هابت الأعداء جانبنا ... ثم تغزونا بنو سلمه
وأتانا مالك بهم ... ناقضا للعهد والحرمه
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من رد سبايا حنين إلى أهلها ركب واتبعه الناس يقولون: يا رسول الله، اقسم علينا فيئنا. للإبل والغنم، حتى ألجأوه إلى شجرة فاختطفت عنه رداءه فقال: «ردوا على ردائى أيها الناس، فو الله إن لو كان لكم بعدد شجر تهامة نعما لقسمته عليكم، ثم ما ألفيتمونى بخيلا ولا جبانا ولا كذوبا» «1» .
ثم قام إلى جنب بعير فأخذ وبرة من سنامه فرفعها ثم قال: «أيها الناس، والله مالى من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس والخمس مردود عليكم فأدوا الخائط والمخيط، فإن الغلول يكون على أهله عارا وشنارا ونارا يوم القيامة» ، فجاء رجل من الأنصار بكبة من خيوط شعر فقال: يا رسول الله، أخذت هذه الكبة أعمل بها برذعة بعير لى دبر. فقال:
«أما نصيبى منها فلك» . قال: أما إذا بلغت ذلك فلا حاجة لى بها. ثم طرحها من يده «2» .
ويروى «3» أن عقيل بن أبى طالب دخل يوم حنين على امرأته فاطمة بنت شيبة وسيفه متلطخ دما فقالت: إنى قد عرفت أنك قد قاتلت فماذا أصبت من غنائم المشركين؟ قال: دونك هذه الإبرة تخيطين بها ثيابك. فدفعها إليها فسمع منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أخذ شيئا فليرده حتى الخائط والمخيط. فرجع عقيل فقال: ما أرى إبرتك إلا قد ذهبت! وأخذها فألقاها فى الغنائم.
وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم، وكانوا أشرافا من أشراف الناس، يتألفهم ويتألف بهم قومهم، فأعطى أبا سفيان بن حرب وابنه معاوية وحكيم بن حزام والحارث بن الحارث بن كلدة، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى وصوفان بن أمية، وكل هؤلاء من أشراف قريش، والأقرع بن حابس التميمى وعيينة بن حصن الفزارى ومالك بن عوف النصرى، أعطى كل واحد من هؤلاء المسلمين من قريش وغيرهم مائة بعير، وأعطى دون المائة رجالا من قريش منهم
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (6/ 2821) ، مسند الإمام أحمد (4/ 84) ، مصنف عبد الرزاق (5/ 9497) .
(2) انظر الحديث فى: السنن الكبرى للبيهقى (9/ 102) ، موطأ مالك (2/ 457، 458) ، مجمع الزوائد للهيثمى (5/ 339) .
(3) انظر: السيرة (4/ 121) .(1/538)
مخرمة بن نوفل وعمير بن وهب، وأعطى سعيد بن يربوع المخزومى وعدى بن قيس السهمى خمسين خمسين، وأعطى عباس بن مرداس أباعر فسخطها وقال يعاتب فيها النبى صلى الله عليه وسلم:
وكانت نهابا تلافيتها ... بكرى على المهر فى الأجرع
وإيقاظى القوم أن يرقدوا ... إذا هجع الناس لم أهجع
فأصبح نهبى ونهب العبي ... د بين عيينة والأقرع
وقد كنت فى الحرب ذا تدراء ... فلم أعط شيئا ولم أمنع
إلا أفائل أعطيتها ... عديد قوائمه الأربع
وما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس فى مجمع
وما كنت دون امرىء منهما ... ومن تضع اليوم لا يرفع
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذهبوا فاقطعوا عنى لسانه» «1» ، فأعطوه حتى رضى، فكان ذلك قطع لسانه.
وذكر ابن هشام «2» أن عباسا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنت القائل:
فأصبح نهبى ونهب العبي ... د بين الأقرع وعيينة»
فقال أبو بكر: بين عيينة والأقرع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هما واحد» . فقال أبو بكر: أشهد أنك كما قال الله: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ [يس: 69] «3» .
وذكر ابن عقبة ان عباسا لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع لسانه فزع لها وقال: من لا يعرف أمر عباس يمثل به، فأتى به إلى الغنائم فقيل له: خذ منها ما شئت، فقال عباس:
إنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطع لسانى بالعطاء بعد أن تكلمت فتكرم أن يأخذ منها شيئا، فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلة فقبلها ولبسها.
وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم قائل من أصحابه: يا رسول الله، أعطيت عيينة بن حصن والقرع بن حابس مائة مائة وتركت جعيل بن سراقة الضمرى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح مسلم (2/ 737، 738) ، كشفا الخفاء للعجلونى (1/ 182، 484) .
(2) انظر: السيرة (4/ 123) .
(3) انظر الحديث فى: تاريخ ابن كثير (4/ 360) .(1/539)
«أما والذى نفس محمد بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض كلهم مثل عيينة والأقرع ولكنى تألفتهما ليسلما ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه» «1» .
وجاء رجل من بنى تميم يقال له: ذو الخويصرة فوقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعطى الناس فقال: يا محمد، قد رأيت ما صنعت فى هذا اليوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«أجل، فكيف رأيت؟» قال: لم أرك عدلت. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «ويحك! إذا لم يكن العدل عندى فعند من يكون؟» فقال عمر بن الخطاب: ألا نقتله؟ فقال: «لا، دعوه فإنه سيكون له شيعة يتعمقون فى الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية، ينظر فى النصل فلا يوجد شىء، ثم فى القدح فلا يوجد شىء، ثم فى الفوق فلا يوجد شىء، سبق الفرث والدم» «2» .
ولما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى فى قريش وفى قبائل العرب ولم يعط الأنصار شيئا، وجدوا فى أنفسهم حتى كثرت منهم القالة وحتى قال قائاهم: لقى والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه.
وذكر ابن هشام «3» أن حسان بن ثابت قال يعاتبه فى ذلك:
زاد الهموم فماء العين منحدر ... سحا إذا حفلته عبرة درر
وجدا بشماء إذ شماء بهكنة ... هيفاء لا ذنن فيها ولا خور
دع عنك شماء إذ كانت مودتها ... نزرا وشر وصال الواصل النزر
وائت الرسول فقل يا خير مؤتمن ... للمؤمنين إذا ما عدد البشر
علام تدعى سليم وهى نازحة ... قدام قوم هم آووا وهم نصروا
سماهم الله أنصارا ينصرهم ... دين الهدى وعوان الحرب تستعر
وسارعوا فى سبيل الله واعترفوا ... للنائبات وما خافوا وما ضجروا
والناس إلب علينا فيك ليس لنا ... إلا السيوف وأطراف القنا وزر
نجالد الناس لا نبقى على أحد ... ولا نضيع ما توحى به السور
ولا تهز جناة الحرب نادينا ... ونحن حين تلظى نارها سعر
كما رددنا ببدر دون ما طلبوا ... أهل النفاق وفينا ينزل الظفر
__________
(1) انظر الحديث فى: الطبقات الكبرى لابن سعد (4/ 246) ، حلية الأولياء لأبى نعيم (1/ 353) .
(2) انظر الحديث فى: صحيح مسلم (2/ 744، 745، 148) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 288) .
(3) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 126) .(1/540)
ونحن جندك يوم النعف من أحد ... إذ حزبت بطرا احزابها مضر
فما ونينا ولا خمنا وما خبروا ... منا عثارا وكل الناس قد عثروا
فدخل سعد بن عبادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن هذا الحى من الأنصار قد وجدوا عليك لما صنعت فى هذا الفىء الذى أصبت، قسمت فى قومك وأعطيت عطايا عظاما فى قبائل العرب ولم يك فى هذا الحى من الأنصار منها شىء.
قال: «فأين أنت من ذلك يا سعد؟» قال: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومى. قال:
«فاجمع لى قومك فى هذه الحظيرة» ، فخرج سعد فجمع الأنصار فى تلك الحظيرة، فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا له أعلمه سعد بهم فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: «يا معشر الأنصار، ما قالة بلغتنى عنكم وجدة وجدتموها على فى أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟» قالوا: بل الله ورسوله أمن وأفضل، ثم قال: «ألا تجيبوننى يا معشر الأنصار؟» قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله، لله ولرسوله المن والفضل، فقال صلوات الله عليه: «أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم: أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار فى أنفسكم فى لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم، فو الذى نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرء من الأنصار ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار» ، فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسما وحظا. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا «1» .
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة معتمرا، وأمر ببقايا الفىء فحبس بمجنة بناحية مر الظهران، فلما فرغ من عمرته انصرف راجعا إلى المدينة واستخلف عتاب بن أسيد على مكة وخلف معه معاذ بن جبل يفقه الناس فى الدين ويعلمهم القرآن، وأتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ببقايا الفىء «2» .
ولما استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عتابا على مكة رزقه فى كل يوم درهما، فقام عتاب
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح مسلم (2/ 735، 736، 135) ، صحيح البخارى (7/ 4337) ، مسند الإمام أحمد (3/ 76، 77) ، مجمع الزوائد للهيثمى (10/ 29) .
(2) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (4/ 368) ، الحاكم فى المستدرك (3/ 370) .(1/541)
خطيبا فى الناس فقال: أيها الناس، أجاع الله كبد من جاع على درهم، فقد رزقنى رسول الله صلى الله عليه وسلم درهما كل يوم فليست بى حاجة إلى أحد «1» .
وكانت عمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ذى القعدة، وقدم المدينة فى بقيتة أو فى أول ذى الحجة «2» .
وحج الناس تلك السنة على ما كانت العرب تحج عليه وحج عتاب بن أسيد بالمسلمين فيها وهى سنة ثمان، وأقام أهل الطائف على شركهم وامتناعهم فى طائفهم ما بين ذى القعدة إذ انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رمضان سنة تسع.
ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره هذا منصرفا عن الطائف كتب بجير بن زهير بن أبى سلمى إلى أخيه كعب بن زهير يخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل رجالا بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه، وأن من بقى من شعراء قريش ابن الزبعرى وهبيرة بن أبى وهب قد هربوا فى كل وجه، فإن كانت لك فى نفسك حاجة فطر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقتل أحدا جاء تائبا، وإن أنت لم تفعل فانج إلى نجائك من الأرض.
فلما بلغ كعبا الكتاب ضاقت به الأرض وأشفق على نفسه وأرجف به من كان فى حاضره من عدوه، فقالوا: هو مقتول، فلما لم يجد من شىء بدا قال قصيدته التى يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذكر فيها خوفه وإرجاف الوشاة به، ثم خرج حتى قدم المدينة، فنزل على رجل من جهينة كانت بينه وبينه معرفة، فغدا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى الصبح، فصلى معه ثم أشار له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هذا رسول الله، فقم إليه فاستأمنه، فذكر أنه قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس إليه فوضع يده فى يده، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرفه، فقال: يا رسول الله، إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائبا مسلما، فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم» ، قال: أنا يا رسول الله كعب بن زهير، فوثب عليه رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله، دعنى وعدو الله أضرب عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعه عنك، فإنه قد جاءنا تائبا نازعا» «3» .
فغضب كعب على الأنصار لما صنع به صاحبهم ومدح المهاجرين دونهم إذ لم يتكلم فيه رجل منهم إلا بخير.
__________
(1) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (4/ 368) .
(2) ذكره مسلم فى صحيحه كتاب الحج (2/ 217، 916) ، ابن كثير فى البداية والنهاية (4/ 368) ، أبو داود (1994) ، الترمذى (815) ، أحمد فى المسند (1/ 246، 321) .
(3) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 369) ، مستدرك الحاكم (3/ 583) ، مجمع الزوائد للهيثمى (9/ 393، 394) .(1/542)
والقصيدة التى قالها كعب فى ذلك وذكر أنه أنشدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المسجد:
بانت سعاد فقلبى اليوم مبتول ... متيم عندها لم يجز مكبول
وما سعاد غداة البين إذ برزت ... إلا أغن غضيض الطرف مكحول «1»
تجلو عوارض ذى ظلم إذا ابتسمت ... كأنه منهل بالراح معلول «2»
شحت بذى شبم من ماء محنية ... صاف بأبطح أضحى وهو مشمول «3»
تنفى الرياح القذى عنه وأفرطه ... من صوب غادية بيض يعاليل «4»
وبلمها خلة لو أنها صدقت ... بوعدها أو لو أن النصح مقبول
لكنها خلة قد سيط من دمها ... فجع وولع وإخلاف وتبديل
فما تدوم على حال تكون بها ... كما تلون فى أثوابها الغول «5»
كانت مواعيد عرقوب لها مثلا ... وما مواعيدها إلا الأباطيل
فلا يغرنك ما منت وما وعدت ... إن الأمانى والأحلام تضليل «6»
أمست سعاد بأرض لا تبلغها ... إلا العتاق النجيبات المراسيل
ولا يبلغها إلا عذافرة ... فيها على الأبن إرقال وتبغيل «7»
من كل نضاخة الذفرى إذا عرقت ... عرضتها طامس الأعلام مجهول «8»
__________
(1) الأغن: الصبى الصغير الذى فى صوته غنة، وهى صوت يخرج من الخيشوم. غضيض الطرف: أى فاتر الجفن.
(2) العوارض: الأسنان. ذى ظلم: الظلم ماء الأسنان وبريقها. الراح: اسم من أسماء الخمر.
(3) شجت: مزجت. ذى شبم: أى الماء البارد. المجنية: منتهى الوادى.
(4) القذى: أراد ما يقع فى الماء من تبن أو غيره. الصوب: المطر. غادية: السحابة التى تمطر بالغدو. اليعاليل: هو رغوة الماء.
(5) ذكر فى السيرة بعد هذه البيت بيت آخر لم يذكره هنا وهو:
وما تمسك بالعهد الذى زعمت ... إلا كما يمسك الماء الغرابيل
انظر: السيرة (4/ 132) .
(6) ذكر فى السيرة هذا البيت قبل البيت الذى يسبقه هنا. وهناك بيت آخر لم يذكره هنا ورد بعدهما وهو:
أرجو وآمل أن تدنو مودتها ... وما إخال لدينا منك تنويل
انظر: السيرة (4/ 132) .
(7) العذافرة: بضم العين هى الناقة الضخمة. الأين: الفتور والإعياء. الإرقال: ضرب من السير.
(8) ذكر فى السيرة بعد هذا البيت بيت آخر لم يذكره هنا وهو:
ترمى النجاد بعينى مفرد لهق ... إذا توقدت الحزان والميل
انظر: السيرة (4/ 133) .(1/543)
ضخم مقلدها فعم مقيدها ... فى خلقها عن بنات الفحل تفضيل*
حرف أخوها أبوها من مهجنة ... وعمها خالها قوداء شمليل*
كأن أوب ذراعيها وقد عرقت ... وقد تلفع بالقور العساقيل*
أوب يدى فاقد شمطاء معولة ... قامت فجاوبها نكد مثاكيل
نواحة رخوة الضبعين ليس لها ... لما نعى بكرها الناعون معقول
تفرى اللبان بكفيها ومدرعها ... مشقق عن تراقيها رعابيل
تمشى الغواة بجنبيها وقولهم ... إنك يا ابن أبى سلمى لمقتول
وقال كل صديق كنت آمله ... لا ألهينك إنى عنك مشغول
فقلت خلوا طريقى لا أبالكم ... فكل ما قدر الرحمن مفعول
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته ... يوما على آلة حدباء محمول
نبئت أن رسول الله أوعدنى ... والعفو عند رسول الله مأمول
مهلا هداك الذى أعطاك نافلة ال ... قرآن فيها مواعيظ وتفصيل
لا تأخذنى بأقوال الوشاة ولم ... أذنب ولو كثرت فى الأقاويل
__________
(*) ذكر فى السيرة بعد هذا البيت بيتان لم يذكرهم هنا وهما:
غلباء وجناء علكوم مذكرة ... فى دفها سعة قدامها ميل
وجلدها من أطوم ما يؤيسه ... طلح بضاحية المتنين مهزول
انظر: السيرة (2/ 133) .
(*) ذكر فى السيرة بعد هذا البيت أبيات أخرى لم يذكره هنا وهى:
يمشى القراد عليها ثم يزلفه ... منها لبان وأقراب زهاليل
عيرانة قذفت بالنحض عن عرض ... مرفقها عن بنات الزور مفتول
كأنما فات عينيها ومذبحها ... من خطمها ومن اللحيين برطيل
تمر مثل عسيب النخل ذا خصل ... فى غارز لم تخونه الأحاليل
قنواء فى حرتيها للبصير بها ... عتق مبين وفى الخدين تسهيل
تخدى على يسرات وهى لا حقة ... ذوابل مسهن الأرض تحليل
سمر العجايات يتركن الحصى زيما ... لم يقهن رؤس الأكم تنعيل
انظر: السيرة (4/ 134، 135) .
(*) ذكر فى السيرة بعد هذا البيت بيتان لم يذكرهم هنا وهما:
يوما يظل به الحرباء مصطخدا ... كأن ضاحية بالشمس مملول
وقال للقوم حاديهم وقد جعلت ... ورق الجنادب يركضن الحصاقيلوا
انظر: السيرة (4/ 135) .(1/544)
لقد أقوم مقاما لو يقوم به ... يرمى ويسمع ما قد أسمع الفيل
[لظل ترعد من خوف بوادره ... إن لم يكن من رسول الله تنويل
حتى وضعت يمينى ما أنازعها ... فى كف ذى نقمات قوله القيل
فلهو أخوف عندى إذ أكلمه ... وقيل إنك منسوب ومسئول
من ضيغم بضراء الأرض مخدره ... فى بطن عثر غيل دونه غيل
إن الرسول لنور يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول
فى عصبة من قريش قال قائلهم ... ببطن مكة لما أسلموا زولوا
زالوا فما زال انكاس ولا كشف ... عند اللقاء ولا ميل معازيل
يمشون مشى الجمال الزهر يعصمهم ... ضرب إذا عرد السود التنابيل
شم العرانين أبطال لبوسهم ... من نسج داود فى الهيجا سرابيل
بيض سوابغ قد شكت لها حلق ... كأنها حلق القفعاء مجدول
ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم ... قوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا
لا يقع الطعن إلا فى نحورهم ... ليس لهم عن حياض الموت تهليل
ويروى أن كعبا لما أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن الرسول لنور يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول
أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى الخلق: «أى اسمعوا» . تعجبا بقوله.
ومن مستجاد شعر كعب بن زهير قوله أيضا يمدح النبى صلى الله عليه وسلم:
تخذى به الناقة الأدماء معتجرا ... بالبرد كالبدر جلى ليلة الظلم
وفى عطافيه أو أثناء بردته ... ما يعلم الله من دين ومن كرم
ولما قال كعب فى لاميته المتقدمة: «إذا عرد السود التنابيل» ، يريد الأنصار وخص المهاجرين بمدحته دونهم غضب عليه الأنصار فقال بعد أن أسلم يمدحهم ويذكر بلاءهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعهم من اليمن، ويقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حضه على ذلك وقال لما أنشده القصيدة المتقدمة: «لولا ذكرت الأنصار بخير فإن الأنصار لذلك أهل؟» «1» ، فقال كعب هذه الأبيات:
من سره كرم الحياة فلا يزل ... فى مقنب من صالح الأنصار
ورثوا المكارم كابرا عن كابر ... إن الخيار هم بنو الأخيار
__________
(1) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (4/ 374) .(1/545)
المكرهين السمهرى بأذرع ... كسوالف الهندى غير قصار
والناظرين بأعين محمرة ... كالجمر غير كليلة الإبصار
والبائعين نفوسهم لنبيهم ... للموت يوم تعانق وكرار
يتطهرون يرونه نسكا لهم ... بدماء من علقوا من الكفار
دربوا كما دربت ببطن خفية ... غلب الرقاب من الأسود ضوارى
وإذا حللت ليمنعوك إليهم ... أصبحت عند معاقل الأغفار
ضربوا عليا يوم بدر ضربة ... دانت لوقعتها جميع نزار
لو يعلم الأقوام علمى كله ... فيهم لصدقنى الذين أمارى
قوم إذا خوت النجوم فإنهم ... للطارقين النازلين مقارى
فى الغر من غسان فى جرثومة ... أعيت محافرها على المحفار «10»
وكان عبد الله بن الزبعرى السهمى شاعر قريش ولسانها فى مناقضة حسان بن ثابت وغيره من شعراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، له فى ذلك أشعار كثيرة ذكرها ابن إسحاق فى مواضعها وأضربنا نحن عنها وعن سائر أشعار الجاهلية لما فيها من تنقص الإسلام والنيل من أهله، فلما كان عام الفتح فر ابن الزبعرى إلى نجران فرماه حسان بن ثابت ببيت واحد ما زاد عليه وهو:
لا تعدمن رجلا أحلك بغضه ... نجران فى عيش أحذ لئيم
فلما بلغ ذلك ابن الزبعرى «1» خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم، وقال فى ذلك أشعارا منها فى أبيات «2» :
يا رسول الله المليك إن لسانى ... راتق ما فتقت إذ أنا بور
إذ أبارى الشيطان فى سنن الغى ... ومن مال ميله مثبور
وقال أيضا حين أسلم «3» :
منع الرقاد بلابل وهموم ... والليل معتلج الرواق بهيم
__________
(10) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 138- 139) .
(1) هو عبد الله بن الزبعرى بن قيس بن عدى بن سعد بن سهم القرشى السهمى. انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1551) ، الإصابة الترجمة رقم (4697) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2946) .
(2) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 54) .
(3) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 55) ، وقال ابن هشام: وبعض أهل العلم بالشعر ينكرها له.(1/546)
مما أتانى أن أحمد لامنى ... فيه فبت كأننى محموم
يا خير من حملت على أوصالها ... عيرانة سرح اليدين عشوم
إنى لمعتذر إليك من الذى ... أسديت إذ أنا فى الضلال أهيم
أيام تامرنى بأغوى خطة ... سهم وتأمرنى بها مخزوم
وأمد أسباب الردى ويقودنى ... أمر الغواة وأمرهم مشئوم
فاليوم آمن بالنبى محمد ... قلبى ومخطىء هذه محروم
مضت العداوة فانقضت أسبابها ... ودعت أواصر بيننا وحلوم
فاغفر فدى لك والداى كلاهما ... زللى فإنك راحم مرحوم
وعليك من علم المليك علامة ... نور أغر وخاتم مختوم
أعطاك بعد محبة برهانه ... شرفا وبرهان الإله عظيم
ولقد شهدت بأن دينك صادق ... حق وأنك فى العباد جسيم
والله يشهد أن أحمد مصطفى ... متقبل فى الصالحين كريم
فرم علا بنيانه من هاشم ... فرع تمكن فى الذرى وأروم
غزوة تبوك «1»
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد منصرفه عن عمرة الجعرانة ما بين ذى الحجة إلى رجب ثم أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم، وذلك فى زمان عسرة من الناس وشدة من الحر وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار والناس يحبون المقام فى ثمارهم وظلالهم ويكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذى هم عليه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قل ما يخرج فى غزوة إلا ورى عنها وأخبر أنه يريد غير الوجه الذى يعمد إليه، إلا ما كان من غزوة تبوك، فإنه بينها للناس لبعد الشقة وشدة الزمان وكثرة العدو الذى يصمد له، ليتأهب الناس لذلك أهبته، فأمر الناس بالجهاز، وأخبرهم أنه يريد الروم. فقال صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو فى جهازه للجد بن قيس أحد بنى سلمة:
«ياجد هل لك العام فى جلاد بنى الأصفر؟» فقال: يا رسول الله، أو تأذن ولا تفتنى، فو الله لقد عرف قومى أنه ما من رجل أشد عجبا بالنساء منى، وإنى أخشى إن رأيت
__________
(1) راجع هذه الغزوة فى: المنتظم لابن الجوزى (3/ 362) ، المغازى للواقدى (3/ 989) ، طبقات ابن سعد (2/ 1/ 118، 119) ، تاريخ الطبرى (3/ 100) ، البداية والنهاية (5/ 2) ، الكامل (2/ 149) .(1/547)
نساء بنى الأصفر أن لا أصبر. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «قد أذنت لك» ، ففيه نزلت: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ [التوبة: 49] «1» أى إن كان إنما خشى الفتنة من نساء بنى الأصفر وليس ذلك به فما سقط فيه من الفتنة أكبر لتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والرغبة بنفسه عن نفسه، يقول: وإن جهنم لمن ورائه «2» .
وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض: لا تنفروا فى الحر: زهادة فى الجهاد وشكا فى الحق وإرجافا بالرسول، فأنزل الله فيهم: وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [التوبة: 81، 82] .
وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ناسا من المنافقين يجتمعون فى بيت سويلم اليهودى، يثبطون الناس عنه فى غزوة تبوك، فبعث إليهم طلحة بن عبيد الله فى نفر من أصحابه وأمره أن يحرق عليهم البيت وفعل طلحة، فاقتحم الضحاك بن خليفة من ظهر البيت فانكسرت رجله واقتحم أصحابه فأفلتوا «3» فقال الضحاك فى ذلك:
وكادت وبيت الله نار محمد ... يشيط بها الضحاك وابن أبيرق
وظلت وقد طبقت كبس سويلم ... أنوء على رجلى كسيرا ومرفقى
سلام عليكم لا أعود لمثلها ... أخاف ومن تشمل به النار يحرق
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جد فى سفره وأمر الناس بالجهاز والانكماش، وحض أهل الغنى على النفقة والحملان فى سبيل الله، فحمل رجال من أهل الغنى واحتسبوا، وأنفق عثمان بن عفان فى ذلك نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم ارض عن عثمان فإنى عنه راض» «4» .
ثم إن رجالا من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم البكاؤن وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم، سالم بن عمير «5» ، وعلبة بن زيد «6» ، وأبو ليلى بن كعب «7» ، وعمرو
__________
(1) انظر الحديث فى: زاد المسير لابن الجوزى (3/ 305) ، دلائل النبوة للبيهقى (5/ 213) .
(2) انظر الحديث فى: تاريخ الطبرى (2/ 182) .
(3) ذكره ابن كثير فى التاريخ (5/ 3) .
(4) انظر الحديث فى: كنز العمال للمتقى الهندى (11/ 593/ 32841) ، جامع الجوامع للسيوطى (1/ 381) .
(5) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (885) ، الإصابة الترجمة رقم (3053) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1900) ، الطبقات الكبرى (3/ 480) ، الوافى بالوفيات (15/ 89) ، تاريخ الإسلام (1/ 60) ، تاريخ اليعقوبى (2/ 27) .
(6) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2056) ، الإصابة الترجمة رقم (5673) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3761) .
(7) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (3184) ، الإصابة الترجمة رقم (10477) .(1/548)
ابن حمام، وهرمى بن عبد الله «1» ، وعبد الله بن مغفل المزنى «2» ، ويقال: عبد الله بن عمرو المزنى «3» ، وعرباض بن سارية الفزارى «4» ، فاستحملوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أهل حاجة فقال: «لا أجد ما أحملكم عليه» ، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون «5» .
فذكر أن ابن يامين بن عمير النضرى لقى أبا ليلى بن كعب وابن مغفل وهما يبكيان فقال: ما يبكيكما؟ قالا: جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه فأعطاهما ناضحا له فارتحلاه وزودهما شيئا من تمر فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم «6» . وجاء المعذرون من الأعراب فاعتذروا إليه، فلم يعذرهم الله، وذكر أنهم نفر من بنى غفار «7» .
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2737) ، الإصابة الترجمة رقم (9048) ، أسد الغابة الترجمة رقم (5365) .
(2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1685) ، الإصابة الترجمة رقم (4988) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3202) ، تاريخ ابن معين (333) ، سير أعلام النبلاء (4/ 206) ، الوافى بالوفيات (7/ 628) ، تهذيب الكمال (745) ، تهذيب التهذيب (6/ 42) ، خلاصة تذهيب الكمال (215، 216) ، شذرات الذهب (1/ 65) .
(3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1640) ، الإصابة الترجمة رقم (4873) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3097) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 326) ، تهذيب التهذيب (5/ 341) ، تهذيب الكمال (2/ 717) ، تاريخ الإسلام (3/ 107) ، الثقات (3/ 238) .
(4) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2049) ، الإصابة الترجمة رقم (5517) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3630) ، معرفة الرجال (2/ 203) ، سير أعلام النبلاء (3/ 419) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (231) ، المعين وطبقات المحدثين (24) ، مرآة الجنان (1/ 156) ، تقريب التهذيب (2/ 17) ، خلاصة تذهيب التهذيب (269) ، شذرات الذهب (1/ 82) .
(5) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (5/ 218) ، أسباب النزول (212) ، تفسير الطبرى (10/ 145، 146) ، فتح القدير للشوكانى (2/ 551) .
(6) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (5/ 5) ، الطبرى فى تاريخه (2/ 182) .
(7) انظر: السيرة (4/ 143) .(1/549)
ثم استتب برسول الله صلى الله عليه وسلم سفره، وأجمع السير وتخلف عنه نفر من المسلمين عن غير شك ولا ارتياب، منهم كعب بن مالك أخو بنى سلمة ومرارة بن الربيع أخو بنى عمرو بن عوف، وهلال بن أمية أخو بنى واقف، وأبو خيثمة أخو بنى سالم، وكانوا نفر صدق لا يتهمون فى إسلامهم.
فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع وضرب عبد الله بن أبى معه على حده عسكره أسفل منه نحو ذباب «1» ، وكان فيما يزعمون ليس بأقل العسكرين فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف عنه عبد الله بن أبى فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب.
وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب على أهله، وأمره بالإقامة فيهم، فأرجف به المنافقون، وقالوا: ما خلفه إلا استثقالا له، وتخففا منه، فلما قالوا ذلك أخذ علىّ سلاحه ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجرف فقال: يا نبى الله، زعم المنافقون أنك إنما خلفتنى أنك استثقلتنى وتخففت منى، فقال: «كذبوا ولكنى خلفتك لما تركت ورائى، فارجع فاخلفنى فى أهلى وأهلك، أفلا ترضى يا علىّ أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبى بعدى» «2» . فرجع علىّ إلى المدينة رضى الله عنه ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سفره.
ثم إن أبا خيثمة بعد أن سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أياما رجع إلى أهله فى يوم حار، فوجد امرأتين له فى عريشين لهما فى حائطه قد رشت كل واحدة منهما عريشها وبردت له فيه ماء وهيأت له طعاما، فلما دخل قام على باب العريش فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الضح والريح والحر، وأبو خيثمة فى ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء فى ماله مقيم! ما هذا بالنصف ثم قال: والله لا أدخل على عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فهيئا لى زادا ففعلتا ثم قدم ناضحه فارتحله ثم خرج فى طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدركه حين نزل بتبوك.
وقد كان أدرك أبا خيثمة فى الطريق عمير بن وهب الجمحى يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) ذباب: ذكره الحازمى بكسر أوله وباءين وقال: جبل بالمدينة له ذكر فى المغازى والأخبار، وعن العمرانى: ذباب بوزن الذباب الطائر جبل بالمدينة. انظر: معجم البلدان (3/ 3) .
(2) انظر الحديث فى: صحيح البخارى كتاب المغازى باب غزوة تبوك (7/ 4416) ، صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة باب فضائل علىّ (4/ 31، 32) ، دلائل النبوة للبيهقى (5/ 220) ، تاريخ ابن كثير (5/ 7) .(1/550)
فترافقا، حتى إذا دنوا من تبوك قال أبو خيثمة لعمير: إن لى ذنبا فلا عليك أن تخلف عنى حتى آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل حتى إذا دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بتبوك قال الناس: هذا راكب على الطريق مقبل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كن أبا خيثمة» . قالوا: هو والله أبو خيثمة يا رسول الله، فلما أناخ أقبل فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أولى لك يا أبا خيثمة!» ثم أخبره خبره فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له بخير «1» . ويروى أن أبا خيثمة! قال فى ذلك «2» :
ولما رأيت الناس فى الدين نافقوا ... أتيت التى كانت أعف وأكرما
وبايعت باليمنى يدى لمحمد ... فلم أكتسب إثما ولم أغش محرما
تركت خضيبا فى العريش وصرمة ... صفايا كراما بسرها قد تحمما
وكنت إذا شك المنافق أسمحت ... إلى الدين نفسى شطره حيث يميما
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بالحجر نزلها واستقى الناس من بئرها فلما راحوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تشربوا من مائها ولا يتوضأ منه للصلاة وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئا، ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له» .
ففعل الناس ما أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن رجلين من بنى ساعدة خرج أحدهما لحاجته وخرج الآخر فى طلب بعير له، فأما الذى ذهب لحاجته فإنه خنق على مذهبه، وأما الذى ذهب فى طلب بعيره فاحتمله الريح حتى طرحته بجبلى طىء، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألم أنهكم أن يخرج أحد منكم إلا ومعه صاحبه؟ ثم دعا للذى أصيب على مذهبه فشفى، وأما الذى وقع بجبلى طىء، فإن طيئا أهدته لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة «3» .
ولما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر سجى ثوبه على وجهه، واستحث راحلته ثم قال: «لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلا وأنتم باكون خوفا أن يصيبكم ما أصابهم» «4» .
فلما أصبح الناس ولا ماء معهم شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا فأرسل الله سبحانه سحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس واحتملوا حاجتهم من الماء. قال محمود بن لبيد «5» :
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح مسلم (4/ 53/ 2120- 2122) ، دلائل النبوة للبيهقى (5/ 223) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 193) .
(2) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 146) .
(3) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (5/ 240) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 11) .
(4) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (6/ 3381) ، صحيح مسلم (4/ 39، 2286) .
(5) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2375) ، الإصابة الترجمة رقم (7838) ، أسد-(1/551)
لقد أخبرنى رجال من قومى عن رجل من المنافقين معروف نفاقه كان يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث سار، فلما كان من أمر الماء بالحجر ما كان ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعا فأرسل الله الصحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس قالوا: أقبلنا عليه نقول: ويحك! هل بعد هذا شىء؟ قال: سحابة مارة. قيل لمحمود: هل كان الناس يعرفون النفاق فيهم؟ قال:
نعم، والله إن كان الرجل ليعرفه من أخيه ومن أبيه ومن عمه وفى عشيرته ثم يلبس بعضهم بعضا على ذلك «1» .
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سار حتى إذا كان ببعض الطريق ضلت ناقته فخرج أصحابه فى طلبها وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أصحابه يقال له: عمارة بن حزم وكان عقبيا بدريا وهو عم بنى عمرو بن حزم وكان فى رحله زيد بن اللصيت القينقاعى، وكان منافقا، فقال زيد وهو فى رحل عمارة وعمارة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس محمد يزعم أنه نبى ويخبركم عن خبر السماء وهو لا يدرى أين ناقته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمارة عنده:
«إن رجلا قال: هذا محمد يخبركم أنه نبى ويزعم أنه يخبركم بأمر السماء وهو لا يبدى أين ناقته وإنى والله لا أعلم إلا ما علمنى الله وقد دلنى الله عليها وهى فى الوادى من شعب كذا وكذا وقد حبستها شجرة بزمامها فانطلقوا حتى تأتونى بها» ؛ فذهبوا فجاؤا بها فرجع عمارة بن حزم إلى رحله فقال: والله لعجب من شىء حدثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم آنفا عن مقالة قائل أخبره الله عنه. للذى قال زيد بن اللصيت. فقال رجل ممن كان فى رحل عمارة ولم يحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم: زيد والله قال هذه المقالة قبل أن تأتى، فأقبل عمارة على زيد يجأ فى عنقه ويقول: يا عباد الله! إن فى رحلى لداهية وما أشعر! اخرج أى عدو الله من رحلى فلا تصحبنى «2» .
فزعم بعض الناس أن زيدا تاب بعد ذلك وقال بعض: لم يزل متهما بشر حتى مات «3» .
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرا فجعل يتخلف عنه الرجل فيقولون: يا رسول الله تخلف فلان. فيقول: «دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد
__________
- الغابة الترجمة رقم (4780) ، طبقات ابن سعد (5/ 77) ، طبقات خليفة الترجمة رقم (2039) ، المعرفة والتاريخ (1/ 356) ، تهذيب الكمال (1310) ، تذهيب التهذيب (4/ 26) ، تهذيب التهذيب (10/ 65) ، خلاصة تذهيب الكمال (317) ، شذرات الذهب (1/ 112) .
(1) ذكره الهيثمى فى مجمع الزوائد (6/ 194، 195) ، ابن كثير فى البداية والنهاية (5/ 9) .
(2) ذكره البيهقى فى دلائل النبوة (5/ 223) ، ابن كثير فى البداية والنهاية (5/ 9) .
(3) انظر: السيرة (4/ 149) .(1/552)
أراحكم الله منه» حتى قيل: يا رسول الله تخلف أبو ذر وأبطأ به بعيره. فقال: «دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه» ، وتلوم أبو ذر على بعيره، فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فحمله على ظهره ثم خرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشيا، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بعض منازله فنظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله، إن هذا الرجل يمشى على الطريق وحده. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كن أبا ذر» . فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول الله، هو والله أبوذر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله أبا ذر يمشى وحده ويموت وحده، ويبعث وحده» «1» .
فقضى الله سبحانه أن أباذر لما أخرجه عثمان رضى الله عنه إلى الربدة وأدركته بها منيته لم يكن معه أحد إلا امرأته وغلامه، فأوصاهما أن غسلانى وكفنانى ثم ضعانى على قارعة الطريق فأول ركب يمر بكم فقولوا: هذا أبو ذر صاحب رسول الله فأعينوننا على دفنه فلما مات فعلا ذلك وأقبلو عبد الله بن مسعود فى رهط من العراق عمار، فلم يرعهم إلا بالجنازة على ظهر الطريق قد كادت الإبل تطؤها وقام إليهم الغلام فقال: هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعينوننا على دفنه. فاستهل عبد الله يبكى ويقول: صدق رسول الله تمشى وحدك وتموت وحدك وتبعث وحدك! ثم نزل هو وأصحابه فواروه. ثم حدثهم عبد الله بن مسعود حديثه وما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مسيره إلى تبوك «2» .
وقد كان رهط من المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بنى عمرو بن عوف وحليف لبنى سلمة من أشجع يقال له: نخشن بن حمير، ويقال: مخشى، يشيرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بنى الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا؟ والله لكأننا بكم غدا مقرنين فى الحبال إرجافا وترهيبا للمؤمنين فقال مخشن بن حمير، والله لوددت أنى أقاضى على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة وأنا نتفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا لعمار بن ياسر:
«أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فسلهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بل قلتم كذا وكذا» ، فانطلق إليهم عمار، فقال ذلك لهم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون، فقال وديعة بن ثابت
__________
(1) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (3/ 50، 51) ، دلائل النبوة للبيهقى (5/ 222) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 8) ، صحيح ابن حبان (8/ 234) ، مجمع الزوائد للهيثمى (9/ 331، 332) .
(2) انظر: السيرة (4/ 149- 150) .(1/553)
ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على ناقته فجعل يقول وهو آخذ بحقها: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب، فأنزل الله عز وجل فيهم: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ [التوبة: 65] ، وقال مخشن بن حمير: يا رسول الله قعد بى اسمى واسم أبى.
فكان الذى عفى عنه فى هذه الآية مخشن بن حمير فتسمى عبد الرحمن، وسأل الله أن يقتله شهيدا لا يعلم مكانه، فقتل يوم اليمامة فلم يوجد له أثر «1» .
ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك اتاه يحنة بن رؤبة صاحب أيلة فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطى الجزية. وأتاه أهل جرباء «2» وأذرح «3» فأعطوا الجزية، وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا فهو عندهم [فكتب ليحنّة بن رؤبة] «4» : «بسم الله الرحمن الرحيم، هذه أمنة من الله ومحمد النبى رسول الله ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة سفنهم وسيارتهم فى البر والبحر، لهم ذمة الله ومحمد النبى ومن كان منهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه وأنه طيبة لمن أخذه من الناس، وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقا يردونه من بر أو بحر «5» .
ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فبعثه إلى أكيدر دومة وهو أكيدر ابن عبد الملك رجل من كندة كان ملكا عليها وكان نصرانيا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد:
«إنك ستجده يصيد البقر» . فخرج خالد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين وفى ليلة مقمرة صائفة وهو على سطح له ومعه امرأته فباتت البقر تحك بقرونها باب القصر، فقالت له امرأته: هل رأيت مثل هذا قط؟ قال: لا والله، قالت: فمن يترك هذه؟ قال: لا أحد، فنزل فأمر بفرسه، فأسرج له، وركب معه نفر من أهل بيته، فيهم أخ له يقال له:
حسان، فركب وخرجوا معه بمطاردهم، فلما خرجوا تلقتهم خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذته، وقتلوا أخاه، وكان عليه قباء ديباج مخوص بالذهب، فاستلبه خالد فبعث به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل قدومه عليه، فجعل المسلمون يلمسونه بأيديهم ويتعجبون منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتعجبون من هذا؟ فو الذى نفسى بيده لمناديل سعد بن معاذ فى
__________
(1) ذكره ابن كثير فى تفسيره (2/ 381، 382) ، ابن حجر فى الإصابة (6/ 75) .
(2) جرباء: كأنه تأنيب الأجرب، موضع من أعمال عمان بالبلقاء من أرض الشام قرب جبال السراة من ناحية الحجاز. انظر: معجم البلدان (2/ 112) .
(3) أذرح: اسم بلد فى أطراف الشام من أعمال السراة، ثم من نواحى البلقاء وعمان مجاورة لأرض الحجاز. انظر: معجم البلدان (1/ 129) .
(4) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وما أوردناه من السيرة.
(5) ذكر البيهقى فى الدلائل (5/ 247، 248) .(1/554)
الجنة أحسن من هذا» «1» . ثم قدم خالد بأكيدر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فحقن له دمه، وصالحه على الجزية، ثم خلى سبيله، فرجع إلى قريته، فقال رجل من طيىء يقال له: بجير ابن يجرة، يذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد: إنك ستجده يصيد البقر، وما صنعت البقر تلك الليلة حتى استخرجته لتصديق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
تبارك سائق البقرات إنى ... رأيت الله يهدى كل هادى
فمن يك حائدا عن ذى تبوك ... فإنا قد أمرنا بالجهاد «2»
فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك بضع عشرة ليلة ولم يجاوزها، ثم انصرف قافلا إلى المدينة.
وكان فى الطريق ماء يخرج من وشل يروى الراكب والراكبين والثلاثة، بواد يقال له: وادى المشقق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سبقنا إلى الماء فلا يستقين منه شيئا، حتى نأتيه» ، فسبقه إليه نفر من المنافقين، فاستقوا ما فيه، فلما أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عليه فلم ير فيه شيئا، فقال: «من سبقنا إلى هذا؟» فقيل: يا رسول الله فلان وفلان، فقال:
«أو لم أنهكم أن تستقوا منه شيئا حتى آتيه؟» ثم لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا عليهم، ثم نزل فوضع يده تحت الوشل فجعل يصب فى يده ما شاء الله أن يصب ثم نضحه به ومسحه بيده ودعا بما شاء الله أن يدعو به، فانخرق من الماء كما يقول من سمعه ما إن حسا كحس الصواعق، فشرب الناس واستقوا حاجتهم منه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لئن بقيتم أو من بقى منكم لتسمعن بهذا الوادى وهو أخصب ما بين يديه وما خلفه» «3» .
ومات فى هذه الغزوة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: عبد الله ذو البجادين المزنى، وإنما سمى ذا البجادين لأنه كان ينازع إلى الإسلام فيمنعه قومه من ذلك ويضيقون عليه حتى تركوه فى بجاد ليس عليه غيره، والبجاد: الكساء الغليظ الجافى، فهرب منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان قريبا منه شق بجاده باثنين فاتزر بواحد، واشتمل بالآخر، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له: ذو البجادين لذلك «4» .
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح مسلم (4/ 1916/ 127) ، سنن النسائى (7/ 5715) ، مسند الإمام أحمد (3/ 111) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 166) ، دلائل النبوة للبيهقى (45/ 250، 251) .
(2) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 152) .
(3) انظر الحديث فى: موطأ مالك (1/ 2/ 143) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 18) ، صحيح مسلم (4/ 10/ 1784، 1785) .
(4) انظر: السيرة (4/ 154) .(1/555)
فكان عبد الله بن مسعود يحدث قال: قمت من جوف الليل وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوة تبوك، فرأيت شعلة من نار فى ناحية العسكر فاتبعتها أنظر إليها، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وإذا عبد الله ذو البجادين قد مات، وإذا هم قد حفروا له ورسول الله صلى الله عليه وسلم فى حفرته وأبو بكر وعمر يدليانه إليه وهو يقول: أدليا إلى أخاكما فدلياه، فلما هيأه لشقه قال: «اللهم إنى قد أمسيت راضيا عنه فارض عنه» يقول عبد الله ابن مسعود: يا ليتنى كنت صاحب الحفرة! «1» .
وقال أبو رهم الغفارى، وكان ممن بايع تحت الشجرة: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك، فسرت ذات ليلة معه قريبا منه وألقى علينا النعاس، فطفقت أستيقظ وقد دنت راحلتى من راحلته عليه السلام فيفزعنى دنوها منه مخافة أن أصيب رجله فى الغرز فما استيقظت إلا لقوله: حس، فقلت: يا رسول الله استغفر لى: قال: «سر» . فجعل يسألنى عمن تخلف من بنى غفار فأخبره به، فقال وهو يسألنى: «ما فعل النفر الحمر الطوال الثطاط» «2» ، فحدثته بتخلفهم، قال: «فما فعل النفر السود الجعاد القصار؟» قلت: والله ما أعرف هؤلاء منا. قال: «بلى، الذين هم نعم بشبكة شدخ» ، فتذكرتهم فى بنى غفار، فلم أذكرهم حتى ذكرت أنهم رهط من أسلم كانوا حلفاء فينا، فقلت:
يا رسول الله، أولئك رهط من أسلم حلفاء فينا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما منع أحد أولئك حين تخلف أن يحمل على بعير من إبله امرء نشيطا فى سبيل الله؟! إن أعز أهلى علىّ أن يتخلف عنى المهاجرون من قريش والأنصار وغفار وأسلم» «3» .
قال ابن إسحاق «4» : ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بذى أوان بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار، وكان أصحاب مسجد الضرار قد أتوه وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله، إنا قد بنينا مسجدا لذى العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا فتصلى لنا فيه، فقال: «إنى على جناح سفر، وحال شغل» . أو كما قال صلى الله عليه وسلم: «ولو قد قدمنا إن شاء الله لأتيناكم، فصلينا لكم فيه» ، فلما نزل بذى أوان أتاه خبر المسجد فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم، أخا بنى سالم بن عوف، ومعن بن
__________
(1) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (9/ 369) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 18) .
(2) الثطاط: جمع ثط، وهو قليل شعر اللحية والحاجبين.
(3) انظر الحديث فى: الطبقات الكبرى لابن سعد (4/ 180) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 192) ، مسند الإمام أحمد (4/ 350) .
(4) انظر: السيرة (4/ 155- 156) .(1/556)
عدى، أو أخاه عاصم بن عدى، أخا بنى العجلان، فقال: «انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه» ، فخرجا سريعين حتى أتيا بنى سالم بن عوف رهط مالك فقال مالك لمعن: انظرنى حتى أخرج إليك بنار من أهلى. فدخل إلى أهله فأخذ سعفا من النخل فأشعل فيه نارا ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه وفيه أهله فحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه ونزل فيهم من القرآن ما نزل: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة: 107] إلى آخر القصة «1» .
وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وقد كان تخلف عنه من تخلف من المنافقين، وأولئك الرهط الثلاثة من المسلمين من غير شك ولا نفاق: كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «لا تكلمن أحدا من هؤلاء الثلاثة» ، وأتاه من تخلف عنه من المنافقين فجعلوا يحلفون له ويعتذرون فصفح عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعذرهم الله ولا رسوله، فاعتزل المسلمون كلام أولئك النفر الثلاثة.
فحدث «2» كعب بن مالك قال: ما تخلفت عن رسول الله فى غزوة غزاها قط، غير أنى تخلفت عنه فى غزوة بدر، وكانت غزوة لم يعاتب الله فيها ولا رسوله أحدا تخلف عنها، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج يريد عير قريش فجمع الله بينه وبين عدوه على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لى بها مشهد بدر، وإن كانت غزوة بدر هى أذكر فى الناس منها.
وكان من خبرى حين تخلفت عنه فى غزوة تبوك أنى لم أكن قط أقوى ولا أيسر منى حين تخلفت عنه فى تلك الغزوة، والله ما اجتمعت لى راحلتان قط حتى اجتمعنا لى فى تلك الغزوة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قل ما يريد غزوة يغزوها إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حر شديد واستقبل سفرا بعيدا واستقبل غزو عدو كثير، فجلى للناس أمرهم ليتأهبوا لذلك أهبته وأخبرهم خبره بوجهه الذى يريد، والمسلمون من تبع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير لا يجمعهم كتاب حافظ، يعنى بذلك الديوان، فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أنه سيخفى له ذلك ما لم ينزل فيه وحى من الله تعالى، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار وأحبت الظلال فالناس إليها صعر، فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجهز المسلمون معه، وجعلت أغدو لأتجهز معهم فأرجع ولم أقض حاجة فأقول فى نفسى: أنا قادر على ذلك إذا أردت، فلم يزل ذلك
__________
(1) انظر الحديث فى: تفسير ابن كثير (4/ 149) .
(2) انظر: السيرة (4/ 157- 158) .(1/557)
يتمادى بى حتى شمر بالناس الجد وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غاديا والمسلمون معه ولم أقض من جهازى شيئا فقلت: أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحق بهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض شيئا، ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا، فلم يزل ذلك يتمادى بى حتى أسرعوا وتفرط الغزو فههمت أن أرتحل فأدركهم، وليتنى فعلت، فلم أفعل، وجعلت إذا خرجت فى الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت فيهم يحزننى أنى لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه فى النفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء، ولم يذكرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس فى القوم بتبوك: ما فعل كعب ابن مالك؟ فقال رجل من بنى سلمة: يا رسول الله، حبسه برداه والنظر فى عطفيه.
فقال له معاذ: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا منه إلا خيرا. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توجه قافلا حضر لى بثى فجعلت أتذكر الكذب وأقول: بماذا أخرج من سخط رسول الله صلى الله عليه وسلم غدا؟ وأستعين على ذلك كل ذى رأى من أهلى، فلما قيل لى: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عنى الباطل وعرفت أن لا أنجو منه إلا بالصدق، فأجمعت أن أصدق.
وصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاء المخلفون من الأعراب فجعلوا يحلفون له ويعتذرون، وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فيقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وأيمانهم ويستغفر لهم ويكل سرائرهم إلى الله، حتى جئت فسلمت عليه فتبسم تبسم المغضب ثم قال لى: تعاله. فجئت أمشى حتى جلست بين يديه فقال لى: «ما خلفك ألم تكن ابتعت ظهرك؟» قلت: يا رسول الله، والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أنى سأخرج من سخطه بعذر لقد أعطيت جدلا، ولكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثا كذبا لترضين عنى وليوشكن الله أن يسخط علىّ، ولئن حدثتك اليوم حديثا صادقا تجد على فيه إنى أرجو عقباى من الله فيه، ولا والله ما كان لى عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر منى حين تخلفت عنك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدقت فيه، فقم حتى يقضى فيك. فقمت.
وثار معى رجال من بنى سلمة فاتبعونى فقالوا: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك، فو الله ما زالوا حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسى، ثم قلت لهم: هل لقى هذا أحد غيرى؟ قالوا:(1/558)
نعم، رجلان قالا مثل ذلك وقيل لهما مثل ما قيل لك. قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العمرى وهلال بن أمية الواقفى، فذكروا لى رجلين صالحين فيهما أسوة حسنة، فقمت حين ذكروهما لى، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لى نفسى والأرض فما هى بالأرض التى كنت أعرف.
فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباى فاستكانا فقعدا فى بيوتهما، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم فكنت أخرج وأشهد الصلوات مع المسلمين واطوف بالأسواق لا يكلمنى أحد، وآتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو فى مجلسه بعد الصلاة فأقول فى نفسى: هل حرك شفتيه برد السلام على أم لا! ثم أصلى قريبا منه فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتى نظر إلى، وإذا التفت نحوه أعرض عنى.
حتى إذا طال ذلك على من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبى قتادة وهو ابن عمى وأحب الناس إلى فسلمت عليه فو الله ما رد على السلام، فقلت: يا أبا قتادة، أنشدك الله هل تعلم أنى أحب الله ورسوله؟ فسكت فعدت فنا شدته، فسكت، فعدت فناشدته، فقال: الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناى ووثبت فتسورت الحائط. ثم غدوت إلى السوق فبينا انا أمشى بالسوق إذا نبطى «1» يسأل عنى من نبط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ فجعل الناس يشيرون له إلى، حتى جاءنى فدفع إلى كتابا من ملك غسان فى سرقة من حرير فإذا فيه: أما بعد، فإنه قد بلغنا أن صاحبك جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نوسك. قلت حين قرأتها: وهذا من البلاء أيضا قد بلغ لى ما وقعت فيه أن طمع فى رجل من أهل الشرك فعمدت بها إلى تنور فسجرته بها.
فأقمنا على ذلك حتى مضت أربعون ليلة من الخمسين، إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتينى فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك. فقلت: أطلقها أم ماذا؟ قال: لا، بل اعتزلها ولا تقربها. وأرسل إلى صاحبى بمثل ذلك، فقلت لامرأتى: الحقى بأهلك وكونى فيهم حتى يقضى الله فى هذا الأمر ما هو قاض.
وجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ كبير ضائع إلا خادم، أفتكره ان أخدمه؟ قال: لا ولكن لا يقربنك. قالت: يا
__________
(1) النبطى: واحد النبط وهم قوم من الأعاجم.(1/559)
رسول الله، والله ما به من حركة، والله ما زال يبكى منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا ولقد تخوفت على بصره. فقال لى بعض أهلى: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأتك فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه، فقلت: والله لا أستأذنه فيها، ما أدرى ما يقول لى فى ذلك إذا استأذنته وأنا رجل شاب، قال: فلبثنا بعد ذلك عشر ليال فكمل لنا خمسون من حين نهى رسول الله المسلمين عن كلامنا، ثم صليت الصبح خمسين ليلة على طهر بيت من بيوتنا على الحال التى ذكر الله، هنا قد ضاقت علينا الأرض بما رحبت وضاقت على نفسى، وقد كنت ابتنيت خيمة فى ظهر سلع، فكنت اكون فيها إذ سمعت صوت صارخ أو فى على سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر. فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاءنى الفرج.
قال: وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر، فذهب الناس يبشروننا وذهب نحو صاحبى مبشرون، وركض رجل إلى فرسا وسعى ساع من أسلم، حتى أوفى على الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءنى الذى سمعت صوته يبشرنى نزعت ثوبى فكسوتهما إياه بشارة، وو الله ما أملك يومئذ غيرهما، واستعرت ثوبين فلبستهما، ثم انطلقت أتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلقانى الناس يبشروننى بالتوبة يقولون: ليهنك توبة الله عليك. حتى دخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس فقام إلى طلحة بن عبيد الله فحيانى وهنأنى، والله ما قام إلى رجل من المهاجرين غيره. فكان كعب لا ينساها لطلحة.
قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ووجهه يبرق من السرور: أبشر بخير يوم مر عليك منذ يوم ولدتك أمك. قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: بل من عند الله. قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استبشر كأن وجهه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه.
قال: فلما جلست بين يديه، قلت: يا رسول الله، إن من توبتى إلى الله أن أنخلع من مالى صدقة إلى الله وإلى رسوله. قال: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك. قلت:
إنى ممسك سهمى الذى بخيبر. وقلت: يا رسول الله إن الله قد نجانى بالصدق، فإن من توبتى إلى الله أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت. والله ما أعلم أحدا من الناس أبلاه الله فى صدق الحديث منذ ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أفضل مما أبلانى، والله ما تعمدت من كذبة مذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومى هذا، وإنى لأرجو أن يحفظنى الله فيما بقى.(1/560)
وأنزل الله تبارك وتعالى: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 177- 119] .
قال كعب: فو الله ما أنعم الله على نعمة قط بعد أن هدانى للإسلام كانت أعظم فى نفسى من صدقى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوه، فإن الله تبارك وتعالى قال فى الذين كذبوه شر ما قال لأحد: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [التوبة: 95- 96] .
قال: وكنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر هؤلاء الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له فعذرهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه ما قضى، فلذلك قال الله تبارك وتعالى: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا وليس الذى ذكر من تخليفنا لتخلفنا عن الغزوة، ولكن لتخليفه إيانا وإرجائه أمرنا عن من حلف له واعتذر إليه فقبل منه «1» .
ذكر إسلام ثقيف
وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من تبوك فى رمضان وقدم عليه فى ذلك الشهر وفد ثقيف.
وكان من حديثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف عنهم اتبع أثره عروة بن مسعود حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة، فأسلم وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يتحدث قومه: إنهم قاتلوك. وعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن فيهم نخوة
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى كتاب المغازى (7/ 4418) ، صحيح مسلم كتاب التوبة (4/ 53) مسند الإمام أحمد (3/ 454- 459) ، سنن الترمذى كتاب التفسير (3102) ، دلائل النبوة للبيهقى (5/ 273- 279) ، مصنف عبد الرزاق (5/ 9744) .(1/561)
الامتناع الذى كان منهم. فقال عروة: يا رسول الله، أنا أحب إليهم من أبكارهم.
ويقال: من أبصارهم. وكان فيهم كذلك محببا مطاعا.
فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء أن لا يخالفوه لمنزلته فيهم، فلما أشرف لهم على علية له وقد دعاهم إلى الإسلام وأظهر لهم دينه رموه بالنبل من كل وجه فأصابه سهم فقتله، فقيل له: ما ترى فى دمك؟ قال: كرامة أكرمنى الله بها وشهادة ساقها إلى فليس فى إلا ما فى الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يرتحل عنكم فادفنونى معهم.
فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن مثله فى قومه لكمثل صاحب ياسين فى قومه» «1» .
ثم أقامت ثقيف بعد قتل عروة أشهرا، ثم إنهم ائتمروا بينهم ورأوا أنهم لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب، وقد بايعوا وأسلموا، فمشى عمرو بن أمية أخو بنى علاج وكان من أدهى العرب إلى عبد ياليل بن عمرو حتى دخل داره وكان قبل مهاجرا له الذى بينهما سىء ثم أرسل إليه، أن عمرو بن أمية يقول لك: اخرج إلى فقال عبد ياليل للرسول: ويلك أعمرو وأرسلك إلى؟ قال: نعم وها هو ذا واقفا فى دارك. قال: إن هذا لشىء ما كنت أظنه، لعمرو كان أمنع فى نفسه من ذلك. فخرج إليه فلما رآه رحب به فقال له عمرو: إنه قد نزل بنا ما ليست معه هجرة، إنه قد كان من أمر هذا الرجل ما قد رأيت، وقد أسلمت العرب كلها، وليست لكم بحربهم طاقة فاتنظروا فى أمركم «2» .
فعند ذلك ائتمرت ثقيف بينها وقال بعضهم لبعض: ألا ترون أنه لا يأمن لكم سرب ولا يخرج منكم أحد إلا اقتطع؟ فائتمروا بينهم وأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا كما أرسلوا عروة. فكلموا عبد ياليل وكان سن عروة، وعرضوا عليه ذلك فأبى أن يفعل وخشى أن يصنع به إذا رجع كما صنع بعروة فقال: لست فاعلا حتى ترسلوا معى رجالا. فأجمعوا أن يبعثوا معه رجلين من الأحلاف وثلاثة من بنى مالك فيكونوا ستة، فبعثوا مع عبد ياليل الحكم بن عمرو بن وهب بن معتب، وشر حبيل بن غيلان بن سلمة بن معتب. ومن بنى مالك: عثمان بن أبى العاص وأوس بن عوف ونمير بن خرشة.
فخرج بهم عبد ياليل وهو ناب القوم وصاحب أمرهم، ولم يخرج بهم إلا خشية من
__________
(1) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (3/ 615، 616) ، تاريخ الطبرى (2/ 179) ، دلائل النبوة للبيهقى (5/ 299، 300) ، مجمع الزوائد للهيثمى (9/ 386) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 312) .
(2) انظر: السيرة (4/ 164- 166) .(1/562)
مثل ما صنع بعروة بن مسعود لكى يشغل كل رجل منهم إذا رجعوا إلى الطائف رهطه، فلما دنوا من المدينة ونزلوا قناة ألفوا بها المغيرة بن شعبة يرعى فى نوبته ركاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت رعيتها نوبا عليهم، فلما رآهم ترك الركاب عند الثقفيين وضبر يشتد «1» يبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومهم، فلقيه أبو بكر الصديق قبل أن يدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بقدومهم يريدون البيعة والإسلام وأن يشترطوا شروطا ويكتتبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا. فقال أبو بكر رضى الله عنه للمغيرة:
أقسمت عليك بالله لا تسبقنى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أكون أنا أحدثه. ففعل المغيرة.
فدخل أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك ثم خرج المغيرة إلى أصحابه فروح الظهر معهم وعلمهم كيف يحيون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يفعلوا إلا بتحية الجاهلية.
ولما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عليهم قبة فى ناحية مسجده كما يزعمون فكان خالد بن سعيد هو الذى يمشى بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اكتتبوا كتابهم، كتبه خالد بيده وكانوا لا يطعمون طعاما ياتيهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأكل منه خالد حتى أسلموا وفرغوا من كتابهم.
وقد كان فيما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدع لهم الطاغية وهى اللات لا يهدمها ثلاث سنين فأبى ذلك عليهم، فما برحوا يسألونه سنة سنة ويأبى حتى سألوه شهرا واحدا بعد مقدمهم فأبى عليهم أن يدعها شيئا مسمى، وإنما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم ويكرهون أن يروعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام، فأبى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فيهدماها. وقد كانوا سألوه مع ترك الطاغية أن يعفيهم من الصلاة وأن لا يكسروا أوثانهم بأيديهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما كسر أوثانكم فسنعفيكم منه، وأما الصلاة فلا خير فى دين لا صلاة فيه» ، [فقالوا: يا محمد، فسنؤتيكها، وإن كانت دناءة] «2» ، فلما أسلموا وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا أمر عليهم عثمان بن أبى العاص وكان من أحدثهم سنا فقال أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إنى قد رأيت هذا الغلام من أحرصهم على التفقه فى الإسلام وتعلم القرآن «3» .
__________
(1) ضبر يشتد: أى وثب، ويقال: ضبر الفرس إذا جمع قوائمه ووثب.
(2) ما بين المعقوفتين سقط فى الأصل، وما أوردناه من السيرة.
(3) انظر الحديث فى: سنن أبى داود (3/ 3026) ، مسند الإمام أحمد (4/ 218) .(1/563)
فحدث «1» عثمان بن أبى العاص قال: كان من آخر ما عهد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثنى على ثقيف أن قال: «يا عثمان تجاوز فى صلاتك واقدر الناس بأضعفهم فإن فيهم الكبير والصغير والضعيف وذا الحاجة» «2» .
فلما فرغوا من أمرهم وتوجهوا راجعين إلى بلادهم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فى هدم الطاغية فخرجا مع القوم حتى إذا قدموا الطائف أراد المغيرة أن يقدم أبا سفيان، فأبى ذلك عليه أبو سفيان وقال: ادخل أنت على قومك. وأقام أبو سفيان بماله بذى الهدم، فلما دخل علاها يضربها بالمعول وقام دونه بنو معتب خشية أن يرمى أو يصاب كما أصيب عروة، وخرج نساء ثقيف حسرا «3» يبكين عليها ويقلن:
لتبكين دفاع ... أسلمها الرضاع «4»
لم يحسنوا المصاع
فلما هدمها المغيرة وأخذ مالها وحليها أرسل إلى أبى سفيان وحليها مجموع ومالها من الذهب والجزع.
وقد كان أبو مليح بن عروة وقارب بن الأسود قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفد ثقيف حين قتل عروة يريدان فراق ثقيف وأن لا يجامعاهم على شىء أبدا. فأسلما فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: توليا من شئتما. فقالا: نتولى الله ورسوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«وخالكما أبا سفيان بن حرب» . فقالا: وخالنا أبا سفيان، فلما أسلم أهل الطائف ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان والمغيرة إلى هدم الطاغية سأل أبو مليح رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقضى عن أبيه عروة دينا كأن عليه من مال الطاغية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم» .
فقال له قارب بن الأسود: وعن الأسود يا رسول الله فاقضه، وعروة والأسود أخوان لأب وأم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الأسود مات مشركا» . فقال قارب: يا رسول الله، لكن تصل مسلما ذا قرابة، يعنى نفسه، إنما الدين على وإنما أنا الذى أطلب به. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان أن يقضى دين عروة والأسود من مال الطاغية، فلما جمع
__________
(1) انظر: السيرة (4/ 167) .
(2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (4/ 21) ، صحيح مسلم (1/ 187/ 342) .
(3) حسرا: بضم الحاء وتشديد السين مفتوحة، جمع حاسرة، وهى المكشوفة الوجه.
(4) دفاع: هى صيغة مبالغة من الدفع، وإنما سموا طاغيتهم دفاعا لأنهم كانوا يعتقدون أن الأصنام تدفع عنهم البلاء والمحن. الرضاع: جمع راضع وأريد بهم اللئام.(1/564)
المغيرة مالها ذكر أبا سفيان بذلك فقضى منه عنهما «1» .
هكذا ذكر ابن إسحاق إسلام أهل الطائف بعقب غزوة تبوك فى رمضان من سنة تسع قبل حج أبى بكر بالناس آخر تلك السنة. وجعل ابن عقبة قدوم عروة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتله فى قومه وإسلام ثقيف كل ذلك بعد صدر أبى بكر عن حجه. وبين حديثه وحديث ابن إسحاق بعض اختلاف، رأيت ذكر حديث ابن عقبة وإن كان أكثره معادا لأجل ذلك الاختلاف، ثم أذكر بعده حجة أبى بكر فى الموضع الذى ذكرها فيه ابن إسحاق.
قال موسى بن عقبة: فلما صدر أبو بكر من حجه بالناس قدم عروة بن مسعود الثقفى على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم ثم استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الرجوع إلى قومه فقال له: إنى أخاف ان يقتلوك، قال: لو وجدونى نائما ما أيقظونى. فأذن له فرجع إلى الطائف وقدمها عشاء فجاءته ثقيف يسلمون عليه فدعاهم إلى الإسلام ونصح لهم فاتهموه وأعضوه وأسمعوه من الأذى ما لم يكن يخشاه منهم فخرجوا من عنده حتى إذا أسحر وسطع الفجر قام على غرفة فى داره فأذن بالصلاة وتشهد، فرماه رجل من ثقيف بسهم فقتله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه قتله: «مثل عروة مثل صاحب ياسين، دعا قومه إلى الله، فقتلوه» «2» .
وأقبل بعد قتله وفد من ثقيف بضعة عشر رجلا هم أشراف ثقيف، فيهم كنانة بن عبد ياليل وهو رأسهم يومئذ، وفيهم عثمان بن أبى العاص وهو أصغر القوم حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يريدون الصلح حين رأوا أن قد فتحت مكة وأسلم عامة العرب، فقال المغيرة بن شعبة: يا رسول الله، أنزل على قومى أكرمهم بذلك فإنى حديث الجرم فيهم. قال: لا أمنعك أن تكرم قومك ولكن تنزلهم حيث يسمعون القرآن.
فأنزلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المسجد وبنى لهم خياما لكى يسمعوا القرآن ويروا الناس إذا صلوا. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب لم يذكر نفسه، فلما سمعه وفد ثقيف قالوا:
يأمرنا ان نشهد أنه رسول الله ولا يشهد به فى خطبته! فلما بلغه قولهم قال: «فإنى أول
__________
(1) انظر الحديث فى: الطبقات الكبرى لابن سعد (5/ 504، 505) .
(2) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (3/ 615) ، طبقات ابن سعد (5/ 370) ، مجمع الزوائد للهيثمى (9/ 386) ، المعجم الكبير للطبرانى (17/ 148) ، الدر المنثور للسيوطى (5/ 262) ، كنز العمال للمتقى الهندى (33615) .(1/565)
من يشهد أنى رسول الله» «1» . وكانوا يغدون على رسول الله كل يوم ويخلفون عثمان بن أبى العاص على رحالهم لأنه أصغرهم، فكان عثمان كلما رجع الوفد إليه وقالوا بالهاجرة عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذين واستقرأه القرآن، فاختلف إليه عثمان مرارا حتى فقه فى الدين وعلم. وكان إذا وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم نائما عمد إلى أبى بكر، وكان يكتم ذلك من أصحابه، فأعجب ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحبه.
فمكث الوفد يختلفون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعوهم إلى الإسلام، فقال له كنانة ابن عبد ياليل: هل أنت مقاضينا حتى نرجع إلى قومنا ثم نرجع إليك؟ فقال: «نعم، إن أنتم أقررتم بالإسلام قاضيتكم وإلا فلا قضية ولا صلح بينى وبينكم» .
قالوا: أرأيت الزنا؟ فإنا قوم نغترب ولا بد لنا منه. قال: «هو عليكم حرام إن الله» يقول: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا [الإسراء: 32] .
قالوا: فالربا؟ قال: «والربا» . قالوا: إنه أموالنا كلها. قال: «فلكم رؤس أموالكم» ، قال الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة: 278] . قالوا فالخمر؟ فإنها عصير أرضنا ولا بد لنا منها. قال: «إن الله قد حرمها» ، قال الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة: 90] .
فارتفع القوم فخلا بعضهم إلى بعض وقالوا: ويحكم إنا نخاف إن خالفناه يوما كيوم مكة، انطلقوا فأعطوه ما سأل وأجيبوه. فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لك ما سألت.
أرأيت الربة ماذا نصنع فيها؟ قال: «اهدموها» . قالوا: هيهات! لو تعلم الربة أنا نريد هدمها لقتلت أهلنا. فقال عمر: ويحك يا بن عبد ياليل ما أحمقك إنما الربة حجر، قال:
إنا لم نأتك يا ابن الخطاب. ثم قال: يا رسول الله، تول أنت هدمها، فأما نحن فلن نهدمها أبدا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فسأ بعث إليكم من يكفيكم هدمها» . قال كنانة: ائذن لنا قبل رسولك ثم ابعث فى آثارنا، فإنى أعلم بقومى، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكرمهم وحملهم. قالوا: يا رسول الله، أمر علينا رجلا يؤمنا، فأمر عليهم عثمان بن أبى العاص «2» لما رأى من حرصه على الإسلام وقد كان علم سورا من القرآن قبل أن يخرج.
__________
(1) ذكره البيهقى فى دلائل النبوة (5/ 300) .
(2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1791) ، الإصابة الترجمة رقم (5457) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3581) ، تهذيب الكمال (6/ 212) ، تهذيب التهذيب (7/ 128، 129) ، خلاصة تذهيب الكمال (913) ، شذرات الذهب (1/ 36) ، سير أعلام النبلاء (2/ 374) .(1/566)
وقال كنانة «1» لأصحابه: أنا أعلمكم بثقيف فاكتموهم إسلامكم وخوفوهم الحرب والقتال وأخبروهم أن محمدا سألنا امورا أبيناها عليه، سألنا أن نهدم اللات ونبطل أموالنا فى الربا ونحرم الخمر.
حتى إذا دنوا من الطائف خرجت إليهم ثقيف يتلقونهم، فلما رأوهم قد ساروا العنق وقطروا الإبل وتغشوا ثيابهم كهيئة قوم قد حزنوا أو كذبوا قالت ثقيف بعضهم لبعض: ما جاؤكم بخير. فلما دخلوا حصنهم عمدوا للآت فجلسوا عندها، واللات بيت كانوا يعبدونه ويسترونه ويهدون له الهدى يضاهون به بيت الله، ثم رجع كل واحد منهم إلى أهله فجاء كل رجل حامية من ثقيف فسألوه: ماذا جئتم به؟ قالوا: أتينا رجلا فظا غليظا يأخذ من أمره ما شاء قد ظهر بالسيف وأداخ العرب ودان له الناس، فعرض علينا أمورا شدادا: هدم اللات وترك الأموال فى الربا إلا رؤس أموالكم وحرم الخمر والزنا. قالت ثقيف: والله لا نقبل هذا أبدا. قال الوفد: أصلحوا السلاح وتهيئوا للقتال ورموا حصنكم.
فمكثت ثقيف بذلك يومين أو ثلاثة تريد القتال ثم ألقى الله الرعب فى قلوبهم وقالوا: والله ما لنا به طاقة أداخ العرب كلها فارجعوا إليه فأعطوه ما سأل وصالحوه عليه. فلما رأى الوفد أنهم قد رعبوا واختاروا الأمن على الخوف وعلى الحرب، قالوا لهم: إنا قد فرغنا من ذلك، قد قاضيناه وأسلمنا وأعطانا ما أحببنا واشترطنا ما أردنا وجدناه اتقى الناس وأوفاهم وأرحمهم وأصدقهم وقد بورك لنا ولكم فى مسيرنا إليه وفيما قاضيناه عليه. فقالت ثقيف: فلم كتمتمونا هذا الحديث وغممتمونا بذلك أشد الغم؟ قالوا: أردنا أن ينزع الله من قلوبكم نخوة الشيطان، فأسلموا مكانهم واستسلموا.
فمكثوا أياما ثم قدم عليهم رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر عليهم خالد بن الوليد وفيهم المغيرة بن شعبة، فلما قدموا عليهم عمدوا للات ليهدموها وانكفأت ثقيف كلها الرجال والنساء والصبيان حتى خرج العواتق من الحجال وهم لا يرون أنها تهدم ويظنون أنها ستمتنع. فقام المغيرة بن شعبة «2» وقال لأصحابه: لأضحكنكم من ثقيف فأخذ الكرزن
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2243) ، الإصابة الترجمة رقم (7478) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4505) .
(2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2512) ، الإصابة الترجمة رقم (8197) ، أسد الغابة الترجمة رقم (5071) ، التاريخ لابن معين (2/ 579) ، ترتيب الثقات (437) ، الطبقات لابن سعد (2/ 284) ، أنساب الأشراف (1/ 168) ، مروج الذهب (1656) ، الكامل فى التاريخ-(1/567)
فضرب به ثم أخذ يرتكض فارتج أهل الطائف بصيحة واحدة وقالوا: أبعد الله المغيرة قد قتلته الربة! وفرحوا حين رأوه ساقطا وقالوا: من شاء منكم فليقترب ويجهد على هدمها فو الله لا تستطاع أبدا. فوثب المغيرة فقال: قبحكم الله يا معشر ثقيف! إنما هى لكاع حجارة ومدر! ثم ضرب الباب فكسره ثم علا على سورها وعلا الرجال معه، فما زالوا يهدمونها حجرا حجرا حتى سووها بالأرض وجعل صاحب المفاتيح يقول:
ليغضبن الأساس فليخسفن بهم. فلما سمع ذلك المغيرة قال لخالد: دعنى أحفر أساسها.
فحفروها حتى أخرجوا ترابها وأخذوا حليها وثيابها. فبهتت ثقيف.
وانصرف الوفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحليتها وكسوتها فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه وحمد الله على نصر نبيه وأغزاز دينه.
ذكر حج أبى بكر الصديق رضى الله عنه بالناس سنة تسع وتوجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب بعده بسورة براءة
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميرا على الحج من سنة تسع ليقيم للمسلمين حجهم، ونزلت بعد بعثه إياه «براءة» فى نقض ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين من العهد الذى كانوا عليه فيما بينه وبينهم: أن لا يصد عن البيت أحد جاءه، ولا يخاف على أحد فى الشهر الحرام، وكان ذلك عهدا عاما بينه وبين أهل الشرك، وكان بين ذلك عهود خصائص بينه وبين قبائل العرب إلى آجال مسماة فنزلت فيه وفيمن تخلف من المنافقين عن تبوك وفى قول من قال منهم فكشف الله سرائر قوم كانوا يستخفون بغير ما يظهرون «1» .
فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو بعثت بها إلى أبى بكر؟ فقال: «لا يؤدى عنى إلا رجل من أهل بيتى» ، ثم دعا على بن أبى طالب فقال: «اخرج بهذه القصة من صدر براءة وأذن فى الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى: أنه لا يدخل الجنة كافر ولا يحج بعد العام مشرك
__________
- (3/ 461) ، المعين من طبقات المحدثين (124) ، العبر (1/ 56) ، مرآة الجنان (1/ 124) ، سير أعلام النبلاء (3/ 21) ، تقريب التهذيب (2/ 269) ، خلاصة تذهيب التهذيب (329) ، شذرات الذهب (1/ 56) ، العقد الثمين (7/ 255) .
(1) انظر: السيرة (4/ 170) .(1/568)
ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته» ، فخرج على على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء حتى أدرك أبا بكر الصديق بالطريق، فلما رآه أبو بكر قال: أمير أم مأمور؟ قال: بل مأمور. ومضيا، فأقام أبو بكر للناس الحج، والعرب فى تلك السنة على منازلهم من الحج التى كانوا عليها فى الجاهلية، حتى إذا كان يوم النحر قام على بن أبى طالب فأذن فى الناس بالذى أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذن فيهم ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وبلادهم، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة إلا أحد كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى مدة فهو له إلى مدته، فلم يحجج بعد ذلك العام مشرك ولم يطف بالبيت عريان «1» .
وكانت براءة تسمى فى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المبعثرة» لما كشفت من سرائر الناس، وكانت تبوك آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان جميع ما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه سبعا وعشرين غزاة: غزوة ودان وهى غزوة الأبواء، ثم غزوة بواط من ناحية رضوى، ثم غزوة العشيرة من بطن ينبع، ثم غزوة بدر الأولى يطلب كرز بن جابر، ثم غزوة بدر التى قتل الله فيها صناديد قريش، ثم غزوة بنى سليم حين بلغ الكدر، ثم غزوة السويق يطلب أبا سفيان بن حرب، ثم غزوة غطفان إلى نجد، وهى غزوة ذى أمر، ثم غزوة بحران معدن بالحجاز، ثم غزوة أحد، ثم غزوة حمراء الأسد، ثم غزوة بنى النضير، ثم غزوة ذات الرقاع من نخل، ثم غزوة بدر الآخرة، ثم غزوة دومة الجندل، ثم غزوة الخندق، ثم غزوة بنى قريظة، ثم غزوة بنى لحيان من هذيل، ثم غزوة ذى قرد، ثم غزوة بنى المصطلق من خزاعة، ثم غزوة الحديبية لا يريد قتالا فصده المشركون، ثم غزوة خيبر، ثم عمرة القضاء، ثم غزوة الفتح، ثم غزوة حنين، ثم غزوة الطائف، ثم غزوة تبوك، قاتل صلى الله عليه وسلم فى تسع غزوات منها: بدر، وأحد، والخندق، وقريظة، وبنى المصطلق وخيبر، والفتح، وحنين، والطائف. وهذا الترتيب عن ابن إسحاق «2» ، وخالفه ابن عقبه فى بعضه.
السرايا
وكانت بعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه ثمانية، وثلاثين من بين بعث وسرية: غزوة
__________
(1) انظر الحديث فى: فتح البارى لابن حجر (7/ 684) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 37) ، وله شواهد منها ما فى مسند الإمام أحمد (2/ 299) من طريق: محرز بن أبى هريرة عن أبيه، قال: «كنت مع على بن أبى طالب فكنت أنادى حتى صحل صوتى» .
(2) انظر: السيرة (4/ 233) .(1/569)
عبيدة بن الحارث أسفل ثنية المرة، وغزوة حمزة بن عبد المطلب ساحل البحر من ناحية العيص، وبعض الناس يقدم غزوة حمزة قبل غزوة عبيدة.
وغزوة سعد بن أبى وقاص الخرار، وغزوة عبد الله بن جحش نخلة، وغزوة زيد بن حارثة القردة، وغزوة محمد بن مسملة كعب بن الأشرف، وغزوة مرثد بن أبى مرثد الغنوى الرجيع، وغزوة المنذر بن عمرو بئر معونة، وغزوة أبى عبيدة بن الجراح ذا القصة، من طريق العراق، وغزوة عمر بن الخطاب تربة من أرض بنى عامر، وغزوة على ابن أبى طالب اليمن، وغزوة غالب بن عبد الله الكلبى كلب ليث، الكديد فأصاب بنى الملوح «1» .
وكان من حديثها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه فى سرية وأمره أن يشن الغارة على بنى الملوح وهم بالكديد، قال جندب بن مكيث الجهنى، وكان مع غالب فى سريته هذه:
فخرجنا حتى إذا كنا بقديد لقينا الحارث بن مالك وهو ابن البرصاء الليثى فأخذناه فقال: إنى جئت أريد الإسلام وما خرجت إلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلنا له: إن تك مسلما فلن يضرك رباط ليلة، وإن تك على غير ذلك كنا قد استوثقنا منك فشددناه رباطا ثم خلفنا عليه رجلا من أصحابنا وقلنا له: إن عازك «2» فاحتز رأسه.
قال: ثم سرنا حتى اتينا الكديد عند غروب الشمس فكمنا فى ناحية الوادى وبعثنى أصحابى ربيئة لهم «3» ، فخرجت حتى آتى تلا مشرفا على الحاضر، فأسندت فيه فعلوت فى رأسه فنظرت إلى الحاضر فو الله إنى لمنبطح على التل إذ خرج رجل منهم من خبائه فقال لامرأته: إنى لأرى على التل سوادا ما رأيته فى أول يومى فانظرى إلى أوعيتك هل تفقدين شيئا لا تكون الكلاب جرت بعضها. فنظرت فقالت: لا والله ما أفقد شيئا.
قال: فناولينى قوسى وسهمين. فناولته فأرسل سهما فو الله ما أخطأ جنبى فأنزعه وأضعه وثبت مكانى. ثم أرسل الآخر فوضعه فى منكبى فأنزعه وأضعه وثبت مكانى.
فقال لامرأته: لو كان ربيئة تحرك لقد خالطه سهماى، لا أبالك، إذا أصبحت فابتغيهما فخذيهما لا يمضغهما الكلاب على. ثم دخل.
وأمهلناهم، حتى إذا اطمأنوا وناموا، وكان فى وجه السحر، شننا عليهم الغارة
__________
(1) انظر: السيرة (233، 234) .
(2) عازك: أى غالبك، ومنه قوله تعالى: وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ أى غلبنى.
(3) ربيئة القوم: أى طليعة القوم الذى ينظر لأصحابه.(1/570)
فقتلنا، واستقنا النعم، وخرج صريخ القوم، فجاءنا دهم لا قبل لنا به، ومضينا بالنعم، ومررنا بابن البرصاء وصاحبه، فاحتملناهما معنا، وأدركنا القوم حتى قربوا منا فما بيننا وبينهم إلا وادى قديد، فأرسل الله الوادى بالسيل من حيث شاء الله تبارك وتعالى، من غير سحابة نراها، ولا مطر، فجاء بشىء ليس لأحد به قوة، ولا يقدر على أن يجاوزه، فوقفوا ينظرون إلينا، وإنا لنسوق نعمهم، وما يستطيع منهم رجل أن يجيز إلينا، حتى فتناهم، فقدمنا بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» .
وغزوة على بن أبى طالب بنى عبد الله بن سعد من أهل فدك، وغزوة أبى العوجاء السلمى أرض بنى سليم، فأصيب بها هو وأصحابه جميعا، وغزوة عكاشة بن محصن الغمرة، وغزوة أبى سلمة بن عبد الأسد قطنا ماء من مياه بنى أسد، من ناحية نجد، قتل فيها مسعود بن عروة، وغزوة محمد بن مسلمة القرطاء من هوازن، وغزوة بشير بن سعد بنى مرة بفدك، وغزوته أيضا بناحية خيبر، وغزوة زيد بن حارثة الجموح، من أرض بنى سليم، وغزوته أيضا جذام، من أرض خشين، ويقال: من أرض حسمى «2» .
وكان من حديثها كما حدث رجال من جذام كانوا علماء بها: أن رفاعة بن زيد الجذامى لما قدم على قومه من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابه يدعوهم إلى الإسلام فاستجابوا له لم يلبث أن قدم دحية بن خليفة الكلبى من عند قيصر صاحب الروم، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه تجارة له، حتى إذا كان بواد من أوديتهم أغار عليه الهنيد بن عوص الضليعى بطن منهم وابنه عوص، فأصابا كل شىء كان معه، فبلغ ذلك قوما من بنى الضبيب رهط رفاعة ممن كان أسلم وأجاب، فنفروا إلى الهنيد وابنه فاستنفذوا ما كان فى أيديهما فردوه على دحية، فخرج دحية حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبره، واستسقاه دم الهنيد وابنه، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وبعث معه جيشا فأغاروا فجمعوا ما وجدوا من مال أو ناس وقتلوا الهنيد وابنه ورجلين معهما، فلما سمعت بذلك بنو الضبيب ركب نفر منهم فيهم حسان بن ملة فلما وقفوا على زيد بن حارثة قال حسان: إنا قوم مسلمون، فقال له زيد: فاقرأ أم الكتاب، فقرأها حسان، فقال زيد بن حارثة: نادوا فى الجيش: إن الله قد حرم علينا ثغرة القوم التى جاؤا منها إلا من ختر، وإذا أخت حسان فى الأسارى فقال له زيد: خذها، فقالت أم الفزر الصلعية: أتنطلقون ببناتكم وتذرون أمهاتكم؟! فقال أحد بنى الخصيب: إنها بنو
__________
(1) انظر الحديث فى: الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 119) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 203) .
(2) انظر: السيرة (4/ 236) .(1/571)
الضبيب وسحر ألسنتهم سائر اليوم فسمعها بعض الجيش فأخبر بها زيدا فأمر بأخت حسان وقد كانت أخذت بحقوقى أخيها ففكت يداها من حقويه وقال لها: اجلسى مع بنات عمك حتى يحكم الله فيكن حكمه.
فرجعوا ونهى الجيش أن يهبطوا إلى واديهم الذى جاؤا منه فأمسوا فى أهليهم، فلما شربوا عتمتهم ركبوا إلى رفاعة بن زيد فصبحوه فقال له حسان بن ملة: إنك لجالس تحلب المعزى ونساء جذام أسارى قد غرها كتابك الذى جئت به، فدعا رفاعة بجمل له، فشد عليه رحله وهو يقول:
هل أنت حى أو تنادى حيا «1»
ثم غدا وهم معه مبركين، فساروا إلى جوف المدينة ثلاث ليال، فلما دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورآهم ألاح إليهم بيده أن تعالوا. من وراء الناس، فلما استفتح رفاعة بن زيد المنطق قال رجل من الناس: يا رسول الله، إن هؤلاء قوم سحرة. فرددها مرتين.
فقال رفاعة: رحم الله من لم يحذنا فى يومنا هذا إلا خيرا.
ثم دفع رفاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابه الذى كان كتب له، فقال: دونك يا رسول الله قديما كتابه حديثا غدره. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأه يا غلام وأعلن. فلما قرأ كتابه استخبرهم فأخبره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع بالقتلى؟ ثلاث مرات فقال رفاعة:
أنت أعلم يا رسول الله لا نحرم عليك حلالا ولا نحل لك حراما. فقال أبو زيد بن عمرو أحد من قدم مع رفاعة: أطلق لنا يا رسول الله من كان حيا ومن قتل فهو تحت قدمى هذه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدق أبو زيد اركب معهم يا على» ، فقال له على:
يا رسول الله، إن ريدا لن يطيعنى، قال: «فخذ سيفى هذا» ، فأعطاه سيفه.
فخرجوا فإذا رسول الله لزيد بن حارثة على ناقة من إبلهم، فأنزلوه عنها فقال: «يا على ما شأنى؟» فقال: ما لهم عرفوه فأخذوه، ثم ساروا فلقوا الجيش، فأخذوا ما بأيديهم حتى كانوا ينتزعون لبيد المرأة من تحت الرحل «2» .
وغزوة زيد بن حارثة أيضا الطرف من ناحية نخل من طريق العراق، وغزوته أيضا وادى القرى لقى فيه بنى فزارة فأصيب بها ناس من أصحابه وارتث زيد من بين القتلى فلما قدم زيد آلى أن لا يمس رأسه غسل من جنابة حتى يغزو بنى فزارة، فلما استبل من
__________
(1) انظر البيت فى: السيرة (4/ 238) .
(2) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (5/ 218) ، طبقات ابن سعد (2/ 88) .(1/572)
جراحه بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بنى فزارة فى جيش فقتلهم بوادى القرى وأصاب فيهم.
وغزوة عبد الله بن رواحة خيبر مرتين، إحداهما التى أصاب فيها اليسير بن رزام ويقال: ابن رازم «1» ، وكان من حديثه أنه كان بخيبر يجمع غطفان لغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة فى نفر من أصحابه منهم عبد الله بن أنيس حليف بنى سلمة، فلما قدموا عليه كلموه وقربوا له وقالوا له: إنك إن قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم استعملك وأكرمك. فلم يزالوا به حتى خرج معهم فى نفر من يهود، فحمله عبد الله بن أنيس على بعيره، حتى إذا كان بالقرقرة من خيبر على ستة أميال ندم اليسير على مسيره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففطن له عبد الله بن أنيس وهو يريد السيف فاقتحم به ثم ضربه بالسيف فقطع رجله وضربه اليسير بمخرش فى يده من شوحط فأمه ومال كل رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على صاحبه من يهود فقتله إلا رجلا واحدا أفلت على رجليه. فلما قدم عبد الله بن أنيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم تفل على شجته فلم تقح ولم تؤذه «2» .
وغزوة عبد الله بن عتيك خيبر فأصاب بها أبا رافع بن أبى الحقيق.
وغزوة «3» عبد الله بن أنيس خالد بن سفيان بن نبيح بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه وهو بنخلة أبو بعرنة يجمع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليغزوه، فقتله. قال عبد الله بن أنيس: دعانى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لى: «إنه بلغنى أن ابن سفيان بن نبيح الهذلى يجمع لى الناس ليغزونى وهو بنخلة أبو بعرنة فأته فاقتله» ، فقلت: يا رسول الله، انعته لى حتى أعرفه، قال: «إنك إذا رأيته أذكرك الشيطان، وآية ما بينك وبينه أنك إذا رأيته وجدت له قشعريرة» ، قال: فخرجت متوشحا سيفى حتى دفعت إليه وهو فى ظعن يرتاد لهن منزلا وكان وقت العصر، فلما رأيته وجدت ما قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم من القشعريرة، فأقبلت نحوه وخشيت أن تكون بينى وبينه مجاولة تشغلنى عن الصلاة فصليت وأنا أمشى نحوه وأومىء برأسى، فلما انتهيت إليه قال: من الرجل؟ قلت: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل فجاءك لذلك، قال: أجل أنا فى ذلك.
__________
(1) انظر: السيرة (4/ 241- 242) .
(2) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (5/ 219) ، ابن سعد فى الطبقات (2/ 92) ، وليس فيه: «تفل على شجته فلم تقح ولم تؤذه» .
(3) انظر: السيرة (242- 243) .(1/573)
قال: فمشيت معه شيئا حتى إذا أمكننى حملت عليه بالسيف فقتلته، ثم خرجت وتركت ظعائنه منكبات عليه. فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآنى قال: «أفلح الوجه» ! قلت: قد قتلته يا رسول الله، قال: «صدقت» ، ثم قام بى فأدخلنى بيته فأعطانى عصا، فقال: «أمسك هذه العصا عندك يا عبد الله بن أنيس» ، قال: فخرجت بها على الناس، فقالوا: ما هذه لعصا؟ قلت: أعطانيها رسول؛ الله صلى الله عليه وسلم وأمرنى أن أمسكها عندى. قالوا: أفلا ترجع إليه فتسأله لم ذلك؟ فرجعت فقلت: يا رسول الله، لم أعطيتنى هذه العصا؟ قال: «آية بينى وبينك يوم القيامة، إن أقل الناس المتخصرون يومئذ» ، فقرنها عبد الله بن أنيس بسيفه فلم تزل معه حتى مات ثم أمر بها فضمت فى كفنه ثم دفنا جميعا «1» .
وقال عبد الله فى ذلك:
تركت ابن ثور كالحوار وحوله ... نوائح تفرى كل جيب مقدد
تناولته والظعن خلفى وخلفه ... بأبيض من ماء الحديد مهند
عجوم لهام الدار عين كأنه ... شهاب غضبا من ملهب متوقد «2»
أقول له والسيف يعج رأسه ... أنا ابن أنيس فارسا غير قعدد*
وقلت له خذها بضربة ماجد ... حنيف على دين النبى محمد
وكنت إذا هم النبى بكافر ... سبقت إليه باللسان وباليد
ومن البعوث أيضا: بعث مؤتة حيث أصيب جعفر بن أبى طالب وأصحابه، وغزوة كعب بن عمير الغفارى ذات أطلاح من أرض الشام أصيب بها هو وأصحابه جميعا، وغزوة عيينة بن حصن بنى العنبر من تميم.
وكان من حديثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إليهم، فأغار عليهم، وأصاب منهم أناسا، وسبى منهم أناسا، وقالت عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إن علىّ رقبة من ولد
__________
(1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 469) ، سنن أبو داود (1249) ، صحيح ابن حبان (9/ 7116) ، سنن البيهقى (3/ 256) ، صحيح ابن خزيمة (2/ 982) .
(2) عجوم: هو من صفات الأبيض وهى صيغة مبالغة من العجم وهو العض. الغضا: شجر يشتد التهاب النار فيه.
(*) ذكر فى السيرة بعد هذا البيت بيت آخر لم يذكره هنا، وهو:
أنا ابن الذى لم ينزل الدهر قدره ... رحيب فناء الدار غير مزند
انظر: السيرة (4/ 244) .(1/574)
إسماعيل، قال: «هذا سبى بنى العنبر يقدم الآن، فنعطيك منهم إنسانا فتعتقينه» «1» .
فلما قدم بسبيهم ركب فيهم وفد من بنى تميم منهم ربيعة بن رفيع، وسبرة بن عمرو والقعقاع بن معبد ووردان بن محرز وقيس بن عاصم ومالك بن عمرو والأقرع بن حابس وفراس بن حابس، فكلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فأعتق بعضا، وأفدى بعضا، وذلك هو الذى عنى الفرزدق بقوله «2» :
وعند رسول الله قام ابن حابس ... بخطة سوار إلى المجد حازم
له أطلق الأسرى التى فى حباله ... مغللة أعناقها والشكائم
كفى أمهات الخالفين عليهم ... غلاء المفادى أو سهام المقاسم
وغزوة غالب بن عبد الله الكليبى أرض بنى مرة وفيها قتل أسامة بن زيد حليفا لهم يقال له مرداس بن نهيك بن الحرقة من جهينة، قال: أدركته أنا ورجل من الأنصار، فلما شهرنا عليه السلاح قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فلم ننزع عنه حتى قتلناه. هكذا ذكر ابن إسحاق فى حديثه «3» .
وخرج مسلم فى صحيحه عن أسامة بن زيد قال: فكف عنه الأنصارى وطعنته برمحى حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ ذلك النبى صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أسامة، أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟» قلت: يا رسول الله إنما كان متعوذا، فقال: «أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟!» فما زال يكررها على حتى تمنيت أنى لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم «4» .
وفى بعض طرق مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأسامة: «لم قتلته؟» قال: يا رسول الله، أوجع فى المسلمين وقتل فلانا وفلانا وفلانا وسمى له نفرا وإنى حملت عليه فلما رأى السيف قال: لا إله إلا الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقتلته؟» قال: نعم، قال: «فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟» قال: يا رسول الله استغفر لى، قال:
«وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة!» فجعل لا يزيده على أن يقول:
__________
(1) ذكره ابن حجر فى فتح البارى (5/ 204) .
(2) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 245) .
(3) انظر: السيرة (4/ 246) ، والحديث أخرجه الطبرى فى تاريخه (2/ 142) ، المتقى الهندى فى الكنز (1462) .
(4) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (5/ 183، 9/ 4) ، صحيح مسلم كتاب الإيمان (159) ، فتح البارى لابن حجر (12/ 191) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 222) .(1/575)
«كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة» «1» .
وفى حديث ابن إسحاق أن أسامة قال: أنظرنى يا رسول الله، إنى أعاهد الله أن لا أقتل رجلا يقول: لا إله إلا الله أبدا «2» .
وغزوة عمرو بن العاص ذات السلاسل من أرض بنى عذره، وكان من حديثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه يستنفر العرب إلى الشام، وذلك أن أم أبيه العاص بن وائل كانت امرأة من بلى فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم يستألفهم لذلك، حتى إذا كان على ماء بأرض جذام يقال له: السلسل وبذلك سميت تلك الغزوة غزوة ذات السلاسل، خاف فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح فى المهاجرين الأولين فيهم أبو بكر وعمر وقال لأبى عبيدة حين وجهه: لا تختلفا. فخرج أبو عبيدة حتى إذا قدم عليه قال له عمرو: إنما جئت مددا لى. قال أبو عبيدة: لا، ولكنى على ما أنا عليه وأنت على ما أنت عليه. فقال له عمرو: بل أنت مدد لى. فقال له أبو عبيدة وكان رجلا لينا هينا سهلا عليه أمر الدنيا: يا عمرو، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لى لا تختلفا وإنك إن عصيتنى أطعتك، قال: فإنى الأمير عليك وأنت مدد لى. قال: فدونك. فصلى عمرو بالناس «3» .
وحدث «4» رافع بن أبى رافع الطائى وهو رافع بن عميرة قال: كنت امرآ نصرانيا فلما أسلمت خرجت فى تلك الغزاة يعنى غزوة ذات السلاسل فقلت: والله لأختارن لنفسى صاحبا فصحبت أبا بكر فكنت معه فى رحله فكانت عليه عباءة له فدكية «5» فكان إذا نزلنا بسطها وإذا ركبنا لبسها ثم شكها عليه بخلال له وذلك الذى يقول اهل نجد حين ارتدوا كفارا بعد موت النبى صلى الله عليه وسلم ومبايعة الناس بعده لأبى بكر: أنحن نبايع ذا العباءة! جهلوا يومئذ أن فضل الكمال ليس فى ظاهر البهاء وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، قال رافع: فلما دنونا من المدينة قافلين، قلت: يا أبا بكر إنما صحبتك لينفعنى
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح مسلم كتاب الإيمان (159) ، فتح البارى لابن حجر (12/ 196) .
(2) انظر: السيرة (4/ 246) .
(3) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (7/ 3662، 4358) ، دلائل النبوة للبيهقى (4/ 399، 400) ، صحيح مسلم (4/ 8/ 1856) .
(4) انظر: السيرة (4/ 247- 248) .
(5) فدكية: منسوبة إلى فدك، وهو موضع بالحجاز، بينها وبين المدينة يومان وقيل: ثلاثة. انظر: معجم البلدان (4/ 238) .(1/576)
الله بك فانصحنى وعلمنى، قال: لو لم تسلنى ذلك لفعلت، آمرك أن توحد الله لا تشرك به شيئا، وأن تقيم الصلاة وتؤتى الزكاة وتصوم رمضان وتحج هذا البيت وتغتسل من الجنابة ولا تتأمرن على رجلين من المسلمين أبدا.
قال قلت: يا أبا بكر، أما أنا والله فإنى أرجو أن لا أشرك بالله أبدا، وأما الصلاة فلن أتركها أبدا إن شاء الله، وأما الزكاة فإن يكن لى مالى أؤديها إن شاء الله، وأما الحج فإن أستطع أحج إن شاء الله، وأما الجنابة فسأغتسل منها إن شاء الله وأما الإمارة فإنى رأيت الناس يا أبا بكر لا يشرفون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند الناس إلا بها فلم تنهى عنها؟ قال: إنما استجهدتنى لجهده لك، وسأخبرك عن ذلك: إن الله تبارك وتعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بهذا الدين فجاهد فيه حتى دخل الناس فيه طوعا وكرها، فلما دخلوا فيه كانوا عواذ الله وجيرانه وفى ذمته، فإياك أن تخفر الله»
فى جيرانه فيتبعك الله فى خفرته، فإن احدكم يخفر فى جاره فيظل نائتا «2» عضله غضبا لجاره إن أصيب له شاة أو بعير، فالله أشد غضبا لجاره.
قال: ففارقته على ذلك، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر أبو بكر على الناس قدمت عليه فقلت: يا أبا بكر، ألم تكن نهيتنى عن أن أتامر على رجلين من المسلمين؟ قال:
بلى، وأنا الآن أنهاك عن ذلك. فقلت له: فما حملك على أن تلى أمر الناس؟ قال: لا أجد من ذلك بدا خشيت على أمة محمد الفرقة «3» .
وفى هذه الغزاة أيضا صحب عوف بن مالك الأشجعى أبا بكر وعمر رضى الله عنهما قال: فمررت بقوم على جزور لهم قد نحروها وهم لا يقدرون على أن يعضوها فقلت: أتعطوننى منها عشيرا على أن أقسمها بينكم؟ قالوا: نعم.
فأخذت الشفرتين فجزأتها وأخذت منها جزء فحملته إلى أصحابى فاطبخناه فأكلناه، فقال أبو بكر وعمر: أنى لك هذا اللحم يا عوف؟ فأخبرتهما خبره فقالا:
والله ما أحسنت حين أطعمتنا هذا، ثم قاما يتقيآن ما فى بطونهما من ذلك. فلما قفل الناس كنت أول قادم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئته وهو يصلى فى بيته فقلت: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته. قال: أعوف بن مالك؟ قلت: نعم بأبى أنت
__________
(1) تخفر الله: أى تنقض عهده.
(2) فيضل نائتا: أى يضل مرتفعا.
(3) انظر: السيرة (4/ 248) .(1/577)
وأمى يا رسول الله. قال: أصاحب الجزور؟ ولم يزدنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك «1» .
وغزوة ابن أبى حدرد وأصحابه بطن إضم، وكانت قبل الفتح قال عبد الله بن أبى حدرد: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إضم «2» فى نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة ومحلم بن جثامة، فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعى على قعود له معه متيع له ووطب من لبن فسلم علينا بتحية الإسلام فأمسكنا عنه وحمل عليه محلم بن جثامة قتله لشىء كان بينهما وأخذ بعيره ومتيعه. فلما قدمنا على رسول الله وأخبرناه الخبر نزل فينا: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا [النساء: 94] إلى آخر الآية «3» .
وعن «4» ضميرة بن سعد السلمى عن أبيه، وكان شهد حنينا قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر ثم عمد إلى ظل شجرة فجلس تحتها وهو بحنين فقام إليه الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن يختصمان فى عامر بن الأضبط، وعيينة يطلب بدمه. وهو يومئذ رئيس غطفان، والأقرع يدفع عن محلم بن جثامة لمكانه من خندف، فتداولا الخصومة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نسمع، فسمعنا عيينة يقول: والله يا رسول الله لا أدعه حتى أذيق نساءه من الحر مثل ما أذاق نسائى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بل تأخذون الدية خمسين فى سفرنا هذا وخمسين إذا رجعنا. وهو يأبى عليه ثم ذكر تكرار رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله هذا، فقبلوا الدية ثم قالوا: أين صاحبكم هذا يستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقام رجل آدم ضرب طويل عليه حلة له قد كان تهيأ فيها للقتل حتى جلس بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: ما اسمك؟ فقال: أنا محلم ابن جثامة، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: اللهم لا تغفر لمحلم بن جثامة. ثلاثا، فقام يتلقى دمعه بفضل ردائه قال: فأما نحن فنقول فيما بيننا إنا لنرجو أن يكون
__________
(1) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (4/ 97) ، دلائل النبوة للبيهقى (4/ 402) .
(2) إضم: بالكسر ثم الفتح، ماء يطؤه الطريق بين مكة واليمامة عند السمينة، ويقال: هو واد بجبال تهامة، وهو الوادى الذى فيه المدينة ويسمى من عند المدينة: القناة، ومن أعلى منها عند السد يسمى الشظاة، ومن عند الشظاة إلى أسفل يسمى إضما إلى البحر. انظر: معجم البلدان (1/ 214، 215) .
(3) انظر الحديث فى: تفسير الطبرى (5/ 142) ، مسند الإمام أحمد (6/ 11) ، مجمع الزوائد للهيثمى (7/ 8) ، أسباب النزول للواحدى (142) ، السنن الكبرى للبيهقى (9/ 11) .
(4) انظر: السيرة (4/ 250) .(1/578)
رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استغفر له وأما ما ظهر من رسول الله فهذا «1» .
وذكر «2» سالم أبو النضر أنه حدث أن عيينة بن حصن وقيسا لم يقبلوا الدية حتى خلا بهم الأقرع بن حابس وقال: يا معشر قيس، منعتم رسول الله قتيلا يستصلح به الناس، أفأمنتم أن يلعنكم رسول الله فيلعنكم الله بلعنته أو أن يغضب عليكم فيغضب الله عليكم بغضبه؟ والله الذى نفس الأقرع بيده لتسلمنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فليصنعن فيه ما أراد أو لأتيت بخمسين رجلا من بنى تميم يشهدون بالله لقتل صاحبكم كافرا ما صلى قط فلأطلن دمه. فقبلوا الدية.
وفى حديث عن الحسن البصرى قال: والله ما مكث محلم بن جثامة إلا سبعا حتى مات فلفظته الأرض والذى نفس الحسن بيده، ثم عادوا له فلفظته، ثم عادوا له فلفظته.
فلما غلب قومه عمدوا إلى صدين فسطحوه بينهما ثم رضموا عليه الحجارة حتى واروه فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم شأنه فقال: «والله إن الأرض لتطابق على من هو شر منه ولكن الله أراد أن يعظكم فى حرم ما بينكم بما أراكم منه» «3» .
وغزوة ابن أبى حدرد الأسلمى أيضا الغابة «4» ، قال: تزوجت امرأة من قومى فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أستعينه على نكاحى فقال: وكم أصدقت؟ قلت: مائتى درهم. قال:
سبحان الله! لو كنتم تأخذون الدراهم من بطن واد ما زدتم، والله ما عندى ما أعينك به. قال: فلبثت أياما وأقبل رجل من بنى جشم بن معاوية يقال له: رفاعة بن قيس أو قيس بن رفاعة فى بطن عظيم من بنى جشم حتى ينزل بقومه ومن معه بالغابة يريد أن يجمع قيسا على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ذا اسم فى جشم وشرف، فدعانى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلين معى من المسلمين فقال: اخرجوا إلى هذا الرجل حتى تأتوا منه بخبر وعلم؛ قال: وقدم لنا شارفا عجفاء فحمل عليها أحدنا، فو الله ما قامت به ضعفا حتى دعمها الرجال من خلفها بأيديهم حتى استقلت وما كادت ثم قال: تبلغوا عليها واعتقبوها، قال: فخرجنا ومعنا سلاحنا من النبل والسيوف حتى إذا جئنا قريبا من
__________
(1) انظر الحديث فى: سنن ابن ماجه (2/ 2625) ، سنن أبى داود (4/ 4503) ، سنن البيهقى (9/ 116) .
(2) انظر: السيرة (4/ 251) .
(3) انظر الحديث فى: كنز العمال للمتقى الهندى (15/ 90) .
(4) الغابة: موضع قرب المدينة من ناحية الشام، وفيه أموال لأهل المدينة. انظر: معجم البلدان (4/ 182) .(1/579)
الحاضر عشيشية مع غروب الشمس كمنت فى ناحية. وأمرت صاحبى فكمنا فى ناحية أخرى من حاضر القوم وقلت لهما: إذا سمعتمانى قد كبرت وشددت فى ناحية العسكر فكبرا وشدا معى. فو الله، إنا لكذلك ننتظر غرة القوم أو أن نصيب منهم شيئا وقد غشينا الليل حتى ذهبت فحمة العشاء وكان لهم راع سرح فى ذلك البلد فأبطأ عليهم حتى تخوفوا عليه، فقام صاحبهم ذلك فأخذ سيفه فجعله فى عنقه ثم قال: والله لأتبعن أثر راعينا هذا ولقد أصابه شر. فقال نفر ممن معه: والله لا تذهب أنت نحن نكفيك. قال: والله لا يذهب إلا أنا. قالوا: فنحن معك. قال: والله لا يتبعنى أحد منكم. وخرج حتى مر بى فلما أمكننى نفحته بسهم فوضعته فى فؤاده والله ما تكلم.
ووثبت إليه فاحتززت رأسه وشدتت فى ناحية العسكر وكبرت وشد صاحباى وكبرا فو الله ما كان إلا النجاء ممن فيه، عندك، بكل ما قدروا عليه من نسائهم وأبنائهم وما خف معهم من أموالهم واستقنا إبلا عظيمة وغنما كثيرة فجئنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجئت برأسه أحمله معى فأعاننى رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك الإبل بثلاثة عشر بعيرا فى صداقى فجمعت إلى أهلى «1» .
وغزوة توجه فيها عبد الرحمن بن عوف، قال عطاء بن أبى رباح: سمعت رجلا من اهل البصرة يسأل عبد الله بن عمر بن الخطاب عن إرسال العمامة من خلف الرجل إذا اعتم، فقال عبد الله: سأخبرك إن شاء الله عن ذلك بعلم. ثم ذكر مجلسا شاهده من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر فيه عبد الرحمن بن عوف أن يتجهز لسرية بعثه عليها. قال: فأصبح وقد اعتم بعمامة من كرابيس سوداء فأدناه رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ثم نقضها ثم عمه بها وأرسل من خلفه أربع أصابع أو نحوا من ذلك. ثم قال: هكذا يا ابن عوف فاعتم فإنه أحسن وأعرف. ثم أمر بلالا أن يدفع إليه اللواء، فدفعه إليه، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نفسه ثم قال: «خذه يا ابن عوف، اغزوا جميعا فى سبيل الله فقاتلوا من كفر بالله لا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا، فهذا عهد الله وسيرة نبيه فيكم» ، فأخذ عبد الرحمن بن عوف اللواء «2» .
__________
(1) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 206، 207) ، مسند الإمام أحمد (6/ 11) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 223) ، دلائل النبوة للبيهقى (4/ 303) .
(2) انظر الحديث فى: كنز العمال للمتقى الهندى (30289) ، طبقات ابن سعد (2/ 89) ، مجمع الزوائد للهيثمى (5/ 317، 318) .(1/580)
قال ابن هشام: فخرج إلى دومة الجندل «1» .
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى سيف البحر عليهم أبو عبيدة بن الجراح وزودهم جرابا من تمر فجعل يقوتهم إياه حتى صار إلى أن يعده لهم عددا حتى كان يعطى كل رجل منهم كل يوم تمرة فقسمها يوما فنقصت تمرة عن رجل فوجد فقدها ذلك اليوم!.
قال بعضهم: فلما جهدنا الجوع أخرج الله لنا دابة من البحر فأصبنا من لحمها وودكها وأقمنا عليها عشرين ليلة حتى سمنا وأخذ أميرنا ضلعا من أضلاعها فوضعها على طريقه ثم أمر بأجسم بعير معنا فحمل عليه أجسم رجل منا فجلس عليه فخرج من تحتها وما مست رأسه فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرناه خبرها وسألناه عن أكلنا إياها فقال: «رزق رزقكموه الله» «2» .
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمرى بعد مقتل خبيب وأصحابه إلى مكة وأمره ان يقتل أبا سفيان بن حرب وبعث معه جبار بن صخر الأنصارى، فخرجا حتى قدما مكة وحبسا جمليهما بشعب من شعاب يأجج ثم دخلا مكة ليلا فقال جبار لعمرو: لو أنا طفنا بالبيت وصلينا ركعتين؟ فقال عمرو: إن القوم إذا تعشوا جلسوا بأفنيتهم، فقال: كلا إن شاء الله. قال عمرو: فطفنا بالبيت وصلينا ثم خرجنا نريد أبا سفيان، فو الله إنا لنمشى بمكة إذا نظر إلى رجل من أهل مكة فعرفنى فقال: عمرو بن أمية! والله إن قدمها إلا لشر. فقلت لصاحبى: النجاء. فخرجنا نشتد حتى أصعدنا فى جبل وخرجوا فى طلبنا حتى إذا علونا الجبل يئسوا منّا فرجعنا فدخلنا كهفا فى الجبل فبتنا وقد أخذنا حجارة فرضمناها دوننا. فلما أصبحنا غدا رجل من قريش يقود فرسا له ويختلى عليها فغشينا ونحن فى الغار فقلت: إن رآنا صاح بنا فأخذنا فقتلنا. قال:
ومعى خنجر قد أعددته لأبى سفيان، فأخرج إليه فأضربه على ثديه وصاح صيحة أسمع أهل مكة، وأرجع فأدخل مكانى. وجاءه الناس يشتدون وهو بآخر رمق فقالوا:
من ضربك؟ فقال: عمرو بن أمية. وغلبه الموت فمات مكانه ولم يدلل على مكاننا، فاحتملوه فقلت لصاحبى لما أمسينا: النجاء.
فخرجنا ليلا من مكة نريد المدينة فمررنا بالحرس وهم يحرسون جيفة خبيب ابن
__________
(1) انظر: السيرة (4/ 254) .
(2) انظر الحديث فى: صحيح مسلم (3/ 1535/ 17، 18) ، مسند الإمام أحمد (3/ 311) ، مسنف عبد الرزاق (4/ 8668) .(1/581)
عدى فقال أحدهم: والله ما رأيت كالليلة أشبه بمشية عمرو بن أمية، لولا أنه بالمدينة لقلت هو عمرو بن أمية. فلما حاذى عمرو الخشبة شد عليها فاحتملها وخرج هو وصاحبه شدا وخرجوا وراءه حتى أتى جرفا بمبسط يأجج فرمى بالخشبة فى الجرف فغيبه الله عنهم فلم يقدروا عليه.
قال عمرو بن أمية: وقلت لصاحبى: النجاء حتى تأتى بعيرك فتقعد عليه فإنى شاغل عنك القوم وكان الأنصارى لا رجلة له. قال: ومضيت حتى اخرج على ضجنان ثم آويت إلى جبل فأدخل كهفا، فبينا أنا فيه دخل على شيخ من بنى الديل أعور فى غنيمة فقال: من الرجل؟ فقلت: من بنى بكر فمن أنت؟ قال: من بنى بكر. قلت: مرحبا فاضطجع. ثم رفع عقيرته فقال:
ولست بمسلم ما دمت حيا ... ولا دان لدين المسلمينا
فقلت فى نفسى: ستعلم. فأمهلته حتى إذا نام أخذت قوسى فجعلت سيتها فى عينه الصحيحة ثم تحاملت عليه حتى بلغت العظم. ثم خرجت النجاء حتى جئت العرج ثم سلكت ركوبه حتى إذا هبطت النقيع «1» إذا رجلان من قريش من المشركين كانت قريش بعثتهما عينا إلى المدينة ينظران ويتحسسان فقلت: استأسرا. فأبيا فأرمى أحدهما بسهم فأقتله واستأسر الآخر فأوثقته رباطا وقدمت به المدينة «2» .
وسرية زيد بن حارثة إلى مدين فأصاب سبيا من أهل ميناء وهى السواحل وفيها جماع من الناس فبيعوا ففرق بينهم يعنى بين الأمهات والأولاد فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يبكون فقال: ما لهم؟ فقيل: يا رسول الله، فرق بينهم. فقال: «لا تبيعوهم إلا جميعا» «3» .
وغزوة سالم؛ بن عمير أبا عفك أحد بنى عمرو بن عوف وكان نجم نفاقه حين قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحارث بن سويد بن صامت فقال:
لقد عشت دهرا وما إن أرى ... من الناس دارا ولا مجمعا
__________
(1) العرج: واد بالحجاز. ركوبة: ثنية بين الجرميت. النقيع: موضع ببلاد مزينة.
(2) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (3/ 33- 337) بطوله. وذكره الطبرى فى تاريخه (2/ 79، 80) مختصرا، والبيهقى فى السنن الكبرى (9/ 213) ، ابن سعد فى الطبقات (2/ 93، 94) ، ابن كثير فى البداية والنهاية (69- 71) .
(3) انظر الحديث فى: سنن سعيد بن منصور (2/ 2661) ، الإصابة لابن حجر (3/ 275) . وانظر السيرة (4/ 257) ، وفيه قال ابن هشام يعقب على الحديث: أراد الأمهات والأولاد.(1/582)
أبر عهودا وأوفى لمن ... يعاقد فيهم إذا ما دعا
من اولاد قيلة فى جمعهم ... تهد الجبال ولم تخضعا
فصدعهم راكب جاءهم ... حلال حرام لشتى معا
فلو أن بالعز صدقتم ... أو الملك تابعتم تبعا «1»
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لى بهذا الخبيث؟» فخرج سالم بن عمير أخو بنى عمرو ابن عوف، وهو أحد البكائين، فقتله «2» . فقالت أمامة المريدية فى ذلك:
تكذب دين الله والمرء أحمدا ... لعمرى الذى امناك بئس الذى يمنى
حباك حنيف آخر الليل طعنة ... أبا عفك خذها على كبر السن «3»
وغزوة عمير بن عدى الخطمى وهو الذى يدعى القارىء عصماء بنت مروان من بنى أمية بن زيد، وكانت تحت رجل من بنى خطمة يقال له: يزيد بن زيد، فلما قتل أبو عفك نافقت فقالت تعيب الإسلام وأهله، وتؤنب الأنصار فى اتباعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أطعتم أتاوى من غيركم ... فلا من مراد ولا مذحج*
ترجونه بعد قتل الرؤس ... كما يرتجى مرق المنضج
ألا آنف يبتغى غرة ... فيقطع من أمل المرتجى «4»
فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا [آخذ] * لى من ابنة مروان؟» فسمع ذلك من
__________
(1) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 258) .
(2) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (5/ 221) .
(3) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 258) .
(*) ذكر فى السيرة بيت قبل هذا وهو:
باشت بنى مالك والنبيت ... وعوف وباست بنى الخزرج
انظر: السيرة (4/ 258) .
(4) وذمر فى السيرة أبيات أجابها به حسان بن ثابت فقال:
بنو وائل وبنو واقف ... وخطمة دون بنى الخزرج
متى ما دعت سفها ويحها ... بعولتها والمنايا تجى
فهزت فتى ما جدا عرقه ... كريم المداخل والمخرج
فضرجها من تجيع الدما ... ء بعد الهدو فلم يحرج
انظر: السيرة (4/ 258- 259) .
(*) ما بين المعقوفتين ورد فى الأصل «أحد» ، وما أوردناه من السيرة.(1/583)
قوله عمير بن عدى فلما أمسى من تلك الليلة سما عليها فى بيتها فقتلها ثم أصبح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنى قد قتلتها: فقال: نصرت الله ورسوله يا عمير.
فقال: هل على شىء من شأنها يا رسول الله؟ فقال: «لا ينتطح فيها عنزان» «1» .
فرجع عمير إلى قومه وبنو خطمة يومئذ كثير فوجههم فى شأن بنت مروان ولها بنون خمسة رجال. فقال: يا بنى خطمة، أنا قتلت بنت مروان فكيدونى جميعا ثم لا تنظرون. فذلك اليوم أول ما عز الإسلام فى دار بنى خطمة، وكان يستخفى بإسلامه فيهم من أسلم. ويومئذ أسلم رجال منهم لما رأوا من عز الإسلام.
والسرية التى أسرت ثمامة بن أثال الحنفى سيد أهل اليمامة، وذلك أن خيلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم خرجت فأخذت رجلا من بنى حنيفة لا يشعورن من هو، حتى أتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أتدرون من أخذتم؟ هذا ثمامة بن أثال الحنفى، أحسنوا إساره» ، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله. فقال: «اجمعوا ما كان عندكم من طعام، فابعثوا به إليه» ، وأمر بلقحته أن يغدى عليه بها ويراح، فجعل لا يقع من ثمامة موقعا، ويأتيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: «أسلم يا ثمامة» ، وفى رواية: «ما تقول يا ثمامة؟» فيقول: يا محمد، إن تقتل ذا دم وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن ترد الفداء فسل تعط منه ما شئت. فمكث ما شاء الله أن يمكث ثم قال النبى صلى الله عليه وسلم يوما: أطلقوا ثمامة. فلما أطلقوه خرج حتى اتى البقيع فتطهر فأحسن طهوره ثم أقبل فبايع النبى صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فلما أمسى جاؤه بما كانوا يأتونه به من الطعام فلم ينل منه إلا قليلا، وباللقحة فلم يصب من حلابها إلا يسيرا، فعجب المسلمون من ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مم تعجبون، من رجل أكل فى أول النهار فى معى كافر وأكل آخر النهار فى معى مسلم، إن الكافر يأكل فى سبعة أمعاء وإن المسلم يأكل فى معى واحد» «2» .
__________
(1) انظر الحديث فى: كنز العمال للمتقى الهندى (44131) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 27، 28) .
(2) هذا الحديث عند ابن إسحاق، وإسناده عنده ضعيف، وللحديث شواهد عن أبى هريرة من وجوه، أخرجها الترمذى فى سننه (1819) ، ابن ماجه فى سننه (3256) ، النسائى فى السنن الكبرى (4/ 178) . وأخرج البخارى فى كتاب المغازى (7/ 4372) ، مسلم فى كتاب الجهاد (3/ 59) من طريق سعيد بن أبى سعيد أنه سمع أبا هريرة رضى الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد الحيثد، فذكره بطوله، وفيه: إسلام ثمامة بن أثال، وليس فى الحديث ذكر الطعام.(1/584)
وقال ثمامة حين أسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد كان وجهك أبغض الوجوه إلىّ فأصبح وهو أحب الوجوه إلىّ، ولقد كان دينك أبغض الدين إلىّ فأصبح وهو أحب الأديان إلىّ، ولقد كان بلدك أبغض البلاد إلىّ فأصبح وهو أحب البلاد إلىّ. ثم قال: يا رسول الله، إن خيلك أخذتنى وأنا أريد العمرة فأذن لى يا رسول الله. فأذن له فخرج معتمرا فلما قدم مكة قالوا: صبأت يا ثمامة. قال: لا ولكنى اتبعت خير الدين دين محمد، ولا والله لا تصل إليكم حبة من اليمامة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم خرج إلى اليمامة فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئا، فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك تأمر بصلة الرحم وإنك قد قطعت أرحامنا. فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن خل بين قومى وبين ميرتهم.
ففعل «1» .
ويقال: إنه لما كان ببطن مكة فى عمرته لبى فكان اول من دخل مكة يلبى، فأخذته قريش فقالوا: لقد اجترأت علينا. وهموا بقتله ثم خلوه لمكان حاجتهم إليه وإلى بلده فقال بعض بنى حنيفة:
ومنا الذى لبى بمكة معلنا ... برغم أبى سفيان فى الأشهر الحرم
وبعث علقمة بن مجزز المدلجى لما قتل وقاص بن مجزر اخوه يوم ذى قرد، وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعثه فى آثار القوم ليدرك ثأره فيهم، فبعثه فى نفر من المسلمين، قال أبو سعيد الخدرى: وأنا فيهم، حتى إذا بلغنا رأس غزاتنا أو كنا ببعض الطريق أذن لطائفة من الجيش واستعمل عليهم عبد الله بن حذافة السهمى وكانت فيه دعابة، فلما كان ببعض الطريق أوقد نارا ثم قال للقوم: أليس لى عليكم السمع والطاعة؟ قالوا:
بلى. قال: فما آمركم بشىء إلا فعلتموه؟ قالوا: نعم. قال: فإنى أعزم عليكم بحقى وطاعتى إلا تواثبتم فى هذه النار. فقام بعض القوم يحتجز حتى ظن أنهم واثبون فيها.
فقال لهم: اجلسوا فإنما كنت أضحك معكم. فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «من أمركم منهم بمعصية فلا تطيعوه» «2» .
ويقال: إن علقمة بن مجزر رجع هو وأصحابه ولم يلق كيدا «3» .
وبعث كرز بن جابر. وذلك أن نفرا من قيس كبة من بجيلة قدموا على رسول الله
__________
(1) انظر: السيرة (4/ 260- 261) .
(2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 67) ، سنن ابن ماجه (2/ 2863) ، طبقات ابن سعد (2/ 163) ، صحيح ابن حبان (7/ 4540) .
(3) انظر: السيرة (4/ 262) .(1/585)
صلى الله عليه وسلم فاستوبأوا المدينة وطلحوا وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاح ترعى ناحية الجماء يرعاها عبد له يقال له: يسار، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابه فى غزوة بنى محارب وبنى ثعلبة، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو خرجتم إلى اللقاح فشربتم من ألبانها وأبوالها» ، فخرجوا إليها فلما صحوا وانطوت بطونهم عكنا عدوا على راعى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذبحوه وغرزوا الشوك فى عينيه واستاقوا اللقاح فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فى آثارهم كرزا فلحقهم، فأتى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من غزوة ذى قرد فقطع أيديهم وسمل أعينهم، وألقوا فى الحرة يستسقون، فلا يسقون حتى ماتوا «1» .
وغزوة على بن أبى طالب اليمن، غزاها مرتين. وقال أبو عمر المدينى: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب إلى اليمن وبعث خالد بن الوليد فى جند آخر وقال: «إن التقيتما فالأمير على بن أبى طالب» «2» .
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد بن حارثة إلى الشام وأمره ان يوطىء الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، وهو آخر بعث أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فتجهز الناس وأوعب مع أسامة المهاجرون الأولون. فبينا الناس على ذلك ابتدىء رسول الله صلى الله عليه وسلم بشكوه الذى قبضه الله فيه إلى ما أراد من رحمته وكرامته، فلم ينفذ بعث أسامة إلا بعد وفاته صلوات الله عليه ورحمته وبركاته «3» .
وسيأتى ذكر ذلك مستوفى إن شاء الله.
فهذه مغازى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعوثه وسراياه التى أعز الله بها الدين ودوخ بها الكافرين، وشد أزره فيها بمن اختاره لصحبته ونصرته من الأنصار والمهاجرين رضى الله عنهم أجمعين وتلك أيام الله التى يجب بها التذكر والتذكير، ويتأكد شكر الله سبحانه على ما يسرته منها المقادير.
وقال حسان بن ثابت يعدد أيام الأنصار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويذكر مواطنهم معه فى
__________
(1) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 294) ، سنن النسائى (7/ 4041) ، مسند الإمام أحمد (3/ 107، 163، 170، 177، 186، 198، 205، 231، 287، 290) ، سنن أبى داود (4/ 4364- 4368) .
(2) انظر الحديث فى: تاريخ الطبرى (2/ 297) ، مجمع الزوائد للهيثمى (8/ 98) .
(3) انظر: السيرة (4/ 263- 264) .(1/586)
أيام غزوه وتروى لابنه عبد الرحمن»
:
ألستم خير معد كلها نفرا ... ومعشرا إن هم عموا وإن حصلوا
قوم هم شهدوا بدرا بأجمعهم ... مع الرسول فما آلوا وما خذلوا
وبايعوه فلم ينكث به أحد ... منهم ولم يك فى أيمانهم دخل
ويوم صبحهم فى الشعب من أحد ... ضرب رصين كحر النار مشتعل
ويوم ذى قرد يوم استثار بهم ... على الجياد فما خاموا وما نكلوا
وذا العشيرة جاسوها بخيلهم ... مع الرسول عليها البيض والأسل
ويوم ودان أجلوا اهله رقصا ... بالخيل حتى نهانا الحزن والجبل
وليلة طلبوا فيها عدوهم ... لله والله يجزيهم بما عملوا
وغزوة يوم نجد ثم كان لهم ... مع الرسول بها الأسلاب والنفل
وليلة بحنين جالدوا معه ... فيها يعلهم بالحرب إذ نهلوا
وغزوة القاع فرقنا العدو به ... كما تفرق دون المشرب الرسل
ويوم بويع كانوا أهل بيعته ... على الجلاد فآسوه وما عدلوا
وغزوة الفتح كانوا فى سريته ... مرابطين فما طاشوا وما عجلوا
ويوم خيبر كانوا فى كتيبته ... يمشون كلهم مستبسل بطل
بالبيض ترعش فى الأيمان عارية ... تعوج فى الضرب أحيانا وتعتدل
ويوم سار رسول الله محتسبا ... إلى تبوك وهم راياته الأول
وساسة الحرب إن حرب بدت لهم ... حتى بدا لهم الإقبال فالقفل
أولئك القوم أنصار النبى وهم ... قومى أصير إليهم حين أتصل
ماتوا كراما ولم تنكث عهودهم ... وقتلهم فى سبيل الله إذ قتلوا
وقال حسان أيضا «2» :
وكنا ملوك الناس قبل محمد ... فلما أتى الإسلام كان لنا الفضل
وأكرمنا الله الذى ليس غيره ... إله بأيام مضت مالها شكل
بنصر الإله والرسول ودينه ... وألبسناه اسما مضى ماله مثل
أولئك قومى خير قوم بأسرهم ... فما كان من خير فقومى له أهل
يربون بالمعروف معروف من مضى ... وليس عليهم دون معروفهم قفل
__________
(1) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 181- 182) .
(2) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 184) .(1/587)
إذا اختبطوا لم يفحشوا فى نديهم ... وليس على سؤالهم عندهم بخل
وإن حاربوا أو سالموا لم يشبهوا ... فحربهم حتف وسلمهم سهل
وجارهم موف بعلياء بيته ... له ما ثوى فينا الكرامة والبذل
وحاملهم موف بكل حمالة ... تحمل لا غرم عليه ولا خذل
وقائلهم بالحق إن قال قائل ... وحلمهم عود وحكمهم عدل
ومنا أمير المسلمين حياته ... ومن غسلته من جنابته الرسل
وقال حسان أيضا من قصيدة له أولها «1» :
وقومى أولئك إن تسألى ... كرام إذا الضيف يوما ألم
عظام القدور لأيسارهم ... يكبون فيها المسن السنم
يواسون جارهم فى الغنى ... ويحمون مولاهم إن ظلم
فكانوا ملوكا بأرضيهم ... يبادون غضبا بأمر غشم
ملوكا على الناس لم يملكوا ... من الدهر يوما كحل القسم*
ملوكا إذا غشموا فى البلا ... د لا ينكلون ولكن قدم
فأبنا بساداتهم والنساء ... وأولادهم فيهم تقتسم
ورثنا مساكنهم بعدهم ... وكنا ملوكا بها لم نرم
__________
(1) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 184) .
(*) ذكر فى السيرة أبيات بعد هذا لم يذكرها هنا وهى:
أنبوا بعاد وأشياعهم ... ثمود وبعض بقايا إرم
بيثرب قد شيدوا فى النخيل ... حصونا ودجن فيها النعم
نواضح قد علمتها اليهو ... د عل إليك وقولا هلم
وفيما اشتهوا من عصير القطا ... ف والعيش رخوا على غيرهم
فسرنا إليهم بأثقالنا ... على كل فحل هجان قطم
جنبنا بهن جياد الخيو ... ل قد جللوها جلال الأدم
فلما أناخوا بجنبى صرار ... وشدوا السروج بلى الحزم
فما راعهم غير معج الخيو ... ل والزحف من خلفهم قد دهم
فطاروا سراعا وقد أفزعوا ... وجئنا إليهم كأسد الأجم
على كل سلهبة فى الصبا ... ن لا يشتكين نحول السأم
وكل كميت مطار الفؤاد ... أمين الفصوص كمثل الزلم
عليها فوارس قد عودوا ... قراع الكماة وضرب البهم
انظر: السيرة (4/ 183- 184) .(1/588)
فلما اتانا الرسول الرشي ... د بالحق والنور بعد الظلم
فقلنا صدقت رسول المليك ... هلم إلينا وفينا أقم
فنشهد أنك عبد الإل ... هـ أرسلت نورا بدين قيم
فإنا وأولادنا جنة ... نقيك وفى مالنا فاحتكم
فنحن أولئك إن كذبوك ... فناد نداء ولا تحشم
وناد بما كنت أخفيته ... نداء جهارا ولا تكتم
فسار الغواة بأسيافهم ... إليه يظنون أن يخترم
فقمنا إليهم بأسيافنا ... نجالد عنه بغاة الأمم
بكل صقيل له ميعة ... رقيق الذباب عضوض خذم
إذا ما يصادف صم العظا ... م لم ينب عنها ولم ينثلم
فذلك ما ورثتنا القرو ... م مجدا تليدا وعزا أشم
إذا مر نسل كفى نسله ... وغادر نسلا إذا ما انقصم
فما إن من الناس إلا لنا ... عليه وإن خاس فضل النعم
ذكر الوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم ملخصا من كتاب ابن إسحاق والواقدى وغيرهما
وما زال آحاد الوافدين وأفذاذ الوفود من العرب يغدون على رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أظهر الله دينه، وقهر أعداه. ولكن انبعاث جماهيرهم إلى ذلك إنما كان بعد فتح مكة، ومعظمه فى سنة تسع، ولذلك كانت تسمى سنة الوفود.
وذلك «1» أن العرب كانت تربص بالإسلام ما يكون من قريش فيه، إذ هم الذين كانوا نصبوا لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافه، وكانوا إمام الناس وهاديهم، وأهل البيت والحرم، وصريح ولد إسماعيل، وقادة العرب، لا ينكر لهم ذلك، ولا ينازعون فيه. فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، ودانت له قريش، ودوخها الإسلام، عرفت العرب أنهم لا طاقة لهم بحربه ولا عداوته، فدخلوا فى دين الله أفواجا، يضربون إليه من كل وجه، يقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر: 1] أى فتح مكة
__________
(1) انظر: السيرة (4/ 185) .(1/589)
وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً جماعات جماعات فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أى فاحمد الله على ما ظهر من دينك وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً إشارة إلى انقضاء أجله، واقتراب لحاقه برحمة ربه، مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النساء: 69] .
كذلك يقول عبد الله بن عباس، وقد سأله عمر بن الخطاب عن هذه السورة، فلما أجابه بنحو هذا المعنى، قال له عمر رضى الله عنه: ما أعلم منها إلا ما تعلم.
فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفود العرب، فمن ذلك:
وفد بنى تميم «1»
قدم عليه عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس التميمى، فى أشراف من قومه، منهم: الأقرع بن حابس، والزبرقان بن بدر، وعمرو بن الأهتم، والحتات بن يزيد، ونعيم ابن يزيد، وقيس بن الحارث، وقيس بن عاصم فى وفد عظيم من بنى تميم.
فلما دخلوا المسجد نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته: أن أخرج إلينا يا محمد، فآذى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من صياحهم، وإياهم عنى الله سبحانه بقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [الحجرات: 4] ، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، جئناك نفاخرك، فأذن لشاعرنا وخطيبنا؛ قال: «قد أذنت لخطيبكم فليقل» ، فقام عطارد بن حاجب، فقال:
الحمد لله الذى له علينا الفضل، وهو أهله، الذى جعلنا ملوكا، ووهب لنا أموالا عظاما، نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعزة أهل المشرق وأكثره عددا، وأيسره عدة، فمن مثلنا فى الناس؟ ألسنا برؤس الناس، وأولى فضلهم؟ فمن فاخرنا فليعدد مثل ما عددناه، وإنا لو نشاء لأكثرنا الكلام، ولكنا نحيا من الإكثار فيما أعطانا، وإنا نعرف بذلك.
أقول هذا لأن تأتونا بمثل قولنا، وأمر أفضل من أمرنا، ثم جلس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس أخى بنى الحارث بن الخزرج: «قم، فأجب الرجل فى خطبته» . فقام ثابت، فقال:
الحمد لله الذى السموات والأرض خلقه، قضى فيهن أمره، ووسع كرسيه علمه،
__________
(1) انظر: السيرة (4/ 186) .(1/590)
ولم يك شىء قط إلا من فضله، ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكا، واصطفى من خير خلقه رسولا، أكرمه نسبا، وأصدقه حديثا، وأفضله حسبا، فأنزل عليه كتابه، وأتمنه على خلقه، فكان خيرة الله من العالمين، ثم دعا الناس إلى الإيمان به، فآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرون من قومه وذوى رحمه، أكرم الناس أحسابا، وأحسن الناس وجوها، وخير الناس فعالا، ثم كان أول الخلق إجابة، واستجابة لله حين دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن أنصار الله ووزراء رسول الله، نقاتل الناس حتى يؤمنوا، فمن آمن بالله ورسوله منع منا ماله ودمه، ومن كفر جاهدناه فى الله أبدا، وكان قتله علينا يسيرا. أقول قولى هذا وأستغفر الله لى وللمؤمنين والمؤمنات، والسلام عليكم «1» .
فقام الزبرقان بن بدر، فقال «2» :
نحن الكرام فلا حى يعادلنا ... منا الملوك وفينا تنصب البيع «3»
وكم قسرنا من الأحياء كلهم ... عند النهاب وفضل العز يتبع
ونحن يطعم عند القحط مطعمنا ... من الشواء إذا لم يؤنس القزع
بما ترى الناس تأتينا سراتهم ... من كل أرض هوانا ثم [متبع] *
فننحر الكوم عبطا فى أرومتنا ... للنازلين إذا ما أنزلوا [شيع] *
فلا ترانا إلى حى نفاخرهم ... إلا استفادوا وكانوا الرأس يقتطع
فمن يفاخرنا فى ذاك نعرفه ... فيرجع القوم والأخبار تستمع
إنا أبينا وما يأبى لنا أحد ... إنا كذلك عند الفخر نرتفع
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استدعى حسان بن ثابت ليجيب شاعر بنى تميم، قال حسان: فخرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أقول:
منعنا رسول الله إذ حل وسطنا ... على أنف راض من معد وراغم
منعناه لما حل بين بيوتنا ... بأسيافنا من كل باغ وظالم
ببيت حريد عزة وثراؤه ... بجابية الجولان وسط الأعاجم
__________
(1) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (8/ 116، 117) ، الطبرى فى التاريخ (2/ 188: 190) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (6/ 212، 213) .
(2) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 188- 189) .
(3) البيع: مواضع الصلاة والعبادات، واحدتها بيعة.
(*) كذا فى الأصل، وفى السيرة: «نصطنع» .
(*) كذا فى الأصل، وفى السيرة: «شبعوا» .(1/591)
هل المجد إلا السؤدد العود والندى ... وجاه الملوك واحتمال العظائم
فلما فرغ الزبرقان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قم يا حسان، فأجب الرجل» ، فقال حسان:
إن الذوائب من فهر وإخوتهم ... قد بينوا سنة للناس تتبع
يرضى بهم كل من كانت سريرته ... تقوى الإله وكل الخير يصطنع
قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم ... أو حاولوا النفع فى أشياعهم
سجية تلك منهم غير محدثة ... نفعوا
إن كان فى الناس سباقون بعدهم ... إن الخلائق فاعلم شرها البدع
لا يرقع الناس ما أوهت أكفهم ... فكل سبق لأدنى سبقهم تبع
إن سابقوا الناس يوما فاز سبقتهم ... عند الدفاع ولا يوهون ما رقعوا
أعفة ذكرت فى الوحى عفتهم ... أو وازنوا أهل مجد بالندى متعوا
لا يبخلون على جار بفضلهم ... لا يطمعون ولا يرديهم طمع
إذا نصبنا لحى لم ندب لهم ... ولا يمسهم من مطمع طبع
نسمو إذا الحرب نالتنا مخالبها ... كما يدب إلى الوحشية الذرع
لا يفخرون إذا نالوا عدوهم ... إذا الزعانف من أظفارها خشعوا
كأنهم فى الوغى والموت مكتنع ... وإن أصيبوا فلا خور ولا هلع
خذ منهم ما أتى عفوا إذا غضبوا ... أسد بحلبة فى أرساغها فدع
فإن فى حربهم فاترك عداوتهم ... ولا يكن همك الأمر الذى منعوا
اكرم بقوم رسول الله شيعتهم ... شرا يخاض عليه السم والسلع
أهدى لهم مدحتى قلب يوازره ... إذا تفاوتت الأهواء والشيع
فإنهم أفضل الأحياء كلهم ... فى ما أحب لسان حائك صنع
إن جد بالناس جد القول أو شمع
وذكر ابن هشام «1» عن بعض أهل العلم بالشعر من بنى تميم، أن الزبرقان بن بدر لما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى وفد بنى تميم، قام فقال:
أتيناك كيما يعلم الناس فضلنا ... إذا اختلفوا عند احتضار المواسم
بأنا فروع الناس فى كل موطن ... وأن ليس فى أرض الحجاز كدارم
وأنا نذود المعلمين إذا انتخوا ... ونضرب رأس الأصيد المتفاقم
وأن لنا المرباع فى كل غارة ... نغير بنجد أو بأرض الأعاجم
__________
(1) انظر: السيرة (4/ 191) .(1/592)
فقام حسان بن ثابت فأجابه، فقال:
هل المجد إلا السؤدد العود والندى ... وجاه الملوك واحتمال العظائم
نصرنا وآوينا النبى محمدا ... على أنف راض من معد وراغم
بحى حريد أصله وثراؤه ... بجابية الجولان وسط الأعاجم
نصرناه لما حل وسط ديارنا ... بأسيافنا من كل باغ وظالم
جعلنا بنينا دونه وبناتنا ... وطبنا له نفسا بفىء المغانم
ونحن ضربنا الناس حتى تتابعوا ... على دينه بالمرهقات الصوارم
ونحن ولدنا من قريش عظميها ... ولدنا نبى الخير من آل هاشم
بنى دارم لا تفخروا إن فخركم ... يعود وبالا عند ذكر المكارم
هبلتم علينا تفخرون وأنتم ... لنا خول ما بين ظئر وخادم
فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم ... وأموالكم ان تقسموا فى المقاسم
فلا تجعلوا لله ندا وأسلموا ... ولا تلبسوا زيّا كزىّ الأعاجم
قال ابن إسحاق: فلما فرغ حسان من قوله، قال الأقرع بن حابس: وأبى، إن هذا الرجل لمؤتى له، لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أعلى من أصواتنا. فلما فرغ القوم أسلموا، وجوزهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسن جوائزهم.
وكان عمرو بن الأهتم قد خلفه القوم فى ظهرهم، وكان أصغرهم سنا، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما أعطى القوم.
وقيس بن عاصم هو الذى ذكره له ذكرا أزرى به فيه، فكان بينهما ما هو معلوم.
وفد بنى عامر «1»
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بنى عامر، فيهم بن الطفيل وأربد بن قيس وجبار بن سلمى، وكان هؤلاء الثلاثة رؤساء القوم وشياطينهم.
فقدم عامر بن الطفيل عدو الله، على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يريد الغدر به، وقد قال له قومه: يا عامر، إن الناس قد أسلموا فأسلم، قال: والله لقد كنت آليت أن لا أنتهى حتى تتبع العرب عقبى، فأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش! ثم قال لأربد: إذا قدمنا
__________
(1) انظر: السيرة (4/ 194- 195) .(1/593)
على الرجل، فإنى سأشغل عنك وجهه، فإذا فعلت ذلك فاعله بالسيف. فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له عامر بن الطفيل: يا محمد، خالنى، قال: «لا والله، حتى تؤمن الله وحده» . قال: يا محمد، خالنى، وجعل يكلمه وينتظر من أربد ما كان امره به، فجعل أربد لا يحير شيئا؛ فلما أبى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أما والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا؛ فلما ولى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اكفنى عامر بن الطفيل» ، فلما خرجوا، قال عامر لأربد: ويلك يا أربد، أين ما كنت امرتك به؟ والله ما كان على وجه الأرض رجل اخوف عندى على نفسى منك، وأيم الله لا أخافك بعد اليوم أبدا.
قال: لا أبا لك! لا تعجل على، والله ما هممت بالذى امرتنى به إلا دخلت بينى وبين الرجل، حتى ما أرى غيرك، أفاضربك بالسيف؟ وخرجوا راجعين إلى بلادهم، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، بعث الله على عامر بن الطفيل الطاعون فى عنقه، فقتله الله فى بيت امرأة من بنى سلول، فجعل يقول: يا بنى عامر، أغدة كغدة البكر فى بيت امرأة من بنى سلول «1» .
ويقال «2» : إنه قال: أغدة كغدة الإبل، وموتا فى بيت سلولية!
ثم خرج أصحابه حين واروه حتى قدموا أرض بنى عامر، فأتاهم قومهم، فقالوا: ما وراءك يا أربد؟ قال: لا شىء والله، لقد دعانى إلى عبادة شىء لوددت انه عندى الآن، فأرميه بالنبل حتى أقتله. فخرج بعد مقالته بيوم أو يومين معه جمل له يتبعه، فأرسل الله عليه وعلى جمله صاعقة، فأحرقتهما. وأنزل الله جل قوله فى وقاية الله تعالى لنبيه عليه السلام مما أراده به عامر، وفيما قتل به أربد: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أى أن المعقبات التى يحفظ الله بها نبيه هى من أمر الله إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ [الرعد: 10- 13] «3» .
__________
(1) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (5/ 329- 321) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 126) .
(2) هذا القول ذكره ابن هشام فى السيرة (4/ 195) .
(3) ذكره الواحدى فى أسباب النزول الحديث رقم (527) .(1/594)
وفد تجيب «1»
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد تجيب، وهم من السكون، ثلاثة عشر رجلا، قد ساقوا معهم صدقات أموالهم التى فرض الله عليهم، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وأكرم منزلهم، وقالوا: يا رسول الله، سقنا إليك حق الله تعالى فى أموالنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ردوها، فاقسموها على فقرائكم» . فقالوا: يا رسول الله، ما قدمنا عليك إلا بما فضل عن فقرائنا. فقال أبو بكر: يا رسول الله، ما وفد علينا وفد من العرب بمثل ما وفد به هؤلاء الحى من تجيب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الهدى بيد الله عز وجل فمن أراد به خيرا شرح صدره للإيمان» .
وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أشياء، فكتب لهم بها، وجعلوا يسألونه عن القرآن والسنن، فازداد رسول الله صلى الله عليه وسلم رغبة فيهم، وأمر بلالا أن يحسن ضيافتهم.
فأقاموا أياما، ولم يطيلوا اللبث، فقيل لهم: ما يعجلكم؟ فقالوا: نرجع إلى من وراءنا فنخبرهم برؤيتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلامنا إياه، وما رد علينا.
ثم جاؤا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يودعونه، فأرسل إليهم بلالا، فأجازهم بأرفع ما كان يجيز به الوفود. قال: «هل بقى منكم أحد» ؟ قالوا: غلام خلفناه على رحالنا هو أحدثنا سنا، قال: «أرسلوه إلينا» . فلما رجعوا إلى رحالهم قالوا للغلام: انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض حاجتك منه، فإنا قد قضينا حوائجنا منه. وودعناه. فأقبل الغلام حتى اتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنى امرؤ من بنى أبذى.
قال الواقدى: هو أبذى بن عدى، وأم عدى تجيب بنت ثوبان بن سليم من مذحج، وإليها ينسبون يقول الغلام: من الرهط الذين أتوك آنفا، فقضيت حوائجهم، فاقض حاجتى يا رسول الله. «وما حاجتك؟» قال: إن حاجتى ليست بحاجة أصحابى، وإن كانوا قدموا راغبين فى الإسلام، وساقوا ما ساقوا من صدقاتهم، وإنى والله ما أعلمنى من بلادى إلا أن تسأل الله عز وجل أن يغفر لى، وأن يرحمنى، وأن يجعل غناى فى قلبى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل إلى الغلام: «اللهم اغفر له وارحمه واجعل غناه فى قلبه» . ثم أمر له بمثل ما أمر به لرجل من أصحابه.
فانطلقوا راجعين إلى أهليهم، ثم وافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الموسم بمنى سنة عشر،
__________
(1) راجع قدوم وفد تجيب فى: طبقات ابن سعد (1/ 2/ 60) ، البداية والنهاية (4/ 84) ، المنتظم لابن الجوزى (3/ 354) .(1/595)
فقالوا: نحن بنو أبذى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما فعل الغلام الذى أتانى معكم؟» قالوا: يا رسول الله، والله ما رأينا مثله قط، ولا حدثنا بأقنع منه بما رزقه الله عز وجل لو أن الناس اقتسموا الدنيا ما نظر نحوها ولا التفت إليها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله، إنى لأرجو أن يموت جميعا» . فقال رجل منهم:
أو ليس يموت الرجل جميعا يا رسول الله؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تشعب أهواؤه وهمومه فى أودية الدنيا، فلعل أجله أن يدركه فى بعض تلك الأودية، فلا يبالى الله عز وجل فى أيها هلك» .
قالوا: فعاش ذلك الرجل فينا على أفضل حال وأزهده فى الدنيا وأقنعه بما رزق، فلما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجع من رجع من أهل اليمن عن الإسلام، قام فى قومه يذكرهم الله والإسلام، فلم يرجع منهم أحد. وجعل أبو بكر الصديق رضى الله عنه يذكره ويسأل عنه، حتى بلغه حاله وما قام به، فكتب إلى زياد بن لبيد يوصيه به خيرا.
فروة بن مسيك المرادى «1»
وقدم فروة بن مسيك المرادى على رسول الله صلى الله عليه وسلم مفارقا لملوك كندة، متابعا للنبى صلى الله عليه وسلم وقال فى ذلك:
لما رأيت ملوك كندة أعرضت ... كالرجل خان الرجل عرق نسائها
قربت راحلتى أؤم محمدا ... أرجو فواضها وحسن ثرائها
ثم خرج حتى أتى المدينة، وكان رجلا له شرف، فأنزله سعد بن عبادة عليه، ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس فى المسجد، فسلم عليه، ثم قال: يا رسول الله، أنا لمن ورائى من قومى، قال: «أين نزلت يا فروة؟» قال: على سعد بن عبادة، قال: «بارك الله على سعد بن عبادة» . وكان يحضر مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما جلس، ويتعلم القرآن وفرائض الإسلام وشرائعه.
وكان بين مراد وهمدان قبيل الإسلام وقعة، أصابت فيها همدان من مراد ما أرادوا، حتى أثخنوهم فى يوم يقال له: «يوم الردم» ، وكان الذى قاد همدان إلى مراد «الأجدع ابن مالك» ، ففضحهم يومئذ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وفد إليه: «يا فروة، هل ساءك ما
__________
(1) انظر: السيرة (4/ 206- 207) .(1/596)
أصاب قومك يوم الردم؟» قال: يا رسول الله، من ذا يصيب قومه مثل ما أصاب قومى يوم الردم لا يسوءه ذلك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إن ذلك اليوم لم يزد قومك فى الإسلام إلا خيرا» .
وفى ذلك اليوم يقول فروة بن مسيك «1» :
مررنا باللفاة* وهن خوص ... ينازعن الأعنة ينتحينا
فإن نغلب فغلابون قدما ... وإن نغلب فغير مغلبينا
وما إن طبنا جبن ولكن ... منايانا وطعمة آخرينا
كذاك الدهر دولته سجال ... تكر صروفه حينا فحينا
فبينا ما نسربه ونرضى ... ولو لبست غضارته سنينا
إذا انقلبت به كرات دهر ... فألفى للأولى غبطوا طحينا
فمن يغبط بريب الدهر منهم ... تجد ريب الزمان له خئونا
فلو خلد الملوك إذن خلدنا ... ولو بقى الكرام إذا بقينا
فأفنى ذلكم سروات قومى ... كما أفنى القرون الأولينا
واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم فروة بن مسيك «2» على مراد وزبيد ومذحج كلها، وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة، وكتب له فيها كتابا لا يعدوه إلى غيره، فكان خالد مع فروة فى بلاده حتى توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم «3» .
ولما كانت السنة التى توفى فيها صلوات الله وبركاته عليه، وصدر عن مكة، ورأت أبناء زبيد قبائل اليمن تقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرين بالإسلام، مصدقين برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يرجع راجعهم إلى بلاده وهم على ما هم عليه، قالوا لخالد بن سعيد «4» : والله،
__________
(1) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 206- 207) .
(*) كذا فى الأصل، وفى السيرة «مررن على لفاة» .
(2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2101) ، الإصابة الترجمة رقم (6996) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4224) ، تجريد أسماء الصحابة (2/ 7) ، تهذيب التهذيب (8/ 265) ، خلاصة تذهيب الكمال (2/ 333) ، تهذيب الكمال (2/ 1094) .
(3) ذكره الطبرى فى التاريخ (5/ 198) .
(4) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (617) ، الإصابة الترجمة رقم (2172) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1365) ، العقد الثمين (4/ 267) ، شذرات الذهب (1/ 30) ، طبقات ابن سعد (4/ 1/ 69) ، طبقات خليفة (11/ 298) ، التاريخ الكبير (3/ 152) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (172) ، تاريخ الإسلام (1/ 378) .(1/597)
لقد دخلنا فيما دخل فيه الناس، وصدقنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وخلينا بينك وبين صدقات أموالنا، وكنا لك عونا على من خالفك من قومنا.
قال خالد: قد فعلتم، قالوا: فأوفد منا نفرا يقدمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرونه بإسلامنا، ويقبسونا منه خيرا. قال خالد: ما أحسن ما دعوتم إليه، وأنا أجيبكم، ولم يمنعنى أن أقول لكم هذا إلا أنى رأيت الوفود تمر بكم فلا يهيجكم ذلك على الخروج، فساءنى ذلك منكم حتى ساء ظنى بكم، وكنتم على ما كنتم عليه من حداثة عهدكم بالشرك، فخشيت أن يكون الإسلام لم يرسخ فى قلوبكم، فأما إذا طلبتم ما طلبتم، فأنا أرجو أن يكون الإسلام راسخا فى قلوبكم. قالوا: وما أنكرت منا؟ والله لقد كنا فى حيزك واخترناك على غيرك من عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما رأيت منا شيئا تكرهه ولا تنكره إلى يومنا هذا.
قال: اللهم غفرا، لولا أنى أنكرت منكم بعض ما ينكر ما قلت هذا، أما تعلمون أنى أخذت من شاب منكم فريضة بنت مخاض، فعقلتها ووسمتها بميسم الصدقة، فجئتم بأجمعكم فأخذتموها، ثم قلتم: إن شاء خالد فليأخذها من مرعاها، فأمسكت عنكم وخفت أن يأتى منكم ما هو شر من هذا؟! فقالوا: فقد كان، ونزعنا وتبنا إلى الله، فلا نحول بينك وبين شىء تريده، فبعث معهم وفدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفد زبيد عمرو بن معدى كرب «1»
وقدم عمرو بن معدى كرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أناس من قومه بنى زبيد، فأسلم؛ وكان عمرو قد قال لقيس بن مكشوح المرادى، حين انتهى إليهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا قيس، إنك سيد قومك، وقد ذكر لنا أن رجلا من قريش يقال له: محمد خرج بالحجاز، يقال: إنه نبى، فانطلق بنا إليه حتى نعلم علمه، فإن كان نبيا كما يقول، فإنه لن يخفى علينا، إذا لقيناه اتبعناه، وإن كان غير ذلك علمنا علمه، فإنه إن سبق إليه رجل من قومك سادنا وترأس علينا، وكنا له أذنابا. فأبى عليه قيس وسفه رأيه، فركب عمرو بن معدى كرب حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام أياما، فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يجيز الوفود، وأنصرف راجعا إلى بلاده، فأقام فى قومه بنى زبيد وعليهم فروة بن مسيك سامعا له مطيعا، فلما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتد عمرو، ثم راجع الإسلام بعد ذلك.
__________
(1) انظر: السيرة (4/ 207- 208) .(1/598)
وقد كان قيس بن مكشوح لما بلغه خروج عمرو أوعده وتحطم عليه، وقال: خالفنى وترك رأيى. فقال عمرو فى ذلك من أبيات:
أمرتك يوم ذى صنعاء ... أمرا باديا رشده
أمرتك باتقاء الل ... هـ والمعروف تتعده
فكنت كذى الحمير غره ... مما به وتده
تمنانى على فرس ... عليه جالس أسده*
فلو لاقيتنى للقي ... ت ليثا فوقه لبده
وطلب فروة بن مسيك قيس بن مكشوح كل الطلب، حتى هرب من بلاده، وكان مصمما فى طلب من خالفه، فكان عمرو يقول لقيس: قد خبرتك يا قيس أنك تكون ذنبا تابعا لفروة بن مسيك.
وفد بنى ثعلبة
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بنى ثعلبة سنة ثمان مرجعه من الجعرانة.
ذكر الواقدى عن رجل منهم قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة قدمنا عليه وافدين مقرين بالإسلام، ونحن أربعة نفر، فنزلنا دار رملة بنت الحارث، فجاءنا بلال، فنظر إلينا، فقال: أمعكم غيركم؟ قلنا: لا، فانصرف عنا، فلم يلبث إلا يسيرا حتى أتى بجفنة من ثريد بلبن وسمن، فأكلنا حتى نهلنا، ثم رحنا إلى الظهر، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج من بيته ورأسه يقطر ماء، فرمى ببصره إلينا، فأسرعنا إليه، وبلال يقيم الصلاة.
فسلمنا عليه، وقلنا: يا رسول الله، إنا رسل من خلفنا من قومنا، مقرين بالإسلام، وهم فى مواشيهم، وما لا يصلحه إلا هم، وقد قيل لنا يا رسول الله: لا إسلام لمن لا هجرة له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حيثما كنتم، واتقيتم الله فلا يضركم حيث كنتم» .
وفرغ بلال من الآذان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمنا، ثم تقدم فصلى بنا الظهر، لم تصل وراء أحد قط أتم صلاة ولا أوجز منه، ثم انصرف إلى بيته، فدخل، فلم يلبث أن خرج إلينا، فقيل لنا: صلى فى بيته ركعتين، فدعا بنا، فقال: «أين أهلكم؟» فقلنا: قريبا يا رسول
__________
(*) ذكر فى السيرة بعد هذا البيت بيت لم يذكره هنا، وهو:
علىّ مفاضة كالنه ... ى أخلص ماءه جدده
انظر: السيرة (4/ 208) .(1/599)
الله، هم بهذه السرية فقال: «كيف بلادكم؟» فقلنا: مخصبون، فقال: «الحمد لله» .
فأقمنا أياما، فتعلمنا من القرآن والسنن، وضيافته تجرى علينا، ثم جئنا نودعه منصرفين، فقال لبلال: «أجزهم كما تجيز الوفد» ، فجاء بلال بنقر من فضة، فأعطى كل واحد منا خمس أواق، وقال: ليس عندنا دراهم مضروبة، فانصرفنا إلى بلادنا «1» .
وفد بنى سعد هذيم «2»
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بنو سعد هذيم، من قضاعة فى سنة تسع.
ذكر الواقدى عن ابن النعمان منهم عن أبيه قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وافدا فى نفر من قومى، وقد أوطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاد غلبة، وأداخ العرب، والناس صنفان. إما داخل فى الإسلام راغب فيه، وإما خائف من السيف، فنزلنا ناحية من المدينة، ثم خرجنا نؤم المسجد حتى انتهينا إلى بابه، فنجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى على جنازة فى المسجد، فقمنا خلفه ناحية، ولم ندخل مع الناس فى صلاتهم، وقلنا: حتى نلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبايعه، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلينا، فدعا بنا، فقال: «من أنتم؟» فقلنا: من بنى سعد هذيم، فقال: «أمسلمون أنتم؟» قلنا: نعم، قال: فهلا صليتم على أخيكم؟» قلنا: يا رسول الله، ظننا أن ذلك لا يجوز لنا حتى نبايعك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أينما أسلمتم مسلمون» .
قال: فأسلمنا وبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأيدينا على الإسلام، ثم انصرفنا إلى رحالنا، وقد كنا خلفنا عليها أصغرنا، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فى طلبنا، فأتى بنا إليه، فتقدم صاحبنا فبايعه على الإسلام، فقلنا: يا رسول الله، إنه أصغرنا، وإنه خادمنا، فقال: «أصغر القوم خادمهم، بارك الله عليه» «3» .
قال: فكان والله خيرنا، وأقرأنا للقرآن، لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له، ثم أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا، فكان يؤمنا.
ولما أردنا الانصراف، أمر بلالا فأجازنا بأواقى من فضة، لكل رجل منا، فرجعنا إلى قومنا، فرزقهم الله الإسلام.
__________
(1) ذكره ابن عساكر فى تهذيب تاريخ دمشق (3/ 302، 10/ 296) .
(2) راجع: المنتظم لابن الجوزى (3/ 356) ، طبقات ابن سعد (1/ 2/ 59، 65) .
(3) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (5/ 94) .(1/600)
وفد بنى فزارة «1»
ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك قدم عليه وفد بنى فزارة، بضعة عشر رجلا، فيهم خارجة بن حصن، والحر بن قيس بن حصن ابن أخى عيينة بن حصن، وهو أصغرهم، فنزلوا فى دار زينب بنت الحارث، وجاؤا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرين بالإسلام، وهم مستنون على وكاف عجاف، فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بلادهم، فقال أحدهم: يا رسول الله، أسنتت بلادنا، وهلكت مواشينا، وأجدب جنابنا، وغرث عيالنا، فادع لنا ربك يغثنا، واشفع لنا إلى ربك، وليشفع لنا ربك إليك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله ويلك، هذا أنا شفعت إلى ربى عز وجل، فمن ذا الذى يشفع ربنا إليه؟ لا إله إلا هو العلى العظيم، وسع كرسيه السموات والأرض، فهى تئط من عظمته وجلاله كما يئط الرجل الجديد» .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله جل وعز ليضحك من شفعكم، وأزلكم، وقرب غياثكم» .
فقال الأعرابى: يا رسول الله، ويضحك ربنا عز وجل؟ قال: «نعم» ، قال الأعرابى:
لن نعدمك من رب يضحك خير، فضحك النبى صلى الله عليه وسلم من قوله، وصعد المنبر، فتكلم بكلمات، وكان لا يرفع يديه فى شىء من الدعاء إلا فى الاستسقاء، فرفع يديه حتى رؤى بياض إبطيه، وكان مما حفظ من دعائه: «اللهم اسق بلادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحى بلدك الميت، اللهم اسقنا غيثا مغيثا مربعا طيبا، واسعا عاجلا غير آجل، نافعا غير ضار، اللهم اسقنا رحمة ولا تسقنا عذابا ولا هدما ولا غرقا ولا محقا، اللهم اسقنا الغيث وانصرنا على الأعداء» .
فقام أبو لبابة بن عبد المنذر الأنصارى، فقال: يا رسول الله، التمر فى المربد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اسقنا» ، فعاد أبو لبابة لقوله، وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم لدعائه، فعاد أيضا أبو لبابة لقوله، وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم لدعائه، فعاد أيضا أبو لبابة، فقال: التمر فى المربد يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اسقنا حتى يقوم أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره» ، قالوا: ولا والله ما فى السماء سحاب ولا قزعة، وما بين المسجد وبين سلع من شجر ولا دار، فطلعت من وراء سلع سحابة مثل الترس، فلما توسطت
__________
(1) راجع: المنتظم لابن الجوزى (4/ 353) ، طبقات ابن سعد (1/ 2/ 59) ، البداية والنهاية (5/ 79) .(1/601)
السماء انتشرت، ثم أمطرت، فو الله ما رأوا الشمس سبعا، وقام أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره، لئلا يخرج التمر منه، فجاء ذلك الرجل أو غيره فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر، فدعا ورفع يديه مدا، حتى رؤى بياض إبطيه، ثم قال: «اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر» «1» .
قال: فانجابت السحاب عن المدينة انجياب الثوب.
وفد بنى أسد «2»
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بنى أسد، عشرة رهط، فيهم وابصة بن معبد وطليحة ابن خويلد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فى المسجد مع أصحابه، فسلموا وتكلموا، وقال متكلمهم: يا رسول الله، إنا شهدنا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنك عبده ورسوله، وجئناك يا رسول الله، ولم تبعث إلينا بعثا، ونحن لمن وراءنا.
قال محمد بن كعب القرظى: فأنزل الله عز وجل على رسوله: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [17: الحجرات] .
وكان مما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند يومئذ: العيافة والكهانة وضرب الحصى، فنهاهم عن ذلك كله. فقالوا: يا رسول الله، إن هذه أمور كنا نفعلها فى الجاهلية، أرأيت خصلة بقيت؟ قال: «وما هى» ؟ قال: الخط، قال: «علمه نبى من الأنبياء، فمن صادف مثل علمه علم» «3» .
__________
(1) انظر الحديث فى: سنن أبو داود (1173) ، سنن البيهقى الكبرى (3/ 356) ، كنز العمال للمتقى الهندى (18025) ، موطأ الإمام مالك (191) ، العلل المتناهية لابن الجوزى (212) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (1506) .
(2) راجع: المنتظم لابن الجوزى (4/ 355) ، طبقات ابن سعد (1/ 2/ 39) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 79) .
(3) ذكره السيوطى فى الدرر المنثور (6/ 38) .(1/602)
وفد بهراء»
وذكر الواقدى عن كريمة بنت المقداد، قالت: سمعت أمى ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب «2» تقول: قدم وفد بهراء من اليمن، وهم ثلاثة عشر رجلا، فأقبلوا يقودون رواحلهم، حتى انتهوا إلى باب المقداد، ونحن فى منزلنا نبنى جديلة، فخرج إليهم المقداد، فرحب بهم، وأنزلهم، وجاءهم بجفنة من حيس قد كنا هيأناها قبل أن يحلوا لنجلس عليها، فحملها أبو معبد المقداد، وكان كريما على الطعام، فأكلوا منها حتى نهلوا، وردت إلينا القصعة وفيها أكل، فجمعنا تلك الأكل فى قصعة صغيرة، ثم بعثنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سدرة مولاتى، فوجدته فى بيت أم سلمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«ضباعة أرسلت بهذا» ؟، قالت سدرة: نعم يا رسول الله، قال: «ضعى» ، ثم قال: «ما فعل ضيف أبى معبد؟» قلت: عندنا، فأصاب منها رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلا هو ومن معه فى البيت حتى نهلوا، وأكلت معهم سدرة، ثم قال: «اذهبى بما بقى إلى ضيفكم» ، قالت سدرة: فرجعت بما بقى فى القصعة إلى مولاتى، قالت: فأكل منها الضيف ما أقاموا، نرددها عليهم وما تغيض، حتى جعل الضيف يقولون: يا أبا معبد، إنك لتنهلنا من أحب الطعام إلينا، وما كنا نقدر على مثل هذا إلا فى الحين، وقد ذكر لنا أن بلادكم قليلة الطعام، إنما هو العلق أو نحوه، ونحن عندك فى الشبع، فأخبرهم أبو معبد بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أكل منها أكلا وردها، فهذه بركة أثر أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل القوم يقولون:
نشهد أنه رسول الله، وازدادوا يقينا، وذلك الذى أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتعلموا الفرائض، وأقاموا أياما، ثم جاؤا رسول الله صلى الله عليه وسلم فودعوه، وأمر لهم بجوائزهم، وانصرفوا إلى أهلهم.
وفد بنى غدرة
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بنى غدرة فى صفر سنة تسع، اثنا عشر رجلا، فيهم حمزة بن النعمان وسليم وسعد ابنا مالك ومالك بن أبى رباح، فنزلوا فى دار رملة بنت
__________
(1) راجع: المنتظم لابن الجوزى (4/ 356) ، طبقات ابن سعد (1/ 2/ 66) .
(2) انظر ترجمتها فى: الاستيعاب الترجمة رقم (3451) ، الإصابة الترجمة رقم (11429) ، أسد الغابة الترجمة رقم (7076) ، تهذيب الكمال (1687) ، تهذيب التهذيب (12/ 432) ، خلاصة تذهيب الكمال (493) ، تاريخ الإسلام (2/ 229) .(1/603)
الحارث النجارية، ثم جاؤا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فى المسجد، فسلموا بسلام أهل الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من القوم» ؟ فقال متكلمهم: من لا تنكر، نحن بنو غدرة، أخوة قصى لأمه، نحن الذين عضوا قصيا، وأزاحوا من بطن مكة خزاعة وبنى بكر، ولنا قرابات وأرحام. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مرحبا بكم وأهلا، ما أعرفنى بكم، فما منعكم من تحية الإسلام» ؟ قالوا: يا محمد، كنا على ما كان عليه آباؤنا، فقدمنا مرتادين لأنفسنا ولمن خلفنا، فإلام تدعو؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأن تشهدوا أنى رسول الله إلى الناس كافة» ، فقال المتكلم: فما وراء ذلك من الفرائض؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصلوات الخمس، تحسن طهورهن وتصليهن لمواقيتهن، فإنه أفضل العمل» .
ثم ذكر لهم سائر الفرائض من الصيام والزكاة والحج، فقال المتكلم: الله أكبر، نشهد أنه لا إله إلا الله وأنك رسول الله، قد أجبناك إلى ما دعوت إليه، ونحن أعوانك وأنصارك ثم قال: يا رسول الله: إنا متاخمو الشام، وأخبارهم ترد علينا، وبالشام من قد علمت، هرقل، فهل اوحى إليك فى أمره بشىء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبشر، فإن الشام ستفتح عليكم، ويهرب هرقل إلى ممتنع بلاده» ، قال: الله أكبر، يا رسول الله، إن فينا امرأة كاهنة، كانت قريش والعرب يتحاكمون إليها، ولو قد رجعنا أقرت هى وغيرها من قومنا بالإسلام إن شاء الله، أفنسألها عن كهانتها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسألوها عن شىء» ، قال: الله أكبر، ثم سأله عن الذبائح التى كانوا يذبحون فى الجاهلية لأصنامهم، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، وقال، وقال: «لا ذبيحة لغير الله عز وجل ولا ذبيحة عليكم فى سنتكم إلا واحدة» . قال: وما هى؟ فداك أبى وأمى، قال: «الأضحية» ، قال: وأى وقت تكون؟ قال: «صبيحة العاشر من ذى الحجة، تذبح شاة عنك وعن أهلك» ، قال: يا رسول الله، أهى على أهل كل بيت وجدوها؟ قال: «نعم» «1» .
فأقوموا أياما، ثم أجازهم كما يجيز الوفود، وانصرفوا.
وفد بلى «2»
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بلى فى ربيع الأول من سنة تسع. قال رويفع ابن
__________
(1) انظر الحديث فى: كنز العمال للمتقى الهندى (12259) .
(2) راجع: المنتظم لابن الجوزى (3/ 355) ، طبقات ابن سعد (1/ 2/ 65) .(1/604)
ثابت البلوى: فبلغنى قدومهم، فخرجت حتى جئتهم برأس الثنية فى أيديهم خطم رواحلهم، فرحبت بهم وقلت: المنزل على، فعدلت بهم إلى منزلى، فنزلوا، ولبسوا من صالح ثيابهم، ثم خرجت بهم حتى انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس فى أصحابه فى بقية فئ الغداة، فسلمت. فقال: «رويفع» ، فقلت: لبيك، قال: «من هؤلاء القوم» ؟
قلت: قومى، قال: «مرحبا بك وبقومك» ، قلت: يا رسول الله، قدموا وافدين عليك مقرين بالإسلام، وهم على من وراءهم من قومهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يهده للإسلام» .
قال: وتقدم شيخ الوفد أبو الضبيب فجلس بين يديه، فقال: يا رسول الله، إنا قدمنا عليك لنصدقك ونشهد أن ما جئت به حق، ونخلع ما كنا نعبد ويعبد آباؤنا قبلنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذى هداكم للإسلام، فكل من مات على غير الإسلام فهو فى النار» ، قال: يا رسول الله، إنى رجل لى رغبة فى الضيافة، فهل لى فى ذلك من أجر؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم، وكل معروف صنعته إلى غنى أو فقير فهو صدقة» ، قال: يا رسول الله، ما وقت الضيافة؟ قال: «ثلاثة أيام، فما كان بعد ذلك فصدقة، ولا يحل للضيف ان يقيم عندك فيحرجك» ، قال: يا رسول الله، أرأيت الضالة من الغنم أجدها فى الفلاة من الأرض؟ قال: «لك أو لأخيك أو للذئب» ، قال: فالبعير، قال:
«مالك وله، دعه حتى يجده صاحبه» «1» .
