قتل من المشركين خلق كثير، هذا خالد وحده يقول: لقد اندقت فى يدى تسعة أسياف وما بقيت فى يدى إلا صفحة يمانية، فماذا ترى قد قتل بهذه الأسياف كلها.
دع غيره من الأبطال الشجعان من حملة القرآن الكريم وقد تحكموا فى عبدة الصلبان، عليهم لعنة الرحمن ذلك الزمان وفى كل أوان، وهذا مما يدخل فى قول الله تعالى: «قد كان لكم آية فى
(3/850)
فئتين التقتافئة تقاتل فى سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأى العين، والله يؤيد بنصره من يشاء إن فى ذلك لعبرة لأولى الأبصار» .
وإننا نرى أن هذا يشبه ما قرره الله تعالى من أن عشرين صابرين يغلبوا مائتين، وأن مائة صابرة تغلب ألفا، وأنه عند قوة الإيمان وقوة الصبر يكون المؤمن الصابر يغلب مائة.
وقد كان ثلاثة آلاف قد غلبوا مائتى ألف، وصدق قول الله تعالى: «يا أيها النبى حرض المؤمنين على القتال، إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا، بأنهم قوم لا يفقهون» هذا هو الحق.
إن غزوة مؤتة أول غزوة تخرج عن دائرة الجزيرة العربية إلى دائرة أراض تحت سلطان الرومان، فإذا كانت النتائج تكون على هذه الشاكلة، فإن النصر سيكون لجيش الحق بإذن الله تعالى، وقد كان، فكانت اليرموك وما بعدها فى عهد الراشدين، فكانوا يفرون كما تفر الشاة أمام الأسود.
وإذا كانت بدر أول انتصار فى الأرض العربية، فمؤتة أول انتصار مؤزر خارج الجزيرة العربية، وهو ابتداء ليس له انتهاء أو مبتدأ له خبر.
سرية ذات السلاسل
573- عندما أرسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى بلاد الشام سرية من ثلاثة آلاف لمنع فتنة الرومان للمسلمين، ولتأديب الغساسنة الذين قتلوا رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأقبل الرومان فى جيش بلغ تعداده مائة ألف، وانضم من أعراب الشمال من لخم وجذام وطييء وغيرهم مما ضاعف البلاء على المسلمين، ولكن كانت الغالبة، فكانت الفئة التى تقاتل فى سبيل الله هى الغالبة، وقد ذكرنا ذلك.
ما كان للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه أن يتركوا هؤلاء الأعراب من غير تأديب، وكما قال الله تعالى: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ (التوبة- 97) فكان لا بد أن يمنعهم من أن يسترسلوا فى الشر.
أرسل عمرو بن العاص يستنفر العرب ليستميلهم إليه بذرابة لسانه، وقد رأى عمرو رجلا ألكن لم يستطع بيانا، فقال رضى الله عنه: سبحان الله خالق لسان هذا هو خالق لسان عمرو بن العاص. ولأنه كما قيل كانت له صلة ببعض هؤلاء الأعراب، ومعه عدد قليل من المسلمين.
(3/851)
سار حتى وصل إلى جذام، ونزل ماء السلاسل.
ولكن لم يفلح فى استمالة أحد، ولم يكن كعبد الله بن رواحة يطلب من جيشه إحدى الحسنيين، ولذلك أرهبته كثرة عدوه، فلم يصنع شيئا، وأرسل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ليبعث إليه الرجال وبقى ينتظر المدد.
عندئذ بعث النبى صلى الله تعالى عليه وسلم جيشا من المهاجرين والأنصار فيهم أبو بكر وعمر، والقائد أبو عبيدة عامر بن الجراح أمين هذه الأمة.
ولقد تحرك فى عمرو حب الرياسة التى ظهرت من بعد فى عهد عثمان عندما عزله، وفى عهد على التى تفرق بها وبغيرها أمر المسلمين.
قال لأبى عبيدة: إنما جئت مددا لى، وهو ما أرسل فى جيش من المهاجرين والأنصار، ولكن أرسل طليعة للتعرف والاستمالة.
وما كان من شأن أبى عبيدة أن يعطى رياسة الجند إلا بأمر الرسول لعمرو بن العاص الذى هو حديث عهد بالإسلام، ولكن أبا عبيدة لم يجابهه بأن الأمر له بل قال إجابة له لا، ولكنى على ما أنا عليه، وأنت على ما أنت.
ولكن عمرو أصر على قوله، وقال: أنت مددى.
وهنا بدت تقوى التقى المؤمن، فقال له: يا عمرو إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال لا تختلفا، وإنك إن عصيتنى أطعتك.
هذه صورة عمرو فى أول إسلامه، وهى صورته عند تولى الإمرة على مصر عندما عزله ذوالنورين عثمان بن عفان، لقد قال: كنت ألقى الراعى فأحرضه عليه. وهى صورته عندما اجتمع مع معاوية ضد إمام الهدى على لأنه يعلم أن عليا لن يعطيه إمرة فى شيء.
أخذ الجيش الإسلامى يطارد القبائل التى ظاهرت الروم، فتوغل الجيش الإسلامي، وكلما انتهى إلى قبيلة ولت الأدبار، ولم يصطدم إلا مرة واحدة، وانتهت بفرارهم.
(3/852)
وبذلك كان تأديب هذه القبائل الأعرابية، وبدت كلمة الإسلام عالية كما هى، وبذلك انتهى المراد من هذه السرية.
سرية أبي عبيدة
574- فى رجب من السنة الثامنة أرسل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أبا عبيدة فى ثلاثمائة رجل إلى القبلية، على ساحل البحر الأحمر، داعيا إلى الإسلام، ومتعرفا أمر القبائل هناك، وكان فى السرية عمر بن الخطاب.
ولقد أصاب أولئك الصحابة جوع فى الطريق، فلم يجدوا ما يأكلونه حتى أكلوا ورق الشجر.
واشترى قيس بن سعد إبلا ونحرها لهم، وانصرفوا، ولم يلقوا حربا وما جاؤا للحرب، بل للدعوة إلى الإسلام، والعمل على نشره والتعريف به فى وسط القبائل
سرية أبي قتادة
575- بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى شعبان من السنة الثامنة أبا قتادة الأنصارى إلى غطفان فى نحو خمسة عشر رجلا.
وغطفان هى القبيلة العنيفة التى عاونت قريشا فى غزوة الخندق، وهى التى همت بأن تعاون اليهود فى خيبر، وكان منها من ناصر جيش الرومان فى مؤتة فسار إليهم هذا العدد القليل. وأمره النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يشن الغارة عليهم، فكان يسير بالليل ويكمن بالنهار، حتى لقيهم فهجم على جمع عظيم منهم، وأحاط بهم، وقاتلهم قتالا شديدا فقتلوا بعضهم، واستاقوا النعم والشاة، وعادوا إلى المدينة المنورة بعد خمس عشرة ليلة، ولا شك أن الغرض من هذه السرية هو تعرف أطراف الجزيرة العربية، والدعوة إلى الإسلام حيثما ساروا، وأينما اتجهوا.
فما كانت هذه السرايا للقتال، ولكن لمعرفة الأراضى الدانية والقاصية والإعلام بالإسلام للدخول فيه طوعا لا كرها.
وقد بعث النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أبا قتادة الأنصارى أيضا إلى أختم على بعد ثلاثة برد من المدينة المنورة، بعثه فى رمضان وكان الغرض من إرسالها تعمية قريش عنه حتى لا تصده إذ كان بعدها فتح مكة المكرمة بليال، أو كانت فى ليلة الثانى عشر من رمضان.
(3/853)
انتشار الإسلام فى البلاد العربية
576- كان الإسلام ينتشر فى البلاد العربية قاصيها ودانيها، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يرسل الدعاة، والناس منهم من يستجيب مؤمنا صادقا. فيهاجر إلى المدينة المنورة ليكون قوة مع قوة المؤمنين، ومنهم من يسلم، ويذعن مستسلما من أن يسكن الإيمان قلبه، وإن ذلك كان فى الأعراب الذين لم يخالطوا أهل الإيمان ولم يجاورهم، ولم يلتقوا بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم ليطلبوا منه، ولم يقرأوا القرآن الكريم مستمتعين بتلاوته، ولذلك قال الله تعالى فيهم: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا، قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا، وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا، وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ (14- الحجرات) .
وكان من الأعراب من ينتظر أيكون الغلب للمشركين أم لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه فهم كانوا مذبذبين بين هؤلاء وهؤلاء، ومنهم من يبلغ به العناد فى الكفر أن يجيئوا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مظهرين أنهم يطلبون الهداية فيرسل إليهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من يحفظهم القرآن الكريم ويعلمهم الإسلام فيغدرون بهم، ويقتلونهم. كما قتلوا طائفة من القراء بلغوا سبعين. ومنهم من كانوا يأخذون المؤمنين ويبيعونهم للمشركين، كما فعل مع خبيب وأصحابه الذين باعوهم لأهل مكة المكرمة. وقتلوهم قتلة فاجرة. فكان الحق أن يقول الله تعالى: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ (97- التوبة) وكان هذا النوع من النفاق الأعرابى متغلغلا فى الصحراء وحول مكة المكرمة. وحول المدينة المنورة ذاتها، فقد قال تعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ، وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ، سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101- البقرة) . ولقد قسم الله تعالى الأعراب قسمين متعادلين أولهما منافق جلى النفاق يحسب الزكاة مغرما ومنهم من يؤمن بالله واليوم الآخر، ويتخذ ما ينفق قربات، ولقد ذكر سبحانه وتعالى القسمين فقال تعالت كلماته وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً، وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ، أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98، 99: التوبة) وهكذا كان فى الأعراب المؤمن الطاهر، والمنافق.
ومن هؤلاء المنافقين كانت الردة التى أعقبت وفاة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان انتشار الإسلام بين الأعراب على هذا النحو الذى بينه الله تعالى فى كتابه.
(3/854)
كان الأعراب بين منافق كافر غادر، وبين مسلم يتربص الدوائر، وبين مؤمن تقى طاهر، ومهما يكن أمرهم فقد كان الإسلام ينتشر مع هذا الدخل، وإن دخل الإسلام قلبا، ولو على تردد فإنه بتوفيق الله تعالى، ومن بعد ذلك يشرق إشراقا، ثم يكون من ذلك إيمانا.
وإن الحروب التى وقعت بين المشركين ومحمد صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من المؤمنين كانت قوارع تقرع النفوس العربية، فيهتز صداها فى النفوس، إذ خلاصتها أنها قتال بين التوحيد ديانة إبراهيم أبى العرب عليه السلام، وبانى البيت الحرام، وبين الشرك فيدعوهم إلى التفكير بين الوحدانية والشرك، وبين ملة إبراهيم محطم الأوثان، وبين عبادة الأصنام، فإن ذلك يدفع نفس العرب والأعراب إلى التفكير فى الأمر تفكيرا من غير إرهاق.
وفوق ذلك فإن الحرب بين الإيمان الذى ينصره الله تعالى ويؤيده، والشرك الذى يتوالى خذلانه يدفع إلى تعرف السر فى النصر مع قلة العدد، والخذلان مع كثرته، وإن واقعة الخندق وحدها داعية إلى التفكير فى القوة الخفية التى نصرت محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم، إذ أرسل الله تعالى ريحا عاتية قلبت أوعيتهم، وخلعت أخبيتهم، وخلعت مع ذلك قلوبهم، ففروا من اللقاء فرارا، إن هذه وحدها قارعة تلفت العقول عن عبادة غير الله تعالى، لأنها تدرك أن الله مؤيد دعاة التوحيد بغير ما يقدرون، وما يقتدرون.
وإن الغزوات الكبار كان بجانبها سرايا تنبث فى أنحاء البلاد العربية داعية كاشفة هادية أو مقاتلة إن رأت غدرا وخيانة.
وإن كل هذا يدفع إلى التفكير فى الدين، والموازنة بينه وبين عبادة الأوثان، وإن الجمود على اتباع الآباء ولو كانوا لا يعقلون شيئا ولا يهتدون هو الذى يصم الآذان والقلوب عن إدراك الحق، فقوارع الحرب تسمع الذين فى آذانهم وقر، وعلى أبصارهم غشاوة.
وإذا فتحت المدارك اتجهت إلى الطريق المستقيم، الذى لا عوج فيه، ولا أمت.
وفى الحق أن دعوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم صغت إليها قلوب الضعفاء ابتداء، ثم كانوا من بعد قوة الإسلام التى أزعجت الكفر فى مكامنه، وهدته إلى مواطن الهداية.
لا نقول إن الحرب أكرهت أحدا على الإيمان، ولكن نقول إن قوة الحق أخذت غير المحاربين إلى محراب الإيمان فجاؤا إليه طائعين مختارين، ولأن انتصار المؤمنين لإيمانهم يجعل النفوس ترمقهم، والقلوب تصغى إليهم.
(3/855)
ولذا كانت الوفود من بعد ذلك تجيء من القرى والقبائل تعلن إيمانها، وتتعلم الإسلام، وتسمع تلاوة القرآن الكريم كما سنتكلم إن شاء الله تعالى على الوفود التى جاءت تترى والتى جاءت بنور الحق لتسمع الحق من الداعى إلى الحق، وإن ذلك كله جاء من تسامع العرب بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وكانت الحروب من أسباب ذلك.
وإن انتهاء القتال بصلح ابتداء، ثم بمواجهة بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وبين من يعاديه هى الآخرى دعوة إلى الإسلام فى هدأة النفوس، وقرار القلوب، وقد صار صوت الحق هو وحده الذى يتكلم، وسكتت صلصلة الأسلحة، وفى هذه الهدأة وقد خبت العداوة، واطمأن الجامح، ولم تكن العداوة التى تؤجج النفوس بل السلم العزيز الذى يرطب النفوس والأفئدة. وحينئذ دخل بعض العرب، ومال الذين كانوا يحاربون النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الإسلام، وبدأوا يفكرون بقلب سليم من الأضغان، قد استلت منه الأحقاد وسخائم النفوس، وما كان المشركون لينفروا من الإيمان إلا جحودا وعنادا. فإذا اختفى العناد كان التفكير السليم، وهو سبيل الإسلام، وكان كل أمر بعد ذلك يوجه إلى الإيمان، ولا يرنقه حقد، ولا محنة، ولا إحنة، وتوالت الأمور التى تقرب الأرحام، وتصل من كانوا قد قطعوه من رحم متوادة رحيمة.
وإن عمرة القضاء التى كانت فى العام السابع دنت بها قلوب كانت متباعدة، وأذن المؤذن تكبيرا لله تعالى وحده على الكعبة الكريمة المشرفة زادها الله تعظيما، عندئذ مالت قلوب أعتى الكافرين عداوة.
وإن لم يتقدموا بالإيمان، حسبك أن يكون منهم عكرمة بن أبى جهل فقد مال إلى الإسلام، وأن يعمل على إعلان إيمانه كما فعل صاحبه خالد بن الوليد، وعثمان بن طلحة، وعمرو بن العاص.
فقد رأت قريش محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم يعظم البيت الحرام. ويقيم شعائره، وينحر الهدى عند المروة ويقيم المودة بدل القطيعة، ويحاول أن يقيم وليمة يتناولون فيها الطعام على مائدة الرحمن..
دخل إلى مكة المكرمة راضيا، وخرج عنها وهم راضون.
وبعد أن خرج أخذت النفوس تفكر فى الإسلام، لقد وقف خالد بن الوليد يدعوهم إلى التفكير فى أمر محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، «لقد استبان لكل ذى عقل أن محمدا ليس بساحر، ولا شاعر، وأن كلامه من كلام رب العالمين، فحق على كل ذى لب أن يتبعه» .
بلغ أبا سفيان ما قاله خالد، فسأله عن صحة ما سمع، فأكده، فاندفع أبو سفيان غاضبا، وقد باعد بينهما عكرمة بن أبى جهل وكان يميل فى هذه القضية إلى خالد، فقال: مهلا يا أبا سفيان أتقتلون خالدا على رأى رآه، وهذه قريش كلها عليه، والله لقد خفت ألا يحول الحول حتى يتبعه أهل مكة المكرمة.
(3/856)
وما حال الحول حتى كان فتح مكة المكرمة، وكان أهل مكة المكرمة على ما كان خالد، وكان أبو سفيان من المسلمين. وأخذ الإسلام يدخل مدائن العرب، وأخبيتهم ما بين مؤمن مذعن ومسلم، وكافر يعرفه ويكرهه ولم يبق إلا أن يخرج نوره من أرض العرب إلى غير العرب.
وكان التدرج يقتضى ذلك، بأن يكون فى أم القرى، وما حولها، ثم يكون فى يثرب مجتمع القوى، ثم يكون فى العرب أجمعين، ويخرج من مشرق العرب إلى حيث النار والصليب، فيطفيء النار ويحطم الصليب، وتكون الكلمة لله وحده رب المشارق والمغارب.
بعث الرسائل إلى الملوك
577- اتفق علماء السيرة والصحاح على أن الإرسال إلى الملوك والأمراء كان بعد الحديبية وقبل الفتح، ولكن اختلفوا أكان بعد صلح الحديبية أم كان بعد عمرة القضاء أم كان بعد مؤتة.
وإن الذى نختاره أنه كان بعد عمرة القضاء، وقبل مؤتة، وذلك لأن عمرو بن العاص خرج من مكة المكرمة مريدا الهجرة إلى الحبشة بعد عمرة القضاء وقد التقى فى الحبشة بمن بعثه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى النجاشى، كما أنه التقى فى أثناء ذهابه إلى المدينة المنورة بخالد بن الوليد، وقد كانت إرادة خالد بن الوليد، الذهاب إلى مكة المكرمة وكلماته فى الدعوة إلى اتباع محمد صلى الله تعالى عليه وسلم عقب عمرة القضاء مباشرة.
وإن السياق التاريخى يثبت أن الكتاب إلى ملك الروم، وأمير الغساسنة فى الشام كان قبل مؤتة لأن غزوة مؤتة كانت بسبب قتل بعض من أسلم من الشام، وبسبب قتل الرسول الذى بعثه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى أمير الغساسنة، والسبب مقدم على المسبب، فكان الكتاب بلا ريب سابقا على مسببه وهو غزوة مؤتة.
وفوق هذا كله، فإن السنة الصحيحة تصرح بأن الإرسال إلى الملوك قبل مؤتة، فقد روى مسلم بسنده عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كتب قبل مؤتة إلى كسرى وقيصر، وإلى النجاشى، وإلى كل جبار يدعوهم إلى الإسلام.
(3/857)
كتابه إلى هرقل وأثره
578- بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى هرقل دحية بن خليفة بكتاب هذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدي.
أما بعد. فإنى أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت، فإنما عليك إثم الأريسين.. قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64- آل عمران) .
وقد كان هذا الكتاب الكريم له أثره فى أوساط الرومان، وأهل الشام ومشركى قريش، لم يأخذ هرقل الكتاب كما يأخذ ملك من رجل يخشى على ملكه منه، بل أخذه عالم يلقى خبرا له صلة بعلمه، فقد كان هرقل حزاء له علم بالملاحم والنجوم وأخبار النبيين، فكان عالما من علماء النصرانية الذين يريدون أن ينتشر الحق فى ذاته، لولا الملك وسورته.
عندما وصل الكتاب إليه، أرسل يبحث عن بعض قوم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فى البلاد الشامية فعلم بركب تجار من مكة المكرمة، على رأسهم أبو سفيان قائد الشرك، فدعاهم إلى مجلسه، وحول (هرقل) عظاماء الروم، ثم دعا أبا سفيان ومن معه ودعا الترجمان، وإليك الحديث كما جاء فى البخارى.
قال هرقل بلسان الترجمان: أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذى يزعم أنه نبى.
فقال أبو سفيان: أنا أقربهم نسبا، فقال هرقل أدنوه منى وقربوا أصحابه عند ظهره، ثم قال لترجمانه قل لهم إنى سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كذبنى فكذبوه، قال أبو سفيان، فو الله لولا أن يؤثروا عنى كذبة فى العرب لكذبت عنه، ولنترك الحكاية كلها لأبى سفيان.
يقول: أول ما سألنى عنه أن قال: كيف نسبه فيكم. قلت هو فينا ذو نسب قال فهل قال هذا القول منكم أحد قبله؟ قلت لا. قال: فهل كان من آبائه من ملك. قلت لا، قال فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قلت بل ضعفاؤهم، قال أيزيدون أم ينقصون؟ قلت بل يزيدون، قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال. قلت لا، قال: فهل يغدر؟ قلت لا ونحن منه فى مدة، لا ندرى ما هو فاعل
(3/858)
فيها، ولم يمكنى كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة، قال: فهل قاتلتموه؟ قلت نعم، قال فكيف قتالكم إياه؟ قلت الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا، وننال منه. قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق والعفاف والصلة.
قال للترجمان بعد ذلك قل له: سألتك عن نسبه فزعمت أنه فيكم ذو نسب وكذلك الرسل تبعث فى نسب قومها، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول قبله، فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول لقلت: رجل يتأسى بقول قيل قبله، وسألتك هل كان من آبائه من ملك فذكرت أن لا، فلو كان من آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك، هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه ما كان ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله، وسألتك أأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم، فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل، وسألتك أهم يزيدون أم ينقصون؟ فقلت إنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم، وسألتك أيرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه، فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، وسألتك هل يغدر؟ فذكرت أن لا وكذلك الرسل لا يغدرون، وسألتك بم يأمركم فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف.
فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمى هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أعلم أنى أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه.
كان لهذا الكلام أثره فى نفس أبى سفيان العدو المشرك، فقال: «لقد أمرّ أمر ابن أبى كبشة (زوج المرضع التى أرضعت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم) أنه يخافه ملك الأصفر، وهذه بلا ريب كلمة الشرك، ولكن كان الكلام من هرقل له أثر أعمق من ذلك فى نفس أبى سفيان، فقد قال:
ما زلت موقنا أنه سيظهر، حتى أدخل الله تعالى على الإسلام. ولكن فتحت له مغاليق كانت متكافئة فى نفسه، حتى لا تكشف فيه قلب المسلم.
579- هذا أثر الكتاب فى قلب هرقل، ونراه يصدق كل ما فيه، ويميل إلى الإسلام، وقبول ما جاء به محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكن هل أذعن للحق، وقبل الإسلام دينا!! يظهر أنه حاول ذلك ولكن قومه لم يقبلوه، وتخير بين الإسلام والإذعان، وبين البقاء على الملك، فاختار الملك، وبذلك اشترى الضلالة بالهدى، فبارت تجارته عند الله.
ولنذكر الأمر كما وقع، وما كان ينبغى أن يقع، ولكنه الابتلاء:
(3/859)
لقد كان هرقل كما قلنا عالما، وكان حزاء أوتى علم النجوم، وعلم الملاحم، وكان حين قدم من إيلياء، وهى الأرض التى التقى فيها مع أبى سفيان ومن معه من التجار- خبيث النفس، فقال بعض بطارقته قد استنكرنا هيئتك، فقال لهم إنى رأيت حين نظرت فى النجوم ملك الختان قد ظهر، وعلم من تحريه أن العرب يختتنون، فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر.
وقد أرسل إلى صاحب له برومية على مثل منزلته من العلم.
وسار إلى حمص، فلم يتركها حتى جاءه كتاب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
ونرى من هذا أنه كانت عنده أمارات قد علم بها بعث النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكانت الصور التى تتراءى له أنه ملك، ولكن الله تعالى قد آتاه ما هو أعظم من ذلك، وهو النبوة التى تأتى بخير الدنيا والآخرة.
وكانت هذه المعلومات سواء أكانت منتجة فى ذاتها، أم غير منتجة فإنها أثرت فى نفسه، وجعلته على استعداد لقبول الحق إذ جاء إليه، وإن المقدمات هنا، وإن كانت ظنية فى ذاتها قد مهدت لقبول الحق.
اقتنع هرقل كما قلنا بأنه الحق، وأراد أن يعرضه على الملأ من قومه داعيا إليه، فأذن هرقل لعظماء الروم أن يحضروا فى دسكرة له بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلقت ثم اطلع عليهم فقال:
يا معشر الروم، هل لكم فى الفلاح والرشد، وأن يثبت لكم ملككم، فاتبعوا هذا النبى. فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت.
فلما رأى هرقل نفرتهم، وأيس من إيمانهم، قال: ردوهم على، وغير وبدل من قوله ونيته، وقال: «إنى إنما قلت مقالتى آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت، فسجدوا له ورضوا عنه» .
وهكذا غلبت عليه الشقوة على الهداية، ولقد برق له نور الحق وأضاء له، فلما هم أن يمشى فيه، وقف الملك وسلطانه، فكان الظلام بعد النور، والضلالة بعد الهداية، وأمر بقتل من قتل من المسلمين وجيّش الجيوش لحرب المسلمين فى مؤتة، وفى تبوك، ومن بعد ذلك فى اليرموك ومهما يكن من أمر نهاية الكتاب بالنسبة لهرقل والملأ من قومه، فإن الإسلام قد عرف فى وسط الرومان، وعرف فى الشام، وتذاكر به الناس، وعرف ما كان من هرقل لعظماء ملته، والنور دائما يخترق الظلام مهما تكن الحجب، والغياهب والظلمات، فالكتاب أثمر ثمراته، وإن لم يكن الإيمان عاجلا، فإنه آجل والأجل قريب.
(3/860)
ومنهم من آمن، وإن لم يعرف إيمانه.
يروى أن هرقل عندما جاءه كتاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أعطاه لكبير الأساقفة الذى كان صاحب أمرهم يصدرون عن رأيه وعن قوله، فلما قرأ الكتاب قال: هو والله الذى بشرنا به موسى وعيسى الذى كنا ننتظره، قال هرقل فما تأمرنى، قال الأسقف أما أنا فمصدقه ومتبعه، فقال قيصر إنه كذلك، ولكنى لا أستطيع، إن فعلت ذهب ملكى وقتلنى الروم، لم يذهب إذن الكتاب صرخة فى واد، بل كان له صدى، وظهر فيما بعد.
كتابه إلي كسري ملك الفرس
580- عندما أراد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يرسل إلى الملوك وقف فى الصحابة خطيبا وبعد أن حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله قال:
أما بعد فإنى أريد أن أبعث بعضكم إلى ملوك الأعاجم، فلا تختلفوا على كما اختلف بنو إسرائيل على عيسى بن مريم.
فقال المهاجرون: إنا لا نختلف عليك فى شيء أبدا، فمرنا وابعثنا.
فبعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شجاع بن وهب إلى كسرى.
وظاهر هذا الكتاب أنه أرسل إلى كسرى عقب هذا البيان النبوى، وربما يوميء إلى أن الكتاب إلى كسرى كان قبل الإرسال إلى ملك الروم، ولكنا نرجح أن الإرسال للملوك جميعا كان فى وقت واحد، وربما كان وصول الرسول إلى هرقل قبل وصوله إلى كسرى.
ومهما يكن الأمر من ناحية السابق واللاحق، فإنه ثبت أنه أرسل للملكين ولغيرهما من الملوك والرؤساء.
بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شجاع بن وهب إلى كسرى فمضى بالكتاب إليه، ووقف أمام بابه مستأذنا مع عظاماء الفرس، وقد أذن لعظماء الفرس، ثم أذن له من بعدهم، فلما دخل أراد أن يدفعه لغيره، فأبى إلا أن يدفعه إليه بشخصه، وقال له لا حتى أدفعه أنا إليك كما أمرنى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال كسرى ادن، فدنا وناوله الكتاب ثم دعا كاتبا من أهل الحيرة فقرأه، فإذا فيه:
(3/861)
بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله ورسوله إلى كسرى عظيم الفرس.
«سلام على من اتبع الهدى، وشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأدعوك بدعاء الله تعالى، فإنى أنا رسول الله إلى الناس كافة، لأنذر من كان حيا، ويحق القول على الكافرين، وإن تسلم تسلم، وإلا فإن عليك إثم المجوس.
فلما قرأه مزقه فدعا عليه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يمزق ملكه.
ولم يكتف بأن مزق الكتاب، بل أراد قتل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فأرسل إلى بازام، وهو نائبه على اليمنى، أن ابعث إلى هذا الرجل بالحجاز رجلين من عندك جلدين فليأتيانى به، وحسب أن الإتيان بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم مكبلا بالحديد، أمر سهل، ونسى أن العرب فى واقعة (ذى قار) قد أذاقوه من الحرب بؤسا، ومحمد صلى الله تعالى عليه وسلم فى جنده لا يقل عن قوة العرب فى ذى قار، ولكنه غرور السطوة الذى يدلى بصاحبه حتى يجعله عبرة للمعتبرين.
استجاب نائبه إلى طلبه غير المعقول فى غايته، فبعث بازام قهرمانه، وكان كاتبا حاسبا، وبعث معه رجلا من الفرس يقال له حرحورة، وكتب معهما إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى.
ويظهر أن نائبه باليمن لم يكن يريد إيذاء، ولكن يريد أن يتعرف خبر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فكتب الكتاب إطاعة لكسرى، وأراد أن يتصرف لنفسه، فأراد التعرف، وهكذا يغتر الطغاة، فيحسبون أن الناس قلوبهم طوع أيديهم، مع أن قلوبهم لإلههم ولا لأنفسهم.
قال نائب كسرى لمن أرسله بالكتاب إيت بلاد هذا الرجل وكلمه ائتنى بخبره، وهذا يدل على أنه لن يجيب كسرى، فغاية كسرى ليست غايته، وأنه هو يريد أن يعرف الإسلام.
خرج الرجلان إلى الطائف حتى قدما عليه: فسألا عنه فقيل هو بالمدينة المنوره، واستبشر أهل الطائف بها، وقال بعضهم لبعض أبشروا، فقد نصب له كسرى ملك الملوك.. كفيتم الرجل.
خرج الرجلان حتى قدما على المدينة المنورة، فقالا: شاهنشاه ملك الملوك كسرى قد كتب إلى الملك بازام (نائبه باليمن) يأمره بأن يبعث إليك من يأتيه بك، وقد بعثنا إليك لتنطلق، فإن فعلت كتب (نائب اليمن) إلى ملك الملوك يمنعك ويكفه عنك، وإن أبيت فهو من قد علمت فهو مهلكك ومهلك قومك، ومخرب بلادك. وظنا أن ذلك يرهب الرسول، إذ مثله يرهبهما، ولكن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم لم يلتفت إلى كلامهما، لأن الله يعصمه، بل اتجه إليهما، وقد حلقا لحاهما،
(3/862)
وأعفيا شاربهما، فكرر النظر إليهما. وقال لهما: ويلكما من أمركما بهذا؟ قالا: أمرنا ربنا، يعنيان كسرى، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ولكن ربى أمرنى باعفاء لحيتى وقص شاربى.
ثم قال لهما: ارجعا حتى تأتيانى غدا، وقد أعلم الله رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم بأن كسرى قد قتله ابنه شيرويه، وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، عنده ذلك العلم من الله تعالى، دعاهما فأخبرهما.
فقالا: هل تدرى ما تقول؟ إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر من هذا فنكتب عنك بهذا، ونخبر الملك بازام (نائب كسرى) .
قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: أخبراه ذلك عنى وقولا له إن دينى سيبلغ ما بلغ كسرى، وينتهى إلى الخف والحافر، وقولا إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك، وملكتك على قومك من الأبناء، ثم أعطى حرحورة الفارسى أحد الرسولين منطقة فيها ذهب وفضة كان أهداها له بعض الملوك.
خرجا من عنده حتى قدما على بازام (نائب كسرى) فى اليمن.
فقال هذا الملك النائب عن ملك الملوك. كسرى: ما هذا بكلام ملك، وإنى لأرى الرجل نبيا، كما يقول: وليكونن ما قد قال، فلئن كان هذا حقا فهو نبى مرسل، وإن لم يكن فسنرى فيه رأيا.
علم الجميع أن كسرى قد قتل بيد ابنه. وقد أعلمهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك، والرسولان عنده، والأخبار عنه منقطعة عن طريق البرد وغيرها.
وبينا نائب كسرى باليمن على الأمر الذى لم يصل إليه نبؤه، وهو فى تردد فى قبوله، جاءه كتاب شيرويه الابن، وجاء فى هذا الكتاب.
أما بعد: فإنى قد قتلت كسرى، ولم أقتله إلا غضبا لفارس، لما كان قد استحل دم من قتل من أشرافهم، ونحرهم فى ثغورهم، فإذا جاءك كتابى هذا فخذ لى الطاعة ممن قبلك وانطلق إلى الرجل الذى كان كسرى قد كتب إليه، فلا تهجه حتى يأتيك أمرى فيه.
إنه بلا شك لم يكن الابن على عزيمة أبيه فيما يتعلق بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، بل تردد، وكل ما أمر به ألا يهيجه فلا يطلب إليه الحضور حتى يكون أمر جديد.
تلك أمارات متتالية تدل على صدق النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فيما يدعو إليه من وحدانية وصدقه فى دعوى الرسالة الإلهية.
(3/863)
وإن أحد الرسولين كان يتكلم باسمهما فى حضرة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم. قال:
ما كلمات أحدا كان أهيب عندى منه.
فكر أمير اليمن وقدر ما بين يديه من علم، وانتهى تفكيره إلى الإسلام والتسليم، وقال إن هذا الرجل لرسول، فأسلم، وأسلمت الأبناء من فارس الذين كانوا باليمن.
وبذلك دخل الإسلام أرض اليمن، ووجد له فيه دعاة.
وقد روى البيهقى أن شيرويه هذا الذى قتل أباه، قد استخلف من بعده ابنته، فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لن يفلح قوم ولوا أنفسهم امرأة.
هذا كتاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأثره، وإذا كان لم يؤثر فى كسرى إلا سلبا، فقد أثر فى غيره إيجابا واستجابة، لقد أثر فى نائبه باليمن، فأسلم وهو فارسى، وأسلم من معه من الأبناء من فارس، وهم باليمن بما وصل إليه الإسلام فى شعب اليمن العربى الأصيل.
ولم يكن كتاب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم صرخة فى واد، بل كان لها استجابة، وإذا كان العدد قليلا فإنه سيكون كثيرا فى اليمن وما وراءها وقد كان.
كتابه إلى النجاشى
285- كتب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى النجاشى ملك الحبشة أصحمة، وقد رجا فيه الخير، لأنه أكرم أصحابه عند الهجرة إلى الحبشة، فهو يدعوه فى هذا الكتاب، وقومه، وكان قد أسلم من قبل فيما يروى الرواة، وفيما يدل عليه ما اقترن بالكتاب من قول، وهذا نص الكتاب وما دار حوله.
بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى النجاشى ملك الحبشة. «فإنى أحمد الله تعالى إليك، الله الذى لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى بن مريم روح من الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، حملت عيسى فخلقه الله تعالى من روحه، ونفخه كما خلق آدم بيده، وإنى أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعنى وتؤمن بالذى جاءنى، فإنى رسول الله، وإنى أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت، فاقبلوا نصيحتى، والسلام على من اتبع الهدى» .
(3/864)
هذا كتاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ورفق الدعوة، وحكمة النبوة ظاهران فيه ولقد بعثه مع عمرو بن أمية الضمرى الذى جاء بهذا الكتاب، ولأنه رفيق وكان يميل للإسلام، كان لرسول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم شرح وتوضيح وتأكيد لمعنى الرسالة.
قال له عمرو: يا أصمحة، إن على القول، وعليك الاستماع، إنك كأنك فى الرقة علينا، وكأنا فى الثقة بك منك، لأنا لم نظن بك خيرا قط إلا نلناه، ولم نخفك على شيء إلا أمناه، وقد أخذنا الحجة عليك من فيك، الإنجيل بيننا وبينك شاهد لا يرد، وقاض لا يجور، وفى ذلك الموقع الحز، وإصابة المفصل، وإلا فأنت فى هذا النبى الأمى كاليهود فى عيسى ابن مريم، وقد فرق النبى صلى الله تعالى عليه وسلم رسله فى الناس فرجاك لما لم يرجهم، وأمنك على ما خافهم عليه، بخير سالف، وأجر ينتظر.
أجابه النجاشى إجابة المؤمن فقال: «أشهد أنه النبى الأمى الذى ينتظره أهل الكتاب، وأن بشارة موسى براكب الحمار، كبشارة عيسى براكب الجمل، وأن العيان ليس أشفى من الخبر..» وأردف ذلك بأن حمل عمرو بن أمية كتابا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
وهذا نص الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم
إلى محمد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم- من النجاشى أصحمة سلام عليك يا نبى الله من الله، ورحمة الله وبركاته، الله لا إله إلا هو.
أما بعد فقد بلغنى كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء والأرض إن عيسى لا يزيد على ما ذكرت، إنه كما ذكرت، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، وقد عرفنا ابن عمك (أى جعفر بن أبى طالب) وأصحابك فأشهد أنك رسول صادقا مصدقا، وقد بايعتك، وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين» .
كانت إجابة النجاشى صريحة واضحة، وقد كان الكتاب إليه، وإلى جنوده والملأ من قومه، وقد أسلم هو، ودعا من معه، ولم يكرههم على الإيمان، ولكن اكتفى بالدعوة من غير إكراه، لأن الله تعالى يقول: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ (256- البقرة) فبين هذا الرشد، وكان ملكا عادلا أمن الناس وآمن بالله تعالى واستجاب لكلمة الحق من غير تلكؤ ولا تردد.
ولم يؤمن قومه.
(3/865)
كتاب رسول الله صلي الله تعالى عليه وسلم إلى المقوقس
582- استمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى الإرسال إلى الملوك والرؤساء لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين، فكان يرسل إلى الرؤساء والملوك، كما رأيناه أرسل إلى هرقل وكسرى والنجاشى، فمنهم من اهتدى، ومنهم من ضل، وممن أرسل إليهم المقوقس عظيم القبط الذين كانوا يرزحون فى حكم الرومان، ويضطهدون فى دينهم. اضطهدوا من وثنية الرومان ثم اضطهدوا من مذهبهم عندما التقوا فى دين واحد.
بعث إليه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مع حاطب بن أبى بلتعة هذا الكتاب.
بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط.
سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإنى أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم أهل القبط (قل) يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64- آل عمران) .
ولقد ذكر حاطب بن أبى بلتعة أنه أكرمه، وأنزله فى منزله، وأقام عنده.
جمع بطارقته مع حاطب ووجه إليه أسئلة تتعلق بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم وقومه، وسأله حاطب عما يتعلق بعيسى مع بنى إسرائيل.
قال المقوقس، هلم أخبرنى عن صاحبك، أليس هو نبيا. قلت بل هو رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
قال فما له حيث كان هكذا لم يدع على قومه حيث أخرجوه من بلده إلى غيرها.
قال حاطب: عيسى بن مريم ألست تشهد أنه رسول الله؟ قال: بلى، قلت: فما له حيث أخذه قومه، فأرادوا أن يصلبوه ألا يكون دعا عليهم.
قال المقوقس: أنت حكيم قد جاء من عند حكيم.
أخذ بعد ذلك يتكلم حاطب بن أبى بلتعة فى معنى الكتاب الذى يحمله من الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام. قال:
(3/866)
إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى، فأخذه الله تعالى نكال الآخرة والأولى، فانتقم الله تعالى به، ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك، ولا يعتبر غيرك بك.
قال المقوقس: إن لنا دينا لن ندعه إلا لما هو خير منه.
قال حاطب: ندعوك إلى الإسلام الكافى به الله عما سواه، إن هذا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم دعا الناس فكان أشدهم قريش وأعداهم له اليهود، وأقربهم منه النصارى، ولعمرى ما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد عليه الصلاة والسلام، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن الكريم إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، وكل نبى أدرك قوما فهم أمته، فالحق عليهم أن يطيعوه، وأنت ممن أدركه هذا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
قال المقوقس: إنى قد نظرت فى أمر هذا النبى فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى عن مرغوب فيه، ولم أجده بالساحر الضال، ولا الكاهن الكاذب، ووجدت معه آيات النبوة بإخراج الجن، والإخبار بالنجوى، وسأنظر.
وأخذ كتاب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فجعله فى حق من عاج، وختم عليه، ودفعه إلى جارية. ومن بعد ذلك دعا كاتبا له يحسن العربية، فكتب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم:
بسم الله الرحمن الرحيم ... لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط.
سلام عليك، أما بعد فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيا بقى، وكنت أظن أنه يخرج من الشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين، لهما مكان فى القبط عظيم، وبكسوة وأهديت إليك بغلة لتركبها، والسلام عليك» .
هذا ما كتبه المقوقس، وهو يدل على أنه كصاحبه هرقل قد اقتنع بالقرآن الكريم والإسلام، ولكن تردد فى القبول، وتلطف فى الرد، وبنى تردده على أنه كان يظن أنه سيخرج من الشام.
وكانت إحدى الجاريتين مارية القبطية التى كان إبراهيم بن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم منها، وأشهر الروايات أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أعتقها وتزوجها.
(3/867)
كتابه إلى المنذر بن ساوى
583- ذكر الواقدى فى تاريخه بإسناده عن عكرمة مولى عبد الله بن عباس أنه وجد كتابا فى كتب عبد الله بن عباس بعد موته فنسخه، فتبين فيه أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعث العلاء ابن الحضرمى إلى المنذر بن ساوى وكتب إليه كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام، ولم يذكر أنه عثر على نص كتاب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكن وجد رد ابن ساوى، ثم رد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وإليك كتاب المنذر:
إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أما بعد يا رسول الله فإنى قرأت كتابك على أهل البحرين، فمنهم من أحب الإسلام وأعجبه، ودخل فيه، ومنهم من كرهه، وبأرضى يهود ومجوس فأحدث إلىّ فى ذلك أمرك.
فكتب إليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم:
بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوى.
سلام عليك فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله. أما بعد فإنى أذكرك الله عز وجل، فإنه من ينصح إنما ينصح لنفسه، وأنه من يطع رسلى، ويتبع أمرهم، فقد أطاعنى، ومن نصح لهم فقد ينصح لى، وإن رسلى قد أثنوا عليك خيرا، وإنى قد شفعتك فى قومك، فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه، وعفوت عن أهل الذنوب فاقبل، وإنك مهما تصلح لا نعز لك عن عملك، ومن أقام على يهودية أو مجوسية، فعليه الجزية.
وقد دل خبر هذا الكتاب على أن عبد الله بن عباس كان حريصا على أن يكتب كتب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ويحفظها فى خزانة كتبه، وأنه يعلن للناس ما يعلن وهو الأكثر، وقد يبقى ما لا يعلن، ودل الكتاب على أنه مرسل لأهل البحرين، وأن المنذر بن ساوى كان واليها، ويدل على استجابة الوالى لدعوة الإسلام، وأن الجزية تفرض على اليهود والمجوس، وتدل على أمر آخر هو الحكمة وهو أن أبقى الوالى الذى سارع إلى الإسلام فى إمرته، ليكون أميرهم، ولم يرسل واليا من كبار الصحابة أو غيره، وذلك ليشعروا أنه ليس أجنبيا مسيطرا، ولكنه من أنفسهم، وما دام مستقيما فإنه أجدر لعلمه بنفوسهم، وخبرته بأحوالهم، وأن يأتيهم من حيث يألفون ويعرفون.
وفى الخبر ما يدل على فرض الجزية على الذين لا يؤمنون، إذا كانوا فى ولاية مسلم وهم هنا اليهود والنصارى والمجوس، وقد أجمع الفقهاء على فرض الجزية عليهم، وأجاز أبو حنيفة فرض الجزية على الوثنيين غير العرب قياسا على المجوس.
(3/868)
الكتاب إلى ملك عمان
584- لم يكن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ينى عن الدعوة إلى الإسلام فى الحواضر والبوادى، وأهل الوبر، وأهل المدر، كما رأيت فى كتابته للملوك.
لقد أرسل إلى عمان باليمن، وكان عليها أميران هما جيفر وعبد ابنا الجلندى وقد أرسل لهما كتابا حمله عمرو بن العاص، وهذا نص الكتاب:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الله إلى جيفر وعبد ابنى الجلندى.
سلام على من اتبع الهدى. أما بعد، فإنى أدعوكم بدعاية الإسلام، أسلما تسلما فإنى رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيا، ويحق القول على الكافرين، فإنكما إن أسلمتما، وليتكما، وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام، فإن ملككما زائل عنكما وخيلى يحل بساحتكم وتظهر نبوتى على ملككما.
كتب الكتاب أبى بن كعب، وختم الكتاب.
يقول عمرو بن العاص، خرجت حتى انتهيت إلى عمان، فلما قدمنا عمد إلى عبد أحد الأخوين وكان أحلم الرجلين وأسهلهما خلقا، فقلت: إنى رسول من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إليك، وإلى أخيك. فقال: أخى المقدم على بالسن والملك، وأنا أوصلك إليه، حتى يقرأ كتابك.
ثم قال: وما تدعو إليه، قلت: أدعوك إلى الله وحده، لا شريك له، وتخلع ما عبد من دونه، وتشهد أن محمدا عبده ورسوله.
قال عبد: إنك ابن سيد قومك، فكيف صنع أبوك، فإن لنا فيه قدوة، قلت: مات ولم يؤمن بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ووددت أنه لو كان أسلم، وقد كنت أنا على مثل رأيه حتى هدانى الله تعالى إلى الإسلام.
فسألني: فمتي تبعته؟ قلت: قريبا، عند النجاشي، وأخبرته أن النجاشي قد أسلم، قال: فكيف صنع بملكه، فقلت أقروه واتبعوه. قال والأساقفة والرهبان تبعوه، قلت نعم.
قال: يا عمرو إنه ليس من خصلة فى الرجل، أفضح له من الكذب، قلت: ما كذبت، وما نستحله في ديننا.
(3/869)
قال: هل علم هرقل بإسلام النجاشى. قلت: بلي، قال بأى شيء علمت ذلك؟ قلت:
كان النجاشى يخرج خرجا له، فلما أسلم وصدق بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم منعه وقال: والله لو سألنى درهما واحدا ما أعطيته، فبلغ هرقل قوله، فقال له أخوه (أى هرقل) : أتدع عبدك لا يخرج لك خرجا ويدين بدين غيرك، دينا محدثا.
قال هرقل: رجل رغب فى دين، فاختار لنفسه ماذا أصنع به، والله لولا الضن بملكى لصنعت كما صنع.
قال: انظر ما تقول يا عمرو. قال عمرو: والله صدقتك.
قال عبد: فأخبرنى ما الذى يأمر به وينهى عنه.
قلت: يأمر بطاعة الله عز وجل، وينهى عن معصيته، ويأمر بالبر، وصلة الرحم، وينهى عن الظلم والعدوان وعن الزنا، وعن الخمر، وعن عبادة الحجر والوثن والصليب.
قال: ما أحسن هذا الذى يدعو إليه، لو كان أخى يتابعنى عليه، ركبنا حتى نؤمن بمحمد ونصدق به ولكن أخى أضن بملكه من أن يدعه، ويصير ذنبا.
قلت: إنه إن أسلم ملكه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على قومه فأخذ الصدقة من غنيهم، فيردها على فقيرهم. فقال: إن هذا لخلق حسن. ما الصدقة، فأخبرته بما فرض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى الصدقات فى الأموال، حتى إلى الإبل، قال: وتؤخذ من سوائم مواشينا التى ترعى الشجر، وترد على المياه فقلت نعم. فقال: والله ما أرى قومى فى بعد دارهم، وكثرة عددهم يطيعون هذا.
وبعد هذه المناظرة والتحريات التى قام بها الأخ الأصغر، ودلت على ميله للدخول فى الإسلام اتجه عمرو بن العاص إلى مقابلة الأخ الأكبر، وهو الأمير على هذه الديار، ولنترك القول لعمرو فإنه حسن الحكاية لما حصل.
مكثت ببابه أياما، وهو يصل إلى أخيه فيخبره بكل خبرى، ثم إنه دعانى (أى الأمير وهو الأخ الأكبر) دعانى، فدخلت عليه، فأخذ أعوانه بضبعى، فقال: دعوه، فأرسلت فذهبت، فذهبت لأجلس، فأبوا أن يدعونى أجلس، فنظرت إليه فقال: تكلم، فدفعت إليه الكتاب مختوما ففض خاتمه وقرأه حتى انتهى إلى آخره، ثم دفعه إلى أخيه، فقرأه مثل قراءته، إلا أنى رأيت أخاه أرق منه.
(3/870)
قال الأمير: ألا تخبرنى عن قريش كيف صنعت، فقلت اتبعوه، إما راغب فى الدين، وإما مقهور بالسيف. قال: ومن معه، قلت: الناس قد رغبوا فى الإسلام، واختاروه على غيره وعرفوا بعقولهم مع هدى الله تعالى إياهم أنهم كانوا فى ضلال، فما أحد منهم بقى غيرك فى هذه الخرجة، وإنك إن لم تسلم اليوم وتتبعه توطئك الخيل وتبيد خضراءك، فأسلم تسلم ويستعملك على قومك، ولا تدخل عليك الخيل والرجال.
قال الأمير: دعنى يومى هذا وارجع إليّ غدا.
فرجعت إلى أخيه فقال: يا عمرو إنى لأرجو أن يسلم إن لم يضن بملكه.
حتى إذا كان الغد أتيت إليه فأبى أن يأذن لى.
فانصرفت إلى أخيه، فأخبرته أنى لم أصل إليه، فأوصلنى إليه.
قال الأمير: إنى فكرت فيما دعوتنى إليه، فأنا أضعف العرب، إن ملكت رجلا ما فى يدى، وهو لا يبلغ خيله هاهنا، وإن بلغت خيله لقيت قتالا ليس كقتال من لاقى.
قلت: وأنا خارج غدا.
فلما أيقن بمخرجى، خلا به أخوه، فقال: ما نحن فيما ظهر عليه، وكل من أرسل إليه قد أجابه، فأصبح فأرسل إليّ، فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعا، وصدقا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وخليا بينى وبين الحكم فيما بينهم، وكانا لى عونا.
وقد نقلنا المحاورات التى كانت بين عمرو بن العاص، والأميرين، اللذين مال أحدهما إلى الإسلام ابتداء، ومال الثانى إليه انتهاء، وأسلما وحسن إسلامهما.
وإن هذه المحاورة والاستجابة لما فى الكتاب تدل على أن الإسلام قد تغلغل فى نفس العربى ما بين مؤمن به وناظر إليه، ومخادع فيه، وإنه كان موضع تفكير المفكرين.
وإن هذه المحاورة تدل على أنهم كانوا من النصارى، وأن هرقل لأنه ملك أكبر دولة مسيحية كان له هيمنة على نصارى الشرق، فمصر تابعة له، والحبشة له خرج على النجاشى ملكها.
ويدل أيضا على إيمان النجاشى بأنه لا ولاية لغير المسلم على المسلم، ولذلك رفض أن يرسل الذى كان عليه أن يؤديه، وقال له فى قوة وحزم: لا أدفع درهما.
(3/871)
ويدل أيضا على سعة تفكير هرقل، ورفضه أن يثير حربا لأجل الخرج الذى كان يقدمه تابع له، لأنه اتبع دينا آخر وظهر ميله للإسلام واعتقاده بأنه صدق، وكان يعلن ذلك لوصيه بملكه، ومهما يكن أمر إسلامه، فإنه يظهر بمظهر رجل حر الفكر والرأى يقدر حرية التدين فى غيره، كما يقدرها فى نفسه.
وفى الكلام ما يوميء إلى أن هذا الكتاب كان بعد فتح مكة المكرمة، لأنه سأله عن قريش اتبعوا محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم أم لم يتبعوه، فأجاب عمرو بأنهم اتبعوه، إما رغبا وإما قهرا، وإن ذلك كان بعد الفتح لا ريب فى ذلك.
وأنه يبدو بلا ريب أن عمرو بن العاص كان ذا فراسة قوية عندما اختار أحد الأميرين وهو الأصغر، عندما ابتدأه فى تقديم الكتاب، فعن طريقه أقنع أخاه ذا الصلف والكبرياء.
ويلاحظ أن عمرا كان شديدا فى قوله عندما خاطب الأمير الأكبر، ولعل ذلك من أنفة العربى إذ منعه الملك من الجلوس، وأبى إلا أن يقدم كتاب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو واقف، فلم يرد أن يكون ذليلا.
ولم يضر ذلك بقضية الإسلام لأنه كان يستعين بأخى الأمير الذى أبدى لينا غير منتظر، وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم ين عن الدعوة، وسط الحروب وفى تدبير الدولة.
كتابه عليه الصلاة والسلام إلى صاحب اليمامة
585- أرسل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مع سليم بن عمرو العامرى كتابا إلى صاحب اليمامة هوذة بن على، وكان نص الكتاب:
«بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هوذة بن على سلام على من اتبع الهدى.
اعلم أن دينى سيظهر إلى منتهى الخف والحافر، فأسلم تسلم، وأجعل لك ما تحت يدك» .
فلما قدم عليه سليط حامل الكتاب وكان مختوما أنزله وحياه وبعد أن قرأ الكتاب ودعاه رد على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بكتاب جاء فيه «ما أحسن ما تدعو إليه، وأجمله، والعرب تهاب مكانى، فاجعل لى بعض الأمر أتبعك» .
وأجاز سليطا الرسول بجائزة، وكساه أثوابا من نسيج هجر.
(3/872)
قدم الرسول على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ومعه الكتاب والهدايا، فلما قرأ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، امتنع عن أن يعطيه جزآ من الأرض.
وبعد فتح مكة المكرمة، علم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالوحى أن هوذة صاحب هذا الكتاب الطامع قد مات وقد ذم رجال اليمامة، وقال أما إنه سيخرج بها كذاب سينتهى بقتله. قال بعض الصحابة: ومن يقتله؟ قال له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: أنت وأصحابك.
وإن نبوءة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كانت صادقة، فإن الأعراب كانت فيهم ردة، وكانت اليمامة ذات ضلع فيها، وقام الصديق خليفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعزمة كانت عز الإسلام وبها صار قارا ثابتا، وقد حفظ الله تعالى بأبى بكر قوة الإسلام، وعزته وقالها قولة حازمة جازمة: «إما سلم مخزية، وإما حرب مجلية» .
586- وقد أرسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم غب الحديبية إلى أمير الغساسنة بكتاب فيه هذا المعنى. وهو الدعوة إلى الإسلام، ولم يذكر كتاب السيرة أأجاب إلى الهدى أم لم يجب.
ونحن ذكرنا كتابته إلى الملوك، والأمراء والرؤساء وردهم عليه صلى الله تعالى عليه وسلم، ما بين مستجيبين ومترددين مجاملين فى الرد وإن لم يؤمنوا، وجاحدين كافرين معاندين مريدين إنزال الأذى بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم قاصدين الكيد، فرد الله تعالى كيدهم فى نحورهم.
وتركنا مؤقتا الكلام فى المغازى لأسباب ثلاثة:
أولها: أن المقصود من الرسالة المحمدية هو تبليغ الدعوة إلى الإسلام وما كانت الحروب إلا لحماية الدعوة ولمنع الكافرين من أن يفتنوا المؤمنين فى دينهم، كما فعل مشركو مكة المكرمة ونصارى الشام. فما كانت الحرب مشروعة لذاتها، ولكن كانت دفاعا وحماية للدعوة، وهى المقصود أولا وبالذات.
ثانيها: أن هذه المكاتبات والرد عليها تبين مدى انتشار الدعوة، وإيمان الناس واستجابتهم، فقد رأيت بعضهم يستجيب فورا، وبعضهم يستجيب ويسأل عن حكم الشريعة فى أمر من تحت يده من اليهود والمجوس كابن ساوى، ومنهم من كان يتردد فى الاتباع، ثم ينتهى بالإذعان هو وقومه. ورأينا صاحب اليمامة يساوم، وكانت موضع الردة هى وبنو حنيفة، وقد تنبأ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك، فكان منهم رأس الفتنة فى الردة.
(3/873)
ثالثها: أننا رأينا أمراء العرب، أو جلهم كانوا أكثر استعداد للإجابة من غيرهم، وأن النصارى منهم كانوا أميل إلى الإجابة، وأبعد عن التعنت وخصوصا الذين كانوا يعلمون علم الكتاب، ويدرسون المسيحية فى أصلها الأول، وإن لم يكونوا غير مذكورين فى التاريخ.
وإنه فى الجملة قد أخذت الدعوة الإسلامية تعم بلاد العرب كلها، وإذا كان قد أرسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعد ذلك مجاهدين، فقد كان عملهم تعليم الإسلام، كما سنتكلم عن غزوات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى اليمن بقيادة على بن أبى طالب، ومعاذ بن جبل رضى الله تعالى عنهما.
لقد كانت الاستجابة سريعة، والإجابة صادقة، إذ لم يكن منهم من بعد ذلك ردة كأهل اليمامة، وكان فيهم علم.
الذمى
587- جاء فى رد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على المنذر بن ساوى عندما سأله عن اليهود والمجوس، الذين يريدون الإقامة تحت سلطانه، ماذا يصنع بهم.
فذكر له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يبقيهم مع الاحتفاظ بشعائر دينهم، وألا يضاروا فى تدينهم، على أن يدفعوا الجزية.
وقد تكلمنا فى الجزية بكلمات مجملة، تليق بكتاب مكتوب فى سيرة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وإن الذى يبقى فى ظل المسلمين مقدما للأمير المسلم حق الطاعة، يسمى ذميا.
ذلك أن العهود التى يعقدها المسلمون أقسام ثلاثة:
أولها: العهد مع دولة غير إسلامية بهدنة، أو عدم اعتداء، كالعهد الذى كان بين المشركين والمسلمين فى صلح الحديبية، ويمكن عقده مع أى دولة أخرى غير دولة الشرك فى قريش.