وسأله عن أشياء غير هذه، فأجابه عنها.
قال رويفع: ثم قاموا، فرجعوا إلى منزلى، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتى منزلى يحمل تمرا، فقال: «استعن بهذا التمر» ، فكانوا يأكلون منه ومن غيره، فأقاموا ثلاثا، ثم ودعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجازهم، ورجعوا إلى بلادهم.
ضمام بن ثعلبة «2»
وبعثت بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم عليه، وأناخ
__________
(1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (2/ 186، 203، 4/ 117) ، السنن الكبرى للبيهقى (1/ 185، 4/ 153، 6/ 189، 190) ، مجمع الزوائد للهيثمى (4/ 168) ، المعجم الكبير للطبرانى (5/ 289) ، فتح البارى لابن حجر (1/ 186، 5/ 80) .
(2) انظر: السيرة (4/ 198- 200) .(1/605)
بعيره على باب المسجد، ثم عقله، ثم دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فى أصحابه؛ وكان ضمام رجلا جلدا، أشعر، ذا غديرتين، فأقبل حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أصحابه، فقال: أيكم ابن عبد المطلب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا ابن عبد المطلب» . قال:
أمحمد؟ قال: «نعم» ؛ قال: يا ابن عبد المطلب، إنى سائلك ومغلظ عليك فى المسألة، فلا تجدن فى نفسك، قال: «لا أجد فى نفسى، فسل عما بدا لك» . قال: أنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك، الله بعثك إلينا رسولا؟ قال: «اللهم نعم» ، قال: فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك: الله أمرك أن تأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وأن نخلع هذه الأنداد التى كان آباؤنا يعبدون معه؟ قال: «اللهم نعم» ، قال: فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك: الله أمرك أن نصلى هذه الصلوات الخمس؟ قال: «اللهم نعم» . ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة: الزكاة والصيام والحج، وشرائع الإسلام كلها، ينشده عند كل فريضة كما ينشده فى التى قبلها، حتى إذا فرغ قال: فإنى أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، وسأؤدى هذه الفرائض، وأجتنب ما نهيتنى عنه، ثم لا أزيد ولا أنقص. ثم انصرف إلى بعيره راجعا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن صدق ذو العقيصتين دخل الجنة» .
قال: فأتى بعيره فأطلق عقاله، ثم خرج حتى قدم على قومه، فاجتمعوا عليه، فكان أول ما تكلم به أن سب اللات والعزى، قالوا: مه يا ضمام! اتق البرص، اتق الجذام، اتق الجنون! قال: ويلكم! إنهما والله ما تضران ولا تنفعان إن الله قد بعث رسولا، وأنزل عليه كتابا فاستنقذكم به مما كنتم فيه، فإنى أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به وما نهاكم عنه.
قال: فو الله، ما أمسى من ذلك اليوم وفى حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلما. فبنوا المساجد، وأذنوا بالصلاة، وكلما اختلفوا فى شىء قالوا: عليكم بوافدنا.
قال ابن عباس: فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة «1» .
واختلف فى الوقت الذى وفد فيه ضمام هذا على النبى صلى الله عليه وسلم فقيل: سنة خمس. ذكره الواقدى وغيره، وقيل: سنة سبع، وقيل: سنة تسع، فالله أعلم.
__________
(1) انظر الحديث فى: سنن الدارمى (1/ 652) ، صحيح البخارى (1/ 63) ، صحيح مسلم (1/ 10/ 41، 42) ، سنن النسائى (4/ 2091) .(1/606)
وفد عبد القيس «1»
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد عبد القيس فى جماعة رأسهم عبد الله بن عوف الأشج، فلما أتوه قال: «من الوفد؟» أو «من القوم؟» قالوا: ربيعة، قال: «مرحبا بالقوم أو بالوفد غير خزايا ولا الندامى» ، قالوا: يا رسول الله، إنا نأتيك من شقة بعيدة، وإن بيننا وبينك هذا الحى من كفار مضر، وإنا لا نستطيع أن نأتيك إلا فى الشهر الحرام، فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا، ندخل به الجنة. فأمرهم بأربع، ونهاهن عن أربع.
أمرهم بالإيمان بالله وحده، وقال: «هل تدرون ما الإيمان بالله» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا خمسا من المغنم» .
ونهاهم عن الدباء والحنتم والمزفت والنقير. قالوا: يا نبى الله، ما علمك بالنقير؟
قال: «بلى، جذع ينقرونه فيقذفون فيه من القطيعاء، أو قال: من التمر ثم يصبون فيه من الماء حتى إذا سكن غليانه شربتموه، حتى أن أحدكم أو أن أحدهم ليضرب ابن عمه بالسيف» ، وفى القوم رجل أصابته جراحه كذلك، قال: وكنت أخبأها حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سلم عليه القوم سألهم: «أيكم عبد الله الأشج» ؟ فقالوا: أتاك يا رسول الله. وكان عبد الله وضع ثياب سفره، وأخرج ثيابا حسانا فلبسها، وكان رجلا دميما، فلما جاء ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دمامته قال: يا رسول الله، إنه لا يستقى فى مسوك الرجال، إنما يحتاج من الرجل إلى أصغريه، لسانه وقلبه. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم، والأناة» .
فقال عبد الله: يا رسول الله، أشىء حدث فى، أم شىء جبلت عليه؟ فقال: «بل شىء جبلت عليه» «2» .
وكان الأشج يسائل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفقه والقرآن، فكان رسول الله يدنيه منه إذا جلس، وكان يأتى أبى بن كعب فيقرأ عليه.
__________
(1) راجع: السيرة (200- 201) . المنتظم لابن الجوزى (3/ 382) ، طبقات ابن سعد (1/ 2/ 64) ، تاريخ الطبرى (3/ 136) .
(2) انظر الحديث فى: سنن البيهقى (10/ 104) ، المعجم الكبير للطبرانى (5/ 317) ، مجمع الزوائد للهيثمى (5/ 64، 9/ 387، 388) ، الترغيب والترهيب للمنذرى (3/ 418) ، التاريخ الكبير-- (585) ، فتح البارى لابن حجر (10/ 459) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (5054) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (8/ 31) ، كنز العمال للمتقى الهندى (5836، 5837) .(1/607)
وأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بجوائز، وفضل الأشج عليهم، فأعطاه اثنتى عشرة أوقية، ونشا، وذلك أكثر مما كان يجيز به الوفود.
وقدم فى هذا الوفد الجارود بن عمرو، وكان نصرانيا، فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمه، فعرض عليه الإسلام، ودعا إليه، ورغبه فيه. فقال: يا محمد، إنى كنت على دين، وإنى تارك دينى لدينك، أفتضمن لى دينى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم، أنا ضامن أن قد هداك الله إلى ما هو خير منه» . فأسلم وحسن إسلامه، وأراد الرجوع إلى بلاده، فسأل النبى صلى الله عليه وسلم حملانا، فقال: «والله ما عندى ما أحملكم عليه» ، قال: يا رسول الله، فإن بيننا وبين بلادنا ضوال من ضوال الناس، أفنتبلغ عليها إلى بلادنا؟ قال: «لا» ، إياك وإياها، فإنما تلك حرق النار» «1» .
فخرج من عنده الجارود راجعا إلى قومه، وكان حسن الإسلام، صليبا فى دينه، حتى هلك وقد أدرك الردة، فلما رجع من كان أسلم من قومه إلى دينهم الأول مع الغرور بن المنذر بن النعمان، قام الجارود فتشهد بشهادة الحق، ودعا إلى الإسلام، فقال:
يا أيها الناس، إنى أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وأكفر من لم يتشهد. ويروى: وأكفىء من لم يشهد «2» .
وفد بنى مرة
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بنى مرة، ثلاثة عشر رجلا رأسهم الحارث بن عوف، وذلك منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك، جاؤه وهو فى المسجد، فقال الحارث بن عوف: يا رسول الله، إنا قومك وعشيرتك، نحن قوم من بنى لؤى بن غالب، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال للحارث: «أين تركت أهلك» ؟ قال: بسلاح وما والاها قال:
«فكيف البلاد؟ قال: والله، إنا لمستنون وما فى المال مخ، فادع الله لنا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اسقهم الغيث» ، فأقاموا أياما، ثم أرادوا الإنصراف إلى بلادهم، فجاؤا رسول الله صلى الله عليه وسلم مودعين له، فأمر بلالا أن يجيزهم، فأجازهم بعشر أواق، عشر أواق فضة، وفضل الحارث بن عوف، أعطاه اثنتى عشرة أوقية، ورجعوا إلى بلادهم، فوجدوا البلاد
__________
(1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (5/ 80) ، مصنف عبد الرزاق (10/ 18604) ، السلسلة الصحيحة للألبانى (620) .
(2) انظر: السيرة (4/ 201) .(1/608)
مطيرة، فسألوا: متى مطرتم؟ فإذا هو ذلك اليوم الذى دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه.
فقدم عليه قادم بعد وهو يتجهز لحجة الوداع، فقال: يا رسول الله، رجعنا إلى بلادنا فوجدناها مضبوطة مطرا، لذلك اليوم الذى دعوت لنا فيه، ثم قلدتنا أقلاد الزرع فى كل خمس عشرة ليلة مطرة جودا، ولقد رأيت الإبل تأكل وهى بروك، وإن غنمنا ما توارى من أبياتنا، فترجع فتقيل فى أهلنا. فقال رسول الله: «الحمد الله الذى هو صنع ذلك «1» » .
وفد خولان
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شعبان من سنة عشر وفد خولان، وهم عشرة، فقالوا:
يا رسول الله، نحن على من وراءنا من قومنا، ونحن مؤمنون بالله عز وجل مصدقون برسوله، قد ضربنا إليك آباط الإبل، وركبنا حزون الأرض وسهولها، والمنة لله ولرسوله علينا، وقدمنا زائرين لك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما ذكرتم من مسيركم إلى فإن لكم بكل خطوة خطاها بعير أحدكم حسنة، وأما قولكم زائرين لك، فإنه من زارنى بالمدينة كان فى جوارى يوم القيامة» . قالوا: يا رسول الله، هذا السفر الذى لا توى عليه. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما فعل عم أنس؟» وهو صنم خولان الذى كانوا يعبدونه قالوا:
بشر وعر، بدلنا الله به ما جئت به، وقد بقيت منا بعد بقايا من شيخ كبير وعجوز كبيرة متمسكون به، ولو قد قدمنا عليه هدمناه إن شاء الله فقد كنا فى غرور وفتنة يا رسول الله، إن فتنته كانت أعظم مما عسينا أن نذكره لك، فالحمد لله الذى من علينا بك، وتنقذنا من الهلكة، وما مضى عليه الآباء من عبادته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما أعظم ما رأيتم من فتنته؟» قالوا: يا رسول الله، لقد رأيتنا وأسنتنا حتى أكلنا الرمة، ومات الولدان غرما، وهلكت ناغيتنا وراعيتنا وحافرنا أو ما ذهب منها. فقلنا، أو من قال منا: قربوا لعم أنس قربانا يشفع لكم، فتغاثوا فتعاونوا، فجمعنا ما قدرنا عليه من عين مالنا، ثم ذهب ذاهبنا فابتاع مائة ثور، ثم حشرها علينا، فنحرناها فى غداة واحدة، وتركناها تردها السباع، ونحن أحوج إليها من السباع، فجاءنا الغيث من ساعتنا، فأى فتنة أعظم من هذه، فلقد رأينا العشب يوارى الرجال، ويقول قائلنا: أنعم علينا عم أنس.
__________
(1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (5/ 89) ، دلائل النبوة لأبى نعيم (160) ، طبقات ابن سعد (1/ 2/ 43) .(1/609)
وذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانوا يقسمون لصنمهم هذا من أنعامهم وحروثهم، وأنهم كانوا يجعلون من ذلك جزآ له وجزآ لله بزعمهم.
قالوا: كنا نزرع الزرع، فنجعل له وسطه، فنسميه له، ونسمى زرعا آخر حجرة لله جل وعز فإذا مالت الريح بالذى سميناه لله جعلناه لعم أنس، وإذا مالت الريح بالذى جعلناه لعم أنس لم نجعله لله.
فذكر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل أنزل عليه فى ذلك: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ [الأنعام: 136] . قالوا: وكنا نتحاكم إليه فنكلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تلك الشياطين تكلمكم» . قالوا: فأصبحنا يا رسول الله، وقلوبنا تعرف أنه كان لا يضر ولا ينفع، ولا يدرى من عبده ممن لم يعبده. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذى هداكم وأكرمكم بمحمد صلى الله عليه وسلم» . وسألوه عن فرائض الدين، فأخبرهم وأمرهم بالوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وحسن الجوار لمن جاوروا، وأن يظلموا أحدا. قال: «فإن الظلم ظلمات يوم القيامة» «1» .
ثم أمر بهم فأنزلوا دار رملة وأمر لهم بضيافة تجرى عليهم، وأمر من يعلمهم القرآن والسنن، ثم ودعوه بعد أيام، فأجازهم، ورجعوا إلى قومهم فلم يحلوا عقدة حتى هدموا عم أنس.
وفد محارب «2»
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع وفد محارب، وهم كانوا أغلظ العرب، وأفظه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى تلك المواسم، أيام عرضه نفسه على القبائل يدعوهم إلى الله، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم عشرة نائبين عن من وراءهم من قومهم، فأسلموا.
وكان بلال يأتيهم بغذاء وعشاء إلى أن جلسوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من الظهر إلى العصر، فعرف رجلا منهم، فأبداه النظر، فلما رآه المحاربى يديم النظر إليه، قال: كأنك
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح مسلم كتاب البر والصلة (56، 57) ، مسند الإمام أحمد (2/ 106، 195، 3/ 323) ، سنن البيهقى الكبرى (6/ 93، 10/ 134، 243) ، جمع الجوامع للسيوطى (5687) ، الدر المنثور للسيوطى (6/ 196) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (8/ 193) .
(2) راجع: المنتظم لابن الجوزى (3/ 381) .(1/610)
يا رسول الله توهمنى. قال: «لقد رأيتك» . فقال المحاربى: أى والله، لقد رأيتنى وكلمتنى، وكلمتك بأقبح الكلام ورددتك بأقبح الرد بعكاظ وأنت تطوف على الناس.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم» . ثم قال المحاربى: يا رسول الله، ما كان فى أصحابى أشد عليك يومئذ ولا أبعد من الإسلام منى، فأحمد الله الذى أبقانى حتى صدقت بك، ولقد مات أولئك النفر الذين كانوا معى على دينهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذه القلوب بيد الله عز وجل» . فقال المحاربى: يا رسول، استغفر لى من مراجعتى إياك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الإسلام يجب ما كان قبله من الكفر» «1» . ثم انصرفوا إلى أهليهم.
وفد طىء «2»
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد وطىء، فيهم زيد الخيل «3» ، وهو سيدهم؛ فلما انتهوا إليه كلموه، وعرض عليهم الإسلام، فأسلموا، فحسن إسلامهم؛ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«ما ذكر لى رجل من العرب بفضل ثم جاءنى، إلا رأيته دون ما يقال فيه، إلا زيد الخيل، فإنه لم يبلغ كل ما فيه» ، ثم سماه زيد الخير، وقطع له فيدا وأرضين معه؛ وكتب له بذلك كتابا، فخرج من عنده راجعا إلى قومه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ينج زيد من حمى المدينة» يسميها رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ باسم غير الحمى، وغير أم ملدم.
وقال زيد حين انصرف:
أنيخت بآجام المدينة أربعا ... وعشرا يغنى فوقها الليل طائر
فلما قضى أصحابها كل بغية ... وخط كتابا فى الصحيفة ساطر
شددت عليها رحلها وسليلها ... من الدرس والشعراء والبطن ضامر
فلما انتهى زيد من بلد نجد إلى ماء من مياهه، يقال له: فردة أصابته الحمى، فمات.
وقال لما أحس بالموت «4» :
أمر تحل قومى المشارقى غدوة ... وأترك فى بيت بفردة منجد
__________
(1) انظر الحديث فى: طبقات ابن سعد (1/ 2/ 43) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 89) .
(2) راجع: المنتظم لابن الجوزى (3/ 356) ، طبقات ابن سعد (1/ 2/ 59، 65) .
(3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (866) ، الإصابة الترجمة رقم (2948) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1877) .
(4) انظر الأبيات فى السيرة (4/ 203) .(1/611)
ألا رب يوم لو مرضت لعادنى ... عوائد من لم يشف منهن يجهد
فليت اللواتى عدننى لم يعدننى ... وليت اللواتى غبن عنى شهد
فلما مات عمدت امرأته إلى ما كان من كتبه التى قطع له رسول الله صلى الله عليه وسلم فحرقتها بالنار «1» .
وأما عدى بن حاتم «2» ، فكان يقول فيما ذكر عنه: ما من رجل من العرب كان أشد كراهية لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به منى، أما أنا فكنت امرأ شريفا، وكنت نصرانيا، وكنت أسير فى قومى بالمرباع، فكنت فى نفسى على دين. وكنت ملكا فى قومى، لما كان يصنع بى قومى، وما كان يصنع فى أهل دينى، فلما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم كرهته، فقلت لغلام كان لى عربى وكان راعيا لإبل لى: لا أبا لك، أعدد لى من إبلى أجمالا ذللا سمانا، فاحتبسها قريبا منى، فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطىء هذه البلاد فآذنى؛ ففعل، ثم إنه أتانى ذات غداة، فقال: يا عدى، ما كنت صانعا إذا غشيك خيل محمد فاصنعه الآن، فإنى قد رأيت رايات، فسألت عنها، فقالوا: هذه جيوش محمد، قلت: فقرب إلى أجمالى، فقربها، فاحتملت بأهلى وولدى، ثم قلت: ألحق بأهل دينى من النصارى بالشام، وخلفت بنتا لحاتم فى الحاضر، فلما قدمت الشام أقمت بها.
وتخالفنى خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فتصيب بنت حاتم فيمن أصابت، فقدم بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سبايا من طىء، فجعلت بنت حاتم فى حظيرة بباب المسجد، كانت السبايا تحبس فيها، فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان بلغه هربى إلى الشام، فقامت إليه، وكانت امرأة جزلة، فقالت: يا رسول الله، هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن علىّ من الله عليك، قال: «ومن وافدك؟» قالت عدى بن حاتم. قال: «الفار من الله ورسوله؟» قالت: ثم مضى وتركنى، حتى إذا كان من الغد مر بى، فقلت له مثل ذلك، وقال لى مثل ما قال بالأمس. قالت: حتى إذا كان بعد الغد مر بى وقد يئست، فأشار إلى رجل من خلفه أن قومى فكلميه؛ فقمت إليه، فقلت: يا رسول الله، هلك الوالد، وغاب
__________
(1) انظر الحديث فى: طبقات ابن سعد (1/ 2/ 59) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (6/ 36) ، دلائل النبوة للبيهقى (5/ 337) ، تاريخ الطبرى (2/ 203) .
(2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1800) ، الإصابة الترجمة رقم (5491) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3610) ، طبقات خليفة (463، 904) ، مروج الذهب (3/ 190) ، جمهرة أنساب العرب (402) ، تاريخ بغداد (1/ 189) ، تاريخ الإسلام (3/ 46) ، تهذيب التهذيب (7/ 166) ، تهذيب الكمال (925) ، خلاصة تذهيب الكمال (223) ، سير أعلام النبلاء (3/ 162) ، شذرات الذهب (1/ 74) .(1/612)
الوافد، فامنن على من الله عليك؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد فعلت، فلا تعجلى بخروج حتى تجدى من قومك من يكون لك ثقة، حتى يبلغك إلى أهلك، ثم آذنينى» .
فسألت عن الرجل الذى أشار إلى أن كلميه، فقيل: على بن أبى طالب، وأقمت حتى قدم ركب من بلى أو قضاعة، وإنما أريد أن آتى أخى بالشام، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، قد قدم رهط من قومى، لى فيهم ثقة وبلاغ. فكسانى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحملنى، وأعطانى نفقة، فخرجت معهم حتى قدمت الشام.
قال عدى: فو الله إنى لقاعد فى أهلى، إذ نظرت إلى ظعينة تصوب إلى تؤمنا، قلت:
ابنة حاتم؟ فإذا هى هى، فلما وقفت على انسحلت تقول: القاطع الظالم، احتملت بأهلك وولدك، وتركت بقية والدك عورتك، قلت: أى أخية، لا تقولى إلا خيرا، فو الله ما لى من عذر، لقد صنعت ما ذكرت.
ثم نزلت فأقامت عندى، فقلت لها، وكانت امراة حازمة: ماذا ترين فى أمر هذا الرجل؟ قالت: أرى والله أن تلحق به سريعا، فإن يكن الرجل نبيا فللسابق إليه فضله، وإن يك ملكا فلن تذل فى عز اليمن، وأنت أنت، قلت: والله، إن هذا للرأى.
فخرجت حتى أقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فدخلت عليه، وهو فى مسجده، فسلمت عليه، فقال: «من الرجل؟» فقلت: عدى بن حاتم؛ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق بى إلى بيته، فو الله إنه لعامد بى إليه، إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة، فاستوقفته، فوقف لها طويلا تكلمه فى حاجتها؛ قال: قلت فى نفسى: والله ما هذا بملك، قال: ثم مضى بى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا دخل بى بيته، تناول وسادة من أدم محشوة ليفا، فقذفها إلى؛ فقال: «اجلس على هذه» ، قال: قلت: بل أنت فاجلس عليها، قال: «بل أنت» ، فجلست عليها، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض؛ فقلت فى نفسى: والله ما هذا بأمر ملك، ثم قال: «إيه يا عدى بن حاتم! ألم تك ركوسيا؟» قلت: بلى، قال: «أولم تكن تسير فى قومك بالمرباع؟» قلت: بلى، قال: «فإن ذلك لم يكن يحل لك فى دينك» ؛ قلت: أجل والله، وعرفت أنه نبى مرسل يعلم ما يجهل، ثم قال: «لعلك يا عدى إنما يمنعك من الدخول فى هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فو الله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه؛ ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم، فو الله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت، لا تخاف؛ ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك(1/613)
والسلطان فى غيرهم، وأيم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم» «1» . قال: فأسلمت.
وكان عدى يقول: مضت اثنتان وبقيت الثالثة، والله لتكونن. قد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت، وقد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف حتى تحج هذا البيت، وأيم الله لتكونن الثالثة، ليفيض المال حتى لا يوجد من يأخذه.
وفد كندة «2»
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الأشعث بن قيس فى ثمانين راكبا من كندة، فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده، قد رجلوا جمعهم وتكحلوا، عليهم جباب [الحبرة] «3» ، قد كففوها بالحرير، فلما دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألم تسلموا؟» قالوا: بلى، قال:
«فما بال هذا الحرير فى أعناقكم؟» ، قال: فشقوه منها، فألقوه.
ثم قال له الأشعث بن قيس «4» : يا رسول الله، نحن بنو آكل المرار، وأنت ابن آكل المرار. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «ناسبوا بهذا النسب العباس بن عبد المطلب، وربيعة ابن الحارث، وكانا إذا خرجا تاجرين فضربا فى بعض العرب فسئلا ممن هما؟ قالا: نحن آكل المرار، يتعززان بذلك، وذلك أن كندة كانوا ملوكا» . ثم قال لهم: لا، بل نحن بنو النضر بن كنانة، لا تقفو أمنا، ولا ننتفى من أبينا» «5» . وقال جندب بن مكيث «6» : لقد
__________
(1) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (5/ 335) ، مستدرك الحاكم (4/ 581) .
(2) راجع: السيرة (4/ 209- 210) . المنتظم لابن الجوزى (3/ 382) ، طبقات ابن سعد (1/ 2/ 64) ، تاريخ الطبرى (2/ 64) .
(3) ما بين المعقوفتين كذا فى الأصل، وفى السيرة: «الحيرة» . وجبب الحيرة: الجبب جمع جبة، وهو ضرب من الثياب، والحيرة: ضرب من برود اليمن.
(4) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (135) ، الإصابة الترجمة رقم (205) ، أسد الغابة الترجمة رقم (185) ، تهذيب التهذيب (1/ 359) ، تهذيب الكمال (119) ، خلاصة تذهيب الكمال (39) ، العبر (1/ 42، 46) ، تاريخ خليفة (116، 193، 199) .
(5) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (5/ 211، 212) ، سنن ابن ماجه (2612) ، التاريخ الصغير للبخارى (11، 12) ، التاريخ الكبير للبخارى (7/ 274) . مصنف عبد الرزاق (11/ 74) .
(6) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (345) ، الإصابة الترجمة رقم (231) ، أسد الغابة الترجمة رقم (807) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 91) ، تقريب التهذيب (1/ 173) ، الثقات (3/ 57) ، الوافى بالوفيات (11/ 194) ، الجرح والتعديل (2/ 2103) .(1/614)
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قدم وفد كندة عليه حلة يمانية يقال: إنها حلة ابن ذى يزن، وعلى أبى بكر وعمر مثل ذلك.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم عليه الوفد لبس أحسن ثيابه، وأمر عليه أصحابه بذلك.
وفد صداء
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد صداء فى سنة ثمان، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف من الجعرانة بعث بعوثا إلى اليمن، وهيأ بعثا استعمل عليهم قيس بن سعد بن عبادة، وعقد له لواء أبيض، ورفع له راية سوداء، وعسكر بناحية قناة فى أربعمائة من المسلمين، وأمره أن يطأ ناحية من اليمن كان فيها صداء، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل منهم وعلم بالجيش، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، جئتك وافدا على من ورائى، فاردد الجيش وأنا لك بقومى، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم قيس بن سعد من صدور قناة، وخرج الصدائى إلى قومه، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة عشر رجلا منهم، فقال سعد ابن عبادة: يا رسول الله، دعهم ينزلوا على، فنزلوا عليه، فحياهم وأكرمهم وكساهم، ثم راح بهم إلى النبى صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام، وقالوا: نحن: لكن على من وراءنا من قومنا، فرجعوا إلى قومهم ففشا فيهم الإسلام، فوافى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم مائة رجل فى حجة الوداع.
ذكر هذا الواقدى عن بعض بنى المصطلق. وذكر من حديث زياد بن الحارث الصدائى أنه الذى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: أردد الجيش، وأنا لك بقومى.
فردهم.
قال: وقدم وفد قومى، عليه، فقال لى: «يا أخا صداء، إنك لمطاع فى قومك» ، قال:
قلت: بلى من الله عز وجل ومن رسوله، وكان زياد هذا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بعض أسفاره. قال: فاعتشى رسول الله صلى الله عليه وسلم أى سار ليلا واعتشينا معه، وكنت رجلا قويا، قال: فجعل أصحابه يتفرقون عنه، ولزمت عرزه، فلما كان فى السحر قال: «أذن يا أخا صداء» ، فأذنت على راحلتى، ثم سرنا حتى نزلنا، فذهب لحاجته، ثم رجع فقال: «يا(1/615)
أخا صداء، هل معك ماء؟» قلت: معى شىء فى إداوتى. فقال: «هاته» فجئت به، فقال:
«صب» ، فصببت ما فى الإداوة فى القعب، وجعل أصحابه يتلاحقون، ثم وضع كفه على الإناء، فرأيت بين كل أصبعين من أصابعه عينا تفور، ثم قال: «يا أخا صداء، لولا انى أستحى من ربى لسقينا واستقينا» ، ثم توضأ، وقال: «أذن فى صحابى. من كانت له حاجة بالوضوء فليرد» . قال: فوردوا من آخرهم، ثم جاء بلال يقيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أخا صداء قد أذن، ومن أذن فهو يقيم» ، فأقمت، ثم تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بنا، وكنت سألته قبل أن يؤمرنى على قومى ويكتب لى بذلك كتابا، ففعل، فلما سلم يريد من صلاته قام رجل يتشكى من عامله، فقال: يا رسول الله، إنه أخذنا بدخول كانت بيننا وبينه فى الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا خير فى الإمارة لرجل مسلم، ثم قام رجل فقال: يا رسول الله، أعطنى من الصدقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لم يكل قسمها إلى ملك مقرب، ولا نبى مرسل، حتى جزأها على ثمانية أجزاء، فإن كانت جزآ منها أعطيتك، وإن كنت عنها غنيا فإنما هو صداع فى الرأس وداء فى البطن» .
فقلت فى نفسى: هاتان خصلتان حين سألت الإمارة وأنا رجل مسلم وسألته من الصدقة وأنا غنى عنها، فقلت: يا رسول الله، هذان كتاباك فاقبلهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«ولم؟» قلت: إنى سمعتك تقول: «لا خير فى الإمارة لرجل مسلم وأنا مسلم» ، وسمعتك تقول: «من سأل من الصدقة وهو عنها غنى فإنما هى صداع فى الرأس وداء البطن» ، وأنا غنى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إن الذى قلت كما قلت لك» ، فقتلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: دلنى على رجل من قومك استعمله، فدللته على رجل فاستعمله، قلت: يا رسول الله، إن لنا بئرا إذا كان الشتاء كفانا ماؤها، وإذا كان الصيف قل علينا فتفرقنا على المياه، والإسلام اليوم فينا قليل، ونحن نخاف، فادع الله عز وجل لنا فى بئرنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ناولنى سبع حصيات» ، فناولته فعركهن بيده، ثم دفعهن إلى، وقال: «إذا انتهيت إليها فألق فيها حصاة وسم الله» . قال: ففعلت، فما أدركنا لها قعرا حتى الساعة «1» .
***
__________
(1) انظر الحديث فى: المعجم الكبير للطبرانى (5/ 303) ، طبقات ابن سعد (1/ 2/ 63) ، دلائل النبوة للبيهقى (5/ 355) ، كنز العمال للمتقى الهندى (37075) ، مجمع الزوائد للهيثمى (5/ 203) .(1/616)
وفد غسان «1»
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد غسان.
قالوا أو من قاله منهم فيما ذكر الواقدى عنهم: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى رمضان سنة عشر، ونحن ثلاثة نفر، فلما كنا برأس الثنية لقينا رجل على فرس متنكب قوسا، فحيانا بتحية الإسلام، فرددنا عليه تحيتنا، فقال: من أنتم؟ قلنا: رهط من غسان، قد قدمنا على محمد نسمع من كلامه ونرتاد لقومنا، قال: فانزلوا حيث ينزل الوفد، قلنا:
وأين ينزل الوفد؟ قال: دار رملة بنت الحارث، ويقال: الحارث، ثم ائتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلموه، قلنا: ونقدر عليه كلما أردنا؟ قال: فتبسم، فقال: أى لعمرى، إنه ليطوف بالأسواق ويمشى وحده، وكنا قوما نسمع كلام النصارى وصفتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه يمشى وحده لا شرطة معه، ويرعب من يراه منهم، فقلنا للرجل: من أنت لك الجنة؟
قال: أنا أبو بكر بن أبى قحافة، فقلنا: أنت فيما يزعم النصارى تقوم بهذا الأمر بعده، قال أبو بكر: الأمر إلى الله عز وجل، ثم قال: كيف تخدعون عن الإسلام وقد خبركم أهل الكتاب بصفته، وأنه آخر الأنبياء؟ قلنا: هو ذاك، فمضى ومضينا نسأل عن دار رملة حتى انتهينا إليها فنصادف وفودا من العرب كلهم مصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم، فقلنا فيما بيننا: أترانا شر من نزى من العرب؟ ثم خرجنا حتى نلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند باب المسجد واقفا، فأمدنا ببصره، وقال: «أنتم الغسانيون؟» قلنا: نعم، قال: «قدمتم مرتادين لقومكم فما انتفعتم بعلم من كان معكم من أهل الكتاب» . قلنا: يا محمد، لم نر أحدا منهم اتبعك، فوقفنا عنك لذلك، ونحن الآن على غير ما كنا عليه، فالإم تدعو؟ قال:
«أدعو إلى الله وحده لا شريك له، وخلع ما دعى من دونه، وأنى رسول الله» . قال قائلهم: فمن معك من اتباعك؟ قال: «الله جل وعز معى والملائكة: جبريل وميكائيل، والأنبياء، وصالح المؤمنين» ، ثم التفت ونظر إلى عمر، ولم ير أبا بكر، فقال: «هذا وصاحبه» ، قلنا: ابن أبى قحافة؟ قال: «نعم» ، قلنا: إنك لتأوى إلى ركن شديد، وقد صدقناك، وشهدنا أن ما جئت به حق، ولا ندرى أيتبعنا قومنا أم لا، وهم يحبون بقاء ملكهم وقرب قيصر «2» .
ثم أسلموا، وأجازهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بجوائز، وانصرفوا راجعين، فقدموا على قومهم،
__________
(1) راجع: المنتظم لابن الجوزى (3/ 382) ، طبقات ابن سعد (1/ 2/ 71) ، تاريخ الطبرى (3/ 130) .
(2) انظر الحديث فى: تاريخ الطبرى (3/ 130) ، طبقات ابن سعد (1/ 2/ 71) .(1/617)
فلم يستجيبوا لهم، وكتموا إسلامهم حتى مات منهم رجلان على الإسلام، وأدرك الثالث منهم عمر بن الخطاب عام اليرموك، فلقى أبا عبيدة فخبره بإسلامه، فكان يكرمه.
وفد سلامان «1»
وذكر الواقدى أيضا بإسناد له: أن خبيب بن عمرو السلامانى كان يحدث قال:
قدمنا وفد سلامان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن سبعة نفر، فانتهينا إلى باب المسجد، فصادفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجا منه إلى جنازة دعى إليها، فلما رأيناه قلنا يا رسول الله، السلام عليك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وعليكم السلام، من أنتم؟» قلنا: نحن من سلامان، قدمنا عليك لنبايعك على الإسلام، ونحن على من وراءنا من قومنا. فالتفت إلى ثوبان غلامه، فقال: «أنزل هؤلاء حيث ينزل الوفد» ، فخرج بنا ثوبان حتى انتهى بنا إلى دار واسعة فيها نخل وفيها وفود من العرب، وإذا هى دار رملة بنت الحارث النجارية، فلما سمعنا أذان الظهر خرجنا إلى الصلاة، فقمنا على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خرج إلى المسجد، فصلى بالناس وهو يتصفحنا، ودخل بيته فلم يلبث أن خرج، فجلس فى المسجد بين المنبر وبين بيته، وجلست عليه أصحابه، عن يمينه وعن شماله، فرأيت رجلا هو أقرب القوم منه، يكثر ما يلتفت إليه، ويحدثه. فسألت عنه، فقيل: أبو بكر بن أبى قحافة، وجئنا فجلسنا تجاه وجهه، وجعل الوفد يسألونه عن شرائع الإسلام، فلم يكد سائلهم يقطع حتى خشيت أن يقوم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إنا نريد ما تريد، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسكت السائل، فقلت: أى رسول الله، ما أفضل الأعمال؟ قال:
«الصلاة فى وقتها» ، ثم ذكر حديثا طويلا.
قال: ثم جاء بلال، فأقام الصلاة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى بالناس العصر، فكانت صلاة العصر أخف فى القيام من الظهر، ثم دخل بيته، فلم ينشب أن خرج فجلس فى مجلسه الأول، وجلس معه أصحابه، وجئنا فجلسنا، فلما رآنى قال: «يا أخا سلامان» ، قلت: لبيك، قال: «كيف البلاد عندكم؟» قلت: أى رسول الله، مجدبة، وما لنا خير من البلاد، فادع الله أن يسقينا فى بلادنا، فنقر فى أوطاننا ولا نسير إلى بلاد غيرنا، فإن النجع تفرق الجميع وتشتت الديار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده: «اللهم اسقهم الغيث فى
__________
(1) راجع: المنتظم لابن الجوزى (3/ 380- 381) .(1/618)
ديارهم» ، فقلت: يا رسول الله، ارفع يديك، فإنه أكثر وأطيب، فتبسم رسو الله صلى الله عليه وسلم، ورفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه، ثم قام وقمنا عنه، فأقمنا ثلاثا وضيافته تجرى علينا، ثم ودعناه، وأمر لنا بجوائز، فأعطينا خمس أواقى، لكل رجل منا، واعتذر إلينا بلال، وقال: ليس عندنا مال اليوم، فقلنا: ما أكثر هذا وأطيبه، ثم رحلنا إلى بلادنا فوجدناها قد مطرت فى اليوم الذى دعا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى تلك الساعة «1» .
قال الواقدى: وكان مقدمهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شوال سنة عشر.
وفد بنى عبس
قال: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بنى عبس، فقالوا: يا رسول الله، قدم علينا قراؤنا، فأخبرونا أنه لا إسلام لمن لا هجرة له، ولنا أموال ومواش، وهى معايشنا، فإن كان لا إسلام لمن لا هجرة له فلا خير فى أموالنا، بعناها وهاجرنا من آخرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الله حيث كنتم، فلن يلتكم الله من أعمالكم شيئا» ، وسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خالد بن سنان، هل له عقب؟ فأخبروه أنه لا عقب له، كانت له ابنة فانقرضت، وأنشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه عن خالد بن سنان، فقال: «نبى ضيعه قومه» «2» .
وفد الأزد ووفد جرش»
قال ابن إسحاق «4» : وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم صرد بن عبد الله الأزدى، فأسلم، وحسن إسلامه، فى وفد من الأزد، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أسلم من قومه. وأمره أن يجاهد بمن أسلم من كان يليه من أهل الشرك من قبائل اليمن.
فخرج صرد بن عبد الله يسير بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بجرش، وهى يومئذ مدينة مغلقة، وبها قبائل من قبائل اليمن، وقد ضوت إليها خثعم، فدخلوها معهم حين
__________
(1) انظر الحديث فى: طبقات ابن سعد (1/ 2/ 67) .
(2) انظر الحديث فى: طبقات ابن سعد (1/ 2/ 42) .
(3) راجع: المنتظم لابن الجوزى (3/ 381) ، طبقات ابن سعد (1/ 2/ 71) ، تاريخ الطبرى (3/ 130) ، البداية والنهاية (5/ 84) .
(4) انظر: السيرة (4/ 211- 212) .(1/619)
سمعوا بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فحاصروهم فيها قريبا من شهر، وامتنعوا فيها منه، ثم إنه رجع عنهم قافلا، حتى إذا كان إلى جبل يقال له: شكر، ظن أهل جرش أنه إنما ولى عنهم منهزما، فخرجوا فى طلبه، حتى إذا أدركوه عطف عليهم، فقتلهم قتلا شديدا.
وقد كان أهل جرش بعثوا رجلين منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة يرتادان وينظران؛ فبينما هما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية بعد العصر، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بأى بلاد الله شكر؟» فقال الجرشيان: ببلادنا جبل يقال له: كشر وكذلك يسميه أهل جرش فقال:
«إنه ليس بكشر، ولكنه شكر» ، قالا: فما شأنه يا رسول الله؟ قال: «إن بدن الله لتنحر عنده الآن» ، فجلس الرجلان إلى أبى بكر أو إلى عثمان، فقال لهما: ويحكما! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم الآن لينعى لكما قومكما، فقوموا فاسألاه أن يدعو الله ان يرفع عن قومكما؛ فقاما إليه، فسألاه عن ذلك، فقال: «اللهم ارفع عنهم» ، فخرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى قومهما، فوجدوا قومهما أصابهم صرد بن عبد الله فى اليوم الذى قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال: وفى الساعة التى ذكر فيها ذكر «1» .
فخرج وفد جرش حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا، وحمى لهم حمى حول قريتهم، على أعلام معلومة، للفرس والراحلة وللميرة، بقرة الحرث، فمن رعاه من الناس فماله سحت.
فقال فى تلك الغزوة رجل من الأزد، وكانت خثعم تصيب من الأزد فى الجاهلية، وكانوا يعدون فى الشهر الحرام «2» :
يا غزوة ما غزونا غير خائبة ... فيها البغال وفيها الخيل والحمر
حتى أتينا حميرا فى مصانعها ... وجمع خثعم قد شاعت لها النذر
إذا وضعت غليلا كنت أحمله ... فما أبالى أدانوا بعد أم كفروا
وفد غامد
قال الواقدى: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد غامد سنة عشر، وهم عشرة، فنزلوا فى
__________
(1) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (5/ 372، 373) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 74، 75) .
(2) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 212) .(1/620)
بقيع الغرقد، وهو يومئذ أثل وطرفاء، ثم انطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفوا فى رحلهم أحدثهم سنا، فنام عنه، وأتى سارق فسرق عيبة لأحدهم فيها أثواب له، وانتهى القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه وأقروا له بالإسلام، وكتب لهم كتابا فيه شرائع الإسلام، وقال لهم: «من خلفتم فى رحالكم؟» قالوا: أحدثنا يا رسول الله، قال: «فإنه قد نام عن متاعكم حتى أتى آت فأخذ عيبة أحدكم» ، فقال أحد القوم: يا رسول الله، ما لأحد من القوم عيبة غيرى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد أخذت، وردت إلى موضعها» فخرج القوم سراعا حتى أتو رحلهم، فوجدوا صاحبهم، فسألوه عما خبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: فزعت من نومى ففقدت العيبة، فقمت فى طلبها، فإذا رجل قد كان قاعدا، فلما رآنى ثار يعدو منى، فانتهيت إلى حيث انتهى، فإذا أثر حفر، وإذا هو قد غيب العيبة، فاستخرجتها، فقالوا: نشهد أنه رسول الله، فإنه قد أخبرنا بأخذها، وأنها قد ردت، فرجعوا إلى النبى فأخبروه، وجاء الغلام الذى خلفوه فأسلم.
وأمر النبى صلى الله عليه وسلم أبى بن كعب «1» ، فعلمهم قرآنا، وأجازهم صلى الله عليه وسلم كما كان يجيز الوفود، وانصرفوا.
وفد بنى الحارث بن كعب «2»
قال ابن إسحاق «3» : وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فى شهر ربيع الآخر أو جمادى الأولى سنة عشر إلى بنى الحارث بن كعب بنجران، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم ثلاثا، فإن استجابوا فأقبل منهم، وإن لم يفعلوا فقاتلهم، فخرج خالد بن الوليد حتى قدم عليهم، فبعث الركبان يضربون فى كل وجه، ويدعون إلى الإسلام، ويقولون: أيها الناس، أسلموا تسلموا، فأسلم الناس، ودخلوا فيما دعوا إليه،
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (6) ، الإصابة الترجمة رقم (32) ، أسد الغابة الترجمة رقم (34) ، طبقات خليفة (88، 89) ، تاريخ خليفة (167) ، الجرح والتعديل (2/ 290) ، حلية الأولياء (1/ 250) ، شذرات الذهب (1/ 32، 33) ، تهذيب التهذيب (1/ 187) ، تهذيب الكمال (70) ، خلاصة تذهيب الكمال (24) ، طبقات القراء (1/ 31) ، تذكرة الحفاظ (1/ 16) ، العبر (1/ 23) ، الاستبصار (48) .
(2) راجع: المنتظم لابن الجوزى (3/ 379- 380) ، طبقات ابن سعد (1/ 2/ 72) ، تاريخ الطبرى (3/ 126) ، البداية والنهاية (5/ 88) .
(3) انظر: السيرة (4/ 215- 217) .(1/621)
فأقام فيهم خالد يعلمهم الإسلام وكتاب الله وسنة نبيه، وبذلك كان أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هم أسلموا ولم يقاتلوا. ثم كتب خالد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم، لمحمد النبى رسول الله من خالد بن الوليد، السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو: أما بعد يا رسول الله صلى الله عليك فإنك بعثتنى إلى بنى الحارث بن كعب، وأمرتنى إذا أتيتهم أن لا أقاتلهم ثلاثة أيام، وأن أدعوهم إلى الإسلام، فإن أسلموا قبلت منهم، وعلمتهم معالم الإسلام وكتاب الله وسنة نبيه، وإن لم يسلموا قاتللهم، وإنى قدمت عليهم، فدعوتهم إلى الإسلام ثلاثة أيام، كما أمرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثت فيهم ركبانا، فقالوا: يا بنى الحارث، أسلموا تسلموا، فأسلموا ولم يقاتلوا، وأنا مقيم بين أظهرهم، آمرهم بما أمرهم الله به، وأنهاهم عن ما نهاهم الله عنه، وأعلمهم معالم الإسلام وسنة النبى صلى الله عليه وسلم حتى يكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته.
فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد النبى، رسول الله إلى خالد بن الوليد، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو. أما بعد، فإن كتابك جاءنى مع رسولك يخبر أن بنى الحارث بن كعب قد أسلموا قبل أن تقاتلهم، وأجابوا إلى ما دعوتهم إليه من الإسلام، وشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن قد هداهم الله بهداه فبشرهم وأنذرهم وأقبل وليقبل معك وفدهم، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته» .
فأقبل خالد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل معه وفد بنى الحارث بن كعب، منهم قيس بن الحصين «1» ذو الغصة، ويزيد بن عبد المدان «2» ، ويزيد بن المحجل، وعبد الله بن قراد الزيادى «3» ، وشداد بن عبد الله القنانى «4» ، وعمرو بن عبد الله الضبابى «5» ، فلما قدموا
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2152) ، الإصابة الترجمة رقم (7175) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4340) ، تجريد أسماء الصحابة (2/ 19) ، الثقات (3/ 341) ، الطبقات الكبرى (1/ 268، 339) ، الجرح والتعديل (7/ 95) .
(2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2816) ، الإصابة الترجمة رقم (9309) ، أسد الغابة الترجمة رقم (5586) .
(3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1653) وفيه: «عبد الله بن قريط الزيادى» ، الإصابة الترجمة رقم (4911) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3129) .
(4) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1165) ، الإصابة الترجمة رقم (3873) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2397) .
(5) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1955) ، الإصابة الترجمة رقم (5911) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3978) .(1/622)
على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآهم قال: «من هؤلاء القوم الذين كأنهم رجال الهند؟» يعنى فى الطول والسمرة قيل: يا رسول الله، هؤلاء بنو الحارث بن كعب، فلما وقفوا عليه سلموا، وقالوا: نشهد أنك لرسول الله، وأنه لا إله إلا الله؛ قال: «وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله» ، ثم قال: «أنتم الذين إذا زجروا استقدموا» ، فسكتوا، فلم يراجعه منهم أحد، ثم أعادها الثانية، فلم يراجعه منهم أحد، ثم أعادها الثالثة، فلم يراجعه منهم أحد، ثم أعادها الرابعة، فقال يزيد بن عبد المدان: نعم، يا رسول الله، نحن الذين إذا زجروا استدقموا، قالها أربع مرات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أن خالدا لم يكتب إلى بأنكم أسلمتم ولم تقاتلوا لألقيت رؤسكم تحت أقدامكم» . فقال يزيد بن عبد المدان: أما والله ما حمدناك ولا حمدنا خالدا، قال: «فمن حمدتم؟» قالوا: حمدنا الله الذى هدانا بك يا رسول الله، قال: «صدقتم» ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بم كنتم تغلبون من قاتلكم فى الجاهلية» ؟ قالوا: لم نك نغلب أحدا؛ قال: «بلى، قد كنتم تغلبون من قاتلكم» . قالوا: كنا نغلب من قاتلنا يا رسول الله، إنا كنا نجتمع ولا نفترق ولا نبدأ أحدا بظلم؛ قال: «صدقتم» . وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على بنى الحارث بن كعب قيس بن الحصين «1» .
فرجع وفد بنى الحارث إلى قومهم فى بقية شوال أو فى صدر ذى القعدة، فلم يمكثوا بعد أن رجعوا إلى قومهم إلا أربعة أشهر، حتى توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليهم بعد أن ولى وفدهم عمرو بن حزم «2» ، ليفقههم فى الدين، ويعلمهم السنة ومعالم الإسلام، ويأخذ منهم صدقاتهم، وكتب لهم كتابا
__________
(1) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (5/ 411، 412) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 339، 340) .
(2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1929) ، الإصابة الترجمة رقم (5826) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3905) ، نسب قريش (233) ، طبقات خليفة (20) ، التاريخ الكبير (6/ 305) ، تاريخ الثقات للعجلى (363) ، المعرفة والتاريخ (1/ 323) ، أنساب الأشراف (1/ 228) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (286) ، مروج الذهب (1896) ، الجرح والتعديل (6/ 226) ، سير أعلام النبلاء (3/ 417) ، العقد الثمين (6/ 368) ، تهذيب التهذيب (8/ 17) ، تقريب التهذيب (2/ 67) ، تذهيب التهذيب (244) ، تاريخ الإسلام (2/ 492) ، شذرات الذهب (1/ 95) .(1/623)
عهد إليه فيه عهده، وأمره فيه أمره:
«بسم الله الرحمن الرحيم، هذا بيان من الله ورسوله، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] ، عهد من محمد النبى رسول الله، صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم، حين بعثه إلى اليمن، أمره بتقوى الله فى أمره كله، فإن الله مع الذين اتقوا. والذين هم محسنون، وأمره أن يأخذ بالحق كما أمره الله، وأن يبشر الناس بالخير، ويأمرهم به، ويعلم الناس القرآن ويفقههم فيه، وينهى الناس، فلا يمس القرآن إنسان إلا وهو طاهر، ويخبر الناس بالذى لهم، والذى عليهم، ويلين للناس فى الحق، ويشتد عليهم فى الظلم، فإن الله كره الظلم ونهى عنه، فقال: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ، ويبشر الناس بالجنة وبعملها، وينذر الناس النار وعملها، ويتألف الناس حتى يفقهوا فى الدين، ويعلم الناس معالم الحج وسننه وفرائضه، وما أمر الله به، والحج الأكبر، والحج الأصغر هو العمرة وينهى الناس أن يصلى أحد فى ثوب واحد صغير، إلا أن يكون ثوبا يثنى طرفيه على عاتقيه، وينهى أن يجتبى أحد فى ثوب واحد يفضى بفرجه إلى السماء، وينهى أن لا يعقص أحد شعر رأسه فى قفاه، وينهى إذا كان بين الناس هيج عن الدعاء إلى القبائل والعشائر، ولتكن دعواهم إلى الله وحده لا شريك له. فمن لم يدع إلى الله، ودعا إلى القبائل والعشائر فليقطفوا بالسيف، حتى تكون دعواهم إلى الله وحده لا شريك له، ويأمر الناس بإسباغ الوضوء وجوههم وأيديهم إلى المرافق وأرجلهم إلى الكعبين، ويمسحوا برؤسهم كما أمرهم الله، وأمر بالصلاة لوقتها وإتمام الركوع والسجود يغلس بالصبح، ويهجر بالهاجرة حين تميل الشمس، وصلاة العصر والشمس فى الأرض مدبرة، والمغرب حين يقبل الليل، لا تؤخر حتى تبدو النجوم فى السماء، والعشاء أول الليل، وأمره بالسعى إلى الجمعة إذا نودى لها، والغسل عند الرواح إليها، وأمره أن يأخذ من المغانم خمس الله، وما كتب على المؤمنين فى الصدقة من العقار عشر ما سقت السماء وسقت العين، وعلى ما سقى الغرب نصف العشر، وفى كل عشر من الإبل شاتان، وفى كل عشرين أربع شاة، وفى كل أربعين من البقر بقرة، وفى كل ثلاثين من البقر تبيع جذع أو جذعة، وفى كل أربعين من الغنم سائمة وحدها، شاة، فإنها فريضة الله التى افترض على المؤمنين فى الصدقة، فمن زاد خيرا فهو خير له، وإنه من أسلم من يهودى أو نصرانى إسلاما خالصا من نفسه، ودان بدين الإسلام، فإنه من المؤمنين، له مثل ما لهم، وعليه مثل ما عليهم، ومن كان على نصرانيته أو يهوديته فإنه لا يرد عنها أى لا يفتن وعلى كل حالم: ذكر أو أنثى، حر أو عبد، دينار واف أو عوضه ثيابا.(1/624)
فمن أدى ذلك، فإن له ذمة الله وذمة رسوله ومن منع ذلك، فإنه عدو لله ولرسوله وللمؤمنين جميعا، صلوات الله على محمد، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته» «1» .
وفد بنى حنيفة «2»
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بنى حنيفة، فيهم مسيلمة بن حبيب الحنفى الكذاب.
قال ابن إسحاق «3» : فحدثنى بعض علمائنا من أهل المدينة: أن بنى حنيفة أتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم تستره بالثياب، ورسول الله جالس فى أصحابه، معه عسيب من سعف النخل، فى رأسه خوصات؛ فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يسترونه بالثياب، كلمه وسأله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو سألتنى هذا العسيب ما أعطيتكه» «4» .
قال: وقد حدثنى شيخ من بنى حنيفة من أهل اليمامة أن حديثه كان على غير هذا.
زعم أن وفد بنى حنيفة اتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفوا مسيلمة فى رحالهم، فلما أسلموا ذكروا مكانه، فقالوا: يا رسول الله، إنا قد خلفنا صاحبا لنا فى رحالنا أو فى ركابنا يحفظها لنا، قال: فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما أمر به للقوم، وقال: «أما إنه ليس بشركم مكانا» أى لحفظه ضيعة أصحابه ذلك الذى يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم «5» .
قال: ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاؤه بما أعطاه، فلما انتهوا إلى اليمامة ارتد عدو الله وتنبأ وتكذب لهم، وقال: إنى قد أشركت فى الأمر معه، وقال لوفده الذين كانوا معه: ألم يقل لكم حين ذكرتمونى له: «أما إنه ليس بشركم مكانا» ؟ ما ذاك إلا لما كان يعلم إنى قد أشركت فى الأمر معه؛ ثم جعل يسجع لهم، ويقول فيما يقول مضاهاة للقرآن: لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشى، وأحل لهم الخمر والزنا، ووضع عنهم الصلاة، وهو مع ذلك يشهد لرسول الله
__________
(1) انظر الحديث فى: سنن النسائى (8/ 4868) ، مستدرك الحاكم (1/ 397) ، السنن الكبرى للبيهقى (8/ 73، 100) .
(2) راجع: المنتظم لابن الجوزى (3/ 382) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 45) ، تاريخ الطبرى (3/ 137) .
(3) انظر: السيرة (4/ 201- 203) .
(4) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (5/ 350) ، صحيح البخارى (7/ 4373) .
(5) انظر الحديث فى: فتح البارى لابن حجر (7/ 691) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 317) .(1/625)
صلى الله عليه وسلم بأنه نبى، فأصفقت معه حنيفة على ذلك. فالله أعلم أى ذلك كان «1» .
وذكر الواقدى إنه قدم فى وفد بنى حنيفة الرحال بن عنفوة، وأنه كان أيام مقام الوفد يختلف إلى أبى كعب، يتعلم القرآن وشرائع الإسلام، حتى كان الرحال عندهم أفضل من كان وفد عليهم لما يرون من حرصه، فلما تنبأ مسيلمة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم له الرحال بن عنفوة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشركه فى الأمر، فافتتن الناس.
وفد همدان
قال ابن هشام «2» : وقدم وفد همدان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم مالك بن نمط، وأبو ثور، وهو ذو المشعار، ومالك بن أيفع، وضمام بن مالك السلمانى، وعميرة ابن مالك الخارقى، فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من تبوك، وعليهم مقطعات الحبرات، والعمائم العدنية، برحال الميس على المهرية والأرحبية، ومالك بن نمط ورجل آخر يرتجزان بالقوم، يقول أحدهما:
همدان خير سوقة وأقيال ... ليس لها فى العالمين أمثال «3»
محلها الهضب ومنها الأبطال ... لها إطابات وآكال «4»
ويقول الآخر:
إليك جاوزن سواد الريف ... فى هبوات الصيف والخريف
مخطمات بحبال الليف «5»
فقام مالك بن نمط «6» بين يديه، ثم قال: يا رسول الله، نصيّة من همدان، من كل حاضر وباد، أتوك على قلص نواج، متصلة بحبائل الإسلام، لا تأخذهم فى الله لومة لائم، من مخلاف خارف، ويام وشاكر، أهل السواد والقود، أجابوا دعوة الرسول
__________
(1) انظر: السيرة (4/ 202) .
(2) انظر: السيرة (4/ 220) .
(3) السوقة: الذين دون الملوك من الناس، الأقيال: هم الذين يلون الملك فى المنزلة.
(4) الهضب: الأمكنة المرتفعة، واحدها هضبة. الأطابات: الأموال الطيبة.
(5) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 202) .
(6) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2238) ، الإصابة الترجمة رقم (7710) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4651) .(1/626)
وفارقوا آلهات الأنصاب، عهدهم لا ينقض ما أقامت لعلع، وما جرى اليعفور بصلع.
فكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب من رسول الله لمخلاف خارف، وأهل جناب الهضب، وخقاف الرمل، مع وافدها ذى المشعار مالك بن نمط، ومن أسلم من قومه، على أن لهم فراعها ووهاطها، ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، يأكلون علافها، ويرعون عافيها، لهم بذلك عهد الله وذمام رسوله، وشاهدهم المهاجرون والأنصار» «1» .
فقال فى ذلك مالك بن نمط «2» :
ذكرت رسول الله فى فحمة الدجى ... ونحن بأعلى رحرحان وصلدد
وهن بنا خوض طلائع تغتلى ... بركبانها فى لا حب متمدد
على كل فتلاء الذراعين جسرة ... تمر بنا مرا لهجف الخفيدد
حلفت برب الراقصات إلى منى ... صوادى بالركبان من ظهر قردد
بأن رسول الله فينا مصدق ... رسول أتى من عند ذى العرش مهتد
فما حملت من ناقة فوق رحلها ... أشد على أعدائه من محمد
وأعطى إذا ما طالب العرف جاءه ... وأمضى بحد المشرفى المهند
وفد النخع
قال الواقدى: وقدم على رسول الله وفد النخع، وهم آخر وفد، قدموا للنصف من المحرم سنة إحدى عشرة من الهجرة، فى مائتى رجل، فنزلوا دار الأضياف، ثم جاؤا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرين بالإسلام، وقد كانوا بايعوا معاذ ابن جبل باليمن. فقال رجل منهم، يقال له زرارة بن عمرو «3» : يا رسول الله إنى رأيت فى سفرى هذا عجبا، قال:
«وما رأيت» ؟ قال: رأيت أتانا تركتها فى الحى كأنها ولدت جديا أسفع أحوى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل تركت أمة لك مصرة على حمل» ؟ قال: نعم، قال: «فإنها قد
__________
(1) ذكره ابن الأثير فى أسد الغابة (5/ 51، 52) ، ابن حجر فى الإصابة (6/ 36) .
(2) انظر الأبيات فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2328) ، الإصابة الترجمة رقم (7710) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4651) ، السيرة (4/ 221- 222) .
(3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (814) ، الإصابة الترجمة رقم (2802) ، أسد الغابة الترجمة رقم (739) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 89) ، الثقات (3/ 143) ، الوافى بالوفيات (14/ 192) ، الجرح والتعديل (3/ 2724) .(1/627)
ولدت غلاما وهو أبنك» ، قال: يا رسول الله، فما باله أسفع أحوى؟ قال: «ادن منى» .
فدنا منه، فقال: «هل بك من برص تكتمه؟» قال: والذى بعثك بالحق، ما علم به أحد، ولا اطلع عليه غيرك. قال: «فهو ذلك» . قال: يا رسول الله ورأيت النعمان بن المنذر عليه قرطان ودملجان ومسكتان. قال: «ذلك ملك العرب رجع إلى أحسن زيه وبهجته» . قال: يا رسول الله، ورأيت عجوز اشمطاء، خرجت من الأرض. قال: «تلك بقية الدنيا» . قال: ورأيت نارا خرجت من الأرض فحالت بينى وبين ابن لى يقال له:
عمرو، وهى تقول: لظى لظى، بصير وأعمى، أطعمونى آكلكم (آكلكم) : أهلكم ومالكم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تلك فتنة تكون فى آخر الزمان» . قال: يا رسول الله، وما الفتنة؟ قال: «يقتل الناس إمامهم، ويشتجرون اشتجار أطباق الرأس وخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصابعه يحسب المسئ فيها أنه محسن، ويكون دم المؤمن أحل من شرب الماء، إن مات ابنك أدركت الفتنة، وإن مت أنت أدركها ابنك» .
قال: يا رسول الله، ادع الله أن لا أدركها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا يدركها» . فمات وبقى ابنه، وكان ممن خلع عثمان «1» .
وهذا الذى تيسر لنا ذكره من شأن الوفود، وهم أكثر من هذا، ومعظم من ذكرنا إنما هو من كتاب الواقدى مع من ذكره ابن إسحاق منهم.
انتهى الجزء الأول ويليه الجزء الثانى
وأوله «بعث رسول الله إلى الملوك وكتابه إليهم»
__________
(1) انظر الحديث فى: طبقات ابن سعد (5/ 388) ، الاستيعاب الترجمة رقم (814) .(1/628)
فهرس محتويات الجزء الأول
مقدمة التحقيق أ
مقدمة المصنف 3
ذكر نسب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما 7
ذكر أولية بيت الله المحرم وركنه المستلم ومن تولى بناءه من ملائكته وأنبيائه صلى الله على جميعهم وسلم 30
ذكر دخول الحبشة أرض اليمن واستيلائهم على ملكها وذكر السبب فى ذلك مع ما يتصل به من أمر الفيل 83
ذكر حفر عبد المطلب زمزم وما يتصل بذلك من حديث مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم 100
ذكر بنيان قريش الكعبة مع ذكر ما أحدثوه فى المناسك 130
ذكر ما حفظ عن الأحبار والرهبان والكهان من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه سوى ما تقدم من ذلك مع ذكر شىء مما سمع من ذلك عند الأصنام أو هتفت به الهواتف 135
ذكر المبعث 163
ذكر إسلام حمزة بن عبد المطلب رضى الله عنه 185
وفد بنى أسد 602
وفد بهراء 603
وفد بنى غدرة 603
وفد بلى 604
ضمام بن ثعلبة 605
وفد عبد القيس 607
وفد بنى مرة 608
وفد خولان 609
وفد محارب 610
وفد طىء 611
وفد كندة 614
وفد صداء 615
وفد غسان 617
وفد سلامان 618
وفد بنى عبس 619
وفد الأزد ووفد جرش 619
وفد غامد 620
وفد بنى الحارث بن كعب 621
وفد بنى حنيفة 625
وفد همدان 626
وفد النخع 627
الفهرس 629(1/629)
الجزء الثاني
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ذكر بعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى الملوك، وكتابه إليهم يدعوهم إلى الله وإلى الإسلام
قال ابن هشام «1» : وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى الملوك رسلا من أصحابه، وكتب معهم إليهم يدعوهم إلى الإسلام.
حدثنى من أثق به عن أبى بكر الهذلى قال: بلغنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه ذات يوم بعد عمرته التى صد عنها يوم الحديبية، فقال: «أيها الناس، إن الله قد بعثنى رحمة وكافة، فلا تختلفوا على كما اختلف الحواريون على عيسى ابن مريم عليه السلام» .
وفى حديث ابن إسحاق: «إن الله بعثنى رحمة وكافة، فأدوا عنى يرحمكم الله، ولا تختلفوا على كما اختلف الحواريون على عيسى» ، فقال أصحابه: «وكيف اختلف الحواريون يا رسول الله؟» ، فقال: «دعاهم إلى الذى دعوتكم إليه، فأما من بعثه مبعثا قريبا فرضى وسلم، وأما من بعثه مبعثا بعيدا فكره وجهه وتثاقل، فشكا ذلك عيسى إلى الله تعالى فأصبح المتثاقلون وكل واحد منهم يتكلم بلغة الأمة التى بعث إليها» «2» .
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم دحية بن خليفة الكلبى «3» إلى قيصر ملك الروم، وبعث عبد الله بن حذافة السهمى»
إلى كسرى ملك فارس، وبعث عمرو بن أمية
__________
(1) انظر: السيرة (4/ 231) .
(2) . انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (5/ 305، 306) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 734) .
(3) . انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (700) ، الإصابة الترجمة رقم (2395) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1507) ، التاريخ الكبير (3/ 254) ، تاريخ الطبرى (2/ 582) ، أنساب الأشراف (1/ 377) ، الجرح والتعديل (3/ 439) ، العقد الفريد (2/ 34) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (56) ، الأنساب لابن السمعانى (10/ 452) ، تهذيب الكمال (8/ 473) ، تهذيب التهذيب (3/ 506) ، خلاصة تهذيب الكمال (112) ، الوافى بالوفيات (4/ 51) ، تاريخ الإسلام (1/ 48) .
(4) . انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1526) ، الإصابة الترجمة رقم (4641) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2891) ، خلاصة تذهيب الكمال (2/ 49) ، المعرفة والتاريخ (1/ 252) .(2/3)
الضمرى «1» إلى النجاشى ملك الحبشة، وبعث حاطب بن أبى بلتعة «2» إلى المقوقس صاحب الإسكندرية، وبعث عمرو بن العاص إلى جيفر وعبد* ابنى الجلندى ملك عمان، وبعث سليط بن عمرو «3» أحد بنى عامر بن لؤى إلى ثمامة بن أثال، وهوذة بن على الحنفيين ملكى اليمامة؛ وبعث العلاء بن الحضرمى إلى المنذر بن ساوى العبدى ملك البحرين؛ وبعث شجاع بن وهب الأسدى «4» إلى الحارث بن أبى شمر الغسانى ملك تخوم الشام «5» .
ويقال: بعثه إلى حبلة بن أيهم الغسانى، وبعث المهاجر بن أبى أمية المخزومى إلى الحارث بن عبد كلال الحميرى ملك اليمن.
ذكر كتاب النبى صلى الله عليه وسلم إلى قيصر، وما كان من خبر دحية معه «6»
ذكر الواقدى من حديث ابن عباس، ومن حديثه خرج فى الصحيحين: أن رسول
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1913) ، الإصابة الترجمة رقم (5781) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3862) ، سير أعلام النبلاء (3/ 179) ، تهذيب التهذيب (8/ 6) ، تقريب التهذيب (2/ 65) ، خلاصة تهذيب الكمال (2/ 280) ، الاستبصار (78) ، الأعلام (5/ 73) ، المعرفة والتاريخ (1/ 325) ، الرياض المستطابة (214) ، التحفة اللطيفة (3/ 291) .
(2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (472) ، الإصابة الترجمة رقم (1543) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1011) ، تاريخ خليفة (166) ، الجرح والتعديل (3/ 303) ، تهذيب التهذيب (2/ 168) ، تاريخ الإسلام (2/ 85) ، شذرات الذهب (1/ 37) .
(*) كذا فى الأصل، وفى السيرة: «عياذ» .
(3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1045) ، الإصابة الترجمة رقم (3435) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2203) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 235) ، الجرح والتعديل (4/ 1228) ، الثقات (3/ 181) ، المصباح المضىء (1/ 270، 2/ 74) .
(4) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1199) «وفيه قال ابن عبد البر: شجاع بن أبى وهب ويقال: ابن وهب» . الإصابة الترجمة رقم (3859) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2388) .
(5) انظر: السيرة (4/ 231) .
(6) راجع: صحيح البخارى (4/ 119، 122) ، دلائل النبوة لأبى نعيم (343، 348) ، دلائل النبوة للبيهقى (4/ 377، 386) ، تاريخ الطبرى (3/ 644، 646، 651) ، تاريخ اليعقوبى (2/ 77، 78) ، المصباح المضىء (2/ 76، 124) .(2/4)
الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام، وبعث بكتابه مع دحية الكلبى، وأمره أن يدفعه إلى عظيم بصرى، ليدفعه إلى قيصر، فدفعه عظيم بصرى إلى قيصر، وكان قيصر لما كشف الله عنه جنود فارس مشى من حمص إلى إيلياء شكرا لله جل وعز فيما أبلاه من ذلك، فلما جاء قيصر كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: التمسوا لنا هاهنا أحدا من قومه نسألهم عنه.
قال ابن عباس: فأخبرنى أبو سفيان بن حرب أنه كان بالشام فى رجال من قريش، قدموا تجارا، وذلك فى الهدنة التى كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش، قال:
فأتانا رسول قيصر، فانطلق بنا حتى قدمنا إيلياء، فأدخلنا عليه، فإذا هو جالس فى مجلس ملكه عليه التاج، وحوله، عظماء الروم، فقال لترجمانه: سلهم، أيهم أقرب نسبا بهذا الرجل الذى يزعم أنه نبى، قال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسبا، وليس فى الركب يومئذ رجل من بنى عبد مناف غيرى، قال قيصر: أدنوه منى، ثم أمر بأصحابى فجعلوا خلف ظهرى، ثم قال لترجمانه: قل لأصحابه، إنما قدمت هذا أمامكم لأسأله عن هذا الرجل الذى يزعم أنه نبى، وإنما جعلتم خلف كتفيه لتردوا عليه كذبا إن قاله، قال أبو سفيان: فو الله لولا الحياء يومئذ من أن يأثروا على كذبا لكذبت عنه، ولكنى استحييت فصدقته وأنا كاره، ثم قال لترجمانه: قل له: كيف نسب هذا الرجل فيكم؟ فقلت هو فينا ذو نسب قال: قل له هل قال هذا القول منكم أحد قبله؟، قلت: لا، قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: قلت: لا، قال: هل كان من آبائه ملك؟
قلت: لا، قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم قال: فهل يزيدون أو ينقصون؟ قلت: بل يزيدون، قال: فهل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن دخل فيه؟ قلت: لا، قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن الآن منه فى مدة، ونحن لا نخاف غدره، وفى رواية: ونحن منه فى مدة لا ندرى ما هو فاعل فيها.
قال أبو سفيان: ولم تمكنى كلمة أغمزه بها لا أخاف على فيها شيئا غيرها. قال:
فهل قاتلتموه؟، قلت: نعم، قال: فكيف حربكم وحربه؟، قلت: دول سجال، ندال عليه مرة ويدال علينا أخرى، قال: فما يأمركم به؟، قلت: يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وينهانا عما كان يعبد أباؤنا، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة، فقال لترجمانه: قل له: إنى سألتك عن نسبه فزعمت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث فى نسب قومها، وسألتك: هل قال هذا القول منكم أحد قبله، فزعمت أن لا، فلو كان أحد منكم قال هذا القول قبله لقلت: رجل يأتم بقول قيل قبله،(2/5)
وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فزعمت أن لا، فقد عرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله، وسألتك هل كان من آبائه ملك، فقلت: لا، فقلت: لو كان من آبائه ملك، قلت: رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك:
أأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم، فقلت: ضعفاؤهم، وهم أتباع الرسل، وسألتك هل يزيدون أو ينقصون، فزعمت أنهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتم، وسألتك: هل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه، فزعمت أن لا، وكذلك الإيمان حتى تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد، وسألتك: هل قاتلتموه، فقلت: نعم، وأن حربكم وحربه دول سجال، ويدال عليكم مرة، وتدالون عليه أخرى وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة، وسألتك: ماذا يأمركم به، فزعمت أنه يأمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وهو نبى، وقد كنت أعلم أنه خارج لكم ولكن لم أظن أنه فيكم، وإن كان ما أتانى عنه حقا، فيوشك أن يملك موضع قدمى هاتين، ولو أعلم أنى أخلص إليه لتجشمت لقيه، ولو كنت عنده لغسلت قدميه.
قال أبو سفيان: «ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرئ، فإذا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإنى أدعوك بداعية الإسلام، أسلم لتسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا: اشهدوا بأنا مسلمون» .
قال أبو سفيان: فلما قضى مقالته وفرغ الكتاب علت أصوات الذين حوله وكثر لغطهم، فلا أدرى ما قالوا، وأمر بنا فأخرجنا، فلما خرجت أنا وأصحابى وخلصنا، قلت لهم: لقد أمر أمر ابن أبى كبشة، هذا ملك بنى الأصفر يخافه، قال: فو الله ما زلت ذليلا مستيقنا أن أمره سيظهر حتى أدخل الله على الإسلام «1» .
وفى حديث غير هذا، ذكره أيضا الواقدى عن محمد بن كعب القرظى أن دحية الكلبى لقى قصر بحمص لما بعثه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيصر ماش من قسطنطينة إلى إيلياء فى نذر كان عليه إن ظهرت الروم على فارس أن يمشى حافيا من قسطنطينة، فقال لدحية قومه لما بلغ قيصر: إذا رأيته فاسجد له، ثم لا ترفع رأسك أبدا حتى يأذن لك.
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (6/ 45) ، سنن أبى داود (5136) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (3/ 414) .(2/6)
قال دحية: لا أفعل هذا أبدا، ولا أسجد لغير الله عز وجل، قالوا: إذ لا يؤخذ كتابك، ولا يكتب جوابك، قال: وإن لم يأخذه، فقال له رجل منهم: أدلك على أمر يأخذ فيه كتابك، ولا يكلفك فيه السجود. قال دحية: وما هو؟ قال: إن له على كل عقبة منبرا يجلس عليه، فضع صحيفتك تجاه المنبر، فإن أحد لا يحركها حتى يأخذها هو، ثم يدعو صاحبها فيأتيه. قال: أما هذا فسأفعل، فعمد إلى منبر من تلك المنابر التى يستريح عليها قيصر، فألقى الصحيفة، فدعا بها فإذا عنوانها كتاب العرب، فدعا الترجمان الذى يقرأ بالعربية، فإذا فيه: «من محمد رسول الله إلى قيصر صاحب الروم» ، فغضب أخ لقيصر يقال له: نياق، فضرب فى صدر الترجمان ضربة شديدة، ونزع الصحيفة منه، فقال له قيصر: ما شأنك، أخذت الصحيفة؟ فقال: تنظر فى كتاب رجل بدأ بنفسه قبلك؟
وسماك قيصر صاحب الروم، وما ذكر لك ملكا. فقال له قيصر: إنك والله ما علمت أحمق صغيرا، مجنون كبيرا، أتريد أن تخرق كتاب رجل قبل أن أنظر فيه، فلعمرى لئن كان رسول الله كما يقول، لنفسه أحق أن يبدأ بها منى، وإن كان سمانى صاحب الروم لقد صدق، ما أنا إلا صاحبهم وما أملكهم، ولكن الله عز وجل سخرهم لى، ولو شاء لسلطهم على كما سلط فارس على كسرى فقتلوه. ثم فتح الصحيفة، فإذا فيها:
«بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى قيصر صاحب الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ الآية إلى قوله: اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران: 64] فى آيات من كتاب الله يدعوه إلى الله ويزهده فى ملكه ويرغبه فيما رغبه الله فيه من الآخرة، ويحذره بطش الله وبأسه» «1» .
وفى حديث غير الواقدى أن دحية لما لقى قيصر قال له: يا قيصر، أرسلنى إليك من هو خير منك، والذى أرسله خير منه ومنك، فاسمع بذل، ثم أجب بنصح، فإنك إن لم تذلل لم تفهم، وإن لم تنصح لم تنصف. قال: هات. قال: هل تعلم أن المسيح كان يصلى؟. قال: نعم، قال: فإنى ادعوك إلى من كان المسيح يصلى له، وأدعوك إلى من دبر خلق السموات والأرض والمسيح فى بطن أمه، وأدعوك إلى هذا النبى الأمى، الذى بشر به موسى وبشر به عيسى ابن مريم بعده، وعندك من ذلك أثاره من علم تكفى عن العيان وتشفى عن الخبر فإن أجبت كانت لك الدنيا والآخرة، وإلا ذهبت عنك الآخرة
__________
(1) انظر الحديث فى: تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (5/ 222) ، كنز العمال للمتقى الهندى (30278، 30337) ، دلائل النبوة لأبى نعيم (121) ، مجمع الزوائد للهيثمى (5/ 306) .(2/7)
وشوركت فى الدنيا، وأعلم أن لك ربا يقصم الجبابرة ويغير النعم.
فأخذ قيصر الكتاب فوضعه على عينيه ورأسه، وقبله، ثم قال: أما والله، ما تركت كتابا إلا قرأته، ولا عالما إلا سألته، فما رأيت إلا خيرا، فأمهلنى حتى أنظر من كان المسيح يصلى له، فإنى أكره أن أجيبك اليوم بأمر أرى غدا ما هو أحسن منه، فأرجع عنه، فيضرنى ذلك ولا ينفعنى، أقم حتى أنظر.
ويروى أن قيصر لما سأل أبا سفيان بن حرب عما سأله عنه من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حسبما تقدم، وأخبره به قال: والذى نفسى بيده ليوشكن أن يغلب على ما تحت قدمى، يا معشر الروم، هلم إلى أن نجيب هذا الرجل إلى ما دعا إليه، ونسأله الشام أن لا توطأ علينا أبدا، فإنه لم يكتب نبى من الأنبياء قط إلى ملك من الملوك يدعوه إلى الله فيجيبه إلى ما دعاه إليه، ثم يسأله عندها مسألة إلا أعطاه مسألته ما كانت، فأطيعوني، فلنجبه ونسأله أن لا توطأ الشام. قالوا: لا نطاوعك فى هذا أبدا، تكتب إليه تسأله ملكك الذى تحت رجليك، وهو هنالك لا يملك من ذلك شيئا، فمن أضعف منك.
وفى هذا الحديث عن أبى سفيان أنه قال لقيصر لما سأله عن النبى صلى الله عليه وسلم فى جملة ما أجابه:
أيها الملك، ألا أخبرك خبرا تعرف به أنه قد كذب؟. قال: وما هو؟ قلت: إنه زعم لنا أنه خرج من أرضنا أرض الحرم فى ليلة فجاء مسجدكم هذا مسجد إيلياء ورجع إلينا فى تلك الليلة قبل الصباح. قال: وبطريق إيلياء عند رأس قيصر، فقال: قد علمت تلك الليلة، قال: فنظر إليه قيصر، وقال: وما علمك بهذا؟ قال: إنى كنت لا أنام ليلة أبدا حتى أغلق أبواب المسجد، فلما كانت تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد غلبنى، فاستعنت عليه عمالى ومن يحضرنى فلم نستطع أن نحركه، كأنما نزاول جبلا، فدعوت النجارين فنظروا إليه فقالوا: هذا باب سقط عليه النجاف والبنيان، فلا نستطيع أن نحركه حتى نصبح، فننظر من أين أتى، فرجعت وتركت البابين مفتوحين، فلما أصبحت غدوت عليهما فإذا الحجر الذى فى زاوية المسجد مثقوب، وإذا فيه أثر مربط الدابة، فقلت لأصحابى: ما حبس هذا الباب الليلة إلا على نبى، وقد صلى الليلة فى مسجدنا هذا.
فقال قيصر لقومه: يا معشر الروم، ألستم تعلمون أن بين عيسى وبين الساعة(2/8)
نبى بشركم به عيسى ابن مريم، ترجون أن يجعله الله فيكم؟ قالوا: بلى، قال: فإن الله قد جعله فى غيركم، فى أقل منكم عددا، وأضيق منكم بلدا، وهى رحمة الله عز وجل يضعها حيث يشاء «1» .
وفى الصحيح من الحديث أن هرقل لما تحقق أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان يجده فيما عندهم من العلم أذن لعظماء الروم فى دسكرة له بحمص، وأمر بالأبواب فغلقت، ثم طلع عليهم، فقال: يا معشر الروم، هل لكم فى الفلاح والرشد، وأن يثبت لكم ملككم، وأن تتبعوا ما قال عيسى ابن مريم؟ قالوا: وما ذاك أيها الملك؟ قال: تتبعون هذا النبى العربى. قال: فحاصوا حيصة حمر الوحش واستجالوا فى الكنيسة وتناخروا، ورفعوا الصلب، وابتدروا الأبواب، فوجدوها مغلقة، فلما رأى هرقل ما رأى يئس من إسلامهم وخافهم على ملكه، فقال: ردوهم على، فردوهم، فقال: إنما قلت لكم ما قلت لأخبر كيف صلابتكم فى دينكم، فقد رأيت منكم الذى أحب، فسجدوا له ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأنهم «2» .
ويروى أن قيصر لما انتهى مع قومه إلى ما ذكر، ويئس من إجابتهم كتب مع دحية جواب كتابه الذى جاءه به، يقول فيه للنبى صلى الله عليه وسلم: إنى مسلم، ولكنى مغلوب على أمرى.
وأرسل إليه بهدية، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابه قال: «كذب عدو الله، ليس بمسلم، بل هو على نصرانيته» ، وقبل هديته، وقسمها بين المسلمين.
وقال دحية فى قدومه:
ألا هل أتاها على نأيها ... بأنى قدمت على قيصر
فقررته بصلاة المسيح ... وكانت من الجوهر الأحمر
وتدبير ربك أمر السما ... ء والأرض فأغضى ولم ينكر
وقلت تفز ببشرى المسيح ... فقال سأنظر قلت انظر
فكاد يقر بأمر الرسول ... فمال إلى البدل الأعور
فشك وجاشت له نفسه ... وجاشت نفوس بنى الأصفر
على وضعه بيديه الكتاب ... على الرأس والعين والمنخر
فأصبح قيصر فى أمره ... بمنزلة الفرس الأشقر
__________
(1) انظر: التخريج السابق.
(2) انظر: التخريج السابق.(2/9)
ذكر توجه عبد الله بن حذافة إلى كسرى بكتاب النبى صلى الله عليه وسلم وما كان من خبره معه «1»
وكسرى هذا هو أبرويز بن هرمز، أنو شروان، ومعنى أبرويز: المظفر، فيما ذكره المسعودى، وهو الذى كان غلب الروم، فأنزل الله فى قصتهم: الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ [1- 3: الروم] ، وأدنى الأرض فيما ذكر الطبرى هى بصرى وفلسطين، وأذرعات من أرض الشام.
وذكر الواقدى من حديث الشفاء بنت عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن حذافة السهمى منصرفه من الحديبية إلى كسرى، وبعث معه كتابا مختوما فيه:
«بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، ادعوك بداعية الله، فإنى أنا رسول الله إلى الناس كافة، لأنذر من كان حيا، ويحق القول على الكافرين، أسلم تسلم، فإن أبيت، فعليك إثم المجوس» . قال عبد الله بن حذافة، فانتهيت إلى بابه، فطلبت الإذن عليه حتى وصلت إليه، فدفعت إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرئ عليه، فأخذه ومزقه، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«مزق ملكه» «2» .
وذكر أبو رفاعة، وثيمة بن موسى بن الفرات، قال: لما قدم عبد الله بن حذافة على كسرى قال: يا معشر الفرس، إنكم عشتم بأحلامكم لعدة أيامكم بغير نبى ولا كتاب، ولا تملك من الأرض إلا ما فى يديك، وما لا تملك منها أكثر، وقد ملك الأرض قبلك ملوك أهل الدنيا وأهل الآخرة، فأخذ أهل الآخرة بحظهم من الدنيا، وضيع أهل الدنيا حظهم من الآخرة، فاختلفوا فى سعى الدنيا واستووا فى عدل الآخرة، وقد صغر هذا الأمر عندك، أنا أتيناك به، وقد والله جاءك من حيث خفت، وما تصغيرك إياه بالذى يدفعه عنك، ولا تكذيبك به بالذى يخرجك منه، وفى وقعة ذى قار على ذلك دليل.
فأخذ الكتاب فمزقه، ثم قال: لى ملك هنى، لا أخشى أن أغلب عليه، ولا أشارك فيه،
__________
(1) راجع: صحيح البخارى (4/ 119) ، تاريخ الطبرى (3/ 644، 654، 657) ، دلائل النبوة لأبى نعيم (348، 351) ، دلائل النبوة للبيهقى (4/ 387، 392) ، المصباح المضىء (2/ 180، 227) ، أعلام النبوة للماوردى (97، 98) .
(2) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (6/ 344) .(2/10)
وقد ملك فرعون بنى إسرائيل، ولستم بخير منهم، فما يمنعنى أن أملككم وأنا خير منه، فأما هذا الملك فقد علمنا أنه يصير إلى الكلاب، وأنتم أولئك تشبع بطونكم وتأبى عيونكم، فأما وقعة ذى قار فهى بوقعة الشام.
فانصرف عنه عبد الله، وقال فى ذلك:
أبى الله إلا أن كسرى فريسة ... لأول داع بالعراق محمدا
تقاذف فى فحش الجواب مصغرا ... لأمر العريب الخائفين له الردا
فقلت له أرود فإنك داخل ... من اليوم فى بلوى ومنتهب غدا
فأقبل وأدبر حيث شئت فإننا ... لنا الملك فابسط للمسالمة اليدا
وإلا فأمسك قارعا سن نادم ... أقر بذل الخرج أو مت موحدا
سفهت بتخريق الكتاب وهذه ... بتمزيق ملك الفرس يكفى مبددا
ويروى أن كسرى رأى فى النوم بعد أن أخبر بخروج النبى صلى الله عليه وسلم ونزوله يثرب أن سلما وضع فى الأرض إلى السماء، وحشر الناس حوله، إذ أقبل رجل عليه عمامة، وإزار أو رداء، فصعد السلم حتى إذا كان بمكان منه نودى: أين فارس ورجالها ونساؤها ولامتها وكنوزها؟ فأقبلوا، فجعلوا فى جوالق، ثم رفع الجوالق إلى ذلك الرجل، فأصبح كسرى تعس النفس، محزونا لتلك الرؤيا، وذكرها لأساورته، فجعلوا يهونون عليه الأمر، فيقول كسرى: هذا أمر تراد به فارس، فلم يزل مهموما حتى قدم عليه عبد الله بن حذافة بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام.
وذكر الواقدى من حديث أبى هريرة وغيره أن كسرى بينا هو فى بيت كان يخلو فيه إذا رجل قد خرج إليه فى يده عصا، فقال: يا كسرى، إن الله قد بعث رسولا، وأنزل عليه كتابا، فأسلم تسلم، واتبعه يبق لك ملكك قال كسرى: أخر هذا عنى أثرا ما، فدعا حجابه وبوابيه، فتواعدهم، وقال: من هذا الذى دخل على؟ قالوا: والله، ما دخل عليك أحد، وما ضيعنا لك بابا، ومكث حتى إذا كان العام المقبل أتاه فقال له مثل ذلك، وقال: إن لا تسلم أكسر العصا. قال: لا تفعل، أخر ذلك أثرا ما، ثم جاء العام المقبل، ففعل مثل ذلك، وضرب بالعصا على رأسه فكسرها، وخرج من عنده، ويقال أن ابنه قتله فى تلك الليلة، وأعلم الله بذلك رسوله عليه السلام بحدثان كونه فأخبر صلى الله عليه وسلم بذلك رسل باذان إليه.
وكان باذان عامل كسرى على اليمن، فلما بلغه ظهور النبى صلى الله عليه وسلم ودعاؤه إلى الله، كتب إلى باذان: أن ابعث إلى هذا الرجل الذى خالف دين قومه، فمره فليرجع إلى دين قومه، فإن أبى فابعث إلى برأسه، وإلا فليواعدك يوما تقتتلون فيه، فلما ورد كتابه إلى(2/11)
باذان، بعث بكتابه مع رجلين من عنده، فلما قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزلهما وأمرهما بالمقام فأقاما أياما، ثم أرسل إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة، فقال: «انطلقا إلى باذان فأعلماه أن ربى عز وجل قد قتل كسرى فى هذه الليلة» ، فانطلقا حتى قدما على باذان، فأخبراه بذلك، فقال: إن يكن الأمر كما قال فو الله إن الرجل لنبى، وسيأتى الخبر بذلك إلى يوم كذا، فأتاه الخبر كذلك، فبعث باذان بإسلامه وإسلام من معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويقال: إن الخبر أتاه بمقتل كسرى وهو مريض، فاجتمعت إليه أساورته، فقالوا: من تؤمر علينا. فقال لهم: ملك مقبل وملك مدبر، فاتبعوا هذا الرجل، وادخلوا فى دينه وأسلموا. ومات باذان، فبعث رؤسهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفدهم يعرفونه بإسلامهم.
ذكر إسلام النجاشى، وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه مع عمرو بن أمية الضمرى «1»
قال ابن إسحاق: لما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم رسله إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام، وجه إلى النجاشى عمرو بن أمية، فقال له: يا أصحمة، إن على القول، وعليك الاستماع، إنك كأنك فى الرقة علينا منا، وكأنا فى الثقة بك منك، لأنا لن نظن بك خيرا قط إلا نلناه، ولم نخفك على شىء قط إلا أمناه، وقد أخذنا الحجة عليك من فيك، الإنجيل بيننا وبينك شاهد لا يرد، وقاض لا يجور، وفى ذلك وقع الحز وإصابة المفصل، وإلا فأنت فى هذا النبى الأمى كاليهود فى عيسى ابن مريم، وقد فرق النبى صلى الله عليه وسلم رسله إلى الناس، فرجاك لما لم يرجهم له، وأمنك على ما خافهم عليه، لخير سالف وأجر ينتظر، فقال النجاشى: أشهد بالله أنه للنبى الأمى الذى ينتظره أهل الكتاب، وأن بشارة موسى براكب الحمار كبشارة عيسى براكب الجمل، وأن العيان ليس بأشفى من الخبر.
وذكر الواقدى أن الكتاب الذى كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشى مع عمرو ابن أمية الضمرى هو هذا: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى النجاشى ملك الحبشة. سلم أنت، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن
__________
(1) راجع: صحيح البخارى (2/ 184، 185) ، صحيح مسلم (3/ 54، 5/ 116) ، دلائل النبوة للبيهقى (4/ 410، 412) ، تاريخ الطبرى (3/ 644/ 652، 654) ، المصباح المضىء لابن حديدة (2/ 17، 75) ، الأسماء المبهمة للخطيب البغدادى (21، 22) .(2/12)
المهيمن، وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته، ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى، فخلقه من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده.
وإنى أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعنى وتؤمن بالذى جاءنى، فإنى رسول الله، وإنى أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، فقد بلغت ونصحت، فأقبلوا نصيحتى، والسلام على من اتبع الهدى» .
فكتب إليه النجاشى: بسم الله الرحمن الرحيم. إلى محمد رسول الله، من النجاشى أصحمة. سلام عليك يا رسول الله من الله ورحمة الله وبركات الله الذى لا إله إلا هو.
أما بعد، فقد بلغنى كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى، فو رب السماء والأرض إن عيسى لا يزيد على ما ذكرت ثفروقا، إنه كما ذكرت، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، وقد قربنا ابن عمك وأصحابه، فأشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك، وأسلمت على يديه لله رب العالمين «1» .
وذكر الواقدى عن سلمة بن الأكوع أن النجاشى توفى فى رجب سنة تسع، منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تبوك، قال سلمة: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، ثم قال:
«إن أصحمة النجاشى قد توفى هذه الساعة، فاخرجوا بنا إلى المصلى حتى نصلى عليه» ، قال سلمة: فحشد الناس وخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدمنا وإنا لصفوف خلفه، وأنا فى الصف الرابع، فكبر بنا أربعا «2» .
كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس صاحب الإسكندرية مع حاطب بن أبى بلتعة «3»
ولما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم رسله إلى الملوك، بعث حاطبا إلى المقوقس صاحب الإسكندرية بكتاب فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله رسول الله، إلى
__________
(1) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 83) .
(2) انظر الحديث فى: سنن ابن ماجه (1534) ، مجمع الزوائد للهيثمى (3/ 39) .
(3) راجع تاريخ الطبرى (3/ 644، 645) ، دلائل النبوة للبيهقى (4/ 395، 396) ، المصباح المضىء لابن حديدة (2/ 125- 179) ، مروج الذهب للمسعودى (2/ 289) .(2/13)
المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإنى أدعوك بداعية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم القبط قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران: 64] » . وختم الكتاب «1» .
فخرج به حاطب حتى قدم عليه الإسكندرية، فانتهى إلى حاجبه، فلم يلبثه أن أوصل إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال حاطب للمقوقس لما لقيه: «إنه قد كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، فانتقم به، ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك، ولا يعتبر بك» .
قال: هات. قال: «إن لك دينا لن تدعه إلا لما هو خير منه، وهو الإسلام الكافى به الله، فقد ما سواه، إن هذا النبى صلى الله عليه وسلم دعا الناس، فكان أشدهم عليه قريش، وأعداهم له يهود، وأقربهم منه النصارى، ولعمرى ما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد صلى الله عليه وسلم وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، وكل نبى أدرك قوما، فهم من أمته، فالحق عليهم أن يطيعوه، فأنت ممن أدركه هذا النبى، ولسنا ننهاك عن دين المسيح، ولكنا نأمرك به» . فقال المقوقس: «إنى قد نظرت فى أمر هذا النبى، فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى إلا عن مرغوب عنه، ولم أجده بالساحر الضال، ولا الكاهن الكاذب، ووجدت معه آلة النبوة بإخراج الخبء والإخبار بالنجوى، وسأنظر.
وأخذ كتاب النبى صلى الله عليه وسلم فجعله فى حق من عاج وختم عليه، ودفعه إلى جارية له، ثم دعا كاتبا له يكتب بالعربية، فكتب إلى النبى صلى الله عليه وسلم: «بسم الله الرحمن الرحيم. لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك. أما بعد، فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه. وقد علمت أن نبيا قد بقى، وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان فى القبط عظيم، وبكسوة، وأهديت لك بغلة لتركبها. والسلام عليك» . ولم يزد على هذا، ولم يسلم. وهاتان الجاريتان اللتان ذكرهما، إحداهما مارية أم إبراهيم ابن النبى صلى الله عليه وسلم وأختها سيرين، وهى التى وهبها النبى صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت فولدت له ابنه عبد الرحمن، والبغلة هى دلدل، وكانت بيضاء. وقيل: إنه لم يكن فى العرب يومئذ غيرها، وإنها بقيت إلى زمان معاوية.
__________
(1) انظر: التخريج السابق.(2/14)
وذكر الواقدى بإسناد له: أن المقوقس أرسل إلى حاطب ليلة وليس عنده أحد إلا ترجمان له يترجم بالعربية، فقال له: ألا تخبرنى عن أمور أسألك عنها وتصدقنى؟ فإنى أعلم أن صاحبك قد تخيرك من بين أصحابه حيث بعثك، فقال له حاطب: لا تسألنى عن شىء إلا صدقتك، فسأله عن: ماذا يدعو إليه النبى صلى الله عليه وسلم ومن أتباعه، وهل يقاتل قومه؟ فأجابه حاطب عن ذلك كله، ثم سأله عن صفته، فوصفه حاطب ولم يستوف، فقال له: بقيت أشياء لم أرك تذكرها، فى عينيه حمرة، قل ما تفارقه، وبين كتفيه خاتم النبوة، ويركب الحمار، ويلبس الشملة، ويجتزى بالتمرات والكسرة، ولا يبالى من لاقى من عم وابن عم.
قال حاطب: فهذه صفته. قال: كنت أعلم أنه بقى نبى، وكنت أظن أن مخرجه ومنبته بالشام، وهناك تخرج الأنبياء من قبله، فأراه قد خرج فى العرب فى أرض جهد وبؤس، والقبط لا يطاوعونى فى اتباعه، ولا أحب أن تعلم بمحاورتى إياك، وأنا أضن بملكى أن أفارقه، وسيظهر على البلاد، وينزل بساحتنا هذه أصحابه من بعده حتى يظهر على ما هاهنا، فارجع إلى صاحبك، فقد أمرت له بهدايا وجاريتين أختين فارهتين، وبغلة من مراكبى، وألف مثقال ذهبا، وعشرين ثوبا من لين، وغير ذلك، وأمرت لك بمائة دينار وخمسة أثواب. فارحل من عندى ولا تسمع منك القبط حرفا واحدا.
فرجعت من عنده وقد كان لى مكرما فى الضيافة، وقلة اللبث ببابه، ما أقمت عنده إلا خمسة أيام، وإن الوفود، وفود العجم ببابه منذ شهر وأكثر. قال حاطب: فذكرت قوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ضن الخبيث بملكه، ولا بقاء لملكه» .
ذكر كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوى العبدى مع العلاء بن الحضرمى بعد انصرافه من الحديبية «1»
ذكر الواقدى بإسناد له عن عكرمة قال: وجدت هذا الكتاب فى كتب ابن عباس بعد موته، فنسخته، فإذا فيه: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم العلاء بن الحضرمى، إلى المنذر بن
__________
(1) راجع: تاريخ الطبرى (3/ 645) ، الروض الأنف للسهيلى (4/ 250) ، المصباح المضىء (2/ 335، 338) ، تاريخ اليعقوبى (2/ 78) .(2/15)
ساوى «1» ، وكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام، فكتب يعنى المنذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما بعد، يا رسول الله، فإنى قرأت كتابك على أهل هجر، فمنهم من أحب الإسلام، وأعجبه، ودخل فيه، ومنهم من كرهه، وبأرضى مجوس ويهود، فأحدث إلى فى ذلك أمرك» .
فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى المنذر ابن ساوى، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله. أما بعد، فإنى أذكرك الله عز وجل فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه، وإنه من يطع رسلى ويتبع أمرهم فقد أطاعنى، ومن نصح لهم فقد نصح لى، وإن رسلى قد أثنوا عليك خيرا، وإنى قد شفعتك فى قومك، فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه، وعفوت عن أهل الذنوب فاقبل منهم، وإنك مهما تصلح فلن نعزلك عن عملك، ومن أقام على يهودية أو مجوسية فعليه الجزية» «2» .
وذكر غير الواقدى أن العلاء بن الحضرمى لما قدم على المنذر بن ساوى قال له: يا منذر، إنك عظيم العقل فى الدنيا، فلا تصغرن من الآخرة، إن هذه المجوسية شردين، ليس فيها تكرم العرب، ولا علم أهل الكتاب، ينكحون ما يستحى من نكاحه، ويأكلون ما يتكرم عن أكله، ويعبدون فى الدنيا نارا تأكلهم يوم القيامة، ولست بعديم عقل ولا أرى، فانظر: هل ينبغى لمن لا يكذب أن تصدقه، ولمن لا يخون أن تأتمنه، ولمن لا يخلف أن تثق به، فإن كان هذا هكذا فهو هذا النبى الأمى الذى والله لا يستطيع ذو عقل أن يقول: ليت ما أمر به نهى عنه، أو ما نهى عنه أمر به أو ليته زاد فى عفوه أو نقص من عقابه، إن كل ذلك منه على أمنية أهل العقل وفكر أهل البصر.
فقال المنذر: قد نظرت فى هذا الذى فى يدى فوجدته للدنيا دون الآخرة، ونظرت فى دينكم فوجدته للآخرة والدنيا، فما يمنعنى من قبول دين فيه أمنية الحياة وراحة الموت، ولقد عجبت أمس ممن يقبله، وعجبت اليوم ممن يدره، وإن من إعظام ما جاء به أن يعظم رسوله، وسأنظر.
وذكر ابن إسحاق والواقدى وسيف والطبرى وغيرهم أن المنذر لما وصله العلاء
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2515) ، الإصابة الترجمة رقم (8234) ، أسد الغابة الترجمة رقم (5106) .
(2) انظر التخريج السابق.(2/16)
برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتابه أسلم فحسن إسلامه. وزاد الواقدى: أن النبى صلى الله عليه وسلم استقدم العلاء بن الحضرمى، فاستخلفه العلاء مكانه على عمله.
وذكر ابن إسحاق وغيره أن المنذر توفى قبل ردة أهل البحرين والعلاء عنده أميرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم على البحرين.
وذكر ابن قانع أن المنذر وفد على النبى صلى الله عليه وسلم ولا يصح ذلك إن شاء الله.
ذكر كتاب النبى صلى الله عليه وسلم إلى جيفر وعبد ابنى الجلندى الأزديين، ملكى عمان، مع عمرو بن العاص «1»
ذكر الواقدى بإسناد له إلى عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث نفرا سماهم إلى جهات مختلفة برسم الدعاء إلى الإسلام.
قال عمرو: فكنت أنا المبعوث إلى جيفر وعبد ابنى الجلندى، وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم معى كتابا.
قال: وأخرج عمرو الكتاب، فإذا صحيفة أقل من الشبر، فيها: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله، إلى جيفر وعبد ابنى الجلندى، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوكما بداعية الإسلام، أسلما تسلما، فإنى رسول الله إلى الناس كافة، لأنذر من كان حيا، ويحق القول على الكافرين، وإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام فإن ملككما زائل عنكما، وخيلى تحل بساحتكما، وتظهر نبوتى على ملككما» وكتب أبى بن كعب، وختم رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب.
ثم خرجت حتى انتهيت إلى عمان، فلما قدمتها عمدت إلى عبد، وكان أحلم الرجلين وأسهلهما خلقا، فقلت: إنى رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليك وإلى أخيك، فقال:
أخى المقدم على بالسن والملك، وأنا أوصلك إليه حتى يقرأ كتابك، ثم قال لى: وما تدعو إليه؟ قلت: أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، وتخلع ما عبد من دونه، وتشهد أن محمدا عبده ورسوله. قال: يا عمرو، إنك ابن سيد قومك، فكيف صنع أبوك؟ فإن لنا
__________
(1) راجع: تاريخ الطبرى (3/ 645) ، الروض الأنف للسهيلى (4/ 250) ، تاريخ اليعقوبى (2/ 78) .(2/17)
فيه قدوة. قلت: مات، ولم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وودت أنه كان أسلم وصدق به، وقد كنت أنا على مثل رأيه حتى هدانى الله للإسلام. قال: فمتى تبعته؟ قلت: قريبا، فسألنى أين كان إسلامى؟ قلت: عند النجاشى، وأخبرته أن النجاشى قد أسلم، قال: فكيف صنع قومه بملكه؟ قلت: أقروه واتبعوه، قال: والأساقفة والرهبان تبعوه، قلت: نعم. قال: انظر يا عمرو ما تقول، إنه ليس من خصلة فى رجل واحد أفضح له من كذب. قلت: ما كذبت، وما نستحله فى ديننا. ثم قال: ما أرى هرقل علم بإسلام النجاشى.
قلت: بلى. قال: بأى شىء علمت ذلك؟ قلت: كان النجاشى يخرج له خرجا، فلما أسلم وصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم قال: لا، والله لو سألنى درهما واحدا ما أعطيته، فبلغ هرقل قوله، فقال له نياق أخوه: أتدع عبدك لا يخرج لك خرجا، ويدين دينا محدثا؟ قال هرقل: رجل رغب فى دين واختاره لنفسه، ما أصنع به، والله لولا الضن لملكى لصنعت كما صنعوا. قال: انظر ما تقول يا عمر، قلت: والله صدقتك. قال عبد: فأخبرنى ما الذى يأمر به وينهى عنه. قلت: يأمر بطاعة الله عز وجل وينهى عن معصيته، ويأمر بالبر وصلة الرحم، وينهى عن الظلم والعدوان، وعن الزنا وشرب الخمر، وينهى عن عبادة الحجر والوثن والصليب. فقال: ما أحسن هذا الذى يدعو إليه، لو كان أخى يتابعنى لركبنا حتى نؤمن بمحمد ونصدق به، ولكن أخى أضن بملكه من أن يدعه ويصير ذنبا.
قلت: إنه إن أسلم ملكه رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه، فأخذ الصدقة من غنيهم فردها على فقيرهم. فقال: إن هذا لخلق حسن، وما الصدقة؟ فأخبرته بما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدقات فى الأموال حتى انتهيت إلى الإبل. فقال: يا عمرو، تؤخذ من سوائم مواشينا التى ترعى الشجر وترد المياه. فقلت: نعم.
فقال: والله، ما أرى قومى فى بعد دارهم وكثرة عددهم يطيعون بهذا. قال: فمكثت ببابه أياما وهو يصل إلى أخيه فيخبره كل خبرى، ثم إنه دعانى يوما فدخلت عليه، فأخذ أعوانه بضبعى، فقال: دعوه، فأرسلت، فذهبت لأجلس، فأبوا أن يدعونى أجلس، فنظرت إليه، فقال: تكلم بحاجتك، فدفعت إليه الكتاب مختوما، ففض خاتمه، فقرأه حتى انتهى إلى آخره. ثم دفعه إلى أخيه فقرأه مثل قراءته، إلا أنى رأيت أخاه أرق منه، ثم قال: ألا تخبرنى عن قريش، كيف صنعت؟ فقلت: تبعوه، إما راغب فى الدين، وإما مقهور بالسيف. قال: ومن معه؟ قلت: الناس، قد رغبوا فى الإسلام، واختاروه على غيره، وعرفوا بعقولهم مع هدى الله إياهم أنهم كانوا فى ضلال، فما أعلم أحدا بقى غيرك فى هذه الحرجة، وأنت إن لم تسلم اليوم وتتبعه يوطئك الخيل، ويبيد خضراءك،(2/18)
فأسلم تسلم ويستعملك على قومك، ولا تدخل عليك الخيل والرجال. قال: دعنى يومى هذا وارجع إلى غدا.
فرجعت إلى أخيه، قال: يا عمرو، إنى لأرجوا أن يسلم إن لم يضن بملكه حتى إذا كان الغد أتيت إليه، فأبى أن يأذن لى، فانصرفت إلى أخيه، فأخبرته أنى لم أصل إليه، فأوصلنى إليه. فقال: إنى فكرت فيما دعوتنى إليه، فإذا أنا أضعف العرب إن ملكت رجلا ما فى يدى وهو لا تبلغ خيله هاهنا، وإن بلغت خيله ألفت قتالا ليس كقتال من لاقى. قلت: فأنا خارج غدا، فلما أيقن بمخرجى خلا به أخوه، فقال: ما نحن فيما قد ظهر عليه، وكل من أرسل إليه قد أجابه، فأصبح، فأرسل إلى، فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعا، وصدقا النبى صلى الله عليه وسلم وخليا بينى وبين الصدقة، وبين الحكم فيما بينهم، وكانا لى عونا على من خالفنى «1» .
وفى حديث غير الواقدى أن عمرا قال له فيما دار بينهما من الكلام: إنك وإن كنت منا بعيدا فإنك من الله غير بعيد، إن الذى تفرد بخلقك أهل أن تفرده بعبادتك، وأن لا تشرك به من لم يشركه فيك، وأعلم أنه يميتك الذى أحياك، ويعيدك الذى أبدأك، فانظر فى هذا النبى الأمى الذى جاءنا بالدنيا والآخرة، فإن كان يريد به أجرا فامنعه، أو يميل به هوى فدعه، ثم انظر فيما يجىء به، هل يشبه ما يجىء به الناس؟ فإن كان يشبهه فسله العيان وتخير عليه فى الخبر، وإن كان لا يشبهه فاقبل ما قال، وخف ما وعد.
قال ابن الجلندى: إنه والله لقد دلنى على هذا النبى الأمى أنه لا يأمر بخير إلا كان أول من أخذ به، ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له، وأنه يغلب فلا يبطر، ويغلب فلا يضجر، وأنه يفى بالعهد، وينجز الموعود، وأنه لا يزال سر قد اطلع عليه يساوى فيه أهله، وأشهد أنه نبى.
كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هوذة بن على مع سليط بن عمرو العامرى، وما كان من خبره معه «2»
ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رسله إلى الملوك يدعوهم إلى الله، بعث سليط بن عمرو إلى
__________
(1) انظر التخريج السابق.
(2) راجع: تاريخ الطبرى (3/ 644، 645) ، المصباح المضىء لابن حديدة (2/ 354، 359) ، تاريخ اليعقوبى (2/ 78) .(2/19)
هوذة بن على الحنفى صاحب اليمامة والمتوج بها وهو الذى يقول فيه الأعشى، ميمون ابن قيس من كلمة:
إلى هوذة الوهاب أعلمت ناقتى ... أرجى عطاء فاضلا من عطائكا
فلما أتت آطام جو وأهلها ... أنيخت وألقت رحلها بقبائكا
وذكر الواقدى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى هوذة مع سليط حين بعثه إليه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى هوذة بن على، سلام على من اتبع الهدى، واعلم أن دينى سيظهر إلى منتهى الخف والحافر، فأسلم تسلم، وأجعل لك ما تحت يديك» . فلما قدم عليه سليط بكتاب النبى صلى الله عليه وسلم مختوما أنزله وحياه، واقترأ عليه الكتاب، فرد ردا دون رد، وكتب إلى النبى صلى الله عليه وسلم: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، وأنا شاعر قومى وخطيبهم، والعرب تهاب مكانى فاجعل إلى بعض الأمر أتبعك.
وأجاز سليطا بجائزة، وكساه أثوابا من نسج هجر، فقدم بذلك كله على النبى صلى الله عليه وسلم فأخبره، وقرأ النبى صلى الله عليه وسلم كتابه، وقال: «لو سألنى سبابة من الأرض ما فعلت، باد وباد ما فى يده» ، فلما انصرف النبى صلى الله عليه وسلم من الفتح جاءه جبريل عليه السلام بأن هوذة مات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إن اليمامة سيخرج بها كذاب يتنبأ، يقتل بعدى» ، فقال قائل:
يا رسول الله، فمن يقتله؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنت وأصحابك» ، فكان من أمر مسيلمة وتكذبه ما كان، وظهر المسلمون عليه فقتلوه، وكان ذلك القاتل من قتله وفق ما قاله الصادق المصدوق صلوات الله وبركاته عليه.
وذكر وثيمة بن موسى أن سليط بن عمرو لما قدم على هوذة بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان كسرى قد توجه، وقال له: يا هوذة، إنه قد سودتك أعظم حائلة وأرواح فى النار، وإنما السيد من متع الإيمان ثم زود التقوى، إن قوما سعدوا برأيك، فلا تشقين به، وإنى آمرك بخير مأمور به، وأنهاك عن شر منهى عنه، آمرك بعبادة الله، وأنهاك عن عبادة الشيطان، فإن فى عبادة الله الجنة، وفى عبادة الشيطان النار، فإن قبلت نلت ما رجوت وأمنت ما خفت، وإن أبيت فبيننا وبينك كشف الغطاء وهو المطلع.
فقال هوذة: يا سليط، سودنى من لو سودك شرفت به، وقد كان لى رأى اختبر به الأمور فقدته، فموضعه من قلبى هواء، فاجعل لى فسحة يرجع إلى رأيى فأجيبك به إن شاء الله «1» .
__________
(1) انظر التخريج السابق.(2/20)
وقال هوذة فى ذلك:
أتانى سليط بالحوادث جمة ... فقلت له ماذا يقول سليط
فقال التى فيها على غضاضة ... وفيها رجاء مطمع وقنوط
فقلت له غاب الذى كنت أجتلى ... به الأمر عنى فالصعود هبوط
وقد كان لى والله بالغ أمره ... أبا النصر جاش فى الأمور ربيط
فأذهبه خوف النبى محمد ... فهوذة فيه فى الرجال سقيط
فأجمع أمرى من يمين وشمأل ... كأنى ردود للنبال لقيط
وأذهب ذاك الرأى إذ قال قائل ... أتاك رسول الله للنبى خبيط
رسول الله راكب ناضح ... عليه من أوبار الحجاز غبيط
سكرت ودبت فى المفارق وسنة ... لها نفس على الفؤاد غطيط
أحاذر منه سورة هائمية ... فوارسها وسط الرجال عبيط
فلا تعجلنى يا سليط فإننا ... نبادر أمرا والقضاء محيط
وذكر الواقدى بإسناد له عن عبد الله بن مالك أنه قال: قدمت اليمامة فى خلافة عثمان بن عفان، فجلست فى مجلس لحجر، فقال رجل فى المجلس: إنى لعند ذى التاج الحنفى يعنى هوذة يوم الفصح إذ جاء حاجبه، فاستأذن لأركون دمشق وهو عظيم من عظماء النصارى فقال: ائذن له، فدخل فرحب به وتحدثا، فقال الأركون: ما أطيب بلاد الملك وأبرأها من الأوجاع. قال ذو التاج: هى أصح بلاد العرب، وهى زين بلادهم، قال الأركون: وما قرب محمد منكم؟ قال ذو التاج: هو بيثرب، وقد جاءنى كتابه يدعونى إلى الإسلام فلم أجبه. قال الأركون: لم لا تجيبه؟ قال: ضننت بدينى، وأنا ملك قومى، وإن تبعته لم أملك. قال: بلى، والله لئن اتبعته ليمكنك وإن الخيرة لك فى اتباعه، وإنه للنبى العربى الذى بشر به عيسى ابن مريم، وإنه لمكتوب عندنا فى الإنجيل: محمد رسول الله. قال ذو التاج: قد قرأت فى الإنجيل ما تذكر. ثم قال الأركون: فما لك لا تتبعه؟ قال: الحسد له، والضن بالخمر وشربها. قال: فما فعل هرقل؟ قال: هو على دينه ويظهر لرسله أنه معه، وقد سبر أهل مملكته، فأبوا أشد الإباء، فضن بملكه أن يفارقه، قال ذو التاج: فما أرانى إلا متبعه وداخلا فى دينه، فأنا فى بيت العرب، وهو مقرى على ما تحت يدى. قال البطريق: هو فاعل فاتبعه، فدعا رسولا وكتب معه كتابا، وسمى هدايا، فجاءه قومه فقالوا: تتبع محمدا وتترك دينك، لا تملكن علينا أبدا، فرفض الكتاب.
قال: فأقام الأركون عنده فى حباء وكرامة، ثم وصله ووجه راجعا إلى الشام.(2/21)
قال الرجل: وتبعته حين خرج، فقلت: أحق ما أخبرت ذا التاج؟ قال: نعم والله، فاتبعه، قال: فرجعت إلى أهلى فتكلفت الشخوص إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقدمت عليه مسلما، فأخبرته بكل ما كان، فحمد الله الذى هدانى.
ولم يسم فى حديث الواقدى هذا الرجل، إلا أن فيه أنه كان من طيئ، ثم من بنى نبهان.
وقد تقدم صدر هذا الكتاب أن عامر بن سلمة من بنى حنيفة رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أعوام ولاء فى الموسم بعكاظ وبمجنة وبذى المجاز يعرض نفسه على قبائل العرب، يدعوهم إلى الله وإلى أن ينصروه، حتى يبلغ عن الله فلا يستجيب له أحد، وإن هوذة بن على سأل عامرا بعد انصرافه عن الموسم إلى اليمامة فى أول عام عن ما كان فى موسمهم من خبر، فأخبره خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه رجل من قريش، فسأله هوذة: من أى قريش هو؟ فقال له عامر: من أوسطهم نسبا، من بنى عبد المطلب، قال هوذة: أهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب؟ فقال: هو هو، فقال هوذة: أما إن أمره سيظهر على ما هاهنا وغير ما هاهنا. ثم ذكر تكرر سؤال هوذة له عنه حتى ذكر له فى السنة الثالثة أنه رآه وأمره قد أمر، فقال له هوذة: هو الذى قلت لك، ولو أنا اتبعناه لكان خيرا لنا، ولكنا نضن بملكنا.
وأخبر عامر بذلك كله سليط بن عمرو، وقد مر به منصرفا عن هوذة إذ بعثه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسلم وأسلم عامر آخر حياة النبى صلى الله عليه وسلم ومات هوذة كافرا على نصرانيته.
ذكر كتاب النبى صلى الله عليه وسلم إلى الحارث بن أبى شمر الغسانى مع شجاع بن وهب «1»
ذكر الواقدى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث شجاعا إلى الحارث بن أبى شمر، وهو بغوطة دمشق، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من الحديبية:
«بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى الحارث بن أبى شمر، سلام على
__________
(1) راجع: تاريخ الطبرى (3/ 644، 652) ، الروض الأنف للسهيلى (4/ 25، 251) ، المصباح المضىء لابن حديدة (2/ 314، 316) ، تاريخ اليعقوبى (2/ 78) .(2/22)
من اتبع الهدى وآمن به وصدق، وإنى أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، يبق لك ملكك» . فختم الكتاب، وخرج به شجاع بن وهب.
قال: فانتهيت إلى صاحبه، فأخذه يومئذ وهو مشغول بتهيئة الإنزال والألطاف لقيصر، وهو جاء من حمص إلى إيلياء، حيث كشف الله عنه جنود فارس شكرا لله تعالى قال: فأقمت على بابه يومين أو ثلاثة، فقلت لحاجبه: إنى رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال حاجبه: لا تصل إليه حتى يخرج يوم كذا وكذا، وجعل حاجبه وكان روميا اسمه مرى يسألنى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدعو إليه، فكنت أحدثه، فيرق حتى يغلبه البكاء، ويقول: إنى قرأت فى الإنجيل، وأجد صفة هذا النبى بعينه فكنت أراه يخرج بالشام، فأراه قد خرج بأرض القرظ، فأنا أؤمن به وأصدقه، وأنا أخاف من الحارث بن أبى شمر أن يقتلنى.
قال شجاع: فكان، يعنى هذا الحاجب، يكرمنى ويحسن ضيافتى ويخبرنى عن الحارث باليأس منه، ويقول: هو يخاف قيصر.
قال: فخرج الحارث يوما فجلس، فوضع التاج على رأسه، فأذن لى عليه، فدفعت إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه، ثم رمى به، وقال: من ينتزع منى ملكى؟ أنا سائر إليه، ولو كان باليمن جئته، على بالناس، فلم يزل جالسا بعرض حتى الليل، وأمر بالخيل أن تنعل، ثم قال: أخبر صاحبك بما ترى. وكتب إلى قيصر يخبره خبرى، فصادف قيصر بإيلياء وعنده دحية الكلبى قد بعثه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قرأ قيصر كتاب الحارث كتب إليه:
أن لا تسر إليه واله عنه ووافنى بإيلياء، قال: ورجع الكتاب وأنا مقيم، فدعانى وقال:
متى تريد أن تخرج إلى صاحبك؟ قلت: غدا، فأمر بمائة مثقال، ووصلنى مرى بنفقة وكسوة، وقال: اقرأ على رسول الله منى السلام، وأخبره أنى متبع دينه.
قال شجاع: فقدمت على النبى صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: باد ملكه، وأقرأته من مرى السلام، وأخبرته بما قال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدق» .
قال الواقدى: ومات الحارث بن أبى شمر عام الفتح، وكان نازلا بجلق، ووليهم جبلة ابن الأيهم، وكان ينزل الجابية، وكان آخر ملوك غسان، أدركه عمر بن الخطاب رضى الله عنه بالجابية فأسلم، ثم إنه لاحى رجلا من مزينة، فلطم عينه، فجاء به المزنى إلى عمر رضى الله عنه وقال: خذ لى بحقى، فقال له عمر: الطم عينه، فأنف جبلة وقال: عينى وعينه سواء؟ قال عمر: نعم، فقال جبلة: لا أقيم بهذه الدار أبدا، ولحق بعمورية مرتدا، فمات هناك على ردته.(2/23)
هكذا ذكر الواقدى أن توجه شجاع بن وهب بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إلى الحارث بن أبى شمر، وكذلك قال ابن إسحاق.
وأما ابن هشام «1» فقال: إنما توجه إلى جبلة بن الأيهم، وقد قال ذلك غيره، فالله أعلم.
وذكر بعض من وافق ابن هشام على أن الرسالة كانت إلى جبلة: أن شجاع بن وهب لما قدم عليه قال له: «يا جبلة، إن قومك نقلوا هذا النبى الأمى من داره إلى دارهم يعنى الأنصار فأووه ومنعوه، وإن هذا الدين الذى أنت عليه ليس بدين آبائك، ولكنك ملكت الشام وجاورت بها الروم، ولو جاورت كسرى دنت بدين الفرس لملك العراق، وقد أقر بهذا النبى الأمى من أهل دينك من إن فضلناه عليك لم يغضبك، وإن فضلناك عليه لم يرضك، فإن أسلمت أطاعتك الشام وهابتك الروم، وإن لم يفعلوا كانت لهم الدنيا ولك الآخرة، وكنت قد استبدلت المساجد بالبيع، والأذان بالناقوس، والجمع بالشعانين، والقبلة بالصليب، وكان ما عند الله خير وأبقى» .
فقال له جبلة: «إنى والله لوددت أن الناس اجتمعوا على هذا النبى الأمى اجتماعهم على خلق السموات والأرض، ولقد سرنى اجتماع قومى له، وأعجبنى قتله أهل الأوثان واليهود واستبقاءه النصارى، ولقد دعانى قيصر إلى قتال أصحابه يوم مؤتة فأبيت عليه، فانتدب له مالك بن نافلة من سعد العشيرة، فقتله الله، ولكنى لست أرى حقا ينفعه ولا باطلا يضره، والذى يمدنى إليه أقوى من الذى يختلجنى عنه، وسأنظر» .
وأما توجه المهاجر بن أبى أمية بن المغيرة المخزومى، وهو شقيق أم سلمة زوج النبى صلى الله عليه وسلم إلى الحارث بن عبد كلال، فلم أجد عند ابن إسحاق، ولا فيما وقع إلى عن الواقدى شيئا أنقله عنهما سوى ما ذكر ابن إسحاق «2» من توجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه إلى الحارث بن عبد كلال ذكرا مقتصرا فيه على القدر مختصرا من الإمتاع بما تحسن إضافته إلى ذلك من الوصف.
وتقدم لابن إسحاق فى كتابه، وذكره أيضا الواقدى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم عليه كتاب ملوك حمير مقدمه من تبوك، ورسولهم إليه بإسلامهم الحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال والنعمان قيل: ذى رعين ومعافر وهمدان، وبعث إليه زرعة ذى يزن مالك بن مرة الرهاوى بإسلامهم ومفارقتهم الشرك وأهله.
__________
(1) انظر: السيرة (4/ 231) .
(2) انظر: السيرة (4/ 231) .(2/24)
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مسيره إلى تبوك يقول: «إنى بشرت بالكنزين: فارس والروم، وأمددت بالملوك: ملوك حمير، يأكلون فىء الله ويجاهدون فى سبيل الله» . فلما قدم عليه مالك بن مرة بإسلامهم، كتب إليهم: «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله النبى، إلى الحارث بن عبد كلال وإلى نعيم بن عبد كلال وإلى النعمان قيل:
ذى رعين ومعافر وهمدان. أما بعد ذلكم، فإنى أحمد إليكم الله الذى لا إله إلا هو. أما بعد، فإنه قد وقع بنا رسولكم منقلبنا من الأرض الروم فلقينا بالمدينة، فبلغ ما أرسلتم به، وخبر ما قبلكم، وأنبأنا بإسلامكم وقتلكم المشركين، وأن الله قد هداكم بهداه. أن أصلحتم وأطعتم الله ورسوله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأعطيتم من المغانم خمس الله وسهم النبى وصفيه، وما كتب على المؤمنين من الصدقة وبين لهم صدقة الزرع والإبل والبقر والغنم، ثم قال: فمن زاد خيرا فهو خير له، ومن أدى ذلك وأشهد على إسلامه وظاهر المؤمنين على المشركين فإنه من المؤمنين، له ما لهم، وعليه ما عليهم، وله ذمة الله وذمة رسوله، وأنه من أسلم من يهودى أو نصرانى فإنه من المؤمنين، له ما لهم، وعليه ما عليهم، ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يرد عنها، وعليه الجزية على كل حالم ذكر أو أنثى حر أو عبد دينار واف من قيمة المعافر أو عوضه ثيابا، فمن أدى ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن له ذمة الله وذمة رسوله، ومن منعه فإنه عدو لله ولرسوله.
أما بعد، فإن محمد النبى أرسل إلى زرعة ذى يزن أن إذا أتاكم رسلى فأوصيكم بهم خيرا، معاذ بن جبل وعبد الله بن زيد ومالك بن عبادة وعقبة بن نمر ومالك بن مرة وأصحابهم، وأن أجمعوا ما عندكم من الصدقة والجزية من مخالفيكم وأبلغوها رسلى، فإن أميرهم ابن جبل، فلا ينقلبن إلا راضيا. أما بعد، فإن محمدا يشهد أن لا إله إلا الله وأنه عبده ورسوله، ثم إن مالك بن مرة الرهاوى قد حدثنى أنك قد أسلمت من أول حمير، وقتلت المشركين، فأبشر بخير، وآمرك بحمير خيرا، ولا تخاونوا ولا تخاذلوا فإن رسول الله هو مولى غنيكم وفقيركم، وإن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لأهل بيته، وإنما هى زكاة يزكى بها على فقراء المسلمين وابن السبيل، وإن مالكا قد بلغ الخبر وحفظ الغيب، وآمركم به خيرا، وإنى قد أرسلت إليكم من صالحى أهلى وأولى دينهم وأولى علمهم وآمركم بهم خيرا، فإنه منظور إليهم، والسلام عليكم ورحمة الله» «1» .
فهذا ما ذكر ابن إسحاق «2» من شأن ملوك حمير، وما كتبوا به، وكتب إليهم، وذكر الواقدى أيضا نحوه.
__________
(1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (5/ 75) .
(2) انظر: السيرة (4/ 212- 213) .(2/25)
ولا ذكر للمهاجر بن أبى أمية فى شىء من ذلك إلا أن ابن إسحاق والواقدى ذكرا أن قدوم رسول ملوك حمير على رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مقدمه من تبوك، وذلك فى سنة تسع، وتوجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم رسله إلى الملوك إنما كان بعد انصرافه عن الحديبية آخر سنة ست، فلعل المهاجر والله أعلم كانت وجهه حينئذ إلى الحارث بن عبد كلال فصادف منه عامئذ ترددا واستنظارا، ثم جلا الله عنه العمى فيما بعد، وأمر بهدايته فاستبان له القصد، فعند ذلك أرسل هو وأصحابه بإسلامهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبذلك يجتمع الأمران، ويصح الخبران، إذ لا خلاف بين أهل العلم بالأخبار والعناية بالسير أن ملوك حمير أسلموا وكتبوا بإسلامهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أنه لا خلاف بينهم أيضا فى توجيه المهاجر بن أبى أمية إلى الحارث بن عبد كلال.
ويقول بعض من ذكر ذلك أن المهاجر لما قدم عليه قال له: يا حارث إنك كنت أول من عرض عليه النبى صلى الله عليه وسلم نفسه فخطيت عنه، وأنت أعظم الملوك قدرا، فإذا نظرت فى غلبة الملوك فانظر فى غالب الملوك، وإذا أسرك يومك فخف غدك، وقد كان قبلك ملوك ذهبت آثارها وبقيت أخبارها، عاشوا طويلا وأملوا بعيدا وتزودوا قليلا، منهم من أدركه الموت، ومنهم من أكلته النقم، وإنى أدعوك إلى الرب الذى إن أردت الهدى لم يمنعك، وإن أرادك لم يمنعك منه أحد، وأدعوك إلى النبى الأمى الذى ليس شىء أحسن مما يأمر به ولا أقبح مما ينهى عنه، واعلم أن لك ربا يميت الحى ويحيى الميت، ويعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور.
فقال الحارث: قد كان هذا النبى عرض نفسه على، فخطيت عنه، وكان ذخرا لمن صار إليه، وكان أمره أمرا بسق، فحضره اليأس وغاب عنه الطمع، ولم تكن لى قرابة أحتمله عليها، ولا لى فيه هوى أتبعه له، غير أنى أرى أمرا لم يؤسسه الكذب، ولم يسنده الباطل، له بدو سار وعافية نافعة، وسأنظر.
ذكر كتاب النبى صلى الله عليه وسلم إلى فروة بن عمرو الجذامى ثم النفاتى، وما كان من تبرعه بالإسلام هداية من الله عز وجل له «1»
ذكر الواقدى بإسناد له أن فروة بن عمرو»
، هذا كان عاملا لقيصر على عمان من
__________
(1) راجع: السيرة (4/ 214) .
(2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب ترجمة رقم (2097) .(2/26)
أرض البلقاء وفى كتاب ابن إسحاق: معان وما حولها من أرض الشام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كتب إلى هرقل وإلى الحارث بن أبى شمر، ولم يكتب إليه، فأسلم فروة، وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه، وبعث من عنده رسولا يقال له: مسعود بن سعد من قومه بكتاب مختوم فيه:
«بسم الله الرحمن الرحيم. لمحمد رسول الله النبى، إنى مقر بالإسلام مصدق به، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وإنه الذى بشر به عيسى ابن مريم. والسلام عليك» .
ثم بعث مع الرسول بغلة بيضاء يقال لها: فضة، وحماره يعفور، وفرسا يقال له:
الضرب، وبعث بأثواب من لين، وقباء من سندس مخوص بالذهب، فقدم الرسول فدفع الكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقترأه، وأمر بلالا أن ينزله ويكرمه، فلما أراد الخروج كتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم جواب كتابه:
«من محمد رسول الله، إلى فروة بن عمرو، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد. فإنه قدم علينا رسولك بكتابك فبلغ ما أرسلت به، وخبر عن ما قبلكم، وأنبأنا بإسلامك، وإن الله عز وجل قد هداك إن أصلحت وأطعت الله ورسوله وأقمت على الصلاة وآتيت الزكاة، والسلام عليك» .
ولما بلغ قيصر إسلام فروة بن عمرو بعث إليه فحبسه، ولما طال حبسه أرسلوا إليه:
أن ارجع إلى دينك ويعيد إليك ملكك، فقال: لا أفارق دين محمد أبدا، أما أنك تعرف أنه رسول الله، بشرك به عيسى ابن مريم، ولكنك ضننت بملكك وأحببت بقاءه. فقال قيصر: صدق والإنجيل.
وذكر الواقدى أنه مات فى ذلك الحبس، فلما مات صلبوه.
قال: فلما اجتمعت الروم لصلبه قال:
ألا هل أتى سلمى بأن حليلها ... على ماء عفرا فوق إحدى الرواحل «1»
على ناقة لم يضرب الفحل أمها ... مشذبة أطرافها بالمناجل «2»
وذكر ابن شهاب الزهرى أنهم لما قدموه ليقتلوه قال:
__________
(1) إحدى الرواحل: المراد بها الخشبة التى صلب عليها.
(2) مشذبة: قد أزيلت أغصانها.(2/27)
أبلغ سراة المسلمين بأننى ... سلم لربى أعظمى ومقامى
ثم ضربوا عنقه وصلبوه على ذلك الماء، يرحمه الله.
قال ابن إسحاق «1» : وقد كان تكلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذابان: مسيلمة بن حبيب الحنفى باليمامة فى بنى حنيفة، والأسود بن كعب العنسى بصنعاء.
وذكر بإسناد له عن أبى سعيد الخدرى قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس على منبره وهو يقول:
«يا أيها الناس، إنى قد رأيت ليلة القدر، ثم أنسيتها، ورأيت فى ذراعى سوارين من ذهب، فكرهتهما، فنفختهما فطارا، فأولتهما هذين الكذابين: صاحب اليمن، وصاحب اليمامة» «2» .
وعن أبى هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالا، كلهم يدعى النبوة» «3» .
قال ابن إسحاق «4» : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث أمراءه وعماله على الصدقات إلى كل ما أوطأ الإسلام من البلدان، فبعث المهاجر بن أبى أمية بن المغيرة «5» إلى صنعاء، فخرج عليه العنسى وهو بها، وبعث زياد بن لبيد «6» أخا بنى بياضة الأنصارى إلى
__________
(1) انظر: السيرة (4/ 222) .
(2) انظر الحديث فى: صحيح مسلم (4/ 1781/ 21) ، سنن الترمذى (4/ 2292) ، مسند الإمام أحمد (1/ 263، 2/ 319، 338، 344) .
(3) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (2/ 450) ، مجمع الزوائد للهيثمى (5/ 315) ، سنن أبى داود (4/ 4333) .
(4) انظر: السيرة (4/ 223) .
(5) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (8271) ، أسد الغابة ترجمة رقم (5134) ، مؤتلف الدارقطنى (ص 163) .
(6) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (2871) ، أسد الغابة ترجمة رقم (1809) ، مسند أحمد (4/ 160) ، الطبقات الكبرى (3/ 598) ، التاريخ الكبير (3/ 344) ، التاريخ الصغير (1/ 41) ، تاريخ الطبرى (3/ 147) ، الجرح والتعديل (3/ 543) ، المعجم الكبير (5/ 304) ، الكامل فى التاريخ (2/ 301) ، تهذيب الكمال (9/ 506) ، الكاشف (1/ 262) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 195) ، الوافى بالوفيات (15/ 10) ، تهذيب التهذيب (3/ 382) ، خلاصة تهذيب التهذيب (125) ، تاريخ الإسلام (1/ 52) .(2/28)
حضرموت وعلى صدقاتها، وبعث عدى بن حاتم «1» على طيىء وصدقاتها، وعلى بنى أسد، وبعث مالك بن نويرة اليربوعى «2» على صدقات بنى حنظلة، وفرق صدقة بنى سعد على رجلين منهم، فبعث الزبرقان بن بدر «3» على ناحية منها، وقيس بن عاصم «4» على ناحية، وكان قد بعث العلاء بن الحضرمى «5» على البحرين، وبعث على بن أبى طالب إلى نجران ليجمع صدقاتهم ويقدم عليهم بجزيتهم.
وقد كان مسيلمة بن حبيب كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مسيلمة رسول الله، إلى محمد رسول الله، سلام عليك، أما بعد. فإنى قد أشركت فى الأمر معك، وإن لنا نصف الأرض، ولقريش نصفها، ولكن قريشا قوم يعتدون» .
فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الكتاب رسولان لمسيلمة، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قرأ كتابه: «فما تقولان أنتما؟» قالا: نقول كما قال، فقال: «أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما» . ثم كتب إلى مسيلمة:
__________
(1) انظر ترجمته فى: طبقات ابن سعد (6/ 22) ، التاريخ الكبير (7/ 43) ، التاريخ الصغير (1/ 148) ، المعارف (313) ، الجرح والتعديل (7/ 2) ، تاريخ بغداد (1/ 189) ، تاريخ ابن عساكر (11/ 234) ، تهذيب الأسماء واللغات (1/ 327) ، تهذيب الكمال (925) ، تاريخ الإسلام (3/ 46) ، العبر (1/ 74) ، تذهيب التهذيب (3/ 36) ، جامع الأصول (9/ 111) ، مرآة الجنان (1/ 142) ، تهذيب التهذيب (7/ 166) ، خلاصة تذهيب الكمال (223) ، شذرات الذهب (1/ 74) ، سير أعلام النبلاء (3/ 162) ، الإصابة ترجمة رقم (5491) ، أسد الغابة ترجمة رقم (3610) .
(2) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (7712) ، أسد الغابة ترجمة رقم (4654) .
(3) انظر ترجمته فى: الثقات (3/ 142) ، أسد الغابة ترجمة رقم (1728) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 188) ، الإصابة ترجمة رقم (2789) ، الاستبصار (314، 415) ، الأعلام (3/ 41) ، تقريب التهذيب (1/ 257) ، الطبقات الكبرى (7/ 36، 1/ 294، 2/ 161) ، الجرح والتعديل (3/ 27600) ، البداية والنهاية (5/ 41) .
(4) انظر ترجمته فى: الثقات (3/ 338) ، تجريد أسماء الصحابة (2/ 22) ، الجرح والتعديل (7/ 101) ، تقريب التهذيب (2/ 129) ، تهذيب التهذيب (8/ 399) ، خلاصة تهذيب الكمال (2/ 357) ، الكاشف (2/ 305) ، أزمنة التاريخ الإسلامى (816) ، التاريخ الكبير (7/ 141) ، الأنساب (9/ 135) ، بقى بن مخلد (321) ، الإصابة ترجمة رقم (7209) ، أسد الغابة ترجمة رقم (4370) .
(5) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (5658) ، أسد الغابة ترجمة رقم (3745) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 388) ، الجرح والتعديل (6/ 356) ، التاريخ الكبير (6/ 506) .(2/29)
«بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين» «1» .
قال ابن إسحاق: وكان ذلك فى آخر سنة عشر «2» .
وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبرى: وقد قيل: إن دعوى مسيلمة ومن ادعى من الكذابين النبوة فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كانت بعد انصرافه من حجة التمام، ووقوعه فى المرض الذى توفاه الله فيه، فالله تعالى أعلم.
ذكر حجة الوداع «3» وتسمى أيضا حجة التمام، وحجة البلاغ
ولما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو القعدة من سنة عشر تجهز للحج، وأمر الناس بالجهاز له، وخرج لخمس ليال بقين من ذى القعدة، وقد كان أذن فى الناس أنه خارج، فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل مثل عمله.
قال جابر بن عبد الله: فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المسجد، ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصرى بين يديه من راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل من شىء عملناه، فأهل بالتوحيد: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك» «4» .
__________
(1) انظر الحديث فى: سنن البيهقى (9/ 211) ، مسند الإمام أحمد (3708) ، سنن أبى داود (3/ 2761) .
(2) انظر: السيرة (4/ 224) .
(3) عرفت باسم: حجة الوداع؛ وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسمى أيضا حجة الإسلام. انظر: لم يحج بعدها، إذ بدأ به مرضه الذى توفاه الله فيه، كما قيل: حجة البلاغ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أرى الناس مناسكهم وعلمهم حجهم، وقيل: حجة الإسلام؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد أن فرض الحج فى الإسلام غيرها. راجع: طبقات ابن سعد (2/ 172- 189) ، المغازى للواقدى (3/ 1088- 1115) ، الثقات لابن حبان (2/ 124- 129) .
(4) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (2/ 170، 7/ 209) ، صحيح مسلم كتاب الحج، باب-(2/30)
وأهل الناس بهذا الذى يهلون به، فلم يرد عليهم شيئا منه، ولزم صلى الله عليه وسلم تلبيته.
وفى حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج فى حجة الوداع لم يكن يذكر ولا يذكر الناس إلا الحج، حتى إذا كان بسرف وقد ساق رسول الله صلى الله عليه وسلم معه الهدى وأشراف من أشراف الناس، أمر الناس أن يحلوا بعمرة، إلا من ساق الهدى.
وقال جابر فى حديثه: لسنا ننوى إلا الحج، لسنا نعرف العمرة، حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [البقرة: 125] فجعل المقام بينه وبين البيت، ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ [البقرة: 158] أبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا، فرقى عليه حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحد الله وكبره، وقال: «لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» «1» . ثم دعا بين ذلك، قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة حتى انصبت قدماه فى بطن الوادى، حتى إذا صعدنا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا حتى إذا كان آخر طواف على المروة قال:
«لو أنى استقبلت من أمرى ما استدبرت، لم أسق الهدى ولجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدى فليحل وليجعلها عمرة» «2» . فقام سراقة بن مالك بن جعشم «3»
__________
- (3) رقم (19، 20، 21، باب (19) رقم (147) ، سنن أبى داود (1812، 1813) ، سنن الترمذى (825) ، سنن ابن ماجه (2915، 2918، 3074) ، سنن النسائى (5/ 159، 160، 161) ، مسند الإمام أحمد (1/ 267، 401، 2/ 77، 401، 3/ 320، 6/ 100، 181، 230، 243) ، السنن الكبرى للبيهقى (5/ 44، 45، 7/ 48) ، موطأ مالك (331) ، الدر المنثور للسيوطى (1/ 219) ، فتح البارى لابن حجر (1/ 360) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (2541، 2555) ، تاريخ بغداد للخطيب البغدادى (3/ 73، 5/ 55، 282، 6/ 45) ، طبقات ابن سعد (2/ 1/ 127) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 143) .
(1) انظر الحديث فى: سنن الدارمى (2/ 46) ، الدر المنثور للسيوطى (1/ 226) .
(2) انظر الحديث فى: صحيح مسلم كتاب الحج باب (19) رقم (147) .
(3) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (3122) ، أسد الغابة ترجمة رقم (1955) ، الثقات (3/ 180) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 210) ، تقريب التهذيب (1/ 284) ، تهذيب التهذيب (3/ 456) ، تهذيب الكمال (1/ 466) ، الكاشف (1/ 349) ، الجرح والتعديل (4/ 1342) ، شذرات الذهب (1/ 35) ، الطبقات (34) ، الطبقات الكبرى (9/ 78) ، بقى بن مخلد (130) ، العقد الثمين (4/ 523) ، العبر (1/ 27) ، الأعلام (3/ 80) ، الأنساب (7/ 116) .(2/31)
فقال: يا رسول الله، ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة فى الأخرى، وقال: «دخلت العمرة فى الحج مرتين بل لأبد الأبد» «1» .
وقدم على من اليمن ببدن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد فاطمة ممن حل ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت، فأنكر ذلك عليها، فقالت: إن أبى أمرنى بهذا، قال: فكان على يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشا على فاطمة للذى صنعت، مستفتيا له فيما ذكرت عنه، فأخبرته أنى نكرت ذلك عليها، فقال: «صدقت صدقت، ماذا قلت حين فرضت الحج؟» «2» قال: قلت: اللهم إنى أهل بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن معى الهدى فلا تحل، فكان جماعة الهدى الذى قدم به على من اليمن والذى أتى به النبى صلى الله عليه وسلم مائة.
فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج، فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس، فأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع فى الجاهلية، فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت به بنمرة، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادى، فخطب الناس.
قال ابن إسحاق «3» : ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على حجه، فأرى الناس مناسكهم،
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح مسلم فى كتاب الحج باب (19) رقم (147) ، سنن أبى داود فى كتاب المناسك، باب (23) ، باب (57) ، سنن النسائى فى كتاب الحج باب (76) ، سنن الترمذى (932) ، سنن ابن ماجه (3074) ، مسند الإمام أحمد (1/ 236، 253، 259، 341، 4/ 175) ، سنن الدارمى (47) ، السنن الكبرى للبيهقى (4/ 352، 5/ 7، 13، 18) ، مستدرك الحاكم (1/ 619، 3/ 619) ، مجمع الزوائد للهيثمى (3/ 235، 378) ، المعجم الكبير للطبرانى (2/ 144، 7/ 140، 151، 154، 11/ 83، 12/ 228) ، التمهيد لابن عبد البر (8/ 360) ، مصنف ابن أبى شيبة (4/ 102) ، إرواء الغليل للألبانى (4/ 152) ، المطالب العالية لابن حجر (1100) ، كنز العمال للمتقى الهندى (11975، 11983، 12474) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 135) ، الحاوى للفتاوى للسيوطى (2/ 51) ، الكاف الشاف فى تخريج أحاديث الكشاف لابن حجر (59) ، مسند الشافعى (112، 196) ، تاريخ أصبهان لأبى نعيم (2/ 191) ، سنن الدارقطنى (2/ 283) ، المنتقى لابن الجارود (465) .
(2) انظر الحديث فى: المنتقى لابن الجارود (469) .
(3) انظر: السيرة (4/ 227) .(2/32)
وأعلمهم سنن حجهم، وخطب للناس خطبته التى بين فيها ما بين، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
«أيها الناس، اسمعوا قولى، فإنى لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا بهذا الموقف أبدا، أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام؛ إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلغت، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، وإن كل ربّا موضوع، ولكن لكم رؤس أموالكم، لا تظلمون ولا تظلمون. قضى الله أنه لا ربا وإن ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله، وإن كل دم كان فى الجاهلية موضوع، وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان مستعرضا فى بنى ليث، فقتلته هذيل، فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية.
أما بعد، أيها الناس، فإن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك، فقد رضى به مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم.
أيها الناس: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ [التوبة: 37] ، ويحرموا ما أحل الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، [التوبة: 36] . ثلاثة متوالية، ورجب مضر الذى هو بين جمادى وشعبان.
أما بعد، أيها الناس، فإن لكم على نسائكم حقا ولهن عليكم حقا، لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن فى المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيرا، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمات الله، فاعقلوا أيها الناس قولى، فإنى قد بلغت وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا، أمرا بينا، كتاب الله وسنة نبيه.
أيها الناس، اسمعوا قولى واعقلوه، تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه؛ فلا تظلمن أنفسكم.(2/33)
اللهم هل بلغت؟» فذكر أن الناس قالوا: اللهم نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اشهد» «1» .
وفى حديث جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس فى خطبته: «وأنتم تسألون عنى، فما أنتم قائلون؟» قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكبها إلى الناس: «اللهم اشهد، اللهم اشهد» ثلاث مرات، ثم إذن، ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئا، ثم ركب حتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل جبل المشاة بين يديه. واستقبل القبلة، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص، وأردف أسامة بن زيد خلفه، ودفع وقد شنق القصواء الزمام حتى أرسلها ليصيب مورك رحله، ويقول بيده اليمنى: أيها الناس، السكينة، كلما أتى جبلا من الجبال أرخى لها قليلا حتى تصعد، ثم أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئا، ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعا الله وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفا حتى اصفر جدا، فدفع قبل أن تطلع الشمس وأردف الفضل بن عباس حتى أتى بطن محر، فحرك قليلا، ثم سلك الطريق الوسطى التى تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التى عند الشجرة فرماها يسبع حصات، يكبر مع كل حصاة منها، رمى من بطن الوادى، ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده، ثم أعطى عليا فنحر ما غبروا شركة فى هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت فى قدر فطبخت، فأكلا من لحمها وشربا من مرقها، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيت فى قدر فأفاض وصلى بمكة الظهر، فأتى بنى عبد المطلب وهم يسقون على زمزم، فقال: «انزعوا يا بنى عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم» «2» ، فناولوه دلوا، فشرب منه.
ويروى أن ربيعة بن أمية بن خلف هو الذى كان يصرخ فى الناس يقول رسول الله
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح مسلم (2/ 147/ 886- 892) ، سنن أبى داود (2/ 1905) .
(2) انظر الحديث فى: صحيح مسلم كتاب الحج (147) ، سنن أبى داود فى كتاب المناسك باب (57) ، سنن ابن ماجه (3074) ، مسند الإمام أحمد (1/ 76) ، السنن الكبرى للبيهقى (5/ 157) ، سنن الدارمى (2/ 49) ، الدر المنثور للسيوطى (1/ 226) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 191) ، المنتقى لابن جارود (469) .(2/34)
صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة، يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل: «أيها الناس، إن رسول الله يقول: هل تدرون أى شهر هذا؟» فيقوله لهم، فيقولون: الشهر الحرام، فيقول لهم: إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة شهركم هذا، ثم يقول: قل: أيها الناس، إن رسول الله يقول: «هل تدرون أى بلد هذا؟» قال: فيصرخ به، فيقولون: البلد الحرام، فيقول: قل لهم: «إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة بلدكم هذا» ، ثم يقول: «قل: يا أيها الناس، إن رسول الله يقول: هل تدرون أى يوم هذا؟» فيقول لهم، فيقولون: يوم الحج الأكبر، فيقول: «قل لهم: إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا» «1» .
وقال عمرو بن خارجة: وقفت تحت ناقة النبى صلى الله عليه وسلم وإن لعابها ليقع على رأسى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة، فسمعته وهو يقول: «أيها الناس، إن الله قد أدى إلى كل ذى حق حقه، فلا وصية لوارث، والولد للفراش، وللعاهر الحجر، ومن ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله له صرفا ولا عدلا» «2» .
ولما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة قال: «هذا الموقف، للجبل الذى هو عليه، «وكل عرفة موقف» .
وقال حين وقف على قزح صبيحة المزدلفة: «هذا الموقف، وكل المزدلفة موقف» .
ثم لما نحر بالمنحر بمنى قال: «هذا المنحر، وكل منى منحر» «3» .
فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج، وقد أراهم مناسكهم، وأعلمهم ما فرض عليهم من حجهم: من الموقف، ورمى الجمار، وطواف البيت، وما أحل لهم فى حجهم، وما حرم عليهم، فكانت حجة البلاغ، وحجة الوداع، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحج بعدها.
__________
(1) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (1/ 473، 474) ، مجمع الزوائد للهيثمى (3/ 270) .
(2) انظر الحديث فى: سنن الترمذى (4/ 2121) ، سنن النسائى (6/ 3644) ، مسند الإمام أحمد (4/ 186، 238) .
(3) انظر الحديث فى: سنن أبى داود (2/ 1907، 1935) ، سنن ابن ماجه (2/ 3012) ، مسند الإمام أحمد (3/ 320، 321، 326) .(2/35)
ذكر مصيبة الأولين والآخرين من المسلمين بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله أجمعين
ولما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع أقام بالمدينة بقية ذى الحجة والمحرم وصفرا، وضرب على الناس بعثا إلى الشام، وهو البعث الذى أمر عليه أسامة بن زيد، وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، فتجهز الناس، وأوعب مع أسامة المهاجرون الأولون، وكان آخر بعث بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينا الناس على ذلك ابتدئ صلوات الله عليه بشكوه الذى قبضه الله فيه إلى ما أراد من رحمته وكرامته فى ليال بقين من صفر أو فى أول شهر ربيع الأول، فكان أول ما ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر أنه خرج إلى بقيع الغرقد من جوف الليل، فاستغفر لهم، ثم رجع إلى أهله، فلما أصبح ابتدئ بوجعه من يومه ذلك.
حدث أبو مويهبة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بعثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوف الليل فقال: «يا أبا مويهبة، إنى قد أمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع فانطلق معى» ، فانطلقت معه، فلما وقف بين أظهرهم قال: «السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهنأ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى» ؛ ثم أقبل على فقال: «يا أبا مويهبة، إنى قد أوتيت مفاتح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربى والجنة» ، فقلت: بأبى أنت وأمى فخذ مفاتح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة؛ قال: «لا والله يا أبا مويهبة، لقد اخترت لقاء ربى والجنة» . ثم استغفر لأهل البقيع، ثم انصرف، فبدأ به وجعه الذى قبضه الله فيه «1» .
وقالت عائشة رضى الله عنها: رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من البقيع، فوجدنى وأنا أجد صداعا فى رأسى، وأنا أقول: وا رأساه، فقال: «بل أنا والله يا عائشة، وا رأساه» . قالت:
ثم قال: «وما ضرك لو مت قبلى، فقمت عليك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك؟» فقلت: والله لكأنى بك لو قد فعلت ذلك لرجعت إلى بيتى فأعرست فيه ببعض نسائك، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتتام به وجعه وهو يدور على نسائه، حتى استعز به وهو فى بيت ميمونة، فدعا نساءه فاستأذنهن فى أن يمرض فى بيتى، فأذن له «2» .
__________
(1) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (3/ 55، 56) ، دلائل النبوة للبيهقى (7/ 162، 163) ، سنن الدارمى (1/ 78) .
(2) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (10/ 5666) ، مسند الإمام أحمد (6/ 228) .(2/36)
وفى غير حديث عائشة أن نساءه صلى الله عليه وسلم كن يومئذ تسعا: عائشة بنت أبى بكر الصديق، وحفصة بنت عمر بن الخطاب، وأم حبيبة بنت أبى سفيان بن حرب، وأم سلمة بنت أبى أمية بن المغيرة، وزينب بنت جحش، وسودة بنت زمعة القرشيات، وميمونة بنت الحارث بن حزن الهلالية، وجويرية بنت الحارث بن أبى ضرار المصطلقية، وصفية بنت حيى بن أخطب من بنى النضير.
فهؤلاء التسع هن اللاتى توفى عنهن صلى الله عليه وسلم وتوفى منهن قبله عليه السلام خديجة بنت خويلد، وزيرته على الإسلام وأم بنيه وبناته كلهم ما خلا إبراهيم فإنه لسريته مارية القبطية، ولم يتزوج عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ماتت، وزينب بنت خزيمة من بنى هلال ابن عامر بن صعصعة: وكانت تسمى أم المساكين لرحمتها إياهم ورقتها عليهم، فزينب هذه وخديجة توفيتا قبله، وبهما كمل عدد من بنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه ممن اتفق العلماء عليه إحدى عشرة امرأة، توفى منهن عن تسع كما ذكرنا.
وقد عقد عليه السلام على نساء غيرهن، فلم يبن فى المشهور من أقاويل العلماء بواحدة منهن، فاستغنينا لذلك عن ذكرهن.
ونرجع الآن إلى حديث عائشة زوج النبى صلى الله عليه وسلم لما استأذن أزواجه أن يمرض فى بيتها فأذن له، قالت: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشى بين رجلين من أهله، أحدهما الفضل بن عباس، ورجل آخر عاصبا رأسه تخط قدماه، حتى دخل بيتى.
وعن ابن عباس: أن الرجل الآخر هو على بن أبى طالب.
ثم غمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد به وجعه، فقال: «هريقوا على من سبع قرب من آبار شتى، حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم» . فأقعدناه فى مخضب لحفصة بنت عمر، ثم صببنا عليه الماء حتى طفق يقول: «حسبكم حسبكم» «1» .
قال الزهرى: حدثنى أبو أيوب بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عاصبا رأسه حتى جلس على المنبر، ثم كان أول ما تكلم به أنه صلى على أصحاب أحد واستغفر لهم فأكثر الصلاة عليهم، ثم قال: «إن عبدا من عباد الله خيره الله بين الدنيا والآخرة، وبين ما عنده، فاختار ما عند الله» ، ففهمها أبو بكر وعرف أن نفسه يريد، فبكى وقال: بل نفديك بأنفسنا وأبنائنا، فقال: «على رسلك يا أبا بكر» ، ثم قال: «انظروا هذه الأبواب
__________
(1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (6/ 228) ، مصنف عبد الرزاق (5/ 9754) .(2/37)
اللافظة فى المسجد فسدوها إلا باب أبى بكر، فإنى لا أعلم أحدا كان أفضل فى الصحبة عندى يدا منه» «1» .
وفى رواية: «فإنى لو كنت متخذا من العباد خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صحبة وإخاء إيمان حتى يجمع الله بيننا عنده» .
وعن عروة بن الزبير وغيره من العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استبطأ الناس فى بعث أسامة بن زيد وهو فى وجعه، فخرج عاصبا رأسه حتى جلس على المنبر، وقد كان الناس قالوا فى إمرة أسامة أمر غلاما حدثا على جلة المهاجرين والأنصار.
فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل، ثم قال: «أيها الناس، أنفذوا بعث أسامة، فلعمرى لئن قلتم فى إمارته لقد قلتم فى إمارة أبيه من قبله، وإنه لخليق للإمارة وإن كان أبوه لخليق بها» «2» ، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وانكمش الناس فى جهازهم، واستعز برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، فخرج أسامة وخرج جيشه معه حتى نزلوا الجرف من المدينة على فرسخ، فضرب به عسكره وتتام إليه الناس، وثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام أسامة والناس لينظروا ما الله قاض فى رسوله عليه السلام.
ومن حديث عبد الله بن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بالأنصار يوم صلى واستغفر لأصحاب أحد، وذكر من أمرهم ما ذكر، فقال يومئذ: «يا معشر المهاجرين، استوصوا بالأنصار خيرا، فإن الناس يزيدون وإن الأنصار على هيئتها لا تزيد، وإنهم كانوا عيبتى التى آويت إليها، فأحسنوا إلى محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم» «3» ، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بيته وتتام به وجعه حتى غمر.
وفى الصحيحين من حديث عبيد الله بن عبد الله أنه قال لعائشة رضى الله عنها: ألا تحديثنى عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: بلى، ثقل النبى صلى الله عليه وسلم فقال: «أصلى الناس؟» قلنا:
لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، قال: «ضعوا لى ماء فى المخضب» ، قالت: ففعلنا، فاغتسل ثم ذهب لينوى فأغمى عليه، ثم أفاق، فقال: «أصلى الناس؟» قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، قال: «ضعوا لى ماء فى المخضب» ، قالت: فاغتسل ثم ذهب
__________
(1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 18) ، صحيح البخارى (1/ 466) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 288) .
(2) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (7/ 4250) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 759) .
(3) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (7/ 3800) ، مسند الإمام أحمد (5/ 224) .(2/38)
لينوى فأغمى عليه، ثم أفاق، فقال: «أصلى الناس؟» قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، قال: «ضعوا لى ماء فى المخضب» ، فقعد فاغتسل ثم ذهب لينوى فأغمى عليه، ثم أفاق فقال: «أصلى الناس؟» «1» قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله عكوف فى المسجد ينتظرون النبى صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة فأرسل النبى صلى الله عليه وسلم إلى أبى بكر بأن يصلى بالناس، فأتاه الرسول فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تصلى بالناس، فقال أبو بكر وكان رجلا رقيقا: يا عمر صل بالناس، فقال له عمر: أنت أحق بذلك، فصلى أبو بكر تلك الأيام.
ومن حديث الأسود عن عائشة قالت: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بلال يؤذنه بالصلاة، فقال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» . قالت: فقلت: يا رسول الله، إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر، فقال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» ، قالت: فقلت لحفصة: قولى له: إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر، فقالت له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس» «2» ، قالت: فأمروا أبا بكر، فلما دخل فى الصلاة وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة، فقام يهادى بين رجلين ورجلاه تخطان فى الأرض، فلما دخل المسجد وسمع أبو بكر حسه ذهب يتأخر، فأومأ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«أقم مكانك» ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس عن يسار أبى بكر، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى بالناس جالسا، وأبو بكر قائما، يقتدى أبو بكر بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقتدى الناس بصلاة أبى بكر.
وعن عبد الله بن زمعة بن الأسود أنه كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فى نفر من المسلمين لما استعز به ودعاه بلال إلى الصلاة، فقال: «مروا من يصلى بالناس» ، قال: فخرجت فإذا عمر فى الناس، وكان أبو بكر غائبا، فقلت: قم يا عمر فصل بالناس، فقام، فلما كبر سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته وكان عمر رجلا مجهرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأين أبو بكر؟
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (1/ 176) ، صحيح مسلم فى كتاب الصلاة (90) ، سنن النسائى (2/ 101) ، مسند الإمام أحمد (2/ 52، 6/ 251) ، سنن الدارمى (1/ 287) ، السنن الكبرى للبيهقى (1/ 123، 8/ 151) ، كنز العمال للمتقى الهندى (18838) ، دلائل النبوة للبيهقى (7/ 190) ، مصنف ابن أبى شيبة (2/ 331، 332، 14/ 560، 561) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 233) ، طبقات ابن سعد (2/ 2/ 19) .
(2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (6/ 228، 229) ، صحيح مسلم (1/ 94، 313) .(2/39)
يأبى الله ذلك والمسلمون، يأبى الله ذلك والمسلمون» ، فبعث إلى أبى بكر، فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة، فصلى أبو بكر بالناس يريد ما بعد من الصلوات، فقال لى عمر:
ويحك، ماذا صنعت فى يا ابن زمعة والله ما ظننت حين أمرتنى إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك بذلك، ولولا ذلك ما صليت بالناس. قلت: والله ما أمرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ولكنى حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة للناس «1» .
وعن أنس بن مالك قال: آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كشف الستارة يوم الاثنين والناس صفوف فى الصلاة، فنظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف، ثم تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكا، فبهتنا ونحن فى الصلاة من فرح بخروج النبى صلى الله عليه وسلم ونكص أبو بكر على عقبه ليصل الصف، وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خارج للصلاة، فأشار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده أن أتموا صلاتكم، ثم دخل فأرخى الستر، فتوفى من يومه ذلك.
وفى رواية عن أنس أن خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس كان وهم يصلون الصبح، وأنه لما رفع الستر وقام على باب عائشة، فكاد المسلمون يفتتنون فى صلاتهم فرحا به حين رأوه، قال: وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سرورا لما رأى من هيئتهم فى صلاتهم، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن هيئة منه تلك الساعة.
قال: ثم رجع، وانصرف الناس وهم يرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أفرق من وجعه.
وعن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس: يوم الخميس وما يوم الخميس، ثم بكى، حتى بل دمعه الحصا، قلت: يا ابن عباس، وما يوم الخميس؟ قال: اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، فقال: «ائتونى أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدى» ، فتنازعوا وما ينبغى عند نبى تنازع وقالوا: ما شأنه، أهجر، استفهموه، قال: «دعونى، فالذى أنا فيه خير، أوصيكم بثلاث، أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم» .
قال: وسكت عن الثالثة أو قالها فأنسيتها.
وفى حديث عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم لما حضر وفى البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال النبى صلى الله عليه وسلم: «هلم اكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده» «2» ،
__________
(1) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (3/ 641) ، سنن أبى داود (4/ 4660) .
(2) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (7/ 156، 9/ 137) ، صحيح مسلم فى كتاب الوصية (22) ، مسند الإمام أحمد (1/ 324) ، طبقات ابن سعد (2/ 2/ 37) ، فتح البارى لابن حجر (13/ 336) .(2/40)
فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله.
فاختلف أهل البيت، منهم من يقول: قوموا يكتب لكم رسول الله كتابا لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قوموا» «1» ، لما أكثروا اللغو والاختلاف عنده. قال: فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم.
وعن عبد الله بن مسعود قال: نعى إلينا نبينا وحبيبنا نفسه قبل موته بشهر، بأبى هو ونفسى له الفداء، فلما دنا الفراق جمعنا فى بيت أمنا عائشة فنظر إلينا وتشدد ودمعت عيناه، وقال: «مرحبا بكم، حياكم الله، رحمكم الله، آواكم الله، حفظكم الله، رفعكم الله، نفعكم الله، وقفكم الله، رزقكم الله، هداكم الله، نصركم الله، سلمكم الله، قبلكم الله، أوصيكم بتقوى الله، وأوصى الله عز وجل بكم وأستخلفه عليكم، وأذكركم الله وأشهدكم أنى لكم منه نذير وبشير أن لا تعلوا على الله فى عباده وبلاده فإنه عز وجل قال لى ولكم: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الزمر: 32] ، وقال: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ [60: الزمر] » ، قلنا: متى أجلك يا رسول الله؟ قال: «دنا الأجل والمنقلب إلى الله عز وجل وإلى سدرة المنتهى وإلى جنة المأوى والفردوس الأعلى والكأس الأوفى والعيس والحظ المهنى» . قلنا: فمن يغسلك يا رسول الله؟ قال: «رجال أهل بيتى الأدنى فالأدنى» ، قلنا: ففيم نكفنك يا رسول الله؟ قال: «فى ثيابى هذه إن شئتم أو فى بياض مصر أو حلة يمانية» ، قلنا: فمن يصلى عليك يا رسول الله؟ قال: فبكى وبكينا، فقال:
«مهلا غفر الله لكم وجزاكم عن نبيكم خيرا إذا أنتم غسلتمونى وكفنتمونى فضعونى على شفير قبرى ثم اخرجوا عنى ساعة، فإن أول من يصلى على خليلى وجليسى
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (4/ 235، 5/ 138، 6/ 12، 7/ 89، 8/ 174) ، صحيح مسلم فى كتاب الوصية باب (5) رقم (22) ، وكتاب الأشربة باب (20) رقم (140، 142، 143) ، مسند الإمام أحمد (1/ 336، 3/ 158، 218، 232) ، السنن الكبرى للبيهقى (4، 273) ، الدر المنثور للسيوطى (6/ 389) ، فتح البارى لابن حجر (1/ 517، 9/ 526، 10/ 126، 11/ 570) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (2/ 206، 7/ 181) ، موطأ مالك (927) ، مجمع الزوائد للهيثمى (8/ 307) ، كنز العمال للمتقى الهندى (35444) ، مصنف ابن أبى شيبة (7/ 416) ، دلائل النبوة للبيهقى (6/ 90، 7/ 184) ، طبقات ابن سعد (2/ 2/ 38) ، دلائل النبوة لأبى نعيم (137، 147) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 227) ، 6/ 121، 154) ، مجمع الزوائد للهيثمى (9/ 4) .(2/41)
جبريل، ثم ميكائيل، ثم إسرافيل، ثم ملك الموت مع جنوده بأجمعهم مع الملائكة عليهم السلام، ثم ادخلوا على أفواجا فصلوا على وسلموا تسليما، ولا يؤمكم أحد ولا تؤذونى بتزكية ولا نصيحة ولا برنة، واقرؤا أنفسكم منى السلام، ومن كان غائبا من أصحابى فأبلغوه عنى السلام، وأشهدكم أنى قد سلمت على من دخل فى الإسلام وعلى من تابعنى على دينى من اليوم إلى يوم القيامة» . قلنا: فمن يدخلك قبرك يا رسول الله؟ قال:
«رجال أهل بيتى الأدنى فالأدنى مع ملائكة كثير يرونكم من حيث لا ترونهم» «1» .
وعن الفضل بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له وهو موعوك قد عصب رأسه: «خذ بيدى» «2» . قال: فأخذت بيده حتى جلس على المنبر، ثم قال: «ناد فى الناس» . فصحت فى الناس، فاجتمعوا إليه، فقال: «أما بعد، أيها الناس، فإنى أحمد إليكم الله الذى لا إله إلا هو، وإنه قد دنا منى خفوف من بين أظهركم، فمن كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهرى فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضى فليستقد منه، ومن كنت أخذت له مالا فهذا مالى فليأخذ منه، ولا يقل رجل: إنى أخشى الشحناء من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا وأن الشحناء ليست من طبيعتى، ولا من شأنى، ألا وإن أحبكم إلى من أخذ منى حقا إن كان له أو حللنى، فلقيت الله عز وجل وأنا طيب النفس، وقد أرى أن هذا غير مغن عنى حتى أقوم فيكم مرارا» . قال الفضل: ثم نزل فصلى الظهر، ثم رجع فجلس على المنبر فعاد لمقالته الأولى فى الشحناء وغيرها، فقام رجل فقال: يا رسول الله، إن لى عندك ثلاثة دراهم، فقال: «أما إنا لا نكذب قائلا، ولا نستحلفه على يمين، فيم كانت لك عندى؟» «3» فقال: يا رسول الله، أتذكر يوم مر بك المسكين فأمرتنى فأعطيته ثلاثة دراهم؟ فقال: «أعطه يا فضل» «4» ، ثم قال: «أيها الناس، من كان عنده شىء فليرده ولا يقل رجل: فضوح الدنيا، ألا وإن فضوح الدنيا أيسر من فضوح الآخرة» «5» . فقام رجل فقال: يا رسول الله، عندى ثلاثة دراهم غللتها فى سبيل الله، قال: «ولم غللتها؟» قال: كنت إليها محتاجا، قال: «خذها منه يا فضل» ، ثم قال: «من
__________
(1) انظر الحديث فى: إتحاف السادة المتقين للزبيدى (10/ 386) ، المطالب العالية لابن حجر (4392، 4393) ، حلية الأولياء لأبى نعيم (4/ 198) .
(2) انظر الحديث فى: السنن الكبرى للبيهقى (6/ 74) ، مجمع الزوائد للهيثمى (9/ 25) ، دلائل النبوة للبيهقى (7/ 179) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 231) .
(3) انظر الحديث فى: ميزان الاعتدال (6855) ، المعجم الكبير للطبرانى (18/ 281) .
(4) انظر الحديث فى: السنن الكبرى للبيهقى (6/ 75) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 231) .
(5) انظر الحديث فى: جمع الجوامع للسيوطى (9570) ، كنز العمال للمتقى الهندى (11051) .(2/42)
خشى من نفسه شيئا فليقم أدع له» ، فقام رجل فقال: يا رسول الله، إنى لكذوب، وإنى لفاحش، وإنى لنؤم. فقال: «اللهم ارزقه الصدق وأذهب عنه النوم إذا أراد» . ثم قال رجل فقال: والله يا رسول الله إنى لكذاب وإنى لمنافق وما شىء أو إن شىء إلا قد جئته. فقام عمر بن الخطاب فقال: فضحت نفسك أيها الرجل، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: «يا ابن الخطاب، فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، اللهم ارزقه صدقا وإيمانا وصير أمره إلى خير» .
فقال عمر كلمة، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «عمر معى وأنا مع عمر والحق بعدى مع عمر حيث كان» «1» .
وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، قالت: فلما اشتد وجعه كنت أنا أقرأ عليه وأمسح عنه بيمينه رجاء بركتها.
وعنها قالت: ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أغبط أحدا بهون موت بعد الذى رأيت من شدة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقالت رضى الله عنها: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالموت وعنده قدح فيه ماء وهو يدخل يده فى القدح ثم يمسح وجهه صلى الله عليه وسلم بالماء، ثم يقول: «اللهم أعنى على منكرات الموات أو سكرات الموت» «2» .
وعنها، وعن عبد الله بن عباس أيضا قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يلقى خميصة على وجهه، فإذا اغتم كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: «لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» «3» . يحذرهم مثل ما صنعوا.
وعن أسامة بن زيد قال: لما ثقل النبى صلى الله عليه وسلم وهبطت وهبط الناس معى إلى المدينة يعنى
__________
(1) انظر الحديث فى: المعجم الكبير للطبرانى (18/ 281) ، مجمع الزوائد للهيثمى (9/ 26) .
(2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (6/ 64، 70، 77، 151) ، سنن ابن ماجه (1623) ، الدر المنثور للسيوطى (6/ 105) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (1564) ، فتح البارى لابن حجر (8/ 140، 11/ 362) ، كنز العمال للمتقى الهندى (18836) ، طبقات ابن سعد (2/ 2/ 47) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 239) .
(3) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (1/ 119، 4/ 206، 6/ 14، 7/ 109) ، صحيح مسلم فى كتاب المساجد باب (3) رقم (22) ، سنن النسائى (2/ 40) ، مسند الإمام أحمد (6/ 275، 299) ، دلائل النبوة للبيهقى (7/ 203) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 238) .(2/43)
الجيش الذى كان تهيأ للخروج معه فى بعثه قال: فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصمت فلا يتكلم، وجعل يرفع يديه إلى السماء، ثم يضعهما على، أعرف أنه يدعو لى.
وذكر ابن إسحاق «1» : من حديث أبى بكر بن عبد الله بن أبى مليكة أن مما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس يوم صلى قاعدا عن يمين أبى بكر أن قال لهم لما فرغ من الصلاة وأقبل عليهم فكلمهم رافعا صوته حتى خرج صوته من باب المسجد، يقول: «يا أيها الناس، سعرت النار، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، إنى والله ما تمسكون على بشىء، إنى لم أحل إلا ما أحل القرآن، ولم أحرم إلا ما حرم القرآن» .
قال: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلامه قال له أبو بكر: يا رسول الله، إنى أراك قد أصبحت بنعمة من الله وفضل كما نحب، واليوم يوم بنت خارجة، أفآتيها؟ قال: «نعم» ، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج أبو بكر إلى أهله بالسنح «2» .
وعن عبد الله بن عباس قال: خرج يومئذ على بن أبى طالب رضى الله عنه على الناس من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له الناس: يا أبا حسن، كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: أصبح بحمد الله بارئا. قال: فأخذ العباس بيده، ثم قال: يا على، أنت والله عبد العصا، بعد ثلاث مرات، أحلف بالله لقد رأيت الموت فى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كنت أعرفه فى وجوه بنى عبد المطلب، فانطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان هذا الأمر فينا عرفناه، وإن كان فى غيرنا أمرناه فأوصى بنا الناس. فقال على: إنى والله لا أفعل، والله لئن منعناه لا يؤتيناه أحد بعده، فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الضحى من ذلك اليوم.
وقالت عائشة رضى الله عنها: رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ذلك اليوم حين دخل المسجد فاضطجع فى حجرى، فدخل على رجل من آل أبى بكر وفى يده سواك أخضر، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى يده نظرا عرفت أنه يريده، فقلت: يا رسول الله، أتحب أن أعطيك هذا السواك؟ قال: «نعم» ، قالت: فأخذته فمضغته له حتى لينته، ثم أعطيته إياه؛ قالت: فاستن به كأشد ما رأيته استن بسواك قط، ثم وضعه؛ ووجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثقل فى حجرى، فذهبت أنظر فى وجهه، فإذا بصره قد شخص وهو يقول: «بل الرفيق الأعلى من الجنة» «3» ؛ قالت: فقلت: خيرت فاخترت والذى بعثك بالحق.
__________
(1) انظر: السيرة (4/ 278) .
(2) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (7/ 201) .
(3) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (6/ 274) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (10/ 288، 293) .(2/44)
وقالت: كان عليه السلام كثيرا ما أسمعه يقول: «إن الله لم يقبض نبيا حتى يخيره» ، فلما حضر كان آخر كلمة سمعتها منه وهو يقول: «بل الرفيق الأعلى من الجنة» فقلت:
إذا والله لا يختارنا، وعرفت أنه الذى كان يقول لنا: «إن نبيا لم يقبض حتى يخير» «1» .
قالت: وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن أنس بن مالك قال: لما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من كرب الموت ما وجد قالت فاطمة، واكرباه لكربك يا أبة، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: «لا كرب على أبيك بعد اليوم، إنه قد حضر من أبيك ما ليس بتارك منه أحدا لموافاة يوم القيامة» «2» .
وقالت عائشة رضى الله عنها: كان آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: «لا يترك بجزيرة العرب دينان» «3» .
وقالت أم سلمة: كان عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته: «الصلاة وما ملكت أيمانكم» «4» ، حتى جعل يلجلجها فى صدره، وما يقبض بها لسانه.
وقال أنس بن مالك: شهدته يوم توفى صلى الله عليه وسلم فلم أر يوما كان أقبح منه.
__________
(1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (6/ 45، 48، 74، 89، 108، 120، 126) ، صحيح مسلم (4/ 1893/ 85) .
(2) انظر الحديث فى: سنن ابن ماجه (1629) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (10/ 263) ، دلائل النبوة للبيهقى (7/ 212) ، كنز العمال للمتقى الهندى (18818، 18820) ، تاريخ أصفهان (2/ 221) .
(3) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (5/ 325) ، مسند الإمام أحمد (6/ 275) .
(4) انظر الحديث فى: سنن ابن ماجه (1625، 2697، 2698) ، مسند الإمام أحمد (3/ 117) ، مجمع الزوائد للهيثمى (4/ 237) ، طبقات ابن سعد (2/ 2/ 44) ، شرح السنة للبغوى (9/ 350) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (10/ 297) ، الترغيب والترهيب للمنذرى (3/ 215) ، كنز العمال للمتقى الهندى (18863) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (3356، 3357) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 238) ، تاريخ بغداد للخطيب البغدادى (4/ 240) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (2/ 236) ، المغنى عن حمل الأسفار للعراقى (2/ 44) ، مشكل الآثار للطحاوى (4/ 235، 236) ، تفسير ابن كثير (8/ 314) ، علل الحديث لابن أبى حاتم الرازى (300) .(2/45)
وقالت عائشة: توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحرى ونحرى، وفى دولتى «1» ، لم أظلم فيه أحدا، فمن سفهى وحداثة سنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض وهو فى حجرى، ثم وضعت رأسه على وسادة، وقمت التدم مع النساء، وأضرب وجهى «2» .
واختلف أهل العلم بهذا الشأن فى اليوم الذى توفى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشهر بعد اتفاقهم على أنه توفى يوم الاثنين فى شهر ربيع الأول.
فذكر الواقدى وجمهور الناس أنه توفى يوم الاثنين لاثنتى عشرة خلت من ربيع الأول لتمام عشر سنين من مقدمه المدينة، وهذا لا يصح، وقد جرى فيه على العلماء من الغلط ما علينا بيانه، وذلك أن المسلمين قد أجمعوا على أن وقفة النبى صلى الله عليه وسلم بعرفة فى حجة الوداع كانت يوم الجمعة تاسع ذى الحجة من سنة عشر، فاستهل هلال ذى الحجة على هذا ليلة الخميس، ثم لا يخلو شهر ذى الحجة والمحرم بعده من سنة إحدى عشرة ثم صفر بعده أن تكون هذه الأشهر الثلاثة كاملة كلها أو ناقصة كلها، أو اثنان منها كاملين وواحد ناقصا، أو اثنان منها ناقصين وواحد كاملا، وأيا ما قدرت من ذلك واعتبرته لم تجد الثانى عشر من ربيع الأول يكون يوم الاثنين أصلا.
وذكر أبو جعفر الطبرى بإسناد يرفعه إلى فقهاء أهل الحجاز، قالوا: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم نصف النهار يوم الاثنين لليلتين مضتا من شهر ربيع الأول.
وهذا القول وإن خالف ما ذكره جهور العلماء فإنه أولى بالصواب، وأمكن أن يكون حقا، فإنه إن كانت الأشهر الثلاثة كل شهر منها من تسعة وعشرين يوما كان استهلال شهر ربيع الأول على ذلك بالأحد فكان يوم الاثنين ثانيه.
وقد حكى الخوارزمى أنه صلى الله عليه وسلم توفى أول يوم من شهر ربيع الأول، وهذا أيضا أمكن وأكثر إذ اتصال النقص فى ثلاثة أشهر لا يكون إلا قليلا، والله تعالى أعلم.
ولما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتفعت الرنة عليه وسجته الملائكة دهش الناس كما روى عن غير واحد من الصحابة وطاشت عقولهم، وأفحموا، واهتلطوا، فمنهم من خبل، ومنهم من أصمت، ومنهم من أقعد إلى الأرض، فكان عمر رضى الله عنه ممن خبل، فجعل يصيح ويقول: إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفى وإنه والله ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين
__________
(1) فى دولتى: أى فى نوبتها.
(2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (6/ 48/ 121، 200، 274) ، صحيح البخارى (3/ 1389) .(2/46)
ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل: قد مات، والله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رجع موسى، فليقطعن أيدى رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات.
وأما عثمان بن عفان رضى الله عنه فأخرس حتى جعل يذهب به ويجاء ولا يتكلم.
وأقعد على رضى الله عنه فلم يستطع حراكا. وأضنى عبد الله بن أنيس.
وبلغ الخبر أبا بكر رضى الله عنه وهو بالسنح فجاء وعيناه تهملان وزفراته تترد فى صدره وغصصه ترتفع كقطع الحرة وهو فى ذلك رضوان الله عليه جلد العقل والمقالة، حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكب عليه وكشف عن وجهه ومسحه وقبل جبينه وجعل يبكى ويقول: بأبى أنت وأمى طبت حيا وميتا، ولنقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحد من الأنبياء من النبوة، فعظمت عن الصفة، وجللت عن البكاء، وخصصت حتى صرت مسلاة، وعممت حتى صرنا فيك سواء، ولولا أن موتك كان اختيارا لجدنا لموتك بالنفوس، لولا أنك نهيت عن البكاء لأنفذنا عليك ماء الشون، فأما ما لا نستطيع نفيه عنا فكمد وأدناف يتخالفان لا يبرحان، اللهم فأبلغه عنا، اذكرنا يا محمد عند ربك ولنكن من بالك، فلولا ما خلفت من السكينة لم نقم لما خلفت من الوحشة، اللهم أبلغ نبيك عنا واحفظه فينا. ثم خرج إلى الناس وهم فى عظيم غمراتهم وشديد سكراتهم فقام فيهم بخطبة جلها الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم وقال فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله وخاتم أنبيائه، وأشهد أن الكتاب كما نزل وأن الدين كما شرع، وأن الحديث كما حدث، وأن القول كما قال، وأن الله هو الحق المبين ... فى كلام طويل، ثم قال:
أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت، وإن الله قد تقدم إليكم فى أمره فلا تدعوه جزعا، قال الله تبارك وتعالى:
وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران: 144] . وإن الله سبحانه قد اختار لنبيه صلى الله عليه وسلم ما عنده على ما عندكم، وقبضه إلى ثوابه، وخلف فيكم كتابه وسنة نبيه، فمن أخذ بهما عرف ومن فرق بينهما أنكر، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ [النساء: 135] ولا يشغلنكم الشيطان بموت نبيكم، ولا يلفتنكم عن دينكم، فعاجلوا الشيطان بالخزى تعجزوه ولا تستنظروه فليلحق بكم.(2/47)
فلما فرغ من خطبته التفت إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه فقال: يا عمر، أنت الذى بلغنى عنك أنك تقول على باب النبى صلى الله عليه وسلم: والذى نفس عمر بيده ما مات نبى الله أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم كذا: كذا وكذا، وقال يوم كذا: كذا وكذا، وقال الله تعالى فى كتابه: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [30: الزمر] . فقال عمر: والله لكأنى لم أسمع بها فى كتاب الله تعالى قبل ذلك لما نزل بنا، أشهد أن الكتاب كما نزل وأن الحديث كما حدث وأن الله تبارك وتعالى حى لا يموت، صلوات الله على رسوله، وعند الله نحتسب رسوله.
وفى بعض سياق هذا الخبر أن أبا بكر رضى الله عنه لما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بيت عائشة ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجى فى ناحية البيت عليه برد حبرة، أقبل حتى كشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أقبل عليه فقبله، ثم قال: بأبى أنت وأمى، أما الموتة التى كتبها الله عليك فقد ذقتها، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبدا، ثم رد البرد على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج وعمر يكلم الناس، فقال: يا عمر، أنصت. فأبى إلا أن يتكلم، فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل يكلم الناس، فلما سمع الناس كلام أبى بكر أقبلوا عليه وتركوا عمر؛ فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه، ثم قال:
يا أيها الناس، إنه من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت، ثم تلا هذه الآية: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ [آل عمران: 144] إلى آخر الآية.
قال: فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ؛ وأخذها الناس عن أبى بكر، فإنما هى فى أفواهم.
وقال عمر رضى الله عنه: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فعقرت «1» حتى وقعت إلى الأرض، ما تحملنى رجلاى، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات «2» .
وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه فيما كان منه يومئذ:
لعمرى لقد أيقنت أنك ميت ... ولكنما أبدى الذى قلته الجزع
وقلت يغيب الوحى عنا لفقده ... كما غاب موسى ثم يرجع كما رجع
وكان هواى أن تطول حياته ... وليس لحى فى بقا ميت طمع
__________
(1) عقرت: أى دهشت وتحيرت.
(2) انظر الحديث فى: صحيح البخارى فى كتاب فضائل الصحابة (7/ 3667- 3668) .(2/48)
فلما كشفنا البرد عن حر وجهه ... إذا الأمر بالجدع الموعب قد وقع
فلم تك لى عند المصيبة حلية ... أرد بها أهل الشماتة والقذع
سوى إذن الله الذى فى كتابه ... وما أذن الله العباد به يقع
وقد قلت من بعد المقالة قولة ... لها فى حلوق الشامتين به بشع
ألا إنما كان النبى محمد ... إلى أجل وافى به الموت فانقطع
ندين على العلات منا بدينه ... ونعطى الذى أعطى ونمنع ما منع
ووليت محزونا بعين سخينة ... أكفكف دمعى والفؤاد قد انصدع
وقلت لعينى كل دمع ذخرته ... فجودى به إن الشجى له دفع
وذكر ابن إسحاق «1» بإسناد يرفعه إلى عبد الله بن عباس قال: إنى لأمشى مع عمر فى خلافته وهو عامد إلى حاجة له، وفى يدة الدرة ما معه غيرى، وهو يحدث نفسه ويضرب وخشى قدمه بدرته، إذ التفت إلى فقال: يا ابن عباس، هل تدرى ما حملنى على مقالتى التى قلت حين توفى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ قال: قلت: لا أدرى يا أمير المؤمنين؛ أنت أعلم. قال: فإنه والله، إن حملنى على ذلك إلا أنى كنت أقرأ هذه الآية: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [143: البقرة] ، فو الله إن كنت لأظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيبقى فى أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها، فإنه للذى حملنى على أن قلت ما قلت «2» .
وذكر موسى بن عقبة أن المقام الذى قام به أبو بكر رضى الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد الذى كان من عمر من القول هو أنه خرج سريعا إلى المسجد من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوطأ رقاب الناس حتى جاء المنبر وعمر يكلم الناس ويوعد من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات، فجلس عمر حين رأى أبا بكر مقبلا، فقام أبو بكر على المنبر فنادى الناس أن اجلسوا وأنصتوا، فتشهد بشهادة الحق، ثم قال: إن الله قد نعى نبيكم لنفسه وهو حى بين أظهركم، ونعى لكم أنفسكم، فهو الموت حتى لا يبقى أحد إلا الله، يقول الله عز وجل: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ
[144: آل عمران] .
وقال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [30: الزمر]
__________
(1) انظر: السيرة (4/ 286) .
(2) أخرجه الطبرى فى تاريخه (2/ 238) .(2/49)
وقال: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: 35، الأنبياء، 57] .
وقال: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] . وقال: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن: 26] .
ثم قال: إن الله عمر محمدا وأبقاه حتى أقام دين الله وأظهر أمر الله وبلغ رسالة الله وجاهد أعداء الله حتى توفاه الله صلوات الله عليه وهو على ذلك وتركتم على الطريقة، فلا يهلك هالك إلا من بعد البينة، فمن كان الله ربه فإن الله حى لا يموت فليعبده، ومن كان يعبد محمدا أو يراه، إلها فقد هلك إلهه، فأفيقوا أيها الناس واعتصموا بدينكم وتوكلوا على ربكم، فإن دين الله قائم، وإن كلمته باقية، وإن الله ناصر من نصره ومعز دينه.
وإن كتاب الله بين أظهرنا هو النور والشفاء وبه هدى الله محمدا، وفيه حلال الله وحرامه، لا والله ما نبالى من أجلب علينا من خلق الله، إن سيوف الله لمسلولة ما وضعناها بعد، ولنجاهدن من خالفنا كما جاهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يبقين أحد إلا على نفسه.
ثم انصرف وانصرف المهاجرون معه.
بيعة أبى بكر رضى الله عنه وما كان من تحيز الأنصار إلى سعد بن عبادة فى سقيفة بنى ساعدة، ومنتهى أمر المهاجرين معهم
قال ابن إسحاق «1» : ولما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم انحاز هذا الحى من الأنصار إلى سعد بن عبادة فى سقيفة بنى ساعدة، واعتزل على بن أبى طالب والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله فى بيت فاطمة، وانحاز بقية المهاجرين إلى أبى بكر، وانحاز معهم أسيد بن حضير فى بنى عبد الأشهل، فأتى آت إلى أبى بكر فقال: إن هذا الحى من الأنصار مع سعد بن عبادة فى سقيفة بنى ساعدة قد انحازوا إليه، فإن كان لكم بأمر الناس حاجة فأدركوا الناس من قبل أن يتفاقم أمرهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم فى بيته لم يفرغ من أمره قد أغلق دونه الباب أهله. قال عمر: فقلت لأبى بكر: انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من
__________
(1) انظر: السيرة (4/ 281) .(2/50)
الأنصار حتى ننظر ما هم عليه. قال: وكان من حديث السقيفة حين اجتمعت بها الأنصار أن عبد الله بن عباس قال: أخبرنى عبد الرحمن بن عوف وكنت فى منزله بمنى أنتظره، وهو عند عمر فى آخر حجة حجها عمر قال: فرجع عبد الرحمن بن عوف من عند عمر فوجدنى فى منزله أنتظره، وكنت أقرئه القرآن، فقال لى: لو رأيت رجلا أتى أمير المؤمنين فقال: يا أمير المؤمنين، هل لك فى فلان يقول: والله لو قد مات عمر بن الخطاب لقد بايعت فلانا، والله ما كانت بيعة أبى بكر إلا فلتة فتمت. قال: فغضب عمر فقال: إنى إن شاء الله لقائم العشية فى الناس، فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمرهم. ثم قال عبد الرحمن: فقلت: يا أمير المؤمنين لا تفعل، إن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم وإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم فى الناس، وإنى أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطير بها أولئك عنك كل مطير ولا يعودها ولا يضعوها على موضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار السنة وتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول ما قلت بالمدينة متمكنا، فيعى أهل الفقه مقالتك، ويضعونها موضعها. فقال عمر: أما والله إن شاء الله لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة.
قال ابن عباس «1» : فقدمنا المدينة فى عقب ذى الحجة، فلما كان يوم الجمعة عجلت الرواح حين زاغت الشمس فأجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالسا إلى ركن المنبر، فجلست حذوه تمس ركبتى ركبته، فلم أنشب أن خرج عمر، فلما رأيته مقبلا قلت لسعيد بن زيد: ليقولن العشية على هذا المنبر مقالة لم يقلها منذ استخلف؛ قال:
فأنكر على سعيد بن زيد ذلك. قال: وما عسى أن يقول مما لم يقل قبله، فجلس عمر على المنبر، فلما سكت المؤذن قام فأثنى على الله بما هو له أهل، ثم قال: أما بعد، فإنى قائل لكم مقالة قد قدر لى أن أقولها ولا أدرى لعلها بين يدى أجلى، فمن عقلها ووعاها فليأخذنها حيث انتهت به راحلته، ومن خشى أن لا يعيها فلا يحل لأحد أن يكذب على؛ إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها وعلمناها ووعيناها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد الرجم فى كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم فى كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو كان الحبل أو الاعتراف؛ ثم إنا قد كنا نقرأ فيما نقرأ من الكتاب: «لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم» أو «كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم» ، ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) انظر: السيرة (4/ 282) .(2/51)
قال: «لا تطرونى كما أطرى عيسى ابن مريم، وقولوا: عبد الله ورسوله» «1» ؛ ثم إنه قد بلغنى أن فلانا قال: لو والله قد مات عمر بايعت فلانا، فلا يغرن امرأ أن يقول: إن بيعة أبى بكر كانت فلتة فتمت، وإنها قد كانت كذلك إلا أن الله قد وقى شرها، وليس فيكم من تنقطع الأعناق إليه مثل أبى بكر، فمن بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فإنه لا بيعة له هو ولا الذى بايعه، تغرة أن يقتلا، إنه كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن الأنصار خالفوا فاجتمعوا بأشرافهم فى سقيفة بنى ساعدة، وتخلف عنا على بن أبى طالب والزبير بن العوام ومن معهما، واجتمع المهاجرون إلى أبى بكر، فقلت لأبى بكر: انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار، فانطلقنا نؤمهم حتى لقينا منهم رجلان صالحان، فذكرا لنا ما تمالأ عليه القوم، فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ قلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار، فقالا: فلا عليكم أن لا تقربوهم يا معشر المهاجرين، اقضوا أمركم. قال: قلت: والله لنأتينهم. فانطلقنا حتى أتيناهم فى سقيفة بنى ساعدة، فإذا بين ظهرانيهم رجل مزمل، فقلت: من هذا؟ قالوا: سعد بن عبادة، فقلت: ما له؟ فقالوا:
وجع. فلما جلسنا تشهد خطيبهم فأثنى على الله بما هو له أهل، ثم قال: أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا، وقد دفت دافة من قومكم.
قال: وإذا هم يريدون أن يحتازونا من أصلنا ويغصبونا الأمر، فلما سكت أردت أن أتكلم وقد زورت فى نفسى مقالة قد أعجبتنى، أريد أن أقدمها بين يدى أبى بكر، وكنت أدارى منه بعض الحد، فقال أبو بكر: على رسلك يا عمر. فكرهت أن أعصيه، فتكلم، وهو كان أعلم منى وأوقر، فو الله ما ترك من كلمة أعجبتنى من تزويرى إلا قالها فى بديهته أو مثلها أو أفضل منها حتى سكت.
قال: أما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا هذا الحى من قريش، هم أوسط العرب نسبا ودارا، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم، وأخذ بيدى وبيد أبى عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا، ولم أكره شيئا مما قال غيرها، كان والله أن أقدم فتضرب عنقى لا يقربنى ذلك إلى إثم أحب إلى من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر.
قال: فقال قائل من الأنصار: أنا جذيلها المحك وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم
__________
(1) انظر الحديث فى: سنن الدارمى (2/ 2784) ، مسند الإمام أحمد (1/ 23، 24، 47، 55) ، مصنف عبد الرزاق (11/ 20524) .(2/52)
أمير يا معشر قريش. قال: فكثر اللغط وارتفعت الأصوات، حتى تخوفت الاختلاف، فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعه الأنصار، ونزونا على سعد بن عبادة فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة. فقلت: قتل الله سعد ابن عبادة.
وذكر ابن إسحاق «1» عن الزهرى عن عروة أن أحد الرجلين اللذين لقوا من الأنصار حين ذهبوا إلى السقيفة هو عويم بن ساعدة، وهو الذى قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل:
من الذين قال الله لهم: رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:
108] ، فقال عليه السلام: «نعم المرء منهم عويم بن ساعدة، وأما الرجل الآخر فهو:
معن بن عدى» «2» ، ويقال: إنه لما بكى الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفاه الله وقالوا:
والله لوددنا أن متنا قبله، إنا نخشى أن نفتتن بعده، قال معن بن عدى: لكنى والله ما أحب أنى مت قبله حتى أصدقه ميتا كما صدقته حيا، وقتل رحمه الله شهيدا اليمامة.
وذكر ابن عقبة أنهم لما توجهوا إلى سقيفة بنى ساعدة وأراد عمر أن يتكلم ويسبق بالقول ويمهد لأبى بكر ويتهدد من هناك من الأنصار، وقال عمر: خشيت أن يقصر أبو بكر رضى الله عنه عن بعض الكلام وعن ما أجد فى نفسى من الشدة على من خالفنا زجره أبو بكر رضى الله عنه فقال: على رسلك فستكفى الكلام إن شاء الله تعالى، ثم سوف تقول بعدى ما بدا لك، فتشهد أبو بكر، وأنصت القوم، ثم قال:
بعث الله محمدا بالهدى ودين الحق، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فأخذ الله بقلوبنا ونواصينا إلى ما دعانا إليه، فكنا معشر المهاجرين أول الناس إسلاما، ونحن عشيرته وأقاربه، وذوو رحمه، فنحن أهل النبوة وأهل الخلافة وأوسط الناس أنسابا فى العرب، ولدتنا العرب كلها، فليست منها قبيلة إلا لقريش فيها ولادة، ولن تعترف العرب ولا تصلح إلا على رجل من قريش، هم أصبح الناس وجوها، وأبسطه ألسنا، وأفضله قولا، فالناس لقريش تبع، فنحن الأمراء، وأنتم الوزراء، وهذا الأمر بيننا وبينكم قسمة إلا بلمه، وأنتم يا معشر الأنصار إخواننا فى كتاب الله وشركاؤنا فى الدين وأحب الناس إلينا، وأنتم الذين آووا ونصروا، وأنتم أحق الناس أن لا تحسدوهم على خير أتاهم الله إياه، فأنا أدعوكم إلى أحد هذين الرجلين: عمر بن الخطاب وأبى عبيدة
__________
(1) انظر: السيرة (4/ 285) .
(2) انظر الحديث فى: طبقات ابن سعد (3/ 2/ 31) .(2/53)
ابن الجراح ووضع يديه عليهما، وكان قائما بينهما فكلاهما قد رضيته للقيام بهذا الأمر، ورأيته أهلا لذلك.
فقال عمر وأبو عبيدة: ما ينبغى لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون فوقك يا أبا بكر، أنت صاحب الغار مع رسول الله، وثانى اثنين، وأمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتكى فصليت بالناس، فأنت أحق بهذا الأمر.
قالت الأنصار: والله ما نحسدكم على خير ساقه الله إليكم، وما خلق الله قوما أحب إلينا ولا أعز علينا منكم، ولا أرضى عندنا هديا، ولكنا نشفق بعد اليوم، فلو جعلتم اليوم رجلا منكم فإذا مات أخذنا رجلا من الأنصار فجعلناه، فإذا مات أخذنا رجلا من المهاجرين فجعلناه، فكنا كذلك أبدا ما بقيت هذه الأمة بايعناكم ورضينا بذلك من أمركم، وكان ذلك أجدر إن يشفق القرشى إن زاغ أن ينقض عليه الأنصارى، وأن يشفق الأنصارى إن زاغ أن ينقض عليه القرشى.
فقال عمر: لا ينبغى هذا الأمر ولا يصلح إلا لرجل من قريش، ولن ترضى العرب إلا به، ولن تعرف العرب الإمارة، إلا له، ولن تصلح إلا عليه، والله لا يخالفنا أحد إلا قتلناه.
فقام الحباب بن المنذر من بنى سلمة «1» ، فقال: منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش، أنا جذيلها المحك وعذيقها المرجب، دفت علينا منكم دافة أرادوا أن يخرجونا من أصلنا ويختصونا من هذا الأمر، وإن شئتم كررناها جزعة.
فكثر القول حتى كادت الحرب تقع بينهم، وأوعد بعضهم بعضا، ثم تراد المسلمون وعصم الله لهم دينهم، فرجعوا بقول حسن، وسلموا الأمر لله وعصوا الشيطان، ووثب عمر فأخذ بيد أبى بكر وقام أسيد بن حضير الأشهلى «2» وبشير بن سعد أبو النعمان بن
__________
(1) انظر ترجمته فى: الأنساب (3/ 278) ، الإصابة ترجمة رقم (1557) ، أسد الغابة ترجمة رقم (1023) .
(2) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (185) ، أسد الغابة ترجمة رقم (170) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 21) ، الثقات (3/ 6) ، الإكمال (2/ 482) ، تهذيب الكمال (1/ 113) ، الطبقات (77) ، تقريب التهذيب (1/ 78) ، بقى بن مخلد (136) ، خلاصة تذهيب الكمال (1/ 98) ، الوافى بالوفيات (9/ 258، 1/ 328) ، تهذيب التهذيب (1/ 347) ، الكاشف (1/ 133) ، الجرح والتعديل (2/ 1163) ، التاريخ الكبير (2/ 47) ، البداية والنهاية (7/ 101) ، الأنساب (1/ 278) .(2/54)
بشير «1» يستبقان ليبايعا أبا بكر فسبقهما عمر فبايع ثم بايعا معا، ووثب أهل السقيفة يبتدرون البيعة، وسعد بن عبادة مضطجع يوعك، فازدحم الناس على أبى بكر، فقال رجل من الأنصار: اتقوا سعدا، لا تطؤه فتقتلوه.
فقال عمر وهو مغضب: قتل الله سعدا، فإنه صاحب فتنة. فلما فرغ أبو بكر من البيعة رجع إلى المسجد فقعد على المنبر فبايعه الناس حتى أمسى، وشغلوا عن دفن رسول الله حتى آخر الليل من ليلة الثلاثاء مع الصبح.
وقال ابن أبى عزة القرشى الجمحى فى ذلك:
شكرا لمن هو بالثناء خليق ... ذهب اللجاج وبويع الصديق
من بعد ما دحضت بسعد نعله ... ورجا رجاء دونه العيوق
جاءت به الأنصار عاصب رأسه ... فأتاهم الصديق والفاروق
وأبو عبيدة والذين إليهم ... نفس المؤمل للبقاء تتوق
كنا نقول لها على والرضى ... عمر وأولادهم بتلك عتيق
فدعت قريش باسمه فأجابها ... إن المنوه باسمه الموثوق
وذكر وثيمة بن موسى بن الفرات أنه كان لأشراف قريش فيما كان من شأن الأنصار مقامات محمودة، فمن ذلك أن خالد بن الوليد قام على أثر أبى بكر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان خطيب قريش، فقال:
أيها الناس، إنا رمينا فى بدء هذا الدين بأمر ثقل علينا محمله وصعب علينا مرتقاه، وكنا كأنا منه على أوفاز، ثم والله ما لبثنا أن خف علينا ثقله، وذللنا صعبه، وعجبنا ممن شك فيه بعد عجبنا ممن آمن به، حتى والله أمرنا بما كنا ننهى عنه، ونهينا عن ما كنا نأمر به، ولا والله ما سبقنا إليه بالعقول، ولكنه التوفيق. ألا وإن الوحى لم ينقطع حتى أكمل، ولم يذهب النبى صلى الله عليه وسلم حتى أعذر، فلسنا ننتظر بعد النبى نبيا ولا بعد الوحى وحيا، ونحن اليوم أكثر منا بالأمس، ونحن بالأمس خير منا اليوم، من دخل فى هذا الدين كان من ثوابه على حسب عمله، ومن تركه رددناه إليه، إنه والله ما صاحب هذا الأمر
__________
(1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (694) ، أسد الغابة ترجمة رقم (459) ، الثقات (3/ 33) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 53) ، تهذيب التهذيب (1/ 464) ، الطبقات (94، 190) ، خلاصة تذهيب تهذيب الكمال (1/ 130) ، الوافى بالوفيات (10/ 162) ، العبر (1/ 15، 16) ، البداية والنهاية (6/ 353) ، التاريخ الصغير (1/ 73) ، تقريب التهذيب (1/ 103) ، التاريخ الكبير (2/ 98) ، الجرح والتعديل (2/ 374) .(2/55)
يعنى أبو بكر بالمسئول عنه ولا المختلف فيه، ولا بالخفى الشخص، والمغمور القناة.
ثم سكت، فعجب الناس من كلامه.
وقام حزن بن أبى وهب وهو الذى سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سهلا فقال:
وقامت رجال من قريش كثيرة ... فلم يك فى القوم القيام كخالد
ترقى فلم تزلق به صدر نعله ... وكف فلم يعرض لتلك الأوابد
فجاء بها غراء كالبدر سهلة ... تشبهها فى الحسن أم القلائد
أخالد لا تعدم لؤى بن غالب ... قيامك فيها عند قذف الجلامد
كساك الوليد بن المغيرة مجده ... وعلمك الشيخان ضرب العماحد
تقارع فى الإسلام عن صلب دينه ... وفى الشرك عن أجلال جد ووالد
وكنت لمخزوم بن يقظة جنة ... كلا اسميك فيها ماجد وابن ماجد
إذا ما غنا فى هيجها ألف فارس ... عدلت بألف عند تلك الشدائد
ومن يك فى الحرب المصرة واحدا ... فما أنت فى الحرب العوان بواحد
إذا ناب أمر فى قريش محلج ... تشيب له روس العذارى النواهد
توليت منه ما يخاف وإن تغب ... يقولوا جميعا خطنا غير شاهد
قال ابن إسحاق «1» : ولما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم عظمت به مصيبة المسلمين، فكانت عائشة فيما بلغنى تقول: لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب واشرأبت اليهودية والنصرانية ونجم النفاق، وصار المسلمون كالغنم المطيرة فى الليلة الشاتية لفقد نبيهم حتى جمعهم الله على أبى بكر.
وذكر ابن هشام «2» عن أبى عبيدة وغيره من أهل العلم أن أكثر أهل مكة لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم هموا بالرجوع عن الإسلام وأرادوا ذلك حتى خافهم عتاب بن أسيد فتوارى فقام سهيل بن عمرو فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:
إن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوة، فمن رابنا ضربنا عنقه، فتراجع الناس وكفوا عن ما هموا به، فظهر عتاب بن أسيد، وقد تقدم لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فى سهيل بن عمرو لعمر بن الخطاب وقد قال له: انزع ثنتيتى سهيل بن عمرو يدلع لسانه فلا يقوم عليك
__________
(1) انظر: السيرة (4/ 291) .
(2) انظر المصدر السابق.(2/56)
خطيبا أبدا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه عسى أن يقوم مقاما لا تذمه» «1» ، فكان هذا المقام المتقدم هو الذى أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن أنس بن مالك قال: لما بويع أبو بكر فى السقيفة وكان الغد جلس أبو بكر على المنبر، فقام عمر فتكلم قبل أبى بكر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل، ثم قال:
أيها الناس، إنى قد كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت وما وجدتها فى كتاب الله، ولا كانت عهدا عهده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنى كنت أرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد برنا؛ يقول: يكون آخرنا، وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذى به هدى رسوله، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثانى اثنين إذ هما فى الغار، فقوموا فبايعوه.
فبايع الناس أبا بكر بيعة العامة بعد بيعة السقيفة.
ثم تكلم أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه بالذى هو أهله، ثم قال: أما بعد أيها الناس، فإنى قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينونى، وإن أسأت فقومونى؛ الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوى عندى حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوى فيكم ضعيف عندى حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد فى سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة فى قوم إلا عمهم الله بالبلاء؛ أطيعونى ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لى عليكم. قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله «2» .
وذكر موسى بن عقبة أن رجالا من المهاجرين غضبوا فى بيعة أبى بكر، منهم على والزبير، فدخلا بيت فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعهما السلاح، فجاءهما عمر بن الخطاب فى عصابة من المهاجرين والأنصار فيهم أسيد بن حضير وسلمة بن سلامة بن وقش الأشهليان وثابت بن قيس بن شماس الخزرجى فكلموهما حتى أخذ أحد القوم سيف الزبير فضرب به الحجر حتى كسره ثم قام أبو بكر فخطب الناس واعتذر إليهم وقال:
والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما قط، ولا ليلة، ولا سألتها الله قط سرا ولا علانية، ولكنى أشفقت من الفتنة، وما لى فى الإمارة من راحة، ولقد قلدت أمرا عظيما
__________
(1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 310) ، دلائل النبوة للبيهقى (6/ 367) .
(2) انظر: البداية والنهاية لابن كثير (6/ 301) .(2/57)
ما لى به طاقة ولا يدان إلا بتقوية الله، ولوددت أن أقوى الناس عليها مكانى اليوم.
فقبل المهاجرون منه ما قاله واعتذر به، وقال على والزبير: ما غضبنا إلا أنا أخرنا عن المشورة، وإنا لنرى أن أبا بكر أحق الناس بها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه لصاحب الغار وثانى اثنين، وإنا لنعرف له شرفه وسنه، ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة بالناس وهو حى.
وذكر غير ابن عقبة أن أبا بكر رضى الله عنه قام فى الناس بعد مبايعتهم إياه يقيلهم فى بيعتهم ويستقيلهم فيما تحمله من أمرهم ويعيد ذلك عليهم، كل ذلك يقولون له:
والله لا نقيلك ولا نستقيلك، قدمك رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن ذا يؤخرك.
ولم يبدأ أبو بكر رضى الله عنه بعد أن فرغ أمر البيعة واطمأن الناس بشىء من النظر قبل إنفاذ بعث أسامة، فقال له: امض لوجهك الذى بعثك له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه رجال من المهاجرين والأنصار وقالوا: أمسك أسامة وبعثه، فإنا نخشى أن تميل علينا العرب إذا سمعوا بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر وكان أفضلهم رأيا: أنا أحتبس بعثا بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد اجترأت إذ على أمر عظيم، والذى نفسى بيده لأن تميل العرب على أحب إلى من أن احتبس جيشا أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. امض يا أسامة فى جيشك للوجه الذى أمرت به، ثم اغز حيث أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم من ناحية فلسطين، وعلى أهل مؤتة فإن الله سيكفى ما تركت، ولكن إن رأيت أن تأذن لعمر بن الخطاب بالتخلف لأستشيره وأستعين برأيه فإنه ذو رأى ونصيحة للإسلام وأهله فعلت. ففعل أسامة وأذن لعمر، فأقام بالمدينة مع أبى بكر رضى الله عنهم أجمعين.
ذكر غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفنه، وما يتصل بذلك من أمره صلوات الله عليه وسلامه ورحمته وبركاته
ولما فرغ الناس من بيعة أبى بكر الصديق رضى الله عنه وجمعهم الله عليه وصرف عنهم كيد الشيطان أقبلوا على تجهيز نبيهم صلى الله عليه وسلم والاشتغال به.
قالت عائشة رضى الله عنها: لما أرادوا غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا فيه، فقالوا: والله ما ندرى، أنجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثيابه كما نجرد موتانا، أو نغسله وعليه ثيابه؟ قالت:
فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا ذقنه فى صدره، وكلمهم(2/58)
مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو: أن اغسلوا النبى وعليه ثيابه. قالت: فقاموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسلوه وعليه قميصه، يصبون الماء فوق القميص، ويدلكونه والقميص دون أيديهم.
ويروى عن غير واحد أن الذين ولوا غسله صلى الله عليه وسلم ابن عمه على بن أبى طالب، وعمه العباس بن عبد المطلب، وابناه الفضل، وقثم، وحبه أسامة بن زيد، ومولاه شقران.
وقال أوس بن خولى أحد بنى عوف بن الخزرج وكان ممن شهد بدرا لعلى بن أبى طالب يومئذك أنشدك الله يا على وحظنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له: ادخل، فدخل وجلس، فحضر غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم، فأسند على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صدره، وكان العباس والفضل وقثم يقلبونه معه، وكان أسامة وشقران هما اللذان يصبان الماء عليه، وعلى يغسله، قد أسنده إلى صدره، وعليه قميصه يدلكه به من ورائه، لا يفضى بيده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى يقول: بأبى أنت وأمى، ما أطيبك حيا وميتا. ولم ير من رسول الله صلى الله عليه وسلم شىء مما يرى من الميت «1» .
وكانت عائشة رضى الله عنها تقول: لو استقبلت من أمرى ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه «2» .
ولما فرغ من غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن فى ثلاث أثواب.
قال ابن إسحاق «3» فى حديث يرفعه إلى على بن حسين: ثوبين صحاريين، وبرد حبرة أدرج فيه إدراجا «4» .
وخرج مسلم فى صحيحه من حديث عائشة، قالت: كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ثلاثة
__________
(1) انظر: الطبقات لابن سعد (2/ 280) ، تاريخ الطبرى (2/ 238) ، سنن ابن ماجه فى كتاب الجنائز باب ما جاء فى غسل النبى صلى الله عليه وسلم (1/ 1467) .
(2) انظر: مسند أبى داود الطيالسى (ص 215 ج 1530) .
(3) انظر: السيرة (4/ 288) .
(4) انظر: التمهيد لابن عبد البر (2/ 163) ، الدلائل للبيهقى (7/ 248) ، صحيح البخارى فى كتاب الجنائز (3/ 1264) ، صحيح مسلم فى كتاب الجنائز (2/ 650، 651) ، سنن أبى داود فى كتاب الجنائز باب فى الكفن (3/ 3151) ، سنن الترمذى فى كتاب الجنائز (3/ 996) ، سنن النسائى (1896) ، سنن ابن ماجه (1/ 1469) ، موطأ مالك (1/ 5/ 223) ، مسند الإمام أحمد (6/ 40، 132، 165، 192، 204، 231) .(2/59)
أثواب بيض سحولية من كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة «1» .
زاد الترمذى قال: فذكروا لعائشة قولهم: فى ثوبين وبرد حبرة. فقالت: قد أتى بالبرد ولكنهم ردوه ولم يكفنوه فيه.
واختلف المسلمون فى موضع دفنه، فقال قائل: ندفنه فى مسجده، وقال آخر: بل ندفنه مع أصحابه، وقال أبو بكر رضى الله عنه: ادفنوه فى الموضع الذى قبض فيه، فإن الله لم يقبض روحه إلا فى مكان طيب، فعلموا أن قد صدق «2» .
وفى رواية أنه قال لهم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما قبض نبى إلا دفن حيث يقبض.
فرفع فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى توفى عليه، فحفر له تحته.
ولما أرادوا أن يحفروا له، وكان أبو عبيدة بن الجراح يضرح كحفر أهل مكة، وكان أبو طلحة زيد بن سهل هو الذى يحفر لأهل المدينة، وكان يلحد، دعا العباس برجلين، فقال لأحدهما: اذهب إلى أبى عبيدة بن الجراح، وللآخر: اذهب إلى أبى طلحة. اللهم خر لرسول الله، فوجد الذى توجه إلى أبى طلحة أبا طلحة، فجاء به، فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما فرغ من جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء، وضع على سريره فى بيته، ثم دخل الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون عليه أرسالا الرجال، حتى إذا فرغوا أدخل النساء حتى إذا فرغ النساء أدخل الصبيان، ولم يؤم الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد.
ويروى فى حديث أن عليا رضى الله عنه قال: لقد سمعنا همهمة ولم نر شخصا، فسمعنا هاتفا يقول: ادخلوا رحمكم الله فصلوا على نبيكم.
ثم دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وسط الليل، ليلة الأربعاء «3» .
قالت عائشة رضى الله عنها: ما علمنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت
__________
(1) انظر: صحيح مسلم (3/ 39) ، صحيح البخارى (2/ 211) ، سنن أبى داود (3/ 198/ 3151) ، سنن النسائى (490/ 35، 36) ، طبقات ابن سعد (2/ 282- 284) ، دلائل النبوة للبيهقى (7/ 246- 249) .
(2) انظر: طبقات ابن سعد (2/ 275، 292، 299) ، دلائل النبوة للبيهقى (259- 261) .
(3) انظر: السيرة (4/ 289) .(2/60)
المساحى من جوف الليل من ليلة الأربعاء. وكان الذين نزلوا فى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب، والفضل وقثم ابنا عمه العباس، وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أوس بن خولى من الأنصار لعلى بن أبى طالب: يا على، أنشدك الله وحظنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: انزل، فنزل مع القوم.
وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم قطيفة يلبسها ويفترشها، فأخذها شقران مولاه، فدفنها فى القبر: والله لا يلبسها أحد بعدك أبدا، فدفنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما انصرف الناس قالت فاطمة رضى الله عنها لعلى رضى الله عنه: يا أبا الحسن، دفنتم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قالت فاطمة: كيف طابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أما كان فى صدوركم لرسول الله رحمة؟ أما كان معلم الخير؟ قال:
بلى يا فاطمة، ولكن أمر الله الذى لا مرد له، فجعلت تبكى وتندب: وا أبتاه، أجاب ربا دعاه، وا أبتاه من جنة الفردوس مأواه، وا أبتاه، إلى جبريل ينعاه.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أسر إليها فى مرضه أنه مقبوض منه ولا حق بربه، فبكت مشفقة من فراقه، فأسر إليها ثانية أنها أول أهله لحاقا به، فضحكت راضية بالموت مسرورة بوقوعه فى جنب ما تتعجل من لقائه فى حضرة القدس ومحلة الرضوان والكرامة.
ولما دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرف المهاجرون والأنصار عن دفنه، ورجعت فاطمة رضى الله عنها إلى بيتها اجتمع إليها نساؤها فقال:
اغبر أفاق السماء وكورت ... شمس النهار وأظلم العصران
فالأرض من بعد النبى كئيبة ... أسفا عليه كثيرة الرجفان
فليبكه شرق البلاد وغربها ... ولتبكه مضر وكل يمان
وليبكه الطود المعظم جوه ... والبيت ذو الأستار والأركان
يا خاتم الرسل المبارك ضنه ... صلى عليك منزل الفرقان
ويروى أيضا أن فاطمة رضى الله عنها أنشدت بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم متمثلة بشعر سميتها فاطمة بنت الأجهم:
قد كنت لى جبلا ألوذ بظله ... فتركتنى أمشى بأجرد ضاح
قد كنت ذات حمية ما عشت لى ... أمشى البرار وكنت أنت جناحى(2/61)
فاليوم أخضع للذليل وأتقى ... منه وأدفع ظالمى بالراح
وإذا دعت قمرية شجنا لها ... ليلا على فنن دعوت صباحى
ومما ينسب إلى على أو فاطمة رضى الله عنهما:
ماذا على من شم تربة أحمد ... أن لا يشم مدا الزمان غواليا
صبت على مصائب لو أنها ... صبت على الأيام عدن لياليا
وجلست أم أيمن تبكى على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته، وهى حاضنته التى كان يأوى إليها بعد موت أمه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فى بيته لم يدفن بعد، فقيل لها: ما يبكيك يا أم أيمن قد أكرم الله نبيه وأدخله جنته وأراحه من نصب الدنيا، فقالت: إنما أبكى على خبر السماء كان يأتينا غضا جديدا كل يوم وليلة، فقد انقطع عنا ورفع، فعليه أبكى. فعجب الناس من قولها وبكوا لبكائها.
وقال أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما كان اليوم الذى دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شىء، فلما كان اليوم الذى مات فيه أظلم منها كل شىء وما نفضنا أيدينا من التراب، وإنا لفى دفنه حتى أنكرنا قلوبنا.
وقال عبد الله بن عباس رضى الله عنهما: ولد النبى صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، ونبئ يوم الاثنين، وخرج مهاجرا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين، وقدم المدينة يوم الاثنين، وقبض يوم الاثنين، فيا لهذا اليوم كم خير تسبب فيه إلى أهل الأرض، وأى مصيبة نزلت فيه بمنية ضاق عنها منفسح الطول والعرض.
وقد حدثنا ابن عباس أيضا أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كان له فرطان من أمتى أدخله الله بهما الجنة» «1» . فقالت عائشة: فمن كان له فرط من أمتك؟ قال: «ومن كان له فرط يا موفقة» «2» قالت: فمن لم يكن له فرط من أمتك؟ قال: «فأنا فرط لأمتى، لن يصابوا بمثلى» «3» .
ولله در شاعره حسان بن ثابت إذ يقول:
__________
(1) انظر الحديث فى: سنن الترمذى (1062) ، مسند الإمام أحمد (1/ 334) ، السنن الكبرى للبيهقى (4/ 68) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (1735) ، كنز العمال للمتقى الهندى (6572، 6609) ، تاريخ بغداد للخطيب البغدادى (12/ 208) .
(2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (1/ 335) ، الشمائل للترمذى (212) .
(3) انظر الحديث فى: هامش المواهب (200) .(2/62)
وهل عدلت يوما رزية هالك ... رزية يوم مات فيه محمد
وهذا البيت من قصيدة له يرثى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنذكرها بعد فى مراثيه.
وروى أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليعز المسلمين فى مصائبهم المصيبة بى» «1» .
فيا لها والله مصيبة أحرقت الأكباد، وغمرت بالأسف والحزن الآماد والآباد، ورزآ ثقيلا آد كاهل الإيمان منه ما آد، وخطبا جليلا أودى بكل صبر جميل أو كاد:
والصبر يحمد فى المواطن كلها ... إلا عليك فإنه مذموم
ولولا أن الله سبحانه وتعالى ربط على القلوب من بعده بأمر من عنده لأودت مكانها كمدا، ولما وجدت إلى البقاء متسلفا، ولا عن وحى القنا ملتحدا، ولو رجفت الأرض لفقدان أحد لأصبحت لفقدانه راجفة، ولو نسفت الجبال لمهلك هالك لغدت رواسيها على حكم الأسف متناسفة، ولو كسفت النيرات لمصرع حى لأمست دررها منثورة لمصرعه، ولو تغيرت المشارع المورودة لموت إنسان لأمر لموته على كل وارد عذب مشرعه هيهات هيهات، ذلك والله الرزأ الكبار، والنازلة التى يعيى بها الاحتمال والاصطبار، والخطر الذى تقاصر دونه الأخطار، والخطب الذى تشقى بمضاضة مشاهدته المهاجرون والأنصار، والمفقود الذى لا عوض منه أبدا وإن تراخت الأيام وتطاولت الأعصار، ولو غير الأقدار أصابته لبدلت دونه أعلاق المهج، أو غير المنايا نابتة لتعذر على قاصده وجه السبيل المنتهج، ولكنها السبيل التى لا يتخطاها سالك، وما سبقت به مشيئة الدائم الباقى الذى كل شىء إلا وجهه هالك، فلا مجال للدفاع، ولا حيلة فى الامتناع، ولا غناء للأعوان والأتباع، ولا شىء يضمه حكم الممكن المستطاع غير الانقياد لأمر الله والإهطاع، ولهفا عليه، ويا برح شوق القلوب المشربة نور الإيمان به، وشدة نزاعها إليه، وبالدموع أجريت عليه، صلوات الله وبركاته عليه، لقد وجدت مجرا، وأوجبت أجرا وحرمت لهيا عن أسبابها وزجرا، ولقد كان من يقدم المدينة بعد أن استأثر به مولاه الذى شرح له صدرا، ورفع له ذكرا وقدرا، إذا أشرفوا عليها سمعوا لأهلها ضجيجا يصم السميع، وللبكاء فى جنباتها عجيجا أصحل الحلوق ونزف الدموع.
حدث أبو ذؤيب الهذلى فقال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليل، فاستشعرت حزنا، وبت بأطول ليلة لا ينجاب ديجورها، ولا يطلع نورها، فظللت أقاسى طولها حتى إذا كان قرب السحر أغفيت فهتف بى هاتف وهو يقول:
__________
(1) انظر الحديث فى: السلسلة الصحيحة للألبانى (1106) ، موطأ مالك (236) .(2/63)
خطب أجل أناخ بالإسلام ... بين النخيل ومعقد الأطام
قبض النبى محمد فعيوننا ... تذرى الدموع عليه بالتسجام
قال أبو ذؤيب: فوثبت من نومى فزعا، فنظرت إلى السماء، فلم أر إلا سعد الذابح، فتفاءلت به، ذبح يقع فى العرب، وعلمت أن النبى صلى الله عليه وسلم قد قبض، أو هو ميت من علته، فركبت ناقتى وسرت، فلما أصبحت طلبت شيئا أزجر به، فعن لى شيهم يعنى القنفذ قد قبض على صل يعنى الحية فهى تلتوى عليه، والشيهم يقضها حتى أكلها، فزجرت ذلك وقلت: شيهم شىء مهم، والتواء الصل التواء الناس عن الحق على القائم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أكل الشيهم إياها غلبة القائم بعده على الأمر، فحثثت ناقتى حتى إذا كنت بالغابة زجرت الطائر فأخبرنى بوفاته، ونعب غراب سانح، فنطق بمثل ذلك، فتعوذت بالله من شر ما عن لى فى طريقى، وقدمت المدينة ولها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج إذا أهلوا بالإحرام، فقلت: مه؟ فقالوا: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت المسجد، فوجدته خاليا، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدت بابه مرتجا، وقيل إلى الأنصار، فجئت إلى السقيفة، فأصبت أبا بكر وعمر وأبا عبيدة بن الجراح وسالما مولى أبى حذيفة وجماعة من قريش، ورأيت الأنصار فيهم سعد بن عبادة، وفيهم شعراؤهم: حسان بن ثابت وكعب بن مالك وملأ منهم، فآويت إلى قريش وتكلمت الأنصار، فأطالوا الخطاب، وأكثروا الصواب، وتكلم أبو بكر رضى الله عنه فلله دره من رجل لا يطيل الكلام ويعلم مواضع فصل الخطاب، والله لقد تكلم لكلام لا يسمعه سامع إلا انقاد له ومال إليه، ثم تكلم عمر رضى الله عنه بعده دون كلامه، ومد يده وبايعوه، ورجع أبو بكر ورجعت معه.
قال أبو ذؤيب: فشهدت الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم وشهدت دفنه.
ثم أنشد أبو ذؤيب يبكى النبى صلى الله عليه وسلم:
لما رأيت الناس فى غسلاتهم ... ما بين ملحود له ومضرح
متبادلين لشرجع بأكفهم ... نص الرقاب لفقد أبيض أروح
فهناك صرت إلى الهموم ومن بيت ... جار الهموم يبيت غير مروح
كسفت لمصرعه النجوم وبدرها ... وتزعزعت آطام بطن الأبطح
وتزعزعت أجيال يثرب كلها ... ونخيلها لحلول خطب مفدح
ولقد زجرت الطير قبل وفاته ... بمصابه وزجرت سعد الأذبح
وذكر الزبير بن أبى بكر بإسناد له إلى هشام بن عروة: أن صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت ترثى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما توفى:(2/64)
ألا يا رسول الله كنت رجاءنا ... وكنت بنا برا ولم تك جافيا
وكنت رحيما هاديا ومعلما ... ليبك عليك اليوم من كان باكيا
لعمرك ما أبكى النبى لفقده ... ولكن لما أخشى من الهرج آتيا
كأن على قلبى لذكر محمد ... وما خفت من بعد النبى المكاويا
أفاطم صلى الله رب محمد ... على جدث أمسى بيثرب ثاويا
فدا لرسول الله أمى وخالتى ... وعمى وآباى ونفسى وماليا
صدقت وبلغت الرسالة صادقا ... ومت صليب العود أبلج صافيا
فلو أن رب الناس أبقى نبينا ... سعدنا ولكن أمره كان ماضيا
عليك من الله السلام تحية ... وأدخلت جنات من العدن راضيا
أرى حسنا أيتمته وتركته ... يبكى ويدعو جده اليوم نائيا
وقال أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم «1» يبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أرقت فات ليلى لا يزول ... وليل أخى المصيبة فيه طول
وأسعدنى البكاء وذاك فيما ... أصيب المسلمون به قليل
لقد عظمت مصيبتنا وجلت ... عشية قيل قد قبض الرسول
وأضحت أرضنا مما عراها ... تكاد بنا جوانبها تميل
فقدنا الوحى والتنزيل فينا ... يروح به ويغدو جبرئيل
وذاك أحق ما سالت عليه ... نفوس الناس أو كربت تسيل
نبى كان يجلو الشك عنا ... بما يوحى إليه وما يقول
ويهدينا فلا نخشى ضلالا ... علينا والرسول لنا دليل
أفاطم إن جزعت فذاك عذر ... وإن لم تجزعى ذاك السبيل
فقبر أبيك سيد كل قبر ... وفيه سيد الناس الرسول
ولما بلغت عمرو بن العاص السهمى وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ بعمان، قال يرثيه:
أتانى ورحلى فى عمان مصيبة ... فبت بعين طرفها طرف أرمد
غداة نعى الناس النبى محمدا ... فأعزز علينا بالنبى محمد
فقدنا به وحى السماء ونعمة ... تروح علينا بالمراد وتغتدى
وأوحش منه منبر كان زينة ... ومسجده وحش فيها خير مسجد
__________
(1) انظر ترجمته فى: تجريد أسماء الصحابة (2/ 173) ، الإصابة ترجمة رقم (10028) .(2/65)
فلو كنت يوما شاهدا لوفاته ... لمست ترابا من ضريحته يدى
بإذن يراه أهله ومكيده ... أسود بها ما عشت يومى وفى غد
كما نالها منه المغيرة خدعة ... وما أنا دون الطائفى الجفيدد
يريد: المغيرة بن شعبة الثقفى، وكان يدعى أنه أحدث الناس عهدا برسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: أخذت خاتمى فألقيته فى القبر، وقلت: إن خاتمى سقط منى، وإنما طرحته عمدا لأمس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكون أحدث الناس عهدا به صلى الله عليه وسلم.
وكان على بن أبى طالب رضى الله عنه ينكر ذلك من قول المغيرة ويأباه، ويقول:
أحدث الناس عهدا برسول الله صلى الله عليه وسلم قثم بن عباس.
وذكر وثيمة بن موسى أن عبد الله بن أنيس الجهنى «1» كان غائبا ببعض ضواحى المدينة، فلما انتهى إليه الخبر بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أظلمت عليه الأرض، ثم قال: والله، لو أن ميتا رده قتل حى نفسه لقتلت نفسى، ولكن أفرغ إلى أمر الله، إنا لله وإنا إليه راجعون. ثم سأل الذى أخبره: هل استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا بعينه؟ قال: لا والله.
قال: الله اكبر، لو استخلفه هلكنا بمعصية. فهل اجتمع الناس على رجل؟ قال: أمر نبى الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يصلى بالناس. قال: هى إعلام الإمامة، وليس كل من صلى بإمام. ما فعل على؟ قال: هو فى بيته. قال: لا يريدها يا ابن أخى، لها ثلاثة من قريش: على وأبو بكر وعمر، من ادعى منازلهم قصر دونهم. ما صنعت الأنصار؟ قال: اعتزلت، قال:
كلا، طائف من الشيطان، لم يكن الله ليخذلهم مع ما سبق لهم، بت عندى الليلة فإنى عليل ولا أرانى إلا لما بى من هذه الصدمة، ولكن أبلغ عنى قريشا، فقال:
نفا النوم ما لا تبتغيه الأصابع ... وخطب جليل للبلية جامع
غداة نعى الناعى إلينا محمدا ... وتلك التى تستك منها المسامع
فلو رد نفسا قتل نفس قتلتها ... ولكنه لا يدفع الموت دافع
فآليت لا أبكى على هلك هالك ... من الناس ما أؤسى ثبير وفارغ
__________
(1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (4565) ، أسد الغابة ترجمة رقم (2827) ، الثقات (3/ 234) ، حلية الأولياء (2/ 5) ، حسن المحاضرة (1/ 211) ، شذرات الذهب (1/ 60) ، البداية والنهاية (8/ 57) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 298) ، تهذيب التهذيب (5/ 149) ، العبر (1/ 59) ، الجرح والتعديل (5/ 1) ، تلقيح فهوم أهل الأثر (367) ، التاريخ الكبير (3/ 14) ، تهذيب الكمال (2/ 666) ، الطبقات (118) ، الكاشف (2/ 73) ، تقريب التهذيب (1/ 402) ، الوافى بالوفيات (17/ 76) ، الأنساب (2/ 178) ، بقى بن مخلد (113) .(2/66)
ولكننى باك عليك ومتبع ... مصيبته إنى إلى الله راجع
وقد قبض الله النبيين قبله ... وعادا أصيب بالورى والتتابع
فإن مات فالإسلام حى وربنا ... لذا الدين مما كاده اليوم مانع
فيا ليت شعرى من يقوم بأمرنا ... وهل لقريش يا إمام منازع
ثلاثة رهط من قريش هم هم ... أزمة هذا الأمر والله صانع
على أو الصديق أو عمر لها ... وليس لها بعد الثلاثة رابع
أولئك خير الحى فهر بن مالك ... وأول من تجنى عليه الأصابع
أولئك إن قاموا به سلكوا بنا ... محجتنا العظمى وقل التنازع
وكل قريش والذى أنا عبده ... على كل حال للثلاثة تابع
فإن قال منا قائل غير هذه ... أبينا وقلنا الله راء وسامع
فيا لقريش قلدوا الأمر بعضكم ... فإن ضجيع العجز للسن قارع
ولا تبطئوا عنها فواقا فإنها ... إذا قطعت لم تسر فيها المطامع
قال: فانتهى الرجل إلى قريش وقد انطلق المهاجرون إلى الأنصار، وكان من أمرهم الذى كان، فرجع إلى عبد الله بن أنيس، فأخبره الخبر، ففرح بذلك.
ولأبى الهيثم بن التيهان الأنصارى فى نحو هذا المعنى شعر قاله وقد مر به أبو بكر الصديق رضى الله عنه قبل مبايعة الناس إياه، فشكى إليه وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو الهيثم: وقد والله شمتت اليهودية والنصرانية، وبلغنى عن الناس أمر ساءنى، فرجع أبو الهيثم إلى منزله، فقال:
ألا قد أرى أن المنى لم تخلد ... لأن المنايا للنفوس بمرصد
لقد جدعت أذاننا وأنوفنا ... غداة فجعنا بالنبى محمد
تكلم أهل الشرك من بعد غلظة ... لغيبة هاد كان فينا ومهتدى
ثلاثة أصناف من الناس كلهم ... يروح علينا بالشنان ويغتدى
نصارى يقولون الفرى ومنافق ... شبيه بذاك الشامت المتهود
وأوعد كذاب اليمامة جهده ... فأجلب عودا باللسان وباليد
فإن تك هذا اليوم منهم شماتة ... فلا يأمنوا ما يحدث الله فى غد
وما نحن إن لم يجمع الله أمرنا ... بخير قريش كلها بعد أحمد
بأمنع من شاء يقفر مطيرة ... بقيعة قاع أو ضباب بفدفد
وإنى لأرجو أن يقوم بأمرنا ... على أو الصديق والمرء من عدى(2/67)
أولئك خيار الحى فهر بن مالك ... وأنصار هذا الدين من كل معتدى
ولما انتهت إلى همدان وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلمت سفاؤهم بما كرهت ظماؤهم، فقال عبد الله بن مالك الأرض، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له هجرة وفضل فى دينه، فاجتمعت إليه همدان، فقال:
يا معشر همدان، إنكم لم تعبدوا محمدا، إنما عبدتم رب محمد، وهو الحى الذى لا يموت، غير أنكم أطعتم رسولكم بطاعة الله فدعاكم فأجبتموه، وهداكم فاتبعتموه، واعلموا أنه ولى نعمتكم فى دينكم ودنياكم، فأما دينكم فاستنقذكم الله به من النار، وأما دنياكم فاستنقذكم الله به من الرق، ولم يكن الله ليجمع صحابة رسوله على ضلال، وقد وعدهم أن يهديهم عندما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فأطيعوا من اختاروا، وقدموا من قدموا، فى كلام غير هذا تكلم به على هذا المثال، ونسجه على هذا المنوال.
وقال فى ذلك:
لعمرى لئن مات النبى محمد ... لما مات يا ابن القيل رب محمد
وما كان إلا مرسلا برسالة ... ليبلغها والحادثات بمرصد
ولما قضى من ذاك ما كان قاضيا ... ولم يبق شىء فيه إلحاد ملحد
دعاه إليه ربه فأجابه ... فيا خير غورى ويا خير منجد
وما نحن إلا مثل من كان قبلنا ... فريقين شتى كافر وموحد
ونحن على ما كان بالأمس بيننا ... من الدين نهدى من أراد فيهتدى
ثم قام ابن ذى مران، وكان من سادات همدان وملوكهم، فتكلم فيهم، فأطال نفس الكلام، وحرض على التمسك بالدين، وحمل على الطاعة للقائم بالأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال يرثيه ويتفجع للمصيبة فيه:
إن حزنى على الرسول طويل ... ذاك منى على الرسول قليل
قلت والموت يا إمام كريه ... ليتنى مت يوم مات الرسول
ليتنى لم أكن بقيت فواقا ... بعده والفواق منى طويل
بكت الأرض والسماء عليه ... وبكاه خليله جبريل
يا لها رحمة أصيب بها النا ... س تولت وحان منها الرحيل
جدعت منهم الأنوف فللقل ... ب خفوق وللجفون همول
ليس للناس إمام من الأم ... ر فتيل وأين منك الفتيل(2/68)
إنما الأمر للذى خلق الخل ... ق وفى خلقه عليه دليل
فى أبيات غير هذه يؤنس فيها المهاجر بن أبى أمية بن المغيرة، وكان أميرا عليهم من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بما عند قومه من حسن الطاعة له والقيام فى الحق معه.
ثم قام ابن ذى المشغار، وكان ملك أهل ناحيته، وكان متألها، فتكلم أيضا فى هذا النحو بكلام حسن، نظما ونثرا، فلما فرغ من مقالته أتاه مسروق بن الحارث القوال الأرحبى، فقال له:
أيها الملك، إنه لا يعرف عندك فى قريش إلا رجل مثلى من قومك، أنا القوال ابن القوال، الفارس ابن الفارس، ابعثنى إلى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقوم مقاما شريفا أباهى به فيك الناس.
فسرحه، فلما قدم مسروق على أبى بكر رضى الله عنه تهيأت له قريش، وقالوا:
خطيب همدان وفتاها، فتكلم عندهم بكلام تركنا ذكره وذكر ما أنشد معه من الشعر، إذ ليس مناسبا لما نحن الآن بسبيله من ذكر مراثى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سمعت قريش شعره وخطبته، عجبت منه، وكان معه عبد الله بن سلمة الهمدانى، فقام فقال: يا معشر قريش، إنكم لم تصابوا بنبى الله صلى الله عليه وسلم دون سائر العرب، لأنه لم يكن لأحد دون أحد، وأيم الله، لا أدرى أى الرجلين أشد حزنا عليه، وأعظم مصابا به، من عاينه فغاب عنه عيانه، أو من أشرف على رؤيته، فلم يره؟ غير أنا معترفون للمهاجرين بفضل هجرتهم، وللأنصار بفضل نصرتهم، والتابع ناصر، والمؤمن مهاجر فى كلام غير هذا صدر عن قلب مؤمن، وجأش به خاطر شديد، فأثنى عليه أبو بكر خيرا، وحمدته قريش، وكان سيدا، فقال:
إن فقد النبى جدعنا اليو ... م فدته الأسماع والأبصار
وفدته النفوس ليس من المو ... ت فرار وأين أين الفرار
ما أصيبت به الغداة قريش ... لا ولا أفردت به الأنصار
دون من وجه الصلاة إلى الل ... هـ وقد هنئت به الكفار
ورجال منافقون شمات ... ويوم واروه كفرهم إسرار
من بكته السماء تسعدها الأر ... ض وبكت بعد القفار البحار
وسرافيل قد بكاه وجبري ... ل وميكال والملأ الطهار
يا لها كلمة يضيق بها الحل ... ق أتانا بنقلها السفار(2/69)
قيل مات النبى فانصدع القل ... ب وشابت من هولها الأشعار
فعليه السلام ما هبت الري ... ح ومدت جنح الدجى أنوار
وقال سواد بن قارب الدوسى «1» ، وهو الذى كان كاهنا فأسلم فحسن إسلامه بإرشاد ربه إياه إلى ذلك حسب ما تقدم صدر كتابنا هذا من خبره يبكى النبى صلى الله عليه وسلم لما بلغت أسد السراة وفاته، وبعد أن قام فيهم مقاما محمودا، يثبتهم فى الدين، ويحذرهم سوء عاقبة الارتداد، وكان قد سادهم وشرف فيهم، فأجابوه إلى ما أراد، وقبلوا رأيه، وقال:
جلت مصيبتك الغداة سواد ... وأرى المصيبة بعدها ترداد
أبقى لنا فقد النبى محمد ... صلى الإله عليه ما يعتاد
حزنا لعمرك فى الفؤاد مخامرا ... أو هل لمن فقد النبى فؤاد
كنا نحل به جنابا ممرعا ... خف الجناب فأجدب الرواد
فبكت عليه أرضنا وسماؤنا ... وتصدعت وجدا به الأكباد
قل المتاع به وكان عيانه ... حلما تضمن سكريته رقاد
كان العيان هو الطريف وحزنه ... باق لعمرك فى النفوس تلاد
إن النبى وفاته كحياته ... والحق حق والجهاد جهاد
لو قيل تفدون النبى محمدا ... بذلت له الأموال والأولاد
وتسارعت فيها النفوس لبذلها ... هذا له الأغياب والأشهاد
هذا وهذا لا يرد نبينا ... لو كان يفديه فداء سواد
وقال عبد الحارث بن أسد بن الريان من أهل نجران يبكى النبى صلى الله عليه وسلم لما بلغتهم وفاته، بعد قيامه فيهم أحمد مقام، يحرضهم على التمسك بالدين والثبوت على الإسلام، ويذكرهم نعمة الله عليهم، بالدخول فيه واللحاق بمن هاجر إليه، ويقول لهم فيما قال:
إنما كان نبى الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم عارية، فأتى عليه أجله، وبقى الكتاب الذى كان يحكم به، ويحكم عليه، فأمره أمر ونهيه نهى إلى يوم القيامة، وقد سهل لكم الطريق فاسلكوه، ولا بد من جولة، فكونوا فيها ذوى إناة، وقد اختار القوم لأنفسهم رجلا لا يألوهم خيرا، فأطيعوا قريشا ما أطاعوا الله، فإذا عصوه فاعصوهم، فإنه لا ينبغى لآخرنا أن يملك
__________
(1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (3596) ، أسد الغابة ترجمة رقم (2334) ، الثقات (3/ 179) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 248) ، الوافى بالوفيات (16/ 35) ، التاريخ الكبير (4/ 202) ، الأعلام (3/ 144) .(2/70)
إلا بما ملك به أولنا، وهى النبوة، فميراثها منها فى كلام غير هذا حسن أبلى به عذرا، وبالغ لقومه نصحا.
وقال:
لعمرى لئن كان النبى محمد ... عليه السلام الله أودى به القدر
لقد كسفت شمس النهار لفقده ... وبكت عليه الأرض وانكسف القمر
وبكته آفاق السماء وما لها ... وللأرض شجو غير ذاك ولا عبر
ولو قيل تفدون النبى محمدا ... لقلنا نعم بالنفس والسمع والبصر
وقل له منا الفداء وهذه ... وإن بذلت لا يسترد بها بشر
فإن يك وافاه الحمام فدينه ... على كل دين خالف الحق قد ظهر
ونحن بحمد الله هامة مذحج ... بنو الحارث الخير الذين هم الغرر
بنجران نعطى من سعى صدقاتنا ... موفرة ما فى الخدود لها صعر
ونحن على دين النبى نرى الذى ... نهانا حراما منه والأمر ما أمر
أحاذر إن لم يدفع الله جولة ... مجدعة يبيض من هولها الشعر
يحين فيها الله من خف حلمه ... ويسعد فيها ذو الأناة بما صبر
نطيع قريشا ما أطاعوا فإن عصوا ... أبينا ولم نشر السلامة بالغرر
وكان لهذا الأمر منهم ثلاثة ... على أو الصديق أو ثالث عمر
فلم يخطئوا إذا سددوها لبعضهم ... هم ما هم كل لإرعاده مطر
وأمثال هذه المقالات نثرا ونظما لرجال من سادات العرب وأشراف القبائل بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، قاموا بها فى قومهم يحذرونهم من الفتنة، ويحرضونهم على التمسك بالطاعة لمن قام بالأمر.
وقد ذكر المؤلفون فى الردة كثيرا منها، وهى بذلك الباب أخص، وإنما تخيرت هنا منا ما يتعلق نظمه بباب الرثاء، ويبعث فى حق المصطفى على التفجع والبكاء، حشدا على الداهية الدهياء، واستعانة على الحادثة النكراء، وعظيم المصيبة بوفاة من حق فى حقه بكاء الأرض والسماء، وقل لفقده أن تسح المدامع عوض الدموع بالدماء:
هو الرزء الذى ابتدأ الرزايا ... وقال لأعين الثقلين جودى
وقال حسان بن ثابت الأنصارى «1» يبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) انظر: السيرة (4/ 292) .(2/71)
بطيبة رسم للرسول ومعهد ... منير وقد تعفو الرسوم وتهمد
«1»
ولا تمتحى الآيات من دار حرمة ... بها منبر الهادى الذى كان يصعد
وواضح آثار وباقى معالم ... وربع له فيه مصلى ومسجد
بها حجرات كان ينزل وسطها ... من الله نور يستضاء ويوفد
معارف لم تطمس على العهد أيها ... أتاها البلى فالآى منها تجدد
عرفت بها رسم الرسول وعهده ... وقبرا بها واراه فى التراب ملحد
ظللت بها أبكى الرسول فأسعدت ... عيون ومثلاها من الجفن تسعد
يذكون ألاء الرسول وما أرى ... لها محصيا نفسى فنفسى تبلد «2»
مفجعة قد شفها فقد أحمد ... فظلت لآلاء الرسول تعدد «3»
وما بلغت من كل أمر عشيره ... ولكن لنفسى بعد ما قد توجد «4»
اطالت وقوفا تذرف العين جهدها ... على طلل القبر الذى فيه أحمد
فبوركت يا قبر الرسول وبوركت ... بلاد ثوى فيها الرشيد المسدد
وبورك لحد منك ضمن طيبا ... عليه بناء من صفيح منضد «5»
تهيل عليه الترب أيد واعين ... عليه وقد غارت بذلك أسعد
لقد غيبوا حلما وعلما ورحمة ... عشية علوه الثرى لا يوسد
وراحوا بحزن ليس فيهم نبيهم ... وقد وهنت منهم ظهور وأعضد
يبكون من تبكى السموات يومه ... ومن قد بكته الآرض فالناس أكمد
وهل عدلت يوما رزية هالك ... رزية يوم مات فيه محمد
تقطع فيه منزل الوحى عنهم ... وقد كان ذا نور يغور وينجد «6»
يدل على الرحمن من يقتدى به ... وينفذ من هول الخزايا ويرشد
إمام لهم يهديهم الحق جاهدا ... معلم صدق أن يطيعوا ويسعدوا
__________
(1) طيبة: اسم مدينة النبى. والرسم: ما بقى من آثار الدار. وتعفو: أى تدرس وتتغير. وتهمد: أى تبلى.
(2) تسعد: أى تعين.
(3) شفها: أى أضعفها.
(4) العشير: أى العشر. وتوجد: من الوجد، وهو الحزن.
(5) الصفيح: الحجارة العريضة. والمنضد: الذى جعل بعضه على بعض.
(6) يغور: أى يبلغ الغور، وهو المنخفض من الأرض. وينجد: أى يبلغ النجد، وهو المرتفع من الأرض.(2/72)
عفو عن الزلات يقبل عذرهم ... وإن يحسنوا فالله بالخير أجود
وإن ناب أمر لم يقوموا بحمله ... فمن عنده تيسير ما يتشدد
فبينا هم من نعمة الله وسطهم ... دليل به نهج الطريق يقصد
عزيز عليه أن يجوروا عن الهدى ... حريص على أن يستقيموا ويهتدوا
عطوف عليهم لا يثنى جناحه ... إلى كتف يحنو عليهم ويمهد «7»
فبينا هم فى ذلك النور إذ غدا ... إلى نورهم سهم من الموت مقصد
فأصبح محمودا إلى الله راجعا ... يبكيه جن المرسلات ويحمد
وأمست بلاد الحرم وحشا بقاعها ... لغيبة ما كانت من الوحى تعهد
قفارا سوى معمورة اللحد ضافها ... فقيد نبكيه بلاط وغرقد
ومسجده فالموحشات لفقده ... خلاء له فيها مقام ومقعد
وبالجمرة الكبرى له ثم أوحشت ... ديار وعرصات وربع ومولد
فبكى رسول الله يا عين عبرة ... ولا أعرفنك الدهر دمعك يجمد
ومالك لا تبكين ذا النعمة التى ... على الناس منها سابغ يتغمد
فجودى عليه بالدموع وأعولى ... لفقد الذى لا مثله الدهر يوجد
وما فقد الماضون مثل محمد ... ولا مثله حتى القيامة يفقد
أعف وأوفى ذمة بعد ذمة ... وأقرب منه نائلا لا ينكد
وأبذل منه للطريف وتالدا ... إذا ضن معطاء بما كان يتلد «8»
وأكرم صيتا فى البيوت إذا انتهى ... وأكرم جدا أبطحيا يسود «9»
وأمنع ذروات وأثبت فى العلا ... دعائم عز شاهقات تشيد
وأثبت فرعا فى الفروع ومنبتا ... وعودا غذاه المزن فالعود أغيد
رباه وليدا فاستتم تمامه ... على أكرم الخيرات رب ممجد
تناهت وصاة المسلمين بكفه ... فلا العلم محبوس ولا الرأى يفند
أقول ولا يلقى لما قلت عائب ... من الناس إلا عازب العقل مبعد «10»
وليس هواى نازعا عن ثنائه ... لعلى به فى جنة الخلد أخلد
__________
(7) الكنف: أى الجانب والناحية.
(8) الطريف: المال المستحدث. والتالد: المال القديم الموروث. وضن: أى بخل. ويتلد: أى يكتسب قديما.
(9) الصيت: أى الذكر الحسن. والأبطحى: المنسوب إلى أبطح مكة، وهو موضع سهل متسع.
(10) عازب العقل: بعيد العقل غائبه.(2/73)
مع المصطفى أرجو بذاك جواره ... وفى نيل ذاك اليوم أسعى وأجهد
وقال حسان بن ثابت «1» يبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ما بال عينك لا تنام كأنما ... كحلت مآقيها بكحل الأرمد
جزعا على المهدى أصبح ثاويا ... يا خير من وطئ الحصى لا تبعد
وجهى يقيك الترب لهفا ليتنى ... غيبت قبلك فى بقيع الغرقد
بأبى وأمى من شهدت وفاته ... فى يوم الاثنين النبى المهتدى
فظللت بعد وفاته متبلدا ... متلدا يا ليتنى لم أولد
أأقيم بعدك فى المدينة بينهم ... يا ليتنى صبحت سم الأسود
أو حل أمر الله فينا عاجلا ... فى روحة من يومنا أو من غد
فتقوم ساعتنا فنلقى طيبا ... محضا ضرائبه كريم المحتد
يا بكر آمنة المبارك ذكرها ... ولدته محصنة الأسعد
نورا أضاء على البرية كلها ... من يهد للنور المبارك يهتدى
يا رب فاجمعنا معا ونبينا ... فى جنة تبنى عيون الحسد
فى جنة الفردوس فاكتبها لنا ... يا ذا الجلال وذا العلا والسؤدد
والله أسمع ما بقيت بهالك ... إلا بكيت على النبى محمد
يا ويح أنصار النبى ورهطه ... بعد المغيب فى سواء الملحد
ضاقت بالانصار البلاد فأصبحوا ... سودا وجوههم كلون الأثمد
ولقد ولدناه وفينا قبره ... وفضول نعمته بنا لم تجحد
والله أكرمنا به وهدى به ... أنصاره فى كل ساعة مشهد
صلى الإله ومن يحف بعرشه ... والطيبون على المبارك أحمد
وقال حسان بن ثابت «2» أيضا يبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم:
نب المساكين أن الخير فارقهم ... مع النبى تولى عنهم سحرا
من ذا الذى عنده رحلى وراحلتى ... ورزق أهلى إذا لم يؤنسوا المطرا
أم من نعاتب لا نخشى جنادعه ... إذا اللسان عتا فى القول أو عثرا
كان الضياء وكان النور نتبعه ... بعد الإله وكان السمع والبصرا
يا ليتنا يوم واروه بملحده ... وغيبوه وألقوا فوقه المدارا
__________
(1) انظر: السيرة (4/ 295) .
(2) انظر: السيرة (4/ 296) .(2/74)
لم يترك الله منا بعده أحدا ... ولم يعش بعده أنثى ولا ذكرا
ذلت رقاب بنى النجار كلهم ... وكان أمرا من أمر الله قد قدرا
واقتسم الفىء دون الناس كلهم ... وبددوه جهارا بينهم هدرا
وقال حسان بن ثابت أيضا يبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم:
آليت ما فى جميع الناس مجتهدا ... منى ألية بر غير إفناد «1»
تالله ما حملت أنثى ولا وضعت ... مثل الرسول نبى الأمة الهادى
ولا برا الله خلقا من بريته ... أو فى بذمة جار أو بميعاد
من ذا الذى كان فينا يستضاء به ... مبارك الأمر ذا عدل وإرشاد
أمسى نساؤك عطلن البيوت فما ... يضربن فوق قفا ستر بأوتاد
مثل الرواهب يلبسن المباذل قد ... أيقن بالبؤس بعد النعمة الباد
«2»
يا أفضل الناس إنى كنت فى نهر ... أصبحت منه كمثل المفرد الصادى «3»
وقال كعب بن مالك الأنصارى من كلمة يبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وباكية حرى تحرق بالبكا ... وتلطم منها خدها والمقلدا
على هالك بعد النبى محمد ... ولو عدلت لم تبك إلا محمدا
فلست بباك بعد فقد محمد ... فقيدا وإن كان القريب المسودا
فجعنا بخير الناس حيا وميتا ... وأدناه من أهل السموات مقعدا
وأعظمه فقدا على كل مسلم ... وأكرمه فى الناس كلهم يدا
متى تنزل الأملاك بالوحى بعده ... علينا إذ ما اللبس فينا ترددا
إذا كان منه القول كان موفقا ... وإن كان وحيا كان نورا مجددا
جزى الله عنا ربنا خير ما جزى ... نبى الهدى الداعى إلى الحق أحمدا
وقال عمرو بن سالم الخزاعى يبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لعمرى لئن جادت لك العين بالبكا ... لمحقوقة أن تستهل وتدمعا
فيا حفص إن الأمر جل عن البكا ... غداة نعى الناعى النبى فأسمعا
فلم أر يوما كان أعظم حادثا ... ولم أر يوما كان أكثر موجعا
__________
(1) الألية: اليمين والحلف. والإفناد: العيب والخطأ.
(2) المباذل: الأثواب التى تستعمل يوميا، أو الأثواب الخلقة.
(3) الصادى: العاطش أو الشديد العطش.(2/75)
ولم أر من يوم أعم مصيبة ... ولا ليلة كانت أمر وأفظعا
تعزى بصبر واذكرى الله واعلمى ... بأن سوف يجزى كل ساع بما سعى
ولا تزرئى محض الحياء فتفجعى ... بدينك والدنيا فتزريهما معا
فإن يك قد مات النبى فبعدما ... نعى نفسه بدآ وعودا فأسمعا
إذا ذكرت نفسى فراق محمد ... تهيج حزنى والفؤاد تقطعا
فيالك نفسا لا يزال يزيدها ... على الدهر طول الدهر إلا تصدعا
جزى منك رب الناس أفضل ما جزى ... نبيا هدانا ثم ولى مودعا
فو الله لا أنساك ما دمت ذاكرا ... لشىء وما قلبت كفا وإصبعا
وقد أكثر الشعراء فى تأبينه صلوات الله عليه قديما وحديثا، وقضوا من التفجيع عليه حقا، لا ينبغى أن يكون عهده نكيشا، ولم يمنعهم تقادم الأيام وتطاول الأعوام من تجديد البكاء عليه، ومزيد الحنين إليه، وبحق ما يكون ذلك، فهو الرزء الذى حقه أن ينسى جميع الأرزاء، والحادث الجلل الذى يقبح معه حسن العزاء، وطواعية الأسف عليه دائما من أعدل الشهادات بالإخلاص لمن قام بها واستقام بالنية والقول على سواء مذهبها، جعلنا الله ممن أحبه حقا، وكتبنا فيمن غدا لشفاعته المشفعة مستحقا.
فمن ذلك ما وقفت عليه لأبى إسحاق إسماعيل بن القاسم الغزى الكوفى، المعروف بأبى العتاهية من كلمة:
على رسول الله منى السلام ... ما كان إلا رحمة للأنام
أحيى به الله قلوبا كما ... أحيى موات الأرض صوب الغمام
أكرم به للخلق من مبلغ ... هاد وللناس به من إمام
وأصبح الحق به قائما ... وأصبح الباطل دحض المقام
وقال إسماعيل بن القاسم أيضا من كلمة أخرى:
ليبك رسول الله من كان باكيا ... ولا تنس قبرا بالمدينة ساويا
جزى الله عنا كل خير محمدا ... فقد كان مهديا دليلا هاديا
لمن تبتغى الذكرى لما هو أهله ... إذا كنت للبر المطهر ناسيا
أتنسى رسول الله أفضل من مشى ... وآثاره بالمسجدين كما هيا
وكان أبر الناس بالناس كلهم ... وأكرمهم بيتا وشعبا وواديا
تكدر من بعد النبى محمد ... عليه سلام الله ما كان صافيا
فكم من منار كان أوضحه لنا ... ومن علم أمسى وأصبح عافيا(2/76)
ركنا إلى الدنيا الدنية بعده ... وكشفت الأطماع منا المساويا
وإنا لنرمى كل يوم بعبرة ... نراها فما نزداد إلا تعاميا
كأنا خلقنا للبقاء وأينا ... وإن مدت الدنيا له ليس فانيا
أبى الموت إلا أن يكون لمن ترى ... من الخلق طرا حيث ما كان لاقيا
حسمت المنى يا موت حسما مبرحا ... وعلمت يا موت البكاء البواكيا
ومزقتنا يا موت كل ممزق ... وعرفتنا يا موت منك الدواهيا
ولأبى عبد الله محمد بن أبى الخصال الغافقى الأندلسى، ومكانه من متانة العلم والدين وصدق المقالة وصحة اليقين المكان الذى يلحقه بأقرانه من العلماء المتقنين، قصائد يرثى بها النبى صلى الله عليه وسلم وعلى آله أجمعين يساجل بها شاعره حسان بن ثابت فى قصائده المتقدمة صوتا بصوت، وكلمة بكلمة، أخبرنا بها وبسائر كلامه نثره ونظمه غير واحد من أشياخنا رحمهم الله عنه فمن ذلك قوله يعارض حسان فى قصيدته الأولى ويمشى فى التفجع والتوجع على طريقته المثلى:
بطيبة آثار تحج وتقصد ... ودار بها الله نور مخلد
ومهبط جبريل بوحى وحكمة ... يبينها للعالمين محمد
ومظهر آيات كأن رسومها ... على ما محى منها البلى يتجدد
وفى مسجد التقوى تأرخ روضة ... عليها من الفردوس كل ممدد
يفاوحها طيب الجنان وتربة ... تبوءها من جنة الخلد أحمد
ومنبره الأعلى على ذروة التقى ... وجذع له فيه حنين مردد
ومولد إبراهيم حيث تمخضت ... به أمه مثوى كريم ومولد
وموقعه من نفسه واختياره ... له اسم خليل الله فخر مشيد
وإعلانه بالحزن تدمع عينه ... له رحمة والنفس ترقى وتصعد
ومبنى على والهدى يألف الهدى ... بفاطمة نور بنور يقيد
ومولد سبطيه وريحان قلبه ... مكانهما من عاتقيه ممهد
وحيث ارتقت منها إمامة مرتقى ... يقوم بها جبالها ثم يسجد
وحيث بنى بالطيبات نسائه ... بعصمته الوثقى وجبريل يشهد
ومتلى كتاب الله فى حجراتها ... يقمن به فى الليل والناس هجد
وتمت لأصحاب الكساء طهارة ... من الله يحييها الكتاب المؤيد
معاهد إيمان تألق نورها ... ففى كل أفق جذوة تتوقد(2/77)
وكانت أمانا ثم عادت مخافة ... فزائرها فوق الردى يتوسد
فيا أيها الدار التى حق أهلها ... على الناس طرا دائم ليس ينفد
لقد درست منك المغانى وأوحشت ... وكان إليها الدين يأوى ويصمد
ذكرتك ذكرى من يهيم فؤاده ... بقربك لكنى عن القرب مبعد
ومثلت لى فى بهجة الدين والتقى ... وأمر رسول الله يعلو ويمهد
وإذا برقت نورا أسارير وجهه ... فزحزح قطع الليل والليل أسود
وألقت إليه الأرض أفلاذها التى ... تحل بها عقم الأمور وتعقد
وغزو تبوك ثم حج وداعه ... ولم يبق تبين ولم يبق مشهد
ومثلت لى والمسلمون بشكوه ... فرائصهم من روعة البيت ترعد
وقد جلل الدنيا ظلام مطبق ... يخال به ليل على الناس سرمد
فما راعهم إلا وفاة رسولهم ... وكل يرى أن الرسول يخلد
وقد ذهلوا أن التى يقرونها ... إذا جاء نصر الله للموت مرصد
وودع جبريل وداع مفارق ... ولا عود يستثنى ولا وحى يعهد
وأم أبيها مسبلات دموعها ... كما انحل من سلك فريد مبدد
فأودعها سرا بكت من نجيه ... وثنى بسر فانثنت تتجلد
وقد أعلنت عند الرسول بكربها ... لكرب أبيها وهو بالموت يجهد
فقال لها كفى دموعك واصبرى ... فما بعد هذا اليوم كرب يعدد
وبشرها من قرب ملحقها له ... ببشرى حديث صادق لا يفند
فيا من رأى حيا يعزى بموته ... فيرضى كأن الموت خلد مؤيد
فرارا عن الدنيا إلى قرب ربها ... وشجا عليها من حياة تنكد
ولطفا من الله العظيم بصونها ... وباب الرزايا المستكنات مرصد
ولو أنها امتدت طويلا حياتها ... لشرد عنها النوم ليل مسهد
وغصت على قرب بثكل ابن عمها ... وفقد شهيد حزنه ليس يفقد
أقام كتاب الله فى كل مارق ... يقر به فى زعمه وهو يجحد
فقيض أشقى الناس يدنى سعادة ... لمن هو بالإيمان أولى وأسعد
وكيف بها والله يأبى هوانها ... لمصرع سبط أول وهو مقصد
وقد جرعته حتفه كف جعدة ... بمكرع سم مجه فيه أسود
ولو حدثت عن كربلاء لأبصرت ... حسينا فتاها وهو شلو مقدد
وثانى سبطى أحمد جعجعت به ... عتاة جفاة وهو فى الأرض أوحد(2/78)
ولم يرقبوا إلا لآل محمد ... ولم يذكروا أن القيامة موعد
وأن عليهم فى الكتاب مودة ... لقرباه لا ينحاش عنها موحد
فيا سرع ما ارتدوا وصدوا عن الهدى ... ومالوا عن البيت الذى بهم هدوا
فحل عن برد الفرات عطاشهم ... وروى منهم ذابل ومهند
فيا أوجها شاهت وناهت عن الهدى ... أهذا التحفى منكم والتردد
وترتم رسول الله فى ذبح سبطه ... وبؤتم بنار حرها ليس يبرد
فما لكم عند الشفيع شفاعة ... ولا لكم فى كوثر الحوض مورد
لعمرى لقد غادرتم كل مؤمن ... على مضض برح يقوم ويقعد
ونغصتم المحيى وأرضيتم العدى ... فأنتم لغير الله جند وأعبد
فيا كبدى إن أنت لم تتصدعى ... فأنت من الصفوان أقسى وأجلد
ويا عبرتى إن لم تفيضى عليهم ... فنفسى أسخى بالحياة وأجود
أتنتهب الأيام أفلاذ أحمد ... وأفلاذ من عاداهم تتودد
ويضحى ويظمى أحمد وبناته ... وبنت زياد وردها لا يصرد
أفى دينه فى أمنه فى بلاده ... تضيق عليهم فسحة تتورد
وما الدين إلا دين جدهم الذى ... به أصدروا فى العالمين وأوردوا
ينام النصارى واليهود بأمنهم ... ونومهم بالخوف نوم مشرد
وما هى إلا ردة جاهلية ... وحقد قديم بالحديث يؤكد
ألهفى على سبطى هدى ونبوة ... جرى لها يوم من الشر أنكد
شهيدين متبوعين من كل مؤمن ... بكل صلاة برة تتعهد
فهذا أذابت سورة السم كبده ... وهذا أبادته قسى تكبد
فما عذر أهل الأرض والقسط قائم ... وكلهم فى موقف الفصل شهد
أيفعل هذا بابن بنت نبيكم ... وليس لكم فى النصر يوم ولا غد
أبى الله إلا أن فى النفس حسرة ... بغصتها أضحى وأمسى وأرقد
إلى أن يقيد الله من كل واتر ... على أن كفؤا مقنعا ليس يوجد
وأى دم يوفى دم ابن محمد ... حسين وأمسى وهو سبط موحد
فيا خاتم الأسباط إن تحيتى ... تؤمك من أرض بعيد وتقصد
مثقلة بالدمع شوقا ولوعة ... على زفرة من حرها أتأود
ويا أسوة للمؤمنين كريمة ... يلين عليها الحادق المتشدد
فمن ينكر البلوى وأنت بكربلا ... لذى البث والشكوى إمام مقلد(2/79)
فإن تجهل الدنيا عليك وأهلها ... فإنك فى أهل السماء ممجد
أبوك شفيع الناس وهو الذى له ... مقام كريم فى البرية يحمد
ومشرعة الحوض الروى بكفه ... تزاد رجال عندها وتطرد
وممن يذود الله عنه عصابة ... بقتلك فى طغيانها تتحمد
وذنبهم فى قتلك الذنب كله ... فما لهم إلا الجحيم تغمد
وهل كنت إلا مثل عمك جعفر ... قتيلا بكفار بذى العرش ألحدوا
وإلا كليث الله جدك حمزة ... وحربة وحشى إليه تسدد
وما منهم إلا غريق شهادة ... حياتهم موصولة حين تنفد
ومثل أبى حفص وعثمان بعده ... ومثل على وهو للحق سيد
دماؤهم مسك ذكى وأجرهم ... على الله لا يحصى ولا يتحدد
أقول ببث مستكن وظاهر ... مضاضته عن حبكم تتولد
وما سرنى أنى خلى من الهوى ... هوى هو فى حم يتلى ويسند
سريرة حب يوم تتلى سرائرى ... يقوم بها عنى الصفيح المنضد
سلام على تلك المعاهد إنها ... لآل رسول الله طهر ومسجد
فيا رب وفدنى إليها مسلما ... ويا طيب مسرى من إليها يوفد
أفض بها دمعى وأنقع غلتى ... وأتهم فى ربع الرسول وأنجد
وأدعو إلى الرحمن دعوة تائب ... إلى عفوه من طيبه يتزود
وأسموا إلى البيت العتيق بفرضه ... فكل به من ذنبه يتجرد
ولست على قبر الرسول بمؤثر ... ليحشر من ذاك البقيع محمد
فيا رب حقق نيتى ومنيتى ... هنالك والأرواح جند مجند
وقال أيضا يعارض حسان فى كلمته الثانية التى أولها:
ما بال عينك لا تنام كأنما............... ......
بهذه الكلمة المرسومة بعد:
هل يجمعن صباح يوم أو غد ... بينى وبين القبر قبر محمد
حتى أروى ناظرى من عبرتى ... ويقر عينى طيب ذاك المشهد
وأقبل الأرض التى حملت به ... نورا يجلى كل جنح أسود
وأعظم البلد الذى رأسى به ... طود النبوة ثابتا بالأسعد
أشكو إلى جبل تضمن حبه ... حبا أضاق تصبرى وتجلدى(2/80)
وأبلغ القلب المروع أمانه ... وأقول للنفس التى ظمئت ردى
وأهش للأفق المبارك جوه ... متجددا من نوره المتجدد
وأسح فى أبيات آل محمد ... دمعا كنظم اللؤلؤ المتبدد
والله يعلم أن آل رسوله ... آل تمكن حبهم فى محتدى
وبكربتى منهم أبوح وأنطوى ... وبحسرتى فيهم أروح وأغتدى
قف بالمنازل سائلا عن أهلها ... أين الرسالة والرسول المهتدى
أين الصواحب والصحابة حوله ... إذ بايعوه بالقلوب وباليد
أين الذين بسبقهم عز الهدى ... وعلت على الأديان ملة أحمد
أين الذين لعتبة ولشيبة ... وإلى الوليد سموا بكل مهند
أين الذين بيوم أحد صرعوا ... ما بين مثنى فى الإله وموحد
أين الذين بمؤتة وجلادها ... ماتوا كراما كالليوث الحرد
أين الثمانية الذين بصبرهم ... تابت بأوطاس بصائر من هدى
يا مسجد التقوى غدوت بفضلهم ... ومكانهم فى الدين أفضل مسجد
وبقيت بعدهم مثابة رحمة ... فى غربة المستوحش المتفرد
تبكى على خير البرية كلها ... بدموع كل مصدق وموحد
فقد السماء كما فقدت نديهم ... ونحيبهم فى مهبط أو مصعد
وتفرد الرحمن بالغيث الذى ... كان الرسول بوحيه عبق الند
ولقد أقام الدين من خلفائه ... أصهاره كل بأحمد يقتدى
وأتتك بعدهم الملوك فمصلح ... يضع الأمانة عند آخر مفسد
يا بيت عائشة المجن ثلاثة ... تطموا به نظم الطراز الأوحد
مثوى النبى وصاحبيه وفسحة ... عيسى ابن مريم حازها بالموعد
بوركت من بيت يضم رسالة ... ونبوة وخلافة فى ملحد
منى إليك تحية يهفو بها ... قلب بذكرهم وحلهم ند
صلى الإله وأرضه وسماؤه ... والعالمون على النبى المقتدى
بالأنبياء المهتدى بهداهم ... رشدا تبين فى الكتاب المرشد
وقال أبو عبد الله أيضا يعارض حسان فى كلمته الثالثة التى أولها:
نب المساكين أن الخير فارقهم............... .......
بهذه الكلمة المرسومة:(2/81)
هون عليك من الأرزاء ما خطرا ... بعد الرسول ولا تعدل به خطرا
واذكره فى كل محذور تغص به ... تلقى المصاب به قد هون الحذرا
أبعد أحمد يستقرى مضاجعه ... فودع البيت والأركان والحجرا
مستقبلا طيبة والله ينقله ... إلى رضاه فلما يعد أن صدرا
ثم استعز به شكو يعالجه ... يغشى بسورته الأبيات والحجرا
حتى انتهى دوره فى بيت عائشة ... فى نومها يتبع الأنفاس والأثرا
فمال فى حجرها طلقا أسرته ... غض البشاشة إلا اللمح والنظرا
فأذهل الناس طرا عن حياتهم ... موت الرسول ومنهم من نفى الخبرا
فياله من نظام بات فى قلق ... لولا أبو بكر الصديق لانتثرا
إن كنت معتبرا فانظر تقلله ... والأرض تبر ودين الله قد ظهرا
لم يرض منها سوى قبر تضمنه ... كان الفراش له فى نومه مدرا
يا قبر أحمد هل من زورة أمم ... قبل الحمام تسر السمع والبصرا
وهل إلى طيبة ممشى يقربها ... يا طيبة إن تأتى يومه سفرا
فتنشق النفس فى أرجائها أرجا ... يشفى السقام وينفى الذنب والضررا
وأستجير ببطن الأرض من كرب ... فى ظهرها لم تدع شمسا ولا قمرا
أستجمل الله من أسرار قدرته ... عزما يخوض إليه البدو والحضرا
وقوة بالضعيف الهم ناهضة ... وحجة تنظم الآصال والبكرا
يا حب أحمد كن لى فى زيارته ... أقوى ظهير إلى أن أقضى الوطرا
صلى الإله صلاة غير نافدة ... تكاثر الريح والأشجار والمطرا
على البشير النذير المصطفى كرما ... من كل بطن وصلب طيب ظهرا
على ابن آمنة الماحى بملته ... من كان بالله والإسلام قد كفرا
وأهله الطيبين الأكرمين ومن ... آوى وساهم فى البلوى ومن نصرا
وأمهات جميع المؤمنين ومن ... هدى هداه ومن صلى ومن نحرا
ونضر الله حسانا وأعظمه ... وقد بعثت الجوى والحزن والذكرا
أبا الوليد لقد هيجت لى شجنا ... نافحت عنهم بروح القدس مقتدرا
وأنت شاعر آل الله قاطبة ... ضريحه وامسحى عن وجهه العفرا
يا رحمة الله أمى غير صاغرة ... فى الحق أن تمسح الأعطاف والغررا
فإنه سابق والسابقات لها ... عمت فى المدر استثنت ولا الوبرا
أبقى له منبر الإنشاد مكرمة ... فى الحق أن تمسح الأعطاف والغررا(2/82)
ولم يسل لسانا فى مقاولة ... وإنما سل عضبا صارما ذكرا
يا مقولا نضر الله الرسول به ... لا زلت فى جنة الفردوس مشتهرا
وقال أيضا رحمه الله يبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعارض حسان فى كلمته المتقدمة قبل، رابعة لكلماته، وهى التى أولها:
آليت ما فى جميع الناس مجتهدا............... ...........
بهذه الكلمة الموسومة بعد:
قلبى إلى طيبة ذو غلة صادى ... إلى البشير النذير الخاتم الهادى
إلى أبى القاسم الماحى بملته ... كفران كل كفور جهله بادى
حتى أعفر خدى فى مواطئه ... غورا بغور وأنجادا بأنجاد
وأرسل الدمع سحا فى منازله ... مستفرغا جهد أفلاذ وأكباد
فى حيث أودع جبريل رسالته ... وحيا إليه بتوفيق وإرشاد
وأشرب الماء من أروى منابعه ... فطيبه قد سرى فى ذلك الوادى
يا حب أحمد إنى منك فى ثقة ... وأنت أحضر أعتادى وأزوادى
سر بى إليه وجاور بى مثابته ... حتى أضمن أكفانى وأعوادى
وما تمكنت من قلبى لتبدع بى ... ولا لتقطعنى عن ذلك النادى
نور من الله لو أنى سريت به ... لما افتقرت إلى هاد ولا حادى
لم يقذف الله فى قلبى محبته ... إلا لأحمل فوق الرأس والهاد
متى أقول لوفد الله عن كثب ... يا رايحين انظرونى إننى غاد
وقد برئت إلى الرحمن من نشبى ... وقد تخليت عن أهلى وأولادى
مستبدلا بجوار الله منقطعا ... إلى الرسول انقطاع العاطف الباد
صلى الإله وأهل الأرض يقدمهم ... أهل السموات من مثنى وآحاد
على الذى أنقذ الله العباد به ... من ظلمة الكفر رشدا بعد إفناد
على ابن آمنة المختار من نفر ... ما فوق مجدهم مرمى لمزداد
على النبى الذى تمت نبوته ... وآدم طينة قدت لأجساد
على الرسول بن عبد الله أكرم من ... أورى بنور أضاء الأرض وقاد
وبعده صلوات الله عاطرة ... على الصحابة أعداد بأعداد
وأهله الطيبين الأكرمين فهم ... فى الأرض أطهر غياب وشهاد
يا رب واحفظ مقامى فى محبتهم ... فإنها وإليك المنتهى زادى(2/83)
فهذا ما تيسر لنا ذكره من مراثى الشعراء فى سيد المرسلين وخاتم الأنبياء. وبقى علينا منها كثير تخطيناه، إما لتخطى الاختيار له والانتقاء، وإما لقصد الاختصار والاكتفاء، وأكثر الشعراء أفحمتهم المصيبة القاصمة للظهور، الرزية المتجددة على بلى الأزمان وتجدد الدهور، عن أن يفوهوا فى ذلك ببنت شفة أو يفوا بما يناسب ذلك الكرب العظيم والخطب الجسيم من صفة متصفة، وأولئك أولى الناس بالمعذرة، وأحقهم بالتجاوز عن مقصدهم المقصرة، فمصاب المسلمين به عليه أفضل الصلاة والسلام أعظم من أن تؤدى حقيقته سعة الكلام، أو تستقل أساليب القول المتشعبة ومنادح العبارات المتطنبة المهذبة بأيسر جزء من مآثره الكرام ومحاسنه العظام، أو تفى الألفاظ على اتساعها وتعدد ضروبها وأنواعها بشرح ما يتحمل فيه القلوب المؤمنة من برح الآلام، والإعراب عن قدر مصيبة فقده على الإسلام، فجزاه الله عن نهجه لنا السبيل إلى دار السلام أفضل ما أعده من الجزاء لأنبيائه المختصين من عنايته بشرف الاجتباء والاصطفاء دون الأنام، وأدر عليه وعليهم من سحب الرحمة والبركات والسلام والصلوات ما يزرى بهطال الديم وواكف الغمام.
وهنا انتهى ما يختص من هذا المجموع بمغازى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وذكر أيامه وكافة أمره إلى حين وفاته.
ونشرع الآن فى صلة ذلك بمغازى خلفائه الثلاثة الأول رضى الله عن جميعهم على نحو ما علمنا به فى مغازى من قصد التهذيب، وبذل الجهد فى حسن الترتيب، وربنا الكريم جلت قدرته نعم الوكيل بالمعونة على ذلك، لا حول ولا قوة إلا به، هو حسبى لا إله إلا هو، عليه توكلت وإليه أنيب.(2/84)
ذكر خلافة أبى بكر الصديق رضى الله عنه «1» وما حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيماء إليها والإشارات الدالة عليها مع ما كان من تقدمه صلى الله عليه وسلم إلى الإنذار بالفتن الكائنة بعده وما صدر عنه من الأقاويل المنذرة بالردة
فى الصحيح من الآثار، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما سمع صوت عمر فى صلاته بالناس عندما أمر عليه السلام فى مرضه أبا بكر أن يصلى، فلم يوجد حاضرا، قال: يأبى الله ذلك والمسلمون، يأبى الله ذلك والمسلمون.
وعن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقتدوا باللذين من بعدى، أبى بكر وعمر» «2» .
وقال على بن أبى طالب رضى الله عنه: استخلف أبو بكر، فأقام واستقام. وقال صعصعة: استخلف الله أبا بكر، فأقام المصحف.
وذكر يعقوب بن محمد الزهرى، عن شيوخه، قالوا: وذكروا استخلاف أبى بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن قبل ما وصف لهم صفة من يلى بعده، حتى كاد يقول: خليفتى أبو بكر.
وحدث جبير بن مطعم «3» أن امرأة أتت النبى صلى الله عليه وسلم، تكلمه فى شىء، فأمرها أن ترجع
__________
(1) راجع: المنتظم لابن الجوزى (4/ 5- 7) .
(2) انظر الحديث فى: سنن الترمذى (3662، 3805) ، سنن ابن ماجه (97) ، مسند الإمام أحمد (5/ 382، 385، 399، 401، 402) ، السنن الكبرى للبيهقى (5/ 12، 8/ 153) ، مستدرك الحاكم (3/ 75) ، مجمع الزوائد للهيثمى (9/ 53، 295) ، حلية الأولياء لأبى نعيم (9/ 109) ، شرح السنة للبغوى (14/ 101، 102) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (6221) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (2/ 230) ، البخارى فى التاريخ الكبرى (8/ 209، 9/ 50) ، كشفا الخفاء للعجلونى (1/ 181) ، الدر المنثور للسيوطى (1/ 330) ، المعجم الكبير للطبرانى (9/ 68) ، كنز العمال للمتقى الهندى (3656، 32646، 32657، 33117، 33679، 36746، 36853) ، الكامل فى الضعفاء لابن عدى (2/ 666، 797) .
(3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (315) ، الإصابة الترجمة رقم (1094) ، أسد الغابة الترجمة رقم (698) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (35) ، جمهرة أنساب العرب (116) ، تهذيب الكمال (188) ، تهذيب التهذيب (2/ 63) ، تذهيب التهذيب (1/ 102) ، -(2/85)
إليه، فقالت: يا رسول الله، إن جئت فلم أجدك، تعنى الموت، قال: «فأتى أبا بكر» .
وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «رأى الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله صلى الله عليه وسلم، ونيط عمر بأبى بكر، ونيط عثمان بعمر» ، قال جابر: فلما قمنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلنا: أما الرجل الصالح فرسول الله، وأما ذكر من نوط بعضهم ببعض، فهم ولاة هذا الأمر الذى بعث الله به نبيه.
وعن أبى هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينا أنا نائم، رأيتنى على قليب عليها دلو، فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبى قحافة فنزع منها ذنوبا أو ذنوبين، وفى نزعه، والله يغفر له، ضعف، ثم استحالت غربا، فأخذها ابن الخطاب، فلم أر عبقريا من الناس ينزع نزع عمر بن الخطاب، حتى ضرب الناس بعطن» .
وفى رواية: «فأروى الظمئة، وضرب الناس بعطن» «1» .
وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بردة المرتدين من بعده، فحدث أبو سعيد الخدرى، قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينا أنا نائم، رأيت فى يدى سوارين من ذهب، فكرهتهما فنفختهما فطارا، فأولتهما: كذابين يخرجان، مسيلمة والعنسى» «2» .
وعن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بين يدى الساعة كذابون، منهم صاحب اليمامة، يعنى مسيلمة، وصاحب خيبر، يعنى طليحة، ومنهم العنسى يعنى الأسود، ومنهم الدجال، وهو أعظمهم فتنة» «3» .
__________
- خلاصة تذهيب الكمال (52) ، شذرات الذهب (1/ 64) ، العقد الثمين (3/ 408) .
(1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (5/ 7، 9/ 45، 49، 171) ، صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة (17) ، السنن الكبرى للبيهقى (8/ 153) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 19، 12/ 414) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (6031) ، شرح السنة للبغوى (14/ 89) ، البداية والنهاية لابن كثير (6/ 226) ، كنز العمال للمتقى الهندى (3273) ، دلائل النبوة للبيهقى (6/ 344) ، السنة لابن أبى عاصم (14/ 89) .
(2) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (5/ 217، 9/ 52) ، مسند الإمام أحمد (1/ 263) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 50) ، فتح البارى لابن حجر (12/ 420) .
(3) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 345، 5/ 95، 96، 100، 101، 106) ، الدر المنثور للسيوطى (6/ 51) ، كنز العمال للمتقى الهندى (38371) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 51) .(2/86)
وعن عبد الله بن حوالة «1» ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من نجا منهن فقد نجا:
من موتى، ومن قتل خليفة مصطبر بالحق يعطيه، ومن الدجال» «2» .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعبدة بن مسهر الحارثى فيما يعظه به لما قدم عليه: «وإن أدركتك الردة فلا تتبعن كندة» .
ودعا أيضا لجرير بن عبد الله «3» لما وفد عليه، فقال: «اللهم اشرح صدره للإسلام، ولا تجعله من أهل الردة» .
ولما أسر المسلمون يوم بدر سهيل بن عمرو العامرى، سأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن ينزع ثنيتيه السفلاوين، وكان أعلم الشفة السفلى، قال: فإنه خطيب ليقوم عليك خطيبا بمكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: «عسى أن يقوم مقاما يسرك» «4» ، فلما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتهى خبر وفاته إلى مكة، تكلم بها قوم كلاما قبيحا، ووعى ذلك عليهم، فقام سهيل بن عمرو بخطبة أبى بكر، كأنه كان يسمعها، فقال: أيها الناس، من كان يعبد محمدا، فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حى لم يمت، وقد نعى الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم، إليكم وهو بين أظهركم، ونعاكم إلى أنفسكم، فهو الموت حتى لا يبقى أحد، ألم تعلموا أن الله تعالى قال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:
30] ، وقال: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ. الآية [آل عمران: 144] ، وقال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: 185] ، وقال: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] .
فاتقوا الله، واعتصموا بدينكم، وتوكلوا على ربكم، فإن دين الله قائم، وكلمته تامة، وإن الله ناصر من نصره، ومعز دينه، جمعكم الله على خيركم.
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1536) ، الإصابة الترجمة رقم (4658) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2909) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 306) ، تهذيب التهذيب (5/ 194) ، تقريب التهذيب (1/ 411) ، تهذيب الكمال (2/ 676) ، خلاصة تذهيب الكمال (2/ 51) ، الوافى بالوفيات (17/ 156) ، الثقات (3/ 343) ، حلية الأولياء (2/ 3) .
(2) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (7/ 211) ، مجمع الزوائد للهيثمى (4/ 334) .
(3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (326) ، الإصابة الترجمة رقم (1139) ، أسد الغابة الترجمة رقم (7309، طبقات خليفة (116، 138) ، تاريخ خليفة (218) ، الجرح والتعديل (2/ 502) ، تهذيب الكمال (191) ، تهذيب التهذيب (2/ 73) ، خلاصة تذهيب الكمال (61) ، شذرات الذهب (1/ 57، 58) .
(4) انظر الحديث فى الشفاء للقاضى عياض (1/ 676) ، الجامع الكبير (2/ 786) .(2/87)
وفى كلام أكثر من هذا وعظهم به، وذكرهم. وقد كان الناس نفروا وهموا، فنفعهم الله بكلامه، فلم يرتد بمكة أحد، فلما بلغ عمر بن الخطاب مقام سهيل، قال: أشهد أن ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، حق، فهو والله هذا المقام.
ذكر بدء الردة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان من تأييد الله لخليفة رسوله عليه السلام فيها
قالت عائشة رضى الله عنها: لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، نجم النفاق وارتدت العرب، واشرأبت اليهودية والنصرانية، وصار المسلمون كالغنم المطيرة فى الليلة الشاتية، لفقد نبيهم، حتى جمعهم الله على أبى بكر، فلقد نزل بأبى ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها، فو الله ما اختلفوا فيه من أمر إلا طار أبى بعلائه وغنائه، وكان من رأى ابن الخطاب علم أنه خلق عونا فللإسلام، كان والله أحوذيا، نسيج وحده، قد أعد للأمور أقرانها.
وفى الصحيح من حديث أبى هريرة، قال: لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستخلف أبو بكر رضى الله عنه، بعده، وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطاب لأبى بكر:
كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم منى نفسه وماله إلا بحقه، وحسابه على الله؟» فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعونى عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقاتلتهم على منعه، فقال عمر بن الخطاب: فو الله ما هو إلا أن رأيت أن الله قد شرح صدر أبى بكر للقتال، فعرفت أنه الحق «1» .
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (1/ 13، 109، 2/ 131، 4/ 58، 9/ 19، 115، 138) ، صحيح مسلم كتاب الإيمان (32، 33، 35) ، سنن النسائى الصغرى (7/ 77، 78، 79، 8/ 81) ، سنن أبى داود (1556، 2640) ، سنن الترمذى (2606، 2607، 3341) ، سنن ابن ماجه (3927، 3928، 3929) ، مسند الإمام أحمد (1/ 11، 19، 35، 48، 2/ 377، 423، 475، 502، 527، 528، 3/ 300، 322، 339، 4/ 8) ، سنن البيهقى الكبرى (1/ 7، 54، 2/ 3، 92، 4/ 104، 114، 7/ 3، 4، 8، 19، 136، 176، 177، 196، 9/ 49، 182) ، مستدرك الحاكم (2/ 522) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (6/ 171) ، شرح السنة للبغوى (1/ 66، 69، 5/ 488) ، كنز العمال للمتقى الهندى (375، 379، -(2/88)
قال عمر بن الخطاب: والله لرجح إيمان أبى بكر بإيمان هذه الأمة جميعا فى قتال أهل الردة.
وذكر يعقوب بن محمد الزهرى عن جماعة من شيوخه، قالوا: فكان أبو بكر أمير الشاكرين الذين ثبتوا على دينهم، وأمير الصابرين الذين صبروا على جهاد عدوهم، أهل الردة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبرأى أبى بكر أجمعوا على قتالهم، وذلك أن العرب افترقت فى ردتها، فقالت فرقة:
لو كان نبيا ما مات، وقال بعضهم: انقضت النبوة بموته، فلا نطيع أحدا بعده، وفى ذلك يقول قائلهم:
أطعنا رسول الله ما عاش بيننا ... فيالعباد الله ما لأبى بكر
أيورثها بكرا إذا مات بعده ... فتلك وبيت الله قاصمة الظهر
وقال بعضهم: نؤمن بالله، ونشهد أن محمدا رسول الله، ونصلى، ولكن لا نعطيكم أموالنا، فأبى أبو بكر إلا قتالهم على حسب ما تقدم ذكره.
وجادل أبو بكر الصحابة فى جهادهم، وكان من أشدهم عليه عمر وأبو عبيدة بن الجراح «1» ، وسالم مولى أبى حذيفة «2» ، وقالوا له: احبس جيش أسامة بن زيد، فيكون عمارة وأمانة بالمدينة، وارفق بالعرب حتى ينفرج هذا الأمر، فإن هذا الأمر شديد غوره وتهتكه من غير وجهه، فلو أن طائفة من العرب ارتدت قلنا: قاتل بمن معك ممن ثبت من ارتد، وقد اتفقت العرب على الارتداد، فهم بين مرتد، ومانع صدقة، فهو مثل المرتد،
__________
- 16836، 16846) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (1/ 155) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (1790) ، البداية والنهاية لابن كثير (10/ 334) ، فتح البارى لابن حجر (1/ 497، 13/ 174، 250، 339) ، نصب الراية للزيلعى (3/ 380، 480، 4/ 324، 339) ، الدر المنثور للسيوطى (5/ 274، 6/ 343) ، زاد المسير لابن الجوزى (9/ 100) ، جمع الجوامع (4411، 4414، 4418) ، المعجم الكبير للطبرانى (2/ 198، 347، 6/ 161، 8/ 382) ، التاريخ الكبير للبخارى (3/ 367، 7/ 35) ، مصنف ابن أبى شيبة (10/ 122، 123، 124، 12/ 374، 376، 377، 380) .
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (3108) ، الإصابة الترجمة رقم (10233) ، أسد الغابة الترجمة رقم (6084) ، تهذيب الكمال (1623) ، تقريب التهذيب (2/ 448) ، تهذيب التهذيب (12/ 159) ، المؤتلف والمختلف (840) ، التبصرة والتذكرة (3/ 27) .
(2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (886) ، الإصابة الترجمة رقم (3059) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1892) ، وهو: سالم بن معقل، مولى أبى حذيفة.(2/89)
وبين واقف ينظر ما تصنع أنت وعدوك، قد قدم رجلا وأخر رجلا «1» .
وفى كتاب الواقدى من قول عمر لأبى بكر: وإنما شحت العرب على أموالها، وأنت لا تصنع بتفريق العرب عنك شيئا، فلو تركت للناس صدقة هذه السنة.
وقدم على أبى بكر عيينة بن حصن الفزارى، والأقرع بن حابس، فى رجال من أشراف العرب، فدخلوا على رجال من المهاجرين، فقالوا: إنه قد ارتد عامة من وراءنا عن الإسلام، وليس فى أنفسهم أن يؤدوا إليكم من أموالهم ما كانوا يؤدون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن تجعلوا لنا جعلا نرجع فنكفيكم من وراءنا؛ فدخل المهاجرون والأنصار على أبى بكر، فعرضوا عليه الذى عرضوا عليهم، وقالوا: نرى أن تطعم الأقرع وعيينة طعمة يرضيان بها ويكفيانك من وراءهما، حتى يرجع إليك أسامة وجيشه، ويشتد أمرك، فإنا اليوم قليل فى كثير، ولا طاقة لنا بقتال العرب، قال أبو بكر: هل ترون غير ذلك؟ قالوا:
لا؛ قال أبو بكر: إنكم قد علمتم أنه كان من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إليكم المشورة فيما لم يمض فيه أمر من نبيكم ولا نزل به الكتاب عليكم، وأن الله لن يجمعكم على ضلالة، وإنى سأشير عليكم، فإنما أنا رجل منكم، تنظرون فيما أشير به عليكم وفيما أشرتم به، فتجتمعون على أرشد ذلك، فإن الله يوفقكم، وأما أنا فأرى أن ننبذ إلى عدونا، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وأن لا نرشو على الإسلام أحدا، وأن نتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم، فنجاهد عدوه كما جاهدهم، والله لو منعونى عقالا لرأيت أن أجاهدهم عليه حتى آخذه، فأئتمروا يرشدكم الله، فهذا رأيى؛ وأما قدوم عيينة وأصحابه إليكم، فهذا أمر لم يغب عنه عيينة، هو راضه ثم جاء له ولو رأوا ذباب السيف لعادوا إلى ما خرجوا منه أو أفناهم السيف فإلى النار، قتلناهم على حق منعوه وكفر. فبان للناس وجه أمرهم، وقالوا لأبى بكر لما سمعوا رأيه: أنت أفضلنا رأيا، ورأينا لرأيك تبع. فأمر أبو بكر الناس بالتجهز، وأجمع على المسير بنفسه لقتال أهل الردة.
وكانت أسد وغطفان من أهل الضاحية قد ارتدت، ولم ترتد عبس ولا بعض أشجع، وارتدت عامة بنى تميم وطوائف من بنى سليم: عصية وعميرة وخفاف، وبنو عوف بن امرئ القيس، وذكوان، وبنو جارية، وارتد أهل اليمامة «2» كلهم، وأهل البحرين «3» ،
__________
(1) انظر: غزوات ابن حبيش (1/ 22) .
(2) راجع قصة ارتداد أهل اليمامة فى: المنتظم لابن الجوزى (4/ 79- 83) ، تاريخ الطبرى (3/ 280، 281) .
(3) راجع قصة أهل البحرين فى: المنتظم لابن الجوزى (4/ 83- 85) .(2/90)
وبكر بن وائل، وأهل دبى من أزد عمان «1» ، والنمر بن قاسط، وكلب، ومن قاربهم من قضاعة، وعامة بنى عامر بن صعصعة، وفيهم علقمة بن علاثة، وقيل: إنها تربصت مع قادتها وسادتها ينظرون لمن تكون الدبرة، وقدموا رجلا وأخروا أخرى، وارتدت فزارة، وجمعها عيينة بن حصن، وتمسك بالإسلام من بين المسجدين، وأسلم وغفار وجهينة ومزينة وكعب وثقيف، قام فيهم عثمان بن أبى العاص فى بنى مالك، وقام فى الأحلاف رجل منهم، فقال: يا معشر ثقيف، نشدتكم الله أن تكونوا أول العرب ارتدادا وآخرهم إسلاما؛ وأقامت طئ كلها على الإسلام، وهذيل، وأهل السراة وبجيلة وخثعم ومن قارب تهامة من هوازن نصر وجشم وسعد بن بكر وعبد القيس، قام فيهم الجارود فثبتوا على الإسلام، وارتدت كندة وحضرموت وعنس.
وقال أبو هريرة: لم يرجع رجل واحد من دوس ولا من أهل السراة كلها. وقال أبو مرزوق التجيبى: لم يرجع رجل واحد من تجيب ولا من همدان، ولا من الأبناء بصنعاء، ولقد جاء الأبناء وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشق نساؤهم الجيوب وضربن الخدود، وفيهم المرزبانة، فشقت درعها من بين يديها ومن خلفها.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما صدر من الحج سنة عشر، وقدم المدينة فأقام حتى رأى هلال المحرم سنة إحدى عشرة، وبعث المصدقين فى العرب، فبعث على عجز هوازن عكرمة بن أبى جهل «2» ، وبعث حامية بن سبيع الأسدى على صدقات قومه، وعلى بنى كلاب الضحاك بن سفيان «3» ، وعلى أسد وطئ عدى بن حاتم «4» ، وعلى بنى يربوع
__________
(1) راجع قصة أهل عمان فى: المنتظم لابن الجوزى (4/ 85- 86) ، تاريخ الطبرى (3/ 314) .
(2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1857) ، الإصابة الترجمة رقم (5654) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3741) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (174) ، طبقات خليفة (20/ 299) ، تاريخ خليفة (92) ، الجرح والتعديل (7/ 6، 7) ، العقد الثمين، (6/ 119، 123) ، شذرات الذهب (1/ 27، 28) ، سير أعلام النبلاء (1/ 323) ، العبر (1/ 18) ، تهذيب الكمال (950) ، تهذيب التهذيب (7/ 257) ، خلاصة تذهيب الكمال (270) .
(3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1255) ، الإصابة الترجمة رقم (4186) أسد الغابة الترجمة رقم (2556) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 270) ، الوافى بالوفيات (16/ 352) ، الأعلام (3/ 214) ، تهذيب الكمال (1/ 615) ، تهذيب التهذيب (4/ 444) ، خلاصة تذهيب الكمال (2/ 3) ، المعرفة والتاريخ (3/ 369) ، التحفة اللطيفة (2/ 250) ، الجرح والتعديل (4/ 2018) ، دائرة معارف الأعلمى (20/ 255) .
(4) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1800) ، الإصابة الترجمة رقم (5491) ، أسد-(2/91)
مالك بن نويرة «1» ، وعلى بنى دارم وقبائل بنى حنظلة الأقرع بن حابس «2» ، وبعث الزبرقان بن بدر «3» على صدقات قومه، وقيس بن عاصم المنقرى «4» على صدقات قومه.
فلما بلغتهم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا، فمنهم من رجع، ومنهم من أدى إلى أبى بكر، وكان الذين حبسوا صدقات قومهم وفرقوها بين قومهم مالك بن نويرة، وقيس بن عاصم، والأقرع بن حابس التميمى، وأما بنو كلاب فتربصوا، ولم يمنعوا منعا بينا، ولم يعطوا، كانوا بين ذلك.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، على فزارة نوفل بن معاوية الديلى»
، فلقيه خارجة بن حصن ابن حذيفة بن بدر الفزارى بالشربة، فقال: أما ترضى أن تغنم نفسك؟ فرجع نوفل بن
__________
- الغابة الترجمة رقم (3610) ، الجرح والتعديل (7/ 2) ، مروج الذهب (3/ 190) ، جمهرة أنساب العرب (402) ، تاريخ بغداد (1/ 189) ، تهذيب الكمال (925) ، تذهيب التهذيب (3/ 36) ، خلاصة تذهيب الكمال (223) ، تهذيب التهذيب (7/ 166) ، شذرات الذهب (1/ 74) ، سير أعلام النبلاء (3/ 162) .
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2331) ، الإصابة الترجمة رقم (7712) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4656) .
(2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (69) ، الإصابة الترجمة رقم (231) ، أسد الغابة الترجمة رقم (208) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 26) ، الوافى بالوفيات (9/ 307) ، التحفة اللطيفة (1/ 337) ، أزمنة التاريخ الإسلامى (1/ 531) ، التاريخ الصغير (59) ، الجامع فى الرجال (281) ، تهذيب الأسماء واللغات (1/ 124) .
(3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (870) ، الإصابة الترجمة رقم (2789) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1728) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 188) ، تقريب التهذيب (1/ 257) ، الطبقات الكبرى (7/ 36) ، الثقات (3/ 142) ، الأعلام (3/ 41) .
(4) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2164) ، الإصابة الترجمة رقم (7209) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4370) ، تجريد أسماء الصحابة (2/ 22) ، تقريب التهذيب (2/ 129) ، تهذيب التهذيب (8/ 399) ، خلاصة تهذيب الكمال (2/ 357) ، الأنساب لابن السمعانى (7/ 141) ، أزمنة التاريخ الإسلامى (816) ، الثقات (3/ 338) .
(5) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2673) ، الإصابة الترجمة رقم (8854) ، أسد الغابة الترجمة رقم (5322) ، تجريد أسماء الصحابة (2/ 115) ، تتهذيب التهذيب (10/ 492) ، تقريب التهذيب (2/ 309) ، خلاصة تذهيب الكمال (3/ 103) ، الجرح والتعديل (1/ 487) ، العقد الثمين (7/ 353) ، الأنساب لابن للسمعانى (5/ 449) ، الأعلام (8/ 55) ، الطبقات الكبرى (1/ 87) .(2/92)
معاوية هاربا حتى قدم على أبى بكر الصديق بسوطه، وقد كان جمع فرائض فأخذها منه خارجة، فردها على أربابها، وكذا فعلت سليم بعرباض بن سارية «1» ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعثه على صدقاتهم، فلما بلغتهم وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، أبوا أن يعطوه شيئا، وأخذوا منه ما كان جمع، فانصرف من عندهم بسوطه، وأما أسلم وغفار ومزينة وجهينة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعث إليهم كعب بن مالك الأنصارى، فسلموا إليه صدقاتهم، لما بلغتهم وفاته، وتأدت إلى أبى بكر، فاستعان بها فى قتال أهل الردة، وكذلك فعل بنو كعب مع أمير صدقاتهم بشر بن سفيان الكعبى، وأشجع مع مسعود بن رحيلة الأشجعى «2» ، فقدم بذلك كله على أبى بكر.
وكان عدى بن حاتم قد حبس إبل الصدقة، يريد أن يبعث بها إلى أبى بكر إذا وجد فرجة، والزبرقان بن بدر مثل ذلك، فجعل قومهما يكلمونهما فيأبيان، وكان أحزم رأيا وأفضل فى الإسلام رغبة ممن كان فرق الصدقة فى قومه، فقالا لقومهما: لا تعجلوا، فإنه إن قام بهذا الأمر قائم ألفاكم لم تفرقوا الصدقة، وإن كان الذى تظنون، فلعمرى إن أموالكم لبأيديكم، فلا يغلبنكم عليها أحد، فسكتوهم حتى أتاهم يقين خبر القوم، فلما اجتمع الناس على أبى بكر جاءهم أنه قد قطع البعوث، وسار بعث أسامة بن زيد إلى الشام، وأبو بكر يخرج إليهم، فكان عدى بن حاتم يأمر ابنه أن يسرح مع نعم الصدقة، فإذا كان المساء روحها، وإنه جاء بها ليلة عشاء، فضربه، وقال: ألا عجلت بها؟.
ثم راح بها الليلة الثانية فوق ذلك قليلا، فجعل يضربه، وجعلوا يكلمونه فيه، فلما كان اليوم الثالث قال: يا بنى إذا سرحتها فصح فى أدبارها وأم بها المدينة، فإن لقيك لاق من قومك أو من غيرهم فقل أريد الكلأ، تعذر علينا ما حولنا، فلما أن جاء الوقت الذى كان يروح فيه، لم يأت الغلام، فجعل أبوه يتوقعه ويقول لأصحابه: العجب لحبس ابنى، فيقول بعضهم: نخرج يا أبا طريف فنتبعه، فيقول: لا والله؛ فلما أصبح تهيأ ليغدو، فقال قومه: نغدو معك، فقال: لا يغدو معى منكم أحد، إنكم إن رأيتموه حلتم بينى
__________
(1) انظر ترجمته فى: الأستيعاب الترجمة رقم (2049) ، الإصابة الترجمة رقم (5517) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3630) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (331) ، شذرات الذهب (1/ 82) ، حلية الأولياء (2/ 13) ، سير أعلام النبلاء (3/ 419) ، تقريب التهذيب (2/ 17) ، خلاصة تذهيب التهذيب (269) ، تاريخ الإسلام (2/ 483) .
(2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2408) ، وفيه: مسعود بن «رخيلة بن عائذ الأشجعى» ، الإصابة الترجمة رقم (7961) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4883) .(2/93)
وبين ضربه، وقد عصى أمرى كما ترون؛ فخرج على بعير له سريعا حتى لحق ابنه، ثم حدر النعم إلى المدينة، فلما كان ببطن قناة لقيته خيل لأبى بكر، عليها ابن مسعود، ويقال محمد بن مسلمة «1» وهو أثبت عندنا، فلما نظروا إليه ابتدروه، وما كان معه، وقالوا له: أين الفوارس الذين كانوا معك؟ قال: ما معى أحد، قالوا: بلى، لقد كان معك فوارس، فلما رأونا تغيبوا، فقال ابن مسعود: خلوا عنه فما كذب ولا كذبتم، جنود الله معه، ولم يرهم.
فقدم على أبى بكر بثلاثمائة بعير، وكانت أول صدقة قدم بها على أبى بكر.
وذكر بعض من ألف فى الردة: أن الزبرقان بن بدر هو الذى فعل هذا الفعل المنسوب فى هذا الحديث إلى عدى بن حاتم، فإما أن يكونا فعلاه معا توفيقا من الله لهما، وإما أن يكون هذا مما يعرض فى النقل من الاختلاف، والذى ينسب ذلك إلى الزبرقان يقول:
إنه قال فى ذلك:
لقد علمت قيس وخندف أننى ... وفيت إذا ما فارس الغدر ألجما
أتيت التى قد يعلم الله أنها ... إذا ذكرت كانت أعف وأكرما
أنفت لعوف أن يسب أبوهم ... إذا اقتسم الناس السوام المقسما
وروحتها من أهل جوفاء صبحت ... تدوس بأيديها الحصاد المحرما
حبوت بها قبر النبى وقد أبى ... فلم يجبه ساع من الناس مقسما
وقال أيضا:
وفيت بأذواد النبى ابن هاشم ... على موطن ضام الكريم المسودا
فأديتها ألفا ولو شئت ضمها ... رعاء يكون الوشيج المقصدا
وذكر ابن إسحاق: أن عدى بن حاتم كانت عنده إبل عظيمة اجتمعت له من صدقات قومه عندما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما ارتد من الناس وارتجعوا صدقاتهم، وارتدت بنو أسد، وهم جيرانهم، اجتمعت طيئ إلى عدى بن حاتم، فقالوا: إن هذا الرجل قد مات، وقد انتقض الناس بعده، وقبض كل قوم ما كان فيهم من صدقاتهم، فنحن أحق بأموالنا من شذاذ الناس، فقال: ألم تعطوا من أنفسكم العهد والميثاق على الوفاء طائعين غير مكرهين.
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2372) ، الإصابة الترجمة رقم (7822) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4768) ، تهذيب الكمال (1271) ، تهذيب التهذيب (9/ 454) ، خلاصة تذهيب الكمال (359) ، شذرات الذهب (1/ 45، 53) ، الجرح والتعديل (8/ 71) ، الاستبصار (241، 242) ، تاريخ الإسلام (2/ 245) .(2/94)
قالوا: بلى، ولكن قد حدث ما ترى، وقد ترى ما صنع الناس. قال: والذى نفس عدى بيده، لا أخيس بها أبدا، ولو كنت جعلتها لرجل من الزنج، لوفيت له بها، فإن أبيتم لأقاتلنكم، يعنى على ما فى يده وما فى أيديهم، فليكونن أول قتيل يقتل على وفاء ذمته عدى بن حاتم، أو يسلمها، فلا تطمعوا أن يسب حاتما فى قبره عدى ابنه من بعده، فلا يدعونكم عذر عاذر إلى أن تعذروا، فإن للشيطان قادة عند موت كل نبى، يستخف لها أهل الجهل حتى يحملهم على قلائص الفتنة، وإنما هى عجاجة لا ثبات لها، ولا ثبات فيها، إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، خليفة من بعده يلى هذا الأمر، وإن لدين الله أقواما سينهضون ويقومون به بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قاموا بعهده وذو بيته فى السماء، لئن فعلتم ليقارعنكم على أموالكم ونسائكم بعد قتل عدى وغدركم، فأى قوم أنتم عند ذلك، فلما رأوا منه الجد، كفوا عنه، وسلموا له.
ويروى أن مما قال له قومه: أمسك فى يدك، فإنك إن تفعل تسد الحليفين، يعنون طيئا وأسدا.
فقال: ما كنت لأفعل حتى أدفعها إلى أبى بكر، فجاء بها حتى دفعها إليه، فلما كان زمن عمر بن الخطاب، رأى من عمر رحمه الله، جفوة، فقال له عدى: ما أراك تعرفنى؟
قال عمر: بلى، والله، والله يعرفك من السماء، أعرفك والله: أسلمت إذ كفروا، ووفيت إذ غدروا، وأقبلت إذ أدبروا، بلى، وايم الله أعرفك.
وقدم أيضا الزبرقان بن بدر بصدقات قومه على أبى بكر، فلم يزل لعدى والزبرقان بذلك شرف وفضل على من سواهما.
وأعطى أبو بكر عديا ثلاثين بعيرا من إبل الصدقة، وذلك أن عديا لما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، نصرانيا فأسلم وأراد الرجوع إلى بلاده أرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعتذر من الزاد ويقول: «والله، ما أصبح عند آل محمد شقة من الطعام، ولكن ترجع ويكون خير» ، فلذلك أعطاه أبو بكر تلك الفرائض.
ولما كان من العرب ما كان من التوائهم عن الدين ومنع من منع منهم الصدقة جد بأبى بكر الجد فى قتالهم، وأراه الله رشده فيهم، وعزم على الخروج بنفسه إليهم، وأمر الناس بالجهاز، وخرج هو فى مائة من المهاجرين، وقيل: فى مائة من المهاجرين والأنصار، وخالد بن الوليد يحمل اللواء، حتى نزل بقعاء، وهو ذو القصة «1» ، يريد أبو
__________
(1) ذو القصة: مكان على بريد من المدينة، وهو الذى أخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح رضى الله عنه. انظر: الروض المعطار (477) ، معجم ما استعجم (3/ 1086) .(2/95)
بكر أن يتلاحق الناس من خلفه، ويكون أسرع لخروجهم، ووكل بالناس محمد بن مسلمة يستحثهم، فانتهى إلى بقعاء عند غروب الشمس، فصلى بها المغرب، وأمر بنار عظيمة فأوقدت، وأقبل خارجة بن حصن بن حذيفة بن بدر وكان ممن ارتد، فى خيل من قومه إلى المدينة يريد أن يخذل الناس عن الخروج، أو يصيب غرة فيغير، فأغار على أبى بكر رضى الله عنه، ومن معه، وهم غافلون، فاقتتلوا شيئا من قتال، وتحيز المسلمون، ولاذ أبو بكر بشجرة، وكره أن يعرف، فأوفى طلحة بن عبيد الله على شرف فصاح بأعلى صوته لا بأس، هذه الخيل قد جاءتكم، فتراجع الناس، وجاءت الأمداد، وتلاحق المسلمون، فانكشف خارجة بن حصن وأصحابه، وتبعه طلحة بن عبيد الله فيمن خف معه، فلحقوه فى أسفل ثنايا عوسجة، وهو هارب لا يألو فيدرك أخريات أصحابه، فحمل طلحة على رجل بالرمح فدق ظهره، ووقع ميتا، وهرب من بقى، ورجع طلحة إلى أبى بكر، فأخبره أن قد ولوا منهزمين هاربين، وأقام أبو بكر ببقعاء أياما ينتظر الناس، وبعث إلى من كان حوله من أسلم وغفار ومزينة وأشجع وجهينة وكعب يأمرهم بجهاد أهل الردة، والخفوف إليهم، فتحلب الناس إليهم من هذه النواحى، حتى شحنت منهم المدينة.
قال سبرة الجهنى «1» : قدمنا معشر جهينة أربعمائة معنا الظهر والخيل، وساق عمرو ابن مسرة الجهنى مائة بعير عونا للمسلمين، فوزعها أبو بكر فى الناس، وجعل عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب يكلمان أبا بكر فى الرجوع إلى المدينة لما رأيا عزمه على المسير بنفسه، وقد توافى المسلمون وحشدوا، فلم يبق أحد من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، من المهاجرين والأنصار من أهل بدر إلا خرج، وقال عمر: ارجع يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تكن للمسلمين فئة وردآ، فإنك إن تقتل يرتد الناس ويعل الباطل الحق، وأبو بكر مظهر المسير بنفسه، وسألهم بمن نبدأ من أهل الردة، فاختلفوا عليه، فقال أبو بكر: نصمد لهذا الكذاب على الله وعلى كتابه، طليحة.
ولما ألحوا على أبى بكر فى الرجوع، وعزم هو عليه، أراد أن يستخلف على الناس،
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (913) ، الإصابة الترجمة رقم (3094) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1936) ، مشاهير علماء الأمصار (35) ، الوافى بالوفيات (15/ 111) ، تهذيب الكمال (10/ 203) ، تهذيب التهذيب (3/ 4503) ، تقريب التهذيب (1/ 283) ، خلاصة تذهيب التهذيب (133) ، تاريخ الإسلام (1/ 212) .(2/96)
فدعا زيد بن الخطاب «1» لذلك، فقال: يا خليفة رسول الله، قد كنت أرجو أن أرزق الشهادة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم أرزقها، وأنا أرجو أن أرزقها فى هذا الوجه، وإن أمير الجيش لا ينبغى أن يباشر القتال بنفسه، فدعا أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة، فعرض عليه ذلك، فقال مثل ما قال زيد، فدعا سالما مولى أبى حذيفة ليستعمله، فأبى عليه، فدعا أبو بكر خالد بن الوليد فأمره على الناس، وقال لهم وقد توافى المسلمون قبله، وبعث مقدمته أمام الجيش: أيها الناس، سيروا على اسم الله تعالى وبركته، فأميركم خالد بن الوليد، إلى أن ألقاكم، فإنى خارج فيمن معى إلى ناحية خيبر حتى ألاقيكم. ويروى أنه قال للجيش: سيروا، فإن لقيتكم بعد غد فالأمر إلى، وأنا أميركم، وإلا فخالد بن الوليد عليكم، فاسمعوا له وأطيعوا.
وإنما قال ذلك أبو بكر لأن تذهب كلمته فى الناس، وتهاب العرب خروجه، ثم خلا بخالد بن الوليد، فقال: يا خالد، عليك بتقوى الله، وإيثاره على من سواه، والجهاد فى سبيله، فقد وليتك على من ترى من أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فسار خالد، ورجع أبو بكر، وعمر، وعلى، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبى وقاص فى نفر من المهاجرين والأنصار من أهل بدر رضى الله عنهم جميعهم، إلى المدينة.
وصية أبى بكر الصديق رضى الله عنه، خالد بن الوليد حين بعثه فى هذا الوجه
قال حنظلة بن على الأسلمى: بعث أبو بكر رضى الله عنه، خالد بن الوليد إلى أهل الردة، وأمره أن يقاتلهم على خمس خصال، فمن ترك واحدة من الخمس قاتله: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام شهر رمضان. زاد زيد بن أسلم: وحج البيت، وقال: كن ستا.
وعن نافع بن جبران أن أبا بكر حين بعث خالد بن الوليد عهد إليه، وكتب معه هذا الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد به أبو بكر، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (851) ، الإصابة الترجمة رقم (8904) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1834) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 198) ، سير أعلام النبلاء (1/ 297) ، تهذيب التهذيب (3/ 411) ، تقريب التهذيب (1/ 274) ، خلاصة تذهيب الكمال (1/ 352) ، الأعلام (3/ 58) ، العبر (14) ، الثقات (3/ 136) ، الاستبصار (296، 297) ، صفة الصفوة (1/ 447) ، التحفة اللطيفة (1/ 99) ، الرياض المستطاب (89) .(2/97)
خالد بن الوليد، حين بعثه فيمن بعثه من المهاجرين والأنصار، ومن معهم من غيرهم لقتال من رجع عن الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، عهد إليه وأمره أن يتقى الله ما استطاع فى أمره كله، علانيته وسره، وأمره بالجد فى أمر الله والمجاهدة لمن تولى عنه إلى غيره ورجع عن الإسلام إلى ضلالة الجاهلية وأمانى الشيطان.
وعهد إليه وأمره أن لا يقاتل قوما حتى يعذر إليهم ويدعوهم إلى الإسلام، ويبين لهم الذى لهم فى الإسلام والذى عليهم فيه، ويحرص على هداهم، فمن أجابه إلى ما دعاه إليه من الناس كلهم، أحمرهم وأسودهم، قبل منه، وليعذر إلى من دعاه بالمعروف وبالسيف، فإنما يقاتل من كفر بالله على الإيمان بالله، فإذا أجاب المدعو إلى الإيمان، وصدق إيمانه، لم يكن عليه سبيل، وكان الله حسيبه بعد فى عمله، ومن لم يجبه إلى ما دعا إليه من دعائه الإسلام، ممن رجع عن الإسلام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يقاتل أولئك بمن معه من المهاجرين والأنصار، حيث كانوا، وحيث بلغ مراغمه، ثم يقتل من قدر عليه من أولئك، ولا يقبل من أحد شيئا دعاه إليه ولا أعطاه إياه الإسلام والدخول فيه والصبر به وعليه وشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله.
وأمره أن يمضى بمن معه من المسلمين حتى يقدم اليمامة فيبدأ ببنى حنيفة ومسيلمتهم الكذاب، فيدعوهم ويدعوه إلى الإسلام، وينصح لهم فى الدين، ويحرص على هداهم، فإن أجابوا إلى ما دعاهم إليه من دعاية الإسلام قبل منهم، وكتب بذلك إلى، وأقام بين أظهرهم حتى يأتيه أمرى، وإن هم لم يجيبوا ولم يرجعوا عن كفرهم واتباع كذابهم على كذبه على الله عز وجل، قاتلهم أشد القتال بنفسه وبمن معه، فإن الله ناصر دينه ومظهره على الدين كله، كما قضى فى كتابه ولو كره الكافرون، فإن أظهره الله عليهم إن شاء الله وأمكنه منهم فليقتلهم بالسلاح، وليحرقهم بالنار، ولا يستبق منهم أحدا قدر على أن يستبقيه، وليقسم أموالهم وما أفاء الله عليه وعلى المسلمين إلا خمسه، فليرسل به إلى أضعه حيث أمر الله به أن يوضع إن شاء الله.
وعهد إليه أن لا يكون فى أصحابه فشل من رأيهم ولا عجلة عن الحق إلى غيره، ولا يدخل فيهم حشو من الناس حتى يعرفهم ويعرف ممن هم، وعلام اتبعوه وقاتلوا معه، فإنى أخشى أن يدخل معكم ناس يتعوذون بكم ليسوا منكم ولا على دينكم، فيكونون عيونا عليكم، ويتحفظون من الناس بمكانهم معكم، وأنا أخشى أن يكون ذلك فى الأعراب وجفاتهم، فلا يكونن من أولئك فى أصحابك أحد إن شاء الله تعالى، وارفق بالمسلمين فى سيرهم ومنازلهم، وتفقدهم، ولا تعجل بعض الناس عن بعض فى المسير(2/98)
ولا فى الارتحال من مكان، واستوص بمن معك من الأنصار خيرا فى حسن صحبتهم، ولين القول لهم، فإن فيهم ضيقا ومرارة وزعارة، ولهم حق وفضيلة وسابقة ووصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
ويروى أن أبا بكر رحمه الله، كتب مع هذا الكتاب كتابا آخر إلى عامة الناس، وأمر خالدا أن يقرأه عليهم فى كل مجمع، وهو: بسم الله الرحمن الرحيم، من أبى بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من بلغه كتابى هذا من عامة أو خاصة، تاما على إسلامه أو راجعا عنه، سلام على من اتبع الهدى ولم يرجع بعد الهدى إلى الضلالة والعمى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبد ورسوله، الهادى غير المضل، أرسله بالحق من عنده إلى خلقه بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، لينذر من كان حيا، ويحق القول على الكافرين، فهدى الله بالحق من أجاب إليه، وضرب بالحق من أدبر عنه حتى صاروا إلى الإسلام طوعا وكرها، ثم أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم، عند ذلك أجله الذى قضى الله عليه وعلى المؤمنين، فتوفاه الله، وقد كان بين له ذلك ولأهل الإسلام فى الكتاب الذى أنزل عليه، فقال له: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30] ، وقال:
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ [الأنبياء: 34، 35] ، وقال للمؤمنين:
وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران: 144] ، فمن كان إنما يعبد محمدا، فإن محمدا قد مات، صلوات الله عليه، ومن كان إنما يعبد الله وحده لا شريك له، فإن الله بالمرصاد، حى قيوم لا يموت، ولا تأخذه سنة ولا نوم، حافظ لأمره، منتقم من عدوه، وإنى أوصيكم أيها الناس بتقوى الله، وأحضكم على حظكم ونصيبكم من الله وما جاءكم به نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، وأن تهتدوا بهدى الله، وتعتصموا بدين الله، فإن كل من لم يحفظه الله ضائع، وكل من لم يصدقه الله كاذب، وكل من لم يسعده الله شقى، وكل من لم يرزقه الله محروم، وكل من لم ينصره الله مخذول، فاهتدوا بهدى الله ربكم وما جاءكم به نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً [الكهف: 17] ، وإنه قد بلغنى رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أن أقر بالإسلام وعمل به، اغترارا بالله وجهالة بأمر الله، وطاعة للشيطان، إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا(2/99)
حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ [فاطر: 6] ، وإنى قد بعثت خالد بن الوليد فى جيش من المهاجرين الأولين من قريش والأنصار وغيرهم، وأمرته أن لا يقاتل أحدا ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله، فمن دخل فى دين الله وتاب إلى الله ورجع عن معصية الله إلى ما كان يقر به من دين الله وعمل صالحا قبل ذلك منه، وأعانه عليه، ومن أبى أن يرجع إلى الإسلام بعد أن يدعوه بداعية الله ويعذر إليه بعاذرة الله، أن يقاتل من قاتله على ذلك أشد القتال بنفسه ومن معه من أنصار دين الله وأعوانه، ثم لا يبقى على أحد بعد أن يعذر إليه، وأن يحرقهم بالنار، ويسبى الذرارى والنساء، وأمرته أن لا يقبل من أحد شيئا إلا الرجوع إلى دين الله، وشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقد أمرته أن يقرأ على الناس كتابى إليهم فى كل مجمع وجماعة، فمن اتبعه فهو خير له، ومن تركه فهو شر له.
وعن عروة بن الزبير، قال: جعل أبو بكر رضى الله عنه، يوصى خالد بن الوليد ويقول: يا خالد، عليك بتقوى الله، والرفق بمن معك من رعيتك، فإن معك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أهل السابقة من المهاجرين والأنصار، فشاوروهم فيما نزل بك، ثم لا تخالفهم، وقدم أمامك الطلائع ترتاد لك المنازل، وسر فى أصحابك على تعبئة جيدة، فإذا لقيت أسدا وغطفان فبعضهم لك وبعضهم عليك، وبعضهم لا عليك ولا لك، متربص دائرة السوء، ينظر لمن تكون الدبرة، فيميل مع من تكون له الغلبة، ولكن الخوف عندى من أهل اليمامة، فاستعن بالله على قتالهم، فإنه بلغنى أنهم رجعوا بأسرهم، وإن كفاك الله الضاحية فامض إلى أهل اليمامة، فإنك تلقى عدوا كلهم عليك، لهم بلاد منكرة، فلا تؤتى إلا من مفازة، فارفق بجيشك فى تلك المفازة، فإن فى جيشك قوما أهل ضعف، أرجو أن تنصر بهم حتى تدخل بلادهم إن شاء الله تعالى.
فإذا دخلت بلادهم فالحذر الحذر إذا لقيت القوم فقاتلهم بالسلاح الذى يقاتلونك به، السهم للسهم، والرمح للرمح، والسيف للسيف، فإن أعطاك الله الظفر عليهم، فأقل البقيا عليهم إن شاء الله تعالى، وإياك أن تلقانى غدا بما يضيق صدرى به منك، اسمع عهدى ووصيتى، لا تغيرن على دار سمعت فيها أذانا حتى تعلم ما هم عليه، وإياك وقتل من صلى، واعلم يا خالد أن الله يعلم من سريرتك ما يعلم من علانيتك، واعلم أن رعيتك إنما تعمل بما تراك تعمل، كف عليك أطرافك، وتعاهد جيشك، وانههم عما لا يصلح لهم، فإنما تقاتلون من تقاتلون بأعمالكم، وبهذا نرجو لكم النصر على أعدائكم، سر على بركة الله تعالى.(2/100)
ذكر مسير خالد بن الوليد رضى الله عنه، إلى بزاخة وغيرها
قالوا: وسار خالد بن الوليد ومعه عدى بن حاتم، وقد انضم إليه من طيىء ألف رجل، فنزل بزاخة، وكانت جديلة معرضة عن الإسلام، وهى بطن من طيىء، وكان عدى بن حاتم من الغوث، وقد همت جديلة أن ترتد، فجاءهم مكنف بن زيد الخيل الطائى، فقال: أتريدون أن تكونوا سبة على قومكم، لم يرجع رجل واحد من طيىء، وهذا أبو طريف عدى بن حاتم، معه ألف رجل من طيىء، فكسرهم، فلما نزل خالد بزاخة، قال لعدى: يا أبا طريف، ألا نسير إلى جديلة؟ فقال: يا أبا سليمان، لا تفعل، أقاتل معك بيدين أحب إليك، أم بيد واحدة؟ فقال خالد: بل بيدين، قال عدى: فإن جديلة إحدى يدى، فكف خالد عنهم، فجاءهم عدى فدعاهم إلى الإسلام، فأسلموا، فحمد الله وسار بهم إلى خالد.
فلما رآهم خالد فزع منهم، وظن أنهم أتوا للقتال، فصاح فى أصحابه بالسلاح، فقيل له: إنما هى جديلة أتت تقاتل معك، فلما جاؤا حلوا ناحية، وجاءهم خالد، فرحب بهم، وفرح بهم، واعتذروا إليه من اعتزالهم، وقالوا: نحن لك حيث أحببت، فجزاهم خيرا، فلم يرتد من طيىء رجل واحد، فسار خالد على تعبئته، وطلب إليه عدى أن يجعل قومه مقدمة أصحابه، فقال: يا أبا طريف، إن الأمر قد اقترب، وأنا أخاف أن أقدم قومك، فإذا ألحمهم القتال انكشفوا، فانكشف من معنا، ولكن دعنى أقدم قوما صبرا، لهم سوابق ونيات، وهم من قومك.
قال عدى: الرأى ما رأيت، فقدم المهاجرين، والأنصار، ولم يزل خالد يقدم طليعته منذ خرج من بقعاء حتى قدم اليمامة، وأمر عيونه أن يختبروا كل من مروا به عند مواقيت الصلاة بالأذان لها، فيكون ذلك أمانا لهم، ودليلا على إسلامهم، وانتهى خالد والمسلمون إلى عسكر طليحة، وقد ضربت لطليحة قبة من أدم، وأصحابه حوله معسكرون، فانتهى خالد ممسيا، فضرب عسكره على ميل أو نحوه من عسكر طليحة، وخرج يسير على فرس معه نفر من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، فوقف من عسكر طليحة غير بعيد، ثم قال: يخرج إلى طليحة، فقال أصحابه: لا تصغر اسم نبينا، وهو طلحة. فخرج طليحة فوقف، فقال له خالد: إن من عهد خليفتنا إلينا أن ندعوك إلى الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن تعود إلى ما خرجت منه، فنقبل منك، ونغمد سيوفنا عنك، فقال: يا خالد، أنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنى رسول الله، وأنى نبى مرسل يأتينى ذو النون، كما كان جبريل يأتى محمدا، وقد كان ادعى هذا فى عهد النبى(2/101)
صلى الله عليه وسلم، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: لقد ذكر ملكا عظيما فى السماء يقال له: ذو النون، وكان عيينة بن حصن قد قال له: لا أبا لك، هل أنت مرينا بعض نبوتك، فقد رأيت ورأينا ما كان يأتى محمدا، قال: نعم، فبعث عيونا له حيث سار خالد بن الوليد من المدينة مقبلا إليهم قبل أن يسمع بذكر خالد، وقال: إن بعثتم فارسين على فرسين أغرين محجلين من بنى نصر بن قعين أتوكم من القوم بعين، فهيئوا فارسين، فبعثوهما، فخرجا يركضان، فلقيا عينا لخالد بن الوليد، فقالا: ما وراءك؟ فقال: هذا خالد بن الوليد فى المسلمين، قد أقبلوا، فأتوا به إليه، فزادهم فتنة، وقال: ألم أقل لكم؟.
فلما أبى طليحة على خالد أن يقر بما دعاه إليه انصرف خالد إلى معسكره، فاستعمل تلك الليلة على حرسه مكنف بن زيد الخيل، وعدى بن حاتم، وكان لهما صدق نية ودين، فباتا يحرسان فى جماعة من المسلمين، فلما كان فى السحر، نهض خالد فعبأ أصحابه، ووضع ألويته مواضعها، ودفع اللواء الأعظم إلى زيد بن الخطاب، فتقدم به، وتقدم ثابت بن قيس بن شماس بلواء الأنصار، وطلبت طيىء لواء يعقد لها، فعقد خالد لواء ودفعه إلى عدى بن حاتم، فلما سمع طليحة حركة القوم عبأ أصحابه، وجعل خالد يسوى الصفوف على رجليه، وطليحة يسوى أصحابه على راحلته، حتى إذا استوت الصفوف زحف بهم خالد حتى دنا من طليحة، فلما انتهى إليه، خرج إليه طليحة بأربعين غلاما جلداء من جنوده، مردا، فأقامهم فى الميمنة، فقال: اضربوا حتى تأتوا الميسرة، فتضعضع الناس ولم يقتل أحد، ثم أقامهم فى الميسرة ففعلوا مثل ذلك، وانهزم المسلمون، فقال رجل من هوازن، حضرهم يومئذ: إن خالدا لما كان ذلك قال: يا معشر الأنصار، الله الله، واقتحم وسط القوم، وكر عليه أصحابه، فاختلطت الصفوف، واختلفت السيوف بينهم، وضرس خالد فى القتال، فجعل يقحم فرسه ويقولون له: الله الله، فإنك أمير القوم، ولا ينبغى لك أن تقدم، فيقول: والله إنى لأعرف ما تقولون، ولكنى والله ما رأيتنى أصبر، وأخاف هزيمة المسلمين.
وفيما ذكر الكلبى عن بعض الطائيين: أنه نادى مناد من طيىء، يعنى عندما حمل أولئك الأربعون غلاما على المسلمين: يا خالد، عليك سلمى وأجأ فقال: بل إلى الله الملجأ، قال: ثم حمل، فو الله ما رجع حتى لم يبق من أولئك الأربعين رجل واحد، وقاتل خالد يومئذ بسيفين، حتى قطعهما، وتراد الناس بعد الهزيمة، واشتد القتال، وأسر حبال ابن أبى حبال، فأرادوا أن يبعثوا به إلى أبى بكر، فقال: اضربوا عنقى ولا ترونى محمديكم هذا، فضربوا عنقه.(2/102)
وذكر الواقدى عن ابن عمر، قال: نظرت إلى راية طليحة يومئذ، حمراء يحملها رجل منهم لا يزول بها فترا، فنظرت إلى خالد أتاه فحمل عليه فقتله، فكانت هزيمتهم، فنظرت إلى الراية تطؤها الإبل والخيل والرجال حتى تقطعت.
وعنه، قال: يرحم الله خالد بن الوليد، لقد كان له غناء وجرأة، ولقد رأيته يوم طليحة يباشر الحرب بنفسه حتى ليم فى ذلك، ولقد رأيته يوم اليمامة يقاتل أشد القتال، إن كان مكانه ليتقى حتى يطلع إلينا منبهرا.
ولما تراجع المسلمون، وضرس القتال، تزمل طليحة بكساء له ينتظر، زعم أن ينزل عليه الوحى، فلما طال ذلك على أصحابه وهدتهم الحرب، جعل عيينة بن حصن يقاتل ويذمر الناس.
قال ابن إسحاق: قاتل يومئذ فى سبعمائة من فزارة قتالا شديدا، حتى إذا لج المسلمون عليهم بالسيف وقد صبروا لهم، أتى طليحة وهو متلثم فى كسائه، فقال: لا أبا لك، هل أتاك جبريل بعد؟ قال: يقول طليحة وهو تحت الكساء: لا والله ما جاء بعد، فقال عيينة: تبا لك سائر اليوم، ثم رجع عيينة فقاتل، وجعل يحض أصحابه وقد ضجوا من وقع السيوف.
فلما طال ذلك على عيينة جاء طليحة وهو مستلق متسج بكسائه فجبذه جبذة جلس منها، وقال له: قبح الله هذه من نبوة، ما قيل لك بعد شىء؟ فقال: طليحة: قد قيل لى:
إن لك رحا كرحاه، وأمرا لن تنساه، فقال عيينة: أظن قد علم الله أن سيكون لك أمر لن تنساه، يا فزارة، هكذا، وأشار له تحت الشمس، هذا والله كذاب، ما بورك له ولا لنا فيما يطالب، فانصرفت فزارة، وذهب عيينة وأخوه فى آثارها، فيدرك عيينة فأسر، وأفلت أخوه، ويقال: أسر عيينة عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لام الطائى، فأراد خالد قتله حتى كلمه فيه رجل من بنى مخزوم، فترك قتله.
ولما رأى طليحة أن الناس يقتلون ويؤسرون، خرج منهزما، وأسلمه الشيطان، فأعجزهم هو وأخوه، فجعل أصحابه يقولون له: ماذا ترى؟ وقد كان أعد فرسه وهيأ امرأته النوار فوثب على فرسه، وحمل امرأته وراءه فنجا بها، وقال: من استطاع منكم أن يفعل كما فعلت فليفعل، ولينج بأهله، ثم هرب حتى قدم الشام، فأقام عند بنى جفنة الغسانيين.
وفى كتاب يعقوب الزهرى: أن طليحة قال لأصحابه لما رأى انهزامهم: ويلكم ما(2/103)
يهزمكم؟ فقال له رجل منهم: أنا أخبرك أنه ليس منا رجل إلا وهو يحب أن صاحبه يموت قبله، وأنا نلقى قوما كلهم يحب أن يموت قبل صاحبه.
وذكر ابن إسحاق أن طليحة لما ولى هاربا تبعه عكاشة بن محصن، وثابت بن أقرم، وقد كان طليحة أعطى الله عهدا أن لا يسأله أحد النزول إلا فعل، فلما أدبر ناداه عكاشة: يا طليحة، فعطف عليه، فقتل عكاشة، ثم أدركه ثابت، فقتله أيضا طليحة، ثم لحق بالشام. وقال طليحة يذكر قتله إياهما:
زعمتم بأن القوم لن يقتلوكم ... أليسوا وإن لم يسلموا برجال
عدلت لهم صدر الحمالة إنها ... معودة قيل الكماة نزال
فيوما تفى بالمشرفية خدها ... ويوما تراها فى ظلال عوال
ويوما تراها فى الجلال مصونة ... ويوما تراها غير ذات جلال
عشية غادرت ابن أقرم ثاويا ... وعكاشة الغنمى عند مجال
فإن يك أذواد أصبن ونسوة ... فلن يذهبوا فرغا بقتل حبال
وقد قيل فى قتلها غير هذا، وهو ما ذكره الواقدى عن عميلة الفزارى، وكان عالما بردتهم: أن خالد بن الوليد كان لما دنا من القوم بعث عكاشة وثابتا طليعة أمامه، وكانا فارسين، فلقيهما طليحة وأخاه مسيلمة ابنى خويلد، طليعة لمن وراءهما من الناس، وخلفوا عسكرهم من ورائهم، فلما التقوا، انفرد طليحة بعكاشة، ومسلمة بثابت، فلم يلبث مسلمة أن قتل ثابتا، وصرخ طليحة بمسلمة: أعنى على الرجل فإنه قاتلى، فكر معه على عكاشة، فقاتلاه رحمه الله، ثم كرا راجعين إلى من وراءهما، وأقبل خالد معه المسلمون، فلم يرعهم إلا ثابت بن أقرم قتيلا تطؤه المطى، فعظم ذلك على المسلمين، ثم لم يسيروا إلا يسيرا حتى وطئوا عكاشة قتيلا، فثقل على المطى، كما وصف واصفهم، حتى ما تكاد المطى ترفع أخفافها.
وفى كتاب الزهرى: ثم لحقوا أصحاب طليحة، فقتلوا وأسروا، وصاح خالد: لا يطبخن رجل قدرا ولا يسخنن ماء إلا على أثفية رأس رجل، وتظلف رجل من بنى أسد، فوثب على عجز راحلة خالد وهو يقول:
لن يخزى الله قوما أنت قائدهم ... يا ابن الوليد ولن تشقى بك الدبر
كفاك كف عقاب عند سطوتها ... على العدو وكف برة عقر
أنشدك الله أن يكون هلاك مضر اليوم على يديك، قال: من أنت ويحك؟ قال: أنا(2/104)
الأباء بن قيس يا خالد، حكمك فى بنى أسد، قال: حكمى فيهم أن يقيموا الصلاة، ثم يؤتوا الزكاة، ثم يرجعوا إلى بلادهم، فمن كان له بها مال فليعمده، وليسلم عليه، فهو له. فأقروا بذلك، فنادى خالد: من قام فهو آمن، فقام الناس كلهم، فآمن من قام.
وسمعت بذلك بنو عامر، فأعلنوا بالإسلام، وأمر خالد بالحظائر أن تبنى، ثم أوقد فيها النار، ثم أمر بالأسرى، فألقيت فيها، وألقى يومئذ حامية بن سبيع بن الحسحاس الأسدى، وهو الذى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، استعمله على صدقات قومه فارتد عن الإسلام.
وأخذ أم طليحة، إحدى نساء بنى أسد، فعرض عليها الإسلام، فأبت، ووثبت فاقتحمت النار وهى تقول:
يا موت عم صباحا ... كافحته كفاحا
إذا لم أجد براحا
وذكر الواقدى عن يعقوب بن يزيد بن طلحة: أن خالدا جمع الأسارى فى الحظائر، ثم أضرمها عليهم، فاحترقوا وهم أحياء، ولم يحرق أحد من بنى فزارة، فقلت لبعض أهل العلم: لم حرق هؤلاء من بين أهل الردة؟ فقال: بلغت عنهم مقالة سيئة، شتموا النبى صلى الله عليه وسلم، وثبتوا على ردتهم.
وذكر عن غير يعقوب: أن خالدا أمر بالأخدود يحفر، فقيل له: ما تريد بهذا الأخدود؟ قال: أحرقهم بالنار، فكلم فى ذلك، فقال: هذا عهد الصديق أبى بكر إلى، اقرؤه فى كل مجمع: إن أظفرك الله بهم فاحرقهم بالنار.
وعن عبد الله بن عمر، قال: شهدت بزاخة فظفرنا الله على طليحة، فكنا كلما أغرنا على القوم سبينا الذرارى واقتسمنا أموالهم.
ذكر رجوع بنى عامر وغيرهم إلى الإسلام
ولما أوقع الله ببنى أسد وفزارة ما أوقع ببزاخة بعث خالد بن الوليد السرايا ليصيبوا ما قدروا عليه ممن هو على ردته، وجعلت العرب تسير إلى خالد راغبة فى الإسلام أو خائفة من السيف، فمنهم من أصابته السرية، فيقول: جئت راغبا فى الإسلام، وقد رجعت إلى ما خرجت منه، ومنهم من يقول: ما رجعنا ولكنا منعنا أموالنا وشححنا(2/105)
عليها، فقد سلمناها فليأخذ منها حقه، ومنهم من لم تظفر به السرايا، فانتهى إلى خالد مقرا بالإسلام، ومنهم من مضى إلى أبى بكر الصديق ولم يقرب خالدا.
قال الواقدى: فاختلفوا علينا فى قرة بن هبيرة القشيرى «1» ، فقال قائل: هرب إلى أبى بكر وأسلم عنده، وقال قائل: أخذته خيل خالد، فأتت به إليه، ومنهم من قال: جاء إلى خالد بن الوليد شاردا حين جاءت بنو عامر إلى خالد، وهو أثبت عندنا.
قال بعضهم: وكانت بنو عامر تربص لمن الدبرة، وصاحب أمرهم قرة بن هبيرة، فقام فيهم أبو حرب ربيعة بن خويلد العقيلى، وهو يومئذ، فارس عامر ورجلها، فقال: مهلا يا بنى عامر، قد قتلتم رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى بئر معونة، وأخفرتم ذمة أبى براء، وأرداكم عامر بن الطفيل، وقد أظلكم خالد فى المهاجرين والأنصار، فكسرهم قوله، وقد رضوه، وكان عرض لعمرو بن العاص مقدمه من عمان بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع قرة بن هبيرة ما نذكره، وذلك أن عمرا كان عاملا للنبى صلى الله عليه وسلم، على عمان، فجاءه يوما يهودى من يهود عمان، فقال: أرأيتك إن سألتك عن شىء أأخشى على منك؟ قال: لا، قال اليهودى: أنشدك الله، من أرسلك إلينا؟ قال: اللهم، رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال اليهودى:
الله إنك لتعلم أنه رسول الله؟ قال عمرو: اللهم نعم، فقال اليهودى: لئن كان حقا ما تقول لقد مات اليوم.
فلما رأى عمرو ذلك جمع أصحابه وحواشيه، وكتب ذلك اليوم الذى قال له اليهودى فيه ما قال، ثم خرج بخفراء من الأزد وعبد القيس، يأمن بهم، فجاءته وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهجر، ووجد ذكر ذلك عند المنذر بن ساوى، فسار حتى قدم أرض بنى حنيفة، فأخذ منهم خفيرا حتى جاء أرض بنى عامر، فنزل على قرة بن هبيرة القشيرى، فقال له حين أراد عمرو أن يركب: إن لك عندى نصيحة، وأنا أحب أن تسمعها، إن صاحبك قد توفى، قال عمرو: وصاحبنا هو لا أم لك، يعنى دونك، قال له قرة: وإنكم يا معشر قريش كنتم فى حرمكم تأمنون فيه ويأمنكم الناس، ثم خرج منكم رجل يقول ما سمعت، فلما بلغنا ذلك لم نكرهه، وقلنا، رجل من مضر يريد يسوق الناس، وقد توفى، والناس إليكم سراع، وإنهم غير معطيكم شيئا، فالحقوا بحرمكم تأمنون فيه، وإن كنت غير فاعل، فعدنى حيث شئت آتك، فوقع به عمرو وقال: إنى أرد عليك نصيحتك، وموعدك حفش أمك، قال قرة: إنى لم أرد هذا، وندم على مقالته، ويقال:
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2138) ، الإصابة الترجمة رقم (7121) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4296) ، الجرح والتعديل (7/ 740) ، التاريخ الكبير (7/ 181) .(2/106)
خرج مع عمرو فى مائة من قومه خفراء له. وأقبل عمرو بن العاص يلقى الناس مرتدين، حتى أتى على ذى القصة، فلقى عيينة بن حصن خارجا من المدينة، وذلك حين قدم على أبى بكر يقول: إن جعلت لنا شيئا كفيناك ما وراءنا، فقال له عمرو بن العاص: ما وراءك يا عيينة؟ من ولى الناس أمورهم؟ قال: أبو بكر. فقال عمرو: الله أكبر، قال عيينة: يا عمرو، استوينا نحن وأنتم، فقال عمرو: كذبت يا ابن الأخابث من مضر، وسار عيينة فجعل يقول لكل من لقى من الناس: احبسوا عليكم أموالكم. قالوا: فأنت ما تصنع؟ قال: لا يدفع إليه رجل من فزارة عناقا واحدة، ولحق عند ذلك بطليحة الأسدى، فكان معه.
وقدم عمرو المدينة، فأخبر أبا بكر بما كان فى وجهه، وبمقالة قرة بن هبيرة، وبمقالة عيينة بن حصن، وأتى عمرو خالدا حين بعثه أبو بكر إلى أهل الردة، فجعل يقول: يا أبا سليمان، لا يفلت منك قرة بن هبيرة، فلما صنع الله بأهل بزاخة ما صنع، عمد خالد إلى جبلى طيىء فأتته عامر وغطفان يدخلون فى الإسلام، ويسألونه الأمان على مياههم وبلادهم، وأظهروا له التوبة، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، فأمنهم خالد، وأخذ عليهم العهود والمواثيق ليبايعن على ذلك أبناءكم ونساءكم آناء الليل وآناء النهار، فقالوا: نعم نعم، ولما اجتمعوا إليه، قال خالد: أين قرة بن هبيرة القشيرى؟ قال: ها أنا ذا، قال: قدمه فاضرب عنقه، وقال: أنت المتكلم لعمرو بن العاص بما تكلمت به وأنت المتربص بالمسلمين الدوائر، ولم تنصر وقلت إن كانت الدائرة على المسلمين فمالى بيدى، وجمعت قومك على ذلك، ورأسك قومك، ولم تكن بأهل أن ترأس ولا تطاع. قال: يا ابن المغيرة، إن لى عند عمرو بن العاص شهادة، فقال خالد: عمرو الذى نقل عنك إلى الخليفة ما تكلمت به.
ويروى أنه قال له هذا ما قال لك عمرو: سيأتيك فى حفش أمك. فقال له قرة: يا أبا سليمان، إنى قد أجرته فأحسنت جواره، وأنا مسلم لم أرتد، فقال: لولا ما تذكر لضربت عنقك، ولكن لا بد أن أبعث بك فى وثاق إلى أبى بكر فيرى فيك رأيه، فلما فرغ من بيعة بنى عامر أوثق عيينة بن حصن، وقرة بن هبيرة، وبعث بهما إلى أبى بكر الصديق.
قال ابن عباس: فقدم بهما المدينة فى وثاق، فنظرت إلى عيينة مجموعة يداه إلى عنقه بحبل ينخسه غلمان المدينة بالجريد، ويضربونه، ويقولون: أى عدو الله، أكفرت بالله بعد إيمانك؟ فيقول: والله ما كنت آمنت بالله.(2/107)
قالوا: ووقف عليه عبد الله بن مسعود، فقال: خبت وخسرت، إنك لموضع فى الباطل قديما، فقال له عيينة: اقصر أيها الرجل، فلولا ما أنا فيه لم تكلمنى بما تكلمنى به، فانصرف ابن مسعود، وأتى بقرة بن هبيرة، فقال: يا خليفة رسول الله، والله ما كفرت، وسل عمرو بن العاص، فإن لى عنده شهادة، لما أقبل من عمان خرجت فى مائة من قومى خفراء له، وقبل ذلك ما أكرمت منزله، ونحرت له، فسأل أبو بكر رضى الله عنه، عمرا، فقال: نزلت به، فلم أر للضيف خيرا منه، لم يترك، وخرج معى فى مائة من قومه؛ ثم ذكر عمرو ما قال له قرة، فقال قرة: انزع يا عمرو، فقال عمرو: لو نزعت نزعت، فلم يعاقبه أبو بكر، وعفا عنه، وكتب له أمانا، وقبل منه.
وكان فيمن ارتد من بنى عامر ولم يرجع معهم علقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص بن جعفر، فبعث أبو بكر إلى ابنته وامرأته ليأخذهما، فقالت امرأته: مالى ولأبى بكر، إن كان علقمة قد كفر فإنى لم أكفر، فتركها، ثم راجع علقمة الإسلام زمن عمر رضى الله عنه، فرد عليه زوجته.
وأخذ خالد بن الوليد من بنى عامر وغيرهم من أهل الردة ممن جامعهم وبايعه على الإسلام كل ما ظهر من سلاحهم، واستحلفهم على ما غيبوا عنه، فإن حلفوا تركهم، وإن أبوا شدهم أسرا حتى أتوا بما عندهم من السلاح، فأخذ منهم سلاحا كثيرا، فأعطاه أقواما يحتاجون إليه فى قتال عدوهم، وكتبه عليهم، فلقوا به العدو ثم ردوه بعد، فقدم به على أبى بكر، رضى الله عنه.
وحدث يزيد بن شريك الفزارى، عن أبيه، قال: قدمت مع أسد وغطفان على أبى بكر وافدا حين فرغ خالد من بزاخة، وجعلت أسد وغطفان تسلل، فاجتمعوا عند أبى بكر، فمنهم من بايع خالدا، ومنهم من لم يبايعه، فجاؤا إلى أبى بكر، فقال أبو بكر:
اختاروا بين خصلتين: حرب مجلية أو سلم مخزية، قال خارجة بن حصن: هذه الحرب المجلية قد عرفتها، فلما السلم المخزية؟.
قال: تقرون أن قتلانا فى الجنة، وأن قتلاكم فى النار، وأن تردوا علينا ما أخذتم منا، ولا نرد عليكم مما أخذنا منكم شيئا، وأن تدوا قتلانا دية كل قتيل مائة بعير، منها أربعون فى بطونها أولادها، ولا ندى قتلاكم، ونأخذ منكم الحلقة والكراع، وتلحقون بأذناب الإبل حتى يرى الله خليفة نبيه والمؤمنين ما شاء فيكم أو يرى منكم إقبالا إلى ما خرجتم منه. فقال خارجة بن حصن: نعم يا خليفة رسول الله، قال أبو بكر: عليكم(2/108)
عقد الله وميثاقه أن تقوموا بالقرآن آناء الليل وآناء النهار، وتعلموه أولادكم ونساءكم، ولا تمنعوا فرائض الله فى أموالكم، قالوا: نعم، فقال عمر: يا خليفة رسول الله، كل ما قلت كما قلت إلا أن يدوا من قتلوا منا، فإنهم قوم قتلوا فى سبيل الله، واستشهدوا.