وثانيها: عهد سلم مع المسلمين، بأن يجيبوا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى دعوته إلى الإسلام أو الحرب بأن يرضوا العهد بدل القتال، على أن يبقوا آمنين، لا يعتدون على المسلمين، ولا يظاهرون عليهم.
وثالثها: عهد يعطى للآحاد حق أن يقيموا مع المسلمين يكون لهم مالهم وعليهم ما عليهم، وتطلق لهم حرية التدين، وإقامة شعائر دينهم غير مضارين ولا محاربين، ويكونون فى الرعوية الإسلامية، كما يعبر الكتاب فى القوانين الدولية الآن.
(3/874)
وسمى هؤلاء ذميون، لأن لهم ذمة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يقول «من آذى ذميا، فأنا خصمه يوم القيامة ومن خاصمته خصمته» .
ولقد كانت لهؤلاء الذميين رعاية خاصة احتفاظا بحرمات الأديان.
وقد قرر الفقهاء جواز عقد الذمة لليهود والنصارى والمجوس، وقد عقد الذمة لأهل الكتاب من اليهود والنصارى، بنص القرآن الكريم، فقد قال تعالى فى ذلك: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ. (التوبة- 29)
فثبت بهذا أن أخذ الجزية يعفيهم من القتال، وقد شرحنا ذلك عند الكلام فى أخذ الجزية.
أما أخذ الجزية من المجوس، وغيرهم كأهل الكتاب، فى أن يكونوا ذميين وتؤخذ الجزية منهم فإنه ثبت ذلك عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى كتابه للمنذر بن ساوى، وفى غيره من الأخبار والأحاديث.
ومشركو العرب يقتلون أو يسلمون حتى لا يكون فى الأرض العربية دينان وتكون خالصة للإسلام والمؤمنين، لأنها أرض الإسلام، منها انبعث، وإليها يعود.
بقى حكم الوثنيين غير العرب كالهنود وعبدة النجوم وكالبوذيين الذين يعبدون بوذا وتمثال بوذا إلى غير هؤلاء، فقد قرر أبو حنيفة وأصحابه أن الجزية تؤخذ منهم، ويكونون ذميين، وذلك بالقياس على المجوس، لأنهم ليسوا أسوأ حالا من عبدة النار، فليس عبدة الشمس بأسوأ من عبدة النار، وكذلك غيرهم، وإلى هذا الرأى نميل.
وإن الذمة عقد يثبت بالأمان والإقامة، وهو يوجد التزاما على ولى الأمر من المؤمنين بأن يتركهم وما يدينون، لا يضطهدون فى شعائرهم بل يقيمونها، وأن يعاملوا معاملة المؤمنين فى التمكين من الحياة وحمايتهم فى أنفسهم وأموالهم وحرماتهم، وأنكحتهم، وكل شؤون أسرتهم فيما بينهم، ولا يحرمون من حق وعليهم أن يلتزموا أولا بكل الأحكام الإسلامية، فتطبق عليهم العقوبات الإسلامية كاملة، يطبق عليهم القصاص، وتطبق عليهم الحدود كلها: حد السرقة، وحد الزنا، وحد القذف، فيقام عليهم إن قذفوا محصنة أو محصنا من المسلمين، ويحدون حد قطاع الطريق.
وتطبق عليهم الأحكام الإسلامية فى المعاملات من بيوع وإجارة ومداينات، ولا يأكلون الربا، ويخضعون معاملاتهم لأحكام ربا البيوع.
(3/875)
وألا يظهروا مخالفة الشريعة الإسلامية معلنين ذلك بألا يقيموا بيوتا للأوثان أو النيران بين المسلمين، وفى الجملة لا يظهرون بما قد يفتن المسلمين فى دينهم.
ولا يكون من هم أى خيانة للمسلمين، فلا ينتموا لدولة غير إسلامية تحارب الإسلام، ولا يناصروها وإن ذلك محادة للإسلام وأهله، ويجب أن يكون ولاؤهم للدولة الإسلامية، كولاء المسلمين لتحقق القاعدة الإسلامية: لهم ما لنا، وعليهم ما علينا.
ويلتزمون بألا يكون منهم سب للإسلام، ولا للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا لأى أحد من صحابته، فإن كانوا فهم على عهدهم وأمنهم، وإلا ينبذ إليهم، ولا يقيموا فى ظل الإسلام، أو ينالهم العقاب.
ويلتزمون بألا يلحقوا بدار الحرب، وإلا كانوا أهل حرب، ولا يكونوا أهل ذمة.
وفى الجملة يجب عليهم ما يجب على المسلم على سواء، وقد قال أبو حنيفة لهم أن يشربوا الخمر. وتكون مالا متقوما بالنسبة لهم، بحيث إذا أراقه مسلم وجب عليه دفع قيمته، والخنزير لهم أن يأكلوه، وهو مال متقوم بالنسبة لهم، وإذا اعتدى مسلم وقتل خنزيرا فعليه قيمته، كما لو قتل شاة لمسلم.
وقال أبو حنيفة: نكاح بعض المحرمات فى الإسلام صحيح إذا كانوا يعتقدون صحته، وإذا ترافعوا إلى القاضى المسلم فى نفقة زوجية بناء على هذا النوع من النكاح حكم بها، وإذا ترافعوا بنسب كذلك حكم به، وذلك تطبيق للقاعدة الفقهية، أمرنا بتركهم وما يدينون، ويجوز لولى الأمر المسلم أن يعين قاضيا من بينهم يقضى بينهم.
وإذا اتفقوا على أن يتحاكموا لدى القاضى المسلم حكم بينهم لقوله تعالى فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ، وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ، فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً (المائدة- 42) .
وإذا كانوا يخاصمون مسلما، لا يحكم بينهم إلا القاضى المسلم، حفظا لحق المسلم، ولكمال الولاية عليه. ولأنه لا ولاية لغير المسلم على المسلم.
وإذا كان خصمان من الذميين وطالب أحدهما أمام القاضى المسلم ألزم الآخر عند بعض الفقهاء، لأنه يكون كما إذا كان الخصم مسلما. وقال آخر لا يلزم. لأن له قاضيا يقضى بينهم.
وأحسب أن تعيين قاض لهم إنما هو فى شؤون الأسرة، وأمور دينهم.
(3/876)
وأما ما يتعلق بالمعاملات العامة كالبيوع والإجارات وغيرها فإن القضاء فيها لا يكون إلا للقاضى المسلم لتحقيق المساواة الكاملة بينهم وبين المسلمين.
ومسألة جواز أن يشربوا الخمر ويأكلوا الخنزير، هى رأى أبى حنيفة وحده، لأنا أمرنا أن نتركهم وما يدينون، ولأن عمر بن عبد العزيز الحاكم العادل سأل الحسن البصري: ما بالنا تركنا أهل الذمة يأكلون الخنزير ويشربون الخمر، وينكحون بناتهم؟ قال الحسن البصرى: على هذا أخذنا الجزية إنما أنت متبع لا مبتدع.
ولكن الجمهور الأعظم من الفقهاء منعوا ذلك- وذلك لأن لهم مالنا وعليهم ما علينا.
والحمد لله.
الفتح المبين
588- هو فتح مكة المكرمة فى شهر رمضان حيث ابتدأ السير إليها فى العاشر منه، ووصل إليها فى الليلة الثالثة عشرة منه، وهو لم يكن فتح قتال، بل كان فتح قلوب، وأوسع فتح للدعوة إلى الإسلام فما كان قتل وقتال إلا خطأ، ومن غير تدبير وتعمد من الصحابة الأولين، بل كان أمنا وسلاما، وتلاقى قلوب قد فرق بينها الجحود، واستضعاف الضعفاء، ومقاومة الإيمان فلما دخل محمد صلى الله تعالى عليه وسلم مكة المكرمة، وهو يقول أنا نبى المرحمة وأنا نبى الملحمة ألقى إليهم السلام والإكرام، وتلاقت العشائر التى تخاصمت ثم تهادنت، ثم سالمت ثم آمنت وإن هذا بلا شك كان نهاية الفتح، ولم يكن فى الظاهر ابتداءه، بل كان الظاهر هو إرادة القتال، إذ جاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى عشرة آلاف من المجاهدين، وما كانوا هازلين، بل كانوا جادين، ولكن عند التلاقى غمدت السيوف عن القتل، وفتحت القلوب للدخول فى دين الله أفواجا أفواجا.
ولذا كان السؤال: لم كان القتال؟، وقد كان عهد لا ينقض إلا بسبب من التزامات هذا العقد، وما كان لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن ينقض إلا بأسباب منه لأن الله تعالى يقول فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ (التوبة: 7) ولم يستقيموا، فكان هذا خيانة، فكان عليه أن يعمل بقول الله تعالى، وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً، فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ (الأنفال- 85) ، ولم يكن ثمة خوف خيانة، بل خيانة بالفعل فى جزء من العقد.
والعقد كل يكمل بعضه بعضا، فإذا دخل الغدر جزآ منه، فقد دخل النقض كله، وفقد الالتزام من الجانب الآخر كل إلزام به، إذ نقض الأول جزآ منه يبطله، ولو كان العهد يبقى ملزما، مع نقض جزئه، لتوالى النقض على كل أجزائه، فلا يبقى للعقد معنى ولا صورة، ويذهب هباء منثورا، وتتبدد أوراقه فى أدراج الرياح.
(3/877)
نقض قريش لصلح الحديبية:
589- هذا هو السبب الجوهرى، لقد نقضوا فقرة من فقراته، فنقضوه كله، على النحو الذى بيناه من أن كل عهد كل لا يتجزأ، نقض بعضه نقض لكله.
ذلك أنه كان فى العقد أن من أراد أن يدخل فى عقد قريش وعهدهم دخل، ومن أحب أن يدخل فى عقد محمد صلى الله تعالى عليه وسلم دخل، فيكون من يدخل فى عقد أحد الفريقين له حقوق العقد، وعليه التزاماته، فدخلت خزاعة فى عهد محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ودخل بنو بكر فى عقد قريش.
وكان بهذا حقا على قريش ألا تعتدى على خزاعة، وكذلك على الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وكان ثمة إحن جاهلية بين بنى بكر وخزاعة، عدت فيها خزاعة على بنى بكر فقتلت، وعدت مثلها على خزاعة فقتلت، ثم كانت من بعد ذلك معركة، كان الغلب فيها لخزاعة.
وكانت العداوة قائمة، فلما جاء الإسلام وحاربت قريش النبى صلى الله تعالى عليه وسلم والذين آمنوا، شغلوا بحربه، وكانوا على ضغن.
فلما كانت الهدنة، كانت خزاعة تحس من قريش نفرة ومعاونة لعدوها، فدخلت فى عقد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان بهذا العهد عليه حمايتها فى دائرة العقد، وكان بنو بكر على وداد مع قريش فدخلوا فى عقدها.
وكان صلح الحديبية مغريا بالانتقام اتخذه بنو بكر فرصة انتهزوها ولم يعلموه عهدا عليهم يلتزمون بمبادئه.
اعتدى بنو بكر على خزاعة، ورفدتهم قريش بالسلاح، ثم قاتلوا معهم مستخفين ليلا، منهم صفوان بن أمية، وحويطب بن عبد العزى، ومكرز بن حفص.
وما زالوا يقاتلون حتى انحازوا إلى البيت، وكان حقا عليهم أن يمنعوا القتال فى البيت الحرام الذى جعله الله حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم، ولكن قائدهم نوفل بن معاوية قاتل مع اعتراض بنى بكر، إذ قالوا له: يا نوفل إنا دخلنا الحرم إلهك.
فقال كلمة كبيرة، بل فاجرة، قال: لا إله اليوم، يا بنى بكر أصيبوا ثأركم فلعمرى إنكم لتشرقون فى الحرم، فلا تصيبون ثأركم فيه.
(3/878)
ولجأ بنو خزاعة إلى داخل دار بديل بن ورقاء الخزاعى ودار مولى لهم وكانت هذه مقتلة فاجرة.
وخرج رجل من بنى خزاعة اسمه عمرو بن سالم الخزاعى حتى قدم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
وبذلك حدثت أمور استوجبت أن يقف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مع الذين فى عهده ضد بنى بكر ابتداء، ومن أعانوهم.
لقد ارتكب بنو بكر خيانة العهد. والقتال فى البيت الحرام. وعاونتهم قريش فيما ارتكبوا من خيانة عهد وإصابة للحرمات.
فما كان للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يسكت على هذا الضيم الذى ينزل بأهل عهده من أعدائهم، وبمعاونة قريش.
خرج بديل بن ورقاء الخزاعى إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذى لجأوا إلى داره فى نفر من خزاعة بعد عمرو بن سالم، فأخبروه كما أخبره من قبل عمرو بن سالم بما أصيبوا به من بكر، ومظاهرة قريش لهم.
وعاد بديل، فالتقى بأبى سفيان وقد جاء يجس النبض، ويطلب شد العقد، ومد المدة. وظن أبو سفيان أنه جاء للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
جاء أبو سفيان، وقد أدرك كبر ما فعلت قريش، وما كان قد تحرك لمنع هذا، ولكن قد وقعت الواقعة، ولعله لم يكن لما حدث كارها.
استمر أبو سفيان فى مسيره حتى التقى بابنته أم حبيب قادما للقاء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
أراد أن يجلس على فراش رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فطوته فقال: يا بنية ما أدرى أرغبت بى عن هذا الفراش أم رغبت به عنى، فقالت: هو فراش رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنت مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس على فراشه، فقال: يا بنية، والله لقد أصابك بعدى شر.
ظن أن ابنته وهى زوج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد تكون شفيعا عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكنها بادرته بما ألقى فى نفسه اليأس، فالتمس الشفاعة عند غيرها ذهب إلى أبى بكر، فكلمه فى أن يكلم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: ما أنا بفاعل، ذهب
(3/879)
إلى عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه، فكلمه، فقال عمر رضى الله عنه: أنا أشفع إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فوالله لو لم أجد لكم إلا الذر لجاهدتكم به، ترك عمر يائسا، كما يئس من أبى بكر.
فذهب إلى على بن أبى طالب، وله به رحم، فدخل على على وعنده الزهراء فاطمة بنت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وعنده حسن ابنها غلام يدب بينهما.
قال أبو سفيان يا على إنك أمس القوم بى رحما، وأقربهم منى قرابة، وقد جئت فى حاجة فلا أرجعن كما جئت خائبا فاشفع لى إلى رسول الله.
قال على: ويحك أبا سفيان، والله لقد عزم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه.
التفت أبو سفيان إلى الزهراء فاطمة فقال لها: يا بنت محمد هل لك أن تأمرى ابنك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر.
قالت الزهراء فاطمة: والله ما بلغ بابنى ذلك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
اتجه أبو سفيان مرة ثانية، وقال له: يا أبا الحسن إنى أرى الأمور قد اشتدت على، فانصحنى، فقال على: والله ما أعلم شيئا يغنى عنك، ولكنك سيد بنى كنانة، فقم فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك.
قال أبو سفيان: أو ترى ذلك مغنيا عنى شيئا، قال على: لا والله ما أظن، ولكن لا أجد عملا غير ذلك. قام أبو سفيان فى المسجد، فقال: أيها الناس إنى قد أجرت بين الناس. ثم ركب بعيره فانطلق حتى قدم على قريش، وقد أحسوا كبر ما فعلوا، وحمق ما صنعوا، سألوه، فأخبرهم بأن أحدا لم يردوا عليه شيئا، لا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا أبو بكر ولا عمر، ثم ما أشار به على من أنه أجير بين يدى الناس، فسألوه هل أجاره النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. قال: لا.
(3/880)
ذل الغدر
590- غدرت قريش فى عهدها، وما كان لها ذلك، وجاء أبو سفيان كبيرها يستغفر للخيانة التى لم يمنعها وأراد عجبا، أن يمنع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من أن يحمى من دخلوا فى عهده، وأن يتركهم من غير أن يحميهم عهدهم، وتشفع بابنته، فما شفعت وتشفع بأبى بكر فامتنع امتناعا قاطعا، وإن كان هادئا كطبعه رضى الله تبارك وتعالى عنه إلا فى الشديدة، وتشفع بعمر فرده ردا عنيفا، وتشفع متوسلا بالرحم لعلى فما شفع هو ولا الزهراء فاطمة، وقالت كلمة حاسمة:
لا يجار على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
وكان عجبا أن يجير على قريش كلها، ليكون لها أمان من الغزو، لأنه شعر بالجريمة وقعت منها كلها، وإذا كانت حرب فعليها كلها.
ونقول إنه قد جاء لتوثيق العهد وزيادة المدة، وإن ذلك يتضمن بلا ريب إلغاء العهد السابق وما اشتمل عليه، وربما توهم أن ذلك ربما يسقط الغدر الأول، ولعله ظن أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يعلم غدرة قريش التى تعد فسخا للعقد، فلما رأى أن الخزاعى سبقه وأخبر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكن بد من أن يطلب الأمان لقريش. ولكن لم يجب.
وروى موسى بن عقبة أن أبا سفيان دخل على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قبل أن يدخل على أبى بكر وعمر وعلى. وقال له: «يا محمد شدد العقد وزدنا فى المدة، فقال له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: ولذلك قدمت، هل من حدث قبلكم؟ قال معاذ الله، نحن على عهدنا، لا نغير ولا نبدل» .
ثم ذهب على الصحابة أبى بكر، ثم عمر، ثم عثمان، إلى أن وصل إلى على، فلان معه المجاهد الأول بعض اللين.
وقد صرحت هذه الرواية بأنه ذهب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ليأخذ منه إقرارا على ما قال فى المسجد، فقال له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن قال: أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة- ردا على قوله ما أظن أن تخفرنى- أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة.
وقد عاد إلى قومه فاستخفوه إذ قص عليهم خبر الرحلة، وقالوا له: رضيت بغير رضا، وجئتنا بما لا يغنى عنا ولا عنك شيئا، وإنما لعب بك على، لعمرو الله ما جوارك بجائر، وإن إخفارك عليهم لهين. وحدث امرأته بحديث الرحلة، فقالت له: «قبحك الله من وافد قوم فما جئت بخير» .
(3/881)
الاستعداد للفتح
591- كان لا بد إذن من اللقاء، وروى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن صنعت ما صنعت قريش بمن فى عهده اعتزم أن يذهب إلى مكة المكرمة بالفتح المبين، وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: والله لأغزون قريشا، قالها ثلاث مرات، على ما روى.
أذن أصحابه بأن يتجهزوا للذهاب إلى مكة المكرمة، وأمرهم بالجد والتهيؤ وقال: «اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش، حتى نبغتها فى بلادها» .
ولقد أخطأ بعض الصحابة ممن حضروا بدرا، وله فى الجهاد مقام، خطأ يعد فى نظر الحرب والجهاد خيانة أو خطيئة، ولكن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الحكيم الواسع العقل والصدر عفا عنه، بعد أن أبطل عمله.
بينما النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يضرع إلى ربه أن يأخذ العيون والأخبار عن قريش، أراد بعض الصحابة أن يكون عينا لقريش يخبرها.
كتب حاطب بن أبى بلتعة كتابا إلى قريش يخبرهم بالذى أجمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من الأمر بالسير إليهم. وأعطى كتابه امرأة وأوصاها بإخفائه، وجعل لها جعلا حتى تبلغه قريشا، فجعلته فى رأسها وفتلت عليه ضفائرها فى قرونها، ثم خرجت به.
وأوحى إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بما فعل حاطب، وفعلت المرأة فبعث اثنين من أخلص حوارييه شابين نشا فى طاعة الله والجهاد فى سبيله، وهما على بن أبى طالب، والزبير بن العوام.
فخرجا حتى أدركاها بالحليفة، فاستنزلاها من فوق البعير الذى تركبه، فالتمسا الكتاب فى رحلها فلم يجداه، فقال على فى حزم: إنى أحلف بالله ما كذب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا كذبنا؛ ولتخرجن هذا الكتاب، أو لنكشفنك. فلما رأت منه الجد قالت لعلى: أعرض فأعرض، فحلت قرون رأسها، فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليه.
فذهبا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهنا نجد الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم القوى يسأل عن مسوغ لهذه الخيانة، فيقول فى رفق القوي، ورحمة الحليم.
يا حاطب ما حملك على هذا- لم يجابهه بالخيانة، ولكن طلب إليه مسوغا، إن كان لمثل هذا مسوغ، ولكن الكريم الحليم القوى أراد أن يقدم اعتذارا عما فعل من غير أن يبادره باللوم والتعنيف.
أجاب حاطب عن هذا السؤال وقد أحس بالضمير يؤنبه: يا رسول الله أنا والله مؤمن بالله ورسوله ما غيرت، ولا بدلت. ولكنى كنت امرأ ليس لى فى القوم من أهل ولا عشيرة، وكان لى بين أظهرهم وفود وأهل فصانعتهم عليه.
(3/882)
لا شك أن الجواب لا يبرر العمل، ودل على شيء غير قليل من الضعف النفسي، فوفوده وأهله بينهم من قبل الحديبية، ولعلهم وصلوا إلى مكة المكرمة فى مدتها، وفى كلتا الحالين، ما كانت البواعث الشخصية تسوغ مخالفة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وهو القائد الأعلى صلى الله تعالى عليه وسلم ولا تعريض الجيش للأذى، والاستعداد له ومواجهته، وقد تدول الدولة لأعدائه.
ولذلك لم يستسغ عمر رضى الله عنه ذلك، بعد أن لم يستسغه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ولذلك قال عمر رضى الله تعالى عنه: يا رسول الله دعنى فلأضرب عنقه، فإن الرجل قد نافق، ولكن الرسول الكريم صلى الله تعالى عليه وسلم الذى لم يستسغ ذلك العذر، خالف عمر، وقال معتذرا عن حاضره بماضيه فى بدر: ما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع على أصحاب يوم بدر، فقال اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم.
ما يرد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عن فعلته التى فعلها، ولكنه يلومه فى عبارات رقيقة عاطفة إن ماضيه ينهاه عن حاضره، وأظن أن ذلك القول، أروع من قول الفاروق عمر.
ولقد قالوا إنه نزل فيه قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ، يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ، أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ، إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي، وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي، تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ، وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ، فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ. إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً، وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ، وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ. لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ، يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ، إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ، وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَفَرْنا بِكُمْ، وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ، إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ، رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ
(الممتحنة- 1: 4) .
وإذا كان ثمة أمر يسهل أن يرتكب الصحابى البدرى ذلك، فليس هو النفاق، ولكن المدة التى سهلت الالتقاء أحيت ما كان من مودة قديمة، فسال سيله فى طريقها حتى وقع فى هذا الخطأ، بل الخطيئة، ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، قد جعل ماضى أمره مسقطا لذنب حاضره وهو الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم المؤلف بين القلوب، الجامع لها، وهو بالمؤمنين رؤف رحيم.
(3/883)
خروج الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم
592- خرج رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم ماضيا لسفره، واستخلف علي المدينة المنورة أبارهم كلثوم بن حصين بن عتبة بن خلف الغفاري، وذلك ليعلم الناس أنه لا تفاوت في الولاية بالنسب، فقد ولى من الأنصار والمهاجرين من بطون قريش وغيرهم.
خرج صلي الله تعالي عليه وسلم لعشر ليال من رمضان، وصام الناس، حتي إذا كان بالكديد أفطر- لأنه صار علي سفر، ولأنه رخص للمسافر أن يفطر، وقد قال الله تعالى: وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (البقرة- 185) .
وإن الله يحب أن تؤتي رخصه، كما تؤتي عزائمه، والسفر قطعة من العذاب في الصحراء العربية وحال الجهاد تجعل الفطر قوة فيه، وكل ما يؤدي إلي القوة فيه يكون مطلوبا علي قدر هذه القوة، ويظهر أن بعض المؤمنين تحرجوا من أن يفطروا في رمضان، فدعا رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم بإناء فشرب نهارا ليري الناس، فأفطر حتي قدم مكة المكرمة مفطرا.
صار رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم، حتي لقيه في الجحفة عمه العباس بن عبد المطلب، مهاجرا هو وأهله، وقد كان إسلامه سابقا علي ذلك، وبقي علي السقاية في الكعبة الشريفة:
ولقيه عليه الصلاة والسلام في الطريق بعض ذوي قرابته، أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فالتمسا الدخول عليه فكلمته أم سلمة، وكان رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم ذا مودة وخير دائما، فقالت له ابن عمك وابن عمتك وصهرك يا رسول الله، قال:
«لا حاجة لي بهما، أما ابن عمي، فهتك عرضي، وأما ابن عمتي وصهرى فهو الذى قال لي ما قال بمكة» ذلك أن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم لما دعا إلي ربه قال له: «والله لا آمنت لك حتي تتخذ سلما إلى السماء فتعرج فيه وأنا أنظر، ثم تأتي بصك وأربعة من الملائكة يشهدون بأن الله تعالي أرسلك» .
وأصر رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم علي عدم الإذن لهما، فلما خرج إليهما الخبر، قال أبو سفيان ابن عم الرسول صلي الله تعالي عليه وسلم ومعه ابن صغير له فقال: والله ليأذنن لي أو لآخذن بيد بني هذا، ثم لنذهبن في الأرض، ثم نموت عطشا وجوعا، فرق لهما رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم لرحمه ما، ولأنهما قد رقا للإسلام، والإسلام يجب ما قبله.
(3/884)
قريش تتحسس الأخبار
593- مضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى نزل مر الظهران فى عشرة آلاف من المسلمين، وفى رواية فى اثنى عشر ألفا، وقد عميت الأخبار عن قريش، ولكنهم يظنون لنقضهم العهد الذى كان بينهم وبين الرسول صلوات الله وسلامه عليه لم يحسوا بأمر، ولكن هم يتوقعون أمرا، فخرج فى تلك الليالى أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء الخزاعي، يتحسسون الأخبار، وينظرون هل يجدون خبرا.
ويلاحظ من ذلك أن الثلاثة يختلف اثنان فيهم عن الثالث، لأن بديلا هو الذى ذهب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يستنصر بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم لخزاعة، إذ عاونت قريش بنى بكر فى قتالهم لخزاعة، حتى جاوزوهم إلى البيت الحرام فما امتنعوا، فلعل الجميع كانوا يتحسسون، ولكن اختلفت الغاية عندهم.
وفى الوقت الذى كانت قريش تتحسس فيه أخبار النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان العباس ابن عبد المطلب الودود المسالم يريد أن يرسل إلى قريش من يعرفهم مكان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ليجيئوا إليه مستأمنين لكيلا يكون قتال بل يكون أمن وسلام، ويقول رضى الله عنه من جراء محبته لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: والله لئن دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مكة المكرمة عنوة قبل أن يأتوه، فيستأمنوه، إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر.
ركب بغلة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم البيضاء وأخذ يتلمس الحطابين، أو ذوى الحاجات الذين يسيرون فى الصحراء ليجد من يخبر أهل مكة المكرمة.
وبينا هو فى سيره متحسسا سمع صوت أبى سفيان، ولنترك له رضى الله عنه، يحكى كيف كان لقاؤه مع صديقه المشرك أبى سفيان، وهو المؤمن فهو يقول:
وإنى لأسير عليها (بغلة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) ، إذ سمعت كلام أبى سفيان، وبديل بن ورقاء وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيرانا قط، ولا عسكرا. قال بديل:
هذه والله خزاعة حمستها (أى ألهبتها) . قال أبو سفيان: خزاعة أذل من ذلك وأقل أن تكون هذه نيرانها وعسكرها، فعرفت صوته فقلت يا أبا حنظلة فعرف صوتى فقال أبو الفضل، قلت نعم، قال مالك فداك أبى وأمى؟ قلت ويحك يا أبا سفيان، هذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى الناس، واصباح قريش والله، قال: فما الحيلة، فداك أبى وأمى، قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك. فاركب فى
(3/885)
عجز هذه البغلة، حتى آتى بك رسول الله فأستأمنه لك، فركب خلفي، ورجع صاحبه، فجئت به، كلما مررنا بنار من نيران المسلمين، قالوا من هذا فإذا بغلة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنا عليها، قالوا هذا عم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على بغلته، حتى مررت على عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال من هذا، وقام إلي، فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة، قال: أبو سفيان عدو الله، الحمد لله الذى أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وركضت، فسبقته بما تسبق الدابة البطيئة الرجل البطيء فاقتحمت عن البغلة فدخلت على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ودخل عليه عمر، فقال يا رسول الله هذا أبو سفيان، قد أمكن الله تعالى منه بغير عقد ولا عهد، فدعنى فلأضرب عنقه، قلت: يا رسول الله، قد أجرته، ثم جلست إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فأخذت برأسه فقلت والله لا يناجيك الليلة، دونى رجل، فلما أكثر عمر فى شأنه (أى أبى سفيان) قلت مهلا يا عمر، فوالله لو كان من بنى عدى بن كعب ما قلت هذا، ولكنك قد عرفت أنه من رجال بنى عبد مناف. فقال: مهلا يا عباس، فو الله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلى رسول الله من إسلام الخطاب، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتنى به، فذهبت به إلى رحلي، فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فلما رآه، قال ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله. قال أبو سفيان بأبى أنت وأمى ما أحلمك وأكرمك وأوصلك؛ والله لو قد علمت أن معه إلها غيره لقد أغنى عنى شيئا بعد، قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ألم يأن لك أن تعلم أنى رسول الله، قال أبو سفيان، أما هذه والله فإن فى النفس منها حتى الآن شيئا، فقال العباس: ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك فشهد شهادة الحق، فأسلم.
قلت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا. قال: نعم.
قال محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الذى يحب حقن الدماء.
من دخل دار أبى سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.
فلما ذهب أبو سفيان لينصرف قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: احتبسه عند خطم الجبل (أنف الجبل) حتى تمر به جنود الله تعالى فيراها.
فحبسه، حتى مرت به الرايات كل قبيلة على رايتها، وكلما مرت قبيلة، قال: يا عباس ما هذه القبيلة، وأخذ يسأل عنهم قبيلة قبيلة، حتى مرت قبيلة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم برايته
(3/886)
الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، فقال: سبحان الله من هؤلاء؟ قلت رسول الله فى المهاجرين والأنصار، قال أبو سفيان ما لأحد بهؤلاء، والله يا أبا الفضل قبل، لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما، قال العباس يا أبا سفيان إنها النبوة، فقال نعم إذن.
594- ذكرنا هذا الحديث بطوله، لأنه التقاء صديقين كلاهما يتحسس الأخبار لحماية مكة المكرمة من الحرب، فالعباس رضى الله عنه يتحسس، ليرسل لقريش يحرضهم على أن يستأمنوا لأنفسهم من جيش الإيمان لكيلا تكون حرب فى الحرم، ولتحمى قريش نفسها لا بالحرب، ولكن بالإيمان أو الأمان.
وأبو سفيان يتحسس الأخبار، لأنه توجس خيفة بعد الغدر، وتوقع من محمد صلى الله تعالى عليه وسلم عملا لحماية من دخلوا فى عهده، ولأنه أصبح فى حل من الصلح الذى صالحوه عليه، إذ نقضوه من جانبهم، فهو عليهم رد ولا سبيل لأن يدفعوا بعهد نقضوه.
والتقى الصديقان، وكان لقاء فيه خير، إذ انتهى بإسلام أبى سفيان، وضمه للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، بعد أن أرضى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
وقد بذل العباس فى ذلك جهدا، خصوصا عندما اشتد عمر رضى الله تعالى عنه، وما كنا لنقر العباس رضى الله عنه فى قوله لعمر لو كان من عدى ما وقف فى هذا، فعمر لا يمكن أن يؤثر قرابة فى قول الحق، وهو الذى قال فيه صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن الله كتب الحق على لسان عمر وقلبه» ومهما يكن من تلك الكلمة، فإن العباس رضى الله تعالى عنه، قد كانت سياسته حكيمة فى ضم أبى سفيان، فإنه كان له أثر فى حقن الدماء، ومنع الحرب.
لقد قال من بعد ذلك العباس لأبى سفيان يحرضه على السرعة فى الذهاب إلى قريش يسكنها قال له النجاء إلى قومك، أى السرعة المنجية.
فلما جاءهم صرخ بأعلى صوته، يا معشر قريش قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبى سفيان فهو آمن، قالوا له قاتلك الله، وما تغنى عنا دارك، قال ناقلا عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد، فهو آمن.
وبهذا تهيأت النفوس للإسلام إلا بعض الذين أكل الحقد قلوبهم، وسيطر عليهم النزع الجاهلي، ولم ينظروا إلى ما هو أمامهم، بل التفتوا إلى ما وراءهم، ولكنهم مع ذلك لم يجعلوها حربا،
(3/887)
لأن الله تعالى. أراد السلام وقصد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يدخل البيت معظما مشرفا، زاده الله شرفا وتعظيما.
اللقاء
595- لم نقل المعركة، ولكن قلنا اللقاء، لأنه لقاء التصفية وتنقية القلوب من ضغائنها، وتلاقى النفوس على المرحمة بعد الملاحم، ومن يقدر على ذلك إلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذى أرسله رب العالمين الذى ألف بين قلوبهم القائل تعالت كلماته: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ، فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً، وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ، فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها (آل عمران: 103) .
دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا دخول المقاتل، ولكن دخول المسالم الذى يريد أن يفتح القلوب للإيمان، فكان على أحد جانبى الجيش الزبير بن العوام، وعلى الجانب الآخر خالد بن الوليد، وعلى المهاجرين أبو عبيدة عامر بن الجراح، والجميع متجهون صوب مكة المكرمة، من شمالها الزبير بن العوام بمن يقودهم، ومن جنوبها خالد بن الوليد بمن يقودهم، ومن الشمال الغربى أبو عبيدة بالمهاجرين ومن الغرب سعد بن عبادة يقود الأنصار.
وكانت أوامر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ألا يقتلوا ولا يقاتلوا فما دخلوا لحرب ولكن لأجل إقرار السلم.
ولكن علم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وهو فى كتيبته أن أوشاب قريش أو بعضهم، ليسوا من كبرائهم، ورأى أن هؤلاء قد يشوهون وجه اللقاء، فنادى أبا هريرة: اهتف بالأنصار، ولا يأتين إلا أنصاري، فأمر الأنصار بأن يحصدوهم حصدا إذا وجدوا منهم أمرا يخرج المجاهدين السالمين عن سلمهم.
ركزت راية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عند الحجون.
لقد كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حريصا على أن يبعد كل نزعة إلى الحرب، ويبعد صاحبها ولو كان عنده من المقربين الذين أيدوه بنصرهم، والناس عنه معرضون.
قال سعد بن عبادة حامل راية الأنصار عندما مر على أبى سفيان، أو جعل شعاره: «اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمات» فقال عمر بن الخطاب: أتسمع. وقال عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله ما نأمن أن يكون له فى قريش صولة، وقال صلى الله تعالى عليه وسلم:
بل اليوم يوم تعظم فيه وتعز فيه الكعبة الشريفة، اليوم يوم أعز الله فيه قريشا. ثم أرسل على بن أبى طالب
(3/888)
لينزع منه الراية، وفى رواية أنه أعطاها عليا، وفى رواية أعطاها الزبير بن العوام، والرواية المشهورة أنه أعطاها قيس بن سعد بن عبادة، لكيلا يكون فى نفس سعد بن عبادة شيء من نزعها، إذ أنها أعطيت لابنه فأخذت منه إليه، ولأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يريد ألا يحمل راية الأنصار إلا أنصارى لتكون حمية الأنصار وليكون لهم مقام الفتح برجالهم وبقيادتهم، والرواية التى تقول أنه عليه الصلاة والسلام أعطاها عليا، قامت على أن عليا هو الذى نزعها منه، ولعل الزبير هو الذى أعطاها قيسا، بأمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وبذلك تتلاقى الروايات الثلاث؛ وتكون الراية انتهت إلى ابن سعد.
دخول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مكة المكرمة:
596- دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مكة المكرمة، ومعه لواء أبيض، وعليه عمامة سوداء وهو يقرأ سورة الفتح وهو راكب على ناقته، وكان يرجع فيها، فهو يترنم بها، ويرجع كلماتها مستطيبا ألفاظها ومعانيها، وقد خفض رأسه متواضعا لله تعالي، ولما انتهى إلى ذى طوى اعتجر بشقة بردة حبرة حمراء، وإن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليضع رأسه تواضعا لله تعالي، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى عثنونه لتكاد يمس الرحل.
ويروى أن رجلا كلم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم الفتح فأخذته الرعدة، فقال الرسول الذى يزيده التواضع عزا، أو كما قال: «هون عليك، فإنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد» .
وإن العزيز الكريم لا تزيده القوة إلا تواضعا، يقول فى ذلك ابن كثير «وهذا التواضع فى هذا الموطن عند دخوله مكة المكرمة فى مثل هذا الجيش الكثيف العرمرم بخلاف ما اعتمده سفهاء بنى إسرائيل حين أمروا أن يدخلوا باب بيت المقدس، وهم سجود أى ركع يقولون حطة، فدخلوا يزحفون على أستاههم وهم يقولون حنطة» .
وأنى يكون بنى إسرائيل الذين تطغيهم النعمة من محمد الكريم صلى الله تعالى عليه وسلم، الذى تدفعه النعمة إلى التواضع، فيقوم بحقها وشكرها، فشكر كل نعمة، نعمة من نوعها، فشكر القوة الرفق والعدل، وشكر الرفعة التواضع، وقد رفع الله تعالى نبيه، بما لم يرفع به رجل فى العرب، وبما لم يرفع به نبى فى أمته، فكان هذا التواضع الكريم الذى زاده عزا.
وقد دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من أعلى مكة المكرمة من كداء، وهو أصح الروايات، كما جاء فى البخارى.
(3/889)
إسلام أبى قحافة:
597- وقف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بذى طوي، ولم يكن أبو بكر قد التقى بأبيه أبى قحافة منذ هاجر إلا أن يكون قد زاره فى عمرة القضاء.
وكان قد أصيب فى عينيه، فكف بصره، فكان يرى الرؤية الكاملة بابنته أصغر أولاده، فلما وقف عند ذى طوي، وقف أبو قحافة على جبل أبى قبيس، فقال: أى بنية ماذا ترين؟ قالت أرى سوادا مجتمعا قال: تلك الخيل، قالت وأرى رجلا يسعى بين ذلك السواد مقبلا مدبرا، قال أى بنية من ذلك الوازع (الذى يأمر الخيل ويتقدم إليها) ثم قالت قد والله انتشر السواد، فقال قد والله إذن دفعت الخيل، فأسرعى بى إلى بيتي، فانحطت به، وتلقاه الخيل قبل أن يصل إلى بيته، وفى عنق الجارية طوق من ورق (فضة) فيلقاها رجل فيقتطعه من عنقها.
فلما دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مكة المكرمة ودخل المسجد أتى أبو بكر بأبيه (أبى قحافة) يقوده، فلما رآه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «هلا تركت الشيخ فى بيته، حتى أكون أنا آتيه» ، قال: يا رسول الله هو أحق أن يمشى إليك من أن تمشى أنت إليه.
أجلس النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أبا الصديق، ثم مسح على صدره، ثم قال: أسلم، فأسلم، ثم قام أبو بكر، فأخذ بيد أخته الصغيرة يسألها عن طوقها، ولما علم أنه خطف منها، أنشد المسلمين بالله والإسلام طوق أخته.
فقال الصديق معزيا أخته الصغيرة فى قرطها، إن الأمانة اليوم قليل، فاحتسبى طوقك. هذا هو الرفق، إن الطوق الفضى أحب إليها فى سنها، فواساها الصديق فيه رفقا ومحبة، ولقد هنأ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أبا بكر صاحبه فى الغار بإسلام أبيه.
قتال فى جوانب من مكة المكرمة:
598- نهى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عن القتال، ولكنه لم ينه عن الدفاع، وقد ذكر أن أهل مكة المكرمة قد رضوا بالمسالمة والسلام، واطمأنوا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلا الذين بقوا على جاهليتهم ولم يذوقوا حب الإيمان أو أن فيهم الحقد الدفين، والرغبة فى الثأر، لا يريدون سلاما، ولكن يريدون حربا وخصاما، ولم يؤخذوا بالقوة، بل جحدوا بها، كما جحدوا هم وآباؤهم بالحق إذ جاءهم.
(3/890)
فهؤلاء المتطرفون فى عداوتهم قد تجمعوا مع بنى بكر الذين كانت مناصرتهم سببا لخرق العهد، وقد تجمعوا فى منطقة الخندمة، فلما وصلها خالد ومن معه أمطروها وابلا من النبل، فاضطر خالد أن يقاتلهم حتى فرق جمعهم، وكانوا عددا قليلا يسهل تفريقه.
وأسلست قريش القياد، ولم تنفر، ورضيت بالبقاء، ولم يقتل من أصحاب خالد إلا اثنان قد ضلا وشذا بالانفراد، فيظهر أنهما قد تمكن الأعداء منهما، وكان فى الذين هاجموا خالد بن الوليد بالنبل، صفوان بن أمية وعكرمة بن أبى جهل فانطلقا خارجين إلى البحر، ولم يقبلا أن يقيما مع محمد صلى الله تعالى عليه وسلم بمكة المكرمة أو تحت سلطانه.
بعد أن انهزم صفوان، اتجه إلى جدة، فقد روى ابن إسحاق قال: خرج صفوان بن أمية يريد جدة ليركب منها إلى اليمن، فقال عمير بن وهب: يا نبى الله، إن صفوان بن أمية سيد قومه، وقد خرج هاربا، ليقذف نفسه فى البحر، فأمنه صلى الله تعالى عليه وسلم، قال: هو آمن، قال يا رسول الله، فأعطنى آية يعرف بها أمانك، فأعطاه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عمامته التى دخل بها مكة المكرمة، فخرج بها عمير حتى أدركه، وهو يريد أن يركب فى البحر، فقال: يا صفوان فداك أبى وأمي، الله الله فى نفسك أن تهلكها، فهذا أمان من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد جئتك به، قال: ويلك اغرب عنى فلا تكلمنى. قال: أى صفوان، فداك أبى وأمي، أفضل الناس وأبر الناس، وأحلم الناس وخير الناس ابن عمك، عزه عزك، وشرفه شرفك، وملكه ملكك، قال: إنى أخافه على نفسى؟ قال: هو أحلم من ذلك وأكرم، فرجع معه حتى وقف به على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، قال صفوان: إن هذا يزعم أنك قد أمنتني، قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، صدق قال: فاجعلنى فيه بالخيار شهرين قال: أربعة أشهر، هذا هو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فى خلقه، الرفيق اللين فى قوته المتواضع فى عزته يرجو العربى العنيف، ليستأمنه فيؤمنه، ولكنه يشترط لقبول الأمان الخيار شهرين.
ولقد جاءت إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أم حكيم زوج عكرمة بن أبى جهل فأسلمت، فاستأمنت لزوجها عكرمة فأمنه، وكان قد سبق صفوان، إلى اليمن وتخلف صفوان كما ذكرنا، فلحقت به إلى اليمن، فجاءت به فلما أسلم عكرمة بقيت معه زوجه أم حكيم، وكذلك كانت فاطمة بنت الوليد زوجا لصفوان بن أمية، فلما أسلم بقيت زوجه.
وقد بقيتا بالزواج الأول، وذلك أن من تسلم زوجه، وهو كافر يعرض عليه الإسلام، فإن أسلم بقيت الزوجية كما هى من غير عقد جديد، وذلك لأن الفرقة لا تكون بسبب الإسلام، وإنما تكون بسبب إباء الزوج الإسلام بعد العرض عليه.
(3/891)
وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عندما بلغه القتال الذى كان بين خالد بن الوليد أرسل إليه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ينهاه عن القتال، فانتهي، وروى أنه لم يقتل من المشركين إلا بضعة عشر من الرجال. وإن مبدأ من دخل داره فهو آمن قد طبقه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فلم يقتل رجلا أغلق عليه داره، وإنه يذكر فى ذلك أن اثنين من أحماء أم هانيء بنت أبى طالب أخت على بن أبى طالب رضى الله عنهما لجا فتبعهما على لأنهما لم يغلقا دارهما عليهما وفرا إلى أم هانيء، ليقتلهما، ولكنها أغلقت عليهما باب بيتها، وعلى يريد قتلهما فى دارها، وأمام إصرار على رضى الله تعالى عنه ذهبت أم هانئ إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأعلى مكة المكرمة فوجدته يغتسل، وفاطمة ابنته تستره بثوبه، فلما اغتسل أخذ ثوبه فتوشح به، ثم صلى ثمانى ركعات، ثم انصرف إلى أم هانئ فقال:
مرحبا وأهلا، يا أم هانئ، ما جاء بك، فأخبرته خبر الرجلين، وخبر علي، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: أجرنا من أجرت، وأمنا من أمنت، فلا يقتلهما.
دخول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم المسجد الحرام:
599- دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم البيت الحرام بعد أن ركز رايته بالحجون ثم نهض والمهاجرون والأنصار يحيطون به بين يديه ومن خلفه وحوله، فأقبل إلى الحجر الأسود، فاستلمه، ثم طاف بالبيت وعليه قوس، وحول البيت ستون وثلاثمائة صنم، وهى متماسكة، فجعل يطعنها بالقوس، ويقول «جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا. وما يبديء الباطل وما يعيد» والأصنام تتساقط على وجوهها بمجرد إصابتها بقوسه، حتى أتى عليها جميعا تنكيسا.
وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يطوف على راحلته، ولم يكن ذلك محرما، واقتصر فى دخوله على الطواف.
ولقد جاءه على كرم الله وجهه ومعه مفتاح الكعبة الشريفة، وأعطاه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وطلب أن يعطيهم الحجابة، والسقاية معهم فى يد العباس رضى الله تبارك وتعالى عنه فدعا عثمان ابن طلحة، فأعطاه المفتاح، وعثمان هذا هو ثالث الثلاثة الذين أسلموا فى رحلة واحدة، هم عثمان بن طلحة هذا وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص.
وأمر بالكعبة الشريفة ففتحت ودخلها، ورأى فيها جملة من الصخور منحوتة فى الصخر، ورأى فيها صورة إبراهيم، وإسماعيل يستقسمان بالأزلام وهى منحوتة أيضا، فقال: قاتلهم الله، والله إن استقسما بها قط (أى ما استقسما) ورأى فى داخل الكعبة الشريفة حمامة من عيدان فكسرها، وأمر
(3/892)
بالصور فمحيت كلها، ثم أغلق الباب على نفسه، وعلى أسامة وبلال فاستقبل الجدار الذى يقابل الباب، حتى إذا كان بينه وبينه قدر ثلاثة أذرع، وقف وصلى.
ثم دار فى البيت وكبر فى نواحيه، وفتح الباب.
وقد خرج من باب الكعبة الشريفة، وكانت قريش قد ملأت المسجد ينتظرونه، فخرج إليهم من محراب الله وكأنه مقبل عليهم من عند رب البيت، الذى جعله حرما آمنا، والناس يتخطفون من حولهم.
وقد دهشوا، يتعرفون ماذا يصنع.
فأخذ بعضادتى الباب وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو مال أو دم فهى تحت قدمى هاتين إلا سدانة البيت. وسقاية الحاج.
قال: وقتل العمد. وشبه السوط والعصا، فيه الدية مغلظة، فإنه من الإبل أربعون منها فى بطونها أولادها.
يا معشر قريش إن الله تعالى أذهب عنكم نخوة الجاهلية. وتعظمها بالآباء.. الناس من آدم وآدم من تراب، ثم تلا الآية يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات- 13)
العفو الكريم الشامل:
600- خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (الأعراف- 199) بهذا الأمر الربانى أخذ نبى الرحمة وأعظم عفو رآه الوجود الإنسانى هو عفو النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عن أهل مكة المكرمة، لقد اضطهدوه منذ البعثة وهو فى الأربعين واستمر أذاهم غير مقطوع، حتى ذرف فى الستين، لا ينون عن إيذائه، ثم قتاله، ثم الدس الخبيث له ولرجاله فلما غلب وتغلب بعد أكثر من عشرين سنة، لم يقل ويل للمغلوب، كما يقول ساسة هذا الزمان بل قال: مرحبا بالأخوة، وعفوا عما مضي، وإن تنتهوا يغفر لكم ما قد سلف.
قال صلى الله تعالى عليه وسلم لقريش وهم صفوف ينتظرون كلمته فيهم فقال لهم: يا معشر قريش ما تظنون أنى فاعل بكم.
قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم.
قال فإنى أقول لكم كما قال يوسف لإخوته لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم، اذهبوا فأنتم الطلقاء.
(3/893)
وكان عثمان بن طلحة فى يده مفتاح الكعبة الشريفة قبل أن يسلم، وقد أراده على مع السقاية فرده النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لعثمان بن طلحة وقال له: اليوم يوم بر ووفاء.
وذكر ابن سعد فى طبقاته عن عثمان بن طلحة. قال: كنا نفتح الكعبة الشريفة فى الجاهلية يوم الاثنين والخميس، فأقبل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوما (أى قبل الفتح) يريد أن يدخل الكعبة الشريفة، مع الناس، فأغلظت له فنلت منه فحلم عني، ثم قال: يا عثمان لعلك ترى هذا المفتاح يوما بيدى أضعه حيث شئت.
ولعل ذلك أيام الأذى الذى كان ينزل بالمؤمنين من قريش قبل الهجرة حتى إن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يؤذى فيما يستحقه كل الناس، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، مستبشر لا يرجو إلا ما عند الله، مطرح ما عند الناس.
قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لعثمان إبان ذلك إن المفتاح سيكون بيده يضعه حيث يشاء، فقال متطاولا فى الأذى بالقول: لقد هلكت قريش يومئذ وذلت.
فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: بل عمرت وعزت يومئذ.
يقول عثمان فوقعت كلمته منى موقعا أى أنه توقع صدقها وهم فى الجاهلية الغافلة، وظن أن الأمر سيصير إلى ما قال الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم.
وقد تحقق ما توقع، وصدق قول الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، فقد آل إليه المفتاح يضعه حيث يشاء، فوضعه فى يد عثمان بن طلحة، الذى أغلظ له فى القول من قبل، ونال منه.
ويقول عثمان فى حكايته: قال لى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: يا عثمان ائتنى بالمفتاح، فأتيته فأخذ منى المفتاح، ثم دفعه إلي، وقال: خذوها خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم. يا عثمان:
إن الله تعالى استأمنكم على بيته، فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف.
فلما وليت ناداني، فرجعت إليه. فقال ألم يكن الذى قلت لك، قال فذكرت قوله صلى الله تعالى عليه وسلم لى قبل الهجرة، سترى هذا المفتاح بيدى أضعه حيث شئت. قلت: بلى، أشهد أنك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
ومع السماحة التى تدنى أشد القلوب جفاء، ومع هذا العفو الكريم الذى يجمع الشارد، ويدنى القاصي، كانت قلوب بعض القرشيين ما زال يسكنها الضعف فى الإيمان والبغض الجاهلى.
(3/894)
يروى سعيد بن المسيب يقول تطاول لأخذ المفتاح رجال من بنى هاشم فرده رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لعثمان بن طلحة.
وأمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بلالا أن يصعد إلى الكعبة الشريفة، فيؤذن، وأبو سفيان ابن حرب، وعتاب بن أسيد، والحارث بن هشام وأشراف قريش جلوس بفناء الكعبة الشريفة، فقال عتاب: لقد أكرم الله أسيدا، ألا يكون سمع هذا فيسمع ما يغيظه، فقال الحارث: أما لو أعلم أنه على حق لا تبعته.
وقال أبو سفيان: لا أقول شيئا، لو تكلمات لأخبرت عنى هذه الحصباء.
قالوا ما قالوا، والنبى ليس بينهم، وهم يقولونه مسرين هامسين، فخرج عليهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: قد علمت الذى قلتم، ثم ذكر لهم ما قالوا.
فقال عتاب إنك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحد كان معك، فنقول أخبرك.
الأمان العام:
601- كان هذا العفو الشامل لقريش أمانا لكل أهل مكة المكرمة، ودعا إلى ألا يقتل إلا تسعة، أهدر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم دمهم، وأباح قتلهم، ولو تعلقوا بأستار الكعبة الشريفة وهم عبد الله بن سعد بن أبى السرح، وعكرمة بن أبى جهل قبل إسلامه، وعبد العزيز بن خطل، والحارث بن نفيل بن وهب ومقبس بن صبابة، وهبار بن الأسود وقينتان لابن خطل كانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وسارة مولاة لبعض بنى عبد المطلب.
وهؤلاء كادوا كيدا شديدا للإسلام، وبعضهم مع ارتداده قتل مسلما عامدا بعد أخذ الدية أما عبد الله بن سعد بن أبى السرح فكان قد آمن أو أسلم، وكان يكتب الوحي، ثم ارتد بعد إسلام، وكذب كذبة خطيرة، فادعى أنه كان يغير فيما يملى عليه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فكان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يأمره بكتابة عزيز حكيم، فيكتب غفور رحيم.
فكانت إباحة دمه حماية للإسلام من المرتدين، فلما أبيح دمه فر إلى عثمان بن عفان، وكان أخاه فى الرضاعة، مع صلة النسب، فذهب به عثمان إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يستأمن له فصمت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عنه صمتا طويلا، رجاء أن يتقدم أحد الحاضرين لقتله، ثم قال بعد الصمت الطويل نعم- فأخذ الأمان إكراما لعثمان وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال فى عثمان إنه تستحى منه الملائكة.
(3/895)
وقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لمن حضره بعد انصراف عثمان به «أما كان فيكم رجل رشيد، يقوم إلى هذا حين رآنى قد صمت فيقتله، فقالوا يا رسول الله هلا أو مأت إلينا، فقال إن النبى لا يقتل بالإشارة، وفى رواية أنه قال: «لا ينبغى لنبى أن تكون له خائنة الأعين» .
ولقد كان من المقربين إلى عثمان فى خلافته، ولاه مصر بعد عمرو بن العاص، وكان ممن لهج به دعاة الفتنة فى آخر عهد عثمان آخذين على عثمان توليته وقربه، وأنه لم يكن عدلا، ولعل ذلك كان من أشد ما لهجوا به وأقواه.
وعبد الله بن خطل، فقد أسلم، وبعثه الله تعالى ليجمع الصدقات، وبعث له رجلا من الأنصار، وكان معه مولى له، فغضب عليه فقتله، ثم ارتد مشركا. وكانت له قينتان فكانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فلهذا أهدر دمه ودم القينتين، فأما هو فقد قتل متعلقا بأستار الكعبة الشريفة وقتلت إحدى القينتين واستؤمن للآخري، وأما الحويرث بن نفيل بن وهب فقد كان يؤذى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بمكة المكرمة، ولما تحمل العباس رضى الله عنه بفاطمة وأم كلثوم ليذهب بهما إلى المدينة المنورة يلحقهما برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى المدينة المنورة أول الهجرة نخس بهما الحويرث هذا الجمل الذى هما عليه، فسقطتا على الأرض.
فلما أهدر دمه قتله على بن أبى طالب زوج فاطمة الزهراء.
وأما مقبس بن صبابة، فقد آمن ثم ارتد، ثم أخذ دية، ثم قتل قاتل أخيه غدرا، وذلك أن أخاه كان مسلما فقتل خطأ فى أعقاب غزوة بنى المصطلق فجاء هو وأعلن إسلامه، وأخذ دية أخيه من بيت المال، وقد بينا ذلك، ولكنه ما إن أخذ الدية حتى عدا على- قاتل أخيه خطأ- ثم ارتد عائدا إلى مكة المكرمة، فكان من الحق أن يقتل لردته، ولقتله مؤمنا عمدا وقد أخذ الدية.
وقد قتله رجل من قومه.
وسارة مولاة لبنى عبد المطلب، ثم لعكرمة بن أبى جهل، وكانت تؤذى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو بمكة المكرمة، وروى عن بعضهم أنها هى التى حملت الكتاب الذى أرسله حاطب بن أبى بلتعة، وكأنها عفى عنه، ثم أهدر دمها فهربت حتى استؤمن لها من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأمنها فعاشت إلى خلافة الإمام عمر فأوطأها رجل فرسا فماتت.
وأما عكرمة، فكان إهدار دمه قبل أن يسلم وقد هرب إلى اليمن، فلما أسلمت امرأته استأمنت له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأمنه فذهبت إلى اليمن، فتقدم للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حريصا على ألا يؤذيه، فعندما جاء مسلما قال لأصحابه، لقد
(3/896)
جاءكم عكرمة بن أبى جهل مسلما فلا تسبوا أباه لأن ذلك يؤذى الحي، ولا يصيب الميت، وهكذا يكون كرم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم العطوف الألوف.
ويروى أن الإيمان دخل قلبه قبل أن تجئ إليه امرأته، وذلك أنه وهو فى السفينة عصفت بها عاصفة وقال بعض أهل السفينة لبعضهم. إن آلهتكم لا تغنى عنكم شيئا هنا، فأثر ذلك فى نفس عكرمة وعقله، ورب لفتة تحول القلب من الكفر إلى الإيمان، وقال: «والله لم ينج فى البحر إلا الإخلاص وإنه لا ينجى فى البر غيره، اللهم إن لك على عهدا إن أنت عافيتنى مما أنا فيه آتى محمدا حتى أضع يدى فى يده فلأجدنه عفوا كريما» .
ثم جاءته امرأته، وقد طاب نفسا بالإسلام.
وأما هبار بن الأسود فهو الذى عرض لزينب بنت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عندما هاجرت ومكن لها زوجها من الهجرة، فنخس هبار هذا راحلتها حتى سقطت على صخرة، وكانت حاملا، فسقط جنينها.