وفى رواية: فتتابع الناس على قول عمر، وقبض أبو بكر رضى الله عنه، كل ما قدر عليه من الحلقة والكراع، فلما توفى، رأى عمر رضى الله عنه، أن الإسلام قد ضرب بجرانه، فدفعه إلى أهله، أو إلى عصبة من مات منهم.
ولما فرغ خالد من بزاخة وبنى عامر ومن يليهم، أظهر أن أبا بكر عهد إليه أن يسير إلى أرض بنى تميم وإلى اليمامة، فقال ثابت بن قيس بن شماس، وهو على الأنصار، وخالد على جماعة المسلمين: ما عهد إلينا ذلك، وما نحن بسائرين، وليست بنا قوة، وقد كلّ المسلمون، وعجف كراعهم. فقال خالد: أما أنا فلست بمستكره أحدا منكم، فإن شئتم فسيروا، وإن شئتم فأقيموا، فسار خالد ومن تبعه من المهاجرين وأبناء العرب، عامدا لأرض بنى تميم، واليمامة، وأقامت الأنصار يوما أو يومين، ثم تلاومت فيما بينها، وقالوا: والله ما صنعنا شيئا، والله لئن أصيب القوم ليتولن: أخذلتموهم وأسلمتموهم، وإنها لسبة باق عارها آخر الدهر، ولئن أصابوا خيرا وفتح الله فتحا، إنه لخير منعتموه، فابعثوا إلى خالد يقيم لكم حتى تلحقوه، فبعثوا إليه مسعود بن سنان، ويقال: ثعلبة بن غنمة، فلما جاءه الخبر أقام حتى لحقوه، فاستقبلهم فى كثرة من معه من المسلمين، لما أطلوا على العسكر حتى نزلوا، وساروا جميعا حتى انتهى خالد بهم إلى البطاح من أرض بنى تميم، فلم يجد بها جمعا، ففرق السرايا فى نواحيها، وكان فى سرية منها أبو قتادة الأنصارى.
قال: فلقينا رجل، فقلنا: ممن أنت؟ قال: من بنى حنظلة، فقلنا: أين من يمنع الصدقة منا الآن؟ قال: هم بمكان كذا وكذا، فقلت: كم بيننا؟ قال: مائة، فانطلقنا سراعا حتى أتيناهم حين طلعت الشمس، ففزعوا حين رأونا، وأخذوا السلاح، وقالوا: من أنتم؟ قلنا:
نحن عباد الله المسلمون، قالوا: ونحن عباد الله المسلمون، وكانوا اثنى عشر رجلا، فيهم مالك بن نويرة، قلنا: فضعوا السلاح واستسلموا، ففعلوا، فأخذناهم، فجئنا بهم خالدا.
وذكر من خبرهم ما يأتى بعد إن شاء الله تعالى.
وكان مالك بن نويرة قد بعثه النبى صلى الله عليه وسلم، مصدقا إلى قومه بنى حنظلة، وكان سيدهم، فجمع صدقاتهم، فلما بلغته وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، جفل إبل الصدقة، أى ردها من حيث(2/109)
جاءت، فلذلك سمى الجفول، وجمع قومه، فقال: إن هذا الرجل قد هلك، فإن قام قائم من قريش بعد نجتمع عليه جميعا، إن رضى منكم أن تدخلوا فى أمره، ولم يطلب ما مضى من هذه الصدقة أبدا، ولم تكونوا أعطيتم الناس أموالكم، فأنتم أولى بها وأحق، فتسارع إليه جمهور قومه وفرحوا بذلك، فقام ابن قعنب، وكان سيد بنى يربوع، فقال:
يا بنى تميم، بئس ما ظننتم، أن ترجعوا فى صدقاتكم ولا يرجع الله فى نعمه عليكم، وأن تجردوا للبلاء ويلبسكم الله العافية، وأن تستشعروا خوف الكفر، وأن تسكنوا فى أمن الإسلام، إنكم أعطيتم قليلا من كثير، والله مذهب الكثير بالقليل ومسلط على أموالكم غدا من لا يأخذها على الرضى ولا يخيركم فى الصدقة، وإن منعتموها قتلتم، فأطيعوا الله واعصوا مالكا.
فقام مالك، فقال: يا معشر بنى تميم، إنما رددت عليكم أموالكم إكراما لكم، وبقيا عليكم، وإنه لا يزال يقوم قائم منكم يخطئنى فى ردها عليكم ويخطئكم فى أخذها، فما أغنانى عما يضرنى ولا ينفعكم، فو الله ما أنا بأحرصكم على المال، ولا بأجزعكم من الموت، ولا بأخفاكم شخصا إن أقمت، ولا بأخفكم رحلة إن هربت، فترضاه عند ذلك بنو حنظلة، وأسندوا إليه أمرهم، وقالوا: حربنا حربك وسلمنا سلمك، فأخذوا أموالهم، وأبى الله إلا أن يتم أمره فيهم، وقال فى ذلك مالك:
وقال رجال سدد اليوم مالك ... وقال رجال مالك لم يسدد
فقلت دعونى لا أبا لأبيكم ... فلم أخط رأيا فى المعاد ولا البد
وقلت خذوا أموالكم غير خائف ... ولا ناظر فيما يجىء به غد
فدونكموها إنها صدقاتكم ... مصررة أخلافها لم تحرد
سأجعل نفسى دون ما تحذرونه ... وأرهنكم يوما بما قلته يدى
فإن قام بالأمر المخوف قائم ... أطعنا وقلنا الدين دين محمد
ولما بلغ ذلك أبا بكر والمسلمين حنقوا على مالك، وعاهد الله خالد بن الوليد لئن أخذه ليقتلنه، ثم ليجعلن هامته أثفية للقدر، فلما أتى به أسيرا فى نفر من قومه، أخذوا معه كما تقدم.
اختلف فيه الذين أخذوهم، فقال بعضهم: قد والله أسلموا، فما لنا عليهم من سبيل وفيمن شهد بذلك أبو قتادة الأنصارى، وكان معهم فى تلك السرية، وقالوا: إنا قد أذنا فأذنوا، ثم أقمنا فأقاموا، ثم صلينا فصلوا.(2/110)
وكان من عهد أبى بكر إلى خالد أن: أيما دار غشيتموها فسمعتم الأذان فيها بالصلاة فأمسكوا عن أهلها حتى تسألوهم ماذا نقموا وماذا يبغون، وأيما دار غشيتموها فلم تسمعوا فيها الأذان، فشنوا عليها الغارة، فاقتلوا وحرقوا.
وشهد بعض من كان فى تلك السرية أنهم لم يسلموا، وأنهم لم يسمعوهم كبروا ولا أذنوا، وأن قتلهم وسبيهم حلال، وكان ذلك رأى خالد فيهم.
قال أبو قتادة: فجئته فقلت: أقاتل أنت هؤلاء القوم؟ قال: نعم، قلت: والله ما يحل لك قتلهم، ولقد اتقونا بالإسلام، فما عليهم من سبيل، ولا أتابعك على قتلهم، فأمر بهم خالد فقتلوا.
قال أبو قتادة: فتسرعت حتى قدمت على أبى بكر، فأخبرته الخبر، وعظمت عليه الشأن، فاشتد فى ذلك عمر، وقال: ارجم خالدا، فإنه قد استحل ذلك، فقال أبو بكر:
والله لا أفعل، إن كان خالد تأول أمرا فأخطأه.
وذكر يعقوب بن محمد الزهرى والواقدى فى مقتل مالك بن نويرة روايات غير ما تقدم، أستغنى عن إيرادها بما ذكر هنا. وفى بعض ذلك أن خالدا أمر برأسه فجعل أثفية لقدر حسب ما تقدم من نذره ذلك، وكان من أكثر الناس شعرا، فكانت القدر على رأسه، فراحوا وإن شعره ليدخن وما خلصت النار إلى شواة رأسه.
وعاتب أبو بكر خالدا لما قدم عليه فى قتل مالك بن نويرة مع ما شهد له به أبو قتادة وغيره، فاعتذر إليه خالد، وزعم أنه سمع منه كلاما استحل به قتله، فعذره أبو بكر وقبل منه.
ورثا متمم بن نويرة «1» أخاه مالكا بقصائد كثيرة منها قصيدته المشهورة المتخيرة فى مراثى العرب التى يقول فيها «2» :
وكنا كندمانى جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن نتصدعا
فلما تفرقنا كأنى ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
ويروى أن عمر بن الخطاب رحمه الله، قال لمتمم بن نويرة: لوددت أنى رثيت أخى زيدا بمثل ما رثيت به مالكا أخاك، وكان زيد أصيب يوم اليمامة، فقال له متمم: يا أبا
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2541) ، الإصابة الترجمة رقم (7733) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4666) .
(2) انظر الأبيات فى ديوانه ص (11) .(2/111)
حفص، والله لو علمت أن أخى صار حيث صار أخوك ما رثيته، فقال عمر: ما عزانى أحد عن أخى بمثل تعزيته.
قصة مسيلمة الكذاب وردة أهل اليمامة «1»
عن رافع بن خديج قال: قدمت على النبى صلى الله عليه وسلم، وفود العرب، فلم يقدم علينا وفد أقسى قلوبا ولا أحرى أن يكون الإسلام لم يقر فى قلوبهم من بنى حنيفة.
وقد تقدم ذكر قدوم مسيلمة فى قومه، وأنه ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أما أنه ليس بشركم مكانا، لما كانوا أخبروه به من أنهم تركوه فى رحالهم حافظا لها» «2» .
ويروى من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر له مسيلمة، قال عندما قدم فى قومه: لو جعل لى محمد الخلافة من بعده لاتبعته، فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، معه ثابت بن قيس بن شماس، وفى يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ميتخة من نخل فوقف عليه، ثم قال: «لئن أقبلت ليفعلن الله بك، ولئن أدبرت ليقطعن الله دابرك، وما أراك إلا الذى رأيت فيه ما رأيت، ولئن سألتنى هذه الشظية، لشظية من الميتخة التى فى يده، ما أعطيتكها، وهذا ثابت يجيبك» .
قال ابن عباس: فسألت أبا هريرة عن قول النبى صلى الله عليه وسلم: ما أراك إلا الذى رأيت فيه ما رأيت، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «بينا أنا نائم، رأيت فى يدى سوارين من ذهب، فنفختهما فطارا، فوقع أحدهما باليمامة، والآخر باليمن، قيل: ما أولتهما يا رسول الله؟
قال: أولتهما كذابين يخرجان من بعدى» «3» .
ولما انصرف فى قومه إلى اليمامة، ارتد عدو الله، وادعى الشركة فى النبوة مع النبى صلى الله عليه وسلم، وقال للوفد الذين كانوا معه: «ألم يقل لكم حين ذكرتمونى له: أما أنه ليس بشركم مكانا، ما ذاك إلا لما علم أنى أشركت فى الأمر معه» ، وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، أما بعد، فإنى قد أشركت فى الأمر معك، وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشا قوم يعتدون.
__________
(1) راجع: المنتظم (4/ 79- 83) ، تاريخ الطبرى (3/ 280- 281) .
(2) انظر الحديث فى: فتح البارى لابن حجر (7/ 691) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 317) .
(3) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (5/ 217، 9/ 52) ، مسند الإمام أحمد (1/ 263) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 50) ، فتح البارى لابن حجر (12/ 420) .(2/112)
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بهذا الكتاب رسولان لمسيلمة، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قرآ كتابه: «فما تقولان أنتما؟» قالا: نقول كما قال، فقال: «أما والله لولا أن الرسل ما تقتل لضربت أعناقكما» ، ثم كتب إلى مسيلمة: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى مسيلمة الكذاب، أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين «1» » .
قال ابن إسحاق: وكان ذلك فى آخر سنة عشر، وذكر غيره أن ذلك كان بعد انصراف النبى صلى الله عليه وسلم، من حجة الوداع، ووقوعه فى المرض الذى توفاه الله فيه، فالله تعالى أعلم.
وجد بعدو الله ضلاله بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصفقت معه حنيفة على ذلك، إلا أفدادا من ذوى عقولهم، ومن أراد الله به الخير منهم، وكان من أعظم ما فتن به قومه شهادة الرجال بن عنفوة له بإشراك النبى صلى الله عليه وسلم، إياه فى الأمر، وكان من قصة الرجال أنه قدم مع قومه وافدا على النبى صلى الله عليه وسلم، فقرأ القرآن وتعلم السنن.
قال ابن عمر: وكان من أفضل الوفد عندنا، قرأ البقرة وآل عمران، وكان يأتى أبيا يقرئه فقدم اليمامة، وشهد لمسيلمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه أشركه فى الأمر من بعده، فكان أعظم أهل اليمامة فتنة من غيره، لما كان يعرف به.
وقال رافع بن خديج: كان بالرجال من الخشوع ولزوم قراءة القرآن والخير فيما نرى شىء عجيب، خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوما وهو معنا جالس مع نفر، فقال: «أحد هؤلاء النفر فى النار» «2» . قال رافع: فنظرت فى اليوم، فإذا بأبى هريرة وأبى أروى الدوسى وطفيل بن عمرو الدوسى، والرجال بن عنفوة، فجعلت أنظر وأعجب، وأقول:
من هذا الشقى؟ فلما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، رجعت بنو حنيفة، فسألت: ما فعل الرجال؟
قالوا: افتتن، هو الذى شهد لمسيلمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه أشركه فى الأمر من بعده، فقلت: ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق.
قالوا: وسمع الرجال يقول: كبشان انتطحا، فأحبهما إلينا كبشنا. وكان ابن عمير اليشكرى من سراة أهل اليمامة وأشرافهم، وكان مسلما يكتم إسلامه، وكان صديقا
__________
(1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (6/ 384) ، مسند أبى حنيفة (180) .
(2) انظر الحديث فى: معجم الطبرانى الكبير (4/ 338) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (7/ 181) ، مجمع الزوائد للهيثمى (8/ 290) .(2/113)
للرجال، فقال شعرا فشا فى اليمامة حتى كانت المرأة والوليدة والصبى ينشدونه، فقال:
يا سعاد الفؤاد بنت أثال ... طال ليلى بفتنة الرجال
إنها يا سعاد من حديث الده ... ر عليكم كفتنة الرجال
فتن القوم بالشهادة والل ... هـ عزيز ذو قوة ومحال
لا يساوى الذى يقول من الأم ... ر قبالا وما احتذى من قبال
إن دينى دين النبى وفى القو ... م رجال على الهدى أمثالى
أهلك القوم محكم بن طفيل ... ورجال ليسوا لنا برجال
بزهم أمرهم مسيلمة اليو ... م فلن يرجعوه أخرى الليالى
قلت للنفس إذ تعاظمها الصب ... ر وساءت مقالة الأقوال
ربما تجزع النفوس من الأم ... ر له فرجة كحل العقال
إن تكن ميتتى على فطرة الل ... هـ حنيفا فإننى لا أبالى
فبلغ ذلك مسيلمة، ومحكما، وأشراف أهل اليمامة، فطلبوه، ففاتهم، ولحق بخالد بن الوليد، فأخبره بحال أهل اليمامة، ودله على عوراتهم، وقالوا: إن رجلا من بنى حنيفة كان أسلم، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحسن إسلامه، فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى مسيلمة ليقدم به عليه، وقال الحنفى: إن أجاب أحدا من الناس أجابنى، وعسى أن يجيبه الله، فخرج حتى أتاه، فقال: إن محمدا قد أحب أن تقدم عليه، فإنك لو جئته لم يفارقك إلا عن رضى، ورفق له، وجعل يأتيه خاليا، فيلقى هذا القول إليه، فلما أكثر عليه قال:
انظر فى ذلك، فشاور الرجال بن عنفوة وأصحابه، فقالوا: لا تفعل، إن قدمت عليه قتلك، ألم تسمع كلامه وما قال.
فأبى مسيلمة أن يقدم معه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث معه رجلين ممن يصدق به ليكلماه ويخبراه بما قال الحنفى، فخرج الرسولان حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع رسوله، فتشهد أحدهما برسول الله وحده، ثم كلمه بما بدا له، فلما قضى كلامه تشهد الآخر، فذكر رسول الله وذكر مسيلمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذبت، خذوا هذا فاقتلوه» ، فثار المسلمون إليه يلببونه، وأخذ صاحبه بحجزه وجعل يقول: يا رسول الله، اعف عنه، بأبى أنت وأمى، فيجاذبه إياه المسلمون، فلما أرسلوه تشهد بذكر رسول الله، صلى الله عليه وسلم وحده، وأسلم هو وصاحبه، فلما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجا فقدما على أهليهما باليمامة، وقد فتن الذى أمسك بحجزة صاحبه ذلك، فقتل مع مسيلمة، وثبت المسمك بحجزته، وكان بعد يخبر خالد بن الوليد بعورة بنى حنيفة، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، رسوله(2/114)
إلى مسيلمة كيف رفق به حتى أراد أن يقدم لولا أن الرجال نهاه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يقتله الله، ويقتل الرجال معه، ففعل الله ذلك بهما، وأنجز وعده فيهما.
واستضاف مسيلمة إلى ضلاله فى دين الله وتكذبه على الله ضلالة سجاح، وكانت امرأة من بنى تميم، أجمع قومها أنها نبية، فادعت الوحى، واتخذت مؤذنا وحاجبا ومنبرا، فكانت العشيرة إذا اجتمعت تقول: الملك فى أقربنا من سجاح، وفيها يقول عطارد بن حاجب بن زرارة:
أضحت نبيتنا أنثى نطيف بها ... وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا
ثم إن سجاح رحلت تريد حرب مسيلمة، وأخرجت معها من قومها من تابعها على قولها وهم يرون أن سجاح أولى بالنبوة من مسيلمة، فلما قدمت عليه خلا بها، وقال لها: تعالى نتدارس النبوة، أينا أحق؟ فقالت سجاح: قد أنصفت، وفى الخبر بعد هذا من قوله ما يحق الإعراض عن ذكره.
وقد قيل إن سجاح إنما توجهت إلى مسيلمة مستجيرة به لما وطئ خالد العرب ورأت أنه لا أحد أعز لها منه، وقد كانت أمرت مؤذنها شبت بن ربعى أن يؤذن بنبوة مسيلمة، فكان يفعل، فلما قدمت على مسيلمة قالت: اخترتك على من سواك ونوهت باسمك، حتى إن مؤذنى ليؤذن بنبوتك، فخلا بها ليتدارسا النبوة.
ولما قتل مسيلمة، أخذ خالد بن الوليد سجاح، فأسلمت ورجعت إلى ما كانت عليه، ولحقت بقومها.
وعظمت فتنة بنى حنيفة بكذابهم هذا حتى كان يدعو لمريضهم ويبرك على مولودهم، ولا ينهاهم عن اغترارهم به ما يشاهدون من قلة غنائه عنهم. جاءه قوم بمولود، فمسح رأسه فقرع وقرع كل مولود له، وجاءه آخر، فقال: يا أبا ثمامة، إنى ذو مال، وليس لى مولود يبلغ سنتين حتى يموت غير هذا المولود، وهو ابن عشر سنين، ولى مولود ولد أمس، فأحب أن تبارك فيه وتدعو أن يطيل الله عمره، فقال: سأطلب لك الذى طلبت، فجعل عمر المولود أربعين سنة، فرجع الرجل إلى منزله مسرورا، فوجد الأكبر قد تردى فى بئر، ووجد الصغير ينزع فى الموت، فلم يمس من ذلك اليوم حتى ماتا جميعا، تقول أمهما: فلا والله ما لأبى ثمامة عند إلهه مثل منزلة محمد صلى الله عليه وسلم.
قالوا: وحفرت بنو حنيفة بئرا، فأعذبوها نتاحا، فجاؤا إلى مسيلمة، فطلبوا إليه أن يأتيها، وأن يبارك فيها، فأتاها، فبصق فيها، فعادت أجاجا.(2/115)
وكان أبو بكر الصديق رضى الله عنه، قد عاهد خالدا إذا فرغ من أسد وغطفان والضاحية أن يقصد اليمامة، وأكد عليه فى ذلك، فلما أظفر الله خالدا بأولئك تسلل بعضهم إلى المدينة يسألون أبا بكر أن يبايعهم على الإسلام ويؤمنهم، فقال لهم: بيعتى إياكم وأمانى لكم أن تلحقوا بخالد بن الوليد ومن معه من المسلمين، فمن كتب إلى خالد بأنه حضر معه اليمامة فهو آمن، فليبلغ شاهدكم غائبكم، ولا تقدموا على، اجعلوا وجوهكم إلى خالد.
قال أبو بكر بن أبى الجهم: أولئك الذين لحقوا خالد بن الوليد من الضاحية الذين كانوا انهزموا بالمسلمين يوم اليمامة ثلاث مرات، وكانوا على المسلمين بلاء.
وقال شريك الفزارى: كنت ممن حضر بزاخة مع عيينة بن حصن، فرزق الله الإنابة، فجئت أبا بكر، فأمرنى بالمسير إلى خالد، وكتب معى إليه: أما بعد، فقد جاءنى كتابك مع رسولك تذكر ما أظفرك الله بأهل بزاخة، وما فعلت بأسد وغطفان، وإنك سائر إلى اليمامة، وذلك عهدى إليك، فاتق الله وحده لا شريك له، وعليك بالرفق بمن معك من المسلمين، كن لهم كالوالد، وإياك يا خالد بن الوليد ونخوة بنى المغيرة، فإنى قد عصيت فيك من لم أعصه فى شىء قط، فانظر بنى حنيفة إذا لقيتهم إن شاء الله، فإنك لم تلق قوما يشبهون بنى حنيفة كلهم عليك، ولهم بلاد واسعة، فإذا قدمت فباشر الأمر بنفسك، واجعل على ميمنتك رجلا وعلى ميسرتك رجلا، واجعل على خيلك رجلا، واستشر من معك من الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من المهاجرين والأنصار، واعرف لهم فضلهم، فإذا لقيت القوم وهم على صفوفهم، فالقهم إن شاء الله وقد أعددت للأمور أقرانها، فالسهم للسهم، والرمح للرمح، والسيف للسيف، فإذا صرت إلى السيف فهو الثكل، فإن أظفرك الله بهم فإياك والإبقاء عليهم، اجهز على جريحهم، واطلب مدبرهم، واحمل أسيرهم على السيف، وهول فيهم القتل، واحرقهم بالنار، وإياك أن تخالف أمرى، والسلام عليك.
فلما انتهى الكتاب إلى خالد اقترأه، وقال: سمع وطاعة.
ولما اتصل بأهل اليمامة مسير خالد إليهم بعد الذى صنع الله له فى أمثالهم حيرهم ذلك وجزع له محكم بن الطفيل سيدهم، وهم أن يرجع إلى الإسلام، فبات يتلوى على فراشه، وهو يقول:
أرى الركبان تخبر ما كرهنا ... أكل الركب يكذب ما يقول(2/116)
ألا لا ليس كلهم كذوبا ... وقد كذبوا وكذبهم قليل
وقد صدقوا لهم منا ومنهم ... لنا إن حاربوا يوم طويل
فقل لابن الوليد وللمنايا ... على السراء والضراء دليل
أيقطع بيننا حبلا وصال ... فليس إليهما أبدا سبيل
وما فى الحرب أعظم من جريح ... وعان خر بينهما قتيل
فلما سمع القوم كلامه، عرفوا أنه ثابت على ضلالته معهم، وفرح بذلك منه مسيلمة، وكان محكم سيد أهل اليمامة، وكان صديقا لزياد بن لبيد بن بياضة من الأنصار، فقال له خالد فى بعض الطريق: لو ألقيت إلى محكم شيئا تكسره به، فإنه سيد أهل اليمامة، وطاعة القوم له، فبعث إليه مع راكب، ويقال: بل بعث بها إليه حسان بن ثابت من المدينة:
يا محكم بن طفيل قد أتيح لكم ... لله در أبيكم حية الوادى
يا محكم بن طفيل إنكم نفر ... كالشاء أسلمها الراعى لآساد
ما فى مسيلمة الكذاب من عوض ... من دار قوم وإخوان وأولاد
فاكفف حنيفة عنه قبل نائحة ... تنعى فوارس شاخ شجوها بادى
لا تأمنوا خالدا بالبرد معتجرا ... تحت العجاجة مثل الأغضف العاد
ويل اليمامة ويلا لا فراق له ... إن جالت الخيل فيها بالقنا الصاد
والله لا تنثنى عنكم أعنتها ... حتى تكونوا كأهل الحجر أو عاد
ووردت على محكم، وقيل له: هذا خالد بن الوليد فى المسلمين، فقال: رضى خالد أمرا ورضينا غيره، وما ينكر خالد أن يكون فى بنى حنيفة من قد أشرك فى الأمر، فسيرى خالد إن قدم علينا يلق قوما ليسوا كمن لقى، ثم خطب أهل اليمامة فقال: يا معشر أهل اليمامة إنكم تلقون قوما يبذلون أنفسهم دون صاحبهم، فابذلوا أنفسكم دون صاحبكم، فإن أسدا وغطفان إنما أشار إليهم خالد بذباب السيف، فكانوا كالنعام الشارد، وقد أظهر خالد بن الوليد بأوا حيث أوقع ببزاخة ما أوقع، وقال: هل حنيفة إلا كمن لقينا.
وكان عمير بن ضابئ اليشكرى فى أصحاب خالد، وكان من سادات اليمامة، ولم يكن من أهل حجر، كان من أهل ملمم، وهى لبنى يشكر، فقال له خالد: تقدم إلى قومك، فاكسرهم، فأتاهم، ولم يكونوا علموا بإسلامه، وكان مجتهدا فارسا سيدا، فقال: يا معشر أهل اليمامة، أظلكم خالد فى المهاجرين والأنصار، تركت القوم يتتابعون(2/117)
إلى فتح اليمامة، قد قضوا وطرا من أسد وغطفان وعليا وهوازن، وأنتم فى أكفهم، وقولهم: لا قوة إلا بالله، إنى رأيت أقواما إن غلبتموهم بالصبر غلبوكم بالنصر، وإن غلبتموهم على الحياة غلبوكم على الموت، وإن غلبتموهم بالعدد غلبوكم بالمدد، لستم والقوم سواء، الإسلام مقبل، والشرك مدبر، وصاحبهم نبى، وصاحبكم كذاب، ومعهم السرور، ومعكم الغرور، فالآن والسيف فى غمده والنبل فى جفيره قبل أن يسل السيف ويرمى بالسهم سرت إليكم مع القوم عشرا.
فكذبوه واتهموه، فرجع عنهم، وقام ثمامة بن أثال الحنفى «1» فى بنى حنيفة، فقال:
اسمعوا منى وأطيعوا أمرى ترشدوا، إنه لا يجتمع نبيان بأمر واحد، وإن محمدا صلى الله عليه وسلم، لا نبى بعده، ولا نبى مرسل معه، ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم: حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ [غافر: 1، 3] .
هذا كلام الله عز وجل، أين هذا من: يا ضفدع نقى كم تنقين، لا الشرب تمنعين، ولا الماء تكدرين، والله إنكم لترون أن هذا الكلام ما يخرج من إل، وقد استحق محمد صلى الله عليه وسلم، أمرا أذكره به، مر بى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا على دين قومى، فأردت قتله، فحال بينى وبينه عمير، وكان موفقا، فأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، دمى، ثم خرجت معتمرا، فبينا أنا أسير قد أظللت على المدينة أخذتنى رسله فى غير عهد ولا ذمة، فعفا عن دمى وأسلمت، فأذن لى فى الخروج إلى بيت الله، وقلت: يا رسول الله، إن بنى قشير قتلوا أثالا فى الجاهلية، فأذن لى أغزهم، فغزوتهم، وبعثت إليه بالخمس، فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام بهذا الأمر من بعده رجل هو أفقههم فى أنفسهم، لا تأخذه فى الله لومة لائم، ثم بعث إليكم رجلا لا يسمى باسمه ولا اسم أبيه، يقال له: سيف الله، معه سيوف لله كثيرة، فانظروا فى أمركم «2» ، فآذاه القوم جميعا، أو من آذاه منهم، فقال ثمامة:
مسيلمة ارجع ولا تمحك ... فإنك فى الأمر لم تشرك
كذبت على الله فى وحيه ... فكان هواك هوى الأنوك
ومناك قومك أن يمنعوك ... وإن يأتهم خالد تترك
فما لك من مصعد فى السماء ... ولا لك فى الأرض من مسلك
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (282) ، الإصابة الترجمة رقم (963) ، الوافى بالوفيات (11/ 219) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 69) .
(2) راجع ما ذكره ابن عبد البر فى الاستيعاب فى قصة ثمامة الترجمة رقم (282) .(2/118)
ذكر تقديم خالد بن الوليد الطلائع أمامه من البطاح «1»
قالوا: ولما سار خالد بن الوليد من البطاح، ووقع فى أرض بنى تميم، قدم أمامه مائتى فارس عليهم معن بن عدى العجلانى، وبعث معه فرات بن حيان العجلى دليلا، وقدم عينين له أمامه، مكنف بن زيد الخيل الطائى، وأخاه.
وذكر الواقدى: أن خالدا لما نزل العارض، قدم مائتى فارس، وقال: من أصبتم من الناس فخذوه، فانطلقوا حتى أخذوا مجاعة بن مرارة الحنفى فى ثلاثة وعشرين رجلا من قومه قد خرجوا فى طلب رجل من بنى نمير أصاب فيهم دما، فخرجوا وهم لا يشعرون بمقبل خالد، فسألوهم: ممن أنتم؟ قالوا: من بنى حنيفة، فظن المسلمون أنهم رسل من مسيلمة إلى خالد، فلما أصبحوا وتلاحق الناس، جاؤا بهم إلى خالد، فلما رآهم ظن أيضا، أنهم رسل من مسيلمة، فقال: ما تقولون يا بنى حنيفة فى صاحبكم؟ فشهدوا أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لمجاعة: ما تقول أنت؟ فقال: والله ما خرجت إلا فى طلب رجل من بنى نمير أصاب فينا دما، وما كنت أقرب مسيلمة، ولقد قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلمت، وما غيرت ولا بدلت، فقدم القوم، فضرب أعناقهم على دم واحد، حتى إذا بقى سارية بن مسيلمة بن عامر قال: يا خالد، إن كنت تريد بأهل اليمامة خيرا أو شرا فاستبق هذا، يعنى مجاعة «2» ، فإنه لك عون على حربك وسلمك.
وكان مجاعة شريفا، فلم يقتله، وأعجب بسارية وكلامه، فتركه أيضا، وأمر بهما فأوثقا فى جوامع حديد، وكان يدعو مجاعة وهو كذلك فيتحدث معه، ومجاعة يظن أن خالدا يقتله، فبينما هما يتحدثان، قال له: يا ابن المغيرة، إن لى إسلاما، والله ما كفرت، ولقد قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت من عنده مسلما، وما خرجت لقتال، وأعاد ذكر خروجه فى طلب النميرى، فقال خالد: إن بين القتل والترك منزلة، وهى الحبس حتى يقضى الله فى حربنا ما هو قاض، ودفعه إلى أم متمم امرأته التى تزوجها لما قتل زوجها مالك بن نويرة وأمرها أن تحسن إساره، فظن مجاعة أن خالدا يريد حبسه لأن يشير عليه ويخبره عن عدوه، فقال: يا خالد، إنه من خاف يومك خاف غدك، ومن
__________
(1) راجع: المنتظم لابن الجوزى (4/ 78- 79) ، تاريخ الطبرى (3/ 276) ، الأغانى (15/ 229- 302) .
(2) هو: مجاعة بن مرارة اليمامى. انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2545) ، الإصابة الترجمة رقم (7738) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4971) ، تهذيب الكمال (3/ 1304) ، تقريب التهذيب (2/ 229) ، تجريد أسماء الصحابة (2/ 51) .(2/119)
رجاك رجاهما، ولقد خفتك ورجوتك، ولقد علمت أنى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبايعته على الإسلام، ثم رجعت إلى قومى، وأنا اليوم على ما كنت عليه أمس، فإن يكن كذاب خرج فينا، فإن الله يقول: لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [فاطر: 18] .
وقد عجلت فى قتل أصحابى قبل التأنى بهم، والخطأ مع العجلة، فقال خالد: يا مجاعة، تركت اليوم ما كنت عليه أمس، وكان رضاك بأمر هذا الكذاب، وسكوتك عنه وأنت أعز أهل اليمامة، وقد بلغك مسيرى، إقرارا له، ورضى بما جاء به، فهلا أبليت عذرا، فتكلمت فيمن تكلم، فقد تكلم ثمامة بن أثال فرد وأنكر، وقد تكلم اليشكرى، فإن قلت أخاف قومى، فهلا عمدت إلىّ تريد لقائى، أو كتبت إلىّ كتابا أو بعثت إلىّ رسولا، وأنت تعلم أنى قد أوقعت بأهل بزاخة، وزحفت بالجيوش إليك. فقال مجاعة: إن رأيت يا ابن المغيرة أن تعفو عن هذا كله فعلت. فقال خالد: قد عفوت عن دمك، ولكن فى نفسى من تركك حوجا بعد، فقال مجاعة: أما إذا عفوت عن دمى فلا أبالى.
وكان خالد كلما نزل منزلا واستقر به دعا مجاعة فأكل معه وحدثه، فقال له ذات يوم: أخبرنى عن صاحبك يعنى مسيلمة، ما الذى يقرأ عليكم؟ هل تحفظ منه شيئا؟ قال:
نعم، فذكر له شيئا من رجزه، قال خالد وضرب بإحدى يديه على الأخرى: يا معشر المسلمين، اسمعوا إلى عدو الله كيف يعارض القرآن، ثم قال: ويحك يا مجاعة، أراك رجلا سيدا عاقلا، اسمع إلى كتاب الله عز وجل، ثم انظر كيف عارضه عدو الله، فقرأ عليه خالد: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، فقال مجاعة: أما إن رجلا من أهل البحرين كان يكتب، أدناه مسيلمة وقربه حتى لم يكن يعد له فى القرب عنده أحد، فكان يخرج إلينا فيقول: يا أهل اليمامة، صاحبكم والله كذاب، وما أظنكم تتهموننى عليه، إنكم لترون منزلتى عنده، وحالى، هو والله يكذبكم ويأتيكم بالباطل.
قال خالد: فما فعل ذلك البحرانى؟ قال: هرب منه، كان لا يزال يقول هذا القول حتى بلغه، فخافه على نفسه، فهرب، فلحق بالبحرين، قال خالد: فما كان فى هذا ناه ولا زاجر، ثم قال: هات زدنا من كذب الخبيث، فقال مجاعة: أخرج لكم حنطة وزؤانا، ورطبا وتمرانا، فى رجز له، فقال خالد: وهذا كان عندكم حقا؟ وكنتم تصدقونه؟ قال مجاعة: لو لم يكن عندنا حقا لما لقيتك غدا أكثر من عشرة آلاف سيف يضاربونك فيه حتى يموت الأعجل، قال خالد: إذا يكفيناهم الله ويعز دينه، فإياه تقاتلون ودينه تريدون.(2/120)
وفى كتاب الأموى: ثم مضى خالد حتى نزل منزله من اليمامة، ببعض أوديتها، وخرج الناس مع مسيلمة.
وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: لما أشرف خالد بن الوليد وأجمع أن ينزل عقرباء «1» ، دفع الطلائع أمامه، فرجعوا إليه، فخبروه أن مسيلمة ومن معه قد خرجوا فنزلوا عقرباء، فشاور أصحابه أن يمضى إلى اليمامة، أو ينتهى إلى عقرباء، فأجمعوا له أن ينتهى إلى عقرباء، فزحف خالد بالمسلمين حتى نزلوا عقرباء، وضرب عسكره.
وقد قيل: إن خالدا هو الذى سبق إلى عقرباء، فضرب عسكره ثم جاء مسيلمة فضرب عسكره «2» . ويقال: توافيا إليها جميعا.
قالوا: وكان المسلمون يسألون عن الرجال بن عنفوة، فإذا الرجال على مقدمة مسيلمة، فلعنوه وشتموه، فلما فرغ خالد من ضرب عسكره، وحنيفة تسوى صفوفها، نهض خالد إلى صفوفه فصفها، وقدم رايته مع زيد بن الخطاب، ودفع راية الأنصار إلى ثابت بن قيس بن شماس، فتقدم بها، وجعل على ميمنته أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وعلى ميسرته شجاع بن وهب، واستعمل على الخيل البراء بن مالك، ثم عزله واستعمل عليها أسامة بن زيد، وأمر بسرير فوضع فى فسطاطه، واضطجع عليه يتحدث مع مجاعة، ومعه أم متمم وأشراف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتحدث معهم، وأقبلت بنو حنيفة قد سلت السيوف، فلم تزل مسللة وهم يسيرون نهارا طويلا، فقال خالد: يا معشر المسلمين، أبشروا، فقد كفاكم الله عدوكم، ما سلوا السيوف من بعيد إلا ليرهبونا، وإن هذا منهم لجبن وفشل، فقال مجاعة ونظر إليهم: كلا والله يا أبا سليمان، ولكنها الهندوانية، خشوا من تحطمها، وهى غداة باردة، فأبرزوها للشمس لأن تسخن متونها.
فلما دنوا من المسلمين نادوا: إنا نعتذر من سلنا سيوفنا حين سللناها، والله ما سللناها ترهيبا لكم ولا جبنا عنكم، ولكنها كانت الهندوانية، وكانت غداة باردة، فخشينا تحطمها، فأردنا أن تسخن متونها إلى أن نلقاكم، فسترون.
قال: فاقتتلوا قتالا شديدا، وصبر الفريقان جميعا صبرا طويلا، حتى كثرت القتلى والجراح فى الفريقين، وكان أول قتيل من المسلمين مالك بن أوس من بنى زعوراء، قتله
__________
(1) عقرباء: موضع بناحية اليمامة. انظر: الروض المعطار (419- 420) وذكر فيه هذا الخبر.
(2) قال فى الفتوح (1/ 31) : سار خالد بن الوليد بالمسلمين حتى نزل بموضع يقال له: عقرباء من أرض اليمامة، فضرب عسكره هناك، وسار مسيلمة فى جميع بنى حنيفة حتى نزل حذاء خالد.(2/121)
محكم بن الطفيل، واستلحم من المسلمين حملة القرآن حتى فنوا إلا قليلا، وهزم كلا الفريقين حتى دخل المسلمون عسكر المشركين، والمشركون عسكر المسلمين مرارا، وإذا أجلى المسلمون عن عسكرهم فدخل المشركون أرادوا حمل مجاعة، فلا يستطيعون لما هو فيه من الحديد، ولأنه لا تزال تناوشهم خيل المسلمين، فإذا رجع المسلمون وثبوا على مجاعة ليقتلوه، وقالوا: اقتلوا عدو الله، فإنه رأسهم، وأنهم إن دخلوا عليه أخرجوه، فإذا أشهروا عليه سيوفهم ليقتلوه، حنت عليه أم متمم امرأة خالد وردتهم عنه، وقالت: إنى له جار، حتى أجارته منهم، وكان مجاعة أيضا، قد أجارها من المشركين مرارا أن يقتلوها على هذا الوجه.
وقد كان مجاعة قال لها لما دفعه إليها خالد لتحسن إساره: يا أم متمم، هل لك أن أحلفك، إن غلب أصحابى كنت لك جارا، وأنت كذلك؟ فقالت: نعم، فتحالفا على ذلك.
وقال عكرمة: حملت حنيفة أول مرة كانت لها الحملة، وخالد على سريره حتى خلص إليه، فجرد سيفه وجعل يسوق حنيفة سوقا، حتى ردهم، وقتل منهم قتلى كثيرة، ثم كرت حنيفة حتى انتهوا إلى فسطاط خالد، فجعلوا يضربون الفسطاط بالسيوف.
قال الواقدى: وبلغنا أن رجلا منهم لما دخلوا الفسطاط، أراد قتل أم متمم، ورفع السيف عليها، فاستجارت بمجاعة، فألقى عليها رداءه، وقال: إنى جار لها فنعمت الحرة كانت، وعيرهم وسبهم «1» ، وقال: تركتم الرجال وجئتم إلى امرأة تقتلونها، عليكم بالرجال، فانصرفوا، وجعل ثابت بن قيس يومئذ يقول، وكانت معه راية الأنصار: بئس ما عودتم أنفسكم الفرار يا معشر المسلمين.
وقد انكشف المسلمون حتى غلبت حنيفة على الرحال، فجعل زيد بن الخطاب ينادى، وكانت عنده راية خالد: أما الرحال فلا رحال، وأما الرجال فلا رجال، اللهم إنى اعتذر إليك من فرار أصحابى، وأبرأ إليك مما جاء به مسيلمة، ومحكم بن طفيل، وجعل يشتد بالراية، يتقدم بها فى نحر العدو، ثم ضارب بسيفه حتى قتل، رحمه الله، فلما قتل وقعت الراية، فأخذها سالم مولى أبى حذيفة، فقال المسلمون: يا سالم، إنا نخاف أن نؤتى من قبلك، فقال: بئس حامل القرآن أنا إذا إن أتيتم من قبلى.
قالوا: ونادت الأنصار ثابت بن قيس وهو يحمل رايتهم: الزمها، فإنما ملاك القوم الراية.
__________
(1) انظر: المنتظم لابن الجوزى (4/ 81) .(2/122)
فتقدم سالم مولى أبى حذيفة، فحفر لرجليه حتى بلغ أنصاف ساقيه، ومعه راية المهاجرين، وحفر ثابت لنفسه مثل ذلك «1» ، ثم لزما رايتيهما، ولقد كان الناس يتفرقون فى كل وجه، وإن سالما وثابتا لقائمان برايتيهما، حتى قتل سالم وقتل أبو حذيفة مولاه، رحمهما الله تعالى، فوجد رأس أبى حذيفة عند رجلى سالم، ورأس سالم عند رجلى أبى حذيفة، لقرب مصرع كل واحد منهما من صاحبه، فلما قتل سالم، مكثت الراية ساعة لا يرفعها أحد، فأقبل يزيد بن قيس، وكان بدريا، فحملها حتى قتل رحمه الله، ثم حملها الحكم بن سعيد بن العاص، فقاتل دونها نهارا طويلا، ثم قتل رحمه الله.
قال وحشى «2» : اقتتلنا قتالا شديدا، فهزموا المسلمين ثلاث مرات، وكر المسلمون فى الرابعة، وتاب الله عليهم، وثبت أقدامهم، وصبروا لوقع السيوف، واختلفت بينهم وبين بنى حنيفة السيوف، حتى رأيت شهب النار تخرج من خلالها، حتى سمعت لها أصواتا كالأجراس، وأنزل الله تعالى، علينا نصره، وهزم الله بنى حنيفة، وقتل الله مسيلمة.
قال: ولقد ضربت بسيفى يومئذ حتى غرى قائمه فى كفى من دمائهم.
وقال ابن عمر: لقد رأيت عمارا على صخرة قد أشرف، يصيح: يا معشر المسلمين، أمن الجنة تفرون، أنا عمار بن ياسر، هلموا إلىّ، وأنا أنظر إلى أذنه تذبذب وقد قطعت.
وقال سعد القرظ: لقد رأيته يومئذ يقاتل قتال عشرة.
وقال شريك الفزارى: لما التقينا والقوم، صبر الفريقان صبرا لم أر مثله قط، ما تزول الأقدام فترى، واختلفت السيوف بينهم، وجعل يقبل أهل السوابق والنيات فيتقدمون، فيقتلون، حتى فنوا، وذلقت فينا سيوفهم طويلا، فانهزمنا، فلقد أحصيت لنا ثلاث انهزامات، وما أحصيت لحنيفة إلا انهزامة واحدة، التى ألجأناهم فيها إلى الحديقة، يعنى حديقة الموت.
__________
(1) قال ابن عبد البر فى الاستيعاب فى ترجمة ثابت رقم (253) : لما كان يوم اليمامة خرج مع خالد بن الوليد إلى مسيلمة، فلما التقوا انكشفوا، فقال ثابت وسالم مولى أبى حذيفة: ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حفر كل واحد منهما له حفرة، فثبتا وقاتلا حتى قتلا.
(2) هو وحشى بن حرب الحبشى، انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2768) ، الإصابة الترجمة رقم (9129) ، أسد الغابة الترجمة رقم (5449) ، الثقات (3/ 430) ، الاستبصار (81) ، الإكمال (7/ 90) ، العقد الثمين (7/ 385) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (356) ، تاريخ الثقات (464) ، الأنساب لابن السمعانى (11/ 111، 112) .(2/123)
وقال رافع بن خديج «1» : شهدنا اليمامة، فكنا تسعين من النبيت، فلاقينا عدوا صبرا لوقع السلاح، وجماعة الناس أربعة آلاف، وحنيفة مثل ذلك أو نحوه، فلما التقينا أذن الله للسيوف فينا وفيهم، فجعلت السيوف تختلى هام الرجال وأكفهم، وجراحا لم أر جراحا قط أبعد غورا منه، فينا وفيهم، إنى لأنظر إلى عباد بن بشر قد ضرب بسيفه حتى انحنى كأنه منجل، فيقيمه على ركبته، فيعرض له رجل من بنى حنيفة، فلما اختلفا ضربات ضربه عباد بن بشر على العاتق مستمكنا، فو الله لرأيت سحره باديا، ومضى عنه عباد، ومررت بالحنفى وبه رمق، فأجهزت عليه، وأنظر بعد إلى عباد وقد اختلف السيوف عليه وهو يبضع بها ويبعج بطنه، فوقع وما أعلم به مصحا، وكانوا حنقوا عليه لأنه أكثر القتل فيهم. قال: وحرضت على قتلته، فناديت أصحابنا من النبيت، فقمنا عليه، وقتلنا قتلته، فرأيتهم حوله مقتلين، فقلت: بعدا لكم.
وقال ضمرة بن سعيد المازنى، وذكر ردة بنى حنيفة: لم يلق المسلمون عدوا أشد لهم نكاية منهم، لقوهم بالموت الناقع، وبالسيوف قد أصلتوها قبل النبل، وقبل الرماح، وقد صبر المسلمون لهم، فكان المعول يومئذ على أهل السوابق، ونادى عباد بن بشر يومئذ وهو يضرب بالسيف، قد قطع من الجراح، وما هو إلا كالنمر الجرف، فيلقى رجلا من بنى حنيفة كأنه جمل صئول، فقال: هلم يا أخا الخزرج، أتحسب قتالنا مثل من لاقيت، فيعمد له عباد، ويبدره الحنفى، ويضربه ضربة بالسيف، فانكسر سيفه ولم يصنع شيئا، وضربه عباد فقطع رجليه وجاوزه وتركه ينؤ على ركبتيه، فناداه: يا ابن الأكارم اجهز علىّ، فكر عليه عباد، فضرب عنقه، ثم قام آخر فى ذلك المقام، فاختلفا ضربات وتجاولا، وعباد على ذلك كثير الجراح، فضربه عباد ضربة أبدى سحره، وقال: خذها وأنا ابن وقش، ثم جاوزه يفرى فى بنى حنيفة ضربا فريا، فكان يقال: قتل عباد يومئذ من بنى حنيفة بالسيف أكثر من عشرين رجلا، وأكثر فيهم الجراح.
قال ضمرة: فحدثنى رجل من بنى حنيفة قديم قال: إن حنيفة لتذكر عباد بن بشر، فإذا رأت الجراح بالرجل منهم تقول: هذا ضرب مجرب القوم، عباد بن بشر.
وفى بعض الروايات عن حديث رافع بن خديج قال: خرجنا من المدينة ونحن أربعة آلاف، وأصحابنا من الأنصار ما بين خمسمائة إلى أربعمائة، وعلى الأنصار ثابت بن
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (728) ، الإصابة الترجمة رقم (2532) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1580) ، تاريخ خليفة (271) ، طبقات خليفة (79) ، شذرات الذهب (1/ 82) ، تاريخ الإسلام (2/ 400) ، تقريب التهذيب (1/ 241) .(2/124)
قيس، ويحمل رايتنا أبو لبابة، فانتهينا إلى اليمامة، فننتهى إلى قوم هم الذين قال الله تعالى: سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [الفتح: 16] .
فلما صففنا صفوفنا ووضعنا الرايات مواضعها، لم يلبثوا أن حملوا علينا، فهزمونا مرارا، فنعود إلى مصافنا وفيها خلل، وذلك أن صفوفنا كان مختلطة، فيها حشو كثير من الأعراب فى خلال صفوفنا، فينهزم أولئك الناس فيستخفون أهل البصائر والنيات، حتى كثر ذلك منهم، ثم إن الله بمنه وفضله رزقنا عليهم الظفر، وذلك أن ثابت بن قيس نادى خالد بن الوليد: أخلصنا، فقال: ذلك إليك، فناد فى أصحابك، قال: فأخذ الراية ونادى: يا للأنصار، فتسللت إليه رجلا رجلا، فنادى خالد للمهاجرين، فأحدقوا به، ونادى عدى بن حاتم، ومكنف بن زيد الخيل الطائى بطيئ، فثابت إليهما طيئ، وكانوا أهل بلاء حسن، وعزلت الأعراب عنا ناحية، فقاموا من ورائنا غلوة أو أكثر، وإنما كنا نؤتى من الأعراب.
قال رافع: فانتهينا إلى جمعهم فصبروا وصبرنا صبرا لم ير مثله قط، لم تزل الأقدام، فذكرت بيتى قيس بن الحطيم:
إذا ما فررنا كان أسوا فرارنا ... صدود الخدود وازورار المناكب
صدود الخدود والقنا متشاجر ... ولا تبرح الأقدام عند التضارب «1»
قال: واجهضهم أهل السوابق والبصائر، فهم فى نحورهم ما يجد أحد مدخلا إلا أن يقتل رجل منهم، أو يخرج فيقع، فيخلف مقامه آخر، حتى أوجعنا فيهم وبان خلل صفوفهم، وضجوا من السيف، ثم اقتحمنا الحديقة، فضاربوا فيها، وعلقنا الحديقة، وأقمنا على بابها رجالا لئلا يهرب منهم أحد، فلما رأوا ذلك عرفوا أنه الموت، فجدوا فى القتال، ودكت السيوف بيننا وبينهم، ما فيها رمى بسهم ولا حجر ولا طعن حتى قتلنا عدو الله مسيلمة، فقيل لرافع: يا أبا عبد الله، أى القتلى كان أكثر، قتلاكم أو قتلاهم؟ قال: قتلاهم أكثر من قتلانا وأخبث، أحسبنا قتلنا منهم ضعف ما قتلوا منا مرتين، فقد قتل من الأنصار يومئذ زيادة على التسعين، وجرح منهم مائتان، ولقد لقينا بنى سليم بالجواء، وأنهم لمجروحون، فأبلوا بلاء حسنا.
وكان أبو خيثمة النجارى يقول: لما انكشف المسلمون يوم اليمامة تنحيت ناحية،
__________
(1) انظر الأبيات فى: ديوانه ص (41) ، الخزانة للبغدادى (3/ 165) ، الأشباه والنظائر للخالديين (27، 28) .(2/125)
وكأنى أنظر إلى أبى دجانة «1» يومئذ ما يولى ظهره منهزما، وما هو إلا فى نحور القوم، حتى قتل رحمه الله، وكان يختال فى مشيته عند الحرب سجية، ما يستطيع غير ذلك.
قال: وكرت عليه طائفة من بنى حنيفة، فما زال يضرب بالسيف أمامه وعن يمينه وعن شماله، فحمل على رجل فصرعه، وما ينبس بكلمة، حتى انفرجوا عنه ونكصوا على أعقابهم، والمسلمون مولون، وقد ابيض ما بينهم وبينه، فما ترى إلا المهاجرين والأنصار، لا والله ما أرى أحدا يخالطهم، فقاموا ناحية، وتلاحق الناس، فدفعوا حنيفة دفعة واحدة، فانتهينا بهم إلى الحديقة، فأقحمناهم إياها.
قال أبو دجانة: ألقونى على الترسة حتى أشغلهم، فكانوا قد أغلقوا الحديقة، فأخذوه فألقوه على الترسة، حتى وقع فى الحديقة، وهو يقول: لا ينجيكم منا الفرار، فضاربهم حتى فتحها، ودخلنا عليه مقتولا رحمه الله.
وقد روى أن البراء بن مالك هو المرمى به فى الحديقة، والأول أثبت.
وقال ثابت بن قيس، يومئذ: يا معشر الأنصار، الله الله ودينكم، علمنا هؤلاء أمرا ما كنا نحسنه، ثم أقبل على المسلمين، فقال: أف لكم ولم تعملون، ثم قال: خلوا بيننا وبينهم، أخلصونا، فأخلصت الأنصار، فلم يكن لهم ناهية حتى انتهوا إلى محكم بن الطفيل، فقتلوه، ثم انتهوا إلى الحديقة فدخلوها، فقاتلوا أشد القتال، حتى اختلطوا فيها، فما يعرف بعضهم بعضا إلا بالشعار، وشعارهم: أمت أمت، ثم صاح ثابت صيحة يستجلب بها المسلمين: يا أصحاب سورة البقرة، يقول رجل من طيئ: والله ما معى منها آية، وإنما يريد ثابت: يا أهل القرآن.
وقال واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ: لما زحف المسلمون، انكشفوا أقبح الانكشاف، حتى ظن ظانهم أن لا تكون لهم فئة فى ذلك اليوم، والناس أوزاع قد هدأ حسهم. وأشرت حنيفة وأظهروا البغى، وأوفى عباد بن بشر على نشز من الأرض، ثم صاح بأعلى صوته: أنا عباد بن بشر، يا للأنصار، يا للأنصار، ألا إلى، ألا إلى، فأقبلوا إليه جميعا، وأجابوه: لبيك لبيك، حتى توافوا عنده، فقال: فداكم أبى وأمى، حطموا جفون السيوف، ثم حطم جفن سيفه، فألقاه، وحطمت الأنصار جفون سيوفهم، ثم قال: حملة صادقة، اتبعونى، فخرج أمامهم حتى ساقوا حنيفة منهزمين، حتى انتهوا بهم
__________
(1) اسمه: سماك بن خرشة، انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2968) ، الإصابة الترجمة رقم (9866) ، معجم رجال الحديث (21/ 151) ، تنقيح المقال (3/ 15) .(2/126)
إلى الحديقة، فأغلق عليهم، فأوفى عباد بن بشر يشرف على الحديقة وهم فيها، فقال للرماة: ارموا، فرموا أهل الحديقة بالنبل حتى ألجئوهم أن اجتمعوا فى ناحية منها لا يطلع النبل عليهم، ثم إن الله فتح الحديقة، فاقتحم عليهم المسلمون، فضاربوهم ساعة، ثم أغلق عباد باب الحديقة لما كلّ أصحابه، وكره أن تفر حنيفة، وجعل يقول: اللهم إنى أبرأ إليك مما جاءت به حنيفة.
قال واقد بن عمرو: فحدثنى من رأى عباد بن بشر ألقى درعه على باب الحديقة، ثم دخل بالسيف صلتا يجالدهم حتى قتل، رحمه الله.
وقال أبو سعيد الخدرى: سمعت عباد بن بشر يقول حين فرغنا من بزاخة: يا أبا سعيد، رأيت الليلة كأن السماء فرجت، ثم أطبقت علىّ، فهى إن شاء الله الشهادة، قال: قلت: خيرا والله، قال أبو سعيد: فأنظر إليه يوم اليمامة وإنه ليصيح بالأنصار ويقول: أخلصونا، فأخلصوا أربعمائة رجل، لا يخلطهم أحد، يقدمهم البراء بن مالك وأبو دجانة سماك بن خرشة وعباد بن بشر، حتى انتهوا إلى باب الحديقة.
قال أبو سعيد: فرأيت بوجه عباد، يعنى بعد قتله، ضربا كثيرا، وما عرفته إلا بعلامة كانت فى جسده.
وكان أبو بكر الصديق رضى الله عنه، لما انصرف إليه أسامة بن زيد من بعثه إلى الشام، بعثه فى أربعمائة مددا لخالد بن الوليد، فأدرك خالدا قبل أن يدخل اليمامة بثلاث، فاستعمله خالد على الخيل مكان البراء بن مالك، وأمر البراء أن يقاتل راجلا، فاقتحم عن فرسه، وكان راجلا لا رجلة به، فلما انكشف الناس يوم اليمامة، وانكشف أسامة بأصحاب الخيل، صاح المسلمون: يا خالد، ول البراء بن مالك، فعزل أسامة، ورد الخيل إلى البراء، فقال له: اركب فى الخيل، فقال البراء: وهل لنا من خيل؟ قد عزلتنى وفرقت الناس عنى، فقال له خالد: ليس حين عتاب، اركب أيها الرجل فى خيلك، أما ترى ما لحم من الأمر، فركب البراء فرسه، وإن الخيل لأوزاع فى كل ناحية، وما هى إلا الهزيمة، فجعل يليح بسيفه وينادى: يا صحابة، يا للأنصار، يا للأنصار، يا خيلاه، يا خيلاه، أنا البراء بن مالك، فثابت إليه الخيل من كل ناحية، وثابت إليه الأنصار، فارسها وراجلها.
قال أبو سعيد الخدرى: فقال لنا: احملوا عليهم فداكم أبى وأمى، حملة صادقة، تريدون فيها الموت، ثم أظهر التكبير، وكبرنا معه، فما كانت لنا ناهية إلا باب الحديقة،(2/127)
وقد غلقت دوننا، وازدحمنا عليهم، فلم نزل حتى فتح الله، وظفرنا، فله الحمد.
وقال عبد الله بن أبى بكر بن حزم: كان البراء فارسا، وكان إذا حضرته الحرب أخذته رعدة، وانتفض حتى يضبطه الرجال مليا، ثم يفيق فيبول بولا أحمر كأنه نقاعة الحناء، فلما رأى ما يصنع بالناس يومئذ من الهزيمة أخذه ما كان يأخذه، فانتفض وضبطه أصحابه وجعل يقول: طرونى إلى الأرض، فلما أفاق سرى عنه، وهو مثل الأسد، وهو يقول:
أسعدنى ربى على الأنصار ... كانوا يدا طرا على الكفار
فى كل يوم ساطع الغبار ... فاستبدلوا النجاة بالفرار
قال: وضرب بسيفه قدما، حتى أفرجوا له، وخاض غمرتهم، وثابت إليه الأنصار كأنها النحل تأوى إلى يعسوبها، وتلاومت الأنصار فيما صنعت.
وحدث عن خالد بن الوليد من سمعه يقول: شهدت عشرين زحفا، فلم أر قوما أصبر لوقع السيوف ولا أضرب بها ولا أثبت أقداما من بنى حنيفة يوم اليمامة، أنّا لما فرغنا من طليحة الكذاب، ولم تكن له شوكة، قلت كلمة والبلاء موكل بالقول: وما حنيفة، ما هى إلا كمن لقينا فلقينا قوما ليسوا يشبهون أحدا، لما انتهينا إلى عسكرهم نظرت إلى قوم قد قدموا أمام عسكرهم بشرا كثيرا، فقلت: هذه مكيدة، وإذا القوم لم يحفلوا بنا، فعسكرنا منهم بمنظر العين، فلما أمسيت حزرت القوم بنفسى، فإذا القوم نحونا، فبتنا فى عسكرنا، وباتوا فى عسكرهم.
فلما طلع الفجر قام القوم إلى التعبئة، وثرنا معهم فى غدوة باردة، وصففت صفوفى، وصفوا صفوفهم، ثم أقبلوا إلينا يقطعون قطوا، قد سلوا السيوف، فكبرت، ورأيت ذلك منهم فشلا، فلما دنوا منا نادوا: أن هذا ليس بفشل، ولكنها الهندوانية وخفنا التحطم عليها، فما هو إلا أن واجهونا، حملوا علينا حملة واحدة، وانهزمت الأعراب، ولا ذوا بين أضعاف الصفوف، فانهزم معهم أهل النيات، وأوجعت حنيفة فى أدباركم بالقتل، وتقدمت أضرب بسيفى مرة يشتملون علىّ، ومرة أنفذ منهم، وكر المسلمون كرة ثانية، فحملت بنو حنيفة أيضا، حتى هزموا المسلمين ثلاث مرات. وإنما يهزم بالناس الأعراب.
فناديت فى المسلمين، فذكرتهم الله، وناديت فى المهاجرين والأنصار: الله الله، الكرة على عدوكم، فنادى أهل السوابق: أخلصونا، فأخلصوا، لا يخلطهم رجل، فأخلص قوم قد ألح السيف عليهم، وقتل من قتل منهم، ومن بقى من أهل النيات منقطع من الجراح،(2/128)
ولكنا لم نجد المعول إلا عليهم ولا الصبر إلا عندهم، فصفوا جميعا فى نحر العدو، وجاءت الأعراب من خلفهم، وذهبت حنيفة تطلب أن تهزمهم كما كانت تفعل، فثبتوا على مصافهم لا تزول فترا، واختلفت السيوف بينهم، وصبر الفريقان جميعا، وذهب الأعراب من ورائنا، فحملنا عليهم حملة، فما زادت حنيفة على أن رجعت القهقرى ما تولى الأدبار، حتى وقفوا على باب الحديقة، واختلفت السيوف بيننا وبينهم حتى نظرت إلى شهب النار، وحتى صارت القتلى منا ومنهم ركاما، وقد أغلقت الحديقة، فدخل من رحمه الله فشغلهم عن الباب حتى دخلنا.
فإذا أهل السوابق قد وطئوا أنفسهم على الموت، فما هو إلا أن عاينتهم حنيفة فى الحديقة، فناديت أصحابى: عضوا على النواجذ، لا أسمع شيئا إلا وقع الحديد بعضه على بعض، فما كان شىء حتى قتل عدو الله، فما ضرب أحد بعده من بنى حنيفة بسيف، ولقد صبروا لنا من حين طلعت الشمس إلى صلاة العصر، ولقد رأيتنى فى الحديقة وعانقنى رجل منهم وأنا فارس وهو فارس، فوقعنا عن فرسينا، ثم تعانقنا بالأرض، فأجؤه بخنجر فى سيفى، وجعل يجؤنى بمعول فى سيفه، فجرحنى سبع جراحات، وقد جرحته جرحا أثبته، فاسترخى فى يدى، وما بى حركة من الجراح، وقد نزفت من الدم إلا أنه سبقنى بالأجل، فالحمد لله على ذلك.
وحدث ضمرة بن سعيد: أنه خلص يومئذ إلى محكم بن طفيل وهو يقول: يا بنى حنيفة قاتلوا قبل أن تستحقب الكرائم غير رضيات، وينكحن غير حظيات، وما كان عندكم من حسب فأخرجوه، فقد لحم الأمر، واحتيج إلى ذلك منكم، وجعل يقول: يا بنى حنيفة ادخلوا الحديقة، سأمنع دابركم، وجعل يرتجز:
لبئسما أوردنا مسيلمة ... أورثنا من بعده أغيلمة
فدخلوا الحديقة وغلقوها عليهم، ورمى عبد الرحمن بن أبى بكر محكما بسهم فقتله، فقام مكانه المعترض ابن عمه، فقاتل ساعة حتى قتله الله.
وفى غير حديث ضمرة أن خالد بن الوليد هو الذى قتل محكما.
حدث الحارث بن الفضل، قال: لما رأى محكم بن طفيل من قتل قومه ما رأى، جعل يصيح: ادن يا أبا سليمان، فقد جاءك الموت الناقع، قد جاءك قوم لا يحسنون الفرار، فبلغ خالدا كلمته وهو فى مؤخر الناس، فأقبل يقول: هأنذا أبو سليمان، وكشف المغفر عن وجهه، ثم حمل على ناحية محكم يخوف بنى حنيفة، فاقتحم عليه خالد، فيضربه(2/129)
ضربة أرعش منها، ثم ثنى له بأخرى وهو يقول: خذها وأنا أبو سليمان، فوقع ميتا، وكان عبد الرحمن بن أبى بكر قد رماه بسهم قبل ذلك، ومنهم من يقول: رماه عبد الرحمن بعد ضربة خالد، ومنهم من يقول: لم يكن من سهم عبد الرحمن شىء.
وقاتلت حنيفة بعد قتل محكم بن طفيل أشد القتال، وهم يقولون: لا بقاء بعد محكم، وقال قائل: يا أبا ثمامة، أين ما كنت وعدتنا؟ قال: أما الدين فلا دين، ولكن قاتلوا عن أحسابكم، فاستيقن القوم أنهم كانوا على غير شىء.
وقال وحشى: لما اختلط الناس فى الحديقة، وأخذت السيوف بعضها بعضا، نظرت إلى مسيلمة وما أعرفه، ورجل من الأنصار يريده، وأنا من ناحية أخرى أريده، فهززت من حربتى حتى رضيت منها، ثم دفعتها عليه، وضربه الأنصارى، فربك أعلم أينا قتله، إلا أنى سمعت امرأة فوق الدير تقول: قتله العبد الحبشى.
وقال أبو الحويرث: ما رأيت أحدا يشك أن عبد الله بن زيد الأنصارى «1» ضرب مسيلمة وزرقه وحشى فقاتلاه جميعا «2» .
وذكر عمرو بن يحيى المازنى عن عبد الله بن زيد أنه كان يقول: أنا قتلته. وكان معاوية بن أبى سفيان يقول: أنا قتلته.
وكانت أم عبد الله بن زيد، وهى أم عمارة، نسيبة بنت كعب تقول: إن ابنها عبد الله هو الذى قتله. وكانت ممن شهد ذلك اليوم، وقطعت فيه يدها، وذلك أن ابنها حبيب بن زيد كان مع عمرو بن العاص بعمان عندما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ ذلك عمرا، أقبل من عمان، فسمع به مسيلمة، فاعترض له، فسبقه عمرو، وكان حبيب ابن زيد وعبد الله بن وهب الأسلمى فى الساقة، فأصابهما مسيلمة، فقال لهما:
أتشهدان أنى رسول الله، فقال الأسلمى: نعم، فأمر به فحبس فى حديد، وقال لحبيب:
أتشهد أنى رسول الله، فقال: لا أسمع، فقال: أتشهد أن محمدا رسول الله، قال: نعم،
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1558) ، الإصابة الترجمة رقم (4706) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2958) ، الوافى بالوفيات (17/ 47) ، تهذيب التهذيب (5/ 223) ، تقريب التهذيب (1/ 417) ، سير أعلام النبلاء (2/ 377) .
(2) ذكر ابن الجوزى فى المنتظم (4/ 82) : أنه اشترك فى قتل مسيلمة رجلان: رجل من الأنصار، ووحشى مولى جبير بن مطعم: وقال: وكان وحشى يقول: وقعت فيه حربتى وضربه الأنصارى والله يعلم أينا قتله. وكان يقول: قتلت خير الناس وشر الناس، حمزة ومسيلمة، وكانوا يقولون: قتله العبد الأسود، فأما الأنصار فلا شك عندهم أن أبا دجانة سماك بن خرشة قتله.(2/130)
فأمر به فقطع. وكلما قال له: أتشهد أنى رسول الله، قال: لا أسمع، فإذا قال له: أتشهد أن محمدا رسول الله، قال: نعم، حتى قطعه عضوا عضوا، حتى قطع يديه من المنكبين ورجليه من الوركين، ثم حرقه بالنار، وهو كل ذلك لا ينزع عن قوله، ولا يرجع عن ما بدأ به، حتى مات فى النار، رحمه الله.
فلما تهيأ بعث خالد بن الوليد إلى اليمامة جاءت أم عمارة إلى أبى بكر الصديق رضى الله عنه، فاستأذنته فى الخروج، فقال لها أبو بكر: ما مثلك يحال بينه وبين الخروج، قد عرفناك وعرفنا جزاءك فى الحرب، فاخرجى على اسم الله.
قالت فيما حدث به عنها ابن ابنها عباد بن تميم بن زيد: فلما انتهوا إلى اليمامة، واقتتلوا، تداعت الأنصار: أخلصونا، فأخلصوا، فلما انتهينا إلى الحديقة ازدحمنا على الباب، وأهل النجدة من عدونا فى الحديقة، قد انحازوا، يكونون فئة لمسيلمة، فاقتحمنا فضاربناهم ساعة، والله يا بنى ما رأيت أبذل لمهج أنفسهم منهم، وجعلت أقصد لعدو الله مسيلمة لأن أراه، وقد عاهدت الله لئن رأيته لا أكذب عنه أو أقتل دونه، وجعلت الرجال تختلط، والسيوف بينهم تختلف، وخرص القوم، فلا صوت إلا وقع السيوف، حتى بصرت بعدو الله فأشد عليه، ويعرض لى منهم رجل، فضرب يدى فقطعها، فو الله ما عرجت عليها حتى أنتهى إلى الخبيث وهو صريع، وأجد ابنى عبد الله قد قتله.
وفى رواية: وابنى يمسح سيفه بثيابه، فقلت: أقتلته؟ قال: نعم يا أمه، فسجدت لله شكرا، وقطع الله دابرهم، فلما انقطعت الحرب، ورجعت إلى منزلى، جاءنى خالد بن الوليد بطبيب من العرب، فداوانى بالزيت المغلى، وكان والله أشد علىّ من القطع، وكان خالد كثير التعاهد لى، حسن الصحبة لنا، يعرف لنا حقنا، ويحفظ فينا وصية نبينا صلى الله عليه وسلم، قال عباد: فقلت: يا جدة، كثرت الجراح فى المسلمين؟ فقالت: يا بنى، لقد تحاجز الناس، وقتل عدو الله، وإن المسلمين لجرحى كلهم، لقد رأيت بنى أبى مجرحين، ما بهم حركة، ولقد رأيت بنى مالك بن النجار بضعة عشر رجلا، لهم أنين يكمدون ليلتهم بالنار.
ولقد أقام الناس باليمامة خمس عشرة ليلة، وقد وضعت الحرب أوزارها، وما يصلى مع خالد بن الوليد من المهاجرين والأنصار إلا نفر يسير من الجراح، وذلك أنا أتينا من قبل العرب، انهزموا بالمسلمين، إلا أنى أعلم أن طيئا قد أبلت يومئذ بلاء حسنا، لقد رأيت عدى بن حاتم يومئذ يصيح بهم: صبرا، فداكم أبى وأمى لوقع الأسل، وإن ابنى زيد الخيل يومئذ ليقاتلان قتالا شديدا.(2/131)
وعن محمد بن يحيى بن حبارة، قال: جرحت أم عمارة يعنى يوم اليمامة، أحد عشر جرحا بين ضربة بسيف، أو طعنة برمح، وقطعت يدها سوى ذلك، فرئى أبو بكر يأتيها يسأل عنها، وهو يومئذ خليفة.
وقاتل كعب بن عجرة «1» يومئذ، وانهزم الناس الهزيمة الآخرة، وجاوزوا الرحال منهزمين، فجعل يصيح: يا للأنصار، يا للأنصار الله ورسوله، حتى انتهى إلى محكم بن الطفيل، فضربه محكم، فقطع شماله، فو الله ما عرج عليها كعب، وأنه ليضرب بيمينه، وإن شماله لتهراق الدماء، حتى انتهى إلى الحديقة، فدخل.
وأقبل حاجب بن زيد بن تميم الأشهلى «2» يصيح بالأوس: يا للأشهل، فقال له ثابت ابن هذال: ناد يا للأنصار، فإنه جماع لنا ولك، فنادى: يا للأنصار، يا للأنصار، حتى اشتملت عليه حنيفة، فانفرجت، وتحته منهم اثنان قد قتلهما، وقتل رحمه الله، فخلفه فى مقامه عمير بن أوس، فاشتملوا عليه حتى قتل، رحمه الله.
وكان أبو عقيل الأزرقى، حليف الأنصار، بدرى من أول من خرج يوم اليمامة، رمى بسهم فوقع بين منكبيه وفؤاده، فشطب فى غير مقتل، فأخرج السهم، ووهن شقه الأيسر، وكانت فيه، وهذا أول النهار وجرروه إلى الرحل، فلما حمى القتال وانهزم المسلمون وجاوزوا رحالهم، وأبو عقيل واهن من جرحه، سمع معن بن عدى يصيح: يا للأنصار، الله الله والكرة على عدوكم، وأعنق معن بن عدى يقدم القوم، وذلك حين صاحت الأنصار: أخلصونا، فأخلصوا رجلا رجلا، يتميزون.
قال أبو عمرو: ونهض أبو عقيل يريد قومه، فقلت: ما تريد يا أبا عقيل؟ ما فيك قتال، قال: قد نوه المنادى باسمى، فقلت: إنما يقول: يا للأنصار، لا يعنى الجرحى، قال:
فأنا رجل من الأنصار، وأنا أجيب ولو جبنوا، قال ابن عمر: فتحزم أبو عقيل، فأخذ السيف بيده اليمنى مجردا، ثم جعل ينادى: يا للأنصار، كرة كيوم حنين، فاجتمعوا جميعا يقدمون المسلمين دريئة دون عدوهم، حتى أقحموا عدوهم الحديقة، فاختلطوا واختلفت السيوف بيننا وبينهم، فنظرت إلى أبى عقيل وقد قطعت يده المجروحة من المنكب،
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2223) ، الإصابة الترجمة رقم (7434) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4471) ، جمهرة أنساب العرب (442) ، تهذيب الكمال (1146) ، تاريخ الإسلام (2/ 313) ، تهذيب التهذيب (8/ 435) ، شذرات الذهب (1/ 58) .
(2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (391) ، الإصابة الترجمة رقم (1365) ، أسد الغابة الترجمة رقم (840) .(2/132)
فوقعت إلى الأرض، وبه أربعة عشر جرحا، كلها قد خلصت إلى مقتل، وقتل عدو الله مسيلمة.
قال ابن عمر: فوقفت على أبى عقيل وهو صريع بآخر رمق، فقلت: يا أبا عقيل، فقال لبيك بلسان ملتاث، ثم قال: لمن الدبرة، فقلت: أبشر ورفعت صوتى، قد قتل عدو الله، فرفع إصبعه إلى السماء يحمد الله، ومات، رحمه الله.
قال ابن عمر: فأخبرت أبى بعد أن قدمت بخبره كله، فقال: رحمه الله، مازال يسأل الشهادة ويطلبها، وإن كان ما علمت لمن خيار أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم، وقديمى إسلامهم.
وذكر مجاعة بن مرارة يوما، معن بن عدى، وكان نازلا به ليالى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع خلة كانت بينهما قبل ذلك قديمة، فلما قدم فى وفد اليمامة على أبى بكر، توجه أبو بكر رضى الله عنه، يوما إلى قبور الشهداء زائرا لهم فى نفر من أصحابه يمشون، قال: فخرجت معهم حتى أتوا قبور الشهداء السبعين يرحمهم الله، فقلت: يا خليفة رسول الله، لم أر قوما قط، أصبر لوقع السيوف، ولا أصدق كرة منهم، لقد رأيت رجلا منهم يرحمهم الله، وكانت بينى وبينه خلة، فقال أبو بكر رضى الله عنه:
معن بن عدى؟ قلت: نعم، وكان عارفا بما كان بينى وبينه، فقال: رحمه الله، ذكرت رجلا صالحا، حديثك، قلت: يا خليفة رسول الله، فأنظر إليه وأنا موثق فى الحديد فى فسطاط ابن الوليد، وانهزم المسلمون، انهزمت بهم الضاحية انهزامة ظننت أنهم لا يجتبرون لها، وساءنى ذلك، قال أبو بكر: الله، لساءك ذلك؟ قلت: الله لساءنى، قال أبو بكر: الحمد لله على ذلك، قال: فأنظر إلى معن بن عدى قد كر معلما فى رأسه بعصابة حمراء، واضعا سيفه على عاتقه، وإنه ليقطر دما، ينادى: يا للأنصار، كرة صادقة، قال:
فكرت الأنصار عليه، فكانت الوقعة التى ثبتوا عليها حتى انتحوا وأباحوا عدوهم، فلقد رأيتنى وأنا أطوف مع خالد بن الوليد أعرفه قتلى بنى حنيفة، وإنى لأنظر إلى الأنصار وهم صرعى، فبكى أبو بكر رضى الله عنه، حتى بل لحيته.
وعن أبى سعيد الخدرى، قال: دخلت الحديقة حين جاء وقت الظهر، واستحر القتال، فأمر خالد بن الوليد المؤذن، فأذن على جدار الحديقة بالظهر، والقوم يضطربون على القتل، حتى انقطعت الحرب بعد العصر، فصلى بنا خالد الظهر والعصر، ثم بعث السقاة يطوفون على القتلى، فطفت معهم، فمررت بأبى عقيل الأنصارى البدرى، وبه خمسة عشر جرحا، فاستسقانى، فسقيته، فخرج الماء من جراحاته كلها، ومات رحمه(2/133)
الله، ومررت ببشر بن عبد الله وهو قاعد فى حشوته، فاستسقانى، فسقيته، فمات، ومررت بعامر بن ثابت العجلانى وإلى جنبه رجل من بنى حنيفة به جراح، فسقيت عامرا فشرب وقال الحنفى: اسقنى فدى لك أبى وأمى، قلت: لا كرامة، ولكنى أجهز عليك، قال: قد أحسنت لى مسألة ولا شىء عليك فيها، أسألك عنها، قلت: وما هى؟
قال: أبو ثمامة، ما فعل؟ قلت: قتل والله، قال: نبى ضيعه قومه، قال أبو سعيد: فضربت عنقه.
وعن محمود بن لبيد قال: لما قتل خالد بن الوليد من أهل اليمامة من قتل، كانت لهم فى المسلمين أيضا مقتلة عظيمة «1» ، حتى أبيح أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: لا نغمد السيوف بيننا وبينهم عين تطرف وكان فيمن بقى من المسلمين جراحات كثيرة، فلما أمسى مجاعة بن مرارة، أرسل إلى قومه ليلا: أن ألبسوا السلاح النساء والذرية والعبيد، ثم إذا أصبحتم فقوموا مستقبلى الشمس على حصونكم حتى يأتيكم أمرى، وبات خالد والمسلمون يدفنون قتلاهم، فلما فرغوا، رجعوا إلى منازلهم، فباتوا يتكمدون بالنار من الجراح.
فلما أصبح خالد، أمر بمجاعة، فسيق معه فى الحديد، فجعل يستبرئ القتلى، وهو يريد مسيلمة، فمر برجل وسيم، فقال: يا مجاعة، أهو هذا؟ قال: لا، هذا والله أكرم منه، هذا محكم بن الطفيل، ثم قال مجاعة: إن الذى تبتغون رجل ضخم أشعر البطن والظهر، أبجر، بجرته مثل القدح، مطرق إحدى العينين، ويقال: هو أرجل أصيفر أخينس، قال:
وأمر خالد بالقتلى، فكشفوا حتى وجد الخبيث، فوقف عليه خالد، فحمد الله كثيرا، وأمر به فألقى فى البئر التى كان يشرب منها» .
قالوا: ولما أمسينا، أخذنا شعل السعف، ثم جعلنا نحفر لقتلانا حتى دفناهم جميعا، بدمائهم وثيابهم، وما صلينا عليهم، وتركنا قتلى بنى حنيفة، فلما صالحوا خالدا طرحوهم فى الآبار.
وكان خالد يرى أنه لم يبق من بنى حنيفة أحد إلا من لا ذكر له، ولا قتال عنده، فقال خالد لما وقف على مسيلمة مقتولا: يا مجاعة، هذا صاحبكم الذى فعل لكم
__________
(1) قال ابن الجوزى فى المنتظم (4/ 83) : قال علماء السير: قتل من المسلمين يوم اليمامة أكثر من ألف، وقتل من المشركين نحو عشرين ألفا.
(2) ذكر مثل هذا الخبر ابن الجوزى فى المنتظم (4/ 82) .(2/134)
الأفاعيل، ما رأيت عقولا أضعف من عقول أصحابك، مثل هذا فعل بكم ما فعل، فقال مجاعة: قد كان ذلك يا خالد، ولا تظن أن الحرب انقطعت بينك وبين بنى حنيفة، وإن قتلت صاحبهم، إنه والله ما جاءك إلا سرعان الناس، وإن جماعة الناس وأهل البيوتات لفى الحصون، فانظر، فرفع خالد بن الوليد رأسه وهو يقول: قاتلك الله، ما تقول؟ قال:
أقول والله الحق، فنظر خالد، فإذا السلاح، وإذا الخلق على الحصون، فرأى أمرا غمه، ثم تشدد ساعتئذ وأدركته الرجولية، فقال لأصحابه: يا خيل الله اركبى، وجعل يدعو بسلاحه، ويقول: يا صاحب الراية قدمها، قال: والمسلمون كارهون لقتالهم، وقد ملوا الحرب، وقتل من قتل وعامة من بقى جريح.
فقال مجاعة: أيها الرجل، إنى لك ناصح، إن السيف قد أفناك وأفنى غيرك، فتعال أصالحك عن قومى، وقد أخل بخالد مصاب أهل السابقة، ومن كان يعرف عنده الغناء، فقد رق وأحب الموادعة مع عجف الكراع، فاصطلحا على الصفراء والبيضاء، والحلقة والكراع، ونصف السبى، ثم قال مجاعة: آتى القوم فأعرض عليهم ما صنعت، قال:
فانطلق، فذهب ثم رجع، فأخبره أنهم قد أجازوه، فلما بان لخالد أنه إنما هو السبى، قال: ويلك، يا مجاعة خدعتنى فى يوم مرتين، قال مجاعة: قومى، فما أصنع، وما وجدت من ذلك بدا، قد حضنى النساء، وأنشده قول امرأة من بنى حنيفة:
مسيلم لم يبق إلا النساء ... سبايا لذى الخف والحافر
وطفل ترشحه أمه ... حفير متى يدع يستأخر
فأما الرجال فأودى بهم ... حوادث من دهرنا العاثر
فليت أباك مضى حيضه ... وليتك لم تك فى الغابر
سحبت علينا ذيول البلاء ... وجئت بهن سمى قاشر
فمجاعة الخير فانظر لنا ... فليس لنا اليوم من ناظر
سواك فإنا على حالة ... تروعنا مرة الطائر
فقال: مجاعة: فكنت أجد من هذا بدا «1» .
وذكر أن مجاعة لما ذهب إلى قومه ليعرض عليهم الصلح، انتهى إلى باب الحصن ليلا، فإذا امرأة تنشد هذا الشعر، فدنا منها مجاعة، فقال: هتم الله فاك، اسكتى، أنا مجاعة، ثم دخل الحصن وليس فيه إلا النساء والصبيان، فأمرهم بلبس السلاح وإطالة الإشراف، والقيام فى مصاف الرجال، فقال سلمة بن عمير لأصحابه: يا بنى حنيفة قاتلوا ولا
__________
(1) راجع ما ذكره ابن الجوزى فى صلح خالد بن الوليد مع أهل اليمامة (4/ 82- 83) .(2/135)
تصالحوا خالدا، فإن الحصن حصين، والطعام كثير، والقوم قد أفناهم السيف، ومن بقى منهم جريح، ولا تطيعوا مجاعة، فإنه إنما يريد أن ينفلت من إساره، فقال مجاعة: يا بنى حنيفة، أطيعونى واعصوا سلمة، فإنى أخاف أن يصيبكم ما قال شرحبيل بن سلمة، أن تستردف النساء سبيات، وينكحن غير حظيات، فأطاعوا مجاعة، وتم الصلح بينه وبين خالد.
وقال أسيد بن حضير «1» وأبو نائلة لخالد لما صالح: يا خالد، اتق الله، ولا تقبل الصلح، قال خالد: إنه أفناكم السيف، قال أسيد: وإنه قد أفنى غيرنا أيضا، قال: فمن بقى منكم جريح، قال: وكذلك من بقى من القوم جرحى، لا ندخل فى الصلح أبدا، اغد بنا عليهم حتى يظفرنا الله بهم أو نبيد من آخرنا، احملنا على كتاب أبى بكر: إن أظفرك الله ببنى حنيفة فلا تبق عليهم، فقد أظفرنا الله بهم وقتلنا رأسهم، فمن بقى أكل شوكة، فبينما هم على ذلك إذ جاء كتاب أبى بكر يقطر الدم، ويقال: إنهم لم يمسوا حتى قدم سلمة بن سلامة بن وقش من عند أبى بكر بكتابين، فى أحدهما: بسم الله الرحمن، أما بعد فإذا جاءك كتابى، فانظر، فإن أظفرك الله ببنى حنيفة فلا تستبق منهم رجلا جرت عليه الموسى «2» .
فكلمت الأنصار فى ذلك، وقالوا: أمر أبى بكر فوق أمرك، فلا تستبق منهم أحدا، فقال خالد: إنى والله ما صالحت القوم إلا لما رأيت من رقتكم، ولما نهكت الحرب منكم، وقوم قد صالحتهم ومضى الصلح فيما بيننا وبينهم، والله لو لم يعطونا شيئا ما قاتلتهم، وقد أسلموا.
قال أسيد بن حضير: قد قتلت مالك بن نويرة وهو مسلم، فسكت عنه خالد، فلم يجبه، قالوا: وقال سلمة بن سلامة بن وقش: لا تخالف كتاب إمامك يا خالد، فقال خالد: والله ما ابتغيت بذلك إلا الذى هو خير، رأيت أهل السابقة وأهل الفضل وأهل القرآن قد قتلوا، ولم يبق معى إلا قوم خشيت أن لا يكون لهم بقاء على السيف لو ألح عليهم، فقبلت الصلح، مع أنهم قد أظهروا الإسلام، واتقوا بالراح.
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (54) ، الإصابة الترجمة رقم (185) ، أسد الغابة الترجمة رقم (170) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 21) ، تهذيب الكمال (1/ 113) ، تقريب التهذيب (1/ 78) ، تهذيب التهذيب (1/ 347) ، الوافى بالوفيات (9/ 258) ، سير أعلام النبلاء (1/ 229) ، الجرح والتعديل (2/ 1163) ، الرياض المستطابة (29) .
(2) انظر: المنتظم لابن الجوزى (4/ 83) .(2/136)
وكان خالد قد خطب إلى مجاعة ابنته، وكانت أجمل أهل اليمامة، فقال له مجاعة:
مهلا، إنك قاطع ظهرى وظهرك عند صاحبك «1» ، إن القالة عليك كثيرة، وما أقول هذا رغبة عنك، فقال له خالد: زوجنى أيها الرجل، فإنه إن كان أمرى عند صاحبى على ما أحب فلن يفسده ما تخاف علىّ، وإن كان على ما أكره، فليس هذا بأعظم الأمور، فقال له مجاعة: قد نصحتك، ولعل هذا الأمر لا يكون عيبة إلا عليك، ثم زوجه.
فلما بلغ ذلك أبا بكر رضى الله عنه، غضب، وقال لعمر بن الخطاب: وأبى خالد أنه لحريص على النساء، حين يصاهر عدوه، وينسى مصيبته، فوقع عمر فى خالد، وعظم الأمر ما استطاع، فكتب أبو بكر إلى خالد مع سلمة بن سلامة:
يا خالد بن أم خالد، إنك لفارغ، تنكح النساء، وتعرس بهن، وببابك دماء ألف ومائتين من المسلمين، لم تجف بعد، ثم خدعك مجاعة عن رأيك فصالحك على قومه، ولقد أمكن الله منهم، فى كلام غير هذا ذكره وثيمة فى الردة. فلما نظر خالد فى الكتاب قال: هذا عمل عمر «2» .
وكتب إلى أبى بكر جواب كتابه مع أبى برزة الأسلمى: أما بعد، فلعمرى ما تزوجت النساء حتى تم لى السرور، وقرت بى الدار، وما تزوجت إلا إلى امرئ لو أعملت إليه من المدينة خاطبا لم أبل، دع أنى استشرت خطبتى إليه من تحت قدمى، فإن كنت كرهت لى ذلك لدين أو دنيا اعتبتك، وأما حسن عزائى على قتلى المسلمين، فو الله لو كان الحزن يبقى حيا أو يرد ميتا لأبقى حزنى الحى ورد الميت، ولقد أقحمت فى طلب الشهادة حتى يئست من الحياة، وأيقنت بالموت، وأما خدعة مجاعة إياى عن رأيى، فإنى لم أخط رأى يومى، ولم يكن لى علم بالغيب، وقد صنع الله للمسلمين خيرا، أورثهم الأرض، وجعل لهم عاقبة المتقين.
فلما قدم الكتاب على أبى بكر رضى الله عنه، رق بعض الرقة، وتم عمر على رأيه الأول فى عيب خالد بما صنع، ووافقه على ذلك رهط من قريش، فقام أبو برزة الأسلمى فعذر خالدا، وقال: يا خليفة رسول الله، ما يؤبن خالد بجبن ولا خيانة، ولقد
__________
(1) انظر: المنتظم لابن الجوزى (4/ 83) .
(2) ذكر ابن الجوزى فى المنتظم كتاب أبى بكر رضى الله عنه إلى خالد فقال: « ... فبلغ ذلك أبا بكر فكتب إليه: لعمرى يا ابن أم خالد، إنك لفارغ حين تتزوج النساء وحول حجرتك دماء المسلمين لم تجف بعد، فإذا جاءك كتاب فالحق بمن معك من جموعنا بأهل الشام، واجعل طريقك على العراق، فقال: وهو يقرأ الكتاب: هذا عمل الأعيسر، يعنى عمر بن الخطاب.(2/137)
أقحم حتى أعذر، وصبر حتى ظفر، وما صالح القوم إلا على رضاه، وما أخطأ رأيه بصلح القوم، إذ هو لا يرى النساء فى الحصون إلا رجالا، فقال أبو بكر: صدقت لكلامك هذا أولى بعذر خالد من كتابه إلىّ.
وقد كان خالد لما وقع الصلح، خاف من عمر أن يحمل أبا بكر، رضى الله عنهما، عليه، فكتب إلى أبى بكر كتابا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم لأبى بكر خليفة رسول الله من خالد بن الوليد، أما بعد، فإنى أقسم بالله أنى لم أصالحهم حتى قتل من كنت أقوى به، وحتى عجف الكراع، وهلك الخف، ونهك المسلمون بالقتل والجراح، حتى إنى لأفعل أمورا أرى أنى فيها معزر، أباشر القتال بنفسى حتى ضعف المسلمون ونهكوا، حتى إن كنت لا تنكر، ثم أدخل بسيفى فرقا على المسلمين حتى جاء بالظفر، فله الحمد.
فسر أبو بكر بذلك، فدخل عليه عمر وهو يقرأ الكتاب، فدفعه إليه، فقرأه، فقال: إنما راقب خئونتهم وخالف أمرك، ألا ترى إلى ذكره أنه يباشر القتال بنفسه، يمن عليك بذلك. فقال أبو بكر: لا تقل يا عمر، فإنه والى صدق ميمون النقيبة، ناكى العدو، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقدمه ويقربه، وقد ولاه، فقال عمر: ولاه، وخالف أمره، وقبل بدخول الجاهلية حتى كان ما كان، فقال أبو بكر: دع هذا عنك، فقال عمر: سمعا وطاعة.
ولما فرغ خالد من الصلح، أمر بالحصون فألزمها الرجال، وحلف مجاعة بالله لا يغيب عنه شيئا مما صالحه عليه، ولا يعلم أحدا غيبة إلا رفعه إلى خالد، ثم فتحت الحصون، فأخرج سلاحا كثيرا، فجمعه خالد على حدة، وأخرج ما وجد فيها من دنانير ودراهم، فجمعه على حدة، وجمع كراعهم، وترك الخف فلم يحركه ولا الرثة، ثم أخرج السبى، فقسمه قسمين، ثم أقرع على القسمين، فخرج سهمه على أحدهما، وفيه: مكتوب لله، ثم جزأ الذى صار له من السبى على خمسة أجزاء، ثم كتب على كل سهم منها: لله، وجزأ الكراع، والحلقة هكذا، ووزن الذهب والفضة، فعزل الخمس، وقسم على الناس أربعة الأخماس، وأسهم للفرس سهمين، ولصاحبه سهما، وعزل الخمس من ذلك كله، حتى قدم به على أبى بكر الصديق، رضى الله عنه.
ولما انقطعت الحرب بين خالد وبين أهل اليمامة، تحول من منزله الذى كان فيه إلى منزل آخر، ينتظر كتاب أبى بكر يأمره أن ينصرف إليه بالمدينة، فبينا هو على ذلك، إذ(2/138)
أقبل سلمة بن عمير الحنفى، وكان من شياطينهم، فقال لمجاعة: استأذن لى على الأمير، فإن لى إليه حاجة، فأبى مجاعة عليه، وقال: ويحك يا سلمة، ابق على نفسك، فقد آن لك أن تبصر ما أنت فيه، والله لكأنى أنظر إلى خالد بن الوليد قد أمر بك فضربت عنقك.
فقال سلمة: ما بينى وبين خالد من عتاب، قد قتل قومى، فلهى عنه مجاعة، يطلب غرة من خالد، فأقبل مع الناس الذين يدخلون عليه، فلما رآه خالد التفت إلى مجاعة، فقال: والله إنى لأعرف فى وجه هذا الشر، فقام إليه مجاعة وهو يخافه على الذى ظن به، فإذا هو مشتمل على السيف، فقال: يا عدو الله، لعنك الله، لقد أردت أن تستأصل حنيفة، والله لو قتلته ما بقى من حنيفة صغير ولا كبير إلا قتل، ثم لببه بثوبه، وجعل يتله حتى أدخله بيتا، ثم أوثقه فى الحديد، وأغلق عليه، فأفلت من الليل ومعه سيف، فوقع فى حائط من حوائط اليمامة، وعلم شأنه وما أراد من ضرب خالد بالسيف، وكان خالد قد أمر به أن تضرب عنقه، فكلمه فيه مجاعة، وقال: هبه لى يا أبا سليمان، فوهبه له، وقال له: أحسن أدبه، فذلك حين حذره مجاعة، فخرج بالسيف واكتنفه أهل اليمامة، فلما رأى ذلك أمال السيف على حلقه، فقطع أوداجه، وسقط فى بئر هناك، فانقطع ذكره.
وحدث زيد بن أسلم عن أبيه، قال: كان أبو بكر حين وجه خالدا إلى اليمامة، رأى فى النوم كأنه أتى بتمر من تمر هجر «1» ، فأكل منها تمرة واحدة وجدها نواة على خلقة التمرة، فلاكها ساعة ثم رمى بها، فتأولها، فقال: ليلقين خالد من أهل اليمامة شدة، وليفتحن الله على يديه إن شاء الله، فكان أبو بكر يستروح الخبر من اليمامة بقدر ما يجىء رسول خالد، فخرج أبو بكر يوما بالعشى إلى ظهر الحرة، يريد أن يبلغ صرارا، ومعه عمر بن الخطاب وسعيد بن زيد وطلحة بن عبيد الله، ونفر من المهاجرين والأنصار، فلقى أبا خيثمة النجارى قد أرسله خالد، فلما رآه أبو بكر قال له: ما وراءك يا أبا خيثمة؟ قال: خير يا خليفة رسول الله، قد فتح الله علينا اليمامة، قال: فسجد أبو بكر، قال أبو خيثمة: وهذا كتاب خالد إليك، فحمد الله أبو بكر وأصحابه، ثم قال:
أخبرنى عن الوقعة، كيف كانت؟.
فجعل أبو خيثمة يخبره كيف صنع خالد، وكيف صف أصحابه، وكيف انهزم المسلمون، ومن قتل منهم، وجعل أبو بكر يسترجع ويترحم عليهم، وجعل أبو خيثمة
__________
(1) هجر: بفتح أوله وثانيه، مدينة البحرين، وهى معرفة لا تدخلها الألف واللام، سميت بهجر بنت مكنف من العماليق. انظر: الروض المعطار (592) ، معجم ما استعجم (4/ 1346) .(2/139)
يقول: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتينا من قبل الأعراب، انهزموا بنا وعودونا ما لم نكن نحسن، حتى أظفرنا الله بعد، ثم قال أبو بكر: كرهت رؤيا رأيتها كراهية شديدة، ووقع فى نفسى أن خالدا سيلقى منهم شدة، وليت خالدا لم يصالحهم، وأنه حملهم على السيف، فما بعد هؤلاء المقتولين يستبقى أهل اليمامة، ولن يزالوا من كذابهم فى بلية إلى يوم القيامة، إلا أن يعصمهم الله، ثم قدم بعد ذلك وفد اليمامة مع خالد على أبى بكر رضى الله عنه.
قال الواقدى: أجمع أصحابنا أن خالد بن الوليد قدم المدينة من اليمامة، وقدم بوفد اليمامة سبعة عشر رجلا من بنى حنيفة، فيهم مجاعة بن مرارة، وإخوته، وأن أبا بكر حبسهم، فلم يدخلهم عليه، فدخلوا على عمر بن الخطاب يكلمونه فى أن يكلم أبا بكر أن يأذن لهم فيدخلهم أو يأذن لهم فى الرجوع إلى بلادهم، فوجدوه يحلب شاة على رغيف فى صحفة، ومعه عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وابنه زيد بن الخطاب، فهما ينزوان على ظهره، قالوا، أو من قال منهم: فنسبنا، فانتسبنا، فقرب تلك الصحفة وما فيها، وقال: أصيبوا شيئا، فتحرمنا فأصبنا شيئا، فسألته: من هذان الغلامان؟ فقال: هذان ابنا زيد بن الخطاب رحمه الله، فوجمنا لأنا قتلنا زيدا، فلما رأى وجومنا قال: ما لكم قد سكتم؟ هذا أمر قد ذهب، حاجتكم، قالوا: فبسطنا، فقلنا: احتبسنا ولا نقدر على الدخول على أبى بكر، ولا السراح إلى بلادنا، فقال عمر: عليكم عهد الله وكفالته أن تناصحوا الإسلام وأهله، قلنا: نعم، قال: ارجعوا حتى تأتوا فى هذه الساعة من غد فأوصلكم إلى أبى بكر، فلما كان ذلك الوقت من الغد، جاؤه، فخرج معهم حتى أوصلهم إلى أبى بكر.
وقال زيد بن أسلم عن أبيه: لما دخلوا على أبى بكر الصديق، قال: ويحكم، ما هذا الذى استنزل منكم ما استنزل، وخدعكم، قالوا: يا خليفة رسول الله، قد كان الذى بلغك مما أصابنا.
وذكر وثيمة أن الذى كلم أبا بكر منهم رجل من بنى سحيم، فقال: يا خليفة رسول الله، كان رجلا مشئوما أصابته فتنة من حديث النفس، وأمانى الشيطان، دعا إليها أقواما مثله فأجابوه فلم يبارك الله له ولا لقومه.
قال أسلم فى حديثه: ثم أقبل يعنى أبا بكر، على مجاعة، فقال: يا مجاعة، أنت خرجت طليعة لمسيلمة حتى أخذك خالد أخذا؟ فقال: يا خليفة رسول الله، والله ما(2/140)
فعلت، خرجت فى طلب رجل من بنى نمير قد أصاب فينا دما، فهجمت علينا خيل خالد، ولقد كنت قدمت على رسول الله، فلما ذكر رسول الله، قال أبو بكر: قل صلى الله عليه وسلم، فقال: صلى الله عليه وسلم، ثم رجعت إلى قومى، فو الله ما زلت معتزلا أمر مسيلمة حتى كان أوان قدمت عليك مقدمى هذا، ثم لم آل لخالد فيما استشارنى إلى اليوم، وقد جئناك لترضى عمن أساء، وتقبل ممن تاب، فإن القوم قد رجعوا وتابوا، فقال أبو بكر: أما أنى قد كتبت إلى خالد كتابا فى أثر كتاب آمره أن لا يستبقى من بنى حنيفة أحدا مرت عليه الموسى قال مجاعة: الذى صنع الله لك ولخالد خير، يفىء الله بهم إلى الإسلام، قال أبو بكر: أرجو أن يكون ما صنع خالد خيرا، يا مجاعة أنى خدعتم بمسيلمة؟ قال: يا خليفة رسول الله، لا تدخلنى فى القوم، فإن الله يقول: لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [فاطر:
18] ، قال أبو بكر رضى الله عنه: فما كان يقول لقومه؟ قال: فكره مجاعة أن يخبره فقال أبو بكر: عزمت عليك لتخبرنى.
وفى غير هذا الحديث أن الرجل السحيمى الذى تقدم ذكره قبل أخبره بأنه كان يقول: يا ضفدع بنت ضفدعين، لحسن ما تنقنقين، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدرين، امكثى فى الأرض حتى يأتيك الخفاش بالخبر اليقين، لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريش قوم لا يعدلون. فاسترجع أبو بكر، ثم قال: سبحان الله، ويحكم، أى كلام هذا، إن هذا الكلام ما خرج من إل ولا بر، فأين ذهب بكم؟ الحمد لله الذى قتله، قالوا: يا خليفة رسول الله، قد أردنا الرجوع إلى بلادنا، قال: ارجعوا، وكتب لهم كتابا آمنهم فيه.
وفى كتاب يعقوب الزهرى: أن وفد بنى حنيفة لما قدموا، نادى أبو بكر أن لا يؤويهم أحد، ولا يبايعهم، ولا ينزلهم، ولا يكلمهم، فداروا فى المدينة لا يكلمون ولا يبايعون، فضاقت عليهم، فقيل لهم: ائتوا عمر، فجاؤه، فوجدوه معتقلا عنزا يحلبها على رغيف، فلما رآهم، حلب، فاشتد حلبه حتى دار الرغيف فى القدح من شدة حلبه، ثم وضعه، فدعاهم فأكلوا معه، ومعه صبية صغيرة، فقالوا: إنا نعوذ بالله أن يرد علينا من إسلامنا ما يقبل من غيرنا، وإنا نشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، الذى لا إله إلا هو، الذى يعلم من السر ما يعلم من العلانية، قال: الله، إن ما تقولون بألسنتكم لحق من قلوبكم، قالوا: الذى لا إله إلا هو إن ما نقول بألسنتنا لحق من قلوبنا، قال:
الحمد لله الذى جعل لنا من الإسلام ما يعزنا ويردنا إليه. قال: أفيكم قاتل زيد بن الخطاب؟ قلنا: ما تريد بذلك؟ قال: أفيكم قاتل زيد؟ فقام أبو مريم، فقال: أنا قاتل زيد،(2/141)
قال: وكيف قتلته؟ قال: اضطربت أنا وهو بالسيفين حتى انقطعا، ثم أطعنا بالرمحين حتى انكسرا، ثم اصطرعنا، فشحطته بالسكين شحطا، قال: يا بنية، هذا قاتل أبيك، فوضعت يدها على رأسها، وصاحت: يا أبتاه.
قال: ثم خرج حتى جاء أبا بكر، فاستأذن لنا عليه، فدخلنا فقلنا له كما قلنا لعمر، وناشدنا كما ناشدنا عمر، فحلفنا له، فقال: الحمد لله الذى جعل لنا من الإسلام ما يعزنا ويردنا إليه، قال: أفيكم من رهط عامر بن مسلمة أحد؟ قال خالد: وما تصنع بعامر وهذا مجاعة سيد أهل اليمامة، فكررها أبو بكر، فقال: هل فيكم من رهط ثمامة ابن أثال أحد؟ قال خالد: وما تصنع بثمامة، وهذا مجاعة سيد أهل اليمامة، قال أبو بكر رضى الله عنه: إنهم أهل بيت اصطعنهم النبى صلى الله عليه وسلم، فأحب أن أصطنعهم، فقام مطرف بن النعمان بن سلمة، فقال: عامر بن سلمة عمى، وثمامة بن أثال عمى، فاستعمله أبو بكر على اليمامة.
وقال أبو بكر لخالد: سم لى أهل البلاء، فقال: يا خليفة رسول الله، كان البلاء للبراء بن مالك، والناس له تبع.
ولما قدم خالد المدينة لم يبق بها دار إلا فيها باك لكثرة من قتل معه من الناس، فبكى أبو بكر رضى الله عنه، لما رأى ذلك، وقال ما أبعد ما رأى من الظفر، والله لثابت بن قيس بن شماس «1» أعز على الأنصار من أسماعها وأبصارها.
وكانت اليمامة فى ربيع الأول من سنة اثنتى عشرة «2» ، واختلف فى عدد من استشهد فيها من المسلمين، فأكثر ما فى ما وقع فى كتاب أبى بكر إلى خالد: أن ببابك دماء ألف ومائتين من المسلمين.
وقال سالم بن عبد الله بن عمر: قتل يوم اليمامة ستمائة من المهاجرين والأنصار، وغير ذلك.
وقال زيد بن طلحة: قتل يوم اليمامة من قريش سبعون، ومن الأنصار ستون، ومن سائر الناس خمسمائة.
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (253) ، الإصابة الترجمة رقم (906) ، أسد الغابة الترجمة رقم (569) .
(2) ذكر ابن الجوزى فى المنتظم (4/ 83) : أنها كانت سنة إحدى عشرة فى قول جماعة منهم أبو معشر، فأما ابن إسحاق فإنه قال فتح اليمامة واليمن والبحرين، وبعث الجنود إلى الشام سنة اثنتى عشرة.(2/142)
وعن أبى سعيد الخدرى قال: قتلت الأنصار فى مواطن أربعة سبعين سبعين، يوم أحد سبعين، ويوم بئر معونة سبعين، ويوم اليمامة سبعين، ويوم جسر أبى عبيد سبعين.
وقال سعيد بن المسيب: قتلت الأنصار فى مواطن ثلاثة سبعين سبعين، فذكر ما تقدم إلا بئر معونة.
وذكر عمر بن الخطاب رضى الله عنه، يوما وقعة اليمامة ومن قتل فيها من المهاجرين والأنصار، فقال: أحلت السيوف على أهل السوابق من المهاجرين والأنصار، ولم نجد المعول يومئذ إلا عليهم، خافوا على الإسلام أن يكسر بابه، فيدخل منه إن ظهر مسيلمة، فمنع الله الإسلام بهم، حتى قتل عدوه وأظهر كلمته، وقدموا يرحمهم الله، على ما يسرون به من ثواب جهادهم من كذب على الله وعلى رسوله، ورجع عن الإسلام بعد الإقرار به.
وفى رواية عنه: جعل منادى المسلمين، يعنى يوم اليمامة، ينادى: يا أهل الوجوه، لولا ما استدرك خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من جمع القرآن لخفت أن لا يلتقى المسلمون وعدوهم فى موضع إلا استحر القتل بأهل القرآن.
ولما قتل ثابت بن قيس بن شماس يوم اليمامة، ومعه كانت راية الأنصار يومئذ، وهو خطيبهم وسيد من سادتهم، أرى رجل من المسلمين فى منامه ثابت بن قيس يقول له:
إنى موصيك بوصية، فإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه، إنى لما قتلت بالأمس جاء رجل من ضاحية نجد وعلىّ درع فأخذها، فأتى بها منزله فأكفأ عليها برمة، وجعل على البرمة رحلا، وخباؤه فى أقصى العسكر، إلى جنب خبائه فرس يستن فى طوله، فائت خالد بن الوليد فأخبره فليبعث إلى درعى فليأخذها، وإذا قدمت على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره أن علىّ من الدين كذا ولى من الدين كذا، وسعد ومبارك غلاماى حران، وإياك أن تقول هذا حلم، فتضيعه.
فلما أصبح الرجل أتى خالد بن الوليد فأخبره، فبعث خالد إلى الدرع فوجدها كما قال، وأخبره بوصيته فأجازها، ولا نعلم أحدا من المسلمين أجيزت، وصيته بعد موته إلا ثابت بن قيس «1» .
وقد روى أن بلال بن الحارث كان صاحب الرؤيا، رواه الواقدى، ثم قال بعقبه:
فذكرته، يعنى الحديث، لعبد الله بن سعد، فقال: حدثنى عبد الواحد بن أبى عون، قال:
__________
(1) ذكر ابن عبد البر فى الاستيعاب هذا الخبر فى ترجمة ثابت رقم (253) .(2/143)
قال بلال: رأيت فى منامى كأن سالما مولى أبى حذيفة قال لى ونحن منحدرون من اليمامة إلى المدينة: إن درعى مع الرفقة الذين معهم الفرس الأبلق، تحت قدرهم، فإذا أصبحت فخذها من تحت قدرهم، فاذهب بها إلى أهلى، وإن علىّ شيئا من دين، فمرهم يقضونه، قال بلال: فأقبلت إلى تلك الرفقة، وقدرهم على النار، فألفيتها وأخذت الدرع، وجئت أبا بكر فحدثته الحديث، فقال: نصدق قولك، ونقضى دينه الذى قلت.
وقتل الله من بنى حنيفة يوم اليمامة عددا كثيرا، ففى كتاب يعقوب الزهرى أنه قتل منهم أكثر من سبعة آلاف، وعن غيره أنه أصيب يومئذ من صليب بنى حنيفة سبعمائة مقاتل، وكان داؤهم خبيثا، والطارئ منهم على الإسلام عظيما، فاستأصل الله تعالى شأفتهم، ورد ألفة الإسلام على ما كانت عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر ردة بنى سليم
ذكر الواقدى من حديث سفيان بن أبى العوجاء السلمى، قال: وكان عالما بردة قومه، مع أنه كان من وعاة العلم، وممن يوثق به فى الدين، قال: أهدى ملك من ملوك غسان إلى النبى صلى الله عليه وسلم، لطيمة فيها مسك وعنبر، وخيل، فخرجت بها الرسل حتى إذا كانوا بأرض بنى سليم، بلغتهم وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، فتشجع بعض بنى سليم على أخذها والردة، وأبى بعضهم من ذلك، وقالوا: إن كان محمد قد مات، فإن الله حى لا يموت، وكان الذين ارتدوا منهم عصية وبنو عميرة وبنو عوف، وبعض بنى جارية، والذين انتهبوا اللطيمة فتمزقوها، بنو الحكم بن مالك بن خالد بن الشريد.
فلما ولى أبو بكر كتب إلى معن بن حاجز «1» فاستعمله على من أسلم من بنى سليم، وكان قد قام فى ذلك قياما حسنا، ذكر وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، وذكر الناس ما قال الله لنبيه عليه السلام: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30] ، وقال: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ الآية [آل عمران: 144] والتى قبلها، مع آى من كتاب الله، فاجتمع إليه بشر كثير من بنى سليم، وانحاز أهل الردة منهم فجعلوا يغيرون على الناس، ويقطعون السبيل، فلما بدى لأبى بكر أن يوجه خالد بن الوليد إلى الضاحية، كتب إلى معين بن حاجز أن يلحق بخالد بن الوليد هو ومن معه من المسلمين، ويستعمل
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2499) ، الإصابة الترجمة رقم (8473) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2499) .(2/144)
على عمله طريفة بن حاجز، ففعل، وأقام طريفة يكالب من ارتد بمن معه من المسلمين، يغير عليهم ويغيرون عليه، إذ قدم الفجاءة، وهو إياس بن عبد الله بن عبد ياليل بن عمير ابن خفاف، على أبى بكر الصديق، فقال: يا أبا بكر، إنى مسلم، وقد أردت جهاد من ارتد من الكفار، فاحملنى وأعنى، فإنه لو كان عندى قوة لم أقدم عليك، ولكنى مضعف من الظهر والسلاح، فسر أبو بكر بمقدمه، فحمله على ثلاثين بعيرا، وأعطاه سلاح ثلاثين رجلا، فخرج يستعرض المسلم والكافر، فيأخذ أموالهم، ويصيب من امتنع مع قوم من أهل الردة قد تبعوه على ذلك، لقد أغار على قوم بالأرحضية مسلمين، جاؤا يريدون أبا بكر، فسلبهم وقتلهم، ومعه رجل من بنى الشريد، يقال له: نجبة بن أبى المثنى.
فلما بلغ أبا بكر خبره وما صنع، كتب إلى طريفة بن حاجز: بسم الله الرحمن الرحيم، من أبى بكر خليفة رسول الله إلى طريفة بن حاجز، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، وأسأله أن يصلى على محمد صلى الله عليه وسلم أما بعد، فإن عدو الله الفجاءة أتانى، فزعم أنه مسلم، وسألنى أن أقويه على قتال من ارتد عن الإسلام، فقويته، وقد انتهى إلى الخبر اليقين أنه قد استعرض المسلم والمرتد، يأخذ أموالهم، ويقتل من امتنع منهم، فسر إليه بمن معك من المسلمين حتى تقتله أو تأسره، فتأتينى به فى وثاق إن شاء الله، والسلام عليك ورحمة الله.
فقرأ طريفة كتاب أبى بكر على قومه المسلمين، فحشدوا، وساروا معه إلى الفجاءة، فقدم إليهم نجبة بن أبى المثنى، فناوش المسلمين، وقتل نجبة، وهرب من كان معه إلى الفجاءة، ثم زحف طريفة إلى الفجاءة، فتصادما، وجعل المسلمون يرمون بالنبل، ورمى أصحاب الفجاءة شيئا وهم منكسرون لما يرون من انكسار الفجاءة وندامته، فقال: يا طريفة «1» والله ما كفرت، وإنى لمسلم، وما أنت بأولى بأبى بكر منى، أنت أميره وأنا أميره، قال طريفة: فإن كنت صادقا، فألق السلاح، ثم انطلق إلى أبى بكر فأخبره خبرك، فوضع الفجاءة السلاح، وأوثقه طريفة فى جامعة، فقال طريفة: لا تفعل، فإنك إن أقدمتنى فى وثاق أشعرتنى، فقال طريفة: هذا كتاب أبى بكر إلى: أن ابعثك إليه فى وثاق، فقال الفجاءة: سمعا وطاعة، فبعث به فى جامعة مع عشرة من بنى سليم، فأرسل به أبو بكر رضى الله عنه، إلى بنى جشم، فحرقه بالنار.
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1308) ، الإصابة الترجمة رقم (4263) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2605) .(2/145)
وقدم على أبى بكر رضى الله عنه، قبيصة، أحد بنى الضربان، من بنى خفاف، فذكر أن مسلم، وأنه قومه لم يرتدوا، فأمره أبو بكر أن يقاتل بمن معه من سليم على الإسلام من ارتد عنه منهم، فرجع قبيصة إلى قومه، فاجتمع إليه ناس كثير ممن ثبت على الإسلام، فخرج يتبع بهم أهل الردة يقتلهم حيث وجدهم، حتى مر ببيت خميصة بن الحكم الشريدى، فوجده غائبا يجمع أهل الردة، ووجد جارا له مرتدا، فقتله، واستاق ماله ومضى حتى نزل منزلا، فذبح أصحابه شاة من غنم جار خميصة، ثم راحوا، ويقبل خميصة حتى أتى أهله، فيخبروه خبر جاره، فخرج فى طلب القوم حتى مر بمنزلهم حيث ذبحوا الشاة، فيجد رأسها مملولا، قد تركه القوم، فأخذه، فجعل ينهش منه، وهو يطلبهم فأدركهم وهو ينهشه والدم يسيل على لحيته، وكان رجلا أيدا، فقال لقبيصة: قتلت جارى؟ قال: إن جارك ارتد عن الإسلام، قال: فاردد ماله، فرد قبيصة ماله، فقال: وفقد الشاة التى ذبحوا، فقال: أين الشاة التى ذبحت؟ فقال: لا سبيل إليها، قد أكلها القوم وهم مستحقون لذلك فى طلب قوم كفروا بعد إسلامهم، فقال: يا قبيصة، أمن بين من كفر تعدو على جار لجأ إلى لأمنعه؟ فقال قبيصة: قد كان ذلك فاصنع ما أنت صانع، فطعن قبيصة بالرمح، فوقع فى واسط الرحل، فدقه وانثنى سنان الرمح، وخر قبيصة عن بعيره، فقال لخميصة: إنك قد أشويتنى، فاكفف، فعدل خميصة سنان رمحه بين حجرين ثم شد على قبيصة، وهو يقول: أكفف بعد قتل جارى، لا والله أبدا، فطعنه بالرمح فقتله وكان قبيصة قد فرق أصحابه، وبثهم قبل أن يلحقه خميصة.
وكتب أبو بكر رحمه الله، إلى خالد بن الوليد: أما بعد، فإن أظفرك الله ببنى حنيفة، فأقل اللبث فيهم حتى تنحدر إلى بنى سليم فتطأهم وطأة يعرفون بها ما منعوا، فإنه ليس بطن من العرب أنا أغيظ عليه منى عليهم، قدم قادمهم يذكر إسلاما ويريد أن أعينه، فأعنته بالظهر والسلاح، ثم جعل يعترض الناس، فإن أظفرك الله بهم فلا ألومك فيهم، فى أن تحرقهم بالنار، وتهول فيهم بالقتل، حتى يكون نكالا لهم.
قالوا: فجعل خالد بن الوليد يبعث الطلائع أمامه، وسمعت بنو سليم بمقبل خالد، فاجتمع منهم بشر كثير يعرضون لهم، وجلهم بنو عصية، واستجلبوا من بقى من العرب مرتدا، وكان الذى جمعهم أبو شجرة بن عبد العزى، فانتهى خالد إلى جمعهم بالجواء مع الصبح، فصاح خالد فى أصحابه، وأمرهم بلبس السلاح، ثم صفهم، وصفت بنو سليم، وقد كل المسلمون وعجف كراعهم، وخفهم، وجعل خالد يلى القتال بنفسه، حتى أثخن فيهم القتل، ثم حمل عليهم حملة واحدة، فهربوا، وأسر منهم بشر كثير، فجعل(2/146)
يضرب أحدهم على عاتقه فيجز له باثنين، ويبدو سحره، ويضرب الآخر من وسطه.
وفى حديث سفيان بن أبى العوجاء: أن خالدا خطر لهم الخطائر، فحرقهم فيها بالنار، وأصاب أبو شجرة يومئذ، فى المسلمين وجرح جراحات كثيرة، وقال فى ذلك أبياتا، يقول فى آخرها:
فرويت رمحى من كتيبة خالد ... وإنى لأرجو بعدها أن أعمرا
ولما قدم خالد على أبى بكر، كان أول ما سأل عنه خبر بنى سليم، فأخبره خالد، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قدم على أبى بكر معاوية بن الحكم، وأخوه خميصة مسلمين، فقال أبو بكر لخميصة: أنت قتلت قبيصة، ورجعت عن الإسلام؟ قال: إنه قتل جارى، قال: وإن قتل جارك على ردة، قتلته، لن تفلت منى حتى أقتلك، فقال أخوه: يا خليفة رسول الله، كان يومئذ مرتدا كافرا موتورا، وقد تاب اليوم وراجع، ولكن نديه قال أبو بكر: فأخرج ديته، فقال: أفعل يا خليفة رسول الله، قال: فنعم الرجل كان قبيصة، ونعم السبيل مات عليه.
ثم قال لمعاوية: وعمدتم يا بنى الشريد إلى لطيمة بعث بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتهبتموها، وقلتم إن يقم بهذا الأمر رجل من قريش، فلعمرى ليرضى أن تدخلوا فى الإسلام مع الناس، فكيف يأخذكم بأمن الطريق إلى رجل قد مات، فإن طلب ما أخذتم فإنما يطلبها أهل بيته، فما كانوا يطلبون ذلك منكم وأنتم أخوالهم. قال معاوية: نحن نضمنها حتى نؤديها إليك، فحمل أبو بكر، معاوية اللطيمة التى أصابوها، ووقت لهم شهرين أو ثلاثة.
قال: فأداها إلى أبى بكر، ثم إن أبا شجرة أسلم، ودخل فيما دخل فيه الناس، فجعل يعتذر ويجحد أن يكون قال البيت المتقدم، فلما كان زمن عمر بن الخطاب، قدم أبو شجرة وأناخ راحلته بصعيد بنى قريظة، وجاء من حرة شوران، ثم أتى عمر وهو يقسم بين فقراء العرب، فقال: يا أمير المؤمنين، أعطنى، فإنى ذو حاجة، فقال: من أنت؟ قال:
أنا أبو شجرة بن عبد العزى، فقال له: يا عدو الله، ألست الذى يقول:
فرويت رمحى من كتيبة خالد ... وإنى لأرجو بعدها أن أعمرا
عمر الله سوء ما عشت لك يا خبيث، ثم جعل يعلوه بالدرة على رأسه، حتى سبقه عدوا، وعمر فى طلبه، فرجع أبو شجرة موليا إلى راحلته، فارتحلها، ثم شد بها فى حرة شوران راجعا إلى أرض بنى سليم، فما استطاع أبو شجرة أن يقرب عمر حتى توفى،(2/147)
وإن كان إسلامه لا بأس به، وكان إذا ذكر عمر ترحم عليه، ويقول: ما رأيت أحدا أهيب من عمر بن الخطاب.
وقال أبو شجرة فيما كان من ذلك:
ضن علينا أبو حفص بنائله ... وكل مختبط يوما له ورق
ما زال يرهقنى حتى خذيت له ... وحال من دون بعض البغية الشفق
لما لقيت أبا حفص وشرطته ... والشيخ يقرع أحيانا فينحمق
ثم ارعويت إلى وجناء كاشرة ... مثل الطريرة لم يثبت لها الأفق
أقبلت الخيل من شوران صادرة ... أنى لأزرى عليها وهى تنطلق
تطير مروا خطاها عن مناسمها ... كما ينقر عند الجهبذ الورق
إذا يعارضها خرق تعارضه ... ورهاء فيها إذا استعجلتها خرق
ينوء آخرها منها وأولها ... سرح اليدين معا نهاضة فتق
وفى حديث هشام بن عروة عن أبيه: أن لقاء أبى شجرة عمر كان على غير ما تقدم، وأن أبا شجرة قدم المدينة، فأدخل راحلته بعض دورها، ودخل المسجد متنكرا، فاضطجع فيه، وكان عمر رضى الله عنه، قل شىء يظنه إلا كان حقا، فبينا عمر جالسا فى أصحابه، وأبو شجرة مضطجع، قال عمر: إنى لأرى هذا أبا شجرة، فقام حتى وقف عليه، فقال: من أنت؟ قال: رجل من بنى سليم، قال: انتسب، قال: فلان بن عبد العزى، قال: ما كنيتك؟ قال: أبو شجرة، فعلاه بالدرة.
ثم ذكر من تقريره على قوله: فرويت رمحى البيت، نحوا مما تقدم.
ردة البحرين «1»
حدث يعقوب الزهرى عن إسحاق بن يحيى، عن عمه عيسى بن طلحة، قال: لما ارتدت العرب بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال صاحب المدائن: من يكفينى أمر العرب، فقد مات صاحبهم وهم الآن يختلفون بينهم، إلا أن يريد الله بقاء ملكهم فيجتمعوا على أفضلهم، فإنهم إن فعلوا صلح أمرهم، وبقى ملكهم، وأخرجوا العجم من أرضهم، قالوا:
نحن بذلك على أكمل الرجال، قال: من؟ قالوا: مخارق بن النعمان، ليس فى الناس مثله، وهو من أهل بيت قد دوخوا العرب ودانت لهم، وهؤلاء جيرانك بكر بن وائل، فأرسل
__________
(1) راجع: المنتظم لابن الجوزى (4/ 83- 85) ، تاريخ الطبرى (3/ 301) ، الأغانى (15/ 255) .(2/148)
منهم ناسا مع مخارق، فأرسل معه ستمائة من بكر بن وائل، الأشرف فالأشرف، وارتد أهل هجر عن الإسلام.
وعن الحسن بن أبى الحسن: أن الجارود قام فى قومه، فقال: يا قوم، ألستم تعلمون ما كنت عليه من النصرانية، وإنى لم آتكم قط إلا بخير، وإن الله تعالى بعث نبيه فنعى له نفسه وأنفسكم؟ فقال: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30] ، وقال: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً [آلا عمران: 144] .
وفى حديث آخر، أنه قام فيهم، فقال: ما شهادتكم أيها الناس على موسى؟ قالوا:
نشهد أنه رسول الله، قال: فما شهادتكم على عيسى؟ قالوا: نشهد أنه رسول الله، قال:
وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، عاش كما عاشوا، ومات كما ماتوا، وأتحمل شهادة من أبى أن يشهد على ذلك، فلم يرتد من عبد القيس أحد.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال حين وفدوا عليه: «عبد القيس خير أهل المشرق، اللهم اغفر لعبد القيس ثلاثا، وبارك لهم فى ثمارهم» ، فخرجوا مسرورين بدعوته وأهدوا له من طرائف ثمارهم، وثبتوا على الإسلام حين الردة.
وكان النبى صلى الله عليه وسلم، استعمل أبان بن سعيد بن العاص «1» على البحرين، وعزل العلاء بن الحضرمى، فسأل أبان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يحالف عبد القيس، فأذن له، فحالفهم، فلما بلغ أبان بن سعيد مسير من سار إليه مرتدين، قال لعبد القيس: أبلغونى مأمنى، فأشهد أمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس مثلى يغيب عنهم، فأحيا بحياتهم، وأموت بمماتهم، فقالوا: لا تفعل، فأنت أعز الناس علينا، وهذا علينا وعليك فيه مقالة، يقول قائل: فر من القتال، فأبى وانطلق معه ثلاثمائة رجل يبلغونه المدينة، فقال أبو بكر لأبان: ألا ثبت مع قوم لم يبدلوا ولم يرتدوا؟ فقال: ما كنت لأعمل لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذكر أبان من عبد القيس خيرا، فدعا أبو بكر العلاء بن الحضرمى، فبعثه إلى البحرين، فى ستة عشر راكبا، وقال: امض، فإن أمامك عبد القيس، فسار حتى بلغهم، ومر بثمامة بن أثال الحنفى، فأمده برجال من قومه بنى سحيم، ولحق به ثمامة، فخرج
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (4) ، الإصابة الترجمة رقم (2) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2) ، نسب قريش (174، 175) ، طبقات خليفة (298) ، الجرح والتعديل (2/ 295) ، تاريخ الإسلام (1/ 376، 378) .(2/149)
العلاء بمن معه حتى نزل بحصن يقال له جواثى، وكان مخارق قد نزل بمن معه من بكر بن وائل المشقر، فسار إليهم العلاء فيمن اجتمع إليه من المسلمين، فقاتلهم قتالا شديدا، حتى كثرت القتلى وأكثرها فى أهل الردة، والجارود بالخط يبعث البعوث إلى العلاء، وبعث مخارق الخطم بن شريح، أحد بنى قيس بن ثعلبة إلى مرزبان الخط يستمده، فأمده بالأساورة، فنزل الخطم ردم الفلاح، وكان حلف أن لا يشرب الخمر حتى يرى هجر، فقالوا له: هذه هجر، وأخذ المرزبان الجارود رهينة عنده، وقال عبد الرحمن بن أبى بكرة: أخذ الخطم الجارود، فشده فى الحديد، وسار الخطم وأبجر بن العجلى فيمن معهما حتى حصروا العلاء بن الحضرمى بجواثى. فقال عبد الله بن حذف أحد بنى عامر بن صعصعة:
ألا أبلغ أبا بكر رسولا ... وسكان المدينة أجمعينا
فهل لكم إلى نفر يسير ... مقيم فى جواثى محصرينا
كأن دماءهم فى كل شمس ... شعاع الشمس يغشين العيونا
توكلنا على الرحمن إنا ... وجدنا النصر للمتوكلينا «1»
فمكثوا على ذلك محصورين، فسمع العلاء وأصحابه ذات ليلة لغطا فى عسكر المشركين، فقالوا: والله لوددنا أن لو علمنا أمرهم، فقال عبد الله بن حذف: أنا أعلم لكم علمهم، فدلونى بحبل، فدلوه، فأقبل حتى يدخل على أبجر بن جابر العجلى، وأم عبد الله امرأة من بنى عدل، فلما رآه أبجر، قال: ما جاء بك، لا أنعم الله بك علينا؟ قال:
يا خالى، الضرر والجوع وشدة الحصار، وأردت اللحاق بأهلى، فزودنى. قال أبجر:
أفعل، على أنى أظنك والله على غير ذلك، بئس ابن الأخت سائر الليلة، فزوده وأعطاه نعلين، وأخرجه من العسكر، وخرج معه حتى برزا، فقال له: انطلق، فإنى والله لأراك بئس ابن الأخت أنت هذه الليلة، فمض ابن حذف كأنه لا يريد الحصن، حتى أبعد، ثم عطف فأخذ بالحبل، فصعد الحصن، فقالوا: ما وراءك؟ قال: ورائى والله أنى تركتهم سكارى لا يعقلون، قد نزل بهم تجار من تجار الخمر، فاشتروا منهم ثم وقعوا فيها، فإن كانت لكم حاجة بهم فالليلة، فنزل إليهم المسلمون، فبيتوهم، ووضعوا فيهم سلاحهم حيث شاؤا «2» .
وقال إسحاق بن يحيى بن طلحة فى حديثه: كان العلاء فى ثلاثمائة وستة وعشرين
__________
(1) انظر الأبيات فى: البداية والنهاية (6/ 321) .
(2) راجع ما ذكره ابن كثير فى البداية (6/ 320- 323) .(2/150)
من المهاجرين، فطرقوهم، فوجدوهم قد ثملوا، فقتلوهم، فلم يفلت منهم أحد، ووثب الخطم وهو سكران، فوضع رجله فى ركاب فرسه، ثم جعل يقول: من يحملنى، فسمعه عبد الله بن حذف، فأقبل نحوه وهو يقول: أبا ضبيعة؟ قال: نعم، قال: أنا أحملك، فلما دنا منه ابن حذف ضربه حتى قتله، وقطعت رجل أبجر بن جابر العجلى فمات منها وقد كان قال حين قطعت: قاتلك الله يا ابن حذف، ما أشأمك، وقد قيل إن عفيف بن المنذر، أحد بنى عمرو بن تميم، هو الذى سمع كلام الخطم حين رام الركوب، فلم يستطع، فقال: ألا رجل من بنى قيس بن ثعلبة يعقلنى الليلة، فقال له عفيف وقد عرف صوته: أبا ضبيعة، أعطنى رجلك، فأعطاه إياها، يظن أنه يعقله على فرسه، فأطنها من الفخذ وتركه، فقال: أجهز على، فقال: إنى أحب أن لا تموت حتى أمصك، وكان مع عفيف تلك الليلة عدة من بنى أبيه أصيبوا.
وقتل ليلتئذ مسمع بن سنان، أبو المسامعة، وانهزم الباقون، حتى صاروا فى ناحية من البحرين فعصموا بمفروق الشيبانى.
قال إسحاق: وأصبح ما أفاء الله على المسلمين من خيولهم، وما سوى ذلك عند العلاء فى حصن جواثى، ثم صار العلاء إلى المدينة فقاتلهم قتالا شديدا، وهزمهم الله حتى لجئوا إلى باب المدينة، فضيق عليهم، فلما رأى ذلك مخارق ومن معه، قالوا: إن خلوا عنا رجعنا من حيث جئنا، فشاور العلاء أصحابه، فأشاروا عليه أن يخلى عنهم، فخرجوا فلحقوا ببلادهم، وبقى أهل المدينة، فطلبوا الصلح والأمان، فصالحهم العلاء على ثلث ما فى أيديهم بالمدينة من أموالهم، وما كان من شىء خارج منها، فهو له، فبعث العلاء بمال كثير إلى المدينة.
وفى غير هذا الحديث أن عبد القيس لما أوقعوا تلك الليلة ببكر بن وائل، طفقت بكر تنادى: يا عبد القيس، إياكم مفروق بن عمرو فى جماعة بكر بن وائل، فقال عبد الله بن حذف فى ذلك:
لا توعدونا بمفروق وأسرته ... إن يأتنا يلق منا سنة الخطم
النخل ظاهرها خيل وباطنها ... خيل تكردس بالفرسان كالنعم
وإن ذا الحى من بكر وإن كثروا ... لأمة داخلون النار فى أمم
ثم سار العلاء بن الحضرمى إلى الخط حتى نزل على الساحل، فجاءه نصرانى، فقال له: مالى إن دللتك على مخاضة تخوض منها الخيل إلى دارين، قال: وما تسألنى؟ قال: أهل(2/151)
بيت بدارين، قال: هم لك، فخاض به وبالخيل إليهم، فظفر عليهم عنوة، وسبى أهلها، ثم رجع إلى عسكره.
وقال إبراهيم بن أبى حبيبة: حبس لهم البحر حتى خاضوه إليهم، وجازه العلاء وأصحابه مشيا على أرجلهم، وقد تجرى فيه السفن قبل، ثم جرت فيه بعد، فقاتلهم، فأظفره الله بهم، وسلموا له ما كانوا منعوا من الجزية التى صالحهم عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويروى أنه كان للعلاء بن الحضرمى ومن كان معه جوار إلى الله تعالى فى خوض هذا البحر، فأجاب الله دعائهم، وفى ذلك يقول عفيف بن المنذر، وكان شاهدا معهم «1» :
ألم تر أن الله ذلل بحره ... وأنزل بالكفار إحدى الجلائل
دعونا الذى شق البحار فجاءنا ... بأعظم من غلق البحار الأوائل
وفى حديث غيره، قال: لما رأى ذلك أهل الردة من أهل البحرين سألوه الصلح على ما صالح عليه أهل حجر.
ولما ظهر العلاء بن الحضرمى على أهل الردة والمجوس من أهل البحرين، أقام عليها أميرا، وبعث أربعة عشر رجلا من رؤساء عبد القيس وفدا إلى أبى بكر الصديق رضى الله عنه، فنزلوا على طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، وأخبروهما بمسارعتهم إلى الإسلام وقيامهم فى الردة، ثم دخل القوم على أبى بكر، وحضر الزبير وطلحة رضى الله عنهم، فقالوا: يا خليفة رسول الله، إنا قوم أهل إسلام، وليس شىء أحب إلينا من رضاك، ونحن نحب أن تعطينا أرضا من أرض البحرين وطواحين، فأبى أبو بكر، فكلمه فى ذلك طلحة والزبير، فأذعن، وقال: اشهدوا أنى قد فعلت وأعطيتهم كل ما سألونى، وعرفت لهم قدر إسلامهم، فجزوه خيرا.
فلما خرجوا من عنده، قال لهم طلحة: إن هذا الأمر لا نراه يليه بعد أبى بكر إلا عمر، فكلموا أبا بكر يكتب لكم كتابا، ويشهد فيه عمر، فلا يكون لعمر بعد هذا اليوم كلام، فعادوا إلى أبى بكر، فذكروا له ذلك، فدعا عبد الله بن الأرقم، فقال: اكتب لهم بهذا الذى أعطيتهم، ففعل، وشهد فى الكتاب عشرة من قريش والأنصار، ولم يكن عمر بن الخطاب حاضرا، فانطلقوا إليه، فأقرأوه الكتاب، فلما قرأه فض الخاتم ثم تفل
__________
(1) انظر الأبيات فى: البداية والنهاية (6/ 323) .(2/152)
فيه، ورده عليه، فأقبل الوفد على طلحة، فقالوا: هذا عملك أنت، أمرتنا أن نشهد عمر، واتهموه فى أمرهم، فقال طلحة: والله ما أردت إلا الخير، فرجعوا إلى أبى بكر غضابا، فخبروه الخبر، ودخل طلحة والزبير، فقالا: والله ما ندرى أنت الخليفة أم عمر، فقال أبو بكر: وما ذاك؟ فأخبروه، فقال: فما صنع عمر بالكتاب؟.
قالوا: فض الخاتم وتفل فى الكتاب ومحاه، فقال أبو بكر: لئن كان عمر كره من ذلك شيئا، فإنى لا أفعله، فبينما هم كذلك إذ جاء عمر، فقال له أبو بكر: ما كرهت من هذا الكتاب؟ فقال: كرهت أن تعطى الخاصة دون العامة، ولكن اجعل أمر الناس واحدا لا يكون عندك خاصة دون عامة، وإلا فأنت تقسم على الناس فيئهم، فتأبى أن تفضل أهل السابقة وأهل بدر وتعطى هؤلاء قيمة عشرين ألفا دون الناس، فقال أبو بكر:
وفقك الله وجزاك خيرا، فهذا هو الحق.
وذكر وثيمة بن موسى: أن بكر بن وائل لما خفت عند ردة العرب بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، قالوا: والله لنردن هذا الملك إلى آل النعمان بن المنذر، فبلغ ذلك كسرى، فبعث فى وجوههم، فقدموا عليه وعنده يومئذ المخارق بن النعمان وهو المنذر بن النعمان بن المنذر، وكان يسمى الغرور، فقال لهم: سيروا مع المنذر بن النعمان، فإنى قد ملكته، فخذوا البحرين، فساروا، وسارت معه الأساورة، وهم يومئذ ستة آلاف راكب، ثم إن كسرى ندم على تمليك المنذر وتوجيه من وجه معه، وقال: غلام موبق، قتلت أباه، معه كتيبة النعمان من بكر بن وائل يأتون إخوتهم من عبد القيس، وهو غلام فتى السن لم يختبر، هذا خطأ من الرأى، فصرفه إليه، وانكسر المنذر للذى صنع به، ثم عاود كسرى رأيه فيه لكلام بلغه عنه، فأمضاه وسرح معه أبجر بن جابر العجلى، ثم ذكر حديثا طويلا تتخلله أشعار كثيرة لم أر لذكر شىء منها وجها، واستغنيت من حديثهم بما تقدم منه.
وذكر أن المنذر لما كان من ظهور الإسلام ما تقدم ذكره هرب إلى الشام، فلحق ببنى جفنة، وندم على ما مضى منه، ثم ألقى الله فى قلبه الإسلام، فأسلم، فكان بعد إسلامه، يقول: لست بالغرور ولكنى المغرور، هذا ما ذكره وثيمة فى شأن الغرور.
وذكر سيف فى فتوحه وحكاه الدارقطنى عنه، قال: الغرور بن سويد أسر يوم البحرين، أسره عفيف بن المنذر وأجاره، فأتى به العلاء بن الحضرمى، فقال: إنى قد أجرت هذا، قال: ومن هو؟ قال: الغرور، قال: أنت غررت هؤلاء؟ قال: إنى لست(2/153)
بالغرور ولكنى المغرور، قال: أسلم، فأسلم، وبقى بهجر، وكان اسمه الغرور وليس بلقب.
ذكر ردة أهل دبا وأزد عمان «1»
وكان وفد الأزد من أهل دبا قد قدموا على النبى صلى الله عليه وسلم، مقرين بالإسلام، فبعث عليهم مصدقا منهم، يقال له حذيفة بن اليمان الأزدى، من أهل دبا، وكتب له فرائض صدقات أموالهم، ورسم له أخذها من أغنيائهم وردها على فقرائهم، ففعل حذيفة ذلك، وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بفرائض فضلت من صدقاتهم لم يجد لها موضعا، فلما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، منعوا الصدقة وارتدوا، فدعاهم حذيفة إلى التوبة، فأبوا، وأسمعوه شتم النبى صلى الله عليه وسلم، فقال: يا قوم، أسمعونى الذى فى أبى وفى أمى، ولا تسمعونى الأذى فى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبوا إلا ذلك، وجعلوا يرتجزون:
لقد أتانا خير ردى ... أمست قريش كلها نبى
ظلم لعمر الله عبقرى «2»
فكتب حذيفة إلى أبى بكر الصديق بما كان منهم، فاغتاظ أبو بكر عليهم غيظا شديدا، وقال: من هؤلاء، ويل لهم، ثم بعث إليهم عكرمة بن أبى جهل، وكان النبى صلى الله عليه وسلم، استعمله على سفلى بن عامر بن صعصعة مصدقا، فلما بلغته وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، انحاز إلى تبالة فى أناس من العرب ثبتوا على الإسلام، فكان مقيما بتبالة من أرض كعب بن ربيعة، فجاءه كتاب أبى بكر الصديق وكان أول بعث بعثه إلى أهل الردة، أن سر فيمن قبلك من المسلمين إلى أهل دبا، فسار عكرمة فى نحو ألفين من المسلمين، ورأس أهل الردة لقيط بن مالك، فلما بلغه مسير عكرمة بعث ألف رجل من الأزد يلقونه، وبلغ عكرمه أنهم فى جموع كثيرة، فبعث طليعة، وكان لأصحاب لقيط أيضا طليعة، فالتقى الطليعتان فتناوشوا ساعة.
ثم انكشف أصحاب لقيط، وبعث أصحاب عكرمة فارسا نحو عكرمة، فلما أتاه الخبر أسرع بأصحابه ومن معه حتى لحق طليعته، ثم زحفوا جميعا ميمنة وميسرة، وسار
__________
(1) راجع: المنتظم لابن الجوزى (4/ 85) ، تاريخ الطبرى (3/ 314) ، البداية والنهاية لابن كثير (6/ 323- 325) .
(2) انظر الأبيات فى: الروض المعطار ص (232) .(2/154)
على تعبئته حتى إذا أدرك القوم والتقوا فاقتتلوا ساعة، ثم رزق الله عكرمة عليهم الظفر، فهزمهم وأكثر فيهم القتل، وخرجوا منهزمين راجعين إلى لقيط بن مالك، فأخبروه أن جمع عكرمة مقبل إليهم، وأنهم لا طاقة لهم بهم، وفقدوا من أصحابهم بشرا كثيرا، منهم من قتل ومنهم من أسره عكرمة أسرا.
فلما انتهوا إلى لقيط مفلولين قوى حذيفة بن اليمان بمن معه من المسلمين، فناهضهم وناوشهم، وجاء عكرمة فى أصحابه، فقاتل معهم، فأصابوا منهم مائة أو نحوها فى المعركة، ثم انهزموا حتى دخلوا مدينة دبا «1» ، فتحصنوا فيها، وحصرهم المسلمون فى حصنهم شهرا أو نحوه، وشق عليهم الحصار، إذ لم يكونوا أخدوا له أهبته، فأرسلوا إلى حذيفة رجلا منهم يسألونه الصلح، فقال: لا إلا أن أخيرهم بين حرب مجلية أو سلم مخزية، قالوا: أما الحرب المجلية فقد عرفناها، فما السلم المخزية؟.
قال: تشهدون أن قتلانا فى الجنة وقتلاكم فى النار، وأن ما أخذنا منكم فهو لنا وأن ما أخذتموه منا فهو رد علينا، وأنا على حق وأنكم على باطل وكفر ونحكم فيكم بما رأينا، فأقروا بذلك، فقال: اخرجوا عن مدينتكم عزلا لا سلاح معكم، ففعلوا، فدخل المسلمون حصنهم، فقال حذيفة: إنى قد حكمت فيكم: أن أقتل أشرافكم، وأسبى ذراريكم. فقتل من أشرافهم مائة رجل، وسبى ذراريهم، وقدم حذيفة بسبيهم إلى المدينة وهم ثلاثمائة من المقاتلة، وأربعمائة من الذرية والنساء، وأقام عكرمة بدبا عاملا عليها لأبى بكر، فلما قدم حذيفة بسبيهم المدينة، اختلف فيهم المسلمون، فكان زيد بن ثابت يحدث أن أبا بكر أنزلهم دار رملة بنت الحارث، وهو يريد أن يقتل من بقى من المقاتلة.
فكان من كلام عمر له: يا خليفة رسول الله، قوم مؤمنون إنما شحوا على أموالهم، والقوم يقولون: والله ما رجعنا عن الإسلام، ولكن شححنا على أموالنا، فيأبى أبو بكر أن يدعهم بهذا القول، ولم يزالوا موقفين فى دار رملة بنت الحارث، حتى توفى أبو بكر رضى الله عنه، وولى عمر، فدعاهم، فقال: قد كان من رأيى يوم قدم بكم على أبى بكر أن يطلقكم، وقد أفضى إلى الأمر، فانطلقوا إلى أى البلاد شئتم، فأنتم قوم أحرار لا فدية عليكم، فخرجوا حتى نزلوا البصرة، وكان فيهم أبو صفرة والد المهلب، وهو غلام يومئذ، فكان ممن نزل البصرة.
__________
(1) دبا: مثل عصا، موضع بظهر الحيرة، ودبا فيما بين عمان والبحرين. انظر: الروض المعطار (232) .(2/155)
وروى عن ابن عباس: أن رأى المهاجرين فيهم إذا استأسرهم أبو بكر، كان قتلهم، أو فداءهم بأغلى الفداء، وكان عمر يرى أن لا قتل عليهم ولا فداء، لم يزالوا محتبسين حتى ولى عمر، فأرسلهم بغير فداء.
ويروى عن عمر بن عبد العزيز: أن عمر بن الخطاب قضى فيهم بأربعمائة درهم فداء، ثم نظر فى ذلك، فقال: لا سباء فى الإسلام وهم أحرار، والأول أكثر.
وعن عروة قال: لما قدم أهل غزو دبا قافلين، أعطاهم أبو بكر خمسة دنانير خمسة دنانير «1» .
ذكر ردة صنعاء
وكان الأسود بن كعب العنسى «2» قد ادعى النبوة فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم، واتبع على ذلك، فتزوج المرزبانة امرأة باذان الفارسى، وكانت من عظماء فارس، وقسرها على ذلك، فأبغضته أشد البغض، وسمعت به بنو الحارث بن كعب، من أهل نجران، وهم يومئذ مسلمون، فأرسلوا إليه يدعونه أن يأتيهم فى بلادهم، فجاءهم، فاتبعوه وارتدوا عن الإسلام.
ويقال: دخلها يوم دخلها فى آلاف من حمير، يدعى النبوة، ويشهدون له بها، فنزل غمدان، فلم يتبعه من النخع ولا من جعفى أحد، وتبعه ناس من زبيد ومذحج، وعبس وبنى الحارث وأود ومسلية وحكم.
وأقام الأسود بنجران يسيرا، ثم رأى أن صنعاء خير له من نجران، فسار إليها فى ستمائة راكب من بنى الحارث، فنزل صنعاء، فأبت الأبناء أن يصدقوه، فغلب على صنعاء واستذل الأبناء بها، وقهرهم وأساء جوارهم لتكذيبهم إياه، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، رجلا من الأزد، وقيل من خزاعة، يقال له وبر بن يحنس إلى الأبناء فى أمر الأسود، فدخل صنعاء مختفيا، فنزل على داذويه الأبناوى فخبأه عنده، وتآمرت الأبناء لقتل الأسود، فتحرك فى قتله نفر منهم قيس بن عبد يغوث المكشوح، وفيروز الديلمى، وداذويه الأبناوى، وكانت المرزبانة كما تقدم قد أبغضت الأسود أشد البغض، فوعدتهم
__________
(1) ذكر فى الروض المعطار جميع ما فى هذه القصة (232- 234) .
(2) اسمه: عبهلة بن كعب، يقال له: ذو الخمار، لقب بذلك لأنه كان يقول: يأتينى ذو خمار. انظر ترجمته فى المنتظم لابن الجوزى (4/ 18- 20) .(2/156)
موعدا أتوا لميقاته، وقد سقته الخمر حتى سكر، فسقط نائما كالميت، فدخل عليه فيروز وقيس ونفر معهما، فوجدوه على فراش عظيم من ريش، قد غاب فيه، فأشفق فيروز أن يتعادى عليه السيف إن ضربه به، فوضع ركبته على صدر الكذاب، ثم فتل عنقه فحولها، حتى حول وجهه من قبل ظهره، وأمر فيروز قيسا، فاحتز رأسه، فرمى به إلى الناس، ففض الله الذين اتبعوه، وألقى عليهم الخزى والذلة، وخطب الناس قيس بن مكشوح، وأظهر أن الكذاب قتل بكذبه على الله، وأن محمدا رسول الله.
وبلغ الخبر بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو فى مرضه الذى توفى فيه، فقال صلى الله عليه وسلم، وذكر الأسود: «قتله الرجل الصالح فيروز الديلمى» «1» ، ورد فيروز وداذويه الأمر إلى قيس بن المكشوح، فكان أمير صنعاء، وبها يومئذ جماع من أصحاب الأسود الكذاب، فلما بلغتهم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثبت قيس والأبناء وأهل صنعاء على الإسلام، إلا أصحاب الأسود.
ثم إن قيسا خاف فيروز وداذويه أن يغلباه على سلطان صنعاء، فأجمع أن يفتك بهما، فأرسل إليهما يدعوهما، فجاء داذويه فقتله، وأقبل فيروز يريده، فأخبره بقتل داذويه، فهرب منه إلى أبى بكر رضى الله عنه، وارتد قيس بن المكشوح، وأخرج الأبناء من صنعاء، فلم يبق بها أحد إلا فى جوار، فكان الشعبى يقول فيما ذكر عنه: باليمن رجلان لو انبغى لأحد أن يسجد لشىء دون الله لانبغى لأهل اليمن أن يسجدوا لهما: سيف بن ذى يزن فى الحبشة، وقيس بن مكشوح فى الأبناء الذين بصنعاء، يعنى إخراج سيف الحبشة وإخراج قيس الأبناء.
ولما بلغ خالد بن سعيد بن العاص ردة صنعاء، سار يومها، وكان فى ناحية أرض مراد، حتى دخلها، فاستعداه فيروز على قيس فى قتل داذويه، فبعث إليه من يأتى به، فذهب الرسول فأخذه، ثم أقبل به حتى إذا كان قريبا من صنعاء اختدع قيس الرسول حتى انفلت منه فدخل على خالد فقال: من جاءكم مسلما قد أصاب فى الجاهلية أشياء ماذا عليه؟ فقال له خالد: هدم الإسلام ما قبله، فأسلم قيس، ثم خرج مع خالد إلى الصلاة فيجد فيروز فى المسجد، فقال له: يا فيروز، هل لك حاجة إلى الأمير؟.
فانكسر فيروز ودخل على خالد فاستعداه على قيس، فبعث أبو بكر إلى عكرمة بن أبى جهل، وهو يومئذ بأرض عمان: أن سر فى بلاد مهرة حتى تخرج على صنعاء، فخذ
__________
(1) انظر الحديث فى: كنز العمال للمتقى الهندى (37472) .(2/157)
قيس بن مكشوح المرادى، فابعث به إلى فى وثاق، فسار عكرمة حتى دخل أرض مهرة، فقتل فيهم وسبى، وسار كذلك لا يطأ قوما إلا قاتلوه وقاتلهم، فقتل منهم وسبى، حتى رجعوا إلى الإسلام، وبعث بسبيهم إلى أبى بكر بالمدينة، ثم مضى على وجهه حتى خرج إلى صنعاء، فلقيه قيس وهو لا يدرى بالذى أمر فيه، فأمر به عكرمة، فجعل فى جامعة، وبعث به إلى أبى بكر، فلما دخل عليه عرفه أبو بكر بقتل داذويه، فحلف له ما يدرى من أمره شيئا، ولا يدرى من قتله، ورغب فى الجهاد فى سبيل الله، فخرج إلى قومه من مذحج، فاستجلبهم إلى الجهاد ورغبهم فيه، فخفوا فى ذلك وخرجوا حتى توجهوا إلى من بعث أبو بكر إلى الشام، فذلك أول نزول مذحج الشام.
ثم إن الأصفر العكى خرج هو وجماعة من قومه ممن ثبت على الإسلام حتى دخل نجران «1» ، وهو يريد قتال بنى الحارث بن كعب، فلما دخل عليهم الأصفر رجعوا إلى الإسلام من غير قتال، فأقام الأصفر فى نجران، وضبطها، وغلب عليها ثم أمر أبو بكر المهاجر بن أبى أمية أن يستنفر من مر به من مضر ويقويهم ويعطيهم من مال أعطاه إياه أبو بكر، فسار المهاجر يؤم صنعاء، معه سرية من المهاجرين والأنصار، فيجد المهاجر بنجران الأصفر العكى، ثم سار المهاجر إلى صنعاء ومعه بشر كثير، فلقى جماعة من أصحاب الأسود منفصين، فأخذ عليهم الطريق وألجأهم إلى غيضة، فقتل منهم وأسر، ثم أقبل بالأسرى، ومضى حتى دخل صنعاء، وقد كانت طوائف من زبيد «2» ارتدت منهم عمرو بن معدى كرب، فاجتمع إلى خالد بن سعيد من ثبت على الإسلام من مراد وسائر مذحج، فلقى بهم بنى زبيد، فانهزموا وظفر بهم خالد، فسبى منهم نسوة، منهن امرأة عمرو بن معدى كرب جلالة، وكانت أحسن النساء، وكان عمرو فيما ذكروا، غائبا عن ذلك القتال، فلما ظفر خالد، سألت منه زبيد أن يقرهم على الإسلام ويكف عنهم، فكف عنهم، وأسلموا، وبلغ الخبر عمرا، فأقبل حتى نزل بجانب عسكر خالد، ثم خرج ليلا فتلطف حتى لقى جلالة، فقال لها: يا جلالة، ما صنع بك خالد؟ فقالت: لم يصنع بى إلا خيرا، ولم يعرض علىّ من أمره إلا كرما، قال: هل قربك؟ قالت: لا والله، وما يحل له ذلك فى دينه، قال: فو رب الكعبة إن دينا منعه منك لدين صدق.
__________
(1) نجران: من بلاد اليمن، سميت بنجران بن زيد بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. انظر: الروض المعطار (573- 576) .
(2) زبيد: مدينة باليمن بقرب الجند ومعاثر، تسير فى صحراء رمال حتى تنتهى إلى زبيد، وليس باليمن بعد صنعاء أكبر من زبيد. انظر: الروض المعطار (284) ، نزهة المشتاق (20) .(2/158)
فلما أصبح عمرو غدا على خالد، فقال: ما تريد يا خالد بجلالة؟ قال: قد أسلمت، فإن تسلم أردها إليك، فأسلم عمرو، فردها إليه.
وقدم خالد المدينة، ثم قدم عمرو بن معدى كرب المدينة، فدخل على خالد داره، فقال له: إنى والله ما وجدت شيئا أكافئك به فى جلالة إلا سيفى الصمصامة، ثم خلعه من عنقه فناوله إياه، وقال عمرو:
وهبت لخالد سيفى ثوابا ... على الصمصامة السيف السلام
خليل لم أخنه ولم يخنى ... ولكن التواهب فى الكرام
ذكر ردة كندة وحضرموت
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما قدم عليه وفد كندة مسلمين استعمل عليهم زياد بن لبيد الأنصارى البياضى «1» ، وأمره بالمسير معهم، ففعل، وأقام معهم فى ديارهم يأخذ صدقاتهم حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رجلا مسلما، فلما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولى أبو بكر، بعث أبا هند مولى بنى بياضة، بكتاب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من أبى بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى زياد بن لبيد، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو.
أما بعد، فإن النبى صلى الله عليه وسلم توفى، فإنا لله، وإنا إليه راجعون، فانظر ولا قوة إلا بالله أن تقوم قيام مثلك، ويبايع من عندك، فنمن أبى وطئته بالسيف، وتستعين بمن أقبل على من أدبر، فإن الله مظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون.
فلما قدم أبو هند بكتاب أبى بكر رحمه الله، على زياد بن لبيد، قدم من الليل، وأخبره باجتماع الناس على أبى بكر، وأنه لم يكن بين المسلمين اختلاف، فحمد الله زياد على ذلك، فلما أصبح زياد غدا يقرئ الناس كما كان يفعل قبل ذلك، ثم دخل بيته، فلما جاءت الظهر، خرج إلى الصلاة وعليه السيف، فقال بعض الناس: ما شأن أميركم والسيف، فصلى الظهر بالناس، ثم قال:
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (839) ، الإصابة الترجمة رقم (2871) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1809) ، التاريخ الكبير (3/ 344) ، أنساب الأشراف (1/ 245) ، الجرح والتعديل (3/ 543) ، تهذيب الكمال (9/ 506) ، تهذيب التهذيب (3/ 382) ، الوافى بالوفيات (15/ 10) ، تاريخ الإسلام (1/ 52) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 195) .(2/159)
أيها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفى، فمن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد توفى، ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت، وقد اجتمع المسلمون على أفضلهم من أنفسهم ولم يكن بينهم اختلاف فى أبى بكر بن أبى قحافة، وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم، يأمره فى مرضه أن يصلى بالناس، فبايعوا أيها الناس، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا.
فقال الأشعث بن قيس: إذا اجتمع الناس، فما أنا إلا كأحدهم، ونكص عن التقدم إلى البيعة، فقال امرؤ القيس بن عابس الكندى: أنشدك الله يا أشعث، ووفادتك على النبى صلى الله عليه وسلم، وإسلامك أن تنقضه اليوم، والله ليقومن بهذا الأمر من بعده من يقتل من خالفه، فإياك إياك، أبق على نفسك فإنك إن تقدمت تقدم الناس معك، وإن تأخرت افترقوا واختلفوا، فأبى الأشعث، وقال: قد رجعت العرب إلى ما كانت الآباء تعبد، ونحن أقصى العرب دارا من أبى بكر، أيبعث أبو بكر إلينا الجيوش؟ قال: أى والله، وأحرى أن لا يدعك عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجع إلى الكفر.
قال الأشعث: من قال زياد بن لبيد، فتضاحك، ثم قال: أما يرضى زياد أن أجيره، فقال امرؤ القيس: سترى، ثم قام الأشعث، فخرج من المسجد إلى منزله، وقد أظهر ما أظهره من الكلام القبيح من غير أن يكون نطق بالردة، ووقف يتربص، وقال: نقف أموالنا بأيدينا ولا ندفعها، ونكون من آخر الناس، وبايع زياد بن لبيد لأبى بكر من بعد الظهر إلى أن قامت العصر، فصلى بالناس العصر، ثم انصرف إلى بيته، ثم غدا على الصدقة من الغد كما كان قبل، وهو أقوى ما كان نفسا، وأشده لسانا، فبينا هو يصدق إلى أن أخذ قلوصا فى الصدقة من فتى من كندة، فلما أمر بها زياد تعقل وتوسم بميسم السلطان، وكان الميسم لله، أتى الفتى، فصاح: يا حارثة بن سراقة «1» ، يا أبا معدى كرب، عقلت البكرة، فأتى حارثة إلى زياد، فقال: أطلق للفتى بكرته، فأبى زياد، فقال:
قد عقلتها ووسمتها بميسم السلطان، فقال حارثة: أطلقها أيها الرجل طائعا، خير من أن تطلقها وأنت كاره، قال زياد: لا والله لا أطلقها ولا نعمت عين. فقام حارثة فحل عقالها وضرب على جنبها، فخرجت القلوص تعدو إلى الأنهار، وجعل حارثة يقول:
أطعنا رسول الله ما كان وسطنا ... فيا قوم ما شأنى وشأن أبى بكر
أيورثها بكرا إذا مات بعده ... فتلك إذا والله قاصمة الظهر
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (459) ، الإصابة الترجمة رقم (1529) ، أسد الغابة الترجمة رقم (993) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 112) ، الجرح والتعديل (1/ 145) ، شذرات الذهب (1/ 9) ، تصحيفات المحدثين (976) .(2/160)
قالوا: فكان زياد يقاتلهم النهار إلى الليل، فلما كان يوم من تلك الأيام، ضاربهم كذلك حتى أمسى، ولم يكن فيما مضى يوم أشد منه، كانت بينهم فيه قتلى وجراح.
قال أبو هند: برز منهم يومئذ رجل يدعو إلى البراز، فبرزت إليه، فتشاولنا بالرمحين نهارا طويلا، فلم يظفر واحد منا بصاحبه، ثم صرنا إلى السيفين، فما قدر واحد منا على صاحبه، ونحن فارسان إلى أن عثر فرسه، فاقتحم وصار راجلا، ويدرك فرسى فيضرب عرقوبيه، فوقعت إلى الأرض، وأفضى أحدنا إلى صاحبه، فبدرته، فأضربه، فأقطع يده من المنكب، فوقع السيف من يده، وولى منهزما، وألحقه، فأجهزت عليه، فما خرج أحد يدعو إلى البراز حتى صلح أمرهم.
قالوا: فلما أمسوا من ذلك اليوم، وتفرقوا، وزياد فى بيته قد بعث العيون، إذ جاءه عين له بعد أن ذهب عامة الليل فدله على عورة من عدوه، وقال: هل لك فى الظفر؟
فقال: ما هو؟ قال: ملوكهم الأربعة فى محجرهم قد ثملوا من الشراب، فسار من ساعته فى مائة رجل من أصحابه حتى انتهوا إلى المحجر، فتقدم العين فاستمع الصوت فإذا القوم قد هدوا وناموا، فأغار عليهم، فقتل الملوك الأربعة، مخرس ومشرح وحمد وأبضعة، وأختهم العمرة ذبحهم ذبحا، وكانوا ملوك كندة وأشرافهم.
ويقال: كانت الملوك سبعة: الأشعث بن قيس، ومخرس، وحمد، ووديعة، وأبضعة، ومشرح، ووليعة. فقتل منهم أربعة، ثم رجع زياد إلى أهله، فأصبح القوم قد انكسر حدهم وذلوا.
وقالوا: إن العمردة لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ضربت بغربال، فقطع زياد لذلك يدها، وصلبها، فهى كانت أول امرأة قتلت فى الردة.
وبعث زياد أبا هند إلى أبى بكر وكتب معه:
بسم الله الرحمن الرحيم، لأبى بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من زياد بن لبيد، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد، فإن الناس قبلنا منعوا الصدقة، أو عامتهم وأبوا أن يسلموها، وقاتلوا دونها أشد القتال، وأظهروا الردة عن الإسلام، فبعثت عيونا فى طلب غرتهم، فأتانى آت منهم يخبرنى بغرة منهم، فزحفت إليهم ليلا، فقتلتهم فى محجرهم، وكانوا أربعة: مخرس ومشرح وحمد وأبضعة، وأختهم العمردة، فأصبحوا وقد ذلوا وانكسروا، وإنى كتبت إليك والسيف على عاتقى، وبعثت إليك أبا هند بالكتاب، وأمرته أن يجد السير، وأن يخبرك بما رأى وشهد، وإن الكتاب موجز، وعنده علم ما كنا فيه، والسلام.(2/161)
فيروى أن أبا هند قال: خرجت من عند زياد بعد أن صليت الغداة على راحلتى، ومعى رجل من بنى قتيرة على راحلة خفير لى، فبلغ بى صنعاء، ثم انصرف، فسرت من حضرموت إلى المدينة تسع عشرة، فأرخفت «1» راحلتى، وما مسيت عنها أكثر مما ركبت، وانتهيت إلى أبى بكر، فأجده حين خرج إلى الصلاة، فلما رآنى قال: أبا هند، ما ورائك؟ قلت: خير، والذى يسرك. قتل الملوك الأربعة وأختهم العمردة، قال: قد كنت كتبت إلى زياد أنهى أن يقتل الملوك من كندة، وبعثت بذلك المغيرة بن شعبة، أما لقيته؟ قلت: ما لقيته.
وقدم المغيرة خلافى، وذلك أنه أخطأ الطريق، فذلك الذى أبطأ به، وجعل أبو بكر يسألنى، فأخبره عن كل ما يسره، ثم قال: ما فعل الأشعث بن قيس؟ قلت: يا خليفة رسول الله، هو أول من نقض، وهو رأس من بقى، وقد ضوى إليه ناس كثير، وقد تحصن فى النجير بمن معه ممن هو على رأيه، والله مخزيهم، وقد تركت زياد بن لبيد يريد محاصرتهم، فقال أبو بكر: قد كتبت إلى المهاجر بن أبى أمية أن يمد زيادا ويكون أمرهما واحدا.
وكان النبى صلى الله عليه وسلم، لما قتل الأسود العنسى «2» بعث المهاجر واليا على صنعاء، فتوفى صلى الله عليه وسلم، والمهاجر وال عليها، فانحاز إلى زياد بحضرموت، كما أمره أبو بكر.
وكانت قتيرة من كندة قد ثبتت على الإسلام، لم يرجع منها رجل واحد، فلما قدم المهاجر على زياد اشتد أمرهما، وكانا يحاصران أهل النجير، وكان أهل النجير قد غلقوه، فلما قتل الملوك الأربعة دخلوا مع الأشعث بن قيس، وجثم زياد ومهاجر على النجير، فحاصروا أهله بالمسلمين، لا يفارقونه ليلا ولا نهارا، وقذف الله الرعب فى أفئدتهم، فلما اشتد به الحصار، بعثوا إلى زياد بن لبيد: أن تنح عنا حتى نكون نخرج ونخليك والحصن، فقال: لا أبرح شبرا واحدا حتى نموت من آخرنا أو تنزلوا على حكما ورأينا، وجعل يكايدهم لما يرى من جزعهم. فكتب كتابا، ثم بعث به فى السر مع رجل من بنى قتيرة ليلا، مسيرة يوم أو بعض يوم، ثم يأتيه بكتابه الذى كتبه فيقرؤه على الناس:
من أبى بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى زياد بن لبيد، سلام عليك، فإنى أحمد إليك
__________
(1) أرخف: بالكسر أى تعب. انظر اللسان (1616) .
(2) انظر خبر قتل الأسود العنسى فى: المنتظم لابن الجوزى (4/ 19) ، تاريخ الطبرى (3/ 236) .(2/162)
الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد، فقد بلغنى ردة من ارتد قبلك بعد المعرفة بالدين، غرة بالله، والله مخزيهم إن شاء الله، فاحصرهم ولا تقبل منهم إلا ما خرجوا منه أو السيف.
فقد بعثت إليك عشرة آلاف رجل عليهم فلان بن فلان، وخمسة آلاف عليهم فلان بن فلان، وقد أمرتهم أن يسمعوا لك ويطيعوا، فإذا جاءك كتابى هذا فإن أظفرك الله بهم فإياك والبقيا فى أهل النجير، حرق حصنهم بالنار، واقطع معايشهم، واقتل المقاتلة، واسب الذرية، وابعث بهم إن شاء الله.
وإنما هذا كتاب كتبه زياد بيده مكايدة لعدوه، فكانوا إذا قرئ عليهم هذا الكتاب أيقنوا بالهلكة، واشتد عليهم الحصار، وندموا على ما صنعوا، فبينا هم على ذلك الحصار قد جهدهم، قال الأشعث: إلى متى هذا الحصر قد غرثنا وغرث عيالنا، وهذه البعوث تقدم علينا بما لا قبل لنا به، وقد ضعفنا عمن معنا، فكيف بمن يأتينا من هذه الأمداد والله للموت بالسيف أحسن من الموت بالجوع، أو يؤخذ برقبة الرجل كما يصنع بالذرية.
قالوا: وهل لنا قوة بالقوم؟ فما ترى لنا؟ فأنت سيدنا، قال: أنزل فآخذ لكم الأمان قبل أن تدخل هذه الأمداد، بما لا قبل لنا به، فجعل أهل الحصن يقولون للأشعث: افعل وخذ لنا أمانا، فإنه ليس أحد أجرأ على ما قبل زياد منك، قال: فأنا أنزل.
فأرسل إلى زياد: أنزل فأكلمك وأنا آمن؟ قال: نعم، فنزل الأشعث من النجير فخلا بزياد، فقال: يا ابن عم، قد كان هذا الأمر ولم يبارك لنا فيه، وإن لى قرابة ورحما، وإن أوصلتنى إلى صاحبك قتلنى، يعنى المهاجر بن أمية «1» ، وأن أبا بكر يكره قتل مثلى، وقد جاءك كتابه ينهاك عن قتل الملوك من كندة، فأنا أحدهم، وأنا أطلب منك الأمان على أهلى ومالى، فقال زياد: لا أؤمنك أبدا على دمك وأنت كنت رأس الردة والذى نقض علىّ كندة، فقال: أيها الرجل، دع ما مضى واستقبل الأمور إذا أقبلت، قال زياد:
وماذا؟ قال: وأفتح لك النجير، فأمنه زياد على أهله وماله، على أن يقدم به على أبى بكر، فيرى فيه رأيه، وفتح له النجير.
وقد كان المهاجر لما نزل الأشعث من الحصن ليكلمهم، قال لزياد: رده إلى الحصن حتى ينزل على حكمنا فنضرب عنقه، فنكون قد استأصلنا شأفة الردة، فأبى زياد إلا أن يؤمنه، وقال: أخشى أن يلومنى أبو بكر فى قتله وقد جاءنى كتابه ينهانى عن قتل الملوك الأربعة، فأخاف مثل ذلك، مع أن أبا بكر إن أراد قتله فله ذلك، إنما جعل له الأمان على
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2531) ، الإصابة الترجمة رقم (8271) ، أسد الغابة الترجمة رقم (5134) ، مؤتلف الدارقطنى (ص 163) .(2/163)
نفسه وماله إلى أن يبلغ أبا بكر، لا أدع من عين ماله شيئا يخف حمله معه إلا سار به، وأحول بينه وبين ما هاهنا مما لا يطيق حمله، حتى يأتى رأى أبى بكر فيه، فأمنه زياد على أن يبعث به وبأهله وبماله إلى أبى بكر رضى الله عنه، فيحكم فيه بما يرى.
وفتحوا له النجير، فأخرجوا المقاتلة، فعمد زياد إلى أشرافهم وهم سبعمائة فضرب أعناقهم على دم واحد، ولام القوم الأشعث، فقالوا لزياد: غدر بنا فأخذ الأمان لنفسه وأهله، ولم يأخذ لنا، وإنما نزل على أن يأخذ لنا جميعا، فنزلنا ونحن آمنون، فقتلنا. فقال زياد: ما أمنتكم، فقالوا: صدقت، خدعنا الأشعث.
قال الواقدى: وقد ذكروا فى فتح النجير وجها آخر عن أبى مغيث، قال: كنت فيمن حضر أهل النجير، فصالح الأشعث زيادا على أن يؤمن من أهل النجير سبعين رجلا، ففعل، فنزل سبعون رجلا ونزل معهم الأشعث، فكانوا أحدا وسبعين، فقال زياد:
أقتلك، لم يكن لك أمان، فقال الأشعث: تؤمننى على أن أقدم على أبى بكر فيرى فىّ رأيه، فآمنه على ذلك، والقول الأول أثبت.
وبعث أبو بكر نهيك بن أوس بن [حزمة] «1» إلى زياد بن لبيد يقول: إن ظفرت بأهل النجير فاستبقهم، فقدم عليه ليلا وقد قتل منهم فى أول النهار سبعمائة فى صعيد واحد، قال نهيك: فما هو إلا أن رأيتهم فشبهت بهم قتلى بنى قريظة يوم قتلهم النبى صلى الله عليه وسلم، وأبى زياد أن يوارى جثثهم، وتركهم للسباع، فكان هذا أشد على من بقى من القتل، وهرب أهل الردة فى كل وجه، وكان لا يؤخذ منهم إنسان إلا قتل.
ثم بعث زياد بالسبى مع نهيك، وبعث معه ثمانين رجلا من قتيرة، وبعث بالأشعث معهم فى وثاق.
قال عبد الرحمن بن الحويرث: رأيته يوم قدم به المدينة فى حديد، مجموعة يداه إلى عنقه.
ونزل نهيك بالسبى فى دار رملة بنت الحارث، ومعهم الأشعث بن قيس، ولما كلمه أبو بكر جعل يقول: يا خليفة رسول الله، والله ما كفرت بعد إسلامى، ولكنى شححت على مالى، فقال أبو بكر: ألست الذى يقول: قد رجعت العرب إلى ما كانت الآباء تعبد، وأبو بكر يبعث إلينا الجيوش ونحن أقصى العرب دارا؟ فرد عليك من هو
__________
(1) ما بين المعقوفتين كذا فى الأصل، وفى الاستيعاب الترجمة رقم (2667) : «نهيك بن أوس بن خزمة» . وانظر ترجمته فى: الإصابة (8839) ، أسد الغابة الترجمة رقم (5310) .(2/164)
خير منك، فقال: لا يدعك عامله ترجع إلى الكفر، فقلت: من، قال: زياد بن لبيد، فتضاحكت، فكيف وجدت زيادا، أذكرت به أمه؟ قال الأشعث: نعم كل الأذكار، ثم قال فى آخر قوله: أيها الرجل، أطلق إسارى، واستبقنى لحربك، وزوجنى أختك أم فروة بنت أبى قحافة، فإنى قد تبت مما صنعت، ورجعت إلى ما خرجت منه من منع الصدقة، فأسعفه أبو بكر فزوجه، فكان الأشعث مقيما بالمدينة حتى كانت ولاية عمر بن الخطاب، وثاب الناس إلى فتح العراق، فخرج الأشعث مع سعد بن أبى وقاص.