الأنصار يتوهمون أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يعود إلى مكة المكرمة
602- كانت إقامة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم رابطة بالود بينه وبين قوم كانوا له أعداء آذوه حتى خرج من عندهم يائسا من أن تتحقق الدعوة إلى الرسالة الإلهية فيهم، وأنه لا سبيل إلا أن يهاجر، ثم كانت الحروب المفرقة.
ولما فتح مكة المكرمة كان لا بد أن يزيل الإحن من النفوس فلان ورفق، وعفا وصفح الصفح الجميل، كما أمره ربه إذ قال له: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ فظن الأنصار الذين آووا ونصروا أن مهمتهم قد انتهت.
لقد قالوا فتح الله مكة المكرمة على يد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهى بلده، وموطنه، جال ذلك فى نفوسهم وتحدثوا به فيما بينهم، ثم قالوا أترون رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا فتح الله تعالى عليه أرضه وبلده أن يقيم بها.
وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهم يحدثون أنفسهم بذلك يدعو على الصفا والمروة رافعا يده، فلما فرغ من دعائه اتجه إلى أنصاره فقال لهم: ماذا قلتم، قالوا: لا شئ يا رسول الله، فلم يزل بهم حتى أخبروه، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: معاذ الله، المحيا محياكم، والممات مماتكم، أى إنه يعيش فيهم حتى يموت بينهم، لقد نصره الله تعالى بهم، وخذله غيرهم فهو منهم، وهو كما قال فى موضع سيجئ: إنه لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا، وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار.
(3/897)
حرمة مكة المكرمة
603- قال الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً، وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ، أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (العنكبوت- 67) .
والقتال فى البيت الحرام على ذلك حرام، وإن الرجل كان يلقى قاتل أخيه أو أبيه، فلا يمسه، والمنازعات تكون خارجه لكى يتوافر للناس الأمن فى أول بيت وضع للناس ببكة مباركا، وهدى للعالمين.
ومن أجل ذلك نهى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم نهيا مؤكدا عن القتل والقتال، وأمن الناس حتى لا يضطروا إلى المدافعة، فقال: من كان فى البيت الحرام فهو آمن، ومن أغلق بابه عليه فهو آمن، وصار يعطى الأمان لكل من يطلبه، إلا أولئك الذين كان لهم إجرام واضح، وبعضهم ممن أسلم ثم ارتد، ومن كان مثل هذا فيه، وقتل عمدا مؤمنا بعد أن أخذ دية أخيه.
وذلك كله ليحفظ حرمة البيت الحرام، وشرف مكة المكرمة وحرمتها.
ولكن مع هذا الاحتياط الشديد فى حرمة البيت ومنعها من أن تمس، مع ذلك كان من المشركين الذين لم يدركوا معنى السلام من هاجموا قوات خالد بن الوليد، واضطر جيشه أن ينضح عنه النبل القاتل بالقتال فقاتل، وقتل من جيشه اثنان وقتل من المشركين بضعة عشر رجلا.
ولا شك أنه فى هذه الحال إنما أباح حرمة البيت الحرام أولئك الذين هاجموا، وهم المشركون، لا الذين دافعوا، وهم من كانوا فى جيش خالد.
ولكن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أباح دم الذين أهدر دماءهم، ولو تعلقوا بأستار الكعبة الشريفة وقتل فعلا أحدهم، وهو متعلق بأستار الكعبة الشريفة.
وإن حرمة مكة المكرمة باقية، وإن امتهان حرمتها كان لحالة استثنائية لا يوجد مثلها قط، ولذلك خطب بذلك مؤكدا حرمتها، التى اختصها الله تعالي، فخطب قائلا بعد أن حمد الله تعالي، وأثنى عليه، ومجده بما هو أهله:
«أيها الناس، إن الله تعالى حرم مكة المكرمة يوم خلق السموات والأرض، فهى حرام كحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يسفك فيها دما، أو يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقولوا له: إن الله أذنه لرسوله ولم يأذن لكم،
(3/898)
وإنما حلت لى ساعة من زمان، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليعلم الشاهد فيكم الغائب» .
وكلام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ليبين للناس حرمة مكة المكرمة الدائمة وإنه ليعرف الناس فجور الأمويين، وأتباعهم الذين رموا الكعبة الشريفة بالمنجنيق، فارتكبوا ما كان الجاهليون يتعففون عنه، فهم أشد جرما ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى.
محطم الأوثان
604- اتجه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من بعد أن خضعت قريش راضية أو راهبة إلى تجديد بعض أجزاء البيت، فأمر أبا أسيد الخزاعى بذلك.
ولم ينغص على أحد نفسه، بل أخذ منهم الظاهر، وترك لهم ما بطن، ويروى البيهقى أن أبا سفيان كانت تحدثه نفسه أن يثير القتال بينه وبين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو حديث لم يتكلم به ولم يطلع عليه أحدا وإذا بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يقول له: «ليخزينك الله» وكان كأنه يحدث النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى حديث بينهما، فقال أبو سفيان:
لا يعلم هذا أحد وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يمر على الأصنام فيغمزها بقوسه، فتتساقط، وهو يقول: «جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا» وقد ذكرنا ذلك.
ولكنه لم يكتف بما صنع هو، فقد أرسل رجاله سرايا إلى أماكن الأوثان، فحطموا ما حول الكعبة الشريفة، ثم حطموا ما هو خارجها، فكسرت اللات والعزى ومناة الثالثة الآخرى ونادى فى أهل مكة المكرمة: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يدع فى بيته صنما إلا كسره» وصار الذين دخلوا فى الإسلام يتسابقون فى كسر ما تحت أيديهم من الأوثان، وبعث خالد بن الوليد إلى العزى لخمس بقين من شهر رمضان ليهدمها فخرج إليها فى ثلاثين رجلا حتى لا يكون من يستطيع مقاومتهم فهدمها.
ويقول الرواة إنه رجع إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره فقال هل رأيت شيئا قال:
لا. قال فارجع إليها، فإنك لم تهدمها، فرجع خالد وهو متغيظ، فجرد سيفه فخرجت إليه امرأة عارية سوداء ناشرة شعر رأسها، فجعل السادن يصيح بها، فضربها خالد فقتلها، وجاء إلى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وأخبره، فقال له الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم نعم تلك العزى وقد أيست أن تعبد
(3/899)
فى بلادكم ويظهر أن هذه المرأة كانت تختفى وخالد لم يكن يراها، فلما رفع سيفه واعتقدت أنها لا محالة ظاهرة، ظهرت فقتلها.
وكانت بنخلة، وكانت قريش، وبنو كنانة، وكانت أعظم أصنامهم، وكان سدنتها من بنى شيبان.
ثم بعث عمرو بن العاص، إلى سواع، وهو صنم لهذيل ليهدمه، فانتهى إليه، وعنده السادن، قال: ما تريد؟.
قال: أمرنى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن أهدمه.
قال لا تقدر على ذلك، قال ولم؟ قال: تمنع. قال عمرو: حتى الآن أنت على الباطل ويحك فهل يسمع أو يبصر، فدنا منه فكسره، وأمر عمرو أصحابه أن يهدموه ثم قال عمرو للسادن:
كيف رأيت؟ قال: أسلمت لله تعالى.
وهذا يثبت أن إيمانهم بهذه الأصنام مبنى على وهم توهموه فيها، فلما انكشف لهم كفروا بها.
وبعث سعد بن زيد الأشهلي، إلى مناة عند القديد، وكانت صنما للأوس والخزرج وغسان وغيرهم ممن يجاورون الشام أو فى طريقه.
فخرج سعد فى عشرين فارسا، حتى انتهى إليها وعندها سادن.
فقال السادن ماذا تريد؟ قال سعد هدم مناة، فقال أنت وذاك، وكأنه يتحداه، فأقبل سعد يمشى إليها، فخرجت إليه امرأة عارية سوداء وثائرة الرأس تدعو بالويل وتضرب صدرها فضربها سعد، فقتلها، وأقبل إلى الصنم فهدمه وكسره، ولم يجدوا فى خزائنه شيئا.
هذه عزمة قوية من محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، أزال بها ما كانوا يعبدونه من أحجار لا تضر ولا تنفع، وفعل ما فعله جده إبراهيم الخليل عليه السلام، فجعلهم جذاذا، ولم يبق كبيرا لهم، لأنه لا كبير يبقى أمام معول محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد جعلها جذاذا بعد أن فقدت الأوهام التى كانت تحيط بالنفس العربية حولها.
وبذلك انتهت دولة الأوثان فى البلاد العربية، ولقد رآها الذين كانوا يعبدونها، لا تدفع محطمها، ولا تمنعه، إذ هى لا تملك لنفسها نفعا، ولا ضرا وقد يئس الشيطان من بعدها أن يعبد فى بلاد العرب.
(3/900)
بعثة خالد بن الوليد إلى جذيمة
605- عقب تحطيم خالد بن الوليد العزى أرسله النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى جذيمة من كتامة داعيا إلى الإسلام، ولم يبعثه مقاتلا، لأنه لا قتال فى مكة المكرمة وما حولها من القرى والبوادى بعد أن دخلت مكة المكرمة فى طاعة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم يكن ثمة حاجة إلى القتال ولم يكن منهم غدر أو خيانة، حتى يعاقبوا على غدرهم وخيانتهم.
أرسله صلى الله تعالى عليه وسلم ومعه قبائل من العرب من سليم بن منصور، ومدلج بن مرة، ومعهم بعض المهاجرين والأنصار كعبد الله بن عمر وسالم مولى أبى حذيفة.
وكانت عدة من خرج فيهم خمسين وثلاثمائة من بنى سليم والمهاجرين والأنصار.
قال لهم خالد: ما أنتم. قالوا: مسلمون قد صلينا وصدقنا بمحمد وبنينا المساجد فى ساحتنا، وأذنا فيها.
وكان حقا على خالد بن الوليد أن يكف عند هذا، لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما أرسله مقاتلا، بل أرسله داعيا وهاديا، ولكنه تخلى عن هذه الصفة العالية، وأبى إلا أن يكون مقاتلا، وبرر ذلك بأنهم يحملون السلاح.
قال لهم: فما بال السلاح عليكم.
قالوا: إن بيننا وبين قوم من العرب عداوة، فخفنا أن تكونوا هم. وكان عليه بعد أن يكتفى بذلك، أو أن يتحرى عن صدق كلامهم، أو أن ينزع السلاح من أيديهم.
ولكنه لم يفعل، بل استأسرهم، بعد أن وضعوا السلاح كما أمر، وما كان له ذلك، فأوثقهم وفرقهم فى أصحابه.
وكان حقا عليه أن يأخذهم أسارى إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ليفعل فيهم ما يحكم الله تعالي، ولكنه فى السحر، نادى خالد بن الوليد، من كان معه أسير، فليضرب عنقه، فأما من كان معه من بنى سليم فقتلوا من فى أيديهم من الأسرى المنكوبين بخالد.
وأما المهاجرون والأنصار أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حقا وصدقا، فإنهم أرسلوا أسراهم، ولم يقتلوهم، لأن الأسرى لا يجوز قتلهم لأنهم مسلمون.
(3/901)
ويلاحظ أنه كان فيهم رجل أدرك نية خالد يقال له جحدم، ولم يعتقد أنها نية إسلامية، قال لقومه، لما أمرهم خالد بأن يضعوا أسلحتهم: يا بنى جذيمة إنه خالد، إنه خالد، والله ما بعد وضع السلاح إلا إسار، وما بعد الإسار إلا ضرب الأعناق. انتقل رجل من القوم، وذهب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: هل أنكر عليه أحد؟ قال نعم: قد أنكر عليه رجل أبيض ربعة، وأنكر عليه رجل آخر طويل مضطرب، فاشتدت مراجعتهما فقال عمر بن الخطاب، أما الأول فابنى عبد الله يا رسول الله، وأما الآخر. فسالم مولى أبى حذيفة.
عندما بلغ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فعل خالد هذا رفع يده إلى السماء ضارعا: اللهم إنى أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد.
ولقد رأى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن فعل خالد لم يكن من الإسلام، ولعله رأى أنه بقية من بقايا الجاهلية.
أول ما فكر صلى الله تعالى عليه وسلم أن يرأب الصدع، ويداوى القلوب بالديات يرسلها، فدعا على بن أبى طالب، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: «يا على اخرج إلى هؤلاء القوم فانظر فى أمرهم، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك» . هذا أمر فى موضعه وفى وقته، فإن الجاهلية فى هذا الأمر قد بدت نائبة ظاهرة.
فخرج علي، ومعه مال كثير قد بعث به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فودى لهم الدماء، وما أصيب لهم من الأموال، حتى إذا لم يبق شيء من دم أو مال إلا وداه بقيت معه بقية من المال، فقال لهم على حين فرغ منهم: هل بقى لكم دم أو مال لم يود لكم؟ قالوا: لا، قال: أعطيتكم هذه البقية احتياطا لرسول الله مما لا يعلم ولا تعلمون.
جاء على إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقص عليه ما صنع فقال أحسنت وأصبت، ولكن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا يزال على ألم وأسي، ولذا استقبل القبلة قائما شاهرا يديه، حتى إنه ليرى ما تحت منكبيه. «اللهم إنى أبرأ مما صنع خالد بن الوليد ثلاث مرات» ، لقد أصاب فعل خالد قلب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، لأنه قتل وهو مبعوثه أبرياء.
وقد ورد ما يدل على الاعتذار عن فعل خالد الذى لا يقبل الاعتذار، ولو كان عذر لأبداه للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: قالوا إنهم قالوا صبأنا صبأنا، يريدون أسلمنا، فظنهم قد كفروا فقتلهم، وهذا كلام غير مقبول فى ذاته لأن سنده ضعيف، وما كان له أن يقاتلهم على ذلك، وقد تبين أنهم
(3/902)
لا قدرة لهم على القتال، فكيف يقتلهم إنه إن صح ذلك لا يكون قتالا محمديا، فقد أسرهم، فلماذا يقتلهم فى السحر.
إن الأمر مهما يؤت من جوانبه لا يبرر فيه إلا العمل الجاهلي، وقد صرح بذلك خالد بن الوليد فى مجادلة مع عبد الرحمن بن عوف الذى كان يلومه.
قال ابن إسحاق: قد كان بين خالد بن الوليد، وعبد الرحمن بن عوف (الصحابى المهاجر أحد العشرة المبشرين بالجنة) كلام فى ذلك، قال له عبد الرحمن بن عوف عملت بأمر الجاهلية فى الإسلام، فقال خالد: «إنما ثأرت بأبيك، فقال عبد الرحمن، كذبت، قد قتلت قاتل أبي، ولكنك ثأرت لعمك الفاكه بن المغيرة، حتى كان بينهما شر» .
عبد الرحمن بن عوف يقول قولة الإسلام، وخالد يقول الثارات، وقد بلغ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما قال خالد لعبد الرحمن بن عوف فقال لائما لخالد، مبينا له مكانه من أصحابه.
«مهلا يا خالد، دع عنك أصحابي، فوالله لو كان لك أحد ذهبا، ثم أنفقته فى سبيل الله ما أدركت غدوة رجل من أصحابى ولا روحته» .
نعم هم الأصحاب الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه فى بيعة الرضوان تحت الشجرة.
ومهما يكن حكم التاريخ فى عمل خالد جاهلية وإسلاما، فإنه سيحكم لا محالة فى هذه الواقعة، بأن فيها جاهليته إن لم يكن كلها جاهليا، ورحم الله عمر بن الخطاب عندما عزله فقد قال: «إن فى سيف خالد لرهقا» ولعل كان أشده مما كان واضحا فى أمر جذيمة.
وإننا إذ ننقد فعل خالد فى هذا نتابع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ونراه ينطق بالحق، وإذا كان من الناس من كان ينقد عليا وعثمان ومن يماثلهما، فإن لنا أن ننقد عمل خالد فى هذا، وما كنا مبتدعين فى نقده، لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم برئ من صنيعه، ووضح له فعله مع المؤمن المهاجر أحد العشرة المبشرين بالجنة واستنكره.
(3/903)
مدة إقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة المكرمة
606- أقام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بقية شهر رمضان يقصر من الصلاة فيصلى الأربع اثنتين، ويفطر، لأنه كان لا يزال مسافرا، ولم يعد نفسه فى مكة المكرمة وطنه الأصلى وهو مكة المكرمة، لأنه لم يبق له دار تعد بيته الأصلي، وقال ما أبقى لنا عقيل من دار، وقد استمر يترخص رخصة المسافر، لأنه لم ينونية الإقامة، فكان على سفره يترخص فى الصلاة والصيام معا.
وإن رمضان قد انتهى وهو بمكة المكرمة، فلم يكن محل رخصة الإفطار إنما كانت رخصة القصر قائمة وكان هو يؤم المصلين المقيمين. يقول بعد تمام الركعتين: «يا أهل البلد صلوا أربعا فإنا سفر» ، وقد اختلف فى مدة إقامة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فروى أنها خمس عشرة ليلة، وروى أنها ثمانى عشرة ليلة، وروى أنها تسع عشرة ليلة، والله أعلم بأصح الروايات.
أحكام فقهية شرعت فى الفتح
607- أول حكم يتجه الفقهاء إلى الكلام فيه أن مكة المكرمة فتحت عنوة أم فتحت صلحا، فكثيرون من العلماء يقولون إنها فتحت عنوة، فتكون أرضها خراجية ولا تكون عشرية، لأن الجيوش الإسلامية دخلتها فاتحة، وقتل فيها قتلي، فقتل نحو عشرين منهم نحو اثنى عشر من المشركين، وبعض المؤمنين، وكان يؤمن بعضهم بأمان خاص من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، والأمان العام الذى قرره النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان ملاحظا معنى خاصا، وهو أن من دخل بيت أبى سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق بيته فهو آمن، وبالمفهوم أن من رؤى فى غير بيته، وفى غير واحد من هذه البيوت، فإنه مباح الدم إلا بأمن خاص، وهذا يدل على أنهم حربيون، والحربيون حتى يصدر الأمان لا يقال إنهم فتحت أرضهم صلحا.
ولأنه لم يكن ثمة عقد صلح كان الأمان نتيجة له، ولأنه لم تفرض جزية على أحد من أهل مكة المكرمة، حتى يقال إنهم أعطوا الجزية، وإن أرض مكة المكرمة لم تكن خراجية، هذه وجهة نظر من قالوا إن مكة المكرمة فتحت عنوة.
ويرى الإمام الشافعى مع كثيرين من الفقهاء أن مكة المكرمة لم تفتح عنوة، بل فتحت صلحا مما سبق به النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من أنه أعطى الأمان لأهلها بقوله «من دخل دار أبى سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن» فكان ذلك تأمينا عاما، ثم صرح عند أمن
(3/904)
الجميع، وأباح دم التسعة الذين ذكرهم وأجاز قتلهم، ولو كانوا متعلقين بأستار الكعبة الشريفة. وأنه لم يقسم أرض مكة المكرمة بين القائمين ولم يعتبر أموال أحد من أهلها غنيمة ولا نفلا من الأنفال، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عن القتل والقتال، فكيف يقال بعد ذلك إنها فتحت عنوة، إن المقياس الضابط بين العنوة والصلح هو أن يكون تسليم أهل البلدة فى العنوة بقوة السيف والغزو، وأما الصلح فهو التسليم من غير قتال ولا أمن، ولقد سلم أهل مكة المكرمة من غير قتال، وكان الأمن الكامل من الرسول الكريم صلى الله تعالى عليه وسلم هو فى قوله «اذهبوا فأنتم الطلقاء» .
وإنا نميل إلى أن مكة المكرمة لم تفتح عنوة ولا صلحا، فلم يتحقق أصل الفتح، وإنما تحقق اللقاء بالمودة والرحمة من غير عقد، بل بما هو أعلى من العقد، وهو صلة الرحم بعد قطعها من قريش، ولو أننا اخترنا الموازنة بين الرأيين، وكان لا بد أن نختار أحدهما، لاخترنا أنها لم تفتح عنوة.
مكة المكرمة وما يحرم فيها:
608- قلنا إن الله تعالى حرم القتال فى مكة المكرمة، ونقلنا قول الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فى ذلك، والآن سنذكر بعض الأحكام المتعلقة بمكة المكرمة فنقول.
إن الله تعالى حرم الصيد فى الحرم الشريف مكة المكرمة وما حولها لمن أحرم بالحج، ولقد قال تعالى فى ذلك: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ، وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ، وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (المائدة- 96) .
ولقد ذكر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تحريم القتل والقتال فى مكة المكرمة، وذكر بعده محرمات أخرى فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهى حرام بتحريم الله سبحانه وتعالي، لا تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، ولم تحل لى إلا ساعة من الدهر، لا ينفر صيدها، ولا يعضد شوكها، ولا يتخلى خلاؤها، ولا تحل لقطتها إلا المنشد، فقال العباس إلا الإذخر فإنه لا بد منه للدفن والبيوت، فسكت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم قال: إلا الإذخر.
هذا ما رواه البخاري، وقد انفرد بروايته، وحسب البخارى صدقا، لأنه صادق فى جملة ما رواه.
وإن أخذت عليه بعض الأحاديث لمتنها.
وبذلك ننتهى من بيان هذا الحديث.
(3/905)
(أ) بأنه يحرم الصيد فى الحرم كما قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «لا ينفر صيدها وكلها حرم آمن من كل نواحيه» .
(ب) وبأنه لا تقطع أشجارها، لتوجد جوا صالحا من جوها، وإن شوكها لا يعضد، ولا يحتجز خلاء لأحد فلا إقطاع فيها لأحد، ولا تحل لقطتها إلا بعد التعريف بها، وذلك حكم عام لا تختص به مكة المكرمة، فإن اللقطة لا تحل إلا بعد تعريف صاحبها، ويكون حلها أن يتصدق بها، فإن كان اللاقط مستحقا للصدقة تصدق بها على نفسه.
وقد لوحظ أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، حرم على المقيم فى مكة المكرمة ما لا يكون ضروريا للإقامة، فنبه العباس أن الإذخر محتاج إليه فى البيوت، ومحتاج إليه فى دفن الموتي، فذكر للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم فتفكر النبى عليه الصلاة والسلام، ثم وافق، ولعل الوحى قد نزل عليه بذلك، فما كان كلامه اتباعا للعباس، ولكن كان اتباعا لأمر ربه.
ومهما يكن من ذلك، فإن العباس بإدراكه الإسلامي، فهم أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أباح من زرع مكة المكرمة ما لا يمكن الاستغناء عنه فقال مقاله، فنزل الوحى بما قال، فكان الوحى قد وافق نظره كما يذكر أنه وافق رأى عمر فى بعض الأمور التى كان يؤخذ الرأى فيها.
فما كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تابعا للعباس، بل جاء الوحى بموافقته، كما جاء الوحى بموافقة عمر كما ادعى فى بعض المواضع.
لقد حرم الله تعالى القتل فى مكة المكرمة أفلا يصح القتل قصاصا، أو إقامة الحد أو نحو ذلك، قرر العلماء أن ذلك جائز، فيجوز فيها القصاص، وتتبع العصاة وعقابهم، ولذلك قال عمرو بن سعيد إجابته لأبى شريح. قال أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يفيد عاصيا (أى لا يحمى عاصيا) ولا فارا بدم ولا فارا بجزية.
وهكذا فالمحرم القتل بغير حكم شرعي، أما القصاص بحكم القصاص فإنه يجوز، ولقد استباحت خزاعة أن تأخذ بثأرها من بعض بنى بكر، فقتلت واحدا، فنهاها نهيا قاطعا، ودفع دية المقتول.
ولقد خاطب خزاعة عند ودى قتيلها، «يا معشر خزاعة، ارفعوا أيديكم عن القتل، لقد قتلتم قتيلا فوديته فمن قتل بعد مقامى هذا، فأهله بخير النظرين، إن شاؤا قدموا قاتله، وإن شاؤا نعقله لأى وثبة» .
(3/906)
ولقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن أعدى الناس من قتل فى الحرم أو قتل غير قاتله، أو قتل بذحول الجاهلية» صدق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فلا يقتل بالكبير فى زعمهم عدد من قبيل القاتل.
دية شبه العمد
609- أعلن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم دية القتل شبه العمد، ذلك أن القرآن الكريم بين حكم القتل العمد، فقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ، وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ، وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ، ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ، فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ. وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (البقرة- 179) .
بهذا النص الكريم ثبت أن عقوبة القتل العمد القصاص، ولكن رخص لولى المقتول أن يختار الدية بعد القصاص، ويسمى الفقهاء الدية فى هذه الحال قصاصا معنويا، وكان ذلك تخفيفا من الله ورحمة لأنه قد يكون من مصلحة ولى الدم أن يرضى بالدية أو العفو كأخ يقتل أخاه، ولى الدم- وهو الأب- فإذا كان القصاص من غير فرصة الدية أو العفو، خسر المكلوم ولديه، فكان هذا الترخيص بالدية أو العفو تخفيفا ورحمة.
والقتل الخطأ شرع القرآن الكريم عقوبته فثبت بالنص، فقد قال تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً، وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا، فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً. وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (النساء- 92- 93) . وهكذا ذكر الله تعالى عقوبات القتل. وخلاصة ما نصت عليه الآية: -
أولا: أن تعمد القتل لا كفارة له عن عقوبة الآخرة.
ثانيا: أن الدية فى القتل تكون لأهله المسلمين أو من كان بيننا وبينهم عهد أما العدو فلا دية لأهله لأنهم يقوون بها، ويستعينون بها فى حرب المسلمين.
(3/907)
ثالثا: أن تحرير الرقبة ضرورى أو بدله، وهو صيام ستين يوما، وذلك لتكفير إثم الخطأ، لأنه مهما يكن ففيه إثم ترك الاحتراز، ولأن القاتل خطأ أفقد المسلمين نفسا، فحق عليه أن يحيى نفسا بدل من تسبب فى فقدها، وإحياؤها بحريتها، فالحرية لفاقدها إحياء.
هذه إشارات إلى أحكام القتل فى القرآن الكريم ذكرناها ليميز ما جاء به النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو القتل شبه العمد، ولم يذكر فى القرآن الكريم حكم للقتل الشبيه بالعمد.
وذكره النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى فتح مكة المكرمة فى المدة التى أقامها بها فقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «الحمد لله الذى صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» ألا إن قتيل العمد الخطأ بالسوط أو العصا فيه مائة من الإبل- وفى مرة قال- مغلظة فيها أربعون خلفة فى بطونها أولادها، وهذا النوع من القتل يسمى فى عرف الفقهاء شبه العمد، وسماه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم العمد الخطأ، وهو كما عرف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم القتل المقصود الذى يقع بغير آلة معدة للقتل، كالقتل بالسوط أو العصا، أو الحجر، الذى لا يقتل عادة، وهو الذى يسمى فى عرف القانون فى هذه الأيام الضرب المفضى إلى الموت، وقد ذكر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن ديته دية مغلظة، وذلك لأن الدية فى القتل نوعان، فالدية المغلظة التى تناسب الجريمة وهى التى ذكرها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهى مائة من الإبل فقط من غير اشتراط أن يكون فيها هذه الأربعون الحوامل.
والقتل شبه العمد الضرب مقصود فيه، فلم يكن خطأ جاء من غير قصد إنما قصد ثابت لأنه أراد الضرب، ولكن الآلة غير قاتلة فى ذاتها، فهو لا يعد قاصدا النتيجة، وجاءت النتيجة غير مقصودة، فشابه الخطأ من حيث لم يقصد هذه النتيجة، وشابه العمد، لأنه قصد الضرب، وباشره عامدا، ولذلك سماه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «العمد الخطأ، فهو عمد فى ابتدائه وليست نهايته متعمده» .
الميراث بين المسلم والكافر
610- عندما دخل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مكة المكرمة، لم يجد دارا من دور بنى هاشم تعد بيتا، ولم يجد بيته الذى كان له قبل هجرته، وقال عليه الصلاة والسلام: هل أبقى لنا عقيل من دار، وعد نفسه مسافرا ودل هذا على أنه إذا عاد الشخص إلى موطنه الأصلى لا ينقطع عنه وصف المسافر إلا إذا عاد إلى بيته الذى كان يقيم فيه، فإن لم يجد بيته الذى كان يقيم فيه لا يعد مقيما، بل يعد مسافرا وذلك لأن مكة المكرمة بلده، ولكنه لم يجد فيها راحة المقيم فكان مسافرا.
(3/908)
ولذلك أفطر فى رمضان برخصة السفر، وقصر الصلاة بهذه الرخصة.
ولقد أخذ الخارجون على سيدنا عثمان رضى الله تعالى عنه أنه لم يقصر الصلاة فى مكة المكرمة، فبين أنه كان فى بيته وبين أهله، فلم يعد نفسه مسافرا، فلم تكن الرخصة التى تسوغ له القصر، ولعله وجد بيته الذى كان يقيم فيه قبل الهجرة، وذلك كله على أساس أن القصر رخصة، وليس عزيمة.
وقد ذكر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعد قوله. ما ترك لنا عقيل من دار، لا ميراث بين مسلم وكافر، فكان هذا شرعا يمنع ميراث الكافر من المسلم، وميراث المسلم من الكافر، وذلك صريح قول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «لا يتوارث أهل ملتين شيئا» .
ولقد كان إجماع الفقهاء على ذلك إلا الشيعة الإمامية، فقد قرروا منع ميراث الكافر من المسلم، ولم يمنعوا ميراث المسلم من الكافر.
وكذلك كان يعمل بذلك معاوية بن أبى سفيان الذى ملك أمر المؤمنين باسم الخلافة واسم إمرة المؤمنين، ولذلك كان القاضى شريح رضى الله تعالى عنه يصدر أحكامه ذاكرا فيها أنه قضاء الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، إلا إذا قضى فى توريث مسلم من كافر، قال: هذا قضاء أمير المؤمنين معاوية.
والحق ما قرر الفقهاء لأنه صريح قول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولأن الميراث سببه النصرة بين الوارث والمورث، وهى لا تتحقق إذا كان أحدهما غير مسلم، ولأن الميراث ولاء، ولا ولاء بينهما، ولأن الوارث امتداد لشخصية المورث، ولا يمكن أن يعد المسلم امتدادا لشخصية الكافر.
الولد للفراش
611- جاء هذا الحديث الصحيح فى وقائع فى مكة المكرمة عند فتحها، ذلك أن عتبة بن أبى وقاص عهد إلى أخيه سعد أن يطالب بنسب ابن عبد بن زمعة على أنه ابن عتبة، وابن أخي، ولكنه جاء من فراش ابن زمعة فتنازعه عبد بن زمعة على أنه أخوه ولد فى فراش أبيه، وسعد على أنه ابن أخيه بوصية عتبة أخيه، فوجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن صفاته الجسمية تشبه صفات عتبة، ولكنه عليه الصلاة والسلام لا يحكم بالقيافة بل يحكم بالشرع، فحكم لعبد بن زمعة على أنه أخوه، وأخو أم المؤمنين سودة بنت زمعة، وبذلك تبين معنى الحديث «الولد للفراش وللعاهر الحجر» .
(3/909)
ولكن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أمرها بأن تحتجب عنه، ولو كان أخاها حقيقة، ومن كل الوجوه ما احتجبت، ولكن لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يحتاط للتحريم لما رأى من شبه بينه وبين عتبة مما يوميء إلى أنه ابنه، فاحتاط فى التحريم، وحكم بحكم الله فى النسب، والله تعالى أعلم.
قطع اليد
612- روى البخارى بسنده عن عروة بن الزبير أن امرأة سرقت فى عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى غزوة الفتح، فأهم قريشا أن تقطع يد امرأة منهم فى سرقة، وكانت مخزومية اسمها فاطمة، ففزع قومها إلى أسامة بن زيد، وكان حب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، يستشفعونه، فغضب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وقال لأسامة أتشفع فى حد من حدود الله، فقال أسامة أستغفر الله يا رسول الله، فلما كان العشى قام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال:
أما بعد، ما بال أقوام يشفعون فى حد من حدود الله، فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذى نفسى بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها.
وهكذا كانت الأحكام الإسلامية تطبق على القوى والضعيف، ومن له نسب، ومن ليس نسبه يحميه، وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أشار إلى معنى اجتماعى فى قيام الأمم وقوتها، فبين عليه الصلاة والسلام أن العدالة والمساواة أمام القانون هى التى تبنى الأمم، ولا ملك يقوم من غير عدالة، بل إنه إن بدا قويا، فإن الظلم الذى يكون فيه يهدم أركانه ويقوض بنيانه فلا قوة لأمة بظلم، ولا علو لجماعة بغير العدل.
ولقد أمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بقطع يدها، ليعلموا أن قريشا العزيزة المتفاخرة بأنسابها هى والجميع على السواء، وذلك ضرب فى جنب العصبية الجاهلية، ولقد حسن إسلامها بعد قطع يدها، وعلمت أن يدها طهرتها، وسبقتها إلى الجنة، كما قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
(3/910)
المتعة وتحريمها
613- يذكر البخارى وغيره أن المتعة حرمت نهائيا فى غزوة الفتح، وكان فيها التحريم قاطعا، ناسخا للترخص فيها إلى يوم القيامة.
وقد تكلمنا عن المتعة عند الكلام فى الأحكام التى ثبتت فى غزوة خيبر، ونذكر هنا بأننا قلنا أنها لم تبح ساعة من زمان، وإنما هى من اتخاذ الأخدان سكت عنه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فكانت موطن عقد حتى أعلن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم زوال العقود فيها بقوله عليه الصلاة والسلام وبالقرآن الكريم القاطع المانع، ولقد شرحناها فى موضعها من القول.
ولا مانع من أن نذكر ما قاله علماء الفقه والحديث هنا، وإن كنا قد أشرنا إليه فيما مضى من قولنا
يقول الحافظ ابن كثير فى تاريخه: «من أثبت أن النهى عنها فى غزوة خيبر، قال إنها أبيحت مرتين، وحرمت مرتين وقد نص على ذلك الشافعي، وقيل إنها حرمت مرة واحدة، وهى هذه المرة فى غزوة الفتح، وقيل إنها أبيحت وحرمت أكثر من مرتين.
وقيل إنها أبيحت للضرورة، فعلى هذا إذا وجدت ضرورة أبيحت وهذه رواية عن أحمد، وهذا قول جاف عن الشريعة، فما هى الضرورة، وقد نسب هذا القول إلى الإمام ابن عباس.
المبايعة على الإسلام
614- قلنا إن الفتح لم يكن لقاء معركة، وإنما كان لقاء مودة ومحبة، ومع المحبة والمودة كانت الدعوة إلى الإسلام، وقد دخل الناس فى دين الله أفواجا أفواجا، إذ جاء نصر الله العزيز الحكيم.
وروى البيهقى أن الناس كانوا يبايعون على الإسلام رجالا كبارا، وغلمانا صغارا إذا كانوا قد بلغوا حد الإدراك، وكانت تلك المبايعة على الدخول فى طاعة الإسلام، وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وكانت بيعة النساء على ذلك، وكانت على أخذ العهد، بألا يفعلن شيئا من المحرمات:
وقال ابن جرير الطبرى:
اجتمع الناس بمكة المكرمة لبيعة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فجلس لهم على الصفا، وعمر بن الخطاب أسفل من مجلسه، فأخذ على الناس السمع والطاعة لله ورسوله فيما استطاعوا، فلما فرغ من بيعة الرجال بايع النساء وفيهن هند بنت عتبة منتقبة متنكرة، لحدثها من صنيعها
(3/911)
بحمزة رضى الله عنه، فهى تخاف أن يأخذها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بحدثها (أو تستحى من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيما صنعت بعمه الحبيب) .
فلما دنين من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليبايعهن، قال: بايعننى على ألا تشركن بالله شيئا، فقالت هند، والله إنك لتأخذ علينا مالا تأخذه من الرجال، ولا تسرقن، فقالت والله إن كنت لأصيب مال أبى سفيان الهنة بعد الهنة، وما كنت أدرى أكان ذلك علينا حلالا أو لا، فقال أبو سفيان وكان شاهدا لما تقول: أما ما أصبت فيما مضي، فأنت منه فى حل.
فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «وإنك لهند بنت عتبة؟» قالت نعم، فاعف عما سلف، عفا الله عنك، ثم قال عليه الصلاة والسلام: «ولا يزنين» قالت: يا رسول الله وهل تزنى الحرة، ثم قال عليه الصلاة والسلام: «ولا يقتلن أولادهن» ، قالت: قد ربيناهم صغارا حتى قتلتهم أنت وأصحابك ببدر كبارا، فضحك عمر بن الخطاب، حتى استغرق، ثم قال عليه الصلاة والسلام:
ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن، فقالت: والله إن إتيان البهتان لقبيح، ولبعض التجاوز أمثل، ثم قال، ولا يعصينني، قالت فى معروف.
فقال لعمر رضى الله عنه بايعهن، واستغفر لهن الله، إن الله غفور رحيم، فبايعهن عمر. وكان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، لا يمس إلا امرأة أحلها الله تعالى له، أو ذات محرم منه. وما كان يبايعهن إلا بالكلام، ويقول: إنما قولى لامرأة واحدة، كقولى لمائة امرأة.
نفقة الزوجة
615- إن نفقة الزوجة واجبة على الرجل، ويقسمها الفقهاء إلى قسمين نفقة تمكين، ونفقة تمليك. والأصل نفقة التمكين. ونفقة التمليك هى أن يقدر لها ما يكفيها بالمعروف، ويملكه إياها نقدا، أو طعاما، أو أنواعا، وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى غزوة الفتح قرر نفقة التمكين فقد سألته هند قائلة: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطينى من النفقة ما يكفينى وبنى، فهل على من حرج إذا أخذت من ماله بغير علمه، قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: خذى من مال أبى سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف. وروى البيهقى بسنده عن عائشة رضى الله تعالى عنها أنها قالت: إن هندا بنت عتبة قالت: يا رسول الله ما كان على وجه الأرض أهل خباء أو خباء أحب إلى من أن
(3/912)
يذلوا من أهل أخبائك أو خبائك، ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أو خباء أحب إلى من أن يعزو من أهل أخبائك أو خبائك، وأيضا: والذى نفسى بيده، يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، فهل على حرج أن أطعم من المال الذى له، قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالمعروف.
وهذا الحديث مهما تختلف صيغة رواياته يدل على ثلاثة أمور:
أولها: أن نفقة الزوجة واجبة على الزوج سواء أكانت غنية أم كانت فقيرة، وسواء أكانت قادرة على الكسب أم عاجزة عنه، لأنها جزاء قيامها بحقوق الزوج ورعاية بيته وأولاده وهى تقسيم فى نظام الحياة الزوجية، المرأة تقوم بإدارة مملكة البيت، والرجل يكدح ويعمل للحصول على الرزق، ولذلك يقول صلى الله تعالى عليه وسلم فى حجة الوداع لهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف.
والثانى: الأمور التى تدل عليها الأحاديث الواردة عن هند وإجابة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن على الزوج أن يمكنها من ماله الذى تتمكن به من أن تطعم وأولادها بالمعروف فى أمانة من غير خيانة.
ثالثها: أن نفقة الزوجية تثبت حقا لها ولأولادها من غير حكم من القضاء، أو أمر من ولى الأمر، بل تثبت بحكم الشرع على أنها حق من حقوقها بمقتضى الأحكام الشرعية لا بسبب الرضا، أو القضاء، وقد يكون تقديرها بالتراضي، ولكن أصل الوجوب يكون بحكم الشرع هذا ما اقتضى الحديث بيانه، وربما عاودنا القول فى حجة الوداع.
حكم الهجرة بعد الفتح
616- روى أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قام بعد تمام فتح مكة المكرمة، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا هجرة بعد فتح مكة، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا» ، وإن ذلك المعنى مستقيم بمنطق الوقائع، فقد كانت الهجرة قبل الفتح من مكة المكرمة إلى الحبشة، أو إلى المدينة النبوية فكانت فرارا من الاستضعاف فى مكة المكرمة، إلى حيث الأمن والاطمئنان وخصوصا إلى يثرب، حيث تتجمع القوى الإسلامية فى المدينة المنورة مجاهدة داعية.
(3/913)
وإن الهجرة بعد أن صارت مكة المكرمة دار إسلام، وبها البيت الحرام، فإن الهجرة منها لتقتضى خلوها من السكان. وهم أهل البيت الحرام.
ولكن معنى ذلك أن لا تمنع الهجرة من أى بلد إلى أخرى، ولكن لا يكون له ثواب المهاجر، إذا كان الخروج لمجرد طلب الرزق، والثواب إن كان فلا يكون ثواب هجرة، ولكن يكون ثواب طلب الرزق استجابة لقوله تعالى: وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً (النساء- 100) .
ولكن يكون بعد ذلك هجرة يكون فيها ثواب الهجرة وهى مطلوبة غير منهى عنها، بل يحاسب فيها المؤمن إن كان قادرا على الهجرة، ولم يهاجر، وذلك فى حال أن يعيش مستضعفا بين الكفار، يسومونه الذل والهوان، وإن خرج إلى أرض الإسلام كان التجمع القوى والوحدة الشاملة الكاملة.
ومن ذلك قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ، قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ، قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ، وَساءَتْ مَصِيراً. إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا. فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً فإن هذه الآية توجب الهجرة على كل مستضعف فى الأرض لتكون الجماعة الإسلامية له قوة، ويكون من انضمامه لجماعة المسلمين قوة بانضمام كل بعيد عنها إليها، فإن التجمع قوة فى ذاته، وقوة عامة للمسلمين، والانفراد مع الاستضعاف ذل لبعض المسلمين. وحرمان للمجموع من قوة التجمع.
ولذلك ورد أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال «الهجرة دائمة» وقال عن اجتماع الكافر بالمسلم «لا تتراءى ناراهما» .
فالهجرة التى انتهت هى الهجرة من مكة المكرمة.
أما الهجرة فلم تنته بإطلاق، ويقول فى ذلك الحافظ ابن كثير: إنه يعرض حالة تقتضى الهجرة بسبب مجاورة أهل الحرب، وعدم القدرة على إظهار الدين فتجب الهجرة إلى دار الإسلام، وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء. ولكن هذه الهجرة ليست كالهجرة قبل الفتح، كما أن كلا من الجهاد والإنفاق فى سبيل الله مشروع، ورغب فيه إلى يوم القيامة، وليس كالإنفاق، ولا الجهاد قبل الفتح فتح مكة المكرمة، كما قال تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ، وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا (الحديد- 10) وإنه بلا ريب الجهاد قبل الفتح، لإنشاء قوة للمسلمين، والجهاد بعد ذلك لبقاء الإسلام، والإبقاء أسهل من الإنشاء فكانت لذلك أفضل والله سبحانه وتعالى أعلم بموضع الفضل والخير.
(3/914)
ملكية أرض مكة المكرمة
617- ملكية أرض مكة المكرمة أتجوز أو لا تجوز؟ فى هذا الأمر نظر السلف الصالح، واختلفوا فى اتجاههم إلى اتجاهين:
أولهما: أنها لا تملك، وحجته أولا أنها دار النسك، ومتعبد الخلق، وحرم الله تعالى الذى جعله للناس سواء العاكف فيه والباد، وإن الله تعالى يقول: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً، وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ (العنكبوت: 67) وإن أرض مكة المكرمة نسك وحرم، فهى معبد، والمعابد لا تملك، إنما هى وقف على العباد لا تباع ولا توهب ولا تورث.
ثانيا: كل تعبير بالحرم أو نحو ذلك فهو تعبير عن مكة المكرمة- يقول الله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ، وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (الحج- 25) .
وترى أن مكة المكرمة كلها بظاهر النص وإشاراته هى موطن العاكف ومزار البادى فكلها نسك، لا يورث ولا يملك. وحجة هذا الرأى أيضا: أنه قد وردت الآثار صريحة بالنهى عن بيعها، وعن إجارتها، وعن وراثتها، ولقد قال عبد الله بن عمر من أكل أجور بيوت مكة المكرمة، فإنما يأكل فى بطونه نار جهنم.
وثالثا: أن عمر بن الخطاب نهى عن اتخاذ الأبواب فى دور مكة المكرمة وأمر بفتح الأبواب لمن كان لداره باب، فلا يغلقه، ليسهل أن يبيت العاكف فيه والباد، كما صرح الله سبحانه وتعالى.
ورابعا: كتب عمر بن عبد العزيز على مشهد من التابعين ألا تؤجر دور مكة المكرمة.
هذه حجج الذين قالوا إنها لا تملك أرضها، ولا تؤجر، ولا تباع ولا تورث.
وحجة الذين أباحوا امتلاكها- أن الله سبحانه وتعالى أضاف ملكيتها إلى أصحابها فقال تعالى:
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ (الحشر- 8) وقال تعالى:
فَالَّذِينَ هاجَرُوا، وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ (الممتحنة- 9) .
وقال تعالى: إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ.
وفى هذه النصوص كلها أضاف الديار إضافة اختصاص إلى المهاجرين.
وقد سأل سائل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: أين تنزل غدا بدارك؟. فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «وهل ترك عقيل من دار» وفى رواية من رباع، فلم يقل أنه لم يكن له من دار ولقد
(3/915)
آلت ديار أبى طالب عم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى عقيل ابنه، ولم يأخذ منها أخوه على شيئا، لأن عليا كان مسلما، فلا يرث من أبى طالب، ولا يرثه إلا عقيل، ومن بقى على الشرك.
وأخبر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن عقيلا أخذها، ولم ينزعها من يده، فدل ذلك على سلامة ملكيته بالميراث، بل أقرها وسكت.
وقد كانت الدور تنسب لأصحابها، فيقال دار أم هانيء، ودار خديجة وغيرها، وكانوا يتوارثونها كما يتوارث المنقول.
وقد باع صفوان بن أمية دار العمر بن الخطاب بوصف أنه أمير المؤمنين فاتخذها سجنا، يسجن بعض ذوى المعاصى ليمنع شرهم.
وهكذا كان يجرى البيع والشراء فى الدور، والتوارث فيها.
ولقد وفق ابن القيم وغيره بين أدلة الفريقين، بأن الأدلة المثبتة لجواز البيع والإجارة والميراث، موضوعها البناء، وأما الأرض فإنه لا يجرى عليها البيع ولا الميراث، وبذلك ينتهى الحكم المقرر بالنسبة لمكة المكرمة أن الأرض موقوفة على مصالح المسلمين، والبناء مملوك لمن أقاموه، وينتقل بالوراثة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
سب النبى صلى الله عليه وسلم
618- ثبت حكم سب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى هذه الغزوة، لأن جارية سبت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فقتلها سيدها، ولأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أباح دم جاريتين كانتا تتغنيان بسب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وأمر بقتلهما ضمن من أهدر دمهم ولو وجدوا متعلقين بأستار الكعبة الشريفة، وعندما كان كعب بن الأشرف يسب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فأمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بقتله.
ولذلك كان الذمى إذا سب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم اعتبر نابذا للعهد.
وإن سب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إفساد فى الأرض، وخروج عن حكمه، والمفروض فى كل من يكون تحت طاعة دولة أن يطيع منشيء هذه الدولة، ومنشيء دولة الإسلام هو سيدنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فسبه خروج عليها.
(3/916)
وقد عرض سؤال غريب: إننا قبلنا أن يبقى الذمى، وهو يعبد النار، ويؤمن بالتثليث، وغير ذلك مما هو خطأ فى جنب الله تعالى، فكيف لا نقبل عهد الذمى إذا سب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، إن هذا فى القياس غريب!!
ونقول فى الجواب عن ذلك: إن ذلك اعتقادهم، وقد قبلنا أن يبقوا تحت ظلنا مع استنكار ما هم عليه، وأمرنا بتركهم وما يدينون، ولم يكن فى ذلك البقاء إفساد للنظام، ولا هدم للعهد، أما سب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فهو متضمن أمورا أخرى عظيمة، فهو يتضمن مهاجمة الإسلام، وألا يترك المسلمون وما يدينون، بينما المسلمون تركوهم وما يدينون، وفوق ذلك يكون إعلانا للخروج على الطاعة والنظام.
غزوة هوازن
619- أخذت القوى العربية المشركة تتخاذل شيئا فشيئا، وبعد أن فتحت أم القرى، وتلاقت فيها القلوب على مودة ورحمة، وعادت الأخوة بين ذوى الأرحام، لم يبق من أهل القوة من العرب إلا هوازن وثقيف بالطائف، وكانوا ذوى بأس شديد فى البلاد العربية.
ولقد قال الصديق وهو ينطق بالحكمة: «لن نغلب بعد اليوم من قلة» وقد صدق فى ذلك، فإنهم قد صاروا كثيرا وقد توافر العدد، وتوافرت العدة، ولكن تكون الهزيمة من غرور أو ضعف فى النفوس، أو عدم التنظيم الجامع. وقد صدقه ربه فى ذلك. فقال تعالى:
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ، ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ، وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها، وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ. ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (التوبة: 24- 27) .
وإن الجيش الإسلامى كان اثنى عشر ألفا، وذهب إلى هوازن، والتقى بهم فى أوطاس فى العاشر من شوال من السنة الثامنة من الهجرة.
ونحب هنا أن نشير إلى جيش الإسلام فى هذه الموقعة، أهو جيش المؤمنين، أم كان فيه من دخل الإسلام، ولم يدخل الإيمان فى قلبه، كما قال تعالى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا، وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ (الحجرات- 14) .
(3/917)
كذلك كان الجيش فيه الطلقاء، الذين قال لهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «اذهبوا فأنتم الطلقاء» ، وفيه ضعاف الإيمان الذين كانت تحدثهم نفوسهم بأن ينقلبوا على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، كما قال أبو سفيان فقال له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «إذن ليخزينك الله» وفيهم من هم باغتيال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكشف الله تعالى سره، وفيهم والمعركة دائرة بين الجيشين فى حنين من هم بأن يقتل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
وفيه كثيرون من الأعراب الذين أسلموا ولم يؤمنوا، فكان جيش الإسلام ولم يكن جيش الإيمان، ألم تر أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد أعطى من غنائم حنين طائفة من كبار قريش أموالا كثيرة، ليتألف قلوبهم كأبى سفيان بن حرب، وابنه معاوية، وإن التأليف إلى الإسلام دليل على ضعف الإيمان، لأنه يتألف قلوبا للإيمان.
وإن الهزيمة لم تكن من أهل الإيمان الأولين الذين بايعوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم الحديبية، بل نادى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم والمعركة عنيفة بينه وبين هوازن المهاجرين والأنصار، فجاء منهم مائة حولوا الهزيمة إلى نصر، ولم يثبت مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلا عشرة هم أبو بكر الصديق وعمر الفاروق وعلى بن أبى طالب، والعباس الذى أسلم عقب بدر، وأبو سفيان بن الحارث ابن عم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، والفضل بن العباس، وجعفر بن الحارث، وربيعة بن الحارث، وأسامة بن زيد، وأيمن بن أم أيمن. فأين خالد وعمرو بن العاص؟.
والآية صريحة فى أن الله ألقى السكينة والثبات على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين، فهم الذين ثبتوا بعد أن اضطربت الصفوف بين الذين لم تكن لهم خبرة بلقاء أهل الإيمان وأهله، ولقد دعا رسول الله المؤمنين من المهاجرين والأنصار، فلبوا النداء. وسارع منهم مائة، فقلبوا الهزيمة لقاء، ثم نصرا بتأييد الله تعالى.
ابتداء المعركة:
620- قلنا أنه لم يكن من بين القوى العربية فى البلاد من له قوة وشوكة بعد مكة المكرمة وقريش إلا هوازن فاعتزم أن يعمل لإسلامهم، بينما هوازن يفكرون فى حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم اتقاء لأنفسهم، ومنعا من دخول الإسلام إليهم، أو هجوم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عليهم، وما كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يهاجم الآمنين ولكن يرد كيد من يدبرون له حربا، أو يريدون كيدا.
(3/918)
ولقد جاء مالك بن عوف النضرى، فجمع الجموع. فاجتمع إليه من هوازن ثقيف كلها، واجتمع نضر وجشم كلها وعدد قليل من قيس بن عيلان.
وكان فى جشم شيخ له تجربة ودراية فى الحروب، وإن لم تكن له قوة على المنازلة لشيخوخته وهو دريد بن الصمة، ولما أراد النفير مالك بن عوف، أخذ مع الجيش النساء والمال ليستثير حميتهم بنسائهم وأموالهم فيندفعوا مقاتلين ليحموا نساءهم وأموالهم وذراريهم.
وقد ساروا بدريد بن الصمة فى شبه هودج، فسمع أصوات الأموال من النوق والحمير والنساء والصبيان، فقال: مالى أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، وثغاء الشاة؟ قالوا: ساق مالك ابن عوف مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، فقال: أين مالك؟ فجيء به إليه فقال له:
يا مالك إنك قد أصبحت رئيس قومك، وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام، مالى أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، وثغاء الشاة؟ قال: سقت مع الناس أموالهم وأبناءهم ونساءهم.
قال ولم ذلك؟ قال أردت أن أجعل خلف كل رجل منهم أهله وماله ليقاتل عنهم. فانقض به (أى زجره) وقال: راعى ضأن. أى لست بمقاتل. وهل يرد المنهزم شيء، إنها إن كانت لك، لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت فى أهلك ومالك.
ولكنه لم يطعه مالك بن عوف ولكن هوازن أطاعوه «1» .
وقد ترامى إلى سمع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم همس بما دبروا، فأرسل إليه من يأتيه بجملة أمرهم وأمره أن يدخل فى الناس ليعرف حالهم ويأتيه بأخبارهم، فأقام فيهم، حتى سمع ما أجمعوا عليه من حرب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وسمع من مالك بن عوف وهوازن فجاء وأخبر الرسول.
فأخذ الرسول الكريم المدافع عن الحق يستعد لهم ويلقاهم. وذكر له أن عند صفوان بن أمية دروعا وسلاحا فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك ولعله كان فى المدة التى جعل لنفسه الخيار فيها، بين البقاء على ما هو عليه والإسلام، فقال له: يا أبا أمية أعرنا سلاحك نلق به عدونا غدا، فقال صفوان: أغصبا يا محمد؟ قال عليه الصلاة والسلام: بل عارية مضمونة نردها إليك، قال: ليس بهذا من بأس، فأعطاه مائة درع بما يكفيها من سلاح.
__________
(1) كانت طاعة هوازن وقتية وعادت حين رفض مالك الطلب ونقلت كتب السير أنه قال: والله لا أفعل، إنك قد كبرت وكبر عقلك، والله لتطيعني هوازن أو لأتكأن علي هذا السيف حتي يخرج من ظهري. وكره أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأي. فقالوا: أطعناك، فقال دريد: هذا يوم لم أشهده ولم يفتني. المراجع.
(3/919)
خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم معه اثنا عشر ألفا، منهم عشرة آلاف دخل بهم، وهو جيشه الأول، ولم يكن كله من المهاجرين والأنصار، وألفان من أهل مكة المكرمة الذين أسلموا بعد الفتح، أو لم يظهر إسلامهم إلا فى الفتح، وفيهم أبو سفيان بن حرب، وأمثاله. وخلف فى مكة المكرمة عتاب بن أسيد من بنى عبد شمس، ثم مضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على وجهه نحو هوازن، أو حنين أو أوطاس، وكلها أسماء لهذه المعركة.
ولا شك أن الجيش كان فيه ألفان قريبا عهد بالجاهلية، كما أشرنا من قبل، ولقد روى ابن إسحاق بسنده عن الحارث بن مالك، أن الحارث هذا قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى حنين ونحن حديثو عهد بالجاهلية.
ولقد رأى الجيش شجرة عظيمة خضراء يقال لها ذات أنواط كانت قريش ومن حولهم يقدسونها ويأتون كل سنة يذبحون عندها تقديسا لها.
فراعهم منظرها، ورأوها سدرة عظيمة. ويقول الحارث بن مالك: تنادينا من جنبات الطريق: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط (أى شجرة عظيمة نقدسها، وننحر عندها) .
قال لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الله أكبر قلتم والذى نفس محمد بيده كما قال قوم موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة؛ قال إنكم قوم تجهلون. إنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم.
كان من الألفين اللذين ضمهما النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الجيش الذى غزا به مكة المكرمة، من فيهم هذه العقلية وكلهم أو جلهم حديث عهد بالجاهلية لما يدخل الإيمان فى قلوبهم.
الانهزام ثم الانتصار:
621- تقدم جيش الإسلام إلى وادى حنين، وكان ذا أودية وطرق مختلفة، فتقدم المسلمون فى واد من أودية تهامة، وانحدر فيه انحدارا حتى أو غلوا فى باطن الوادى، وكان جيش هوازن قد سبقهم إلى الوادى وادى حنين، وكمنوا فى شعابه، وأحنائه ومضايقه.
وكانوا محميين مهيئين، وكان فى المتقدمين من جيش المسلمين على رأس بنى سليم خالد ابن الوليد، وما أن تقدم المسلمون وسط هذا الكمين المتعدد النواحى، وهم فى عماية الصبح، وهو الظلام الذى يسبقه!.
وفى هذه الحال راع جيش المسلمين انقضاض هوازن عليهم كتائب قد تعددت، فشدوا شدة رجل واحد، فكانت المفاجأة مروعة عنيفة، وانتثر الناس راجعين لا يلوى أحد على أحد.
(3/920)
وقد انحاز رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذات اليمين، ثم قال: أيها الناس هلم إلى أنا رسول الله محمد بن عبد الله.
ولكن الناس يفرون، وحمل بعضهم على بعض، وكان الفرار من غير المؤمنين الأولين قد أفسد نظام الجيش واضطرب الأمر، واختلط الحابل بالنابل.