قالوا: وقدم على أبى بكر رضى الله عنه، أربعة عشر رجلا من كندة يطلبون أن يفادوا بينهم، وقالوا: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما رجعنا عن الإسلام ولكن شححنا على أموالنا، وقد رجع من وراءنا إلى ما خرجوا منه وبايعوك راضين، فقال أبو بكر: بعد ماذا؟ بعد أن وطئكم السيف؟ فقالوا: يا خليفة رسول الله، إن الأشعث غدر بنا، كنا جميعا فى الحصن، فكان أجزعنا، وكان أول من نقض، وأبى أن يدفع الصدقة، وأمرنا بذلك، ورأسنا، فلم يبارك لنا فى رياسته. فقال: أنزل وآخذ لكم الأمان جميعا، فإن لم يكن رجعت إليكم فيصيا بنى ما يصيبكم، فنزل، فأخذ الأمان لنفسه وأهله ومواليه، وقتلنا صبرا بالسيف.
فقال أبو بكر رضى الله عنه: قد كنت كتبت إلى زياد بن مهاجر كتابا مع نهيك بن أوس إن ظفرتما بأهل النجير فلا تقتلاهم وأنزلاهم على حكمى.
فقال المتكلم: قد والله قتل منا سبعمائة على دم واحد، وقد رجوناك يا خليفة رسول الله.
ولما كلمه الوفد فى أن يرد عليهم السبى ويقبل منهم الفداء أجاب إلى ذلك، وخطب الناس على المنبر، فقال: أيها الناس، ردوا على هؤلاء نساءهم وذراريهم، لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يغيب عنهم أحدا، قد جعلنا الفداء على كل رأس منهم أربعمائة درهم.
وأمر أبو بكر زيد بن ثابت بقبض الفداء، وأمره أيضا بإخراج الخمس.
قال الواقدى: سألت معاذ بن محمد فقلت: أرأيت الأربعة الأخماس، حيث أمر أبو بكر أن يفدوا بأربعمائة أربعمائة، ما فعل بها؟ قال: جمع أبو بكر ذلك كله فجعله سهمانا لأهل النجير مع ما استخرج زياد بن لبيد والمهاجر مما وجدوا فى الحصن النجير من الرثة والسلاح، ومما أصابوا من غير ذلك، فجعلوه مغنما.(2/165)
وكان أبو بكر قد أمد زيادا والمهاجر بعكرمة بن أبى جهل وهو يومئذ بدبا، فسار إليهم فى سبعمائة فارس، وقدم بعد فتح النجير بأربعة أيام، فأمر أبو بكر بأن يسهم لهم فى ذلك، فأسهم لهم.
ونظرت عجوز من سبى النجير إلى الأشعث بن قيس، فقالت: قبحت من وافد قوم ورسولهم، أخذت الأمان لأهلك ومواليك وعرضتنا للسباء، وقتلت رجالنا بغدرك، ولم تواسهم بنفسك، وأنت شأمتهم، رأسوك فلم يبارك لهم فى رياستك، والله ما رجعوا عن الإسلام ولكن شحوا على أموالهم، فقتلوا، ورجعت أنت عن الإسلام فنجوت، ما كان أحد قط، أشأم على قومه منك.
ومما يحفظ من شعر الأشعث، يذكر الجماعة الذين ضرب زياد أعناقهم من أهل النجير وهم سبعمائة كما تقدم:
فلا رزء إلا يوم أقرع بينهم ... وما الدهر عندى بعدهم بأمين
فليت جنوب الناس تحت جنوبهم ... ولم تمش أنثى بعدهم بجنين
فكنت كذات البو ضغت فأقبلت ... إلى بوها أو طربت بحنين
لغمرى وما عمرى على بهين ... لقد كنت بالقتلى أحق ضنين
ويروى أن الأشعث إنما قال هذا فى الملوك الأربعة الذين قتلوا، ومن روى هذا أنشد الشعر هكذا:
لعمرى وما عمرىّ على بهين ... لقد كنت بالأملاك حق ضنين
فإن يك هذا الدهر فرق بينهم ... فما الدهر عندى بعدهم بأمين
فليت جنوب الناس تحت جنوبهم ... ولم يبشرونى بعدهم بجنين
وكنت كذات البو ريعت فأقبلت ... على بوها أو طربت بحنين
ذكر بدء الغزو إلى الشام وما وقع فى نفس أبى بكر الصديق رضى الله عنه، من ذلك وما قوى عزمه عليه «1»
حدث سهل بن سعد الساعدى رضى الله عنه، قال: لما فرغ أبو بكر رضى الله عنه، من أهل الردة، واستقامت له العرب، حدث نفسه بغزو الروم، ولم يطلع عليه أحدا، فبينما هو كذلك إذ جاءه شرحبيل بن حسنة فجلس إليه، فقال: يا خليفة رسول الله
__________
(1) راجع المنتظم لابن الجوزى (4/ 115) ، تاريخ الطبرى (3/ 387) .(2/166)
أحدثت نفسك أن تبعث إلى الشام جندا؟ قال: نعم، قد حدثت نفسى بذلك ولم أطلع عليه أحدا، وما سألتنى إلا لشىء. قال: أجل، إنى رأيت فيما يرى النائم كأنك تمشى فى ناس من المسلمين فوق حرشفة من الجبل، فأقبلت تمشى معهم حتى صعدت قلة فى أعاليه، فأشرفت على الناس ومعك أصحابك أولئك، ثم هبطت من تلك القلة إلى أرض سهلة دمثة، فيها الزروع والعيون والقرى والحصون، فقلت: يا للمسلمين! شنوا الغار على المشركين، فأنا ضامن لكم بالفتح والغنيمة!.
فشد المسلمون وأنا فيهم ومعى راية، فتوجهت بها إلى قرية فسألونى الأمان فأمنتهم، ثم جئت فأجدك قد انتهيت إلى حصن عظيم، ففتح لك، وألقوا إليك السلم، ووضع لك عريش فجلست عليه، ثم قال لك قائل: يفتح عليك وتنصر فاشكر ربك واعمل بطاعته، ثم قرأ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً [النصر: 1، 4] .
ثم انتهيت، فقال له أبو بكر رضى الله عنه: نامت عينك، ثم دمعت عينا أبى بكر رضى الله عنه، فقال: أما الحرشفة التى كنا نمشى عليها حتى صعدنا منها إلى القلة لعالية فأشرفنا منها على الناس فإنا نكابد من أمر هذا الجند مشقة ويكابدونها ثم نعلو بعد ويعلو أمرنا، وأما نزولنا من القلة إلى الأرض السهلة الدمثة وما فيها من الزروع والعيون والقرى والحصون فإنا ننزل إلى أمر أسهل مما كنا فيه، فيه الخصب والمعاش، وأما قولى للمسلمين: شنوا عليهم الغارة، فإنى ضامن لكم بالفتح والغنيمة، فإن ذلك توجيهى للمسلمين إلى بلاد المشركين واحتثاثى إياهم على الجهاد، وأما الراية التى كانت معك فتوجهت بها إلى قرية من قراهم فدخلتها فاستأمنوك فأمنتهم فإنك تكون أحد أمراء المسلمين ويفتح الله على يديك، وأما الحصن الذى فتح لنا فهو ذلك الوجه، يفتحه الله علىّ، وأما العريش الذى رأيتنى عليه جالسا، فإن الله يرفعنى ويضع المشركين، وأما الذى أمرنى بالعمل وبالطاعة وقرأ علىّ السورة فإنه نعى إلىّ نفسى، إن هذه السورة حين أنزلت على النبى صلى الله عليه وسلم، علم أن نفسه قد نعيت إليه، ثم سألت عينا أبى بكر، فقال: لآمرن بالمعروف ولأنهين عن المنكر ولأجاهدن من ترك أمر الله ولأجهزن الجنود إلى العادلين بالله فى مشارق الأرض ومغاربها حتى يقولوا: الله أحد، الله أحد، أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون، أمر الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا توفانى الله لم يجدنى وانيا، ولا فى ثواب المجاهدين فيه زاهدا، ثم إنه عند ذلك أمر الأمراء، وبعث إلى الشام البعوث.
وعن عبد الله بن أبى أوفى الخزاعى، وكانت له صحبة، قال: لما أراد أبو بكر أن(2/167)
يجهز الجنود إلى الشام دعا عمر وعثمان وعليا وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن أبى وقاص وأبا عبيدة بن الجراح، ووجوه المهاجرين والأنصار من أهل بدر وغيرهم، فدخلوا عليه وأنا فيهم، فقال: إن الله تبارك وتعالى، لا تحصى نعمه، ولا تبلغ جزاءها، الأعمال، فله الحمد كثيرا على ما اصطنع عندكم، قد جمع كلمتكم، وأصلح ذات بينكم، وهداكم إلى الإسلام، ونفى عنكم الشيطان، فليس يطمع أن تشركوا بالله ولا أن تتخذوا إلها غيره، فالعرب اليوم بنو أم وأب، وقد رأيت أن أستنفرهم إلى الروم بالشام، فمن هلك منهم هلك شهيدا، وما عند الله خير للأبرار، ومن عاش منهم عاش مدافعا عن الدين، مستوجبا على الله ثواب المجاهدين، هذا رأيى الذى رأيت، فليشر على كل امرئ بمبلغ رأيه» .
فقام عمر رضى الله عنه، فقال: الحمد لله الذى يخص بالخير من يشاء من خلقه، والله ما استبقنا إلى شىء من الخير إلا سبقتنا إليه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، قد والله أردت لقاءك بهذا الرأى الذى ذكرت غير مرة، فما قضى الله أن يكون ذلك حتى ذكرته الآن، فقد أصبت، أصاب الله بك سبيل الرشاد، سرب إليهم الخيل فى أثر الخيل، وابعث الرجال بعد الرجال، والجنود يتبعها الجنود، فإن الله تعالى ناصر دينه، ومعز الإسلام وأهله، ومنجز ما وعده رسوله.
ثم إن عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه قام، فقال: يا خليفة رسول الله، إنما الروم بنو الأصفر حد حديد، وركن شديد، والله ما أرى أن تقحم الخيل عليهم إقحاما، ولكن تبعث الخيل فتغير فى أدنى أرضهم، وترجع إليك، فإذا فعلوا ذلك مرارا أضروا بهم، وغنموا من أدانى أرضهم، فقووا بذلك على قتالهم، ثم تبعث إلى أقاصى أهل اليمن، وأقاصى ربيعة ومضر، فتجمعهم إليك جميعا، فإن شئت عند ذلك غزوتهم بنفسك، وإن شئت أغزيتهم غيرك.
ثم جلس وسكت، وسكت الناس، فقال لهم أبو بكر: ماذا ترون رحمكم الله؟ فقام عثمان بن عفان رضى الله عنه، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على رسوله، ثم قال:
نرى أنك ناصح لأهل هذا الدين، شفيق عليهم، فإذا رأيت رأيا تراه لعامتهم رشدا وصلاحا فاعزم على إمضائه، فإنك غير ضنين عليهم ولا متهم.
فقال طلحة والزبير وسعد وأبو عبيدة وسعيد بن زيد وجميع من حضر ذلك المجلس
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام للأزدى ص (1 وما بعدها) .(2/168)
من المهاجرين والأنصار: صدق عثمان، ما رأيت من الرأى فامضه، فإنا سامعون لك، مطيعون، لا نخالف أمرك، ولا نتهم رأيك، ولا نتخلف عن دعوتك وإجابتك.
فذكروا هذا وأشباهه، وعلى رضى الله عنه، فى القوم لا يتكلم، فقال له أبو بكر رضى الله عنهما: ماذا ترى يا أبا الحسن؟ فقال: أرى أنك مبارك الأمر، ميمون النقيبة، وإنك إن سرت إليهم بنفسك أو بعثت إليهم نصرت إن شاء الله تعالى. قال: بشرك الله بخير، ومن أين علمت هذا؟.
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «لا يزال هذا الدين ظاهرا على كل من ناوأه حتى تقوم الساعة وأهله ظاهرون» «1» .
فقال أبو بكر: سبحانه الله! ما أحسن هذا الحديث، لقد سررتنى به، سرك الله فى الدنيا والآخرة.
ثم إنه قام فى الناس فذكر الله بما هو أهله، وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم قال: أيها الناس، إن الله تعالى، قد أنعم عليكم بالإسلام، وأعزكم بالجهاد، وفضلكم بهذا الدين على أهل كل دين، فتجهزوا عباد الله إلى غزو الروم بالشام، فإنى مؤمر عليكم أمراء، وعاقد لهم عليكم، فأطيعوا ربكم، ولا تخالفوا أمراءكم، ولتحسن نيتكم وسريرتكم وطعمتكم، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
فسكت القوم، فو الله ما أجابه أحد هيبة لغزو الروم، لما يعلمون من كثرة عددهم وشدة شوكتهم، فقام عمر رحمه الله، فقال: يا معشر المسلمين، ما لكم لا تجيبون خليفة رسول الله إذا دعاكم لما يحييكم؟ أما لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لا بتدرتموه! فقام إليه عمرو بن سعيد فقال: يا ابن الخطاب، ألنا تضرب أمثال المنافقين؟ فما يمنعك مما عتبت علينا فيه؟. فقال: الاتكال، على أنه يعلم أنى أجيبه لو يدعونى، وأغزو لو يغزينى.
فقال عمرو: ولكن نحن لا نغزو لكم إن غزونا، فإنما نغزو لله، فقال أبو بكر لعمرو:
اجلس رحمك الله، فإن عمر لم يرد بما سمعت أذى مسلم ولا تأنيبه، إنما أراد أن يبعث بما سمعت المتثاقلين إلى الأرض عن الجهاد، فقام خالد بن سعيد «2» فقال: صدق خليفة
__________
(1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (5/ 87) ، المستدرك للحاكم (4/ 449) ، كنز العمال للمتقى الهندى (14172، 34558) ، الدر المنثور للسيوطى (3/ 18) .
(2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (617) ، الإصابة الترجمة رقم (2172) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1365) ، نسب قريش (174) ، طبقات ابن خليفة (11/ 298) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (172) ، تاريخ الإسلام (1/ 378) ، العقد الثمين (4/ 267) .(2/169)
رسول الله صلى الله عليه وسلم اجلس يا أخى، فجلس أخوه، فقال خالد: الحمد لله الذى لا إله إلا هو، الذى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم، بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، فالله منجز وعده، ومعز دينه، ومهلك عدوه.
ثم أقبل على أبى بكر فقال: ونحن أولا غير مخالفين لك، ولا متخلفين عنك، وأنت الوالى الناصح الشفيق، ننفر إذا استنفرتنا، ونطيعك إذا أمرتنا، ونجيبك إذا دعوتنا، ففرح بمقالته أبو بكر رضى الله عنه، وقال له: جزاك الله خيرا من أخ وخليل، فقد أسلمت مرتغبا، وهاجرت محتسبا، وهربت بدينك من الكفار لكى يطاع الله ورسوله وتعلو كلمته، فأنت أمير الناس، فتيسر رحمك الله.
ثم إنه نزل، ورجع خالد بن سعيد فتجهز، وأمر أبو بكر رضى الله عنه، بلالا فأذن فى الناس: انفروا أيها الناس إلى جهاد عدوكم: الروم بالشام، وأمير الناس خالد بن سعيد، فكان الناس لا يشكون أن خالدا أميرهم، وكان خالد بن سعيد من عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم، على اليمن، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء المدينة وقد استخلف الناس أبا بكر، فاحتبس عن أبى بكر ببيعته أياما، وأتى بنى هاشم وقال: أنتم الظهر والبطن والشعار دون الدثار، فإذا رضيتم رضينا، وإذا سخطتم سخطنا، حدثونى: أبايعتم هذا الرجل؟
قالوا: نعم، قال: على بر ورضى من جماعتكم؟ قالوا: نعم، قال: فإنى أرضى إذا رضيتم، وأبايع إذا بايعتم، أما أنكم والله يا بنى هاشم فينا لطوال الشجر، طيبو الثمر، ثم بايع أبا بكر بعد ذلك.
وبلغت مقالته أبا بكر فلم يبال، واضطغن ذلك عليه عمر، فلما ولاه أبو بكر الجند الذى استنفر إلى الشام، أتى عمر، أبا بكر فقال: أتولى خالد بن سعيد وقد حبس عنك بيعته، وقال لبنى هاشم ما بلغك، وقد جاء بورق اليمن وعبيد له حبشان وبدروع ورماح؟ ما أرى أن توليه وما آمن خلافه، وكان أبو بكر لا يخالف عمر ولا يعصيه، فدعا يزيد بن أبى سفيان، وأبا عبيدة بن الجراح، وشرحبيل بن حسنة، فقال لهم: إنى باعثكم فى هذا الوجه، ومؤمركم على هذا الجند، وأنا باعث على كل رجل من الرجال ما قدرت عليه، فإذا قدمتم البلد ولقيتم العدو فاجتمعتم على قتالهم فأميركم أبو عبيدة.
وإن أبو عبيدة لم يلقكما وجمعتكما حرب فيزيد بن أبى سفيان الأمير، انطلقوا فتجهزوا.
فخرج القوم يتجهزون، وبلغ ذلك خالد بن سعيد، فتيسر وتهيأ بأحسن هيئة، ثم أقبل نحو أبى بكر وعنده المهاجرون والأنصار أجمع ما كانوا، وقد تيسر الناس، وأمروا بالعسكرة مع هؤلاء النفر الثلاثة، فسلم على أبى بكر وعلى المسلمين، ثم جلس، فقال(2/170)
لأبى بكر: أما إنك كنت وليتنى أمر الناس، وأنت لى غير متهم، ورأيك فىّ حسن حتى خوفت منى أمرا، والله لأن أخر من رأس حالق أو تخطفنى الطير فى الهواء بين الأرض والسماء أحب إلىّ من أن يكون ما ظن، والله ما أنا فى الإمارة براغب، ولا على البقاء فى الدنيا بحريص، وإنى أشهدكم أنى وأخوتى وفتيانى ومن أطاعنى من أهلى جيش فى سبيل الله نقاتل المشركين أبدا حتى يهلكهم الله أو نموت، لا نريد به حمد الناس ولا جزاءهم، فقال له الناس خيرا، ودعوا له به، وقال أبو بكر رحمه الله: أوتيت فى نفسى وولدى ما أحب لك ولإخوتك، والله إنى لأرجو أن تكون من نصحاء الله فى عباده، وإقامة كتابه، واتباع سنة رسوله «1» .
فخرج هو وإخوته وغلمته ومن معه، فكان أول خلق الله عسكر، ثم خرج الناس إلى معسكرهم من عشرة وعشرين وثلاثين وأربعين وخمسين ومائة فى كل يوم حتى اجتمع الناس وكثروا، فخرج أبو بكر ذات يوم، ومعه من الصحابة كثير حتى انتهى إلى عسكرهم فرأى عدة حسنة، فلم يرض كثرتها للروم، فقال لأصحابه: ماذا ترون فى هؤلاء؟ أترون أن نشخصهم إلى الشام فى هذه العدة؟ فقال له عمر: ما أرضى بهذه العدة لجموع بنى الأصفر، فأقبل على أصحابه فقال: ماذا ترون؟ فقالوا: ونحن أيضا، نرى ما رأى عمر، فقال أبو بكر: أفلا نكتب كتابا إلى أهل اليمن ندعوهم إلى الجهاد ونرغبهم فى ثوابه؟ فرأى ذلك جميع أصحابه، فقالوا: نعم ما رأيت، فافعل.
فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، من خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى من قرئ عليه كتابى هذا من المؤمنين والمسلمين من أهل اليمن، سلام عليكم، فإنى أحمد إليكم الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد. فإن الله تبارك وتعالى، كتب على المسلمين الجهاد، وأمرهم أن ينفروا فيه خفافا وثقالا، فقال جل ثناؤه: وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الصف: 9] ، فالجهاد فريضة مفروضة، وثوابه عند الله عظيم، وقد استنفرنا من قبلنا من المسلمين إلى جهاد الروم بالشام، وقد سارعوا إلى ذلك، وعسكروا وخرجوا، وحسنت نيتهم وعظمت حسبتهم، فسارعوا عباد الله إلى فريضة ربكم وسنة نبيكم، وإلى إحدى الحسنيين: إما الشهادة وإما الفتح والغنيمة، إن الله جل ذكره، لم يرض من عباده بالقول دون العمل، ولا بترك الجهاد فيه أهل عداوته حتى يدينوا بالحق ويقروا بحكم الكتاب، حفظ الله لكم دينكم وهدى قلوبكم، وزكى أعمالكم، ورزقكم أجر المجاهدين الصابرين، والسلام عليكم.
__________
(1) انظر: المنتظم لابن الجوزى (4/ 116) ، تاريخ الطبرى (3/ 387، 388) .(2/171)
وبعث بالكتاب مع أنس بن مالك. قال أنس: أتيت اليمن فبدأت بهم حيا حيا «1» ، وقبيلة قبيلة، أقرأ عليهم كتاب أبى بكر الصديق، فإذا فرغت من قراءته قلت: الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما بعد، فإنى رسول خليفة رسول الله إليكم، ورسول المسلمين، ألا وإنى قد تركتهم معسكرين، ليس يمنعهم عن الشخوص إلى عدوهم إلا انتظاركم، فعجلوا إلى إخوانكم بالنفر، رحمكم الله أيها المسلمون.
قال: فكان كل من أقرأ عليه ذلك الكتاب ويسمع منى هذا القول يحسن الرد ويقول:
نحن سائرون، وكأن قد فعلنا حتى انتهيت إلى ذى الكلاع «2» ، فلما قرأت عليه الكتاب، وقلت له هذا المقال دعا بفرسه وسلاحه ونهض فى قومه، وأمر بالعسكرة، فما برحنا حتى عسكر وعسكر معه جموع كثيرة من أهل اليمن، وسارعوا، فلما اجتمعوا إليه قام فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه، ثم قال:
أيها الناس، إن من رحمة الله إياكم ونعمته عليكم أن بعث فيكم نبيا أنزل عليه الكتاب فأحسن عنه البلاغ، فعلمكم ما يرشدكم، ونهاكم عما يفسدكم، حتى علمكم ما لم تكونوا تعلمون، ورغبكم من الخير فما لم تكونوا فيه ترغبون، وقد دعاكم إخوتكم الصالحون إلى جهاد المشركين، واكتساب الأجر العظيم، فلينفر من أراد النفر معى الساعة.
قال: فنفر بعدد من الناس كثير، وأقبل بهم إلى أبى بكر رحمه الله، فرجعنا نحن فسبقناه بأيام فوجدنا أبا بكر بالمدينة ووجدنا ذلك العسكر على حاله، وأبو عبيدة يصلى بأهل ذلك العسكر.
فلما قدمت حمير معها أولادها ونساؤها، فرح بهم أبو بكر وقام فقال: عباد الله، ألم نكن نتحدث فنقول إذا مرت حمير معها نساؤها تحمل أولادها: نصر الله المسلمين وخذل المشركين؟ فأبشروا أيها المسلمون، قد جاءكم النصر.
قال: وجاء قيس بن هبيرة بن مكشوح المرادى معه جمع كثير حتى أتى أبا بكر فسلم
__________
(1) فى تاريخ فتوح الشام: «.... أتيت أهل اليمن جناحا جناحا، وقبيلة قبيلة، أقرأ عليهم..» .
(2) ذى الكلاع: هو: «أيفع بن يزيد بن النعمان» ، وسمى بذلك لأن حمير تلكعوا، أى اتحدوا وتحالفوا على يديه وهو الذى خطب الناس وحرضهم على القتال. انظر ترجمته فى: شذرات الذهب (1/ 214) .(2/172)
عليه ثم جلس، فقال له: ما تنتظر ببعثة هذه الجنود؟ قال: ما كنا ننتظر إلا قدومكم، قال: فقد قدمنا، فابعث الناس الأول فالأول، فإن هذه البلدة ليست ببلدة خف ولا كراع «1» .
قال: فعند ذلك خرج أبو بكر رضى الله عنه، يمشى، فدعا يزيد بن أبى سفيان فعقد له، ودعا ربيعة بن عامر من بنى عامر بن لؤى فعقد له، ثم قال له: أنت مع يزيد بن أبى سفيان لا تعصه ولا تخالفه، ثم قال ليزيد: إن رأيت أن توليه مقدمتك فافعل، فإنه من فرسان العرب وصالحاء قومك، وأرجو أن يكون من عباد الله الصالحين، فقال يزيد: لقد زاده إلىّ حبا حسن ظنك به ورجاؤك فيه، ثم إنه خرج معه يمشى، فقال له يزيد: يا خليفة رسول الله، إما أن تركب، وإما أن تأذن لى فأمشى معك، فإنى أكره أن أركب وأنت تمشى، فقال أبو بكر رضى الله عنه: ما أنا براكب، وما أنت بنازل، إنى أحتسب خطاى هذه فى سبيل الله، ثم أوصاه فقال:
يا يزيد، إنى أوصيك بتقوى الله وطاعته، والإيثار له، والخوف منه، وإذا لقيتم العدو فأظفركم الله به فلا تغلل ولا تمثل ولا تغدر ولا تجبن، ولا تقتلن وليدا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة، ولا تحرقن نخلا ولا تغرقنه، ولا تقطعن شجرا مثمرا، ولا تعقروا بهيمة إلا لمأكل، وستمرون بقوم فى هذه الصوامع يزعمون أنهم حبسوا أنفسهم لله، فدعهم وما حبسوا أنفسهم له، وستجدون آخرين فحص الشيطان أوساط رؤسهم كأن أوساطها أفاحيص «2» القطا، فأضربوا بالسيف ما فحصوا عنه من رؤسهم حتى ينيبوا إلى الإسلام أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون، ولينصرن الله من ينصره ورسله بالغيب. وأقرأ عليك السلام، وأستودعك الله.
ثم أخذ بيده فودعه، ثم قال: إنك أول امرئ وليته على رجال من المسلمين أشراف غير أوضاع فى الناس، ولا ضعفاء ولا أدنياء ولا جفاة فى الدين، فأحسن صحبتهم، وألن لهم كتفك، واخفض لهم جناحك، وشاورهم فى الأمر، أحسن أحسن الله لك الصحابة، وعلينا الخلافة.
فخرج يزيد فى جيشه قبل الشام، وكان أبو بكر رحمه الله، كل غدوة وعشية يدعو فى دبر صلاة الغداة، ويدعو بعد صلاة العصر، فيقول: اللهم إنك خلقتنا ولم نك شيئا،
__________
(1) الخف: الإبل. والكراع: الخيل.
(2) أفاحيص: جمع أفحوص، وهو التراب، تتخذ فيه طيور القطا مساكن لها.(2/173)
ثم بعثت إلينا رسولا رحمة منك وفضلا علينا، فهديتنا وكنا ضلالا، وحببت إلينا الايمان وكنا كفارا، وكثرتنا وكنا قليلا، وجمعتنا وكنا أشتاتا، وقويتنا وكنا ضعفاء، ثم فرضت علينا الجهاد وأمرتنا بقتال المشركين حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، اللهم إنا أصبحنا نطلب رضاك، بجهاد من عاداك، ثم عدل بك وعبد معك آلهة غيرك، لا إله إلا أنت تعاليت عما يقول الظالمون علوا كبيرا، اللهم فانصر عبادك المسلمين على عدوك من المشركين، اللهم افتح لهم فتحا يسيرا، وانصرهم نصرا عزيزا، وشجع جبنهم، وثبت أقدامهم وزلزل بعدوهم، وأدخل الرعب قلوبهم، واستأصل شأفتهم، واقطع دابرهم، وأبد خضراءهم، وأورثنا أرضهم وديارهم وأموالهم وآثارهم، وكن لنا وليا، وبنا حفيا، وأصلح لنا شأننا، واجعلنا لأنعمك من الشاكرين، واغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، ثبتنا الله وإياكم بالقول الثابت فى الحياة الدنيا وفى الآخرة، إنه بالمؤمنين رؤف رحيم.
وعن أنس قال: لما بعث أبو بكر رحمه الله، يزيد بن أبى سفيان إلى الشام لم يسر من المدينة حتى جاء شرحبيل بن حسنة إلى أبى بكر، فقال: يا خليفة رسول الله، إنى قد رأيت فيما يرى النائم كأنك فى جماعة من المسلمين كثيرة، وكأنك بالشام ونحن معك، إذ استقبلك النصارى بصلبها، والبطارقة بكتبها، وانحطوا عليك من كل شرف وحدب، وكأنهم السيل، فاعتصمنا بلا إله إلا الله، وقلنا: حسبنا الله ونعم الوكيل، ثم نظرنا فإذا نحن بالقرى والحصون من ورائهم وعن أيمانهم وشمائلهم، فإذا نحن بآت قد أتى، فنزل بأعلى شاهقة فى الجبل حتى استوى بالحضيض، ثم أخرج كفه وأصابعه فإذا هى نار، ثم إنه أهوى بها إلى ما قابله من القرى والحصون، فصارت نارا تأجج، ثم إنها خبت فصارت رمادا، ثم نظرنا إلى ما استقبلنا من نصاراهم وبطارقتهم وجموعهم فإذا الأرض قد ساخت بهم، فرفع الناس رؤسهم وأيديهم إلى ربهم يحمدونه ويمجدونه ويشكرونه، فهذا ما رأيت، ثم انتبهت.
فقال أبو بكر رضى الله عنه: نامت عينك، هذه بشرى، وهو الفتح إن شاء الله لا شك فيه، وأنت أحد أمرائى، فإذا سار يزيد بن أبى سفيان فأقم ثلاثا ثم تيسر للسير، ففعل، فلما مضى اليوم الثالث أتاه من الغد يودعه، فقال له: يا شرحبيل، ألم تسمع وصيتى يزيد بن أبى سفيان؟ قال: بلى، قال: فإنى أوصيك بمثلها، وأوصيك بخصال أغفلت ذكرهن لابن أبى سفيان، أوصيك بالصلاة لوقتها، وبالصبر يوم البأس حتى تظفر أو تقتل، وبعيادة المرضى وحضور الجنائز، وبذكر الله كثيرا على كل حال، فقال له أبو(2/174)
سفيان: إن هذه الخصال كان يزيد بهن مستوصيا، وعليهن مواظبا قبل أن يسير إلى الشام، فهو الآن لهن ألزم إن شاء الله تعالى. فقال شرحبيل: الله المستعان، وما شاء الله أن يكون كان، ثم ودع أبا بكر وخرج فى جيشه قبل الشام، وبقى عظم الناس مع أبى عبيدة فى العسكر يصلى بهم، وأبو عبيدة ينتظر كل يوم أن يدعوه أبو بكر، فيسرحه، وأبو بكر ينتظر به قدوم العرب عليه من كل مكان، يريد أن يشحن أرض الشام من المسلمين، ويريد إن زحفت إليهم الروم أن يكونوا مجتمعين، فقدمت عليه حمير فيها ذو الكلاع، واسمه أيقع، وجاءت مذحج فيها قيس بن هبيرة المرادى معه جمع عظيم من قومه، وفيهم الحجاج بن عبد يغوث الزبيدى، وجاء حابس بن سعد الطائى فى عدد كثير من طيئ، وجاءت الأزد فيهم جندب بن عمرو بن حممة الدوسى، وفيهم أبو هريرة، وجاءت جماعة من قبائل قيس، فعقد أبو بكر رضى الله عنه، لميسرة بن مسروق العبسى عليهم، وجاء قباث بن أشيم فى بنى كنانة، فأما ربيعة وأسد وتميم فإنهم كانوا بالعراق.
وعن سهل بن سعد أن أبا بكر، رحمه الله، لما أراد أن يبعث أبا عبيدة دعاه، فأتاه فسلم عليه، ثم جلس، فمكث أبو بكر مليا لا يكلمه، فظن أبو عبيدة أنه هم بعزله كما عزل خالد بن سعيد وهو يستحى أن يستقبله به، فقال: يا خليفة رسول الله، إن كنا لا نصلح لكم ولا نحبكم ولا ننصحكم إلا بأن تولونا فلسنا بإخوان فى الله، وإن كنا لا نجاهد فى سبيل الله ولا نقاتل أعداء الله إلا أن نكون أمراء رؤساء فلسنا الله نريد بجهادنا، وإنما ننوى به إذا الفخر فى الدنيا، إنى أطلب إليك أن تعزلنى عن هذا الجند وتولى عليه من أحببت وأنا أخرج معه، فأشير عليه برأيى وأنصحه جهدى، وأواسى المسلمين بنفسى. فقال أبو بكر: سبحان الله، يا أبا عبيدة أظننت أنك ممن نتهمه أو ممن نبتغى به بدلا أو ممن نتخوف أن يأتى المسلمين من قبله وهن أو خلاف أو فساد؟ معاذ الله أن نكون من أولئك، ثم قال له:
اسمع سماع من يريد أن يفهم ما قيل له ثم يعمل بما أمر به، إنك تخرج فى أشراف العرب وبيوتات الناس وصالحاء المسلمين وفرسان الجاهلية، كانوا إذ ذاك يقاتلون حمية، وهم اليوم يقاتلون على النية الحسنة والحسبة، أحسن صحبة من صحبك، وليكونوا عندك فى الحق سواء، فاستعن بالله، وكفى به معينا، وتوكل عليه وكفى بالله وكيلا.
اخرج من غد إن شاء الله، فخرج من عنده، فلما ولى قال: يا أبا عبيدة، فانصرف إليه، فقال له: إنى أحب أن تعلم كرامتك علىّ، ومنزلتك منى، والذى نفسى بيده، ما على(2/175)
الأرض من المهاجرين ولا غيرهم من أعدله بك، ولا بهذا، يعنى عمر، رحمه الله، ولا له عندى فى المنزلة إلا دون ما لك. فقال أبو عبيدة: رحمك ربك يا خليفة رسول الله، هذا كان ظنى بك.
قال: فانصرف، فلما كان من الغد خرج أبو بكر فى رجال من المسلمين على رواحلهم، حتى أتى أبا عبيدة، فسار معه حتى بلغ ثنية الوداع، ثم قال حين أراد أن يفارقه: يا أبا عبيدة، اعمل صالحا، وعش مجاهدا، ولتتوف شهيدا، وليعطك الله كتابك بيمينك، ويقر عينك فى دنياك وآخرتك، فو الله إنى لأرجو أن تكون من التوابين الأوابين الزاهدين فى الدنيا الراغبين فى الآخرة، إن الله تبارك وتعالى قد صنع بك خيرا وساقه إليك إذ جعلك تسير فى جيش من المسلمين تقاتل به من كفر بالله وعبد غيره.
فقال أبو عبيدة: رحمك الله يا خليفة رسول الله، فنشهد بفضلك فى إسلامك، ومناصحتك الله، ومجاهدتك بعد رسول الله من تولى عن دين الله حتى ردهم الله بك إلى الدين وهم صاغرون، ونشهد أنك رحيم بالمؤمنين، ذو غلظة على الكافرين، فبورك لك فيما عملت، وسددت فيما حملت، إن أكن صالحا فلربى المنة علىّ بصلاحى، وإن أكن فاسدا فهو ولى إصلاحى، وأما أنت فنرى أن نجيبك إذا دعوت، وأن نطيعك إذا أمرت.
ثم إنه تأخر، وتقدم إليه معاذ بن جبل فقال: يا خليفة رسول الله، إنى أردت أن يكون ما أكلمك به الآن بالمدينة قبل شخوصنا عنها، ثم بدا لى أن أؤخر ما أردت من ذلك حتى يكون عند وداعى، فيكون ذلك آخر ما أفارقك عليه، قال: هات يا معاذ، فو الله إنك ما علمت لسديد القول، موفق الرأى، رشيد الأمر، فأدنى راحلته، ومقود فرسه فى يده، وهو متنكب القوس ومتقلد السيف، فقال: إن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم، برسالته إلى خلقه، فبلغ ما أحب أن يبلغ، وكان كما أحب ربه أن يكون، فقبضه الله إليه وهو محمود مبرور صلوات الله عليه وبركاته، إنه حميد مجيد، جزاه الله عن أمته كأحسن ما يجزى النبيين، ثم إن الله تعالى استخلفك أيها الصديق عن ملأ من المسلمين، ورضى منهم بك، فارتد مرتدون، وأرجف مرجفون، ورجعت راجعة عن هذا الدين، فأدهن بعضنا، وحار جلنا، وأحب المهادنة والموادعة طائفة منا، واجتمع رأى الملأ الأكابر منا أن يتمسكوا بدينهم ويعبدوا الله حتى يأتيهم اليقين، ويدعوا الناس وما ذهبوا إليه، فلم ترض منهم بشىء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يرده عليهم، فنهضت بالمسلمين، وشمرت للمجرمين، وشددت بالمطيع المقبل على العاصى المدبر، حتى أجاب إلى الحق من كان عند عنه،(2/176)
وزجل عن الباطل من كان مرتكسا فيه، فلما تمت نعمة الله عليك وعلى المسلمين فى ذلك قدت المسلمين إلى هذا الوجه الذى يضاعف الله لهم فيه الأجر، ويعظم لهم الفتح والمغنم، فأمرك مبارك، ورأيك محمود ورشيد، ونحن وصالحو المؤمنين نسأل الله لك المغفرة والرحمة الواسعة والقوة فى العمل بطاعة الله فى عافية، وإن هذا الذى تسمع من دعائى وثنائى ومقالتى لتزداد فى فعل الخير رغبة، وتحمد الله تعالى على النعمة، وأنا معيد هذا على المؤمنين ليحمدوا الله على ما أبلاهم واصطنع عندهم بولايتك عليهم.
ثم أخذ كل واحد منهما بيد صاحبه فودعه، ودعا له، ثم تفرقا، وانصرف أبو بكر رحمه الله، ومضى ذلك الجيش، وقال رجل من المسلمين لخالد بن سعيد وقد تهيأ للخروج مع أبى عبيدة: لو كنت خرجت مع ابن عمك يزيد بن أبى سفيان كان أمثل من خروجك مع غيره. فقال: ابن عمى أحب إلىّ من هذا فى قرابته، وهذا أحب إلىّ من ابن عمى فى دينه، هذا كان أخى فى دينى على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وولىّ وناصرى على ابن عمى قبل اليوم، فأنا به أشد استئناسا وإليه أشد طمأنينة.
فلما أراد أن يغدو سائرا إلى الشام لبس سلاحه، وأمر إخوته فلبسوا أسلحتهم: عمرا، وإبانا، والحكم، وعلقمة ومواليه، ثم أقبل إلى أبى بكر، رحمه الله، عند صلاة الغداة فصلبى معه، فلما انصرفوا قام إليه هو وإخوته، فجلسوا إليه، فحمد الله خالد وأثنى عليه، وصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا أبا بكر، إن الله تبارك وتعالى، قد أكرمنا وإياك والمسلمين عامة بهذا الدين، فأحق من أقام السنة وأمات البدعة وعدل فى السيرة الوالى على الرعية، وكل امرئ من أهل هذا الدين محفوف بالإحسان، ومعدلة الوالى أعم نفعا، فاتق الله يا أبا بكر فيمن ولاك أمره، وارحم الأرملة واليتيم، وأعن الضعيف والمظلوم، ولا يكن رجل من المسلمين إذا رضيت عنه آثر عندك فى الحق منه إذا سخطت عليه، ولا تغضب ما قدرت على ذلك، فإن الغضب يجر الجور، ولا تحقد على مسلم وأنت تستطيع، فإن حقدك على المسلم يجعلك له عدوا، وإن اطلع على ذلك منك عاداك، وإذا عادى الوالى الرعية وعادت الرعية الوالى كان ذلك قمنا أن يكون إلى هلاكهم داعيا، ولن للمحسن واشتد على المريب، ولا تأخذك فى الله لومة لائم.
ثم قال: هات يدك يا أبا بكر، فإنى لا أدرى أنلتقى فى الدنيا أم لا، فإن قضى الله لنا فى الدنيا البقاء، فنسأل الله عفوه وغفرانه، وإن كانت هى الفرقة التى ليس بعدها لقاء، فعرفنا الله وإياك وجه النبى صلى الله عليه وسلم، فى جنات النعيم.(2/177)
فأخذ أبو بكر رضى الله عنه، بيده فبكى، وبكى خالد، وبكى المسلمون وظنوا أنه يريد الشهادة، وطال بكاؤهم، ثم إن أبا بكر رضى الله عنه، قال: انتظر نمشى معك، قال: ما أريد أن تفعل، قال: لكنى أريد ذلك، ومن أراده من المسلمين، فقام، وقام الناس معه حتى خرج من بيوت المدينة، فما رأيت مشيعا من المسلمين شيعه أكثر ممن شيع خالد بن سعيد يومئذ وإخوته، فلما خرج من المدينة قال أبو بكر: إنك قد أوصيتنى برشدى وقد وعيت، وأنا موصيك فاسمع وصاتى وعها، إنك امرؤ قد جعل الله لك سابقة فى الإسلام وفضيلة عظيمة، والناس ناظرون إليك ومستمعون منك، وقد خرجت فى هذا الوجه العظيم الأجر وأنا أرجو أن يكون خروجك فيه بحسبة ونية صادقة إن شاء الله تعالى، فثبت العالم، وعلم الجاهل، وعاتب السفيه المسرف، وانصح لعامة المسلمين، واخصص الوالى على الجهد من نصيحتك ومشورتك بما يحق لله وللمسلمين عليك، واعمل لله كأنك تراه، واعدد نفسك فى الموتى وأعلم أنا عما قليل ميتون ثم مبعثون ثم مسئولون ومحاسبون، جعلنا الله وإياك لأنعمه من الشاكرين، ولنقمه من الخائفين.
ثم أخذ بيده فودعه، وأخذ بأيدى إخوته بعد ذلك فودعهم واحدا واحدا، ثم ودعهم المسلمون، ثم إنهم دعوا بإبلهم فركبوها، وكانوا قبل ذلك يمشون مع أبى بكر رضى الله عنهم أجمعين، ثم قيدت معهم خيلهم، فخرجوا بهيئة حسنة، فلما أدبروا قال أبو بكر:
اللهم احفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، واحطط أوزارهم وأعظم أجورهم. ثم انصرف أبو بكر ومن معه من المسلمين.
وقد قيل: إن أبا بكر رحمه الله، جعل خالدا ردآ بتيماء لما عزله عن الجند وأطاع عمر رحمه الله «1» ، فى بعض أمره وعصاه فى بعض، وسيأتى ذكر ذلك فى موضعه إن شاء الله.
وعن محمد بن خليفة أن ملحان بن زياد الطائى، أخا عدى بن حاتم لأمه أتى أبا بكر رحمه الله، فى جماعة من قومه من طيئ نحو ستمائة، فقال له: إنا أتيناك رغبة فى الجهاد وحرصا على الخير، ونحن القوم الذين تعرف الذين قاتلنا معكم من ارتد منا حتى أقر بمعرفة ما كان ينكر، وقاتلنا معكم من ارتد منكم حتى أسلموا طوعا وكرها، فسرحنا فى أثر الناس، واختر لنا وليا صالحا نكن معه.
__________
(1) انظر خبر عزل خالد بن سعيد فى: المنتظم لابن الجوزى (4/ 116) ، تاريخ الطبرى (3/ 387، 388) .(2/178)
وكان قدومهم على أبى بكر بعد مسير الأمراء كلهم إلى الشام، فقال أبو بكر: قد اخترت لك أفضل أمرائنا أميرا، وأقدم المهاجرين هجرة، الحق بأبى عبيدة بن الجراح، فقد رضيت لك صحبته، وحمدت لك أدبه، فنعم الرفيق فى السفر، ونعم الصاحب فى الحضر.
قال: فقلت لأبى بكر: فقد رضيت لخيرتك التى اخترت لى. فاتبعته حتى لحقته بالشام فشهدت معه مواطنه كلها، لم أغب عن يوم منها.
وعن أبى سعيد المقبرى قال: قدم ابن ذى السهم الخثعمى على أبى بكر وجماعة من خثعم فوق تسعمائة ودون ألف، فقال لأبى بكر: إنا تركنا الديار والأصول، والعشائر والأموال، وأقبلنا بنسائنا وأبنائنا، ونحن نريد جهاد المشركين، فماذا ترى لنا فى أولادنا ونسائنا؟ أنخلفهم عندك ونمضى؟ فإذا جاء الله بالفتح بعثنا إليهم فأقدمناهم علينا؟ أم ترى لنا أن نخرجهم معنا ونتوكل على الله ربنا؟.
فقال أبو بكر: سبحان الله، يا معشر المسلمين، هل سمعتم أحدا ممن سار من المسلمين إلى أرض الروم وأرض الشام ذكر من الأولاد والنساء مثل ما ذكر أخو خثعم؟
أما إنى أقسم لك يا أخا خثعم، لو سمعت هذا القول منك والناس مجتمعون عندى قبل أن يشخصوا لأحببت أن أحبس عيالاتهم عندى وأسرحهم ليس معهم من النساء والأبناء ما يشغلهم ويهمهم حتى يفتح الله عليهم ومعهم ذراريهم، ولك بجماعة المسلمين إسوة، وأنا أرجو أن يدفع الله بعزته عن حرمة الإسلام وأهله، فسر فى حفظ الله وكنفه، فإن بالشام أمراء قد وجهناهم إليها، فأيهم أحببت أن تصحبه، فسار حتى لقى يزيد بن أبى سفيان فصحبه.
وعن يحيى بن هانئ بن عروة أن أبا بكر كان أوصى أبا عبيدة بقيس بن مكشوح وقال له: إنه قد صحبك رجل عظيم الشرف، فارس من فرسان العرب، لا أظن له عظيم حسبة ولا كبير نية فى الجهاد، وليس بالمسلمين غنى عن مشورته ورأيه وبأسه فى الحرب، فأدنه والطفه وأره أنك غير مستغن عنه ولا مستهين بأمره، فإنك تستخرج منه بذلك نصيحة لك، وجهده وجده على عدوك، ودعا أبو بكر قيسا فقال له: إنى قد بعثتك مع أبى عبيدة الأمين، الذى إذا ظلم كظم، وإذا أسىء إليه غفر، وإذا قطع وصل، رحيم بالمؤمنين، شديد على الكافرين، فلا تعصين له أمرا، ولا تخالفن له رأيا، فإنه لن يأمرك إلا بخير، وقد أمرته أن يسمع منك، فلا تأمره إلا بتقوى الله، فقد كنا نسمع أنك(2/179)
شريف بئيس مجرب، وذلك فى زمان الشرك والجاهلية الجهلاء، فاجعل بأسك وشدتك ونجدتك اليوم فى الإسلام على من كفر بالله وعبد غيره، فقد جعل الله فيه الأجر العظيم، والعز للمسلمين. فقال: إن بقيت فسيبلغك من حيطتى على المسلم، وجهدى على الكافر ما يسرك ويرضيك، فقال أبو بكر رحمه الله: فافعل ذلك، فلما بلغته مبارزته البطريقين بالجابية وقتله إياهما، قال: صدق قيس ووفى وبر.
وعن هاشم بن عتبة بن أبى وقاص قال «1» : لما مضت جنود أبى بكر إلى الشام بلغ ذلك هرقل ملك الروم، وهو بفلسطين، وقيل له: قد أتتك العرب وجمعت لك جموعا عظيمة، وهم يزعمون أن نبيهم الذى بعث إليهم أخبرهم أنهم يظهرون على أهل هذه البلاد، وقد جاؤك وهم لا يشكون أن هذا يكون، وجاؤك بأبنائهم ونسائهم تصديقا لمقالة نبيهم، يقولون: لو دخلناها وافتتحناها نزلناها بأولادنا ونسائنا. فقال هرقل: ذلك أشد لشوكتهم، إذا قاتل القوم على تصديق ويقين فما أشد على من كابدهم أن يزيلهم أو يصدهم.
قال: فجمع إليه أهل البلاد وأشراف الروم، ومن كان على دينه من العرب، فقال: يا أهل هذا الدين، إن الله قد كان إليكم محسنا، وكان لدينكم هذا معزا، وله ناصرا على الأمم الخالية، وعلى كسرى والمجوس، وعلى الترك الذين لا يعلمون، وعلى من سواهم من الأمم كلها، وذلك أنكم كنتم تعملون بكتاب ربكم وسنة نبيكم الذى كان أمره رشدا وفعله هدى، فلما بدلتم وغيرتم أطمع ذلك فيكم قوما، والله ما كنا نعبأ بهم ولا نخاف أن نبتلى بهم، وقد ساروا إليكم حفاة عراة جياعا، اضطرهم إلى بلادكم قحط المطر وجدوبة الأرض وسوء الحال، فسيروا إليهم، فقاتلوهم عن دينكم وعن بلادكم وعن أبنائكم ونسائكم، وأنا شاخص عنكم وممدكم بالخيول والرجال، وقد أمرت عليكم أمراء، فاسمعوا لهم وأطيعوا، ثم خرج حتى أتى دمشق فقام مثل هذا المقام، وقال فيها مثل هذا المقال، ثم خرج حتى أتى حمص، ففعل مثل ذلك، ثم أتى أنطاكية، فأقام بها وبعث إلى الروم، فحشدهم إليه، فجاءه منهم ما لا يحصى عدده، ونفر إليه مقاتلتهم وشبابهم وأتباعهم، وأعظموا دخول العرب عليهم، وخافوا أن يسلبوا ملكهم.
وأقبل أبو عبيدة حتى مروا بوادى القرى «2» ، ثم أخذ على الحجر أرض صالح النبى
__________
(1) راجع: ما ذكره ابن الجوزى فى المنتظم فى هذا الخبر (4/ 117) ، والطبرى فى تاريخه 3/ 392) .
(2) وادى القرى: من أعمال المدينة. انظر: الروض المعطار (602) ، المغانم المطابة (423) ، رحلة الناصرى (310) ، صبح الأعشى (4/ 292) .(2/180)
صلى الله عليه وسلم، ثم على ذات المنار «1» ، ثم على زبرا «2» ، ثم ساروا إلى مؤب «3» بعمان، فخرج إليهم الروم، فلم يلبثهم المسلمون أن هزموهم حتى دخلوا مدينتهم، فحاصروهم فيها، وصالح أهل مؤب عليها، فكانت أول مدائن الشام صالح أهلها، ثم سار أبو عبيدة حتى إذا دنا من الجابية «4» أتاه آت فخبره أن هرقل بأنطاكية، وأنه قد جمع لكم من الجموع ما لم يجمعه أحد كان قبله من آبائه لأحد من الأمم قبلكم، فكتب أبو عبيدة إلى أبى بكر رضى الله عنهما:
بسم الله الرحمن الرحيم. لعبد الله أبى بكر، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أبى عبيدة بن الجراح، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو. أما بعد، فإنا نسأل الله أن يعز الإسلام وأهله عزا مبينا، وأن يفتح لهم فتحا يسيرا، فإنه بلغنى أن هرقل ملك الروم، نزل قرية من قرى الشام تدعى بأنطاكية، وأنه بعث إلى أهل مملكته فحشدهم إليه، وإنهم نفروا إليه على الصعب والذلول، وقد رأيت أن أعلمك ذلك فترى فيه رأيك، والسلام عليك ورحمة الله تعالى.
فكتب إليه أبو بكر: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فقد بلغنى كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه من أمر هرقل ملك الروم، فأما منزله بأنطاكية فهزيمة له ولأصحابه، وفتح من الله عليك وعلى المسلمين، وأما حشده أهل مملكته وجمعه لكم الجموع، فإن ذلك ما قد كنا وكنتم تعلمون أنه سيكون منهم، ما كان قوم ليدعوا سلطانهم ولا ليخرجوا من مملكتهم بغير قتال، ولقد علمت والحمد لله أن قد غزاهم رجال كثير من المسلمين يحبون الموت حب عدوهم الحياة، يحتسبون من الله فى قتالهم الأجر العظيم، ويحبون الجهاد فى سبيل الله أشد من حبهم أبكار نسائهم وعقائل أموالهم، الرجل منهم عند الهيج خير من ألف رجل من المشركين، فالقهم بجندك، ولا تستوحش لمن غاب من المسلمين، فإن الله تعالى ذكره معك، وأنا مع ذلك ممدك بالرجال بعد الرجال حتى تكتفى ولا تريد أن تزداد، والسلام عليك. وبعث بهذا الكتاب مع دارم العبسى.
__________
(1) ذات المنار: موضع فى أول بادية الشام مما يلى الحجاز. انظر: الروض المعطار (517) .
(2) الزبرا: المكان المرتفع من الأرض، ويقصد: أحد أماكن البلقاء فى الأردن.
(3) مؤب: من قرى الشام من أرض البلقاء، ذكرها ابن الحميرى فى الروض المعطار (517) ، وذكر قصة خروج أبى عبيدة.
(4) الجابية: بالشام، وقال البكرى: هى قنسرين، وبين الجابية ومنبج أربعة فراسخ، ومن حلب إليها ستة فراسخ. انظر: الروض المعطار (153) .(2/181)
وكتب يزيد بن أبى سفيان إلى أبى بكر رحمه الله: أما بعد، فإن هرقل ملك الروم لما بلغه مسيرنا إليه ألقى الله الرعب فى قلبه، فتحمل ونزل أنطاكية، وخلف أمراء من جنده على جند الشام، وأمرهم بقتالنا، وقد تيسروا لنا واستعدوا، وقد نبأنا مسالمة الشام أن هرقل استنفر أهل مملكته، وأنهم جاؤا يجرون الشوك والشجر، فمرنا بأمرك، وعجل علينا فى ذلك برأيك، نتبعه، نسأل الله النصر والصبر والفتح وعافية المسلمين، والسلام عليك.
وبعث بهذا الكتاب مع عبد الله بن قرط الثمالى، فقال له أبو بكر لما قدم عليه:
أخبرنى خبر الناس، قال: المسلمون بخير، قد دخلوا أدنى أرض الشام، ورعب أهلها منهم، وذكر لنا أن الروم قد جمعت لنا جموعا عظاما، ولم نلق عدونا بعد، ونحن فى كل يوم نتوكف لقاء العدو أو نتوقعه، وإن لم تأتنا جيوش من قبل هرقل، فليست الشام بشىء. فقال له أبو بكر رحمه الله: صدقتنى الخبر، فقال: وما لى لا أصدقك، ويحل لى الكذب، ويصلح لمثلى أن يكذب مثلك، ولو كذبت فى هذا لم أخن إلا أمانتى وأخن ربى وأخن المسلمين. قال أبو بكر: معاذ الله، لست من أولئك، وكتب حينئذ معه بهذا الكتاب: أما بعد، فقد بلغنى كتابك، تذكر فيه تحول ملك الروم إلى أنطاكية «1» ، وإلقاء الله الرعب فى قلبه من جموع المسلمين، فإن الله تبارك وتعالى، وله الحمد قد نصرنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالرعب، وأيدنا بملائكته الكرام، وإن ذلك الدين الذى نصرنا الله فيه بالرعب هو هذا الدين الذى ندعو الناس إليه اليوم، فو ربك لا يجعل الله المسلمين كالمجرمين، ولا من يشهد أنه لا إله غيره كمن يعبد معه آلهة أخرى ويدين بعبادة آلهة شتى، فإذا لقيتهم فانبذ إليهم بمن معك وقاتلهم، فإن الله لن يخذلك، وقد نبأنا الله أن الفئة القليلة منا تغلب الفئة الكثيرة بإذن الله، وأنا مع ما هنالك ممدكم بالرجال فى أثر الرجال حتى تكتفوا ولا تحتاجوا إلى زيادة إنسان إن شاء الله، والسلام.
ولما رد أبو بكر رضى الله عنه، عبد الله بن قرط «2» بهذا الكتاب إلى يزيد، قال له:
__________
(1) أنطاكية: بتخفيف الياء، مدينة عظيمة على ساحل البحر، قالوا: وكل شىء عند العرب من قبل الشام فهو أنطاكية، ويقال: ليس فى أرض الإسلام ولا أرض الروم مثلها. انظر: الروض المعطار (38- 39) ، نزهة المشتاق (195) ، صبح الأعشى (4/ 129) .
(2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1652) ، الإصابة الترجمة رقم (4908) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3126) ، الجرح والتعديل (5/ 104) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 329) ، تهذيب الكمال (2/ 724) ، التاريخ الكبير (5/ 34) ، تهذيب التهذيب (5/ 361) .(2/182)
أخبره والمسلمين أن مدد المسلمين آتيهم مع هاشم بن عتبة وسعيد بن عامر بن حذيم.
فخرج عبد الله بكتابه حتى قدم به على يزيد، وقرأه على المسلمين، فتباشروا به، وفرحوا.
ثم إن أبا بكر رضى الله عنه، دعا هاشم بن عتبة «1» ، فقال له: يا هاشم، إن من سعادة جدك ووفاء حظك أنك أصبحت ممن تستعين به الأمة على جهاد عدوها من المشركين، وممن يثق الوالى بنصيحته وصحته وعفافه، وبأسه، وقد بعث إلى المسلمون يستنصرون على عدوهم من الكفار، فسر إليهم فيمن يتبعك، فإنى نادب الناس معك، فاخرج حتى تقدم على أبى عبيدة.
ثم قام أبو بكر فى الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن إخوانكم من المسلمين معافون مكلوؤون، مدفوع عنهم، مصنوع لهم، قد ألقى الله جل ثناؤه الرعب منهم فى قلوب عدوهم، فقد استعصموا بحصونهم وأغلقوا أبوابها دونهم، وقد جاءتنى رسلهم يخبروننى بهرب هرقل ملك الروم من بين أيديهم حتى نزل قرية من أقصى قرى الشام، وأنه وجه إليهم جندا من مكانه ذلك، فرأيت أن أمد إخوانكم بجند منكم يشد الله بهم ظهورهم، ويكبت به عدوهم، ويلقى به الرعب فى قلوبهم، فانتدبوا رحمكم الله، مع هاشم بن عتبة بن أبى وقاص، واحتسبوا فى ذلك الأجر والخير، فإنكم إن نصرتم فهو الفتح والغنيمة، وإن هلكتم فهى الشهادة والكرامة.
ثم انصرف إلى منزله، ومال الناس على هاشم حتى كثروا عليه، فلما تموا ألفا أمره أبو بكر رحمه الله، أن يسير، فسلم عليه وودعه، وقال له أبو بكر: يا هاشم، إنما كنا ننتفع من الشيخ الكبير برأيه ومشورته وحسن تدبيره، وكنا ننتفع من الشاب بصبره وبأسه ونجدته، وإن الله تعالى قد جمع لك تلك الخصال كلها، وأنت حديث السن مستقبل الخير، فإذا لقيت عدوك فاصبر وصابر، واعلم أنك لا تخطو خطوة ولا تنفق ولا يصيبك ظمأ ولا نصب ولا مخمصة فى سبيل الله إلا كتب الله لك بذلك عملا صالحا، إن الله لا يضيع أجر المحسنين. فقال: إن يرد الله بى خيرا يجعلنى كذلك، وأنا أفعل، ولا قوة إلا بالله، أما أنا فأرجو إن لم أقتل أن أقتل ثم أقتل ثم أقتل!.
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2729) ، الإصابة الترجمة رقم (5328) ، طبقات الخليفة (831) ، تاريخ بغداد (1/ 196) ، مرآة الجنان (1/ 101) ، العقد الثمين (7/ 359) ، شذرات الذهب (1/ 46) ، العبر (1/ 39) .(2/183)
فقال له عمه سعد بن أبى وقاص: يا ابن أخى لا تطعنن طعنة ولا تضربن ضربة إلا وأنت تريد بها وجه الله، واعلم أنك خارج من الدنيا وشيكا، وراجع إلى الله قريبا، ولن يصحبك من الدنيا إلى الآخرة إلا قدم صدق قدمته، وعمل صالح أسلفته، فقال: يا عم، لا تخافن هذه منى، إنى إذا لمن الخاسرين إن جعلت حلى وارتحالى وغدوى ورواحى وسعى وإجلابى، وطعنى برمحى وضربى بسيفى رياء للناس.
ثم خرج من عند أبى بكر رضى الله عنه، فلزم طريق أبى عبيدة حتى قدم عليه، فسر المسلمون بقدومه وتباشروا به.
وبلغ سعيد بن عامر بن حذيم «1» أن أبا بكر يريد أن يبعثه، فلما أبطأ ذلك عليه، ومكث أياما لا يذكر له ذلك أتاه، فقال: يا أبا بكر، والله لقد بلغنى أنك كنت أردت أن تبعثنى فى هذا الوجه، ثم رأيتك قد سكت، فما أدرى ما بدا لك فىّ، فإن كنت تريد أن تبعث غيرى فابعثنى معه، فما أرضانى بذلك، وإن كنت لا تريد أن تبعث أحدا فإنى راغب فى الجهاد، فأذن لى يرحمك الله كيما ألحق بالمسلمين، فقد ذكر لى أن الروم جمعت لهم جمعا عظيما. فقال أبو بكر: رحمك أرحم الراحمين يا سعيد بن عامر، فإنك ما علمت من المتواضعين المتواصلين المخبتين المتهجدين بالأسحار، الذاكرين الله كثيرا.
فقال له سعيد: رحمك الله، نعم الله علىّ أفضل، وله الطول والمن، وأنت والله ما علمت صدوع بالحق، قوام بالقسط، رحيم بالمؤمنين، شديد على الكافرين، تحكم بالعدل، ولا تستأثر فى القسم، فقال له: حسبك يا سعيد، حسبك، اخرج رحمك الله، فتجهز، فإنى مسرح إلى المسلمين جيشا وأؤمرك عليهم، فأمر بلالا فنادى فى الناس: أن انتدبوا أيها المسلمون مع سعيد بن عامر إلى الشام، فانتدب معه سبعمائة رجل فى أيام، فلما أراد سعيد الشخوص جاء بلال فقال: يا خليفة رسول الله، إن كنت إنما أعتقتنى لله تعالى لأملك نفسى وأصطرف فيما ينفعنى فخل سبيلى حتى أجاهد فى سبيل ربى، فإن الجهاد إلىّ أحب من المقام، قال أبو بكر: فإن الله يشهد أنى لم أعتقك إلا له، وأنى لا أريد منك جزاء ولا شكورا، فهذه الأرض ذات العرض، فاسلك أى فجاجها أحببت، فقال: كأنك أيها الصديق عتبت علىّ فى مقالتى ووجدت فى نفسك منها؟ قال: لا، والله ما وجدت فى نفسى من ذلك، وإنى لأحب أن لا تدع هواك لهواى ما دعاك
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (993) ، الإصابة الترجمة رقم (3280) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2084) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 223) ، الجرح والتعديل (4/ 205) . حلية الأولياء (1/ 368) ، الوافى بالوفيات (15/ 320) .(2/184)
هواك إلى طاعة ربك، قال: فإن شئت أقمت معك، قال: أما إذا كان هواك الجهاد فلم أكن لآمرك بالمقام، وإنما أردتك للأذان، ولأجدن لفراقك وحشة يا بلال، ولا بد من التفرق فرقة لا التقاء بعدها حتى يوم البعث، فاعمل صالحا يا بلال، وليكن زادك من الدنيا ما يذكرك الله به ما حييت، ويحسن لك به الثواب إذا توفيت. فقال له بلال:
جزاك الله من ولى نعمة وأخ فى الإسلام خيرا، فو الله ما أمرك لنا بالصبر على الحق والمداومة على العمل بالطاعة ببدع، وما كنت لأؤذن لأحد بعد النبى صلى الله عليه وسلم، ثم خرج بلال مع سعيد بن عامر.
وجاء سعيد على راحلته حتى وقف على أبى بكر والمسلمين، فقال له: إنا نؤم هذا الوجه، فجعله الله وجه بركة، اللهم فإن قضيت لنا التقاء فاجمعنا على طاعتك، وإن قضيت لنا الفرقة فإلى رحمتك، والسلام عليكم، ثم ولى يذهب. فقال أبو بكر: عباد الله، ادعوا الله كيما يصحب صاحبكم ويسلمه، ارفعوا أيديكم رحمكم الله، فرفع القوم أيديهم إلى ربهم وهم أكثر من خمسين رجلا، فقال على رضى الله عنه: ما رفع عدتكم من المسلمين أيديهم إلى ربهم يسألونه شيئا إلا استجاب لهم، ما لم يكن معصية أو قطيعة رحم، فبلغه ذلك بعدما واقع أرض الشام وقاتل العدو، فقال: رحم الله إخوانى، ليتهم لم يكونوا دعوا لى، قد كنت خرجت وإنى على الشهادة لحريص جاهد، فما هو إلا أن لقيت العدو فعصمنى الله من الهزيمة والفرار، وذهب من نفسى ما كنت أعرف من حب الشهادة، فلما خبرت أن أخوانى دعوا لى بالسلامة عرفت أنهم استجيب لهم.
وكان أبو بكر أمره أن يلحق بيزيد بن أبى سفيان، فسار حتى لحق به، وشهد معه وقعة العربة والداثنة.
وعن حمزة بن مالك الهمذانى أنه قدم فى جمع عظيم من همذان «1» على أبى بكر، رحمه الله، قال: فقدموا وهم ألفا رجل أو أكثر، فلما رأى أبو بكر عددهم وعدتهم سره ذلك، فقال: الحمد لله على صنيعه للمسلمين، ما يزال الله تعالى، يرتاج لهم بمدد من أنفسهم يشد به ظهورهم ويقصم به عدوهم، قال: ثم إن أبا بكر أمرنا فعسكرنا بالمدينة، وكنت أختلف إلى أبى بكر غدوة وعشية، وعنده رجال من المهاجرين والأنصار، فكان يلطفنى ويدنى مجلسى، ويقول لى: تعلم القرآن، وأسبغ الوضوء، وأحسن الركوع والسجود، وصل الصلاة لوقتها، وأد الزكاة فى حينها، وانصح المسلم، وفارق المشرك،
__________
(1) همذان: بالذال المعجمة، مدينة من عراق العجم من كور الجبل. انظر: الروض المعطار (596) ، نزهة المشتاق (203) ، اليعقوبى (272) .(2/185)
واحضر البأس يوم البأس. فقلت: والله لأجهدن أن لا أدع شيئا مما أمرتنى به إلا عملته، إنى لأعلم أنك قد اجتهدت لى فى النصيحة، وأبلغت فى الموعظة، ثم إنه خرج إلى عسكرنا وأمرنا أن نتيسر ونتجهز ونشترى حوائجنا، ثم نعجل على أصحابنا، فتحثحثنا لذلك وعجلنا بالجهاز، فلما فرغنا وعلم ذلك بعث إلى فقال: يا أخا همذان، إنك شريف بئيس ذو عشيرة، فأحضرهم البأس، ولا تؤذ بهم الناس.
قال: وكان معى رجال من أهل القرى من همذان، فيهم جهل وجفاء، وكانوا قد تأذى منهم أهل المدينة، فشكوا ذلك إلى أبى بكر، فقال أبو بكر: نشدتك الله امرأ مسلما سمع نشدى لما كف عن هؤلاء القوم، ومن رأى عليه حقا فليحتمل ذرب ألسنتهم، أو عجلة يكرهها منهم ما لم يبلغ ذلك الحد، إن الله تعالى، مهلك بهؤلاء وأشباههم غدا جموع هرقل والروم، وإنما هم إخوانكم، فلو أن أخا أحدكم فى دينه عجل عليه فى شىء ألم يكن أصوب فى الرأى وخيرا فى المعاد أن يحتمل له؟ قال المسلمون: بلى، قال: فهم إخوانكم فى الدين وأنصاركم على الأعداء، ولهم عليكم حق، فاحتملوا لهم ذلك، ثم نظر إلىّ فقال: ارتحل، ما تنتظر؟ فارتحلت وقد قلت له قبل أن نرتحل: علىّ أمير دونك؟ قال: نعم، هناك ثلاثة أمراء قد أمرناهم؟. فأيهم شئت فكن معه، فلما لحقت بالمسلمين سألتهم: أى الأمراء أفضل وأيهم كان أفضل عند النبى صلى الله عليه وسلم، صحبة؟ فقيل: أبو عبيدة بن الجراح، فقلت فى نفسى: والله لا أعدل بهذا أحدا، فجئت حتى أتيت أبا عبيدة ثم قصصت عليه قصة مخرجى ومقدمى على أبى بكر، وما كان من أمرى وأمر أصحابى بالمدينة، وبمقدمى عليه واختيارى له، فقال: بارك الله لك فى إسلامك وجهادك وقدومك علينا، وبارك لنا فيك وفيمن قدمت به علينا من المسلمين.
وقال عمرو بن محصن «1» : لم يكن أبو بكر رحمه الله، يسأم توجيه الجنود إلى الشام، وإمداد الأمراء الذين بعث إليها بالرجال بعد الرجال، إرادة إعزاز أهل الإسلام وإذلال أهل الشرك.
وعن أبى سعيد المقبرى قال: لما بلغ أبا بكر رحمه الله، جمع الأعاجم لم يكن شىء أعجب إليه من قدوم المجاهدين عليه من أرض العرب، فكانوا كلما قدموا عليه سرح الأول فالأول، فقدم عليه فيمن قدم أبو الأعور السلمى، فدخل عليه فقال: إنا جئناك من غير قحمة ولا عدم، فإن شئت أقمنا معك مرابطين، وإن شئت وجهتنا إلى عدوك
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1974) ، الإصابة الترجمة رقم (5970) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4021) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 417) .(2/186)
المشركين، فقال له أبو بكر: لا، بل تجاهدون الكافرين، وتواسون المسلمين، فبعثه، فسار حتى قدم على أبى عبيدة.
ثم قدم على أبى بكر رضى الله عنه، معن بن يزيد بن الأخنس السلمى فى رجال من بنى سليم، نحو من مائة، فقال أبو بكر: لو كان هؤلاء أكثر مما هم لأمضيناهم، فقال له عمر: والله لو كانوا عشرة لرأيت لك أن تمد بهم إخوانهم، أى والله، وأرى أن تمدهم بالرجال الواحد إذا كان ذا جزاء وغناء.
فقال حبيب بن مسلمة الفهرى: عندى نحو من عدتهم رجال من أبناء القبائل ذوو رغبة فى الجهاد، فأخرجنا وهؤلاء جميعا يا خليفة رسول الله، ثم ابعثنا. فقال له: أما الآن فاخرج بهم جميعا حتى تقدم بهم على إخوانهم.
فخرج فعسكر معهم، ثم جمع أصحابه إليهم، ثم مضى بهم حتى قدم على يزيد بن أبى سفيان.
قال: واجتمعت رجال من كعب وأسلم وغفار ومزينة نحو من مائتين، فأتوا أبا بكر رضى الله عنه، فقالوا: ابعث علينا رجلا، وسرحنا إلى إخواننا، فبعث عليهم الضحاك بن قيس، فسار حتى أتى يزيد، فنزل معه.
وعن سعيد بن يزيد بن عمرو بن نفيل قال: لما رأى أهل مدائن الشام أن العرب قد جاشت عليهم من كل وجه، وكثرة جموعهم، بعثوا الرسل إلى ملكهم يعلمونه ذلك ويسألونه المدد، فكتب إليهم: إنى قد عجبت لكم حين تستمدوننى وحين تكثرون علىّ عدة من جاءكم، وأنا أعلم بكم وبمن جاءكم منهم، ولأهل مدينة واحدة من مدائنكم أكثر ممن جاءكم منهم أضعافا، فالقوهم فقاتلوهم ولا تحسبوا أنى كتبت إليكم بهذا وأنا لا أريد أن أمدكم، لأبعثن إليكم من الجنود ما تضيق به الأرض الفضاء.
وكانت مدائن أهل الشام من الروم قد أرسلوا إلى كل من كان على دينهم من العرب فأطمعهم أكثرهم فى النصر، ومنهم من حمى للعرب، فكان ظهور العرب أحب إليه، وذلك من لم يكن فى دينه راسخا منهم، وبلغ خبرهم وتراسلهم أبا عبيدة بن الجراح، فكتب إلى أبى بكر رضى الله عنهما: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فالحمد لله الذى أعزنا بالإسلام، وكرمنا بالإيمان، وهدانا لما اختلف فيه المختلفون من الحق بإذنه، إنه يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم، وإن عيونى من أنباط الشام نبئونى أن أول أمداد ملك الروم قد وقعوا إليه، وأن أهل مدائن الشام بعثوا رسلهم إليه يستمدونه، وأنه كتب(2/187)
إليهم: أن أهل مدينة من مدائنكم أكثر ممن قدم عليكم من عدوكم، فانهضوا إليهم فقاتلوهم، فإن مددى من ورائكم، فهذا ما بلغنا عنهم، وأنفس المسلمين طيبة بقتالهم، وقد خبرنا أنهم تيسروا لقتالنا، فأنزل الله على المسلمين نصره، وعلى عدوهم رجزه، إنه بما يعملون عليم، والسلام.
قال: فجمع أبو بكر رحمه الله، أشراف قريش من المهاجرين وغيرهم من أهل مكة، ثم دعا بأشراف الأنصار وذوى السابقة منهم، فقال عمر: لأى شىء دعوت بهؤلاء؟
فقال: لأستشيرهم فى هذا الأمر الذى كتب إلينا فيه أبو عبيدة. قال له: أما المهاجرين والأنصار فأهل الاستنصاح والمشورة، وأما رجال أهل مكة الذين كنا نقاتلهم لتكون كلمة الله هى العليا ويقاتلوننا ليطفئوا نور الله بأفواههم جاهدين على قتالنا، إن قلنا ليس مع الله آلهة، قالوا: مع الله آلهة أخرى، فلما أعز الله دعوتنا وصدق أحدوثتنا ونصرنا عليهم أردنا أن نقدمهم فى الأمور ونستشيرهم فيها ونستنصحهم وندنيهم دون من هو خير منهم، ما أنصفنا إذا نصحاؤنا الذين كانوا يقاتلونهم فى الله حين نقدمهم دونهم، ولا نراهم وضعهم عندنا إذا جهادهم إيانا وجهدهم علينا، لا والله لا نفعل ذلك أبدا.
فقال أبو بكر رضى الله عنه: قد كنت أردت إدناءهم وإنزالهم منا بالمنازل التى كانوا بها فى قومهم من الشرف، فأما الآن حيث ذكرت ما ذكرت، فو الله ما أرى الرأى فى هذا إلا رأيك، فبلغ ذلك أشراف قريش أولئك، فشق عليهم.
وقال الحارث بن هشام: إن عمر كان فى شدته علينا قبل أن هدانا الله للإسلام مصيبا، فأما الآن حيث هدانا الله فلا نراه فى شدته علينا إلا قاطعا.
ثم خرج هو وسهيل بن عمرو «1» مع عكرمة بن أبى جهل فى رجال من أشراف قريش حتى أتوا أبا بكر رحمه الله، وعنده عمر، فقال الحارث: يا عمر، إنك قد كنت فى شدتك علينا قبل الإسلام مصيبا، فأما الآن وقد هدانا الله لدينه فما نراك إلا قاطعا، ثم جثا سهيل بن عمرو على ركبتيه وقال: إياك يا عمر نخاطب، وعليك نعتب، فأما خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبرىء عندنا من الضغن والحقد والقطيعة، ألسنا إخوانكم فى الإسلام، وبنى أبيكم فى النسب، أفإنكم إن كان الله قدم لكم فى هذا الأمر قدما صالحا لم نؤت مثله قاطعون قرابتنا ومستهينون بحقنا، ثم قال لهم عكرمة: أما إنكم وإن كنتم
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (110) ، الإصابة الترجمة رقم (3584) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2324) .(2/188)
تجدون فى عداوتنا قبل اليوم مقالا فلستم اليوم بأشد على من ترك هذا الدين، ولا أعدى منا. فقال لهم عمر رضى الله عن جميعهم، والله ما قلت الذى بلغكم إلا نصيحة لمن سبقكم بالإسلام، وتحريا للعدل فيما بينكم وبين من هو أفضل منكم.
قال سهيل: فإن كنتم إنما فضلتمونا بالجهاد فى سبيل الله، فو الله لنستكثرن منه، أشهدكم أنى حبيس فى سبيل الله.
وقال الحارث بن هشام: وأنا أشهدكم أنى حبيس فى سبيل الله، والله لأنفقن مكان كل نفقة أنفقتها على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، نفقتين فى سبيل الله، ولأنفقن مكان كل موقف وقفته على رسول الله صلى الله عليه وسلم، موقفين على أعداء الله. وقال عكرمة: وأنا أشهدكم أنى حبيس فى سبيل الله.
فقال أبو بكر رضى الله عنه: اللهم أبلغ بهم أفضل ما يأملون، واجزهم بأحسن ما يعملون، فقد أصبتم فيما صنعتم، فأرشدكم الله. فلما خرجوا من عنده أقبل سهيل على أصحابه، وكان شريفا عاقلا، فقال لهم: لا تجزعوا مما ترون، فإنهم دعوا ودعينا، فأجابوا وأبطأنا، ولو ترون فضائل من سبقكم إلى الإسلام عند الله عليكم ما نفعكم عيش، وما من أعمال الله عمل أفضل من الجهاد فى سبيل الله، فانطلقوا حتى تكونوا بين المسلمين وبين عدوهم، فتجاهدوهم دونهم حتى تموتوا، فلعلنا أن نبلغ فضل المجاهدين، فخرجوا حينئذ إلى جهاد الروم. قال: فبلغنى أنهم ماتوا مقترنين بين المسلمين وبين الروم، رضى الله عنهم.
ثم دعا أبو بكر، عمرو بن العاص، فقال: يا عمرو، هؤلاء أشراف قومك يخرجون مجاهدين، فاخرج فعسكر حتى أندب الناس معك، فقال: يا خليفة رسول الله، ألست أنا الوالى على الناس؟ قال: نعم، أنت الوالى على من أبعثه معك من هاهنا، قال: لا، بل وال على من أقدم عليه من المسلمين، قال: لا، ولكنك أحد الأمراء، فإن جمعتكم حرب فأبو عبيدة أميركم، فسكت عنه، ثم خرج فعسكر، واجتمع إليه ناس كثير، وكان معه أشراف قريش أولئك، فلما حضر خروجه جاء إلى عمر، فقال: يا أبا حفص، إنك قد عرفت بصرى بالحرب، وتيمن نقيبتى فى الغزو، وقد رأيت منزلتى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد علمت أن أبا بكر ليس يعصيك، فأشر عليه أن يولينى أمر هذه الجنود التى بالشام، فإنى أرجو أن يفتح الله على يدى هذه البلاد، وأن يريكم والمسلمين من ذلك ما تسرون به.(2/189)
فقال له عمر: لا أكذبك، ما كنت لأكلمه فى ذلك، لأنه لا يوافقنى أن يبعثك على أبى عبيدة، وأبو عبيدة أفضل منزلة عندنا منك، قال: فإنه لا ينقص أبا عبيدة شيئا من فضله أن ألى عليه، فقال له: ويحك يا عمرو، إنك والله ما تطلب بهذه الرياسة إلا شرف الدنيا، فاتق الله ولا تطلب بشىء من سعيك إلا وجه الله، واخرج فى هذا الجيش، فإنك إن يكن عليك أمير فى هذه المرة فما أسرع ما تكون إن شاء الله أميرا ليس فوقك أحد، فقال: قد رضيت.
فخرج واستتب له المسير، فلما أراد الشخوص خرج معه أبو بكر يشيعه، وقال: يا عمرو، إنك ذو رأى وتجربة للأمور، وبصر بالحرب، وقد خرجت فى أشراف قومك، ورجال من صالحاء المسلمين، وأنت قادم على إخوانك فلا تألوهم نصيحة ولا تدخر عنهم صالح مشورة، فرب رأى لك محمود فى الحرب، مبارك فى عواقب الأمور. فقال له عمرو: ما أخلق أن أصدق ظنك ولأفنك رأيك، ثم ودعه وانصرف عنه، فقدم الشام، فعظم غناؤه وبلاؤه عند المسلمين.
وكتب أبو بكر رحمه الله، إلى أبى عبيدة: أما بعد، فقد جاءنى كتابك تذكر فيه تيسر عدوكم لمواقعتكم، وما كتب به إليهم ملكهم من عدته إياهم أن يمدهم من الجنود بما تضيق به الأرض الفضاء، ولعمر الله لقد أصبحت الأرض ضيقة عليه برحبها، وايم الله ما أنا بيائس أن تزيلوه من مكانه الذى هو به عاجلا إن شاء الله تعالى، فبث خيلك فى القرى والسواد، وضيق عليهم بقطع الميرة، ولا تحاصر المدائن حتى يأتيك أمرى، فإن ناهضوك فانهض إليهم، واستعن بالله عليهم، فإنه ليس يأتيهم مدد إلا أمددناكم بمثلهم أو ضعفهم، وليس بكم والحمد لله قلة ولا ذلة، ولأعرفن ما جبنتم عنهم، فإن الله فاتح لكم، ومظهركم على عدوكم، ومعزكم بالنصر، وملتمس منكم الشكر، لينظر كيف تعملون، وعمرو فأوصيك به خيرا، فقد أوصيته أن لا يضيع لك حقا، والسلام عليك.
وجاء عمرو بالناس حتى نزل بأبى عبيدة، وكان عمرو فى مسيره ذلك إلى الشام، فيما حدث به عمرو بن شعيب، يستنفر من مر بهم من الأعراب، قال: فتبعه منهم ناس كثير، فلما اجتمعوا هم ومن كان قدم بهم معه من المدينة، كانوا نحوا من ألفين، فلما قدم بهم على أبى عبيدة سر بهم هو والناس الذين معه، واستأنس بهم، وكان عمرو ذا رأى فى الحرب وبصر بالأشياء، فقال له أبو عبيدة: أبا عبد الله، رب يوم شهدته فبورك للمسلمين فيه برأيك ومحضرك، إنما أنا رجل منكم، لست وإن كنت الوالى عليكم بقاطع(2/190)
أمرا دونكم، فأحضرنى رأيك فى كل يوم بما ترى، فإنه ليس بى عنكم غنى. فقال له:
أفعل، والله يوفقك لما يصلح المسلمين.
وقال سهل بن سعد: ما زال أبو بكر رحمه الله تعالى، يبعث الأمراء إلى الشام، أميرا أميرا، ويبعث القبائل، قبيلة قبيلة، حتى ظن أنهم قد اكتفوا، وأنهم لا يريدون أن يزدادوا رجلا.
وذكر أبو جعفر الطبرى «1» ، عن محمد بن إسحاق: أن تجهيز أبى بكر الجيوش إلى الشام كان بعد قفوله من الحج سنة اثنتى عشرة، وأنه حينئذ بعث عمرو بن العاص قبل فلسطين.
وذكر فى تولية أبى بكر خالد بن سعيد بن العاص جند الشام، وتأخيره عن ذلك قبل نفوذه نحوا مما تقدم.
وذكر أيضا من طريق آخر أن توليته إياه إنما كان على ربع من ذلك الجند.
وقيل: إن أبا بكر رضى الله عنه، جعله ردآ بتيماء، وأمره أن لا يبرحها، وأن يدعو من حوله بالانضمام إليه، وأن لا يقبل إلا ممن لم يرتد، ولا يقاتل إلا من قاتله حتى يأتيه أمره. فأقام، فاجتمعت إليه جموع كثيرة، وبلغ الروم عظيم ذلك العسكر، فضربوا على العرب الضاحية بالشام البعوث إليهم، فكتب خالد بن سعيد بذلك إلى أبى بكر، فكتب إليه أبو بكر، رضى الله عنه: أن أقدم ولا تحجم واستنصر الله «2» .
فصار إليهم خالد، فلما دنا منهم تفرقوا وأعروا منزلهم، فنزله ودخل من كان تجمع له فى الإسلام. وكتب بذلك إلى أبى بكر، فكتب إليه أبو بكر رضى الله عنه: أقدم ولا تقتحمن حتى لا تؤتى من خلفك. فسار فيمن كان خرج معه من تيماء وفيمن لحق به من طرف الرمل، فسار إليه بطريق من بطارقة الروم، يدعى باهان، فهزمه وفل جنده، وكتب بذلك إلى أبى بكر، واستمده، وقد قدم على أبى بكر أوائل مستنفرى اليمن، ومن بين مكة واليمن، فساروا فقدموا على خالد بن سعيد، وعند ذلك اهتاج أبو بكر للشام وعناه أمره.
وقد كان أبو بكر رد عمرو بن العاص على عمالته التى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولاه
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 387) .
(2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 388- 389) .(2/191)
إياها من صدقات سعد وعذرة وما كان معها قبل ذهابه إلى عمان، فخرج إلى عمان من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على عدة من عمله إذا هو رجع، فأنجز له ذلك أبو بكر، ثم كتب إليه أبو بكر عند اهتياجه للشام: إنى كنت قد رددتك على العمل الذى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولاكه مرة وسماه لك أخرى إذ بعثك إلى عمان إنجازا لموعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد وليته ثم وليته، وقد أحببت أبا عبد الله أن أفرغك لما هو خير لك فى حياتك ومعادك منه، إلا أن يكون الذى أنت فيه أحب إليك. فكتب إليه عمرو: إنى سهم من سهام الإسلام، وأنت بعد الله الرامى بها، والجامع لها، فانظر أسرها وأحسنها وأفضلها فارم به شيئا إن جاءك من ناحية من النواحى «1» .
وكتب أبو بكر رضى الله عنه، إلى الوليد بن عقبة بنحو ذلك، فأجابه بإيثار الجهاد.
وعن أبى أمامة الباهلى «2» ، قال: كنت ممن سرح أبو بكر رضى الله عنه، مع أبى عبيدة، وأوصانى به وأوصاه بى، فكانت أول وقعة بالشام يوم العربة، ثم يوم الداثنة، وليسا من الأيام العظام، خرج ستة قواد من الروم مع كل قائد خمسمائة، فكانوا ثلاثة آلاف، فأقبلوا حتى انتهوا إلى العربة، فبعث يزيد بن أبى سفيان إلى أبى عبيدة يعلمه، فبعثنى إليه فى خمسمائة، فلما أتيته بعث معى رجلا فى خمسمائة، فلما رأيناهم يعنى الروم وقوادهم أولئك، حملنا عليهم فهزمناهم وقتلنا قائدا من قوادهم، ثم مضوا واتبعناهم، فجمعوا لنا بالداثنة، فسرنا إليهم، فقدمنى يزيد وصاحبى فى عدتنا، فهزمناهم، فعند ذلك فزعوا واجتمعوا وأمدهم ملكهم.
وذكر ابن إسحاق عن صالح بن كيسان أن عمرو بن العاص خرج حتى نزل بعمر العربات، ونزلت الروم بثنية جلق بأعلى فلسطين فى سبعين ألفا عليهم تذارق أخو هرقل لأبيه وأمه، فكتب عمرو إلى أبى بكر يستمده، وخرج خالد بن سعيد بن العاص وهو بمرج الصفر من أرض الشام فى يوم مطير يستمطر فيه فتعادى عليه أعلاج الروم فقتلوه، وقيل أتاهم أذريجا فى أربعة آلاف وهم غازون فاستشهد خالد بن سعيد وعدة من المسلمين.
قال أبو جعفر الطبرى «3» : قيل إن المقتول فى هذه الغزوة ابن لخالد بن سعيد، وأن خالدا انحاز حين قتل ابنه.
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 389) .
(2) اسمه: صدى بن عجلان. انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2882) ، الإصابة الترجمة رقم (9546) ، أسد الغابة الترجمة رقم (5695) .
(3) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 391) .(2/192)
وذكر سيف أن الوليد بن عقبة لما قدم على خالد بن سعيد فسانده، وقدمت جنود المسلمين الذين كان أبو بكر أمده بهم، وبلغه عن الأمراء، يعنى أمراء المسلمين الذين أمدهم أبو بكر، وتوجههم إليه، اقتحم على الروم طلب الحظوة، وأعرى ظهره، وبادر الأمراء لقتال الروم، واستطرد له باهان، فأرز هو ومن معه إلى دمشق، واقتحم خالد فى الجيش ومعه ذو الكلاع وعكرمة والوليد حتى ينزل المرج، مرج الصفر، ما بين الواقوصة ودمشق، فانطوت مسالح باهان عليه، وأخذوا عليه الطرق ولا يشعر، وزحف له باهان فوجد ابنه سعيد بن خالد يستمطر فى الناس، فقتلوهم. وأتى الخبر خالدا، فخرج هاربا فى جريدة خيل، ولم ينته بخالد الهزيمة عن ذى المروة، وأقام عكرمة فى الناس ردآ لهم، فرد عنهم باهان وجنوده أن يطلبوهم، وأقام من الشام على قريب.
وذكر ابن إسحاق مسير الأمراء ومنازلهم، وأن يزيد بن أبى سفيان نزل البلقاء، ونزل شرحبيل بن حسنة الأردن، ويقال: بصرى، ونزل أبو عبيدة الجابية.
وعن غير ابن إسحاق أنه لما نزل أبو عبيدة بالجابية كتب إلى أبى بكر الصديق رضى الله عنه، منها: أما بعد، فإن الروم وأهل البلد، ومن كان على دينهم من العرب قد أجمعوا على حرب المسلمين، ونحن نرجو النصر، وإنجاز موعود الرب تبارك وتعالى، وعادته الحسنى، وأحببت إعلامك ذلك لترينا رأيك.
فقال أبو بكر رحمه الله: والله لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد. وكان خالد إذ ذاك يلى حرب العراق، فكتب إليه أبو بكر:
أما بعد، فدع العراق وخلف فيه أهله الذين قدمت عليهم وهم فيه، وامض متخفيا فى أهل القوة من أصحابك الذين قدموا معك العراق، من اليمامة، وصحبوك فى الطريق، وقدموا عليك من الحجاز، حتى تأتى الشام، فتلقى أبا عبيدة ومن معه من المسلمين، فإذا التقيتم فأنت أمير الجماعة، والسلام.
ويروى أنه كان فيما كتب إليه به: «أن سر حتى تأتى جموع المسلمين باليرموك، فإنهم قد شجوا وأشجوا، وإياك أن تعود لمثل ما فعلت، فإنه لم يشج الجموع بعون الله سبحانه، أحد من الناس إشجاءك، ولم ينزع الشجاء أحد من الناس نزعك، فلتهنئك أبا سليمان النعمة والحظوة، فأتمم يتمم الله لك، ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل، وإياك أن تدل بعمل، فإن الله تعالى، له المن، وهو ولى الجزاء» «1» .
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 384- 385) .(2/193)
ووافى خالدا كتاب أبى بكر هذا وهو بالحيرة «1» ، منصرفا من حجة حجها مكتتما بها، وذلك أنه لما فرغ من إيقاعه بالروم ومن انضوى إليهم مغيثا لهم من مسالح فارس بالفراض، والفراض تخوم الشام والعراق والجزيرة، أقام بالفراض عشرا، ثم أذن بالقفل إلى الحيرة لخمس بقين من ذى القعدة، وأمر عاصم بن عمرو أن يسير بهم، وأمر شجرة بن الأعز أن يسوقهم، وأظهر خالد أنه فى الساقة.
وخرج من الحيرة ومعه عدة من أصحابه يعتسف البلاد حتى أتى مكة بالسمت فتأتى له من ذلك ما لم يتأت لدليل ولا رئبال فسار طريقا من طريق الجزيرة، لم ير طريقا أعجب منه، فكانت غيبته عن الجند يسيرة، ما توافى إلى الحيرة آخرهم حتى وافاهم مع صاحب الساقة الذى وضعه، وقدما معا، وخالد وأصحابه محلقون، ولم يعلم بحجه إلا من أفضى إليه بذلك من الساقة، ولم يعلم أبو بكر رحمه الله، بذلك إلا بعد، فهو الذى يعنيه بما تقدم فى كتاب إليه من معاتبته إياه «2» .
وقدم على خالد بالكتاب عبد الرحمن بن حنبل الجمحى، فقال له خالد قبل أن قرأ كتابه: ما وراءك؟ فقال: خير، تسير إلى الشام. فشق عليه ذلك وقال: هذا عمل عمر، نفس علىّ أن يفتح الله على العراق.
وكانت الفرس قد هابوه هيبة شديدة، وكان خالد إذا نزل بقوم من المشركين عذابا من عذاب الله عليهم، وليثا من الليوث.
فلما قرأ كتاب أبى بكر ورأى أنه قد ولاه على أبى عبيدة وعلى الشام، كأن ذلك سخا بنفسه. وقال: أما إذ ولانى، فإن فى الشام من العراق خلفا، فقام إليه النسير بن ديسم العجلى، وكان من أشراف بنى عجل وفرسان بكر بن وائل، ومن رؤس أصحاب المثنى بن حارثة، فقال لخالد: أصلحك الله، والله ما جعل الله فى الشام من العراق خلفا، للعراق أكثر حنطة وشعيرا وديباجا وحريرا وفضة وذهبا، وأوسع سعة، وأعرض عرضا، والله ما الشام كله إلا كجانب من العراق، فكره المثنى مشورته عليه، وكان يحب أن يخرج عن العراق ويخليه وإياها.
__________
(1) الحيرة: قال الهمدانى: سار تبع أبو كرب فى غزوته فلما أتى موضع الحيرة خلف هنالك مالك بن فهم بن غنم بن دوس على أثقاله وخلف معه من ثقل من أصحابه فى نحو اثنى عشر ألفا وقال: تحيروا هذا الموضع، فسمى الموضع الحيرة، فما لك أول ملوك الحيرة وأبوهم. وكانت الحيرة على ثلاثة أميال من الكوفة، والحيرة على النجف، والنجف كان على ساحل البحر الملح، وكان فى سالف الدهر يبلغ الحيرة. انظر: الروض المعطار (207) .
(2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 384) .(2/194)
فقال خالد: إن بالشام أهل الإسلام، وقد تهيأت لهم الروم وتيسرت، فإنما أنا مغيث وليس لهم مترك، فكونوا أنتم هاهنا على حالكم التى كنتم عليها، فإن نفرغ مما أشخصنا إليه عاجلا عجلنا إليكم، وإن أبطأت رجوت أن لا تعجزوا ولا تهنوا، وليس خليفة رسول الله بتارك إمدادكم بالرجال حتى يفتح الله عليكم هذه البلاد إن شاء الله تعالى.
ويروى أن أبا بكر أمر خالدا بالخروج فى شطر الناس، وأن يخلف على الشطر الثانى المثنى بن حارثة، وقال له: لا تأخذ مجدا إلا خلفت لهم مجدا، فإذا فتح الله عليكم فارددهم إلى العراق معهم، ثم أنت على عملك.
وأحصى خالد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأثرهم على المثنى وترك للمثنى أعدادهم من أهل الغناء ممن لم يكن له صحبة، ثم نظر فيمن بقى فاختلج من كان قدم على النبى صلى الله عليه وسلم، وافدا أو غير وافد، وترك للمثنى أعدادهم من أهل الغناء، ثم قسم الجند نصفين.
فقال المثنى: والله لا أقيم إلا على إنفاذ أمر أبى بكر كله فى استصحاب نصف الصحابة، وإبقاء النصف أو بعض النصف، فو الله ما أرجو النصر إلا بهم، فأنى تعرينى منهم؟ فلما رأى ذلك خالد بعدما تلكأ عليه أعاضه منهم حتى رضى، وكان فيمن أعاضه منهم فرات بن حيان العجلى وبشير بن الخصاصية والحارث بن حسان الذهليان ومعبد بن أم معبد الأسلمى وبلال بن الحارث المزنى وعاصم بن عمرو التميمى، حتى إذا رضى المثنى وأخذ حاجته انحدر خالد فمضى لوجهه، وشيعه المثنى إلى قراقر، فقال له خالد: انصرف إلى سلطانك غير مقصر ولا ملوم ولا وان «1» .
وذكر الطبرى «2» أن خالدا رحمه الله، لما أراد المسير إلى الشام دعا بالأدلة فارتحل من الحيرة سائرا إلى دومة، ثم ظعن فى البر إلى قراقر، ثم قال: كيف لى بطريق أخرج فيه من وراء جموع الروم؟ فإنى إن استقبلتها حبستنى عن غياث المسلمين، فكلهم قال: لا نعرف إلا طريقا لا تحمل الجيوش، فإياك أن تغرر بالمسلمين، فعزم عليه، ولم يجبه إلى ذلك إلا رافع بن عميرة على تهيب شديد، فقام فيهم فقال: لا يختلفن هديكم ولا تضعفن تعبئتكم، واعلموا أن المعونة تأتى على قدر النية، والأجر على قدر الحسبة، وأن المسلم لا ينبغى له أن يكترث لشىء يقع فيه مع معونة الله له. فقالوا له: أنت رجل قد جمع الله لك الخير فشأنك، فطابقوه ونووا واحتسبوا.
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 411) .
(2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 409) .(2/195)
وذكر غير الطبرى أن خالدا حين أراد المسير إلى الشام قال له محرز بن حريش، وكان يتجر بالحيرة، ويسافر إلى الشام: اجعل كوكب الصبح على حاجبك الأيمن، ثم أمه حتى تصبح، فإنك لا تجور. فجرب ذلك فوجده كذلك.
ثم أخذ فى السماوة حتى انتهى إلى قراقر ففوز من قراقر إلى سوى، وهما منزلان بينهما خمس ليال، فلم يهتدوا للطريق، فدل على رافع بن عميرة الطائى، فقال: خفف الأثقال واسلك هذه المفازة إن كنت فاعلا، فكره خالد أن يخلف أحدا، فقال: قد أتانى أمر لا بد من إنفاذه، وأن نكون جميعا. قال: فو الله إن الراكب المنفرد ليخافها على نفسه، ما يسلكها إلا مغررا، فكيف أنت بمن معك؟ قال: إنه لا بد من ذلك، فقد أتتنى عزيمة، قال: فمن استطاع منكم أن يصر أذن راحلته على ماء فليفعل، فإنها المهالك إلا ما وقى الله، ثم قال لخالد: ابغنى عشرين جزورا عظاما سمانا مسان. فأتاه بهن، فظمأهن حتى إذا أجهدهن عطشا سقاهن حتى أرواهن، ثم قطع مشافرهن، ثم كعمهن»
، ثم قال لخالد: سر بالخيول والأثقال، فكلما نزل منزلا نحر من تلك الشرف أربعا فافتض ماءهن فسقاه الخيول، وشرب الناس مما تزودوا حتى إذا كان آخر ذلك قال خالد لرافع: ويحك ما عندك يا رافع؟ فقال: أدركك الرأى إن شاء الله، انظروا، هل تجدون شجرة؟ هو شج على ظهر الطريق، قالوا: لا، قال: إنا لله إذا والله هلكت وأهلكت، لا أبا لكم انظروا، فنظروا فوجدوها، فكبروا وكبر وقال: أحفروا فى أصلها، فاحتفروا، فوجدوا عينا، فشربوا وارتووا، فقال رافع: والله ما وردت هذا الماء قط إلا مرة مع أبى وأنا غلام.
وقال راجز من المسلمين:
لله در رافع أنى اهتدى ... فوز من قراقر إلى سوى
أرضا إذا ما سارها الجيش بكى ... ما سارها من قبله إنس أرى
لكن بأسباب متينات الهدى ... نكبها الله بنيات الردى «2»
وعن عبد الله بن قرط الثمالى قال: لما خرج خالد من عين التمر «3» مقبلا إلى الشام كتب إلى المسلمين مع عمرو بن الطفيل بن عمرو الأزدى، وهو ابن ذى النور: أما بعد، فإن كتاب خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتانى، فأمرنى بالمسير إليكم، وقد شمرت وانكمشت، وكأن قد أظلت عليكم خيلى ورجالى، فأبشروا بإنجاز موعود الله، وحسن ثواب الله،
__________
(1) كعمهن: أى شد أفواههن.
(2) انظر الأبيات فى: تاريخ الطبرى (3/ 416) .
(3) راجع خبر عين التمر فى: المنتظم لابن الجوزى (4/ 107) ، تاريخ الطبرى (3/ 376) .(2/196)
عصمنا الله وإياكم باليقين، وأثابنا أحسن ثواب المجاهدين، والسلام عليكم.
وكتب معه إلى أبى عبيدة: أما بعد، فإنى أسأل الله تعالى لنا ولك الأمن يوم الخوف والعصمة فى دار الدنيا من كل سوء، وقد أتانى كتاب خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأمرنى بالمسير إلى الشام، وبالقيام على جندها، والتوالى لأمرها، والله ما طلبت ذلك قط، ولا أردته، إذ وليته، فأنت على حالتك التى كنت لا نعصيك ولا نخالفك ولا نقطع أمرا دونك، فإنك سيد المسلمين، لا ننكر فضلك، ولا نستغنى عن رأيك، تمم الله ما بنا وبك من إحسان، ورحمنا وإياك من صلى النار، والسلام عليك ورحمة الله.
قال: فلما قدم علينا عمرو بن الطفيل «1» ، قرأ كتاب خالد على الناس وهم بالجابية، ودفع إلى أبى عبيدة كتابه، فقرأه، فقال: بارك الله لخليفة رسول الله فيما رأى وحيى الله خالدا.
قال: وشق على المسلمين أن ولى خالد على أبى عبيدة، ولم أره على أحد أشد منه على بنى سعيد بن العاص، وإنما كانوا متطوعين حبسوا أنفسهم فى سبيل الله حتى يظهر الله الإسلام. فأما أبو عبيدة فإنا لم نتبين فى وجهه ولا فى شىء من منطقة الكراهة لأمر خالد.
وعن سهل بن سعد أن أبا بكر كتب إلى أبى عبيدة، رضى الله عنهما: أما بعد، فإنى قد وليت خالدا قتال العدو بالشام فلا تخالفه واسمع له وأطع أمره، فإنى لم أبعثه عليك أن لا تكون عندى خيرا منه، ولكنى ظننت أن له فطنة فى الحرب ليست لك، أراد الله بنا وبك خيرا، والسلام.
ثم إن خالدا خرج من عين التمر حتى أغار على بنى تغلب والنمر بالبسر فقتلهم، وهزمهم، وأصاب من أموالهم طرفا. قال: وإن رجلا منهم ليشرب من شراب له فى جفنة، وهو يقول:
ألا عللانى قبل جيش أبى بكر ... لعل منايانا قريب وما ندرى
فما هو إلا أن فرغ من قوله، حتى شد عليه رجل من المسلمين فضرب عنقه، فإذا رأسه فى الجفنة.
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1951) ، الإصابة الترجمة رقم (5894) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3967) .(2/197)
وعن عدى بن حاتم قال «1» : غزونا، يعنى مع خالد، على أهل المصيخ، وإذا رجل من النمر يدعى حرقوص بن النعمان، حوله بنوه وامرأته، وبينهم جفنة من خمر، وهم عليها عكوف يقولون له: ومن يشرب هذه الساعة فى أعجاز الليل؟ فقال: اشربوا شرب وداع، فما أرى أن تشربوا خمرا بعدها أبدا، هذا خالد بالعين وقد بلغه جمعنا وليس بتاركنا:
ألا فاشربوا من قبل قاصمة الظهر ... وقبل انتقاض القوم بالعسكر الدثر
وقبل منايانا المصيبة بالقدر ... لحين لعمرى لا يزيد ولا يحرى
فسبق إليه وهو فى ذلك بعض الخيل، فضرب رأسه، فإذا هو فى جفنته، فأخذنا بناته وقتلنا بنيه.
وفى كتاب سيف قال «2» : ولما بلغ غسان خروج خالد على سوى وانتسافها، وإغارته على مصيخ بهراء وانتسافها، اجتمعوا بمرج راهط، وبلغ ذلك خالدا وقد خلف ثغور الشام وجنودها مما يلى العراق، فصار بينهم وبين اليرموك صمد لهم، فخرج من سوى بعدما رجع إليها بسبى بهراء فنزل علمين على الطريق، ثم نزل الكثيب، حتى سار إلى دمشق، ثم مرج الصفر، فلقى عليه غسان، وعليهم الحارث بن الأيهم، فانتسف عسكرهم ونزل بالمرج أياما، وبعث إلى أبى بكر بالأخماس، ثم خرج من المرج حتى نزل مياه بصرى، فكانت أول مدينة افتتحت بالشام على يدى خالد فيمن معه من جنود العراق، وخرج منها فوافى المسلمين بالواقوصة.
وعن غير سيف أن خالدا أغار على غسان فى يوم فصحهم، فقتل وسبى، وخرج على أهل الغوطة حتى أغار عليهم، فقتل ما شاء وغنم، ثم إن العدو دخلوا دمشق فتحصنوا، وأقبل أبو عبيدة، وكان بالجابية مقيما، حتى نزل معه بالغوطة، فحاصر أهل دمشق.
وعن قيس بن أبى حازم قال: كان خرج مع خالد من بجيلة وعظمهم أحمس نحو من مائتى رجل ومن طيئ نحو من مائة وخمسين.
قال: وكان معنا المسيب بن نجيبة، فى نحو مائتى فارس من بنى ذبيان، وكان يعنى خالدا، فى نحو من ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار، فكان أصحابه الذين دخلوا معه
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 382) .
(2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 410- 411) .(2/198)
الشام ثمانمائة وخمسين رجلا كلهم ذو نية وبصيرة، لأنه كان يقحمهم أمورا يعلمون أنه لا يقوى على ذلك إلا كل قوى جلد، فأقبل بنا حتى مر بأركة، فأغار عليها، وأخذ الأموال، وتحصن منه أهلها، فلم يبارحهم حتى صالحهم.
قال: ومر بتدمر «1» ، فتحصنوا منه، فأحاط بهم من كل جانب، وأخذهم من كل مأخذ، فلم يقدر عليهم، فلما لم يطقهم ترحل عنهم، وقال لهم حين أراد أن يرتحل، فيما روى عن عبد الله بن قرط: والله لو كنتم فى السحاب لاستنزلناكم وظهرنا عليكم، ما جئناكم إلا ونحن نعلم أنكم ستفتحون علينا، وإن أنتم لم تصالحوا هذه المرة لأرجعن إليكم لو قد انصرفت من وجهى هذا ثم لا أرحل عنكم حتى أقتل مقاتلتكم وأسبى ذراريكم.
فلما فصل قال علماؤهم، واجتمعوا: إنا لا نرى هؤلاء القوم إلا الذين كنا نتحدث أنهم يظهرون علينا، فافتحوا لهم، فبعثوا إلى خالد فجاء، ففتحوا له وصالحوه.
وعن سراقة بن عبد الأعلى بن سراقة: أن خالدا فى طريقه ذلك مر على حوران فهابوه، فتحرز أكثرهم منه، وأغار عليهم، فاستاق الأموال وقتل الرجال وأقام عليهم أياما، فبعثوا إلى ما حولهم ليمدوهم، فأمدوهم من مكانين: من بعلبك، وهى أرض دمشق، ومن قبل بصرى، وبصرى مدينة حوران، وهى من أرض دمشق أيضا.
فلما رأى المددين قد أقبلا خرج فصف بالمسلمين، ثم تجرد فى مائتى فارس، فحمل على مدد بعلبك «2» وهم أكثر من ألفين فما وقفوا حتى انهزموا، فدخلوا المدينة، ثم انصرف يوجف فى أصحابه وجيفا، حتى إذا كان بحذاء بصرى، وإنهم لأكثر من ألفين، حمل عليهم فما ثبتوا له فواقا حتى هزمهم، فدخلوا المدينة، وخرج أهل المدينة فرموا المسلمين بالنشاب، فانصرف عنهم خالد وأصحابه، حتى إذا كان من الغد خرجوا إليه ليقاتلوه، فعجزوا وأظهر الله عليهم المسلمين، فصالحوهم.
وقال عمرو بن محصن: حدثنى علج من أهل حوران «3» كان يشجع، قال: والله
__________
(1) تدمر: من مدن الشام بالبرية، أولية يقال إن الجن بنتها لسليمان عليه السلام. ومن حلب إليها خمسة أيام وكذلك من دمشق إليها، وكذا من الرقة إليها، وكذا من الرحبة إليها. انظر: الروض المعطار (131) ، معجم ما استعجم (1/ 307) .
(2) بعلبك: مدينة بالشام بينها وبين دمشق فى جهة الشرق مرحلتان، وهى حصينة فى سفح جبل وعليها سور حصين بالحجارة. انظر: الروض المعطار (109) ، نزهة المشتاق (116) .
(3) حوران: جبل بالشام، وحوران أيضا من أعمال دمشق، ومدينتها بصرى، تسير فى صحراء حوران عشرة فراسخ حتى تصل إلى مدينة بصرى. انظر: الروض المعطار (206) .(2/199)
لخرجنا إليهم بعد ما جاءنا مدد أهل بعلبك وأهل بصرى بيوم، فلخرجنا وإنا لأكثر من خالد وأصحابه بعشرة أضعافهم وأكثر، فما هو إلا أن دنونا منهم، فثاروا فى وجوهنا بالسيوف كأنهم الأسد، فانهزمنا أقبح الهزيمة، وقتلونا شر المقتلة، فما عدنا نخرج إليهم حتى صالحناهم، ولقد رأيت رجلا منا كنا نعده بألف رجل، قال: لئن رأيت أميرهم لأقتلنه، فلما رأى خالدا قيل له: هذا خالد أمير القوم، فحمل عليه، وإنا لنرجو لبأسه أن يقتله، فما هو إلا أن دنا منه، فضرب خالد فرسه، فقدمه عليه، ثم استعرض وجهه بالسيف فأطار قحف رأسه، ودخلنا مدينتنا، فما كان لنا هم إلا الصلح حتى صالحناهم.
وعن قيس بن أبى حازم قال: كنت مع خالد حين مر بالشام، فأقبل حتى نزل بقناة بصرى من أرض حوران، وهى مدينتها، فلما نزلنا واطمأننا خرج إلينا الدرنجار «1» فى خمسة آلاف فارس من الروم، فأقبل إلينا وما يظن هو وأصحابه إلا أنا فى أكفهم، فخرج خالد فصفنا، ثم جعل على ميمنتنا رافع بن عميرة الطائى، وعلى ميسرتنا ضرار بن الأزور، وعلى الرجال عبد الرحمن بن حنبل الجمحى، وقسم خيله، فجعل على شطرها المسيب بن نجية، وعلى الشطر الآخر رجلا كان معه من بكر بن وائل، ولم يسمه، وأمرهما خالد حين قسم الخيل بينهما أن يرتفعا من فوق القوم عن يمين وشمال، ثم ينصبا على القوم، ففعلا ذلك، وأمرنا خالد أن نزحف إلى القلب، فزحفنا إليهم، والله ما نحن إلا ثمانمائة وخمسون رجلا، وأربعمائة رجل من مشجعة من قضاعة، استقبلنا بهم يعبوب رجل منهم، فكنا ألفا ومائتين ونيفا.
قال: وكنا نظن أن الكثير من المشركين والقليل عند خالد سواء، لأنه كان لا يملأ صدره منهم شىء، ولا يبالى بمن لقى منهم لجرأته عليهم، فلما دنوا منا شدوا علينا شدتين، فلم نبرح، ثم إن خالدا نادى بصوت له جهورى شديد عال، فقال: يا أهل الإسلام، الشدة، الشدة، احملوا رحمكم الله، عليهم، فإنكم إن قاتلتموهم محتسبين بذلك وجه الله فليس لهم أن يواقفوكم ساعة، ثم إن خالدا شد عليهم، فشددنا معه، فو الله الذى لا إله إلا هو ما ثبتوا لنا فواقا حتى انهزموا، فقتلنا منهم فى المعركة مقتلة عظيمة، ثم اتبعناهم نكردهم «2» ونصيب الطرف منهم، ونقطعهم عن أصحابهم، ثم نقتلهم، فلم نزل كذلك حتى انتهينا إلى مدينة بصرى، فأخرج لنا أهلها الأسواق، واستقبلوا المسلمين
__________
(1) الدرنجار: أى قائد الروم البيزنطيين.
(2) نكردهم: أى نطردهم.(2/200)
بكل ما يحبون، ثم سألوا الصلح، فصالحناهم، فخرج خالد من فوره ذلك، فأغار على غسان فى جانب من مرج راهط فى يوم فصحهم، فقتل وسبى.
وعن أبى الخزرج الغسانى قال: كانت أمى فى ذلك السبى، فلما رأت هدى المسلمين وصلاحهم وصلاتهم وقع الإسلام فى قلبها فأسلمت، فطلبها أبى فى السبى فعرفها، فجاء المسلمين فقال: يا أهل الإسلام، إنى رجل مسلم، وهذه امرأتى قد أصبتموها، فإن رأيتم أن تصلونى وتحفظوا حقى فتردوا علىّ أهلى فعلتم. فقال لها المسلمون: ما تقولين فى زوجك قد جاء يطلبك وهو مسلم؟ قالت: إن كان مسلما رجعت إليه، وإلا فلا حاجة لى فيه، ولست براجعة إليه.
وقعة أجنادين
ذكر سعيد بن الفضل وأبو إسماعيل وغيرهما أن خالد بن الوليد لما دخل الغوطة «1» كان قد مر بثنية فخرعها، ومعه راية له بيضاء تدعى العقاب، فسميت بذلك تلك الثنية:
ثنية العقاب، ثم نزل ديرا يقال له: دير خالد لنزوله به، وهو مما يلى باب الشرقى، يعنى من دمشق.
وجاء أبو عبيدة من قبل الجابية، حتى نزل باب الجابية، ثم شنا الغارات فى الغوطة وغيرها، فبينما هما كذلك أتاهما أن وردان صاحب حمص، قد جمع الجموع يريد أن يقتطع شرحبيل بن حسنة وهو ببصرى، وأن جموعا من الروم قد نزلت أجنادين «2» ، وأن أهل البلد ومن مروا به من نصارى العرب قد سارعوا إليهم، فأتاهما خبر أفظعهما وهما مقيمان على عدو يقاتلانه، فالتقيا فتشاورا فى ذلك، فقال أبو عبيدة: أرى أن نسير حتى نقدم على شرحبيل قبل أن ينتهى إليه العدو الذى قد صمد صمدة، فإذا اجتمعنا سرنا إليه حتى نلقاه، فقال له خالد: إن جمع الروم هنا بأجنادين، وإن نحن سرنا إلى شرحبيل تبعنا هؤلاء من قريب، ولكن أرى أن نصمد صمد عظمهم، وأن نبعث إلى شرحبيل فنحذره مسير العدو إليه، ونأمره فيوافينا بأجنادين، ونبعث إلى يزيد بن أبى سفيان وعمرو بن العاص فيوافيانا بأجنادين، ثم نناهض عدونا. فقال له أبو عبيدة: هذا رأى حسن، فأمضه على بركة الله.
__________
(1) الغوطة: قيل: هى قصبة دمشق، وقيل: هو موضع متصل بدمشق من جهة باب الفراديس، وطول الغوطة مرحلتان عرض فى عرض مرحلة. انظر: الروض المعطار (431) .
(2) أجنادين: بفتح الهمزة والنون والدال، بعدها ياء ونون على لفظ التثنية، موضع بالشام من بلاد الأردن. انظر: الروض المعطار (12) .(2/201)
وكان خالد مبارك الولاية، ميمون النقيبة، مجربا، بصيرا، بالحرب، مظفرا. فلما أراد الشخوص من أرض دمشق إلى الروم الذين اجتمعوا بأجنادين، كتب نسخة واحدة إلى الأمراء:
أما بعد، فإنه نزل بأجنادين جمع من جموع الروم، غير ذى قوة ولا عدة، والله قاصمهم وقاطع دابرهم، وجاعل دائرة السوء عليهم، وقد شخصت إليهم يوم سرحت رسولى إليكم، فإذا قدم عليكم فانهضوا إلى عدوكم بأحسن عدتكم وأصح نيتكم، ضاعف الله أجوركم وحط أوزاركم، والسلام.
ووجه بهذه النسخ مع أنباط كانوا مع المسلمين عيونا لهم، وفيوجا «1» وكان المسلمون يرضخون لهم، ودعا خالد الرسول الذى بعثه منهم إلى شرحبيل، فقال له:
كيف علمك بالطريق؟ قال: أنا أدل الناس بالطريق، قال: فادفع إليه هذا الكتاب، وحذره الجيش الذى ذكر لنا أنه يريده، وخذ به وبأصحابه طريقا تعدل به عن طريق العدو الذى شخص إليه وتأتى به حتى تقدمه علينا بأجنادين. قال: نعم، فخرج الرسول إلى شرحبيل، ورسول آخر إلى عمرو بن العاص، وآخر إلى يزيد بن أبى سفيان.
وخرج خالد وأبو عبيدة بالناس إلى أهل أجنادين، والمسلمون سراع إليهم، جراء عليهم، فلما شخصوا لم يرعهم إلا أهل دمشق فى آثارهم، فلحقوا أبا عبيدة وهو فى أخريات الناس فلما رآهم قد لحقوا به نزل، وأحاطوا به، وهو فى نحو من مائتى رجل من أصحابه، وأهل دمشق فى عدد كثير، فقاتلهم أبو عبيدة قتالا شديدا، وأتى الخبر خالدا وهو أمام الناس فى الفرسان والخيل، فعطف راجعا، ورجع الناس معه، وتعجل خالد فى الخيل وأهل القوة، وانتهوا إلى أبى عبيدة وأصحابه وهم يقاتلون الروم قتالا حسنا، فحمل الخيل على الروم فدق بعضهم على بعض، وقتلهم ثلاثة أميال حتى دخلوا دمشق، ثم انصرف، ومضى بالناس نحو الجابية، وأخذ يلتفت وينتظر قدوم أصحابه عليه.
ومضى رسول خالد إلى شرحبيل، فوافاه وليس بينه وبين الجيش الذى سار إليه من حمص «2» مع وردان إلا مسيرة يوم، وهو لا يشعر، فدفع إليه الرسول الكتاب، وأخبره الخبر، واستحثه بالشخوص، فقام شرحبيل، فى الناس، فقال: أيها الناس، اشخصوا إلى
__________
(1) فيوج: جمع فج، وهو الحارث أو العداء سريع الجرى.
(2) حمص: مدينة بالشام، ولا يجوز فيها الصرف كما لا يجوز فى هند لأنه اسم أعجمى، سميت برجل من العماليق يسمى حمص، ويقال: رجل من عاملة، هو أو من نزلها. انظر: الروض المعطار (198) .(2/202)
أميركم، فإنه قد توجه إلى عدو المسلمين بأجنادين، وقد كتب إلىّ يأمرنى بموافاته هنالك.
ثم خرج بالناس ومضى بهم الدليل، وبلغ ذلك الجيش الذى جاء فى طلبهم، فجعل المسير فى آثارهم، وجاء وردان كتاب من الروم الذين بأجنادين: أن عجل إلينا فإنا مؤمروك علينا ومقاتلون معك العرب حتى تنفيهم من بلادنا. فأقبل فى آثار هؤلاء، رجاء أن يستأصلهم أو يصيب طرفا منهم، فيكون قد نكب طائفة من المسلمين، فأسرع السير فلم يلحقهم، وجاؤا حتى قدموا على المسلمين، وجاء وردان فيمن معه حتى وافى جمع الروم بأجنادين، فأمروه عليهم، واشتد أمرهم.
وأقبل يزيد بن أبى سفيان حتى وافى أبا عبيدة وخالدا، ثم إنهم ساروا حتى نزلوا بأجنادين، وجاء عمرو بن العاص فيمن معه، فاجتمع المسلمون جميعا بأجنادين، وتزاحف الناس غداة السبت.
فخرج خالد، فأنزل أبا عبيدة فى الرجال، وبعث معاذ بن جبل على الميمنة، وسعيد ابن عامر بن حذيم على الميسرة، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل على الخيل.
وأقبل خالد يسير فى الناس، لا يقر فى مكان واحد، يحرض الناس، وقد أمر نساء المسلمين فاحتزمن وقمن وراء الناس يدعون الله ويستغثنه، وكلما مر بهن رجل من المسلمين رفعن أولادهن إليه وقلن لهم: قاتلوا دون أولادكم ونسائكم.
وأقبل خالد يقف على كل قبيلة فيقول: اتقوا الله عباد الله، وقاتلوا فى الله من كفر بالله، ولا تنكصوا على أعقابكم، ولا تهنوا من عدوكم، ولكن أقدموا كإقدام الأسد، أو ينجلى الرعب وأنتم أحرار كرام، قد أوتيتم الدنيا واستوجبتم على الله ثواب الآخرة، ولا يهولنكم ما ترون من كثرتهم، فإن الله منزل رجزه وعقابه بهم. وقال للناس: إذا حملت فاحملوا.
وقال معاذ بن جبل: يا معشر المسلمين، اشروا أنفسكم اليوم لله، فإنكم إن هزمتموهم اليوم كانت لكم دار السلام أبدا مع رضوان الله والثواب العظيم من الله.
وكان من رأى خالد مدافعتهم، وأن يؤخر القتال إلى صلاة الظهر، عند مهب الأرواح، وتلك الساعة التى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يستحب القتال فيها، فأعجله الروم، فحملوا على المسلمين مرتين: من قبل الميمنة على معاذ بن جبل، ومن قبل الميسرة على(2/203)
سعيد بن عامر، فلم يتخلخل أحد منهم، ورموا المسلمين بالنشاب، فنادى سعيد بن زيد، وكان من أشد الناس: يا خالد علام تستهدف هؤلاء الأعلاج؟ وقد رشقونا بالنشاب حتى شمست الخيل، فقال خالد للمسلمين: احملوا رحمكم الله على اسم الله، فحمل خالد والناس بأجمعهم، فما واقفوهم فواقا، وهزمهم الله، فقتلهم المسلمون كيف شاؤا، وأصابوا عسكرهم وما فيه.
وأصابت إبان بن سعيد بن العاص نشابة، فنزعها وعصبها بعمامته، فحمله إخوته، فقال: لا تنزعوا عمامتى عن جرحى فلو قد نزعتموها تبعتها نفسى، أما والله ما أحب أنها بحجر من جبل الحمر، وهو جبل السماق، فمات منها، يرحمه الله.
وأبلى يومئذ بلاء حسنا، وقاتل قتالا شديدا عظم فيه غناؤه، وعرف به مكانه، وكان قد تزوج أم أبان بنت عتبة بن ربيعة، وبنى عليها، فباتت عنده الليلة التى زحفوا للعدو فى غدها، فأصيب، فقالت أم أبان هذه لما مات: ما كان أغنانى عن ليلة أبان.
وقتل اليعبوب بن عمرو بن ضريس المشجعى يومئذ، سبعة من المشركين، وكان شديدا جليدا، فطعن طعنة كان يرجى أن يبرأ منها، فمكث أربعة أيام أو خمسة ثم انتقضت به فاستأذن أبا عبيدة أن يأذن له إلى أهله، فإن يبرأ رجع إليهم، فأذن له، فرجع إلى أهله بالعمر، عمر المدائن، فمات، يرحمه الله، فدفن هنالك.
وقتل مسلمة بن هشام المخزومى، ونعيم بن عدى بن صخر العدوى، وهشام بن العاص السهمى، أخو عمرو بن العاص، وهبار بن سفيان، وعبد الله بن عمرو بن الطفيل الدوسى، وهو ابن ذى النور، وكان من فرسان المسلمين، فقتلوا يومئذ، يرحمهم الله.
وقتل المسلمون فى المعركة منهم ثلاثة آلاف، وأتبعوهم يأسرونهم ويقتلونهم، فخرج فل الروم بإيلياء وقيسارية ودمشق وحمص فتحصنوا فى المدائن العظام.
وكتب خالد إلى أبى بكر: لعبد الله أبى بكر الصديق، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من خالد بن الوليد، سيف الله المصبوب على المشركين، سلام عليك، فإنى أخبرك أيها الصديق أنا التقينا نحن والمشركين وقد جمعوا لنا جموعا بأجنادين، وقد رفعوا صلبهم، ونشروا كتبهم، وتقاسموا بالله لا يفروا حتى يفنونا أو يخرجونا من بلادهم، فخرجنا إليهم واثقين بالله متوكلين على الله، فطاعناهم بالرماح شيئا، ثم صرنا إلى السيوف فقارعناهم بها مقدار جزر جزور، ثم إن الله أنزل نصره وأنجز وعده وهزم الكافرين، فقتلناهم فى كل فج وشعب وحائط، فالحمد لله على إعزاز دينه وإذلال عدوه وحسن الصنع لأوليائه، والسلام عليك ورحمة الله.(2/204)
وبعث خالد بكتابه هذا مع عبد الرحمن بن حنبل الجمحى، فلما قرئ على أبى بكر وهو مريض مرضه الذى توفاه الله فيه أعجبه ذلك، وقال: الحمد لله الذى نصر المسلمين، وأقر عينى بذلك.
قال سهل بن سعد: وكانت وقعة أجنادين هذه أول وقعة عظيمة كانت بالشام، كانت سنة ثلاث عشرة، فى جمادى الأولى لليلتين بقيتا منه، يوم السبت نصف النهار، قبل وفاة أبى بكر رضى الله عنه، بأربع وعشرين ليلة.
وذكر الطبرى «1» عن ابن إسحاق أن الذى كان على الروم تذارق أخو هرقل لأبيه وأمه، ثم ذكر عنه، عن عروة بن الزبير، أنه قال: كان على الروم رجل منهم يقال له:
القبقلار، وكان هرقل استخلفه على أمراء الشام حين سار إلى القسطنطينية، وإليه انصرف تذارق ومن معه من الروم.
قال ابن إسحاق: فأما علماء أهل الشام فيزعمون أنه إنما كان على الروم تذارق، فالله أعلم.
وعنه قال: لما تدانى العسكران بعث القبقلار رجلا عربيا، فقال له: ادخل فى هؤلاء القوم فأقم فيهم يوما وليلة ثم ائتنى بخبرهم. فدخل فى الناس رجل عربى لا ينكر، فأقام فيهم يوما وليلة، ثم أتاه فقال له: مه ما وراءك؟ قال: بالليل رهبان وبالنهار فرسان، ولو سرق ابن ملكهم قطعوا يده، ولو زنى لرجم، لإقامة الحق فيهم، فقال له القبقلار: لئن كنت صدقتنى لبطن الأرض خير من لقاء هؤلاء على ظهرها، ولوددت أن حظى من الله أن يخلى بينى وبينهم، فلا ينصرنى عليهم ولا ينصرهم على.
ثم تزاحف الناس، فاقتتلوا، فلما رأى القبقلار ما رأى من قتالهم قال للروم: لفوا رأسى بثوب، قالوا له: لم؟ قال: هذا يوم بئيس، ما أحب أن أراه، ما رأيت من الدنيا يوما أشد من هذا. قال: فاحتز المسلمون رأسه، وإنه لملفف.
وعن غير ابن إسحاق قال: ثم إن خالد بن الوليد أمر الناس أن يسيروا إلى دمشق، وأقبل بهم حتى نزلوها، وقصد إلى ديره الذى كان ينزل به، فنزله وهو من دمشق على ميل مما يلى باب الشرقى، وبخالد يعرف ذلك الدير إلى اليوم، وجاء أبو عبيدة حتى نزل على باب الجابية، ونزل يزيد بن أبى سفيان على جانب آخر من دمشق وأحاطوا بها، وحاصروا أهلها حصارا شديدا.
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 417) .(2/205)
وقدم عبد الرحمن بن حنبل من عند أبى بكر بكتابه إلى خالد، وأتى يزيد بن أبى سفيان ومعه كان يكون، فقال له يزيد: هل لقيت أبى؟ قال: نعم، قال: فهل سألك عنى؟ قال: نعم، قال: فما قلت له؟ قال: قلت له إن يزيد حازم الرأى، متواضع فى ولايته، بئيس البأس، محبب فى الإخوان، يبذل ما قدر عليه من فضله. فقال أبو سفيان:
كذلك ينبغى لمثله أن يكون، وطلب إلىّ أن أكتب إليه بما يكون من أمرنا، وأن أعلمه حالنا، فوعدته ذلك.
قال: فخرج خالد بالمسلمين ذات يوم، فأحاطوا بمدينة دمشق، ودنوا من أبوابها، فرماهم أهلها بالحجارة ورشقوهم من فوق السور بالنشاب، فقال ابن حنبل:
وأبلغ أبا سفيان عنا فإننا ... على خير حال كان جيش يكونها
وأنا على بابى دمشقة نرتمى ... وقد حان من بابى دمشقة حينها
وقعة مرج الصفر
«1» قال: فإن المسلمين لكذلك يقاتلونهم ويرجون فتح مدينتهم إذ أتاهم آت فأخبرهم أن هذا جيش قد جاءكم من قبل ملك الروم، فنهض خالد بالناس على تعبئته وهيئته، فقدم الأثقال والنساء، وخرج معهن يزيد بن أبى سفيان، ووقف خالد وأبو عبيدة من وراء الناس، ثم أقبلوا نحو ذلك الجيش، فإذا هو درنجار بعثه ملك الروم فى خمسة آلاف رجل من أهل القوة والشدة ليغيث أهل دمشق، فصمد المسلمون صمدهم، وخرج إليهم أهل القوة من أهل دمشق، وناس كثير من أهل حمص، فالقوم نحو من خمسة عشر ألفا، فلما نظر إليهم خالد عبأ أصحابه كتعبئته يوم أجنادين، فجعل على ميمنته معاذ بن جبل، وعلى ميسرته هاشم بن عتبة، وعلى الخيل سعيد بن زيد، وأبا عبيدة على الرجال.
وذهب خالد فوقف فى أول الصف يريد أن يحرض الناس، ثم نظر إلى الصف من أوله إلى آخره حتى حملت خيل لهم على خالد بن سعيد، وكان واقفا فى جماعة من المسلمين فى ميمنة الناس يدعون الله، ويقص عليهم، فحملت طائفة منهم عليه، فقاتلهم حتى قتل رحمه الله، وحمل عليهم معاذ بن جبل من الميمنة فهزمهم، وحمل عليهم خالد
__________
(1) مرج الصفر: بالشام، به كانت وقعة للمسلمين على نصارى الشام بعد وقعة أجنادين وكان بين الوقعتين عشرون يوما وكان ذلك قبل وفاة أبى بكر رضى الله عنه بأربعة أيام. انظر: الروض المعطار (535) .(2/206)
ابن الوليد من الميسرة فهزم من يليه منهم، وحمل سعيد بن زيد بالخيل على عظم جمعهم، فهزمهم الله وقتلهم، واجتث عسكرهم، ورجع الناس، وقد ظفروا وقتلوهم كل قتلة، وذهب المشركون على وجههم، فمنهم من دخل مدينة دمشق مع أهلها، ومنهم من رجع إلى حمص، ومنهم من لحق بقيصر.
وعن عمرو بن محصن: أن قتلاهم يومئذ وهو يوم مرج الصفر كانت خمسمائة فى المعركة، وقد تلوا وأسروا نحوا من خمسمائة أخرى.
وقال أبو أمامة فيما رواه عنه يزيد بن يزيد بن جابر: كان بين أجنادين وبين يوم مرج الصفر عشرون يوما. قال: فحسبت ذلك فوجدته يوم الخميس لاثنتى عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة، قبل وفاة أبى بكر رضى الله عنه، بأربعة أيام.
ثم إن الناس أقبلوا عودهم على بدئهم حتى نزلوا دمشق، فحاصروا أهلها وضيقوا عليهم، وعجز أهلها عن قتال المسلمين، ونزل خالد منزله الذى كان ينزل به على باب الشرقى، ونزل أبو عبيدة منزله على باب الجابية، ونزل يزيد بن أبى سفيان جانبا آخر، فكان المسلمون يغيرون، فكلما أصاب رجل نفلا جاء بنفله حتى يلقيه فى القبض، لا يستحل أن يأخذ منه قليلا ولا كثيرا، حتى إن الرجل منهم ليجىء بالكبة الغزل أو بالكبة الصوف أو الشعر أو المسلمة أو الإبرة فيلقيها فى القبض، لا يستحل أن يأخذها، فسأل صاحب دمشق بعض عيونه عن أعمالهم وسيرتهم، فوصفهم له بهذه الصفة فى الأمانة، ووصفهم بالصلاة بالليل وطول القيام، فقال: هؤلاء رهبان بالليل أسد بالنهار، لا والله ما لى بهؤلاء طاقة، وما لى فى قتالهم خير.
قال: فراود المسلمين على الصلح، فأخذ لا يعطيهم ما يرضيهم، ولا يبايعونه على ما يسأل، وهو فى ذلك لا يمنعه من الصلح والفراغ إلا أنه قد بلغه أن قيصر يجمع الجموع للمسلمين، يريد غزوهم، فكان ذلك مما يمنعه من تعجيل الصلح.
وعلى تعبئة ذلك بلغ المسلمين الخبر بوفاة أبى بكر الصديق رضى الله عنه، واستخلافه عمر رضى الله عنهما، وما تبع ذلك من صرف خالد بأبى عبيدة، حسبما يأتى تفصيله وبيانه إن شاء الله تعالى.(2/207)
ذكر الخبر عن وفاة أبى بكر الصديق رضى الله عنه، وما كان من عهده إلى عمر بن الخطاب، جزاهما الله عن دينه الحق أفضل الجزاء
«1» قد تقدم فى بدء الردة، وذكر خلافة أبى بكر رضى الله عنه، من هذا الكتاب ما دل على ولاية عمر بعده، من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كالذى يروى عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: رأى الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله صلى الله عليه وسلم، ونيط عمر بأبى بكر، ونيط عثمان بعمر، قال جابر فلما قمنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: أما الرجل الصالح فرسول الله صلى الله عليه وسلم وأما ما ذكر من نوط بعضهم ببعض، فهم ولاة هذا الأمر الذى بعث الله به نبيه.
وعن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينما أنا نائم رأيتنى على قليب عليها دلو، فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبى قحافة، فنزع منها ذنوبا، أو ذنوبين، وفى نزعه والله يغفر له ضعف، ثم استحالت غربا، فأخذها ابن الخطاب، فلم أر عبقريا من الناس ينزع نزع عمر بن الخطاب، حتى ضرب الناس بعطن» «2» .
واختلف أهل العلم فى السبب الذى توفى منه أبو بكر، فذكر الواقدى أنه اغتسل فى يوم بارد فحم ومرض خمسة عشر يوما. وقال الزبير بن بكار: كان به طرف من السل.
وقال غيره: أن أصل ابتداء ذلك السل به الوجد على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قبضه الله إليه، فما زال ذلك به حتى قضى منه.
وروى عن سلام بن أبى مطيع أنه رضى الله عنه، سم. وبعض من ذكر ذلك يقول:
أن اليهود سمته فى أرزة، وقيل فى حريرة، فمات بعد سنة. وقيل له: لو أرسلت إلى الطبيب، فقال: قد رآنى، قالوا: فما قال لك؟ قال: قال: إنى أفعل ما أريد «3» .
__________
(1) راجع الخبر فى: المنتظم لابن الجوزى (4/ 129) ، تاريخ الطبرى (3/ 419) ، طبقات ابن سعد (3/ 1/ 140) .
(2) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (5/ 7، 9/ 45، 49، 171) ، صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة (17) ، السنن الكبرى للبيهقى (8/ 153) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 19، 12/ 414) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (6031) ، شرح السنة للبغوى (14/ 89) ، البداية والنهاية لابن كثير (6/ 226) ، كنز العمال للمتقى الهندى (3273) ، دلائل النبوة للبيهقى (6/ 344) ، السنة لابن أبى عاصم (14/ 89) .
(3) راجع ما ذكره ابن الجوزى فى المنتظم (4/ 129) .(2/208)
وكذلك اختلفوا فى حين وفاته، فقال ابن إسحاق: توفى يوم الجمعة لسبع ليال بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة. وقال غيره من أهل السير: إنه مات عشى يوم الاثنين، وقيل ليلة الثلاثاء وقيل: عشى الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة، وهذا هو الأكثر فى وفاته «1» .
وأوصى أن تغسله زوجه أسماء بنت عميس، فغسلته، وصلى عليه عمر بن الخطاب فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمل على السرير الذى حمل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل فى قبره عمر وعثمان وطلحة وابنه عبد الرحمن بن أبى بكر، ودفن ليلا فى بيت عائشة مع النبى صلى الله عليه وسلم، وجعل رأسه عند كتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وألصقوا لحده بلحده، وجعل قبره مسطحا مثل قبر النبى صلى الله عليه وسلم ورش عليه بالماء.
ولا يختلفون فى أنه توفى ابن ثلاث وستين سنة، وأنه استوفى بخلافته بعد الرسول صلوات الله عليه، سن رسول الله صلى الله عليه وسلم التى توفاه الله لها «2» .
ويروى أنه رضى الله عنه، لما احتضر، وابنته عائشة حاضرة، فأنشدت رضى الله عنها «3» :
لعمرك ما يغنى الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
رفع إليها رأسه وقال: لا تقولى هذا يا بنية، أو: ليس هكذا يا بنية، ولكن قولى:
«وجاءت سكرة [الحق بالموت] ذلك ما كنت منه تحيد» «4» ، هكذا قرأها أبو بكر رضى الله عنه.
وقالوا: كان آخر ما تكلم به: رب توفنى مسلما، وألحقنى بالصالحين.
وقال أبو بكر رضى الله عنه، لعائشة رضى الله عنها، وهو مريض: فى كم كفن
__________
(1) راجع المنتظم لابن الجوزى (4/ 130) ، تاريخ الطبرى (3/ 421) .
(2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 421) .
(3) انظر الأبيات فى: العقد الفريد (5/ 19) ، وهذا البيت لحاتم الطائى، راجع ديوانه ص (51) .
(4) ما بين المعقوفتين ورد فى بعض الأصول: «الموت بالحق» وهذا هو المشهور فى القراآت السبع، وقول المصنف هكذا قرأها أبو بكر، يوضح أن أبا بكر قرأها باختلاف عن المشهور، وكذلك أيضا قرأ بها سعيد بن جبير وطلحة وعبد الله بن مسعود، وشعبة، وأبى عمران. انظر: الطبرى (26/ 100) ، الفراء (3/ 78) ، الكشاف (4/ 7) ، القرطبى (17/ 12) ، النحاس (3/ 217) ، مجمع البيان (9/ 143) ، زاد المسير (7/ 194) ، المحتسب (5/ 337- 338) .(2/209)
رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: فى ثلاثة أثواب بيض سحولية. فقال أبو بكر: خذوا هذا الثوب، لثوب عليه قد أصابه مشق أو زعفران فاغسلوه، ثم كفنونى فيه مع ثوبين آخرين. فقالت عائشة: وما هذا؟ فقال أبو بكر: الحى أحوج إلى الجديد من الميت، وإنما هذا للمهلة.
ولما توفى أبو بكر رحمه الله، ارتجت المدينة بالبكاء، ودهش القوم كيوم قبض النبى صلى الله عليه وسلم فأقبل على بن أبى طالب رضى الله عنه، مسرعا باكيا مسترجعا، حتى وقف على باب البيت الذى فيه أبو بكر، وقد سجى بثوب، فقال: رحمك الله يا أبا بكر، كنت أول القوم إسلاما، وأخلصهم إيمانا، وأشدهم يقينا، وأخوفهم لله عز وجل، وأعظمهم غناء، وأحدبهم على الإسلام، وأيمنهم على أصحابه، وأحسنهم صحبة وأفضلهم مناقب، وأكثرهم سوابق، وأرفعهم درجة، وأقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشبههم به هديا وخلقا وسمتا وفعلا، وأشرفهم منزلة، وأكرمهم عليه، وأوثقهم عند الله، فجزاك الله عن الإسلام وعن رسوله والمسلمين خيرا، صدقت رسول الله حين كذبه الناس، فسماك الله فى كتابه صديقا.
فقال: والذى جاء بالصدق محمد، وصدق به أبو بكر، وآسيته حين بخلوا، وقمت معه حين عنه قعدوا، وصحبته فى الشدة أكرم الصحبة، ثانى اثنين، وصاحبه فى الغار، والمنزل عليه السكينة، ورفيقه فى الهجرة ومواطن الكريهة، ثم خلفته فى أمته أحسن الخلافة حين ارتد الناس، وقمت بدين الله قياما لم يقم به خليفة نبى قط، قويت حين ضعف أصحابك، وبدرت حين استكانوا، ونهضت حين وهنوا، ولزمت منهاج رسوله إذ هم أصحابه، كنت خليفته حقا، لم تنازع ولم تضرع برغم المنافقين وصغر الفاسقين وغيظ الكافرين وكره الحاسدين، فقمت بالأمر حين فشلوا، ونطقت حين تتعتعوا، ومضيت بنور الله إذ وقفوا، فاتبعوك، فهدوا، وكنت أخفضهم صوتا، وأعلاهم فوقا، وأقلهم كلاما، وأصوبهم منطقا، وأطولهم صمتا، وأبلغهم قولا، وكنت أكبرهم رأيا، وأشجعهم قلبا، وأحسنهم عملا، وأعرفهم بالأمور، كنت والله للدين يعسوبا أولا حين تفرق عنه الناس، وآخرا حين أقبلوا، كنت للمؤمنين أبا رحيما إذ صاروا عليك عيالا، فحملت أثقال ما عنه ضعفوا، وحفظت ما ضيعوا، ورعيت ما أهملوا، وشمرت إذ خنعوا، وعلوت إذ هلعوا، وصبرت إذ جزعوا، فأدركت أوتار ما طلبوا ونالوا بك ما لم يحتسبوا، كنت على الكافرين عذابا صبا، وكنت للمسلمين غيثا وخصبا، فطرت والله بغنائها، وفزت بحبابها، وذهبت بفضائلها، وأحرزت سوابقها، لم تفلل حجتك، ولم(2/210)
يزغ قلبك، ولم تضعف بصيرتك، ولم تجبن نفسك، ولم تخن، كنت كالجبل الذى لا تحركه العواصف، ولا تزيله القواصف، كنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمن الناس عليه فى صحبتك وذات يدك، وكما قال: ضعيفا فى بدنك قويا فى أمر الله تعالى متواضعا فى نفسك، عظيما عند الله، جليلا فى الأرض، كبيرا عند المؤمنين، لم يكن لأحد فيك مهمز، ولا لقائل فيك مغمز، ولا لأحد فيك مطمع، ولا عندك هوادة لأحد، الضعيف الذليل عندك قوى عزيز حتى تأخذ له بحقه، والقوى العزيز عندك ضعيف ذليل حتى تأخذ منه الحق، القريب والبعيد عندك فى ذلك سواء، شأنك الحق والصدق والرفق، وقولك حكم وحتم، ورأيك علم وعرف، فأقلعت وقد نهج السبيل، وسهل العسير، وأطفئت النيران، واعتدل بك الدين، وقوى الإيمان، وظهر أمر الله ولو كره الكافرون، فسبقت والله سبقا بعيدا، وأتعبت من بعدك إتعابا شديدا، وفزت بالحق فوزا مبينا، فجللت عن البكاء، وعظمت رزيتك فى السماء، وهدت مصيبتك الأنام، فإنا لله وإنا إليه راجعون، رضينا عن الله قضاءه، وسلمنا لله أمره، ولن يصاب المسلمون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثلك أبدا، كنت للدين عزا وكهفا، وللمؤمنين حصنا وفئة وأنسا، وعلى المنافقين غلظة وغيظا وكظما، فألحقك الله بميتة نبيك صلى الله عليه وسلم ولا حرمنا أجرك، ولا أضلنا بعدك، فإنا لله، وإنا إليه راجعون «1» .
وأنصت الناس حتى قضى كلامه، ثم بكى وبكوا، قوالوا: صدقت يابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) انظر الخطبة فى: العقد الفريد (5/ 19- 20) .(2/211)
استخلاف عمر بن الخطاب
«1» وتقلد أمر الأمة وخلافة المسلمين بعد أبى بكر صاحبه ورفيقه وظهيره ووزيره عمر ابن الخطاب رضى الله عنهما، بعهد أبى بكر إليه بذلك، واستخلافه إياه عليه، نظرا للدين، ونصيحة لله وللأمة، وذلك لما استعز بأبى بكر رضى الله عنه، وجعه، وثقل، أرسل إلى عثمان وعلى ورجال من أهل السابقة والفضل من المهاجرين والأنصار، فقال:
قد حضر ما ترون، ولا بد من قائم بأمركم يجمع فئتكم ويمنع ظالمكم من الظلم، ويرد على الضعيف حقه، فإن شئتم اخترتم لأنفسكم، وإن شئتم جعلتم ذلك إلىّ، فو الله لا آلوكم ونفسى خيرا. قالوا: قد رضينا من اخترت لنا، قال: فقد اخترت عمر، وقال لعثمان: اكتب: هذا ما عهد أبو بكر فى آخر عهده بالدنيا خارجا منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلا فيها، حين يتوب الفاجر ويؤمن الكافر ويصدق الكاذب، عهد أنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن وعد الله حق وصدق المرسلون، وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاتم النبيين صلى الله عليه وعلى أنبيائه ورسله، وقد استخلفت.
ولما انتهى أبو بكر إلى هذا الموضع ضعف ورهقته غشية، فكتب عثمان: وقد استخلفت عمر بن الخطاب، وأمسك، حتى أفاق أبو بكر فقال: أكتبت شيئا؟ قال: نعم، كتبت عمر بن الخطاب، فقال: رحمك الله، أما لو كتبت نفسك لكنت لها أهلا، فاكتب: قد استخلفت عمر بن الخطاب بعدى عليكم، ورضيته لكم، فإن عدل فذلك ظنى به، ورأيى فيه، وذلك أردت، وما توفيقى إلا بالله، وإن بدل فلكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت، والخير أردت، ولا أعلم الغيب، وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون.
والتوى عمر رضى الله عنه، على أبى بكر رحمه الله، فى قبول عهده، وقال: لا أطيق القيام بأمر الناس، فقال أبو بكر لابنه عبد الرحمن: ارفعنى وناولنى السيف، فقال عمر:
أو تعفينى؟ قال: لا، فعند ذلك قبل.
ذكر هذا كله أبو الحسن المدائنى، وذكر بإسناد له عن أبى هريرة وغيره أنه لما عهد أبو بكر إلى عمر عهده قال له: يا عمر، إن لله حقا فى الليل لا يقبله فى النهار، وحقا فى النهار لا يقبله فى الليل، ولا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة، وإنه يا عمر إنما ثقلت
__________
(1) راجع: المنتظم لابن الجوزى (4/ 131) .(2/212)
موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق وخفته عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلا، وإنه يا عمر إنما خفت موازين من خفت موازينهم يوم القيامة باتباعهم الباطل، وخفته عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه يوم القيامة إلا الباطل أن يكون خفيفا، ألم تر أنه نزلت آية الرخاء مع آية الشدة، وآية الشدة مع آية الرخاء، ليكون المؤمن راغبا راهبا، فلا يرغب رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له، ولا يرهب رهبة يلقى فيها بيده إلى التهلكة، ألم تر يا عمر أن الله ذكر أهل النار بسئ أعمالهم، لأنه رد عليهم ما كان لهم من حسن، فإذا ذكرتهم قلت: إنى لأخشى أن أكون منهم.
وفى رواية: عوضا من هذا، فيقول قائل: أنا خير منهم، فيطمع، وذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم، لأنه تجاوز لهم عما كان من سىء، فإذا ذكرتهم قلت: إنى مقصر، أين عملى من أعمالهم، وفى رواية: عوضا من هذا، فيقول قائل: من أين أدرك درجتهم، ليجتهد، فإن حفظت وصيتى يا عمر، فلا يكونن غائب أحب إليك من الموت، وهو نازل بك، وإن ضيعت وصيتى فلا يكونن غائب أكره لك من الموت، ولست بمعجزه.
وعن أسماء بنت عميس قالت: لما أحس أبو بكر بنفسه أرسل إلى عمر، فقال له: يا عمر إنى قد وليتك ما وليتك، وقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيت عمله، وأثرته أنفسكم على نفسه، وأهلكم على أهله، حتى إن كنا لنظل نهدى إليه من فضل ما يأتينا من قبله، وصحبتنى ورأيتنى وإنما اتبعت أثر من كان قبلى، والله ما نمت فحملت، ولا شبهت فتوهمت، وإنى لعلى السبيل ما زغت، وإن أول ما أحذرك نفسك، فإن لكل نفس شهوة، فإذا أعطيتها شهوتها تمادت فيها ورغبت فى غيرها.
وفى حديث غير هذا: وخذ هذه اللقحة فإنها من إبل الصدقة، احتبستها للرسل إذا قدموا يصيبوا من رسلها، وخذ هذا البرد فإنى كنت أتجمل به للوفود، وخذ هذا السقاء وهذه العلبة فإنها من متاع إبل الصدقة، وعلىّ ثمانية آلاف درهم، ويقال: قال: ستة آلاف أخذتها للرسل، ولمن كان يغشانا، فأدها من مالى.
فخرج عمر متأبطا البرد، وقد حمل السقاء والعلبة، يقود اللحقة، يبكى ويقول: يرحم الله أبا بكر، لقد أتعب من بعده.
ومات أبو بكر رحمه الله، ودفن ليلا، فلما أصبح عمر بعثت إليه عائشة بناضح وعبد حبشى كان يسقى لآل أبى بكر على ذلك الناضح، وقطيفة. فقبض عمر ذلك، فقال له عبد الرحمن بن عوف: سبحان الله، تسلب عيال أبى بكر ناضحا وعبدا أسود كان(2/213)
ينفعهم، وقطيفة قيمتها خمسة دراهم؟ قال: فما ترى؟ قال: ترده عليهم، قال: لا ورب الكعبة، لا يكون ذلك وأنا حى، يخرج منه أبو بكر وأرده أنا على عياله «1» .
وعن المسور بن مخرمة أو علقمة بن أبى الفغواء الخزاعى قال: أرسل أبو بكر إلى عمر وهو مريض، فأتاه، فقال: يا عمر، إنى كنت أرى الرأى فتشير علىّ بخلافه، فأتهم نفسى لك، ألا إنى قد عصيتك فى استعمال شرحبيل بن حسنة، وقلت: أخاف ضعفه، فقلت لك: قد كان له فى الإسلام نصيب، وقد أحببت أن أبلوه، فإن رأيت ما أحب أثبته، وإن بلغنى عنه ضعف استبدلت به، فلا عليك أن تقره على عمله، وكنت تنهانى عن يزيد بن أبى سفيان، فقلت لك: إن له موضعا فى قريش، ونشأ بخير، وكان فيه، وقد أحببت أن أقيم له شرفه، فلا عليك أن تقره على عمله، ورجل لم أوصك بمثله ولا أراك فاعلا، قال: تريد خالدا؟ قال: أريده.
فقال عمر: أما شرحبيل بن حسنة فقد كنت أشير عليك أن لا تبعثه، وخفت ضعفه، وأمرتك أن تبعث مكانه عمار بن ياسر، ولم يبلغنا عنه إلا خير، ولست عازله إلا أن يبلغنى عنه ما لا أستحل معه تركه، وأما يزيد فقلت لك: غلام حديث السن لا سابقة له، ابعث مكانه سعد بن أبى وقاص، فلم يكن فى أمره إلا خير، ولا أعزله إلا أن يبلغنى عنه ما لا أستحل معه تركه. وأما خالد، فو الله ما أعدك فى أمره بما لا أفعل ولا أبدأ بأول من عزله، وما كنت أرى لك أن تجعل مع أبى عبيدة ضدا، وقد عرفت فضل أبى عبيدة.
فقال أبو بكر: أما أنى قد رأيت أبا عبيدة فى مرضى هذا آخذا بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعه، ولنعم المتبع، ورأيتنى آخذا بثوب أبى عبيدة، ولنعم المتقدم، ثم سمعت خسفا ورائى، فالتفت فإذا أنت وإذا الظلمة، فاستلحقتك وما أبالى إذا لحقت بمن تخلف، فكأنى أسمع وقع نعليك، حتى أخذت بثوبى والتفت، فإذا نفر يخرجون من الظلمة يزدحمون، فالنجاء، النجاء يا عمر.
وكانت من جماعة من المهاجرين موافقة لأبى بكر فى استخلاف عمر ليس إلا، لما كانوا يعرفون من غلظته، فيقول أبو بكر: هو والله إن شاء الله خيركم. وقال لبعضهم:
إنى أرى ما لا ترون، ولو قد أفضى إليه أمركم لترك كثيرا مما ترون، إنى رمقته، فإذا أغلظت فى أمر أرانى التسهيل، وإذا لنت فى أمر تشدد فيه.
__________
(1) انظر ما ذكره ابن قتيبة فى المعارف ص (171) .(2/214)
وقال له طلحة والزبير: ما أنت قائل لربك إذ وليته مع غلظته؟ قال: ساندونى، فأجلسوه، فقال: أبالله تخوفوننى، أقول: استعملت عليهم خير أهلك وحلفت، ما تركت أحدا أشد حبا له من عمر، ستعلمون إذا فارقتموه وتنافستموها.
ودخل عثمان وعلى فأخبرهما أبو بكر، فقال عثمان: علمى به أنه يخاف الله فوله، فما فينا مثله، وقال على: يا خليفة رسول الله امض لرأيك، فما نعلم إلا خيرا، وخرجنا ودخل عمر، فقال أبو بكر: كرهك كاره، وأحبك محب. قال: لا حاجة لى بها، قال:
اسكت، إنى ميت من مرضى هذا، إنى رأيت بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنى فقت ثلاث فوقات، فدسعت فى الآخرة طعاما، فمرضت به مرضتين، وهذه الثالثة، فأنا ميت، وإياك والأثرة على الناس، وإياك والذخيرة فإن ذخيرة الإمام تهلك دينه.
ولما توفى أبو بكر رحمه الله، كتب عمر رضى الله عنه، إلى أبى عبيدة: أما بعد، فإن أبا بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم توفى، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ورحمة الله على أبى بكر، القائل بالحق، والآمر بالقسط، والآخذ بالعرف، البر الشيم، السهل القريب، وأنا أرغب إلى الله فى العصمة برحمته، والعمل بطاعته، والحلول فى جنته، إنه على كل شىء قدير، والسلام عليك ورحمة الله «1» .
وجاء بالكتاب يرفأ حتى أتى أبا عبيدة، فقرأه فلم يسمع من أبى عبيدة حين قرأه شىء ينتفع به مقيم ولا ظاعن، ودعا أبو عبيدة معاذ بن جبل فأقرأه الكتاب، فالتفت معاذ إلى الرسول فقال: رحمة الله على أبى بكر، ويح غيرك، ما فعل المسلمون؟ قال:
استخلف أبو بكر، عمر، فقال معاذ: الحمد لله، وفقوا وأصابوا، فقال أبو عبيدة: ما منعنى من مسألته منذ قرأت الكتاب حتى دعوتك لقراءته إلا مخافة أن يستقبلنى فيخبرنى أن الوالى غير عمر. فقال له الرسول: يا أبا عبيدة، إن عمر يقول لك: أخبرنى عن حال الناس، وأخبرنى عن خالد بن الوليد، أى رجل هو؟ وأخبرنى عن يزيد بن أبى سفيان، وعمرو بن العاص، كيف هما فى حالهما ونصيحتهما للمسلمين؟ فقال أبو عبيدة: أما خالد فخير أمير، أنصحه لأهل الإسلام، وأحسنه نظرا لهم، وأشده على عدوهم من الكفار، ويزيد وعمرو فى نصيحتهما وجدهما كما يحب عمر ونحب، قال: فأخبرنى عن أخويك: سعيد بن زيد، ومعاذ بن جبل. قال: قل له هما كما عهدت، إلا أن تكون السن زادتهما فى الدنيا زهادة، وفى الآخرة رغبة.
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام للأزدى ص (98) .(2/215)
قال: ثم إن الرسول وثب لينصرف فقالا له: سبحان الله، انتظر نكتب معك. فكتب:
بسم الله الرحمن الرحيم من أبى عبيدة بن الحراج ومعاذ بن جبل إلى عمر بن الخطاب، سلام عليك، فإنا نحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد، فإنا عهدناك وأمر نفسك لك مهم، فأصبحت قد وليت أمر هذه الأمة أحمرها وأسودها يجلس بين يديك، الشريف والوضيع، والعدو والصديق، والضعيف والشديد، ولكل حصته من العدل، فانظر كيف تكون عند ذلك يا عمر، إنا نذكرك يوما تبلى فيه السرائر، وتكشف فيه العورات، وتنقطع فيه الحجج، وتزاح فيه العلل، وتجب فيه القلوب، وتعنو فيه الوجوه لعزة ملك قهرهم بجبروته، فالناس له داخرون، ينتظرون قضاءه، ويخافون عقابه، ويرجون رحمته.
وإنا كنا نتحدث على عهد نبينا صلى الله عليه وسلم أنه سيكون فى آخر الزمان ويروى: فى هذه الأمة، رجال يكونون إخوان العلانية أعداء السريرة، وإنا نعوذ بالله أن ينزل كتابنا منك بغير المنزلة التى هو بها من أنفسنا، والسلام.
فمضى الرسول بهذا الكتاب، وقال أبو عبيدة لمعاذ: والله ما أمرنا عمر أن نظهر وفاة أبى بكر للناس، ولا ننعاه إليهم، فما أرى أن نذكر من ذلك شيئا دون أن يكون هو يذكره. فقال له معاذ: فإنك نعم ما رأيت. فسكتا، فلم يذكرا للناس شيئا، ولم يلبثا إلا مقدار ما قدم رسول عمر إليه حتى بعث إليهما بجواب كتابهما، وبعهد أبى عبيدة، وأمره بعظة الناس. وكان جوابه عن كتابهما: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين، إلى أبى عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل، سلام عليكما، فإنى أحمد إليكما الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد. فإنى أوصيكما بتقوى الله، فإنه رضاء ربكما وحفظ أنفسكما، وغنيمة الأكياس لأنفسهم عند تفريط العجزة، وقد بلغنى كتابكما تذكران أنكما عهدتمانى وأمر نفسى إلىّ مهم، وما يدريكما؟ وكتبتما تذكران أنى وليت أمر هذه الأمة، يقعد بين يدى العدو والصديق، والقوى والضعيف، ولكل علىّ حصته من العدل، وتسألانى: كيف بى عند ذلك؟ وإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وكتبتما تخوفانى بيوم هو آت، يوم تحبب فيه القلوب، وتعنوا فيه الوجوه، وتنقطع فيه الحجج، وتزيح فيه العلل، لعزة ملك قهرهم بجبروته، فالخلق له داخرون، ينتظرون قضاءه ويخافون عقابه، وكأن ذلك قد كان، هذا الليل والنهار، يبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد، ويأتيان بكل موعود، حتى يكون الناس بأعمالهم فريقا فى الجنة وفريقا فى السعير، وكتبتما تذكران أنكما كنتما تحدثان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيكون فى آخر الزمان إخوان العلانية أعداء السريرة، وأن هذا ليس بزمان ذلك، ولا أنتم أولئك، وإنما ذلكم إذا ظهرت الرغبة(2/216)
والرهبة، وإذا كانت رغبة الناس بعضهم إلى بعض، ورهبة بعضهم من بعض فى صلاح دنياهم، وكتبتما تعوذان بالله من أن أنزل كتابكما من قلبى سوى المكان الذى تنزلانه من قلوبكما، فإنكما كتبتما لى نظرا لى، وقد صدقتما، ولا غنى بى عن كتابكما، فتعاهدانى بكتبكما، والسلام.
وذكر المدائنى وغيره عن صالح بن كيسان، قال: أول كتاب كتبه عمر حين ولى إلى أبى عبيدة يوليه على جند خالد بن الوليد: أوصيك بتقوى الله الذى يبقى ويفنى ما سواه، الذى هدانا من الضلالة، وأخرجنا من الظلمات إلى النور. وقد استعملتك على جند خالد بن الوليد، فقم بأمرهم الذى يحق لله عليك، لا تقدم المسلمين إلى هلكة رجاء غنيمة، ولا تنزلهم منزلا قبل أن تستريده لهم، وتعلم كيف مأتاه، ولا تبعث سرية إلا فى كثف من الناس، وإياك وإلقاء المسلمين فى الهلكة، وقد أبلاك الله وأبلى بك، فغمض بصرك عن الدنيا، وأله قلبك عنها، وإياك أن تهلكك كما أهلكت من كان قبلك، فقد رأيت مصارعهم «1» .
وعن عباس بن سهيل بن سعد قال: قدم شداد بن أوس بعهد أبى عبيدة، فدفعه إليه، وشداد شاك، فنزل مع أبى عبيدة ومعاذ بن جبل فى منزلهما وأمرهما واحد، فكانا يقومان إليه حتى تماثل، فمكث أبو عبيدة خمس عشرة ليلة يصلى خالد بالناس ويأمر بالأمر، وما يعلم أن أبا عبيدة الأمير، حتى جاء كتاب من عمر إلى أبى عبيدة، فكره أن يخفيه، وكان فى كتابه إليه: أما بعد، فإنك فى كنف من المسلمين، وعدد يكفى حصار دمشق، فابعث سراياك فى أرض حمص ودمشق وما سواهما من الشام، ولا يبعثنك قولى هذا على أن تعرى عسكرك فيطمع فيك عدوك، ولكن نظر برأيك فما استغنيت عنه منهم فسيرهم، وما احتجت إليه منهم فاحتبسهم عندك، وليكن فيمن تحتبس عندك خالد ابن الوليد، فإنه لا غنى بك عنه، والسلام.
فلما قرأ أبو عبيدة كتابه على الناس، قال خالد: يرحم الله أبا بكر، لو كان حيا ما عزلنى. وولى عمر فولى أبا عبيدة، فعافى الله أبا عبيدة، كيف لم يعلمنى بولايته علىّ ثم أتى أبا عبيدة، فقال له: رحمك الله، أنت الأمير والوالى علىّ ولا تعلمنى؟ وأنت تصلى خلفى والسلطان سلطانك. فقال له أبو عبيدة: ما كنت لأعلمك به أبدا حتى تعلمه من عند غيرى، وما سلطان الدنيا وإمارتها؟ فإن كل ما ترى يصير إلى زوال، وإنما نحن أخوان فإننا أمة إخوة أو أمر عليه لم يضره ذلك فى دينه ولا دنياه، بل لعل الوالى أن
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 434) ، المنتظم لابن الجوزى (4/ 235- 136) .(2/217)
يكون أقربهما إلى الفتنة، وأوقعهما بالخطيئة، إلا من عصم الله، وقليل ما هم.
ذكر الخبر عما صار إليه أمر دمشق من الفتح والصلح بعد طول الحصار فى خلافة عمر بن الخطاب، على نحو ما ذكره من ذلك أصحاب فتوح الشام
فتح دمشق «1» : قالوا: وتولى أبو عبيدة حصار دمشق، وولى خالدا القتال على الباب الذى كان عليه، وهو باب الشرقى، وولاه الخيل إذا كان يوم يجتمع فيه المسلمون للقتال، فحاصروا دمشق بعد مهلك أبى بكر رحمه الله، وولايته حولا كاملا، وأياما.
وكان أهلها قد بعثوا إلى قيصر وهو بأنطاكية: أن العرب قد حاصرتنا وضيقت علينا، وليس لنا بهم طاقة، وقد قاتلناهم مرارا، فعجزنا عنهم، فإن كان لك فينا وفى السلطان علينا حاجة فأمددنا وأغثنا وعجل علينا، فإنا فى ضيق وجهد، وإلا فقد أعذرنا، والقوم قد أعطونا الأمان، ورضوا منا من الجزية باليسير.
فأرسل إليهم: أن تمسكوا بحصنكم، وقاتلوا عدوكم، فإنكم إن صالحتموهم وفتحتم حصنكم لهم لم يفوا لكم، وأجبروكم على ترك دينكم، واقتسموكم بينهم، وأنا مسرح إليكم الجيوش فى أثر رسولى.
فانتظروا مدده وجيشه، فلما أبطأ عليهم وألح عليهم المسلمون بالتضييق وشدة الحصار، ورأوا أن المسلمين لا يزدادون كل يوم إلا قوة وكثرة بعثوا إلى أبى عبيدة يسألونه الصلح. وكان أبو عبيدة أحب إلى الروم وسكان الشام من خالد بن الوليد، وكان أن يكون كتاب الصلح من أبى عبيدة أحب إليهم، لأنه كان ألينهما وأشدهما منهم استماعا، وأقربهما منهم قربا، وكان قد بلغهم أنه أقدمهما هجرة وإسلاما، فكانت رسل صاحب دمشق: إنما تأتى أبا عبيدة وخالد ملح على الباب الذى يليه، فأرسل صاحب دمشق إلى أبى عبيدة فصالحه، وفتح له باب الجابية، وألح خالد على باب الشرقى ففتحه عنوة، فقال لأبى عبيدة: اقتلهم واسبهم، فإنى قد فتحتها عنوة، فقال أبو عبيدة: لا، إنى قد أمنتهم «2» .
__________
(1) انظر: المنتظم لابن الجوزى (4/ 142) ، تاريخ الطبرى (3/ 434) .
(2) انظر: تاريخ اليعقوبى (1/ 140) .(2/218)
ودخل المسلمون دمشق، وتم الصلح، وجاء الجيش من قبل أنطاكية مددا لأهل دمشق، فلما قدموا بعلبك أتاهم الخبر بأن دمشق قد افتتحت، وكان عليهم در نجاران عظيمان، كل درنجار على خمسة آلاف، فكانوا عشرة آلاف، فأقاموا وبعثوا إلى ملكهم يخبرونه بالمكان الذى هم فيه، وبالخبر الذى بلغهم عن دمشق.
وذكر أبو جعفر الطبرى «1» أن شداد بن أوس هو الذى قدم الشام بوفاة أبى بكر، ومعه محمية بن جزء ويرفأ، فوجدوا المسلمين بالواقوصة يقاتلون عدوهم، فتكتموا الخبر حتى ظفر المسلمون، فعند ذلك أخبروا أبا عبيدة بوفاة أبى بكر، وبولايته حرب الشام، وعزل خالد.
وعن محمد بن إسحاق: أن المسلمين لما فرغوا من أجنادين ساروا إلى فحل من أرض الأردن، وقد اجتمعت به رافضة الروم، والمسلمين على أمرائهم، فاقتتلوا فهزمت الروم، ودخل المسلمون فحل، ولحقت رافضة الروم بدمشق، فسار المسلمون إلى دمشق، وعلى مقدمة الناس خالد بن الوليد، وقد اجتمعت الروم إلى رجل منهم يقال له باهان، فالتقى المسلمون والروم حول دمشق فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم هزم الله الروم فدخلوا دمشق، وجثم المسلمون عليها فرابطوها حتى فتحت، وقد كان الكتاب قدم على أبى عبيدة بإمارته وعزل خالد، فاستحيا أبو عبيدة أن يعلم خالدا حتى فتحت دمشق وجرى الصلح على يدى خالد، وكتب الكتاب باسمه، فبعد ذلك أظهر أبو عبيدة إمارته. فلما صالحت دمشق لحق باهان صاحب الروم بهرقل» .
وخالف سيف بن عمرو ما تقدم من المساق والتاريخ فى أمر دمشق، فذكر على ما سيأتى أن وقعة اليرموك كانت فى سنة ثلاث عشرة، وأن المسلمين ورد عليهم البريد بوفاة أبى بكر باليرموك فى اليوم الذى هزمت الروم فى آخره، وأن عمر رحمه الله، أمرهم بعد الفراغ من اليرموك بالمسير إلى دمشق. وزعم أن فحلا كانت بعد دمشق، خلافا لما ذكره ابن إسحاق من أنها كانت قبلها، وأن رافضة فحل هم الذين صاروا إلى دمشق «3» .
وأما الواقدى فزعم أن فتح دمشق كان سنة أربع عشرة، وكذا قال ابن إسحاق،
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 434) .
(2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 434- 435) .
(3) انظر: تاريخ الطبرى (4/ 435- 436) .(2/219)
وزعم أن حصار المسلمين لها كان ستة أشهر، وأن وقعة اليرموك كانت فى سنة خمس عشرة، وبعدها فى تلك السنة بعينها جلا هرقل عن أنطاكية إلى قسطنطينية، وأنه لم يكن بعد اليرموك وقعة. وسنورد إن شاء الله مما أوردوه على اختلافه ما نبلغ به المقصود من الإمتاع وتذكير الناس بأيام الله.
فأما خبر دمشق من رواية سيف فذكر أنه: لما هزم الله جند اليرموك، وتهافت أهل الواقوصة، وفرغ من المقاسم والأنفال، وبعث بالأخماس، وسرحت الوفود، استخلف أبو عبيدة على اليرموك بشير بن كعب بن أبى الحميرى كيلا تغتال بردة ولا تقطع الروم مواده، وخرج أبو عبيدة حتى نزل بالصفرين وهو يريد اتباع الفل، ولا يدرى أيجتمعون أو يفترقون، فأتاه الخبر بأنهم أرزوا إلى فحل، وبأن المدد قد أتى على دمشق من حمص، فهو لا يدرى أبدمشق يبدأ أم بفحل من بلاد الأردن، فكتب فى ذلك إلى عمر، وأقام بالصفرين ينتظر جوابه، وكان عمر لما جاءه فتح اليرموك أقر الأمراء على ما كان استعملهم عليه أبو بكر، إلا ما كان من عمرو بن العاص وخالد بن الوليد، فإنه ضم خالد إلى أبى عبيدة، وأمر عمرا بمعونة الناس حتى تصير الحرب إلى فلسطين، ثم يتولى حربها «1» .
فلما جاء عمر كتاب أبى عبيدة، كتب إليه: أما بعد، فابدؤا بدمشق، وانهدوا لها، فإنها حصن الشام وبيت مملكتهم، واشغلوا عنهم أهل فحل بخيل تكون بإزائهم فى نحورهم ونحور أهل فلسطين وأهل حمص، فإن فتحها الله قبل دمشق فذلك الذى نحب، وإن تأخر فتحها حتى يفتح الله دمشق فلينزل دمشق من تمسك بها، ودعوها، وانطلق أنت وسائر الأمراء حتى تغيروا على فحل، فإن فتح الله عليكم فانصرف أنت وخالد إلى حمص، ودع شرحبيل وعمرا وأخلهما بالأردن وفلسطين، وأمير كل بلد وجند على الناس حتى يخرجوا من إمارته «2» .
فسرح أبو عبيدة إلى فحل عشرة فيهم أبو الأعور وعمارة بن مخش، وهو قائد الناس، وكانت الرؤساء تكون من الصحابة، فساروا من الصفرين حتى نزلوا قريبا من فحل، فلما رأت الروم أن الجنود تريدهم بثقوا المياه حول فحل، فأردغت «3» الأرض، ثم وحلت، واغتنم المسلمون ذلك، فحبسوا عن المسلمين ثمانين ألف فارس. وبعث أبو
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 436) .
(2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 437- 438) .
(3) أردغت: الرداغ: الوحل الشديد.(2/220)
عبيدة ذا الكلاع حتى كان بين دمشق وحمص ردآ. وبعث علقمة بن حكيم ومسروقا فكانا بين دمشق وفلسطين، والأمير يزيد.
وقدم خالد وأبو عبيدة وعمرو وشرحبيل على دمشق فنزلوا حواليها وحاصروا أهلها حصارا شديدا نحوا من سبعين ليلة، وقاتلوهم قتالا عظيما بالزحوف والترامى والمجانيق، وهم معتصمون بالمدينة، يرجون الغياث، وهرقل منهم قريب بحمص، ومدينة حمص بينه وبين المسلمين وذو الكلاع بين المسلمين وبين حمص على رأس ليلة من دمشق، كأنه يريد حمص.
وجاءت جنود هرقل مغيثة لأهل دمشق، فأشجتها الخيول التى مع ذى الكلاع وشغلتها، فلما أيقن أهل دمشق أن الأمداد لا تصل إليهم فشلوا ووهنوا وأبلسوا، وازداد المسلمون طمعا فيهم، وكانوا قبل يرون أنها كالغارات، وأنه إذا جاء البرد قفل الناس، فسقط النجم والمسلمون مقيمون، فعند ذلك انقطع رجاء الروم وندموا على دخول دمشق، واتفق أن ولد للبطريق الذى دخل على أهل دمشق مولود، فصنع عليه طعاما، فأكل القوم وشربوا، وغفلوا عن مواقفهم، ولا يشعر بذلك أحد من المسلمين إلا ما كان من خالد، فإنه كان لا ينام ولا ينيم، ولا يخفى عليه من أمرهم شىء، عيونه ذاكية وهو معنى بما يليه، قد اتخذ حبالا كهيئة السلالم وأوهاقا «1» ، فلما أمسى من ذلك اليوم نهد هو ومن معه من جنوده الذين قدم بهم، وتقدمهم هو والقعقاع بن عمرو ومذعور بن عدى وأمثالهما.