ولقد ثبت مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أبو بكر وعمر، وثمانية من بنى هاشم صدقوا وآمنوا، وعلى رأسهم على بن أبى طالب، والعباس بن عبد المطلب، ولا نعد ثبات على للقرابة، بل لأن الثبات من شيمته أولا إذ هو فارس الإسلام كما قال النبى صلى الله عليه وسلم، ولإيمانه ثانيا، وقد يكون لقرابته ثالثا، فهى فى المرتبة الأخيرة من الأسباب.
وأما السبعة الباقون فإنا قد نقول للرحم دخل فيها، ولكن لا نحرمهم من الإيمان، خصوصا العباس فقد آمن بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم فى أعقاب بدر وخرج مكرها فى بدر، فرضى الله تعالى عنه، وفى الوقت الذى كانت فيه الكفة راجحة لهوازن، وقبل أن يلبى نداء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المهاجرون الأولون والأنصار جرت أمور تدل على سبب الهزيمة.
أولها: وحدتهم فى الفكرة، وإن كانوا على ضلال، فالوحدة مع الشرك تثمر فى الحرب أكثر من العقيدة السليمة عند تفرق الأهواء والمنازع، ووجود ضعاف الإيمان مع أقويائه.
لقد كان فيهم رجل على جمل أحمر معه رمح طويل، فإن وجد هدفا لرمحه ضرب، وإن لم يجد هدفا رفع رمحه أمام جيش هوازن، والناس من خلفه يتبعونه.
ثانيها: أن التردد وروح الهزيمة ظهر من رجال من الألفين، فتكلم ناس من جفاة أهل مكة المكرمة. قال ابن إسحاق: لما انهزم الناس، ورأى من كان مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من جفاة أهل مكة المكرمة الهزيمة تكلم رجال بما فى نفوسهم من الضغن، فقال أبو سفيان بن حرب:
«لا تنتهى هزيمتهم دون البحر» ، تلك أمانيه، وأخذ الطالع فى الأزلام رجاء أن تنبئه فى زعمه بأنها هزيمة ساحقة.
ولقد صرخ كلدة بن الحنبل، وهو مع صفوان بن أمية الذى كان لا يزال مشركا، إذ لم تمض المدة التى أخذ الخيار لنفسه فيها، صرخ كلدة هذا: ألا بطل السحر اليوم، فقال صفوان الذى لم يعلن بعد إسلامه لهذا الذى ظهر فى الجيش مسلما، وقال ما قال. قال صفوان: اسكت فض الله فاك، فوالله لأن يربنى رجل من قريش أحب إلى من أن يربنى رجل من هوازن.
(3/921)
ثالثها: أنه وجد من بين هذين الألفين من كان يحاول فى زحمة الاضطراب أن يغتال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فلقد قال شيبة بن عثمان بن أبى طلحة أخو بنى عبد الدار قال ذلك الحاقد: اليوم أدرك ثأرى من محمد، وكان أبوه من حملة اللواء الذين قتلوا فى أحد «1» ، وهو غير عثمان بن طلحة الذى أسلم مع خالد، وأعطاه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مفتاح الكعبة الشريفة، ولم يعطه على بن أبى طالب مهلة، إذ طلبه.
622- هذه ظواهر بدت بعد الانهزام وهى تعلن سبب الانهزام، وهو أن الجيش الإسلامى الكبير كان فيه دعاة التردد والهزيمة من بين الألفين الذين كان الكثيرون منهم حديثى عهد بالجاهلية، ولما يدخل الإيمان قلوبهم.
ونعود إلى الانتصار بعد الهزيمة، لم يزلزل قلب المؤمن، والرسول عليه الصلاة والسلام لم تؤثر فيه هذه الحال، بل اشتد بأسه، وقال: لقد حمى الوطيس، وأخذ يدعو المهاجرين الأولين ليعلموا مكانه، ويقول: مناديا لهم، أين أيها الناس، ثم قال: يا عباس اصرخ، وكان جهير الصوت: يا معشر أصحاب الشجرة، يا معشر أنصار الله وأنصار رسوله، يا معشر الخزرج، فأجابوه لبيك لبيك، فكان الرجل يذهب ليعطف بعيره، فلا يقدر على ذلك، فيقذف درعه فى عنقه ثم يأخذ سيفه وترسه، ويؤم الصوت، حتى اجتمع عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نحو مائة ولكنهم بقية من بقايا بدر، وكما قال على بطل بدر وأحد، والخندق: بقية السيف أبقى عددا وأكثر ولدا، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم راكب بغلته، وأخذ بزمامها العباس وهو يقول ومعه هذا الجمع المؤمن:
أنا النبى لا كذب أنا ابن عبد المطلب اللهم أنزل نصرك
ثم تجمعت الجموع المؤمنة حول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو يقول: الآن حمى الوطيس، عادت الجولة لجيش المؤمنين بعد أن مازت الهزيمة الخبيث من الطيب.
رأى على كرم الله وجهه الرجل الذى يحمل الرمح الطويل الذى يضرب به الهدف، إن وجده، ووراءه جيش هوازن، رأى على الرجل، وهوى إليه مع أنصارى، فضرب على عرقوبى الجمل فوقع على عجزه، ووثب الأنصارى على الرجل وضربه ضربة أطن بها قدمه.
وإذا كان كما يبدو الرجل حامل لوائهم فهذا لواؤهم قد سقط.
__________
(1) لكن هذا الرجل حسن إسلامه وأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ وجد أنه ممنوع- ولقد أخرج البيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب يده في صدر شيبة ثم قال: - اللهم اهد شيبة ثلاثا.. فيقول شيبة: فوالله ما رفع يده عن صدري في الثالثة حتي ما كان أحد من خلق الله أحب إلى منه..
(3/922)
والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يحث المؤمنين على القتال، ويقول: من قتل قتيلا فله سلبه، وقد قتل بعض المؤمنين عشرين قتيلا من هوازن، فكانت له أسلابهم.
وكان يتناول زمام بغلة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم العباس عمه، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وكان ممن صبر فى تلك المعركة.
وكان فى المقاتلين فى جيش النبى صلى الله تعالى عليه وسلم نساء مؤمنات، ومنهن أم سليم، وكانت حازمة وسطها ببرد لها وهى حامل، وكانت راكبة جملا، فكانت تخشى أن ينفر، فكانت تأخذ حزامها مع خطامه.
وكانت ترى أن الذين انهزموا كانوا من دعاة التردد والهزيمة، رآها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال لها أم سليم، فقالت نعم بأبى أنت وأمى يا رسول الله، اقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك، كما تقتل الذين يقاتلونك، فإنهم لذلك أهل، فقال لها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، أو يكفى الله تعالى يا أم سليم، وكان معها خنجر، فقال لها زوجها ما هذا الخنجر الذى معك يا أم سليم؟
قالت خنجر أخذته إن دنا منى أحد من المشركين بعجته، فقال زوجها ألا تسمع يا رسول الله ما تقول أم سليم!!.
تحارب الناس، واجتلدوا، وكانت هوازن رماة، ولكن رمى الله بالمؤمنين فى أوساطهم وهم يسلبون القتلى، ويكتفون الأسارى.
يروى ابن إسحاق عن جابر بن عبد الله أنه قال: والله ما رجعت راجعة، حتى وجدوا الأسارى مكتفين عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
الانتهاء بالهزيمة الساحقة:
623- انتهت المعركة بالهزيمة الساحقة فى حنين، بأن لجأ المنهزمون إلى أوطاس، وذلك بعد أن دعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وجمع المؤمنين حوله، وكان دعاؤه هكذا: «اللهم إنى أنشدك ما وعدتنى، اللهم لا ينبغى لهم أن يظهروا علينا» ، ونادى أصحابه «يا أصحاب البيعة، يا أصحاب الحديبية: الله، الله، الكرة على نبيكم، يا أنصار الله، وأنصار رسوله، يا بنى الخزرج يا أصحاب سورة البقرة» وأمر من ينادى بذلك، وقبض قبضة من الحصباء فحصب بها وجوه المشركين، وقال:
شاهت الوجوه، فهزم الله أعداءه، وأعداء الحق من كل من حصبهم فيها، واتبعهم المؤمنون يقتلونهم، وغنمهم الله تعالى أموالهم ونساءهم، وذراريهم.
(3/923)
وفر فى هذه الهزيمة كبيرهم وقائدهم الذى كان يحثهم على أن يضربوا ضربة رجل واحد، وهو مالك بن عوف، فروا فرارا حتى دخلوا حصن الطائف. وفريق آخر منهم فروا إلى أوطاس، فأرسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم سرية لهم، سنذكر أمرها إن شاء الله.
وأخذ الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه يجمعون الغنائم من السبايا والأموال، وغيرها مما أفاء الله تعالى به عليهم. ولقد حدث ابن إسحاق بسنده أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو يبحث بقايا المعركة من غنائم، وآثار انهزام، رأى امرأة مقتولة، قالوا إن خالد بن الوليد قتلها، ويظهر أنها ممن كن خلف المقاتلين، ليدفعوهم للقتال، كما دبر مالك بن عوف، وحذره منه دريد بن الصمة لما رأى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك قال مستنكرا: ما كانت هذه لتقاتل. وقال لبعض من حوله: الحق خالدا فقل له لا تقتلن ذرية وعسيفا.
ولم يذكر خالد فى هذه المعركة إلا فى هذا الموضع منها. ورضى الله عن عمر إذ قال عندما عزله عن قيادة الجيش فى الشام: «إن فى سيف خالد لرهقا» .
أوطاس:
624- انهزمت هوازن هزيمة ساحقة، ففروا إلى الطائف، وتجمعوا للقاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هنالك متجمعين.
وتوجه فريق آخر نحو أوطاس، وعسكر بها، وتوجه بعضهم نحو نخلة، وكانوا عددا فتبعت الجميع خيل المسلمين، وكان ممن أدركوه دريد بن الصمة صاحب رأيهم، ومن يصدرون عنه، ولما خالف مالك بن عوف رأيه كانت الفضيحة التى قدرها ونبه إليها دريد بن الصمة، إذ سبيت النساء، ولم يكن فى إخراجهن فائدة بل فضيحة، اضطرتهم صاغرين للاجتماع عند محمد صلى الله تعالى عليه وسلم.
ولقد قال ابن إسحاق: بعث النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى آثارهم أبا عامر الأشعرى فأدرك هو ومن معه بعض من انهزم، فناوشوه القتال، فرمى أبو عامر الأشعرى فقتل، وقد كانوا يحسنون الرمى، وهو الذى حمل الراية فى أول يوم حنين.
وقد حمل الراية من بعده ابن عمه أبو موسى الأشعرى فقاتلهم، ففتح الله تعالى عليه أوطاس وانتصر عليهم.
(3/924)
وقد جاهد من قبله ابن عمه جهادا قويا شديدا، إذ لقى عشرة أخوة فبرزوا واحدا بعد واحد، حتى قتل تسعة. وأسلم العاشر رغبا لا رهبا وحسن إسلامه والتقى برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فكان إذا لقيه يقول شريد أبى عامر.
وقد سبى فى حرب أوطاس كثيرات كما سبى أكثر من فى حنين.
ويروى فى ذلك أن أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أصابوا يوم أوطاس سبايا لهن أزواج من أهل الشرك، فكان أناس من أصحاب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تأثموا من غشيانهن فنزل قوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ (النساء: 24) وإن فى هذه الآية التى نزلت فى بيان المحرمات دلالة على جواز غشيان الإماء المشركات بملك اليمين ولا يمسك أحد بعصمة الكوافر ولكن يستبريء أرحامهن بحيضة يحضنها.
هذا وسميت هذه الغزوة الكبرى بغزوة هوازن وحنين وأوطاس، إلا أنها كانت فى هوازن وفى يوم حنين، واستمرت حتى أوطاس.
ثمرات المعركة
625- جمع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم غنائم هوازن، وأرسلها إلى الجعرانة حتى يتتبع فلولها ثم ضم إليها ما غنمه من أوطاس من أموال وسبايا، وكان مجموع ذلك كثيرا، لأن هوازن برأى مالك بن عوف قربت السبايا والأموال من موطن الجهاد، فكان مؤدى هزيمته.
أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالسبى والغنائم أن تجمع، فجمع ذلك كله، ووجه إلى الجعرانة، وكان السبى ستة آلاف رأس ما بين نساء وذرية، وعدد الإبل أربعة وعشرون ألفا، وعدد الغنم أكثر من أربعين ألف شاة وأربعة آلاف أوقية من الفضة.
وهذا على أن أكثر معاملتهم النقدية كانت بالفضة، ولم يكن استعمالهم للدينار الرومانى كثيرا.
ولم يوزع هذه الغنائم بين الفاتحين بمجرد انهزامهم، وجمعها، بل استأنى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رجاء أن يأتوا مسلمين، ولو بظاهر من القول، تقريبا للنفوس، فما كان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم إلا هاديا يدعو إلى الإسلام، وخصوصا أن ما أخذ منهم إن لم يكن كل أموالهم، فهو أكثرها.
ولكن مضى بضع عشرة ليلة، ولم يجيء أحد.
(3/925)
فقسمها بين الفاتحين، وصرف منها للمؤلفة قلوبهم، فأعطى أبا سفيان بن حرب تأليفا لقلبه، وليدخله الإيمان أربعين أوقية من فضة، ومائة من الإبل، ولكنه لم يكتف بما أخذ بل طلب لابنه يزيد، فقال: ابنى يزيد، فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: أعطوه أربعين أوقية، ومائة من الإبل، ولكنه الطمع، فقال ابنى معاوية فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: أعطوه أربعين أوقية ومائة من الإبل، فمعاوية كان من المؤلفة قلوبهم ليدخلها الإيمان فليذكر ذلك من يضعونه أمام على أو يناصرونه.
وأعطى حكيم بن حزام مائة من الإبل، ثم سأله مائة أخرى فأعطاه، وأعطى النضر بن الحارث ابن كلدة، وأعطى العلاء بن حارثة الثقفى خمسين وأعطى العباس بن مرداس أربعين، فقال فى ذلك شعرا، فكمل له مائة.
واختص من بعد ذلك زيد بن ثابت بإحضار الغنائم والناس، ثم فرقها على الناس، فكانت سهامهم لكل رجل أربعا من الإبل وأربعين شاة، فإن كان فارسا أخذ اثنى عشر بعيرا، وعشرين ومائة شاة، وإنه مما يلاحظ أن المؤلفة قلوبهم الذين كانوا فى المعركة نظارة ينظرون، أخذوا أكثر نسبيا من المجاهدين، فبينما كان نصيب المجاهد فى الغنيمة التى استولى عليها بسيفه أربع نوق كان نصيب أبى سفيان المترقب مائة له ولكل واحد من أولاده مائة وله أربعون أوقية، ولكل واحد مثلها.
ولكن المؤمنين الصادقين فى إيمانهم ما كانوا ليعترضوا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فهو الهادى وهو المرشد، وهو الداعى إلى الحق، والمؤلف للقلوب التى تتجه إليه، ولكيلا تنحرف عنه، وأولئك الذين ألفت قلوبهم ماديون، تجذبهم المادة أكثر مما يجذبهم الحق المجرد.
ولا يصح أن يفهم أحد أن ذلك شراء للإيمان، فإن الإيمان لا يشرى بالمال، ولكن يشترى بالإذعان للحق، ولكن أولئك أخذت منهم رياسة، وأخذ منهم سلطان، وهم كما عرف من ماضيهم لا يذعنون للحق المجرد، ولا للدليل، وفى دخولهم للإسلام، لا بد من تأليف قلوبهم للإسلام، وما يكتسبه الإيمان بدخول الإيمان قلوبهم أكثر ما نخسر من مال، ولقد قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لإمام الهدى على بن أبى طالب «لأن يهدى الله تعالى بك رجلا واحدا، خير لك من حمر النعم» .
ويجب التنبيه هنا إلى أن كثيرين من أهل مكة المكرمة الذين يترددون فى الدخول فى الإسلام دخلوا فيه أفواجا أفواجا لما رأوا النصر المبين، والتأييد البين من الله سبحانه وتعالى.
(3/926)
موجدة الأنصار
626- روى ابن إسحاق بسنده عن أبى سعيد الخدرى قال: لما أعطى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما أعطى من العطايا الكبار فى قريش، وفى قبائل العرب، ولم يكن فى الأنصار منها شيء، وجد هذا الحى من الأنصار فى أنفسهم، حتى قال قائلهم، لقى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله، إن هذا الحى من الأنصار قد وجدوا عليك فى أنفسهم، لما صنعت فى هذا الذى أصبت، قسمت فى قومك وأعطيت عطايا عظيمة فى قبائل العرب، ولم يكن فى هذا الحى من الأنصار منها شيء. قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم:
فأين أنت من ذلك يا سعد. قال: يا رسول الله ما أنا إلا من قومى. قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فاجمع لى قومك فى هذه الحظيرة.
فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون فردوا، فلما اجتمعوا أتى سعد فقال قد اجتمع لك هذا الحى من الأنصار.
فأتاهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ووقف فيهم خطيبا، فحمد الله تعالى، وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: «يا معشر الأنصار، ما قالة بلغتنى، وموجدة وجدتموها فى أنفسكم، ألم آتكم ضلالا، فهداكم الله بى. وعالة فأغناكم الله بى، وأعداء فألف بين قلوبكم!! قالوا: لله ورسوله المن والفضل، ثم قال صلى الله تعالى عليه وسلم: ألا تجيبونى معشر الأنصار، قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أما والله لو قلتم، لصدقتم ولصدقتم، أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فاويناك، وعائلا فواسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار فى أنفسكم من لعاعة من الدنيا، تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى رحالكم، فوالذى نفس محمد بيده لما تنقلبون به خير مما ينقلبون، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وواديا، وسلك الأنصار شعبا وواديا لسلكت شعب الأنصار وواديها، الأنصار شعار، والناس دثار لهم، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار. قال أبو سعيد الخدرى: فبكوا حتى أخضلوا لحاهم. وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا» .
وإن الموجدة التى وجدوها، ربما كان من أسبابها أنهم وجدوا أبا سفيان الذى قاتلوه أخذ العطايا العظيمة هو وابناه، وهم الذين قاتلوهم مجاهدين فى سبيل الله.
(3/927)
ولقد دعا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالرحمة لأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار فحقت عليهم الرحمة والرضا من الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم. وكان من أبناء المؤلفة قلوبهم من سبوا نساء الأنصار وأبناء الأنصار فى واقعة الحرة، فلعنه الله تعالى، ولعن من مكنه.
الشفاعة في الغنائم بعد توزيعها
627- مكث النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بضع عشرة ليلة لا يوزع الغنائم، رجاء أن يسلموا، أو رجاء أن يطلبوها على عهد يتعهدونه، ورجاء محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ليس رجاء محارب إنما هو رجاء هاد مرشد، يريد القلوب ولا يريد الحروب لذاتها.
ولما وزعها عليه الصلاة والسلام، جاء إليه صلى الله تعالى عليه وسلم وفد من هوازن من أربعة عشر رجلا، وعلى رأسهم عم رضاعى لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
جاؤا إليه صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد فرغت أيديهم من أموالهم بسبب حمق مالك بن عوف، وعدم طاعته لصاحب الخبرة من قومه، ورأوا نساءهم سبايا.
جاؤا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وسألوه أن يمن عليهم بالسبى والأموال، أى يرد عليهم كل ما أخذ منهم. ويظهر أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يميل إلى أن يرد السبايا، ولا يرد الأموال، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم لهم: إن معى من ترون، وإن أحب الحديث إلى أصدقه، فأبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم، قالوا ما كنا نعدل بالأحساب شيئا.
فقال لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إذا صليت الغداة، فقوموا فقولوا إنا نستشفع برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى المؤمنين، ونستشفع بالمؤمنين على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يرد سبينا» .
فلما صلى الغداة قاموا فقالوا ذلك.
فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أما ما كان لى ولبنى عبد المطلب، فهو لكم، وسأسأل الناس.
فقال المهاجرون والأنصار، ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. فقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا.
وقال عيينة بن حصن: أما أنا وبنو فزارة فلا.
(3/928)
وقال العباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا، فقالت بنو سليم: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. فقال العباس بن مرداس لقومه: وهنتمونى.
وهنا نجد الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم الحر الكريم المحب للحرية يبين أنه يريد تحرير السبى، فيقول صلى الله تعالى عليه وسلم «إن هؤلاء القوم، قد جاؤا مسلمين، وقد كنت استأنيت سبيهم، وقد خيرتهم، فلم يعدلوا بالأبناء والنساء شيئا، فمن كان منكم عنده منهن شيء فطابت نفسه، فبسبيل ذلك. ومن أحب أن يتمسك بحقه، فليرد عليهم، وله بكل فريضة ست فرائض من أول ما يفيء الله علينا»
فدى بذلك كل السبايا من مال المؤمنين، وقد طابت نفوس الناس بذلك وقالوا قد طيبنا رسول الله.
واتجه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من بعد ذلك إلى تعرف من رضى ومن لم يرض، وقال: ارجعوا حتى يرفع إلينا وفاؤكم أمركم، فتفرقوا، وردوا النساء والأبناء ولم يتخلف منهم أحد غير عيينة بن حصن، فإنه أبى أن يرد عجوزا صارت إليه من السبى، ثم ردها من بعد.
وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم رد السبايا مكرمات، وكساهن كسوة كريمة، فكساهن من القباطى، وأعطى كل واحدة منهن قبطية، ولسان حاله يقول رحمة: مغلوبين مكرمين.
وقبل أن ننتهى من الكلام فى الغنائم ومالها، وهى غنائم هوازن نذكر حكمة الله تعالى فيها ورعايته لجيش الإسلام، وحمايته من الضياع.
ذلك أن فتح مكة المكرمة لم ينل فيه المسلمون شيئا من الغنائم، فما أفاء الله تعالى على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين بشيء منها تكريما لها، وحماية لأموالها، فجاؤا إليه غير فاتحين بل جاؤا طائفين ساعين بين الصفا والمروة، وإن لم يحرموا إحرام عمرة.
ولكنه جيش جرار، يضم عشرة آلاف جاؤا من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة، فلا بد أن يحتاجوا ما يمون جيشا كبيرا، فهؤلاء قطعوا الفيافى والقفار، وليسوا على مقربة من ديارهم حتى ينالوا منها ما يحتاجون إليه.
فساقهم الله تعالى إلى هوازن، وساق هوازن إليهم، وقذف الله تعالى إلى قلب قائدها مالك بن عوف أن يخرج بمال هوازن جميعه ونسائهم ليقوى الجيش وتجرى فيه الحماسة دفاعا عنهم، فلم يغن عنهم من ذلك شىء، وساق الله تعالى بذلك سبيا كثيرا، ومالهم كله، فأخذ جيش الإسلام المال كله، ووزعه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بما أراه الله.
(3/929)
أحكام شرعية في غزوة حنين
العارية المضمونة:
628- جاء فى أول غزوة حنين أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم علم أن عند صفوان بن أمية عارية فأعار الجيش الإسلامى دروعا وأسلحة، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم تعهد بضمانها، وقال:
عارية مضمونة، أفمؤدى هذا الضمان أن يردها عليه، ولا يغتال لها الجيش الإسلامى، أم المراد أنها واجبة الإرجاع بقيمتها إن تلفت، أو نحو ذلك.
اختلفت أنظار الفقهاء فى فهم ذلك.
وخلاصتها أن الفقهاء أجمعوا على أن الإعارة فى يد المستعير كالوديعة لا تضمن إلا إذا تلفت بالتقصير فى الحفظ، أو استعمالها فى غير ما أعيرت له، فإن ذلك يكون تعديا، والتعدى يوجب الضمان، ولأن الإعارة تبرع، والتبرعات لا تضمن إن تلفت إذا كان التلف بالاستعمال الذى أعيرت له.
وإن الشافعى رحمه الله قال إن الشروط الظاهرة فى العقود توفى كما نص عليها، فالعارية تقبل الضمان إذا اشترط الضمان، وتكون مضمونة بالشرط، ولا تكون كالغصب لأن الغصب مضمون بالتلف دائما، لأن اليد فيه يد معتدية، وهى توجب الضمان عند التلف.
أما العارية فالأصل أنها تكون أمانة فى يد من أخذها، إذ لا يكون اعتداء، ولكن يجوز أن يتفق الطرفان على الضمان، وخصوصا إذا كانت الإعارة لأمر يكون مظنة التلف كأسلحة الحرب، أو طاحونة للإدارة؛ فإن التلف يكون مظنونا وقريبا.
وقال أبو حنيفة ومالك وبعض جمهور الفقهاء: إن العارية لا تضمن ولو بالشرط، لأن ذلك قلب لحقيقة معناها، إذ هى وديعة فى معناها، والوديعة لا تضمن، فهى لا تضمن، ولكن يجب أن يلاحظ أن ثمة فرقا بين الوديعة والعارية، فالعارية تستعمل بإذن المالك، والوديعة لا تستعمل، بل استعمالها بغير إذن صاحبها، يخرج من معنى الوديعة إلى معنى آخر، وهو العارية، وبغير إذن المالك تتحول اليد إلى يد معتدية.
وإن أولئك الفقهاء الذين قالوا: إن العارية لا تكون مضمونة، قالوا إن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يرد الضمان برد العين، أو بقيمتها إن تلفت إنما أراد أنها مؤداة أى مضمون أن تعاد إلى صاحبها إن سلمت، فإن تلفت لا يتصور ضمان قيمتها، وذلك لأن العبارة رويت عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأنه قال مؤادة فى بعض الروايات، فهذا يدل على أن المراد من كلمة مضمونة فى الرواية الأولى أن
(3/930)
تكون مؤداة، والضمان على الأداء، لا على التلف، ولأن كلام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان إجابة لصفوان، إذ قال للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: أغصبا يا محمد. فتضمن كلام صفوان الاستفهام عن أن تغتصب عينها، فكانت إجابة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عليها مؤداة، أننا لا نغتصبها، بل نأخذها على أنها عارية ترد، فكان الأقرب أن تفسر بأنها مردودة أو مؤداة، لأن السؤال لم يكن عن الوصف، بل كان عن أصل الأخذ عن العين بالرضا أو بالكره، وعن نوعه أعلى وجه الملكية أم على وجه العارية.
وفوق أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وصف الضمان بأنه للعين ولا يتصور ذلك إلا بردها ذاتها فليس الكلام فى ضمانها إذا تلفت بأداء قيمتها ولهذا كان الواضح هو ضمان ردها.
وفى أحكام الإتلاف فى الحرب، أنه يجوز إتلاف كل ما يكون إتلافه مضعفا للعدو، إذا كان موضوع ذلك أداة من أدوات الحرب يملكونها، كما يجوز قتل الحيوان الذى يركب فى الحرب، فقد عقر على كرم الله وجهه الجمل الذى كان يركبه من اتخذ رمحه كاللواء، يقتل بالرمح إن وجد من يقتله، ثم يرفع الرمح من بعد ذلك كاللواء، فجاء على وضرب الجمل، فسقط الرجل فتلقاه بعض الأنصار فقتله.
وهذا يدل على أنه يباح من إتلاف الحيوان ما يكون أداة حرب، ولا يعد ذلك تعذيبا للحيوان بقطع طرف من أطرافه فى ميدان القتال.
عطاء المؤلفة قلوبهم من غنيمة هوازن
629- للمؤلفة قلوبهم حق فى الزكاة يثبت بقوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (التوبة- 60) .
هذا سهم مقرر فى الزكاة، وهو ينفق فى سبيل تأليف القلوب، لتؤمن ويؤمن قومها من ورائها، ولإيواء من يسلم فيجرد من ماله أو يقطع من أهله، فيعان، ولذلك قرر بعض العلماء أن يصرف سهم للمؤلفة قلوبهم فى الدعوة الإسلامية.
ولذلك جعل له سهم قائم فى الزكاة، ليكون لهم مورد دائم مستمر، فلا يقتصر على أن يكون موردها الغنائم التى ليس لها صفة الدوام.
(3/931)
والعطاء الذى أعطيه المؤلفة قلوبهم أهو من الخمس الذى وضع تحت تصرف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، لنفسه ولذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل الذى نص عليه فى قوله تعالى:
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ، فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى، وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (الأنفال- 41) ..
أكان عطاء المؤلفة قلوبهم من هذا الخمس؟ أم كان من أربعة الأخماس العامة؟
قال الشافعى ومالك رحمهما الله تعالى: هو من الخمس الذى يخص النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وأربعة الأخماس قد وزعت على المحاربين ولأن أربعة الأخماس صارت حقا للفاتحين، ولا يؤخذ شيء من صاحب حق إلا بعد استئذانه، ولم يستأذنهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم تكن هذه العطايا من كل الخمس الذى كان تحت تصرف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لأنه مقسم على خمسة أحدها للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أخذ ذلك من نصيبه هو.
ويرى الإمام أحمد أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عد ما أخذه هؤلاء من الأنفال وهى لله ولرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، وكما قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ (الأنفال: 1) .
وكأن الغنائم لا تقسم ابتداء، وليست حقا ثابتا للفاتحين بمجرد الفتح وإنما هى حق لهم بعد أن ينفل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما يرى نفله تقوية للدعوة، وتأليفا للقلوب وتقريب البعيد، وأنه يجب أن يعلم أن الحروب فى الإسلام ما كانت لجمع الغنائم وإنما كانت لدفع الاعتداء وفتح الطريق أمام الدعوة، فما يكون للدعوة بتأليف القلوب أجدى من غيره، وأن الأنفال يكون التصرف فيها قبل توزيع الغنائم، إنما الغنائم بعد الأنفال والأنفال يكون التصرف فيها لمصلحة الدعوة الإسلامية.
وعلى هذا يكون الذى أعطاه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من الأنفال، فهل يكون لغيره من أمراء المسلمين وأئمتهم؟ ونقول فى الإجابة عن ذلك، إن ذلك يجوز إن كانوا كأبى بكر وعمر وعلى، وعمر بن عبد العزيز فلهم ذلك، لأن عدالتهم ودينهم يمنعانهم من أن يتخذوا أنفالا لغير المصلحة الحقيقية التى تعود إلى مصالح الإسلام والمسلمين، والدعوة الحق إلى الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، وغير هؤلاء الذين يكونون على غير ما هم عليه من العدل، والإيمان، يتخذون ذلك لهواهم، وتقريب الصديق، وإبعاد المستحق.
(3/932)
وما قرره أحمد وعلماء السنة من أن ذلك كان قبل التخميس، يؤيده ما جاء على ألسنة الأنصار من الموجدة والمعتبة، لأن هذا العطاء لأبى سفيان وولديه، وقد كان ينقص من أنصبة المستحقين فى أربعة أخماس الغنيمة، ولكن إيمانهم مكنهم من أن يعرفوا مقصد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
تبادل الرقيق بالحيوان
630- عندما اتجه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى السبايا من هوازن إلى أهليهم، بعد أن دخلوا فى الإسلام، وكان العدد كثيرا، أربعة آلاف، أطلق النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من فى يده وبنى عبد المطلب من السبايا، وعرض على المؤمنين أن يفعل ما فعلوا، فرضى باتباعه المهاجرون الأولون والأنصار، وغيرهم ممن لم يرتضوا بإجازة ما أجاز النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم طلب إليهم إطلاق سراح النساء والأبناء على أن يكون لكل رقبة من السبايا ستة نوق مما يجيء فى المستقبل من غنائم، فرضوا جميعا إلا عيينة بن حصن فقد أبى حتى هذا وتلكأ، ثم رضى بأن يطلق سراح عجوز كانت عنده، ولم يكن عنده غيرها، فهل كان هذا الذى فعله النبى صلى الله تعالى عليه وسلم معاوضة؟.
لقد تكلموا فى هذا فبنوا عليه النظر فى أمرين:
أولهما: جواز بيع الحيوان بالحيوان مع التفاضل فى القدر والنسيئة، كما يجوز بيع الرقيق بالحيوان، أو شراء الرقيق بالحيوان.
وثانيهما: جواز التأجيل إلى أجل غير معلوم، إذ أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد قرر أنه يعطيهم عن كل رقبة من السبايا الستة من النوق فى الغنائم المقبلة.
أما بالنسبة للأمر الأول، فقد قالوا- إنه يجوز بيع الحيوانات بعضها ببعض متفاضلا ولا يشترط التسليم، ومنع ذلك بعض الفقهاء على أنه من ربا البيوع التى لا يجوز فيها التفاضل عند اتحاد الجنس، ويجب القبض مع جواز التفاضل عند اختلاف الجنس لأنها مضمونات، ولقد أخذوا هذا من آثار.
وأما تأجيل أحد العوضين إلى أجل غير مسمى، ولا معين، فقد أجازه أحمد بن حنبل وطائفة من علماء السنة إذا تراضى عليه الطرفان، إذ لا محذور فى ذلك، ولا عذر، وكل منهما قد دخل على بصيرة ورضا.
(3/933)
وقال أبو حنيفة إن ذلك يفضى إلى المنازعة، وإن كل ما يؤدى إلى المنازعة يكون باطلا.
وإن تخريج عمل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أنه بيع فيه نظر، فلم تكن مقايضة بين القائمين وبين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إنما كان هناك عتق فى نظير مال، فالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم طلب إليهم أن يطلقوا ما فى أيديهم من السبايا، وأن يعوضهم عن هذا العتق بمال تكون قيمته هى قيمة من أعتقوهم فى نظر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وقد ارتضوا ما قدر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فهو عتق بشرط وليس ببيع.
وإن العتق هو تبرع مالك الرقبة للرقبة نفسها، لأن إعطاء الحرية فهو هبة بشرط العوض والهبة (والعتق بالذات) يتسامح فيه بما لا يتسامح فى غيره، وما كان العوض المؤجل ثمنا، حتى تكون جهالته مفضية إلى المنازعة، إنما هو عوض فى عتق فلا يؤدى إلى التنازع، ولذلك نقول إنه ما كان ثمة حاجة إلى مناقشة كونه ربويا، أو غير ربوى، وكون التأجيل إلى أجل مجهول جائز أو غير جائز، فإن تصرف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعيد عن ذلك كل البعد.
غزوة الطائف
631- تتبع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هوازن حيثما سارت سار وراءها، سار وراءها إلى أوطاس، إذ دخلتها هوازن وتحصنت بها ثم ساروا إلى الطائف، وهى ذات حصون قوية، وهم أشداء، ورماة، فسار النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فلما علموا بمسيره تحصنوا بحصونهم، وجمعوا طعاما وزادا يكفيهم سنة، بحيث يصبرون إذا طال الحصار عليهم، فيجهد أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ولا يجهدون، وهم فى حصونهم يرمون ولا ينالون، فيقتلون ولا يقتلون.
والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم عندما اتجه إلى حصونهم أشار عليه سلمان الفارسى بالمنجنيق يرمى بها حصونهم، فيأتيها من قواعدها، فتنهار قوة تحصينهم.
وصنع لهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم دبابات من خشب تقتحم عليهم حصونهم.
مضى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم إلى حصون الطائف، فرموا جيش النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وصار النبل ينزل على المؤمنين كأنه جراد، فقتل من المسلمين عدد قيل إنه بلغ اثنى عشر شهيدا أو يزيد، فاوى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى مكان بعيد عن مرمى النبل، ولكنه يريد أن يعرف حالهم فى الداخل.
(3/934)
فنادى منادى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، من خرج منهم، ودخل جيش المسلمين من العبيد، فهم أحرار.
فخرج نفر من العبيد، ونالوا حريتهم بحكم الشرع، وبحكم ذلك النداء المحمدى الحر الكريم، ولقد تعرف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أحوالهم وعلم أن عندهم الزاد الذى يكفيهم سنة.
وأخذ عليه الصلاة والسلام يعمل على أن يخرجوا من الحصون مختارين فأمر بالنخيل أن يقطع، وبالكرم أن تجتث- فرأوا أن ذلك ضياع لثروتهم، وقالوا ما يكون لنا إن قطعت كرومنا ونخلنا، وقال مناد من بنى ثقيف قد بعثوه يقول، لا تفسدوا الأموال، فإنها لنا أو لكم.
هز ذلك نفوسهم، وأضعف عزيمتهم، وخصوصا أن عبيدهم أخذوا يتركونهم، وكان العبد الذى ينال الحرية يدفعه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى بعض المسلمين يعولونه، حتى ينال خيرا فى حريته، واستمروا يقاومون مع ضعضعة نفوسهم والمسلمين ينالون من حصونهم، حتى إنهم ليحمون الحديد، يرمونه على الدبابات الخشبية، ليحرقوها، ويخرجوا الرجال من تحتها.
وقد كان بين الطائف وقريش رحم ومصاهرة.
ولذلك تقدم ناس من قريش لثقيف يمنعونهم من المطاولة، فالنتيجة ليست لهم، وإن العاقبة للمتقين.
تقدم أبو سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة يطالبون ثقيفا بأن تؤمنهم ليتمكنوا من كلامهم، وقد لانت شكيمة ثقيف، وقبلت التفاهم، فأمنوهما، تقدم أبو سفيان والمغيرة ودعوا نساء من نساء قريش وكنانة ليخرجن إليهما، ولكنهما لم يجبن خشية السبى كما كان لنساء هوازن، منهن آمنة بنت أبى سفيان.
فلما أبين عليهما قال لهما الأسود بن مسعود يا أبا سفيان ويا مغيرة ألا أدلكما على خير مما جئتما له، وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نازلا بواد يقال له العقيق، قال ابن مسعود هذا: إنه ليس بالطائف مال أبعد رشاء، ولا أشد مؤنة، ولا أبعد عمارة من مال بنى الأسود، وإن محمدا إن قطعه لم يعمر أبدا، فكلماه، فليأخذه لنفسه، أو ليدعنه لله وللرحم فإن بيننا وبينه من القرابة، ما لا يجهل.
لأن القوم، وثقيف لا يلينون إلا إذا أرادوا أن يباعدوا بينهم العنف، ويريدوا السلم، ولقد وجدوا أن الحصار عضهم، وإن كانت لديهم المؤن والذخائر، فهو حبس كيفما كانت صورته، وأن جيش النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أخذ أموالهم من النخيل والكروم، ويأتى حصونهم من قواعدها وهم لا قبل
(3/935)
لهم، فنادوا محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم بالرحم والقرابة، وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصم آذانه عن نداء الرحم والقرابة، وهو الذى يأمر أن يوصل ما أمر الله تعالى بوصله.
وقد رأى الإسلام يدخل الطائف من مكة المكرمة وما حولها، وأن بعض بنى ثقيف دخلوا فى الإسلام وأكثرهم مال إليه، وما كان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم إلا هاديا داعيا إلى الحق وإلى صراط مستقيم، وإن اللين مع من عندهم عنف كثقيف قد يكون سببا فى أن تصغى قلوبهم إلى الإسلام، بينما العنف يعمى قلوبهم ويغلظ أكبادهم ويزيدهم عنادا.
فرأى عليه الصلاة والسلام استجابة لداعى الرحم الذى أثاروه، والقرابة التى تنادوا بها، والإصلاح فى الأرض أن يرحل، وقد غاب عن المدينة المنورة أكثر من شهرين.
وإن ذلك كان فى شوال، وإذا استمر فإنه سيجيء ذو القعدة وهو من الأشهر الحرم، وما كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ليقاتل مهاجما فى الأشهر الحرم، التى هى ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب الذى بين جمادى وشعبان.
وموقف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان موقف هجوم، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم لا يخالف أمر الله تعالى باحترام الأشهر الحرم.
لذلك أخذ فى الرحيل عائدا إلى المدينة المنورة بعد أن حاصر الطائف سبع عشرة ليلة، وفى رواية سبعا وعشرين ليلة، وقال ابن إسحاق: مكث بضعا وعشرين ليلة.
اتخذ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الأهبة فى الرحيل، وذكر أن الله تعالى لم يأذن له فى الطائف، وذكر ذلك لخويلة بنت حكيم بن أمية.
فخرجت خويلة وذكرت ذلك لعمر بن الخطاب، فقال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما حديث حدثتنيه خويلة، زعمت أنك قلته. أفلا أؤذن بالرحيل، قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: بلى، فأذن عمر رضى الله تعالى عنه بالرحيل.
رحل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى يثرب عائدا من تلك الرحلة المباركة غير مهزوم ولا مغلوب ولا عاجز، ولكنه قادر ومنفذ لحدود الله، غير مقاتل ولا مهاجم فى الشهر الحرام، مراعيا الرحم والقرابة، وآخذا القوم إلى الإسلام فى رفق وغير غلظة، وخرج من بين ظهرانيهم، ليلقى وفد هوازن وثقيف فى المدينة المنورة بين ظهرانى المسلمين.
(3/936)
ولما ارتحلوا وأخذوا يستقيمون على الطريق بعد هذا الفتح المبين، والنصر المؤزر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آيبون عابدون، لربنا حامدون» .
وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادع على ثقيف، فقال نبى الرحمة: «اللهم اهد ثقيفا وأت بهم» .
ويروى أنه صلى الله تعالى عليه وسلم اتبعه فى أثره عروة بن مسعود حتى أدركه قبل أن يدخل المدينة المنورة مسلما، وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام فقال له النبى صلى الله عليه وسلم: كما يتحدث قومك أنهم قاتلوك. وعرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن فيهم نخوة الامتناع الذى كان فيهم، فقال عروة: يا رسول الله، أنا أحب إليهم من أبكارهم، وكان حقيقة مجابا مطاعا فيهم، فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء ألا يخالفوه لمنزلته فيهم، فلما أشرف عليهم من مكان مرتفع يدعوهم إلى الإسلام رموه بسهم فقتل، فقال رضى الله عنه: كرامة أكرمنى الله تعالى بها، وشهادة ساقها الله تعالى إليّ، فليس فى إلا ما فى الشهداء الذين قتلوا مع النبى صلى الله عليه وسلم قبل أن يرتحل عنكم، فادفنونى معهم فدفنوه.
ويظهر أن قتلهم عروة، وهو المحبب فيهم، قد أثر فى نفوسهم، وقد رأوا أن العرب قد دخلوا فى طاعة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنهم وحدهم الباقون على عدائه، ولا قبل لهم به، ولا بحرب من حولهم من العرب الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلموا.
لذلك أجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فكلموا عبد بن ياليل، وكان فى سن عروة بن مسعود، وعرضوا عليه ذلك، فأبى أن يجيبهم، وقد رأى ما صنعوه مع عروة، وكانوا هم الذين أرسلوه، كما يحاولون إرساله، فخشى أن يفعل به ما وقع بصاحبه، فقال لهم عبد ياليل: ابعثوا معى وفدا فبعثوا معه ستة، ووصلوا المدينة المنورة، فلقيهم المغيرة بن شعبة، ولنترك الكلام فيما صنعه الوفد، وما قاله الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الكلام فى الوفود من بعد ذلك فى وقتها من الزمان.
وإن كلامنا الآن فى وفد ثقيف كلام مبتسر، ذكرناه لنبين أن ترك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم غير عاجز، كان لحكمة عالية ألانت قلوبا بعد شماسها، حتى إنه يروى أبو داود: أن العيلة الأحمسى واسمه صخر، أخذ على نفسه عهدا وذمة أن يحمل ثقيفا على مبايعة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على الإسلام، وقد استطاع أن يلين قلوبهم وأن ينزلهم على حكم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
وقد كتب صخر هذا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول له: «أما بعد فإن ثقيفا قد نزلت على ذلك يا رسول الله، وأنا مقبل بهم، وهم فى خيلى» .
(3/937)
عندما جاء ذلك الكتاب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سر سرورا لا حد له، لأنهم جاؤه مسلمين، ولم تكن حرب تخرب الديار، وأمر بأن ينادى: الصلاة جامعة، فقرأ على المسلمين كتاب صخر، ثم دعا لقبيلة أحمس التى منها صخر هذا، وقال عشر مرات: «اللهم بارك لأحمس فى خيلها ورجالها» .
ولقد جاء صخر هذا ببعض ثقيف، ولكن لم يكن هو الوفد الذى جاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد ذكرنا أننا سنتكلم فى وفد ثقيف من بعد عند الكلام فى الوفود فى سنة الوفود.
عود إلي غنائم هوازن
632- تكلمنا فى توزيع غنائم هوازن، ولعلها كانت أكبر غنائم غنمها من العرب، أو لعلها تماثل غنائم خيبر أو تقاربها، وفعلنا ذلك عقب هزيمة هوازن، ولكن لم نسر سيرا زمانيا، لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يوزعها إلا بعد الانتهاء من حرب الطائف، فلم ننتظر حتى يجيء الزمان الذى وزعها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فيه، بل ذكرنا توزيعها فور الانتهاء منها.
والآن نبين زمان التوزيع، وإن كان متأخرا عن الغزوة لرأى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
وقد ذكرنا ما أعطاه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم المؤلفة قلوبهم، ولم يكن فى المؤلفة قلوبهم أحد من بنى عبد المطلب قط، فلم يكن فيهم العباس، ولا أولاد الحارث بن عبد المطلب ولا غيرهم ممن ثبتوا مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هم وأبو بكر وعمر ولم يثبت أحد غيرهم، ولم يجد أحد من المهاجرين فى نفسه شيئا، لأنهم يريدون عز الإسلام، ولا يريدون مالا ولا نسبا بل يريدون عزة الإسلام، فلم يجد فى نفسه أبو عبيدة، ولا عبد الرحمن بن عوف، ولا غير هؤلاء.
ولكن وجد الأنصار فى أنفسهم موجدة لا من أجل المال، ولكنهم حسبوا أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، نسيهم بقومه إذ التقى بهم، فقد كان الأنصار الذين آووا ونصروا لا يريدون المال، ولكن يريدون الرسول عليه الصلاة والسلام ذاته، يريدونه هم والمهاجرون، يريدون بقاء محبته لهم.
هؤلاء الأنصار كانوا أطهارا حتى فى موجدتهم، ولكن وجد ناس ليسوا مهاجرين ولا أنصارا، وليست الدعوة الإسلامية فى حسابهم، ولا تأليف القلوب التى لا يدخلها الإيمان فى نفوسهم قد تكلموا فى هذا ناكرين مما يدل على أنهم لم يكونوا أنصارا بل كانوا منافقين، وعدهم القرآن الكريم منهم.
لقد أعطى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم المؤلفة، فقام ذو الخويصرة من بنى تميم، فقال للنبى صلى الله عليه وسلم: يا محمد لقد رأيت ما صنعت فى هذا اليوم، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه
(3/938)
وسلم: فما رأيت؟ قال: لم أرك عدلت- فغضب النبى صلى الله عليه وسلم ولكنها غضبة الرفيق الحكيم، فقال: ويحك إذا لم يكن العدل عندى، فعند من يكون؟.
فقال عمر بن الخطاب: ألا نقتله؟ فقال الهادى الأمين صلى الله تعالى عليه وسلم: دعوه فإنه سيكون له شيعة، يتعسفون فى الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية.
وإن قائل هذا القول لا يمكن أن يكون مؤمنا، كما يبدو من لحن قوله فهو يقول فى ندائه للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله: يا محمد، ولم يقل يا رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكذلك قال قوله واحد مثله، فقد رأى بلالا فى ثوبه مال يوزعه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فقال اعدل يا محمد فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «ويلك من يعدل إذا لم أكن أعدل، لقد خبت وخسرت إذا لم أكن أعدل» .
فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، أفأقتل هذا الرجل؟
فقال الرسول الحكيم صلى الله تعالى عليه وسلم «معاذ الله أن يتحدث الناس أنى أقتل أصحابى، إن هذا وأصحابه يقرأون القرآن الكريم لا يتجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين، كما يمرق السهم من الرمية» .
ولقد بلغه أن بعض الناس عندما أعطى رسول الله المؤلفة قلوبهم قال: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله تعالى، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، قال: «رحم الله تعالى موسى، لقد أوذى بأكثر من ذلك» وهذه إشارة إلى قول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا، وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً.
وأن هؤلاء أساس كلامهم، وإن كنت أحسب أنهم جميعا لم يدخل الإيمان قلوبهم، وهم من الأعراب الذين قال الله فيهم: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً، وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ (التوبة: 97) .
لقد فهموا خطأ طواعية لأهوائهم ومطامعهم، أن كل من حضر القتال له حق فيها يساوى غيره ممن حضروا، وظنوا أن هذه المساواة عادلة، وأخطأوا إذ أن المساواة قد تكون ظلما، فالمساواة بين العامل المجاهد، ومن وقف ينتظر النتيجة تكون لأى الفريقين تكون ظلما.
وفهموا خطأ أن الذين يحضرون الحرب فى الغنيمة لهم حقوق، وأن من يحول بينهم وبين ما زعموه حقا لهم يكون قد ظلمهم، وتلك أوهام قد أوجدتها المطالع، وهى باطلة، إن النبى صلى الله تعالى
(3/939)
عليه وسلم قد وضع الله تحت تصرفه خمس الغنيمة، والغنائم كلها تحت تصرف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، يقيم القسطاس والعدل والرحمة فيها، ألم تره عندما رأى الرحمة ونظام الإسلام أن ترد السبايا إلى أهلهن، وأن يطلق سراحهن نفذ ذلك، وقد صارت السبايا إلى من هى فى أيديهن، فنزعها منهم بحكمته، قدمها المؤمنون طوعا واختيارا واتباعا للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ونفذها على بنى عبد المطلب، ولم يحاول أن يأخذ بغير رضا منهم ومن امتنع من المسلمين الذين لم يدخل الإيمان قلوبهم حملهم على رد السبايا وعوضهم.
فالغنائم كلها فى يده يتصرف فيها بما توجب النبوة والدعوة الإسلامية، والرحمة والعدل الإسلامى، لا طلب الأهواء الذى هو الظلم ذاته.
لقد وجد أن الدعوة الإسلامية توجب تأليف قلوب، لهم فى قومهم منزلة وليس لهم فى الإسلام جهاد ولم يدخل الإيمان قلوبهم، وقد أكلتهم الضغينة وقتل الجهاد والمجاهدون من قتل منهم، ويريد تأليفهم إلى الإسلام، ونسيان الإحن، فأعطى أبا سفيان وأولاده، وأعطى الأقرع بن حابس وغيره. لقد قال بعض أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أعطيت الأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، وتركت جعيل بن سراقة الضمرى، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مبينا سبب العطاء، وهو لم يمنع أحدا حقا له:
«أما والذى نفس محمد بيده لجعيل خير من مثل عيينة والأقرع، ولكن تألفتهما ليسلما، ووكلت جعيل بن سراقة لإسلامه» .
هذا هو أساس العطاء، وهؤلاء نظروا إلى الأموال، ولم ينظروا إلى واجب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى نشر الدعوة، وما يراه طريقا لتأليف القلوب.
وإن قوله تعالي: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ، فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا، وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (التوبة- 58) فهذه الآية نزلت فى المنافقين، والذين اعترضوا كانوا من الأعراب الذين هم أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً، وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ
(التوبة- 97) .
وما كان الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ليخضع فى أمر الدعوة ومقتضياتها لناس حديثى عهد بجاهلية، وحسبه أن يكون معه المهاجرون والأنصار، والذين أخلصوا دينهم لله سبحانه وتعالى.
(3/940)
عمرة الجعرانة
633- لم يدخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مكة المكرمة عند الفتح محرما لعمرة، بل دخلها فاتحا غير محارب، ويريد الاتصال، ويعيد المودة ويعلن الأخوة بعد طول الافتراق، وإن المودة تجذب القلوب النافرة، وتؤوى العقول الشاردة.
ولقد كان طواف فى غير إحرام، ولم تكن مناسك عمرة وتعظيم للبيت.
ولما انتهى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من الفتح شغل بجذامة وإرضاء قلوبها، ومداواة الجراح التى جرحها خالد بن الوليد.
ولما أخذت هوازن تهم بالهجوم على جيش محمد صلى الله تعالى عليه وسلم كان لا بد من لقائها، فكان اللقاء المرير، ذو النتائج الباهرة، وأتبعها بالطائف، فلما أذن الشهر الحرام بالمجيء عاد إلى الجعرانة وهى ميقات من مواقيت الإحرام، فأحرم منها بالعمرة، ودخل بيت الله معتمرا.
وكانت تلك العمرة فى ذى القعدة، وذهب إلى المدينة المنورة لست ليال بقين من ذى القعدة.
ولم يحج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هذا العام الثامن بنفسه ولا بأحد ناب عنه، وترك الحج لما كان عليه العرب من قبل.
ولكن كان مع المسلمين الذين أرادوا الحج عتاب بن أسيد، فحج بهم.
ولكن عندما عاد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى المدينة المنورة، ترك أميرا عليها عتاب بن أسيد، وكان سن عتاب كما جاء فى شرح المواهب اللدنية عشرين سنة، فخلفه صلى الله تعالى عليه وسلم فى هذه السن، وكان مباركا فى عمله مخلصا فى نيته، قنوعا فى ذات اليد، لا يطمع، بل يشبع بالقليل.
أجرى عليه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم رزقا درهما كل يوم فكان به راضيا، غير متطلع لأكثر منه، وكان يقول داعيا إلى القناعة:
«أيها الناس أجاع الله تعالى كبد من جاع على درهم، فقد رزقنى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم درهما كل يوم، فليس بى حاجة إلى أحد» .
وقد خلف صلى الله تعالى عليه وسلم بعد العمرة معاذ بن جبل الحافظ للقرآن الكريم الراوى للسنة بجوار عتاب بن أسيد، وخلفه ليعلم الإسلام، ويفقههم فى الدين، ويحفظهم القرآن الكريم، فقد
(3/941)
كانوا فى حاجة إلى ذلك، لحداثة عهدهم بالجاهلية، ولم يعيشوا فى ظل القرآن الكريم كأهل المدينة المنورة، بل كانوا يناوئون أهل القرآن الكريم، وإن علم بلغاؤهم مكانته، وأنه يعلو ولا يعلى عليه.
وقد عاد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الجعرانة بعد عمرته، ولم يمكث بها إلا قليلا، وفيها وزع بقية الفيء والغنائم، ومنها سافر إلى المدينة المنورة حتى بلغها لليال ست بقيت من ذى القعدة.
وقد ترك الطائف على شركه، وإن أخذت تميل نحو الاسلام على عنجهية الجاهلية.
وكان مالك بن عوف يغير عليها آنا بعد آن، فإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أدناه منه وأسلم وحسن إسلامه، فكان من بعد ذلك يرهقها بالغارات ويجيء إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بما يدل على أنها تلين إلى الإسلام شيئا فشيئا، حتى لانوا كما سنبين فى وفدهم.
قدوم كعب بن زهير
634- قدم كعب بن زهير على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد عودته من عمرته، وما كان لنا أن نهتم بما نكتب بشاعر أو كاهن، وما كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يحتاج إلى داعية يدعو بمفاخره، فرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مقامه عند الله العظيم، وما كان يحتاج إلى شاعر يشيد بمنصبه فرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد دان بالطاعة له كبراء العرب، وغيرهم هو فى مكانته رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذى كان يلقى عليه أبو جهل فرث الجزور، فمكانته عند الله وفى نفسه، وعند كل ذى لب واحدة.
ولكنا ذكرناه لأن قدومه يدل على بلوغ الدعوة الإسلامية كل نواحى البلاد العربية قاصيها ودانيها، وإن فتح مكة المكرمة جعل القلوب تتجه إليه، والمنكرين يصدقون، والنافرين يدنون، ويأوون.
لقد كان كعب هذا يشارك المنكرين وينشد شعره فى ذم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فلما ظهر النور الذى لا ينطفيء مال إلى أن يتقدم إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مهديا، بعد أن جافاه، وهو ابن زهير بن أبى سلمى حكيم الشعراء فى الجاهلية، فهو من بيت جاهلى فيه شعر الحكمة.
وعندما هم بأن يذهب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حذره أخوه بجير بن زهير بن أبى سلمى، وكتب إليه يخبره أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قتل رجالا بمكة المكرمة ممن كان يهجوه ويؤذيه، وأن من بين شعراء قريش ابن الزبعرى وهبيرة بن أبى وهب، قد هربوا منه فى كل وجه،
(3/942)
فإن كانت فى نفسك حاجة، فسر إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تائبا، فإنه لا يقتل أحدا جاء إليه تائبا، وإن أنت لم تفعل، فانج إلى نجاتك من الأرض.
وكان قد قال قصيدة فيها ذم للإسلام، وقد أسلم أخوه، وأرسل إليه الكتاب المذكور آنفا.
ولما بلغ زهيرا هذا الكتاب ضاقت به الأرض، وأشفق على نفسه من قصيدته، ويقول ابن إسحاق أرجف به من كان فى حاضره من عدوه وقالوا هو مقتول، أى أنهم أرادوا أن يحذروه إيفاده على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولذا قال قصيدته التى يمدح فيها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وذكر فيها خوفه، وإرجاف الوشاة من عدوه.
ولقد خرج وقدم المدينة المنورة فنزل على رجل كان يعرفه فغدا به إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم أشار به إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: هذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقم إليه فاستأمنه.
فقام إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى جلس إليه، ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا يعرفه، فقال: يا رسول الله إن كعب بن زهير جاء يستأمن منك تائبا مسلما، فهل أنت قابل منه، إن أنا جئتك به، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: نعم- فقال يا رسول الله أنا كعب بن زهير، وكان فى المجلس بعض الأنصار، فوثب عليه رجل منهم، فقال: يا رسول الله دعنى وعدو الله أضرب عنقه.
فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «دعه عنك، فإنه قد جاء تائبا، نازعا مما كان عليه» وغضب كعب على الحى من الأنصار كما يقال، وما يضر غضبه على هؤلاء الذين آووا ونصروا ولم يقل فيه أحد من المهاجرين إلا خيرا.
ولقد مدح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بقصيدة هزت أعطاف رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكان كريما يقبل طيب القول.
ولقد روى أنه قال إن من الشعر لحكمة، ولننشد أبياتا منها، لكرم موضوعها.
يقول فى مطلعها:
بانت سعاد فقلبى اليوم متبول ... متيم إثرها لم يفد مكبول
وبعد أن يذكر سعاد وهى كما قيل زوجته، وغربته عنها، يقول متجها إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
(3/943)
وقال كل صديق كنت آمله ... لا ألهينك إني عنك مشغول
فقلت خلوا سبيلى لا أبا لكم ... فكل ما قدر الرحمن مفعول
كل ابن أنثي وإن طالت سلامته ... يوما على آلة حدباء محمول
نبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول
مهلا هداك الذى أعطاك نافلة ... القرآن فيها مواعيظ وتفصيل
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم ... أذنب ولو كثرت في الأقاويل
ثم يقول فى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم:
إن الرسول لنور يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول
فى عصبة من قريش قال قائلهم ... ببطن مكة لما أسلموا زولوا
ويقول فى وصف أصحاب الرسول:
ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم ... قوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا
لا يقع الطعن إلا فى نحورهم ... وما لهم عن حياض الموت تهليل
وفى هذه القصيدة لم يذكر الأنصار، لأن رجلا منهم أراد قتله، فيروى أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن أنشد قصيدته قال: لولا ذكر الأنصار فإنهم لذلك أهل، فقال مادحا الأنصار:
من سره كرم الحياة فلا يزل ... فى مقنب من صالح الأنصار
ورثوا المكارم كابرا عن كابر ... إن الخيار هم بنو الأخيار
إلى آخر قصيدة ليست مهلهلة طويلة، بل هى موجزة قصيرة.
وإنا نذكر أننا ذكرنا كعب بن زهير لبيان أنه إذا كان الإسلام قد فقد عبد الله بن رواحة شاعر الدعوة الإسلامية والذود عنه وعن الرسول الكريم صلى الله تعالى عليه وسلم، فقد جاء الشاعر كعب بن زهير، والشعراء كانوا ألسنة الدعوة إلى المكارم ونشر الفضل والفضلاء فى الجزيرة العربية.
(3/944)
السرايا بعد هوازن
635- أخذ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعد ما كان فى هوازن والطائف يرسل السرايا فى القبائل العربية داعية إلى الإسلام، متعرفة لأحوالها، وكان يشغل بذلك الذين أسلموا حديثا ليألفوا الإسلام، ويتحملوا واجباته، وليحملوا عبء الدعوة إلى الإسلام من بعد، وليكون منهم المجاهدون فى سبيله، وليتعودوا القيام بواجباته، وليرضى نهمتهم من حب السلطان. ولكى ينالوا من الغنائم بالحق ممن تأبوا على الإسلام من القبائل.
فأرسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عيينة بن حصين فى المحرم من السنة التاسعة إلى بنى تميم، فى خمسين رجلا، ليس فيهم من المهاجرين ولا الأنصار أحد.
فسار إليهم يكمن نهارا، ويسير ليلا ليفجأهم من حيث لا يشعرون، فهجم عليهم، وهم يسرحون مواشيهم، فلما رأوا الجمع ولوا الأدبار، فاستطاع أن يسبى منهم نساء عددهن إحدى وعشرون، وأخذ ثلاثين صبيا وأحد عشر رجلا.
ساق هؤلاء إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فأنزل فى أحد بيوت المدينة المنورة.
وجاء من بعد ذلك كبراء من تميم منهم عطارد بن حاجب، والزبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم، والأقرع بن حابس بن الحارث، وعمرو بن الأهتم، ورباح.
فلما رأوا نساءهم وذراريهم بكوا إليهم.
فعجلوا فجاؤا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فنادوا: يا محمد اخرج إلينا فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأذن بلال للصلاة وهؤلاء تعلقوا برسول لله صلى الله تعالى عليه وسلم يكلمونه، فوقف معهم، ثم مضى فصلى الظهر، ثم جلس، ثم قدم فتكلم، فأمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثابت بن قيس بن شماس فرد عليهم أسراهم وسباياهم وأبناءهم لأنهم ما كانوا محاربين، ويظهر أنهم كانوا غير مطيعين.
وقد قال ابن إسحاق فى ذلك: دخلوا المسجد، ونادوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم:
يا محمد اخرج الينا، فتأذى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؛ قالوا جئنا لنفاخرك فأذن لشاعرنا وخطيبنا، ويظهر أن ذلك بعد أن استردوا الأسرى والسبايا. ولقد قال الله تعالى فى عدم استئذانهم: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ. وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ.
(3/945)
ولقد ذكر ابن إسحاق المباراة البيانية، أو المفاخرة الشعرية والخطابية فروى قول شاعرهم ورد حسان وذكر قول خطيبهم.
لقد قال خطيبهم حاجب بن عطارد: «الحمد لله الذى له الفضل علينا، جعلنا ملوكا ووهب لنا أموالا عظاما نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعز أهل الشرق، وأكثره عددا، وأيسره عدة، فمن مثلنا فى الناس، ألسنا رؤوس الناس، وأولى فضلهم، فمن فاخر، فليعد مثل عددنا، فلو شئنا لأكثرنا من الكلام، ولكن نستحى من الإكثار لما أعطانا، أقول هذا لأن يأتوا بمثل قولنا أو أمر أفضل من أمرنا.
فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لثابت بن قيس بن الشماس قم فأجبه، فقام فقال:
الحمد لله الذى خلق السموات والأرض، وقضى فيهن أمره، ووسع كرسيه علمه، ثم إن من فضل الله أن جعلنا ملوكا، واصطفى من خير خلقه رسولا أكرمه نسبا وأصدقه حديثا، وأفضله حسبا، فأنزل عليه كتابا، وائتمنه على خلقه، وكان خيرة الله تعالى من العالمين، ثم دعا الناس إلى الإيمان بالله، فامن به المهاجرون من قومه وذوى رحمه، أكرم الناس أحسابا وأحسنهم وجوها، وخير الناس فعلا، ثم كان أول الناس استجابة لله حين دعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فنحن أنصار الله، نقاتل الناس حتى يؤمنوا، فمن آمن بالله ورسوله منع منه ماله ودمه، ومن سكت جاهدناه فى سبيل الله تعالى أبدا، وكان قتله علينا يسيرا، أقول هذا وأستغفر الله العظيم للمؤمنين والمؤمنات، والسلام عليكم.
فتح النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هذه المباراة البيانية إرضاء لرغبة القول عندهم وليعلمهم أن المفاخرة ليست بالأنساب، ولكن المفاخرة بالإيمان والأعمال الصالحة، والتقوى، وليضرب المثل لهم بقومه، وليقدم لهم الحق سائغا، ولقد قال الزبرقان بن بدر من بعد: إن هذا الرجل خطيبه خير من خطيبنا، وشاعرهم أحسن من شاعرنا، وأقوالهم أعلى من أقوالنا، وقد أعطاهم جوائز، يشبه ما يعطى المؤلفة قلوبهم.
سرية الضحاك بن سفيان:
636- كانت هذه السرية كأخواتها لتعرف أحوال العرب فى صحرائهم ونشر الإسلام بينهم، وجعل الحبل ممدودا بينه وبينهم من غير أن يقطع، وأرسل فى هذه السرية الضحاك بن ثابت إلى بنى كلاب، وهو منهم، فى ربيع الأول من السنة التاسعة.
اتجه إليهم ابن سفيان فدعاهم إلى الإسلام فلم يستجيبوا فقاتلهم فهزمهم.
(3/946)
سرية قطبة بن عامر:
وكانت قبل هذه السرية فى صفر من هذه السنة سرية قطبة بن عامر إلى خثعم فى عشرين رجلا خرجوا على عشرة إبل يتعقبونها، فلما التقوا ببعض بنى خثعم اقتتلوا قتالا شديدا، وكثر الجرحى من الفريقين جميعا وكان فى القتلى قطبة بن عامر، ولكن الجيش بقى بعده، وساق النعم والنساء وعادوا إلى المدينة المنورة بهذه الغنائم.
وقد تجمع كثيرون من بنى خثعم وساروا وراءهم، ولكن كان مطر شديد حال بينهم وبين تتبعهم.
سرية علقمة بن محرز:
637- وكانت فى ربيع الآخر من السنة التاسعة، وذلك أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بلغه أن ناسا من أهل الحبشة ظهروا أمام جدة، وبدا أنهم يريدون الغارة عليهم، فأرسل إليهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فذهبوا إليهم، وطاردوهم، وخاضوا البحر، وراءهم فلجأوا إلى الجزيرة، وقد تعجل قوم فى الأوبة فأذن لهم، وأمر عليهم بعض المتعجلين، وقد أراد أن يداعب من معه فأوقد لهم نارا، وأمرهم بالتواثب عليها، فأراد بعضهم أن ينزل فيها، فرده، وقال: إنما كنت أضحك منهم، ولا شك أن هذا تعابث ما كان يجوز، ولذلك لما عادوا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وأخبروه الخبر، فقال: «من أمركم بمعصية فلا تطيعوه» .
وكدنا لا نصدق ذلك الخبر لولا أنه روى فى الصحيحين عن على بن أبى طالب ما يؤيده، فعن على أنه قال: «بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سرية، واستعمل عليها رجلا من الأنصار وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا، فأغضبوه، فقال: اجمعوا لى حطبا، فجمعوا، فقال أوقدوا نارا ثم قال: «ألم يأمركم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن تسمعوا؟، قال: فادخلوها، فنظر بعضهم إلى بعض، وقالوا إنما فررنا الى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من النار، فسكن غضبه، وأطفئت النار، فلما رجعوا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وذكروا ذلك لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: لو دخلوها ما خرجوا منها أبدا! لا طاعة فى معصية الله، إنما الطاعة فى المعروف.
وفى هذه الرواية أن رئيس السرية ركبه الغضب، فعصى الله وعصى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فأمر بما أمر، وإذا أطاعوه فقد أطاعوه فى معصية فعصوا الله، وفيه أن الأمر بالطاعة إنما هو فى
(3/947)
المعروف المعقول لا المنكر عقلا وشرعا، فليعتبر أولئك الذين يقتلون ويرتكبون أشد المنكرات باسم الطاعة، فبذلك تضيع الأمم والجماعات، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
سرية على بن أبى طالب لهدم صنم طيئ:
638- بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عليا فى خمسين ومائة رجل من الأنصار على مائة بعير، وخمسين فرسا ومعه راية سوداء، ولواء أبيض إلى الفلس، وهو صنم طييء ليهدمه، فشنوا الغارة على محلة حاتم، وكان بعث على فى ربيع الثانى سنة تسع من الهجرة.
ذهب على بجيشه الأنصارى فهدم الصنم، وكان القتال مع الفجر، وفروا أمام جيش المسلمين بقيادة المجاهد على، وتركوا نساءهم وأموالهم.
فسبوا النساء، وأخذوا النعم والشاء وفى السبى أخت عدى بن حاتم أى بنت حاتم الطائى، وفر عدى إلى الشام وكان نصرانيا، وقد وجدوا فى خزانة عدى ثلاثة أسياف، وثلاثة أدرع.
وقد أقام عليّ على السبى أبا قتادة، وعلى الماشية والفضة عبد الله بن عتيك وقسم الغنائم فى الطريق، وجعل السقى لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم يقسم السبايا حتى أتى بهم المدينة المنورة وليس فيهم عدى بن حاتم.
ولقد جاءت ابنة حاتم الطائى، فقالت: يا رسول الله لقد غاب الوافد، وانقطع الوالد، وأنا عجوز كبيرة ما بى من خدمة فمنّ على منّ الله عليك، إن رأيت أن تخلى عنى، ولا تشمت بنا أحياء العرب فإنى ابنة سيد قومى، وإن أبى كان يحمى الذمار، ويفك العانى، ويشبع الجائع، ويكسو العارى ويقرى الضيف، ويطعم الطعام، ويفشى السلام، ولم يرد طالب حاجة قط، أنا ابنة حاتم طييء.
رق النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لحالها، وذكر بالخير أباها إيناسا لها، وتخفيفا لفزعها، فقال لها: «يا جارية هذه صفات المؤمنين، ولو كان أبوك مسلما لترحمنا عليه، خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق» .
ويروى أنها قالت داعية للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: اللهم لا تجعل حاجتك إلا عند كريم.
ولما التقت مع أخيها عدى بن حاتم حثته على الإسلام. فقالت عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلها، ائته راغبا أو راهبا، لقد أتاه فلان فأصاب منه وأتاه فلان فأصاب منه، وبذلك كانت هى السبيل لإسلام أخيها، وتسليم نفسه للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم. فأتى النبى
(3/948)
صلى الله تعالى عليه وسلم وليس معه كتاب أمان ولا أمان، فقال القوم هذا عدى بن حاتم، وقال عدى فلما دفعت إليه أخذ بيدى وكان قبل ذلك قد قال إنى أرجو أن يجعل الله يده فى يدى.
وظهرت أمام عدى أخلاق النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ورفقه بالضعفاء، لقد رأى امرأة لقيته ومعها صبى فقالت له إن لنا إليك حاجة فقام معها، حتى قضى حاجتها.
ويقول عدى بن حاتم، ثم أخذ بيدى، حتى أتى داره، فألقت له الوليدة وسادة فجلس عليها، وجلست بين يديه، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: ما يضرك؟ أيضرك أن تقول: لا إله إلا الله، فهل تعلم من إله سوى الله قلت: لا، ثم تكلم ساعة، ثم قال، أيضرك أن يقال الله أكبر وهل تعلم شيئا أكبر من الله، قلت لا قال فإن اليهود مغضوب عليهم، وإن النصارى ضالون، فقلت: إنى حنيف مسلم، فرأيت وجهه ينبسط فرحا، ثم أمرنى فنزلت عند رجل من الأنصار وجعلت آتيه طرفى النهار، فبينما أنا عنده إذ جاء قوم فى ثياب من الصوف من هذه الثمار فصلى ثم قام فقال: يا أيها الناس ارضخوا من الفضل ولو بصاع أو بنصف صاع، ولو بقبضة، ولو ببعض قبضة، يقى أحدكم وجهه حر جهنم، فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة، فإن أحدكم لاقى الله وقائل له ما أقول لكم، ألم أجعل لك مالا وولدا، فيقول: بلى، فيقول أين ما قدمت لنفسك، فينظر قدامه وبعقبه، وعن يمينه وعن شماله يقى به وجهه نار جهنم، ليق أحدكم وجهه النار، ولو بشق تمرة، فإن لم يجد فبكلمة طيبة، فإنى لا أخاف عليكم الفاقة فإن الله ناصركم ومعطيكم حتى تسير الظعينة ما بين يثرب والحيرة، وأكثر ما يخاف على مطيتها السرقة.
قال عدى بن حاتم: فجعلت أقول لنفسى أين لصوص طيئ.
نقلنا هذا الحديث، لنرى أولا: الرفق والتقريب النفسى فى المعاملة والعطف وحث الناس على الأخلاق الطيبة، وذكر ماثر ذوى الأخلاق، حتى خرج الرجل من مجلس الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو أحب الناس إليه وكان من قبل يكرهه أشد ما تكون كراهة الرجل للرجل.
وإن هذا الخبر يرى القاريء مجلسا من مجالس النبوة، وإنه لمجلس يهدى إلى الرشد، أجف الناس حلقا، وأبعدهم عن الحق، إذا لم يكتب الله تعالى عليهم الضلالة، ويقربهم من الغواية. والله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم لهما المن والفضل.
(3/949)
غزوة تبوك
639- استوعبت الدعوة الإسلامية البلاد العربية، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، ومنهم من أسلم، ولما يدخل الإيمان فى قلبه، ومنهم من آمن وأخلص للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم وحمل عبء الدعوة وجاهد فى سبيلها، وليس من العرب من لم يعلم بالإسلام، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، والحق الذى يدعو إليه، من غير مواناة ولا تقصير. ولا هوادة.
ولا بد أن يتجاوز بعد ذلك دائرة البلاد العربية إلى ما يصاقبها، من البلاد المجاورة خصوصا البلاد التى فيها العنصر العربى، فإنها بتكوينها أقرب إلى الاستجابة إلى ما يعم بلاد العرب التى هى مثابتهم، وفيها الحرم الآمن الذى جعله الله آمنا، والناس يتخطفون من حوله.
وأخص بذلك بلاد الشام ففيها الغساسنة من العرب، وكان فيها اعتداء على من أسلم وكانت غزوة مؤتة، بسبب قتل رسول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم والى بصري.
وانتهت مؤتة، ولم تكن بنصر حاسم، وإن لم تكن بهزيمة، فإن جيش الإسلام لم يرجع مهزوما وإنما تراجع منتظما بمهارة خالد بن الوليد، وكانت هذه أول قيادة ناجحة له فى الإسلام.
ولم تكن النتيجة على المسلمين، فلم يقتل منهم أمام مائتى ألف إلا نحو اثنا عشر رجلا وقد قتل من الروم مقتلة عظيمة، حتى إنه فى هذه المعركة يطوى فى يد خالد تسعة سيوف، وقتل الأمراء لم يؤثر بالهزيمة فى الجيش الأقل فى عدد.
وإن شئت أن تقول إن غزوة تبوك امتداد لغزوة مؤتة فقل، فهى سير فى الخطة التى ابتدأت بها، ولم تنل مأربها من قتل قتلة الرسول الذى بعثه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
ومع أنها امتداد لغزوة مؤتة فى سببها وسيرها، والمقصد، فقد كان لها وحدها سبب قائم بذاته، ذلك أنه باللقاء بين المسلمين وغيرهم من الأنصار ومن معهم من العرب، أوجد الالتحام الحربى بين العرب الذين عاونوا الرومان والعرب المجاهدين مع اتحاد الجنس، من يميل إلى الإسلام لأنه الدين الجديد فى قومهم، وقد صار رمز القوة عندهم، وخير لهم أن يعتزوا بأنفسهم عن أن يعتزوا بالرومان، ففرق بين من يقول أنت أخى، ومن يقول أنت عبدى أو تابعى، ولذلك كان إقبال الخاضعين للغزو الرومانى شديدا لأنه الدين الجديد لإخوانهم، ولاضطراب الدولة الرومانية، واضطراب الأحوال فيها.
ولقد أسلم من العرب الذين استعان بهم الرومان عدد كبير.
(3/950)
لقد أسلم فروة بن عمرو الجذامى الذى كان قائدا لإحدى الفرق الرومانية عندما اقتتل الرومان مع المسلمين فى مؤتة.
فضاق الرومان ذرعا بإسلامه، واتهموه بالخيانة وقتلوه، وما كان للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يترك دم هذا الرجل المسلم هدرا، بل لا بد من القصاص، وإن قتله فتنة تمنع غيره من أن يدخل فى الإسلام، فحق أمر الله وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ (البقرة: 193) وجبت الطاعة لقوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً (التوبة: 9) . قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (التوبة: 29) .
وهناك أمر أخر ذكره كتاب السيرة أنه لما نزل قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا (التوبة: 28) ظن التجار الذين كانوا يقيمون المتاجر فى سوق عكاظ، وذوى المجاز ومجنة، وغيرها من الأسواق فى موسم الحج، ظنوا أن متاجرهم تكسد، فكان لهذا ولغيره غزوة الشام فى تبوك، وفى ذلك فتح لأبواب التجارة.
ذلك سبب ذكره كتاب السيرة، وما كنا لنذكره لولا أنهم ذكروه، فما كانت غزوات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لتسهيل تجارة مادية، إنما كانت لتسهيل الدعوة الإسلامية، وإن هذه التجارة لن تبور، بل فيها مكسب أغلى وأعلى، وهو رضا الله سبحانه وتعالى.
وإن الرومان بعد غزوة مؤتة قد رأوا أن الدين الجديد يغزو النفوس بأحكامه. ويغزو البلاد برجاله، وأنهم يجب أن يعدوا العدة للقضاء عليه قبل أن يقضى على دولتهم، فكانوا يستعدون لغزو الإسلام، وما كان للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يتركهم حتى يغزوه فى داره، فما غزى قوم فى عقر دارهم إلا ذلوا.
وقد رأى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الروم يجمعون الجموع وأن قيصر قد أعطى أرزاقهم لسنة، وإن فى غزو الرومان تقوية لبأس العرب الخاضعين للرومان فى الشام، إذ يجدونهم يتحفزون لرفع النير عنهم، وإخراجهم من سيطرة من يذلهم، إلى عز قومهم.
الحال عند الغزو:
640- فى رجب من السنة التاسعة، ويظهر أنه فى آخره أى فى آخر الشهر الحرام، أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الناس بالتهيؤ لحرب الروم الذى قد أعدوا له عدة لحربه، وكان ذلك فى
(3/951)
وقت حر شديد، والنبى صلى الله عليه وسلم ما كان يبين للناس اتجاهه إذا خرج لحرب إلا فى تبوك لبعد الشقة، ولعظم المهمة، وليستعد الناس لنوع من الجهاد شاق مرير، فى وقت شديد غليظ إذ كان الحر شديدا، وكانوا يجمعون ثمار حرثهم، وغلالهم، وفى بعض البلاد جدب. وقد طابت ثمار الأرض التى أنتجت، والإرادة المادية عندهم ربما تغالب النية المحتسبة عند بعضهم، ولقد أخذ صلى الله تعالى عليه وسلم يختبر النفوس، والغزوة كلها اختبار للمؤمنين، وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما اختار الزمان، إنما اختارته له العناية الإلهية، وإرادة الروم، وقد خاطب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعض الرجال ليعرف ما فى بعض النفوس، قال للجد بن قيس: يا جد، هل لك فى جلاد بنى الأصفر (يريد الروم) .
فأجاب إجابة المتردد، غير المعتزم: «أو تأذن لى ولا تفتنى، فو الله لقد عرف أنه ما من رجل أشد عجبا بالنساء منى، وإنى أخشى إن رأيت نساء بنى الأصفر لا أصبر» .
اعتذار بغلبة هوى النفس عنده على الجهاد، وأنه لا يستطيع جهاد نفسه عن الإثم فهو، يخشى الفتنة وأى فتنة أشد على الرجال من أن يكون عبد هواه، وقد أذن له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، لأنه لا جدوى فى رجل لا إرادة له، وإنما هى حرب ضروس تحتاج إلى صبر وجهاد نفسى، فالوصول إلى العدو ليس سهلا، والحر شديد، واللقاء مع عدو كبير.
وإن هذه الغزوة كان فيها الناس على أنواع شتى فى نفوسهم.
1- فمنهم من قعدت بهم همتهم، فخلفوا عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، واعتذروا بالمعاذير، وهؤلاء يقولون مع المنافقين: وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ، قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ. فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا، وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ
(التوبة: 81، 82)
وهؤلاء منهم ضعفاء الإيمان ومنهم ضعفاء العزيمة وليست لديهم قوة نفسية يتحملون بها الشدائد، ولذلك كان فيهم جزع، وخوف من الإقدام.
2- ومنهم المنافقون الذين يثبطون، ويريدون الفتنة ويبتغون تثبيط المؤمنين عن المجاهدين، ويقول سبحانه وتعالى فيهم: لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ، وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ، وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ، يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ.
إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ. وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً، وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ
(3/952)
انْبِعاثَهُمْ، فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ. لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا، وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ. لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ، وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ، حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (التوبة: 42: 48) .
الصنف الثالث أهل الإيمان. وكلهم مجاهد بنفسه وماله، لا يدخرون جهدا ولا مالا، وهم الذين قال الله تعالى فيهم وقرنهم فى الذكر برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (التوبة: 117) .
هؤلاء هم الذين حملوا الدور الأول حتى صارت الكلمة العليا لله ولرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فى بلاد العرب، فهم أيضا الذين حملوا عبء الجهاد، عندما أخذ الإسلام ينتشر فى غير البلاد العربية، وخرج الجهاد إلى بنى الأصفر (الرومان) الذين كان اسمهم يرهب العرب.
641- كان على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يحتاط من المنافقين وكان على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يحرض المؤمنين الذين كانوا معه ويجمع شملهم، وأن يكون بعضهم عونا لبعض فى هذه العسرة الشديدة.
أما بالنسبة للمنافقين فإنهم كانوا دائبى الحركة ليثبطوا المؤمنين، وهم يقولون لا تنفروا فى الحر، ليمنعوهم نفسيا من الجهاد، بل وصلت بهم الحال إلى أن يجتمعوا ببعض اليهود يأتمرون معهم.
حدث ابن هشام بسنده أن ناسا من المنافقين كانوا يجتمعون فى بيت سويلم اليهودى، وكان بيته فى موضع اسمه جاسوم، يثبطون الناس عن الجهاد، وعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى غزوة تبوك، فبعث إليهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم طلحة بن عبيد الله فى نفر من أصحابه وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم هذا، ففعل طلحة، فاقتحم الضحاك بن خلفة من ظهر البيت، فانكسرت ساقه وأفلت أصحاب البيت.
كانت عين رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المجاهد تترصد أولئك المثبطين الذين بلغت حالهم، حد التامر، فرد الله كيدهم فى نحورهم.
والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يأخذ حذره ممن يثبطون العزائم وهذه المعركة معركة عزائم، وقوة نفوس، وجلد وصبر وقوة احتمال.
(3/953)
كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى ذلك الوقت العصيب يثير عزائم أصحابه، ولا يكتفى بأن يحثهم على الخروج، بل يحثهم على أن يعين بعضهم بعضا، وأن ينفقوا فى الحرب ولا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة، وأنه يحتاج إلى الزاد والراحلة والشقة بعيدة، ولم يكن له اختيار فى الأمان كما ذكرنا بل إنه إذ علم أن الروم يتجمعون لاقتلاع هذا الدين من الأرض العربية، وليستذلوا العرب ويقضوا على منبع العزة فيهم، فما كان له أن ينتظر، بل لا بد أن يبادرهم، ولا ينتظرهم، لقد أراد أن يخرج لهم بأكبر غزوة يغزوها، أن يخرج بثلاثين ألفا، فلا بد أن يكون فى يده ما يغزوهم به، وما يحملهم عليه، ولا يكون معه إلا القوى الأمين.
ذكر ابن إسحاق بسنده أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جد فى سفره، وأمر الناس بالجهاد والانكماش (الإسراع) وحض أهل الغنى على النفقة، والحملان فى سبيل الله تعالى فحمل رجال من أهل الغنى، وكان لعثمان ذى النورين الحظ الأكبر من الإنفاق، حتى كاد يحمل الجيش كله.
روى الإمام أحمد أن عثمان ابتدأ بألف دينار فصبها فى حجر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال عبد الله بن أحمد فى مسند أبيه بسنده قام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فحث على الإنفاق على جيش العسرة، فقال عثمان بن عفان عليّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها، ثم نزل مرقاة من المنبر، ثم حث، فقال عثمان على مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها، فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «ما ضر عثمان عمل بعد هذا» ولقد قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «من جهز جيش العسرة غفر الله تعالى له» .
هؤلاء المؤمنون كان منهم من حمل نفسه وحمل معه زاده كعبد الرحمن بن عوف ومنهم من تبرع بزاد وحملان لغيره كأبى بكر وعمر، وغيرهما من ذوى اليسار من المهاجرين والأنصار.
ولكن كان من بين المؤمنين الصادقين البكاؤون، وأولئك أرادوا الجهاد وألا يتخلفوا عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى نفير كهذا النفير، الفاصل بين نشر الإيمان فى الأرض وبين أن يقضى عليه فى مهده أهل القوة فيها.
كان هؤلاء النفر السبعة الذين سموا البكائين، وقد ذهبوا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فاستحملوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بأن طلبوا منه ما يحملهم عليه، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم «لا أجد ما أحملكم عليه» .
(3/954)
ولقد قال الله تعالى فى ذلك الجمع الحاشد: وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ، وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ. رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ، وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ، فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ. لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ، وَلا عَلَى الْمَرْضى، وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ، إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ، تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ. إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ، وَهُمْ أَغْنِياءُ، رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» (التوبة: 86: 93) .
وقبل أن يسير الجيش الكبير كان بعض البكائين من الأنصار الذين لم يجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما يحملهم عليه- وقد وجد من يعينه، فابن يامين بن عمير بن كعب لقى اثنين منهما وهما يبكيان، فقال ما يبكيكما، قالا جئنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فلم نجد عنده ما يحملنا عليه وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج، فأعطاهما ناضحا له فارتحلاه.
وإن بعضهم، وهو عطية بن زيد قد أخذ يعتذر إلى الله تعالى عن عدم خروجه، ويقول: «اللهم إنك أمرت بالجهاد، ورغبت فيه، ثم لم تجعل عندى ما أتقوى به، ولم تجعل فى يد رسولك ما يحملنى عليه، وإنى أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابنى فيها فى مال أو حد جسد أو عرض، ثم أصبح مع الناس» .
المسير
642- أخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى السير بجيشه الذى بلغ نحو ثلاثين ألفا، وتبعه عبد الله بن أبى مع المنافقين وأهل الريب فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف، وما كان سيره ثم تخلفه إلا ليخذل المؤمنين ليثير الريب بعمله، كما أثاره بقوله.
وقد جعل على المدينة المنورة محمد بن سلمة الأنصارى.
(3/955)
وخلف على بن أبى طالب فى أهله، ويظهر أن هذه تشبه ما خلفه به على الودائع يوم الهجرة، لأن الشقة كانت بعيدة، فاختار رجلا من أهله ليقوم على أهله وأهله، وما كان لعلى أن يكون له بعد أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الخيرة من أمره، بل عليه الطاعة المجردة، ولكن المنافقين الذين من شأنهم أن يثيروا الريب، والإفساد ويسعوا بالنميمة بالأحبة- أشاعوا قالة غير صحيحة أصلا، قالوا: ما خلف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على بن أبى طالب إلا استثقالا له وتخففا منه.
فلما أكثروا من القول فى ذلك، أخذ على رضى الله تعالى عنه سلاحه، ثم خرج حتى لحق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو نازل بالجرف فأخبره بما قالوا، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «كذبوا، ولكنى خلفتك لما ورائى فارجع فى أهلى وأهلك، أفلا ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبى بعدى» روى هذا الحديث البخارى ومسلم وأبو داود الطيالسى.
وروى الإمام أحمد رضى الله تعالى عنه أن عليا المجاهد، استكثر على نفسه أن يكون ميدان الجهاد متسعا، وفى غزوة كثر فيها التخلف، أن يبقى ولا يحمل سيفه البتار، فقال للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم «يا رسول الله لا تخلفنى فى النساء والصبيان! فقال: يا على أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبى بعدى» .
وإن هذا كان المنتظر من على هذا، فإن المؤمنين المتقين كانوا يتسابقون فى الخروج لأنهم لا يرضون لأنفسهم أن يبقوا فى راحة بين أهليهم والرسول صلى الله تعالى عليه وسلم يسير فى الصحراء حيث الحر اللافح.
قعد أبو خيثمة وله امرأتان عربيتان قد رشتا حول عريشهما الماء لتكونا مع زوجهما فى جو رطيب، فلما رأى ذلك قال: «يكون رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى الضح والريح والحر. وأبو خيثمة فى ظل بارد، ومكان مهيأ وامرأة حسناء فى حاله مقيم، ما هذا بالنصف، والله لا أدخل عريش واحدة منكما، حتى ألحق برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فهيئالى زادا» ، وأخلف عنه بعض الصحابة فى أهله، وارتحل ناضحا له، وأسرع حتى وصل إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم معتمدا على الله تعالى، والناس معه، وبعضهم يقول تخلف فلان، فيقول عليه الصلاة والسلام: دعوه، فإن يكن فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحنا الله منه، حتى قيل تخلف أبو ذر، وتلوم به بعيره.
ولما أبطأ بعير أبى ذر، وهو يريد أن يلحق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، نزل وترك البعير، وتخفف ماشيا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، حتى قارب ركب النبى صلى الله تعالى عليه
(3/956)
وسلم، فنظر ناظر من المسلمين، فقال: يا رسول الله هذا رجل ماش على الطريق فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «كن أبا ذر» فلما تأمله الناس قالوا يا رسول الله هو والله أبو ذر فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «يرحم الله أبا ذر يمشى وحده ويموت وحده، ويبعث وحده» .
وقد مات أبو ذر، وقد نفاه عثمان إلى الربذة، فمات وحيدا حتى عثر به فى الصحراء عبد الله بن مسعود، فدفنه، وبكاه، وقال صدق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
ولقد كانت هذه الغزوة رحلة إسلامية إلى حيث آثار عاد وثمود، فمر بها، ولقد مر بالحجر، فسجى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثوبه على وجهه واستحث راحلته، ثم قال: لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا أنفسهم، إلا وأنتم باكون، خوفا من أن يصيبكم مثل ما أصابهم فهو يدعو إلى الاعتبار بالآثار، لا بمجرد التطواف بالرسوم من غير نظر إلى ما تدل.
وبينما المؤمنون سائرون أصابهم عطش شديد ولا ماء يروون به غلتهم، فشكوا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فدعا عليه الصلاة والسلام واستسقى، فأرسل الله سحابة مملوءة ماء، فأمطرت، وألقت حمولتها، وارتوى الناس، واحتملوا معهم ماء يرويهم عند حاجتهم إلى الماء.
ولقد ضلت ناقة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فأخبر عن مكانها وبعث بعض الناس فوجدوها، وقد مضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى لأواء الصحراء وشدتها، والمؤمنون الذين نصحوا لله ولرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، يركبون الصعاب وهم حوله يعاونونه، ويشدون من أزره، وكان بعض الذين تخلفوا منهم منافقون لا يكتفون بأن يكونوا مع الخوالف، بل يتهكمون ويسخرون من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ومن معه من المؤمنين، وهو فى منطلقه إلى تبوك يقولون: أتحسبون جلاد بنى الأصفر كقتال العرب، والله لكأننا بكم غدا مقرنين بالحبال يقولون ذلك إرجافا وترهيبا.
ولقد بلغ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما قالوا، فأتوا إليه يعتذرون بقول قائل إنما كنا نخوض ونلعب، فقال الله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ (التوبة: 65) .
كان ذلك أمر الذين نصحوا لله ولرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأخلصوا، وهذا الذى ذكرناه شأن الذين رضوا بالقعود، وأولئك يقطعون الفيافى والقفار ليصلوا إلى الغاية التى يتحقق فيها أمر الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد وصلوا سالمين وعادوا سالمين.
(3/957)
وصول رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم إلى تبوك وخطبته
643- وصل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بجيش الإيمان إلى تبوك من أرض الشام ولم يلق حربا، لأنه لم يجد جندا من جنود الرومان يحاربهم، وقد عقد عقود ذمة مع بعض النصارى، وأرسل سرايا لمن لم يكونوا فى طريقه، وسنشير إليها.
والآن نذكر أنه عندما وصل إلى تبوك، وقف بجوار نخلة هناك، وألقى خطبة فيها حكمة النبوة وخلق الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وهى أجمع الخطب فى الأخلاق، رواها الإمام أحمد رضى الله تعالى عنه، وهذا نص الرواية:
أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، خطب الناس، وهو مسند ظهره إلى نخلة فقال:
ألا تحبون أن أخبركم بخير الناس وشر الناس، إن من خير الناس رجلا عمل فى سبيل الله على ظهر فرسه، أو على ظهر بعيره، أو على قدمه حتى يأتيه الموت، وإن من شر الناس رجلا فاجرا جريئا يقرأ كتاب الله لا يرعوى إلى شيء منه.
وروى البيهقى بسنده لما أصبح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فحمد الله تعالي، وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال:
أيها الناس، أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأوثق العرا كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم، وخير السنن سنة محمد، وأشرف الحديث ذكر الله تعالى، وأحسن القصص هذا القرآن، وخير الأمور عوازمها، وشر الأمور محدثاتها، وأحسن الهدى هدى الأنبياء، وأشرف الموت قتل الشهداء، وأعمى العمى الضلال بعد الهدى، وخير الأعمال ما نفع، وخير الهدى ما اتبع، وشر العمى عمى القلب، واليد العليا خير من اليد السفلى، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وشر المعذرة حين يحضر الموت، وشر الندامة يوم القيامة، ومن الناس من لا يأتى الجمعة إلا دبرا، ومن الناس من لا يذكر الله تعالى إلا هجرا، ومن أعظم الخطايا اللسان الكذوب، وخير الغنى غنى النفس وخير الزاد التقوى، ورأس الحكمة مخافة الله عز وجل، وخير ما وقر فى القلوب اليقين، والارتياب من الكفر، والنياحة من عمل الجاهلية، والشعر من إبليس، والخمر جماع الإثم، والنساء حبائل الشيطان، والشباب شعبة من الجنون، وشر المكاسب كسب الربا، وشر المأكل أكل مال اليتيم، والسعيد من وعظ بغيره، وإنما يصير أحدكم إلى موضع أذرع، والأمر إلى الآخرة، وملاك العمل خواتمه، وكل ما هو آت قريب، وسباب المؤمن فسوق،
(3/958)
وقتال المؤمن كفر، وأكل لحمه من معصية الله، وحرمة ماله كحرمة دمه، ومن يتألى على الله تعالى يكذبه، ومن يستغفره يغفر له، ومن يعف يعف الله عنه، ومن يكظم يأجره الله، ومن يصبر على الرزية يعوضه الله، ومن يبتغ السمعة يسمع الله به، ومن يصبر يضعف الله له، ومن يعص الله يعذبه الله، اللهم اغفر لى ولأمتى، اللهم اغفر لى ولأمتى، اللهم اغفر لى ولأمتى، قالها ثلاثا، أستغفر الله لى ولكم» هذا الحديث بهذه الخطبة رواه البيهقى، ولكن قال فيه الحافظ ابن كثير: هذا حديث غريب فيه نكارة وفى إسناده ضعف، والله أعلم بالصواب.
ولعل روايته مجتمعا هكذا هو الذى كانت فيه النكارة وكان فيه الضعف فى إسناده وذكرناه، لأن أجزاءه لا يمكن أن يكون فيها نكارة، كل واحد منها بمفرده وكله حكم رائعات إن لم تكن حديثا صحيحا فهى فى أجزائها من جوامع الكلم الذى اتصف بها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وليس لنا أن نكذب على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ونقول عنه ما لم يقل، فإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم نقل عنه فى حديث متواتر أو شبه متواتر: «من كذب على متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار» .
ولكنا نقلنا هذا الكلام كما نقله الحافظ البيهقى، وإنه يسعنا ما يسعه والعلم عند الله.
نتائج تبوك
644- لم نجد فى تبوك معركة حربية، لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد ذهب إلى الروم لما علم أنهم يجمعون جيشا، وأنفق قيصر الروم على هذا الجيش رزق عام، سبق به لتتوافر أعطيات الجند، وذلك ليفرض إرادته ونفوذه على العرب كما كان، وقد هزته مؤتة بكثرة القتل فى الرومان وإن انسحب جيش النبوة انسحابا ليس فرارا، وخافوا أن يتبعوه، ولكى يقضى أولئك النصارى على هذا الدين الجديد، الذى يقوض الدولة الرومانية فى الشام على الأقل.
ولم يكن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لينتظر فى المدينة المنورة، بل إنه يجيء إليه، وقد جاء إليه فى جيش يريد الاستشهاد، فلما علم ذلك هرقل وقواده، وقد ذاق جيشه الذى كان مائتى ألف أمام ثلاثة آلاف تردد فى اللقاء، ويظهر أنه لم يستطع أن يستعين بمن حول الشام من الأعراب كما كان فى مؤتة، ولذلك فض جمعه، ولم يلق المسلمين، فلم يلق النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حربا، ولم يكن من نتيجة لتبوك إلا أن أرهب الله الرومان فارتدوا على أدبارهم خاسرين، واقتص النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من انسحاب جيشه بتخاذلهم عن لقائه.
(3/959)
وكان لا بد من منع الفتنة فى الدين الذى تكرر منهم، ولذلك أوصى بإرسال جيش أسامة إليهم، ليعلمهم أن أهل الإيمان لا يسلمون مسلما أو يخذلونه.
وإذا لم تكن ثمة نتائج حربية إلا هذه الصورة التى ذكرناها، فقد كانت هناك نتائج أخرى لا تقل آثارها عن النتائج الحربية بل تزيد عليها.
أولها: أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم علم أحوال القبائل العربية التى تتاخم الشام من صحراء العرب، وألقى فى نفوس أهلها روح العزة الإسلامية لكيلا يكونوا من بعد ذلك للرومان تبعا يضربون بسيوفهم العرب ويكونوا شوكة فى جنب، وليريهم أن الرومان فروا من لقائه، وبذلك يستهينون بالرومان، ويمزقوا نفوذهم، ويستعدوا لينالوا من الرومان، ويضربوهم بالسيوف الإسلامية، كما كان فى واقعة اليرموك من بعد.
ثانيها: إن كلمة الإسلام أخذت تتردد فى الشام بين نصارى غسان، فكثر التابع، وقل المانع وعلم أولئك العرب أن المستقبل للإسلام فى تلك الأرض لأنه دين الله ودين الحق الواضح الذى لا ضلال فيه، وأنه الدين المستقيم الذى لا التواء فى معانيه، وبذلك لا يناصرون الرومان، لذلك كانت واقعة اليرموك فى الشام بين الرومان والمسلمين، ولم يكن للعرب دور فيها يعاونون الرومان به.
ثالثها: أن الفكر الإسلامى أخذ يتلاقى مع النصارى وتميزت الحقائق الإسلامية لدى كبراء النصارى، ومن أسلم منهم كان له إسلامه، ومن لم يسلم كان عقد الهدنة، وكانت بعض السرايا تذهب فى الأرض القريبة من الشام.
ولعل أبرز الاتصال بين مباديء الإسلام، والنصارى، مكاتبة قيصر للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
(3/960)
كتاب قيصر إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم
645- لما نزل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بتبوك بعث إليه قيصر كتابا بعد أن لم يبعث جيشا، روى الإمام أحمد أن قيصر الروم قال: «ادع لى رجلا حافظا للحديث عربى اللسان أبعثه إلى هذا الرجل بجواب كتابه (أى الذى بعثه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أيام الهدنة) فجيء بالرجل فدفع إليه الكتاب، واسم الرجل التنوخى، والقول عن الكتاب يسند إليه، فهو يقول جاءنى فدفع هرقل إلى كتابا، فقال: اذهب بكتابى هذا إلى هذا الرجل، فما سمعت من حديثه، فاحفظ لى منه ثلاثا، فلينظر فى صحيفته أكتب إلى بشيء، وانظر إذا قرأ كتابى هل يذكر الليل، وانظر فى ظهره، هل به شيء يريبك.
قال الرجل: فانطلقت بكتابه حتى جئت تبوكا، فقلت: أين صاحبكم؟ قيل: ها هو ذا، فإذا هو جالس بين ظهرانى أصحابه محتبيا على الماء، فأقبلت أمشى حتى جلست بين يديه، فناولته كتابى فوضعه فى حجره، ثم قال: من أنت؟ فقلت: أنا تنوخ. قال: هل لك إلى الإسلام الحنيفية ملة أبيكم إبراهيم؟
قلت: إنى رسول قوم، وعلى دين قوم لا أرجع عنه، حتى أرجع إليهم، فضحك وقال: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (القصص: 56) يا أخا تنوخ إنى كتبت إلى كسرى والله ممزقه، وممزق ملكه، وكتبت إلى صاحبك بصحيفة فأمسكها.
ولن يزال الناس لا يجدون منه بأسا مادام فى العيش خير. قلت هذه إحدى الثلاث التى أوصانى بها صاحبى، فأخذت سهما من جعبتى، فثبته فى جنب سيفى، ثم إنه ناول الصحيفة رجلا عن يساره، قلت: من صاحب كتابكم الذى يقرأ لكم؟ قالوا: معاوية، فإذا فى كتاب صاحبى «تدعونى إلى جنة عرضها السموات والأرض، فأين النار» فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سبحان الله، فأين الليل إذا جاء النهار؟ قال: فأخذت سهما من جعبتي، فألقيته فى جلد سيفى، فلما أن فرغ من قراءة كتابى قال إن لك حقا، وإنك لرسول، فلو وجدت عندنا جائزة جوزناك بها، إنا سفر مرسلون، قال: فناداه رجل من طائفة الناس: أنا أجيزه، ففتح رحله فإذا هو بحلة صفورية، فوضعها فى حجري، قلت: من صاحب الجائزة؟ قيل لى عثمان ثم قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أيكم ينزل هذا الرجل، فقال فتى من الأنصار: أنا. فقام الأنصارى وقمت معه حتى إذا أخرجت من طائفة المجلس نادانى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يا أخا تنوخ، فأقبلت أهوى، حتى كنت قائما بمجلس فى مجلسى الذى كنت بين يديه فحل حبوته عن ظهره، فقال: هاهنا امض لما أمرت به فجلت فى ظهره فإذا أنا بخاتم النبوة فى موضع غضون الكتف» .
(3/961)
انفرد برواية هذا الحديث الإمام أحمد بن حنبل فى مسنده، ولم يكتب فى الضعاف التى قيل أنها أحصيت فى المسند، وقال فيه الحافظ بن كثير «هذا حديث غريب، وإسناده لا بأس تفرد به الإمام أحمد» .
ومادام الخبر لا مطعن فيه، وأخبار الثقات تقبل لأن الأصل فى خبر الثقة أن يكون صدقا، وإننا بهذا نقرر أن تبوك كانت موضع ذلك الاتصال الفكرى الذى التقت حقائق الإسلام بما عند النصارى، وأصلحت الأفهام وتشفت الأوهام.
مصالحته عليه الصلاة والسلام ملك أيلة:
646- قلنا إن الوصول إلى تبوك أتى بخير كثير، فقد كان الاتصال الفكرى والسياسى، وقد ذكر خير مكاتبة هرقل والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى تبوك، وقلنا ما فيه، وركنا إلى صدقه قبولا لأخبار الثقات.
والآن نذكر خبرا مشهورا، وهو أن ملك أيلة أتى إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، واسمه يحنة ابن رؤبة، فصالح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأعطاه الجزية، وأتاه أهل جرباء وأذرح، فأعطوه الجزية، فكتب لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كتابا بذلك، وقال ابن إسحاق إنه عندهم.
وهذا نص كتاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليحنة.
بسم الله الرحمن الرحيم، هذه أمنة من الله ومحمد النبى رسول الله ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة سفنهم، وسيارتهم فى البر والبحر، لهم ذمة الله تعالى، وذمة محمد النبى، ومن كان معهم من أهل الشام، وأهل اليمن، وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وأنه طيب لمن أخذه من الناس، وأنه لا يحل أن يمنعوا ماء يريدونه ولا طريقا يريدونه من بر أو بحر.
ونرى أن هذا العهد الذى أعطى صاحب أيلة عهدا يعم، ولا يخص، فهو لا يقصر على أهل أيلة، بل من معه من أهل الشام وأهل اليمن، وأهل البحر، والمعية المذكورة هى التى يجمعها النصرانية وإذا كان أهل اليمن وهم فى الجنوب ليسوا معه فى الحكم والسياسة، فهم معه فى الملة والاتباع الدينى، فعقد الذمة يسرى على هؤلاء جميعا، إذا التزموا شروطه، ويكون الذى عقد هو فيه صاحب أيلة، فمن يعلمه منهم، ويأخذ بحكمه فهو منهم.
وبذلك العهد يكون قد أخذ أكثر نصارى العرب يغدون إليه.
(3/962)
وكتب مثل هذا الصلح إلى جهم بن الصلت، وشرحبيل بن حسنة، أو أذن لهما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يكون لهما ما اشتمل عليه من حقوق.
وكتب مثله لأهل جرباء، وأذرح، وهذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد رسول الله لأهل جرباء وأذرح أنهم آمنون بأمان الله تعالى، وأمان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وأن عليهم مائة دينار فى كل رجب ومائة أوقية، وأن الله تعالى عليهم كفيل بالنصح، والإحسان إلى المسلمين، ومن لجأ إليهم من المسلمين.
وهكذا كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يعقد العقود الخاصة بالسلم بين المسلمين والنصارى، ومهد السبل للمسلمين يسيرون فى تلك الديار دعاة للإسلام، ولا شك أن هذه نتيجة من أعظم النتائج التى تتفق مع الدعوة الإسلامية، فما جاء محمد صلى الله تعالى عليه وسلم محاربا، ولكن جاء هاديا مبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا صلى الله تعالى عليه وسلم.
ولم يكتف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالعقود يعقدها، وهو فى تبوك بل أرسل السرايا إلى القبائل الشمالية القربية من تبوك، يسالمهم.
سرية خالد إلى أكيدر دومة
647- أرسل إلى أكيدر بن عبد الملك، من كنانة، كان ملكا على دومة، وكان نصرانيا، وقد كان فى هذه السرية عشرون وأربعمائة فارس، ودومة هى دومة الجندل، وقال البيهقى: كان الجيش مكونا من المهاجرين، وعلى رأسهم أبو بكر الصديق، وكان خالد على رأس الأعراب.
وأن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عندما أرسل هذه السرية قال لخالد: «إنك ستجده يصيد البقر» ، وهذا يدل على أنه أمير لا يعنى بالجد من الأمور.
خرج خالد حتى دنا من حصنه، وصار منه بمنظر العين، وكان ذلك فى ليلة مقمرة صائغة، وهو على سطح له ومعه امرأته، وباتت البقر تحك بقرونها باب القصر. فقالت له امرأته: هل رأيت مثل هذا قط، قال: لا والله. قالت فمن يحرك هذه؟ قال: لا أحد، عندئذ نزل بفرسه، وقيل أنه ما كرهم قبل أن ينزل.
وكان معه نفر من أهل بيته فيهم أخ له يقال له حسان، خرجوا، فتلقتهم خيل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأخذته وقتلوا أخاه، لأنه أخذ يقاومهم.
(3/963)
وأكيدر هذا مرفه فاكه فى نعيم، عليه ديباج مخوص بالذهب فاستلمه خالد ليبعث به إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
وقد راع الديباج أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وجعلوا يلمسونه بأيديهم، ويتعجبون، وقد لفتهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن افتنانهم بهذا الثوب الذى هو من نعيم الدنيا الذى يطغى وأخذ يدعوهم إلى نعيم الآخرة، فقال عليه الصلاة والسلام «أتعجبون من هذا، فوالذى نفسى بيده لمناديل سعد بن معاذ فى الجنة أحسن من هذا» وقد عقد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مع أكيدر عقده على أن يقدم إليه الجزية.
ولقد روى الواقدى أنه كان مع أكيدر ألفا بعير، وأربعمائة درع وأربعمائة رمح. ومهما يكن من صحة هذه الرواية فإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم خلى سبيله وعاد إلى قريته، ويظهر أنه ما خلى سبيله إلا على أساس الذمة، فيكون هو ومن معه على الذمة، كما ذكر الواقدى. ومما يذكر للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه كان يصطاد البقر، فى هذه الموقعة كانت البقر هى التى اصطادته لأنها دقت بقرونها الباب، فنزل من أعلى حصنه، فاصطاده جيش خالد، ثم كان عفو النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
وفى رواية البيهقى أن سرية خالد إلى أكيدر واستسلامه هى التى حملت يحنة صاحب أيلة على المجيء إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وعقده معه عقد الذمة.
عودة المسلمين من تبوك
648- كانت غزوة تبوك غزوة مباركة، كانت الدعوة إلى الإسلام هى لبها وغايتها، ونهايتها، فقد نشر الإسلام بها فى شمال البلاد العربية، واستأنس به العرب فى هذه الأقاليم، وأخذ يسرى نوره فى الشام ذاته، مما كان تمهيدا لجيوش المسلمين لفتحه، حتى تكون المواقع من مواجهة بين الإسلام والرومان، والعرب، ومنهم عرب الشام، إذ غزوا باسم الإسلام.
وقد عاد النبى بعد ذلك إلى المدينة المنورة، ويقول ابن إسحاق أقام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بضع عشرة ليلة لم يجاوزها، ثم انصرف قافلا إلى المدينة المنورة.
ويفهم من هذا أن مدة الإقامة بتبوك بضع عشرة ليلة لا تدخل فيها مدة السفر، ذهابا وأوبة، وقد ألف فى هذه المدة الناس، وعقد عقود ذمة، وأزال سطوات ناس ما كان يهمهم إلا الترف والصيد، وأوصل دعوة الإسلام إلى الأراضى المصاقبة للرومان لكيلا تكون لهم قوة منهم إذا اشتدت الشديدة، وقامت الحرب بين المسلمين والروم لتزول فتنة المسلمين فى بلادهم.
(3/964)
وقد حدثت وهم فى الرجوع خوارق للعادة على يد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وإن ذلك لكثير فى حياته صلى الله تعالى عليه وسلم، تتبعه دلائل النبوة وتسايره، وحيثما كان فى حله وترحاله بينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يسير، والعطش شديد، والماء نادر، والأرض صحراء رملة وكان فى الطريق ماء يخرج من وشل ينحدر قليلا من مرتفع، فنهى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عن أن يستقى منه قبل أن يصل، فاستقى منه ناس، فاستقوه، إذ لا يسقى إلا راكبا أو راكبين إلى ثلاثة.
فلما جاء إليه الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم لم يجد ماء، فدعا على الذين استقوه، ثم وضع يده تحت الوشل «المكان المرتفع» ودعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما شاء أن يدعو الله تعالى ضارعا إليه فانخرق. ويقول فى وصفه ابن إسحاق: ما إن له حسا كحس الصواعق، فشرب الناس واستقوا حاجتهم منه، وقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لئن بقيتم أو من بقى منكم، لتسمعن بهذا الوادى.
وإن هذا الحال كحال موسى إذ استسقى لقومه فضرب الحجر فانبثق منه اثنتا عشرة عينا، فقد قال الله تعالى فى ذلك: إِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ، فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ، فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً، قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ، كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (البقرة: 60) .
إنها نبع النبوة وصل إليه موسى بعصاه، ووصل إليه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم بيده، فقد رأى نشز الأرض يقطر قليلا فدعا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فانخرق، وصار له حس كحس الصواعق، كما قال ابن إسحاق.
القائد يرعى جنده حيا وميتا:
649- إن القائد يجب أن يكون محبا لجنده يحنو عليهم كما تحنو الأم على ولدها، لأنهم خرجوا مقدمين أنفسهم فى سبيل الله تعالى، غير مدخرين مالا، تاركين الأهل والولد، والراحة، فلا جزاء لهم إلا جنة الله فى الآخرة ومظاهر التكريم فى الدنيا.
وقد مات أحد الغزاة فى الطريق، وكان مؤمنا صادق الإيمان، قاوم فى سبيل الإسلام قومه حتى نازعوه ثوبه، ذلكم هو عبد الله ذو البجادين، قد مات فتولى دفنه محمد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ووزيراه أبو بكر، وعمر رضى الله عنهما، ولنترك الكلمة لابن إسحاق فهو يقول راويا عن عبد الله ابن مسعود قال: «قمت من جوف الليل، وأنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى غزوة تبوك،
(3/965)
فرأيت شعلة من نار فى ناحية المعسكر، فاتبعتها أنظر إليها، فإذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأبو بكر وعمر وإذا عبد الله ذو البجادين المزنى قد مات، وإذا هم قد حفروا له، ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى حفرته، وأبو بكر وعمر يدليانه، وهو يقول أدنيا إليّ أخاكما، فدلياه إليه، فلما هيأه بشقه قال:
«اللهم إنى أمسيت راضيا عنه. فارض عنه» . فيقول عبد الله بن مسعود: يا ليتنى كنت صاحب هذه الحفرة.
ويقول ابن هشام فى سبب تسميته بذى البجادين أنه كان ينزع إلى الإسلام فيمنعه قومه من ذلك، ويضيقون عليه، حتى تركوه فى بجاد ليس عليه غيره، والبجاد الكساء الغليظ الجافى، فهرب منهم إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فلما كان قريبا من الرسول صلى الله عليه وسلم شق البجاد اثنين، فائتزر بواحد، واشتمل بالآخر، فقيل له ذو البجادين لذلك.
انظر إلى تكريم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الأمين المجاهد للمجاهدين، لا يتركهم للذئاب تنوشهم، بل يكرمهم فى مماتهم، كما يكرمهم فى محياهم، ليقدموا على الفداء كراما.
عصمة الله تعالى لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم
650- قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ، وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ (المائدة: 67) فالرسول صلى الله تعالى عليه وسلم دائب على الدعوة لاينى، ينتقل فى لأواء الصحراء من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة وما بينهما، ثم يتجاوز الفيافى والصحارى ليكون فى أرض الشام شامخا بالرسالة الإلهية على الرومان، ومن يتبعهم، ومن يخضع، فإذا لم يكن الله تعالى عاصمه من الذين يريدون به السوء فى كل مكان من هذه الجرداء، فمن يكون العاصم غير الله تعالى القوى الجبار.
لقد تسلل إلى جيش الإسلام بعض المنافقين، ورجع المدينة المنورة طائفة منهم ليخذلوا المؤمنين، وبقيت أخرى لتخذل إذا سنحت لها الفرصة فى السير، أو فى المعترك، ففوت الله تعالى عليهم الفرصة التى ينتهزون أمثالها دائما.
ولما تمت أمور تبوك، وتحولت إلى دعاية إسلامية صادقة، ولم تكن معركة قتال ينفثون فيها سموم التردد والهزيمة، ووجدوا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم راجعا بجيش العسرة، وهو فى يسر وأمن وسلام واطمئنان ائتمروا بالرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ومكروا محاولين أن يطرحوه من عقبة عالية فى
(3/966)
الطريق، وإذا كان قد أراد الخائنون إخوانهم أن يرموا عليه حجرا ثقيلا وهو جالس بجوار جدار لهم، فقد أراد الخائنون من المنافقين أن يطرحوه من فوق عقبة فى الطريق، ولكن الله تعالى أعلمه بما بيتوا فى الثانية كما أعلمه فى الأولى.