وقالوا: إذا سمعتم تكبيرنا على السور فارقوا إلينا وانهدوا للباب وائتوا من الباب الذى كان خالد يليه، فقطعوا الخندق سبحا على ظهورهم القرب، ثم رموا بالحبال الشرف. فلما ثبت لهم وهقان تسلق القعقاع ومذعور ثم لم يدعا أحبولة إلا أثبتاها والأوهاق بالشرف، وكان المكان الذى اقتحموا منه خندقهم أحصن مكان يحيط بدمشق، أكثره ماء، وأشده مدخلا، وتوافوا لذلك، فلم يبق ممن دخل معه أحد إلا رقى أو دنا من الباب، حتى إذا استووا على السور حدر عامة أصحابه، وانحدر معهم، فكبر الذين على رأس السور، فنهد المسلمون إلى الباب، ومال إلى الحبال بشر كثير، فوثبوا فيها، وانتهى خالد إلى أول من يليه فأنامهم، وانحدر إلى الباب فقتل البوابين، وثار أهل المدينة، وفزع سائر الناس فأخذوا مواقفهم ولا يدرون من الشأن، وتشاغل أهل كل
__________
(1) الأوهاق: جمع وهق، وهو الحبل فى طرفيه أنشوطة يطرح فى عنق الدابة أو الإنسان حتى يؤخذ.(2/221)
ناحية مما يليهم وقطع خالد ومن معه أغلاق الباب بالسيوف، وفتحوا للمسلمين، فأقبلوا عليهم من داخل حتى ما بقى مما يلى باب خالد مقاتل إلا أنيم.
ولما شد خالد على من يليه، وبلغ منهم الذى أراد عنوة أرز من أفلت إلى أهل الأبواب التى كان يليها غير خالد، وقد كان المسلمون دعوهم إلى المشاطرة فأبوا وأبعدوا، فلم يفجأهم إلا وهم يبوحون لهم بالصلح، فأجابهم المسلمون وقبلوا منهم، ففتحوا لهم الأبواب، وقالوا: ادخلوا وامنعونا من أهل ذلك الباب، فدخل أهل كل باب بصلح مما يليهم، ودخل خالد مما يليه عنوة، فالتقى خالد والقواد فى أوساطها، هذا استعراضا وانتهابا، وهذا صالحا وتسكينا، فأجروا ناحية خالد مجرى الصلح، فصار كل ذلك صالحا، وكان صلح دمشق على مقاسمة الديار والعقار، ودينار على كل رأس، وعلى جريب من كل حرث أرض، واقتسموا الأسلاب، فكان أصحاب خالد فيها كأصحاب سائر القواد، ووقف ما كان للملوك ومن صوب معهم فيئا، وقسموا لذى الكلاع ومن معه، ولأبى الأعور ومن معه، وبعثوا بالبشارة إلى عمر.
وقدم على أبى عبيدة كتاب عمر: أن اصرف جند العراق إلى العراق، وأمرهم بالحث إلى سعد بن مالك. فأمر عليهم أبو عبيدة هاشم بن عتبة، وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو، وعلى مجنبتيه عمرو بن مالك الزهرى، وربعى بن عامر، وخرج هاشم نحو العراق فى جند العراق، وكانوا عشرة آلاف إلا من أصيب منهم فأتموهم بأناس ممن لم يكن منهم، كقيس والأشطر، وخرج القواد نحو فحل، وخرج علقمة ومسروق إلى إيلياء، فنزلا على طريقها، وبقى بدمشق مع يزيد بن أبى سفيان من قواد أهل اليمن عدد، وبعث يزيد، دحية بن خليفة الكلبى فى خيل بعد فتح دمشق إلى تدمر، وأبا الزهراء القشيرى إلى البثنية وحوران، فصالحوهما على صلح دمشق، ووليا القيام على فتح ما بعثا إليه «1» .
وكان الذى سار على الناس نحو فحل شرحبيل بن حسنة، على ما ذكره سيف عن أشياخه، قالوا: وبعث خالدا على المقدمة، وأبا عبيدة وعمرا على مجنبتيه، وعلى الخيل ضرار بن الأزور، وعلى الرجال عياض، وكرهوا أن يصمدوا لهرقل، وخلفهم من الروم ثمانون ألفا بإزاء فحل ينظرون إليهم، فلما انتهوا إلى أبى الأعور قدموه إلى طبرية، فحاصرها ونزلوا هم على فحل من أرض الأردن، وقد كان أهلها حين نزل بهم أبو الأعور تركوها وأرزوا إلى بيسان وجعلوا بينهم وبين المسلمين تلك المياه والأوحال،
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 438) .(2/222)
وكتب المسلمون إلى عمر بالخبر، وأقاموا بفحل لا يريدون أن يريموها حتى يرجع جواب عمر، ولا يستطيعون الإقدام على العدو من مكانهم لما دونهم من الأوحال.
وأصاب المسلمون من ريف الأردن أفضل مما فيه المشركون، مادتهم متواصلة، وخصبهم رغد، ورجاء الروم أن يكون المسلمون على غرة، فقصدوهم ليلا، والمسلمون على حذر لا يأمنون مجيئهم، وكان شرحبيل لا يبيت ولا يصبح إلا على تعبئة، فلما هجموا على المسلمين غافصوهم، ولم يناظروهم، فاقتتلوا بفحل كأشد قتال اقتتلوا قط ليلتهم ويومهم إلى الليل، فأظلم الليل عليهم وقد حاروا، فانهزموا، وقد أصيب رئيسهم سقلار بن مخراق، والذى يليه فيهم نسطورس، وظفر المسلمون بهم كأحسن الظفر وأهناه، وركبوهم وهم يرون أنهم على قصد، فوجدوهم حيارى لا يعرفون مأخذهم، فأسلمتهم هزيمتهم وحيرتهم إلى الوحل، فركبوه، ولحق بهم أوائل المسلمين وقد وحلوا فيه، فوخزوهم بالرماح وهم لا يمنعون يد لامس، وقتلوا فى الرداغ، فما أفلت من أولئك الثمانين ألفا إلا الشريد، وكان الله يصنع للمسلمين وهم كارهون، كرهوا البثوق فكانت عونا لهم على عدوهم، وآية من الله ليزدادوا بصيرة وجدا، واقتسموا ما أفاء الله عليهم، وانصرف أبو عبيدة بخالد من فحل إلى حمص، وصرفوا بشير بن كعب معهم، ومضوا بذى الكلاع ومن معه، وخلوا شرحبيل بن حسنة ومن معه «1» .
ذكر بيسان «2»
ولما فرغ شرحبيل من وقعة فحل نهد بالناس إلى بيسان ومعه عمرو، فنزلوا عليها، وأبو الأعور والقواد معه على طبرية، وقد بلغ أفناء أهل الأردن ما لقيت دمشق، وما لقى سقلار والروم بفحل وفى الردغة، ومسير شرحبيل إليهم، فتحصنوا بكل مكان، وحصر شرحبيل أهل بيسان أياما. ثم خرجوا يقاتلونه، فقتل المسلمون من خرج إليهم منهم، وصالح بقية أهلها.
ذكر طبرية «3»
وبلغ أهل طبرية، فصالحوا أبا الأعور على أن يبلغهم شرحبيل، ففعل، وصالحهم
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 336- 341) .
(2) انظر: المنتظم لابن الجوزى (4/ 144) ، تاريخ الطبرى (3/ 443) .
(3) انظر: المنتظم لابن الجوزى (4/ 144) ، تاريخ الطبرى (3/ 444) .(2/223)
شرحبيل وأهل بيسان على صلح دمشق، على أن يشاطروا المسلمين المنال فى المدائن، وما أحاط بها مما يصلها، فيدعوا لهم نصفا، ويأخذوا نصفا، وعلى كل رأس دينار كل سنة، ومن كل حرث أرض جريب بر أو شعير، أى ذلك حرث، وأشياء صالحوهم عليها. ونزلت القواد وخيولهم فيها.
وتم صلح الأردن، وتفرقت الأمداد فى مدائنها وقراها، وكتب إلى عمر بالفتح.
حديث مرج الروم من رواية سيف أيضا
قال «1» : خرج أبو عبيدة بخالد بن الوليد من فحل إلى حمص، وبمن تضيف إليهم من اليرموك، فنزلوا جميعا على ذى الكلاع، وقد بلغ الخبر هرقل، فبعث توذرا البطريق حتى نزل بمرج دمشق وغربها، فبدأ أبو عبيدة بمرج الروم وجمعهم هذا به، وقد هجم الشتاء عليهم والجراح فيهم فاشية، فلما نزل على القوم بمرج الروم نازله، يوم نزل عليه شنس الرومى، فى مثل خيل توذرا، إمدادا لتوذرا وردآ لأهل حمص، فنزل فى عسكره على حدة.
فلما كان من الليل فر توذرا، فأصبحت الأرض منه بلاقع، وكان خالد بإزائه وأبو عبيدة بإزاء شنس، وأتى خالدا الخبر برحيل توذرا إلى جهة دمشق، فأجمع رأيه ورأى أبى عبيدة أن يتبعه خالد، فأتبعه من ليلته فى جريدة، وبلغ يزيد بن أبى سفيان ما فعل توذرا، فاستقبله، فاقتتلوا، ولحق بهم خالد وهم يقتتلون، فأخذهم من خلفهم، فقتلوا من بين أيديهم ومن خلفهم، فلم يفلت منهم إلا الشريد، وقتل يزيد توذرا، وأصاب المسلمون ما شاؤا من ظهر وأداة وثياب، وقسم ذلك يزيد على أصحابه وأصحاب خالد، ثم انصرف يزيد إلى دمشق، وانصرف خالد إلى أبى عبيدة، وبعد خروج خالد فى أثر توذرا ناهد أبو عبيدة شنس، فاقتتلوا بمرج الروم، فقتلهم أبو عبيدة مقتلة عظيمة، حتى امتلأ المرج من قتلاهم، وأنتنت منهم الأرض. وقتل أبو عبيدة شنس، وهرب من هرب منهم، فلم يقلهم، وركب أقفاءهم إلى حمص.
فهذا ما ذكر سيف من حديث دمشق، وفحل، ومرج الروم، وسائر ما ذكر معها أوردناه مهذبا مقربا، ثم نعود إلى تتمة ما وقع فى كتب فتوح الشام مما يخالف ما ذكره سيف من بعض الوجوه ليوقف على كل ما ذكروه مما اتفقوا عليه واختلفوا فيه.
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 598- 599) .(2/224)
قالوا «1» : إن أبا عبيدة لما ظهر على دمشق أمر عمرو بن العاص بالمسير إلى أرض الأردن وفلسطين، فيكون فيما بينهما، ولا يقدم على المدينتين وجمع الروم بهما، ولكن ينزل أطراف الرساتيق، ويغير بالخيل عليهم من كل جانب، ويصالح من صالحه.
فخرج عمرو حتى واقع أرض الأردن، فلما بلغ أهل الأردن وفلسطين فتح دمشق وتوجه الجيش إليهم هالهم ذلك ورعبهم، وأشفقوا على مدائنهم أن تفتح، فاجتمع من كان بها من الروم ونزلوا من حصونهم، ووافاهم أهل البلد، وكثير من نصارى العرب، فكثر جمعهم، وكتبوا إلى قيصر يستمدونه وهو بأنطاكية، فبعث إلى أولئك الذين كان وجههم مددا لأهل دمشق فأقاموا ببعلبك لما بلغهم خبر فتحها أن يسيروا إليهم.
وكتب عمرو إلى أبى عبيدة: أما بعد، فإن الروم قد أعظمت فتح دمشق، فاجتمعوا من نواحى الأردن وفلسطين، فعسكروا وقد تعاقدوا وتواثقوا وتحالفوا بالله: لا يرجعون إلى النساء والأولاد أو يخرجون العرب من بلادهم، والله مكذب أملهم، ومبطل قولهم، ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا. فاكتب إلىّ برأيك فى هذا الحديث، أرشد الله رأيك وسددك وأدام رشدك، والسلام.
وقدم بهذا الكتاب رسول عمرو، وقد استشار أبو عبيدة أصحابه فى المسير بهم إلى حمص، وقال: إن الله تعالى، قد فتح هذه المدينة، يعنى دمشق، وهى من أعظم مدائن الشام، وقد رأيت أن أسير إلى حمص، لعل الله يفتحها علينا، وهذا عمرو بن العاص من ورائنا، فلسنا نتخوف أن نؤتى من هناك.
فقال له خالد بن الوليد، ويزيد بن أبى سفيان، ومعاذ بن جبل ورؤس المسلمين:
فإنك قد أصبت ووفقت، فسر بنا إليهم.
فإنهم لكذلك فى هذا الرأى إذ قدم عليهم كتاب عمرو الذى تقدم، فلما قرأه أبو عبيدة ألقاه إلى خالد، وقال: قد حدث أمر غير ما كنا فيه، ثم قرأوا الكتاب على من حضرهم، فقال يزيد: أمدد عمرا ومره بمواقعة القوم وأقم أنت بمكانك. فقال أبو عبيدة:
ماذا ترى أنت يا خالد؟ قال: أرى أن تنظر ما يصنع هذا الجيش الذى ببعلبك، فإن هم ساروا منها إلى إخوانهم سرت إلى إخوانك فلقيتهم بجماعة المسلمين، وإن هم أقاموا أمددت عمرا، وبعثت إلى هؤلاء من يقاتلهم، وأقمت أنت بمكانك. فقال له: نعم ما رأيت، فسير أبو عبيدة شرحبيل بن حسنة إلى عمرو، وقال له: لا تخالفه. فخرج
__________
(1) انظر: فتوح الشام للأزدى (ص 106) .(2/225)
شرحبيل فى ألفين وثمانمائة، فقدم على عمرو، وعمرو فى ألفين وخمسمائة.
وقال أبو عبيدة لخالد: ما لهذا الجيش النازل ببعلبك إلا أنا وأنت أو يزيد. فقال له خالد: لا، بل أنا أسير إليهم. فقال: أنت لهم.
فبعثه أبو عبيدة فى خمسة آلاف فارس، وخرج معه يشيعه، فسار معه قليلا، فقال له خالد: ارجع رحمك الله، إلى عسكرك، فقال له: يا خالد، أوصيك بتقوى الله، وإذا أنت لقيت القوم فلا تناظرهم ولا تطاولهم فى حصونهم، ولا تذرهم يأكلون ويشربون وينتظرون أن تأتيهم أمدادهم، وإذا لقيتهم فقاتلهم، فإنك إن هزمتهم انقطع رجاؤهم، وإن احتجت إلى مدد فأعلمنى حتى يأتيك من المدد حاجتك، وإن احتجت أن آتيك بنفسى أتيتك إن شاء الله. ثم أخذ بيده فودعه، ثم انصرف عنه.
ويجىء رسول قيصر إلى الذين ببعلبك، فأمرهم باللحاق بأولئك الذين اجتمعوا ببيسان، فخرجوا إليهم، وأخرجوا معهم ناسا كثيرا من أهل بعلبك، وأتاهم ناس كثير من أهل حمص غضبا لدينهم وشفقا من أن تفتح مدينتهم كما فتحت دمشق، فخرجوا وهم أكثر من عشرين ألفا متوجهين إلى الجمع الذى ببيسان منهم، وجاء خالد حتى انتهى إلى بعلبك، فأخبر الخبر، فأغاز على نواحى بعلبك، فقتل وسبى واستاق من المغانم شيئا كثيرا، وأقبل راجعا إلى أبى عبيدة فأخبره، واجتمع رأيهم على أن يسير أبو عبيدة بجماعة الناس إلى ذلك الجمع من الروم، فقدم خالد فى ألف وخمسمائة، فارس أمامهم، وأمرهم، وأمره بالإسراع إلى عمرو وأصحابه ليشد الله بهم ظهورهم، وليرى الروم أن المسلمين قد أتوهم، فأقبل خالد مسرعا فى آثار الروم فلحقهم وقد دخل أوائلهم عسكرهم، فحمل على أخرياتهم، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وأصاب كثيرا من أثقالهم، وأفلت من أفلت منهم منهزمين حتى دخلوا عسكرهم، وجاء خالد فى خيله حتى نزل قريبا من عمرو، ففرح المسلمون بهم، وكان عمرو يصلى بأصحابه الذين كانوا معه، وخالد يصلى بأصحاب الخيل التى أقبل فيها.
وقعة فحل حسبما فى كتب فتوح الشام
«1» قالوا: فلما بلغ الروم أن أبا عبيدة قد أقبل إليهم تحولوا إلى فحل فنزلوا بها، وجاء المسلمون بأجمعهم حتى نزلوا بهم، وخرج علقمة بن الأرث فجمع من أطاعه من بنى
__________
(1) راجع: المنتظم لابن الجوزى (4/ 142) ، تاريخ الطبرى (3/ 434) .(2/226)
القين، وجاءت لخم وجذام وعاملة وغسان، وقبائل من قضاعة، فدخلوا مع المسلمين، وأخذ أهل البلد من النصارى يراسلون المسلمين، فيقدمون رجلا ويؤخرون أخرى، ويقولون: أنتم أحب إلينا من الروم وإن كنتم على غير ديننا، أنتم أوفى لنا وأرأف بنا وأكف عن ظلمنا، ولكنهم غلبونا على أمرنا، فيقول لهم المسلمون: إن هذا ليس بنافعكم عندنا ما لم تعتقدوا منا الذمة، وإنا إن ظهرنا عليكم كان لنا أن نسبيكم ونستعبدكم، وإن اعتقدتم منا الذمة سلمتم من ذلك، فكانوا يتربصون وينتظرون ما يكون من أمر قيصر، وقد بلغهم أنه بعث إلى أقاصى بلاده، وإلى كل من كان دينه ممن حوله، وأنهم فى كل يوم يقدمون عليه ويسقطون إليه، فهم ينتظرون ما يكون منه، وهم مع ذلك بموضعهم بين الثلاثين ألفا والأربعين ألفا «1» .
وكان المسلمون حيث نزلوا بهم ليس شىء أحب إليهم من معاجلتهم، وكانوا هم ليس شىء أحب إليهم من مطاولة المسلمين رجاء المدد من صاحبهم، ولأن المسلمين ليسوا فى مثل ما الروم فيه من الخصب والكفاية.
وأقبلت الروم يبثقون المياه بينهم وبين المسلمين ليطاولوهم، وأقبل المسلمون يخوضون إليهم الماء ويمشون فى الوحل، فلما رأى ذلك الروم، وأنه لا يمنعهم منهم شىء خرجوا فعسكروا وتيسروا للقتال، ووطنوا أنفسهم عليه، وكانوا كل يوم فى زيادة من الأمداد الواصلة إليهم.
فأمر أبو عبيدة المسلمين حيث بلغه ذلك أن يغيروا عليهم وعلى ما حولهم من القرى والسواد والرساتيق، ففعلوا، وقطعوا بذلك المادة والميرة.
فلما رأى ذلك ابن الجعد أتى أبا عبيدة فصالحه على سواد الأردن، وكتب له كتابا.
وكان صفوان بن المعطل، ومعن بن يزيد بن الأخنس السليمان قد خرجا فى خيل لهما فأغارا، فغنما، فلما انصرفا عرضت لهم الروم فقاتلوهم، وإنما كان المسلمون فى نحو من مائة رجل والروم فى خمسة آلاف مع درنجار عظيم منهم، فطاردوهم وصبروا لهم، واحتسبوا فى قتالهم، ثم إن الروم غلبوهم على غنيمتهم. وجاء حابس بن سعد الطائى فى نحو من مائة رجل، فحمل عليهم فزالوا غير بعيد، ثم حملوا عليه فردوه وأصحابه حتى ألحقوهم بالمسلمين، ثم انصرفوا وقد بغوا، وهم يعدون هذا ظفرا، ولم يقتلوا أحدا، ولم يهزموا جمعا، فلما انصرفوا إلى عسكرهم أرسلوا إلى أبى عبيدة: أن
__________
(1) انظر هذا الخبر وما بعده فى: تاريخ فتوح الشام للأزدى (ص 111- 130) .(2/227)
اخرج أنت ومن معك من بلادنا التى تنبت الحنطة والشعير والفواكه والأعناب، فلستم لها بأهل، وارجعوا إلى بلادكم، بلاد البؤس والشقاء، وإلا أتيناكم فيما لا قبل لكم به، ثم لم ننصرف عنكم وفيكم عين تطرف.
فرد عليهم أبو عبيدة: أما قولكم: أخرجوا من بلادنا فلستم لها بأهل، فلعمرى ما كنا لنخرج عنها وقد أورثناها الله ونزعها من أيديكم، وإنما البلاد بلاد الله، والعباد عباد الله، والله ملك الملوك، يؤتى الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء. وأما قولكم فى بلادنا أنها بلاد البؤس والشقاء، فصدقتم، إنها لكذلك، وقد أبدلنا الله بها بلادكم، بلاد العيش الرفيع والسعر الرخيص والجناب الخصيب، فلا تحسبونا تاركيها ولا منصرفين عنها حتى نفنيكم أو نخرجكم منها، ولكن أقيموا، فو الله لا نجشمكم أن تأتونا، ولنأتينكم إن أنتم أقمتم لنا، فلا نبرح حتى نبيد خضراءكم، ونستأصل شأفتكم إن شاء الله تعالى.
فلما جاءهم ذلك عنهم أيقنوا بجد القوم، فأرسلوا إليهم، أن ابعثوا إلينا رجلا من صالحائكم نسأله عما تريدون وما تسألون وما تدعون إليه، ونخبره بذات أنفسنا، وندعوكم إلى حظكم إن قبلتم.
فأرسل إليهم أبو عبيدة، معاذ بن جبل، فأتاهم على فرس له، فلما دنا منهم نزل عن فرسه، ثم أخذ بلجامه وأقبل إليهم يقوده، فقالوا لبعض غلمانهم: انطلق إليه فأمسك له فرسه، فجاء الغلام ليفعل، فقال له معاذ: أنا أمسك فرسى، لا أريد أن يمسكه أحد غيرى، وأقبل يمشى إليهم، فإذا هم على فرش وبسط ونمارق تكاد الأبصار تغشى منها، فلما دنا من تلك الثياب قام قائما، فقال له رجل منهم: أعطنى هذه الدابة أمسكها لك، وادن أنت فاجلس مع هذه الملوك مجالسهم، فإنه ليس كل أحد يقدر أن يجلس معهم، وقد بلغهم عنك صلاح وفضل فيمن أنت منه، فهم يكرهون أن يكلموك جلوسا وأنت قائم.
فقال لهم معاذ، والترجمان يفسر لهم ما يقول: إن نبينا صلى الله عليه وسلم أمرنا أن لا نقوم لأحد من خلق الله، ولا يكون قيامنا إلا الله فى الصلاة والعبادة والرغبة إليه، فليس قيامى هذا لكم، ولكن قمت إعظاما للمشى على هذه البسط والجلوس على هذه النمارق التى استأثرتم بها على ضعفائكم، وإنما هى من زينة الدنيا وغرورها، وقد زهد الله فى الدنيا وذمها، ونهى عن البغى والسرف فيها، فأنا أجلس هاهنا على الأرض، وكلمونى أنتم(2/228)
بحاجتكم من ثم، وأقيموا الترجمان بينى وبينكم، يفهمنى ما تقولون، ويفهمكم ما أقول، ثم أمسك برأس فرسه وجلس على الأرض عند طرف البساط. فقالوا له: لو دنوت فجلست معنا كان أكرم لك، إن جلوسك مع هذه الملوك على هذه المجالس مكرمة لك، وإن جلوسك على الأرض متنحيا صنيع العبد بنفسه، فلا نراك إلا قد أزريت بنفسك.
فلما أخبره الترجمان بمقالتهم جثا على ركبتيه واستقبل القوم بوجهه، وقال للترجمان:
قل لهم: إن كانت هذه المكرمة التى تدعوننى إليها استأثرتم بها على من هو مثلكم إنما هى للدنيا، فلا حاجة لنا فى شرف الدنيا ولا فى فخرها، وإن زعمتم أن هذه المجالس والدنيا التى فى أيدى عظمائكم وهم مستأثرون بها على ضعفائكم مكرمة لمن كانت فى يده منكم عند الله، فهذا خطأ من قولكم، وجور من فعلكم، ولا يدرك ما عند الله بالخطأ، ولا بخلاف ما جاء به الأنبياء عن الله من الزهادة فى الدنيا.
وأما قولكم إن جلوسى على الأرض متنحيا صنيع العبد بنفسه، ألا فصنيع العبد بنفسه صنعت، أنا عبد من عبيد الله جلست على بساط الله، ولا أستأثر من مال الله بشىء على إخوانى من أولياء الله، وأما قولكم أزريت بنفسى فى مجلسى، فإن كان ذلك إنما هو عندكم وليس كذلك عند الله، فلست أبالى كيف كانت منزلتى عندكم إذا كنت عند الله على غير ذلك، وإن قلتم أن ذلك عند الله فقد أخطأتم خطأ بينا، لأن أحب عباد الله إلى الله المتواضعون لله القريبون من عباد الله، الذين لا يشغلون أنفسهم بالدنيا، ولا يدعون التماس نصيبهم من الآخرة.
فلما فسر لهم الترجمان هذا الكلام نظر بعضهم إلى بعض وتعجبوا مما سمعوا منه، وقالوا لترجمانهم: قل له: أنت أفضل أصحابك؟ فلما قال له، قال: معاذ الله أن أقول ذلك، وليتنى لا أكون شرهم، فسكتوا عنه ساعة لا يكلمونه، وتكلموا فيما بينهم، فلما رأى ذلك قال لترجمانهم: إن كانت لهم حاجة فى كلامى وإلا انصرفت عنهم، فلما أخبرهم قالوا: قل له: أخبرونا ما تطلبون؟ وإلام تدعون؟ ولماذا دخلتم بلادنا وتركتم أرض الحبشة وليسوا منكم ببعيد، وأهل فارس وقد هلك ملكهم وهلك ابنه، وإنما يملكهم اليوم النساء، ونحن ملكنا حى وجنودنا عظيمة، وإن أنتم افتتحتم من مدائننا مدينة أو من قرانا قرية أو من حصوننا حصنا أو هزمتم لنا جندا أظننتم أنكم ظفرتم بجماعتنا أو قطعتم عنكم حربنا وفرغتم مما وراءنا، ونحن عدد نجوم السماء وحصى الأرض؟ وأخبرونا بم تستحلون قتالنا وأنتم تؤمنون بنبينا وكتابنا؟.(2/229)
فلما قالوا هذا القول وفسره الترجمان لمعاذ، سكتوا، فقال معاذ للترجمان: أقد فرغوا؟
قال: نعم، قال: فأفهم عنى، إن أول ما أنا ذاكر: حمدا لله الذى لا إله إلا هو، والصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم وأول ما أدعوكم إليه أن تؤمنوا بالله وحده، وبمحمد صلى الله عليه وسلم وأن تصلوا صلاتنا، وتستقبلوا قبلتنا، وأن تستسنوا بسنة نبينا، وتكسروا الصليب، وتجتنبوا شرب الخمر وأكل لحم الخنزير، ثم أنتم منا ونحن منكم، وأنتم إخواننا فى ديننا، لكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن أبيتم، فأدوا الجزية فى كل عام إلينا عن يد وأنتم صاغرون، فإن أنتم أبيتم هاتين الخصلتين فليس شىء مما خلق الله نحن قابلوه منكم، فابرزوا إلينا حتى يحكم الله بيننا، وهو خير الحاكمين، فهذا ما نأمركم به وما ندعوكم إليه.
وأما قولكم: ما أدخلكم بلادنا وتركتم أرض الحبشة وليسوا منكم ببعيد، وأهل فارس وقد هلك ملكهم، فإنى أخبركم عن ذلك، ما بدأنا بقتالكم أن يكونوا آثر عندنا منكم، إنكم جميعا لسواء، وما حابيناهم بالكف عنهم إذ بدأنا بكم، ولكن الله تبارك وتعالى، أنزل فى كتابه على نبينا صلى الله عليه وسلم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة: 122] ، فكنتم أقرب إلينا منهم، فبدأنا بكم لذلك، ثم لقد أتتهم طائفة منا بعدنا، فإنهم اليوم ليقاتلونهم، وإنا لنرجو أن يعزهم الله ويفتح عليهم، وأما قولكم: إن ملكنا حى، وإن جنودنا عظيمة، وإنا عدد نجوم السماء وحصى الأرض وتؤيسونا من الظهور عليكم، فإن الأمر فى ذلك ليس إليكم، وإن الأمور كلها لله، وكل شىء فى قبضته وقدرته، وإذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون، فإن يكن ملككم هرقل فإنما ملكنا نحن الله تبارك وتعالى، وأميرنا رجل منا، إن عمل فينا بكتاب ربنا وسنة نبينا أقررناه، وإن غير عزلناه، ولا يحتجب منا، ولا يتكبر علينا، ولا يستأثر علينا فى فيئنا الذى أفاء الله عز وجل، علينا، وهو فيه كرجل منا. وأما جنودنا، فإنها وإن عظمت وكثرت حتى تكون أكثر من نجوم السماء وحصى الأرض، فإنا لا نثق بها ولا نتكل عليها، ولكنا نتبرأ من الحول والقوة، ونتوكل على الله ونثق به، وكم من فئة قليلة قد أعزها الله ونصرها وأعانها، وكم من فئة كثيرة قد أذلها الله سبحانه، وأهانها قال الله تبارك وتعالى: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: 249] .
وأما قولكم: كيف تستحلون قتالنا وأنتم مؤمنون بنبينا وكتابنا، فأنا أخبركم عن ذلك: نحن نؤمن بنبيكم، ونشهد أنه عبد من عباد الله ورسول من رسل الله، وأن مثله عند الله كمثل آدم خلقه من تراب، ثم قال له كن فيكون، ولا نقول: إنه الله، ولا أنه(2/230)
ثانى اثنين ولا ثالث ثلاثة، ولا أن لله عز وجل، ولدا ولا صاحبة، ولا أن مع الله آلهة أخرى، لا إله إلا هو، تعالى عما تقولون علوا كبيرا، وأنتم تقولون فى عيسى قولا عظيما، ولو أنكم قلتم فى عيسى كما نقول، وآمنتم بنبوة نبينا صلى الله عليه وسلم كما تجدونه فى كتابكم، وكما نؤمن نحن بنبيكم، وأقررتم بما جاء به من عند الله، ووحدتم الله، ما قاتلناكم، بل سالمناكم وواليناكم وقاتلنا عدوكم معكم.
فلما فرغ معاذ من مخاطبتهم قالوا له: ما نرى ما بيننا وبينكم إلا متباعدا، وقد بقيت خصلة ونحن عارضوها عليكم، فإن قبلتموها منا فهو خير لكم، وإن أبيتم فهو شر لكم:
نعطيكم البلقاء وما والى أرضكم من سواد الأردن، وتتحولون عن بقية أرضنا، وعن مدائننا، ونكتب عليكم كتابا نسمى فيه خياركم وصالحاءكم، ونأخذ فيه عهودكم ومواثيقكم أن لا تطلبوا من أرضنا غير ما صالحناكم عليه، وعليكم بأهل فارس فقاتلوهم ونحن نعينكم عليهم حتى تقتلوهم أو تظهروا عليهم.
فقال لهم معاذ: هذا الذى تعطوننا هو كله فى أيدينا، ولو أعطيتمونا جميع ما فى أيديكم مما لم نظهر عليه ومنعتمونا خصلة من الخصال الثلاث التى وصفت لكم ما فعلنا. فغضبوا، وقالوا: أنتقرب منكم وتتباعد منا، اذهب إلى أصحابك، فو الله إنا لنرجو أن نقرنكم غدا فى الحبال. فقال معاذ: أما فى الحبال فلا، ولكن والله لتقتلننا عن آخرنا أو لنخرجنكم منها أذلة وأنتم صاغرون.
ثم انصرف إلى أبى عبيدة فأخبره بما قالوا وما رد عليهم. فإنهم لكذلك إذ بعثوا إلى أبى عبيدة: إنك بعثت إلينا رجلا لا يقبل النصف، ولا يريد الصلح، فلا نرى أعن رأيك ذلك أم لا، وإنا نريد أن نبعث إليك رجلا منا يعرض عليك النصف، ويدعوك إلى الصلح، فإن قبلت ذلك منه فلعله يكون خيرا لنا ولك، وإن أبيت فلا نراه إلا شرا لك «1» .
فقال لهم أبو عبيدة: ابعثوا من شئتم. فبعثوا إليه رجلا منهم، طويلا أحمر أزرق، فلما جاء المسلمين لم يعرف أبا عبيدة من القوم، ولم يدر أفيهم هو أم لا، ولم ير هيبة مكان أمير، فقال: يا معشر العرب، أين أميركم؟ قالوا له: هو ذا، فنظر فإذا هو بأبى عبيدة جالسا على الأرض عليه الدرع، وهو متنكب القوس، وفى يده أسهم يقلبها، فقال له:
أنت أمير هؤلاء الناس؟ قال: نعم، قال: فما جلوسك على الأرض؟ أرأيت لو كنت
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام للأزدى (113) وما بعدها.(2/231)
جالسا على وسادة، أو كان تحتك بساط، أكان ذلك واضعك عند الله أو مباعدك من الإحسان؟.
فقال أبو عبيدة: إن الله لا يستحى من الحق، لأصدقنك عما قلت، ما أصبحت أملك دينارا ولا درهما، وما أملك إلا فرسى وسلاحى، ولقد احتجت أمس إلى نفقة فلم تكن عندى حتى استقرضت أخى هذا يعنى معاذا، نفقة كانت عنده، فأقرضنيها، ولو كان عندى أيضا، بساط أو وسادة ما كنت لأجلس عليه دون أصحابى وإخوانى، وأجلس على الأرض أخى المسلم الذى لا أدرى لعله عند الله خير منى، ونحن عباد الله نمشى على الأرض، ونأكل على الأرض، ونجلس عليها، ونضطجع عليها، وليس بناقصنا ذلك عند الله شيئا، بل يعظم الله به أجورنا، ويرفع به درجاتنا. هات حاجتك التى جئت لها.
فقال الرومى: إنه ليس شىء أحب إلى الله من الإصلاح، ولا أبغض إليه من البغى والفساد، وإنكم قد دخلتم بلادنا فظهر منكم فيها الفساد والبغى، وقل ما بغى قوم وأفسدوا فى الأرض إلا عمهم الله بهلاك، وإنا نعرض عليكم أمرا فيه حظ إن قبلتموه:
إن شئتم أعطيناكم دينارين دينارين، وثوبا ثوبا، وأعطيناك أنت ألف دينار، ونعطى الأمير الذى فوقك يعنون عمر بن الخطاب، ألفى دينار، وتنصرفون عنا، وإن شئتم أعطيناكم البلقاء وما إلى أرضكم من سواد الأردن، وخرجتم من مدائننا وأرضنا، وكتبنا فيما بيننا وبينكم كتابا يستوثق فيه بعضنا من بعض بالأيمان المغلظة لتقومن بما فيه ولنفين بما عاهدنا الله عليه.
فقال أبو عبيدة: إن الله تعالى، بعث فينا رسولا تنبأه، وأنزل عليه كتابا حكيما، وأمره أن يدعو الناس إلى عبادته رحمة منه للعالمين، فقال لهم: إن الله إله واحد عزيز حكيم، علىّ مجيد، وهو خالق كل شىء، وليس كمثله شىء، فوحدوا الله الذى لا إله إلا هو، ولا تتخذوا معه إلها آخر، فإن كل شىء يعبده الناس دونه فهو خلقه، وإذا أتيتم المشركين فادعوهم إلى الإيمان بالله ورسوله والإقرار بما جاء به من ربه، فمن آمن وصدق فهو أخوكم فى دينكم، له ما لكم وعليه ما عليكم، ومن أبى فاعرضوا عليهم أن يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فإن أبوا أن يؤمنوا أو يؤدوا الجزية فقاتلوهم، فإن قتيلكم المحتسب بنفسه شهيد عند الله فى جنات النعيم، وقتيل عدوكم فى النار، فإن قبلتم ما سمعتم فذاكم، وإن أبيتم فابرزوا إلينا حتى يحكم الله بيننا، وهو خير الحاكمين.
قال الرومى: فقد أبيتم إلا هذا. فقال أبو عبيدة: نعم. فقال: أما والله على ذلك إنى(2/232)
لأراكم ستتمنون أنكم قبلتم منا دون ما عرضنا عليكم. فقال أبو عبيدة: لا والله، لا نقبل هذا منك ولا من غيرك أبدا، فانصرف الرومى رافعا يديه إلى السماء يقول: اللهم إنا قد أنصفناهم فأبوا، اللهم فانصرنا عليهم. ووثب أبو عبيدة مكانه، فسار فى الناس، وقال: أصبحوا أيها الناس وأنتم تحت راياتكم وعلى مصافكم. فأصبح الناس وخرجوا على تعبئتهم ومصافهم «1» .
وكتب أبو عبيدة إلى عمر: لعبد الله عمر أمير المؤمنين، من أبى عبيدة بن الجراح.
سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد. فإن الروم قد أقبلت، فنزلت طائفة منهم فحلا مع أهلها، وقد سارع إليهم أهل البلد، ومن كان على دينهم من العرب، وقد أرسلوا إلىّ: أن اخرجوا من بلادنا، فإنكم لستم لهذه البلاد التى تنبت الحنطة والشعير والفواكه والأعناب أهلا، والحقوا ببلادكم، بلاد الشقاء والبؤس، فإن أنتم لم تفعلوا سرنا إليكم بما لا قبل لكم به، ثم أعطينا الله عهدا أن لا ننصرف عنكم وفيكم عين تطرف، فأرسلت إليهم:
أما قولكم: اخرجوا من بلادنا، فلستم لما تنبت أهلا، فلعمرى ما كنا لنخرج عنها وقد أورثناها الله تعالى، ونزعها من أيديكم، وإنما البلاد بلاد الله، والعباد عباد الله، وهو سبحانه ملك الملوك، يؤتى الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء.
وأما ما ذكرتم من بلادنا، وزعمتم أنها بلاد البؤس والشقاء، فقد صدقتم، وقد أبدلنا الله بها بلادكم، بلاد العيش الرفيع، والسعر الرخيص، والجناب الخصيب، فلا تحسبونا تاركيها ولا منصرفين عنها، ولكن أقيموا لنا، فو الله لا نجشمكم إتياننا ولنأتينكم إن أقمتم لنا.
وكتبت إليك حين نهضت إليهم متوكلا على الله، راضيا بقضاء الله، واثقا بنصر الله، فكفانا الله وإياك كيد كل كائد، وحسد كل حاسد، ونصر الله أهل دينه نصرا عزيزا، وفتح لهم فتحا يسيرا، وجعل لهم من لدنه سلطانا نصيرا، والسلام عليك.
ودفع أبو عبيدة هذا الكتاب إلى نبطى من أنباط الشام، وقال له: ائت به أمير المؤمنين، ثم نهض هو إلى الروم بجماعة المسلمين، فدنا منهم، وتعرضت خيل المسلمين لهم، فلم يخرجوا يومئذ، فانصرف المسلمون عنهم من غير قتال، وتأخر النبطى عن
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام للأزدى (114) وما بعدها.(2/233)
المسير حتى انصرف المسلمون، فذهب عند ذلك بالكتاب. وقد كان أبو عبيدة بعثه أول النهار، فلما قدم على عمر رحمه الله، وقرأ كتابه، قال له: ويحك، هل علمت أو بلغت ما كان من أمر المسلمين، فإن أبا عبيدة كتب إلىّ يخبرنى أنه كتب إلىّ حين نهض إلى المشركين؟ فقال له: أصلحك الله، فإنى لم أبرح يومئذ حتى رجع المسلمون عنهم، وكانوا زحفوا إليهم، وتعرضت خيلهم لهم، فلم يخرج النصارى إليهم، فانصرف المسلمون إلى عسكرهم، وهم أطيب شىء أنفسا وأحسن شىء حالا.
قال: فأنت ما حبسك يومئذ، إلى العشى لم تقبل بالكتاب وقد دفعه إليك أبو عبيدة أول النهار؟ قال: ظننت أنك ستسألنى عما سألتنى عنه الساعة، فأحببت أن يكون عندى علم ما تسألنى عنه. قال له عمر: ويحك، ما دينك؟ قال: نصرانى، قال: ويحك، أفما يدلك عقلك هذا الذى أرى على أن تسلم، ويحك أسلم فهو خير لك. قال: فقد أسلمت. فقال عمر: الحمد لله الذى يهدى من يشاء إذا يشاء، ثم كتب معه إلى أبى عبيدة بن الجراح: سلاح عليك، فإنى أحمد إليك الله لا إله إلا هو. أما بعد، فإن كتابك جاءنى بنفير الروم إليك، ومنزلهم الذى نزلوا به، ورسالتهم التى أرسلوها، وبالذى رجعت إليهم فيما سألوك، وقد سددت بحجتك، وأوتيت رشدك، فإن أتاكم كتابى هذا وأنتم الغالبون فكثيرا ما يكون من ربنا الإحسان، وإن أتاكم وقد أصابكم نكب أو قرح فلا تهنوا ولا تحزنوا ولا تستكينوا، وأنتم الأعلون، وإنها دار الله، وهو فاتحها عليكم فاصبروا إن الله مع الصابرين، واعلم أنك متى لقيت عدوك فاستعنت بالله عليهم وعلم منك الصدق نصرك عليهم، فقل إذا أنت لقيتهم: اللهم أنت الناصر لدينك، المعز لأوليائك، الناصر لهم قديما وحديثا، اللهم فتول نصرهم، وأظهر فلجهم، ولا تكلهم إلى أنفسهم فيعجزوا عنها، وكن أنت الصانع لهم والمدافع عنهم برحمتك، إنك أنت الولى الحميد.
فأقبل الرسول بهذا إلى أبى عبيدة، وكان أبو عبيدة بعد ذلك اليوم الذى زحف فيه إلى الروم فلم يخرجوا إليه، سرح إليهم من الغد خالدا فى الخيل، ولم يخرج أبو عبيدة يومئذ فى الرجالة، فخرجت إلى خالد خيل لهم عظيمة، فأقبلت نحوه، فقال لقيس بن هبيرة، وكان من أشد الناس بأسا، وأشده نكاية فى العدو، ومباشرة لهم بعد خالد: يا قيس، اخرج إلى هذا الخيل. فخرج إليهم قيس، فحمل عليهم مرارا، وحملوا عليه، فقاتلهم قتالا شديدا، ثم أقبلت خيل أخرى عظيمة للروم، فقال خالد لميسرة بن مسروق: اخرج إليهم، فخرج ميسرة فقاتلهم قتالا شديدا، ثم خرجت إليهم من الروم(2/234)
خيل عظيمة، هى أعظم من الخيلين جميعا، عليها بطريق عظيم من بطارقتهم، فجاء حتى إذا دنا من خالد، أمر بشطر خيله، فحملت على خالد وأصحابه، فلم يتخلخل أحد منهم، ثم إنه جمعهم جميعا، فحمل بهم، فلم يبرح أحد من المسلمين، فلما رأى ذلك الرومى انصرف.
فقال خالد لأصحابه: إنه لم يبق من جد القوم ولا حدهم ولا قوتهم إلا ما قد رأيتم، فاحملوا معى يا أهل الإسلام حملة واحدة واتبعوهم ولا تقلعوا عنهم رحمكم الله. ثم حمل عليهم خالد بمن معه، فكشف من يليه منهم، وحمل قيس بن هبيرة على الذين كانوا يلونه فهزمهم وكشفهم، وحمل ميسرة على الذين كانوا يلونه، فهزمهم، واتبعهم المسلمون يقتلونهم ويقصفون بعضهم على بعض، حتى اضطروهم إلى عسكرهم وقد رأوا ما أصابهم، فانكسروا ووهنوا وهابوا المسلمين هيبة شديدة، وانصرف المسلمون إلى عسكرهم وقد قرت أعينهم، واجتمعوا إلى أبى عبيدة وهم مسرورون بما أراهم الله فى عدوهم من عونه لهم عليهم فقال له خالد: إن هزيمتنا خيل المشركين قد دخل رعبها قلوب جماعتهم، فكلهم قلبه مرعوب متخوف لمثلها منا مرة أخرى، فناهض القوم غدا بالغداة ما دام رعب هذه الهزيمة فى قلوبهم، فإنك إن أخرت قتالهم أياما ذهب رعبها من قلوبهم واجترؤوا علينا. قال أبو عبيدة: فانهضوا على بركة الله غدا بالغداة.
قال عمرو بن مالك القيسى: ولم يكن شىء أحب إلى الروم من التطويل ودفع الحرب، انتظارا لمدد، ولا شىء أحب إلى المسلمين من المناجزة وتعجيل الفراغ.
وقال عبد الله بن قرط: لما كانت الليلة التى خرجنا فى صبيحتها إلى أهل فحل، خرج إلينا أبو عبيدة فى الثلث الباقى من الليل، فلم يزل يعبئ الناس ويحرضهم حتى إذا أصبح صلى بالناس، فكان إلى التغليس أقرب منه إلى التنوير، ثم إنه جعل على ميمنته معاذ بن جبل، وعلى ميسرته هاشم بن عتبة، وعلى الرجالة سعيد بن زيد، وعلى الخيل خالد بن الوليد، ثم زحف أبو عبيدة بالناس، وأخذوا يزفون زفا رويدا على رسلهم.
وركب أبو عبيدة فاستعرض الصف من أوله إلى آخره، يقف على كل راية وكل قبيلة، ويقول: عباد الله، استوجبوا من الله النصر بالصبر، فإن الله مع الصابرين، عباد الله، ليبشر من قتل منكم بالشهادة، ومن بقى بالنصر والغنيمة، ولكن وطنوا أنفسكم على القتال والطعن بالرماح، والضرب بالسيوف، والرمى بالنبل، ومعانقة الأقران، فإنه والله ما يدرك ما عند الله إلا بطاعته والصبر فى المواطن المكروهة التماس رضوانه.(2/235)
وتقدم خالد فى الخيل حتى أطل على الروم، فلما رأوه خرجوا إليه فى الخيل والرجل جميعا، وقالوا: إن العرب أفرس على الخيل منا، وخيلنا لا تكاد تثبت لخيلهم، فاخرجوا إليهم فى الخيل والرجال، وكان خالد قد هزم خيلهم بالأمس، فكان ذلك أيضا، مما حملهم على الخروج على هذه التعبئة، خرجوا وهم خمسة صفوف، فأول صف من صفوفهم جعلوا فيه الفارس بين راجلين: رامح وناشب، وجعلوا صفا من الخيل وراء هذا الصف، وجعلوا له مجنبتين.
ثم صفوا ثلاثة صفوف أخر رجالا كلهم، ثم أقبلوا نحو المسلمين، وهم نحو خمسين ألفا. فكان أول من لقيهم خالد بن الوليد فى الخيل، فأخذ لا يجد عليهم مقدما، وأخذوا يزحفون إليه ويرشقونه بالنشاب، وجعل ينكص هو وأصحابه وراءهم، وأخذت الروم تقدم عليهم وهم يتأخرون، حتى انتهوا إلى صفهم، ودافعت أعجاز كثير من خيلهم صدور رجالهم، ثم إن خالدا بعث إلى قيس بن هبيرة: أن اخرج فى خيلك حتى تأتى ميسرتهم فتحمل عليها، وقال لميسرة بن مسروق: قف قبالة صفهم فى خيلك، وضمها إليك كتيبة واحدة، فإذا رأيتنا قد حملنا وانتقض صفهم فاحمل على من يليك منهم.
وكان خالد قسم خيله أثلاثا، فجعل للمرادى قيس بن هبيرة، ثلثها، ولميسرة بن مسروق العبسى ثلثها، وكان هو فى ثلثها، فخرج خالد فى ثلث الخيل التى معه حتى انتهى إلى ميمنتهم، فعلاها، حتى إذا ارتفع عليهم أخرجوا إليه خيلا لهم، كما تشغله وأصحابه، فلما دنت منه، قال: الله أكبر، الله أخرجهم لكم من رجالتهم، شدوا عليهم، ثم استعرضهم فشد عليهم، وشد معه أصحابه بجماعة خيلهم، فهزمهم الله، ووضعوا السلاح والسيوف فيهم حيث شاؤا، فصرعوا منهم أكثر من سبعين قبل أن ينتهوا إلى ميمنتهم، وارتفع قيس بن هبيرة إلى ميسرتهم، فأخرجوا إليه خيلا كما صنعوا بخالد، فحمل عليهم قيس، فهزمهم وضربهم حتى انتهى إلى ميسرتهم، وقتل منهم بشر كثير، وقتلى عظيمة، وكان واثلة بن الأسقع فى خيل قيس بن هبيرة، فخرج له بطريق من كبارهم، فبرز واثلة وهو يقول فى حملته:
ليث وليث فى مجال ضنك ... كلاهما ذو أنف ومعك
أجول جول صارم فى العرك ... أو يكشف الله قناع الشك
مع ظفرى بحاجتى ودركى
ثم حمل على البطريق فضربه ضربة قتله بها، وحملوا بأجمعهم حتى اضطروا الروم إلى عسكرهم، ووقفوا بإزائهم.(2/236)
قال هاشم بن عتبة رحمه الله: والله لقد كنا أشفقنا يومئذ، على خيلنا أول النهار، ثم أحسن الله، فما هو إلا أن رأينا خيلنا قد نصرها الله على خيلهم، فدعوت الناس إلىّ وأمرتهم بتقوى الله، ثم نزلت، فهززت رايتى، ثم قلت: والله لا أردها حتى أركزها فى صفهم، فمن شاء فليتبعنى، ومن شاء فليتخلف عنى، قال: فو الذى لا إله غيره، ما أعلم أن أحدا من أصحاب رايتى تخلف عنى، حتى انتهيت إلى صفهم، فنضحونا بالنشاب، فجثونا على الركب واتقيناهم بالدرق.
ثم ثرت بلوائى وقلت لأصحابى: شدوا عليهم أنا فداؤكم، فإنها غنيمة الدنيا والآخرة، فشددت وشدوا معى، فأستقبل عظيما منهم قد أقبل نحوى فأوجزه الرمح، فخر ميتا، وضاربناهم بالسيوف ساعة فى صفهم، وحمل عليهم خالد من قبل ميسرتهم فقتلهم قتلا ذريعا، وانتقضت صفوفهم من قبل خالد ومن قبلى، ونهد إليهم أبو عبيدة بالناس، وأمر الخيل التى كانت تليه من خيل خالد، فحملت عليهم، فكانت هزيمتهم «1» .
وقال عمرو بن مالك القينى عن أبيه: كان منا رجل له فينا منزلة وحال حسنة، قال:
فقلت فى نفسى: قد بلغنى أن صاحب العرب هذا، يعنى أبا عبيدة، رجل صدق، فو الله لآتينه فلأصحبنه ولأتعلمن منه. قال: فكنت آتيه وأخرج معه إذا خرج إلى عسكره، فلما كان ذلك اليوم أقبل حتى كان إلى جنب أبى عبيدة، فألظ به لا يفارقه، قال: فو الله لرأيته يقص علينا، ويقول: كونوا عباد الله أولياء الله، وارغبوا فيما عند الله أشد من رغبتكم فى الدنيا، ولا تواكلوا فتخاذلوا، وليغن كل رجل منكم قرنه، وأقدموا إقدام من يريد بإقدامه ثواب الله، ولا يكن من لقيكم من عدوكم أصبر على باطلهم منكم على حقكم، ثم نهض يمشى إليهم، ونهض المسلمون معه تحت راياتهم ببصيرة وسكينة ودعة وحسن رعة، وحمل قيس بن هبيرة على الروم من قبل ميسرتهم، فقصف بعضهم على بعض «2» .
وعن يحيى بن هانئ المرادى: أن قيسا قطع يومئذ ثلاثة أسياف، وكسر بضعة عشر رمحا، وكان يقاتل ويقول:
لا يبعدن كل فتى كرار ... ماضى الجنان شاحب صبار
حين تهم الخيل بالإدبار ... يقدم إقدام الشجاع الضارى
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام للأزدى (123- 124) .
(2) انظر: تاريخ فتوح الشام (134- 135) .(2/237)
وقال سالم بن ربيعة: حمل ميسرة بن مسروق يومئذ، ونحن معه فى الخيل، فحملنا على القلب وقد أخذ صف الروم ينتقض من قبل ميسرتهم وميمنتهم، ولم ينته الانتقاض إلى القلب بعد، فثبتوا لنا، وقاتلونا قتالا شديدا، فصرع ميسرة عن فرسه، وصرعت معه، وجرح فرسى فعار، ويعتنق ميسرة رجلا من الروم، فاعتركا ساعة، فقتله ميسرة، ثم شد عليه آخر وقد أعيى ميسرة، فاعتركا ساعة، فصرعه الرومى وجلس على صدره، وأشد عليه، فأضرب وجه الرومى بالسيف، فأطرت قحفه، فوقع ميتا، ووثب ميسرة وانبرى إلى رجل منهم، فضربنى ضربة دير بى منها، ويضربه ميسرة فيصرعه، وركبنا منهم عدد كثير، فأحاطوا بنا، وظننا والله أنه الهلاك، إذ نظرنا فإذا نحن نسمع نداء المسلمين وتكبيرهم، وإذا صفوفهم قد انتهت إلينا، وراياتهم قد غشيتنا، فكبرنا، واشتدت ظهورنا، فانقشع الروم عنا، وحمل عليهم خالد من قبل ميمنتهم، فدق بعضهم على بعض حتى دخلوا عسكرهم «1» .
وعن نوفل بن مساحق، عن أبيه: أن خالدا قاتل يومئذ، قتالا شديدا ما قاتل مثله أحد من المسلمين، وما كان إلا حديثا ومثلا لمن حضره، ولقد كان يستعرض صفوفهم وجماعتهم، فيحمل عليهم حتى يخالطهم، ثم يجالدهم حتى يفرقهم، ويهزمهم، ويكثر القتل فيهم.
قال: ولقد سمعت من يزعم أنه قتل فى ذلك اليوم أحد عشر رجلا من الروم من بطارقتهم وأشدائهم وأهل الشجاعة منهم، وكان يقاتلهم ويقول «2» :
أضربهم بصارم مهند ... ضرب صليب الدين هاد مهتد
لا واهن الحول ولا مفند
وعن سهل بن سعد قال: كان معاذ بن جبل يومئذ من أشد الناس بأسا، وكان يقول:
يا أهل الإسلام، إن هذا اليوم لما بعده من الأيام، غضوا أبصاركم رحمكم الله، وأقدموا إقدام الأسد على عدوكم، ولا تفارقوا راياتكم، ولا تزولوا عن مصافكم، وسوقوهم سوقا عنيفا، ولا تشاغلوا عنهم بغنائمهم، ولا بما فى عسكرهم، فإنى أخاف أن يكون لهم عليكم عطفة فلا تقوم لكم بعدها قائمة إن تفرقتم وشغلتكم غنائمهم، فاطلبوهم حتى لا تروا لهم جمعا ولا صفا.
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (135- 136) .
(2) انظر: تاريخ فتوح الشام (136) .(2/238)
فمضى المسلمون كما وصف لهم على راياتهم وصفوفهم يقدمون عليهم، وجعلت صفوف الروم تنتقض وتدبر، وخيل المسلمين تكردهم وتقتلهم، وتحمل عليهم، ولا تقلع عنهم، فقتلوا منهم فى المعركة نحوا من خمسة آلاف، وقتلوا فى عسكرهم حيث دخلوا نحوا من ألفين، وخرجوا عباديد منهزمين، وخيل المسلمين تتبعهم وتقتلهم حتى اقتحموا فى فحل، وفحل مطلة على أهوية تحتها الماء، فتحصنوا فيها، وأصاب المسلمون منهم نحوا من ألفى أسير، فقتلهم المسلمون، وأقبل أبو عبيدة حتى دخل عسكرهم وحوى ما فيه.
وقال عبد الله بن قرط الثمالى: مررت يومئذ بعمرو بن سعيد بن العاص قبل هزيمة المشركين، ومعه رجال من المسلمين، سبعة أو ثمانية، وإنه لأمامهم نحو العدو، وإنه ليقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال: 15، 16] ، ثم يقول: لكن الجنة والله نعم المصير، ولمن؟ هى هى والله لمن شرى نفسه اليوم لله، وقاتل فى سبيل الله، ثم يقول: إلىّ يا أهل الإسلام، أنا عمرو بن سعيد بن العاص، لا تفروا، فإن الله يراكم، ومن يره الله يفر عن نصر دينه يمقته، فاستحيوا من الله ربكم أن يراكم تطيعون أبغض خلقه إليه، وهو الشيطان الرجيم، وتعصونه وهو الرحمن الرحيم «1» .
قال عبد الله بن قرط: وقد كان العدو حمل علينا حملة منكرة، فرقت بينى وبين أصحابى، فانتهيت إلى عمرو وهو يقول هذا القول، فقلت فى نفسى: والله ما أنا بواجد اليوم فى هذا العسكر رجلا أقدم صحبة ولا أقرب قرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الرجل، فدنوت منه ومعى الرمح، وقد أحاطت به من الروم جماعة، فحملت عليهم، فأصرع أحدهم، ثم أقبلت إليه، فوقفت معه، ثم قلت: يا ابن أبى أحيحة، أتعرفنى؟ فقال لى: نعم يا أخا ثقيف، فقلت له: لم تبعد، هم الإخوان والجيران والحلفاء، ولكنى أخو ثمالة، عبد الله بن قرط. فقال لى: مرحبا بك أخى فى الإسلام، وهو أقرب النسب، أما والله لئن استشهدت وكفى بالله شهيدا لأشهدن لك، ولئن شفعت لأشفعن لك. قال:
فنظرت إلى وجهه، فإذا هو مضروب على حاجبه بالسيف، وإذا الدم قد ملأ عينيه، وإذا هو لا يستطيع أن يطرف ولا يفتح عينيه من الدم، فقلت له: أبشر بخير، فإن الله معافيك من هذه الضربة، ومنزل النصر على الإسلام. قال: أما النصر لأهل الإسلام، فأنزل الله
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (137- 138) .(2/239)
فعجل، وأما أنا، فجعل الله لى هذه الضربة شهادة وأهدى إلىّ أخرى مثلها، فو الله ما أحب أنها بعرض أبى قبيس، وو الله لولا أن يقتل بعض من حولى لأقدمت على هذا العدو حتى ألحق بربى، يا أخى إن ثواب الشهادة عظيم، وإن الدنيا قل ما يسلم منها أهلها.
قال: فما كان بأسرع من أن شد علينا منهم جماعة، فمشى إليهم بسيفه، فضاربهم ساعة وهو أمام الناس، وثار بينهم الغبار، فشددنا عليهم، فصرنا منهم عدة، وإذا نحن بعمرو بن سعيد صريعا، وإذا هو قد بضع وبه أكثر من ثلاثين ضربة، وكانوا حنقوا عليه وحردوا لما رأوا من شدة قتاله، فقطعوه بأسيافهم يرحمه الله.
وقتل أيضا هناك من قريش من بنى سهم: سعيد بن عمرو، وسعيد بن الحارث بن قيس، والحارث بن الحارث، وغلب المسلمون على الأرض واحتووها، وصار من بقى من العدو فى الحصن، وقد قتل الله منهم مقتلة عظيمة، فأقام المسلمون على الحصن وقد غلبوا على سواد الأردن وأرضها وكل ما فيها، وطلبوها بالنزول إليهم، على أن يؤمنوهم، فأبوا، وذلك أنه بلغهم أن ملك الروم بعث إليهم رجلا من غسان يقال له:
المنذر بن عمرو، فجاء فى جمع عظيم من الروم يمد أهل فحل، فلم يبلغهم حتى هزمهم الله وأذلهم، فكان أراد أن يجىء حتى يدخل معهم حصنهم.
وكان طائفة قد جاؤا بعد وقعة فحل بيوم، فقال خالد: ما أظن هؤلاء ينبغى لنا أن نعطيهم قوم قاتلوا على هذا الفىء وغلبوا عليه. فقال علقمة بن الأرث القيسى: لم أصلحك الله لا تجعلهم شركاءنا وقد جاؤا بعيالهم يسيرون ويغدون ويروحون لينصروا الإسلام ويجاهدوا فى سبيل الله؟ أفإن المسلمون سبقوهم بساعة من النهار لا يشركونهم وهم إخوانهم وأنصارهم؟ فقال خالد: ننظر، قال أبو عبيدة: ما نرى إلا أن نشركهم.
فلما بلغ قضاعة أن المنذر بن عمرو قد دخل بطن الأردن، جاء علقمة بن الأرث إلى أبى عبيدة، فقال: إن المنذر بن عمرو قد نزل بطن الأردن، أفلا تبعث إليه المسلمين؟
فقال: دعه حتى يدنو. فقال: أصلحك الله، ابعث معى خيلا فأنا أكفيكه. فقال: لا، لا تقربنه، لست آذن لك، دعه حتى يدنو، فخرج إلى أصحابه فقال لمن لم يشهد الوقعة منهم، ولمن شهدها، ولهم خيل وقوة: اخرجوا بنا حتى نلقى المنذر بن عمرو، فإنى أرجو أن نصادمه مغترا فنقتله، فنذهب إن شاء الله بأجرها وشرف ذكرها، فتابعوه، فأقبل حتى إذا دنا من عسكر المنذر بن عمرو، حمل الخيل عليهم من جانب العسكر وهم(2/240)
غازون، فهزمهم، وأتبعهم الخيل تثفنهم وتقتلهم فى كل جانب، وأغار رجالته فى العسكر فاحتووا ما فيه، ولحق علقمة بالمنذر فجاراه ساعة حتى دنا منه، فطعنه وقتله، وأخذ فرسه ورجع إلى أبى عبيدة وقد جاءه خبره، فقال له أبو عبيدة: إنى لأكره أن لا ألومك وقد عصيتنى، وإنى لأكره أن ألومك وقد فتح الله عليك، ورأى أبو عبيدة أن يسهم لهم مع المسلمين، فقاسموهم ما كان فى عسكر المنذر، فلم يصيبوا منها إلا اليسير.
وكتب أبو عبيدة إلى عمر رحمهما الله «1» : بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عمر أمير المؤمنين، من أبى عبيدة بن الجراح، سلام عليك فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد: فالحمد لله الذى أنزل على المسلمين نصره، وعلى الكافرين رجزه، أخبر أمير المؤمنين أصلحه الله، أنا لقينا الروم وقد جمعوا لنا الجموع العظام، فجاؤنا من رؤس الجبال وأسياف البحار، يرون أن لا غالب لهم من الناس، فبرزوا إلينا، وبغوا علينا، وتوكلنا على الله تعالى، ورفعنا رغبتنا إلى الله، وقلنا حسبنا الله ونعم الوكيل، فنهضنا إليهم بخيلنا ورجلنا، وكان القتال بين الفريقين مليا من النهار، أهدى الله فيه الشهادة لرجال من المسلمين رحمهم الله، منهم: عمرو بن سعيد بن العاص، وضرب الله وجوه المشركين، وأتبعهم المسلمون يقتلونهم ويأسرونهم، حتى اعتصموا بحصنهم، وانتهب المسلمون عسكرهم، وغلبوا على بلادهم، وأنزلهم الله من صياصيهم، وقذف الرعب فى قلوبهم فاحمد الله يا أمير المؤمنين أنت ومن قبلك من المسلمين على إعزاز الدين وإظهار الفلج على المشركين، وادع الله لنا بتمام النعمة، والسلام عليك.
ولما رأى أهل فحل أن أرض الأردن قد غلب عليها المسلمون سألوا الصلح على أن يعفى لهم عن أنفسهم، وأن يؤدوا الجزية، ومن كان فيهم من الروم إن أحب لحق بالروم وخلى بلاد الأردن، وإن أحب أن يقيم ويؤدى الجزية أقام، فصالحهم المسلمون وكتبوا لهم كتابا. وخرج منهم من كان أقبل من الروم فى تلك السنة، وتبقى معهم من كان تبنبك قبل ذلك بالبلد، واتخذ الضياع، وتزوج بها، وولد له فيها، فأقاموا على أن يؤدوا الجزية هم وسائر من كان معهم فى الحصن.
وأما من عداهم من أهل الأردن أهل الأرض والقرى، فاختلف فيهم المسلمون، لأخذهم ذلك عنوة، وغلبتهم عليه بغير صلح، فقالت طائفة: نقتسمهم، وقالت طائفة:
نتركهم، فكتب أبو عبيدة إلى عمر:
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (139- 140) .(2/241)
بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فإن الله جل ثناؤه ذا المن والفضل والنعم العظام فتح على المسلمين أرض الأردن، فرأت طائفة من المسلمين أن يقروا أهلها، على أن يؤدوا الجزية إليهم، ويكونوا عمار الأرض، ورأت طائفة أن يقتسموهم، فاكتب إلينا يا أمير المؤمنين برأيك فى ذلك، أدام الله لك التوفيق فى جميع الأمور، والسلام.
فكتب إليه عمر: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر أمير المؤمنين، إلى أبى عبيدة بن الجراح، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو. أما بعد: فقد بلغنى كتابك تذكر إعزاز الله أهل دينه، وخذلانه أهل عدوانه، وكفايته إيانا مؤنة من عادانا، فالحمد لله على إحسانه فيما مضى، وحسن صنيعه فيما غبر، الذى عافى جماعة المسلمين، وأكرم بالشهادة فريقا من المؤمنين، فهنيئا لهم رضا ربهم، وكرامته إياهم، ونسأل الله أن لا يحرمنا أجرهم، ولا يفتنا بعدهم، فقد نصحوا الله وقضوا ما عليهم، ولربهم كانوا يحفدون، ولأنفسهم كانوا يمهدون، وقد فهمت ما ذكرت من أمر الأرض التى ظهر عليها وعلى أهلها المسلمون، فقالت طائفة: نقر أهلها، على أن يؤدوا الجزية للمسلمين، ويكونوا للأرض عمارا.
ورأت طائفة أن يقتسموهم، وإنى نظرت فيما كتبت فيه، ففرق لى من الرأى فيما سألتنى عنه أنى رأيت أن تقرهم، وتجعل الجزية عليهم، وتقسمها بين المسلمين، ويكونوا للأرض عمارا، فهم أعلم بها وأقوى عليها، أرأيتم لو أنا أخذنا أهلها فاقتسمناهم، من كان يكون لمن يأتى بعدنا من المسلمين؟ والله ما كانوا ليجدوا إنسانا يكلمونه، ولا ينتفعون بشىء من ذات يده، وإن هؤلاء يأكلهم المسلمون ما داموا أحياء، فإذا هلكنا وهلكوا أكل أبناؤنا أبناءهم أبدا ما بقوا، وكانوا عبيدا لأهل الإسلام ما دام دين الإسلام ظاهرا، فضع عليهم الجزية، وكف عنهم السباء، وامنع المسلمين من ظلمهم والإضرار بهم وأكل أموالهم إلا بحقها، والسلام عليك.
فلما جاء أبا عبيدة هذا الرأى من عمر عمل به، وكان رأيه ورأى عمر فى ذلك واحدا «1» .
وقال علقمة بن الأرث القينى فى يوم فحل:
ونحن قتلنا كل واف سباله ... من الروم معروف النجار منطق
نطلق بالبيض الرقاق نساءهم ... وأبنا إلى أزواجنا لم تطلق
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (139- 142) .(2/242)
نصرعهم فى كل فج وغائط ... كأنهم بالقاع معزى المحلق
فكم من قتيل أوهطته سيوفنا ... كفاحا وكف قد أطارت وأسوق
فتح حمص فيما حكاه أصحاب فتوح الشام «1»
عن محرز بن أسد الباهلى قال: دعا أبو عبيدة رؤس المسلمين وفرسان العرب الذين معه، فجمعنا بعدما ظهرنا على فحل وفرغنا من الأردن وأرضها، وقد تحصن منا أهل إيلياء، واجتمعت بقيسارية جموع عظام مع أهلها، وأهلها لم يزالوا كثيرا، فقال أبو عبيدة: يا أهل الإسلام، إن الله قد أحسن إليكم وألبسكم عافية مجللة وأمنا واسعا، وأظهركم على بطارقة الروم، وفتح لكم الحصون والقلاع والقرى والمدائن، وجعلكم لهذه الدار دار الملوك، أربابا، وجعلها لكم منزلا، وقد كنت أردت النهوض بكم إلى أهل إيلياء وأهل قيسارية، فكرهت أن آتيهم وهم فى جوف مدينتهم متحرزون متحصنون، ولم آمن أن يأتيهم مدد من جندهم، وأنا نازل عليهم قد حبست نفسى لهم عن افتتاح الأرض، ولم أدر لعل من طاعتى إذا رأونى قد شغلت نفسى بهم أن يرجعوا إليهم، وأن ينقضوا العهد الذى بينى وبينهم، فرأيت أن أسير إلى دمشق، ثم أسير فى أرضها إلى من لم يدخل طاعتى منهم، ثم أسير إلى حمص، فإن قدرنا عليها، وإلا تركناها ولا نقيم عليها أكثر من يوم الأربعاء والخميس والجمعة، ثم ندنو من ملك الروم وننظر ما يريد بمكانه الذى هو به، فإن الله نفاه عن مكانه ذلك لم تبق بالشام قرية ولا مدينة إلا سالمت وصالحت وأعطت الجزية ودخلت فى الطاعة «2» .
فقال المسلمون جميعا: فنعم الرأى رأيك، فأمضه وسر بنا إذا بدا لك، فدعا خالدا وكان لكل ملمة ولكل شدة، فقال له: سر رحمك الله، فى الخيل. فخرج فيها، وخلف عمرو بن العاص فى أرض الأردن، وفى طائفة من أرض فلسطين مما يلى أرض العرب، وجاء خالد حتى تولى أرض دمشق، فاستقبله الذين كانوا صالحوا المسلمين.
ثم إن أبا عبيدة جاء من الغد، فخرجوا أيضا، فاستقبلوه بما يحب، فلبث يومين أو ثلاثة، ثم أمر خالدا فسار حتى بلغ بعلبك وأرض البقاع، فغلب على أرض البقاع، وأقبل قبل بعلبك حتى نزل عليها، فخرج إليه منها رجل، فأرسل إليهم فرسانا من المسلمين نحوا من خمسين، فيهم ملحان بن زياد الطائى، وقنان بن دارم العبسى، فحملوا عليهم
__________
(1) راجع: المنتظم لابن الجوزى (4/ 190) ، تاريخ الطبرى (3/ 598) .
(2) انظر: تاريخ فتوح الشام (143- 144) .(2/243)
حتى أقحموهم الحصن. فلما رأوا ذلك بعثوا فى طلب الصلح، فأعطاهم ذلك أبو عبيدة، وكتب لهم كتابا.
ثم إنه خرج نحو حمص، فجمع له أهلها جمعا عظيما، ثم استقبلوه بجوسية «1» ، فرماهم بخالد بن الوليد، فلما نظر إليهم خالد قال: يا أهل الإسلام، الشدة، الشدة. ثم حمل عليهم خالد، وحمل المسلمون معه، فولوا منهزمين حتى دخلوا مدينتهم، وبعث خالد ميسرة بن مسروق فاستقبل خيلا لهم عظيمة عند نهير قريب من حمص، فطاردهم قليلا ثم حمل عليهم، فهزمهم، وأقبل رجل من المسلمين من حمير يقال له شرحبيل، فعرض له منهم فوارس، فحمل عليهم وحده، فقتل منهم سبعة، ثم جاء إلى نهر دون حمص مما يلى دير مسحل فنزل عن فرسه فسقاه، وجاء نحو من ثلاثين فارسا من أهل حمص فنظروا إلى رجل واحد، فأقبلوا نحوه، فلما رأى ذلك أقحم فرسه وعبر الماء إليهم، ثم ضرب فرسه فحمل عليهم، فقتل أول فارس، ثم الثانى، ثم الثالث، ثم الرابع، ثم الخامس، ثم انهزموا وتبعهم وحده، فلم يزل يقتل واحدا واحدا حتى انتهوا إلى دير مسحل وقد صرع منهم أحد عشر رجلا، فاقتحموا جوف الدير واقتحم معهم، فرماه أهل الدير بالحجارة حتى قتلوه، رحمه الله.
وجاء ملحان بن زياد وعبد الله بن قرط وصفوان بن المعطل إلى المدينة، فأخذوا يطيفون بها يريدون أن يخرج إليهم أهلها، فلم يخرجوا. وجاء المسلمون حتى نزلوا على باب الرستن «2» ، فزعم النضر بن شفى أن رجلا من آل ذى الكلاع كان أول من دخل مدينة حمص، وذلك أنه حمل من جهة باب الشرقى فلم يرد وجهه شىء، فإذا هو فى جوف المدينة، فلما رأى ذلك ضرب فرسه فخرج كما هو على وجهه ولا يرى إلا أنه قد هلك، حتى خرج من باب الرستن، فإذا هو فى عسكر المسلمين.
وحاصر المسلمون أهل حمص حصارا شديدا، فأخذوا يقولون للمسلمين: اذهبوا نحو الملك، فإن ظفرتم به فنحن كلنا لكم عبيد. فأقام أبو عبيدة على باب الرستن بالناس، وبث الخيل فى نواحى أرضهم، فأصابوا غنائم كثيرة وقطعوا عنهم المادة والميرة، واشتد عليهم الحصار، وخشوا السباء فأرسلوا إلى المسلمين يطلبون الصلح، فصالحهم المسلمون
__________
(1) جوسية: بالضم ثم السكون وكسر السين المهملة وياء خفيفة، قرية من قرى حمص على ستة فراسخ منها من جهة دمشق. انظر: معجم البلدان (2/ 158) .
(2) الرستن: بفتح أوله وسكون ثانيه، بليدة قديمة كانت على نهر الميماس، بين حماة وحمص، فى نصف الطريق. انظر: معجم البلدان (3/ 43) .(2/244)
وكتبوا لهم كتابا بالأمان على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم، وعلى أن يضيفوا المسلمين يوما وليلة، وعلى أن على أرض حمص مائة ألف دينار وسبعين ألف دينار، وفرغوا من الصلح، وفتحوا باب المدينة للمسلمين، فدخلوها وأمن بعضهم بعضا.
وكتب أبو عبيدة إلى عمر رضى الله عنهما: بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عمر أمير المؤمنين، من أبى عبيدة بن الجراح، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد، فأحمد الله الذى أفاء علينا وعليك يا أمير المؤمنين أفضل كورة بالشام، أكثرها أهلا وقلاعا وجمعا وخراجا، وأكبتهم للمشركين كبتا، وأيسره على المسلمين فتحا. أخبرك يا أمير المؤمنين أصلحك الله، أنا قدمنا بلاد حمص وبها من المشركين عدد كثير، والمسلمون يزفون إليهم ببأس شديد، فلما دخلنا بلادهم ألقى الله الرعب فى قلوبهم، ووهن كيدهم، وقلم أظفارهم، فسألونا الصلح وأذعنوا بأداء الخراج، فقبلنا منهم وكففنا عنهم، ففتحوا لنا الحصون واكتتبوا منا الأمان، وقد وجهنا الخيول إلى الناحية التى بها ملكهم وجنوده.
نسأل الله ملك الملوك وناصر الجنود أن يعز المسلمين بنصره، وأن يسلم المشرك الخاطئ بذنبه، والسلام عليك.
فكتب إليه عمر: أما بعد، فقد بلغنى كتابك تأمرنى فيه بحمد الله على ما أفاء علينا من الأرض وفتح علينا من القلاع ومكن لنا فى البلاد وصنع لنا ولكم وأبلانا وإياكم من حسن البلاء، فالحمد لله على ذلك حمدا كثيرا ليس له نفاد ولا يحصى له تعداد، وذكرت أنك وجهت الخيول نحو البلاد التى فيها ملك الروم وجموعهم، فلا تفعل، ابعث إلى خيلك فأضممها إليك وأقم حتى يمضى هذا الحول ونرى من رأينا. ونستعين الله ذا الجلال والإكرام على جميع أمرنا، والسلام عليك.
فلما أتى أبا عبيدة الكتاب دعا رؤس المسلمين، فقال لهم: إنى قد كنت قدمت ميسرة بن مسروق إلى ناحية حلب وأنا أريد الإقدام والغارة على ما دون الدرب من أرض الروم، وكتبت بذلك إلى أمير المؤمنين، فكتب إلىّ: أن أصرف إلى خيلى، وأن أتربص بهم الحول حتى يرى من رأيه. فقالوا: لم يألك أمير المؤمنين والمسلمين نظرا وخيرا. فسرح إلى ميسرة، وقد كان أشرف على حلب ودنا منها، فيجامعه كتاب إلى ميسرة: أما بعد، فإذا لقيت رسولى فأقبل معه ودع ما كنت وجهتك إليه حتى نرى من رأينا وننظر ما يأمرنا به خليفتنا، والسلام.(2/245)
فأقبل ميسرة فى أصحابه حتى انتهى إلى أبى عبيدة بحمص، فنزل معه، وخرج أبو عبيدة فعسكر بالناس، ودعا خالد بن الوليد، فقال له: اخرج إلى دمشق فانزلها فى ألف رجل من المسلمين وأقيم أنا هاهنا، ويقيم عمرو بن العاص فى مكانه الذى هو فيه، فيكون بكل جانب من الشام طائفة من المسلمين، فهو أقوى لنا عليها وأحرى أن نضبطها، فخرج خالد فى ألف رجل حتى أتى دمشق وبها سويد بن كلثوم بن قيس القرشى، من بنى محارب بن فهر، وكان أبو عبيدة خلفه بها فى خمسمائة رجل، فقدم خالد فعسكر على باب من أبوابها، ونزل سويد فى جوفها.
وعن أدهم بن محرز بن أسد الباهلى قال: أول راية دخلت أرض حمص ودارت حول مدينتها راية ميسرة بن مسروق، ولقد كانت لأبى أمامة راية ولأبى راية، وإن أول رجل من المسلمين قتل رجلا من المشركين لأبى، إلا أن يكون رجل من حمير، فإنه حل هو وأبى جميعا فكل واحد منهما قتل فى حملته رجلا، فكان أبى يقول: أنا أول رجل من المسلمين قتل رجلا من المشركين بحمص، لا أدرى ما الحميرى، فإنى حملت أنا وهو فقتل كل رجل منا فى حملته رجلا، ولا أخال إلا أنى قتلت قتيلى قبل قتيله «1» .
وقال أدهم: إنى لأول مولود بحمص، وأول مولود فرض له بها، وأول من رئى فيها بيده كتف يختلف إلى الكتاب، ولقد شهدت صفين وقاتلت «2» .
وقال عبد الله بن قرط: عسكر أبو عبيدة ونحن معه حول حمص نحوا من ثمان عشرة ليلة، وبث عماله فى نواحى أرضها، واطمأن فى عسكره، وذهبت منهزمة الروم من فحل حتى قدمت على ملك الروم بأنطاكية، وخرجت فرسان من فرسان الروم ورجال من عظمائهم وذوى الأموال والغنى والقوة منهم ممن كان أوطن بالشام فدخلوا قيسارية، وتحصن أهل فلسطين بإيلياء.
ولما قدمت المنهزمة على هرقل دعا رجالا منهم، فقال لهم: أخبرونى ويلكم عن هؤلاء القوم الذين تلقونهم، أليسوا بشرا مثلكم؟ قالوا: بلى، قال: فأنتم أكثر أم هم؟
قالوا: نحن أكثر منهم أضعافا، وما لقيناهم فى موطن إلا ونحن أكثر منهم. قال: ويلكم فما بالكم تنهزمون إذا لقيتموهم؟ فسكتوا. فقام شيخ منهم، فقال: أنا أخبرك أيها الملك من أين يؤتون، قال: فأخبرنى، قال: إنهم إذا حمل عليهم صبروا، وإذا حملوا لم يكذبوا،
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (148- 149) .
(2) انظر: تاريخ فتوح الشام (149) .(2/246)
ونحن نحمل فنكذب ويحمل علينا فلا نصبر. قال: وما بالكم كما تصفون، وهم كما تزعمون؟ قال الشيخ: ما أرانى إلا قد علمت من أين هذا. قال له: ومن أين هذا؟ قال:
من أجل أن القوم يقومون الليل ويصومون النهار ويوفون بالعهد ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وإنا نشرب الخمر، ونرتكب المحارم، وننقض العهد ونأمر بما يسخط الله وننهى عما يرضيه ونفسد فى الأرض. قال: صدقتنى، لأخرجن من هذه القرية، ولأدعن هذه البلدة، وما لى فى صحبتكم من خير وأنتم هكذا. قال: نشدتك الله أيها الملك أن تفعل، تدع سورية جنة الدنيا للعرب وتخرج منها ولما تقاتل وتجهد؟ قال: قد قاتلتموهم غير مرة بأجنادين، وفحل، ودمشق، والأردن، وفلسطين، وحمص، وفى غير موطن، كل ذلك تنهزمون وتفرون وتغلبون. قال الشيخ: حولك من الروم عدد الحصى والثرى والذر، لم يلقهم منهم إنسان، ثم تريد أن تخرج منها وترجع بهؤلاء جميعا من قبل أن يقاتلوا؟ «1» .
فإن هذا الشيخ ليكلمه إذ قدم عليه وفد قيسارية وإيلياء، وسيأتى خبرهم بعد إن شاء الله.
وذكر الطبرى «2» عن سيف: أن هرقل لما بلغه الخبر بمقتل أهل المرج أمر أمير حمص بالمضى إليها، وقال له: إنه بلغنى يعنى عن المسلمين، أن طعامهم لحوم الإبل، وشرابهم ألبانها، وهذا الشتاء، فلا تقاتلوهم إلا فى كل يوم بارد، فإنه لا يبقى إلى الصيف منهم أحد هذا جل طعامه، وشرابه، وارتحل فى عسكره ذلك حتى أتى الرها.
وأقبل أبو عبيدة حتى نزل على حمص، وأقبل خالد بعده حتى ينزل عليها، فكان أهلها يغادون المسلمين ويراوحونهم فى كل يوم بارد، ولقى المسلمون بها بردا شديدا والروم حصارا طويلا. فأما المسلمون فصبروا ورابطوا، وأفرغ الله عليهم الصبر وأعقبهم النصر، حتى انصرم الشتاء، وإنما تمسك الروم بالمدينة رجاء أن يهلكهم الشتاء. فكانوا يتواصون فيما بينهم ويقولون: تمسكوا فإنهم جفاة، فإذا أصابهم البرد تقطعت أقدامهم مع ما يأكلون ويشربون، فكانت الروم ترجع وقد سقطت أقدام بعضهم فى خفافهم، وإن المسلمين لفى النعال ما أصيب إصبع أحد منهم، حتى إذا انخمس الشتاء، قام فيهم شيخ لهم يدعوهم إلى مصالحة المسلمين، قالوا: كيف والملك فى عزه وملكه ليس بيننا وبينهم شىء؟ فتركهم، وقام فيهم آخر وقال: ذهب الشتاء وانقطع الرجاء فما تنتظرون؟
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (149- 151) .
(2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 599- 600) .(2/247)
قالوا: البرسام، فإنما يسكن فى الشتاء ويثور فى الصيف، قال: إن هؤلاء قوم يعانون ولأن تأتوهم بعهد وميثاق خير من أن تؤخذوا عنوة، أجيبونى محمودين قبل أن تجيبونى مذمومين. فقالوا: شيخ خرف ولا علم له بالحرب. وأثاب الله المسلمين على صبرهم أيام حمص. فيما حكى عن بعض أشياخ من غسان وبلقين «1» : أن زلزل بأهل حمص، وذلك أن المسلمين ناهدوهم، فكبروا تكبيرة زلزلت معها الروم فى المدينة، وتصدعت الحيطان، ففزعوا إلى رؤسائهم وذوى رأيهم ممن كان يدعوهم إلى المسالمة فلم يجيبوهم وأذلوهم بذلك، ثم كبروا الثانية فتهافتت دور كثيرة وحيطان، وفزعوا إلى رؤسائهم وذوى رأيهم، فقالوا: ألا ترون إلى عذاب الله؟ فأجابوهم: لا يطلب الصلح غيركم، فأشرفوا ينادوى، الصلح الصلح، ولا يشعر المسلمون بما حدث فيهم، فأجابوهم وقبلوا منهم على أنصاف دورهم، وعلى أن يترك المسلمون أموال ملوك الروم وبنيانهم لا ينزلونه عليهم، فتركوه لهم، فصالح بعضهم على صلح دمشق على دينار وطعام على كل جريب أبدا أيسروا أو أعسروا، وصالح بعضهم على قدر طاقته إن زاد ماله زيد عليه وإن نقص نقص، وعلى هذين الوجهين كان صلح دمشق والأردن، وولوا معاملة ما جلا ملوكهم عنه.
حديث حمص آخر
قالوا: وغزى هرقل أهل حمص فى البحر، واستمد أهل الجزيرة، واستثار أهل حمص، فأرسلوا إليه: بأنا قد عاهدنا، فنخاف أن لا ننصر.
واستمد أبو عبيدة خالدا، فأمده بمن معه جميعا، لم يخلف أحدا، فكفر أهل قنسرين بعده وتابعوا هرقل، وكان أكثر من هنالك تنوخ الحاضر.
ودنا هرقل من حمص وعسكر وبعث البعوث إلى حمص، فأجمع المسلمون على الخندقة والكتاب إلى عمر، إلا ما كان من خالد، فإن المناجزة كانت رأيه، فخندقوا على حمص، وكتبوا إلى عمر واستصرخوه.
وجاء الروم ومن أمدهم حتى نزلوا عليهم فحصروهم، وبلغت أمداد الجزيرة ثلاثين ألفا سوى أمداد قنسرين من تنوخ وغيرهم، فبلغوا من المسلمين كل مبلغ.
وجاء الكتاب إلى عمر وهو موجه إلى مكة للحج، فمضى لحجه، وكتب إلى سعد بن
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 600) .(2/248)
أبى وقاص: إن أبا عبيدة قد أحيط به ولزم حصنه، فبث المسلمين بالجزيرة، واشغلهم بالخيول عن أهل حمص، وأمد أبا عبيدة بالقعقاع بن عمرو.
فخرج القعقاع ممدا لأبى عبيدة، وخرجت الخيول نحو الرقة ونصيبين وحران، فلما وصلوا الجزيرة وبلغ ذلك الروم الذين كانوا منها وهم بحمص تقوضوا إلى مدائنهم، وبادروا المسلمين إليها، فتحصنوا، ونزل عليهم المسلمون فيها، ولما دنا القعقاع من حمص راسلت طائفة من تنوخ خالدا ودلوه وأخبروه بما عندهم من الخبر، فأرسل إليهم خالد:
والله لولا أنى فى سلطان غيرى ما باليت قللتم أم كثرتم أو أقمتم أو ذهبتم، فإن كنتم صادقين فانفشوا كما انفش أهل الجزيرة، فساموا تنوخ ذلك، فأجابوهم، وراسلوا خالدا: إن ذلك إليك، فإن شئت فعلنا، وإن شئت أن تخرج علينا فننهزم بالروم، وأوثقوا له، فقال: بل أقيموا، فإذا خرجنا فانهزموا بهم.
فقال المسلمون لأبى عبيدة: قد أنفش أهل الجزيرة، وقد ندم أهل قنسرين وواعدوا من أنفسهم، وهم العرب، فاخرج بنا وخالد ساكت، فقال: يا خالد، ما لك لا تتكلم؟
فقال: قد عرفت الذى كان من رأيى فلم تسمع من كلامى. قال: فتكلم فإنى أسمع منك وأطيعك، قال: فاخرج بالمسلمين، فإن الله تعالى قد نقص من عدتهم، وبالعدد يقاتلون، ونحن إنما نقاتل منذ أسلمنا بالنصر، فلا تجفلك كثرتهم.
قالوا: فجمع أبو عبيدة الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وقال:
أيها الناس، إن هذا يوم له ما بعده، أما من حكى منكم فإنه يصفو له ملكه وقراره، وأما من مات منكم فإنها الشهادة، فأحسنوا بالله الظن ولا يكرهن إليكم الموت أمر اقترفه أحدكم دون الشرك، توبوا إلى الله وتعرضوا للشهادة، فإنى أشهد وليس أوان الكذب، أنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة.
فكأنما كانت بالناس عقل تنشطت، فخرج بهم وخالد على الميمنة، وقيس على الميسرة، وأبو عبيدة فى القلب وعلى باب المدينة معاذ بن جبل، فاجتلدوا بها، فإنهم كذلك إذ قدم القعقاع متعجلا فى مائة، فانهزم أهل قنسرين بالروم، فاجتمع القلب والميمنة على قلبهم وقد انكسر أحد جناحيه، فما أفلت منهم مخبر، وذهبت الميسرة على وجهها، وآخر من أصيب منهم بمرج الديباج انتهوا إليه فكسروا سلاحهم وألقوا بلامهم تخففا، فأصيبوا وتغنموا.(2/249)
ولما ظفر المسلمون جمعهم أبو عبيدة فخطبهم، وقال لهم: لا تتكلوا ولا تزهدوا فى الدرجات.
فتح قنسرين»
وبعث بعد فتح حمص خالد بن الوليد إلى قنسرين، فلما نزل بالحاضر زحف إليه الروم وعليهم ميناس، وهو رأس الروم وأعظمهم فيهم بعد هرقل، فالتقوا بالحاضر، فقتل ميناس ومن معه مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها. فأما الروم فماتوا على دمه حتى لم يبق منهم أحد، وأما أهل الحاضر فأرسلوا إلى خالد أنهم عرب، وأنهم إنما حشدوا ولم يكن من رأيهم حربه، فقبل منهم وتركهم.
ولما بلغ ذلك عمر بن الخطاب رضى الله عنه، قال: أمر خالد نفسه، يرحم الله أبا بكر هو كان أعلم بالرجال منى، وكان قد عزله والمثنى بن حارثة عند قيامه، بالأمر، وقال: إنى لم أعزلهما عن ريبة، ولكن الناس عظموهما، فخشيت أن يوكلوا إليهما.
ويروى أنه قال حين ولى: والله لأعزلن خالد بن الوليد والمثنى بن حارثة ليعلما أن الله إنما ينصر دينه لا إياهما. فلما كان من أمر خالد فى قنسرين ما كان، رجع عن رأيه.
وسار خالد حتى نزل على قنسرين، فتحصنوا منه، فقال: إنكم لو كنتم فى السحاب لحملنا الله إليكم أو لأنزلنكم إلينا. فنظروا فى أمرهم، وذكروا ما لقى أهل حمص وقنسرين، فسألوه الصلح على مثل صلحها، فأبى إلا على إخراب المدينة، فأخربها.
واتطأت حمص وقنسرين، فعند ذلك خنس هرقل وخرج نحو القسطنطينية. وأفلت رجل من الروم كان أسيرا فى أيدى المسلمين فلحق بهرقل، فقال له: أخبرنى عن هؤلاء القوم. فقال: أحدثك كأنك تنظر إليهم، فرسان بالنهار، ورهبان بالليل، ما يأكلون فى ذمتهم إلا بثمن، ولا يدخلون إلا بسلام، يقفون على من حاربهم حتى يأتوا عليه. فقال:
لئن كنت صدقتنى ليرثن ما تحت قدمى هاتين «2» .
وكان هرقل كلما حج بيت المقدس فخلف سورية، وظعن فى أرض الروم التفت فقال: السلام عليك يا سورية، تسليم مودع لم يقض منك وطره، وهو عائد. فلما توجه
__________
(1) راجع: المنتظم لابن الجوزى (4/ 191) ، تاريخ الطبرى (3/ 601) .
(2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 602- 603) .(2/250)
المسلمون نحو حمص عبر الماء فنزل الرها، فلم يزل بها حتى إذا فتحت قنسرين، وقتل ميناس خنس عند ذلك إلى سميساط «1» حتى إذا فصل منها نحو أرض الروم على شرف، فالتفت نحو سورية وقال: عليك السلام يا سورية، سلاما لا اجتماع بعده، ولا يعود إليك رومى أبدا إلا خائفا، حتى يولد المولود المشئوم، ويا ليته لا يولد، ما أحلى فعله، وما أمر عاقبته على الروم. ثم مضى حتى نزل قسطنطينية.
وهذا مقتضب من أحاديث متفرقة ذكرها سيف فى كتابه.
جمع الروم للمسلمين
ثم نعود إلى صلة ما قطعنا قبل من الحديث عن وفد أهل إيلياء وقيسارية القادم على هرقل، إذ قد وعدنا بذكره حسب ما ذكره من ذلك أصحاب فتوح الشام فى كتبهم.
وذلك أن أهل قيسارية وأهل إيلياء تواطأوا بعد يوم فحل وتآمروا، أن يبعثوا وفدا منهم إلى هرقل بأنطاكية، فيخبروه بتمسكهم بأمره وإقامتهم على طاعته وخلافهم العرب، ويسألونه المدد والنصر. فلما جاءه وفدهم هذا رأى أن يبعث الجنود ويقيم هو بأنطاكية، فأرسل إلى رومية والقسطنطينية، وإلى من كان من جنوده وعلى دينه من أهل الجزيرة وأرمينية، وكتب إلى عماله أن يحشروا إليه كل من أدرك الحلم من أهل مملكته فما فوق ذلك إلى الشيخ الفانى، فأقبلوا إليه، وجاء منهم ما لا تحمله الأرض، وجاءه جرجير صاحب أرمينية فى ثلاثين ألفا، وآتاه أهل الجزيرة، ونزع إليه أهل دينه وجميع من كان فى طاعته، فدعا باهان، وكان من عظمائهم وأشرافهم، فعقد له على مائة ألف، ودعا ابن قماطر فعقد له على مائة ألف فيهم جرجير ومن معه من أهل أرمينية، ودعا الدرنجار فعقد له على مائة ألف، ثم أعطى الأمراء مائة ألف، مائة ألف، وأعطى باهان مائتى ألف، وقال لهم: إذا اجتمعتم فأميركم باهان، ثم قال: يا معشر الروم، إن العرب قد ظهروا على سورية، ولم يرضوا بها حتى تعاطوا أقصى بلادكم، وهم لا يرضون بالبلاد والمدائن والبر والشعير والذهب والفضة حتى يسبوا الأمهات والبنات والأخوات والأزواج، ويتخذوا الأحرار وأبناء الملوك عبيدا، فامنعوا حرمتكم وسلطانكم ودار ملككم «2» .
__________
(1) سميساط: بلد من بلد العجم، منها السميساطى رجل من العجم كان موصوفا بالورع والزهد. انظر الروض المعطار (323) .
(2) انظر هذا الخبر وما بعده فى: تاريخ فتوح الشام (151- 159) .(2/251)
قال عبد الله بن قرط، والحديث له: ثم وجههم إلينا، فقدمت عيوننا من قبلهم، فخبرونا بمقالة ملكهم وبمسيرهم إلينا وجمعهم لنا، ومن أجلب معهم من غيرهم علينا ممن كان على دينهم وفى طاعتهم.
فلما جاء أبا عبيدة الخبر عن عددهم وكثرتهم، رأى أن لا يكتم ذلك المسلمين، وأن يستشيرهم فيه لينظر ما يؤول إليه رأى جماعتهم، فدعا رؤس المسلمين وأهل الصلاح منهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد. فإن الله عز وجل، قد أبلاكم أيها المؤمنون فأحسن البلاء، وصدقكم الوعد، وأعزكم بالنصر، وأراكم فى كل موطن ما تسرون به، وقد سار إليكم عدوكم من المشركين بعدد كثير، ونفروا إليكم فيما حدثنى عيونى نفير الروم الأعظم، فجاؤكم برا وبحرا حتى خرجوا إلى صاحبهم بأنطاكية، ثم قد وجه إليكم ثلاثة عساكر فى كل عسكر منها ما لا يحصيه إلا الله من البشر، وقد أحببت أن لا أغركم من أنفسكم، ولا أطوى عنكم خبر عدوكم، ثم تشيرون علىّ برأيكم، وأشير عليكم برأيى، فإنما أنا كأحدكم.
فقام يزيد بن أبى سفيان، فقال: نعم ما رأيت رحمك الله، إذ لم تكتم عنا ما أتاك من عدونا، وأنا مشير عليكم، فإن كان صوابا فذاك ما نويت، وإن يكن الرأى غير ما أشير به، فإنى لا أتعمد غير ما يصلح المسلمين. أرى أن نعسكر على باب مدينة حمص بجماعة المسلمين، وندخل النساء والأبناء داخل المدينة، ثم نجعل المدينة فى ظهورنا، ثم نبعث إلى خالد فيقدم عليك من دمشق، وإلى عمرو بن العاص فيقدم عليك من الأردن، فتلقاهم بجماعة من معك من المسلمين.
وقام شرحبيل بن حسنة فقال: إن هذا مقام لا بد فيه من النصيحة للمسلمين وإن خالف الرجل منا أخاه، وإنما على كل رجل منا أن يجتهد رأيه، وأنا الآن فقد رأيت غير ما رأى يزيد، وهو والله عندى من الناصحين لجماعة المسلمين، ولكن لا أجد بدا من أن أشير عليكم بما أظنه خيرا للمسلمين.
إنى لا أرى أن ندخل ذرارى المسلمين مع أهل حمص وهم على دين عدونا هذا الذى قد أقبل إلينا، ولا آمن إن وقع بيننا وبينهم من الحرب ما نتشاغل به أن ينقضوا عهدنا وأن يثبوا على ذرارينا فيتقربوا بهم إلى عدونا.
فقال له أبو عبيدة: إن الله قد أذلهم لكم، وسلطانكم أحب إليهم من سلطان عدوكم، وأما إذ ذكرت ما ذكرت، وخوفتنا ما خوفت، فإنى أخرج أهل المدينة منها(2/252)
وأنزلها عيالنا، وأدخل رجالا من المسلمين يقومون على سورها وأبوابها، ونقيم نحن بمكاننا هذا حتى يقدم علينا إخواننا.
فقال له شرحبيل: إنه ليس لك ولا لنا معك أن نخرجهم من ديارهم وقد صالحناهم على ألا نخرجهم منها.
فأقبل أبو عبيدة على جماعة من عنده فقال: ماذا ترون، رحمكم الله؟ فقالوا: نرى أن نقيم، ونكتب إلى أمير المؤمنين فنعلمه نفير الروم إلينا، وتبعث إلى من بالشام من إخوانك المسلمين فيقدموا عليك.
فقال أبو عبيدة: إن الأمر أجل وأعظم مما تحسبون، ولا أحسب القوم إلا سيعاجلونكم قبل وصول خبركم إلى أمير المؤمنين.
فقام إليه ميسرة بن مسروق، فقال: أصلحك الله، إنا لسنا بأصحاب القلاع ولا الحصون ولا المدائن، وإنما نحن أصحاب البر والبلد القفر، فأخرجنا من بلاد الروم ومدائنها إلى بلادنا أو إلى بلاد من بلادهم تشبه بلادنا إن كانوا قد جاشوا علينا كما ذكرت، ثم اضمم إليك قواصيك، وابعث إلى أمير المؤمنين فليمددك.
فقال كل من حضر ذلك المجلس: الرأى ما رأى ميسرة، فقال لهم أبو عبيدة: فتهيأوا وتيسروا حتى أرى من رأى، وكان رأى أبى عبيدة أن يقيموا ولا يبرحوا، ولكنه كره خلافهم، ورجا أن يكون فى اجتماع رأيهم الخير والبركة.
ثم بعث إلى حبيب بن مسلمة، وكان استعمله على الخراج، فقال: انظر ما كنت جبيت من حمص فاحتفظ به حتى آمرك فيه، ولا تجبين أحدا ممن بقى حتى أحدث إليك فى ذلك، ففعل، فلما أراد أبو عبيدة أن يشخص دعا حبيبا فقال له: اردد على القوم الذين كنا صالحناهم من أهل البلد ما كنا أخذنا منهم، وقل لهم: نحن على ما كان بيننا وبينكم من الصلح، لا نرجع عنه إلا أن ترجعوا، وإنما رددنا عليكم أموالكم كراهية أن نأخذها ولا نمنع بلادكم، ولكنا نتنحى إلى بعض الأرض ونبعث إلى إخواننا فيقدموا علينا، ثم نلقى عدونا، فإن أظفرنا الله بهم وفينا لكم بعهدكم، إلا ألا تطلبوا ذلك.
ثم أخذ الناس فى الرحيل إلى دمشق، ورد حبيب بن مسلمة إلى أهل البلد ما كان أخذ منهم، وأخبرهم بما قال أبو عبيدة، فقالوا: ردكم الله إلينا، ولعن الله الذين كانوا يملكوننا من الروم، لكنهم والله لو كانوا هم ما ردوا علينا، بل غصبونا وأخذوا مع هذا(2/253)
ما قدروا عليه من أموالنا. وأعلم أبو عبيدة عمر بن الخطاب بكل ما قبله.
قال سفيان بن عوف بن معقل: بعثنى أبو عبيدة ليلة غدا من حمص إلى دمشق، فقال:
ائت أمير المؤمنين فأبلغه منى السلام وأخبره بما قد رأيت وعاينت، وبما جاءتنا به العيون، وبما استقر من كثرة العدو، وبالذى رأى المسلمون من التنحى عنهم. وكتب إليه معه:
أما بعد، فإن عيونى قدمت علىّ من أرض قنسرين ومن القرية التى فيها ملك الروم، فحدثونى بأن الروم قد توجهوا إلينا وجمعوا لنا من الجموع ما لم يجمعوه قط لأمه كانت قبلنا، وقد دعوت المسلمين فأخبرتهم الخبر واستشرتهم فى الرأى، فاجتمع رأيهم على أن يتنحوا عنهم حتى يأتينا رأيك، وقد بعثت إليك رجلا عنده علم ما قبلنا، فاسأله عما بدا لك، فإنه بذلك عليم، وهو عندنا أمين، ونستعين الله العزيز الحكيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل. والسلام عليك.
قال سفيان: فلما قدمت على أمير المؤمنين سلمت عليه، فقال: أخبرنى عن الناس، فأخبرته بصلاحهم، ودفاع الله عنهم، ثم أخذ الكتاب فقرأه، فقال لى: ويحك ما فعل المسلمون؟ فقلت: أصلحك الله، خرجت من عندهم ليلا من حمص وتركتهم يقولون:
نصلى الغداة ثم نرحل إلى دمشق. قال: فكأنه كرهه حتى عرفت الكراهة فى وجهه، ثم قال: لله أبوك، ما رجوعهم عن عدوهم وقد أظفرهم الله بهم فى غير موطن؟ وما تركهم أرضا قد فتحها الله عليهم وصارت فى أيديهم؟ إنى لأخاف أن يكونوا قد أساؤا الرأى وجاؤا بالعجز وجرأوا عدوهم عليهم. فقلت: أصلحك الله، إن الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، إن صاحب الروم قد جمع لنا جموعا لم يجمعها هو ولا أحد كان قبله لأحد كان قبلنا، ولقد أخبرنا بعض عيوننا أن عسكرا واحدا من عساكرهم أمر بالعسكرة فى أصل جبل، فهبطوا من الثنية نصف النهار إلى معسكرهم فما تكاملوا فيه حتى أمسوا، ثم ما تكاملوا فيه إلى نصف الليل، فهذا عسكر واحد من عساكرهم، فما ظنك أصلحك الله بما بقى؟.
فقال: لولا أنى ربما كرهت الشىء من أمرهم يضيعونه، فأرى الله تعالى، يخير لهم فى عواقبه لكان هذا رأيا أنا له كاره. أخبرنى: اجتمع رأى جميعهم على التحول؟ قلت:
نعم. قال: فالحمد لله، إنى لأرجو إن شاء الله أن لا يكون جمع الله رأيهم إلا على ما هو خير لهم. فقلت: يا أمير المؤمنين، اشدد أعضاد المسلمين بمدد يأتيهم من قبلك قبل الوقعة، فإن هذه الوقعة هى الفيصل فيما بيننا وبينهم. فقال لى: أبشر بما يسرك ويسر المسلمين، واحمل كتابى هذا إلى أبى عبيدة وإلى المسلمين، وأعلمهم أن سعيد بن عامر بن(2/254)
حذيم قادم عليهم بالمدد، وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى أبى عبيدة بن الجراح وإلى الذين معه من المهاجرين والأنصار، والتابعين بإحسان، والمجاهدين فى سبيل الله، سلام عليكم، فإنى أحمد إليكم الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد فإنه قد بلغنى توجهكم من أرض حمص إلى أرض دمشق، وترككم بلادا فتحها الله عليكم، وخليتموها لعدوكم وخرجتم منها طائعين، فكرهت هذا من رأيكم وفعلكم، ثم إنى سألت رسولكم عن رأى من جميعكم كان ذلك، فزعم أن ذلك كان رأيا من أماثلكم وأولى النهى منكم، فعلمت أن الله لم يكن يجمع رأيكم إلا على توفيق وصواب ورشد فى العاجلة والعاقبة، فهون ذلك علىّ ما كان داخلنى من الكراهية قبل ذلك لتحولكم، وقد سألنى رسولكم المدد، وأنا ممدكم، لن يقرأ عليكم كتابى حتى يشخص إليكم المدد من قبلى إن شاء الله، واعلموا أنه ليس بالجمع الكثير تهزم الجموع وينزل الله النصر، ولربما خذل الله الجموع الكثيرة فوهنت وقلت وفشلت، ولم تغن عنهم فئتهم شيئا، ولربما نصر الله العصابة القليل عددها على الكثير عددها من أعداء الله، فأنزل الله عليكم نصره، وبعدو المسلمين بأسه ورجزه، والسلام عليكم.
فجاء سفيان بالكتاب إلى أبى عبيدة فقرأه على الناس وسروا به.
وعن عبد الله بن قرط، فى حديثه المتقدم عما اجتمع عليه رأى المسلمين مع أبى عبيدة من الرحيل عن حمص، قال: فلما صلينا صلاة الغداة بحمص خرجنا مع أبى عبيدة نسير حتى قدمنا دمشق وبها خالد بن الوليد، وتركنا أرض حمص ليس فيها منا ديار بعدما كنا قد افتتحناها، وأمنا أهلها، وصالحناهم عليها، وخلا أبو عبيدة بخالد بن الوليد فأخبره الخبر، وذكر له مشورة الناس عليه بالرحلة، ومقالة العبسى فى ذلك، فقال له خالد: أما أنه لم يكن الرأى إلا الإقامة بحمص حتى نناجزهم، فأما إذا اجتمع رأيكم على أمر واحد، فو الله إنى لأرجو أن لا يكون الله قد جمع رأيكم إلا على ما هو خير «1» .
فأقام أبو عبيدة بدمشق يومين، وأمر سويد بن كلثوم أن يرد على أهل دمشق الذين كانوا أمنوا وصولحوا ما كان جبى منهم، ففعل، وقال لهم المسلمون: نحن على العهد الذي كان بيننا وبينكم. ثم إن أبا عبيدة جمع أصحابه، فقال لهم: ماذا ترون؟ أشيروا علىّ.
فقال يزيد بن أبى سفيان: أرى أن تخرج حتى تنزل الجابية، ثم تبعث إلى عمرو بن
__________
(1) انظر الخبر فى: تاريخ فتوح الشام (160- 169) .(2/255)
العاص فيقدم عليك بمن معه من المسلمين، ثم نقيم للقوم حتى يقدموا علينا، فنقاتلهم ونستعين الله عليهم.
فقال شرحبيل بن حسنة: لكنى أرى إذ خلينا لهم ما خلينا من أرضهم أن ندعها كلها فى أيديهم وننزل التخوم بين أرضنا وأرضهم فندنوا من خليفتنا ومن مددنا، فإذا أتانا من المدد ما نرجو أن نكون لهم به مقرنين قاتلناهم إن أتونا، وإلا أقدمنا عليهم إن هم أقاموا عنا. فقال رجل من المسلمين لأبى عبيدة: هذا أصلحك الله رأى حسن، فاقبله واعمل به.
فقال معاذ بن جبل: وهل يلتمس هؤلاء القوم من عدوهم أمرا أضر لهم ولا أشد عليهم مما تريدون أنتم بأنفسكم، تخلون لهم عن أرض قد فتحها الله عليكم وقتل فيها صناديدهم وأهلك جنودهم، فإذا خرج المسلمون منها وتركوها لهم فكانوا فيها على مثل حالهم الأول، فما أشد على المسلمين دخولها بعد الخروج منها، وهل يصلح لكم أن تدعوها وتدعوا البلقاء والأردن وقد جبيتم خراجهم لتدفعوا عنهم؟ أما والله لئن أردتم دخولها بعد الخروج منها لتكابدن من ذلك مشقة.
فقال أبو عبيدة: صدق والله وبر، ما ينبغى أن نترك قوما قد جبينا خراجهم وعقدنا العهد لهم حتى نعذر إلى الله فى الدفع عنهم، فإن شئتم نزلنا الجابية وبعثنا إلى عمرو بن العاص يقدم علينا، ثم أقمنا للقوم حتى نلقاهم بها.
فقال له خالد: كأنك إذا كنت بالجابية كنت على أكثر مما أنت عليه فى مكانك الذى أنت فيه. فإنهم لكذلك يجيلون الرأى إذ قدم على أبى عبيدة عبد الله بن عمرو بن العاص بكتاب من أبيه يقول فيه: أما بعد، فإن أهل إيلياء وكثيرا ممن كنا صالحناهم من أهل الأردن قد نقضوا العهد فيما بيننا وبينهم، وذكروا أن الروم قد أقبلت إلى الشام بقضها وقضيضها، وأنكم قد خليتم لهم عن الأرض وأقبلتم منصرفين عنها، وقد جرأهم ذلك علىّ وعلى من قبلى من المسلمين، وقد تراسلوا وتواثقوا وتعاهدوا ليسيرون إلىّ.
فاكتب إلىّ برأيك، فإن كنت تريد القدوم علىّ أقمت لك حتى تقدم علىّ، وإن كنت تريد أن تنزل منزلا من الشام أو من غيرها وأن أقدم عليك فأعلمنى برأيك، أوافك فيه، فإنى صائر إليك أينما كنت، وإلا فابعث إلىّ مددا أقوى به على عدوى وعلى ضبط ما قبلى، فإنهم قد أرجفوا بنا واغتمزوا فينا واستعدوا لنا، ولو يجدون فينا ضعفا أو يرون فينا فرصة ما ناظرونا، والسلام عليك.(2/256)
فكتب إليه أبو عبيدة: أما بعد، فقد قدم علينا عبد الله بن عمرو بكتابك تذكر فيه إرجاف المرجفين واستعدادهم لك، وجرأتهم عليك للذى بلغهم من انصرافنا عن الروم وما خلينا لهم من الأرض، وأن ذلك والحمد لله لم يكن من المسلمين عن ضعف من بصائرهم، ولا وهن عن عدوهم، ولكنه كان رأيا من جماعتهم كادوا به عدوهم ليخرجوهم من مدائنهم وحصونهم وقلاعهم وليجتمع بعض المسلمين إلى بعض وينتظروا قدوم أمدادهم، ثم يناهضونهم إن شاء الله، وقد اجتمعت خيلهم وتتامت فرسانهم، فعند ذلك فارتقب نصر الله أولياءه، وإنجاز موعوده، وإعزاز دينه، وإذلاله المشركين حتى لا يمنع أحد منهم أمه ولا حليلته ولا نفسه، حتى يتوقلوا فى شعف الجبال، ويعجزوا عن منع الحصون ويجنحوا للسلم، ويلتمسوا الصلح، سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب: 62] .
ثم أعلم من قبلك من المسلمين أنى قادم عليهم بجماعة أهل الإسلام إن شاء الله، فليحسنوا بالله الظن ولا يجدن عدوكم فيكم ضعفا ولا وهنا، ولا تؤبسوا منكم رعبا فيطمعوا فيكم ويجترئوا عليكم، أعزنا الله وإياكم بنصره، وعمنا بعافيته وعفوه، والسلام عليك.
وقال لعبد الله بن عمرو: اقرأ على أبيك السلام، وأخبره أنى فى أثرك، وأعلم بذلك المسلمين وكن يا عبد الله بن عمرو ممن يشد الله به ظهور المسلمين ويستأنسون به، فإنك رجل من الصحابة، وقد جعل الله للصحابة فضلا على غيرهم من المسلمين، بصحبتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تتكل على أبيك، وكن أنت فى جانب تحرض المسلمين وتمنيهم النصر، وتأمرهم بالصبر، ويكون أبوك يفعل ذلك فى جانب آخر.
فقال: إنى أرجو أن يبلغك عنى إن شاء الله من ذلك ما تسر به، ثم خرج حتى قدم على أبيه بكتاب أبى عبيدة، فقرأه أبوه على الناس، ثم قال: أما بعد، فقد برئت ذمة الله من رجل من أهل عهدنا من أهل الأردن ثقف رجلا «1» من أهل إيلياء «2» فلم يأتنا به، ألا ولا يبقين رجل من أهل عهدنا إلا تهيأ واستعد ليسير معى إلى أهل إيلياء، فإنى أريد السير إليهم والنزول بساحتهم، ثم لا أزايلهم حتى أقتل مقالتهم وأسبى ذراريهم، أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
__________
(1) ثقف رجل: أى صفر به.
(2) إيلياء: ويقال أيليا بفتح الهمزة، مدينة بالشام وهى بيت المقدس، وهى مدينة قديمة جليلة على جبل يصعد إليها من كل جانب. انظر: الروض المعطار (68) ، نزهة المشتاق (216) .(2/257)
ثم نادى فى المسلمين: أن ارتحلوا إلى إيلياء، فسار نحوا من ميلين قبل أرض إيلياء، ثم نزل وعسكر، وقال لأهل الأردن: أخرجوا إلينا الأسواق، ونادى مناديه: برئت الذمة من رجل من أهل الصلح لم يخرج بسلاحه حتى يحضر معنا معسكرنا وينتظر ما نأمر به من أمرنا، فاجتمع أهل الصلح كلهم إليه، وخرجوا بعدتهم وسلاحهم، فقدمهم مع ابنه عبد الله فى خمسمائة من المسلمين، وأمره أن يعسكر بهم، ففعل.
وإنما أراد أن يشغل أهل الأردن عن الإرجاف، وأن يبلغ أهل إيلياء أنه يريد المسير إليهم والنزول بهم، فيرعب قلوبهم ويشغلهم فى أنفسهم وحصونهم عن الغارة عليهم.
فخرج التجار من أهل الأردن ومن كان فيها من أهل إيلياء عند حميم أو ذوى قرابة فلحقوا بإيلياء فقالوا لهم: هذا عمرو بن العاص قد أقبل نحوكم بالناس، فاجتمعوا من كل مكان، وتراسلوا، وجعلوا لا يجيئهم أحد من قبل الأردن إلا أخبرهم بمعسكره، فأيقنوا أنه يريدهم، فكانوا من ذلك فى هول شديد، وزادهم خوفا ووجلا كتاب كتبه إليهم عمرو بن العاص مضمنه: بسم الله الرحمن الرحيم، من عمرو بن العاص إلى بطارقة أهل إيلياء، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله الذى لا إله إلا هو، وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم أما بعد: فإنا نثنى على ربنا خيرا، ونحمده حمدا كثيرا، كما رحمنا بنبيه وشرفنا برسالته وأكرمنا بدينه، وأعزنا بطاعته، وأيدنا بتوحيده، فلسنا والحمد لله نجعل له ندا ولا نتخذ من دونه إلها، لقد قلنا إذا شططا، والحمد لله الذى جعلكم شيعا وجعلكم فى دينكم أحزابا، كل حزب بما لديهم فرحون، فمنكم من يزعم أن لله ولدا، ومنكم من يزعم أن الله ثانى اثنين، ومنكم من يزعم أن الله ثالث ثلاثة، فبعدا لمن أشرك بالله وسحقا، وتعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، والحمد لله الذى قتل بطارقتكم، وسلب عزكم، وطرد من هذه البلاد ملوككم، وأورثنا أرضكم ودياركم وأموالكم، وأذلكم بكفركم بالله وشرككم به وترككم ما دعوناكم إليه من الإيمان بالله وبرسوله، فأعقبكم الله لباس الخوف والجوع ونقصا فى الأموال والأنفس، وما الله بظلام للعبيد.
فإذا بلغكم كتابى هذا، فأسلموا تسلموا، وإلا فأقبلوا إلىّ حتى أكتب لكم أمانا على دمائكم وأموالكم، وأعقد لكم عقدا على أن تؤدوا إلىّ الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وإلا فو الله الذى لا إله إلا هو لأرمينكم بالخيل بعد الخيل وبالرجال بعد الرجال، ثم لا أقلع عنكم حتى أقتل المقاتلة وأسبى الذرية، وحتى تكونوا كأمة كانت فأصبحت كأنها لم تكن.(2/258)
وأرسل بالكتاب إليهم مع فيج، نصرانى على دينهم، وقال له: عجل علىّ، فإنى إنما أنتظرك، فلما قدم عليهم قالوا له: ويحك، ما وراءك؟ قال: لا أدرى إلا أن هذا الرجل بعثنى إليكم بهذا الكتاب، وقد وجه عسكره نحوكم، وقال لى: ما يمنعنى من المسير إليهم إلا انتظار رجوعك، فقالوا: انتظرنا ساعة من النهار، فإنا ننتظر عينا لنا يقدم علينا من قبل أمير العرب الذى بدمشق، ومن قبل جند الملك الذى أقبل إلينا، فننظر ما يأتينا به، فإن ظننا أن لنا بالعرب قوة لم نصالحهم، وإن خشينا ألا نقوى عليهم صنعنا ما صنع أهل الأردن وغيرهم، فما نحن إلا كغيرنا من أهل الشام، فأقام العلج حتى أمسى، ثم إن رسول أهل إيلياء الذى بعثوه عينا لهم أتاهم فأخبرهم أن باهان قد أقبل من عند ملك الروم فى ثلاثة عساكر، فى كل عسكر منها أكثر من مائة ألف مقاتل، وأن العرب لما بلغهم ما سار إليهم من تلك الجموع علموا أنه لا قبل لهم بما جاءهم، فانصرفوا راجعين، وقد كان أوائل العرب دخلوا أرض قنسرين «1» فأخرجوهم منها، ثم أتوا أرض دمشق فأخرجوهم منها، ثم أقبلت العرب الآن نحو الأردن، نحو صاحبهم هذا الذى كتب إليكم، والروم يسوقونهم سوقا عنيفا، فتباشروا بذلك وسروا به، ودعوا العلج الذى بعث به إليهم عمرو بن العاص، وقالوا: اذهب بكتابنا هذا إلى صاحبك، وكتبوا معه: أما بعد، فإنك كتبت إلينا تزكى نفسك وتعيبنا، وقول الباطل لا ينفع قائله نفسه ولا يضر عدوه، وقد فهمنا ما دعوتنا إليه، وهؤلاء ملوكنا وأهل ديننا قد جاؤكم، فإن أظهرهم الله عليكم فذلك بلاؤه عندنا فى القديم، وإن ابتلانا بظهوركم، فلعمرى لنقرن، لكم بالصغار، وما نحن إلا كمن ظهرتم عليه من إخواننا، ثم دانوا لكم وأعطوكم ما سألتم.
فقدم الرسول بهذا الكتاب على عمرو، فقال له: ما حبسك؟ فأخبره الخبر، فلم يكن إلا يومه ذلك حتى قدم خالد بن الوليد فى مقدمة أبى عبيدة، فجاء حتى نزل اليرموك، وأقبل عمرو حتى نزل معه.
وقعة اليرموك «2» على نحو ما حكاه أصحاب كتب فتوح الشام
قالوا «3» : ولما اجتمع جمع المسلمين باليرموك استشار أبو عبيدة أهل الرأى من
__________
(1) قنسرين: مدينة بالشام، وهى الجابية، بينها وبين حلب اثنا عشر ميلا. انظر: الروض المعطار (473) .
(2) راجع: المنتظم لابن الجوزى (4/ 118- 123) ، تاريخ الطبرى (3/ 396) .
(3) انظر: تاريخ فتوح الشام (169- 171) .(2/259)
المسلمين: أين ترون أن نعسكر حتى يقدم مددنا؟ فقال يزيد بن أبى سفيان: أرى أن نسير بمن معنا إلى أيلة، فنقيم بها حتى يقدم علينا المدد. فقال عمرو: ما أيلة إلا كبعض الشام، ولكن سر بنا حتى ننزل الحجر فننتظر المدد، فقال قيس بن هبيرة: لا ردنا الله إذا إليها إن خرجنا لهم عن الشام أكثر مما خرجنا لهم عنه، أتدعون هذه العيون المتفجرة، والأنهار المطردة، والزروع والأعناب، والذهب والفضة والحرير، وترجعون إلى أكل الضباء وليس العباء والبؤس والشقاء وأنتم تعلمون أن من قتل منكم صار إلى الجنة وأصاب نعيما لا يشاكله نعيم، فأين تدعون الجنة وتهربون منها؟ وتزهدون فيها وتأتون الحجر. لا صحب الله من سار إلى الحجر ولا حفظه. فقال له خالد بن الوليد: جزاك الله خيرا يا قيس، فإن رأيك موافق لرأيى.
وفى حديث عن أبى معشر: أن الروم حين جاشت على المسلمين ودنوا منهم دعا أبو عبيدة رؤس المسلمين واستشارهم، فذكر من مشورة يزيد بن أبى سفيان عليه، وعمرو ابن العاص نحوا مما تقدم. قال: وخالد بن الوليد ساكت يسمع ما يقولون، وكان يرحمه الله إذا كانت شدة فإليه وإلى رأيه يفزعون، إذ كان لا يهوله من أمر الروم شىء، ولا يزداد بما يبلغه عنهم إلا جرأة عليهم، فقال له أبو عبيدة: ماذا ترى يا خالد؟ فقال: أرى والله أنا إن كنا إنما نقاتل بالكثرة والقوة فهم أكثر منا وأقوى علينا، وإن كنا إنما نقاتلهم بالله ولله فما أرى أن جماعتهم ولو كانوا أهل الأرض جميعا تغنى عنهم شيئا، ثم غضب، فقال لأبى عبيدة: أتطيعنى أنت فيما آمرك به؟ قال: نعم. قال: فولنى ما وراء بابك، وخلنى والقوم، فإنى والله لأرجو أن ينصرنا الله عليهم، قال: قد فعلت، فولاه ذلك، فكان خالد من أعظم الناس بلاء، وأحسنه غناء وأعظمه بركة، وأيمنه نقيبة، وكانوا أهون عليه من الكلاب.
وعن مالك بن قسامة بن زهير، عن رجل من الروم يدعى جرجة، كان قد أسلم فحسن إسلامه، قال: كنت فى ذلك الجيش الذى بعث قيصر من أنطاكية مع باهان، فأقبلنا ونحن لا يحصى عددنا إلا الله، ولا نرى أن لنا غالبا من الناس، فأخرجنا أوائل العرب من أرض قنسرين ثم أقبلنا فى آثارهم حتى أخرجناهم من حمص، ثم أقبلنا فى آثارهم حتى أخرجناهم من دمشق. قال: ولحق بنا كل من كان على ديننا من النصارى، حتى إن كان الراهب لينزل عن صومعته وقد كان فيها دهرا طويلا من دهره، فيتركها وينزل إلينا ليقاتل معنا غضبا لدينه ومحاماة عليه، وكان من كان من العرب بالشام ممن(2/260)
كان على طاعة قيصر ثلاثة أصناف، فأما صنف فكانوا على دين العرب، وكانوا معهم، وأما صنف فكانوا نصارى، وكانت لهم فى النصرانية نية، فكانوا معنا، وأما صنف فكانوا نصارى ليس لهم فى النصرانية تلك النية، فقالوا: نكره أن نقاتل أهل ديننا ونكره أن ننصر العجم على قومنا، وأقبلت الروم تتبع أهل الإسلام وقد كانوا هائبين لهم مرعوبين منهم، ولكنهم لما رأوهم قد خلوا لهم البلاد وتركوا لهم ما كانوا افتتحوا جرأهم ذلك عليهم مع عددهم الذى لم يجتمع قط لأحد من قبلهم.
وعن عبد الله بن قرط قال: لما أقبلت الروم من عند ملكهم أخذوا لا يمرون بأرض قد كنا افتتحناها ثم أجلينا لهم عنها إلا أوقعوا بهم ولاموهم وشتموهم وخوفوهم، فيقولون لهم: أنتم أولى باللائمة منا، أنتم وهنتم وعجزتم وتركتمونا وذهبتم، وأتانا قوم لم تكن لنا بهم طاقة، فكانوا يعرفون صدقهم فيكفون عنهم، وأقبلوا يتبعون آثار المسلمين حتى نزلوا بمكان من اليرموك يدعى دير الجبل مما يلى المسلمين، والمسلمون قد جعلوا نساءهم وأولادهم على جبل خلف ظهورهم، فمر قيس بن هبيرة بنسوة من نساء المسلمين مجتمعات، فلما رأينه قامت إليه أميمة بنت أبى بشر بن زيد بن الأطول الأزدية، وكانت تحت عبد الله بن قرط، وكان أشبه خلق الله به فى الحرب، فرسه يشبه فرسه، وباده يشبه باده، وكل شىء منه كذلك، فظنت أنه زوجها، فقالت له: اسمع بنفسى أنت، فعلم قيس أنها شبهته بزوجها، فقال: أظنك شبهتنى بزوجك. فقالت: واسوأتاه وانصرفت، فأقبل قيس عليها، وعلى من كان معها من النساء، فقال لهن: قبح الله امرأة منكن تضطجع لزوجها وهذا عدوه قد نزل بساحته إن لم يقاتل عنها، وإذا أراد ذلك منها فلتتمنع عليه ولتحث فى وجهه التراب، ثم لتقل له: أخرج قاتل عنى، فلست لك بامرأة حتى تمنعنى، فلعمرى ما تقرب النساء على مثل هذه الحال إلا أهل الفسولة والنذالة، ثم مضى. فقالت المرأة: واسوأتاه منه، وإنما ظننت أنه ابن قرط، فإنه لم يتعش البارحة إلا عشاء خفيفا، آثر بعشائه رجلين من إخوانه تعشيا عنده، فكنت هيأت له غداءه، فأردت أن ينزل فيتغذى «1» .
قال ابن قرط: ولما نزل الروم منزلهم الذى نزلوا فيه، دسسنا إليهم رجالا من أهل البلد كانوا نصارى قد أسلموا، فأمرناهم أن يدخلوا عسكرهم فيكتموا إسلامهم ويأتونا بأخبارهم، فكانوا يفعلون ذلك، قال: فلبثوا أياما مقابلينا ثلاثا أو أربعا لا يسألوننا عن شىء ولا نسألهم، ولا يتعرضون لنا ولا نتعرض لهم، فبينا نحن كذلك إذ سمعنا جلبة
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (172- 174) .(2/261)
شديدة وأصواتا عالية، فظننا أن القوم يريدون النهوض إلينا، فتهيأنا وتيسرنا، ثم دسسنا إليهم عيونا ليأتونا بالخبر، فما لبثنا إلا قليلا حتى رجعوا إلينا فأخبرونا أن بريدا جاءهم من قبل ملك الروم فبشرهم بمال يقسم بينهم وبمدد يأتيهم، ففرحوا بذلك ورفعوا له أصواتهم، واجتمعوا إلى باهان النائب فيهم عن ملكهم، فقام فيهم فقال: إن الله لم يزل لدينكم هذا معزا وناصرا، وقد جاءكم قوم يريدون أن يفسدوا عليكم دينكم ويغلبوكم على دنياكم، وأنتم عدد الحصى والثرى والذر، والله إن فى هذا الوادى منكم لنحوا من أربعمائة ألف مقاتل سوى أتباعكم وأعوانكم، ومن اجتمع إليكم من سكان بلادكم وممن هو معكم على دينكم، فلا يهولنكم أمر هؤلاء القوم، فإن عددهم قليل، وهم أهل الشقاء والبؤس وجلهم حاسر جائع، وأنتم الملوك، وأهل الحصون والقلاع والعدة والقوة، فلا تبرحوا العرصة حتى تهلكوهم أو تهلكوا أنتم. فقام إليه بطارقتهم فقالوا له:
مرنا بأمرك، ثم انظر ما نصنع. قال: فتيسروا حتى آمركم «1» .
وعن أبى بشر، رجل من تنوخ كان مع باهان، قال: كنت نصرانيا، فنصرت النصارى على العرب، فأقبلت مع الروم، فإذا من نمر به من أهل البلد أحسن شىء ثناء على العرب فى سيرتهم وفى كل شىء من أمرهم، وأقبلت الروم فجعلوا يفسدون فى الأرض ويسيئون السيرة، ويعصون الأمراء، حتى ضج منهم الناس، وشكاهم أهل القرى، فلا تزال جماعة تجىء معها بالجارية قد افتضت، وجماعة يشكون أن أغنامهم ذبحت، وآخرون أنهم خربوا وسلبوا، فلما رأى ذلك باهان، قام فيهم خطيبا فقال: يا معشر أهل هذا الدين، إن حجة الله عليكم عظيمة، إذ بعث إليكم رسولا، وأنزل عليه كتابا، وكان رسولكم لا يريد الدنيا، ويزهدكم فيها، وأمركم أن لا تظلموا أحدا، فإن الله لا يحب الظالمين، وأنتم الآن تظلمون، فما عذركم غدا عند خالقكم وقد تركتم أمره وأمر نبيكم وما أتاكم به من كتاب ربكم؟ وهذا عدوكم قد نزل بكم، يقتل مقاتليكم، ويسبى ذراريكم، وأنتم تعملون بالمعاصى، ولا ترعون منها خشية العقاب، فإن نزع الله سلطانكم من أيديكم وأظهر عليكم عدوكم فمن الظالم إلا أنتم، فاتقوا الله وانزعوا عن ظلم الناس «2» .
فقام إليه رجل من أهل البلد من أهل الذمة يشكو مظلمة، فتكلم بلسانهم، وأنا أفقه كلامهم، فقال: أيها الملك، عشت الدهر ووقيناك بأنفسنا مكروه الأحداث، إنى امرؤ
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (174- 175) .
(2) انظر: تاريخ فتوح الشام (175- 177) .(2/262)
من أهل البلد من أهل الذمة وكانت لى غنم أظنها مائة شاة تنقص قليلا، وكان فيها ابن لى يرعاها، فمر به عظيم من عظماء أصحابك، فضرب بناءه إلى جنبها وأخذ حاجته منها، وانتهب بقيتها أصحابه، فجاءته امرأتى تشكو إليه انتهاب أصحابه غنمى، وتقول له: أما ما أخذت أنت لنفسك فهو لك، ولكن ابعث إلى أصحابك يردوا علينا غنمنا، فلما رآها أمر بها فأدخلت بناءه، وطال مكثها عنده، فلما رأى ذلك ابنها دنا من باب البناء فاطلع فيه، فإذا هو بصاحبكم ينكح أمه وهى تبكى، فصاح الغلام، فأمر به فقتل، فأخبرونى ذلك، فأقبلت إلى ابنى، فأمر بعض أصحابه فشد علىّ بالسيف ليضربنى، فاتقيته بيدى فقطعها.
فقال له باهان: فهل تعرفه؟ قال: نعم، قال: وأين هو؟ قال: هو ذا، لعظيم حاضر عنده من عظمائهم، قال: فغضب ذلك العظيم، وغضب له ناس من أصحابه، وكان فيهم ذا شارة وشرف، فأقبل ناس من أصحابه أكثر من مائة، فشدوا على المستعدى فضربوه بأسيافهم حتى مات، ثم رجعوا، وباهان ينظر إلى ما صنعوا، فقال بلسانه: العجب كل العجب، كيف لا تنهد الجبال، وتنفجر البحار، وتتزلزل الأرض، وترعد السماء لهذه الخطيئة التى عملتموها وأنا أنظر، ولأعمالكم العظام التى تعملونها وأنا أرى وأسمع، إن كنتم تؤمنون أن لهؤلاء المستضعفين المظلومين إلها ينصف المظلوم من الظالم فأيقنوا بالقصاص، ومن الآن يعجل لكم الهلاك، وإن كنتم لا تؤمنون بذلك، فأنتم والله عندى شر من الكلاب، والحمر، ولعمرى إنكم لتعملون أعمال قوم لا يؤمنون، ولقد سخط الله أعمالكم، وليكلنكم إلى أنفسكم، فأما أنا فأشهد الله أنى برىء من أعمالكم، وسترون عاقبة الظلم إلى ما تؤديكم، وإلى أى مصير تصيركم. ثم نزل.
قال التنوخى «1» : وكنا نزلنا بالمسلمين ونحن لهم هائبون، وقد كان بلغنا أن نبيهم صلى الله عليه وسلم قال لهم: إنكم ستظهرون على الروم، وقد كانوا واقعوا غير مرة، كل ذلك يكون لهم الظفر علينا، غير أنا إذا نظرنا إلى عددنا وجموعنا طابت أنفسنا وظننا أن مثل جمعنا لا يفل، فأقام باهان أياما يراسل من حوله من الروم ويأمرهم أن يحملوا إلى أصحابه الأسواق، فكانوا يفعلون، ولم يكن ذلك يضر المسلمين، لأن الأردن فى أيديهم، فهم مخصبون بخير، فلما رأى باهان أن ذلك لا يضرهم، وأنهم مكتفون بالأردن بعث خيلا عظيمة لتأتيهم من وراءهم وعليها بطريق من بطارقتهم، يريد أن يكبتهم بجنوده من كل جانب، فعلم المسلمون ما يريد، فدعا أبو عبيدة خالد بن الوليد، فبعثه فى ألفى فارس
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (178- 179) .(2/263)
وألفى راجل، فخرج حتى اعترض العلج، فلما استقبله نزل خالد فى الرجالة، وبعث قيس بن هبيرة فى الخيل، فحمل عليهم قيس، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى هزمهم الله، ومشى خالد فى الرجالة حتى إذا دنا شد برايته، وشد معه المسلمون، فضاربوهم بالسيوف حتى تبددوا، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة.
وقال قيس لرجل من بنى نمير، وقد مر به البطريق يركض: يا أخا بنى نمير، لا يفوتنك البطريق، فإنى والله لقد كددت فرسى على هذا العدو اليوم حتى ما عنده جرى، فحمل عليه النميرى فركض فى أثره ساعة ثم أدركه فلما رآه البطريق قد غشيه وأحرجه عطف عليه، فاضطربا بسيفيهما، فلم يصنع السيفان شيئا، واعتنق كل واحد منهما صاحبه، فوقعا إلى الأرض، فاعتركا ساعة، ثم صرعه النميرى، فوقع على صدر البطريق، فى ساقيه، فضمه البطريق إليه، وكان مثل الأسد، فلم يستطع النميرى يتحرك، وجاء قيس حتى وقف عليهما، فقال: يا أخا بنى نمير، قتلت الرجل إن شاء الله، قال: لا والله، ما أستطيع أن أتحرك ولا أضربه بشىء، ولقد ضمنى بفخذيه، وأمسك يدى بيديه، فنزل إليه قيس فضربه، فقطع إحدى يديه، ثم تركه وانطلق، وقال للنميرى: شأنك به، وقام النميرى فضربه بسيفه حتى قتله، ومر به خالد بن الوليد، فقال: من قتل هذا؟ فقال له قيس: هذا النميرى قتله، ولم يخبره هو بما صنع.
وفى حديث عبد الله بن قرط: أن معاذ بن جبل ورجالا معه من المسلمين قالوا لأبى عبيدة حين سار من دمشق إلى اليرموك: ألا تكتب إلى أمير المؤمنين تعلمه علم هذه الجيوش التى جاءتنا وتسأله المدد؟ قال: بلى، فكتب إليه:
أما بعد، فإن الروم نفرت إلينا برا وبحرا، ولم يخلفوا وراءهم أحدا يطيق حمل السلاح إلا جاشوا به علينا، وخرجوا معهم بالقسيسين والأساقفة ونزلت إليهم الرهبان من الصوامع فاستجاشوا أهل أرمينية والجزيرة وجاؤنا وهم نحو من أربعمائة ألف رجل، وإنه لما بلغنى ذلك من أمرهم كرهت أن أغر المسلمين من أنفسهم، فكشفت لهم عن الخبر، وصرحت لهم عن الأمر، وسألتهم عن الرأى، فرأى المسلمون أن يتنحوا إلى جانب من أرض الشام، ثم نضم إلينا قواصينا وننتظر المدد، فالعجل العجل علينا يا أمير المؤمنين بالمدد بعد المدد، والرجال بعد الرجال، وإلا فاحتسب نفوس المسلمين إن هم أقاموا، أو دينهم إن هم هربوا، فقد جاءهم ما لا قبل لهم به، إلا أن يمدهم الله بملائكة أو يأتيهم بغياث من عنده، والسلام عليك «1» .
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (180) .(2/264)
قال عبد الله بن قرط «1» : وبعثنى بكتابه، فلما قدمت على عمر دعا المهاجرين والأنصار فقرأ عليهم كتاب أبى عبيدة، فبكى المسلمون بكاء شديدا، ورفعوا أيديهم ورغبتهم إلى الله عز وجل، أن ينصرهم، وأن يعافيهم ويدفع عنهم، واشتدت شفقتهم عليهم، وقالوا: يا أمير المؤمنين، ابعثنا إلى إخواننا، وأمر علينا أميرا ترضاه لنا، أو سر أنت بنا إليهم، فو الله إن أصيبوا فما فى العيش خير بعدهم، قال: ولم أر منهم أحدا كان أظهر جزعا ولا أكثر شفقا من عبد الرحمن بن عوف، ولا أكثر قولا لعمر: سر بنا يا أمير المؤمنين، فإنك لو قدمت الشام شد الله قلوب المسلمين، ورعب قلوب الكافرين.
قال: واجتمع رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يقيم عمر ويبعث المدد، ويكون ردآ للمسلمين. قال: فقال لى عمر رحمه الله: كم كان بين الروم وبين المسلمين يوم خرج؟
فقلت: نحو من ثلاث ليال. فقال عمر: هيهات متى يأتى هؤلاء غياثنا.
ثم كتب معى إلى أبى عبيدة: أما بعد، فقد قدم علينا أخو ثمالة بكتابك، تخبر فيه بنفير الروم إلى المسلمين برا وبحرا، وبما جاشوا به عليكم من أساقفتهم ورهبانهم، وأن ربنا المحمود ذا الصنع العظيم والمن الدائم قد رأى مكان هؤلاء الأساقفة والرهبان حين بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق فنصره بالرعب وأعزه بالنصر، وقال وهو لا يخلف الميعاد: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف: 9] ، فلا يهولنك كثرة من جاءك منهم فإن الله منهم برىء، ومن برئ الله منه كان قمنا أن لا تنفعه كثرته، وأن يكله الله إلى نفسه ويخذله، ولا يوحشنك قلة المسلمين فى المشركين، فإن الله معك، وليس قليلا من كان الله معه، فأقم بمكانك الذى أنت فيه حتى تلقى عدوك وتناجزهم إن شاء الله، وستظهر بالله عليهم، وكفى بالله ظهيرا ووليا وناصرا.
وقد فهمت مقالتك: احتسب أنفس المسلمين إن أقاموا، أو دينهم إن هم هربوا، فقد جاءهم ما لا قبل لهم به إلا أن يمدهم الله بملائكته أو يأتيهم بغياث من قبله. وايم الله، لولا استثناؤك هذا لقد كنت أسأت لعمرى، لئن أقام المسلمون وصبروا فأصيبوا، لما عند الله خير للأبرار، ولقد قال الله تعالى فيهم: فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب: 23] ، فطوبى للشهداء ولمن عقل عن الله ممن معك من المسلمين أسوة بالمصرعين حول رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مواطنه، فما عجز الذين قاتلوا فى سبيل الله ولا هابوا لقاء الموت فى جنب الله ولا وهن الذين بقوا من بعدهم ولا
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح دمشق (181- 184) .(2/265)
استكانوا لمصيبتهم، ولكن تأسوا بهم وجاهدوا فى سبيل الله من خالفهم وفارق دينهم، ولقد أثنى الله على قوم بصبرهم، فقال: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 146] ، فأما ثواب الدنيا فالفتح والغنيمة، وأما ثواب الآخرة، فالمغفرة والجنة.
واقرأ كتابى هذا على الناس، ومرهم فليقاتلوا فى سبيل الله وليصبروا كيما يؤتيهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة.
وأما قولك: إنه قد جاءهم ما لا قبل لهم به، فإلا يكن لهم به قبل، فإن لله تعالى بهم قبلا، ولم يزل ربنا عليهم مقتدرا، ولو كنا إنما نقاتل عدونا بحولنا وقوتنا وكثرتنا لهيهات ما قد بدنا وهلكنا، ولكنا نتوكل على الله ربنا، ونفوض إليه أمرنا، ونبرأ إليه من الحول والقوة، ونسأله النصر والرحمة، وإنكم منصورون إن شاء الله على كل حال، فأخلصوا لله نياتكم، وارفعوا إليه رغبتكم، واصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون، والسلام.
قال عبد الله بن قرط: فدفع إلىّ عمر الكتاب وأمرنى أن أعجل السير، وقال لى: إذا قدمت على المسلمين فسر فى صفهم، وقف على كل صاحب راية منهم، وأخبرهم أنك رسولى إليهم، وقل لهم: إن عمر يقرئكم السلام ويقول: يا أهل الإسلام، اصدقوا وشدوا على أعدائكم شد الليوث، وأعضوا هامهم السيوف، وليكونوا أهون عليكم من الذر، لا تهلكم كثرتهم ولا تستوحشوا لمن لم يلحق بكم منكم.
قال: فركبت راحلتى وأقبلت مسرعا، أتخوف ألا آتى الناس حتى تكون الوقعة، فانتهيت إلى أبى عبيدة يوم قدم عليه سعيد بن عامر بن حذيم الجمحى فى ألف رجل مددا من قبل عمر رضى الله عنه، فسر بمقدمه المسلمون، وشجعهم ذلك على عدوهم، ودفعت إلى أبى عبيدة كتاب عمر، فقرأه على الناس، فاشتد سرورهم برأيه لهم، وبما أمرهم به من الصبر، وما رجا لهم فى ذلك من الأجر.
وكان أبو عبيدة بعث سفيان بن عوف من حمص إلى عمر يستمده حين بلغه أن الروم قد جاشوا واختلفوا فى الاجتماع للمسلمين، فعند ذلك بعث عمر رحمه الله، سعيد بن(2/266)
عامر بالمدد، وقد كان أبو بكر رضى الله عنه، وجه سعيدا هذا إلى الشام فى جيش، فكان مع أبى عبيدة حتى شهد معه وقعة فحل، ثم أرسله أبو عبيدة إلى عمر بالفتح، فقدم به عليه، ثم حج بعد ورجع إلى المدينة، فلم يزل مقيما بها حتى بعثه عمر بهذا المدد.
قال حسان بن عطية «1» : لما عقد له عمر على من وجهه معه، قال له: يا سعيد، إنى قد وليتك على هذا الجيش، ولست بخير رجل منهم إلا أن تكون أتقى لله منه، فلا تشتم أعراضهم، ولا تضرب أبشارهم، ولا تحقر ضعيفهم، ولا تؤثر قويهم، وكن للحق تابعا، ولا تتبع هواك سادرا، فإنه إن بلغنى عنك ما أحب لم يعدمك منى ما تحب! فقال له سعيد: يا أمير المؤمنين، إنك قد أوصيتنى، فاستمعت منك، فاستمع منى أوصك. قال:
هات، فقد آتاك الله علما يا سعيد، قال: يا أمير المؤمنين، خف الله فى الناس، ولا تخف الناس فى الله، واحبب لقريب الناس وبعيدهم ما تحب لنفسك وأهل بيتك، واكره لهم ما تكره لنفسك وأهل بيتك، والزم الأمر ذا الحجة يكفك الله ما أهمك ويعنك على ما أمرك وما ولك، ولا تقضين فى أمر واحد بقضائين فيختلف قولك وفعلك، ويلتبس الحق بالباطل، ويشتبه عليك الأمر، فتزيغ عن الحق، وخض الغمرات إلى الحق حيث علمته، ولا يأخذك فى الله لومة لائم.
قال: فأكب عمر طويلا وفى يده عصا له وهو واضع جبهته عليها، ثم رفع رأسه ودموعه تسيل، فقال: لله أبوك يا سعيد، ومن يستطيع هذا الذى تذكر؟ قال: من طوق ما طوقت، وحمل ما حملت من هذا الأمر، وإنما عليك أن تأمر فتطاع، أو تعصى فتبوء بالحجة، ويبوء بالمعصية.
وعن الحارث بن عبد الله الأزدى، قال «2» : لما نزل أبو عبيدة اليرموك وضم إليه قواصيه وجاءتنا جموع الروم يجرون الشوك والشجر، ومعهم القسيسون والرهبان والأساقفة، يقصون عليهم ويحرضونهم، خافهم المسلمون، فما كان شىء أحب إليهم من أن يخرجوا لهم ويتنحوا عن بلادهم حتى يأتيهم مدد، يرون أنهم يقوون به على من جاءهم من الروم، فاستشار أبو عبيدة الناس، فكلهم أشار عليه بالخروج من الشام، إلا خالد بن الوليد، فإنه أشار عليه بالمقام، وقال له: خلنى والناس ودعنى والأمر وولنى ما وراء بابك فأنا أكفيك بإذن الله أمر هذا العدو، فقال له أبو عبيدة: شأنك بالناس،
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (186- 187) .
(2) انظر: تاريخ فتوح الشام (187- 199) .(2/267)
فخلاه وإياهم، قال: وكان قيس بن هبيرة على مثل رأى خالد، ولم يكن فى المسلمين أحد يعدلهما فى الحرب وشدة البأس. قال: فخرج خالد فى الناس وهم أحسن شىء دعة ورعة وهيئة، وأشدهم فى لقاء عدوهم بصيرة، وأطيبهم أنفسا، فصفهم خالد ثلاثة صفوف، وجعل ميمنة وميسرة، ثم أتى أبا عبيدة. قال: من كنت تجعل على ميمنتك؟
قال: معاذ بن جبل، قال: أهل ذلك هو الرضى الثقة، فولها إياه، فأمر أبو عبيدة معاذا فوقف فى الميمنة، ثم قال: من كنت تول الميسرة؟ قال: غير واحد، قال: فولها إن رأيت قباث بن أشيم، فأمره أبو عبيدة فوقف فى الميسرة، وكان فيها كنانة وقيس، وكان قباث كنانيا، وكان شجاعا بئسا. قال خالد: وأنا على الخيل، وول على الرجالة من شئت، قال: أوليها إن شاء الله من لا يخاف نكوله ولا صدوده عند البأس، أوليها هاشم بن عتبة ابن أبى وقاص، قال: أصبت ووفقت ورشدت. قال أبو عبيدة: انزل يا هاشم، فأنت على الرجالة وأنا معك، وقال خالد لأبى عبيدة: أرسل إلى أهل كل راية فمرهم أن يطيعونى، فدعا أبو عبيدة الضحاك بن قيس، فأمره بذلك، فخرج الضحاك يسير فى الناس ويقول لهم: إن أميركم أبا عبيدة يأمركم بطاعة خالد بن الوليد فيما أمركم به.
فقال الناس: سمعنا وأطعنا، وقال ذلك أيضا معاذ بن جبل لما أنهى إليه الضحاك أمر أبى عبيدة، ثم نظر معاذ إلى الناس فقال: أما إنكم إن أطعتموه لتطيعن مبارك الأمر ميمون النقيبة عظيم الغناء حسن الحسبة والنية، قال الضحاك: فحدثت خالدا بذلك، فقال:
رحم الله أخى معاذا، أما والله إن أحبنى إنى لأحبه فى الله، لقد سبقت له ولأصحابه بسوابق لا ندركها فهنيئا ما خصهم الله به من ذلك. قال الضحاك: فأخبرت معاذا بما رد علىّ خالد، فقال: إنى لأرجو أن يكون الله قد أعطاه بصيرة على جهاد المشركين، وشدة عليهم مع بصيرته وحسن نيته فى إعزاز دينه أحسن الثواب، وأن يكون من أفضلنا بذلك عملا، فقال خالد، وقد لقيته بذلك: ما شىء على الله بعزيز.
قال: ثم إن خالدا سار فى الصفوف، يقف على أهل كل راية، ويقول: يا أهل الإسلام، إن الصبر عز وإن الفشل عجز، وإن مع الصبر تنصرون، والصابرون هم الأعلون، وما زال يقف على أهل كل راية يعظهم ويحضهم، ويرغبهم حتى مر بجماعة الناس، ثم إنه جمع إليه خيل المسلمين، ودعا قيس بن هبيرة، وكان يساعده ويوافقه ويشبهه فى جلده وشدته وشجاعته وإقدامه على المشركين، فقال له خالد: أنت فارس العرب، ولقل من حضر اليوم يعدلك عندى، فاخرج معى فى هذه الخيل، وبعث إلى ميسرة بن مسروق العبسى، وكان من أشراف العرب وفرسانهم، وإلى عمرو بن الطفيل(2/268)
ذى النور بن عمرو الدوسى، فخرجوا معه، ثم قسموا الخيل أرباعا، فبعث كل رجل منهم على ربع، وخرج خالد فى ربع منها حتى دنوا من عسكر الروم الأعظم الذى فيه باهان، فلما رأتهم الروم فزعوا لمجيئهم، وقد كانوا أخبروا أن العرب تريد الانصراف عن أرض الشام ويخلونهم وإياها، فكان ذلك قد وقع فى نفوسهم وطمعوا به، ورجوا أن لا يكون بينهم قتال، وصدق ذلك عندهم خروجهم من بين أيديهم يسوقونهم، وهم يدعون لهم الأرض والمدائن التى كانوا قد غلبوا عليها، فلما رأوا خالدا قد أقبل إليهم فى الخيل فزعهم ذلك وخرجوا على راياتهم بصلبهم، والقسيسون والرهبان والبطارقة معهم، فصفوا عشرين صفا لا ترى أطرافها، ثم أخرجوا إلى المسلمين خيلا عظيمة تكون أضعاف المسلمين مضاعفة، فلما دنت خيلهم من خيل المسلمين خرج بطريق من بطارقتهم يسأل المبارزة، ويتعرض لخيل المسلمين، فقال خالد: أما لهذا رجل يخرج إليه، ليخرجن إليه بعضكم أو لأخرجن إليه، فنفلت إليه عدة من المسلمين ليخرجوا إليه، وأراد ميسرة بن مسروق ذلك، فقال له خالد: أنت شيخ كبير وهذا الرومى شاب ولا أحب أن تخرج إليه، فإنه لا يكاد الشيخ الكبير يقوى على الشاب الحديث السن، فقف لنا يرحمك الله فى كتيبتك، فإنك ما علمت حسن البلاء عظيم الغناء، وأراد عمرو بن الطفيل الخروج إليه، فقال له خالد: يا ابن أخى أنت غلام حدث، وأخاف أن لا تقوى عليه، قال الحارث بن عبد الله: وكنت فى خيل خالد التى خرجت معه، فقلت: أنا أخرج إليه، فقال: ما شئت، قال:، فلما ذهبت لأخرج قال لى: هل بارزت رجلا قط قبله؟ قلت: لا، قال: فلا تخرج إليه، فقال قيس بن هبيرة: كأنك يا خالد علىّ تحوم؟
قال: أجل، وإنى أرجو إن خرجت إليه أن تقتله، وإن أنت لم تخرج إليه لأخرجن إليه أنا، قال قيس: بل أنا أخرج إليه، فخرج وهو يقول:
سائل نساء الحى فى حجلاتها ... ألست يوم الحرب من أبطالها
ومقعص «1» الأقران من رجالها
فخرج إليه، فلما دنا منه ضرب فرسه، ثم حمل عليه فما هلل أن ضربه بالسيف على هامته فقطع ما عليها من السلاح، وفلق هامته، فإذا الرومى بين يدى فرسه قتيلا، وكبر المسلمون فقال خالد: ما بعد ما ترون إلا الفتح، احمل عليهم يا قيس، ثم أقبل خالد على أصحابه فقال: احملوا عليهم، فو الله لا يفلحون وأولهم فارسا متغفرا فى التراب، قال:
فحملنا عليهم وعلى من يلينا منهم ومن خيلهم، وهى مستقدمة أمام صفوفهم وصفوفهم
__________
(1) مقعص: القعص هو القتل المعجل، وضربه فأقعصه: أماته مكانه. انظر: اللسان (3693) .(2/269)
كأنها أعراض الجبال، فكشفنا خيلهم حتى لحقت بالصفوف، وحمل خالد وأصحابه على من يليه منهم، فكشفوهم حتى ألحقوهم بالصفوف، وحمل عمرو بن الطفيل وميسرة بن مسروق فى أصحابهما حتى ألحقوهم بالصفوف، ثم إن خالدا أمر خيله فانصرفت عنهم ثم أقبل بها حتى لحق بجماعة المسلمين وقد أراهم الله السرور فى المشركين.
قال: وتلاومت بطارقة الروم، وقال بعضهم لبعض: جاءتكم خيل لعدوكم ليست بالكثيرة فكشفت خيولكم من كل جانب، فأقبلت منهم كتائب فى أثر كتائب، فطيفوا الأرض مثل الليل والسيل، كأنها الجراد السود، وظن المسلمون أنهم يخالطونهم، والمسلمون جراء عليهم سراع إليهم، فأقبلوا حتى إذا دنوا من جماعة المسلمين وقفوا ساعة وقد هابوا المسلمين وامتلأت صدورهم خوفا منهم، فقال خالد للناس: قد رجعنا عنهم ولنا الظفر عليهم، فاثبتوا لهم ساعة، فإن أقدموا علينا قاتلناهم، وإن رجعوا عنا كان لنا الظفر والفضل عليهم، فأخذوا يقتربون ثم يرجعون، والمسلمون فى مصافهم وتحت راياتهم سكوت لا يتكلم رجل منهم كلمة إلا أن يدعو الله فى نفسه ويستنصره على عدوه، فلما نظرت الروم إلى خيل المسلمين ورجالتهم ومصافهم وحدهم وجدهم وصبرهم وسكونهم ألقى الله عز وجل، الرعب فى قلوبهم منهم، فواقفوهم ساعة ثم انصرفوا راجعين عنهم إلى عسكرهم، فاجتمعت بطارقتهم وعظماؤهم إلى باهان وهو أصبر جماعتهم.
فقال لهم باهان: إنى قد رأيت رأيا وأنا ذاكره لكم، إن هؤلاء القوم قد نزلوا بلادكم وركبوا من مراكبكم وطعموا من طعامكم ولبسوا من ثيابكم، فعدل الموت عندهم أن يفارقوا ما تطعموه من عيشكم الرفيع ودنياكم التى لم يروا مثلها قط، وقد رأيت أن أسألهم إن رأيتم ذلك أن يبعثوا إلينا رجلا منهم له عقل فنناطقه ونشافهه ونطمعهم فى شىء يرجعون به إلى أهاليهم، لعل ذلك يسخى بأنفسهم عن بلادنا، فإن هم فعلوا ذلك كان الذى يريدون منا قليلا فيما نخاف وندفع به خطر الوقعة التى لا ندرى أعلينا تكون أم لنا، فقالوا له: قد أصبت وأحسنت النظر لجماعتنا، فاعمل برأيك.
فبعث رجلا من خيارهم وعظمائهم يقال له جرجة إلى أبى عبيدة، فقال له: إنى رسول باهان عامل ملك الروم على الشام، وعلى هذه الجنود، وهو يقول لك: أرسل إلىّ الرجل الذى كان قبلك أميرا فإنه ذكر لى أنه رجل ذو عقل وله فيكم حسب، وقد سمعنا أن عقول ذوى الأحساب أفضل من عقول غيرهم، فنخبره بما نريد ونسأله عما تريدون، فإن وقع فيما بيننا وبينكم أمر لنا ولكم فيه صلاح أو رضى أخذنا به وحمدنا الله عليه، وإن لم يتفق ذلك كان القتال من ورائنا هنالك.(2/270)
فدعا أبو عبيدة خالدا فأخبره بالذى جاء فيه الرومى، وقال لخالد: القهم فادعهم إلى الإسلام، فإن قبلوا فهو حظهم، وكانوا قوما لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وإن أبوا فاعرض عليهم الجزية، أن يؤدوها عن يد وهم صاغرون، فإن أبوا فأعلمهم أنا نناجزهم ونستعين الله عليهم، حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.
قال: وجاء رسولهم هذا الرومى، عند غروب الشمس فلم يمكث إلا يسيرا حتى حضرت الصلاة فقام المسلمون يصلون صلاتهم، فلما قضوها قال ذلك الرومى: هذا الليل قد غشينا، ولكن إذا أصبحت غدوت إلى صاحبنا إن شاء الله، وجعل ينظر إلى رجال من المسلمين يصلون وهم يدعون الله ويتضرعون إليه، وجعل ما يفيق وما يصرف بصره عنهم، فقال عمرو: إن رسولكم الذى أرسل إليكم لمجنون، فقال أبو عبيدة: كلا والله، إنى لأرجو أن يكون الله قد قذف فى قلبه الإيمان وحببه إليه، وعرفه فضله، أو ما تنظر إلى نظره إلى المصلين؟ ولبث الرومى بذلك قليلا ثم أقبل على أبى عبيدة، فقال: أيها الرجل، أخبرنى متى دخلتم فى هذا الدين؟ ومتى دعوتم الناس إليه؟.
فقال أبو عبيدة: دعينا إليه منذ بضع وعشرين سنة، فمنا من أسلم حين أتاه الرسول، ومنا من أسلم بعد ذلك، فقال: هل كان رسولكم أخبركم أنه يأتى من بعده رسول؟
قال: لا، ولكنه أخبرنا أنه لا نبىّ بعده، وأخبرنا أن عيسى ابن مريم قد بشر به قومه، قال الرومى: وأنا على ذلك من الشاهدين، إن عيسى ابن مريم قد بشرنا براكب الجمل، وما أظنه إلا صاحبكم. ثم قال: أخبرنى عن قول صاحبكم فى عيسى، فقال له أبو عبيدة: قول صاحبنا فيه قول الله تعالى فيه، وهو أصدق القائلين وأبرهم، قال الله تعالى:
إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 59] ، وقال تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ إلى قوله: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
[النساء:
171، 172] .
فلما فسر له الترجمان ذلك وبلغ هذا المكان قال: أشهد أن هذه صفة عيسى، وأشهد أن نبيكم صادق، وأنه الذى بشر به عيسى، وأنكم قوم صدق، وقال لأبى عبيدة: ادع لى رجلين من أول أصحابك إسلاما، وهما فيما ترى أفضل من معك، فدعا أبو عبيدة، معاذ بن جبل وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، فقال له: هذان من أفضل المسلمين فضلا، ومن أولهم إسلاما، فقال لهما الرومى ولأبى عبيدة: أتضمنون لى الجنة إن أنا(2/271)
أسلمت وجاهدت معكم؟ فقالوا له: نعم، إن أنت أسلمت واستقمت ولم تغير حتى تموت وأنت على ذلك فإنك من أهل الجنة، قال: فإنى أشهدكم أنى من المسلمين، فأسلم وفرح المسلمون بإسلامه، وصافحوه ودعوا له بخير، وقالوا له: إنا إن أرسلنا رسولنا إلى صاحبكم وأنت عندنا ظنوا أنا حبسناك عنهم، فنتخوف أن يحبسوا صاحبنا، فإن شئت أن تأتيهم الليلة وتكتم إسلامك حتى نبعث إليهم رسولنا غدا وننظر علام ينصرم الأمر بيننا وبينهم، فإذا رجع رسولنا إلينا أتيتنا عند ذلك، فما أعزك علينا وأرغبنا فيك وأكرمك علينا، وما أنت الآن عند كل امرئ منا إلا بمنزلة أخيه لأبيه وأمه. قال: فإنكم نعم ما رأيتم، فخرج فبات فى أصحابه، وقال لباهان: غدا يجيئكم رسول القوم الذى سألتم، وانصرف إلى المسلمين لما رجع إليهم خالد، فأسلم وحسن إسلامه.
ولما أصبح المسلمون من تلك الليلة بعث خالد بن الوليد بقية له حمراء من أدم كان اشتراها بثلاثمائة دينار، فضربت له فى عسكر الروم، ثم خرج حتى أتاها، فأقام فيها ساعة، وكان خالد رجلا طويلا جميلا جليدا مهيبا لا ينظر إليه رجل إلا ملأ صدره وعرف أنه من جلداء الرجال وشجعانهم، وأشدائهم، وبعث باهان إلى خالد وهو فى قبته: أن القنى، وصف له فى طريقه عشرة صفوف عن يمينه، وعشرة صفوف عن شماله، مقنعين فى الحديد، عليهم الدروع والبيض والسواعد والجواشن والسيوف، لا يرى منهم إلا الحدق، وصف من وراء تلك الصفوف خيلا عظيمة، وإنما أراد أن يريه عدد الروم وعدتهم ليرعبه بذلك، وليكون أسرع له إلى ما يريد أن يعرض عليه، فأقبل خالد غير مكترث لما رأى من هيئاتهم وجماعتهم، ولكانوا أهون عليه من الكلاب، فلما دنا من باهان رحب به، ثم قال بلسانه: هاهنا عندى، اجلس معى فإنك من ذوى أحساب العرب فيما ذكر لى، ومن شجعانهم، ونحن نحب الشجاع ذا الحسب، وقد ذكر لى أن لك عقلا ووفاء، والعاقل ينفعك كلامه، والوفى يصدق قوله ويوثق بعهده، وأجلس فيما بينه وبين خالد ترجمانا له يفسر لخالد ما يقول، وخالد جالس إلى جنبه.
قال الحارث بن عبد الله الأزدى: قال لى خالد يوم غدا إلى عسكر الروم: اخرج معى، وكنت صديقا له قل ما أفارقه وكان يستشيرنى فى الأمر إذا نزل به، فكنت أشير عليه بمبلغ رأيى، فكان يقول لى: إنك ما علمت لميمون الرأى ولقل ما أشرت علىّ بمشورة إلا وجدت عاقبتها تؤدى إلى سلامة، فخرجت يومئذ معه، حتى إذا دخلنا عسكرهم وضربت قبته وبعث إليه باهان ليلقاه قال لى: انطلق معى، فقلت له: إن القوم إنما أرادوك ولا أراهم يدعوننى أدنو إليهم معك، فقال لى: امضه، فمضيت معه، فلما(2/272)
دنونا من باهان وعلى رأسه ألوف رجال بعضهم خلف بعض وحوله، لا يرى منهم إلا أعينهم، وفى أيديهم العمد، جاءنا الترجمان فقال: أيكما خالد؟ فقال خالد: أنا، فقال:
أقبل أنت وليرجع هذا، فقام خالد وقال: هذا رجل من أصحابى ولست استغنى عن رأيه، فرجع إلى باهان فأخبره، فقال: دعوه فليأت معه، فأقبلنا نحوه، فلم يمش إلا خطا خمسا أو ستا حتى جاء نحو من عشرة، فقالوا لى: ضع سيفك، ولم يقولوا لخالد شيئا، فنظرت ما يقول لى خالد، فقال لهم: ما كان ليضع عزه من عنقه أبدا، وقد بعثتم إلينا فأتيناكم، فإن تكرمونا جلسنا إليكم وسمعنا منكم، وإن أبيتم فخلوا سبيلنا فننصرف عنكم، فرجع الترجمان إلى باهان فأخبره، فقال: دعوهما، فأقبلنا إليه، فرحب بخالد وأجلسه معه، وجلست أنا على نمارق مطروحة للناس قريبا منهما، وحيث أسمع كلامهما، فقال باهان لخالد: إنك من ذوى أحساب العرب، فيما ذكر لى، ومن شجعانهم، وقد ذكر لى أن لك عقلا ووفاء، والعاقل ينفعك كلامه، والوفى يصدق قوله يوثق بعهده.
فلما فسر له الترجمان ذلك قال خالد: إن نبينا صلى الله عليه وسلم قال لنا: إن حسب المرء دينه، ومن لم يكن له دين فلا حسب له، وقال لنا: إن أفضل الشجاعة وخيرها فى العاجلة والعاقبة ما كان منها فى طاعة الله، وأما ما ذكرت أنى أوتيت عقلا ووفاء، فإن أكن أوتيت ذلك فلله المن والفضل علينا، وهو المحمود عندنا، وقد قال لنا نبينا صلى الله عليه وسلم: إن الله لما خلق العقل وفرغ من خلقه، قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر، ثم قال له: وعزتى ما خلقت من خلقى شيئا هو أحب إلىّ منك، بك أحمد، وبك أعبد، وبك أعرف، وبك تنال طاعتى، وبك تدخل جنتى، ثم قال خالد: والوفاء لا يكون إلا من العقل، فمن لم يكن له عقل فلا وفاء له، ومن لا وفاء له لا عقل له. فقال له باهان: أنت أعقل أهل الأرض، ما يتكلم بكلامك ولا يبصره ولا يفطن له إلا الفائق من الرجال، ثم قال لخالد:
أخبرنى عنك، وأنت هكذا تحتاج إلى مشورة هذا الرجل؟ فقال له خالد: وأعجب من ذلك أن فى عسكرنا أكثر من ألف رجل كلهم لا يستغنى عن رأيه ولا عن مشورته، فقال باهان: ما كنا نظن ذلك عندكم، ولا نراكم به، فقال له خالد: ما كل ما تظنون ونظن يكون صوابا، فقال باهان: صدقت، ثم قال له: إن أول ما أكلمك به أنى أدعوك إلى خلتى ومصافاتى، فقال له خالد: كيف لى ولك أن يتم هذا فيما بينى وبينك وقد جمعتنى وإياك بلدة لا أريد أنا ولا تريد أنت أن نفترق حتى تصير البلدة لأحدنا، فقال له باهان: فلعل الله أن يصلح بيننا وبينك فلا يهراق دم ولا يقتل قتيل، قال خالد: إن شاء(2/273)
الله فعل، قال باهان: فإنى أريد أن ألقى الحشمة فيما بينى وبينك وأكلمك كلام الأخ أخاه، إن قبتك هذه الحمراء قد أعجبتنى فأنا أحب أن تهبها لى، فإنى لم أر قبة من القباب أحسن منها، فخذ ما بدا لك فيها وسلنى ما أحببت فهو فى يدك، فقال له خالد:
خذها فهى لك، ولست أريد من متاعك شيئا، قال: والله ما ظننته سألها إلا لينظر إليها، فإذا هو قد أخذها، ثم قال لخالد: إن شئت بدأتك فتكلمت، وإن شئت أنت فتكلم، فقال له خالد: ما أبالى أى ذلك كان، أما أنا فلا أخالك إلا وقد بلغك وعلمت ما أسأل وأطلب، وما أدعو إليه، وقد جاءك بذلك أصحابك ومن لقينا منهم بأجنادين ومرج الصفر وفحل ومدائنكم وحصونكم، وأما أنت فلست أدرى ما تريد أن تقول، فإن شئت فتكلم، وإن شئت بدأتك فتكلمت، فقال باهان:
الحمد لله الذى جعل نبينا أفضل الأنبياء، وملكنا أفضل الملوك، وأمتنا أفضل الأمم، فلما بلغ هذا المكان، قال خالد وقطع على باهان منطقه: والحمد لله الذى جعلنا نؤمن بنبينا ونبيكم، وبجميع الأنبياء، وجعل الأمير الذى وليناه أمورنا رجلا كبعضنا، فلو زعم أنه ملك علينا لعزلناه عنا، ولسنا نرى أن له على رجل من المسلمين فضلا إلا أن يكون أتقى منه عند الله، وأبر، والحمد لله الذى جعل أمتنا تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتقر بالذنب وتستغفر منه، وتعبد الله وحده لا تشرك به شيئا، قل الآن ما بدا لك.
فاصفر وجه باهان وسكت قليلا، ثم قال: الحمد لله الذى أبلانا فأحسن البلاء عندنا فأغنانا من الفقر، ونصرنا على الأمم، وأعزنا فلا نذل، ومنعنا من الضيم فلا تباح حرمتنا، ولسنا فيما أعزنا الله به وأعطانا من ديننا ببطرين ولا مرحين، ولا باغين على الناس، وقد كانت لنا منكم يا معشر العرب جيران كنا نحسن جوارهم، ونعظم رفدهم، ونفضل عليهم، ونفى لهم بالعهد، وخيرناهم بلادنا، ينزلون منها حيث شاؤا، فينزلون آمنين، ويرحلون آمنين، وكنا نرى أن جميع العرب ممن لا يجاورنا سيشكرون لنا ذلك الذى آتينا إلى إخوانهم، وما اصطنعنا عندهم فلم يرعنا منهم إلا وقد فاجأتمونا بالخيل والرجال، تقاتلوننا على حصوننا، وتريدون أن تغلبونا على بلادنا، وقد طلب هذا منا قبلكم من كان أكثر منكم عددا وأعظم مكيدة وأقوى جدا، فلم يرجعوا عنا إلا وهم بين أسير وقتيل، وأرادت ذلك منا فارس، فقد بلغكم كيف صنع الله بهم، وأراد ذلك منا الترك فلقيناهم بأشد مما لقينا به فارس، وأرادنا غيرهم من أهل المشرق والمغرب، من ذوى المنعة والعز والجنود العظيمة، فكلهم أظفرنا الله بهم، وصنع لنا عليهم، ولم تكن أمة من الأمم بأدق عندنا منكم شأنا ولا أصغر أخطارا، إنما جلكم رعاء الشاء والإبل(2/274)
وأهل الصحراء والحجر والبؤس والشقاء، أفأنتم تطمعون أن نتخلى لكم عن بلادنا، بئس ما طمعتم فيه منا، وقد ظننا أنه لم يأت بكم إلى بلادنا ونحن ننفى كل من حولنا من الأمم العظيمة الشأن الكثيرة العدد إلا جهد نزل بكم من جدوبة الأرض وقحط المطر، فعثتم فى بلادنا وأفسدتم كل الفساد، وقد ركبتم مراكبنا، وليست كمراكبكم، ولبستم ثيابنا، وليست كثيابكم، وطعمتم من طعامنا وليس كطعامكم، وأصبتم منا وملأتم أيديكم من الذهب الأحمر والفضة البيضاء، والمتاع الفاخر، ولقد لقيناكم الآن وذلك كله لنا، وهو فى أيديكم، فنحن نسلمه لكم، فاخرجوا به وانصرفوا عن بلادنا، فإن أبت أنفسكم إلا أن تخرجوا وتشرهوا وأردتم أن نزيدكم من بيوت أموالنا ما نقوى به الضعيف منكم، ويرى الغائب أن قد رجع إلى أهله بخير فعلنا، ونأمر للأمير منكم بعشرة آلاف دينار ونأمر لك بمثلها، ونأمر لرؤسائكم بألف دينار ألف دينار، ونأمر لجميع أصحابك لكل واحد منهم بمائة دينار، على أن تحلفوا لنا بالأيمان المغلظة أن لا تعودا إلى بلادنا، ثم سكت.
فقال خالد: الحمد لله الذى لا إله إلا هو، فلما فسر ذلك الترجمان، رفع باهان يديه إلى السماء، ثم أشار إليه بيده، وقال لخالد: نعم ما قلت، قال خالد: وأشهد أن محمدا رسول الله، فلما فسرها الترجمان قال باهان: الله أعلم، ما أدرى لعله كما تقول، ثم قال خالد: أما بعد، فإن كل ما ذكرت به قومك من الغنى والعز ومنع الحريم والظفر على الأعداء والتمكن فى البلاد نحن به عارفون، وكل ما ذكرت من إنعامكم على جيرانكم منا فقد عرفناه، وذلك لأمر كنتم تصلحون به دنياكم زيادة فى ملككم وعزا لكم ألا ترون أن ثلثيهم أو شطرهم قد دخلوا فى دينكم وهم يقاتلوننا معكم، وأما ما ذكرتنا به من رعى الإبل والغنم، فما أقل ما رأيت واحدا منا يكرهه، وما لمن يكرهه منا فضل على من يفعله، وأما قولك: إنا أهل الصحراء والحجر والبؤس والشقاء، فحالنا والله كما وصفته وما ننتفى من ذلك ولا نتبرأ منه، وكنا على أسوأ وأشد مما ذكرت، وسأقص عليك قصتنا وأعرض عليك أمرنا وأدعوك إلى حظك إن قبلت، ألا إنا كنا معشر العرب أمة من هذه الأمم، أنزلنا الله وله الحمد منزلا من الأرض ليست به أنهار جارية ولا يكون فيه من الزرع إلا القليل، وجل أرضنا المهامة والقفار، وكنا أهل الحجر ومدر وشاة وبعير وعيش شديد وبلاء دائم لازم، نقطع أرحامنا، ونقتل خشية الإملاق أولادنا، ويأكل قوينا ضعيفنا، وكثيرنا قليلنا، ولا تأمن قبيلة منا قبيلة إلا أربعة أشهر من السنة، نعبد من دون الله أوثانا وأصناما ننحتها بأيدينا من الحجارة التى نختارها على أعيننا،(2/275)
وهى لا تضر ولا تنفع، ونحن عليها مكبون، فبينا نحن كذلك على شفا حفرة من النار، من مات منا مات مشركا وسار إلى النار، ومن بقى منا بقى مشركا كافرا بربه قاطعا لرحمه، إذ بعث الله فينا رسولا من صميمنا وخيارنا دعانا إلى الله وحده أن نعبده ولا نشرك به شيئا، وأن نخلع الأنداد التى يعبدها المشركون.