لما بلغوا العقبة التى كان تدبيرهم الخبيث ومكرهم السيئ عندها، فلما بلغها صلى الله تعالى عليه وسلم أمر الجند أن يسيروا فى بطن الوادى، وقال: من شاء منكم أن يأخذ بطن الوادى، فإنه أوسع لكم.
وأخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم العقبة، وأخذ المسلمون وكل الجيش بطن الوادى إلا الذين ائتمروا، وبيتوا الشر، فقد أخذوا العقبة التى أخذها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، لينفذوا ما مكروا به، ومكروا مكرا، ومكر الله تعالى مكرا، والله خير الماكرين.
لقد علم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مكرهم الخبيث.
إن أولئك المنافقين لما علموا ذلك، وما اتخذه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لنفسه من طريق استعدوا وتلثموا، فأخفوا وجوههم لكيلا يعرفوا، فعرفوا بذلك التلثم الذى أرادوا أن يستتروا به، فكشفهم المسلمون به.
لقد هموا بأمر عظيم، وهو أن يطرحوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من فوق العقبة. فأمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يلازمه عمار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان، وأن يمشيا أمامه، على أن يأخذ عمار بن ياسر بزمام الناقة، وأمر حذيفة بسوقها.
وبينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى سيره هو ومن معه، أن سمعوا وكز أولئك الذين تامروا لركائبهم، وتدفعها عليهم، وقد أدرك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ماذا يريدون حسا، بعد أن علم بنياتهم من الله، وقد ساروا وراءهم من غير أن يعلموا، وظنوا أنهم مدركون ما يريدون.
وأمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حذيفة، وهو الذى يسوق الدابة أن يردهم، وأبصر حذيفة غضب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وبدا ما يتوقعه عليه الصلاة والسلام من شرهم فى وجهه، فرجع حذيفة، ومعه المجن.
رآهم حذيفة ملثمين، واستقبل وجوه رواحلهم فضربها فى وجوهها بالمجن ضربا، وأبصر القوم وهم ملثمون، وظن أن ذلك فعل المسافر، يتقى باللثام حر الشمس، أو حرور الهواء، ولكن المتامرين فزعوا واضطربوا بإفزاع الله تعالى لهم، شأن من يريد جريمة ويشرع فيها إذ أنه يضطرب عندما يظن أن أمره قد كشف، فيفزع من تتميمها ويتراجع.
(3/967)
ولذلك أسرع أولئك الملثمون المتامرون إلى الاندماج فى وسط الناس فى بطن الوادى وأبطل الله تعالى كيدهم.
بعد ذلك رجع حذيفة إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فلما أدركه، قال له الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم: اضرب الراحلة يا حذيفة، وامش يا عمار، فأسرعوا حتى استووا بأعلاها، ثم بعد ذلك خرجوا من العقبة. وهم ينتظرون الناس.
قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لحذيفة وهو الذى كان يسوق الناقة اذهب، وأرسله النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فذهب إليهم ومن معهم، وتبين به أنه انكشف أمرهم- قال الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم له: هل عرفت من هؤلاء الركب أحدا؟
قال حذيفة عرفت راحلة فلان، وفلان، وكانت ظلمة الليل، قد غشيتهم وهم ملثمون.
قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: هل علمتهم ما كان شأن الركب وما أرادوا.
قال: لا يا رسول الله، قال فإنهم مكروا ليسيروا ورائى، حتى إذا طلعت إلى العقبة طرحونى منها.
قال: إذن نضرب أعناقهم. قال: أكره أن يتحدث الناس، أن يقولوا: إن محمدا قد وضع يده فى أصحابه (أى بالقتل) .
ويقول ابن إسحاق فى هذه القصة عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: إن الله قد أخبرنى بأسمائهم، وأسماء آبائهم، وسأخبر بهم إن شاء الله تعالى عند وجه الصبح، فانطلق (والخطاب لحذيفة) حتى إذا أصبحت فاجمعهم، قالوا: إنه صلى الله تعالى عليه وسلم أخبره وفى ذلك كلام بين الرواة.
ومهما يكن فإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أوصى حذيفة بألا يذكر أسماءهم، وهم منافقون، وقيل: كان حذيفة عنده العلم بأسماء المنافقين، وكان هذا سر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أسره إليه. حتى قيل: إنه إذا مات أحد بعد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تعرفوا حال حذيفة معه، فإن رأوا حذيفة صلى عليه علموه مؤمنا غير منافق، وإن لم يصل عليه كانوا فى ريب من أمره.
(3/968)
مسجد الضرار
651- كان من أولئك الذين ائتمروا بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم ليطرحوه من فوق القمة أو من التقوا معهم فى قلوبهم، من أنشأوا مسجد الضرار، وقد ذكروا إنشاءه قبل سفر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو يجهز الجيش، ويجمع النفقة والرواحل، ويدعو الجميع أن يخرجوا معه.
جاؤا إلى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وهو فى هذه الحال، فقالوا: يا رسول الله، إنا قد بنينا مسجد الذى العلة والحاجة، والليلة المطيرة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا فتصلى فيه، فقال عليه الصلاة والسلام إنى على جناح سفر، وحال شغل، ولو قدمنا إن شاء الله تعالى لصلينا لكم فيه.
وبينما هو فى عودته، وهو (بذى أوان) موطن بينه وبين المدينة المنورة نحو ساعة جاء خبر هذا المسجد من السماء، ونزل فيه القرآن الكريم إذ يقول سبحانه وتعالى فى بنائه ومن بنوه وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ، وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً، لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ، فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ. أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ، فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
(التوبة: 107: 110) .
نزل ذلك القول الحكيم من عند علام الغيوب الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور.
والواضح أن الذى بناه طائفة من المنافقين وليسوا من الأنصار، إلا أن يكونوا من الأوس والخزرج الذى كان المنافقون ينتمى كثير منهم إلى الخزرج، ولا يمكن أن يكونوا من أنصار الله الذين آووا ونصروا، الذين يؤثرون على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة.
والآية الكريمة واضحة فى البواعث التى بعثتهم لبنائه إنما اتخذوه ليضاروا المؤمنين الذين يلازمون النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى مسجده والمساجد التى بناها كقباء وغيره، التى أسست على تقوى من الله ورضوان، إنهم يريدون بذلك تفريق المسلمين بترويج ما يفرق جماعتهم، وبث الفتن والسوء فيها، وليترصدوا فيه ويترقبوا من يحارب الله تعالى ورسوله، ومن يأتمرون معهم.
(3/969)
ولقد قال بعض الذين لم يدخلوا فى الإسلام «ابنوا مسجدكم، واستعدوا ما استطعتم من قوة ومن سلاح، فإنى ذاهب إلى قيصر الروم، فاتى بجنده من الروم، فأخرج محمدا وأصحابه» .
وإن هذا المقصد السيئ واضح من أن البناء كان والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يتجهز، يجمع الجموع للذهاب إلى تبوك، وقد كانوا يتوقعون ما يتمنون، وهو انهزام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وجيشه أمام الرومان، ولذلك دعا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم اثنين من صحابته فقال انطلقا إلى هذا المسجد الظالم فاهدماه واحرقاه، فخرجا مسرعين حتى أتيا بنى سالم بن عوف فقال أحدهما لصاحبه، انظر حتى أخرج إليك بنار من أهلى، وهم بنو سالم بن عوف وذهب إلى أهله، فأتى بسعف من النخل، فأشعلا فيه نارا، ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه وفيه أهله، فحرقاه وهدماه، فتفرقوا عنه.
ولقد خيب الله ظنهم، فقد تخاذل الرومان عن أن يلتقوا مع جيش الإسلام، وذهب عنهم ما كانوا يتحدثون فيه من كلام منبعث من نفاقهم إذ جاء على لسانهم أن المسلمين لا يستطيعون جلاد الروم، فقد خاف الروم ولم يخف رجال محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الذين قدموا أنفسهم لله تعالي.
الثلاثة الذين خلفوا
652- انقسم المؤمنون الذين دعاهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عند الخروج إلى تبوك إلى ثلاثة أقسام:
وأول الأقسام وأظهرها، وهم قوة الإسلام الأولى، الذين شروا أنفسهم لله بأن لهم الجنة يقاتلون ويقتلون، وهم الذين تقدموا للذهاب مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهم الذين قال الله تعالى فيهم لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (التوبة: 117) .
والقسم الثانى: جماعة تخلفوا عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ومنهم منافقون، ومنهم ضعفاء الإيمان، ومنهم من فيه خور، وضعف، وفى كل أحوالهم ليسوا من أقوياء الإيمان الذين يفدونه بأنفسهم وأموالهم، وراحتهم.
وأولئك اعتذروا وقبل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم اعتذارهم، وبعضهم كاذب لا محالة، وقال فيهم سبحانه وتعالى: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ، رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ، فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ، قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ، قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ، وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ
(3/970)
وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ، فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ، فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ. يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (التوبة- 93: 96) .
عندما دخل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة المنورة بدأ بالمسجد فصلى ركعتين، ثم جاء إليه المخلفون الذين تخلفوا لمرضهم وضعفهم، والذين لا يجدون ما يحملهم، فكان عذرهم باديا، يسقط تكليفهم هذا الخروج الذى لا يكون إلا على أهل القوة والسلامة، والذين يجدون ما ينفقون، ولا ما يحملهم، فالله تعالى قد أسقط عنهم الحرج بقوله تعالت كلماته: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ (التوبة: 91) .
والباقون القادرون الأغنياء تقدموا بالاعتذار للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وطفقوا إليه يعتذرون ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل منهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما أظهروه، وكما يقول ابن إسحاق قبل علانيتهم، وبايعهم، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى، وهو يعلم أنه إن رضى عنهم، لا يرضى عنهم الله سبحانه وتعالى، ولكنه مأمور بألا يحكم إلا بالظاهر، وإذا قبل الظاهر، فقد يسيرون فى تحسين الباطن.
القسم الثالث- من أخلصوا دينهم لله تعالى، ولكنهم تخلفوا من غير معذرة، ولم يرتضوا الكذب على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وخير لهم أن يعترفوا بتقصيرهم عن أن يكذبوا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهؤلاء ثلاثة، لم يعدهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلا من أقوياء الإيمان، ولكن غلب هواهم فى القعود فى ساعة التجهيز أو غلب فيهم ضعف وقتى، وإحساس ببعد الشقة، فرضوا أن يكونوا مع الخوالف، ولكن فيهم قلوب، لم يطبع عليها كأولئك الذين طبع الله على قلوبهم.
لذلك كان لا بد من علاج نفسى لهذه القلوب التى لم ترن عليها روانى الإثم المقصود، وإن كان تقصير فقد أدركوه، وكان ذلك العلاج الذى رآه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحى يوحى، وذلك بالإعراض عنهم، ومهاجرتهم، وذلك لإيقاظ نفوسهم، وتعويدهم الصبر، وكانت هذه العقوبة تشبه الكفارة بالصوم ستين يوما متتابعة، لأنها تكون تربية للنفس وتهذيبها، لقد أعرض عنهم المؤمنون خمسين يوما ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله تعالى إلا إليه.
(3/971)
ولنترك الحديث عنهم وعن نفوسهم وعن معاملة المسلمين إلى الذى تحدث بخوالج نفسه، وما تلقاه وما كان فيه من صبر فريد وهو كعب بن مالك:
«جاء كعب بن مالك، فلما سلم عليه صلى الله تعالى عليه وسلم «تبسم له تبسم المغضب، ثم قال: فجئت أمشى حتى جلست بين يديه. فقال: ما خلفك! ألم تكن قد ابتعت ظهرك» .
فقلت: بلى والله، إنى لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلا، ولكنى والله لقد علمت إن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى على ليوشكن الله تعالى أن يسخطك على، ولئن حدثتك حديث صدق تجد فيه عليّ إنى لأرجو فيه عفو الله عنى والله ما كان لى من عذر، والله ما كنت قط أقوى منى ولا أيسر حين تخلفت عنك، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أما هذا فقد صدق فقم، حتى يقضى الله تعالى فيك، فقمت، وكان رجال من بنى سلمة، فاتبعونى يؤنبوننى فقالوا لى، والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لك، فو الله ما زالوا يؤنبوننى، حتى أردت أن أرجع، فأكذب نفسى ثم قلت لهم: هل لقى هذا معى أحد؟ قالوا: نعم رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل الذى قيل لك، فقلت من هما، قالوا مرارة بن الربيع العامري، وهلال بن أمية، فذكروا لى رجلين صالحين شهدا بدرا، فهما أسوة، فرضيت حين ذكرا لى، ونهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لى الأرض، فما هى بالتى أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة.. فأما صاحباى فاستكانا وقعدا فى بيوتهما يبكيان. وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم، فكنت أخرج وأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف فى الأسواق، ولا يكلمنى أحد، وآتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأسلم عليه، وهو فى مجلسه بعد الصلاة، فأقول فى نفسى هل حرك شفتيه يرد السلام على أم لا، ثم أجلس قريبا منه، فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتى أقبل إلى وإذا التفت نحوه أعرض عنى، حتى إذا طال على ذلك من جفوة المسلمين، مشيت حتى تسورت جدار حائط أبى قتادة، وهو ابن عمى وأحب الناس إلى، فسلمت عليه، فو الله ما رد على السلام فقلت يا أبا قتادة أنشدك الله، هل تعلمنى أحب الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، فسكت، فعدت له لنشدته، فقال: الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم أعلم، ففاضت عيناى وتوليت حتى تسورت الجدار، فبينا أنا أمشى بسوق المدينة المنورة وإذا نبطى من أنباط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه فى المدينة المنورة يقول من يدل على كعب بن مالك. فطفق الناس يشيرون إلى حتى إذا جاءنى دفع إلى كتابا من ملك غسان فإذا فيه:
(3/972)
«أما بعد فإنه بلغنى أن صاحبك جافاك، ولم يجعلك الله بدار هوان، ولا مضيعة فالحق بنا نواسك» فقلت لما قرأتها: وهذا أيضا من البلاء، فتيممت التنور فسجرتها حتى مضت أربعون ليلة من الخمسين إذ رسول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يأتينى فيقول: إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يأمرك أن تعتزل النساء فقلت: أطلقها، أم ماذا. قال: لا ولكن اعتزلها ولا تقربها. وأرسل إلى صاحبى مثل ذلك، فقلت لامرأتى الحقى بأهلك فكونى عندهم حتى يقضى الله فى هذا الأمر، فجاءت امرأة هلال بن أمية فقالت: يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم. فهل تكره أن أخدمه قال: لا، ولكن لا يقربك. قالت: والله إنه ما به حركة إلى شيء، والله ما زال يبكى منذ كان من أمره إلى يومه هذا، قال كعب: فقال لى بعض أهلى لو استأذنت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى امرأتك، كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه. فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وما ندرى ما يقول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شاب، ولبثت بعد ذلك عشر ليال حتى إذا كانت لنا خمسون من حين نهى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة على سطح بيت من بيوتنا، بينما أنا جالس على الحال فى ذكر الله تعالى، قد ضاقت على نفسى وضاقت علينا الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر، فخررت ساجدا، فعرفت أن قد جاء فرج الله تعالي، وأذن له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بتوبة الله تعالى علينا، حين صلى الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبلى صاحباى مستبشرين» .
هنأه الناس فلم يقبل تهنئتهم وذهب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له الرسول الكريم صلى الله تعالى عليه وسلم المربى المكمل أبشر بخير يوم يمر عليك منذ ولدتك أمك قال له كعب: أهو من عندك يا رسول الله أم من عند الله، قال: لا، بل من عند الله.
صفت نفس الرجل، وتهذب، وخرج من كل ماله صدقة لوجه الله تعالى ولرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم: أبق بعض مالك، فأبقى سهمه من الغنائم التى استولى عليها المسلمون فى خيبر.
ولقد خص الله سبحانه وتعالى أولئك الذين تخلفوا فى الأرض بذكر قبول توبتهم مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مع المهاجرين والأنصار فقال تعالى كما تلونا لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ
(3/973)
مِنْهُمْ، ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ، وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ، وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ، ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (التوبة- 117: 119) .
العبرة والتربية:
653- ذكرنا حديث كعب بن مالك مع طوله، لأنه حديث النفس التائبة النادمة التى زلت، وحديث الندم بعد الزلل، وكما يقول الصوفية: إن زلة أورثت ذلا خير من طاعة أورثت دلا، لقد ذل لله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، لأنه أحس بالنفس اللوامة تحركه إلى إرضاء الله ورسوله.
وقد مكث خمسين ليلة يذكر الله فى كل ساعاتها، ويحس فى كل آنية منها بوخز ضمير، وما يوقظ ذلك الوخز يرى فى نظرات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وفى نظرات الناس، وفى الأسواق، وهو يصابر نفسه. ويجيء خطاب من ملك غسان يطلب أن يلتحق، فيراها نكبة أخرى، ويجيء إلى التنور ليسجره فيه، وهكذا، وإن هذه القصة تدل على أمرين:
أولهما: أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم رأى فى هذا الرجل وصاحبيه خيرا لم يره فى غيرهما من الذين اعتذروا ومنهم منافقون، وضعاف الإيمان، أما هذا فقد أبدى صفحته، ولم يرض فى موقفه بالاعتذار، ولا يريد أن يكذب على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فهو موقف طاهر وقلب طاهر، ولكن علق به درن قليل، يمكن أن يزول، ولا يتوب عليه الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وفيه هذا الدرن، ويريد الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أن تكون منه توبة نصوح تليق بالمؤمن الصادق فى إيمانه ويقينه، فكانت هذه لتكون منبها يستمر خمسين ليلة، وكأنه اعتكف خمسين ليلة منصرفا فيها إلى الله تعالى، حتى كانت القاطعة التى حملت الثلاثة على الاعتكاف، فاعتكف اثنان، وصار الثالث بين الناس، وكأنه ليس بينهم، فهو الغريب بين أصحابه وأهله، حتى أعلن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قبول توبتهم.
الأمر الثانى: الذى يدل عليه الخبر أن الإنسان خلق ليأتلف مع غيره يتلمس التشجيع النفسى من نظرات، وملامح الوجوه، ومظاهر الأقوال والأفعال والجوارح التى تصدر عن الناس، وإن الاستنكار النفسى يفعل فى نفوس الأخيار ما لا تفعله العقوبات بالنسبة للأشرار، فالذين يستهينون بالاستنكار القلبى فى قوله صلى الله تعالى عليه وسلم «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع، فبلسانه فإن لم
(3/974)
يستطع فبقلبه» مخطئون، وما كان عقاب هؤلاء الثلاثة إلا استنكارا قلبيا بدا فى الوجوه والجوارح ولم يبد فى القول.
وإن هذا الذى سنه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، يجب علينا اتباعه، فلا يصح لنا- أن نبش فى وجوه الأشرار، ولا الذين يرتكبون الآثام لأنه عسى أن يثير ذلك ضمائرهم فتلوم، وإذا كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد فعل ذلك مع ثلاثة لدرن يسير أصاب قلوبهم، أفلا نفعله مع أشرار هذا الزمان، وإذا كنا نعجز عن مقاطعتهم، فإننا لا نمالئهم، ولا نلتف حولهم مع ظلمهم، لأن مجرد الالتفاف حولهم يجعل الرجل من شيعتهم، وإن لم يعمل عملهم، ويجعلنا ذلك سائرين معهم، وإن لم نعاونهم بالفعل، فإنا نعاونهم بالإلف، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: «من مشى مع ظالم، فقد سعى إلى جهنم» .
سبعة ربطوا أنفسهم بأعمدة المسجد
654- كانوا عشرة تخلفوا، لعل منهم أولئك الثلاثة الذين ذهبوا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يستمع إلى الأعذار للمتخلفين يقبل علانيتها، ويترك السرائر إلى الله تعالى، وما كان للرفيق الطاهر الذى قبل لفظ اللسان وليس لفظ القلب إلا أن يقبل العلانية، ويترك لله ما بطن، لأنه لا يفتش عن القلوب.
إن أولئك الثلاثة ذهبوا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يقولون لا عذر لنا، ولا سبيل لأن نكذب عليك، فصدقهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وطهر قلوبهم، وهذب نفوسهم وأزال الضر بتلك العقوبة الهينة فى ظاهرها القوية فى تأثيرها.
ولكن سبعة آخرون لم يذهبوا معتذرين، لأنه لا عذر لهم، ولم يذهبوا ينفون الاعتذار بل جاؤا وعاقبوا أنفسهم بأنفسهم، فأوثقوا أنفسهم بسوارى المسجد النبوى، فلما رآهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: من هؤلاء الموثقون أنفسهم بالسوارى؟ قالوا: هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك يا رسول الله أوثقوا أنفسهم حتى يطلقهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ويعذرهم، فقال الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم، حتى يكون الله سبحانه وتعالى هو الذى أطلقهم، رغبوا عنى، وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين، فلما بلغهم ذلك قالوا: ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله هو الذى يطلقنا، فأطلق سراحهم، ومنع الوثاق بأمر الله تعالى، وقيل نزل فيهم وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ، خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً، وَآخَرَ سَيِّئاً، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (التوبة: 102) أرسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ففك وثاقهم، وأطلقهم وعذرهم.
(3/975)
ولم يجدوا أن ما فعلوه بأنفسهم فيه تكفير لتقصيرهم الذى تخلفوا به عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ورأوا أن الصدقة تطفيء الذنوب كما يطفيء الماء النار، فتصدقوا بكل أموالهم، وقالوا:
يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا، واستغفر لنا قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم «ما أمرت أن آخذ أموالكم» فقيل نزل قوله تعالى فيهم خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها، وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (التوبة: 103) .
هذا قسم أخذ فى تطهير نفسه، ولم يطهرهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بإبعاد الناس، وهم فريق واحد، أبى أن ينتحل عذرا شعورا منه بالتقصير فى التخلف عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإنهم بذلك وقعوا فى خطأ جسيم يكاد يكون خطيئة.
ولقد ذكر ابن كثير رضى الله تعالى عنه أقسام المخلفين، فذكرهم أربعة أقسام قريبا مما ذكرنا، قال:
«كان المتخلفون عن غزوة تبوك أربعة أقسام:
1- مأمورون مأجورون كعلى بن أبى طالب، ومحمد بن سلمة وابن أم مكتوم.
2- ومعذورون، وهم الضعفاء والمرضى، والمقلون وهم البكاؤن.
3- وعصاة مذنبون وهم الثلاثة، وأبو لبابة، وأصحابه المذكورون.
4- وآخرون ملومون مذمومون، وهم المنافقون.
وقد ذكرنا هذه الأقسام فى القرآن الكريم، ونوافق الحافظ بن كثير على هذا التقسيم، ولكن لا نسمى أبا لبابة وأصحابه مذنبين، ولكن نسميهم مقصرين مخطئين.
وفى الحق أن غزوة تبوك التى كانت آخر غزوات فيها اختبار لنفوس الذين مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فقد بدت فيها أحوال الذين كانوا مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، بدا الأقوياء الذين لا يصدرون إلا عن أمره، وبدا المنافقون الذين لازموه مخذلين بخروجهم، ومخذلين فى سيرهم ومتامرين يريدون اغتيال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
وبدا الذين ينقصهم الهمة والاستجابة فى الشدة، وإن كان لا ينقصهم الإيمان وقوة اليقين، وقد عالجهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم نفسيا بأمر ربه، وعالجوا أنفسهم، والجسم القوى يقبل العلاج، ولم يعالج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم غيرهم ممن تخلفوا، بل تركهم إلى ما هم فيه يحاسبهم الله تعالى.
(3/976)
الوفود
655- فى العام التاسع جاءت الوفود إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعد غزوة تبوك، ويقول كتاب السيرة، إنها آخر غزوة غزاها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد عمت الدعوة الإسلامية البلاد العربية وصار العرب بين مجيبين، وكافرين، ومترددين يسيرون فى طريق الإسلام، ولما يدخل الإيمان قلوبهم، وقد جاءت وفود ممن أسلموا، ووفود أخرى تقدم ذكرها وقد قال ابن إسحاق، وإنما كانت العرب تتربص بإسلامها أمر هذا الحى من قريش، كانوا إمام الناس وهداتهم، وأهل البيت والحرم، وصريح ولد إسماعيل بن إبراهيم، وقادة العرب، لا ينكرون ذلك. وكانت قريش هى التى نصبت الحرب لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وخلافه، فلما افتتحت مكة المكرمة، ودانت له قريش، ودوخها الإسلام عرفت العرب أنه لا طاقة لهم بحرب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا عداوته، فدخلوا فى دين الله كما قال عز وجل: «أفواجا» يضربون إليه من كل وجه، يقول الله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ، وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً أى فاحمد الله على ما ظهر من دينك، واستغفره إنه كان توابا.
وقد قال كانت العرب تتلوم بإسلامهم قبل الفتح، فيقولون اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبى صادق، فلما كانت واقعة الفتح بادر كل قوم بإسلامهم.
ومؤدى هذا أن فتح مكة المكرمة لم يكن فتحا لمدينة لها قدسيتها فقط، بل كان فتحا لقلوب الناس نحو الإسلام، إذ هم لقريش تبع، ولم يكن الفتح إكراها لقريش على الإسلام، بل إزالة نقمة الزعماء والكبراء، وتبين الحق الصريح الواضح، حتى إن الكبير منهم كان يقدم على الإسلام، لأنه علم أنه العقل وأنه الحق، كما رأينا فى إسلام عكرمة بن أبى جهل ومن كان معه من إخوان له إلى آخر لحظة من مقاومته.
ولكن مع ذلك يجب التمييز بين من دخل فى دين الله، والبلاء بلاء، وحمل عبء المصابرة على الأذى فى مكة المكرمة، والتهكم والاستهزاء، وهم الذين جاهدوا فى سبيل الله، وحملوا السيف، وقاتلوا وقتلوا، وهم الذين اشتروا أنفسهم وباعوها، حتى بلغ الإسلام ما بلغ وفتحت مكة المكرمة أو مهد للفتح بالحديبية، يجب التفرقة بين الذين دخلوا وحملوا العبء مع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وبين الذين جاؤا من بعد، ولذا يقول الله تبارك وتعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ، وَقاتَلَ، أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى (الحديد: 10) .
(3/977)
ويقول فى ذلك ابن كثير: فيجب التمييز بين السابق من هؤلاء الوافدين زمن الفتح ممن يعد وفوده هجرة، وبين اللاحق لهم بعد الفتح ممن وعد الله تعالى خيرا وحسنى، ولكن ليس فى ذلك كالسابق له فى الزمان والفضيلة.
ونحن نرى أن الفتح الذى جاء به القرآن الكريم كان سنة ست بصلح الحديبية لأن الله تعالى سمى صلح الحديبية فتحا، وقد كان كذلك، لأنه فرق بين قوة الحرب وقوة السلام، وقد دخل الناس بعد صلح الحديبية أفواجا فى الإسلام، والذين كانوا قبل صلح الحديبية هم الذين قرر الله تعالى فى كتابه الكريم، أنهم الذين رضى عنهم ورضوا عنه فى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ، فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (الفتح: 10) .
وقال سبحانه وتعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ، فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ، وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (الفتح: 18) .
هؤلاء هم الذين أنفقوا من قبل الفتح، ومن جاء بعدهم ليس مثلهم، فليس عمرو بن العاص كعلى بن أبى طالب، وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، وأبى عبيدة عامر بن الجراح، وغيرهم، هؤلاء هم الذين سبقوا بالحسنى وقاموا مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالجهاد والإسلام غريب، وكان من بعد ذلك عموم الدخول فى الإسلام، ولذلك كان الذين أسلموا بعد الحديبية والفتح أضعاف الذين أسلموا من قبل.
وفد مزينة
656- جاء هذا الوفد عند الحديبية وقبل الفتح، ومجيئه فى ذلك الوقت يدل على أن دخول الناس فى دين الله أفواجا كان بعد الحديبية، وامتد إلى ما بعد فتح مكة المكرمة وتبوك.
روى أن أول وفد من مضر كان وفد مزينة بأربعمائة من مضر، وروى أن ذلك فى رجب سنة خمس، وقد جاؤا مهاجرين، وقالوا إن أول من وفد من مزينة خزاعى بن عبد سهم، ومعه عشرة من قومه، فبايع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على إسلام قومه، ولما رجع إليهم لم يجدهم كما ظن فيهم إذ تأخروا عنه.
ويظهر أن أولئك الأربعمائة جاؤا بعد أن فشا الإسلام فيه، وبعد أن أغلق باب الهجرة إلى المدينة المنورة، وأريد أن يعمر الإسلام البلاد العربية كلها، فقال: «أنتم مهاجرون حيث كنتم فارجعوا إلى أموالكم» .
(3/978)
وبذلك يكون تعيين الزمن بأن القدوم سنة خمس، إنما كان وفد خزاعة الذى بايع عن إسلام قومه، ولم يكونوا قد أسلموا، ثم جاء بعد ذلك أربعمائة، فرأى أن يمكثوا دعاة للإسلام فى بلادهم وذلك بعد أن تكاثر المسلمون عندهم، وذلك بعد الحديبية أو بعد الفتح، وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم زود هؤلاء بالطعام من التمر إذ لم يكن معهم زاد.
وفد بنى تميم
657- وذكرنا من أخبار بنى تميم عندما هموا بالاعتداء على خزاعة، فأرسل إليهم عيينة بن حصن فى خمسين رجلا، فأسر منهم أسرى، وسبى سبايا، فجاؤا لذلك، وقالوا من وراء الحجرات فى جفوة: اخرج إلينا يا محمد، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ. وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (الحجرات- 4: 5) . وقد رد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أسراهم، وقد تكلموا بعد ذلك مفاخرين بأنفسهم، ورد الأنصار مفاخرتهم.
والآن نقول ما رواه البيهقى بسنده. قال: قدم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الزبرقان ابن بدر، وقيس بن عاصم، وعمرو بن الأهثم التميميون، فوقف الزبرقان بن بدر وقال:
أنا سيد بنى تميم والمطاع فيهم، والمجاب، وأمنعهم من الظلم، وآخذ لهم بحقوقهم، وهذا يعلم ذلك، وأشار إلى عمرو بن الأهتم.
قال عمرو بن الأهتم: إنه لشديد المعارضة مانع لجاره مطاع فى أدنيه. فقال الزبرقان ابن بدر: والله يا رسول الله لقد علم منى غير ما قال، وما منعه أن يتكلم إلا الحسد، فقال عمرو بن الأهتم، أنا أحسدك فو الله إنه للئيم الخال حديث المال أحمق الوالد مضيع فى العشيرة. والله يا رسول الله لقد صدقت فيما قلت أولا، وما كذبت فيما قلت آخرا، ولكنى إذا رضيت قلت أحسن ما علمت، وإذا غضبت قلت أقبح ما وجدت، ولقد صدقت فى الأولى، والآخرى جميعا.
فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن من البيان لسحرا، وإن من الشعر لحكمة» ، ولعل هذه المجاوبة كانت فى قدومهم لفك أسراهم، فهو قدوم وليس بوفد.
وقد روى البخارى فى فضل بنى تميم قول أبى هريرة: «لا أزال أحب بنى تميم بعد ثلاث سمعتها من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقولها فيهم: هم أشد أمتى على الدجال، وكانت فيهم سبية عند عائشة، فقال أعتقيها، فإنها من ولد إسماعيل، وجاءت صدقاتهم فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: هذه صدقات قومى» .
(3/979)
هذا رواه البخارى، ورواه مسلم كذلك.
وأقول قال على كرم الله وجهه، فى أيام شدائد البغى ومقاومته: ما أفل لبنى تميم نجم إلا بزغ لهم نجم آخر. والله أعلم.
وفد ثقيف
658- امتنع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن هدم حصون ثقيف، وحرق كرومهم، وأنهى الحرب، لأنها كانت آخر شوال، وأقبل ذو القعدة الحرام، ولأن منهم من مال إلى الإسلام، وفشا الإسلام فى الطائف، ولكن نخوة الجاهلية وغلظ قلوبهم منعتهم من التسليم، وإن كان الإسلام قد فشا فيهم.
فلما انصرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عنهم، اتبع أثره عروة بن مسعود، وقد ذكرنا لقاءه بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم وعودته إلى قومه، وقتلهم له بالنبل.
بعد قتل عروة، وكان محبوبا فيهم، أحسوا بأنهم صاروا منفردين بين العرب، وخصوصا أن مكة المكرمة التى تقرب منهم قد أسلمت وأذعنت، وأن القبائل تدخل فى الإسلام، وربما كان مقتل عروة المحبوب فيهم كان له أثر فى نفوسهم بالندم على قتل محبوب، فصغت قلوبهم لما كان يدعوهم إليه، ورأوا أنه لا طاقة لهم بالعرب، وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إن أعاد الكرة عليهم لم يكن لهم به طاقة، بل إنهم اليوم لا طاقة لهم بين العرب.
اتجه عمرو بن أمية من كبرائهم إلى كبير آخر فيهم هو عبد ياليل، فقال له:
«إنه قد ذهب أمر ليست معه هجرة، إنه قد كان من أمر هذا الرجل ما قد رأيت، قد أسلمت العرب كلها، وليست لكم بحربهم طاقة فانظروا فى أمركم» .
عندئذ ائتمرت ثقيف بينها، وقال بعضهم لبعض، أفلا ترون أنه لا يؤمن لكم سرب، ولا يخرج منكم أحد إلا اقتطع، فأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رجلا، كما أرسلوا عروة، فامتنع إلا أن يكون معه نفر منهم خشية أن يصنعوا به مثل ما صنعوه بعروة بن مسعود.
بعثوا عبد ياليل فى وفد من خمسة كانوا فى جملتهم ستة.
قدموا المدينة المنورة، فكان على رعية إبل الصدقة وكان بها المغيرة بن شعبة؛ لأنها نوبته، وكانوا يتولون عليها بالمناوبة، وعندما رآهم المغيرة نهض مسرعا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فلقيه أبو بكر، فأراد أن يسبقه هو إلى إخبار الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره.
(3/980)
عاد المغيرة إليهم، وهو يعلم أنهم جفاة ليعلمهم كيف يحيون النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فلم يفعلوا إلا بتحية الجاهلية.
ضرب عليهم رسول الله قبة فى المسجد، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يجيء إليهم فيه وكانوا يطمئنون إلى خالد بن سعيد بن العاص، وكانوا إذا جاءهم الطعام من قبل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لا يطعمون إلا إذا طعم منه خالد.
وبعد ذلك أعلنوا إسلامهم، ولكن فى بقية جاهلية طلبوا من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يبقى اللات ثلاث سنين، فرفض، طلبوا سنتين فأبى، طلبوا سنة فأبى، طلبوا شهرا، فأبى، وكيف يقرهم على الوثنية ساعة من زمان.
سألوه صلى الله تعالى عليه وسلم ألا يكسروا أصنامهم بأيديهم، فأجابهم وأرسل المغيرة بن شعبة، وأبا سفيان بن حرب، أن يهدموها.
طلبوا أن يعفيهم من الصلاة، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا خير فى دين لا صلاة فيه» ، وقد كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد أقامهم فى خباء فى المسجد ليروا الناس، إذا صلوا، فيستأنسوا بالصلاة وليعلمهم، ولكن جفوة الجاهلية حالت بينهم وبين الأنس بالصلاة.
وكانوا يرون أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إذا خطب لا يذكر نفسه فقالوا كيف يأمرنا أن نشهد أنه رسول الله وهو لا يشهد به فى خطبته، فبلغ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما قالوا، قال، فإنى أول من شهد أنى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان فيهم عثمان بن أبى العاص وكان أصغرهم فكانوا يخلفونه على رحالهم، فكان القوم كلما عادوا إلى رحالهم بالهاجرة ليقيلوا، ذهب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وسأله عن الدين، واستقرأه القرآن الكريم، وكان يختلف إليه مرارا، حتى فقه فى الدين، وعلم، وكان إذا وجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نائما عمد إلى أبى بكر، وكان يكتم ذلك عن أصحابه، فأعجب ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأحبه.
مكث الوفد يختلف إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو يدعوهم إلى الإسلام، فأسلموا.
قال كنانة بن عبد ياليل الذى كان على رأس الوفد، كما نوهنا: هل أنت مقاضينا حتى نرجع إلى قومنا، قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن أنتم أقررتم بالإسلام أقاضيكم، وإلا فلا قضية بينى وبينكم.
(3/981)
قال: أفرأيت الزنا، فإنا قوم نغترب، ولا بد لنا منه.
قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، حرام، فإن الله تعالى يقول: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا (الإسراء: 32) .
قالوا: أفرأيت الربا، فإنه أموالنا كلها.
قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: لكم رؤوس أموالكم، قال الله تعالي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (البقرة: 278) .
قالوا: أفرأيت الخمر، فإنه عصير أرضنا لا بد لنا منها.
قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: إن الله تعالى قد حرمها وقرأ قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (المائدة: 90) .
أخذوا بما قرره النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لهم، ولكن بقية الوثنية فيهم، فقد سألوا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يبقى الربة (اللات) ، فقال: اهدموها، فقالوا واهمين: لو علمت الربة أنك تريد هدمها لقتلت أهلها.
فقال عمر بن الخطاب وكان حاضرا: ويحك يابن عبد ياليل إنما الربة حجر، قالوا: إنا لم نأتك يابن الخطاب. وقال ابن عبد ياليل لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: تول أنت هدمها فنحن لا نهدمها، وأرسل الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة فهدماها كما ذكرنا.
أكرمهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن علمهم، وطلبوا أن يؤمر عليهم أحدا، فأمر أصغرهم عثمان بن أبى العاص، وكان قد حفظ سورا من القرآن الكريم وأدرك معانى الإسلام.
ولكن كان المتحدث عن ثقيف «1» ابن عبد ياليل، لأنهم الذين نصبوه المتحدث باسمهم، وكان عليما بنفوس قومه، يعلم كيف يدخل إلى نفوسهم وأمامه تجربة عروة بن مسعود الذى كان محبوبا أكثر من أبكارهم فلما جاءهم مسلما قتلوه.
ولذلك كتم قصة إسلامهم وما سلموا به للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم من قبولهم لتحريم الزنا والربا والخمر، وجاؤا إليهم مخوفين، ولم يجيئوا إليهم مسلمين.
__________
(1) أخبار عتق هؤلاء بعمل الصدق أخذناه من سيرة ابن هشام ج 1 ص 317، 318، 319.
(3/982)
خوفوهم بالحرب، وأن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم سألهم أمورا فأبوها، سألهم هدم اللات والعزى وتحريم الخمر والزنا والربا فأبوا.
أظهر الوفد الحزن والكرب، وسرى ذلك إلى ثقيف، وذهب الوفد إلى اللات وثن ثقيف يكرمها، وأظهر كل من فى الوفد لخاصته، أنه جاء من عند رجل فظ غليظ القلب يأخذ من شاء بظهر السيف، وأدان له العرب ففرض علينا أمورا شدادا، هدم اللات والعزى وترك الأموال ... إلى آخر ما طلب.
قالت ثقيف: لا نقبل ذلك أبدا.
فقال الوفد المدرك: أصلحوا السلاح، وتهيئوا للقتال واستعدوا له، ورموا حصنكم.
فكرت ثقيف يومين أو ثلاثة يدبرون القتال، ثم ألقى الله فى قلوبهم الرعب، وقالوا: والله ما لنا به طاقة، وقد دان له العرب كلها، فارجعوا إليه فأعطوه ما سأل، وصالحوه عليه، فلما رأى الوفد أنهم قد اختاروا الأمان على الخوف والحرب. عندئذ أظهر لهم ما أخفى، وقال لهم الوفد: فإنا قد قاضيناه، وأعطيناه ما أحببنا، وشرطنا ما أردنا، ووجدناه أتقى الناس وأوفاهم وأصدقهم وأرحمهم، وقد بورك لنا ولكم فى مسيرنا، وفيما قاضيناه عليه فاقبلوا عافية الله.
قالت ثقيف: فلم كتمتمونا هذا الحديث وغممتمونا أشد الغم، قالوا: أردنا أن ينزع الله من قلوبكم نخوة الشيطان. فأسلموا مكانهم، وجاءتهم رسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
وقد أمر على هذه الرسل خالد بن الوليد، وفيهم المغيرة.
أقدم المغيرة ليهدمها، وثقيف كلها رجالا ونساء يزعمون أنها لا تهدم أبدا يظنون أنها ممتنعة عن الهدم، فأخذ المغيرة يخادعهم مستهزئا بزعمهم، وقال: لأضحكنكم اليوم من ثقيف، فأخذ المعول يضرب به، ثم أسقط نفسه وركض، فارتج أهل الطائف بضجة واحدة، وقالوا: أبعد الله المغيرة، قتلته الربة، وفرحوا حين رأوه ساقطا، وقالوا: من شاء فليقترب، وليجتهد على هدمها، فو الله ما استطاع.
بعد أن أثار المغيرة ثقيفا مستهزئا بهم وثب وأخذ المعول ليهدم، وقال: قبحكم الله معشر ثقيف، إنما هى حجارة ومدر، ثم ضرب الباب فكسره، ثم علا أعلى سورها، وعلا الرجال معه فهدموها حجرا حجرا حتى سووها بالأرض.
ولكن صاحب مفتاح اللات ما زال على ضلاله فجعل يقول ليغضبن الأساس، فليستخفن بهم، فلما سمع ذلك المغيرة قال لخالد: دعنى أحفر أساسها فحفره، حتى أخرجوا ترابها فبهتت ثقيف ثم انتزعوا حليها وكسوتها وأتى بها الوفد إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
(3/983)
وروى أن ثقيفا، قد اشترط وفدها أن لا صدقة عليه ولا جهاد فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «سيتصدقون ويجاهدون» .
ويظهر أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يظهر ذلك الشرط، أو لم يظهر إجابته انتظارا لما يكون بعد إسلامهم. ويروى أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أراد أن يا بنى مسجدا، حيث كان طاغيتهم (اللات) .
659- ذكرنا أحوال وفد ثقيف مع طوله، لأن فيه بيانا لأحوال النفوس وكيف تعالج، إنهم قوم أشداء غلاظ، فإنه يتبين من حديثهم كيف تسيطر الأوهام عند نقص المدارك، لقد هدمت كل الأوثان فى مكة المكرمة، فما رأينا من قريش ما ظهر من ثقيف عندما هدمت اللات أو الطاغية كما يسمونها، وكيف كانوا يعتقدون أن من يهدمها يسقط، وكيف تعابث بهم المغيرة، فأسقط نفسه عند ضرب أول ضربة فصاحوا ثم كان الهادم هو خالد بن الوليد القرشى الذى كان حديث عهد بالجاهلية.
أثبتت القصة كيف تستولى الأهواء والشهوات على النفوس غير المؤمنة، حتى إنهم ليطلبون منه إباحة الزنا والخمر، والربا، وقد ردهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
وما أشبه أجلاف ثقيف بالمسلمين العصريين المجددين الآن الذين يستبيحون الربا، ويعاضدهم بعض الذين يتسربلون سربال العلماء، وكانوا يحفظون القرآن الكريم، ويستبيحون الزنا أحيانا باسم المتعة وأحيانا باسمه الصريح، ويعدونه تقدما، ويستبيحون الخمر جهارا نهارا.
وبين أيدى الذين أباحوا المتعة عندما طلبوا إباحة الزنا لأجل اغترابهم، فكان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يشير إليهم بالمتعة، لو كانت مباحة، كما يقول أولئك المتفلسفة الذين يريدونها لأغراب التلاميذ ولا حول ولا قوة الا بالله.
وهناك أمر تربوى رائع، وهو علاج كنانة بن عبد ياليل لشماس ثقيف إذ أنه أخفى إسلامه وصحبه وطلب إليهم الاستعداد للحرب، ففكروا مليا، وطلبوا هم التسليم للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم. ولو أظهر إسلامه ومن معه ابتداء، ليقتلوهم كما قتلوا عروة بن مسعود، إن الأمر إذا عرض مقررا قاطعا، قاومته النفوس المشاكسة الشامسة، لأن من طبيعة هذا النوع من النفوس أن ترد ما يعرض عليها على أمر لا بد منه إذ ليسوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، فاتبع كنانة بن عبد ياليل طريق التمهيد للأمر الذى قرره، حتى يطلبوه هم، فلا يكون مفروضا عليهم، بل يكون استجابة لما فى نفوسهم.
وننبه هنا إلى أن بعض الروايات ذكرت أن ثقيفا عرضت الأمر على أبى بكر، فى حجته، ولكن نجد السياق التاريخى لا يؤيد هذا، ذلك أن ابن إسحاق يقول: إن وفد ثقيف كان فى رمضان. فبينهما زمن، وحج أبى بكر متأخر عن رمضان، والله أعلم.
(3/984)
وفد بني عامر
660- أخذت وفود العرب التى وصل إليها الإسلام تجيء وفدا بعد آخر، منهم من يعلن إسلامه ويتلقى تعاليمه بالمدينة المنورة، ومنهم من كان فيه شك، أو عنجهية جاهلية. أو لا تزال الوثنية فى قلوبهم فيتلقاهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالموعظة الحسنة وتأليف قلوبهم، وبعضهم جاء إقرارا بالخضوع لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يهداهم ويرشدهم، وينقذهم من الضلال.
روى البيهقى فى دلائل النبوة أن وفد بنى عامر إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قالوا له: أنت سيدنا وذو الطول علينا، فقال عليه الصلاة والسلام: لا يسخرن بكم الشيطان السيد هو الله.
لقد جاء ذلك الوفد مسلما، ولكن كان فيه عامر بن الطفيل يريد غدرا ولا يريد إسلاما، وقد نهاه قومه عما يريد، وقالوا له: يا عامر إن القوم قد أسلموا. فقال: والله لقد كنت آليت، ألا أنتهى حتى تتبع العرب عقبى، وأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش.
ثم قال لمن دبر أمر الغدر معه وهو أربد: إذا قدمنا على الرجل فإنى شاغل عنك وجهه، فإذا فعلت ذلك فاعله بالسيف.
فلما قدموا أمر عامر أن ينفذ الغدر، فقال مواجها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «يا محمد خاللنى، قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا.. حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له» .
أبى عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يكون له خليلا، حتى يكون مؤمنا، فلم يذعن للإيمان بل انتقل إلى التهديد، وكأن المخاللة تجيء بالنصر والقهر، فقال: أما والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا.
فلما ولى قال الذى يعصمه الله من الناس: اللهم اكفنا عامر بن الطفيل.
فقد خذله صاحبه أربد، فلم يعل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عليه بالسيف، فقال له:
ويحك يا أربد، أين ما أمرتك به؟ فقال: والله ما كان وجه الأرض أخوف على نفسى منك، وأيم الله لا أخافك بعد اليوم، ثم قال أربد: لا أنا لك لا تعجل على، فو الله ما هممت بالذى أمرتنى به إلا دخلت بينى وبينه فأضربك بالسيف، وهكذا وقى الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام بأن كانت صورة أربد قاتله بينه وبين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
(3/985)
خرج القاتلان من عند رسول الله عليه الصلاة والسلام، فأصاب ابن الطفيل الطاعون، ومات فى بيت امرأة، وقيل مات على فرس، وقد خرج متألما من مرضه، قائلا، أغدة كغدة البعير.
وأما أربد الذى كان يد الغادر، فإنه خرج وحمله بعد عودته إلى بنى عامر، فنزلت عليهما صاعقة فقتلتهما، يروى أنه كان من حديث عامر بن الطفيل إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه لما أتى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، خير النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، قائلا أخيرك بين ثلاث خصال:
يكون لك أهل السهل، ولى أهل المدر، أو أكون خليفتك من بعدك، أو أغزوك بغطفان بألف أشقر وألف شقراء، وهذه رواية البخارى، ويقول البخارى: طعن (أى أصيب بالطاعون) فى بيت امرأة فقال:
أغدة كغدة البكر فى بيت امرأة ائتونى بفرسى أركب، فمات على ظهر فرسه.
وقد ذكرنا شيئا من ذلك من قبل.
وإن الظن أن وفاة عامر بن الطفيل كانت قبل الفتح ولم تكن فى العام التاسع، لأن منطقها يوميء إلى أنها كانت قبل الفتح وتبوك، أى قبل أن يصير السلطان كله فى البلاد العربية للإسلام، سواء فى ذلك من أسلم ومن لم يسلم.
ومهما يكن فإنه لم تكن الوفود بعد الفتح وتبوك كلها مسلمة، بل كان فيهم غيرهم ممن دانوا بالطاعة.
وفد عبد القيس
661- فى الصحيحين البخارى ومسلم أن وفد عبد القيس قدموا على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فبش فى وجوههم، وقال: ممن القوم؟ قالوا: من ربيعة، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم:
مرحبا بالوفد غير خزايا ولا ندامى.
وقد رحب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بوفد ربيعة، لما كان من التنافس بين ربيعة ومضر، فمجيئهم دليل على أن العصبية الجاهلية خفت صوتها بجوار صوت الإسلام، وصارت تحت قدم الإسلام وهو فوقها.
جاء هذا الوفد مريدا الإسلام مطمئنا إليه، ويريدون أن يعلموا من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما يجب عليهم أن يعلموه.
(3/986)
قال قائلهم المتحدث عنهم: «يا رسول الله إن بيننا وبينك هذا الحى من كفار مضر، وإنا لا نصل إلا فى شهر حرام، فمرنا بأمر نأخذ به، ونأمر به من وراءنا، وندخل الجنة»
فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان بالله وحده أتدرون ما الإيمان بالله، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا الخمس من المغنم، وأنهاكم عن أربع، عن الربا والحنتم والنقير والمزفت، وهى أسماء أنواع من الخمور تختلف أسماؤها باختلاف آنيتها «1» .
ولقد كان فى وفد عبد القيس الجارود بن بشر بن المعلى، وكان نصرانيا، فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كلمه ودعاه إلى الإسلام وعرضه عليه ورغبه فيه. فقال: يا محمد، إنى قد كنت على دينى، وإنى تارك دينى لدينك، أفتضمن لى دينى، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أنا ضامن أن هداك الله إلى ما هو خير منه. فأسلم وأسلم من معه من أصحابه.
عاد الجارود إلى قومه، وكان حسنا شديدا فى دينه حتى مات.
ولما قامت الردة بعد الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم كان من قومه من ارتد، فوقف فيهم يقول بشهادة الحق، ودعا قومه أن يتوبوا ويعودوا إلى الإسلام، وهو يقول: أيها الناس، إنى أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأكفر من لم يشهد هذه الشهادة.
وهكذا كانت الوفود تجيء إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فلا تخرج من بين يديه إلا وقد خالطت بشاشة الإسلام قلوبهم، فيعودوا إلى أقوامهم، ليعلموهم ما تعلموا.
وإن ذلك تطبيق واستجابة لقوله تعالي: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ، لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (التوبة: 122) .
وفد بنى حنيفة
662- كان الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم يستقبل الوفود، ويدعوهم إلى الإسلام، سواء منهم من اهتدى، ومن ضل وغوى، والناس قسمان قسم يطلب الحق ويبتغيه، ويجانب الشر، ولا يريد إلا الحق، ولم تدنس نفسه بدرن الهوى والباطل، ولم تركس فى مهاوى الهوى، وما يسول به الشيطان فى الأنفس، وقسم سيطرت عليه الأهواء فلا يتجه إلى الحق يبتغيه، ولكن يتجه إلى ما تهوى الأنفس، وما تضل به الأفهام، وتسيطر الأوهام.
__________
(1) بل هى أسماء آنية (المراجع) .
(3/987)
والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يستقبل الفريقين، فمن طلب الحق واستقامت نفسه استجاب للحق، وأسلم، ومن ركبته الأهواء، حاول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إزالة الغشاوة التى تنسجها الأوهام، ومن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يريد الهداية للجميع، ولكن الله تعالى يقول: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ (القصص: 56) .
ومن هذا الصنف الثانى قوم مسيلمة الكذاب، وهو وفد بنى حنيفة.
جاء وفد بنى حنيفة، وفيهم مسيلمة، وقد ستروه بثياب والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى يده عسيب من سعف النخل، وقد سأله مسيلمة بعض ما تحت سلطانه، فقال له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: لو سألتنى هذا العسيب الذى بيدى ما أعطيتكه، وإن الشر لا يظهر إلا فى أشرار، فقومه هم الذين شجعوه على ذلك، وكذلك قال لقومه: أما إنه ليس بشركم.
وكان مسيلمة قبل أن يحضر قومه كتب للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم كتابا قال فيه:
من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله:
«أما بعد فإنى أشركت فى الأمر معك، وإن لنا نصف الأمر، ولقريش نصفه، وليس قريش قوما يعدلون» .
قدم رسوله على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بهذا الكتاب.
فكتب إليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم:
بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد رسول الله إلى مسيلمة، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين.
وقدم من عند مسيلمة هذا رسولان قيل إنهما قدما بالكتاب الذى ذكرناه عنه، فقال لهما محمد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «تشهدان أنى رسول الله، فقالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله، فقال محمد صلى الله تعالى عليه وسلم: لو كنت قاتلا رسولا لقتلتكما» .
أتى بنو حنيفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهم على هذه الحالة النفسية، وعلى هذا الضلال العقلى، ولكن منهم من أسلم، ومع ذلك ارتدوا من بعد، ولقد استهواهم ضلال مسيلمة الكذاب عن الحق، وذلك بسبب العصبية الجاهلية، حتى كان قائلهم يقول: كاذب ربيعة خير من صادق مضر.
(3/988)
ولقد كان يزعم ذلك الكذاب المئوف العقل أنه يأتى بمثل القرآن الكريم، فيقول زاعم أن ما يقوله يشبه القرآن الكريم فى سجع سمح، «ولقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسخة نفى. من غير صفات وحشا» .
وقد أخذ من قول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لهم وليس بشركم، وهى ترمى إلى أنهم جميعا أشرار، وليس هو بشرهم، أخذ من هذا أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم أشركه فى رسالته، وأسقط عنهم الصلاة. وهكذا يذهب الضلال فى النفس، وتفعل العصبية الجاهلية فى الإدراك.
وقد قال أفراده إن ذلك الوفد المشئوم، جاء فى السنة العاشرة، حتى عمت الدعوة الإسلامية، ولم يكن لهم مناص من الاتباع، فانحرفوا ذلك الانحراف.
وفد طيىء
663- قدم وفد طييء، وقد كان الإسلام ابتدأ فيهم قبل حضور هذا الوفد من وقت أن كانت السرية إليهم، وهم قوم فيهم خير. ولم يكن فيهم عناد كثقيف والانحراف فى الفكر كحنيفة واليمامة. كان على رأس الوفد زيد الخيل- الذى سماه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم زيد الخير، وروى أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال فيه: «ما ذكر لى رجل من العرب بفضل ثم جاءنى، إلا رأيته دون ما يقال فيه إلا زيد الخيل، فإنه لم يبلغ كل ما فيه» .
وقد عرض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الإسلام على الوفد، فأسلموا وحسن إسلامهم.
وروى أن زيد الخير قد مات بحمى المدينة المنورة عقب مغادرة الوفد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
وروى أنه مات بعد ذلك فى خلافة الإمام عمر رضى الله تعالى عنه.
وكان له والدان قد نالا صحبة للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فرضى الله تبارك وتعالى عنه.
وكان له والدان قد نالا صحبة للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فرضى الله تبارك وتعالى عنه.
ولقد أقطعه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أرضين، وكتب له كتابا بذلك، وكان ذلك الإقطاع فيما يظهر إقطاع منفعة، يستخرج المعادن والزيوت، ويزرع ما يصلح للزراعة، وكان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يفعل ذلك فى الأراضى النائية عن المدينة المنورة ليمكن استغلالها، وإخراج ينابيع الثروة فى باطنها، ويقدمون فى ذلك أجرا لها، وقد يكون من غير أجر تأليفا للقلوب النافرة.
(3/989)
وفد كندة
664- قدم الأشعث بن قيس على رأس وفد من كندة عدته ستون أو ثمانون رجلا، وقد دخلوا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بسلاحهم وبزينة، وقد لبسوا جببا حبرات مكفتة بالحرير.
دخلوا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم يسلموا فنكر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حالهم، فقال لهم أو لم تسلموا، قالوا بلي، ثم قال ما هذا الحرير فى أعناقكم، فكانوا طائفتين، فأجابوا عن الاستنكار بأن شقوا الحرير ونزعوه من ثيابهم، وألقوه، فقال الأشعث بن قيس: نحن بنو آكل المرار، وأنت ابن آكل المرار، (يظهر أن ذلك إشارة إلى قوة البأس، وأبى أن يعرب عن شرفه الذى ظهر بادى الرأي) وقد ضحك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقد قال هذا النسب ربيعة بن الحارث، والعباس ابن عبد المطلب، فقد كانا إذا سارا فى بلاد العرب، فسئلا من أنتما؟ قالا نحن بنو آكل المرار، يستعلون بذلك عند الناس، ويعتزون، ويظهرون البأس، والقوة، لأن آكل المرار كان ملكا فى كندة وكان أولاده ملوكا، فكانوا يسيرون باسمه آمنين.
فلما قال الأشعث بن قيس للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: نحن بنو آكل المرار، وأنت ابن آكل المرار، يشير إلى ما كان بين الأشعث والعباس من صحبة، ما كان يقولانه فى صحبتهما وتجارتهما، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يستضحك مما كان يصنعه هو وعمه العباس الذى كان تاجرا.
ولكن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذكر نسبه الصادق، وأنه لا ينفيه.