وقال لنا: لا تتخذوا من دون ربكم إلها، ولا وليا، ولا نصيرا، ولا تجعلوا معه صاحبة ولا ولدا، ولا تعبدوا من دونه نارا ولا حجرا ولا شمسا ولا قمرا، واكتفوا به ربا وإلها من كل شىء دونه، وكونوا أولياءه، وإليه فارغبوا، وإياه فادعوا، وقال لنا: قاتلوا من اتخذ مع الله آلهة أخرى، وكل من زعم أن لله ولدا، وأنه ثانى اثنين أو ثالث ثلاثة حتى يقولوا: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ويدخلوا فى الإسلام، فإن فعلوا حرمت عليكم دماؤهم وأموالهم وأعراضهم إلا بحقها، وهم إخوانكم فى الدين، لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، فإن هم أبوا أن يدخلوا فى دينكم وأقاموا على دينهم فاعرضوا عليهم الجزية أن يؤدوها عن يد وهم صاغرون، فإن فعلوا فاقبلوا منهم وكفوا عنهم، فإن أبوا فقاتلوهم، فإنه من قتل منكم كان شهيدا حيا عند الله، مرزوقا، وأدخله الله الجنة، ومن قتل من عدوكم قتل كافرا وصار إلى النار مخلدا فيها أبدا.
ثم قال خالد: وهذا والله الذى لا إله إلا هو هو الذى أمر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم فعلمناه، وأمرنا به، وأمرنا أن ندعو الناس إليه، ونحن ندعوكم إلى الإسلام وإلى أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وإلى أن تقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة وتقروا بما جاء به من عند الله، فإن فعلتم فأنتم إخواننا فى الدين، لكم ما لنا وعليكم ما علينا، فإن أبيتم فإنا نعرض عليكم أن تعطوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، فإن فعلتم قبلنا منكم وكففنا عنكم، وإن أبيتم أن تفعلوا فقد والله جاءكم قوم هم أحرص على الموت منكم على الحياة، فاخرجوا بنا على اسم الله حتى نحاكمكم إلى الله، فإنما الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين، ثم سكت خالد، فقال باهان: أما أن ندخل فى دينكم فما أبعد من ترى من الناس أن يترك دينه ويدخل فى دينكم، وإما أن نؤدى الجزية، ثم تنفس الصعداء، وثقلت عليه وعظمت عنده، فسيموت من ترى جميعا قبل أن يؤدوا الجزية إلى أحد من الناس، وهم يأخذون الجزية ولا يعطونها، وأما قولك: فاخرجوا حتى يحكم الله بيننا، فلعمرى ما جاءك هؤلاء القوم وهذه الجموع إلا ليحاكموك إلى الله، وأما قولك: إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، فصدقت والله، ما كانت هذه الأرض التى نقاتلكم عليها وتقاتلوننا إلا لأمة من(2/276)
الأمم كانوا قبلنا فيها، فقاتلناهم عليها فأخرجناهم منها، وقد كانت قبل ذلك لقوم آخرين فأخرجهم منها هؤلاء الذين كنا قاتلناهم عليها، فابرزوا على اسم الله، فإنا خارجون إليكم.
قال الحارث: فلما فرغ باهان من كلامه وثب خالد فقام، وقمت معه، فمر بقبته فتركها، وبعث معنا صاحب الروم رجالا حتى أخرجونا من عسكرهم وأمنا، فرجعنا إلى أبى عبيدة، فقص عليهم خالد الخبر، وأخبرهم بأن القتال سيقع بينهم، وقال للناس:
استعدوا أيها الناس استعداد قوم يرون أنهم عن ساعة مقاتلون.
وحدث «1» أبو جهضم الأزدى، عن رجل من الروم كان مع باهان فى عسكرهم ذلك وأسلم بعد فحسن إسلامه، قال: كتب باهان إلى قيصر كتابا يخبره فيه بخالد وحال أصحابه وحال المسلمين، وكان قد جمع أصحابه يوم انصرف عنهم خالد، فقال: أشيروا علىّ برأيكم فى أمر هؤلاء القوم فإنى قد هيبتهم فما أراهم يهابون، وأطمعتهم فليس يطمعون، وأردتهم على الرجوع والخروج عن بلادنا بكل وجه فليسوا براجعين، والقوم ليس يريدون إلا هلاككم واستئصالكم وسلب سلطانكم، وأكل بلادكم، وسبى أولادكم ونسائكم، وأخذ أموالكم، فإن كنتم أحرارا فقاتلوا عن سلطانكم، وامنعوا حريمكم ونساءكم وأموالكم وبلادكم وأولادكم، فقامت البطارقة رجلا بعد رجل فكلهم يخبره أنه طيب النفس بالموت دون بلاده وسلطانه، وقالوا له: إذا شئت فانهض بنا فقال لهم: فكيف ترون، نقاتلهم فإنا أكثر من عشرة أضعافهم، نحن نحو من أربعمائة ألف، وهم نحو من ثلاثين ألفا أو أقل أو أكثر.
فقال بعضهم: أخرج إليهم فى كل يوم مائة ألف يقاتلونهم وتستريح البقية، وتسرح عيالنا وأثقالنا إلى البحر، فلا يكون معنا شىء يهمنا ولا يشغلنا، ويقاتلهم كل يوم منا مائة ألف، فهم فى كل يوم فى قتل وجراحة وعناء ومشقة وشدة، ونحن لا نقاتل إلا فى كل أربعة أيام يوما فإن هم هزموا منا فى كل يوم مائة ألف بقى لهم أكثر من مائتى ألف لم ينهزموا، فقال آخرون: لا، ولكنا نرى إذا هم خرجوا إلينا أن نبعث إلى كل رجل منهم عشرة من أصحابك، فلا والله لا يجتمع عشرة على واحد إلا غلبوه، فقال باهان: هذا ما لا يكون، وكيف أقدر على عددهم حتى أبعث إلى كل رجل منهم عشرة من أصحابى، وكيف أقدر أن ينفرد الرجل منهم عن صاحبه حتى أبعث إليه عشرة من قبلى، هذا ما لا يكون.
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (207) .(2/277)
قال: فأجمعوا رأيهم جميعا على أن يخرجوا بأجمعهم خرجة واحدة فيناجزوهم فيها ولا يرجعوا عنهم حتى يحكم الله بينهم.
وكتب باهان إلى قيصر: أما بعد، نسأل الله لك أيها الملك ولجندك وأهل مملكتك النصر ولدينك وسلطانك العز، فإنك بعثتنى فيما لا يحصيه من العدد إلا الله، فقدمت على القوم، فأرسلت إليهم فهيبتهم فلم يهابوا، وأطمعتهم فلم يطمعوا، وخوفتهم فلم يخافوا، وسألتهم الصلح فلم يقبلوا، وجعلت لهم الجعل على أن ينصرفوا فلم يفعلوا، وقد ذعر منهم جند الملك ذعرا شديدا، وخشيت أن يكون الفشل قد عمهم، والرعب قد دخل قلوبهم، إلا أن منهم رجالا قد عرفتهم ليسوا بفرارين عن عدوهم، ولا شكاك فى دينهم، ولو قد لقوهم لم يفروا حتى يظهروا أو يقتلوا، وقد جمعت أهل الرأى من أصحابى، وأهل النصيحة لملكنا وديننا، فاجتمع رأيهم على النهوض إليهم جميعا، فى يوم واحد، ولا نزايلهم حتى يحكم الله بيننا وبينهم.
قال: وكان باهان قد رأى رؤيا، فذكرها لملك الروم فى كتابه هذا، فقال له: وقد أتانى آت فى منامى، فقال لى: لا تقاتل هؤلاء القوم، فإنهم يهلكونك ويهزمونك، فلما انتبهت عبرت أنه من الشيطان، أراد أن يحزننى، فخسأته «1» ، فإن يكن الشيطان فقد خسأته، وإن لم يكن فقد بين لى الأمر، فابعث أنت أيها الملك بثقلك وحرمك ومالك فألحقهم بأقصى بلادك، وانتظر وقعتنا هذه، فإن أظهرنا الله عليهم حمدت الله الذى أعز دينك ومنع سلطانك، وإن هم ظفروا علينا، فارض بقضاء الله، واعلم أن الدنيا زائلة عنك كما زالت عمن كان قبلك، فلا تأسف منها على ما فاتك ولا تغتبط منها بشىء مما فى يديك، والحق بمعاقلك ودار مملكتك، وأحسن إلى رعيتك وإلى الناس يحسن الله إليك، وارحم الضعفاء والمساكين ترحم، وتواضع لله يرفعك، فإن الله لا يحب المتكبرين، والسلام.
قال: ثم إن باهان خرج إلى المسلمين فى يوم ذى ضباب ورذاذ، وصف لهم عشرين صفا لا ترى أطرافها، ثم جعل على ميمنته ابن قماطر، ومعه جرجير فى أهل أرمينية، وجعل الدرنجار فى ميسرته، وكان من خيارهم ونساكهم، فأقبلوا نحو المسلمين كأنهم أعراض الجبال وقد ملأوا الأرض، فلما نظر إليهم المسلمون وقد أقبلوا كلهم، نهضوا إلى راياتهم، وجاء خالد بن الوليد ويزيد بن أبى سفيان وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة، وهم الأمراء الذين كان أبو بكر رضى الله عنه، أمرهم إلى أبى عبيدة بن الجراح،
__________
(1) خسأ: طرد وأبعد ودحر. انظر: اللسان (1155) .(2/278)
ومعه معاذ بن جبل لا يفارقه، فقالوا له: إن هؤلاء قد زحفوا لنا هذا اليوم المطير، وإنا لا نرى أن نخرج إليهم فيه حتى يطلوا «1» بعسكرنا ويضطرونا إلى ذلك، قال: أصبتم، ثم خرج هو ومعاذ فصفوا الناس وهيئوهم ووقفوهم على مراكزهم، وأقبلت الروم فى المطر، فوقفوا ساعة وتصبروا عليه، فلما رأوا أن المطر لا يقلع انصرفوا إلى عسكرهم، ودعا الدرنجار رجلا من العرب ممن كان على دين النصرانية فقال له: ادخل فى عسكر هؤلاء القوم فانظر ما حالهم وما هديهم، وما يصنعون، وكيف سيرتهم، ثم القنى بها، فخرج ذلك الرجل حتى دخل عسكر المسلمين فلم يستنكروه لأنه كان رجلا من العرب لسانه ووجهه، فمكث فى عسكرهم ليلة حتى أصبح، فوجد المسلمين يصلون الليل كله كأنهم فى النهار، ثم أصبح فأقام عامة يومه، ثم خرج إليه، فقال: جئتك من عند قوم يصومون النهار، ويقومون الليل، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، رهبان بالليل، وأسد بالنهار، لو سرق ملكهم فيهم لقطعوه، ولو زنى لرجموه، لا يثأرهم الحق واتباعهم إياه على الهوى، فقال: لئن كان هؤلاء القوم هكذا لبطن الأرض خير من ظهرها لمن يريد قتالهم.
فلما كان من الغد خرجوا أيضا، فى يوم ذى ضباب، وأتى المسلمين رجال من العرب كانوا نصارى فأسلموا، فقال لهم أبو عبيدة وخالد: ادخلوا فى عسكر الروم واكتموهم إسلامكم والقونا بأخبارهم، فإن لكم فى هذا أجرا، والله حاسبه لكم جهادا، فإنكم تدفعون بذلك عن حرمة الإسلام وتدلون على عورة أهل الشرك، فانطلقوا فدخلوا عسكر الروم، ثم جاؤا بعد ما مضى من الليل نصفه، فأتوا أبا عبيدة فقالوا له: إن القوم قد أوقدوا النيران، وهم يتبعون لكم ويتهيأون للقائكم، وهم مصبحوكم بالغداة، فما كنتم صانعين فاصنعوه الآن، فخرج أبو عبيدة ومعاذ بن جبل وخالد بن الوليد ويزيد بن أبى سفيان وعمرو بن العاص، فعبأوا الناس وصفوهم، فلم يزالوا فى ذلك حتى أصبحوا.
وعن راشد بن عبد الرحمن الأزدى، قال «2» : صلى بنا أبو عبيدة يومئذ صلاة الغداة فى عسكره فى الغداة التى لقينا فيها الروم باليرموك، فقرأ فى أول ركعة بالفجر وليال عشر، فلما مر بقول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ إِنَّ رَبَّكَ
__________
(1) يلطوا: لط الشىء يلطه لطا: ألزقه ولزمه. انظر: اللسان (4034) .
(2) انظر: تاريخ فتوح الشام (212) .(2/279)
لَبِالْمِرْصادِ [الفجر: 4، 14] قلت فى نفسى: ظهرنا والله على القوم للذى أجرى الله على لسانه، وسررت بذلك سرورا شديدا، وقلت: عدونا هذا والله نظير لهذه الأمم، فى الكفر والكثرة والمعاصى، قال: ثم قرأ فى الركعة الثانية: وَالشَّمْسِ وَضُحاها، فلما مر بقول الله تعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها إلى آخر السورة، قلت فى نفسى:
هذه والله أخرى، إن صدق الفأل ليصبن الله عليهم سوط عذاب، وليدمدمن الله عليهم كما دمدم على هذه القرون من قبلهم، فلما قضى أبو عبيدة صلاته، أقبل على الناس بوجهه، وقال:
أيها الناس أبشروا، فإنى رأيت فى ليلتى هذه فيما يرى النائم كأن رجالا أتونى فحفوا بى وعليهم ثياب بيض، ثم دعوا إلىّ رجالا منكم أعرفهم، ثم قالوا لنا: أقدموا على عدوكم ولا تهابوهم، فإنكم الأعلون، وكأنا مضينا إلى عسكر عدونا، فلما رأونا قاصدين إليهم انفرجوا لنا، وجئنا حتى دخلنا عسكرهم، وولوا مدبرين.
فقال له الناس: أصلحك الله، نامت عينك، هذه بشرى من الله، بشرك الله بخير.
وقال أبو مرثد الخولانى: وأنا أصلحك الله قد رأيت رؤيا، إنها لبشرى من الله، رأيت فى هذه الليلة كأنا خرجنا إلى عدونا، فلما تواقعنا صب الله عليهم من السماء طيرا بيضا عظاما لها مخالب كمخالب الأسد، وهى تنقض من السماء انقضاض العقبان، فإذا حاذت بالرجل من المشركين ضربته ضربة يخر منها متقطعا.
وكان الناس يقولون: أبشروا معاشر المسلمين، فقد أيدكم الله عليهم بالملائكة. قال:
فتباشر الناس بهذه الرؤيا وسروا بها، فقال أبو عبيدة: وهذه والله بشرى من الله، فحدثوا بهذه الرؤيا الناس، فإن مثلها من الرؤيا ما يشجع المسلم ويحسن ظنه وينشطه للقاء عدوه.
قال: وانتشرت هذه الرؤيا ورؤيا أبى عبيدة فى المسلمين، واستبشروا بهما.
وعن أبى جهضم أيضا «1» : أن رجلا من الروم حدثه فى خلافة عبد الملك بن مروان أن رجلا من عظمائهم أتى باهان فى صبيحة الليلة التى خرج إلى المسلمين باليرموك، فقال له: إنى رأيت رؤيا أريد أن أحدثك بها، قال: هاتها، قال: رأيت كأن رجالا نزلوا من السماء طول أحدهم أبعد من مد بصره، فنزعوا سيوفنا من أغمادها وأسنة رماحنا من أطرافها، ثم لم يدعوا منا رجلا إلا كتفوه، ثم قالوا لنا: اهربوا وأكثركم هالك،
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (214- 216) .(2/280)
فأخذنا نهرب، فمنا من يسقط على وجهه ومنا من يتبلد لا يستطيع أن يبرح من مكانه، ومنا من يحل كتافه ثم يسعى حتى لا نراه.
فقال له باهان: أما من رأيت يسقط على وجهه، ومن رأيته يتبلد لا يطيق أن يسعى ولا يتنحى من مكانه فهم الذى يهلكون، وأما الذين رأيت يحلون كتافهم ويسعون حتى لا نراهم، فأولئك الذين ينجون، ثم قال له باهان: أما أنت فو الله لا تسلم منى أبدا، فوجهك الذى بشر بالشر وقنط من الخير، ألست الذى كنت أشد الناس علىّ فى أمر الرجل الذى قتل رجلا من أهل الذمة، فأردت أن أقتله، فكنت أنت من أشد الناس علىّ فى أمره حتى عطلت حدا من حدود الله وتركته، وكان علىّ من الحق أن أقيمه، فحلت بينى وبينه فى جماعة من السفهاء، وتركته كراهية أن أفرق جماعتكم أو أن يضرب بعضكم بعضا، فأما الآن، فقد حدثت نفسى بالموت، وإنما ألقى القوم عن ساعة، فإن شئتم الآن فتفرقوا، وإن شئتم فاجتمعوا وأنا أتوب إلى الله من ترك ذلك الحد يومئذ، فإنه لم يك يسعنى ولا ينبغى لى إلا قتله، ولو قتلتمونى معه، ثم أمر به فضربت عنقه. قال:
وطلب الرومى الذى كان قتل الذمى فهرب منه فلم يقدر عليه، وقد تقدمت قصة هذا الرومى المقتول تعديا فيما أخرجناه قبل من الحديث عن أبى بشر التنوخى، فأغنى ذلك عن إعادتها.
وعن راشد بن عبد الرحمن الأزدى «1» : أن باهان زحف يوم اليرموك إلى المسلمين فى عشرين صفا تضم نحوا من أربعمائة ألف مقاتل، وأصبح المسلمون طيبة أنفسهم لقتال المشركين، قد شرح الله صدورهم وشجع قلوبهم على لقاء عدوهم، فأخرجهم أبو عبيدة وجعل على ميمنته معاذ بن جبل، وعلى ميسرته قباث بن أشيم، وعلى الرجالة هاشم بن عتبة، وعلى الخيل خالد بن الوليد، وخرج الناس على راياتهم وفيهم أشراف العرب وفرسانهم من رجالهم وقبائلهم، وفيهم الأزد وهم ثلث الناس، وحمير، وهم عظم الناس، وفيهم همدان وخولان ومذحج وخثعم وقضاعة ولخم وجذام وعاملة وغسان وكندة وحضرموت، ومعهم جماعة من كنانة، ولكن عظم الناس أهل اليمن، ولم يحضرها يومئذ أسد ولا تميم ولا ربيعة، ولم تكن دارهم هنالك، إنما كانت دارهم عراقية، فقاتلوا أهل فارس بالعراق، فلما برز المسلمون إلى عدوهم، سار أبو عبيدة فيهم، ثم قال: يا عباد الله، انصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم فإن وعد الله حق، يا معشر المسلمين، اصبروا فإن الصبر منجاة من الكفر ومرضاة للرب ومدحضة للعار، فلا تبرحوا
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (217) .(2/281)
مصافكم ولا تخطوا إليهم بخطوة ولا تبدأوهم بقتال، واشرعوا الرماح واستتروا بالدرق، والزموا الصمت إلا من ذكر الله حتى آمركم إن شاء الله.
وخرج معاذ يقص على الناس، ويقول: يا قراء القرآن ومستحفظى الكتاب وأنصار الهدى وأولياء الحق، إن رحمة الله لا تنال بالتوانى، وجنته لا تدخل بالأمانى، ولا يؤتى الله المغفرة والرحمة الواسعة إلا الصادقين المصدقين بما وعدهم الله، ألم تسمعوا لقول الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً [النور: 55] إلى رأس الآية، أنتم إن شاء الله منصورون، فأطيعوا الله ورسوله: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال: 46] ، واستحيوا من ربكم أن يراكم فرارا من عدوكم، وأنتم فى قبضته ورحمته، وليس لأحد منكم ملجأ ولا منجى من دونه، ولا متعزز بغير الله، وجعل يمشى فى الصفوف يحرضهم ويقص عليهم، ثم انصرف إلى موضعه.
قال سهل بن سعد «1» : ومر عمرو بن العاص يومئذ على الناس، فجعل يعظهم ويحرضهم ويقول: أيها الناس، غضوا أبصاركم، واجثوا على الركب، وأشرعوا الرماح، والزموا مراكزكم ومصافكم، فإذا حمل عليكم عدوكم فأمهلوهم حتى إذا ركبوا أطراف الأسنة فثبوا فى وجوههم وثوب الأسد فو الذى يرضى الصدق ويثيب عليه، ويمقت الكذب ويعاقب عليه، ويجزى الإحسان، لقد بلغنى أن المسلمين سيفتحونها كفرا كفرا وقصرا قصرا، فلا يهولنكم جموعهم ولا عددهم، فلو قد صدقتموهم الشدة لقد ابذعروا ابذعرار أولاد الحجل.
قال: وكان أبو سفيان بن حرب استأذن عمر بن الخطاب فى جهاد الروم بالشام، فقال له: إنى أحب أن تأذن لى فأخرج إلى الشام متطوعا بمالى فأنصر المسلمين، وأقاتل المشركين وأحض جماعة من هناك من المسلمين، فلا آلوهم نصيحة ولا خيرا، فقال له عمر: قد أذنت لك يا أبا سفيان، تقبل الله جهادك وبارك لك فى رأيك، وأعظم أجرك فيما نويت من ذلك، فتجهز أبو سفيان بأحسن الجهاز، وفى أحسن هيئة، ثم خرج وصحبته أناس من المسلمين كثير، خرجوا متطوعين، فأحسن أبو سفيان صحبتهم حتى قدموا على جماعة المسلمين، ولما خرج المسلمون إلى عدوهم باليرموك كان أبو سفيان يومئذ يسير فى الناس، ويقف على أهل كل راية، وعلى كل جماعة فيحض الناس
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (219) .(2/282)
ويعظهم ويقول: إنكم يا معشر المسلمين أصبحتم فى دار العجم منقطعين عن الأهل، نائين عن أمير المؤمنين، وأمداد المسلمين، وقد والله أصبحتم بإزاء عدو كثير عددهم شديد عليكم حنقهم، وقد وترتموهم فى أنفسهم ونسائهم وأولادهم وبلادهم وأموالهم، فلا والله لا ينجيكم منهم اليوم ولا تبلغون رضوان الله إلا بصدق اللقاء والصبر فى مواطن المكروه، فتقربوا إلى خالقكم، وامتنعوا بسيوفكم، ولتكن هى الحصون التى إليها تلجون، وبها تمتنعون.
وقاتل أبو سفيان يومئذ، قتالا شديدا، وأبلى بلاء حسنا.
قال: وزحف الروم إلى المسلمين وهم يزفون زفا، ومعهم الصلبان، وأقبلوا بالأساقفة والقسيسين والرهبان والبطارقة والفرسان، ولهم دوى كدوى الرعد، وقد تبايع عظمهم على الموت، ودخل منهم ثلاثون ألفا فى السلاسل، كل عشرة فى سلسلة لئلا يفروا، فلما نظر إليهم خالد بن الوليد مقبلين، أقبل على نساء المسلمين وهن على تل مرتفع فى العسكر، فقال: يا نساء المسلمين، أيما رجل أدركتنه منهزما فاقتلنه، فأخذن العناهر، وهى عمد البيوت، ثم أقبلن نحو المسلمين فقلن: لستم بعولتنا إن لم تمنعونا اليوم، وأقبل خالد إلى أبى عبيدة، فقال: إن هؤلاء قد أقبلوا فى عدد وحد وجد، وإن لهم لشدة لا يردها شىء، وليست خيل المسلمين بكثيرة، ولا والله لأقامت خيلى لشدة حملتهم وخيلهم ورجالهم أبدا، وخيل خالد يومئذ أمام صفوف المسلمين، والمسلمون ثلاثة صفوف.
قال خالد: فقد رأيت أن أفرق خيلى، فأكون أنا فى إحدى الخيلين، ويكون قيس بن هبيرة فى الخيل الأخرى، ثم تقف خيلنا من وراء الميمنة والميسرة، فإذا حملوا على الناس فإن ثبت المسلمون فالله ثبتهم وثبت أقدامهم، وإن كانت الأخرى حملت عليهم خيولنا وهى جامة على ميمنتهم وميسرتهم، وقد انتهت شدة خيلهم وقوتها، وتفرقت جماعتهم ونقضوا صفوفهم، وصاروا نشرا «1» ، ثم تحمل عليهم وهى بتلك الحال، فأرجو عندها أن يظفر الله بهم ويجعل دائرة السوء عليهم، وقال لأبى عبيدة: قد رأيت لك أن توقف سعيد بن زيد موقفك هذا وتقف أنت بحذائه من ورائه فى جماعة حسنة، فتكون ردآ للمسلمين، فقبل أبو عبيدة مشورته، وقال: أفعل ما أراك الله وأنا فاعل ما ذكرت، فأمر أبو عبيدة سعيد بن زيد فوقف فى مكانه، وركب هو فسار فى الناس فحرضهم وأوصاهم بتقوى الله والصبر، ثم انصرف فوقف من وراء الناس ردآ لهم، وأقبلت الروم كقطع الليل حتى إذا حاذوا الميمنة نادى معاذ بن جبل الناس فقال: يا عباد الله المسلمين،
__________
(1) صاروا نشرا: أى منتشرين متفرقين متطايرين.(2/283)
إن هؤلاء قد تيسروا للشدة عليكم، ولا والله لا يردهم إلا صدق اللقاء والصبر فى البأساء، ثم نزل عن فرسه وقال: من أراد أن يأخذ فرسى ويقاتل عليه فليأخذه، فوثب إليه ابنه عبد الرحمن بن معاذ، وهو غلام حين احتلم، فقال: يا أبة، إنى لأرجو أن أكون فارسا أعظم غناء عن المسلمين منى راجلا، وأنت يا أبة راجلا أعظم غناء منك فارسا، وعظم المسلمين رجالة، وإذا رأوك صابرا محتسبا صبروا إن شاء الله وحافظوا، فقال له معاذ: وفقنى الله وإياك يا بنى لما يحب ويرضى، فقاتل معاذ وابنه قتالا شديدا ما قاتل مثله كثير من المسلمين، ثم إن الروم تحاضوا وتداعوا وقصت عليهم الأساقفة والرهبان وقد دنوا من المسلمين، فإذا سمع ذلك معاذ منهم قال: اللهم زلزل أقدامهم وأرعب قلوبهم وأنزل علينا السكينة وألزمنا كلمة التقوى وحبب إلينا اللقاء ورضنا بالقضاء.
قال: وخرج باهان صاحب الروم فجال فى أصحابه وأمرهم بالصبر والقتال دون ذراريهم وأموالهم وسلطانهم وبلادهم، ثم بعث إلى صاحب الميسرة: أن احمل عليهم، وكان على الميسرة الدرنجار، وكان متنسكا، فقال البطارقة والروم الذين معه: قد أمركم أميركم أن تحملوا، وتهيأت البطارقة ثم شدوا على الميمنة وفيها الأزد ومذحج وحمير وحضرموت وخولان، فثبتوا حين صدموا واقتتلوا قتالا شديدا، ثم ركبهم من الروم أمثال الجبال، فأزالوا المسلمين عن الميمنة إلى ناحية القلب، وانكشفت طائفة من المسلمين إلى العسكر، وثبت عظم الناس فلم يزولوا، وقاتلوا تحت راياتهم فلم ينكشفوا، ولم تنكشف زبيد يومئذ، وهى فى الميمنة، وفيهم الحجاج بن عبد يغوث، والد عمرو بن الحجاج، فنادى: يا خيفان يا خيفان، فاجتمعوا إليه، ثم شدوا على الروم وهم فى نحو خمسمائة رجل شدة، فلم يتنهنهوا «1» حتى خالطوا الروم، فقاتلوهم قتالا شديدا، وشغلوهم عن اتباع من انكشف من المسلمين، وشدت عليهم حضرموت وحمير وخولان بعد ما كانوا زالوا، ثم رجعوا إلى مواقفهم حتى وقفوا فى الصف حيث كانوا، واستقبل النساء منهزمة المسلمين بالعناهر يضربن بها وجوههم، وثبتت الأزد وقاتلت قتالا لم يقاتل مثله أحد من تلك القبائل، وقتل منهم مقتلة لم يقتل مثلها من قبيلة من القبائل، وقتل يومئذ عمرو بن الطفيل، ذو النور، وهو يقول: يا معشر الأزد، لا يؤتين المسلمون من قبلكم، وقاتل قتالا شديدا، قتل من أشدائهم تسعة، ثم قتل هو، يرحمه الله.
وقال جندب بن عمرو بن حممة ورفع رايته: يا معشر الأزد، إنه لا يبقى منكم ولا ينجو من الإثم والعار إلا من قاتل، ألا وإن المقتول شهيد، والخائب من هرب اليوم،
__________
(1) النهنهة: الكف، تقول: نهنهت فلانا فتنهنه، أى كففته فكف.(2/284)
وقاتل حتى قتل رحمه الله، ونادى أبو هريرة: يا مبرور يا مبرور، فأطافت به الأزد، قال عبد الله بن سراقة: انتهيت إلى أبى هريرة يومئذ، وهو يقول: تزينوا للحور العين وارغبوا فى جوار ربكم، فى جنات النعيم، فما أنتم فى موطن من مواطن الخير أحب فيه منكم فى هذا الموطن، ألا وإن للصابرين فضلهم. قال: فأطافت به الأزد، ثم اضطربوا هم والروم، فو الذى لا إله إلا هو لرأيت وإنها لتدور بهم الأرض وهم فى مجال واحد كما تدور الرحاء، وما برحوا يعنى المسلمين، ولا زالوا وركبهم من الروم أمثال الجبال، فما رأيت موطنا قط أكثر قحفا ساقطا ومعصما نادرا وكفا طائحة من ذلك الموطن، وقد والله أوحلناهم شرا وأوحلونا.
وكان جل القتال فى الميمنة، وأن القلب ليلقون مثل ما نلقى، ولكن حمة القوم وجدهم وحردهم وحنقهم علينا، وكنا فى آخر الميمنة، فلقد لقينا من قتالهم ما لم يلق أحد مثله، فو الله إنا لكذلك نقاتلهم وقد دخل عسكرنا منهم نحو من عشرين ألفا من ورائنا، فعصمنا الله من أن نزول، حمل عليهم خالد بن الوليد فقصف بعضهم على بعض، وشدخ منهم فى العسكر نحوا من عشرة آلاف، ودخل سائرهم بيوت المسلمين فى العسكر مجرحين وغير مجرحين، ثم خرج خالد يكرد ويقتل كل من كان قريبا منا من الروم حتى إذا حاذانا ألف خيله بعضها إلى بعض، ثم قال: يا أهل الإسلام، إنه لم يبق عند القوم من الجد والقتال إلا ما قد رأيتم، فالشدة، فو الذى نفسى بيده ليعطينكم الله الظفر الساعة عليهم، فجعل لا يسمع هذا القول من خالد أحد من المسلمين إلا شجعه عليهم، ثم إن خالدا اعترض الروم وإلى جنبه منهم أكثر من مائة ألف، فحمل عليهم، وما هو إلا فى نحو من ألف فارس، فو الله ما بلغتهم الحملة حتى فض الله جمعهم.
قال: وشددنا على من يلينا من رجالتهم، فانكشفوا واتبعناهم نقتلهم كيف شئنا، ما يمتنعون من قتل ميمنتنا لميسرتهم، قال: ثم إن خالدا انتهى إلى الدرنجار وقد قال لأصحابه: لفونى بالثياب، فليت أنى لم أقاتل هؤلاء القوم اليوم، فلفوه بالثياب، وقال:
لوددت أن الله عافانى من حرب هؤلاء القوم فلم أرهم ولم يرونى، ولم أنصر عليهم ولم ينصروا علىّ، وهذا يوم سوء، فما شعر حتى غشيه المسلمون فقتلوه.
وقال ابن قماطر وهو فى ميمنة الروم لجرجير، صاحب أرمينية: احمل عليهم، فقال له: أنت تأمرنى أن أحمل عليهم وأنا أمير مثلك؟ فقال له ابن قماطر: أنت أمير وأنا أمير فوقك، وقد أمرت بطاعتى، فاختلفا، ثم إن ابن قماطر حمل على المسلمين حملة شديدة على الميسرة وفيها كنانة وقيس ولخم وجذام وعاملة وغسان وخثعم وقضاعة، فانكشف(2/285)
المسلمون وزالت الميسرة عن مصافها، وثبت أهل الرايات وأهل الحفاظ، فقاتلوا قتالا شديدا، وركبت الروم أكتاف من انهزم من المسلمين حتى دخلوا معهم العسكر، فاستقبلهم نساء المسلمين بالعناهر يضربن بها وجوههم.
وعن حنظلة بن جويه قال «1» : والله إنى لفى الميسرة إذ مر بنا رجال من الروم على خيل من خيل العرب لا يشبهون الروم وهم أشبه شىء بنا، فلا أنسى قول قائل منهم: يا معشر العرب، الحقوا بوادى القرى ويثرب، وهو يقول:
فى كل يوم خيلنا تغير ... نحن لنا البلقاء والسدير
هيهات يأبى ذلك الأمير ... والملك المتوج المحبور
قال: فحملت عليه وحمل علىّ، فاضطربنا بسيفينا فلم يغنينا شيئا ثم اعتنقنا، فخررنا جميعا فاعتركنا ساعة، ثم إننا تحاجزنا، فنظرت إلى عنقه وقد بدا منها مثل شراك النعل، فمشيت إليه فاعتمدت ذلك الموضع بسيفى، فو الله ما أخطأته، فقطعته فصرع، فضربته حتى قتلته، وأقبلت إلى فرسى وقد كان عار، وإذا فرسى قد حبسوه علىّ، فأقبلت حتى ركبته، قال: وقاتل قباث بن أشيم يومئذ، قتالا شديدا، وأخذ يقول:
إن تفقدونى تفقدوا خير فارس ... لدى الغمرات والرئيس المحاميا
وذا فخر لا يملأ الهول صدره ... ضروبا بنصل السيف أروع ماضيا
وكسر فى الروم يومئذ ثلاثة أرماح، وقطع سيفين، ويقول كلما قطع سيفا أو كسر رمحا: من يعين بسيف أو برمح فى سبيل الله رجلا قد حبس نفسه مع أولياء الله وقد عاهد الله ألا يفر ولا يبرح يقاتل المشركين حتى يظهر المسلمون أو يموت. وكان من أحسن الناس بلاء يومئذ.
ونزل أبو الأعور السلمى، فقال: يا معشر قريش، خذوا بحظكم من الصبر والأجر، فإن الصبر فى الدنيا عز ومكرمة، وفى الآخرة رحمة وفضيلة، فاصبروا وصابروا.
وعن حبيب بن مسلمة قال «2» : اضطررنا يوم اليرموك إلى سعيد بن زيد، فلله سعيد ما سعيد يومئذ إلا مثل الأسد، جثا والله على ركبتيه حتى إذا دنوا وثب فى وجوههم مثل الليث، فطعن برايته أول رجل من القوم فقتله، وأخذ والله يقاتل راجلا، فقاتل الرجل البئيس الشجاع فارسا، قال: وكان يزيد بن أبى سفيان من أعظم الناس غناء
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (227) .
(2) انظر: تاريخ فتوح الشام (228) .(2/286)
وأحسنه بلاء هو وأبوه جميعا، وقد كان أبوه مر به وهو يحرض الناس ويعظمهم، فقال:
يا بنى، إنك تلى من أمر المسلمين طرفا، ويزيد يومئذ على ربع الناس، وإنه ليس بهذا الوادى رجل من المسلمين إلا وهو محقوق بالقتال، فكيف بأشباهك الذين ولوا أمور المسلمين، أولئك أحق الناس بالجهاد والصبر والنصيحة، فاتق الله يا بنى، واكرم فى أمرك، ولا يكونن أحد من أصحابك أرغب فى الآخرة ولا فى الصبر فى الحرب ولا أشد نكاية فى المشركين، ولا أجهد على عدو الإسلام ولا أحسن بلاء منك. فقال يزيد:
أفعل والله يا أبة، فقاتل فى الجانب الذى كان فيه قتالا شديدا.
قال: وشد على عمرو بن العاص جماعة من الروم فانكشف عنه أصحابه وثبت عمرو فجالدهم طويلا، وقاتل شديدا، ثم تراجع إليه أصحابه، قال: فسمعت أم حبيبة بنت العاص تقول: قبح الله رجلا يفر عن حليلته، وقبح الله رجلا يفر عن كريمته، وسمعت نسوة من المسلمين يقلن: قاتلوا أيها المسلمون فلستم بعولتنا إن لم تمنعونا، وأخذن العناهر، فكلما مر بهن منهزم من المسلمين حملن عليه حتى يضربن وجهه ويرددنه إلى جماعة المسلمين.
وقاتل شرحبيل بن حسنة فى ربعه الذى كان فيه قتالا شديدا، وكان إلى جنبه سعيد ابن زيد، وسطا من الناس، وجعل ينادى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ إلى آخر الآية [التوبة: 111] ثم جعل يقول: أين الشارون أنفسهم من الله بابتغاء مرضات الله؟ أين المشاؤن إلى جوار الله غدا فى داره، فاجتمع إليه ناس كثير وبقى القلب لم ينكشف، وفيه أهله الذين كانوا مع سعيد بن زيد، وكان أبو عبيدة من وراء ظهور المسلمين ردآ لهم.
فلما رأى قيس بن هبيرة أن خيل المسلمين مما يلى الميسرة قد شد عليهم الروم اعترض الروم بخيله وهى الشطر من خيل خالد، فقصف بعضهم على بعض، وحمل خالد من ميمنة المسلمين على ما يليه من الروم حتى اضطرهم إلى صفوفهم، فقصف بعضهم على بعض، وزحف إليه المسلمون جماعتهم رويدا رويدا حتى إذا دنوا منهم حملوا عليهم، فجعلت الروم ينقضون صفوفهم وينهزمون، وبعث أبو عبيدة إلى سعيد بن زيد: أن احمل عليهم، فحمل عليهم، وشد المسلمون بأجمعهم، فضرب الله وجوه الروم، ومنح المسلمين أكتافهم، يقتلونهم كيف شاؤا، لا يمتنعون من أحد من المسلمين، وانتهى خالد بن الوليد إلى الدرنجار، وكان كارها لقتال المسلمين، لما كان يجد من صفتهم فى الكتب،(2/287)
وكان يقرأها، فقال خالد: إن كنت لأحب أن أراه، فضربه المسلمون حتى قتلوه، وإنه لملفف رأسه بكساء، واتبعهم المسلمون يقتلونهم كل قتلة، وركب بعضهم بعضا حتى انتهوا إلى مكان مشرف على أهوية تحتهم، فجعلوا يتساقطون فيها ولا يبصرون، وهو يوم ذو ضباب، وهم يرتكسون فيها، لا يعلم آخرهم ما يلقى أولهم، حتى سقط فيها نحو من مائة ألف رجل، ما أحصوا إلا بالقصب.
وبعث أبو عبيدة شداد بن أوس بن ثابت فعدهم بها من الغد، فوجد من سقط أكثر من ثمانين ألفا، فسميت تلك الأهوية الواقوصة حتى اليوم، لأنهم وقصوا فيها وما فطنوا لتساقطهم حتى انكشف الضباب فأخذوا فى وجه آخر، وقتل المسلمون منهم فى المعركة بعد ما أدبروا نحوا من خمسين ألفا.
واتبعهم خالد فى الخيل، فلم يزل يقتلهم فى كل واد وكل شعب وفى كل جبل، حتى انتهى إلى دمشق، فخرج إليه أهلها، وقالوا له: نحن على عهدنا الذى كان بيننا وبينكم، فقال لهم خالد: نعم، ومضى فى اتباعهم يقتلهم فى القرى والأودية والجبال حتى انتهى إلى حمص، فخرج إليه أهلها، فقالوا له مثل ما قال أهل دمشق فى العهد، فقال لهم: نعم.
وأقبل أبو عبيدة على قتلى المسلمين، رحمهم الله وجزاهم عن الإسلام وأهله خيرا، فدفنهم، فلما فرغ من ذلك جاءه النعمان بن محمية ذو الأنف الخثعمى يسأله أن يعقد له على قومه، فعقد له عليهم، وكانت خثعم قد رأست رجلا آخر منهم من بنى عمرو يدعى ابن ذى السهم، فاختصم هو وذو الأنف إلى أبى عبيدة فى الرياسة قبل الوقعة، فأخرهم أبو عبيدة إلى أن يفرغوا من حربهم ويناجزوا عدوهم، ثم ينظر فى أمرهم، فلما التقى الناس استشهد هنالك ابن ذى السهم الخثعمى، فعقد أبو عبيدة للنعمان ذى الأنف على خثعم.
قال: وجاء الأشتر مالك بن الحارث النخعى، فقال لأبى عبيدة: اعقد لى على قومى، فعقد له، وكانت قصته مثل قصة الخثعمى، وذلك أنه أتى قومه وعليهم رجل منهم فخاصمهم الأشتر فى الرياسة إلى أبى عبيدة، فدعا أبو عبيدة النخع، فقال: أى هذين أرضى فيكم وأعجب إليكم أن يرأس عليكم؟ فقالوا: كلاهما شريف وفينا رضى وعندنا ثقة، فقال أبو عبيدة: كيف أصنع بكما؟ ثم قال للأشتر: أين كنت حين عقدت لهذا الراية؟ قال: كنت عند أمير المدينة، ثم أقبلت إليكم، قال: فقدمت على هذا وهو رأس(2/288)
أصحابك؟ قال: نعم، قال: فإنه لا ينبغى لك أن تخاصم ابن عمك وقد رضيت به جماعة قومك قبل قدومك عليهم، قال الأشتر: فإنه رضى شريف وأهل ذلك هو، وأنا أهل الرياسة، فلتعقبنى من رياسة قومى فأليهم كما وليهم هذا، فقال أبو عبيدة: تأخروا ذلك حتى تكون هذه الوقعة، فإن استشهدتما جميعا فما عند الله خير لكما، وإن هلك أحدكما وبقى الآخر كان الباقى منكما الرأس على قومه، وإن تبقيا جميعا أعقبناك منه إن شاء الله، قال الأشتر: فقد رضيت، فلما كانت الواقعة استشهد فيها رأس النخع الأول، فعقد أبو عبيدة للأشتر عند ذلك.
وفى حديث آخر أن الأشتر كان من جلداء الرجال وأشدائهم وأهل القوة والنجدة منهم، وأنه قتل يوم اليرموك، قبل أن ينهزموا أحد عشر رجلا من بطارقتهم، وقتل منهم ثلاثة مبارزة وتوجه مع خالد فى طلب الروم حين انهزموا، فلما بلغوا ثنية العقاب من أرض دمشق وعليها جماعة من الروم عظيمة، أقبلوا يرمون المسلمين من فوقهم بالصخر، فتقدم إليهم الأشتر فى رجال من المسلمين، وإذا أمام الروم رجل جسيم من عظمائهم وأشدائهم، فوثب إليه الأشتر لما دنا منه، فاستويا على صخرة مستوية، فاضطربا بسيفيهما، فضرب الأشتر كتف الرومى فأطارها، وضربه الرومى بسيفه فلم يضره شيئا، واعتنق كل واحد منهما صاحبه، ثم دفعه الأشتر من فوق الصخرة فوقعا منها، ثم تدحرجا، والأشتر يقول وهما يتدحرجان: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام: 162، 163] ، فلم يزل يقول هذا وهو فى ذلك ملازم العلج لا يتركه، حتى انتهيا إلى موضع مستو من الجبل، فلما استقرا فيه وثب الأشتر على الرومى فقتله، ثم صاح فى الناس: أن جوزوا، فلما رأت الروم أن صاحبهم قد قتله الأشتر خلوا سبيل العقبة للناس، ثم انهزموا.
وأقبل أبو عبيدة فى أثر خالد حتى انتهى إلى حمص، فأمر خالدا أن يتقدم إلى قنسرين، ولما انتهت الهزيمة إلى ملك الروم وهو بأنطاكية، قال: قد كنت أعلم أنهم سيهزمونكم، فقال له بعض جلسائه: ومن أين علمت ذلك أيها الملك، قال من حيث أنهم تحبون الموت كما نحبون أنتم الحياة، ويرغبون فى الآخرة أشد من رغبتكم فى الدنيا، ولا يزالون ظاهرين ما كانوا هكذا، وليغيرن كما غيرتم، ولينقضن كما نقضتم.
وفى حديث عن عبد الله بن قرط «1» : أن أول من جاء ملكهم بالهزيمة رجل منهم، فقال له: ما وراءك؟ قال: خير، أيها الملك، هزمهم الله وأهلكهم، يعنى المسلمين، قال:
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (234) .(2/289)
ففرح بذلك من حوله وسروا ورفعوا أصواتهم، فقال لهم ملكهم: ويحكم، هذا كاذب، وهل ترون هيئة هذا إلا هيئة منهزم، سلوه ما جاء به، فلعمرى ما هو ببريد، ولو لم يكن هذا منهزما ما كان ينبغى له أن يكون إلا مع أميره مقيما، فما كان بأسرع من أن جاء آخر، فقال له: ويحك، ما وراءك؟ فقال: هزم الله العدو وأهلكهم، قال له هرقل: فإن كان الله أهلكهم فما جاء بك؟.
وفرح أصحابه وقالوا: صدقك أيها الملك، فقال لهم: ويحكم، أتخادعون أنفسكم، إن هؤلاء والله لو كانوا ظهروا أو ظفروا ما جاؤكم على متون خيولهم يركضون، ولسبقهم البريد والبشرى، قال: فإنهم لكذلك إذ طلع عليهم رجل من العرب من تنوخ على فرس له عربية، يقال له حذيفة بن عمرو، وكان نصرانيا، فقال قيصر: ما أظن خبر السؤال إلا عند هذا، فلما دنا منه قال له: ما عندك؟ قال: الشر، قال: وجهك الذى بشرنا بالشر، ثم نظر إلى أصحابه، فقال: خبر سوء جاء به رجل سوء من قوم سوء، فإنهم لكذلك إذ جاءه رجل من عظماء الروم، فقال له الملك: ما وراءك؟ قال: الشر، هزمنا. قال: فما فعل أميركم باهان؟ قال: قتل، قال: فما فعل فلان وفلان، يسمى له عددا من أمرائه وبطارقته وفرسانه، فقال: قتلوا، فقال له: لكنك والله أنت أخبث وألأم وأكفر من أن تذب عن دين أو تقاتل على دنيا.
ثم قال لشرطه: أنزلوه، فأنزلوه، فجاؤا به، فقال له: ألست كنت أشد الناس علىّ فى أمر محمد نبى العرب حين جاءنى كتابه ورسوله، وكنت قد أردت أن أجيبه إلى ما دعانى إليه وأدخل فى دينه، فكنت أنت من أشد الناس علىّ حتى تركت ما أردت من ذلك؟ فهلا قاتلت الآن قوم محمد وأصحابه دون سلطانى، وعلى قدر ما كنت لقيت منك إذ منعتنى من الدخول فى دينه؟ اضربوا عنقه، فقدموه فضربوا عنقه، ثم نادى فى أصحابه بالرحيل راجعا إلى القسطنطينية، فلما خرج من الشام وأشرف على أرض الروم استقبل الشام، فقال: السلام عليك يا سورية، سلام مودع لا يرى أنه يرجع إليك أبدا، ثم قال: ويحك أرضا، ما أنفعك لعدوك، لكثرة ما فيك من العشب والخصب والخير.
وعن عمرو بن عبد الرحمن «1» : أن هرقل حين خرج من أنطاكية، أقبل حتى نزل الرها، ثم منها كان خروجه إلى القسطنطينية، وأقبل خالد فى طلب الروم حتى دخل أرض قنسرين، فلما انتهى إلى حلب تحصن منه أهلها، وجاء أبو عبيدة حتى نزل عليهم، فطلبوا الصلح والأمان، فقبل منهم أبو عبيدة فصالحهم، وكتب لهم أمانا.
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (237) .(2/290)
وعن الحسن بن عبد الله»
: أن الأشتر قال لأبى عبيدة: ابعث معى خيلا أتبع آثار القوم، فإن عندى جزاء وغناء، فقال له أبو عبيدة: والله إنك لخليق بكل خير، فبعثه فى ثلاثمائة فارس، وقال له: لا تتباعد فى الطلب، وكن منى قريبا، فكان يغير على مسيرة اليوم منه واليومين، ونحو ذلك.
ثم إن أبا عبيدة دعا ميسرة بن مسروق فسرحه فى ألفى فارس، فمضى فى آثار الروم حتى قطع الدروب، وبلغ ذلك الأشتر، فمضى حتى لحقه، فإذا ميسرة مواقف جمعا من الروم أكثر من ثلاثين ألفا، وكان ميسرة قد أشفق على من معه، وخاف على نفسه وعلى أصحابه، فإنهم لكذلك إذ طلع عليه الأشتر فى ثلاثمائة فارس من النخع، فلما رآهم أصحاب ميسرة كبروا وكبر الأشتر وأصحابه، وحمل عليهم من مكانه ذلك، وحمل ميسرة فهزموهم، وركبوا رؤسهم، واتبعتهم خيل المسلمين يقتلونهم، حتى انتهوا إلى موضع مرتفع من الأرض، فعلوا فوقه، وأقبل عظيم من عظمائهم معه رجالة كثيرة من رجالتهم، فجعلوا يرمون خيل المسلمين من مكانهم المشرف، فإن خيل المسلمين لمواقفتهم إذ نزل رجل من الروم أحمر عظيم جسيم، فتعرض للمسلمين ليخرج إليه أحدهم، قال: فو الله ما خرج إليه رجل منهم، فقال لهم الأشتر: أما منكم من أحد يخرج لهذا العلج؟ فلم يتكلم أحد.
قال: فنزل الأشتر، ثم خرج إليه، فمشى كل واحد منهما إلى صاحبه وعلى الأشتر الدرع والمغفر، وعلى الرومى مثل ذلك، فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه شد الأشتر عليه فاضطربا بسيفيهما، فوقع سيف الرومى على هامة الأشتر، فقطع المغفر وأسرع السيف فى رأسه، حتى كاد ينشب فى العظم، ووقعت ضربة الأشتر على عاتق الرومى، فلم تقطع شيئا من الرومى، إلا أنه ضربه ضربة شديدة أو هنت الرومى وأثقلت عاتقه، ثم تحاجزا.
فلما رأى الأشتر أن سيفه لم يصنع شيئا، انصرف فمشى على هيئته حتى أتى الصف، وقد سال الدم على لحيته ووجهه، فقال: أخزى الله هذا سيفا، وجاءه أصحابه، فقال: علىّ بشىء من حناء، فأتوه به من ساعته، فوضعه على جرحه، ثم عصبه بالخرق، ثم حرك لحيته وضرب أضراسه بعضها ببعض، ثم قال: ما أشد لحيتى ورأسى وأضراسى، وقال لابن عم له: امسك سيفى هذا وأعطنى سيفك، فقال: دع لى سيفى، رحمك الله، فإنى لا أدرى لعلى احتاج إليه، فقال: أعطنيه ولك أم النعمان يعنى ابنته، فأعطاه إياه،
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (237، 239) .(2/291)
فذهب ليعود إلى الرومى، فقال له قومه، ننشدك الله ألا تتعرض لهذا العلج، فقال: والله لأخرجن إليه فليقتلنى أو لأقتلنه، فتركوه، فخرج إليه.
فلما دنا منه شد عليه وهو شديد الحنق، فاضطربا بسيفيهما، فضربه الأشتر على عاتقه، فقطع ما عليه حتى خالط السيف رئته، ووقعت ضربة الرومى على عاتق الأشتر، فقطعت الدرع ثم انتهت ولم تضره شيئا، ووقع الرومى ميتا، وكبر المسلمون، ثم حملوا على صف رجالة الروم، فجعلوا يتنقضون ويرمون المسلمين وهم من فوق، فما زالوا كذلك حتى أمسوا وحال بينهم الليل، وباتوا ليلتهم يتحارسون.
فلما أصبحوا أصبحت الأرض من الروم بلاقع، فارتحل الأشتر منصرفا بأصحابه، ومضى ميسرة فى أثر القوم حتى بلغ مرج القبائل بناحية أنطاكية، والمصيصة، ثم انصرف راجعا، وكان أبو عبيدة حين بلغه أنهم قد أدبروا أشفق عليهم وجزع وندم على إرساله إياهم، قال: فإنه لجالس فى أصحابه مستبطئا لقدومهم متأسفا على تسريحهم، إذ أتى فبشر بقدوم الأشتر، وجاء فحدثه بما كان من أمرهم ولقائهم ذلك الجيش، وهزيمتهم إياه، وما صنع الله لهم، ولم يذكر مبارزة الرومى وقتله إياه حتى أخبره غيره، وسأله عن ميسرة وأصحابه، فأخبروه بالوجه الذى توجه فيه، وأخبره أنه لم يمنعه من التوجه إلا الشفقة على أصحابه، وألا يصابوا بعد ما ظفروا، فقال: قد أحسنت، وما أحب الآن أنك معهم، ولوددت أنهم كانوا معكم.
قال: فدعا ناسا من أهل حلب، فقال: اطلبوا إلىّ إنسانا دليلا عالما بالطريق أجعل له جعلا عن أن يتبع آثار هذه الخيل التى بعثتها فى طلب الروم حتى يلحقها، ثم يأمرها بالانصراف إلىّ ساعة يلقاها، فجاؤه بثلاثة رجال، فقالوا: هؤلاء علماء بالطريق جراء عليها أدلاء بها، وهم يخرجون فى آثار خيلك حتى يأتوها بأمرك، فكتب أبو عبيدة إلى ميسرة:
أما بعد، فإذا أتاك رسولى هذا فأقبل إلىّ حين تنظر فى كتابى، ولا تعرجن على شىء، فإن سلامة رجل واحد من المسلمين أحب إلىّ من جميع أموال المشركين، والسلام عليك.
فأخذوا كتابه، ثم خرجوا به، فاستقبلوا ميسرة حين هبط من الدروب راجعا، وقد عافاه الله وأصحابه وغنمهم وسلمهم، فدفعوا إليه كتاب أبى عبيدة، فلما قرأه قال:
جزاه الله من وال على المسلمين خيرا، ما أشفقه وأنصحه، ثم أقبل الرسل فبشروا أبا(2/292)
عبيدة بسلامتهم وانصرافهم، فحمد الله على ذلك، وأقام حتى قدم عليه ميسرة، وكتب أمانا على الناس من أهل قنسرين، ثم أمر مناديه بالرحيل إلى إيلياء، وقدم خالدا على مقدمته بين يديه، وبعث على حمص حين انتهى إليها حبيب بن سلمة، وأرض قنسرين إذ ذاك مجموعة إلى صاحب حمص، وإنما فتحت قنسرين بعد ذلك فى خلافة يزيد بن معاوية، ثم خرج من حمص ومر بدمشق، فولاها سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، ثم خرج حتى مر بالأردن، فنزلها، فعسكر بها، وبعث الرسل إلى أهل إيلياء، وقال:
اخرجوا إلىّ أكتب لكم أمانا على أنفسكم وأموالكم، ونفى لكم كما وفينا لغيركم، فتثاقلوا وأبوا، فكتب إليهم:
بسم الله الرحمن الرحيم، من أبى عبيدة بن الجراح إلى بطارقة أهل إيلياء وسكانها، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله العظيم ورسله، أما بعد، فإنا ندعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من فى القبور، فإذا شهدتم بذلك حرمت علينا دماؤكم وأموالكم وكنتم إخواننا فى ديننا، وإن أبيتم فأقروا لنا بإعطاء الجزية وأنتم صاغرون، فإن أبيتم سرت إليكم بقوم، هم أشد للموت حبا منكم لشرب الخمر وأكل لحم الخنزير، ثم لا أرجع عنكم إن شاء الله حتى أقتل مقاتلتكم وأسبى ذراريكم.
قال: وكتب إلى عمر بن الخطاب حين أظهره الله على أهل اليرموك وخرج يطلبهم:
بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عمر أمير المؤمنين من أبى عبيدة بن الجراح، سلام عليك، أما بعد، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، والحمد لله الذى أهلك المشركين، ونصر المسلمين، وقديما تولى الله نصرهم، وأظهر فلجهم، وأعز دعوتهم، فتبارك الله رب العالمين.
أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله، أنا لقينا الروم فى جموع لم تلق العرب جموعا قط مثلها، فأتوا وهم يرون أن لا غالب لهم من الناس، فقاتلوا المسلمين قتالا شديدا، ما قوتل المسلمون مثله فى موطن قط، ورزق الله المؤمنين الصبر، وأنزل عليهم النصر، فقتلوهم فى كل قرية وكل شعب وواد وسهل وجبل، وغنم المسلمون عسكرهم، وما كان فيه من أموالهم، ومتاعهم، ثم إنى اتبعتهم بالمسلمين حتى بلغنا أقصى بلادهم، وقد بعثت إلى أهل الشام عمالا، وبعثت إلى أهل إيلياء أدعوهم إلى الإسلام، فإن قبلوا وإلا فليؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فإن أبوا سيرت إليهم حتى أنزل بهم، ثم لا(2/293)
أزايلهم حتى يفتح الله على المسلمين إن شاء الله، والسلام عليك.
فكتب إليه عمر رضى الله عنه: من عبد الله بن عمر أمير المؤمنين، إلى أبى عبيدة بن الجراح، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد، فقد أتانى كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه من إهلاك الله المشركين ونصره المؤمنين، وما صنع لأوليائه وأهل طاعته، فالحمد لله على صنيعه إلينا، ونستتم من الله ذلك بشكره، ثم اعلموا أنكم لم تنصروا على عدوكم بعدد ولا عدة ولا حول ولا قوة، ولكنه بعون الله ونصره ومنه تعالى وفضله، فلله المن والطول والفضل العظيم، فتبارك الله أحسن الخالقين، والحمد لله رب العالمين.
فهذه الأحاديث التى أوردها أصحاب فتوح الشام فى كتبهم عن وقعة اليرموك، وقد أوردها غيرهم على صفة تخالف أكثر ما تقدم مساقا وتاريخا، حسب ما يظهر لمن يقف على جميعها، واختلاف الأخبار من جهة النقل أمر مألوف، وإعادة أمثال هذه الآثار التى هى كيف ما وقعت من آيات الإسلام شىء غير مملول. ونحن نذكر من ذلك ما يحسن فى هذا المجموع ذكره، ويليق بالمقصود إيراده إن شاء الله تعالى.
فمن ذلك أن ابن إسحاق ذكر أن التقاء المسلمين مع الروم باليرموك كان فى رجب سنة خمس عشرة، وأن الذى لقيهم من الروم هو الصقلار خصى لهرقل، بعثه فى مائة ألف مقاتل أكثرهم من الروم، وسائرهم من أهل أرمينية، ومن المستعربة من غسان وقضاعة، والمسلمون مع أبى عبيدة أربعة وعشرون ألفا، فاقتتل الناس اقتتالا شديدا حتى دخل عسكر المسلمين، وقاتل نساء من قريش بالسيوف حين دخل العسكر حتى سابقن الرجال، وقد كان انضم إلى المسلمين ناس من لخم وجذام، فلما رأوا جد القتال فروا وخذلوا المسلمين، فقال قائل من المسلمين حين رأى ذلك منهم:
القوم لخم وجذام فى الهرب ... ونحن والروم بمرج نضطرب
وإن يعودوا بعدها لا نصطحب
ثم إن الله أنزل نصره، فهزمت الروم وجموع هرقل التى جمع، فأصيب منهم سبعون ألفا، وقتل الله الصقلار وباهان، وكان هرقل قدمه مع الصقلار حين لحق به.
وفيما حكاه الطبرى «1» بسنده عن سيف عن شيوخه قالوا: أوعب القواد بالناس نحو الشام، وعكرمة ردء لهم، وبلغ الروم ذلك فكتبوا إلى هرقل، فخرج حتى نزل بحمص،
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 392- 393) .(2/294)
فأعد لهم الجنود وعبأ العسكر، وأراد أن يشغل بعضهم ببعض لكثرة جنده وفضول رجاله، فأرسل أخاه تذارق إلى عمرو بن العاص فى تسعين ألفا، وبعث جرجة بن توذورا نحو يزيد بن أبى سفيان فعسكر بإزائه، وبعث الدراقص، فاستقبل شرحبيل بن حسنة، وبعث القيقار بن نسطوس فى ستين ألفا نحو أبى عبيدة، فهابهم المسلمون، وجميع فرق المسلمين أحد وعشرون ألفا، سوى ستة آلاف مع عكرمة، ففزعوا جميعا بالكتب والرسل إلى عمر بن الخطاب، يستدعون رأيه، فراسلهم أن الرأى الاجتماع، وذلك أن مثلنا إذا اجتمع لم يغلب من قلة، وإذا نحن تفرقنا لم يكن الرجل منا فى عدد يقرن به لأحد ممن استقبله، فاتعدوا اليرموك ليجتمعوا فيه، وقد كتبوا إلى أبى بكر بمثل ما كاتبوا به عمر، فطلع عليهم كتابه بمثل ما كاتبهم به عمر سواء، بأن اجتمعوا والقوا زحوف المشركين بزحف المسلمين، فإنكم أعوان الله، والله ناصر من نصره وخاذل من كفره، ولن يؤتى مثلكم من قلة، وإنما يؤتى العشرة آلاف والزيادة عليها، إذا أتوا من قبل الذنوب، فاحترسوا من الذنوب، واجتمعوا باليرموك متساندين، وليتصل كل رجل منكم بأصحابه.
وبلغ ذلك هرقل، فكتب إلى بطارقته، أن اجتمعوا لهم وانزلوا بالروم منزلا واسع العطن، واسع المطرد، ضيق المهرب، وعلى الناس التذارق، وعلى المقدمة جرجة، وعلى مجنبتيه باهان والدراقص، وعلى الحرب القيقار، وأبشروا فإن باهان فى الأثر مدد لكم، ففعلوا، فنزلوا الواقوصة، وهى على ضفة اليرموك، وصار الوادى خندقا لهم، وهو لهب «1» لا يدرك، وإنما أراد باهان أن يستبقى الروم ويأنسوا بالمسلمين، وترجع إليهم أفئدتهم، وانتقل المسلمون من معسكرهم الذى اجتمعوا به، فنزلوا عليهم بحذائهم على طريقهم، وليس للروم طريق إلا عليهم. فقال عمرو: أيها الناس، ألا أبشروا، حصرت والله الروم، وقل ما جاء محصور بخير، فأقاموا بإزائهم، وعلى طريقهم ومخرجهم، لا يقدرون من الروم على شىء، ولا يخلصون إليهم اللهب، وهو الواقوصة من ورائهم، والخندق من أمامهم، ولا يخرجون خرجة إلا أذيل المسلمون منهم، وقد استمدوا أبا بكر رحمه الله، وأعلموه الشأن فى صفر، يريد من سنة ثلاث عشرة.
وفى حديث آخر لسيف عن أشياخه «2» : أنهم لما استمدوه، قال أبو بكر: خالد لها، وبعث إليه وهو بالعراق فعزم عليه واستحثه فى السير، فنفذ خالد لذلك، وطلع عليهم
__________
(1) لهب: اللهب بالكسر، هو الفرجة بين الجبلين.
(2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 393- 394) .(2/295)
ففرح به المسلمون، وطلع باهان على الروم فتيمنوا به، ووافق قدوم أحدهما قدوم الآخر، فولى خالد قتاله، وقاتل الأمراء من بإزائهم، فهزم خالد باهان، وتتابع الروم على الهزيمة، فاقتحموا خندقهم. وقال راجز من المسلمين فى ذلك:
دعوا هرقلا ودعونا الرحمن ... والله قد أخزى جنود باهان
بخالد اللج أبى سلميان
وحرد المسلمون وحرد المشركون وهم أربعون ومائتا ألف، منهم ثمانون ألف مقيد، ومنهم أربعون ألفا مسلسلون للموت، وأربعون ألفا مربوطون بالعمائم، وثمانون ألف فارس، والمسلمون سبعة وعشرون ألفا ممن كان مقيما إلى أن قدم عليهم خالد فى تسعة آلاف، فصاروا ستة وثلاثين ألفا، وكان قتالهم على تساند كل جند وأميره، لا يجمعهم أحد، حتى قدم عليهم خالد بن الوليد من العراق.
وكان عسكر أبى عبيدة باليرموك مجاورا لعسكر عمرو بن العاص، وعسكر شرحبيل ابن حسنة مجاوزا لعسكر يزيد بن أبى سفيان، فكان أبو عبيدة ربما صلى مع عمرو، وشرحبيل مع يزيد، وأما عمرو ويزيد فكانا لا يصليان مع أبى عبيدة وشرحبيل، وقدم خالد بن الوليد وهم على حالهم هذه، فعسكر على حدة، فصلى بأهل العراق.
ووافق خالد بن الوليد المسلمين وهم متضايقون بمدد الروم، وعليهم باهان، ووافق الروم وفيهم نشاط بمددهم، فالتقوا فهزمهم الله حتى ألجأهم وأمدادهم إلى الخندق والواقوصة أحد حدوده، فلزموا خندقهم عامة شهر، يحضضهم القسيسون والشمامسة والرهبان، وينعون لهم النصرانية، حتى استنصروا، فخرجوا للقتال الذى لم يكن بعده قتال، فلما أحس المسلمون خروجهم، وأرادوا الخروج متساندين، سار فيهم خالد بن الوليد، فحمد الله وأثنى عليه، وقال:
إن هذا يوم من أيام الله، لا ينبغى فيه العجز ولا البغى. أخلصوا جهادكم، وأريدوا بعملكم الله، فإن هذا يوم له ما بعده، ولا تقاتلوا قوما على نظام وتعبئة وأنتم على تساند «1» وانتشار، فإن ذلك لا يحل ولا ينبغى، وإن من ورائكم لو يعلم علمكم حال بينكم وبين هذا، فاعملوا فيما لم تؤمروا به بالذى ترون أنه يوافق رأى واليكم. قالوا:
فما الرأى؟ قال: إن أبا بكر لم يبعثنا إلا وهو يرى أنا سنتياسر، ولو علم بالذى كان ويكون، لقد جمعكم. إن الذى أنتم فيه أشد على المسلمين مما غشيهم، وأنفع للمشركين
__________
(1) على تساند: أى على رايات شتى متعاونين كأن كل واحد منهم يسند على الآخر ويستعين به.(2/296)
من أمدادهم، ولقد علمت أن الدنيا فرقت بينكم، فالله الله، قد أفرد كل رجل منكم ببلد من البلدان، لا ينقصه منه أن دان لأحد من أمراء الجنود، ولا يزيده عليه أن دانوا له، وأن تأمير بعضكم لا ينقصكم عند الله ولا عند خليفة رسول الله، تهيأوا فإن هؤلاء قوم قد تهيأوا، وهذا يوم له ما بعده، فإن رددناهم إلى خندقهم اليوم لم نزل نردهم، وإن هزمونا لم نفلح بعدها، فهلموا فلنتعاور الإمارة، فليكن عليها بعضنا اليوم والآخر غدا والآخر بعد غد، حتى يتأمر كلكم، ودعونى أليكم اليوم.
فأمروه، وهم يرون أنها كخرجاتهم، وأن الأمر أطول مما ساروا إليه، فخرجت الروم فى تعبئة لم ير الراؤون مثلها قط، وخرج خالد فى تعبئة لم تعبها العرب قبل ذلك، خرج فى نحو ستة وثلاثين كردوسا، وقال: إن عدوكم قد كثر وطغى وليس من التعبئة أكثر فى رأى العين من الكراديس، فجعل القلب كراديس وأقام فيه أبا عبيدة، وجعل الميمنة كراديس، وعليها عمرو بن العاص، وفيها شرحبيل بن حسنة، وجعل الميسرة كراديس وعليها يزيد بن أبى سفيان، وكان خالد على كردوس، والقعقاع بن عمرو ومذعور بن عدى وعياض بن غنم وهاشم بن عتبة وزياد بن حنظلة وعكرمة بن أبى جهل وسهيل بن عمرو وعبد الرحمن بن خالد وهو يومئذ ابن ثمان عشرة سنة، وحبيب ابن مسلمة، وآخرون غيرهم من جلة الصحابة وأشراف الناس وفرسان العرب، كل واحد منهم على كردوس كردوس.
وفى حديث آخر «1» أنه شهد اليرموك ألف رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم نحو من مائة رجل من أهل بدر، وكان أبو سفيان يسير فيقف على الكراديس، فيقول:
الله الله، إنكم ذادة العرب وأنصار الإسلام، وإنهم ذادة الروم وأنصار المشركين، اللهم إن هذا يوم من أيامك، اللهم أنزل نصرك على عبادك.
وعن عبد الرحمن بن غنم، وكان شهدها، قال: كان أبو سفيان وأشياخ المسلمين محامية لا يجولون ولا يقاتلون، يفىء إليهم الناس، فإذا كانت على الروم قال، وقالوا:
هلك بنو الأصفر، اللهم اجعله وجههم، وإذا كانت على المسلمين قال وقالوا: يا بنى الإخوان، أين أين اللهم اردد لهم الكرة. فإذا كروا قالوا: إيه يا بنى الإخوان، وإذا حملوا قالوا: اللهم أعنهم وانصرهم.
وفى غير حديث عبد الرحمن «2» : أن رجلا قال يومئذ لخالد: ما أكثر الروم وأقل
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 397) .
(2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 398) .(2/297)
المسلمين فقال خالد: ما أقل الروم وأكثر المسلمين، إنما تكثر الجنود بالنصر، وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال، والله لوددت أن الأشقر برىء من توجيه، وإنهم أضعفوا فى العدد، وكان فرسه قد حفى فى مسيره، وجعل خالد يوم اليرموك على الطلائع قباث بن أشيم، وكان القارئ يومذاك المقداد.
قالوا: ومن السنة التى سن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بدر أن تقرأ سورة الجهاد عند اللقاء، وهى سورة الأنفال، ولم يزل الناس بعد على ذلك.
ولما فرغ خالد من تعبئتهم وزحف إليه المشركون، أمر عكرمة والقعقاع وكانا على مجنبتى القلب، فأنشبا القتال، فنشب، والتحم الناس، وتطارد الفرسان، فإنهم لعلى ذلك إذ قدم البريد من المدينة، وهو محمية بن زنيم، فأخذته الخيول وسألوه الخبر، فلم يخبرهم إلا بسلامه، وأخبرهم عن أمداد تأتيهم، وإنما جاء بموت أبى بكر وتأمير أبى عبيدة، فأبلغوا خالدا، فأسر إليه الخبر، وأخبره بما قال للجند، فقال له: أحسنت، فقف، وأخذ الكتاب فجعله فى كنانته، وخاف إن هو أظهر ذلك أن ينتشر أمر الجند، فوقف الرسول مع خالد، وخرج جرجة أحد أمراء الروم يومئذ، حتى إذا كان بين الصفين نادى:
ليخرج إلى خالد، فخرج إليه خالد وأقام أبا عبيدة مكانه، فواقفه بين الصفين حتى اختلفت أعناق دابتيهما، وقد أمن أحدهما صاحبه، فقال له جرجة: يا خالد، اصدقنى ولا تكذبنى، فإن الحر لا يكذب، ولا تخادعنى فإن الكريم لا يخادع، بالله هل أنزل الله على نبيكم سيفا من السماء فأعطاكه فلا تسله على أحد إلا هزمته؟ قال: لا، قال: فبم سميت سيف الله؟ قال: إن الله بعث فينا نبيه صلى الله عليه وسلم فدعانا، فنفرنا منه ونأينا عنه جميعا، ثم إن بعضنا صدقه وتابعه وبعضنا باعده وكذبه، فكنت فيمن كذبه وباعده، وقاتله، ثم أخذ الله تعالى بقلوبنا ونواصينا فهدانا به وتابعناه، فقال: أنت سيف من سيوف الله سله الله على المشركين، ودعا لىّ بالنصر، فسميت سيف الله بذلك، فأنا من أشد الناس على المشركين، قال: صدقتنى.
ثم أعاد عليه جرجة: يا خالد، أخبرنى إلام تدعون؟ قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، والإقرار بما جاء به من عند الله، قال: فمن لم يجبكم؟ قال:
الجزية، ونمنعهم قال: فإن لم يعطها؟ قال: نؤذنه بحرب، ثم نقاتله، قال: فما منزلة الذى يدخل فى دينكم ويجيبكم إلى هذا الأمر اليوم؟ قال: منزلتنا واحدة فيما افترض الله علينا شريفنا ووضيعنا، وأولنا وآخرنا، ثم أعاد عليه جرجة: هل لمن دخل فيكم اليوم يا خالد، مثل ما لكم من الأجر والذخر؟ قال: نعم، وأفضل. قال: وكيف يساويكم وقد(2/298)
سبقتموه؟ قال: إنا دخلنا فى هذا الأمر وتابعنا نبينا صلى الله عليه وسلم وهو حى بين أظهرنا، تأتيه أخبار السماء ويخبرنا بالغيب ويرينا الآيات، وحق لمن رأى ما رأينا وسمع ما سمعنا أن يسلم ويتابع، وإنكم أنتم لم تروا ما رأينا، ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج، فمن دخل فى هذا الأمر منكم بحقيقة ونية كان أفضل منا، قال جرجة: صدقتنى بالله ولم تخادعنى ولم تألنى، قال: بالله لقد صدقتك وما لى إليك ولا إلى أحد منكم حاجة، وإن الله لولى ما سألت عنه، قال: صدقتنى، وقلب الترس، ومال مع خالد، وقال: علمنى الإسلام، فمال به خالد إلى فسطاطه، فشن عليه قربة ثم صلى به ركعتين، وحملت الروم مع انقلابه إلى خالد وهم يرون أنها حيلة، فأزالوا المسلمين عن مواقفهم، فركب خالد ومعه جرجة، والروم خلال المسلمين، فتنادى المسلمون، فثابوا، وتزاحفت الروم إلى مواقفهم فزحف بهم خالد حتى تصافحوا بالسيوف، فضرب فيهم خالد وجرجة من لدن ارتفاع النهار إلى جنوح الشمس للغروب، ثم أصيب جرجة، ولم يصل صلاة يسجد فيها إلا الركعتين اللتين أسلم عليهما، وصلى مع الناس: الأولى والعصر إيماء، وتضعضع الروم، ونهد خالد بالقلب، حتى كان بين خيلهم ورجلهم، وكان مقاتلهم واسع المطرد، ضيق المهب، فلما وجدت خيلهم مذهبا ذهبت وتركوا رحلهم فى مصافهم، وخرجت خيلهم تشتد بهم فى الصحراء وأخر الناس الصلاة حتى صلوا بعد الفتح.
ولما رأى المسلمون خيل الروم توجهت للهرب، أفرجوا لها ولم يحرجوها، فذهبت فتفرقت فى البلاد، وأقبل خالد والمسلمون على الرحل فقضوهم، فكأنما هدم بهم حائط، فاقتحموا فى خندقهم، فاقتحموه عليهم، فعمدوا إلى الواقوصة، فهوى فيها المقترنون وغيرهم، ومن صبر من المقترنين هوى به من جشأت نفسه، فهوى الواحد بالعشرة لا يطيقونه، كلما هوى اثنان كان البقية أضعف، حتى تهافت فى الواقوصة عشرون ومائة ألف: من المقترنين ثمانون ألفا، ومن المطلقين أربعون ألفا، سوى من قتل فى المعركة من الخيل والرجل، وتجلل القيقار وأشراف من أشراف الروم برانسهم، ثم جلسوا وقالوا: لا نحب أن نرى يوم السوء إذ لم نستطع أن نرى يوم السرور، وإذ لم نستطع أن نمنع النصرانية، فأصيبوا فى تزملهم.
ولما دخل خالد الخندق، نزله وأحاطت به خيله، وقاتل الناس حتى أصبحوا، قال بعضهم: وأصبح خالد من تلك الليلة وهو فى رواق تذارق.(2/299)
وقال عكرمة بن أبى جهل يومئذ «1» : قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كل موطن، وأفر منكم اليوم، ثم نادى: من يبايع على الموت؟ فبايعه الحارث بن هشام، وضرار بن الأزور فى أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم، فقاتلوا قدام فسطاط خالد حتى أثبتوا جميعا جراحا وماتوا، إلا من برأ، منهم ضرار بن الأزور، وأتى خالد بعد ما أصبحوا بعكرمة جريحا، فوضع رأسه على فخذه، وبعمرو بن عكرمة، فوضع رأسه على ساقيه، وجعل يمسح عن وجوههما ويقطر الماء فى حلوقهما، ويقول: كلا، زعم ابن حنتمة أنا لا نستشهد.
وأصيبت يومئذ عين أبى سفيان بن حرب، وكان الأشتر قد شهد اليرموك ولم يشهد القادسية، فخرج يومئذ، رجل من الروم، فقال: من يبارز، فخرج إليه الأشتر، فاختلفا ضربتين، فقال للرومى: خذها وأنا الغلام النخعى، فقال الرومى: أكثر الله فى قومى مثلك، أما والله لولا أنك من قومى لذدت عن الروم، فأما الآن فلا أعينهم.
وفى حديث عبد الرحمن بن غنم، وذكر قتال المسلمين تلك الليلة، قال: حتى إذا فتح الله على المسلمين من آخر الليل، وقتلوهم حتى الصباح، أصبحوا فاقتسموا الغنائم، ودفنوا قتلى المسلمين، وبلغوا ثلاثة آلاف، وصلى كل أمير على قتلى أصحابه، ودفع خالد بن الوليد العهد إلى أبى عبيدة بعد ما فرغ من القسم، ودفن الشهداء، وتراجع الطلب، فولى أبو عبيدة، رحمه الله النفل من الأخماس، فنفل وأكثر. وكتب بالفتح.
قالوا «2» : وكان فى الثلاثة آلاف الذين أصيبوا: عكرمة وابنه عمرو، وسلمة بن هشام، وعمرو بن سعيد، وأثبت خالد بن سعيد، فلا يدرى أين مات بعد، وقد تقدم ذكر موت خالد فى غير هذه الوقعة، وهذا مما يقع بين الناقلين من الاختلاف الذى تقدم التنبيه عليه، فالله تعالى أعلم.
وعن عمرو بن ميمون وغيره، ذكروا: أن هرقل كان حج بيت المقدس، قال: فبينا هو يقيم به أتاه الخبر بقرب الجنود منه، فجمع الروم وقال: أرى من الرأى أن لا تقاتلوا هؤلاء القوم وأن تصالحوهم، فو الله لئن تعطوهم نصف ما أخرجت الشام وتأخذوا نصفا وتقر لكم جبال الروم خير لكم من أن يغلبوكم على الشام ويشاركوكم فى جبال الروم، فنخر أخوه وختنه، وتصدع عنه من كان حوله، فلما رآهم يعصونه ويردون عليه
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 401) .
(2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 402) .(2/300)
بعث أخاه، وأمر الأمراء، ووجه إلى كل حيز جندا، فلما اجتمع المسلمون أمرهم، يعنى الروم، بمنزل جامع حصين، فنزلوا الواقوصة، وخرج هو فنزل حمص، فلما بلغه أن خالدا قد طلع على سوى وانتسف أهله وأموالهم وعمد إلى بصرى وافتتحها، قال لجلسائه: ألم أقل لكم لا تقاتلوهم، فإنه لا يقوم لهم أحد، فقالوا: قاتل عن دينك واقض الذى عليك ولا تجبن الناس، قال: وأى شىء أطلب إلا توقير دينكم.
ولما نزلت جنود المسلمين اليرموك، بعثوا إلى الروم: إنا نريد كلام أميركم وملاقاته، فدعونا نأته ونكلمه، فأبلغوه، فأذن لهم. فأتاه أبو عبيدة ويزيد بن أبى سفيان كالرسل، والحارث بن هشام، وضرار بن الأزور، وأبو جندل بن سهيل، ومع أخى هرقل يومئذ ثلاثون سرادقا كلها من ديباج، فلما انتهوا إليها أبوا أن يدخلوا عليه فيها، وقالوا: لا نستحل الحرير، فابرز لنا، فبرز إلى فرش ممهدة، وبلغ ذلك هرقل، فقال: ألم أقل لكم، هذا أول الذل، أما الشام فلا شام، ويل للروم من الولد المشئوم، ولم يتأت بينهم وبين المسلمين صلح، فرجع أبو عبيدة وأصحابه، واتعدوا، فكان القتال حتى جاء الفتح «1» .
قصة صلح إيلياء وقدوم عمر رضى الله عنه الشام
وكان أبو عبيدة رحمه الله، بعد انقضاء اليرموك، على ما وقع فى كتب فتوح الشام من ذلك «2» ، قد بعث الرسل إلى أهل إيلياء يطلبهم بالخروج إليه ليكتب لهم أمانا على أنفسهم وأموالهم، فتثاقلوا عليه، فكتب إليهم يعرض عليهم الإسلام أو الجزية، أو ينزل بهم حتى يحكم الله له عليهم، وقد أوردنا هذا الكتاب بنصه قبل، فلما أبوا أن يأتوه وأن يصالحوه، أقبل إليهم حتى نزل بهم، فحاصرهم حصارا شديدا، وضيق عليهم من كل جانب، فخرجوا إليه ذات يوم، فقاتلوهم ساعة، ثم شد عليهم المسلمون فانهزموا ودخلوا حصنهم، وكان الذى ولى قتالهم خالد بن الوليد ويزيد بن أبى سفيان، كل واحد منهما فى جانب فبلغ ذلك سعيد بن زيد وهو على دمشق، فكتب إلى أبى عبيدة:
أما بعد، فإنى لعمرى ما كنت لأوثرك وأصحابك بالجهاد فى سبيل الله على نفسى، وعلى ما يقربنى من مرضاة ربى، فإذا أتاك كتابى هذا فابعث إلى عملك من هو أرغب فيه منى، فليعمل لك عليه ما بدا لك، فإنى قادم عليك وشيكا إن شاء الله، والسلام عليك.
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 403) .
(2) انظر: تاريخ فتوح الشام (242- 250) .(2/301)
فلما وصل كتابه إلى أبى عبيدة، قال: أشهد ليفعلنها، فقال ليزيد بن أبى سفيان:
اكفنى دمشق، فسار إليها يزيد فوليها.
وكان فى المسلمين رجل من بنى نمير يقال له مخيمس بن حابس بن معاوية، وكان شجاعا، وكان الناس يذكرون منه صلاحا، فقده أصحابه أياما، فكانوا يطلبونه ويسألون عنه فلا يخبرون عنه بشىء، فلما يئسوا منه ظنوا أن قد هلك، وأنه اغتيل، فبينا هم جلوس ذات يوم إذ طلع عليهم مقبلا فى يده ورقتان لم ينظر الناس إلى مثلهما قط أنضر، ولا أعرض عرضا، ولا أطول طولا، ولا أحسن منظرا، ولا أطيب رائحة، ففرح به أصحابه فرحا شديدا، وقالوا له: أين كنت؟ قال: وقعت فى جب فمضيت فيه حتى انتهيت إلى جنة معروشة، فيها من كل شىء، ولم تر عينى مثل ما فيها قط فى مكان، ولم أظن أن الله خلق مثلها، فلبثت فيها هذه الأيام التى فقدتمونى، فى نعيم ليس مثله نعيم، وفى منظر ليس مثله منظر، وفى رائحة لم يجد أحد من الناس قط، أطيب منها، فبينا أنا كذلك، أتانى آت فأخذ بيدى فأخرجنى منها إليكم، وقد كنت أخذت هاتين الورقتين من شجرة كنت تحتها جالسا، فبقيتا فى يدى، فأخذ الناس يشمونهما فيجدون لهما ريحا لم يجدوا لشىء قط أطيب منها، فأهل الشام يزعمون أنه أدخل الجنة وأن تينك الورقتين من ورقها، ويقولون: إن الخلفاء رفعتهما فى الخزانة.
ولما رأى أهل إيلياء أن أبا عبيدة غير مقلع عنهم، وظنوا أن لا طاقة لهم بحربه، قالوا:
نحن نصالحك، قال: فإنى أقبل منكم الصلح، قالوا: فأرسل إلى خليفتكم عمر، فيكون هو الذى يعطينا العهد، ويكتب لنا الأمان، فقبل ذلك أبو عبيدة، وهم بالكتاب، وكان لا يقطع أمرا دون رأى معاذ، وكان معاذ لا يكاد يفارقه، لرغبته فى الجهاد، فأرسل إليه أبو عبيدة، وكان بعثه إلى الأردن، فلما قدم عليه أخبره، فقال له معاذ: تكتب إلى أمير المؤمنين فتسأله القدوم عليك، فلعله أن يستقدم، ثم يأبى هؤلاء الصلح فيكون سيره عناء وفضلا، فلا تكتب إليه حتى تستحلفهم بأيمانهم المغلظة: لئن: أنت سألته القدوم فقدم عليهم فأعطاهم الأمان وكتب لهم الصلح ليقبلن ذلك وليصالحن عليه، فأخذ عليهم أبو عبيدة الأيمان المغلظة لئن عمر قدم فأعطاهم الأمان على أنفسهم وأموالهم وكتب لهم على ذلك كتابا ليقبلن وليؤدن الجزية وليدخلن فيما دخل فيه أهل الشام، فلما فعلوا ذلك كتب إليه أبو عبيدة:
بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عمر أمير المؤمنين، من أبى عبيدة بن الجراح، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد: فإنا أقمنا على إيلياء، وظنوا أن(2/302)
لهم فى المطاولة فرجا ورجاء، فلم يزدهم الله بها إلا ضيقا ونقصا وهزلا وأزلا، فلما رأوا ذلك سألونا أن نعطيهم ما كانوا قبل منه ممتنعين، وله كارهين، وسألونا الصلح على أن يقدم عليهم أمير المؤمنين، فيكون هو المؤمن لهم والكاتب لهم كتابا، وإنا خشينا أن يقدم أمير المؤمنين ثم يغدر القوم ويرجعوا، فيكون مسيرك، أصلحك الله، عناء وفضلا، فأخذنا عليهم المواثيق المغلظة بأيمانهم، لئن أنت قدمت عليهم فامنتهم على أنفسهم وأموالهم ليقبلن ذلك وليؤدن الجزية، وليدخلن فيما دخل فيه أهل الذمة، ففعلوا، فإن رأيت يا أمير المؤمنين أن تقدم علينا فافعل، فإن فى مسيرك أجرا وصلاحا وعافية للمسلمين، آتاك الله رشدك، ويسر أمرك، والسلام عليك.
فلما أتى عمر رحمه الله، كتاب أبى عبيدة، جمع رؤس المسلمين، فقرأه عليهم واستشارهم فقال له عثمان: إن الله قد أذلهم وحصرهم وضيق عليهم، وأراهم ما صنع بجموعهم وملوكهم، وما قتل من صناديدهم، وفتح على المسلمين من بلادهم، فهم فى كل يوم يزدادون هزلا وأزلا وذلا ونقصا وضيقا ورغما، فإن أنت أقمت ولم تسر إليهم علموا أنك بأمرهم مستخف، ولشأنهم محتقر، فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى ينزلوا على الحكم، ويعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وإلا حاصرهم المسلمون وضيقوا عليهم حتى يعطوا بأيديهم. فقال عمر: ماذا ترون؟ هل عند أحد منكم غير هذا الرأى؟. فقال على بن أبى طالب: نعم، يا أمير المؤمنين، عندى غير هذا. فقال: ما هو؟.
قال: إنهم يا أمير المؤمنين قد سألوك المنزلة التى لهم فيها الذل والصغار، وهى على المسلمين فتح ولهم عز، وهم يعطونكها الآن عاجلا فى عافية، ليس بينك وبين ذلك إلا أن تقدم عليهم، ولك يا أمير المؤمنين فى القدوم عليهم الأجر فى كل ظمأ وكل مخمصة وفى قطع كل واد وفى كل فج وشعب وفى كل نفقة تنفقها حتى تقدم عليهم، فإن قدمت عليهم كان فى قدومك عليهم الأمن والعافية والصلح، والفتح، ولست آمن لو أنهم يئسوا من قبولك الصلح ومن قدومك عليهم أن يتمسكوا بحصنهم، ولعلهم أن يأتيهم من عدونا مدد لهم فيدخلوا معهم فى حصنهم، فيدخل على المسلمين من حربهم وجهادهم بلاء ومشقة، ويطول بهم الحصار، ويقيم المسلمون عليهم، فيصيب المسلمين من الجهد والجوع نحو ما يصيبهم، ولعل المسلمين يدنون من حصنهم فيرمونهم بالنشاب ويقذفونهم بالحجارة، فإن قتل رجل من المسلمين تمنيتم أنكم فديتموه بمسيركم إلى منقطع الترب، ولكان المسلم بذلك من إخوانه أهلا.
فقال عمر: قد أحسن عثمان فى مكيدة العدو، وقد أحسن على النظر لأهل الإسلام.(2/303)
ثم قال: سيروا على اسم الله، فإنى معسكر وسائر. ثم خرج ومعه أشراف الناس وبيوتات العرب والمهاجرون والأنصار، وأخرج معه العباس بن عبد المطلب.
وعن أبى سعيد المقبرى «1» أن عمر رحمه الله، كان فى مسيره ذلك يجلس لأصحابه إذا صلى الغداة، فيقبل عليهم بوجهه، ثم يقول: الحمد لله الذى أعزنا بالإسلام والإيمان، وأكرمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم فهدانا به من الضلالة، وجمعنا من الفرقة، وألف بين قلوبنا، ونصرنا به على الأعداء، ومكن لنا فى البلاد، وجعلنا به إخوانا متحابين، فاحمدوا الله على هذه النعم وسلوه المزيد فيها، والشكر عليها، وتمام ما أصبحتم تتقلبون فيه منها، فإن الله عز وجل، يريد الرغبة إليه، ويتم نعمته على الشاكرين.
قال: فكان عمر رضى الله عنه، لا يدع هذا القول كل غداة، فى مبتدئه ومرجعه.
وعن أبى سعيد الخدرى أن عمر رحمه الله، مضى فى وجهه ذلك حتى انتهى إلى الجابية، فقام فى الناس فقال:
الحمد لله الحميد، المستحمد الدفاع المجيد، الغفور الودود، الذى من أراد أن يهديه من عباده اهتدى، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً [الكهف: 17] .
قال: وإذا رجل من القسيسين من النصارى عندهم، وعليه جبة صوف، فلما قال عمر رضى الله عنه: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ قال النصرانى: وأنا أشهد، فقال عمر:
وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً، فنفض النصرانى جبته عن صدره، ثم قال:
معاذ الله، لا يضل الله أحدا يريد الهدى، فقال عمر: ماذا يقول عدوه الله، هذا النصرانى؟ فأخبروه، فرفع عمر صوته، وعاد فى خطبته بمثل مقالته الأولى، ففعل النصرانى كفعله الأول، فغضب عمر رضى الله عنه، وقال: والله لئن أعادها لأضربن عنقه، ففهمها العلج فسكت، إذ عاد عمر فى خطبته وقال: من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، ثم قال: أما بعد، فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن خيار أمتى الذين يلونكم، ثم الذين تلونهم، ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل على الشهادة ولم يستشهد عليها، وحتى يحلف على اليمين ولم يسألها، فمن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، ولا يبالى بشذوذ من شذ، وذكر بقية الحديث «2» .
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (250- 251) .
(2) انظر: تاريخ فتوح الشام (151) وما بعدها.(2/304)
قال: ثم خرج عمر رحمه الله، من الجابية إلى إيلياء، فخرج إليه المسلمون يستقبلونه، وخرج أبو عبيدة بالناس أجمعين، وأقبل هو على جمل له، وعليه رحله، وعليه صفة من جلد كبش حولى، فانتهى إلى مخاضة، فأقبلوا يبتدرونه، فقال للمسلمين: مكانكم، ثم نزل عن بعيره، فأخذ بزمانه وهو من ليف، ثم دخل الماء بين يدى جمله، حتى جاز الماء إلى أصحاب أبى عبيدة، فإذا معهم برذون يجنبونه، فقال له: يا أمير المؤمنين، اركب هذا البرذون، فإنه أجمل بك وأهون عليك فى ركوبك، ولا نحب أن يراك أهل الذمة فى مثل هذه الهيئة التى نراك فيها، واستقبلوه بثياب بيض، فنزل عمر عن جمله وركب البرذون، وترك الثياب، فلما هملج به البرذون، نزل عنه، وقال: خذوا هذا عنى، فإنه شيطان، وأخاف أن يغير على قلبى، فقالوا: يا أمير المؤمنين، لو لبست هذه الثياب البيض، وركبت هذا البرذون لكان أجمل فى المروءة وأحسن فى الذكر وخيرا فى الجهاد. فقال عمر رضى الله عنه: ويحكم، لا تعتزوا بغير ما أعزكم الله به فتذلوا، ثم مضى ومضى المسلمون معه حتى أتى إيلياء، فنزل بها، فأتاه رجال من المسلمين فيهم أبو الأعور السلمى، وقد لبسوا لباس الروم، وتشبهوا بهم فى هيئتهم، فقال عمر: احثوا فى وجوههم التراب، حتى يرجعوا إلى هيئتنا وسنتنا ولباسنا، وكانوا قد أظهروا شيئا من الديباج، فأمر بهم فحرق عليهم.
وفى غير هذا الحديث مما ذكره سيف «1» : أن خالد بن الوليد لقى عمر عند مقدمة الجابية فى الخيل، عليهم الديباج والحرير، فنزل، وأخذ الحجارة فرماهم بها، وقال:
سرعان ما لفتم عن رأيكم، إياى تستقبلون فى هذا الزى، وإنما شبعتم منذ سنتين، سرعان ما نزت بكم البطنة، وتالله لو فعلتموها على رأس المائتين لاستبدلت بكم غيركم، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إنها يلامقة، وإن علينا السلاح، قال: فنعم إذا.
وفى حديث أبى سعيد الخدرى «2» ، فقال يزيد بن أبى سفيان: يا أمير المؤمنين، إن الثياب والدواب عندنا كثيرة، والعيش عندنا رفيع، والسعر رخيص، وحال المسلمين كما تحب، فلو أنك لبست من هذه الثياب البيض وركبت من هذه الدواب الفره، وأطعمت المسلمين من هذا الطعام الكثير، كان أبعد الصوت، وأزين لك فى هذا الأمر، وأعظم لك فى الأعاجم. فقال له: يا يزيد لا والله لا أدع الهيئة التى فارقت عليها صاحبى، ولا أتزين للناس بما أخاف أن يشيننى عند ربى، ولا أريد أن يعظم أمرى عند الناس ويصغر عند الله.
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 607) .
(2) انظر: تاريخ فتوح الشام (253) .(2/305)
فلم يزل عمر رحمه الله، على الأمر الأول الذى كان عليه فى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحياة أبى بكر، رضى الله عنه، حتى خرج من الدنيا.
قال: فلما نزل عمر بإيلياء واطمأن الناس، بعث أبو عبيدة إلى أهل إيلياء، أن انزلوا إلى أمير المؤمنين، واستوثقوا لأنفسكم، فنزل إليه ابن الجعيد فى ناس من عظمائهم، فكتب لهم عمر كتاب الأمان والصلح، فلما قبضوا كتابهم وأمنوا، دخل الناس بعضهم فى بعض، ولم يبق أمير من أمراء الأجناد إلا استزار عمر، فيصنع له ويسأله أن يزوره فى رحله، فيفعل ذلك عمر، إكراما لهم، غير أبى عبيدة، فإنه لم يستزره، فقال له عمر: إنه لم يبق أمير من أمراء الأجناد إلا استزارنى غيرك، فقال: أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، إنى أخاف إن استزرتك أن تعصر عينيك، فأتاه عمر فى بيته، فإذا ليس فى بيته إلا لبد فرسه، وإذا هو فراشه وسرجه وإذا هو وسادته، وإذا كسر يابسة فى كوة بيته، فجاء بها، فوضعها على الأرض بين يديه، وأتى بملح جريش، وكوز خزف فيه ماء.
فلما نظر عمر إلى ذلك بكى، ثم التزمه وقال: أنت أخى، وما من أحد من أصحابى إلا وقد نال من الدنيا ونالت منه، غيرك؟ فقال له أبو عبيدة: ألم أخبرك أنك ستعصر فى بيتى عينيك.
قال: ثم إن عمر قام فى الناس، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على النبى صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا أهل الإسلام، إن الله قد صدقكم الوعد، ونصركم على الأعداء، وأورثكم البلاد، ومكن لكم فى الأرض، فلا يكن جزاء ربكم إلا الشكر، وإياكم والعمل بالمعاصى، فإن العمل بالمعاصى كفر للنعم، وقل ما كفر قوم بما أنعم الله عليهم، ثم لم يفزعوا إلى التوبة إلا سلبوا عزهم وسلط عليهم عدوهم.
ثم نزل، وحضرت الصلاة، فقال عمر رضى الله عنه: يا بلال، ألا تؤذن لنا رحمك الله، فقال بلال: يا أمير المؤمنين، أما والله ما أردت أن أؤذن لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن سأطيعك اليوم إذ أمرتنى فى هذه الصلاة وحدها. فلما أذن بلال وسمعت الصحابة صوته، ذكروا نبيهم صلى الله عليه وسلم فبكوا بكاء شديدا، ولم يكن يومئذ أحد أطول بكاء من أبى عبيدة ومعاذ بن جبل، حتى قال لهما عمر: حسبكما رحمكما الله، فلما قضى عمر صلاته، قام إليه بلال فقال: يا أمير المؤمنين، إن أمراء أجنادك بالشام والله ما يأكلون إلا لحوم الطير، والخبز النقى، وما يجد ذلك عامة المسلمين.
فقال لهم عمر: ما يقول بلال؟ فقال يزيد بن أبى سفيان: يا أمير المؤمنين، إن سعر(2/306)
بلادنا رخيص، وإنا نصيب هذا الذى ذكر بلال هاهنا بمثل ما كنا نقوت به عيالنا بالحجاز، فقال عمر: والله لا أبرح العرصة أبدا حتى تضمنوا لى أرزاق المسلمين فى كل شهر، ثم قال: انظروا، كم يكفى الرجل ويسعه فى كل يوم، فقالوا: كذا وكذا، فقال:
كم يكون ذلك فى الشهر، قالوا: جريبين من قمح مع ما يصلحه من الزيت والخل عند رأس كل هلال، فضمنوا له ذلك، ثم قال: يا معشر المسلمين، هذا لكم سوى أعطياتكم، فإن وفا لكم أمراؤكم بهذا الذى فرضته لكم وأعطوكموه فى كل شهر، فذلك ما أحب، وإن هم لم يفعلوا، فأعلمونى حتى أعزلهم عنكم، وأولى أمركم غيرهم، فلم يزل ذلك جاريا دهرا حتى قطع بعد ذلك.
وعن شهر بن حوشب «1» : أن إسلام كعب الحبر وهو من اليمن من حمير، كان فى قدوم عمر الشام، وأن كعبا أخبره بأمره، وكيف كان ذلك.
قال: وكان أبوه من مؤمنى أهل التوراة برسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من عظمائهم وخيارهم.
قال كعب: وكان من أعلم الناس بما أنزل الله على موسى من التوراة، وبكتب الأنبياء، ولم يكن يدخر عنى شيئا مما كان يعلم، فلما حضرته الوفاة دعانى فقال: يا بنى قد علمت أنى لم أكن أدخر عنك شيئا مما كنت أعلم، إلا أنى حبست عنك ورقتين فيهما ذكر نبى يبعث، وقد أظل زمانه، فكرهت أن أخبرك بذلك، فلا آمن عليك بعد وفاتى أن يخرج بعض هؤلاء الكذابين فتتبعه، وقد قطعتهما من كتابك وجعلتهما فى هذه الكوة التى ترى، وطينت عليهما، فلا تتعرضن لهما ولا تنظر فيهما زمانك هذا، وأقرهما فى موضعهما حتى يخرج ذلك النبى، فإذا خرج فاتبعه، وانظر فيهما، فإن الله يزيدك بذلك خيرا.
فلما مات والدى لم يكن شىء أحب إلىّ من أن ينقضى المأتم حتى أنظر فى الورقتين، فلما انقضى المأتم فتحت الكوة، ثم استخرجت الورقتين، فإذا فيهما: محمد رسول الله، خاتم النبيين، لا نبى بعده، مولده بمكة، ومهاجره بطيبة، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب فى الأسواق، ولا يجزى بالسيئة السيئة، ولكن يجزى بالسيئة الحسنة، ويعفو ويغفر ويصفح، أمته الحمادون، الذين يحمدون الله على كل شرف وعلى كل حال، وتذلل ألسنتهم بالتكبير، وينصر الله نبيهم على كل من ناوأه، يغسلون فروجهم بالماء،
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (259- 262) .(2/307)
ويأتزرون على أوساطهم، وأناجيلهم فى صدورهم، ويأكلون قربانهم فى بطونهم، ويؤخرون عليها، وتراحمهم بينهم تراحم بنى الأم والأب، وهم أول من يدخل الجنة يوم القيامة من الأمم، وهم السابقون المقربون المشفعون المشفع لهم، فلما قرأت هذا قلت فى نفسى: والله ما علمنى أبى شيئا هو خير لى من هذا، فمكثت بذلك ما شاء الله، حتى بعث النبى صلى الله عليه وسلم وبينى وبينه بلاد بعيدة، منقطعة، لا أقدر على إتيانه، وبلغنى أنه خرج فى مكة، وهو يظهر مرة ويستخفى مرة، فقلت: هو هذا، وتخوفت ما كان والدى حذرنى وخوفنى من الكذابين، وجعلت أحب أتبين وأتثبت، فلم أزل بذلك حتى بلغنى أنه قد أتى المدينة، فقلت فى نفسى: إنى لأرجو أن يكون إياه، وجعلت ألتمس السبيل إليه، فلم يقدر لى حتى بلغنى أنه قد توفى صلوات الله عليه وسلامه.
فقلت فى نفسى: لعله لم يكن الذى كنت أظن، ثم بلغنى أن خليفته قام مقامه، ثم لم ألبث إلا قليلا حتى جاءتنا جنوده، فقلت فى نفسى: لا أدخل فى هذا الدين حتى أعلم أهم الذين كنت أرجو وأنتظر وأنظر كيف سيرتهم وأعمالهم وإلى ما تكون عاقبتهم، فلم أزل أدفع ذلك وأؤخر لأتبين وأتثبت حتى قدم علينا عمر بن الخطاب، فلما رأيت صلاة المسلمين وصيامهم وبرهم ووفاءهم بالعهد، وما صنع الله لهم على الأعداء، علمت أنهم هم الذين كنت أنتظر، فحدثت نفسى بالدخول فى الإسلام، فو الله إنى ذات ليلة فوق سطح لى، إذا رجل من المسلمين يتلو كتاب الله تعالى، حتى أتى على هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [النساء: 47] .
قال: فلما سمعت هذه الآية خشيت والله ألا أصبح حتى يحول وجهى فى قفاى، فما كان شىء أحب إلىّ من الصباح، فغدوت على عمر، فأسلمت حين أصبحت.
وقال كعب لعمر عند انصرافه عن الشام: يا أمير المؤمنين، إنه مكتوب فى كتاب الله: إن هذه البلاد التى كان فيها بنو إسرائيل، وكانوا أهلها، مفتوحة على رجل من الصالحين، رحيم بالمؤمنين، شديد على الكافرين، سره مثل علانيته، وعلانيته مثل سره، وقوله لا يخالف فعله، والقريب والبعيد عنده فى الحق سواء، وأتباعه رهبان بالليل وأسد بالنهار، متراحمون متواصلون متباذلون.
فقال له عمر: ثكلتك أمك، أحق ما تقول؟ قال: أى والذى أنزل التوراة على موسى، والذى يسمع ما نقول، إنه لحق.(2/308)
فقال عمر رضى الله عنه: فالحمد لله الذى أعزنا وشرفنا وأكرمنا فرحمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبرحمته التى وسعت كل شىء.
ومن حديث زيد بن أسلم عن أبيه، وهو عندنا بالإسناد: أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، خرج زمان الجاهلية مع أناس من قريش فى تجارة إلى الشام، قال: فإنى لفى سوق من أسواقها، إذا ببطريق قد قبض على عنقى، فذهبت أنازعه، فقيل لى: لا تفعل، فإنه لا نصف لك منه، فأدخلنى كنيسة، فإذا تراب عظيم ملقى، فجاءنى بزنبيل ومجرفة، فقال: انقل ما هاهنا، فجعلت أنظر كيف أصنع، فلما كان فى الهاجرة وافانى وعليه ثوب أرى سائر جسده منه، فقال: أئنك على ما أرى ما نقلت شيئا، ثم جمع يديه فضرب بهما دماغى، فقلت: واثكل أمك يا عمر، أبلغت ما أرى، ثم وثبت إلى المجرفة، فضربت بها هامته، فنثرت دماغه، ثم واريته فى التراب، وخرجت على وجهى، لا أدرى أين أسير، فسرت بقية يومى وليلتى ومن الغد إلى الهاجرة، فانتهيت إلى دير، فاستظللت بفنائه، فخرج إلىّ منه رجل، فقال لى: يا عبد الله، ما يقعدك هنا؟ فقلت:
أضللت أصحابى، فقال لى: ما أنت على طريق، وإنك لتنظر بعينى خائف، فادخل وأصب من الطعام، واسترح، فدخلت فأتانى بطعام وشراب، وألطفنى، ثم صعد فى النظر وصوبه، فقال: قد علم أهل الكتاب أو الكتب أنه ما على الأرض أعلم بالكتاب أو الكتب منى، وإنى لأرى صفتك، الصفة التى تخرجنا من هذا الدير، وتغلبنا عليه، فقلت له: يا هذا، لقد ذهبت فى غير مذهب. فقال لى: ما اسمك؟ فقلت: عمر بن الخطاب، قال: أنت والله صاحبنا، فاكتب لى على ديرى هذا وما فيه، فقلت: يا هذا، إنك قد صنعت إلىّ صنيعة فلا تكدرها، فقال: إنما هو كتاب فى رق، فإن كنت صاحبنا فذاك، وإلا لم يضرك شىء، فكتبت له على ديره وما فيه، فأتانى بثياب ودراهم، فدفعها إلىّ، ثم أوكف أتانا، فقال: أتراها؟ قلت: نعم، قال: سر عليها، فإنك لا تمر بقوم إلا سقوها وعلفوها وأضافوك، فإذا بلغت مأمنك فاضرب وجهها مدبرة، فإنهم يفعلون بها كذلك حتى ترجع إلىّ، قال: فركبتها، فكان كما قال، حتى لحقت أصحابى وهم متوجهون إلى الحجاز، فضربتها مدبرة وانطلقت معهم، فلما وافى عمر الشام فى خلافته، جاءه ذلك الراهب بالكتاب، وهو صاحب دير العدس، فلما رآه عرفه، ثم قال: قد جاء ما لا مذهب لعمر عنه، ثم أقبل على أصحابه فحدثهم بحديثه، فلما فرغ منه، أقبل على الراهب، فقال: هل عندكم من نفع للمسلمين؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، فوفى له عمر رضى الله عنه.(2/309)
وعن سيف يرفعه إلى سالم بن عبد الله «1» ، قال: لما دخل عمر الشام تلقاه رجل من يهود دمشق، فقال: السلام عليك يا فاروق، أنت صاحب إيلياء، والله لا ترجع حتى يفتح الله إيلياء.
وعند سيف فى أمر إيلياء أحاديث ربما خالفت بعض ما تقدم، ونحن نورد منها ما يطيل الإمتاع مضموما إلى ذلك ما ذكره من أمر قيسارية وغيره.
فمن ذلك «2» : أن عمر رحمه الله، كتب إلى يزيد بن أبى سفيان بعد مصالحة أهل الأردن، واجتماع عسكر الروم بأجنادين وبيسان وغزة: أن يسرح معاوية إلى قيسارية.
وكتب عمر إلى معاوية: أما بعد، فإنى قد وليتك قيسارية، فسر إليها واستنصر الله عليهم، وأكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، الله ربنا وثقتنا ورجاؤنا ومولانا، نعم المولى ونعم النصير.
فسار معاوية فى جنده حتى نزل على أهل قيسارية، فهزمهم وحصرهم، ثم إنهم جعلوا يزاحفونه فلا يزاحفونه فى مرة إلا هزمهم وردهم إلى حصنهم، ثم زاحفوه آخر ذلك وخرجوا من صياصيهم، فاقتتلوا فى حفيظة واستماتة، فبلغ قتلاهم فى المعركة ثمانين ألفا، وكملها فى هزيمتهم مائة ألف، وبعث بالفتح مع رجلين من بنى الضبيب، ثم خاف منهما الضعف، فبعث آخرين بعدهما، فلحقاهما، فطوياهما وهما نائمان، وانتهى بريد معاوية إلى عمر بالخبر ليلا، فجمع الناس وأباتهم على الفرح، وجعل معاوية قبل الفتح وبعده يجلس الأسرى عنده ويقول: ما صنعوا بأسرانا صنعنا بأسراهم مثله، فمنع بذلك من العبث بأسرى المسلمين، حتى افتتح قيسارية.
وكان عمر لما أمر معاوية بالتوجه إلى قيسارية، أمر عمرو بن العاص بصدم الأرطبون وكان على جمع الروم بأجنادين، وأمر علقمة بن مجزز بصدم القيقار، وكان على الروم بغزة، فلما توجه معاوية إلى قيسارية صدم عمرو بن العاص، إلى الأرطبون ومن بإزائه، وخرج معه شرحبيل بن حسنة على مقدمته، وولى مجنبتيه ابنه عبد الله بن عمرو وجنادة ابن تميم من بنى مالك بن كنانة، واستخلف أبا الأعور على الأردن، وخرج حتى نزل على الروم بأجنادين، وهم فى حصونهم وخنادقهم، وعليهم الأرطبون، وكان أدهى الروم، وأبعدها غورا وأنكاها فعلا، وكان وضع بالرملة جندا عظيما، وبإيلياء جندا
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 608) .
(2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 604) .(2/310)
عظيما، وكتب عمرو بالخبر إلى عمر، فلما جاءه كتابه قال: قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب، فانظروا عم تنفرج.
وأقام عمرو على أجنادين، لا يقدر من الأرطبون على سقطة ولا تشفيه الرسل، فولى ذلك بنفسه، وتوجه فدخل عليه، كأنه رسول، فأبلغه ما يريد، وسمع كلامه حتى عرف ما أراد، وتأمل حصونه، فقال أرطبون فى نفسه: والله إن هذا لعمرو، أو إنه للذى يأخذ عمرو برأيه، وما كنت لأصيب القوم بأمر أعظم عليهم من قتله، ثم دعا حرسيا فساره، فقال: اخرج فقم بمكان كذا فإذا مر بك فاقتله، وفطن له عمرو، فقال له: قد سمعت منى وسمعت منك، وقد وقع ما قلت منى موقعا، وأنا واحد من عشرة بعثنا عمر بن الخطاب مع هذا الوالى لنكانفه ويشهدنا أموره، فأرجع فآتيك بهم الآن، فإن رأوا مثل الذى أرى فقد رآه أهل العسكر ورآه الأمير، وإن لم يروه رددتهم إلى مأمنهم، وكنت على رأس أمرك. قال: نعم، ودعا فلانا فساره، وقال: اذهب إلى فلان، يعنى ذلك الحرسى، فرده إلىّ، فرجع إليه الرجل، وقال لعمرو: انطلق فجئ بأصحابك، فخرج عمرو ورأى أن لا يعود لمثلها، وعلم الرومى أنه خدعه فقال: هذا أدهى الخلق، وبلغت عمر فقال: غلبه عمرو «1» .
ثم ناهده عمرو وقد عرف مأخذه، فالتقوا بأجنادين، فاقتتلوا قتالا شديدا كقتال اليرموك، حتى كثرت القتلى بينهم، ثم انهزم أرطبون فى الناس، فأوى إلى إيلياء، ونزل عمرو أجنادين وانطلق علقمة بن مجزز فحصر القيقار بغزة، وجعل يراسله فلم يشفه أحد مما يريد، فأتاه كأنه رسول علقمة، فأمر القيقار رجلا أن يقعد له بالطريق، فإذا مر قتله، ففطن علقمة، فقال: إن معى نفرا شركائى فى الرأى، فأنطلق فآتيك بهم، فبعث إلى ذلك الرجل أن لا يعرض لعلقمة، فخرج من عنده ولم يعد، كما فعل عمرو بالأرطبون.
ولما أتى أرطبون إيلياء، أفرج له المسلمون حتى دخلها، ثم أزالهم إلى أجنادين، وكتب إلى عمرو: بأنك صديقى ونظيرى، أنت فى قومك مثلى فى قومى، والله لا تفتتح من فلسطين شيئا بعد أجنادين، فارجع فلا تغر فتلقى ما لقى الذين قبلك من الهزيمة، فدعا عمرو رجلا يتكلم بالرومية، فأرسله إلى أرطبون، وأمره أن يتنكر ويقرب ويستمع ما يقول، حتى يخبره به إذا رجع، وكتب إلى أرطبون:
جاءنى كتابك، وأنت نظيرى، ومثلى فى قومك، لو أخطأتك خصلة تجاهلت
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 604- 606) .(2/311)
فضيلتى، وقد علمت أنى صاحب فتح هذه البلاد، وأستعدى عليك فلانا وفلانا وفلانا لوزرائه، فأقرئهم كتابى، ولينظروا فيما بينى وبينك.
فخرج الرسول على ما أمره به حتى أتى أرطبون، فدفع إليه الكتاب، بمشهد من أولئك النفر، فاقترأه، فضحكوا وتعجبوا، وأقبلوا على أرطبون، فقالوا: من أين علمت أنه ليس بصاحبها؟ قال: صاحبها رجل اسمه عمر، ثلاثة أحرف، فرجع الرسول إلى عمرو فعرف أنه عمر. وكتب إلى عمر يستمده، ويقول: إنى أعالج حربا كئودا، وبلادا ادخرت لك، فرأيك. فلما جاء عمر الكتاب، علم أن عمرا لم يقل إلا بعلم، فنادى فى الناس، ثم خرج بهم حتى نزل الجابية.
وعن عدى بن سهل قال «1» : لما استمد أهل الشام عمر على أهل فلسطين، استخلف عليا، وخرج ممدا لهم، فقال على: أين تخرج بنفسك؟ إنك تريد عدوا كلبا، فقال: إنى أبادر بجهاد العدو موت العباس، إنكم لو فقدتم العباس لانتقض لكم الشر انتقاض الجبل.
قالوا: وجميع ما خرج عمر إلى الشام أربع مرات، أما الأولى فعلى فرس، وأما الثانية فعلى بعير، وأما الثالثة فقصر به عنها استعار الطاعون، وأما الرابعة فدخلها على حمار، فاستخلف عليها وخرج، وفتحت إيلياء وأرضها كلها فى ربيع الآخر سنة ست عشرة على يدى عمر بن الخطاب ما خلا أجنادين، على يدى عمرو، وقيسارية على يدى معاوية.
وعن سالم بن عبد الله: أن أهل إيلياء أشجوا عمر وأشجاهم، ولم يقدر عليها ولا على الرملة، قال: فبينا عمر معسكرا بالجابية، فزع الناس إلى السلاح، فقال: ما شأنكم؟
فقالوا: ألا ترى الخيل والسيوف؟ فنظر، فإذا كردوس يلمعون بالسيوف، فقال عمر:
مستأمنة فلا تراعوا وأمنوهم، وإذا هم أهل إيلياء، فصالحوه على الجزية، وفتحوا له إيلياء، واكتتبوا منه عليها، وعلى حيزها، والرملة وحيزها فصارت فلسطين نصفين، نصفا مع أهل إيلياء ونصفا مع أهل الرملة، وفلسطين تعدل الشام كله، وهى عشر كور من غير هذا الحديث المتقدم.
وهو مما ذكره سيف أيضا «2» أن عمر رضى الله عنه، فرق فلسطين على رجلين فجعل علقمة بن حكيم على نصفها وأنزله الرملة، وعلقمة بن مجزز على نصفها وأنزله إيلياء،
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 608) .
(2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 610) .(2/312)
ونزل كل واحد منهما فى عمله فى الجنود التى كانت معه، وكان سالم بن عبد الله فى الجنود التى كانت مع عمرو، وضم عمرا وشرحبيل إليه بالجابية، فلما انتهيا إليها وافقا عمر رضى الله عنه، راكبا، فقبلا ركبته، وضم عمر كل واحد منهما واحتضنه.
وعن غير سالم «1» : أن عمر رضى الله عنه، لما بعث بأمان أهل إيلياء، وأسكنها الجند شخص إلى بيت المقدس من الجابية فرأى فرسه يتوجى فنزل عنه وأتى ببرذون فركبه فهزه، فنزل فضرب وجهه بردائه، ثم قال: قبح الله من علمك هذا، ثم دعا بفرسه بعد ما أجمه أياما يوقحه، فركب، ثم سار حتى انتهى إلى بيت المقدس، وفى رواية أنه قال للبرذون: لا علم الله من علمك هذا من الخيلاء، ولم يركب برذونا قبله ولا بعده.
وعن أبى مريم مولى سلامة قال: شهدت فتح إيلياء مع عمر رضى الله عنه، فسار من الجابية فاصلا حتى يقدم إيلياء، ثم مضى حتى يدخل المسجد، ثم مضى نحو محراب داود، ونحن معه، فدخله، ثم قرأ سجدة داود فسجد وسجدنا معه.
وقال يزيد بن حنظلة يذكر بعض ما تقدم «2» :
تذكرت حرب الروم لما تطاولت ... وإذ نحن فى عام كثير نوازله
وإذ نحن فى أرض الحجاز وبيننا ... مسيرة شهر بينهن بلابله
وإذ أرطبون الروم يحمى بلاده ... يحاوله قرم هناك يساجله
فلما رأى الفاروق أزمان فتحها ... سما بجنود الله كيما يصاوله
فلما أحسوه وخافوا صياله ... أتوه وقالوا أنت ممن نواصله
وألقت إليه الشأم أفلاذ بطنها ... وعيشا خصيبا ما تعد مآكله
أباح لنا ما بين شرق ومغرب ... مواريث أعقاب بنتها قرامله
وكم مثقل لم يضطلع باحتماله ... تحمل عبئا حين شالت شوائله
وقال أيضا:
وقد عضلت بالشأم أرض بأهلها ... تريد من الأقوام ما كان ألحدا
سما عمر لما أتته رسائل ... كأصيد يحمى صرمة الحى أغيدا
فلما أتاه ما أتاه أجابهم ... بجيش ترى منه السنابك سجدا
وأقبلت الشام العريضة بالذى ... أراد أبو حفص وأزكى وأزيدا
__________
(1) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 610) .
(2) انظر: تاريخ الطبرى (3/ 612) .(2/313)
فقسط فيما بينهم كل جزية ... وكل رفاد كان أهنى وأحمد
قال صاحب فتوح الشام «1» : ثم إن عمر رضى الله عنه، خرج من الشام مقبلا إلى المدينة، فلما دنا منها استقبله الناس يهنئونه بالنصر والفتح، فجاء حتى دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين عند المنبر، ثم صعد المنبر، واجتمع الناس إليه، فقام، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبى محمد صلى الله عليه وسلم وقال: يا أيها الناس، إن الله قد اصطنع عند هذه الأمة أن يحمدوه ويشكروه، وقد أعز دعوتها وجمع كلمتها، وأظهر فلجها، ونصرها على الأعداء، وشرفها ومكن لها فى الأرض، وأورثها بلاد المشركين وديارهم وأموالهم، فأحدثوا لله عز وجل شكرا يزدكم، واحمدوه على نعمه عليكم يدمها لكم، جعلنا الله وإياكم من الشاكرين. ثم نزل.
قال: فمكث المسلمون بالشام عليها أبو عبيدة بن الجراح، ومكث فيها بعد خروج عمر منها ثلاث سنين، ثم توفى رحمه الله، فى طاعون عمواس، وكان طاعونا عم أهل الشام، ومات فيه بشر كثير، وكانت وفاة أبى عبيدة بالأردن، وبها قبره، ولما طعن رحمه الله، دعا المسلمين، فدخلوا عليه، فقال لهم: إنى موصيكم بوصية، فإن قبلتموها لم تزالوا بخير ما بقيتم، وبعد ما تهلكون: أقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا، وتصدقوا، وحجوا واعتمروا، وتواصلوا وتحابوا، واصدقوا أمراءكم، ولا تغشوهم، ولا تلهكم الدنيا، فإن امرأ لو عمر ألف حول ما كان له بد من أن يصير إلى مثل مصرعى هذا الذى ترون، إن الله قد كتب الموت على بنى آدم، فهم ميتون، فأكيسهم أطوعهم لربه، وأعملهم ليوم معاده.
ثم قال لمعاذ بن جبل: يا معاذ، صل بالناس، فصلى معاذ بهم، ومات أبو عبيدة، رحمة الله عليه ومغفرته ورضوانه، فقام معاذ فى الناس فقال: يا أيها الناس، توبوا إلى الله توبة نصوحا، فإن عبدا إن يلق الله تائبا من ذنبه كان حقا على الله أن يغفر له ذنوبه، ومن كان عليه دين فليقضه، فإن العبد مرتهن بدينه، ومن أصبح منكم مصارما مسلما فليلقه فيصالحه، إذا لقيه، وليصافحه، فإنه لا ينبغى لمسلم أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاثة أيام، والذنب فى ذلك عظيم عند الله، وإنكم أيها المسلمون قد فجعتم برجل، والله ما أزعم أنى رأيت منكم عبدا من عباد الله قط أقل غمرا، ولا أبرأ صدرا، ولا أبعد من الغائلة، ولا أنصح للعامة، ولا أشد عليهم تحننا وشفقة منه، فترحموا عليه، ثم احضروا الصلاة عليه، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، والله لا يلى عليكم مثله أبدا.
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (266- 267) .(2/314)
فاجتمع الناس، وأخرج أبو عبيدة، فتقدم معاذ فصلى عليه، حتى إذا أتى به قبره، دخل قبره معاذ وعمرو بن العاص والضحاك بن قيس، فلما سفوا عليه التراب، قال معاذ: رحمك الله أبا عبيدة، فو الله لأثنين عليه بما علمت، والله لا أقولها باطلا، وأخاف أن يلحقنى من الله مقت، كنت والله ما علمت من الذاكرين الله كثيرا، ومن الذين يمشون على الأرض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، ومن الذين يبيتون لربهم سجدا وقياما، ومن الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما، وكنت والله ما علمت من المخبتين المتواضعين، ومن الذين يرحمون اليتيم والمسكين، ويبغضون الجفاة المتكبرين.
ولم يكن أحد من الناس أشد جزعا على فقد أبى عبيدة من معاذ، ولا أطول حزنا عليه من معاذ.
قال: ثم صلى معاذ بالناس أياما، واشتد الطاعون، وكثر الموت فى الناس، فلما رأى ذلك عمرو بن العاص قال: يا أيها الناس، إن هذا الطاعون هو الرجز الذى عذب الله به بنى إسرائيل مع الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، وأمر الناس بالفرار منه.
فأخبر معاذ بقول عمرو، فقال: ما أراد إلى أن يقول ما لا علم له به، ثم جاء معاذ حتى صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على النبى صلى الله عليه وسلم ثم ذكر الوباء، فقال: ليس كما قال عمرو، ولكنه رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، اللهم أعط معاذا وآل معاذ منه النصيب الأوفر، ثم صلى ورجع إلى منزله، فإذا هو بابنه عبد الرحمن قد طعن، فلما رآه قال: يا أبت، الحق من ربك فلا تكونن من الممترين، قال: يا بنى، ستجدنى إن شاء الله من الصابرين، فلم يلبث إلا قليلا حتى مات يرحمه الله، وصلى عليه معاذ، ودفنه.
فلما رجع معاذ إلى منزله طعن، فاشتد به وجعه، وجعل أصحابه يختلفون إليه فإذا أتوه أقبل عليهم فقال لهم: اعملوا وأنتم فى مهلة وحياة وفى بقية من آجالكم، من قبل أن تمنوا العمل فلا تجدوا إليه سبيلا، وأنفقوا مما عندكم من قبل أن تهلكوا وتدعوا ذلك ميراثا لمن بعدكم، واعلموا أنه ليس لكم من أموالكم إلا ما أكلتم وشربتم ولبستم وأنفقتم فأعطيتم فأمضيتم، وما سوى ذلك فللوارثين، فلما اشتد به وجعه جعل يقول:
رب اخنقنى خنقك، فأشهد أنك تعلم أنى أحبك.
قال: وأتاه رجل فى مرضه، فقال له: يا معاذ، علمنى شيئا، ينفعنى الله به قبل أن(2/315)
أفارقك، فلا أراك ولا ترانى، ولا أجد منك خلفا، ثم لعلى أحتاج إلى سؤال الناس عما ينفعنى بعدك فلا أجد فيهم مثلك، فقال له معاذ: كلا، إن صالحاء المسلمين والحمد لله كثير، ولن يضيع الله أهل هذا الدين، ثم قال له: خذ عنى ما آمرك به، كن من الصائمين بالنهار، ومن المصلين فى جوف الليل، ومن المستغفرين بالأسحار، ومن الذاكرين الله كثيرا على كل حال، ولا تشرب الخمر، ولا تزنى، ولا تعق والديك، ولا تأكل مال اليتيم ولا تفر من الزحف، ولا تأكل الربا، ولا تدع الصلاة المكتوبة، ولا تضيع الزكاة المفروضة، وصل رحمك، وكن بالمؤمنين رحيما، ولا تظلم مسلما، وحج واعتمر، وجاهد، ثم أنا لك زعيم بالجنة.
ولما حضر معاذا الموت قال لجاريته: ويحك، انظرى، هل أصبحنا؟ فنظرت، فقالت:
لا، ثم تركها ساعة، ثم قال لها: انظرى، فنظرت فقالت: نعم، فقال: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار، ثم قال: مرحبا بالموت، مرحبا بزائر جاء على فاقة لا أفلح من ندم، اللهم إنك تعلم أنى لم أكن أحب البقاء فى الدنيا لجرى الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكننى كنت أحب البقاء لمكابدة الليل الطويل، وطول الساعات فى النهار، ولظمأ الهواجر، فى الحر الشديد، ولمزاحمة العلماء بالركب فى حلق الذكر.
فلما اقترب أمره جاء عبد الله بن الديلمى، فقال له: يرحمك الله يا معاذ، لعلنا لا نلتقى نحن ولا أنت أبدا، فقال معاذ: أجلسونى، فأجلسوه، وجلس رجل خلف ظهره، ووضع معاذ ظهره فى صدر الرجل، ثم قال: بئس ساعة الكذب هذه، حدثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا، فكنت أكتمكموه مخافة أن تتكلوا، فأما الآن فإنى لا أكتمكموه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه لا يموت عبد من عباد الله وهو يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من القبور، ويؤمن بالرسل وما جاءت به أنه حق، ويؤمن بالجنة والنار، إلا أدخله الله الجنة وحرمه على النار.
ثم مات معاذ من ساعته يرحمه الله، واستخلف عمرو بن العاص، فصلى عليه عمرو، ودخل قبره، فوضعه فى لحده، ودخل معه رجال من المسلمين، فلما خرج عمرو من قبره، قال: رحمك الله يا معاذ، فقد كنت ما علمناك من نصحاء المسلمين ومن خيارهم، وكنت مؤدبا للجاهل، شديدا على الفاجر، رحيما بالمؤمنين، وايم الله لا يستخلف من بعدك مثلك، عمرو بن العاص.(2/316)
وكان مهلكه ومهلك أبى عبيدة رحمهما الله، سنة ثمان عشرة، وقد كان معاذ لما هلك أبو عبيدة كتب إلى عمر ينعاه: أما بعد، فاحتسب امرأ كان لله أمينا، وكان الله فى نفسه عظيما، وكان علينا وعليك يا أمير المؤمنين عزيزا، أبا عبيدة بن الجراح، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وعند الله نحتسبه، وبالله نثق له، كتبت إليك وقد فشا الموت، وهذا الوباء فى الناس، ولن يخطئ أحد أجله، ومن لم يمت فسيموت، جعل الله ما عنده خيرا لنا من الدنيا وإن أبقانا أو هلكنا فجزاك الله عن جماعة المسلمين وعن خاصتنا وعامتنا رحمته ومغفرته ورضوانه وجنته، والسلام عليك ورحمة الله.
قال: فو الله ما هو إلا أن أتى عمر الكتاب فقرأه حتى بكى بكاء شديدا، ونعى أبا عبيدة إلى جلسائه، فما رأيت جماعة المسلمين جزعوا على رجل منهم جزعهم على أبى عبيدة، ثم ما مضى لذلك إلا أيام حتى جاء كتاب عمرو بن العاص ينعى فيه معاذ بن جبل يرحمه الله، فلما أتت عمر وفاة هذا على أثر أبى عبيدة جزع عليه جزعا شديدا، وبكى عمر والمسلمون، وحزنوا عليه حزنا عظيما، وقال عمر رضى الله عنه: رحم الله معاذا، والله لقد رفع الله بهلاكه من هذه الأمة علما جما، ولرب مشورة له صالحة قد قبلناها منه، ورأيناها أدت إلى خير وبركة، ورب علم أفادناه، وخير دلنا عليه، جزاه الله جزاء الصالحين.
وفرق عمر عند ذلك كور الشام، فبعث عبد الله بن قرط الثمالى على حمص، وعزل عنها حبيب بن مسلمة، واستعمل على دمشق أبا الدرداء الأنصارى، واستعمل يزيد بن أبى سفيان على الجنود التى كانت بالشام، ثم وجد عمر على عبد الله بن قرط بعد أن عمل له على حمص سنة فعزله عنها، وبعث حين عزله عبادة بن الصامت أميرا عليها، وقد كان بدريا عقبيا نقيبا، ثم رضى بعد ذلك عن عبد الله بن قرط، فرده على حمص.
ولما قدم عبادة بن الصامت على أهل حمص، قام فى الناس خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبى صلى الله عليه وسلم ثم قال: أما بعد، ألا إن الدنيا عرض حاضر، يأكل منه البر والفاجر، ألا وإن الآخرة وعد صادق، يحكم فيها ملك قادر، ألا وإنكم معروضون على أعمالكم، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:
7] ، ألا وإن للدنيا بنين، وإن للآخرة بنين، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن كل أم يتبعها بنوها يوم القيامة.(2/317)
ثم قال لشداد بن أوس: قم يا شداد، فعظ الناس، وكان شداد مفوها قد أعطى لسانا وحكمة وفضلا وبيانا، فقام شداد، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، أيها الناس، راجعوا كتاب الله وإن تركه كثير من الناس، فإنكم لم تروا من الخير إلا أسبابه، ولا من الشر إلا أسبابه، وإن الله جمع الخير كله بحذافيره، فجعله فى الجنة، وجمع الشر كله بحذافيره، فجعله فى النار، ألا وإن الجنة حفت بالكره والصبر، ألا وإن النار حفت بالهوى والشهوة، ألا فمن كشف حجاب الكره والصبر أشفى على الجنة، ومن أشفى على الجنة كان من أهلها، ألا ومن كشف حجاب الهوى والشهوة أشفى على النار، ومن أفى على النار كان من أهلها، ألا فاعملوا بالحق تنزلوا منازل أهل الحق، يوم لا يقضى إلا بالحق.
وقام أبو الدرداء فى أهل دمشق خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم قال: أما بعد، يا أهل دمشق، فاسمعوا مقالة أخ لكم ناصح، ما بالكم تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون، وتأملون ما لا تدركون، وقد كان من قبلكم جمعوا كثيرا، وبنوا مشيدا، وأملوا بعيدا، وماتوا قريبا، فأصبحت أموالهم بورا، ومساكنهم قبورا وآمالهم غرورا، ألا وإن عادا وثمود وقد كانوا ملأوا ما بين بصرى وعدن أموالا وأولادا ونعما، فمن يشترى منى ما تركوا بدرهمين.
ذكر ما وعدنا به قبل من سياقة فتح قيسارية حيث ذكرها أصحاب فتوح الشام خلافا لما أوردناه قبل ذلك عن سيف بن عمر، مما لا يوافق هذا مساقا ولا زمانا، حسب ما يوقف عليه فى الموضعين إن شاء الله تعالى
ذكروا «1» أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، كتب إلى يزيد بن أبى سفيان بعد مهلك أبى عبيدة ومعاذ بن جبل رحمهما الله:
أما بعد، فقد وليتك أجناد الشام كله، وكتبت إليهم أن يسمعوا لك ويطيعوا، وأن لا يخالفوا لك أمرا، فاخرج، فعسكر بالمسلمين، ثم سر بهم إلى قيسارية، فانزل عليها، ثم لا تفارقها حتى يفتحها الله عليك، فإنه لا ينفعنى افتتاح ما افتتحتم من أرض الشام مع
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (276- 283) .(2/318)
مقام أهل قيسارية فيها، وهم عدو لكم، إلى جانبكم، وإنه لا يزال قيصر طامعا فى الشام ما بقى فيها أحد من أهل طاعته ممتنعا، ولو قد افتتحتموها قطع الله رجاءه من جميع الشام، والله فاعل ذلك وصانع به للمسلمين، إن شاء الله تعالى.
فخرج يزيد، فعسكر بالمسلمين، وجاءه كتاب من عمر بنسخة واحدة إلى أمراء الأجناد:
أما بعد، فقد وليت يزيد بن أبى سفيان أجناد الشام كله، وأمرته أن يسير إلى قيسارية، فلا تعصوا له أمرا، ولا تخالفوا له رأيا، والسلام.
وكتب يزيد إلى أمراء الأجناد نسخة واحدة: أما بعد، فإنى قد ضربت على الناس بعثا، أريد أن أسير بهم إلى قيسارية، فاخرجوا من كل ثلاثة رجلا، وعجلوا إشخاصهم إلى إن شاء الله، والسلام.
فلم يمكث إلا قليلا حتى توافت عنده عساكر الأجناد كلها، فلما اجتمعوا عنده قام يزيد، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أما بعد، فإن كتاب أمير المؤمنين عمر المبارك الفاروق، أتانى يحثنى على المسير إلى قيسارية، وأن أدعوهم إلى الإسلام، أو يدخلوا فيما دخل فيه أهل الكور من أهل الشام، فيؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فإن أبوا نزلت عليهم، فلم أزايلهم حتى أقتل مقاتلتهم، وأسبى ذراريهم، فسيروا رحمكم الله إليهم، فإنى أرجو أن يجمع الله لكم الغنيمة فى الدنيا والأجر فى الآخرة.
ثم قال للناس: ارتحلوا، ووجه إلى حبيب بن مسلمة أن سر فى المقدمة، فقد جعلتك عليها، ثم امض حتى تنزل بأهل قيسارية، فإنى أسرع شىء فى أثرك لحاقا بك.
فمضى حبيب فى جماعة عظيمة من المسلمين إلى قيسارية، وبها جموع من بطارقة الروم وفرسانهم وأشدائهم، وكل من كان كره الدخول فى دين الإسلام من النصارى، ومن كان كره الجزية، ومن بقى من أهل تلك المواطن التى كانوا يقاتلون المسلمين من الروم، فكانت بها جموع كثيرة، وحد وجد شديد، فلما أقبل حبيب فى المقدمة ودنا من الحصن، خرج إليه من قيسارية فرسان ورجال، فنضحوهم بالنشاب، وحملت خيلهم على المسلمين، فانحاز حبيب وخيله، حتى انتهى إلى يزيد، فنزل يزيد وجعل على ميمنته عبادة بن الصامت، وعلى الميسرة الضحاك بن قيس، ورد حبيبا على الخيل، ومشى يزيد(2/319)
فى الرجال، فحمل عليهم، فاقتتلوا طويلا قتالا شديدا، ثم بعث إلى الضحاك: أن احمل على ميمنتهم، فحمل عليهم، فهزمهم، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وبعث إلى عبادة بن الصامت، أن أحمل على ميسرتهم، فحمل عليهم، فثبتوا له، فقاتلهم طويلا، وقتل منهم مقتلة عظيمة، ثم تحاجزوا، وانصرف عبادة إلى موقفه، فحرض أصحابه ووعظهم، ثم قال: يا أهل الإسلام، إنى كنت أحدث النقباء سنا، وأبعدهم أجلا، وقد قضى الله أن أبقانى حتى قاتلت هذا العدو معكم، وإنى أسأل الله أن يرينى وإياكم أحسن ثواب المجاهدين، والله الذى نفسى بيده ما حملت قط فى عصابة من المؤمنين على جماعة من المشركين إلا خلوا لنا العرصة، وأعطانا الله عليهم الظفر غيركم، فما بالكم حملتم على هؤلاء فلم تزيلوهم.
وإن عمر لما بلغه شدة قتال أهل اليرموك لكم قال: سبحان الله، أو قد واقفوهم، ما أظن المسلمين إلا قد غلوا، ولو لم يغلوا ما واقفوهم، ولظفروا بغير مئونة، والله إنى خائف عليكم خصلتين: أن تكونوا قد غللتم، أو لم تناصحوا الله فى حملتكم عليهم، فشدوا عليهم يرحمكم الله معى إذا شددت، فلا والله لا أرجع إلى موقفى هذا إن شاء الله ولا أزايلهم حتى يهزمهم الله أو أموت دونهم، ثم حمل عليهم، وحملت معه الميمنة على ميسرة الروم، فصبروا لهم حتى تطاعنوا بالرماح، واضطربوا بالسيوف، واختلفت أعناق الخيل، فلما رأى ذلك عبادة ترجل، ثم نادى عمير بن سعد الأنصارى فى المسلمين: يا أهل الإسلام إن عبادة بن الصامت سيد المسلمين، وصاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزل وترجل، فالكرة الكرة إلى رحمة الله والجنة، واتقوا عواقب الفرار، فإنها تقود إلى النار.
وأقبل المسلمون إلى عبادة وهو يجالدهم، وقد كانوا أحاطوا به، فحمل عليهم، فقصف بعضهم على بعض، فأزالوهم عن موقفهم، ثم شدوا عليهم، وحمل حبيب بن مسلمة على من يليه منهم، ثم حمل يزيد بن أبى سفيان بجماعة المسلمين عليهم، فانهزموا انهزاما شديدا، ووضع المسلمون سلاحهم وسيوفهم حيث أحبوا منهم، وأتبعوهم يقتلونهم كيف شاؤا، حتى حجزوهم فى حصنهم، وقد قتلوا من رؤسائهم وبطارقتهم وفرسانهم مقتلة عظيمة، ثم أقاموا عليهم فحصروهم وقطعوا عنهم المادة، وضيقوا عليهم، وحاصروهم أشد الحصار، فلما طال عليهم البلاء تلاوموا، وقال بعضهم لبعض:
اخرجوا بنا إليهم نقاتلهم حتى نظفر بهم أو نموت كراما، فاستعدوا فى مدينتهم، وخرجوا على تعبئتهم، والمسلمون غارون لا يشعرون ولا يعلمون أنه يخرجون إليهم،(2/320)
وقد كانوا أذلوهم وأجحروهم وضيقوا عليهم حتى جهدوا، وظنوا أنهم أوهن أمرا، وأضعف من أن يخرجوا عليهم، فما راع المسلمين إلا وأهل قيسارية يضاربونهم بالسيوف بأجمعهم إلى جانب عسكرهم، فجال المسلمون جولة منكرة.
ثم إن يزيد خرج مسرعا يمشى اليهم، حتى إذا دنا منهم جالدهم طويلا، وتتامت إليه خيل المسلمين ورجالتهم، وخرج المسلمون على راياتهم وصفوفهم، فلما كثروا عنده أمر الخيل فحملت عليهم، ونهض بالرجال فى وجوههم، ثم حمل هو عليهم فانهزموا انهزاما قبيحا شديدا، وقتلهم المسلمون قتلا ذريعا، وركب بعضهم بعضا، فبعض دخل المدينة، وبعض ذهبوا على وجوههم فلم يدخلوها، وقتل الله منهم فى المعركة نحوا من خمسة آلاف، فلما رأى يزيد ما أنزل الله بهم من الخزى والقتل، وما صيرهم إليهم من الذل، قال لمعاوية: أقم عليها حتى يفتحها الله، وانصرف يزيد عنها.
فلم يلبث معاوية عليها إلا يسيرا حتى فتحها الله على يديه، وذلك سنة تسع عشرة، وكانت هى وجلولاء فى سنة واحدة، وفرح المسلمون بذلك فرحا شديدا، لأنه لم يبق بالشام فى أقصاها وأدناها عدو حينئذ، وقد نفى الله المشركين عنها، وصار الشام كله فى أيدى المسلمين.
وكتب يزيد إلى عمر: أما بعد، فإن رأى أمير المؤمنين لأهل الشام كان رأيا أرشده الله وأرشد به من أخذ به، وبارك له ولأهل طاعته فيه، وإنى أخبر أمير المؤمنين أنا التقينا نحن وأهل قيسارية غير مرة، وكل ذلك يجعل الله جدهم الأسفل، وكدهم الأخسر، ويجعل لنا عليهم الظفر، فلما رأوا أن الله قد أذهب ريحهم، وأذلهم وأنزل عليهم الصغار والهوان، وقتل صناديدهم وفرسانهم وملوكهم لزموا حصنهم، وانحجزوا فى مدينتهم، فأطلنا حصارهم، وقطعنا موادهم، وميرتهم، وضيقنا أشد التضييق عليهم، فلما جهدوا هزلا وأزلا، فتحها الله علينا، والحمد لله رب العالمين.
فكتب إليه عمر، رحمه الله: أما بعد، فقد أتانى كتابك، وسمعت ما ذكرت فيه من الفتح على المسلمين، والحمد لله رب العالمين، فاشكروا الله يزدكم ويتم نعمته عليكم، وإن الله قد كفاكم مؤنة عدوكم، وبسط لكم فى الرزق، ومكن لكم فى البلاد، وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ، والسلام عليك.
فلما أتى يزيد هذا الكتاب، قرأه على المسلمين، فحمدوا الله على ما أنعم عليهم،(2/321)
واصطنع عندهم، وأقبل يزيد حتى نزل دمشق، فلم يلبث إلا سنة حتى هلك رضى الله عنه، وذلك فى سنة تسع عشرة، والشام كله مستقيم أمره، ليس به عدو للمسلمين.
وكان يزيد رحمه الله، شريفا فاضلا حليما عاقلا رقيقا، حسن السيرة، محببا فى المسلمين، ولما ثقل رحمه الله وأشرف على الموت استخلف أخاه معاوية على الشام، وكتب إلى عمر، رضى الله عنه: أما بعد، فإنى كتبت إليك كتابى هذا وإنى أظن أنى فى أول يوم من الآخرة، وآخر يوم من الدنيا، فجزاك الله عنا، وعن جميع المسلمين خيرا، وجعل جناته لنا ولك مآبا ومصيرا، فابعث إلى عملك بالشام من أحببت، فأما أنا فقد استخلفت عليهم معاوية بن أبى سفيان.
فلما أتى عمر كتابه مع خبر موته، جزع عليه جزعا شديدا، وكتب إلى معاوية بولايته على الشام، ويقال: إنه لما ورد البريد بموت يزيد على عمر كان أبوه أبو سفيان عنده، فقال له عمر لما قرأ الكتاب بموت يزيد: أحسن الله عزاءك فى يزيد، ورحمه، فقال له أبو سفيان: من وليت مكانه يا أمير المؤمنين؟ قال: أخاه معاوية، قال: وصلتك رحم يا أمير المؤمنين.
فأقام معاوية على الشام أربع سنين، بقية خلافة عمر، ثم أقره عليها عثمان اثنتى عشرة سنة، مدة خلافته، ثم كان منه بعد وفاة عثمان رضى الله عنه، ما هو معلوم «1» .
ذكر فتح مصر
«2» ذكر ابن عبد الحكم «3» عمن سمى من شيوخه أنه لما قدم عمر، رضى الله عنه، الجابية «4» خلا به عمرو بن العاص، فاستأذنه فى المسير إلى مصر، وكان عمرو قد دخلها فى الجاهلية وعرف طرقها ورأى كثرة من فيها.
وكان سبب دخوله إياها أنه كان قدم بيت المقدس لتجارة فى نفر من قريش، وكانت رعية إبلهم نوبا بينهم، فبينا عمرو يرعاها فى نوبته إذ مر به شماس من شمامسة
__________
(1) انظر: تاريخ فتوح الشام (276- 283) .
(2) انظر: تاريخ الطبرى (4/ 104- 112) ، البداية والنهاية (7/ 107- 110) ، الكامل (2/ 405- 408) .
(3) انظر: فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص 53- 192) .
(4) كان ذلك سنة ثمانى عشرة من الهجرة.(2/322)
الروم، من أهل الإسكندرية، كان قدم للصلاة فى بيت المقدس وللسياحة فى جبالها، فوقف على عمرو فاستسقاه وقد أصابه عطش شديد فى يوم شديد الحر، فسقاه عمرو من قربة له، فشرب حتى روى، ونام الشماس مكانه، وكانت إلى جنبه حيث نام حفرة، فخرجت منها حية عظيمة، فبصر بها عمرو، فنزع لها بسهم فقتلها، فلما استيقظ الشماس ونظر إلى الحية سأل عمرا عنها، فأخبره أنه رماها فقتلها، فأقبل الشماس فقبل رأسه، وقال: قد أحيانى الله بك مرتين، مرة من شدة العطش، ومرة من هذه الحية، فما أقدمك هذه البلاد؟ قال: قدمت مع أصحاب لى نطلب الفضل فى تجارتنا، فقال له الشماس: وكم تراك ترجو أن تصيب فى تجارتك؟ قال: رجائى أن أصيب ما اشترى به بعيرا، فإنى لا أملك إلا بعيرين، فأملى أن أصيب بعيرا ثالثا، فقال له الشماس: كم الدية فيكم؟ قال: مائة من الإبل، قال الشماس لسنا أصحاب إبل، إنما نحن أصحاب دنانير.
قال: تكون ألف دينار، فقال له الشماس: إنى رجل غريب فى هذه البلاد، وإنما قدمت أصلى فى كنيسة بيت المقدس، وأسيح فى هذه الجبال شهرا، جعلت ذلك نذرا على نفسى، وقد قضيت ذلك، وأنا أريد الرجوع إلى بلادى، فهل لك أن تتبعنى إلى بلادى، ولك عهد الله وميثاقه أن أعطيك ديتين لأن الله عز وجل، أحيانى بك مرتين؟
فقال له عمرو: وأين بلادك؟ قال: مصر، فى مدينة يقال لها: الإسكندرية، فقال له عمرو: لا أعرفها، ولم أدخلها قط، فقال له الشماس: لو دخلتها لعلمت أنك لم تدخل قط مثلها، فقال عمرو: وتفى لى بما تقول؟ فقال له الشماس: نعم، لك علىّ العهد والميثاق أن أفى لك، وأن أردك إلى أصحابك، فقال عمرو: كم يكون مكثى فى ذلك؟
قال: شهرا تنطلق معى ذاهبا عشرا، وتقيم عندنا عشرا وترجع فى عشر، ولك علىّ أن أحفظك ذاهبا، وأن أبعث معك من يحفظك راجعا، فقال له عمرو: أنظرنى حتى أشاور أصحابى.
فانطلق عمرو إلى أصحابه، فأخبرهم بما عاهده عليه الشماس، وقال لهم: أقيموا علىّ حتى أرجع إليكم ولكم علىّ العهد أن أعطيكم شطر ذلك، على أن يصحبنى رجل منكم آنس به، فقالوا: نعم، وبعثوا معه رجلا منهم.
فانطلق عمرو وصاحبه مع الشماس إلى مصر، حتى انتهى إلى الإسكندرية، فرأى عمرو من عمارتها وكثرة أهلها وما بها من الأموال ما أعجبه، ونظر إلى الإسكندرية وعمارتها وجودة بنائها، وكثرة أهلها، وما بها من الأموال، فازداد عجبا.(2/323)
ووافق دخول الإسكندرية عيدا فيها عظيما، يجتمع فيه ملوكهم وأشرافهم، ولهم أكرة من ذهب مكللة يترامى بها ملوكهم ويتلقونها بأكمامهم، وفيما اختبروا منها على ما وضعها من مضى منهم أنه من وقعت فى كمه واستقرت فيه لم يمت حتى يملكهم.
وأكرم الشماس عمرا الإكرام كله، وكساه ثوب ديباج ألبسه إياه، وجلس معه فى ذلك المجلس مع الناس حيث يترامون بالأكرة وهم يتلقونها بأكمامهم، فرمى بها رجل منهم، فأقبلت تهوى حتى وقعت فى كم عمرو، فعجبوا من ذلك، وقالوا: ما كذبتنا هذه الأكرة قط إلا هذه المرة، أترى هذا الأعرابى يملكنا؟ هذا ما لا يكون أبدا.
وإن ذلك الشماس مشى فى أهل الإسكندرية، وأعلمهم بأن عمرا أحياه مرتين، وأنه ضمن له ألفى دينار، وسألهم أن يجمعوا ذلك له فيما بينهم، ففعلوا ودفعوها إلى عمرو، فانطلق هو وصاحبه، وبعث معهما الشماس دليلا ورسولا، وزودهما وأكرمهما، حتى رجعا إلى أصحابهما، فدفع إليهم عمرو فيما بينهم ألف دينار، وأمسك لنفسه ألفا.
قال: فكان أول مال اعتقدته وتأثلته.
فبذلك ما عرف عمرو مدخل مصر ومخرجها، ورأى فيها ما علم به أنها أفضل البلاد وأكثره مالا.
فلما قدم عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، الجابية خلا به عمرو، وقال: يا أمير المؤمنين إيذن لى فأسير إلى أرض مصر، فإنك إن فتحتها كانت قوة للمسلمين وعونا لهم، وهى أكثر الأرضين أموالا، وأعجزه عن القتال، فتخوف عمر وكره ذلك، فلم يزل عمرو بن العاص يعظم أمرها فى نفسه ويخبره بحالها، ويهون عليه فتحها، حتى ركن لذلك عمر، فعقد له على أربعة آلاف رجل، كلهم من عك، وقال: سيروا وأنا مستخير الله فى مسيرك، وسيأتيك كتابى سريعا، فإن لحقك كتابى آمرك فيه بالانصراف فانصرف، وإن دخلتها قبل أن يأتيك كتابى ثم جاءك فامض لوجهتك، واستعن بالله فاستنصره.
فمضى عمرو من جوف الليل، ولم يشعر به أحد من الناس، واستخار عمر ربه، فكأنه تخوف على المسلمين فى وجههم ذلك، فكتب إلى عمرو بن العاص: أن انصرف بمن معك من المسلمين إن أدركك كتابى قبل أن تدخل مصر، فأدرك الكتاب عمرا وهو برفح، فتخوف إن هو أخذه فقرأه أن يجد فيه الانصراف كما عهد إليه عمر، فلم يأخذ الكتاب من الرسول، وسار كما هو حتى مر بقرية صغيرة فيما بين رفح والعريش، فسأل(2/324)
عنها، فقيل: إنها من مصر، فدعا بالكتاب فقرأه، فإذا فيه: أن انصرف بمن معك من المسلمين، فقال لمن حوله: ألستم تعلمون أن هذه من مصر؟ قالوا: بلى، قال: فإن أمير المؤمنين عهد إلىّ وأمرنى إن لحقنى كتابه ولم أدخل أرض مصر أن أرجع، ولم يلحقنى كتابه حتى دخلت أرض مصر، فسيروا على بركة الله.
ويقال: بل كان عمرو بن العاص بفلسطين، فتقدم فى أصحابه إلى مصر بغير إذن، فكتب إليه عمر ينكر ذلك عليه، فجاءه كتابه وهو دون العريش، عريش مصر، فلم يقرأ الكتاب حتى بلغ العريش فقرأه، فإذا فيه:
من عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص، أما بعد، فإنك سرت إلى مصر بمن معك، وبها جموع الروم، وإنما معك نفر يسير، ولعمرى لو كانوا ثكل أمك ما سرت بهم، فإن لم تكن بلغت مصر فارجع.
فقال عمرو: الحمد لله، أية أرض هذه؟ قالوا: من مصر، فتقدم كما هو.
ويقال: بل كان عمرو فى جنده على قيسارية مع كل من كان بها من أجناد المسلمين، وعمر بن الخطاب إذ ذاك بالجابية، فكتب سرا واستأذن إلى مصر، وأمر أصحابه فتنحوا كالقوم الذين يريدون أن يتجولوا من منزل إلى منزل قريب، ثم سار بهم ليلا، فلما فقده أمراء الأجناد استنكروا الذى فعل، ورأوا أنه قد غرر، فرفعوا ذلك إلى عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، فكتب إليه عمر:
«أما بعد، فإنك قد غررت بمن معك، فإن أدركك كتابى ولم تدخل مصر فارجع، وإن أدركك كتابى وقد دخلت فامض، واعلم أنى ممدك» .
ويقال: إن عمر كتب إلى عمرو بعد ما فتح الشام: أن اندب الناس إلى المسير معك إلى مصر، فمن خف معك فسر به. وبعث به مع شريك بن عبدة، فندبهم عمرو، فأسرعوا إلى الخروج معه، ثم إن عثمان بن عفان دخل على عمر، فذكر له عمر ما كتب به إلى عمرو، فقال عثمان: يا أمير المؤمنين، إن عمرا له جرأة، وفيه إقدام وحب للإمارة، فأخشى أن يخرج فى غير ثقة ولا جماعة، فيعرض المسلمين للهلكة، رجاء فرصة لا يدرى أتكون أم لا. فندم عمر على كتابه إشفاقا مما قال عثمان، فكتب إلى عمرو يأمره بنحو ما تقدم من الرجوع إن لم يكن دخل مصر، والمضى لوجهه إن كان دخلها.
فسار عمرو فى طريقه قاصدا مصر، فلما بلغ المقوقس ذلك توجه نحو الفسطاط يجهز(2/325)
الجيوش على عمرو، فأقبل عمرو حتى إذا كان بجبال الحلال نفرت معه راشدة وقبائل من لخم، وأدركه النحر وهو بالعريش، فضحى يومئذ عن أصحابه بكبش.
وكان رجل ممن خرج معه قد أصيب بجمله، فأتاه الرجل يستحمله، فقال له عمرو:
تحمل مع أصحابك حتى نبلغ أوائل العامر، فلما بلغوا العريش جاءه، فأمر له بجملين، ثم قال: لن تزالوا بخير ما رحمتكم أئمتكم، فإذا لم يرحموكم هلكتم وهلكوا.
فتقدم عمرو، فكان أول موضع قوتل فيه الفرما، قاتلته الروم قتالا شديدا، نحوا من شهر، ثم فتح الله على يديه.
وكان بالإسكندرية أسقف للقبط يقال له: «أبو ميامين» ، فلما بلغه قدوم عمرو بن العاص إلى مصر كتب إلى القبط يعلمهم أنه لا تكون للروم دولة، وأن ملكهم قد انقطع، ويأمرهم بتلقى عمرو، فيقال: إن القبط الذين كانوا بالفرما كانوا يومئذ لعمرو أعوانا.
ثم توجه عمرو لا يدافع إلا بالأمر الخفيف حتى نزل القواصر، ثم تقدم لا يدافع إلا بالأمر الخفيف حتى أتى بلبيس، فقاتلوه بها نحوا من شهر حتى فتح الله عليه، ثم مضى لا يدافع إلا بالأمر الخفيف، حتى أتى أم دنين فقاتلوه بها قتالا شديدا، وأبطأ عليه الفتح، فكتب إلى عمر يستمده، فأمده بأربعة آلاف تمام ثمانية آلاف، فقاتلهم.
وجاء رجل من لخم إلى عمرو بن العاص فقال: اندب معى خيلا حتى آتى من ورائهم عند القتال، فأخرج معه خمسمائة فارس، فساروا من وراء الجبل حتى دخلوا مغار بنى وائل قبل الصبح.
ويقال: كان على هذا البعث خارجة بن حذافة «1» ، فلما كان فى وجه الصبح نهض القوم، فصلوا الصبح، ثم ركبوا خيلهم، وغدا عمرو بن العاص على القتال، فقاتلوهم من وجههم، وحملت الخيل التى كان وجه من ورائهم واقتحمت عليهم فانهزموا. وكانوا قد خندقوا حول الحصن، وجعلوا للخندق أبوابا، فسار عمرو بمن معه حتى نزل على
__________
(1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (2137) ، أسد الغابة ترجمة رقم (1327) ، الثقات (3/ 111) ، تلقيح فهوم أهل الأثر (374) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 146) ، الكاشف (1/ 265) ، تهذيب التهذيب (3/ 74) ، تقريب التهذيب (1/ 210) ، التحفة اللطيفة (1/ 49) ، النجوم الزاهرة (1/ 20) ، أزمنة التاريخ الإسلامى (1/ 600) ، الطبقات (23/ 291) ، التاريخ الكبير (3/ 203) ، التاريخ الصغير (1/ 93) ، الإكمال (6/ 182) ، تراجم الأخبار (1/ 390) ، الكامل (3/ 920) ، مشاهير علماء الأمصار (383) .(2/326)
الحصن، فحاصرهم حتى سألوه أن يسير منهم بضعة عشر أهل بيت ويفتحوا له الحصن، ففعل ذلك، وفرض عليهم لكل رجل من أصحابه دينارا وجبة وبرنسا وعمامة وخفين.
فجاء النفر من القبط يستأذنونه إلى قراهم وأهليهم، وقد كان نفر منهم تحدثوا قبل ذلك ورجل من لخم يسمعهم، فقال بعضهم لبعض: ألا تعجبوا من هؤلاء القوم، يعنون المسلمين، يقدمون على جموع الروم، وإنما هم فى قلة من الناس. فجاءهم رجل منهم، فقال: إن هؤلاء القوم لا يتوجهون إلى أحد إلا ظهروا عليه، حتى يقتلوا خيرهم. فأنكر عليه اللخمى قوله وأراد حمله إلى عمرو، فرغب إليه أصحابه وغيرهم حتى خلصوه، فلما استأذن أولئك النفر عمرا قال لهم: كيف رأيتم أمرنا؟ قالوا: لم نر إلا حسنا. فقال ذلك الرجل لعمرو مثل مقالته تلك: إنكم لن تزالوا تظهرون على كل من لقيتم حتى تقتلوا خيركم رجلا. فغضب عمرو وأمر به، فطلب إليه أصحابه وأخبروه أنه لا يدرى ما يقول، حتى خلصوه، فلما بلغ عمرا عمر بن الخطاب عجب من قول ذلك القبطى، وأرسل فى طلبه، فوجدوه قد هلك.
وفى حديث غيره: قال عمرو بن العاص: فلما طعن عمر بن الخطاب قلت: هو ما قال القبطى، فلما حدثت أنه إنما قتله رجل نصرانى «1» قلت: لم يعن هذا، إنما عنى من قتله المسلمون، فلما قتل عثمان، رضى الله عنه، عرفت أن ما قال الرجل حق.
قال ابن عبد الحكم: وقد سمعت فى فتح القصر وجها غير هذا، ثم ذكر عن نفر سمى منهم قال: وبعضهم يزيد على بعض فى الحديث أن عمرو بن العاص حصرهم فى القصر الذى يقال له: باب اليون حينا، وقاتلهم قتالا شديدا، يصبحهم ويمسيهم، فلما أبطأ عليه الفتح كتب إلى عمر بن الخطاب يستمده، فأمده عمر بأربعة آلاف رجل، على كل ألف منهم رجل يقوم مقام ألف: الزبير بن العوام «2» ، والمقداد بن عمرو»
، وعبادة
__________
(1) هو: أبو لؤلؤة، غلام المغيرة بن شعبة. راجع مقتل عمر بن الخطاب، رحمه الله، من هذا الجزء.
(2) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (2794) ، أسد الغابة ترجمة رقم (1731) .
(3) انظر ترجمته فى: طبقات ابن سعد (3/ 1/ 144) ، طبقات خليفة (61، 67، 168) ، التاريخ الكبير (8/ 54) ، التاريخ الصغير (60، 61) ، المعارف (263) ، الجرح والتعديل (8/ 426) ، حلية الأولياء (1/ 172، 176) ، ابن عساكر (17، 66، 1) ، تهذيب الأسماء واللغات (2/ 111، 112) ، معالم الإيمان (1/ 71، 76) ، دول الإسلام (1/ 927، العقد الثمين (7/ 268) ، تهذيب التهذيب (10/ 285) ، شذرات الذهب (1/ 39) ، الإصابة ترجمة رقم (8201) ، أسد الغابة ترجمة رقم (5076) .(2/327)
ابن الصامت «1» ، ومسلمة بن مخلد «2» . وقيل: بل خارجة بن حذافة مكان مسلمة. وقال عمر بن الخطاب: «اعلم أن معك اثنى عشر ألفا، ولا يغلب اثنا عشر ألفا من قلة» .
وذكر الليث عن يزيد بن أبى حبيب: أن عمر، رحمه الله، إنما أمد عمرا حين استمده بالزبير بن العوام، وبالمقداد بن عمرو، وبخارجة بن حذافة.
قال الليث بن سعد: وبلغنى عن كسرى أنه كان له رجال إذا بعث أحدهم فى جيش وضع من عدة الجيش الذى كان سمى ألفا مكانه، وإذا احتاج إلى أحدهم وكان فى جيش فجيشه زادهم ألف رجل، فأنزلت الذى صنع عمر بن الخطاب حين أمد عمرا بالزبير والمقداد وخارجة نحو الذى صنع كسرى.
وقيل: إن عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، أشفق على عمرو حين بعثه، فأرسل الزبير فى أثره فى اثنى عشر ألفا، فشهد معه الفتح. وكان عمرو قدم من الشام فى عدة قليلة، وكانت الروم قد خندقوا حول حصنهم، وجعلوا للخندق أبوابا، ورموا فى أفنيتها حسك الحديد، فكان عمرو يفرق أصحابه ليرى العدو أنهم أكثر مما هم، فلما انتهى إلى الخندق نادوه: أن قد رأينا ما صنعت، وإنما معك من أصحابك كذا وكذا، فلم يخطئوا برجل واحد. فبينا هو على ذلك إذ جاءه خبر الزبير، فلما قدم المدد مع الزبير على عمرو ابن العاص ألح على القصر ووضع عليه المنجنيق. وقد كان عمرو دخل إلى صاحب القصر فتناظرا فى شىء مما هم فيه، فقال له عمرو: أخرج وأستشير أصحابى، فدس صاحب الحصن الوصية إلى الذى على الباب إذا مر به عمرو أن يلقى عليه صخرة فيقتله.
فأشعر بذلك عمرا رجل من العرب وهو يريد الخروج، فرجع عمرو إلى صاحب الحصن،
__________
(1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (4515) ، أسد الغابة ترجمة رقم (2791) .
(2) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (8007) ، أسد الغابة ترجمة رقم (4943) ، تاريخ اليعقوبى (2/ 148) ، تاريخ خليفة (195) ، فتوح البلدان (270) ، أنساب الأشراف (1/ 146) ، المعرفة والتاريخ (2/ 494) ، تاريخ الطبرى (4/ 430) ، أخبار القضاة (3/ 223) ، تاريخ أبى زرعة (1/ 189) ، مروج الذهب (1621) ، فتوح مصر (67) ، جمهرة أنساب العرب (366) ، وفيات الأعيان (7/ 215) ، المراسيل (197) ، الجرح والتعديل (8/ 265) ، مشاهير علماء الأمصار (56) ، الكامل فى التاريخ (3/ 191) ، تهذيب الكمال (3/ 1330) ، مختصر التاريخ (82) ، تجريد أسماء الصحابة (2/ 77) ، سير أعلام النبلاء (3/ 424) ، العبر (1/ 66) ، الكاشف (3/ 128) ، المعين فى طبقات المحدثين (26) ، تقريب التهذيب (2/ 249) ، النجوم الزاهرة (1/ 132) ، خلاصة تذهيب التهذيب (377) ، الولاة والقضاء (15) ، تاريخ الإسلام (2/ 242) .(2/328)
فقال له: إنى أريد أن آتيك بنفر من أصحابى حتى يسمعوا منك مثل الذى سمعت، فقال العلج فى نفسه: قتل جماعة أحب إلىّ من قتل واحد، فأرسل إلى الذى كان على الباب يأمره بالكف عن عمرو رجاء أن يأتيه بأصحابه فيقتلهم، فخرج عمرو ولم يعد.
وفى حصار المسلمين هذا الحصن كان عبادة بن الصامت يوما فى ناحية يصلى وفرسه عنده، فرآه قوم من الروم، فخرجوا إليه وعليهم حلية وبزة، فلما دنوا منه سلم من صلاته، ووثب على فرسه، ثم حمل عليهم، فلما رأوه غير مكذب عنهم ولوا راجعين، واتبعهم، فجعلوا يلقون مناطقهم ومتاعهم ليشغلوه بذلك عن طلبهم، ولا يلتفت إليه حتى دخلوا الحصن، ورمى عبادة من فوق الحصن بالحجارة، فرجع ولم يعرض لشىء مما كانوا طرحوا من متاعهم، حتى أتى موضعه الذى كان به، فاستقبل الصلاة، وخرج الروم إلى متاعهم يجمعونه.
ولما أبطأ الفتح على عمرو بن العاص قال الزبير: إنى أهب نفسى لله وأرجو أن يفتح الله بذلك على المسلمين، فوضع سلما إلى جانب الحصن ثم صعد، وأمرهم إذا سمعوا تكبيره أن يجيبوه جميعا، فما شعروا إلا والزبير على رأس الحصن يكبر معه السيف، وتحامل الناس على السلم حتى نهاهم عمرو خوفا من أن ينكسر. ولما اقتحم الزبير وتبعه من تبعه وكبر، وكبر من معه وأجابهم المسلمون من خارج، لم يشك أهل الحصن أن العرب قد اقتحموه جميعا، فهربوا، وعمد الزبير وأصحابه إلى باب الحصن ففتحوه، واقتحمه المسلمون، فلما خاف المقوقس على نفسه ومن معه سأل عمرو بن العاص الصلح ودعاه إليه، على أن يفرض للعرب على القبط دينارين دينارين على كل رجل منهم، فأجابه عمرو إلى ذلك.
وكان مكثهم على باب القصر حتى فتحوه سبعة أشهر فيما روى عن الليث.
قال ابن عبد الحكم: وقد سمعت فى فتح القصر وجها آخر مخالفا للحديثين المتقدمين، فالله أعلم.
ثم أورد بإسناد يرفعه إلى جماعة من التابعين، يزيد بعضهم على بعض، أن المسلمين لما حاصروا باب اليون وكان به جماعة من الروم وأكابر القبط ورؤسائهم وعليهم المقوقس فقاتلوهم بها شهرا، فلما رأى القوم الجد منهم على فتحه والحرص ورأوا من صبرهم على القتال ورغبتهم فيه خافوا أن يظهروا عليهم، فتنحى المقوقس وجماعة من أكابر القبط، وخرجوا من باب القصر القبلى ودونهم جماعة يقاتلون العرب، فلحقوا بالجزيرة، موضع الصناعة اليوم، وأمروا بقطع الجسر، وذلك فى جرى النيل.(2/329)
وزعم بعض مشايخ أهل مصر أن الأعيرج تخلف فى الحصن بعد المقوقس، وهو رجل من الروم كان واليا على الحصن تحت يدى المقوقس، وكانت سفنهم ملصقة بالحصن، فلما خاف الأعيرج فتح الحصن ركبها هو وأهل القوة والشرف ثم لحقوا بالمقوقس بالجزيرة.
قال أصحاب الحديث من التابعين: فأرسل المقوقس إلى عمرو: إنكم قوم قد ولجتم فى بلادنا وألححتم على قتالنا، وطال مكثكم فى أرضنا، وإنما أنتم عصبة يسيرة وقد أظلتكم الروم معهم العدة والسلاح، وأحاط بكم هذا النيل، وإنما أنتم أسارى فى أيدينا، فابعثوا إلينا رجالا منكم نسمع من كلامهم، فلعله أن يأتى الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبون ونحب، وينقطع عنا وعنكم هذا القتال قبل أن تغشاكم جموع الروم فلا ينفعنا الكلام ولا نقدر عليه، ولعلكم أن تندموا إن كان الأمر مخالفا لطلبتكم ورجائكم.
فلما أتت عمرو بن العاص رسل المقوقس بهذا حبسهم عنده يومين وليلتين حتى خاف عليهم المقوقس، فقال لأصحابه: أترون أنهم يقتلون الرسل ويحبسونهم ويستحلون ذلك فى دينهم؟ وإنما أراد عمرو أن يروا حال المسلمين، ثم رد عمرو إلى المقوقس رسله، وقال لهم: إنه ليس بينى وبينكم إلا إحدى ثلاث خصال: إما دخلتم فى الإسلام فكنتم إخواننا، وكان لكم ما لنا، وإما أبيتم فأعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وإما جاهدناكم بالصبر والقتال حتى يحكم الله بيننا وبينكم وهو خير الحاكمين.
فلما جاؤا إلى المقوقس قال لهم: كيف رأيتم؟ قالوا: رأينا قوما الموت أحب إلى أحدهم من الحياة، والتواضع أحب إليه من الرفعة، ليس لأحدهم فى الدنيا رغبة ولا نهمة، إنما جلوسهم على التراب، وأكلهم على ركبهم، وأميرهم كواحد منهم، ما يعرف رفيعهم من وضيعهم ولا السيد فيهم من العبد، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها أحد منهم، يغسلون بالماء أطرافهم، ويخشعون فى صلاتهم.
فقال عند ذلك المقوقس: والذى يحلف به لو أن هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها وما يقوى على قتال هؤلاء أحد، ولئن لم نغتنم صلحهم اليوم وهم محصورون بهذا النيل لم يجيبونا بعد اليوم إذا أمكنتهم الأرض وقووا على الخروج من موضعهم.
فرد إليهم المقوقس رسله: أن ابعثوا إلينا رسلا منكم نعاملهم ونتداعى نحن وهم إلى ما عساه أن يكون فيه صلاح لنا ولكم.
فبعث عمرو بن العاص عشرة نفر أحدهم عبادة بن الصامت، وأمره عمرو أن يكون(2/330)
مكلم القوم وأن لا يجيبهم إلى شىء دعوه إليه إلا إلى إحدى هذه الخصال الثلاث.
وكان عبادة أسود طويلا، يقول ابن غفير: أدرك الإسلام من العرب عشرة، طول كل رجل منهم عشرة أشبار، أحدهم عبادة بن الصامت. فلما ركبوا السفن إلى المقوقس ودخلوا عليه تقدم عبادة فهابه المقوقس لسوداه، فقال: نحّوا عنى هذا الأسود، وقدموا غيره يكلمنى. فقالوا جميعا: إن هذا الأسود أفضلنا رأيا وعلما، وهو سيدنا وخيرنا والمقدم علينا، وإنما نرجع جميعا إلى قوله ورأيه، وقد أمره الأمير دوننا بما أمره به، وأمرنا أن لا نخالفه.
قال: وكيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم، وإنما ينبغى أن يكون دونكم؟.
قالوا: كلا، إنه وإن كان أسود كما ترى، فإنه من أفضلنا موضعا، وأفضلنا سابقة وعقلا ورأيا، وليس ينكر السواد فينا.
فقال له المقوقس: تقدم يا أسود وكلمنى برفق فإنى أهاب سوادك، وإن اشتد كلامك علىّ ازددت لذلك هيبة.