روى أحمد فى مسنده بسند متصل إلى الأشعث بن قيس قال: قدمنا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وفد كندة، ولا يرون إلا أنى أفضلهم فقلت ذلك لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: لا، نحن بنو النضر بن كنانة، لا نجفو أمنا، ولا ننتفى من أبينا.
وكان للأشعث بن قيس ولاية فى بعض الدول الإسلامية فى عهد بنى أمية، فكان يقول:
لا أوتى برجل نفى رجلا من قريش نسبه عن النضر بن كنانة إلا جلدته.
أكرم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الوفد، وأعلن إسلامه، وعاد مرضيا آمنا مسلما.
(3/990)
وفد الأشعريين وأهل اليمن
665- إن الأنصار ينتمون إلى قبائل يمينة، وكانوا هم الذين أحبوا الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهم الذين آووا ونصروا فكان لليمن محبة فى قلبه.
ولقد جاء الأشعريون وأهل اليمن، أو ناس من أهل اليمن، جاؤا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مسلمين يريدون أن يتعرفوا مباديء الإسلام. ويستحافظوا القرآن الكريم.
إن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال عند قدومهم: قدم قوم هم أرق منكم قلوبا.
فقدم الأشعريون، وجعلوا يرتجزون:
غدا نلقى الأحبة ... محمدا وصحبه
وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول، وقد وفدوا عليه، جاء أهل اليمن هم أرق أفئدة، وأضعف قلوبا للإيمان، والحكمة يمانية والسكينة فى أهل الغنم والفخر والخيلاء فى أهل الوبر.
وروى عن جبير بن مطعم أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، قال: أتاكم أهل اليمن، كأنهم السحاب، وهم خيار من فى الأرض، فقال رجل من الأنصار: إلا نحن يا رسول الله، فسكت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم قال إلا نحن يا رسول الله: فسكت ثم قال: إلا أنتم ... كلمة ضعيفة.
كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا يقبل استثناءهم من أهل اليمن وهم الذروة والسنام.
وإن الإسلام فى ذاته بشرى الخير لمن دخلوا فيه، لقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم لوفد بنى تميم: أبشروا يريد بالإسلام، فقالوا بشرتنا، فأعطنا، فغضب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لهذه المادية الطامعة وقال للأشعريين: اقبلوا البشرى، فقالوا قد قبلنا، وفهموها معنوية لا مادية، ثم قالوا يا رسول الله جئنا لنتفقه فى الدين، ونسألك عن أول هذا الأمر، فقال عليه الصلاة والسلام كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب فى الذكر كل شيء.
وهنا نجد ظاهرة تبدو غريبة. وهى مسارعة أهل اليمن ومن حولهم إلى الإسلام، ومقاومة أهل مكة المكرمة للدين الجديد مع أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم منهم، وكان معروفا لديهم بالصدق والأمانة والبعد عما يؤثر فى الكمال الإنسانى.
(3/991)
ويبدو لنا أن السبب فى ذلك تشير إليه أمور:
أولها: تمكن الوثنية عند كل أهل مكة المكرمة ومن حولها، وسيطرة الأوهام عليهم، واعتزازهم بأنسابهم.
وثانيها: حب الرياسة فيهم التى نشأت من اقامتهم بالبيت الحرام، والاستمساك بسيطرتهم على العرب من طريق خدمتهم للبيت الحرام، وأنهم سدنته، وأن ذلك الدين الجديد ينزع منهم ما بأيديهم من سلطان، فاشتدت مقاومتهم، لا من جهة الإيمان، ولكن من جهة السلطان.
وثالثها: أن أهل الجنوب اليمنى، كان فيهم علم بالأديان، فكان فيهم اليهود والنصارى، ولهم بذلك علم بالرسائل السماوية.
ولم يكن اليهود الذين كانوا باليمن من بنى إسرائيل، بل كانوا من السامرة، وهم اليهود الذين اتبعوا موسى عليه السلام من غير بنى إسرائيل، فلم تكن عندهم العصبية الإسرائيلية الحادة التى كانت تؤمن بأنه لا نبى إلا من بنى إسرائيل، ولما جاء محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وكانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، أنكروا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ (البقرة: 89) .
وكانوا لا يعترفون بالسامرة على أنهم من اليهود أتباع موسى، لأن اليهودية عندهم جنسية وليست بعقيدة، فكانوا يضطهدونهم، كما يحاولون إيذاء غيرهم من أى دين، وربما كان مجيء نبى من العرب مثير الحماستهم له.
ورابعها: أنهم نظروا إلى الإسلام على أنه الدين الظاهر فى البلاد العربية، فسارعوا إليه، لأنه صار الدين الغالب، وصارت كلمة الله تعالى هى العليا. والله أعلم.
وفد الأزد
666- وهم من اليمن تجرى عليهم الأسباب التى ذكرناها فى مسارعتهم إلى الإسلام بعد أن امتدت كلمته فى البلاد العربية.
قال ابن إسحاق: قدم وفد من الأزد، وكان على رأسهم صرد بن عبد الله الأزدى، قد أسلم وحسن إسلامه فأمره رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على من أسلم من قومه، وأمره أن يجاهد بمن أسلم من كان يليه من أهل الشرك من قبائل اليمن ومن جاورهم.
(3/992)
أخذ صرد بن عبد الله يجاهد من حوله من المشركين، وكان بجوارهم مدينة مغلقة يقال لها جرش، وبها قبائل من اليمن، وقد انضمت إليهم خثعم، فتضافروا معهم عندما علموا أن جيش المسلمين يسير إليهم بقيادة صرد بن عبد الله.
حاصرهم فى مدينتهم جرش نحوا من شهر، وهم فيها ممتنعون، فترك الحصار، وأوى إلى جبل يقال له شكر، واعتصم به رجاء أن ينتهز فرصة، فيأتيهم من حيث لا يشعرون، ويفرقهم عن بلدهم.
ظنوا أن صرد بن عبد الله ومن معه ولى عنهم منهزما أو يائسا من أن يقتحم بلدهم، فزين لهم أن يخرجوا فى طلبه، فكان خروجهم تمكينا له من ضربهم، فإنهم إذ أدركوه عطف عليهم، ولم يكن لهم معتصم يعتصمون به فقتلهم قتلا شديدا، وكانت الهزيمة الشديدة قد نزلت، وعلم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك النصر الذى كان من عند الله تعالى العزيز الحكيم، ولم يكن بسرية من المدينة المنورة، ولكن بمن أسلم من العرب.
وفى الوقت الذى علم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فيه بهزيمة المشركين كان عنده وفد من جرش جاءه عشية أن علم، وكان مسلما.
سأل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وفد جرش وكان مكونا من اثنين: بأى بلاد الله تعالى شكر، فقالا: يا رسول الله ببلادنا جبل يقال له كشر، ولذلك تسميه أهل جرش، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إنه ليس بكشر، ولكنه شكر.
قالا له: فما شأنه يا رسول الله.
فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم «إن بدن الله لتنحر عنده الآن» . لم يفهم الرجلان مؤدى كلام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فجلسا إلى الشيخين الجليلين فى الصحابة، أبى بكر وعثمان، رضى الله تبارك وتعالى عنهما، فسألا ماذا يريد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فقال لهما صاحبا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ويحكما، إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ينعى إليكما قومكما، فاقدما إليه، فاسألاه أن يدعو الله أن يرفع عن قومكما.
فذهب الرجلان إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سألاه الدعاء لقومهما، فقال: اللهم ارفع عنهم.
خرج الرجلان إلى قومهما، فوجدا قومهما قد أصيبوا فى اليوم الذى قال لهما النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك، بل فى الساعة التى ذكر فيها ما ذكر.
(3/993)
ولقد جاء بعد ذلك وفد جرش فأسلموا وحسن إسلامهم، وحمى لهم حمى حول قريتهم ليستغلوه، وكان يفعل ذلك مع من يسلمون من أهل البلاد ليتمكنوا من استغلال الأرض كلها، وذلك نظير أجرة أو خرج يخرجونه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفد بني الحارث بن كعب
667- كان يستقبل الوفود الذين يجيئون إليه مسلمين، وإن لم يكونوا مسلمين دعاهم إلى الإسلام إذا جاؤا إليه، وفى أكثر الأحيان يجيبون، وفى بعض الأحيان يجيبون بعد تردد، ومهما يكن فالإسلام يدخل ديارهم ومن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، ومن بقى على دينه ورضى أن يعيش فى ظل الإسلام عقد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عقد الذمة.
والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يتعرف القبائل وأحوالها، فمن يجىء منها دعاه إلى الإسلام، وقبل منه ما يتقدم به، وإذا تخلفت قبيلة ولم يعرف إيمانها، ولم يتبين حالها، أرسل إليها سرية فدعوها إلى الإسلام، ومن هؤلاء بنو الحارث، فأرسل خالد بن الوليد فى شهر ربيع الآخر من السنة العاشرة إلى بنى الحارث بن كعب بنجران، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام، قبل أن يقاتلهم يدعوهم ثلاثا، فإن استجابوا قبل منهم، وإن لم يفعلوا قاتلهم.
ذهب إليهم خالد بن الوليد، وبعث الركبان يضربون فى كل وجه، ويدعون إلى الإسلام يقولون لهم أسلموا تسلموا.
أسلم الناس، ودخلوا فى دين الله، فأقام فيهم خالد يعلمهم الإسلام، وكتب إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك.
كتب إليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يقبل، ويكون معهم وفد منهم، فأقبل معه وفدهم فيهم قيس بن الحصين ذو العصبة، ويزيد بن عبد المدان وغيرهما.
قال لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «بم كنتم تغلبون من قاتلكم فى الجاهلية» ؟ قالوا لم نكن نغلب أحدا؟ قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. بلى. قالوا كنا نجتمع ولا نتفرق، ولا نبدأ أحدا بظلم، استنطقهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. ليعلنوا أخلاقهم، لأنه يقر هذه الأخلاق، ويريد منهم الاستمرار عليها، لأنها أخلاق إسلامية. أمرهم واحد يجتمعون ولا يتفرقون ولا يعتدون، فهم لا يحاربون.
(3/994)
وقد أمر عليهم قيس بن الحصين، فرجعوا إلى قومهم، بعد أن مكثوا فى المدينة المنورة أشهرا تعرفوا فيها الدين واستحافظوا بعض القرآن الكريم.
وإنا نرى أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا رأى من وفودهم استجابة للإسلام، وشيوعه بينهم أمر عليهم أميرا، يكون متصلا بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وبذلك يكونون جميعا فى ولاية واحدة، هى ولاية الإسلام التى يجتمعون حول لوائها، غير متفرقين، ولا متخاصمين.
وفد همذان
668- أقبل وفد همذان مسلما، غير متردد، ولا متلوم، وكان فيهم مالك بن النمط، وغيره، وكان هذا الوفد عقب رجوعه من تبوك.
وقد حضر هذا الوفد على أتم زينة ومظهر، فقد حضروا وعليهم مقطعات الحبرات والعمائم العدنية على الرواحل، ويظهر أن ملابسهم وإن كانت منمقة فيها زينة وزخرف لم يكن فيها حرير، أو ذهب، ولذلك لم يستنكر شيئا من لبسهم.
وقد جاؤا فى سرور بإسلامهم، ولقائهم بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، حتى إن مالك بن النمط أخذ يرتجز بين يدى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
إليك جاوزن سواد الريف ... فى هبوط الصيف والخريف
مخطمات بحبال الليف
وتكلموا بكلام فصيح أمام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
وقد قدم لهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أمرين:
أولهما: أنه أمر عليهم مالك بن النمط، واستعمله على من أسلم من قومه، وأمره بجهاد من يقرب منهم من المشركين أو الكفار بشكل عام.
وقد عاونهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بإرسال خالد بن الوليد فى سرية كما روى البيهقى ليدعو فى اليمن إلى الإسلام، وقال البيهقى: مكث ستة أشهر يدعوهم.
وقال البراء بن عازب: كنت فيمن أرسلهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مع خالد بن الوليد، إلى أهل اليمن، وقد مكث يدعوهم إلى الإسلام ستة أشهر، فلم يجيبوه، ويظهر أنه كان قائد حرب ولم يكن داعيا إلى الإسلام.
(3/995)
ولذلك بعث النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من بعد ذلك بعلى بن أبى طالب فلما دنا من الجمع اليمنى المسالم، وإن لم يكن قد دخل كله فى الإسلام، وقد خرجوا فلم يقاتلهم ولم يدعهم إلى الإسلام بالقول، بل برسالة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، فصف من معه من المسلمين صفا واحدا، ثم تقدم فقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
بعد قراءته كتاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أسلمت همذان كلها.
وهذا ما جاء فى صحيح البخارى.
وفى الحق أنه قد جاء فى أخبار الوفود كلام لم تثبت صحته، فقد قيل إن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كلف همذان بقتال ثقيف، وهذا غير معقول فى ذات نفسه؛ لأن ثقيفا بالطائف وهمذان باليمن، ولأن ثقيفا كانت قد أسلمت برسالة وفدها، وهدمت اللات طاغيتهم.
وفى الحق أن تاريخ قدوم الوفود على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يدون بدقة.
قدوم وفد دوس
669- قدم وفد دوس على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يجاهد فى خيبر فهو لم يقدم عليه فى السنة التاسعة التى توصف بأنها عام الوفود، والدعوة إلى الإسلام عن طريقهم. وكان على رأس هذا الوفد المسلم الطفيل بن عمرو الدوسى. وقد أسلم والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يهاجر إلى المدينة المنورة، وأمره النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على قومه دوس يدعوهم إلى الإسلام فأسلم بعض عشيرته الأقربين، ولم يجيء إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم موفدا من قومه المسلمين إلا بعد ذلك فى السنة السابعة وهو فى خيبر، ولقد أسهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لهم فى الغنيمة، لأنهم اشتركوا فيها.
وقصة إسلام الطفيل بن عمرو الدوسى ودعوته لقومه، ثم امتناعهم، ثم إسلامهم يحكيها رضى الله عنه، فلنتركه يحدثنا بها، إذ كان قد قدم مكة المكرمة وكان رجلا شريفا لبيبا، مستقيم النظر فأحاطت به قريش تمنعه من أن يستمع إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وتقول له: إن كلامه كالسحر يفرق بين الرجل وولده وأبيه وزوجه.
أصاخ إلى كلامهم، ويقول فى ذلك «فو الله ما زالوا بى، حتى حشوت فى أذنى حين غدوت إلى المسجد كرسفا، فرقا من أن يبلغنى شيء من قوله فغدوت إلى المسجد فإذا برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قائم يصلى، فقمت قريبا منه، فأبى الله تعالى إلا أن يسمعنى بعض قوله. فسمعت كلاما
(3/996)
حسنا، فقلت فى نفسى، وا ثكل أماه، والله إنى لرجل لبيب شاعر، ما يخفى على الحسن من القبيح، فما يمنعنى أن أسمع من هذا الرجل ما يقول، فإن كان ما يقول حسنا قبلت، وان كان قبيحا تركته.
فمكثت حتى انصرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى بيته، فتتبعته، حتى إذا دخل بيته، دخلت عليه فقلت: إن قومك قالوا لى كذا وكذا، فو الله ما برحوا يخوفوننى أمرك، حتى سددت أذنى بكرسف لئلا أسمع قولك، فأبى الله تعالى إلا أن يسمعنيه، فسمعت قولا حسنا ... فاعرض على أمرك، فعرض على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الإسلام، وتلا عليّ القرآن الكريم، فو الله ما سمعت قولا قط أحسن منه، ولا أمرا أعدل منه، فأسلمت وشهدت شهادة الحق، وقلت: يا رسول الله، إنى امرؤ مطاع فى قومى، وإنى راجع إليهم، فداعيهم إلى الإسلام فادع الله أن يجعل لى آية تكون عونا لى فيما أدعوهم إليه، فقال: النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «اللهم اجعل له آية» ، وبعد أن ذكر هذه الآية، وهو نور جاء على وجهه، ثم على وسطه. قال بعد ذلك: «لما نزلت أتانى أبى وكان شيخا كبيرا، فقلت: إليك عنى يا أبت، فلست منى، ولست منك، قال: ولم يا بنى، قلت قد أسلمت وتابعت دين محمد، قال يا بنى دينى دينك. فقلت: اذهب فاغتسل وطهر ثيابك ثم تعال، حتى أعلمك ما علمت ... ثم جاء فعرضت عليه الإسلام فأسلم، ثم أتتنى صاحبتى فقلت لها إليك عني، فلست منك، ولست منى:
فقالت لم بأبى أنت وأمى؟ قلت فرق الإسلام بينى وبينك، أسلمت وتابعت دين محمد صلى الله تعالى عليه وسلم. قالت فدينى دينك، قلت فاذهبى فاغتسلى ... ثم جاءت فعرضت عليها الإسلام فأسلمت.
بعد ذلك انتقل من الدعوة الخاصة إلى دعوة دوس عامة، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يستنكروا ولكن أبطأوا.
عاد إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال له: يا رسول الله إنى قد غلبنى على دوس الزنا (أى اتباعهم لأهوائهم وشهواتهم) فادع عليهم، ولكن الهادى الأمين رسول رب العالمين صلى الله تعالى عليه وسلم لم يدع عليهم بل دعا لهم بالهداية، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: «اللهم اهد دوسا» ثم قال لطفيل: ارجع إلى قومك فادعهم إلى الله تعالى وارفق بهم.
فرجع إليهم، واستمر بأرضهم يدعوهم إلى الإسلام، حتى استجابوا أو أكثرهم.
بعد هذا جئت إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بوفد، فنزلت المدينة المنورة بسبعين أو ثمانين فى وقت توزيع الغنائم من خيبر، فأسهم لهم مع المسلمين.
(3/997)
ولقد حسن إسلام الطفيل وقوى إيمانه، وإن الابتداء يدل على قوة الانتهاء، فقد ابتدأ طالبا للحق مع الموانع والسدود التى وضعتها قريش فى سبيل إيمانه فاجتازها، ووصل الإيمان إلى قلبه، وكان الداعية فى قومه، حتى هداهم إلى سداد.
وإن قصة إيمان ذلك الرجل تدل على قوة نفسه وعقله وخلقه، وأن المنع لم يجعله يمتنع بل جعله يبحث ويفكر، فإذا كانوا قد زينوا إليه ألا يسمع من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فقد زين الإيمان فى قلبه أن يذهب وراء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى داره.
وهو قد باعد التقليد عن قلبه، والتقليد هو الذى يعمى عن الحقائق، ويمنع الاتجاه إليها.
قدوم رسول ملوك حمير
670- الإسلام بعد علم العرب أجمعين به صار هو يدعو لنفسه، لما اشتمل عليه من حقائق ولأنه دين الفطرة، ولم تعد الحوائل تحول بينه وبين الناس، فصار الناس يدخلون فيه طواعية من غير أى نوع من أنواع الإكراه أو التقليد، أو الاتباع من غير علم، بل صارت الحقائق واضحة نيرة. لا يمنع نصرانى ولا يهودى من الاتباع، فاستقامت قلوبهم. ورضوا بالإسلام دينا، ولم يعد الأمراء يقفون محاجزين بين الأقوام والإيمان، وخصوصا بعد أن علموا أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، كان يبقى الأمير على إمرته ما استقام أمره، وما عدل فى قومه. ولم يرهقهم من أمرهم عسرا.
وكانت الوفود تجيء إليه معلنة الإسلام. ومنهم من كان يرسل رسولا، وملوك حمير وهم يمثلون الكثرة الكاثرة فى اليمن لما رأوا الإسلام قد غلب فى كل أرض الشمال، وتراجعت أمامه جيوش الروم التى كدسوها لغزو الإسلام، واقتلاعه، واقتلاع عز العرب، فعاد جندهم ولم يلاقوا محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن قتلت جنوده مع قلة عددهم منهم مقتلة عظيمة، وعادوا بحكمة خالد بن الوليد سالمين لم يفقدوا إلا بضعة عشر رجلا.
أدرك ملوك حمير قوة الإسلام منطقا وعقلا وحقا، وأدركوا شوكة الإسلام أمام الرومان فأرسلوا رسلا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يعلنون إسلامهم، والملوك كحارث بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال والنعمان قيل ذى رعين، ومعافر وهمدان وزرعة ذويران مالك بنى مرة الرهاوى، قد أعلنوا الإسلام، ومفارقة الشرك.
وقد كتب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كتابا للوفد الذى جاءه يبين فيه حقائق الدين وما يجب على الأفراد، ليعلموا به من وراءهم، وإليكم الكتاب كما رواه الواقدى:
(3/998)
بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد النبى إلى الحارث بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال والنعمان (قيل ذى رغين) ومعافر وهمدان.
أما بعد ذلكم- فإنى أحمد إليكم الله الذى لا إله إلا هو، فإنه قد وقع نبأ رسولكم منقلبا من أرض الروم. فلقينا بالمدينة فبلغ ما أرسلتم به، وخبرنا ما قبلكم، وأنبأنا بإسلامكم، وقتلكم المشركين، وأن الله تعالى قد هداكم بهداه، إن أصلحتم وأطعتم الله ورسوله، وأقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وأعطيتم من الغنائم حق الله تعالى، وسهم النبى (صلى الله تعالى عليه وسلم) ، وما كتب على المؤمنين فى الصدقة العقار عشر ما سقت العين، وما سقت السماء، وعلى ما سقى الغرب نصف العشر.
وإن فى الإبل فى الأربعين ابنة لبون، وفى ثلاثين من الإبل ابن لبون ذكر، وفى خمس من الإبل شاة، وفى كل عشر من الإبل شاتان، وفى كل أربعين من البقر بقرة، وفى كل ثلاثين تبيع جذع أو جذعة، وفى كل أربعين من الغنم سائمة وحدها، شاة.
وأنها فريضة الله تعالى التى فرضها على المؤمنين فى الصدقة، فمن زاد خيرا فهو خير له، ومن أدى ذلك، وأشهد على إسلامه، وظاهر المسلمين على المشركين، فإنه من المؤمنين له ما لهم، وعليه ما عليهم، وأنه من أسلم من يهودى أو نصرانى فإنه من المؤمنين له ما لهم وعليه ما عليهم.
ومن كان على يهوديته أو نصرانيته، فإنه لا يرد عنها، وعليه الجزية على كل حالة ذكرا أو أنثي، حر أو عبد دينار وافر من قيمة المعافرى (ثياب وبرود منسوبة إلى معافر) أو عرضه ثيابا، فمن أدى ذلك إلى رسول الله فإن له ذمة الله وذمة رسوله، ومن منعه، فإنه عدو لله ولرسوله.
أما بعد: إلى زرعة ذى يزن إذا أتاك رسلى، فأوصيكم بهم خيرا، معاذ بن جبل، ومالك بن عبادة وعقبة بن عمر، ومالك بن مرة وأصحابهم، وأن اجمعوا ما عندكم من الصدقة، والجزية، من مخالفيكم، وأبلغوها رسلي. وإن أميرهم معاذ بن جبل، فلا ينقلبن إلا راضيا.
أما بعد فإن محمدا يشهد أن لا إله إلا الله، وأنه عبده ورسوله، ثم إن مالك بن مرة الرهاوى قد حدثنى أن أسلمت من أمرك حمير، وقتلت المشركين، فأبشر بخير، وآمرك بحمير خيرا ولا تحزنوا ولا تخاذلوا فإن رسول الله هو ولى غنيكم وفقيركم، وإن الصدقة لا تحل لمحمد، ولا لأهل بيته، إنما هى زكاة مزكى بها على فقراء المسلمين، وابن السبيل، وأن مالكا قد بلغ الخبر، وحفظ الغيب، وآمركم به خيرا، وإنى قد أرسلت إليكم من صالحى أهلى، وأولى دينهم وأولى علمهم فامركم بهم خيرا، فإنهم منظور إليهم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(3/999)
هذا كتاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لملوك حمير، وقد كان يخص بعضهم بخطاب، إذ تعدد فيه لفظ أما بعد، مما يدل على أنه يخص بعضهم بالخطاب، وإن كان مضمونها جميعا واحدا.
وفى هذا الكتاب بين الله سبحانه وتعالى فريضة الزكاة فى الزرع والثمار والسوائم، ويلاحظ أنه لم يذكر إلا زكاة الأموال الظاهرة والأموال الباطنة وهى الدراهم والدنانير، وما يتعلق بها من عروض التجارة قد بينها صلى الله تعالى عليه وسلم فقال فى كل مائتى درهم خمسة دراهم، وروى أنه قال فى كل عشرين مثقالا نصف مثقال، ولعله لم يذكر زكاة الأموال الباطنة، لأنه يذكر ما يجمعه الإمام، أو والى الصدقات، أما الأموال الباطنة، فإن أصحاب المال يؤدونها.
ولعل هذا هو المسوغ به الإمام ذو النورين عثمان ولاة الصدقات، بأن يجمعوا زكاة الأموال الظاهرة، ويتركوا الأموال الباطنة، وكأنه أنابهم عنه فى أدائه، بحيث إذا ثبت أنهم لا يؤدونها أخذها منهم.
ويلاحظ فى كتاب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه ذكر زكاة الزرع والثمار بأنها زكاة العقار، وإن كانت تؤخذ من غلاته، نصف العشر وإن سقيت بالة، والعشر إن سقيت بماء العيون أو ماء السماء وإن هذا النص يفهم أن العقار فيه زكاة، وقد كان العقار المثمر هو الأراضى الزراعية وثمار الأشجار.
وذلك لأن النصاب فى الزكاة مال نام، والزرع ثمار الأرض، والشجر نماؤه الثمر.
وقد كانت البيوت والدور والحوانيت تتخذ للحاجات الأصلية، فلم يكن لها ثمار بذاتها، وكذلك أدوات الصناعة.
والآن قد صارت الدور لا تتخذ للإقامة فقط، بل تتخذ للاستغلال، والنماء بإجارتها فكان لا بد من زكاتها، لأنها مال نام بالفعل، ولأنها عقار، وقد ذكر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم زكاة العقار المزروع بأنه العشر إن سقى بغير آلة، وإن سقى بالة فنصف العشر، وهنا نجد القياس لا يتجه إلى أصل زكاة العقار، فهو ثابت بالنص، إنما يتجه إلى طريقة أخذ الزكاة، فتقاس الغلات بالإجارة على الزرع والثمار.
ولذا نرى أن يؤخذ عشر الصافى بعد النفقات التى تنفق على المبانى والتحصيل.
671- كتاب آخر لليمن:
كان الكتاب السابق فيه دعوة إلى الإقرار بالإسلام والحث عليه وما يجب عليهم من جمع الزكوات، والجزية، أى تكوين ميزانية دولة الإسلام، وهناك كتاب آخر كتبه لعمرو بن حزم عندما بعثه إلى اليمن، وهو خاص بالواجبات التى تجب على الآحاد، فهو يفقههم فى الدين ويعلمهم السنن، ويأخذ صدقاتهم، وهذا نص الكتاب وقد رواه الحافظ البيهقى.
(3/1000)
«بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من الله ورسوله، يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود عهدا من رسول الله (صلى الله تعالى عليه وسلم) لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن، آمره بتقوى الله تعالى فى أمره كله، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وآمره أن يأخذ بالحق، كما أمره الله تعالى. وأن يبشر الناس بالخير، ويأمرهم به، ويعلم الناس القرآن ويفقههم فى الدين، وأن ينهى الناس، فلا يمس أحد القرآن إلا وهو طاهر، وأن يخبر الناس بالذى لهم، والذى عليهم، ويلين لهم فى الحق، ويشتد عليهم فى الظلم، فإن الله حرم الظلم ونهى عنه، فقال ألا لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله، وأن يبشر الناس بالجنة وبعملها، وينذر الناس بالنار وعملها، ويستألف الناس حتى يتفقهوا فى الدين، ويعلم الناس معالم الحج وسننه وفرائضه، وما أمر الله به، والحج الأكبر الجامع، والحج الأصغر، العمرة، وأن ينهى الناس أن يصلوا فى ثوب واحد صغير، إلا أن يكون واسعا ... وينهى الناس إن كان بينهم هيج أن يدعو العشائر والقبائل، وليكن دعاؤهم إلى الله وحده لا شريك له، ويأمر الناس بإسباغ الوضوء وجوههم وأيديهم إلى المرافق وأرجلهم إلى الكعبين وأن يمسحوا رؤوسهم، كما أمر الله عز وجل، وأمروا بالصلاة لوقتها وإتمام الركوع والسجود، وأن يغلس بالصبح. ثم يذكر بعد ذلك أحكام الخمس فى الغنائم، وأحكام الزكوات، ونصابها وما يؤخذ من مقاديرها أ. هـ.
وفى هذا يتبين أن أولى الأمر عليهم أن يجمعوها إذا كانت ظاهرة، وعلى الناس أن يؤدوها ظاهرة وباطنة، وإن كانت الثانية الأمر فيها إلى الضمائر، والله أعلم بالسرائر.
وفد نجران
672- أخذ المشركون يسلمون تباعا لما عم سلطان الوحدانية البلاد، وما أسلموا رهبا من قوة فى أكثر الأحوال، بل أسلم الأكثرون رغبا فى الإسلام، وقد زالت عنهم غشاوة الوثنية وخرجوا من التقليد للآباء إلى الاستنارة بنور الإسلام، ورأوا أن آباءهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون. هذا ما كان من المشركين، كان الإسلام يدعو لنفسه فيهم بعد أن زالت عنهم عماية الجاهلية وغشاوة الوثنية- أما اليهود والنصارى- فقد علمت أمر اليهود منهم، ومغالبتهم للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالخيانة والنفاق، وتأليب الناس عليه، بعد عهود أخذوها على أنفسهم، ومن كان منهم فى غير جوار النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فقد أخذ عليهم ميثاق الأمان على أن يؤدوا الجزية، كما رأينا فى كتاب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لأمراء الجنوب عندما ذكروا للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن عندهم يهودا ومجوسا، يريدون أن يبقوا معهم من غير أن يغيروا دينهم الذى ارتضوا، فأمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يؤدوا الجزية، ولا يرد عليهم دينهم.
(3/1001)
أما النصارى فإنهم لم يكونوا فى حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يثيروا عليه أحدا، إلا ما كان من الروم، أما النصارى العرب، وخصوصا من كانوا فى الجنوب، فكانوا على مودة نسبية أو أقرب إلى المودة، ولذلك قال الله تعالى فى نصارى العرب الذين كانوا يوالون المسلمين:
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا، وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى، ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً، وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (المائدة: 82) هذا وصف عام لوفد نجران الذى سنتحدث عنه، وهناك سبب خاص حركهم للمجيء، وهو كتاب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يدعوهم إلى الإسلام، أو دفع الجزية، أو القتال، وذلك نص كتاب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم:
«بسم الله الرحمن الرحيم، باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، أما بعد فإنى أدعوكم إلى عبادة الله، من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله تعالى من ولاية العباد، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب والسلام» .
أرسل الكتاب إلى أسقفهم، فلما قرأه ذعر ذعرا شديدا فبعث إلى رجل من آل همذان اسمه شرحبيل بن وداعة وكان من همذان وكان مستشار الأسقف إذا حدثت معضلة.
فلما قرأ الكتاب قال الأسقف: ما رأيك يا أبا مريم، فقال: قد علمت ما وعد الله إبراهيم فى ذرية إسماعيل من النبوة، فما يؤمن بأن يكون هذا هو الرجل ليس فى النبوة رأي، لو كان من أمر الدنيا أشرت عليك فيه برأى وجهدت لك فيه، فنحاه، واستشار غيره وتعدد المستشارون، وكلهم أجاب بمثل جوابه فلما اجتمع الرأى منهم على تلك المقالة، أمر الأسقف بالناقوس فضرب، ورفعت المسوح فى الوادى، أعلاه وأسفله فاجتمع حين ضرب بالناقوس بطول الوادى مسيرة الراكب السريع يوما.
وسألهم الرأى بعد أن قرأ عليهم الكتاب من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
فاجتمعوا على إرسال وفد منهم يأتيهم بخبر هذا الرجل، ولما وصلوا المدينة المنورة خلعوا ثياب السفر، ولبسوا حللا يجرونها من الحبرة، وخواتيم الذهب، ثم دخلوا على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وتصدوا له ليلا ونهارا فلم يرد عليهم، وعليهم تلك الحلل والخواتيم فذهبوا إلى عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف وكانوا يعرفونهما إذ كانا يتجران ويخرجان العير لهما فى الجاهلية.
ولما التقوا بهما قالوا لهما: إن نبيكما كتب إلينا كتابا فأقبلنا مجيبين، فسلمنا عليه، فلم يرد سلامنا، وتصدينا لكلامه، فأعيانا أن يكلمنا، فما الرأى منكما، أنعود.
(3/1002)
اتجه عثمان وابن عوف إلى على بن أبى طالب يسألانه: ما رأيك يا أبا الحسن فى هؤلاء القوم، فقال على رضى الله عنه. أرى أن يخلعوا حللهم، وخواتيمهم، ويلبسوا ثياب سفرهم، ففعل الوفد ذلك، ثم جاؤا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فسلموا عليه، فرد سلامهم.
وظهر من هذا أن السبب فى أنه لم يرد سلامهم أنهم جاؤا مختالين مفاخرين وأنهم يلبسون لباسا محرمة على الرجال.
وليعلمهم أنهم ليسوا داخلين على ملك فى أبهة، بل على نبى يعيش عيشة الفقراء، وأن شرفه ليس من مال وثياب، ولكن من رسالة الرحمن الرحيم، وفوق ذلك أن عدم رده يخفف من خيلائهم، ويجعلهم يعيشون كما يعيش.
وبعد أن رد سلامهم بش فى وجوههم كشأنه عند لقاء الناس، ودخلوا عليه مسجده بعد العصر، وقد صلوا متجهين إلى الشرق، فأراد بعض المسلمين منعهم، ولكن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم السمح الكريم قال للمانعين: دعوهم، فصلوا مطمئنين.
كان الوفد ستين راكبا منهم أربعة وعشرون من كبرائهم، فيهم ثلاثة لهم فضل رياسة أو شبه رياسة أولهم العاقب، وهو أميرهم، وذو الرأى فيهم، وصاحب مشورتهم لا يصدرون إلا عن رأيه واسمه عبد المسيح.
وثانيهم: السيد، وهو ممثلهم، وصاحب رحلهم ومجتمعهم.
وثالثهم: أبو حارثة بن علقمة أخو بنى بكر بن وائل أسقفهم وحبرهم، وصاحب مدراسهم وإن أبا حارثة هذا قد صار ذا شرف فيهم، ودرس كتبهم وملوك الروم من النصارى قد أعلوه فيهم، أمدوه بالمال، وجعلوا له خدما، وبنوا له الكنائس، وكرموه لما بلغهم من علمه واجتهاده، ولعل ذلك ليجعلوا نجران تحت نفوذهم مع بعدهم.
وكان أبو حارثة يعظم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى جهره وغيبه، يروى أنه عندما اتجه أبو حارثة إلى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم كان يركب بغلة، وبجواره أخ له يركب مثلها، فعثرت بغلة أبى حارثة فقال أخوه: تعس الأبعد، يريد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. فقال له أبو حارثة:
تعست أنت، إنه والله النبى الأمى الذى كنا ننتظره، فقال له أخوه: فما يمنعك من اتباعه وأنت تعلم هذا.
قال أبو حارثة: ما صنع بنا هؤلاء القوم (الرومان) شرفونا ومولونا وأكرمونا، وقد أبوا إلا خلافه ولو فعلت نزعوا منا كل ما ترى. فأضمر عليها أخوه واسمه كرز بن علقمة، حتى أسلم بعد ذلك.
(3/1003)
وقد روى ابن إسحاق عن عبد الله بن عباس أنه اجتمع نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالت الأحبار ما كان إبراهيم إلا يهوديا، وقالت النصارى ما كان إبراهيم الا نصرانيا، فأنزل الله عز وجل: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ، وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ. ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ، فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا، وَلا نَصْرانِيًّا، وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ، وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ
(آل عمران: 65: 68) .
وقال بعض أحبار اليهود: أتريد منا يا محمد أن نعبدك، كما تعبد النصارى عيسى بن مريم.
وقال رجل من نصارى نجران: أو ذلك تريد يا محمد وإليه تدعونا.
فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: معاذ الله أن أعبد غير الله، أو آمر بعبادة غير الله، ما بذلك بعثنى الله، وأمرنى، فأنزل الله عز وجل: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ، ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ: كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ، وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ. وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً، أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (آل عمران: 79: 80) .
ثم ذكرهم عليه الصلاة والسلام ما أخذ عليهم وآبائهم من الميثاق بتصديقه، وإقرارهم به على أنفسهم، فتلا قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ...
إلى آخر الآيات (آل عمران: 81) وآخر سأل عن عيسى بن مريم وآخر مثله فأجيبوا بأنه رسول من عند الله وتلا عليهم ما جاء بالنسبة لعيسى عليه السلام فى سورة آل عمران من أولها إلى ثمانين آية من السورة.
بعد ذلك أخذ النصارى يسألون أسئلتهم، قالوا: ما تقول فى عيسى فإنا نصارى، يسرنا إن كنت نبيا أن نعلم ما تقول فيه، فتلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ، وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ، ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (آل عمران: 59: 61) فأبوا أن يقروا بذلك.
(3/1004)
فلما أصبح الغد أقبل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعدما أخبرهم بالمباهلة. مشتملا على الحسن والحسين رضى الله عنهما فى خميل له، وفاطمة تمشى وراءه وله يومئذ عدة نسوة ولم يختر واحدة منهن، وكان الوفد غير الثلاثة الذين ذكرناهم كما أشرنا فى صدر كلامنا عن نجران، مع رئيسه شرحبيل لا تصدر نجران إلا عن رأيه. وعندما طلب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم المباهلة قال:
«إن الوادى إذا اجتمع أعلاه وأسفله لم يصدر إلا عن رأيى، وإنى والله أرى أمرا مقبلا وأرى والله إن كان هذا الرجل ملكا، كنا أول العرب طعن فى عينه، ويرد عليه أمر لا يذهب من صدره، ولا من صدور قومه، حتى يصيبونا بجانحة.
وإن كان هذا الرجل نبيا مرسلا، فلاعناه، فلا يبقى على وجه الأرض ساحرة، ولا ظفر إلا هلك، ثم ذكر رأيه فقال: إنى أرى رجلا لا يحكم شططا أبدا.
لقى شرحبيل الذى لا يصدرون إلا عن رأيه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له: «إنى رأيت خيرا من ملاعنتك، قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: وما هو؟ قال شرحبيل:
أحكمك اليوم إلى الليل وليلته إلى الصباح، فمهما حكمت فينا فهو جائز.
فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مستوثقا من نفاذ حكمه عليه وعلى من وراءه: لعل وراءك أحدا يثرب عليكم. فقال: صاحبى (صاحبان له كانا فى مجلس القول) قالا: ما يريد الوادى ولا يصدر إلا عن رأيه. حكم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فكان الحكم هو هذا الكتاب الذى أعطاهم إياه.
«بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما كتبه محمد النبى (صلى الله تعالى عليه وسلم) لنجران، إن كان عليهم حكمه، فى كل ثمرة، وفى كل صفراء وبيضاء وسوداء، ورقيق، فأفضل عليهم، وترك ذلك كله، على ألفى حلة، فى كل رجب ألف حلة. وفى كل صفر ألف حلة، وكل حلة أوقية ما زادت على الخراج أو نقصت على الأواقى فبحساب، وما قضوا على دروع أو خيل أو ركاب أو عرض أخذ منهم ليحاسبه.. وعلى نجران مثواه رسلى بها عشرين فدونه، ولا يحبس رسول فوق شهر، وعليهم عارية ثلاثين درعا، وثلاثين فرسا، وثلاثين بعيرا، وإذا كان كبير باليمن وما هلك مما أعاروا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من دروع أو خيل أو ركاب، فهو ضمان على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، حتى يؤديها عليهم.
ولنجران جوار الله تعالى وذمة محمد النبى (صلى الله تعالى عليه وسلم) وملتهم وأرضهم وأموالهم وغائبهم وشاهدهم، وعشيرتهم وتبعهم، ألا يغيروا مما كانوا عليه، ولا يغير حق من حقوقهم ولا
(3/1005)
ملتهم، ولا يغير أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته.. وكل ما تحت أيديهم من مال، وليس عليهم ريبة، ولا دم جاهلية، ولا يحشرون، ولا يعشرون، ولا يطأ أرضهم جيش، ومن سأل منهم حقا فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين، ومن أكل ربا من ذى قبل فذمتى منه بريئة، ولا يؤخذ رجل منهم يظلم آخر ... وعلى ما فى هذه الصحيفة جوار الله، وذمة محمد النبى رسول الله، حتى يأتى الله بأمره ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير مثقلين بحرب» .
وقد شهد هذه الوثيقة من حضر مجلس النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، منهم أبو سفيان بن حرب وغيلان بن عمرو، ومالك بن عوف، والأقرع بن حابس الحنظلى، والمغيرة بن شعبة.
هذا كتاب ذمة إذا بقوا على نصرانيتهم، أما إذا اختاروا أو بعضهم الإسلام دينا فإنه من يختار الإسلام يأخذ حكم المسلمين، ولا يكون ثمة فرق بينه وبين المسلمين.
وإن من أساقفة نجران ورهبانهم من دخل فى الإسلام معترفا بأنه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم المنتظر من أولاد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام له ذلك.
ومن الرهبان من مال إلى الإسلام، وأراد الذهاب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وذهب إليه وأهداه بردا، وكانت رغبته فى الحضور للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يرى كيف ينزل الوحى. وأن يعلم الفرائض والحدود والسنن، ومع ذلك أبى الإسلام، واستأذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يرجع إلى قومه. وقال إن لى حاجة ومعادا إن شاء الله تعالى، ولكنه لم يرجع حتى قبض النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ويظهر أن ذلك كان فى السنة العاشرة.
هذا وإن السيد، والعاقب، وأبا الحارث الذين ذكرناهم فى أول البحث فى وفد نجران، قد مكثوا عند النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يستمعون إليه ويتعرفون حاله، وهم غير وفد شرحبيل، وكأنه وفد من نجران وفدان لتعدد أقاليم نجران، وكنائسهم، واختلاف أساقفهم.
ومهما يكن فإن وفد أبى الحارث الذى فيه السيد والعاقب قد غادر المدينة المنورة ومعهما كتاب من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هذا نصه:
«بسم الله الرحمن الرحيم من محمد النبى إلى الأسقف أبى الحارث، وأساقفة نجران، وكهنتهم ورهبانهم، وأهل بيتهم، ورقيقهم وملتهم، وعلى كل ما تحت أيديهم من قليل وكثير جوار الله ورسوله، لا يغير أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته، ولا يغير حق من حقوقهم، ولا
(3/1006)
سلطانهم، ولا مما كانوا عليه على ذلك جوار الله ورسوله، أبدا ما نصحوا وأصلحوا عليه غير منقلبين بظالم ولا ظالمين» .
فهذا كتاب آخر، وفيه عقد الذمة.
ما يدل عليه أمر هذا الوفد
673- كان لنجران وفدان، كما رأيت، وكان ذلك لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم دعاهم إلى الإسلام، أو العهد (عهد الذمة) على أن لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم، أو أن يقاتلوا، فجاؤا إليه فى وفدين، وكتب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كتاب عهد لكل وفد منهما.
ولعل السبب فى مجيء وفدين، اختلاف الكنائس، وإن لم يكن ثمة اختلاف فى المذهب، وإن كان فإنه لا يكون مفرقا بينهم فتعددوا.
وإن هذا الوفد وغيره سواء تعددوا أم لم يتعددوا يدل على أن الإسلام أخذ ينشر نفسه بدعوته من غير حرب، وما كان للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يحارب قوما اعتزلوا حربه وألقوا إليه السلم، فما كان القتال، كما يبدو من أخباره، لأجل خلاف الدين، إنما كان لحماية الدعوة لتصل إلى الشعوب، فلا يحاجز بينهم وبينها أمراء أو ملوك، أو أحبار ورهبان، بل تكون وجوههم لله تعالى، يختارون فى الأديان ما يرونه حقا، ولأنه، لا بد أن يسمع الناس دعوة الحق (الدعوة الإسلامية) من غير إرهاق أمير، أو إغراء زعيم دينى أو غير دينى.
ولقد كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يرحب بهذه الوفود، ويبش لهم إلا أن يجد فيهم أمرا من شأنه أن يكون مفرقا بين الجماعات. بحيث يحنق الفقير، ويرمض قلبه، فلم يبش فيمن يدخلون عليه بزينة من الحرير محلى بالذهب، كما كان يخرج قارون على القوم بزينته.
ولحسن لقاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يستقبلهم فى المسجد وإن فعل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يدل على جواز أن يدخل الكتابى المسجد، وإنى لا أرى بأسا فى أن يدخل غير الكتابى لأجل سماع العلم الإسلامى، وعقد المعاهدات كما كان يفعل عمر.
وإن دخولهم المسجد حسن، إذ يرون المسلمين يؤدون الصلوات ويقومون بالفرائض، ويحيطون بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم إحاطة الدائرة بقطرها. إن ذلك من شأنه أن يؤثر فى نفوسهم فيستجيبوا لداعى الحق.
(3/1007)
الإذعان والإيمان:
674- هنا مسألة يثيرها ابن القيم حول وفد نجران، فقد كان منهم من يعلن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأنه النبى المبشر به فى التوراة والإنجيل، ولكنه لا يستجيب لداعى الإسلام بالانقياد والإذعان والرضا بحكم القرآن الكريم وإعلان الطاعة، ويقول إن ذلك الإذعان لخوف أن يقتله النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. فيقرر ابن القيم أن ذلك لا يعد قد دخل فى الإسلام أو وصف الإيمان، لأن الإيمان ليس هو مجرد المعرفة، بل الإيمان معرفة وتصديق، وإذعان، فإذا لم تكن هذه الأوصاف مجتمعة لا يكون ثمة إيمان. لأن الانقياد والإذعان غير قائمين.
وإن ذلك كلام حق، لأنه لا بد أن يدخل فى ولاء المسلمين، وينضم إلى جماعته، وتكون ولايته للمؤمنين ولله كما قال تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا.
ونرى الإذعان قسمان: إذعان قلبى، ويكتفى به إذا كان ما يمنع من إظهاره خوف إتلافه كخوف من عدو قاهر، أو إخفائه لكى يجذب الناس إلى ما اعتنق من دين بتشكيكهم فيما يعتقدون من باطل، وقد أجاز النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك لبعض وفد ثقيف، فإن الإيمان الحقيقى قائم فى معناه وهؤلاء يؤدون الفرائض، ويكتفى منهم بذلك ولا يطلب خوفا من الإذعان العلنى، فالتصديق قائم والإذعان قائم.
والقسم الثانى: يوجد فيه معرفة كمعرفة بعض المشركين، وأثر هذه المعرفة تصديق لسانى يظهرونه كأولئك الذين قالوا لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم نعرف أنك النبى، ولكن لا نسلم، لأننا نخشى أن يقتلك اليهود، فأولئك وإن عرفوا لا يؤمنون، بل يكفرون.
قدوم وفد بنى سعد بن بكر
675- هذا الوفد كان رجلا واحدا جاء مسلما معلنا إسلامه عندما علم بأمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ودعوته، وانتشرت الدعوة، وصار لكلمة الله السلطان، وتجاوبت بها الركبان، فجاء يستوثق من الأمر من صاحب الدعوة الحق، ولقد قال ابن إسحاق بسنده: بعثت بنو بكر، ضمام بن ثعلبة وافدا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقدم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فأناخ بعيره على باب المسجد وعقله ثم دخل وهو لا يعرف شخص محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال فى جفوة من لا يعرف: أيكم ابن عبد المطلب؟ قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أنا ابن عبد المطلب، وكانت المجاوبة على الوجه الآتى:
(3/1008)
قال ضمام: إنى سائلك ومغلظ عليك المساءلة، فلا تجدن فى نفسك.
فقال النبى الرفيق: لا أجد فى نفسى، فسل عما بدا لك.
فقال ضمام: أنشدك بالله إلهك، وإله أهلك، وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك، آلله بعثك إلينا رسولا؟ قال: اللهم نعم.
قال ضمام: فأنشدك بالله إلهك وإله أهلك وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك، آلله أمرك أن نعبده لا نشرك به شيئا، وأن نخلع هذه الأنداد التى كان آباؤنا يعبدونها. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: اللهم نعم.
ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة، فذكر فريضة الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، فى كلها ينشده عند كل فريضة، بالصيغة التى ذكرها.
حتى إذا فرغ منها، قال: «فإنى أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وسأؤدى هذه الفرائض، وأجتنب ما نهيتنى عنه، لا أزيد ولا أنقص» .
ثم انصرف عائدا إلى بعيره.
وقد أثنى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خيرا.
عاد إلى قومه مؤمنا داعيا شاهدا بالحق، وفاجأهم بأن أعلن كفره بالأصنام. وقال: بئست اللات والعزى.
فخشى عليه قومه من أن يصاب بسوء لزعمهم فى الأصنام. فقالوا: مشفقين. مه يا ضمام اتق البرص والجذام، إذ يزعمون أن من سبها يصاب بذلك، وثبت ذلك الزعم فى أوهامهم.
فقال لهم: «إنهما ما يضران ولا ينفعان، إن الله تعالى قد بعث رسولا وأنزل عليه كتابا استنقذكم به مما كنتم فيه، وإنى أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وإنى قد جئتكم من عنده، بما أمركم به، وما نهاكم عنه.
استجاب قومه لداعى الإيمان، ويقول ابن إسحاق: ما أمسى فى اليوم فى حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلما، فما سمعنا بوافد قوم أفضل من ضمام بن ثعلبة.
والقصة رويت بهذا السياق فى الصحيحين.
فهى ثابتة، وهى تدل على مدى انتشار الإسلام فى ربوع البلاد العربية ومدى الاستعداد لدعوة التوحيد، ولدين الفطرة، فما كانت الوثنية مع معرفتهم بالله إلا غشاوة أزالتها الحقيقة النيرة الناصعة، فكانوا مسلمين موحدين.
(3/1009)
وفد تجيب
676- قلنا إن البلاد العربية قد دخلها الإسلام عندما أعلنت للجميع حقائقه، وعرفوا خصائصه، وزالت غشاوة الوثنية عن نفوسهم، إذ العرب فى جاهليتهم كانوا أقرب إلى التوحيد من غيرهم لأنهم يعرفون الله تعالى وفيهم بقية ملة أبيهم إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
كان وفد تجيب خير وفد جاء إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، كما ذكر ذلك عليه الصلاة والسلام، فقد جاء مسلما منفذا لأوامر الإسلام، مجتنبا نواهيه.
جاء بالصدقات، بما فضل من فقرائهم، ولقد قال فيهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «إن الهدى بيد الله فمن أراد الله به خيرا شرح صدره للإسلام» ، وقال أبو بكر صديق هذه الأمة. يا رسول الله، ما وفد من العرب بمثل ما وفد به هذا الحى من تجيب.
أخذوا يسألون النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عن القرآن الكريم وعن السنن، ويسألونه عن أحكام تفصيلية فكتب لهم بها.
ولم يطيلوا الإقامة، فقيل لهم: ما يعجلكم؟ قالوا: نرجع إلى من وراءنا فنخبرهم برؤيتنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وكلامنا إياه. وما رد به علينا.
ولقد أمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يحسن ضيافتهم.
ولما هموا بالسفر ذهبوا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليودعوه فأرسل بلالا ليعطيهم جوائز من مال الرسول صلي الله تعالي عليه وسلم من خمس خمسه من الغنائم، فقد جعله عليه الصلاة والسلام للدعوة، وما كانت هذه الجوائز من قبيل اعطاء المؤلفة قلوبهم، فأولئك قد جاؤا مؤلفين للإسلام من تلقاء أنفسهم، إنما هذه الجوائز أعطيت رمزا لمحبة رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم ومرضاته.
وبعد أن أعطي الجوائز لهم واحدا واحدا، قال الرسول صلي الله تعالي عليه وسلم «ألم يبق منكم أحد؟» قالوا: غلام خلفناه علي ركابنا.
جاء الغلام إلي رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني امرؤ من الرهط الذين أتوك آنفا، فقضيت حوائجهم، فاقض حاجتي يا رسول الله، قال عليه الصلاة والسلام: وما حاجتك؟
قال الغلام: حاجتي ليست كحاجة أصحابي وإن كانوا قد قدموا راغبين في الإسلام، وساقوا ما ساقوا من صدقاتهم، وإنى والله ما أعجلني من بلادي إلا أن تسأل الله عز وجل أن يغفر لي ويرحمني، وأن يجعل
(3/1010)
غناى في قلبي، فأقبل رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم علي الغلام، وقال: «اللهم اغفر له وارحمه واجعل غناه في قلبه» .
ثم أمر له بمثل ما أمر به لرجل من أصحابه.
انطلق الوفد، وكان مؤلفا من ثلاثة عشر رجلا راجعا إلى قومه.
ثم وافوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بمنى سنة عشر، ويظهر أن ذلك كان فى حجة الوداع، بل من المؤكد ذلك، لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يدخل منى بعد عمرة الجعرانة إلا فى حجة الوداع، حيث تمت رسالته، ونزل قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً (المائدة: 3) .
عندما التقى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بوفد تجيب فى منى سألهم عن الغلام القنوع الذى دعا له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يكون غناه فى قلبه، فقالوا: يا رسول الله ما رأينا مثله قط، وما حدثنا بأقنع منه بما رزقه الله تعالى. لو أن الناس اقتسموا الدنيا ما نظر نحوها، ولا التفت إليها، عاش ذلك الغلام إلى أن انتقل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، ورجع من رجع من أهل اليمن، فقام فى قومه، فذكرهم الله والإسلام فلم يرجع منهم أحد.
وفد بنى سعد من قضاعة
677- كان العرب قسمين- أحدهما- دخل فى الدين راضيا مختارا، وهذا هو البناء الأول للجماعة الإسلامية، ومن دخلوا فى دين الله تعالى من البلاد العربية قاصيها ودانيها، وقسم رأى محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم قد أخضع المعاندين والجاحدين لأن يستمعوا ومن وراءهم لدين الحق.
فما كان لغير القسمين إلا أن يختار مطمئنا راضيا إلا أن يتقدم إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم طالبا منه المعرفة. وهذا ما رواه الواقدى بسند عن كبير وفد بنى سعد من قضاعة، فقد قال:
«قدمت على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وافدا فى نفر من قومي، وقد أوطأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم البلاد وأداخ العرب، والناس صنفان. إما داخل فى الإسلام راغب فيه، وإما خائف من السيف، فنزلنا ناحية من المدينة، ثم خرجنا نؤم المسجد حتى انتهينا إلى بابه» .
ونقف هنا وقفة قصيرة عند كلمة كبير هذا الوفد، وهى كلمة العرب، فإننا نرى أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما أداخ العرب ولكن أداخ الجاحدين المعاندين الذين رفعوا عليه السلاح وآذوه، فهم
(3/1011)
الذين أداخهم، لتذهب الفتنة، ويكون الدين لله تعالى، وقد يكون من العرب الذين ينتظرون من دخل فى الإسلام بعد أن زالت المحاجزات بانتصار النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ومن الأعراب من دخل فى دين القوى، وهؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا، قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ (الحجرات: 14) .
دخل الوفد مسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فوجدوه يصلى على جنازة، فقاموا فى ناحية من المسجد، ولم يشتركوا فى صلاة الجنازة.
التقوا برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فسألهم: أمسلمون أنتم، قالوا: نعم، قال فهلا صليتم على أخيكم، فقالوا يا رسول الله ظننا أن ذلك لا يجوز لنا حتى نبايعك فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، أينما أسلمتم فأنتم مسلمون، يشير بذلك إلى أن الدخول فى الإسلام لا يحتاج إلى مبايعة، وأن الإسلام قد تم، وأنتم فى مكانكم شهدتم أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله.
بايعوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على الإسلام، على أن يقوموا بحقه، فيطيعوا أوامره ويجتنبوا نواهيه، ثم انصرفوا إلى رحالهم وقد خلفوا عليها أصغرهم. وقد طلبهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليتقدم هذا الذى تركوه على رحلهم، فبايعه على الإسلام كما بايعهم، وقال أصغر القوم خادمهم، وكأنه أقره وأقرهم على خدمته لهم، وقيامه على رحلهم، ولقد كان ذلك الصغير أقرأهم للقرآن الكريم، فكان يؤمهم، وذلك لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم دعا له بالبركة، ولما اعتزموا الانصراف أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لهم بجوائز، فأعطى كل رجل أواقى من فضة، وإن ذلك بلا ريب من خمس الخمس المخصص للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم وآله، فكان ينفقه فى سبيل الدعوة الإسلامية.
وفد فزارة
678- جاء فى كتاب الاكتفاء أنه قدم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد رجوعه من تبوك وفد بنى فزارة وهو مؤلف من بضعة عشر رجلا منهم الحسن بن قيس ابن أخى عيينة ابن حصن وهو أصغرهم؛ جاؤا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مقرين بالإسلام، وكانوا فى شدة فكانوا على ركاب عجاف، سألهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن بلادهم، فشكوا إليه حالهم. وقالوا: أسنتت (أى أصابتنا شدة) بلادنا، وهلكت مواشينا، وأجدب جنابنا؛ وغرث (جاع) عيالنا؛ فادع لنا ربك يغيثنا، واشفع لنا إلى ربك، وليشفع لنا ربك إليك، فرأى فيهم صلى الله تعالى عليه
(3/1012)
وسلم جهلا بربهم فقال هاديا مرشدا لمن خاطبه بهذا: ويلك هذا إنما شفعت إلى ربى عز وجل؛ فمن الذى ربنا يشفع إليه؛ لا إله إلا هو العظيم، وسع كرسيه السموات والأرض، فهى تئط من عظمته وجلاله، كما يئط الرحل من الحديد.
رق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لحالهم، ودعا ربه مستسقيا، وصعد المنبر، ورفع يديه بالدعاء، وكان لا يرفع يديه فى الدعاء إلا فى الاستسقاء.
ومما جاء فى دعائه عليه الصلاة والسلام: «اللهم اسق بلادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحى بلادك الميتة، اللهم أغثنا مغيثا مريحا مريعا واسعا عاجلا غير آجل، نافعا غير ضار، اللهم سقيا رحمة، لا سقيا عذاب، ولا هدم، ولا غرق، ولا حرق، اللهم اسقنا الغيث وانصرنا على الأعداء» ، بهذا الدعاء الضارع إلى الله من أحب خلق الله تعالى إليه أدرت السماء غيثا لا عيث فيه، ونال بنى فزارة ما أزال شدتهم.
وفد بهراء
679- قدم وفد بهراء من اليمن، كما ذكر الواقدى، وكانوا ثلاثة عشر رجلا فأقبلوا يقودون رواحلهم حتى انتهوا إلى باب المقداد بن الأسود وكان قد أعد طعاما لأولاده جفنة حيس (ثريد) فقدمه لهم وبارك الله تعالى فيه، فأكل منه الوفد، وبقى لأولاد المقداد ما كفاهم، وكأنه لم ينقص منه شيء، وقد بقى بعد أكل آل المقداد مقدار أرسلوه إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى قصعة صغيرة، وكان فى بيت أم سلمة، فأكل منه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم رد ما بقى، فأكل منه الوفد، وهكذا استمر الوفد يأكل منه مدة إقامته ببركة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
وكانت هذه أمرا خارقا للعادة، ثبت إسلامهم، وقد جاؤا مسلمين، وبايعهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على الإسلام، وجعلوا يقولون: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
وتعلموا الفرائض، واستحافظوا بعض القرآن الكريم، وأقاموا أياما، ثم ودعوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد أجازهم، كشأن كل وفد يجيء إليه، وذلك من خمس الخمس الذى أفاء الله تعالى به عليه.
ونرى أن هذه الوفود جاءت إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن وصلتهم الدعوة وأسلموا، فجاؤا ليستوثقو الإسلامهم، ولينالوا بركة السماء.
(3/1013)
قدوم وفد عذرة
680- فى صفر سنة تسع قدم اثنا عشر رجلا هم وفد قبيلة عذرة، ولهم بقصى جد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم صلة، لأنه كان أخاهم من أمه.
ولذلك لما سأل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: من القوم؟ قال متكلمهم من لا تنكره، نحن بنو عذرة إخوة قصى لأمه، نحن الذين عضدوا قصيا، وأزاحوا من بطن مكة المكرمة خزاعة وبنى بكر، ولنا قرابات وأرحام. قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أهلا بكم، ورحبا ما أعرفنى بكم، فأسلموا
وقد بشرهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ونهاهم عن بعض أوهام الجاهلية، بشرهم بفتح الشام، وفرار هرقل حيث امتنع فى ممتنع من بلاده، وقد حدث ذلك فقد خلصت الشام من قبضة هرقل بعد واقعة اليرموك التى قال فيها وقد علا نشزا من الأرض: سلام عليك يا سوريا، سلام لا لقاء بعده، ونهاهم عن سؤال الكهنة، فان الله وحده هو الذى اختص بعلم الغيب، ونهاهم عن الذبائح التى كانوا يذبحونها تقربا لله فى زعمهم، وأخبرهم أنه ليس عليهم إلا الأضحية قربانا لله، وما عداها طعام يطعمونه.
وفد بلى
681- قدم هذا الوفد فى ربيع الأول من سنة تسع، فأنزلهم رويفع بن ثابت البلوى عنده، ولم يذكر عدد هذا الوفد، ولكن يظهر أنه لم يكن عددا كبيرا، يضيق بضيافته رويفع بن ثابت، وقد قدم بهم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال له: هؤلاء قومى، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مرحبا بك وبقومك وقد أسلموا، فقال لهم الرسول عليه الصلاة والسلام: «الحمد لله الذى هداكم للإسلام، فكل من مات على غير الإسلام فهو فى النار» .
وكان فى الوفد رجل مضياف، هو شيخه، وهو أبو الضبيب فسأل الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم عن الضيافة فقال: يا رسول الله إنى رجل لى رغبة فى الضيافة فهل لى فى ذلك أجر، قال عليه الصلاة والسلام: نعم، وكل معروف صنعته إلى غنى أو فقير فهو صدقة، قال: يا رسول الله ما وقت الضيافة. قال: ثلاثة أيام، فما كان بعد ذلك فهو صدقة، ولا يصح للضيف أن يقيم عندك فيحرجك، ثم سأل فى أمر آخر، وهو ما يضل من الشاء أو البعير، فقال: يا رسول الله، رأيت الضالة من الغنم أجدها فى الفلاة من الأرض؟ قال: هى لك أو لأخيك أو للذئب، قال فالبعير، قال: مالك وله، دعه حتى يجده صاحبه.
(3/1014)
وقد انتقلوا بعد ذلك إلى منزل من استضافهم وهو رويفع بن ثابت البلوي، فكان الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم يأتى هذا المنزل يحمل تمرا، ويقول: «استعن بهذا التمر» وكانوا يأكلون منه ومن غيره.
وإن كلام النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مع هذا الوفد اشتمل على أدب كريم من آداب الاسلام، وعلى حكم شرعى، يتعلق باللقطة، ومن الحق علينا أن نشير إلى أمرين.
لقد قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فيما يروى عنه «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» وإن من مكارم الأخلاق الضيافة، وإنها فى ذاتها ترابط إنسانى، وتعاون ومحبة بين الناس، وهى ضرورة اجتماعية فى البوادى وما يشبه البوادى، فالرجل يسير فى البادية قد ينبتّ به الطريق، فلا يجد مأوى يأوى إليه، إلا أن تكون ضيافة كريم، ولذلك تكون فضيلة الضيافة ضرورة إنسانية فى البادية، ثم تخف ضرورتها كلما ابتعدت عن البادية، فهى فى القرى شبه ضرورة، وهى فى الحواضر حيث تتوافر الحاجات من طعام ومنام تكون معروفا، أو مروءة.
وهى تأخذ الحكم الشرعى على حسب هذه الأحوال، فهى واجبة إذا كان الإنسان لا يجد له مأوى، وقريب من الواجب إذا كان لا يجد المأوى إلا بعسر، وهى معروف يوجد ألفة ومحبة إذا كان يجد.
هذا ما يكون شرعا بالنسبة للمضيف، أما الضيف فإن عليه ألا يطيل الإقامة، بحيث يحرج رب البيت بل إنه لا يقبل المبيت إذا كان فيه حرج لرب البيت، ولم تكن ثمة ضرورة ملجئة، ولا حاجة تدفعه.
وفى حديث اتفقت عليه الصحاح أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ويعطه جائزة، قالوا وما جائزة يا رسول الله؟ قال يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك فهو صدقة، ولا يحل له أن يثوى عنده حتى يحرجه» .
وفى خبر هذا الوفد أنه سأله صلى الله تعالى عليه وسلم أحدهم عن الضالة من الغنم، وعن البعير، فقال عن البعير مالك وله، دعه حتى يجده صاحبه، فلا يأخذه، لأنه إذا غاب عن صاحبه طلبه، وبحث عنه، ولأن البعير يقوم بذاته أمدا طويلا، ولأنه إن أخذه غيبة عن صاحبه، فلا يهتدى إليه، إذ يطلبه.
وعن الشاة الضالة التى يجدها الرجل فى الصحراء، حيث لا مرعى وحيث لا مأوي، قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: هى لك أو لأخيك أو للذئب، وهذا النص يفيد أنها حلال له، وهو نص فيه حكمته. ذلك أن الشاة وجدت فى الصحراء، حيث يصعب التعريف، وفرض أن لها صاحبها يمكن أن يعثر عليها بالتعريف بعيد، لأنه لا يوجد من يعرف بها، إذ هى فلاة، وفرض أنها تخلفت من قافلة مضت هو الأقرب.
(3/1015)
وفى هذه الحال يكون إن تركها، ربما يجدها غيره، فيذبحها ويأكلها، وذلك يكون احتمالا، وربما لا يجدها أحد فتموت جوعا، أو يلتهمها الذئب. وإنه بعد هذا الترديد يكون الأولى أن يذبحها ويأكلها. لاحتمال الضياع ولا تجوز إضاعة المال.
وهذا الفرض يفرض أن الشاة فى فلاة غير ممكن معرفة صاحبها، فإن كانت قريبة من خباء أو من نبع ماء، يجيء إليه الناس، ويمكن تعرفهم، فإنه فى هذه الحال يكون التعريف واجبا.
وفى الحق إن الواجد للشاة الضالة فى الصحراء تكون حاله مترددة بين أمرين: أولهما: أن يكون كالملتقط الذى يذهب فى الصحراء يبحث عن بعض النباتات المتخلفة فيها، ويجرى التقاطها، لأنه لا مالك لها، وبين أن تكون الشاة لقطة وجدها، ولها صاحب غير معروف، ولا يمكن معرفته فالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم حكم بأنها تأخذ حكم الالتقاط، لأنها إن تركت أكلها الذئب.
والفقهاء يفرضون أنه قد يعلم مالكها من بعد، فقرروا أنه إن وجد أعطاه قيمتها.
وفد ذى مرة
682- كان العرب يجيئون إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مسلمين، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يتعرفهم، ويتعرف أحوالهم، وقد جاء وفد ذى مرة وهو مؤلف من ثلاثة عشر رجلا على رأسهم الحارث بن عوف، وقد ذكروا أنهم ينتمون إلى نسب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فقالوا:
يا رسول الله إنا قومك وعشيرتك نحن بنو لؤى بن غالب، فتبسم رسول الله صلى الله عليه تعالى عليه وسلم. وسأله عن أهله. وفى أى مكان تركهم، ثم سأله عن أحوال البلاد لأنهم بإسلامهم صاروا رعيته.
فقال الحارث إنهم (لمسنتون) (أى فى شدة وقل) ما فى المال مخ، فادع الله لنا، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. «اللهم اسقهم الغيث» .
أقاموا أياما، ولما أرادوا الانصراف إلى بلادهم جاؤا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مودعين له، فأمر بلالا فأجازهم، فأعطى كل واحد عشر أواق من فضة. وجعل للحارث اثنتى عشرة ورجعوا إلى بلادهم فوجدوها مطيرة، فسألوا متى أمطرت، فتبين أن ذلك المطر الذى أغاثهم أنزله الله تعالى وقت دعاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
(3/1016)
وفد خولان
683- هذا وفد خولان، وفد قوم آمنوا بالله ورسوله، وقد قدموا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وعددهم نحو عشرة، قدموا فى شهر شعبان سنة عشر.
وقال قائلهم لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «يا رسول الله، نحن على من وراءنا من قومنا، ونحن مؤمنون بالله عز وجل، ومصدقون برسوله، وقد ضربنا إليك آباط الإبل، وقد ركبنا حزون الأرض وسهولها، والمنة لله ورسوله علينا، وقد جئنا زائرين.
فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أما ما ذكرتم من مسيرتكم إلى، فإن لكم بكل خطوة خطاها بعير أحدكم حسنة، وأما قولكم زائرين، فانه من زارنى بالمدينة كان بجوارى يوم القيامة» ،
ولقد كان لهم صنم كانوا يسمونه عم أنس، وكانوا مفتونين به، يسندون إليه بأوهامهم خوارق للعادات، أو نعما يجريها الله تعالي، فيحسبونها له وذلك لفرط ضلالهم، وفتنتهم به. فلما أعلنوا إيمانهم وتبين للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم صدق إيمانهم، ويقينهم الحق سألهم عما صنعوا فى صنمهم، ومن يؤمن منهم به فهل لهم من بقية.
قال لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما فعل عم أنس.
قالوا: أبشر بدلنا الله تعالى به ما جئت به، وقد بقيت منا بقايا من شيخ كبير وعجوز كبيرة متمسكون به.. ولو قدمنا عليه لهدمناه إن شاء الله تعالى. فقد كنا منه فى غرور وفتنة.
يتقصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبارهم، ويتعرف ما كانوا عليه، قبل هذا اليقين.
سألهم رسول الله: ما أعظم ما رأيتم من فتنته.
قال متكلمهم: لقد أسنتنا (أى أصابتنا سنة شديدة) ، حتى أكلنا الرمة فجمعنا ما قدر عليه، وابتعنا مائة ثور ونحرناها- لعم أنس قربانا- فى غداة واحدة، وتركناها للسباع، ونحن أحوج إليها من السباع فجاءنا الغيث من ساعتنا، ولقد رأينا العشب يوارى الرجال ويقول قائلنا: أنعم علينا عم أنس.
وإن هذه المصادفة الغريبة قد فتنتهم، فاعتقدوا أن الصنم هو الذى أغاثهم، وهو لا ينفع ولا يضر، وكثيرا ما تجيء الأمور مصادفة فيحسبها الواهمون أثرا للالتجاء لحجر أو لشخص، أو لكاهن، أو لتعويذة
(3/1017)
ساحر، وإن ذلك فتنة، ولعل هذه المصادفات كانت من أسباب عبادة الأصنام التى لا تملك من الأمر شيئا وكان ما ينتجونه يجعلون نصفه لهذا الصنم قربانا، ونصفه لله، وما يجعلونه لله، يعطون لصنمهم منه شيئا، ولا يعطون مما لصنمهم شيئا لله تعالى، وذلك كله فيما يحسبونه للقربات.
وقد ذكر متكلم الوفد ذلك لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من أنهم كانوا يقسمون لصنمهم هذا من أنعامهم وحروثهم، وأنهم كانوا يجعلون ذلك جزآ له وجزآ لله فى زعمهم، قالوا كنا نزرع الزرع، فنجعل له وسطه (أى أحسنه) فنسميه له، ونسمى زرعا آخر حجرا لله تعالى، فإذا مالت الريح، فالذى سميناها لله جعلناه لعم أنس، ولم نجعله لله تعالى، فذكر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله أنزل فى كتابه عملهم مستنكرا، فقال تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً، فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا، فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ، وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ (الأنعام: 136) .
وهكذا كانت الأوهام مسيطرة عليهم تلك السيطرة، وقد اقتلعتها عقيدة الوحدانية اقتلاعا من نفوسهم، وكانت دعوة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وما اقترن بها ظاهرة لهذه الأوهام مبينة ما فيها من زيف وباطل، وتبين الرشد من الغى والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم.
وقد أوصى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بوصايا كريمة، أوصاهم بالوفاء بالعهد، وأداء الأمانة وحسن الجوار لمن جاوروا وألا يظلموا أحدا وقال عليه الصلاة والسلام: «إن الظلم ظلمات يوم القيامة» .
وسألوه عن فرائض الدين وأحكامه فعلمهم إياها. ثم غادروه بعد أيام، وأجازهم العطايا، ولما رجعوا إلى قومهم لم يحلوا عقدة رحالهم حتى هدموا عم أنس صنمهم.
وفد محارب
684- أخذ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل فى السنتين الآخريين من مقامه بمكة المكرمة قبل الهجرة وذلك فى موسم الحج، بعد أن علم أنه لن يؤمن من قريش إلا من قد آمن، فكان أشد القبائل غلظة فى الرد وعنفا فى اللقاء قبيلة محارب، ردوا دعوة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى التوحيد ردا فظا غليظا منكرا. وذلك لغلظ قلوبهم، ولذلك كانوا من آخر القبائل إيمانا، فلم يجيء وفدهم إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مؤمنا إلا فى السنة العاشرة عام حجة الوداع.
(3/1018)
ولقد كان عدد الوفد عشرة جاؤا نائبين عمن وراءهم وقد أعلنوا إسلامهم، وإسلام قومهم.
ولقد نزلوا فى ضيافة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فكان بلال يأتيهم بالغداء والعشاء، حتى التقوا برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم معلنين إسلامهم وإسلام قومهم.
وقد جاء معهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوما من الظهر إلى العصر. وكان فيهم رجل أخذ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالنظر فيه، وأدامه فيه.
فقال المحاربى: كأنك يا رسول الله توهمتنى.
فقال النبى عليه الصلاة والسلام: لقد رأيتك. وكأنه آلى أنه كان منه شيء.
قال المحاربى: إى والله لقد رأيتنى وكلمتنى وكلمتك بأقبح الكلام ورددتك بأقبح الرد، بعكاظ وأنت تطوف على القبائل.
فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: نعم.
قال المحاربى: ما كان فى أصحابى أشد عليك يومئذ ولا أبعد عن الإسلام منى. فأحمد الله الذى أبقانى حتى صدقت بك، ولقد مات أولئك النفر الذين كانوا معى على دينهم.
فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: إن هذه القلوب بيد الله عز وجل.
قال المحاربى: يا رسول الله استغفر لى من مراجعتى إياك.
قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن الإسلام يجب ما كان قبله من كفر.
ثم انصرفوا من بعد ذلك عائدين إلى أهلهم.
وقد نرى فى هذا الوفد ولقاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ظاهرتين واضحتين:
إحداهما: أن الله تعالى قد يخرج من القلوب القاسية قلوبا مذعنة طيبة.
الثانية: ضلال العقول وسيرها فى الشر، فإذا قذف الله تعالى فيها بنور الحق اهتدت وآمنت وسبحان مقلب القلوب.
وإنك ترى سماحة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ورفقه، وإتيانه القلوب من حيث إقبالها.
(3/1019)
وفد صداء
685- جاء هذا الوفد مكونا من نحو 100 من أهل صداء باليمن.
ويرجع أمر هذا الوفد إلى سنة ثمان من الهجرة عندما اعتمر النبي صلي الله تعالي عليه وسلم عمرة الجعرانة، فإنه أرسل إلي صداء باليمن جيشاً مكونا من نحو أربعمائة مقاتل بقيادة قيس بن سعد بن عبادة.
فقدم علي رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم رجل منهم قد علم بأمر الجيش ويظهر أنه كان يعلم من قومه أنهم يميلون إلى الإسلام خصوصا بعد أن فتح الله تعالي على نبيه الكريم صلى الله تعالي عليه وسلم مكة المكرمة.
فجاء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال: يا رسول الله جئتك وافدا علي من ورائى فاردد الجيش، وأنا آتى لك بقومى.
فرد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الجيش. وقد ذهب الرجل الصدائي واسمه زياد بن الحارث، كما ذكر الواقدى فى تاريخه إلي قومه فأتي منهم بوفد عدده خمسة عشر رجلا، وقد قال سعد ابن عبادة. دعهم يا رسول الله ينزلوا علي فنزلوا عنده، فحياهم وأكرمهم، وكساهم، ثم ذهب بهم إلي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فبايعوه على الإسلام، وقالوا: نحن لك علي من وراءنا من قومنا.
رجعوا إلي قومهم ففشا فيهم الإسلام، وقد توافرت أسباب فشوه، فهو حق في ذاته، ولا غرابة فى أن يفشو دين الفطرة، بين قوم أرادوا الحق إذ لم يعاندوا، أو يفرضوا خصومة، ولأنه قد تم فتح مكة المكرمة التي كانت تناوئ النبي صلي الله تعالى عليه وسلم، وتبالغ فى مناوأته، ولأن السلطان في البلاد العربية صار للإسلام وما لعربي أن ينأي بجانبه عن دين ساد البلاد العربية إلا لأنه رأي أن في غيره ما هو خير منه، والإسلام خير الأديان، وهو الحق الباقي.
فشا الإسلام في صداء، ويظهر أنه كانت لهم صلة بالخزرج بدليل ضيافة سعد بن عبادة.
ولذلك جاء من بعد ذلك مائة رجل منهم وافدين علي الرسول صلي الله تعالى عليه وسلم فى حجة الوداع، ويظهر أنه الوفد الذي جاء في النهاية مسلما.
وعلى ذلك نقول، إنه جاء إلي النبي صلي الله تعالى عليه وسلم من صداء ثلاثة وفود.
أولها: زياد بن الحارث الذى جاء إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وطلب إليه أن يرد الجيش، وقد قال له رسول الله صلي الله تعالى عليه وسلم. يا أخا صداء إنك مطاع في قومك. فقال له:
بلي. منّ من الله عز وجل ومن رسوله.
(3/1020)
وثانيها: الوفد الذى حضر مع زياد وعدده خمسة عشر رجلا، قد استضافهم سعد بن عبادة، وأولئك بايعوا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على الإسلام، وأن ينشروه فى قومهم.
وثالثها: وفد الجماعة الذين جاؤا إلي النبي صلي الله تعالي عليه وسلم والتقوا به فى حجة الوداع، حيث يودع رسول الله أمته، وقد أودعها أمانته، وحملها رسالته.
ولقد صحب زياد بن الحارث الصدائى رسول الله صلي الله عليه وسلم فى بعض غدواته وروحاته، ورأي من الخوارق الحسية والمادية التى جرت على يديه ما زاده إيمانا.
ويروى أن الرسول صلي الله تعالي عليه وسلم سأل زيادا في سيره في الصحراء: أمعك ماء يا أخا صداء؟ قال معي شئ في إداوة، قال عليه الصلاة والسلام هاته. فجاء به. ويقول زياد: صببت ما في الإداوة. فجعل أصحابه يتلاحقون ثم وضع كفه علي الإناء، فرأيت بين كل أصبعين من أصابعه عينا تفور، ثم توضأ رسول الله صلى الله تعالي عليه وسلم، وأذن للصلاة، أذن لها زياد وأقامها؛ وأراد بلال أن يقيمها، فقال النبى صلي الله تعالي عليه وسلم: من أذن للصلاة يقيمها.
ولقد سأل زياد بن الحارث أن يوليه عليه الصلاة والسلام إمرة قومه فولاه، لأنه وجده كفئا لذلك إذ كان مطاعا في قومه، كما وصفه النبي صلي الله تعالي عليه وسلم، ولأنه كان داعية الإسلام فيهم فكان من الخير للإسلام ولهم أن يتولي هو ولايتهم، ولأنه لم يرد الولاية لذاتها، ليكون له سيطرة وسلطان، بل أراد الإمرة علي قومه لغاية رأى النبي صلى الله تعالي عليه وسلم تحققها، وذلك جائز، ولا يعارض قول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم «وإنا لن نولي علي عملنا من أراده» ، لأن نص الحديث يمنع الولاية ممن أرادها للسلطان والسيطرة لا للعمل، وإقامة الحق.
ولكن زيادا لم يستبق الولاية، بل استقالها وأعطي النبي صلي الله تعالي عليه وسلم كتابي الإمارة، وولاية الصدقات.
وذلك لأن سائلا شكا إلي النبى صلي الله تعالي عليه وسلم أن واليه طغي عليهم، ويقول إن عاملنا أخذنا بذحول الجاهلية أو بثاراتها، ويفهم من القصة أنه عزله، وقال: لا خير في الإمارة لرجل مسلم. سأل رجل النبي صلي الله تعالي عليه وسلم أن يعطيه من الصدقة فقال عليه الصلاة والسلام «إن الله لم يكلها إلي ملك مقرب، ولا لنبي مرسل حتي جزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت جزآ منها أعطيتكها، وإن كنت غنيا، فإنما هي صداع في الرأس وداء في القلب» .
فهم زياد بن الحارث من هذا أن الولاية لا تأتي بخير للمسلم، بل هى ابتلاء له، فاستقال منهما، وقال للنبي صلي الله تعالي عليه وسلم: «يا رسول الله هذان كتابان (كتاب الإمارة، وولاية الصدقات)
(3/1021)
فاقبلهما، فسأله الرسول صلي الله تعالي عليه وسلم عن السبب، فقال: إني سمعتك تقول: «لا خير فى الإمارة لرجل مسلم» ، وأنا مسلم، وسمعتك تقول من سأل الصدقة وهو غني عنها، فإنما هي صداع في الرأس، وداء فى القلب، وأنا غنى.
أقاله الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكن سأله أن يدله علي رجل منهم فدله عليه.
وهكذا نري أن ذلك الوفد كسب من النبي صلي الله تعالي عليه وسلم إيمانا وعلما والله تعالى الهادي.
قدوم وفد سلامان
686- هذا وقد جاء من الصحراء وفد سلامان يعلن إسلامه، ويشكو حاله، وكان مؤلفا من سبعة رجال فيهم حبيب بن عمرو، وقد أسلموا، وأعلنوا إسلامهم.
وقد أخذوا يسألون النبي صلى الله تعالي عليه وسلم عن الإسلام، وعن حقائقه. وكان من أسئلتهم: ما أفضل الأعمال؟ فقال صلي الله تعالي عليه وسلم- الصلاة فى وقتها- وكانت أفضل الأعمال لأنها تهذب النفس باستمرار إذا أديت فى أوقاتها، فهي تزيل صدأ القلب كلما اشتد في الظهيرة، وإذا أزالته وابتدأ يتراكم في الأصيل كانت صلاة العصر، فإذا تراكم جاءت صلاة العشي حتي ينام طاهرا مطهرا، فإذا جاء الصباح استقبل اليوم في طهارة ونقاء، وعامل الناس بالطهر.
وقد صلي مع النبى صلي الله تعالى عليه وسلم صلاة الظهر والعصر، فكانت صلاة العصر أخف من صلاة الظهر، وقد استأنسوا بالنبي صلي الله تعالي عليه وسلم، فشكوا إليه جدب بلادهم، فقال عليه الصلاة والسلام: «اللهم اسقهم الغيث في دارهم» ، فقال عمرو، لاستئناسه بالرسول صلي الله تعالي عليه وسلم ورفقه: «يا رسول الله ارفع يديك، فإنه أكثر وأطيب» فتبسم عليه الصلاة والسلام، ورفع يديه، حتي بدا بياض إبطيه ...
أقاموا ثلاثة فى ضيافة النبي صلي الله تعالى عليه وسلم، ثم عادوا إلى ديارهم، وقد أعطاهم عليه الصلاة والسلام جوائز، كانت جائزة كل واحد خمس أواقي فضة.
واعتذر بلال عن قلة ما أعطي، وقال: ليس عندنا اليوم مال. فقالوا راضين قانعين: ما أكثر هذا وأطيبه.
(3/1022)
لما عادوا إلى بلادهم وجدوها قد أمطرت، وتحروا فرأوا أن ذلك المطر جاءهم في الوقت الذي دعا النبى صلي الله تعالى عليه وسلم.
وكان مجئ ذلك الوفد في صفر من السنة العاشرة.
وفد غامد
687- جاء هذا الوفد مسلما فى السنة العاشرة، وعددهم عشرة وعندما أقبلوا نزلوا ببقيع الغرقد وانفصلوا منه لمقابلة رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم، وتركوا أحدثهم على ركابهم ليحرسها، وقد قابلوا الرسول صلي الله تعالى عليه وسلم، وعلمهم شرائع الإسلام، وكتب لهم كتابا فيه هذه الشرائع، أي موجزها، كما جاء في خطبة الوداع، فليس تفصيلها. ولكن فيه جملتها خصوصا ما يكون هدما لأمر جاهلى ألفوه، وكانوا له متبعين.
وحدث أن حارسهم الذي هو أحدثهم قد نام عن حراسته، فسرقت عيبة فيها ثياب أحدهم، وفر سارقها، وعندما التقوا بالنبي صلى الله تعالي عليه وسلم أخبرهم بسرقتها، قال لهم: من خلفتم في رحالكم؟ قالوا أحدثنا سنا، قال قد نام عن متاعكم حتي أتي آت فأخذ عيبة أحدكم فقال رجل منهم:
يا رسول الله، ما لأحد من القوم عيبة غيرى. فقال الرسول صلي الله تعالي عليه وسلم، فقد أخذت وردت إلي موضعها.
خرج القوم وعادوا سراعا إلي متاعهم، فوجدوا صاحبهم فسألوه عما أخبرهم به رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم. قال فزعت من نومي ففقدت العيبة فقمت فى طلبها، فإذا رجل قد كان قاعدا، فلما رآني صار يعدو، فعدوت وراءه وانتهيت إلى حيث انتهي، فإذا أثر حفر وإذا هو يخرج العيبة فاستخرجها، فقالوا نشهد أنه رسول الله.
عادوا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وأخبروه أن الأمر كما أخبر عليه الصلاة والسلام، وجاء الغلام وأسلم وعهد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، إلي أبى بن كعب فعلمهم بعض ما تيسر من القرآن الكريم، بعد أن كتب لهم كتابا بجملة الإسلام وحقائقه.
وقد أجازهم صلوات الله وسلامه عليه، كما كان يجيز غيرهم.
(3/1023)
وفد الأزد
688- ذكر خبر الوفد أبو نعيم فى كتابه معرفة الصحابة بسنده وأبو الحافظ بسنده، وقالوا إنه قدم هذا الوفد على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مؤمنا، فدخلوا عليه، فأعجب رسول الله صلى الله تعالي عليه وسلم سمتهم وزيهم، فقال: من أنتم؟ قالوا قوم مؤمنون فتبسم عليه الصلاة والسلام، فقال: إن لكل قول حقيقة فما حقيقة قولكم وإيمانكم؟.
قالوا خمس عشرة خصلة خمس منها جاء بها رسلك بأن نؤمن بها، وخمس أمرتنا أن نعمل بها، وخمس تخلقنا بها في الجاهلية.
قال عليه الصلاة والسلام: فما الخمس التي أمرتكم بها رسلي أن تؤمنوا بها؟ قالوا أمرتنا أن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأن نؤمن بالقدر خيره وشره، قال عليه الصلاة والسلام ما الخمس التى أمرتكم أن تعملوا بها؟ قالوا قد أمرتنا؟ أن نقول. لا إله إلا الله، ونقيم الصلاة، ونؤتي الزكاة، ونصوم رمضان، ونحج البيت الحرام لمن استطاع إليه سبيلا، فقال عليه الصلاة والسلام وما الخمس التي تخلقتم بها في الجاهلية؟ فقالوا، الشكر عند الرخاء، والصبر عند البلاء، والرضا بالقضاء، والصدق في مواطن اللقاء، وترك الشماتة بالأعداء.
فقال رسول الله صلي الله تعالى عليه وسلم: «حكماء علماء، كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء» وإني أزيدكم فتتم لكم عشرون خصلة إن كنتم كما تقولون، لا تجمعوا ما لا تأكلون، ولا تبنوا ما لا تسكنون، ولا تنافسوا فى شئ أنتم عنه غدا تزولون، واتقوا الله الذي إليه ترجعون، وعليه تعرضون، وارغبوا فيما عليه تقدمون وفيه تخالدون» .
هذا وفد مؤمن حكيم، قد انصرفوا بعد أن أخذوا وصايا النبي صلي الله تعالي عليه وسلم، وعملوا بها، وتعهدوا بالأخذ بأحكام الإسلام، وبما به أمر، وما عنه نهي وأقاموا الخلق الكريم، والمعروف الذي تؤيده الأخلاق.
قدوم وائل بن حجر
689- قال ابن عبد البر: إن وائل بن ربيعة كان أحد أقيال حضر موت وقد وفد إلي النبى صلى الله تعالي عليه وسلم عند قدومه، وبشر قبل مقدمه فقد قال عليه الصلاة والسلام قبل مقدمه. يأتيكم بقية أبناء الملوك، فلما دخل عليه رحب به، وأدناه من نفسه، وقرب مجلسه وبسط له رداءه، وقد جاء إليه
(3/1024)
مسلما معلنا إسلام من وراءه من أتباعه فى اليمن، ورأي فيه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم خيرا، فدعا له بخير، وقال فى دعائه: «اللهم بارك في وائل وولده، وولد ولده» .
وعلي طريقة النبي صلي الله تعالي عليه وسلم جعله واليا على الأقيال من حضر موت، وكتب كتبا بهذه الولاية، وكما يقول الحافظ ابن كثير، منها كتاب إلي المهاجر بن أمية، وكتاب إلي الأقيال والعباهلة.
ولقد أقطعه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أرضا من أرض الجنوب وهو إقطاع منفعة، لا إقطاع ملك، علي مال يقدمه لبيت المال.
وذلك لأن هذه أراض نائية عن أراضى المدينة المنورة، فلا يمكن أن يشرف عليها الإمام بالمدينة المنورة بنفسه، فيعطيها من يديرها، علي خرج يقدمه، كأجرة لها، أو يكون من بعضها.
ولما انصرف من حضرة النبي صلي الله تعالى عليه وسلم أرسل معه معاوية بن أبى سفيان، وسارا فى هذه الشقة البعيدة وهو راكب، ومعاوية راجل، فشكا معاوية حر الرمضاء، فقال في شكواه. انتعل ظل الناقة (أي لا ظل لها يستظل بها) ويغني عني ذلك، لو جعلتنى ردفا.
فقال وائل: اسكت، فلست من أرداف الملوك.
ولعل النبي صلي الله تعالى عليه وسلم أرسله مع ذلك القيل العنيف، ليري معاوية إذلال الملوك لمن معهم، فيكون رفيقا عندما يحول الخلافة إلي ملك عضوض، ويسير سير الملوك.
ومن العبر أن وائلا هذا عاش حتي آل الأمر إلي معاوية، وجعله ملكا عضوضا، يعض عليه بالنواجذ، يروى أن وائلا قدم علي معاوية، وهو علي هذه الحال، فعرفه معاوية وقربه وذكره بالرحلة التي كانت لهما، ثم عرض عليه جائزة سنية، فأبى أن يأخذها، وقال: أعطها لمن هو أحوج إليها مني.
وإن ذلك الرد عندي أعنف من رده عندما طلب أن يردفه، لأن مؤدي هذا الرد، أنك تعطي لتقرب وتدني، وتسكت الألسنة، ولتعالى اسمك بين الناس، والأولى بالعطاء المحتاج، وإن ذلك شأن الذين يبنون حكمهم علي شراء الألسنة، وإدناء ذوي السلطان، وعدم الالتفات إلي بر المحتاجين والضعفاء والمساكين يجعلون عطاياهم اتجارا، وصدقاتهم افتخارا.
(3/1025)
وفد النخع
690- هذا آخر الوفود التي قدمت على النبى صلي الله تعالي عليه وسلم، قدموا عليه فى مائتي رجل وقد نزلوا فى دار الضيافة، وقد جاؤا مقرين بالإسلام، وكانوا قد بايعوا قبل ذلك معاذ بن جبل رضي الله تعالي عنه عندما ذهب إلي اليمن داعيا إلى الإسلام.
وجاؤا إلى النبي صلي الله تعالي عليه وسلم نائبين عن أقوامهم معلنين الطاعة مقرين خاضعين موالين مناصرين غير خارجين عن طاعة، مع بعد الديار.
وحادثوا النبي صلي الله تعالي عليه وسلم وأفضوا إليه بذات نفوسهم، وكان فيهم رجل يقال له زرارة بن عمرو، وكان رجلا مجلو النفس، قويا في دينه قد رأي رؤيا فأراد أن يذكرها للنبى صلى الله تعالي عليه وسلم ليتأول هذه الرؤيا.
قال: رأيت في سفري عجبا، وقص علي النبي صلي الله تعالي عليه وسلم رؤياه، وجاء فيما قص من الرؤيا أن قال: رأيت النعمان بن المنذر عليه قرطان مدملجان، وسكتان، قال عليه الصلاة والسلام «ذلك ملك العرب، رجع إلى أحسن زيه وبهجته» .
ورأيت يا رسول الله: عجوزا شمطاء قد خرجت من الأرض. قال عليه الصلاة والسلام: تلك بقية الدنيا.
ورأيت يا رسول الله نارا خرجت من الأرض فحالت بينى وبين ابن لي يقال له عمرو، وهي تقول لظي لظي، بصير وأعمي، أطعموني أهلكم وأموالكم.
قال عليه الصلاة والسلام: تلك فتنة تكون في آخر الزمان.
قال: يا رسول الله، وما الفتنة؟ قال يقتل إمامهم. ويشتجرون اشتجار أطباق الأرض- وخالف رسول الله صلي الله عليه وسلم بين أصابعه- يحسب المسئ فيها أنه محسن، ويكون دم المؤمن عند المؤمن أحلي من شرب الماء إن مت أنت أدركها ابنك.
قال: ادع لي يا رسول الله ألا أدركها، فدعا له رسول الله صلى الله تعالي عليه وسلم، وأدركها ابنه، وكان ممن اشترك فى خلع ذي النورين عثمان.
هذا ما جاء في كتاب زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم، ولم يذكر له سندا، كما لم يذكر كتابا من كتب الصحاح أخذ عنه ذلك الخبر.
(3/1026)
ولذلك نكل إليه أمر هذه الرواية.
ومهما يكن من صحة ما جاء بالنسبة للرؤيا وتأويلها، فإنه مما لا شك فيه أنه جاء وفد النخع إلي النبي صلي الله تعالي عليه وسلم، وأعلنوا إسلامهم وإسلام من وراءهم، وأنهم قد علموا الإسلام، وأن معاذ بن جبل علمهم أمور دينهم، وحفظهم بعض القرآن الكريم، فجاؤا إليه مؤمنين.
وإن إرسال معاذ بن جبل إليهم معلما للإسلام، ومحفظا للقرآن الكريم، يشير إلى أن النبي صلي الله تعالى عليه وسلم. ما كان يرسل سرايا للحروب فقط، بل كان (خصوصا بعد الحديبية) يرسل سرايا لتعليم الإسلام، ولمجرد الدعوة، ولكنهم كانوا مقاتلين، لا يحملون السيف إلا إذا امتنعوا عن الإسلام والعهد، والله سبحانه وتعالي حامي دينه، وحامي دعوته لمن أرادها.
(3/1027)
المغزى فى هذه الوفود
691- إننا ذكرنا عددا من الوفود، ولكن لم نحصها عددا، فقد كانت أكثر من ذلك، والنبي صلي الله تعالي عليه وسلم قد مكث في المدينة المنورة يستقبل الناس لتعليمهم الإسلام سواء في ذلك من يجيئون زرافات فى وفود عن غيرهم، ومن يجيئون يريدون معرفة الحقائق الإسلامية، والآحاد الذين يجيئون من قبائل مختلفة أفرادا أو غير أفراد.
مكث صلي الله تعالي عليه وسلم في المدينة المنورة لذلك، ويرسل السرايا داعية إلي الإسلام.
ويلاحظ في هذه أمور ثلاثة:
أولها: أن أكثر هذه الوفود كان من جنوب اليمن وحضر موت، وما يدانيها من نجران والقبائل العربية التى لم تشترك في مناوأة النبي صلي الله تعالي عليه وسلم ممالأة لقريش، أو متحزبين معهم، أو يرون مثل رأيهم فى عبادة الأوثان، أو يرونه، ولكن لا يتشددون، فلم تكن فيهم ممانعه نفسية من اتباع الآباء والأجداد الذين يقولون بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا، أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (البقرة) ولا تقف محاجزة من إمرة أو رياسة تحول بينهم وبين الدخول في الإسلام، وخصوصا بعد أن سن النبي صلي الله تعالى عليه وسلم سنة إبقاء الأمير علي إمارته، إن دخل الإسلام مؤمنا وكان عدلا يرضي أهل إمارته حكمه، ولا يشكون منه شيئا، فإن هذه السنة جعلت الرؤساء والأمراء لا يفرضون في الدعوة المحمدية خصما يناوأ، ويحارب، وذلك لأن الذاتية يكون لها دخل فى تحريك النفوس، ولم يكن أمرهم ككفار قريش فى أول الدعوة المحمدية، إذ فرضوا من أول الأمر أن الاستجابة تذهب بزعامتهم ورياستهم، فكانت الذاتية أو الأثرة محركة لخصومتهم.
ثانيها: أن الوفود كانت تجئ إلي النبي صلي الله تعالى عليه وسلم معلنة إسلامها وطالبة تعليم الفرائض وليشاهدوا النبي صلي الله تعالي عليه وسلم، وليقتبسوا من نور الحضرة النبوية فى مجالسه عليه الصلاة والسلام، وإن ساعة في حضرة رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم تغني عن علم كثير بل إنها هادية ملهمة كما أشار إلي ذلك الإمام أبو حنيفة رضي الله تبارك وتعالي عنه.
إنهم إذ يعلنون إسلامهم ويخبرون عمن وراءهم بأنهم ارتضوا الإسلام دينا ومحمدا صلي الله عليه وسلم رسولا، من غير عوجاء ولا لوجاء، وإن كان فيهم من تلكأ أو تردد. فإن كثرة المسلمين فيهم كافية لأن تجعل هؤلاء المترددين يتبعون ولا يخرجون.
(3/1028)
ويلاحظ أن بلاد الجنوب كان للنصرانية واليهودية مكان فيها، وخصوصا النصرانية، وفيهم مجوس، فكان رفق الإسلام بهؤلاء وعقد المعاهدات بينهم على أن يكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما علي المسلمين، مقربا لهم، وكانوا أهل علم بالديانات، ومنهم من أسلم بناء على ما عندهم من الكتب التي تبشر بمحمد صلي الله تعالي عليه وسلم، فيكون إسلامهم شهادة بصدق الدعوة المحمدية، فوق أنها تشتمل فى ثناياها على ما يدل علي كمال صدقها إذ هي التوحيد ومكارم الأخلاق، وحسن المعاملات وتوثيق العلاقات الإنسانية بين الناس أجمعين لا فرق بين عربي وأعجمي، ولا قبيلة وقبيلة.
الأمر الثالث: أن هذه الوفود جاءت تتري وفدا بعد آخر في السنة التاسعة والعاشرة أي بعد فتح مكة المكرمة، وتخاذل الرومان عن لقاء الجيش الإسلامي وقد ذهب إليهم في دارهم أي عند الشام، وقد تخلت عن نصرتهم القبائل العربية، فلم يفعلوا ما فعلوه فى مؤتة، إذ كان منهم جيش كثيف يبلغ مائة ألف أو يزيدون.
وبذلك أخذ النفوذ الروماني ينحسر عن العرب، ويذهب ظله كما كان الأمر بالنسبة لفارس.
وإن ذلك من شأنه أن ينظر إلى الدين الجديد علي أنه الغالب، المزيل للوثنية، والمحيي للعزة العربية. فهو الذي يجعل العربي يحس بعزته أمام بني الأصفر من الرومان، وينفض عنه سيطرة كسري ومن وراءه وخصوصا أن الكتب التى أرسلها النبي صلي الله تعالي عليه وسلم كان يظلها النور المحمدي وقوة الحق أمام إرهاب الباطل، فأثار في ذلك نخوة عربية أمام الطغاة فى الشمال والجنوب فكان من آثار ذلك أن ألقوا بكل نفوذ عربى.
وإن هذا الوفد الذى لقى النبي صلي الله تعالي عليه وسلم، وكان من أهل الجنوب الذي قال للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم إنا لا نبرم أمرا خارجيا إلا بعد استئذان كسري، فأشار إليه النبي صلي الله عليه وسلم بأنهم سيرثون ملك كسرى، فأعطوا النبي صلي الله تعالي عليه وسلم، عهدا بأن يتبعوه.
ومن هذا يتبين رغبة العرب الذين امتد إليهم نفوذ الرومان والفرس فى أن يخلعوا نيرهم، ويردوا إليهم أمرهم، وقد وجدوا فى الدعوة المحمدية معينا لهم على أن يتحرروا من التبعية، وهم الأحرار الذين فضلوا الشدة في عزة، عن الأمن فى ذل.
وقد رأي ذلك المتاخمون لفارس فى كلام النبي صلى الله تعالي عليه وسلم، وفى لقائه للوفود فى مكة المكرمة، أولا عند عرضه نفسه علي القبائل قبيل الهجرة، وفي المدينة المنورة. وثانيا عندما أخذ يلتقي بالوفود، من حضر موت واليمن ونجران.
(3/1029)
وقد أدرك العزة العربية في الدعوة المحمدية أولئك الذين يتاخمون الزومان عندما التقي بهم في مؤتة، ولكنهم لما أدركوا أن العزة في الأخوة المحمدية لم يعاونوهم في تبوك، فلم يريدوا لقاء جيش الإسلام بعد أن أعدوا العدة، وعينوا المدة، فكان ذلك إشارة للعربي الحر، (وكلهم أحرار) إلي موطن عزته، ومكان رفعته.
لذلك أخذ الإسلام يدخل في الصدور، وقد فتحت له الأبواب، فى القبائل المتاخمة للرومان في الشمال وفى الجنوب كله، وخصوصا ما تاخم الفرس وكان للفرس فيه نفوذ، فوجد التخلص من هذا النفوذ المذل، بالإسلام.
وأن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم لم يترك الأمر لتلك المنازع وحدها، بل كان يرسل الرسل معلمين لهم والبعوث فى السرايا، فما كان رجال السرايا كما ذكرنا إلا رجال تعليم ودعوة، ولكن لأنهم يجتازون صحراء ويلقون ناسا غلاظا شدادا، كان لا بد أن يكونوا من أهل الحرب، والعلم معا، فكانوا يحملون علم محمد صلي الله تعالي عليه وسلم، أو بالأحري بعض علمه، ويحملون مع ذلك سيفه، فهم يجاهدون بالأمرين والوقائع تعين استعمال أحدهما:
وإن الرسل كثيرون، والسرايا أقل من الرسل.
وقد ابتدأت الرسل إلى الملوك والأمراء، سواء في ذلك العرب وغيرهم فكتب النبي صلى الله تعالي عليه وسلم كما ذكرنا إلي قيصر الروم، وكسري الفرس، ومقوقس مصر، ونجاشي الحبشة، كما أرسلت إلى أمراء اليمن وحضرموت، ونجران، وكثيرون من أولئك أجابوا بأن طلبوا من يعلمهم الإسلام، لأنهم استجابوا له، وأبقاهم النبي صلي الله تعالى عليه وسلم علي ما تحت أيديهم، وكذلك منهم من أوفد وفودا بالمبايعة علي الإسلام.
ولو وازنت بين أثر هذه الكتب في العرب، وأثرها فى غير العرب، كهرقل وكسري لوجدت أن أثرها في الأمراء العرب كان إيجابيا بالاستجابة وعدم المخالفة، وأما أثرها فى غيرهم، فإن استثنيت النجاشي الذي أسلم فإنا نجد الباقين أجابوا بالرفض فى عنف أو رفق فهو رفض في الحالين.
وإن السرايا كانت كما أشرنا دعاة إلي الحق، ولنذكر خبرين يثبتان مقدار عناية النبي صلي الله تعالي عليه وسلم بالدعوة، وهما خبر إرسال معاذ بن جبل وعلي بن أبي طالب، وكلاهما كان من علماء الصحابة بالإسلام، وإذا كان معاذ قد اشتهر بالعلم وفقه الإسلام، فعلي المجاهد المحارب، اشتهر بالعلم وفقه الإسلام، حتي قيل إن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم قال: «أنا مدينة العلم، وعلي بابها» واشتهر من بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام بالفقه والقضاء معا. حتي إن عمر رضى الله تعالى عنه فى إمارته كان إذا مسألة تعقدت قال مسألة ولا أبا حسن لها، لأنه قوي العلم والفقه والإدراك.
(3/1030)
وإن الإرسال تدل عباراته وما أحاط به علي أنه ما كان للقتال وإن كان علي المقاتل الأول، إنما كان للتعليم، وتفقيه الناس في دينهم الذى ارتضوه.
بعث معاذ بن جبل
692- عندما بعث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم معاذ بن جبل إلي اليمن بعث أيضا أبا موسي الأشعري، قال البخاري بسنده، بعث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم معاذ بن جبل إلى اليمن وأبا موسي الأشعري، وبعث كل واحد علي مخلاف، واليمن مخلافان ثم قال: يسروا ولا تعسروا، وبشروا، ولا تنفروا.
وانطلق كل واحد منهما إلى عمله، وكان كل واحد منهما إذا سار في أرضه وكان قريبا من صاحبه سلم عليه، فسار معاذ في أرضه قريبا من صاحبه أبى موسي فسلم، فجاء يسير علي بغلته حتي انتهي إليه، فإذا هو جالس، وقد اجتمع الناس إليه، وإذا رجل عنده قد جمعت يداه إلي عنقه، فقال معاذ يا عبد الله بن قيس أثم هذا؟ قال هذا رجل كفر بعد إسلامه فقال لا أنزل حتي يقتل، قال أبو موسي، إنما جئ به لذلك فانزل؟ قال ما أنزل حتي يقتل، فقتل.
سقنا ذلك الخبر من البخاري للدلالة على أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم اختار من فقهاء صحابته لتعليم الناس في اليمن وغيره أمور دينهم، ويدعوهم إلي الإسلام.
ولا بد أن يذكر فى هذا المقام أن معاذا رضي الله تعالى عنه قد بعث مزودا بمقاتلين، ليبدأ بالدعوة إلي الإسلام فإن أسلموا علمهم الإسلام، واقتصرت بعثته علي التعليم والهداية.
وإن كانت الآخرى قاتل.
وقد روي السرخسى في مبسوطه في السير الصغير وصية لرسول الله صلي الله تعالى عليه وسلم أوصي بها معاذا عند قدومه علي اليمن ومعه مقاتلون وهذا نص الوصية.
«لا تقاتلهم حتي تدعوهم، فإن أبوا فلا تقاتلوهم حتي يبدأوكم، فإن بدأوكم فلا تقاتلوهم حتي يقتلوا منكم قتيلا، ثم أروهم ذلك القتيل، وقولوا لهم: «هل إلي خير من سبيل، فلأن يهدي الله تعالي على يديك رجلا واحدا خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت» «1» .
__________
(1) مبسوط السرخسى ج 10 ص 21.
(3/1031)
وقد أغناه الله تعالي عن القتال، فقد استجابوا، فانتقل من الحرب إلي الموعظة الحسنة التي علمه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إياها.
وإذا كان قد أوصاه الله تعالى بما يجب عند الحرب، فقد أوصاه أيضا بما يجب علي المؤمن فى كل الأحوال، ولقد ذكر هو هذه الوصية عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فيما رواه الإمام أحمد رضى الله تعالي عنه فقد جاء في هذه الوصية: «لا تشرك بالله شيئا وإن قتلت وحرقت، ولا تعقن والديك، وإن أمراك أن تخرج من مالك وأهلك، ولا تتركن صلاة مكتوبة متعمدا فإن من ترك صلاة مكتوبة متعمدا، فقد برئت منه ذمة الله، ولا تشربن خمرا، فإنه رأس كل فاحشة، وإياك والمعصية فإنه بالمعصية يحل كل سخط، وإياك والفرار من الزحف، وإن هلك الناس، وإذا أصاب الناس موت وأنت فيهم فاثبت، وأنفق على عيالك من طولك، ولا ترفع عنهم عصاك أدبا وأحببهم فى الله عز وجل» .
ومن وصية النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قوله له: «إياك والتنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين» .
وبهذه الوصايا كان يعلم الناس واجبات الدين ومكارم الأخلاق، ومما علمه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قوله: «مفتاح الجنة شهادة أن لا إله الله تعالى» .
وإذا كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد ترك معاذ بن جبل بمكة المكرمة عند فتحها ليقيم فيها يعلم الناس، فقد أرسله أيضا إلي اليمن ليعلم أهله مع صاحبه أبى موسى الأشعري لتعليم الناس الإسلام.
ومع هذا العمل الجليل، وهو تعليم الناس، كان رضى الله تعالي عنه يجمع الجزية دينارا من كل حالم ويقول في ذلك: «بعثني رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم إلى اليمن وأمرني أن آخذ من كل حالم دينارا وعددا من المعافرى (أى الثياب) وأمرني أن آخذ من كل أربعين بقرة مسنة، ومن كل ثلاثين بقرة تبيعا حوليا، وأمرنى فيما سقت السماء العشر، وما سقي بالدوالى نصف العشر» وذلك فى زكوات الأموال الظاهرة.
ومن هذا يظهر أنه ولاه الخراج والجزية، وولاه الصدقات فكانت الولاية العامة شاملة- لكل ما يتعلق بإرادة الحكم.
وقد روى الإمام أحمد فى مسنده، وإن كان لا يخرج عما اتفق عليه الأئمة أصحاب السنن، كما جاء فى الحديث السابق، وهذا نص ما جاء في رواية الإمام أحمد.
(3/1032)
أمرني أن آخذ من كل ثلاثين تبيعا «1» ، ومن كل أربعين مسنة، ومن الستين تبيعين، ومن السبعين مسنة وتبيعا، ومن الثمانين مسنتين، ومن التسعين ثلاثة أتباع، ومن المائة مسنة وتبيعين، ومن العشر ومائة مسنتين وتبيعا، ومن العشرين ومائة ثلاث مسنات، أو أربعة أتباع.
هذه رواية أحمد، وهي لا تخرج عن الرواية الأولي كما ذكرنا، وإن كانت أكثر تفصيلا، وإن الذى يهمنا فى هذه المسألة التي نترك تفصيلها لكتب الفقه علي نص الرسول صلي الله عليه وسلم في باب الزكاة بالنسبة للنعم والزرع والنقود.
إن الذى يهمنا أن نذكر لماذا قصرت تعليمات النبي صلى الله تعالى عليه وسلم للزكاة على هذين الأمرين وهما زكاة الزرع وزكاة البقر، ولم يذكر لمعاذ رضي الله تعالي عنه أمرا فيما يتعلق بزكاة غير البقر من النعم وهي الغنم والإبل، ونقول: إن ذلك فيما يظهر لنا يرجع إلي أمرين:
أولهما: أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أمر والي الصدقات بأن يجمع الأموال الظاهرة، وهى النعم والزروع والثمار، وترك غيرها من الأموال التي سميت في الفقه بالأموال الباطنة لدين الناس يقدمونها من غير تفتيش أو تكشف، لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم دعا الناس إلي أن يعدوا الزكاة مغنما وألا يعدوها مغرما.
الأمر الثاني: وهو الخاص بالعناية بذكر البقر دون غيرها من النعم، وقد بين عليه الصلاة والسلام زكاة غيرها من النعم في مواضع أخري، كان يذكرها لمن يرسله لجمع الزكوات من القبائل التي تسكن الصحراء، لأن السوائم فيها كان أغلبها من الغنم والإبل.
أما السبب في أنه فى أمره لمعاذ بن جبل ذكر له زكاة البقر والزرع، ولم يذكرها، لأنه فيما يظهر كانت اليمن أرضا زراعية، وفيها الخصب، وقد قال الله تعالى: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ، كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ، وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ، وَرَبٌّ غَفُورٌ
(سبأ: 15)
وإن البقر يكثر حيث تكثر الزراعة، وحيث تكون أرض خصبة منتجة، ولذلك ذكر النبي صلي الله تعالى عليه وسلم لمبعوثه إلي اليمن زكاة ما يكثر فى اليمن من زروع وثمار وأبقار.
ويروى أن معاذا اتجر في المال الذي جمعه، لأنه باع كل ماله فى دين مستغرق كان عليه، وجاء إلى اليمن خاليا من كل عرض من أعراض الدنيا، فتجر وكسب، ولم ينقص من هذا المال شيئا.
__________
(1) التبيع الذى لم يبلغ السنة ويتبع أمه، والمسنة، أو المسن بالغ سنة.
(3/1033)
وقد كان اتجاره لأن النبي صلي الله تعالي عليه وسلم قد علم خصاصته، فأرسله إلي اليمن، وظن أن ذلك ليجبر فقره في حلال، ولم يعد إلي المدينة المنورة إلا بعد وفاة النبي صلي الله تعالي عليه وسلم، وقد صار أبو بكر خليفة رسول الله ولكنه تظنن في حل هذا المال الذي اكتسبه بالتجارة.
جاء إلي عمر رضي الله عنه وقص عليه خبر هذا المال، وسأله ماذا يصنع به فقال الفاروق ادفعه إلى أبى بكر؛ فإن أعطاكه فاقبله، فقال الصحابي الجليل، لماذا أدفعه إليه، وإنما بعثني رسول الله صلي الله تعالى عليه وسلم ليجبرني.
انطلق عمر به إلي أبى بكر، وطلب إليه أن يرسل إلي معاذ فخذ منه ودع له، أي فشاركه كسبه، فقال الصديق: ما كنت لأفعل إنما بعثه رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم ليجبره، فلست آخذ منه.
ولكن معاذ التقي الذي اقتبس من نور الصحبة انطلق إلى أبي بكر يدفع إليه المال كله حتي السوط الذي كان يساق به فقال أبو بكر: خذه فهو لك.
هذا وقد فوض النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إليه أمر قضاء اليمن، وشرح للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم كيف يقضى إذا عرض له قضاء. فقد روي عنه نحو سبعين من أهل حمص أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن قال: كيف تصنع إن عرض قضاء: قال أقضي بكتاب الله. قال عليه الصلاة والسلام، فإن لم يكن: قال فبسنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؟ قال أجتهد رأيي، وإني لا آلو، فضرب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم علي صدره، وقال: الحمد لله الذى وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله، صلى الله تعالى عليه وسلم.
وإن ذلك الخبر كان أصلا للاجتهاد في الفقه، أخذ به من أخذوا بالقياس وعارض فيه من عارضوا القياس، وإنهم لشرذمة قليلون.
وقد أثر له رأي في القضاء، وهو أنه لا يرث الكافر من المسلم، ولكن يرث المسلم من الكافر، وبهذا الرأي أخذ الإمامية من الشيعة، وعمل به معاوية، ولكن الجمهور الأعظم من الفقهاء لم يأخذ به.
روي الإمام أحمد بسنده عن أبي الأسود الدؤلي قال «كان معاذ باليمن فارتفعوا إليه في يهودى مات، وترك أخا مسلما، فورث معاذ المسلم من اليهودى، وقال: «إني سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: «إن الإسلام يعلوولا يعلي عليه» وأخذ الحكم من القياس باعتبار أن الإسلام يعلو،
(3/1034)