فتقدم إليه عبادة فقال: قد سمعت مقالتك، وإن فيمن خلفت من أصحابى ألف رجل كلهم أشد سوادا منى وأفظع منظرا، ولو رأيتهم لكنت أهيب لهم منك لى، وأنا قد وليت وأدبر شبابى، وإنى مع ذلك، بحمد الله، ما أهاب مائة رجل من عدوى ولو استقبلونى جميعا، وكذلك أصحابى، وذلك أنا إنما رغبتنا وهمتنا الجهاد فى الله واتباع رضوانه، وليس غزونا عدونا ممن حارب الله لرغبة فى دنيا، ولا طلبا للاستكثار منها، إلا أن الله، عز وجل، قد أحل لنا ذلك، وجعل ما غنمنا منه حلالا، وما يبالى أحدنا أكان له قنطار من الذهب أم كان لا يملك إلا درهما؛ لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها يسد بها جوعته لليله ونهاره، وشملة يلتحفها، فإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه، وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه فى طاعة الله تعالى واقتصر على هذا الذى يتبلغ به ما كان فى الدنيا؛ لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم ورخاءها ليس برخاء، إنما النعيم والرخاء فى الآخرة، وبذلك أمرنا ربنا، وأمرنا به نبينا، وعهد إلينا أن لا تكون همة أحدنا من الدنيا إلا ما يمسك جوعته، ويستر عورته، وتكون همته وشغله فى رضى ربه وجهاده عدوه.
فلما سمع المقوقس كلامه قال لمن حوله: هل سمعتم مثل كلام هذا الرجل قط؟ لقد هبت منظره، وإن قوله لأهيب عندى من منظره، وإن هذا وأصحابه أخرجهم الله لخراب الأرض، ما أظن ملكهم إلا سيغلب على الأرض كلها. ثم أقبل على عبادة فقال: أيها(2/331)
الرجل قد سمعت مقالتك وما ذكرت عنك وعن أصحابك، ولعمرى ما بلغتم إلا بما ذكرت، وما ظهرتم على من ظهرتم عليه إلا بحبهم الدنيا ورغبتهم فيها، وقد توجه إلينا لقتالكم من جمع الروم ما لا يحصى عدده، قوم يعرفون بالنجدة والشدة، لا يبالى أحدهم من لقى ولا من قاتل، وإنا لنعلم أنكم لن تقووا عليهم، ولن تطيقونهم لضعفكم وقلتكم وقد أقمتم بين أظهرنا أشهرا وأنتم فى ضيق وشدة من معاشكم وحالكم، ونحن نرق عليكم لضعفكم وقلتكم وقلة ما بأيديكم، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين دينارين، ولأميركم مائة دينار، ولخليفتكم ألف دينار، فتقبضوها وتنصرفوا إلى بلادكم، قبل أن يغشاكم ما لا قبل لكم به.
فقال عبادة بن الصامت: يا هذا لا تغرن نفسك ولا أصحابك، أما ما تخوفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم، وأنا لا نقوى عليهم، فلعمرى ما هذا بالذى يخوفنا، ولا بالذى يكسرنا عما نحن فيه، إن كان ما قلتم حقا فذلك والله أرغب ما يكون فى قتالكم، وأشد لحرصنا عليكم؛ لأن ذلك أعذر لنا عند ربنا إذا قدمنا عليه، وإن قتلنا من آخرنا كان أمكن لنا فى رضوانه وجنته، وما من شىء أقر لأعيننا ولا أحب إلينا من ذلك، وإنا منكم حينئذ على إحدى الحسنيين: إما أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم، أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا، وإنها لأحب الخصلتين إلينا بعد الاجتهاد منا، وإن الله عز وجل قال لنا فى كتابه: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: 249] ، وما منا من رجل إلا وهو يدعو ربه صباحا ومساء أن يرزقه الله الشهادة وألا يرده إلى بلاده ولا إلى أرضه ولا إلى أهله وولده، وليس لأحد منا همّ فيما خلفه، وقد استودع كل واحد منا ربه فى أهله وولده، وإنما همنا ما أمامنا، وأما قولك: إنا فى ضيق وشدة من معاشنا وحالنا، فنحن فى أوسع السعة، لو كانت الدنيا كلها لنا ما أردنا منها لأنفسنا أكثر مما نحن عليه، فانظر الذى تريد فبينه لنا، فليس بيننا وبينك خصلة نقبلها منك ولا نجيبك إليها إلا خصلة من ثلاث، فاختر أيها شئت ولا تطمع نفسك بالباطل، بذلك أمرنى الأمير، وبه أمره أمير المؤمنين، وهو عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل إلينا: إما أجبتم إلى الإسلام الذى هو الدين الذى لا يقبل الله غيره، وهو دين أنبيائه ورسله وملائكته، أمرنا أن نقاتل من خالفه ورغب عنه حتى يدخل فيه، فإن فعل كان له ما لنا وعليه ما علينا، وكان أخانا فى دين الله، فإن قبلت ذلك أنت وأصحابك فقد سعدتم فى الدنيا والآخرة، ورجعنا عن قتالكم، ولم نستحل أذاكم ولا التعرض لكم، وإن أبيتم إلا الجزية فأدوا إلينا الجزية عن يد وأنتم(2/332)
صاغرون، نعاملكم على شىء نرضى به نحن وأنتم فى كل عام أبدا ما بقينا وبقيتم، ونقاتل عنكم من ناوأكم وعرض لكم فى شىء من أرضكم ودمائكم وأموالكم، ونقوم بذلك عنكم إذ كنتم فى ذمتنا، وكان لكم به عهد علينا، وإن أبيتم فليس بيننا وبينكم إلا المحاكمة بالسيف حتى نموت من آخرنا أو نصيب ما نريد منكم. هذا ديننا الذى ندين الله تعالى به، ولا يجوز لنا فيما بيننا وبينكم غيره، فانظروا لأنفسكم.
فقال له المقوقس: هذا ما لا يكون أبدا، ما تريدون إلا أن تتخذونا عبيدا ما كانت الدنيا!.
فقال له عبادة: هو ذلك فاختر ما شئت!.
فقال له المقوقس: أفلا تجيبوننا إلى خصلة غير هذه الخصال الثلاث؟.
فرفع عبادة يديه فقال: لا ورب هذه السماء، ورب هذه الأرض، وربنا، ورب كل شىء، ما لكم عندنا خصلة غيرها، فاختاروا لأنفسكم.
فالتفت المقوقس عند ذلك إلى أصحابه، فقال: قد فرغ القوم، فماذا ترون؟.
فقالوا: أو يرضى أحد بهذا الذل؟ أما ما أرادوا من دخولنا فى دينهم فهذا ما لا يكون أبدا، أن نترك دين المسيح ابن مريم وندخل فى دين غيره لا نعرفه، وأما ما أرادوا أن يسبونا ويجعلونا عبيدا فالموت أيسر من ذلك، لو رضوا منا أن نضعف لهم ما أعطيناهم مرارا كان أهون علينا.
فقال المقوقس لعبادة: قد أتى القوم «1» فما ترى؟ فراجع أصحابك «2» على أن نعطيكم فى مرتكم هذه ما تمنيتم وتنصرفوا.
فقام عبادة وأصحابه، فقال المقوقس عند ذلك لمن حوله: أطيعونى وأجيبوا القوم إلى خصلة من هذه الثلاث، فو الله ما لكم بهم طاقة، ولئن لم تجيبوا إليها طائعين لتجيبنهم إلى ما هو أعظم كارهين.
فقالوا: وأى خصلة نجيبهم إليها؟.
قال: أنا أخبركم، أما دخولكم فى غير دينكم فلا آمركم به، وأما قتالكم فأنا أعلم أنكم لن تقووا عليهم، ولن تصبروا صبرهم، ولا بد من الثالثة.
__________
(1) فى ابن عبد الحكم: قد أبى القوم.
(2) فى ابن عبد الحكم: صاحبك.(2/333)
قالوا: فنكون لهم عبيدا أبدا؟.
قال: نعم، أن تكونوا عبيدا منبسطين «1» فى بلادكم، آمنين على أنفسكم وأموالكم وذراريكم، خير لكم من أن تموتوا من آخركم، أو تكونوا عبيدا تباعون وتمزقون فى البلاد مستعبدين أبدا أنتم وأهلكم وذراريكم.
قالوا: فالموت أهون علينا، وأمروا بقطع الجسر من الفسطاط والجزيرة، وبالقصر من القبط والروم جمع كثير.
فألح المسلمون عند ذلك بالقتال على من فى القصر، حتى ظفروا بهم وأمكن الله منهم، فقتل منهم خلق كثير، وأسر من أسر، وانحازت السفن كلها إلى الجزيرة، وصار المسلمون قد أحدق بهم الماء من كل جهة لا يقدرون على أن يتقدموا نحو الصعيد ولا إلى غير ذلك من المدائن والقرى، والمقوقس يقول لأصحابه: ألم أعلمكم هذا وأخفه عليكم؟ ما تنتظرون، فو الله لتجيبن إلى ما أرادوا طوعا أو لتجيبنهم إلى ما هو أعظم كرها، فأطيعونى من قبل أن تندموا.
فلما رأوا منهم ما رأوا، وقال لهم المقوقس ما قال، أذعنوا بالجزية، ورضوا بها على صلح يكون بينهم يعرفونه.
فأرسل المقوقس إلى عمرو بن العاص: أنى لم أزل حريصا على إجابتك إلى خصلة من الخصال التى أرسلت إلىّ بها فأبى ذلك علىّ من حضرنى من الروم والقبط، فلم يكن لى أن أفتات عليهم فى أموالهم، وقد عرفوا نصحى لهم وحبى صلاحهم فرجعوا إلى قولى، فأعطنى أمانا أجتمع أنا وأنت، أنا فى نفر من أصحابى، وأنت فى نفر من أصحابك، فإن استقام الأمر بيننا تم ذلك لنا جميعا، وإن لم يتم رجعنا إلى ما كنا عليه.
فاستشار عمرو أصحابه فى ذلك، فقالوا: لا نجيبهم إلى شىء من الصلح ولا الجزية حتى يفتح الله علينا، وتصير كلها لنا فيئا وغنيمة كما صار لنا القصر وما فيه.
فقال عمرو: قد علمتم ما عهد إلىّ أمير المؤمنين فى عهده، فإن أجابوا إلى خصلة من الخصال الثلاث التى عهد إلىّ فيها أجبتم إليها وقبلت منهم، مع ما قد حال هذا الماء بيننا وبين ما نريد من قتالهم.
فاجتمعوا على عهد بينهم، واصطلحوا على أن يفرض على جميع من بمصر أعلاها
__________
(1) فى ابن عبد الحكم: مسلطين.(2/334)
وأسفلها من القبط دينارين دينارين، على كل نفس، شريفهم ووضيعهم، ومن بلغ الحلم منهم، وليس على الشيخ الفانى، ولا على الصغير الذى لم يبلغ الحلم، ولا على النساء شىء. وعلى أن للمسلمين عليهم النزل بجماعتهم حيث نزلوا، ومن نزل عليه ضيف واحد من المسلمين أو أكثر من ذلك كانت لهم ضيافة ثلاثة أيام مفترضة عليهم، وأن لهم أرضهم وأموالهم لا يعرض لهم فى شىء منها، فشرط هذا كله على القبط خاصة.
وأحصوا عدد القبط من بلغ منهم الجزية ومن فرض عليهم الديناران. رفع ذلك عرفاؤهم بالأيمان المؤكدة، فكان جميع من أحصى يومئذ بمصر أعلاها وأسفلها من جميع القبط أكثر من ستة آلاف ألف نفس، فكانت فريضتهم يومئذ اثنى عشر ألف ألف دينار فى كل سنة.
وعن يحيى بن ميمون الحضرمى قال: لما فتح عمرو بن العاص مصر صالح عن جميع ما فيها من رجال القبط، ممن راهق الحلم إلى ما فوق ذلك، ليس فيهم امرأة ولا شيخ ولا صبى، فأحصوا بذلك على دينارين دينارين، فبلغت عدتهم ثمانية آلاف ألف.
وفى الحديث المتقدم الطويل: أن المقوقس شرط للروم أن يخيروا، فمن أحب منهم أن يقيم على مثل هذا أقام لازما له ذلك مفترضا عليه، مما أقام بالإسكندرية وما حولها من أرض مصر كلها، ومن أراد الخروج منها إلى أرض الروم خرج، وعلى أن للمقوقس الخيار فى الروم خاصة حتى يكتب إلى ملك الروم يعلمه ما فعل، فإن قبل ذلك ورضيه جاز عليهم وإلا كانوا جميعا على ما كانوا عليه.
وكتب المقوقس إلى ملك الروم يعلمه بالأمر على وجهه، فكتب إليه ملك الروم يقبح رأيه ويعجزه، ويرد عليه ما فعل ويقول فى كتابه:
إنما أتاك من العرب اثنا عشر ألفا، وبمصر من عدد القبط ما لا يحصى، فإن كان القبط كرهوا القتال وأحبوا أداء الجزية إلى العرب واختاروهم علينا فإن عندك بمصر من الروم وبالإسكندرية ومن معك أكثر من مائة ألف، معهم العدة والقوة، والعرب وحالهم وضعفهم على ما قد رأيت، فعجزت عن قتالهم، ورضيت أن تكون أنت ومن معك من الروم أذلاء فى حال القبط، ألا قاتلتهم أنت ومن معك من الروم حتى تموت أو تظفر عليهم، فإنهم فيكم على قدر كثرتكم وقوتكم وعلى قدر قلتهم وضعفهم كأكلة، فناهضهم القتال ولا يكن لك رأى غير ذلك.
وكتب ملك الروم بمثل ذلك كتابا إلى جماعة الروم.(2/335)
فقال المقوقس لما أتاه كتابه: والله إنهم على قلتهم وضعفهم أقوى وأشد منا على كثرتنا وقوتنا، إن الرجل الواحد منهم ليعدل مائة رجل منا، وذلك أنهم قوم الموت أحب إليهم من الحياة، يقاتل الرجل منهم وهو مستقتل، يتمنى أن لا يرجع إلى أهله ولا بلده، ولا ولده، ويرون أن لهم أجرا عظيما فيمن قتلوا منا، ويقولون إنهم إن قتلوا دخلوا الجنة، وليس لهم رغبة فى الدنيا ولا لذة إلا قدر بلغة العيش من الطعام واللباس، ونحن قوم نكره الموت ونحب الحياة ولذتها، فكيف نستقيم نحن وهؤلاء، وكيف صبرنا معهم، واعلموا معشر الروم أنى والله لا أخرج مما دخلت فيه وصالحت العرب عليه، وأنى لأعلم أنكم سترجعون غدا إلى قولى ورأيى، وتتمنون أن لو كنتم أطعمتونى، وذلك أنى قد عانيت ورأيت وعرفت ما لم يعاين الملك ولم يره ولم يعرفه، ويحكم أما يرضى أحدكم أن يكون آمنا فى دهره على نفسه وماله وولده بدينارين فى السنة؟.
ثم أقبل المقوقس إلى عمرو بن العاص فقال له: إن الملك قد كره ما فعلت وعجزنى، وكتب إلىّ وإلى جماعة الروم أن لا نرضى بمصالحتك، أمرهم بقتالك حتى يظفروا بك أو تظفر بهم، ولم أكن لأخرج مما دخلت فيه وعاقدتك عليه، وإنما سلطانى على نفسى ومن أطاعنى، وقد تم صلح القبط فيما بينك وبينهم، ولم يأت من قبلهم نقض وأنا متم لك على نفسى، والقبط متمون لك على الصلح الذى صالحتهم عليه وعاهدتهم، وأما الروم فأنا منهم برىء، وأنا أطلب إليك أن تعطينى ثلاث خصال.
قال عمرو: وما هن؟.
قال: لا تنقض بالقبط، وأدخلنى معهم وألزمنى ما لزمهم، فقد اجتمعت كلمتى وكلمتهم على ما عاهدتك عليه وهم متمون لك على ما تحب. وأما الثانية: إن سألك الروم بعد اليوم أن تصالحهم فلا تصالحهم حتى تجعلهم فيئا وعبيدا، فإنهم أهل لذلك؛ لأنى نصحتهم فاستغشونى، ونظرت لهم فاتهمونى. وأما الثالثة: أطلب إليك أن إذا مت أن تأمرهم يدفنونى فى أبى يحنس بالإسكندرية.
فأنعم له عمرو بن العاص بذلك وأجابه إلى ما طلب، على أن يضمنوا له الجسرين جميعا، ويقيموا لهم الأنزال والضيافة والأسواق والجسور ما بين الفسطاط إلى الإسكندرية، ففعلوا.
ويقال: إن المقوقس إنما صالح عمرو بن العاص على الروم وهو محاصر الإسكندرية، وبعد أن حصر أهلها ثلاثة أشهر وألح عليهم وخافوه، فسأله المقوقس الصلح عنهم، كما(2/336)
صالحه على القبط، على أن يستنظر رأى الملك وعلى أن يسير من الروم من أراد المسير، ويقر من أراد الإقامة، فأنكر ذلك هرقل لما بلغه أشد الإنكار، وتسخط أشد التسخط، وبعث الجيوش، فأغلقوا الإسكندرية وآذنوا عمرو بن العاص بالحرب، فخرج إليه المقوقس فقال: أسألك ثلاثا، وذكر نحو ما تقدم، وزاد أن عمرا قال فى الثالثة التى هى أن يدفن فى أبى يحنس: هذه أهونهن علينا.
ثم رجع إلى الحديث الأول، قال: فخرج عمرو بن العاص بالمسلمين حين أمكنهم الخروج، وخرج معه جماعة من رؤساء القبط قد أصلحوا لهم الطريق وأقاموا لهم الجسور والأسواق، وصارت لهم القبط أعوانا على ما أرادوا من قتال الروم، وسمعت بذلك الروم فاستعدت واستجاشت، وقدمت عليهم مراكب كثيرة من أرض الروم، فيها جمع من الروم كثير بالعدة والسلاح، فخرج إليهم عمرو بن العاص من الفسطاط متوجها نحو الإسكندرية، فلم يلق منهم أحدا حتى بلغ ترنوط «1» ، فلقى فيها طائفة من الروم فقاتلوه قتالا خفيفا فهزمهم الله، ومضى عمرو بمن معه حتى لقى جمع الروم بكوم شريك، فاقتتلوا به ثلاثة أيام ثم فتح الله للمسلمين وولى الروم أكتافهم.
ويقال: بل أرسل عمرو بن العاص، شريك بن سمى فى آثارهم، فأدركهم عند الكوم الذى يقال له كوم شريك، فقاتلهم شريك فهزمهم.
ويقال: بل لقيهم فألجأوه إلى الكوم فاعتصم به، وأحاطت به الروم، فلما رأى ذلك شريك أمر أبا ناعمة الصدفى «2» ، وهو صاحب الفرس الأشقر الذى يقال له: أشقر صدف، وكان لا يجارى، فانحط عليهم من الكوم، وطلبته الروم فلم تدركه، حتى أتى عمرا فأخبره، فأقبل عمرو نحوه. وسمعت به الروم فانصرفت، وبهذا الفرس سميت خوخة الأشقر التى بمصر، وذلك أنه نفق فدفنه صاحبه هناك، فسمى المكان به.
قال: ثم التقوا بسلطيس «3» فاقتتلوا بها قتالا شديدا، فهزمهم الله، ثم التقوا بالكريون «4» فاقتتلوا بها بضعة عشر يوما.
__________
(1) ترنوط: قرية كانت بين مصر والإسكندرية، أشار ياقوت إلى أنها قرية كبيرة جامعة على النيل، فيها أسواق ومعاصر للسكر وبساتين، وأكثر فواكه الإسكندرية منها. انظر: معجم البلدان (2/ 27) .
(2) هو: أبو ناعمة مالك بن ناعمة الصدفى.
(3) سلطيس: قرية من قرى مصر القديمة، كان أهلها أعانوا على عمرو بن العاص فسباهم. انظر: معجم البلدان (3/ 236) .
(4) كريون: موضع قرب الإسكندرية. انظر: معجم البلدان (4/ 458، 459) .(2/337)
وكان عبد الله بن عمرو على المقدمة، وحامل اللواء يومئذ وردان مولى عمرو، فأصابت عبد الله بن عمرو جراحات كثيرة، فقال: يا وردان لو تقهقرت قليلا لنصيب الروح. فقال وردان: الروح أمامك وليس هو خلفك. فتقدم عبد الله، وجاء رسول أبيه يسأله عن جراحه، فأنشأ يقول:
أقول إذا ما النفس جاشت ألا أصبرى ... عليك قليلا تحمدى أو تلامى
فرجع الرسول فأخبره بما قال. فقال عمرو: هو ابنى حقا.
وصلى يومئذ عمرو صلاة الخوف، فحدث شيخ صلاها معه بالإسكندرية: أنه صلى بكل طائفة ركعة وسجدتين.
قال: ثم فتح الله على المسلمين، وقتلوا من الروم مقتلة عظيمة، واتبعوهم حتى بلغوا الإسكندرية فتحصنوا بها، وكانت عليهم حصون لا ترام، حصن دون حصن، فنزل المسلمون ما بين حلوة إلى قصر فارس إلى ما وراء ذلك، ومعهم رؤساء القبط يمدونهم بما احتاجوا إليه من الأطعمة والعلوفة، ورسل ملك الروم تختلف إلى الإسكندرية فى المراكب بمادة الروم.
ويروى أن عمرا أقام بحلوة شهرين ثم تحول إلى المقس، فخرجت عليه الخيل من ناحية البحيرة حيث كانت مستترة بالحصن فواقعوه، فقتل من المسلمين يومئذ بكنيسة الذهب اثنا عشر رجلا، ولم يكن للروم كنائس أعظم من كنائس الإسكندرية، وإنما كان عيد الروم حين غلبت العرب على الشام بالإسكندرية، فكان ملك الروم يعظم ظهور العرب عليها ويقول: لئن غلبوا على الإسكندرية لقد هلكت الروم، وانقطع ملكها، وتجهز للخروج إليها ليباشر قتالها بنفسه إعظاما لها، وأمر أن لا يتخلف عنه أحد من الروم، وقال: ما بقاء الروم بعد الإسكندرية؟ فلما فرغ من جهازه صرعه الله فأماته وكفى المسلمين مؤنته. وكان موته فى سنة تسع عشرة، وقيل: سنة عشرين، فكسر الله بموته شوكة الروم.
ورجع جمع كبير ممن كان قد توجه إلى الإسكندرية، واستأسدت العرب عند ذلك وألحت بالقتال على أهل الإسكندرية، فقاتلوهم قتالا شديدا، وخرج طرف من الروم من باب حصنها فحملوا على الناس وقتلوا رجلا من مهرة فاحتزوا رأسه وانطلقوا به، فجعل المهريون يتغضبون ويقولون: لا ندفنه أبدا إلا برأسه. فقال عمرو بن العاص: تتغضبون كأنكم تتغضبون على من يبالى بغضبكم، احملوا على القوم إذا خرجوا فاقتلوا رجلا منهم(2/338)
وارموا برأسه يرموا برأس صاحبكم، فخرجت الروم عليهم فاقتتلوا، فقتل رجل من بطارقة الروم، فاحتزوا رأسه، فرموا به إلى الروم، فرمت الروم برأس المهرى إليهم، فقال:
دونكم الآن فادفنوا صاحبكم.
وكان عمرو بن العاص يقول: ثلاث قبائل فى مصر: أما مهرة فقوم يقتلون ولا يقتلون، وأما غافق فقوم يقتلون ولا يقتلون، وأما بلى فأكثرها رجلا صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضلها فارسا.
وقاتل عمر بن العاص الروم بالإسكندرية يوما من الأيام قتالا شديدا، فلما استحر القتال بارز رجل من الروم مسلمة بن مخلد فصرعه الرومى، وألقاه عن فرسه، وأهوى إليه بسيفه ليقتله حتى حماه رجل من أصحابه. وكان مسلمة لا يقام بسبيله ولكنها مقادير، ففرحت بذلك الروم وشق ذلك على المسلمين، وغضب عمرو بن العاص فقال:
وكان مسلمة كثير اللحم ثقيل البدن: ما بال الرجل المسبّه «1» الذى يشبه النساء يتعرض فيداخل الرجال ويتشبه بهم؟ فغضب مسلمة ولم يراجعه، ثم اشتد القتال حتى اقتحموا حصن الإسكندرية فقاتلهم العرب فى الحصن، ثم جاشت عليهم الروم حتى أخرجوهم جميعا من الحصن إلا أربعة نفر فيهم عمرو بن العاص ومسلمة بن مخلد، أغلق الروم عليهم باب الحصن وحالوا بينهم وبين أصحابهم ولا يدرون من هم.
فلما رأى ذلك عمرو وأصحابه لجأوا إلى ديماس من حماماتهم فتحرزوا به فأمرت الروم روميا فكلمهم بالعربية فقال لهم: إنكم قد صرتم بأيدينا أسارى فاستأسروا ولا تقتلوا أنفسكم فامتنعوا ثم قال لهم: إن فى أيدى أصحابكم منا رجالا أسروهم ونحن نعطيكم العهود أن نفادى بكم أصحابنا ولا نقتلكم، فأبوا عليهم.
فلما رأى الرومى ذلك منهم قال لهم: هل لكم إلى خصلة وهى نصف فيما بيننا وبينكم: أن تعطونا العهد ونعطيكم مثله على أن يبرز منكم رجل ومنا رجل، فإن غلب صاحبنا صاحبكم استأسرتم لنا، وأمكنتمونا من أنفسكم، وإن غلب صاحبكم صاحبنا خلينا سبيلكم إلى أصحابكم. فرضوا بذلك وتعاهدوا عليه، فبرز رجل من الروم قد وثقت الروم بنجدته وشدته، وقالوا لعمرو وأصحابه وهم فى الديماس ليبرز رجل منكم لصاحبنا فأراد عمرو أن يبرز فمنعه مسلمة وقال: يا هذا تخطئ مرتين، تشذ من
__________
(1) السبه: محركه، ذهاب العقل من الهرم. انظر: القاموس المحيط للفيروزابادى (4/ 284) . لسان العرب لابن منظور (3/ 1932) .(2/339)
أصحابك وأنت أميرهم وإنما قوامهم بك وقلوبهم معلقة نحوك لا يدرون ما أمرك، ثم لا ترضى حتى تبارز وتتعرض للقتل، فإن قتلت كان ذلك بلاء على أصحابك؟ مكانك وأنا أكفيك إن شاء الله! قال عمرو: دونك فربما فرجها الله بك، فبرز مسلمة والرومى فتجاولا ساعة ثم أعانه الله عليه فقتله، فكبر مسلمة وأصحابه، ووفى لهم الروم بما عاهدوهم عليه، ففتحوا لهم باب الحصن فخرجوا ولا تدرى الروم أن أمير القوم فيهم، حتى بلغهم ذلك فأسفوا وأكلوا أيديهم تغيظا على ما فاتهم، فلما خرجوا استحيى عمرو مما كان قال لمسلمة حين غضب، وسأله أن يستغفر له، ففعل مسلمة وقال عمرو: والله ما أفحشت قط إلا ثلاث مرات، مرتين فى الجاهلية وهذه الثالثة، وما منها مرة إلا وقد ندمت واستحييت وما استحييت من واحدة منهن أشد مما استحييت مما قلت لك والله إنى لأرجو أن لا أعود إلى الرابعة ما بقيت.
قال ابن لهيعة: وأخبرنى بعض أشياخنا أن عبد العزيز بن مروان لما قدم الإسكندرية سنة ثمانين سأل: هل بقى بالإسكندرية أحد ممن أدرك فتحها؟ فأتوه بشيخ من الروم من أكابر أهل الإسكندرية يومئذ فأعلموه أنه أدرك فتحها وهو رجل، فسأله عن أعجب ما رأى يومئذ من المسلمين. فقال: أخبرك أيها الأمير أنه كان لى صديق من أبناء بطارقة الروم يومئذ منقطع إلىّ، وأنه أتانى فسألنى أن أركب معه حتى ننظر إلى المسلمين وإلى حالهم وهيئتهم، وهم إذ ذاك محاصرون الإسكندرية، فخرجت معه وهو على برذون له كثير اللحم وأنا على برذون خفيف، فلما خرجنا من الحصن الثالث وقفنا على كوم مشرف ننظر إلى العرب، وإذا هم فى خيام لهم وعلى باب كل خيمة فرس واقف ورمح مركوز، ورأينا قوما ضعفاء فعجبنا من ضعفهم، وقلنا: كيف بلغ هؤلاء القوم ما بلغوا؟
فبينا نحن وقوف ننظر إليهم ونعجب إذ خرج رجل منهم من بعض تلك الخيام، فلما نظر إلينا اختلع رمحه ووثب على ظهر فرسه ثم أقبل نحونا، فقلت لصاحبى: والله إنه ليريدنا! فلما رأيناه مقبلا إلينا لا يريد غيرنا ولينا هاربين، فما كان بأوشك من أن أدرك صاحبى فطعنه بالرمح فصرعه، ثم تركه صريعا وأقبل فى إثرى وأنا خائف أن لا أفلت منه حتى دخلت الحصن الأول فنجوت منه، ثم صعدت الحصن لأبصر ما يفعل، فرجع وهو يتكلم بكلام يرفع به صوته، فظننت أنه يقرأ، ثم مضى حتى اعترض برذون صاحبى فأخذه ورجع إلى صاحبى وهو صريع فأخذ سيفه وترك سلبه فلم يأخذه تهاونا به، وكانت ثيابه ديباجا كلها، فلم يأخذها ولم ينزعها عنه.
فقال عبد العزيز بن مروان للشيخ الرومى: صف لى ذلك الرجل وشبهه ببعض من(2/340)
عندى. فأشار إلى رجل مخفف كوسج «1» فقال: هو يشبه هذا. قال عبد العزيز: نخبرك أنه يمان «2» .
وأقام عمرو يحاصر الإسكندرية أشهرا، فقال عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، لما بلغه ذلك: ما أبطأوا بفتحها إلا لما أحدثوا.
وقال أسلم مولى عمر: لما أبطأ على عمر فتح مصر كتب إلى عمرو بن العاص:
أما بعد، فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر، أنكم تقاتلونها منذ سنين، وما ذاك إلا لما أحدثتم وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم، وإن الله، تبارك وتعالى، لا ينصر قوما إلا بصدق نياتهم، وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر، وأعلمتك أن الرجل منهم مقام ألف رجل على ما كنت أعرف، إلا أن يكونوا غيرهم ما غير غيرهم، فإذا أتاك كتابى هذا فاخطب الناس وحضهم على قتال عدوهم، ورغبهم فى الصبر والنية، وقدم أولئك النفر الأربعة فى صدور الناس، ومر الناس جميعا أن تكون لهم صدمة كصدمة رجل واحد، وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة، فإنها ساعة تنزل الرحمة ووقت الإجابة، وليضج الناس إلى الله ويسألوه النصر على عدوهم.
فلما أتى عمرا الكتاب جمع الناس وقرأه عليهم، ثم دعا أولئك النفر فقدمهم أمام الناس، وأمر الناس أن يتطهروا ويصلوا ركعتين، ثم يرغبوا إلى الله ويسألوه النصر، ففعلوا، ففتح الله عليهم.
ويقال إن عمرو بن العاص استشار مسلمة بن مخلد فقال له: أشر علىّ فى قتال هؤلاء. فقال له مسلمة: أرى أن تنظر إلى رجل له معرفة وتجارب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتعقد له على الناس، فيكون هو الذى يباشر القتال ويكفيكه. قال عمرو: ومن ذلك؟ قال: عبادة بن الصامت. فدعا عمرو عبادة، فأتاه وهو راكب على فرسه، فلما دنا منه أراد النزول، فقال له عمرو: عزمت عليك أن لا تنزل، ناولنى سنام رمحك، فناوله إياه، فنزع عمرو عمامته عن رأسه وعقد له وولاه القتال، فتقدم عبادة مكانه فصاف الروم وقاتلهم، ففتح الله على يديه الإسكندرية فى يومه ذلك.
ويروى أن عمرو بن العاص قال وقد أبطأ عليه الفتح، فاستلقى على ظهره ثم جلس
__________
(1) الكوسج: أى الناقص الأسنان، والبطىء من البراذين. انظر: القاموس المحيط للفيروزابادى (1/ 204) .
(2) فى ابن عبد الحكم: « ... قال عبد العزيز عند ذلك: إنه ليصف صفة رجل يمانى» .(2/341)
فقال: إنى فكرت فى هذا الأمر فإذا هو لا يصلح آخره إلا من أصلح أوله، يريد الأنصار، فدعا عبادة بن الصامت فعقد له، ففتح الله الإسكندرية على يديه من يومه ذلك.
وقال جنادة بن أبى أمية «1» : دعانى عبادة بن الصامت يوم الإسكندرية وكان على قتالها، فأغار العدو على طائفة من الناس ولم يأذن بقتالهم، فبعثنى أحجز بينهم، فأتيتهم فحجزت بينهم ثم رجعت إليه، فقال: أقتل أحد من الناس؟ قلت: لا. قال: الحمد لله الذى لم يقتل أحد منهم عاصيا.
قالوا: وكان فتح الإسكندرية يوم الجمعة مستهل شهر المحرم من سنة عشرين.
ولما هزم الله الروم وفتحت الإسكندرية وهرب الروم فى البحر والبر، خلف عمرو ابن العاص بالإسكندرية من أصحابه ألف رجل، ومضى فى طلب من هرب فى البر من الروم، فرجع من كان هرب منهم فى البحر إلى الإسكندرية فقتلوا من كان فيها من المسلمين إلا من هرب.
وبلغ ذلك عمرو بن العاص فكر راجعا ففتحها، وأقام بها، وكتب إلى عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، أن الله قد فتح علينا الإسكندرية عنوة بغير عقد ولا عهد، فكتب إليه عمر يقبح رأيه ويأمره ألا يجاوزها.
قال ابن لهيعة: وهذا هو فتح الإسكندرية الثانى، وكان سبب فتحها أن بوابا يقال له: ابن بسامة سأل عمرا الأمان على نفسه وأرضه وأهل بيته ويفتح له الباب، فأجابه عمرو إلى ذلك وفتح له ابن بسامة الباب، فدخل عمرو من ناحية قنطرة سليمان، وكان مدخله الأول من الباب الذى من ناحية كنيسة الذهب.
وقد روى ابن لهيعة، أيضا، عن يزيد بن أبى حبيب أن فتحها الأول كان سنة إحدى وعشرين ثم انتقضوا سنة خمس وعشرين.
وجاءت الروم عليهم منويل الخصى، بعثه هرقل فى المراكب حتى أرسوا بالإسكندرية
__________
(1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (1204) ، أسد الغابة ترجمة رقم (789) ، طبقات ابن سعد (7/ 439) ، طبقات خليفة ترجمة رقم (2905) ، تاريخ البخارى (2/ 132) ، تاريخ خليفة (180) ، مقدمة مسند بقى بن مخلد (112) ، التاريخ الكبير (2/ 232) ، التاريخ الصغير (72) ، الجرح والتعديل (2/ 515) ، فتوح البلدان (278) ، تاريخ الثقات للعجلى (99) ، الثقات لابن حبان (4/ 103) ، مشتبه النسبة لعبد الغنى بن سعيد (208) .(2/342)
فأجابهم من بها من الروم، فخرج إليهم عمرو بن العاص فى البر والبحر، فقاتلهم قتالا شديدا، فهزمهم الله وقتل منويل، ولم يكن المقوقس تحرك ولا نكث.
ويقال: أن هذا انتقاض ثان للإسكندرية بعد انتقاضها الذى ذكره ابن لهيعة أولا وكان ذلك فى زمان عمر، وهذا الذى ذكر يزيد بن أبى حبيب فى خلافة عثمان، رضى الله عنهما، وسيأتى ذكره فى موضعه مستوفى إن شاء الله.
وقيل: إن جميع من قتل من المسلمين من حين كان من أمر الإسكندرية ما كان إلى أن فتحت اثنان وعشرون رجلا.
وبعث عمرو بن العاص، معاوية بن حديج «1» وافدا إلى عمر بن الخطاب يبشره بالفتح، فقال له معاوية: ألا تكتب معى؟ فقال له عمرو: ما أصنع بالكتاب، ألست رجلا عربيا تبلغ الرسالة وما رأيت وحضرته؟.
فلما قدم على عمر أخبره بفتح الإسكندرية، فخر عمر ساجدا وقال: الحمد لله.
ويروى عن معاوية بن حديج أنه قال: قدمت المدينة فى الظهيرة فأنخت راحلتى بباب المسجد، ثم دخلت المسجد، فبينا أنا قاعد فيه إذ خرجت جارية من منزل عمر بن الخطاب فرأتنى شاحبا علىّ ثياب السفر، فأتتنى فقالت: من أنت؟ فقلت: أنا معاوية بن حديج رسول عمرو بن العاص. فانصرفت عنى، ثم أقبلت تشتد، فقالت: قم فأجب أمير المؤمنين. فتبعتها، فلما دخلت إذا بعمر بن الخطاب يتناول رداءه فقال: ما عندك؟ فقلت:
خير يا أمير المؤمنين، فتح الله الإسكندرية، فخرج معى إلى المسجد فقال للمؤذن: أذن فى الناس الصلاة جامعة، فاجتمع الناس ثم قال لى: قم فأخبر أصحابك. فقمت فأخبرتهم، ثم صلى ودخل منزله واستقبل القبلة فدعا بدعوات ثم جلس فقال: يا جارية، هل من طعام؟ فأتت بخبز وزيت، فقال: كل، فأكلت على حياء، ثم قال: كل فإن المسافر يحب الطعام، فلو كنت آكلا لأكلت معك. فأصبت على حياء، ثم قال: يا جارية، هل من تمر؟ فأتت بتمر فى طبق، فقال: كل، فأكلت على حياء، ثم قال: ماذا قلت يا معاوية حين أتيت المسجد؟ قال: قلت: أمير المؤمنين قائل «2» . قال: بئس ما قلت، أو بئس ما ظننت. لئن نمت بالنهار لأضيعن الرعية، ولئن نمت الليل لأضيعن نفسى، فكيف بالنوم مع هذين يا معاوية؟.
__________
(1) انظر ترجمته فى: أسد الغابة ترجمة رقم (4980) .
(2) القائل: هو النائم فى وسط النهار. انظر: القاموس المحيط للفيروزابادى (4/ 42) .(2/343)
ثم كتب عمرو بن العاص بعد ذلك إلى عمر بن الخطاب، رضى الله عنه: أما بعد، فإنى فتحت مدينة لا أصف ما فيها، غير أنى أصبت فيها أربعة آلاف منية بأربعة آلاف حمام، وأربعين ألف يهودى عليهم الجزية، وأربعمائة ملهى للملوك.
وعن أبى قبيل أن عمرو بن العاص لما فتح الإسكندرية وجد فيها اثنى عشر ألف بقال يبيعون البقل الأخضر.
وعن غيره «1» أنه كان فيما أحصى من الحمامات اثنا عشر ديماسا أصغر ديماس منها يسع ألف مجلس، كل مجلس منها يسع جماعة نفر.
قال: وترحل من الإسكندرية فى الليلة التى دخلها عمرو بن العاص أو الليلة التى خافوا دخوله سبعون ألف يهودى، وكان عدة من بالإسكندرية من الروم مائتى ألف من الرجال، فلحق بأرض الروم أهل القوة وركبوا السفن، وكان بها مائة مركب من المراكب الكبار يحمل فيها ثلاثون ألف بما قدروا عليه من المال والمتاع والأهل، وبقى من بقى ممن يؤدى الخراج، فأحصوا يومئذ ستمائة ألف سوى النساء والصبيان.
واختلف الناس على عمرو فى قسمهم، وكان أكثرهم يريدون القسم، فقال عمرو:
لا أقدر على ذلك حتى أكتب إلى أمير المؤمنين، فكتب إليه فى ذلك، فكتب إليه عمر، رضى الله عنه: لا تقسمها، وذرهم يكون خراجهم فيئا للمسلمين وقوة لهم على جهاد عدوهم.
فأقرها عمرو وأحصى أهلها وفرض عليهم الخراج، فكانت مصر صالحا كلها بفريضة دينارين دينارين على كل رجل، لا يزاد على أحد منهم فى جزية رأسه على دينارين، غير أنه يلزم بقدر ما يتوسع فيه من الأرض والزرع، إلا الإسكندرية فإنهم كانوا يؤدون الخراج والجزية على قدر ما يرى من وليهم؛ لأن الإسكندرية فتحت عنوة لغير عهد ولا عقد، ولم يكن لهم صلح ولا ذمة.
ويقال: إن مصر كلها فتحت عنوة بغير عهد ولا عقد.
قال سفيان بن وهب الخولانى «2» : لما فتحنا مصر بغير عهد قام الزبير بن العوام فقال:
اقسمها يا عمرو. فقال: لا أقسمها. فقال الزبير: والله لتقسمنها كما قسم رسول الله
__________
(1) هو: حسين بن شفى بن عبيد.
(2) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (3343) ، أسد الغابة ترجمة رقم (2129) .(2/344)
صلى الله عليه وسلم خيبر. فقال عمرو: والله لا أقسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين. فكتب إليه فأجابه:
أقرها حتى يغدو «1» منها حبل الحبلة.
وفى حديث آخر: أن الزبير صولح على شىء أرضى به.
وحدث أبو قنان «2» ، عن أبيه أنه سمع عمرو بن العاص يقول، يعنى بمصر: لقد قعدت مقعدى هذا وما لأحد من قبط مصر علىّ عهد ولا عقد، إن شئت قتلت، وإن شئت حبست، وإن شئت بعت.
ويروى عن ربيعة نحو ما تقدم من فتح مصر بغير عهد، وأن عمر بن الخطاب حبس درها وصرها أن يخرج منه شىء نظيرا للإسلام وأهله.
وقال زيد بن أسلم «3» : كان لعمر بن الخطاب، رضى الله عنه، تابوت فيه كل عهد كان بينه وبين أحد ممن عاهده، فلم يوجد فيه لأهل مصر عهد.
ويروى أن عمرو بن العاص لما فتح مصر قال للقبط: إن من كتمنى كنزا عنده فقدرت عليه قتلته. فذكر لعمرو أن قبطيا «4» من أهل الصعيد يقال له: بطرس عنده كنز، فأرسل إليه فسأله، فأنكر، فحبسه عمرو، وسأل: هل تسمعونه يسأل عن أحد؟ فقالوا:
سمعناه يسأل عن راهب بالطور، فأخذ خاتم بطرس وكتب على لسانه بالرومية إلى ذلك الراهب: أن ابعث إلىّ بما عندك، وختم بخاتمه، فجاء الرسول من عند الراهب بقلة شامية مختومة بالرصاص، فوجد فيها صحيفة مكتوب فيها: يا بنى، إن أردتم ما لكم فافتحوا تحت الفسقية الكبيرة. فأرسل عمرو إلى الفسقية فحبس عنها الماء، وقلع البلاط الذى تحتها، فوجد فيها اثنين وخمسين أردبا ذهبا مضروبة، فضرب عمرو رأس القبطى عند باب المسجد، فأخرج القبط كنوزهم خشية أن يقتلوا.
وروى يزيد بن أبى حبيب أن عمرو بن العاص استحل مال قبطى كان يظهر الروم على عورات المسلمين ويكتب إليهم بذلك، فاستخرج منه بضعة وخمسين أردبا دنانير.
وقال ابن شهاب: كان فتح مصر بعضها بعهد وذمة وبعضها عنوة. فجعل عمر بن
__________
(1) فى ابن عبد الحكم: يغزو.
(2) هو: أيوب بن أبى العالية.
(3) انظر ترجمته فى: الجرح والتعديل (3/ 2509) ، الإصابة ترجمة رقم (2883) ، أسد الغابة ترجمة رقم (1821) .
(4) فى ابن عبد الحكم: نبطيا.(2/345)
الخطاب جميعها ذمة، وحملهم على ذلك، فجرى ذلك فيهم إلى اليوم.
وفى كتاب سيف عمن سمى من أشياخه «1» فى فتح مصر مساق آخر غير ما تقدم، وذلك أن عمرو بن العاص خرج إلى مصر بعد ما رجع عمر إلى المدينة، يعنى رجوعه من الشام، فانتهى عمرو إلى باب مصر، وأتبعه الزبير فاجتمعا، فلقيهم هناك أبو مريم جاثليق «2» مصر ومعه الأسقف فى أهل النيات، بعثهم المقوقس لمنع بلادهم.
فلما نزل بهم عمرو قاتلوه، فأرسل إليهم عمرو: لا تعجلونا لنعذر إليكم، وتروا رأيكم بعد، فكفوا أصحابهم، فأرسل إليهم عمرو: إنى بارز فليبرز لى أبو مريم وأبو مريام، فأجابوه إلى ذلك وآمن بعضهم بعضا. فقال لهما عمرو: أنتما راهبا أهل هذه البلدة فاسمعا: إن الله بعث محمدا بالحق وأمره به، وأمرنا به محمد، وأدى إلينا كل الذى أمر به، ثم مضى، صلوات الله عليه، وقد قضى الذى عليه وتركنا على الواضحة، وكان مما أمرنا به الإعذار إلى الناس، فنحن ندعوكم إلى الإسلام، فمن أجابنا إليه قبلنا منه وكان مثلنا، ومن لم يجبنا إليه عرضنا عليه الجزية، وبذلنا له المنعة، وقد أعلمنا أنا مفتتحوكم، وأوصانا بكم حفظا لرحمنا فيكم، وإن لكم إن أجبتمونا إلى ذلك ذمة إلى ذمة، ومما عهد إلينا أميرنا: استوصوا بالقبطيين خيرا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بالقبطيين خيرا؛ لأن لهم رحما وذمة، يعنى بالرحم أن هاجر أم إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام منهم، فقالا: قرابة بعيدة لا يصل مثلها إلا الأنبياء وأتباع الأنبياء، وذكرا أن هاجر معروفة عندهم شريفة.
قالا: كانت ابنة ملكنا، وكان من أهل منف والملك فيهم، فأذيل عليهم أهل عين شمس فقتلوهم وسلبوا ملكهم واغتربوا، فلذلك صارت إلى إبراهيم عليه السلام. مرحبا بكم وأهلا أمنا حتى نرجع إليك.
فقال عمرو: إن مثلى لا يخدع ولكننى أأجلكما ثلاثا ولتناظرا قومكما، وإلا ناجرناكم.
قالا: زدنا، فزادهم يوما، فقالا: زدنا، فزادهم يوما، فرجعوا إلى المقوقس، فهم، يعنى بالإنابة إلى الجزية، فأبى أرطبون أن يجيبهما، وأمر بمناهدتهم، فقالا لأهل مصر: أما نحن فسنجهد أن ندفع عنكم، لا نرجع إليهم وقد بقيت أربعة أيام، فلا تصابون فيها بشىء
__________
(1) انظر: تاريخ الرسل والملوك للطبرى (4/ 107، 108) .
(2) الجائليق: رئيس النصارى فى ديار الإسلام.(2/346)
إلا رجونا أن يكون له أمان، فلم يفجأ عمرا والزبير إلا البيات من فرقب، وعمرو والزبير بعين شمس وبها جمعهم. وبعث إلى الفرما أبرهة بن الصباح، فنزل عليها، وبعث عوف ابن مالك إلى الإسكندرية فنزل عليها، فقال كل واحد منهما لأهل مدينته: إن شئتم أن تنزلوا فلكم الأمان. فقالوا: نعم، فراسلوها، وتربصوا بهم أهل عين شمس، وسبى المسلمون من بين ذلك.
وقال عوف بن مالك «1» : ما أحسن مدينتكم يا أهل الإسكندرية فقالوا: إن الإسكندر قال: إنى أبنى مدينة إلى الله فقيرة، وعن الناس غنية، فبقيت بهجتها.
وقال أبرهة لأهل الفرما: ما أخلق مدينتكم يا أهل الفرما؟ قالوا: إن الفرما قال: إنى أبنى مدينة عن الله غنية، وإلى الناس فقيرة، فذهبت بهجتها.
قال الكلبى: كان الإسكندر والفرما أخوين، ثم حدث بمثل ذلك، قال: فنسبتا إليهما، فالفرما يتهدم كل يوم فيها شىء، وأخلقت مرآتها، وبقيت جدة الإسكندرية.
قالوا: ولما نزل عمرو على القوم بعين شمس، وكان الملك بين القبط والنوب، ونزل معه الزبير عليها قال أهل مصر لملكهم: ما تريد إلى قوم فلوا كسرى وقيصر وغلبوهم على بلادهم، صالح القوم واعتقد منهم، ولا تعرضنا لهم، وذلك فى اليوم الرابع، فأبى، وناهدوهم فقاتلوهم، وارتقى الزبير سورها، فلما أحسوه فتحوا الباب لعمرو، وخرجوا إليه مصالحين، فقبل منهم، ونزل الزبير عليهم عنوة، حتى خرج على عمرو من الباب معهم، فاعتقدوا بعد ما أشرفوا على الهلكة فأجروا ما أخذوا عنوة مجرى ما صالحوا عليه، فصاروا ذمة:
وكان صلحهم:
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم، وملتهم، وأموالهم، وكنائسهم، وصلبهم، وبحرهم، وبرهم، لا يدخل عليهم فى شىء من ذلك، ولا ينتقض، ولا يساكنهم النوب. وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح، وانتهت زيادة نهرهم خمسين ألف ألف. وعليهم ما جنى لصوصهم، فإن أبى أحد أن يجيب رفع عنهم من الجزى بقدرهم، وذمتنا من أبى بريئة.
__________
(1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (6116) ، أسد الغابة ترجمة رقم (4130) ، المعارف (315) ، الجرح والتعديل (7/ 13، 14) ، العبر (1/ 81) ، تهذيب التهذيب (8/ 168) ، شذرات الذهب (1/ 79) .(2/347)
وإن نقص نهرهم من عادته إذا انتهى رفع عنهم بقدر ذلك، ومن دخل فى صلحهم من الروم والنوب فله مثل ما لهم، وعليه مثل ما عليهم، ومن أبى فاختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه، أو يخرج من سلطاننا، عليهم ما عليهم أثلاثا فى كل ثلث، يريد من السنة، جباية ثلث ما عليهم، لهم على ما فى هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين.
وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسا، وكذا وكذا فرسا معونة، على أن لا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة.
شهد الزبير، وعبد الله ومحمد ابنا عمرو، وكتب وردان، وحضر فدخل فى ذلك أهل مصر كلهم، وقبلوا الصلح «1» .
فمصر عمرو الفسطاط، ونزله المسلمون، وظهر أبو مريم وأبو مريام، فكلموا عمرا فى السبايا التى أصيبت بعد المعركة، فقال عمرو: أولهم عهد وعقد؟ ألم نخالفكما ويغر علينا من يومكما؟ فطردهما، فرجعا وهما يقولان: كل شىء أصبتموه إلى أن نرجع إليكم ففى ذمة. فقال لهما عمرو: يغيرون علينا وهم فى ذمة؟ قالا: نعم. وقسم عمرو ذلك السبى على الناس، وتوزعوه ووقع فى بلاد العرب، وقدم البشير إلى عمر بعد بالأخماس، وقدم الوفود، فسألهم عمر، فما زالوا يخبرونه حتى مروا بحديث الجاثليق وصاحبه، فقال عمر: ألا أراهما يبصران وأنتم تجاهلون ولا تبصرون من قاتلكم فلا أمان له، ومن لم يقاتلكم وأصابه منكم سبى من أهل القرى فى الأيام الخمسة فله الأمان، وكتب بذلك إلى عمرو بن العاص، فجعل يجاء بهم من اليمن ومكة حتى ردوا.
وعن عمرو بن شعيب «2» قال: لما التقى عمرو والمقوقس بعين شمس، واقتتلت خيلاهما، جعل المسلمون يجولون بعد البعد، فزمرهم عمرو، فقال رجل من أهل اليمن:
إنا لم نخلق من حجارة ولا حديد. فأسكته عمرو، ثم لما تمادى ذلك نادى عمرو: أين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فحضر من شهدها منهم، فقال: تقدموا فبكم ينصر المسلمون.
فتقدموا وفيهم يومئذ أبو بردة وأبو برزة، وناهدهم الناس يتبعون الصحابة، ففتح الله على المسلمين، وظفروا أحسن الظفر، وافتتحت مصر، وقام فيها ملك الإسلام على رجل، وجعل يفيض على الأمم والملوك.
__________
(1) انظر: الطبرى (4/ 109) .
(2) انظر: الطبرى (4/ 111) .(2/348)
وعن محمد بن إسحاق «1» عن رجل من أهل مصر اسمه القاسم بن قزمان: أن زياد ابن جزء الزبيدى حدثه وكان فى جند عمرو بن العاص، قال: افتتحنا الإسكندرية فى خلافة عمر، فلما افتتحنا باب اليون تدنينا قرى الريف فيما بيننا وبين الإسكندرية قرية قرية، حتى انتهينا إلى بلهيب وقد بلغت سبايانا مكة والمدينة واليمن، فلما انتهينا إلى بلهيب «2» أرسل صاحب الإسكندرية إلى عمرو بن العاص: إنى قد كنت أخرج الجزية إلى من هو أبغض إلىّ منكم يا معشر العرب، لفارس والروم، فإن أحببت أن أعطيك الجزية على أن ترد علىّ ما أصبتم من سبايا أرضى فعلت، فبعث إليه عمرو: إن ورائى أميرا لا أستطيع أن أصنع أمرا دونه، فإن شئت أن أمسك عنك وتمسك عنى حتى أكتب إليه بالذى عرضت علىّ، فإن قبل ذلك منك قبلت، وإن أمرنى بغير ذلك مضيت لأمره.
قال: فقال: نعم. فكتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب يذكر له الذى عرض عليه صاحب الإسكندرية. قال: وكانوا لا يخفون علينا كتابا كتبوا به، ثم وقفنا ببلهيب وفى أيدينا بقايا من سبيهم، وأقمنا ننتظر كتاب عمر حتى جاءه، وقرأه علينا عمرو وفيه:
«أما بعد: فإنه جاء فى كتابك تذكر أن صاحب الإسكندرية عرض عليك أن يعطيك الجزية على أن ترد عليه ما أصبت من سبايا أرضه، ولعمرى لجزية قائمة تكون لنا ولمن بعدنا من المسلمين أحب إلىّ من فىء يقسم، ثم كأنه لم يكن، فاعرض على صاحب الإسكندرية أن يعطيك الجزية، على أن تخيروا من فى أيديكم من سبيهم بين الإسلام وبين دين قومه، فمن اختار منهم الإسلام فهو من المسلمين، له ما لهم وعليه ما عليهم، ومن اختار دين قومه وضع عليه من الجزية ما يوضع على أهل ذمته، فأما من تفرق من سبيهم بأرض العرب وبلغ مكة والمدينة واليمن فإنّا لا نقدر على ردهم، ولا نحب أن نصالحه على أمر لا نفى له به» .
قال: فبعث عمرو بن العاص إلى صاحب الإسكندرية يعلمه الذى كتب به أمير المؤمنين، فقال: قد فعلت، فجمعنا ما فى أيدينا من السبايا، واجتمعت النصارى، فجعلنا نأتى بالرجل ممن فى أيدينا، ثم نخيره بين الإسلام وبين النصراينية، فإذا اختار الإسلام كبرنا تكبيرة لهى أشد من تكبيرتنا حين تقتحم القرية، ثم نجوزه إلينا، وإذا اختار النصرانية نخرت النصارى وحازوه إليهم، ووضعنا عليه الجزية، وجزعنا من ذلك جزعا
__________
(1) انظر: الطبرى (4/ 105، 106) .
(2) بلهيب: قرية من قرى الريف، يقال لها: الريش. انظر: الطبرى (4/ 105) ، معجم البلدان (1/ 492) .(2/349)
شديدا، حتى كأنه رجل خرج منا إليهم، فكان ذلك الدأب حتى فرغنا منهم.
وفيمن أتينا به أبو مريم عبد الله بن عبد الرحمن، قال القاسم: وقد أدركته وهو عريف بنى زبيد، قال ابن جزء الزبيدى: فعرضنا عليه الإسلام والنصرانية، وأبوه وأمه وإخوته فى النصارى، فاختار الإسلام، فحزناه إلينا، ووثب عليه أبوه وأمه وإخوته يجاذبوننا عليه، حتى شققوا ثيابه، ثم هو اليوم عريفنا كما ترى.
ثم فتحت لنا الإسكندرية فدخلناها، فمن زعم غير ذلك أن الإسكندرية وما حولها من القرى لم تكن لها جزية ولا لأهلها عهد فقد كذب.
قال القاسم: وإنما أهاج هذا الحديث أن ملوك بنى أمية كانوا يكتبون إلى أمراء مصر أنها إنما دخلت عنوة، وإنما هم عبيدنا نزيد عليهم كيف شئنا، ونضع ما شئنا، وقد تقدم بعض ما وقع فى هذا المعنى من الاختلاف.
وكذلك اختلفوا فى وقت فتح مصر، فذكر ابن إسحاق أنها فتحت سنة عشرين، وكذلك قال أبو معشر والواقدى.
وقد روى عن أبى معشر أن الإسكندرية فتحت سنة خمس وعشرين، ولعل ذلك فتحها الأخير، إذ قد تقدم ذكر انتقاضها مرتين.
وأما سيف «1» فزعم أن مصر والإسكندرية فتحتا فى سنة ست عشرة. قال: ولما كان ذو القعدة من سنة ست عشرة وضع عمر، رحمه الله، مسالح مصر على السواحل وغيرها.
وقال سعيد بن عفير وغيره «2» : لما تم الفتح للمسلمين بعث عمرو بن العاص جرائد الخيل إلى القرى التى حول الفسطاط، فأقامت الفيوم سنة لم يعلم المسلمون مكانها، حتى أتاهم رجل فذكرها لهم، فأرسل عمرو معه ربيعة بن حبيش بن عرفطة الصدفى، فلما سلكوا فى المجابة لم يروا شيئا، فهموا بالانصراف، فقالوا: لا تعجلوا، سيروا فإن كان كذبا فما أقدركم على ما أردتم. فلم يسيروا إلا قليلا حتى طلع لهم سواد الفيوم فهجموا عليها، فلم يكن عندهم قتال وألقوا بأيديهم.
قال: ويقال: بل خرج مالك بن ناعمة الصدفى، وهو صاحب الأشقر، ينفض المجابة
__________
(1) انظر: الطبرى (4/ 111، 112) .
(2) انظر: فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص 169) .(2/350)
على فرسه، ولا علم له بما خلفها من الفيوم، فهجم على الفيوم فلما رأى سوادها رجع إلى عمرو فأخبره.
وقيل غير ذلك فى وجه الانتهاء إلى الفيوم مما لا كبير فائدة فى ذكره، والله تعالى أعلم «1» .
وعن يزيد بن أبى حبيب أن عمرو بن العاص لما فتح الإسكندرية ورأى بيوتها وبناءها مفروغا منها همّ بسكناها، وقال: مساكن قد كفينا بناءها، فكتب إلى عمر بن الخطاب يستأذنه فى ذلك، فسأل عمر الرسول: هل يحول بينى وبين المسلمين ماء؟ قال:
نعم، إذا جرى النيل. فكتب إلى عمرو:
إنى لا أحب أن ينزل المسلمون منزلا يحول الماء بينى وبينهم لا فى شتاء ولا فى صيف.
فتحول عمرو من الإسكندرية إلى الفسطاط. وإن ناسا من المسلمين حين افتتحوا مصر مع عمرو بن العاص اختطوا بالجيزة وسكنوا بها، فكتب عمرو بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر يقول: ما كنت أحب أن ينزلوا منزلا يكون الماء دونهم، فإذا فعلوا فابن عليهم حصنا. فبنى الحصن الذى خلف الجسرين.
وبنى عمرو بن العاص المسجد، وكان ما حوله حدائق وأعنابا، فنصبوا الحبال حتى استقام لهم، ووضعوا أيديهم، فلم يزل عمرو قائما حتى وضعوا القبلة، وضعها هو ومن حضر معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واتخذ فيه منبرا. فكتب إليه عمر بن الخطاب:
«أما بعد. فإنه بلغنى أنك اتخذت منبرا ترقى به على رقاب المسلمين، أو ما بحسبك أن تقوم قائما والمسلمون تحت عقبيك، فعزمت عليك لما كسرته» .
ولما اختط الناس المنازل بالفسطاط كتب عمرو بن العاص إلى عمر، رضى الله عنه:
إنا قد اختططنا لك دارا عند المسجد الجامع.
فكتب إليه عمر: أنى لرجل بالحجاز تكون له دار بمصر؟ وأمره أن يجعلها سوقا للمسلمين.
وذكر الطبرى»
أن القبط حضروا باب عمرو، فبلغه أنهم يقولون: ما أرثّ العرب
__________
(1) انظر: فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص 91) .
(2) انظر: تاريخ الرسل والملوك للطبرى (4/ 110) .(2/351)
وأهون أنفسهم وما رأينا مثلنا دان لهم فخاف أن يستثيرهم ذلك، فأمر بجزر فنحرت، فبطحت فى الماء والملح، وأمر أمراء الأجناد أن يحضروا هم وأصحابهم، وجلس وأذن لأهل مصر، وجىء باللحم والمرق فطافوا به على المسلمين، فأكلوا أكلا عربيا، انتشلوا وحسوا وهم فى العباء ولا سلاح، فافترق أهل مصر وقد ازدادوا طمعا وجرأة، وتقدم إلى أمراء الأجناد فى الحضور بأصحابهم من الغد، وأمرهم أن يجيئوا فى ثياب أهل مصر وأحذيتهم، وأمرهم أن يأخذوا أصحابهم بذلك، ففعلوا، وأذن لأهل مصر، فرأوا غير ما رأوا بالأمس، وقام عليهم القوم بألوان مصر، فأكلوا أكل أهل مصر، ونحوا نحوهم، فافترقوا وقد ارتابوا.
وبعث إليهم: أن يتسلحوا غدا للعرض، وغدا على العرض، وأذن لأهل مصر فعرضهم عليهم، ثم قال: إنى قد علمت أنكم رأيتم فى أنفسكم أنكم فى شىء حين رأيتم اقتصاد العرب وهون تزجيتهم، فخشيت أن تهلكوا، فأحببت أن أريكم حالهم، كيف كانت فى أرضهم، ثم حالهم فى أرضكم، ثم حالهم فى الحرب فظفروا بكم، وذلك عيشهم، وقد كلبوا على بلادكم قبل أن ينالوا منها ما رأيتم فى اليوم الثانى، فأحببت أن تعلموا أن من رأيتم فى اليوم الثالث غير تارك عيش اليوم الثانى وراجع إلى عيش اليوم الأول.
فتفرقوا وهم يقولون: لقد رمتكم العرب برجلهم.
وبلغ عمر، رحمه الله، ذلك، فقال لجلسائه، يعنى عمرا: والله إن حربه للينة ما لها سطوة ولا سورة كسورات الحروب من غيره، إن عمرا لعض، ثم أمّره عليها وأقام بها.
وذكر ابن عبد الحكم أن عمر، رضى الله عنه، كتب أن يختم فى رقاب أهل الذمة بالرصاص، ويظهروا مناطقهم، ويجزوا نواصيهم، ويركبوا على الأكف عرضا، ولا يضربوا الجزية إلا على من جرت عليه الموسى، ولا يضربوا على النساء، ولا على الولدان، ولا يدعوهم يتشبهون «1» بالمسلمين فى لبوسهم «2» .
قال: ثم إن عمر بن الخطاب أمر أمراء الأجناد أن يتقدموا إلى الرعية بأن عطاءهم قائم، وأرزاق عيالهم جارية، فلا يزرعون، يعنى الأجناد، ولا يزارعون.
فأتى شريك بن سمى الغطيفى إلى عمرو بن العاص فقال: إنكم لا تعطوننا ما يحبسنا أفتأذن لى بالزرع؟ فقال له عمرو: ما أقدر على ذلك، فزرع شريك بغير إذنه، فكتب
__________
(1) انظر: فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص 151) .
(2) انظر: فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص 162) .(2/352)
عمرو بذلك إلى عمر بن الخطاب، فأمره أن يبعث إليه شريكا، فأقرأ عمرو شريكا الكتاب، فقال له شريك: قتلتنى يا عمرو قال: ما أنا قتلتك قال: أنت صنعت هذا بنفسك قال: فإذا كان هذا من رأيك فأذن لى فى الخروج إليه من غير كتاب، ولك علىّ عهد الله أن أجعل يدى فى يده، فأذن له، فلما وقف على عمر قال: تؤمننى يا أمير المؤمنين؟ قال: ومن أى الأجناد أنت؟ قال: من جند مصر، قال: فلعلك شريك بن سمى الغطيفى؟ قال: نعم، يا أمير المؤمنين، قال: لأجعلنك نكالا لمن خلفك، قال: أو تقبل منى ما قبل الله من العباد؟ قال: وتفعل؟ قال: نعم، فكتب إلى عمرو بن العاص: إن شريك ابن سمى جاءنى تائبا فقبلت منه.
وعن الليث بن سعد «1» قال: سأل المقوقس عمرو بن العاص أن يبيعه سفح المقطم بسبعين ألف دينار، فعجب عمرو من ذلك وقال: أكتب فى ذلك إلى أمير المؤمنين، فأجابه عمر عن كتابه إليه فى ذلك: سله لم أعطاك به ما أعطاك، وهى لا تزدرع ولا يستنبط بها ماء ولا ينتفع بها. فسأله عمرو، فقال: إنا لنجد صفتها فى الكتب أن فيها غراس الجنة، فكتب بذلك إلى عمر، فأجابه: إنا لا نعلم غراس الجنة إلا المؤمنين، فأقبر فيها من مات قبلك من المسلمين ولا تبعه بشىء. فكان أول من دفن فيها رجل من المعافر يقال له: عامر، فقيل: عمرت.
قالوا «2» : ولما استقامت البلاد وفتح الله على المسلمين، فرض عمرو بن العاص لرباط الإسكندرية ربع الناس، يقيمون ستة أشهر ثم يعقب بعدهم ربعا آخر ستة أشهر، وربعا فى السواحل، والنصف الثانى مقيمون معه.
وقيل: كان عمر بن الخطاب يبعث كل سنة غازية من أهل المدينة ترابط بالإسكندرية وكانت الولاة لا تغفلها، ويكثفون رابطتها، ولا يأمنون الروم عليها.
وكتب عثمان بن عفان، رضى الله عنه، وهو خليفة إلى عبد الله بن سعد بن أبى سرح بعد أن استعمله على مصر:
قد علمت كيف كان هم أمير المؤمنين بالإسكندرية، وقد نقضت مرتين، فألزم الإسكندرية رابطتها، وأجر عليهم أرزاقهم، وأعقب بينهم فى كل ستة أشهر.
وكان عمرو بن العاص يقول: ولاية مصر جامعة تعدل الخلافة، وقال: نيل مصر سيد
__________
(1) انظر: فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص 157) .
(2) انظر: فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص 192) .(2/353)
الأنهار، سخر الله له كل نهر من المشرق والمغرب، فإذا أراد الله أن يجريه أمر الأنهار فأمدته بمائها، وفجر له الأرض عيونا، فإذا انتهت جريته إلى ما أراد سبحانه أوحى إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره.
ولما فتح عمرو مصر أتاه أهلها حين دخل بؤنة من أشهر العجم، فقالوا له: أيها الأمير، إن لنيلنا هذا سنة لا يجرى إلا بها. فقال: وما ذاك؟ قالوا: إنه إذا كان لاثنتى عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر عهدنا إلى جارية بكر بين أبويها، فأرضينا أبويها، وجعلنا عليها من الحلى والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها فى هذا النهر. فقال لهم عمرو: إن هذا لا يكون فى الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما قبله. فأقاموا ذلك الشهر والشهرين اللذين بعده لا يجرى قليلا ولا كثيرا حتى هموا بالجلاء، فلما رأى ذلك عمرو كتب به إلى عمر بن الخطاب، فكتب إليه عمر، رضى الله عنه:
قد أصبت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وقد بعثت إليك ببطاقة فألقها فى داخل النيل.
فلما قدم الكتاب على عمرو وفتح البطاقة فإذا فيها:
من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى نيل مصر: أما بعد، فإن كنت تجرى من قبلك فلا تجر، وإن كان الله الواحد القهار هو الذى يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك.
فألقى عمرو البطاقة فى النيل قبل يوم الصليب بيوم، وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج منها؛ لأنه لا يقوم بمصلحتهم فيها إلا النيل، فأصبحوا يوم الصليب وقد أجراه الله، عز وجل، ستة عشر ذراعا فى ليلة. وقطع تلك السنة السوء عن أهل مصر.
ذكر فتح أنطابلس
قال ابن عبد الحكم «1» : كان البربر بفلسطين، يعنى فى زمان داود عليه السلام، فخرجوا منها متوجهين إلى الغرب حتى انتهوا إلى لوبية ومراقية، وهما كورتان من كور مصر الغربية، مما يشرب من ماء السماء ولا ينالهما النيل، فتفرقوا هنالك، فتقدمت زناتة ومغيلة إلى الغرب وسكنوا الجبال وتقدمت لواتة فسكنت أرض أنطابلس وهى برقة، وتفرقت فى هذا الغرب وانتشروا فيه حتى بلغوا السوس، ونزلت هوارة مدينة لبدة،
__________
(1) انظر: فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص 170، 171) .(2/354)
ونزلت نفوسة مدينة صبرة، وجلا من كان فيها من الروم من أجل ذلك، وأقام الأفارق وكانوا خدما للروم على صلح يؤدونه إلى من غلب على بلادهم، وهم بنو أفارق بن قيصر بن حام.
فسار عمرو بن العاص فى الخيل حتى قدم برقة، فصالح أهلها على ثلاثة عشر ألف دينار يؤدونها إليه جزية، على أن يبيعوا من أبنائهم فى جزيتهم، ولم يكن يدخل برقة يومئذ جابى خراج، وإنما كانوا يبعثون بالجزية إذا جاء وقتها.
ووجه عمرو بن العاص عقبة بن نافع حتى بلغ زويلة. قال الطبرى: فافتتحها بصلح، وصار ما بين برقة وزويلة سلما للمسلمين. وقال أبو العالية الحضرمى: سمعت عمرو بن العاص على المنبر يقول: لأهل أنطابلس عهد يوفى لهم به.
فتح أطرابلس
قال ابن عبد الحكم «1» : ثم سار عمرو حتى نزل أطرابلس فى سنة اثنتين وعشرين، فنزل القبة التى على الشرف من شرقيها، فحاصرها شهرا لا يقدر منهم على شىء، فخرج رجل من بنى مدلج ذات يوم من عسكر عمرو متصيدا فى سبعة نفر، فمضوا غربى المدينة حتى أمنعوا عن العسكر، ثم رجعوا فأصابهم الحر، فأخذوا على ضفة البحر، وكان البحر لاصقا بسور المدينة، ولم يكن فيما بين المدينة والبحر سور، وكانت سفن الروم شارعة فى مرساها إلى بيوتهم، فنظر المدلجى وأصحابه، فإذا البحر قد غاض من ناحية المدينة، ووجدوا مسلكا إليها من الموضع الذى حسر عنه البحر، فدخلوا منه حتى أتوا من ناحية الكنيسة وكبروا، فلم يكن للروم مفزع إلا سفنهم، وأبصر عمرو وأصحابه السلمة فى جوف المدينة، فأقبل بجيشه حتى دخل عليهم، فلم يفلت الروم إلا بما خف لهم من مراكبهم، وغنم عمرو ما كان فى المدينة.
وكان من بصبرة متحصنين، وهى المدينة العظمى وسوقها السوق القديم، فلما بلغهم محاصرة عمرو مدينة أطرابلس، وأنه لم يصنع فيهم شيئا ولا طاقة له بهم أمنوا.
فلما ظفر عمرو بمدينة أطرابلس جرد خيلا كثيفة من ليلته، وأمرهم بسرعة السير، فصبحت خيله مدينة صبرة وهم غافلون وقد فتحوا أبوابها لتسرح ماشيتهم، فدخلوها فلم ينج منهم أحد، واحتوى أصحاب عمرو على ما فيها ورجعوا إلى عمرو.
__________
(1) انظر: فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص 171- 173) .(2/355)
قال: ثم أراد عمرو أن يوجه إلى المغرب، فكتب إلى عمر بن الخطاب: إن الله، عز وجل، قد فتح علينا أطرابلس، وليس بينها وبين أفريقية إلا تسعة أيام، فإن رأى أمير المؤمنين أن نغزوها ويفتحها الله على يديه فعل.
فكتب إليه عمر: لا، إنها ليست بأفريقية، ولكنها المفرقة، غادرة مغدور بها، لا يغزوها أحد ما بقيت.
قال: وأتى عمرو بن العاص كتاب المقوقس، يذكر له أن الروم يريدون نكث العهد ونقض ما كان بينهم وبينه، وكان عمرو قد عاهد المقوقس على أن لا يكتمه أمرا يحدث، فانصرف عمرو راجعا مبادرا لما أتاه.
قال: وقد كان عمرو يبعث الجريدة من الخيل فيصيبون الغنائم ثم يرجعون، يعنى من أطراف أفريقية.
ذكر انتقاض الإسكندرية فى خلافة عثمان رضى الله عنه
«1» قال عبد الرحمن بن عبد الحكم: وفى سنة خمس وعشرين عزل عثمان بن عفان عمرو ابن العاص عن مصر، وولى عبد الله بن سعد «2» . وقد كانت الإسكندرية انتقضت، وجاءت الروم عليهم منويل الخصى فى المراكب حتى أرسوا بالإسكندرية، فأجابهم من بها من الروم، ولم يكن المقوقس تحرك ولا نكث، فلما نزلت الروم بالإسكندرية سأل أهل مصر عثمان، رضى الله عنه، أن يقر عمرا حتى يفرغ من قتال الروم، فإن له معرفة فى الحرب وهيبة فى العدو، ففعل.
فخرج إليهم عمرو فى البر والبحر، وضوى إلى المقوقس من أطاعه من القبط. فأما الروم فلم يطعه منهم أحد. فقال خارجة بن حذافة لعمرو: ناهضهم قبل أن يكثر مددهم ولا آمن أن تنتقض مصر كلها. قال عمرو: لا، ولكن دعهم حتى يسيروا إلىّ، فإنهم يصيبون من مروا به فيجزى الله بعضهم ببعض، فخرجوا من الإسكندرية ومعهم من نقض من أهل القرى، فجعلوا ينزلون القرية فيشربون خمورها، ويأكلون أطعمتها،
__________
(1) الخبر منقول عن ابن عبد الحكم فى فتوح مصر وأخبارها (ص 174- 191) .
(2) هو: عبد الله بن سعد العامرى. انظر ترجمته فى: الثقات (3/ 213) ، التاريخ الصغير (1/ 84) ، البداية والنهاية (5/ 350) ، الإصابة ترجمة رقم (4729) ، أسد الغابة ترجمة رقم (2976) .(2/356)
وينتهبون ما مروا به، فلم يعرض لهم عمرو حتى بلغوا نقيوس «1» ، فلقوهم فى البر والبحر، فبدأت الروم والقبط فرموا بالنشاب فى الماء رميا شديدا، حتى أصاب النشاب يومئذ فرس عمرو فى لبته وهو فى البر، فعقر فنزل عنه، ثم خرجوا من البحر، فاجتمعوا هم والذين فى البر فنصحوا المسلمين بالنشاب، فاستأخر المسلمون عنهم شيئا، وحملوا حملة ولى المسلمون منها، وانهزم شريك بن سمى فى خيله.
وكانت الروم قد جعلت صفوفا خلف صفوف، وبرز يومئذ بطريق ممن جاء من أرض الروم على فرس له عليه سلاح مذهب، فدعا إلى البراز، فبرز إليه رجل من زبيد يقال له: حومل ويكنى أبا مذحج، فاقتتلا طويلا برمحين يتطاردان، ثم ألقى البطريق الرمح وأخذ السيف، وألقى حومل رمحه وأخذ سيفه وكان يعرف بالنجدة، وجعل عمرو يصيح: أبا مذحج فيجيبه: لبيك، والناس على شاطئ النيل فى البر على تعبئتهم وصفوفهم، فتجاولا ساعة بالسيفين، ثم حمل عليه البطريق فاحتمله وكان نحيفا، ويخترط حومل خنجرا كان فى منطقته أو فى ذراعه فيضرب به نحر العلج أو ترقوته، فأثبته ووقع عليه فأخذ سلبه، ثم مات حومل بعد ذلك بأيام، رحمة الله عليه، فرئى عمرو يحمل سريره بين عمودى نعشه حتى دفنه بالمقطم.
قال: ثم شد المسلمون عليهم فكانت هزيمتهم، وطلبهم المسلمون حتى ألحقوهم بالإسكندرية، ففتح الله عليهم وقتل منويل الخصى.
قال الهيثم بن زياد: وقتلهم عمرو بن العاص حتى أمعن فى مدينتهم، فكلم فى ذلك فأمر برفع السيف عنهم، وبنى فى ذلك الموضع مسجد، وهو الذى يقال له بالإسكندرية مسجد الرحمة، سمى بذلك لرفع عمرو السيف هنالك.
وكان عمرو حلف: لئن أظفره الله عليهم ليهدمن سورها حتى تكون مثل بيت الزانية يؤتى من كل مكان، فلما أظفره الله هدم سورها كله.
وجمع عمرو ما أصاب منهم، فجاءه من أهل تلك القرى من لم يكن نقض، فقالوا:
قد كنا على صلحنا، ومرّ علينا هؤلاء اللصوص فأخذوا متاعنا ودوابنا وهو قائم فى يديك، فرد عليهم عمرو ما كان لهم من متاع عرفوه وأقاموا عليه البينة.
وقال بعضهم لعمرو: ما حل لك ما صنعت بنا، وكان لنا عليك أن تقاتل عنا لأنا فى ذمتك ولم ننقض، فأما من نقض فأبعده الله. فندم عمرو وقال: يا لتنى كنت لقيتهم حين خرجوا من الإسكندرية.
__________
(1) نقيوس: قرية كانت بين الفسطاط والإسكندرية. انظر: معجم البلدان (5/ 303) .(2/357)
وكان سبب نقض الإسكندرية، فيما ذكر ابن عبد الحكم، أن صاحب أخناء قدم على عمرو بن العاص فقال: أخبرنا ما علينا من الجزية فنصبر لها، فقال له عمرو وهو يشير إلى ركن كنيسة: لو أعطيتنى من الركن إلى السقف ما أخبرتك، إنما أنتم خزانة لنا، إن كثر علينا كثرنا عليكم وإن خفف عنا خففنا عنكم، فغضب صاحب أخناء، فخرج إلى الروم فقدم بهم، فهزمهم الله،، وأسر ذلك النبطى، فأتى به إلى عمرو، فقال له الناس: اقتله، فقال: لا، بل انطلق فجئنا بجيش آخر.
وقيل: إنه لما أتى به سوره وتوجه وكساه برنسين أرجوان، وقال له: ايتنا بمثل هؤلاء، فرضى بأداء الجزية.
فقيل له: لو أتيت ملك الروم؟ فقال: لو أتيته لقتلنى وقال: قتلت أصحابى.
وذكر ابن عبد الحكم، أيضا، أن الروم مشت إلى قسطنطين بن هرقل فى سنة خمس وثلاثين فقالوا: تترك الإسكندرية فى أيدى العرب وهى مدينتنا الكبرى؟ فقال: ما أصنع بكم وما تقدرون أن تتماسكوا ساعة إذا لقيتم العرب؟ قالوا: فاخرج على أن نموت، فتبايعوا على ذلك، وخرج فى ألف مركب يريد الإسكندرية، فبعث الله عليهم ريحا عاتية فأغرقتهم، إلا قسطنطين نجا بمركبه فألقته الريح بصقلية، فسألوه عن أمره فأخبرهم، فقالوا: شأمت النصرانية وأفنيت رجالها، فلو دخل العرب علينا لم نجد من يردهم، ثم صنعوا له الحمام ودخلوا عليه ليقتلوه، فقال: ويلكم تذهب رجالكم وتقتلون ملككم؟
قالوا: كأنه غرق معهم، ثم قتلوه وخلوا من كان معه فى المركب.
ذكر غزو أفريقية وفتحها
«1» قال ابن عبد الحكم «2» : ولما عزل عثمان، عمرو بن العاص عن مصر وأمّر عبد الله بن سعد بن أبى سرح، كان يبعث المسلمين فى جرائد الخيل كما كانوا يفعلون فى إمرة عمرو بن العاص، فيصيبون من أطراف أفريقية ويغنمون، فكتب عبد الله بن سعد فى ذلك إلى عثمان، وأخبره بقربها من حوز المسلمين، واستأذنه فى غزوها، فندب عثمان الناس إلى ذلك بعد المشورة فيه، فلما اجتمع الناس أمّر عليهم الحارث بن الحكم إلى أن يقدموا مصر على عبد الله بن سعد، فيكون إليه الأمر، فخرج عبد الله إليها، وكان
__________
(1) انظر: المنتظم لابن الجوزى (4/ 343- 345) .
(2) انظر: فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص 183) .(2/358)
عليها ملك يقال له: جرجير، كان هرقل استخلفه فخلعه، وكان سلطانه ما بين أطرابلس إلى طنجة، ومستقر سلطانه يومئذ بمدينة يقال لها قرطاجنة، فلقى عبد الله جرجير، فقاتله فقتله الله، وولى قتله عبد الله بن الزبير، فيما يزعمون، وهرب جيش جرجير، فبعث عبد الله السرايا وفرقها، فأصابوا غنائم كثيرة، فلما رأى ذلك رؤساء أهل أفريقية سألوه أن يأخذ منهم مالا على أن يخرج من بلادهم، فقبل منهم ذلك ورجع إلى مصر، ولم يول على أفريقية أحدا، ولا اتخذ بها قيروانا.
ويروى أن جرجيرا لما نازله المسلمون القتال أبرز ابنته وكانت من أجمل النساء، فقال: من يقتل عبد الله بن سعد وله نصف ملكى وأزوجه ابنتى؟ فبلغ ذلك عبد الله فقال: أنا أصدق من العلج، وأوفى بالعهد! من يقتل جرجيرا فله ابنته، فقتله عبد الله بن الزبير، فدفع إليه عبد الله ابنته.
وذكر ابن عبد الحكم «1» ، عن أبيه وابن عفير: أن ابنة جرجير صارت لرجل من الأنصار فى سهمه، فأقبل بها منصرفا قد حملها على بعير له، فجعل يرتجز:
يا ابنة جرجير تمشى عقبتك ... إن عليك بالحجاز ربّتك
لتحملنّ من قباء قربتك
فقالت: ما تقول؟ وسبته فأخبرت بذلك، فألقت بنفسها عن البعير الذى كانت عليه، فاندقت عنقها فماتت. فالله أعلم أى ذلك كان.
وكانت غنائم المسلمين يومئذ أنه بلغ سهم الفارس بعد إخراج الخمس ثلاثة آلاف دينار: للفرس ألفا دينار، ولفارسه ألف دينار، وللراجل ألف، وقسم لرجل من الجيش توفى بذات الحمام، فدفع إلى أهله بعد موته ألف دينار.
وكان جيش عبد الله بن سعد ذلك الذى وقع له القسم عشرين ألفا.
وبعث عبد الله بالفتح إلى عثمان، رضى الله عنه، عقبة بن نافع، ويقال: بل عبد الله ابن الزبير، وهو أصح.
وسار، زعموا، عبد الله بن الزبير على راحلته من أفريقية إلى المدينة عشرين ليلة، ولما دخل على عثمان أخبره بلقائهم العدو، وبما كان فى تلك الغزوة، فأعجب عثمان فقال له: هل تستطيع أن تخبر الناس بهذا؟ قال: نعم، فأخذ بيده حتى انتهى به إلى المنبر ثم
__________
(1) انظر: فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص 184، 185) .(2/359)
قال: اقصص عليهم ما أخبرتنى به، فتلكأ عبد الله بدأ، ثم تكلم بكلام أعجبهم.
ويروى عن ابن شهاب «1» أن عثمان لما قال لابن الزبير أتكلم الناس بهذا؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أنا أهيب لك منى لهم، فأمر عثمان فجمع الناس، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وكان أكره شىء إليه الخطب، وأحب الأشياء إليه ما كفى، ثم قال:
أيها الناس، إن الله قد فتح عليكم أفريقية، وهذا عبد الله بن الزبير يخبركم بخبرها إن شاء الله، ثم جلس على المنبر.
وقام ابن الزبير إلى جانب المنبر، وكان أول من قام إلى جانبه، فقال: الحمد لله الذى ألف بيننا بعد الفرقة، وجعلنا متحابين بعد البغضة، والحمد لله الذى لا تجحد نعماؤه، ولا يزول ملكه، له الحمد كما حمد نفسه، وكما هو أهله. ابتعث محمدا صلى الله عليه وسلم فاختاره بعلمه، وائتمنه على وحيه، فاختار له من الناس أعوانا قذف فى قلوبهم تصديقه، فآمنوا به وعزروه ووقروه ونصروه، وجاهدوا فى الله حق جهاده، فاستشهد الله منهم من استشهد على المنهاج الواضح والبيع الرابح، وبقى منهم من بقى، لا يأخذهم فى الله لومة لائم.
أيها الناس، رحمكم الله، إنا خرجنا للوجه الذى قد علمتم، فكنا مع خير وال ولى فحمد، وقسم فعدل، لم يفقد من بر أمير المؤمنين شيئا، كان يسير بنا البردين يخفض بنا فى الظهائر، ويتخذ الليل حملا، يعجل الترحل من المنزل الفقير، ويطيل اللباث فى المنزل المخصب الرحب، فلم نزل على أحسن حالة يتعرفها قوم من ربهم، حتى انتهى إلى أفريقية، فنزل منها بحيث يسمع صهيل الخيل ورغاء الإبل وقعقعة السلاح، فأقام أياما يجم كراعه، ويصلح سلاحه، ثم دعاهم إلى الإسلام والدخول فيه فبعدوا منه، وسألهم الجزية عن صغار والصلح فكانت هذه أبعد، فأقام فيها ثلاث عشرة ليلة يتأتى بهم وتختلف رسله إليهم، فلما يئس منهم قام خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر النبى صلى الله عليه وسلم وأكثر الصلاة عليه، ثم ذكر فضل الجهاد، وما لصاحبه إذا صبر واحتسب، ثم نهد لعدوه فقاتلهم أشد القتال يومه ذلك، وصبر الفريقان جميعا، وكانت بيننا وبينهم قتلى كثيرة، واستشهد الله رجلا من المسلمين فبتنا وباتوا، للمسلمين بالقرآن دوى كدوى النحل، وبات المشركون فى ملاهيهم وخمورهم.
فلما أصبحنا أخذنا مصافنا التى كنا عليها بالأمس، وزحف بعضنا إلى بعض، فأفرغ
__________
(1) هو: محمد بن مسلم بن عبد الله الزهرى.(2/360)
الله علينا الصبر، ثم أنزل علينا النصر، ففتحناها من آخر النهار، فأصبنا غنائم كثيرة، فبلغ فيها الخمس خمسمائة ألف دينار، وتركت المسلمين قد قرت أعينهم، وقد أغناهم النفل، ووسعهم الحق، وأنا رسولهم إلى أمير المؤمنين وإلى المسلمين، أبشره وإياهم بما فتح الله من البلاد وأذل من المشركين. فأحمد الله على آلائه، وما أحل بأعدائه من بأسه الذى لا يرد عن القوم المجرمين «1» .
ثم صمت، ونهض إليه الزبير فقبل بين عينيه وقال: يا بنى، إذا نكحت المرأة فانكحها على شبه أبيها أو أخيها تأتك بأحدهما، والله ما زلت تنطق بلسان أبى بكر الصديق حتى صمت.
ويروى عن الزبير لما أمر عثمان، رحمه الله، ابنه عبد الله بالقيام ليخبر الناس بما شهد من فتح أفريقية أنه قال: وجدت فى نفسى على عثمان وقلت: يقيم غلاما من الغلمان لا يبلغ الذى يحق عليه والذى يجمل به! فقام فتكلم فأبلغ وأصاب، فما فرغ حتى ملأهم عجبا.
وفى كتاب سيف «2» : أن عثمان لما وجه عبد الله بن سعد إلى أفريقية قال له: إن فتح الله عليك أفريقية فلك مما أفاء الله عليك خمس الخمس، فلما انتهى إلى أفريقية فيمن معه لقيهم صاحبها، فقاتلهم فقتله الله، قتله عبد الله بن سعد، وفتح الله أفريقية سهلها وجبلها، واجتمعوا على الإسلام وحسنت طاعتهم، وقسم عبد الله على الجند ما أفاء الله عليهم بعد أن أخرج الخمس، فعزل منه لنفسه خمسه، وبعث بأربعة أخماسه إلى عثمان، وضرب فسطاطا فى موضع القيروان.
ووفد وفد إلى عثمان فشكوه فيما أخذ من الخمس، فقال عثمان: أنا نفلته، وإنما النفل تبصرة وتدريب للرجال. ثم كتب إلى عبد الله بن سعد باستصلاحهم.
قال: وكان عثمان قد أرسل معه عبد الله بن نافع بن عبد القيس، وعبد الله بن نافع ابن الحصين الفهريين، وأمرهما بالمسير إلى الأندلس فيمن ندبه معهما من الرجال، وأمرهما بالاجتماع مع عبد الله بن سعد على صاحب أفريقية، وبعد ذلك يسيران إلى الأندلس، فلما كان الاستيلاء على صاحب أفريقية سارا من فورهما إلى الأندلس، وأتياها من قبل البحر.
__________
(1) انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (420، 421) .
(2) انظر: تاريخ الرسل والملوك للطبرى (4/ 254، 255) .(2/361)
وكان عثمان، رحمه الله قد كتب إلى من انتدب إلى الأندلس: «أما بعد: فإن القسطنطينية إنما تفتح من قبل الأندلس، وإنكم إن لم تفتحوها كنتم شركاء من يفتحها فى الأجر، والسلام» .
وقال كعب: يعبر البحر إلى الأندلس أقوام يفتحونها، يعرفون بنورهم يوم القيامة.
ذكر صلح النوبة
«1» قال ابن عبد الحكم «2» : ثم غزا عبد الله بن سعد بن أبى سرح الأساود وهم النوبة سنة إحدى وثلاثين، فقاتلته النوبة قتالا شديدا، وأصيبت يومئذ عين معاوية بن حديج، وأبى شمر بن أبرهة، وحيويل بن ناشرة، فيومئذ سموا رماة الحدق، فهادنهم عبد الله بن سعد إذ لم يطقهم. وفى ذلك اليوم يقول بعض من حضره:
لم تر عينى مثل يوم دمقله ... والخيل تغدو بالدروع مثقله
قال: وكان الذى صولح عليه النوبة، فيما ذكر بعض المشايخ المصريين، ثلاثمائة رأس وستين رأسا فى كل سنة. ويقال: بل على أربعمائة فى كل سنة، منها لفىء المسلمين ثلاثمائة وستون، ولوالى البلد أربعون، منها، فيما زعم بعض المشايخ، سبعة عشر مرضعا. ثم انصرف عبد الله بن سعد عنهم.
قال: وذكر بعض المتقدمين أنه وقف بالفسطاط فى بعض الدواوين، يعنى على عهد لهم قرأه قبل أن يحرق، فإذا هو يحفظ منه:
إنا عاهدناكم وعاقدناكم أو توفونا فى كل سنة ثلاثمائة رأس وستين رأسا، وتدخلون بلادنا مجتازين غير مقيمين، وكذلك ندخل بلادكم، على أنكم إن قتلتم من المسلمين قتيلا فقد برئت منكم الهدنة، وإن آويتم للمسلمين عبدا فقد برئت منكم الهدنة، وعليكم رد أباق المسلمين ومن لجأ إليكم من أهل الذمة.
وقال يزيد بن أبى حبيب: وليس بينهم وبين أهل مصر عهد ولا ميثاق، وإنما هى هدنة أمان بعضنا من بعض.
قال ابن لهيعة: وأبو حبيب والد يزيد واسمه سويد منهم.
__________
(1) انظر: مراصد الاطلاع (2/ 534) ، تهذيب التهذيب لابن حجر (10/ 203) .
(2) انظر: فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص 188، 189) .(2/362)
وقال الليث بن سعد وذكر له قول مالك بن أنس: لا يشترى رقيق النوبة ولا يباعون.
فقال الليث: لا علم لمالك بهذا، نحن أعلم به منه، إنما صولحوا على أن نكف عنهم حربنا فقط، وعلى أنهم يعطونا منهم رقيقا فى كل سنة، وعلى أنا لا نمنع غزو غيرنا، فبذلك نشتريهم، إنما علينا الوفاء بأن لا نحاربهم فقط.
قال ابن عبد الحكم: ولم أر أحدا من أصحاب مالك يقول بقوله فى النوبة، وكلهم كان يشتريهم.
قال: واجتمعت لعبد الله بن سعد البجة فى انصرافه من بلاد النوبة على شاطئ النيل، فسأل عنهم، فأخبر بشأنهم، فهان عليه أمرهم، فنفذ وتركهم، ولم يكن لهم عقد ولا صلح، وأول من صالحهم عبيد الله بن أبى الحبحاب.
ذكر البحر والغزو فيه
ذكر الطبرى «1» عن سيف عن أشياخه قالوا: ألح معاوية على عمر بن الخطاب فى غزو البحر وقرب الروم من حمص، وقال: إن قرية من قرى حمص ليسمع أهلها نباح كلابهم وصياح دجاجهم، حتى إذا كاد ذلك يأخذ بقلب عمر أحب أن يزود عنه، فكتب إلى عمرو بن العاص: صف لى البحر وراكبه، فإن نفسى تنازعنى إليه، وإنى أشتهى خلافها، فكتب إليه عمرو بن العاص: إنى رأيت خلقا كبيرا يركبه خلق صغير، إن سكن خوف القلوب وإن تحرك راع العقول، يزداد فيه اليقين قلة، والشك كثرة، هم فيه كدود على عود، إن مال غرق وإن نحا فرق.
فلما جاءه كتاب عمرو كتب إلى معاوية: لا والذى بعث محمدا بالحق بشيرا ونذيرا لا أحمل فيه مسلما أبدا.
وفى رواية أنه كتب إليه:
إنا قد سمعنا أن بحر الشام يشرف على أطول شىء فى الأرض، يستأذن الله فى كل يوم وليلة أن يفيض على الأرض فيغرقها، فكيف أحمل الجنود فى هذا البحر الكافر المستصعب؟ والله لمسلم واحد أحب إلىّ مما حوت الروم فإياك أن تتعرض لى، وقد تقدمت إليك.
__________
(1) انظر: تاريخ الرسل والملوك للطبرى (4/ 258- 261) .(2/363)
فلما ولى عثمان بن عفان لم يزل به معاوية، حتى عزم على ذلك، وقال له: لا تنتخب الناس، ولا تقرع بينهم، خيرهم، فمن اختار الغزو طائعا فاحمله وأعنه.
ففعل ذلك معاوية، واستعمل على البحر عبد الله بن قيس الجاسى حليف بنى فزارة، فغزا خمسين غزاة من بين صائفة وشاتية فى البر والبحر، ولم يغرق معه أحد فى البحر ولا نكب، وكان يدعو الله أن يرزقه العافية فى جنده، ولا يبتليه بمصاب أحد منهم، ففعل الله ذلك له، حتى إذا أراد الله أن يصيبه وحده، خرج فى قارب طليعة، فانتهى إلى البر من أرض الروم، وعليه سؤال يعبرون ذلك المكان، فتصدق عليهم، فرجعت امرأة من السؤال إلى قريتها، فقالت للرجال: هل لكم فى عبد الله بن قيس؟ قالوا: وأين هو؟
قالت: فى المرفأ، قالوا: أى عدوة الله، ومن أين تعرفين عبد الله بن قيس؟ فوبختهم، وقالت: أنتم أعجز منى! أو يخفى عبد الله على أحد؟ فبادروا فهجموا عليه، فقاتلوه وقاتلهم، فأصيب وحده، وأفلت الملاح حتى أتى أصحابه، فجاؤا حتى أرفوا، والخليفة فيهم سفيان بن عوف الأودى، فخرج فقاتلهم، فضجر وجعل يعبث بأصحابه ويشتمهم، فقالت جارية عبد الله: واعبد الله، ما هكذا كان يقول حين تقاتل! فقال سفيان: وكيف كان يقول؟ قالت: «الغمرات ثم ينجلين» ؛ فجعل سفيان يقول ذلك وترك ما كان يقول، وأصيب فى المسلمين يومئذ. وقيل لتلك المرأة: بأى شىء عرفته؟
فقالت: بصدقته، أعطى كما يعطى الملوك، ولم يقبض قبض التجار.
غزو معاوية بن أبى سفيان قبرس
وغزا معاوية بن أبى سفيان قبرس سنة ثمان وعشرين فيما ذكر الواقدى.
قال: وهو أول من غزا الروم، وغزاها أهل مصر وعليهم عبد الله بن سعد بن أبى سرح، حتى لقوا معاوية فكان على الناس.
قال ابن عفير: ومع معاوية امرأته فاختة بنت قرظة، وكان معه، أيضا، فى غزاته أبو الدرداء، وشداد بن أوس، وأبو ذر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، فى عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم حرام الأنصارية فتوفيت هناك، فقبرها يستسقى به أهل قبرس ويسمونه قبر المرأة الصالحة.
وأم حرام «1» هذه هى خالة أنس بن مالك، رضى الله، وحديثها مشهور فى نوم النبى
__________
(1) انظر ترجمتها فى: الإصابة ترجمة رقم (11971) ، الثقات (3/ 462) ، تجريد أسماء الصحابة (2/ 316) ، تقريب التهذيب (12/ 620) ، تهذيب التهذيب (12/ 462) .(2/364)
صلى الله عليه وسلم فى بيتها ثم استيقظ وهو يضحك، فسألته: ما يضحكه؟ فقال: «ناس من أمتى عرضوا علىّ غزاة فى سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة» ، فقالت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلنى منهم! فدعا لها، ثم وضع رأسه فنام ثم استيقظ يضحك، فسألته فقال: «ناس من أمتى عرضوا علىّ» «1» ، مثل مقالته الأولى. فقالت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلنى منهم. قال: «أنت من الأولين» «2» ، فكانت هذه الغزوة هى التى عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا. وخرجت أم حرام فيها، فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت.
قال ابن عمير: وذلك العام بالشام عام قبرس الأول.
وقيل: إن معاوية توجه إليها من حصن عكا فى مائتى مركب، قال: وظفر معاوية فى هذه الغزاة، وأخذ من الأموال والحلى ما لا يحصى.
وقال جبير بن نفير «3» : لما سبيناهم، يعنى أهل قبرس، نظرت إلى أبى الدرداء يبكى، فقلت: ما يبكيك فى يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله، وأذل الكفر وأهله؟ فضرب بيده على منكبى، وقال: ثكلتك أمك يا جبير، ما أهون الخلق على الله إذا تركوا أمره! بينا هى أمة ظاهرة قاهرة للناس لهم الملك، إذ تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى، فسلط عليهم السباء، وإذا سلط السباء على قوم فليس لله، عز وجل، بهم حاجة.
وذكر الطبرى «4» أن معاوية لما غزا قبرس صالح أهلها على جزية سبعة آلاف دينار، يؤدونها إلى المسلمين فى كل سنة، ويؤدون إلى الروم مثلها، ليس للمسلمين أن يحولوا بينهم وبين ذلك، على أن لا يغزوهم المسلمون، ولا يقاتلوا هم من غزا من خلفهم يريد
__________
(1) انظر الحديث فى: سنن الترمذى (1645) ، سنن ابن ماجه (2776) ، التمهيد لابن عبد البر (1/ 225) ، الترغيب والترهيب للمنذرى (2/ 305) ، موطأ مالك (464) ، فتح البارى لابن حجر (11/ 71، 12/ 391) ، الأذكار النووية (185) .
(2) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (4/ 19، 22، 40، 44، 8/ 78، 9/ 44) ، صحيح مسلم فى كتاب الإمارة (160، 161) ، سنن النسائى فى كتاب الجهاد، باب (37) ، سنن أبى داود فى كتاب الجهاد، باب (10) ، سنن ابن ماجه (2776) ، مسند الإمام أحمد (6/ 361- 423) ، فتح البارى لابن حجر (11/ 71) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (7/ 184) ، موطأ مالك (465) ، التمهيد لابن عبد البر (1/ 225، 241) .
(3) انظر: تاريخ الرسل والملوك للطبرى (4/ 262، 263) .
(4) انظر: تاريخ الرسل والملوك للطبرى (4/ 262) .(2/365)
الخروج إلى أرض المسلمين، وعليهم أن يؤذنوا المسلمين بمسير عدوهم من الروم إليهم، وعلى أن يبطرق إمام المسلمين عليهم منهم.
وذكر الواقدى «1» ، أيضا، مصالحة معاوية أهل قبرس فى ولاية عثمان، رحمه الله، وأن فى العهد الذى بيننا وبينهم ألا يتزوجوا فى عدونا من الروم إلا بإذننا.
قال: وفى هذه السنة، يعنى سنة ثمان وعشرين، غزا حبيب بن مسلمة سورية من أرض الروم.
غزوة ذات الصوارى
«2» ذكر الواقدى «3» أن أهل الشام خرجوا، وعليهم معاوية بن أبى سفيان، وعلى أهل البحر عبد الله بن سعد بن أبى سرح، وخرج عامئذ قسطنطين بن هرقل لما أصاب المسلمون منهم بأفريقية، فخرجوا فى جمع لم ير الروم مثله قط منذ كان الإسلام، فخرجوا فى خمسمائة مركب، فالتقوا هم وعبد الله بن سعد، فأمن بعضهم بعضا حتى قرنوا بين سفن المسلمين وأهل الشرك.
قال مالك بن أوس بن الحدثان «4» : كنت معهم، فالتقينا فى البحر، فنظرنا إلى مراكب ما رأينا مثلها قط، وكانت الريح علينا، فأرسينا ساعة، وأرسوا قريبا منا وسكنت الريح عنا، فقلنا: الأمن بيننا وبينكم. قالوا: ذلك لكم منا ولنا منكم. قلنا: إن أحببتم فالساحل حتى يموت الأعجل، وإن شئتم فالبحر، فنخروا نخرة واحدة، وقالوا: الماء فدنونا منهم، فربطنا السفن بعضها ببعض، حتى كنا بحيث يضرب بعضنا بعضا، فقاتلنا أشد القتال، ووثب الرجال على الرجال يضطربون بالسيوف ويتواجئون بالخناجر، حتى رجعت الدماء إلى الساحل تضربها الأمواج، وطرحت الأمواج جثث الرجال ركاما.
وقال بعض من حضر ذلك اليوم، أيضا: رأيت الساحل وإن عليه لمثل الظرب العظيم من جثث الرجال، وإن الدم للغالب على الماء.
__________
(1) انظر: تاريخ الرسل والملوك للطبرى (4/ 263) .
(2) انظر: تاريخ الطبرى (4/ 288) ، المنتظم لابن الجوزى (5/ 12) .
(3) انظر: تاريخ الرسل والملوك للطبرى (4/ 290) .
(4) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (7611) ، أسد الغابة ترجمة رقم (4565) ، طبقات ابن سعد (5/ 56) ، المعارف (427) ، الجرح والتعديل (4/ 203) ، تاريخ ابن عساكر (8416) ، تهذيب الأسماء واللغات (1/ 2/ 79) ، تهذيب التهذيب (10/ 10) ، شذرات الذهب (1/ 99) .(2/366)
ولقد قتل يومئذ من المسلمين بشر كثير، وقتل من الكفار ما لا يحصى، وصبروا يومئذ صبرا لم يصبروا فى موطن قط مثله، ثم أنزل الله نصره على أهل الإسلام، وانهزم القسطنطين مدبرا، وأصابته يومئذ جراحات مكث فيها حينا جريحا.
وعن حنش الصنعانى «1» قال «2» : ركب الناس البحر سنة إحدى وثلاثين مع عبد الله ابن سعد، فلما بلغوا ذات الصوارى «3» لقوا جموع الروم فى خمسمائة مركب أو ستمائة، فيها القسطنطين بن هرقل، فقال: أشيروا علىّ، قالوا: انتظر الليلة فباتوا يضربون بالنواقيس، وبات المسلمون يصلون ويدعون الله، ثم أصبحوا وقد أجمع القسطنطين فقربوا سفنهم، وقرب المسلمون فربطوا بعضها إلى بعض، وصف عبد الله المسلمين على نواحى السفن، وأمرهم بقراءة القرآن وبالصبر، ووثبت الروم فى سفن المسلمين على صفوفهم حتى نقضوها، واقتتلوا على غير صفوف قتالا شديدا، ثم إن الله نصر المؤمنين، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة لم ينج من الروم إلا الشريد، وأقام عبد الله بذات الصوارى أياما بعد هزيمة القوم، ثم أقبل راجعا.
وذكر ابن عبد الحكم «4» أن عبد الله بن سعد لما نزل ذات الصوارى أنزل نصف الناس مع بسر بن أبى أرطأة سرية فى البر، فلما مضوا أتى آت إلى عبد الله فقال: ما كنت فاعلا حين ينزل بك ابن هرقل فى ألف مركب فافعله الساعة.
قال: وإنما مراكب المسلمين مائتا مركب ونيف. فقام فقال: أشيروا علىّ، فما كلمه رجل من المسلمين، فجلس قليلا لترجع إليهم أفئدتهم، ثم استشارهم فما كلمه أحد ثم قال الثالثة: إنه لم يبق شىء فأشيروا علىّ، فقال رجل من أهل المدينة كان متطوعا: أيها الأمير، إن الله تعالى يقول: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: 249] ، فقال عبد الله: اركبوا باسم الله، فركبوا، وإنما فى كل مركب نصف شحنته، قد خرج النصف الآخر مع بسر فى البر، فلقوهم فاقتتلوا بالنبل والنشاب، وتأخر ابن هرقل لئلا تصيبه الهزيمة، وجعل تختلف القوارب إليه بالأخبار.
فقال: ما فعلوا؟.
__________
(1) هو: حنش بن عبد الله الصنعانى.
(2) انظر: تاريخ الرسل والملوك للطبرى (4/ 292) .
(3) الصوارى: جمع صار، وهو الخشبة المعترضة وسط السفينة. انظر: القاموس المحيط للفيروزابادى (4/ 352) .
(4) انظر: فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (190، 191) .(2/367)
قالوا: اقتتلوا بالنبل والنشاب، قال: غلبت الروم. ثم أتوه فقال: ما فعلوا؟ قالوا: قد نفدت النبل والنشاب فهم يرتمون بالحجارة، قال: غلبت الروم: ثم أتوه فقال: ما فعلوا؟
قالوا: نفدت الحجارة وربطوا المراكب بعضها ببعض يقتتلون بالسيوف. قال: غلبت الروم.
قال يزيد بن أبى حبيب: وكانت السفن إذ ذاك تقرن بالسلاسل عند القتال، فقرن مركب عبد الله يومئذ وهو الأمير بمركب من مراكب العدو، فكاد مركب العدو يجر مركب عبد الله إليهم، فقام علقمة بن يزيد العطيفى وكان فى المركب مع عبد الله فضرب السلسلة بسيفه فقطعها، فسأل عبد الله بعد ذلك امرأته بسيسة ابنة جمرة بن ليشرح بن عبد كلال، وكانت معه يومئذ، وكان الناس فيما خلا يغزون بنسائهم: من رأيت أشد الناس قتالا؟ قالت علقمة صاحب السلسلة. وكان عبد الله حين خطبها إلى أبيها قال: إن علقمة قد خطبها وله علىّ فيها رأى فإن يتركها أفعل. فكلم عبد الله علقمة فتركها، فتزوجها عبد الله ثم هلك عنها، فتزوجها بعده علقمة، ثم هلك عنها، فتزوجها كريب بن أبرهة.
وقال محمد بن الربيع: إنما سميت غزوة ذات الصوارى لكثرة المراكب التى اجتمعت فيها: ابن هرقل فى ألف مركب، والمسلمون فى مائتى مركب ونيف فكثرت الصوارى فى البحر فسميت ذات الصوارى.
وفى بعض ما تقدم من الأخبار ما يقتضى أن ذات الصوارى موضع يسمى هكذا، فالله تعالى أعلم.
ذكر فتح العراق وما والاه على ما ذكره سيف بن عمر وأورده أبو جعفر محمد بن جرير الطبرى عنه وعن غيره
ذكروا عن على بن أبى طالب وعبد الله بن عباس، رضى الله عنهما، قالا: حض الله المسلمين على عهد نبيه صلى الله عليه وسلم على الاستقامة على الدين وندبهم إلى فارس، ووعدهم، فتقدم إليهم فى ذلك من قبل غزوهم، ليحثهم وليدربهم، فبدأ بالردة فقال: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ(2/368)
يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران: 144] ، فسمى من ثبت على دينه بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم الشاكرين. ثم عاد فى وصف من ناهض منهم أهل الردة، والمنافقون حشر فى المؤمنين، وإنما يكلم الله عز وجل، المؤمنين بما يعنى به المنافقين، فقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:
54] ، فسماهم أحباء وأثابهم، حيث كانوا أذلة أرقة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، يجاهدون، يعنى جهادا بعد جهادهم أهل الردة، يقاتلون من بعدهم أهل فارس، ولا يخافون تخويف من يخوفهم، هذا فضل الله يخص به من يشاء، وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ عالم بهذا، فهم الشاكرون، وهم الفاضلون، وهم المقربون، وهم أحباء الله.
وعن على وابن عباس، رضى الله عنهما، فى قوله عز وجل: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ الآيتين إلى قوله: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً [الفتح: 20، 21] ، «مغانم» فتوحا من لدن خيبر، تلونها وتضمون ما فيها «فعجل لكم هذه» أى عجل لكم من ذلك خيبر «وكف أيدى الناس عنكم» أيدى قريش بالصلح يوم الحديبية «ولتكون آية للمؤمنين» شاهدا على ما بعدها ودليلا على إنجازها «وأخرى لم تقدروا عليها» أى على علم وقتها، أفيئها عليكم: فارس والروم «قد أحاط الله بها» قضى الله بها أنها لكم، منها: الأيام، والقوادس، والواقوصة، والمدائن الحمر بالشام، ومصر، والضواحى، فاجتمعت هذه الصفات فيمن قاتل فارس والروم وسائر الأعاجم ذلك الزمان.
ذكر سيف قال: كان أول ملوك فارس قاتله المسلمون شيرى بن كسرى، وذلك أن أبا بكر الصديق، رضى الله عنه، حيث فرغ من أهل الردة، وأقامت جنود المسلمين فى بلدان من ارتد، كتب إلى خالد بن الوليد وهو باليمامة: أن ائذن للمسلمين فى القفل إلا من أحب المقام معك، ولا تكرهن أحدا على القيام، ولا تستعن فى شىء من حربك بمتكاره، وادع من يليك من تميم وقيس وبكر إلى موتان اليمامة، فإن موات ما أفاء الله على رسوله لله ولرسوله، فمن أحيا شيئا من ذلك فهو له، لا يدخل ذلك فى شىء من موات كل بلد أسلم عليه أهله.
ففعل خالد، فأنزل اليمامة من هؤلاء الأحياء من أقرن ببنى حنيفة، ولما أذن خالد فى القفل قفل الناس، أهل المدينة ومن حولها، وسائر من كان معه من أهل القبائل، وبقى(2/369)
خالد فى ألفين من القبائل التى حول المدينة، من مزينة، وجهينة، وأسلم، وغفار، وضمرة، وأناس من غوث طيئ، ونبذ من عبد القيس.
ولما قفل من قفل، وجه المثنى بن حارثة الشيبانى، ومذعور بن عدى العجلى، وحرملة ابن مريطة، وسلمى بن القين الحنظليين وهما من المهاجرين، والمثنى ومذعور ممن وفد على النبى صلى الله عليه وسلم فقدموا على أبى بكر، رحمه الله، فقال له حرملة وسلمى: إنا معاشر بنى تميم وبكر بن وائل قد دربنا بقتال فارس، وأشجيناهم حتى اتخذوا الخنادق، وغبقوا المياه، واتخذوا المسالح فى القصور المشيدة وتحصنوا بها، فأذن لنا فى حربهم، فأذن لهما فولاهما على من تابعهما، واستعملهما على ما غلبا عليه، وكانا أول من قدم أرض فارس لقتال أهل فارس، وكانا من المهاجرين ومن صالحى الصحابة، فنزلا أطد»
ونعمان والجعرانة فى أربعة آلاف من تميم والرباب، وكان بإزائهما النوشجان والفيرمان بالوركاء «2» فزحفوا إليهما فغلبوهما على الوركاء، وغلبا على هرمزجرد إلى فرات بادقلى «3» .
وذكر سيف من طريق آخر أن المثنى ومذعورا لما قدما على أبى بكر استأذناه فى غزو أهل فارس وقالا: إنا وإخواننا من بنى تميم قد دربنا بقتالهم، وأخذنا النصف من أحد وثنى كل موسم، فأذن لهما، وولاهما على من تابعهما، واستعملهما على ما غلبا عليه، فجمعا جموعهما ثم سارا بهم حتى قدما بلاد فارس، وكانا أول من قدمها لقتالهم هما وحرملة وسلمى، وقدم المثنى ومذعور فى أربعة آلاف من بكر بن وائل وعنزة وضبيعة، فنزل أحدهما بخفان «4» ، ونزل الآخر بالمهارق، وعلى فرج الفرس مما يليهما شهربراز بن بندا، فنفياه وغلبا على فرات بادقلى إلى السيلحين «5» واتصل ما غلبا عليه وما غلب عليه سلمى وحرملة، وفى ذلك يقول مذعور بن عدى:
غلبنا على خفان بندا وشيحة ... إلى النخلات السحق فوق المهارق
وإنا لنرجو أن تجول خيولنا ... بشاطى الفرات بالسيوف البوارق
وقال المثنى فى ذلك:
__________
(1) أطد: أرض قرب الكوفة من جهة البر. انظر: معجم البلدان (1/ 216) .
(2) انظر: معجم البلدان (5/ 372، 373) .
(3) الخبر عن سيف بن عمر فى معجم البلدان (5/ 372، 373) .
(4) خفان: موضع قرب الكوفة. انظر: معجم البلدان (2/ 379) .
(5) موضع بين الكوفة والقادسية. انظر: معجم البلدان (3/ 298، 299) .(2/370)
ألا أبلغا شهرا وشهر مهاجر ... بأنا سنلقاه على الحدثان
فنحن سللنا شيحة يوم بارق ... إلى شرّ دار تنتوى ومكان
ويروى أن أبا بكر، رحمه الله، لما بلغه ما كان من فتح حرملة وسلمى ومثنى ومذعور ما بين السيلحين إلى أسفل الفرات تمثل بقول الآخر:
ومتى تسلف فى قبيل خطة ... تلق المنال مضاعفا أو موعبا
وإذا عقدت بحبل قوم مرة ... ذربوا عليك فلم تجد لك مقضبا
حيان لا خطما بحبل هضيمة ... أنفا الزمام فلم يقرا مركبا
وحكى عمر بن شبة عن شيوخه من أهل الأخبار: أن المثنى بن حارثة كان يغير على أهل فارس بالسواد، فبلغ أبا بكر والمسلمين خبره، فقال عمر: من هذا الذى تأتينا وقائعه قبل معرفة نسبه، فقال له قيس بن عاصم: أما إنه غير خامل الذكر، ولا مجهول النسب، ولا قليل العدد، ولا ذليل العمارة، ذلك المثنى بن حارثة الشيبانى «1» .
ثم إن المثنى قدم على أبى بكر فقال له: يا خليفة رسول الله، ابعثنى فى قومى، فإن فيهم إسلاما، أقاتل بهم أهل فارس، وأكفك أهل ناحيتى من العدو. ففعل ذلك أبو بكر، فقدم المثنى العراق، فقاتل وأغار على أهل فارس ونواحى السواد حولا مجرّما، ثم بعث أخاه مسعود بن حارثة إلى أبى بكر يسأله المدد، ويقول: إنك إن أمددتنى وسمعت بذلك العرب أسرعوا إلىّ وأذل الله المشركين، مع أنى أخبرك يا خليفة رسول الله، أن الأعاجم تخافنا وتتقينا. فقال له عمر: يا خليفة رسول الله أبعث خالد بن الوليد مددا للمثنى بن حارثة، يكون قريبا من أهل الشام، فإن استغنى عنه أهل الشام ألح على أهل العراق حتى يفتح الله عليه. قال: فهذا الذى هاج أبا بكر، رحمه الله، على أن يبعث خالد بن الوليد إلى العراق «2» .
وفى حديث آخر: أنه ولاه حرب العراق لما قضى ما أراد قضاءه من اليمامة، وكتب إلى المثنى ومذعور وسلمى وحرملة بأن يسمعوا له ويطيعوا.
__________
(1) انظر: الفتوح لابن أعثم الكوفى (1/ 89) ، الاستيعاب لابن عبد البر (ص 1457) ، نهاية الأرب للنويرى (19/ 106) .
(2) انظر: تاريخ فتوح الشام للأزدى (ص 53، 54) ، الاستيعاب لابن عبد البر (ص 1457) ، نهاية الأرب للنويرى (19/ 106، 107) .(2/371)
أخبار الأيام فى زمان خالد بن الوليد رضى الله عنه «1»
وكانت لمن وليها الفضيلة والسابقة والقدمة؛ لأنهم شركوا أهل القادسية والبويب وفضلوهم بولايتهم هذه.
وهذا كما اجتمعت للمهاجرين النصرة مع الهجرة، وفضلوا الأنصار بالهجرة، فروى الشعبى وهشام بن عروة قالا: لما فرغ خالد بن الوليد من اليمامة كتب إليه أبو بكر: إنى قد وليتك حرب العراق، فاحشد من ثبت على الإسلام، وقاتل أهل الردة ممن بينك وبين العراق، من تميم وقيس وأسد وبكر بن وائل وعبد القيس، ثم سر نحو فارس، واستنصر الله عز وجل، وادخل العراق من أسفل العراق، فابدأ بفرج الهند، وهو يومئذ الأبلة «2» ، وكان صاحبها يساجل أهل الهند والسند فى البحر، ويساجل العرب فى البر.
وقال له: تألف أهل فارس، ومن كان فى مملكتهم من الأمم، وأنصفوا من أنفسكم فإنكم كنتم خير أمة أخرجت للناس. نسأل الله أن يجعل من ألحقه بنا وصيره منا خير متبع بإحسان. وإن فتح الله عليك فعارق حتى تلقى عياضا.
وكتب إلى عياض بن غنم وهو بين الحجاز والنباج «3» : أن سر حتى تأتى المصيخ فاحشد من بينك وبينها على إسلامه، وقاتل أهل الردة فابدأ بهم، ثم ادخل العراق من أعلاها فعارق حتى تلقى خالدا.
فاستمد خالد أبا بكر قبل خروجه من اليمامة، فأمده بالقعقاع بن عمرو التميمى، واستمده عياض قبل تحركه، فأمده أبو بكر بعبد بن عوف الحميرى، وقيل لأبى بكر:
أتمد خالدا برجل قد أرفض عنه الناس؟ فقال: لا يهزم جيش فيه مثل القعقاع، وسيحشر من بينه وبين أهل العراق.
وكتب خالد إلى حرملة وسلمى والمثنى ومذعور ليلحقوا به، وأمرهم أن يغزوا جنودهم الأبلة ليوم سماه، ثم حشد من بينه وبين العراق، فحشد ثمانية آلاف من مصر
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 343- 350) ، الكامل لابن الأثير (2/ 261، 263) ، البداية والنهاية لابن كثير (6/ 342، 343) ، تاريخ ابن خلدون (2/ 78) .
(2) الأبلة: بلدة على شاطىء دجلة فى زاوية الخليج الذى يدخل إلى مدينة البصرة. انظر: معجم البلدان (1/ 77) .
(3) النباح: موضع بين البصرة ومكة. انظر: معجم البلدان: (5/ 255، 256) .(2/372)
وربيعة إلى ألفين كانا معه، فقدم فى عشرة آلاف إلى ثمانية آلاف ممن كان مع الأمراء الأربعة، فلقى هرمز فى ثمانية عشر ألفا.
وفيما ذكره سيف من مسير خالد وعياض إلى العراق: أن أبا بكر أمرهما أن يستبقا إلى الحيرة، فأيهما سبق إليها فهو أمير على صاحبه. وقال: فإذا اجتمعتما بالحيرة، وفضضتما مسالح فارس، وأمنتما أن يؤتى المسلمون من خلفهم، فليكن أحد كما ردآ لصاحبه وللمسلمين بالحيرة، وليقتحم الآخر على عدو الله وعدوكم من أهل فارس دارهم ومستقر عزهم بالمدائن.
وكتب إليهما: استعينوا بالله واتقوه، وآثروا أمر الآخرة على الدنيا، يجمع الله لكم بطاعته الدنيا إلى الآخرة، ولا تؤثروا الدنيا فتعجزكم، ويسلبكم الله بمعصيته الدنيا والآخرة، فما أهون العباد على الله إذا عصوه.
قال: ولما عزم خالد على المسير من اليمامة إلى العراق سأل عن الأدلة، فأتى بنفر، فسأل عن أسمائهم، فتفاءل منهم إلى ثلاثة بأسمائهم: ظفر بن عمرو السعدى ورافع بن عميرة الطائى، ومالك بن عباد الأسدى.
وجدد خالد التعبئة، فعبأ الناس تعبئة مستأنفة غير التى دخل بها اليمامة، ونصب لجنده أعلاما غير الذين كانوا أعلامهم، وذلك أن أعلامهم الذين دخل بهم اليمامة قفلوا. فوضع رجالا مكانهم، وتوخى الصحابة، ثم توخى منهم الكماة، فاستعمل على مضر القعقاع بن عمرو «1» ، وعلى ربيعة فرات بن حيان «2» ، وعلى قضاعة وضم إليهم أهل اليمن جرير بن عبد الله الحميرى أخا الأقرع بن عبد الله رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وجعل على القبائل دون ذلك، على نصف خندق، فارس أطلال بكير بن عبد الله الليثى، وعلى النصف الآخر معقل بن مقرن المزنى، وعلى قيس عيلان وعلى غطفان ومن يلاقيهم إلى سعد بن قيس، سعد بن عمارة التغلبى، وعلى هوازن ومن يلاقيهم إلى خصفة أبا حنش بن ذى اللحية العامرى، وضم جديلة إليهم، وهم عمرو بن قيس بن عيلان وعلى اللهازم من بكر بن وائل عتيبة بن النهاس، واللهازم عجل، وتيم اللات، وقيس بن ثعلبة، وعنزة، وعلى الدعائم وهم: شيبان بن ثعلبة، وذهل بن ثعلبة، وضبيعة
__________
(1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (7142) ، أسد الغابة ترجمة رقم (4315) .
(2) انظر ترجمته فى: الثقات (3/ 333) ، تقريب التهذيب (2/ 107) ، الكاشف (2/ 379) ، الجرح والتعديل (7/ 449، 450) ، تهذيب التهذيب (8/ 259) ، الطبقات (65، 132) ، الإصابة ترجمة رقم (6989) ، أسد الغابة ترجمة رقم (4213) .(2/373)
ابن ربيعة، ويشكر بن ربيعة، يشكر بن بكر بن مطر بن عامر الشيبانى، وعلى قضاعة الحارث بن مرة الجهنى، وعلى اليمن مالك بن مرة الرهاوى، وابن زيد الخيل بن مهلهل، وهؤلاء تحت أيدى أولئك الثلاثة.
واستعمل على المقدمات: المثنى بن حارثة، وعلى المجنبات: عدى بن حاتم وعاصم ابن عمرو أخا القعقاع، وعلى الساقة: بسر بن أبى رهم الجهنى صاحب جبانة بسر، واستخلف على اليمامة وهوافى قيس وتميم سبرة بن عمرو العنزى، وكل من أمر له صحبة وقدمة. وخرج قاصدا الهرمز والأبلة.
وقال المغيرة بن عتبة قاضى الكوفة: فرق خالد مخرجه من اليمامة جنده ثلاث فرق، ولم يحملهم على طريقة واحدة، فسرح المثنى قبله بيومين ودليله ظفر، وسرح عديا وعاصما ودليلاهما مالك بن عباد وسالم بن نصر، أحدهما قبل صاحبه بيوم، وخرج خالد ودليله رافع، فواعدهم جميعا الحفير ليجتمعوا فيه وليصادموا به عدوهم.
وكان فرج الهند أعظم فروج فارس شأنا وأشده شوكة، وكان صاحبه يحارب العرب فى البر والهند فى البحر.
وعن الشعبى قال: كتب خالد إلى هرمز قبل خروجه، وهرمز صاحب الثغر يومئذ:
أما بعد، أسلم تسلم، أو اعقد لنفسك وقومك الذمة وأقر بالجزية، وإلا فلا تلومن إلا نفسك، فقد جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة.
ولما قدم كتاب خالد على هرمز كتب بالخبر إلى شيرى بن كسرى، وإلى أزدشير بن شيرى، وجمع جموعه ثم تعجل إلى الكواظم فى سرعان أصحابه ليتلقى خالدا، وسبق حلبته فلم يجد طريق خالد، وبلغه أنهم تواعدوا الحفير، فاعج يبادر خالدا إليه، فنزله فعبأ به، وجعل على مجنبتيه أخوين يلاقيان أزدشير وشيرى آل أزدشير الأكبر، يقال لهما:
قباذ وأنو شجان، فاقترنوا فى السلاسل، فقال من لم ير ذلك لمن رآه: قيدتم أنفسكم لعدوكم، فلا تفعلوا فإن هذا طائر سوء. فأجابوهم: أما أنتم فتحدثوننا أنكم تريدون الهرب. فلما أتى الخبر خالدا بمنزل هرمز أمال الناس إلى كاظمة، وبلغ ذلك هرمز، فبادره إليها فنزلها وهو حسير.
وكان من أسوء أمراء ذلك الفرج جوارا للعرب، فكل العرب عليه مغيظ، وقد كانوا يضربونه مثلا فى الخبث والمكر حتى قالوا: «أخبث من هرمز، وأمكر من هرمز» . وتعبأ هو وأصحابه والماء فى أيديهم.(2/374)
وقدم خالد فنزل على غير ماء، فقالوا له فى ذلك، فأمر مناديه فنادى: ألا انزلوا وحطوا أثقالكم، ثم جالدوهم على الماء، فلعمرى ليصيرن الماء لأصبر الفريقين وأكرم الجندين. فحطت الأثقال والخيل وقوف، وتقدم الرجل ثم زحف إليهم حتى لاقاهم، فاقتتلوا، وأرسل الله سبحانه سحابة فأغدرت ماء وراء صف المسلمين فقواهم بها، وما ارتفع النهار وفى الغائط مقترن.
وأرسل هرمز أصحابه ليغدروا بخالد، ثم خرج فنادى رجل: أين خالد؟ وقد عهد إلى فرسانه عهده. فلما برز خالد نزل هرمز ودعاه إلى البراز، فبرز خالد يمشى إليه، فالتقيا فاختلفا ضربتين واحتضنه خالد، وحملت حامية هرمز وغدرت، فاستلحموا خالدا فما شغله ذلك عن قتله.
وحمل القعقاع بن عمرو، واستلحم حماة هرمز، فأتاهم وخالد يماصعهم، فانهزم أهل فارس، وركب المسلمون أكتافهم إلى الليل، وجمع خالد الرثاث والسلاسل، فكان وقر بعير، ألف رطل، فسميت ذات السلاسل.
قال: وكان أهل فارس يجعلون قلانسهم على قدر أحسابهم فى عشائرهم، فمن تم شرفه فقيمة قلنسوته مائة ألف، وتمام شرف أحدهم أن يكون من البيوتات السبعة، فكان هرمز ممن تم شرفه، فكانت قيمة قلنسوته مائة ألف، فنفلها أبو بكر، رحمه الله، خالدا، وكانت مفصلة بالجوهر.
وقال حنظلة بن زياد بن حنظلة: فلما تراجع الطلب من ذلك اليوم، نادى منادى خالد بالرحيل، وسار بالناس، واتبعته الأثقال حتى نزل موضع الجسر الأعظم من البصرة اليوم، وقد أفلت قباذ وأنوشجان، وبعث خالد بالفتح وما بقى من الأخماس وبالفيل، وقرئ الفتح على الناس، فلما قرئ فيه: «خرجت من اليمامة فى ألفين، وحشرت من ربيعة ومضر ثمانية آلاف، فقدمت فى عشرة آلاف على ثمانية آلاف مع الأمراء الأربعة: المثنى ومذعور وحرملة وسلمى» تمثل أبو بكر، رضى الله عنه:
تمنانا ليلقانا بقوم ... تخال بياض لامهم السرابا
فقد لاقيتنا فأريت يوما ... عماسا يمنع الشيخ الشرابا
تبدل علقما منا بحلو ... ينسيك الغنيمة والإيابا
إذا خرجت سوالفهن زورا ... كأن على حواركهن غابا
عليها كل متصل بمجد ... من الجهتين يلتهب التهابا(2/375)
ولما قدم زر بن كليب بالفيل مع الأخماس فطيف به فى المدينة ليراه الناس، جعلت ضعيفات النساء يقلن: أمن خلق الله ما نرى؟ ورأينه مصنوعا، فرده أبو بكر، رضى الله عنه، مع زر.
وعن زياد بن حنظلة قال: إنى لبالمدينة وقد قدمتها وافدا من البحرين، إذ أرسل إلىّ أبو بكر وقد قدم عليه الخبر بوقعة ذات السلاسل، فقال لى: ألم تعلم أنه كان من الشأن ذيت وذيت، وأن خالدا ألقى هرمز فاستلحم، وأن القعقاع استلحم فقتلهم وتنفل؟.
قال زياد: فأقبلت على نفسى أحدثها فقلت: الخليفة وفراسته، وذكرت قوله:
«ولا يهزم جيش فيهم مثل هذا» ، فما راعنى إلا وأبو بكر يقول: أين أنت يا زياد؟ أما إن خالدا سيتغير له ويتنكر، ثم يراجع ويعرف الحق. فاستنكره القعقاع بعد ذلك، ووقع بينهما ما يقع بين الناس حتى قال القعقاع يعاتبه ولم يكن إلا ذلك:
منعتك من قرنى قباذ وليتنى ... تركتك فاستذكت عليك المعاتب
عطفت عليك المهر حتى تفرجت ... وملت من الطعن الدراك الرواجب
أجالدهم والخيل تنحط فى القنا ... وأنت وحيد قد حوتك الكتائب
وكائن هزمنا من كتيبة قاهر ... وكم عجمتنا فى الحروب العجائب
ولما نزل خالد موضع الجسر الأعظم اليوم بالبصرة بعث المثنى بن حارثة فى آثار القوم، فمضى حتى انتهى إلى نهر المرأة وإلى الحصن الذى فيه المرأة، فخلف المثنى بن حارثة عليها من حاصرها فى قصرها، ومضى المثنى، وأسلمت فتزوجها المثنى، ولم يحرك خالد وأمراؤه الفلاحين فى شىء من فتوحهم لتقدم أبى بكر فيهم، وسبى أولاد المقاتلة الذين كانوا يقومون بأمور الأعاجم، وأقر من لم ينهض من الفلاحين وجعل لهم الذمة.
وبلغ سهم الفارس يوم ذات السلاسل والثنى ألف درهم، والراجل على الثلث من ذلك.
حديث الثّنى والمذار «1»
وكانت وقعة المذار فى صفر سنة اثنتى عشرة، ويومئذ قال الناس: صفر الأصفار، فيه يقتل كل جبار، على مجمع الأنهار.
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 351، 352) ، الكامل لابن الأثير (2/ 263) ، نهاية الأرب للنويرى (19/ 108، 109) .(2/376)
ولما كتب هرمز إلى ملكهم بكتاب خالد إليه بمسيره من اليمامة نحوه، أمده بقارن بن قربانس، فخرج من المدائن ممدّا لهرمز؛ حتى إذا انتهى إلى المذار بلغته الهزيمة؛ وانتهى إليه الفلال فتذامروا، وقال فلال الأهواز وفارس لفلال السواد والجبل: إن افترقتم لم تجتمعوا بعدها أبدا؛ فاجتمعوا على العدو مرة واحدة، فهذا مدد الملك وهذا قارن، لعل الله يديلنا ويشفينا من عدونا وندرك بعض ما أصابوا منّا. ففعلوا وعسكروا بالمذار، واستعمل قارن على مجنبتيه قباذ وأنوشجان، فأرسل المثنى إلى خالد بالخبر؛ فعند ذلك قسم خالد الفىء على من أفاء الله عليه، ونفل من الخمس ما شاء الله، وبعث مع الوليد ابن عقبة ببقيته، وبالفتح إلى أبى بكر، وبالخبر عن القوم، وباجتماع المغيث منهم والمغاث إلى الثنى، وهو النهر، وخرج خالدا سائرا إليهم حتى ينزل المذار، فالتقوا وخالد على تعبئته، فاقتتلوا على حنق وحفيظة، وخرج قارن يدعو للبراز، فبرز له خالد وأبيض الركبان معقل بن الأعشى بن النباش، فابتدراه، فسبقه إليه معقل فقتله، وقتل عاصم أنو شجان، وقتل عدى قباذ. وكان شرف قارن قد انتهى؛ ثم لم يقاتل المسلمون بعده أحدا انتهى شرفه فى الأعاجم.
وقتلت فارس مقتلة عظيمة؛ فضموا السفن ومنعت المياه المسلمين من طلبهم. وأقام خالد بالمذار، وسلم الأسلاب لمن سلبها بالغة ما بلغت وقسم الفىء ونفل من الأخماس ما نفل فى أهل البلاء، وبعث ببقيتها إلى أبى بكر، رضى الله عنه.
وعن الشعبى قال: دفع خالد إلى أبيض الركبان سلب قارن وقيمته مائة ألف، وإلى عاصم وعدى سلب أنوشجان وقباذ، وقيمة سلب كل واحد منهما ثلاثة أرباع الشرف.
وعن أبى عثمان قال: قتل ليلة المذار ثلاثون ألفا سوى من غرق، ولولا المياه لأتى على آخرهم، ولم يفلت منهم من أفلت إلا عراة أو أشباه العراة.
قال الشعبى: لم يلق خالد أحدا بعد هرمز إلا كانت الوقعة الآخرة أعظم من التى قبلها.
وأقام خالد بالثنى يسبى عيالات المقاتلة ومن أعانهم، وأقر الفلاحين ومن أجاب إلى الخراج من جميع الناس بعد ما دعوا، وكل ذلك أخذ عنوة، ولكن دعوا إلى الجزاء فأجابوا وتراجعوا، وصاروا ذمة، وصارت أرضهم خراجا؛ وكذلك جرى ما لم يقسم، فإذا اقتسم فلا، ومن ذلك السبى كان حبيب أبو الحسن البصرى، وكان نصرانيا.
وقال عزيز بن مكنف: لم يدع خالد بعد هرمز أحدا من الأعاجم حتى هلك أزدشير(2/377)
إلا أن يدعو قوما بعد ما يغلبهم على أرضهم ويجليهم عنها إلى الجزاء والذمة فيرد عليهم أرضهم فيصيروا ذمة ما لم تقتسم، وبذلك جرت السنة.
وأمر خالد على الجزاء سويد بن مقرن المزنى، وأمره بنزول الحفير، وأمره ببث عماله، ووضع يديه فى الجباية، وأقام لعدوه يتحسس الأخبار.
وقال عاصم بن عمرو فى ذلك من أبيات:
فلم أر مثل يوم السيب حتى ... رأيت الثنى تخضبه الدماء
وألوت خيلنا لما التقينا ... بقارن والأمور لها انتهاء
حديث الولجة «1» وهى مما يلى كسكر من البر
وكانت فى صفر سنة اثنتى عشرة.
قالوا: لما وقع الخبر إلى أردشير بمصاب قارن وأهل المذار، أرسل الأنذرزعر، وكان فارسيا من مولدى السواد وتنائهم؛ ولم يكن ممن ولد فى المدائن ولا نشأ بها، وأرسل بهمن جاذويه فى أثره، وكان رافد فارس فى يوم من أيام شهرهم، وذلك أنهم بنوا شهورهم كل شهر على ثلاثين يوما؛ فكان لأهل فارس فى كل يوم رافد نصب لذلك يرفدهم عند الملك؛ فكان بهمن أحدهم، فخرج الأنذرزعر سائرا من المدائن حتى أتى كسكر «2» ، ثم جازها إلى الوالجة «3» ، وخرج بهمن جاذويه فى أثره، فأخذ غير طريقه فسلك أوسط السواد، وقد حشد الأنذرزعر من بين الحيرة وكسكر من عرب الضاحية والدهاقين فعسكروا إلى جنب عسكره بالولجة؛ فلما اجتمع له ما أراد واستتم له أعجبه ما هو فيه، وأجمع السير إلى خالد.
ولما بلغ خالدا خبره ونزوله الولجة، نادى بالرحيل، وخلف سويد بن مقرن، وأمره بلزوم الحفير، وتقدم إلى من خلف بأسفل دجلة، وأمرهم بالحذر وقلة الغفلة، وترك
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 353، 354) ، الكامل لابن الأثير (263، 264) ، البداية والنهاية لابن كثير (6/ 345) ، نهاية الأرب للنويرى (19/ 109) .
(2) كسكر: أى عامل الزرع، وهو بلد بالعراق بين الكوفة والبصرة. انظر: معجم البلدان (4/ 461) .
(3) الولجة والوالج: موضع يلى كسكر من البر. انظر: تاريخ الرسل والملوك للطبرى (3/ 353) ، معجم البلدان (5/ 383) .(2/378)
الاغترار، وخرج سائرا فى الجنود نحو الولجة، حتى نزل على الأنذرزعر وجنوده ومن تأشب إليه، فاقتتلوا قتالا شديدا؛ هو أعظم من قتال الثنى، حتى ظن الفريقان أن الصبر قد فرغ، واستبطأ خالد كمينه؛ وكان قد وضع لهم كمينا فى ناحيتين، عليهم بسر بن أبى رهم وسعيد بن مرة العجلى، فخرج الكمين من وجهين، فانهزمت صفوف العاجم وولوا؛ وأخذهم خالد من بين أيديهم والكمين من خلفهم، فلم ير رجل منهم مقتل صاحبه؛ ومضى الأنذرزعر فى هزيمته، فمات عطشا. وقام خالد فى الناس خطيبا يرغبهم فى بلاد العجم، ويزهدهم فى بلاد العرب، وقال: ألا ترون إلى الطعام كالتراب، والله لو لم يلزمنا الجهاد فى الله، والدعاء إليه، ولم يكن إلا المعاش لكان الرأى أن نقارع على هذا الريف حتى نكون أولى به، ونولى الجوع والإقلال من تولاه ممن تثاقل عما أنتم عليه.
وسار خالد فى الفلاحين سيرته فلم يقتلهم، وسبى ذرارى المقاتلة ومن أعانهم، ودعا أهل الأرض إلى الجزاء والذمة فتراجعوا.
وبارز خالد يوم الولجة رجلا من أهل فارس يعدل بألف رجل فقتله، فلما فرغ اتكأ عليه، ودعا بغذائه.
وقال خالد يذكر ذلك اليوم:
نهكناهم بها حتى استجاروا ... ولولا الله لم يرزوا قبالا
فولوا الله نعمته وقولوا ... ألا بالله نحتضر القتالا
وقال القعقاع فى ذلك وأثنى على المسلمين:
ولم أر قوما مثل قوم رأيتهم ... على ولجات البر أحمى وأنجبا
وأقتل للرواس فى كل مجمع ... إذا صعصع الدهر الجموع وكبكبا
فنحن حبسنا بالزمازم بعد ما ... أقاموا لنا فى عرصة الدار ترقبا
قتلناهم ما بين قلع مطلق ... إلى القيعة الغبراء يوما مطنبا
حديث ألّيس، وهى على صلب الفرات «1»
ولما أصاب خالد من أصاب يوم الولجة من بكر بن وائل من نصاراهم الذين أعانوا
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 355- 358) ، الروض المعطار (ص 29، 30) ، الكامل لابن الأثير (2/ 264، 265) ، نهاية الأرب للنويرى (19/ 109، 110) ، البداية والنهاية لابن كثير (ص 346، 347) .(2/379)
أهل فارس غضب لهم نصارى قومهم؛ فكاتبوا الأعاجم وكاتبتهم الأعاجم؛ فاجتمعوا إلى أليس، وعليهم عبد الأسود العجلى، وكان أشد الناس على أولئك النصارى مسلموا بنى عجل عتيبة بن النهاس وسعيد بن مرة وفرات بن حيان والمثنى بن لاحق ومذعور بن عدى.
وكتب أردشير إلى بهمن جاذويه: أن سر حتى تقدم أليس بجيشك إلى من اجتمع بها من فارس ونصارى العرب. فقدم بهمن أمامه جابان وأمره بالحث وقال له: كفكف نفسك وجندك عن قتال القوم حتى ألحق بك إلا أن يعجلوك. فسار جابان نحو أليس، وانطلق بهمهن إلى أردشير ليحدث به عهدا، ويستأمره فيما يريد أن يشير به، فوجده مريضا؛ فعرج عليه، وأخلى جابان بذلك الوجه، ومضى جابان حتى انتهى إلى أليس فنزل بها، واجتمعت إليه المسالح التى كانت بإزاء العرب، وعبد الأسود فى نصارى بنى عجل وتيم اللات وضبيعة وعرب الضاحية من أهل الحيرة، وكان أبجر بن بجير نصرانيا فساند عبد الأسود؛ وكان خالد بلغه بجمع عبد الأسود وأبجر وزهير فيمن تأشب إليهم، فنهد إليهم ولا يشعر بدنو جابان، وليست لخالد همة إلا من تجمع له من عرب الضاحية ونصاراهم.
ولما طلع خالد على أليس قالت الأعاجم لجابان: أنعاجلهم أو نغدى الناس ولا نريهم أنا نحفل بهم، ثم نقاتلهم بعد الفراغ؟ فقال جابان: إن تركوكم والتهاون بهم فتهاونوا، ولكن ظنى أن سيعاجلوكم ويعجلوكم عن طعامكم، فعصوه وبسطوا البسط ووضعوا الأطعمة، وتداعوا إليها، وتوافوا عليها.
فلما انتهى خالد إليهم أمر بحط الأثقال، فلما وضعت توجه إليهم، ووكل خالد بنفسه حوامى يحمون ظهره، ثم برز أمام الصف فنادى: أين أبجر؟ أين مالك بن قيس؟
رجل من خدرة، فنكلوا عنه جميعا إلا مالكا، فبرز له، فقال له خالد: يا ابن الخبيثة، ما جرأك علىّ من بينهم، وليس فيك وفاء!.
وقال:
أنا ابن ذات الحسب الممذوق ... إنك فى ضيق أشد الضيق
وضربه فقتله، وأجهض الأعاجم عن طعامهم قبل أن يأكلوه، فقال لهم جابان: ألم أقل لكم يا قوم؟ لا والله ما دخلتنى من رئيس وحشة قط حتى كان اليوم، فقالوا: تجلدا، حيث لم يقدروا على الأكل: ندعها حتى نفرغ منهم؛ ثم نعود إليها. فقال جابان:(2/380)
وأيضا أظنكم والله لهم وضعتموها وأنتم لا تشعرون، فالآن فأطيعونى وسموها؛ فإن كانت لنا فأهون هالك، وإن كانت علينا كنا قد صنعنا شيئا، وأبلينا عذرا. فقالوا: لا، إلا اقتدارا عليهم.
وجعل جابان على مجنبتيه عبد الأسود وأبجر، وخالد على تعبئته فى الأيام التى قبلها، فاقتتلوا قتالا شديدا، والمشركون يزيدهم كلبا وشدة ما يتوقعون من قدوم بهمن، فصابروا المسلمين للذى كان فى علم الله أن يصيرهم إليه، وحرب المسلمون عليهم، وقال خالد: اللهم لك علىّ إن منحتنا أكتافهم أن لا استبقى منهم أحدا قدرنا عليه حتى أجرى نهرهم بدمائهم! ثم إن الله، عز وجل، كشفهم للمسلمين، ومنحهم أكتافهم، فأمر خالد مناديه، فنادى فى الناس: الأسر الأسر! لا تقتلوا إلا من امتنع، فأقبلت الخيول بهم أفواجا مستأسرين يساقون سوقا، وقد وكل بهم رجالا يضربون أعناقهم فى النهر، ففعل ذلك بهم يوما وليلة وطلبوهم الغد وبعد الغد؛ حتى انتهوا إلى النهرين، ومقدار ذلك من كل جوانب أليس. فضرب أعناقهم، وكانت على النهر أرحاء فطحنت بالماء وهو أحمر قوت العسكر ثلاثة أيام وهم ثمانية عشر ألفا أو يزيدون.
ولما رجع المسلمون من طلبهم، ودخلوا عسكرهم، وقف خالد على الطعام الذى كان المشركون قدموه لغدائهم فأعجلوا عنه، فقال للمسلمين: قد نفلتكموه فهو لكم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى على طعام مصنوع نفله، فقعد الناس على ذلك لعشائهم بالليل، وجعل من لا يرد الأرياف ولا يعرف الرقاق يقول: ما هذه الرقاع البيض! وجعل من قد عرفها يجيبهم، ويقول لهم مازحا: هل سمعتم برقيق العيش؟ فيقولون: نعم، فيقول: هو هذا؛ فسمى الرقاق.
وعن خالد بن الوليد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفل الناس يوم خيبر الخبز والطبيخ والشواء وما أكلوا غير ذلك فى بطونهم غير متأثليه.
وبعث خالد بالخبر مع رجل يدعى جندلا من بنى عجل، وكان دليلا صارما، فقدم على أبى بكر، رضى الله عنه، بالخبر، وبفتح أليس، وبقدر الفىء، وبعدة السبى، وبما حصل من الأخماس، وبأهل البلاء من الناس، فلما رأى أبو بكر صرامته وثبات خبره، قال: ما اسمك؟ قال: جندل. فقال أبو بكر: ويها جندل:
نفس عصام سودت عصاما ... وعلمته الكرّ والإقداما
وأمر له بجارية من السبى فولدت له.(2/381)
وكان خالد وجنده هم جند المسلمين، وكتيبة الإسلام، بهم فض الله أهل فارس ورعبهم، وما زالت بعدها مرعوبة منتشرة لم يأتوا فى وقعة بمثل ذلك الجد والصبر إلى أن فارقهم خالد إلى الشام.
وبلغت قتلاهم يوم أليس سبعين ألفا جلهم من أمغيشيا، وفى ذلك يقول الأسود بن قطبة:
قتلنا منهم سبعين ألفا ... بقية خربهم غبّ الإسار
سوى من ليس يحصى من قتيل ... ومن قد غال جولان الغبار
وقال خالد بن الوليد لما افتتح الحيرة: لقد قاتلت يوم مؤتة فانقطع فى يدى تسعة أسياف، وما لقيت قوما كقوم لقيتهم من أهل فارس، وما لقيت من أهل فارس قوما كأهل أليس.
حديث أمغيشيا وكيف أفاءها الله بغير قتال «1»
ولما فرغ خالد من وقعة أليس، نهض فأتى على أمغيشيا وقد أعجلهم عما فيها، وقد جلا أهلها، وتفرقوا فى السواد، فأمر خالد بهدمها وهدم كل شىء كان فى حيزها وكانت مصرا كالحيرة؛ وكان فرات بادقلى ينتهى إليها، وكان أليس من مسالحها، فأصابوا فيها ما لم يصيبوا قط قبله مثله.
وبلغ سهم الفارس ألفا وخمسمائة، سوى الأنفال التى نفلها أهل البلاء.
ولما بلغ ذلك أبا بكر قال: يا معشر قريش، عدا أسدكم على الأسد فغلبه على خراذيله، أعجز النساء أن ينسأن بمثل خالد.
حديث يوم المقر وفم فرات بادقلى مع ما يتصل به من حديث الحيرة «2»
ذكر أن الآزادبه كان مرزبان الحيرة من زمان كسرى إلى ذلك اليوم، وكانوا لا يمد
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 358، 359) ، الروض المعطار (ص 31) .
(2) انظر: الطبرى (3/ 359- 373) ، الكامل لابن الأثير (3/ 265- 268) ، نهاية الأرب للنويرى (19/ 111، 112) ، البداية والنهاية لابن كثير (6/ 347، 348) .(2/382)
بعضهم بعضا إلا بإذن الملك، فلما أخرب خالد أمغيشيا علم أنه غير متروك، فتهيأ لحرب خالد، وقدم ابنه، ثم خرج فى أثره، فعسكر خارجا من الحيرة، وأمر ابنه بسد الفرات.
ولما استقبل خالد من أمر أمغيشيا وحمل الرجل فى السفن مع الأثقال والأنفال، لم يفجأ خالدا إلا والسفن جوانح فارتاعوا لذلك، فقال الملاحون: إن أهل فارس فجروا النهار، فسلك الماء على غير طريقه، فلا يأتينا الماء إلا بسد الأنهار، فتعجل خالد فى خيل نحو الآزادبه، فلقى على فم العتيق خيلا من خيلهم، فجأهم وهم آمنون غارته تلك الساعة، فأنامهم بالمقر، ثم سار من فوره، وسبق الأخبار إلى ابن الآزادبه حتى يلقاه وجنوده بفم فرات بادقلى، فاقتتلوا، فأنامهم خالد، وفجر الفرات وسد الأنهار فسلك الماء سبيله.
ثم قصد خالد للحيرة، واستلحق أصحابه، وسار حتى ينزل بين الخورنق والنجف، فقدم خالد الخورنق، وقد قطع الآزادبه الفرات هربا من غير قتال، وإنما جرأه على الهرب أن الخبر وقع إليه بموت أردشير وبمصاب ابنه، وكان عسكره بين الغربين والقصر الأبيض. ولما تتام أصحاب خالد إليه بالخورنق خرج منه حتى يعسكر فى موضع عسكر الآزادبه بين الغربين والقصر الأبيض، وأهل الحيرة متحصنون، فأدخل خالد الحيرة الخيل من عسكره، وأمر بكل قصر رجلا من قواده يحاصر أهله ويقاتلهم، فكان ضرار بن الأزور محاصرا للقصر الأبيض، وفيه إياس بن قبيصة الطائى، وكان ضرار بن الخطاب محاصرا قصر الغربين وفيه عدى بن عدى المقتول، وكان ضرار بن مقرن المزنى، عاشر عشرة إخوة له، محاصرا قصر بنى مازن وفيه ابن أكال، وكان المثنى محاصرا قصر بنى بقيلة وفيه عمرو بن عبد المسيح، فدعوهم جميعا، وأجلوهم يوما، فأبى أهل الحيرة ولجوا، فناوشهم المسلمون.
وعهد خالد إلى أمرائه أن يبدؤا بالدعاء، فإن قبلوا قبلوا منهم، وإن أبوا أجلوهم يوما، وقال: لا تمكنوا عدوكم من آذانكم فيتربصوا بكم الدوائر، ولكن ناجزوهم ولا ترددوا المسلمين عن قتال عدوهم.
فكان أول القواد أنشب القتال بعد يوم أجلوهم فيه ضرار بن الأزور، وكان على قتال القصر الأبيض، فأصبحوا وهم مشرفون، فدعاهم إلى إحدى ثلاث: الإسلام، أو الجزاء، أو المنابذة، فاختاروا المنابذة، فقال ضرار: ارشقوهم، فدنوا منهم فرشقوهم بالنبل، فأعروا رؤس الحيطان، ثم بثوا غارتهم فيمن يليهم، وصبح أمير كل قوم أصحابه(2/383)
بمثل ذلك، فافتتحوا الدور والديران، وأكثروا القتل، فنادى القسيسون والرهبان: يا أهل القصور، ما يقتلنا غيركم. فنادى أهل القصور: يا معشر العرب، قد قبلنا واحدة من ثلاث فدعونا وكفوا عنا حتى تبلغونا خالدا.
وكان أول من طلب الصلح عمرو بن عبد المسيح بن قيس بن حيان بن الحارث وهو بقيلة، وإنما سمى بقيلة لأنه خرج على قومه فى بردين أخضرين، فقالوا له: يا حار ما أنت إلا بقيلة خضراء، ثم تتابعوا على ذلك. فخرج وجوه كل قصر إلى من كان عليه من أمراء خالد، فأرسلوهم إليه مع كل رجل منهم ثقة من قبل مرسله، فخلا خالد بأهل كل قصر منهم دون الآخرين، وبدأ بأصحاب عدى بن عدى وقال: ويحكم ما أنتم؟
أعرب؟ فما تنقمون من العرب؟ أو عجم؟ فما تنقمون من الإنصاف والعدل؟ فقال له عدى: بل عرب عاربة وأخرى متعربة، فقال: لو كنتم كما تقولون لم تحادونا وتكرهوا أمرنا؟! فقال له عدى: ليدلك على ما تقول أنه ليس لنا لسان إلا بالعربية، فقال:
صدقت. اختاروا واحدة من ثلاث: إما أن تدخلوا فى ديننا فلكم ما لنا وعليكم ما علينا إن نهضتم وهاجرتم أو أقمتم فى دياركم، أو الجزية، أو المنابذة والمناجزة، فقد والله أتيتكم بقوم هم أحرى على الموت منكم على الحياة. فقال: بل نعطيكم الجزية، فقال خالد: تبا لكم، ويحكم إن الكفر فلاة مضلة، فأحمق العرب من سلكها فلقيه دليلان:
أحدهما عربى فتركه واستدل الأعجمى. فصالحوه على مائة ألف وتسعين ألفا، وتتابعوا على ذلك، وأهدوا له الهدايا، وبعث بالفتح والهدايا إلى أبى بكر الصديق، فقبلها أبو بكر، رضى الله عنه، من الجزاء، وكتب إلى خالد: أن احسب لهم هديتهم من الجزاء، إلا أن تكون من الجزاء وخذ بقية ما عليهم فقو بها أصحابك.
وفى حديث مثله أو نحوه عن رجل من كنانة وغيره: أن أهل الحيرة لما انتهوا إلى خالد كانوا يختلفون إليه ويقدمون فى حوائجهم عمرو بن عبد المسيح، فقال له خالد:
كم أتت عليك؟ قال: مئوسنين، قال: فما أعجب ما رأيت؟ قال: رأيت القرى منظومة ما بين دمشق والحيرة، وتخرج المرأة من الحيرة فلا تزود إلا رغيفا، فتبسم خالد، قال:
هل لك من شيخك إلا عقله ... خرفت والله يا عمرو
ثم أقبل على أهل الحيرة وقال: ألم يبلغنى أنكم خبثة خدعة مكرة؟ فما لكم تتناولون حوائجكم بخرف لا يدرى من أين جاء؟ فتجاهل له عمرو، وأحب أن يريه من نفسه ما يعرف به عقله، ويستدل به على صحة ما حدثه به، فقال: وحقك أيها الأمير، إنى لأعرف من أين جئت؟ قال: فمن أين جئت؟ قال: أقرب أم أباعد؟ قال: ما شئت، قال:(2/384)
من بطن أمى، قال: فأين تريد؟ قال: ما أمامى، قال: وما هو؟ قال: الآخرة. قال: فمن أين أقصى أثرك؟ قال: صلب أبى، قال: ففيم أنت؟ قال: فى ثيابى، فقال خالد: إنه ليعقل! قال: أى والله وأفيد، فوجده حين فره عضا وكان أهل قريته أعلم به.
وقال خالد: قتلت أرض جاهلها، وقتل أرضا عالمها، القوم أعلم بما فيهم! فقال عمرو: والنملة أعلم بما فى بيتها من الجمل بما فى بيت النملة!.
قالوا: وكان مع ابن بقيلة منصف له متعلقا كيسا فى حقوه، فتناول خالد الكيس ونثر ما فيه فى راحته، وقال: ما هذا يا عمرو؟ قال: هذا وأمنة الله سمّ ساعة، قال: ولم تحتقبه؟ قال: خشيت أن تكونوا على غير ما رأيت، وقد أتيت على أجلى، والموت أحب إلىّ من مكروه أدخله على قومى. فقال خالد: إنه لن تموت نفس حتى تأتى على أجلها، وقال: بسم الله خير الأسماء، ورب الأرض والسماء، الذى ليس يضر مع اسمه داء، فأهووا إليه ليمنعوه، فبادرهم وابتلع السم، فقال عمرو: والله يا معشر العرب لتملكن ما أردتم ما دام منكم أحد أيها القرن.
وأقبل على أهل الحيرة، وقال: لم أر كاليوم أمرا أوضح إقبالا.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكر الحيرة وأنه أريها ورفعت له، وكأن شرف قصورها أضراس الكلاب، وأنها ستفتح على المسلمين. فسأله رجل يقال له: شويل، كرامة بنت عبد المسيح، فقال له: «هى لك إذا فتحت عنوة» ، يعنى الحيرة، فلما راوض أهل الحيرة خالدا على الصلح وأداء الجزية قام إليه شويل فذكر له ذلك وشهد له به، فأبى خالد أن يكاتبهم إلا على إسلام كرامة إلى شويل، فثقل ذلك عليهم، فقالت: هونوا عليكم وأسلمونى، فإنى سأفتدى، ففعلوا، وكتب خالد بينه وبينهم كتابا:
«بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عاهد عليه خالد بن الوليد عديا وعمرا ابنى عدى، وعمرو بن عبد المسيح، وإياس بن قبيصة، وحيرى بن أكال، وهم نقباء أهل الحيرة، ورضى بذلك أهل الحيرة وأمروهم به، وعاهدوهم على تسعين ومائة ألف درهم، تقبل فى كل سنة جزاء عن أيديهم فى الدنيا، رهبانهم وقسيسيهم، وجماعتهم، إلا من كان غير ذى يد، حبيسا عن الدنيا، تاركا لها، وسائحا تاركا للدنيا، وعلى المنعة، فإن لم يمنعهم فلا شىء عليهم حتى يمنعهم، وإن غدروا بقول أو فعل فالذمة منهم بريئة. وكتب فى شهر ربيع الأول سنة اثنتى عشرة» .
فاستخف أهل الحيرة بهذا الكتاب وضيعوه، فلما نقض أهل السواد بعد موت أبى(2/385)
بكر وكفروا فيمن كفر، وغلب عليهم أهل فارس، ثم افتتحها المثنى بن حارثة ثانية، أدلوا بمقتضى ذلك الكتاب، فلم يجبهم إليه، ودعا بشرط آخر، فلما غلب المثنى على البلاد كفروا فيمن كفر، وأعانوا، واستخفوا وأضاعوا الكتاب، فلما افتتحها سعد، أدلوا بذلك فسألهم واحدا من الشرطين، فلم يجيبوا به، فوضع عليهم وتحرى ما يرى أنهم يطيقون، فوضع عليهم أربعمائة ألف سوى الخزرة، وهو رسم كان عليهم لكسرى فى كل سنة أربعة دراهم على كل رأس.
وفيما حكاه ابن الكلبى من حديث الحيرة أن الذى خرج منهم إلى خالد هو عبد المسيح بن عمرو بن بقيلة وهانئ بن قبيصة الطائى، مع من خرج إليه من أشرافهم، وأن خالدا سأل عبد المسيح فذكر نحوا مما تقدم عن عمرو بن عبد المسيح إلى أن قال له:
ويحك تعقل قال: نعم، وأفيد. قال خالد: وأنا أسألك، قال عبد المسيح: وأنا أجيبك.
قال: أسلم أنت أم حرب؟ قال: بل سلم. قال: فما هذه الحصون التى أرى؟ قال: بنيناها للسفيه تمنعه حتى يأتى الحليم فينهاه. ثم ذكر من مصالحته إياهم على الجزية نحوا مما تقدم.
قال: فكانت أول جزية حملت إلى المدينة، من العراق، ثم نزل على بانقيا فصالحهم بصهير بن صلوبا على ألف درهم وطيلسان، وكتب لهم كتابا.
وعن ابن إسحاق أن أول شىء صالح عليه خالد حين سار يريد العراق قريات من السواد، يقال لها: بانقيا، وباروسما، وأليس، نزل عليها خالد فصالحه عليها ابن صلوبا، فقبل منهم خالد الجزية، وكتب لهم كتابا.
قال: ثم أقبل خالد بمن معه حتى نزل الحيرة فجعل ابن إسحاق شأن تلك القريات مقدما على أمر الحيرة، والأكثرون يقولون إنها كانت بعدها، وإن أهلها وسائر دهاقين الملطاطين إنما كانوا يتربصون وينظرون ما يصنع أهل الحيرة. فلما استقام ما بين أهل الحيرة وبين خالد على الصلح طلب جميعهم الصلح وسمحوا بالجزية واكتتبوا بها من خالد كتبا.
وبين الرواة خلاف كثير فى أسماء الرجال والأماكن ومقادير الجزاء، فرأيت اختصار ذلك أولى.
وعن الشعبى فى حديث كرامة بنت عبد المسيح لما اشتد على قومها دفعها إلى شويل وأعظم الخطر، قالت لهم: لا تخطروه، ولكن اصبروا، ما تخافون على امرأة بلغت ثمانين(2/386)
سنة؟ إنما هذا رجل أحمق رآنى فى شبيبتى فظن أن الشباب يدوم. فدفعوها إلى خالد، فدفعها خالد إليه، فقالت: ما أربك إلى عجوز كما قد ترى؟ فأدنى قال: لا، إلا على حكمى، قالت: فلك حكمك مرسلا، فقال: لست لأم شويل إن نقصتك من ألف درهم! فاستكثرت ذلك لتخدعه، ثم أتته بها. فرجعت إلى أهلها، فتسامع الناس بذلك، فعنفوه، فقال: ما كنت أرى أن عددا يزيد على ألف، وخاصمهم إلى خالد، وقال:
كانت نيتى غاية العدد، وقد ذكروا أن العدد يزيد على ألف، فقال خالد: أردت أمرا وأراد الله غيره، ونأخذ بما ظهر وندعك ونيتك، كاذبا كنت أو صادقا.
ومما يروى من شعر ابن بقيلة:
أبعد المنذرين أرى سواما ... تروح بالخورنق والسدير
وبعد فوارس النعمان أرعى ... قلوصا بين مرة والحفير
فصرنا بعد ملك أبى قبيس ... كجرب المعز فى اليوم المطير
تقسمنا القبائل من معد ... علانية كأيسار الجزور
وكنا لا يرام لنا حريم ... فنحن كضرة الضرع الفجور
نودى الخرج بعد خراج كسرى ... وخرج من قريظة والنضير
كذاك الدهر دولته سجال ... فيوم فى مساءة أو سرور
وقال القعقاع بن عمرو فى أيام الحيرة «1» :
سقى الله قتلى بالفرات مقيمة ... وأخرى بأثباج النجاف الكوانف
فنحن وطئنا بالكواظم هرمزا ... وبالثنى قرنى قارن بالجوارف
ويوم أحطنا بالقصور تتابعت ... على الحيرة الروحاء إحدى المصارف
حططناهم منها وقد كاد عرشهم ... يميل به فعل الجبان المخالف
مننا عليهم بالقبول وقد رأوا ... عيون المنايا حول تلك المحارف
صبيحة قالوا نحن قوم تنزلوا ... إلى الريف من أرض العريب النفانف
وقال أخوه عاصم بن عمرو فى ذلك:
صبحنا الحيرة الروحاء خيلا ... ورجلا فوق أثباج الركاب
حصرنا فى نواحيها قصورا ... مشرفة كأضراس الكلاب
فبادوا بالعريب ولم يحاموا ... فقلنا دونكم فعل العراب
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 365) ، البداية والنهاية لابن كثير (6/ 348) .(2/387)
فقالوا بل نؤدى الخرج حتى ... تزل الراسيات من الضراب
صدفنا عنهم لما اتقونا ... وأبنا حيث أبنا بالنهاب
وبعث خالد بن الوليد عماله ومسالحه، لجباية الخراج وحماية البلاد، وأمر أمراءه على الثغور بالغارة والإلحاح، فنزلوا على السيب فى عرض سلطانه، وهناك كانت الثغور فى زمانه، فمهدوا له ما وراء ذلك إلى شاطئ دجلة، وليس لأهل فارس فيما بين الحيرة ودجلة أمر، وليس لأحدهم ذمة إلا الذين كاتبوا خالدا واكتتبوا منه، وسائر أهل السواد جلاء ومتحصنون ومحاربون، وجنى الخراج إلى خالد فى خمسين ليلة، وكان الذين ضمنوه رؤس الرساتيق رهنا فى يديه، فأعطى ذلك كله المسلمين، فقووا به على أمرهم.
وقال أبو مفزر الأسود بن قطبة فيما فتح بعد الحيرة:
ألا أبلغا عنا الخليفة أننا ... غلبنا على نصف السواد الأكاسرا
غلبنا على ماء الفرات وأرضه ... عشية حزنا بالسيوف الأكابرا
فدرت علينا جزية القوم بعد ما ... ضربناهم ضربا يقط البواترا
ولما غلب خالد على أحد جانبى السواد، دعا برجلين، أحدهما حيرى والآخر نبطى، وكتب معهما كتابين إلى أهل فارس، أحدهما إلى الخاصة والآخر إلى العامة. وهذا أحدهما:
«بسم الله الرحمن الرحيم، من خالد بن الوليد إلى ملوك فارس، أما بعد، فالحمد لله الذى حل نظامكم، ووهن كيدكم، وفرق كلمتكم، ولو لم يفعل ذلك بكم لكان شرا لكم، فادخلوا فى أمرنا ندعكم وأرضكم، ونجزكم إلى غيركم، وإلا كان ذلك على غلب وأنتم كارهون، على أيدى قوم يحبون الموت كحبكم الحياة» .
والكتاب الآخر:
«بسم الله الرحمن الرحيم، من خالد بن الوليد إلى مرازبة فارس، أما بعد، فالحمد لله الذى فض حرمتكم، وفرق كلمتكم، وفل حدكم، وكسر شوكتكم، فأسلموا تسلموا، وإلا فاعتقدوا منى الذمة، وأدوا الجزية، وإلا فقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة» .
ودعا خالد الرجل الحيرى فقال له: ما اسمك؟ قال: مرة. قال: خذ الكتاب، لأحد الكتابين، فأت به أهل فارس لعل الله يمر عليهم عيشهم، أو يسلموا، وينيبوا. وقال للنبطى: ما اسمك؟ قال: هزقيل. قال: خذ الكتاب، اللهم ازهق نفوسهم.(2/388)
وكان أهل فارس إذ ذاك لموت أردشير مختلفين فى الملك مجتمعين على قتال خالد متساندين، إلا أنهم قد أنزلوا بهمن جاذويه ببهرسير، ومعه الآزادبه، فى أشباه له.
ولما وقعت كتب خالد إلى أهل المدائن تكلم نساء آل كسرى، فولى الفراخزاد بن البندوان إلى أن يجتمع آل كسرى على رجل إن وجدوه، وأقام خالد فى عمله سنة ومنزله الحيرة، يصعد ويصوب قبل خروجه إلى الشام، وأهل فارس يخلعون ويملكون، ليس إلا للدفع عن بهرسير، وكان شيرى بن كسرى قد قتل كل من يناسب إلى كسرى ابن قباذ، ووثب أهل فارس بعده وبعد أردشير ابنه، وقتلوا كل من بين كسرى بن قباذ وبين بهرام جور، فبقوا لا يقدرون على من يملكونه ممن يجتمعون عليه.
وعن الشعبى قال: أقام خالد فيما بين فتح الحيرة إلى خروجه إلى الشام أكثر من سنة، يعالج عمل عياض الذى سمى له، فقال خالد للمسلمين: لولا ما عهد إلى الخليفة ما كان دون فتح فارس شىء، وكان عهد إليه وإلى عياض إذ وجههما أن يستبقا إلى الحيرة فأيهما سبق إليها فهو أمير على صاحبه، وقال: فإذا اجتمعتما بالحيرة وفضضتما مسالح فارس، وأمنتما أن يؤتى المسلمون من خلفهم فليكن أحدكما ردآ للمسلمين ولصاحبه بالحيرة وليقتحم الآخر على عدو الله وعدوكم من أهل فارس دارهم ومستقر عزهم المدائن، حسب ما تقدم من كتاب أبى بكر إليهما بذلك قبل هذا.
فكان خالد لا يستطيع أن يفارق مكانه للاقتحام على فارس ولا لإغاثة عياض وكان بدومة قد شجى وأشجى؟، لأجل ما عهد إليه أبو بكر أن لا يقتحم عليهم، وخلفه نظام لهم. وكان بالعين عسكر لفارس وبالأنبار آخر وبالفراض آخر، ثم إن خالدا لما استقام له ما بين الفلاليج إلى أسفل السواد فرق سواد الحيرة على رجال ممن كان معه، وفعل فى سواد الأبلة مثل ذلك، وأقر أمر المسالح على ثغورهم، واستخلف على الحيرة القعقاع بن عمرو. وخرج خالد فى عمل عياض ليقضى ما بينه وبينه ولإغاثته، فسار حتى نزل بكربلاء، وأقام عليها أياما، وشكا إليه عبد الله بن وثيمة الذباب، فقال له: اصبر فإنى إنما أريد أن أستفرغ المسالح التى أمر بها عياض فتسكنها العرب، فتأمن جنود المسلمين أن يؤتوا من خلفهم، وتجيئنا العرب آمنة وغير متعتعة، وبذلك أمرنا الخليفة، ورأيه يعدل نجدة الأمة.
وقال رجل من أشجع فى مثل ما شكاه ابن وثيمة النضرى من أمر الذباب:
لقد حبست بكربلاء مطيتى ... وبالعين حتى عاد غثّا سمينها(2/389)
إذا رحلت من منزل رجعت له ... لعمر أبيها إننى لا أهينها
ويمنعها من ماء كل شريعة ... رفاق من الذبان زرق عيونها
حديث الأنبار «1» وهى ذات العيون «2»
وخرج خالد فى تعبيته التى خرج فيها من الحيرة، على مقدمته الأقرع بن حابس.
فلما نزل الأقرع المنزل الذى يسلمه إلى الأنبار نتج قوم من المسلمين إبلهم، فلم يستطيعوا العرجة، ولم يجدوا بدا من الإقدام، ومعهم بنات مخاض تتبعهم. فلما نودى بالرحيل صروا الأمهات، واحتقبوا المنتوجات؛ لأنها لم تطق السير، فانتهوا ركبانا إلى الأنبار، وقد تحصن أهلها، وخندقوا عليها، فأشرفوا من حصنهم، وعلى الجنود التى قبلهم شيرزاد صاحب ساباط «3» ، وكان أعقل أعجمى يومئذ وأسوده، فتصايح عرب الأنبار وقالوا:
صبح الأنبار شر، جمل يحمل جميلة وجمل تربه عوذ. فقال شيرزاد، وقد سأل عن ما يقولون، فأخبر به: أما هؤلاء فقد قضوا على أنفسهم، والله لئن لم يكن خالد مجتازا لأصالحنه، فبينما هم كذلك قدم خالد على المقدمة، فأطاف بالخندق، وأنشب القتال، وكان قليل الصبر عنه إذا رآه أو سمع به، وتقدم إلى رماته، فأوصاهم وقال: إنى أرى أقواما لا علم لهم بالحرب، فارموا عيونهم ولا توخوا غيرها، فرموا رشقا واحدا، ففقئت ألف عين يومئذ، فسميت تلك الوقعة ذات العيون، وتصايح القوم: عيون أهل الأنبار فراسل شيرزاد خالدا فى الصلح على أمر لم يرضه خالد، فرد رسله، وأتى خالد أضيق مكان فى الخندق فنحر رذايا الجيش ثم رمى فيه فأفعمه، ثم اقتحموا الخندق والرذايا جسورهم، فاجتمع المسلمون والمشركون فى الخندق، وأرز القوم إلى حصنهم، وراسل شيرزاد فى الصلح على مراد خالد، فقبل منه خالد على أن يخليه ويلحقه بمأمنه فى جريدة خيل، ليس معهم من المتاع والمال شىء، فخرج شيرزاد، فلما قدم على بهمهن جاذويه وأخبره الخبر لامه، فقال له شيرزاد: إنى كنت فى قوم ليست لهم عقول، وأصلهم من العرب، فسمعتهم مقدمهم علينا يقضون على أنفسهم، وقلما قضى قوم على أنفسهم قضاء إلا وجب عليهم. ثم قاتلهم الجند، ففقئوا فيهم وفى أهل الأرض ألف عين، فعرفت أن المسألة أسلم، وأن قرة العين لهم، وأن العيون لا تقر منهم بشىء.
__________
(1) الأنبار: مدينة بالقرب من بلخ. انظر: معجم البلدان (1/ 257، 258) .
(2) انظر: الطبرى (3/ 373- 375) ، الكامل لابن الأثير (2/ 269) ، نهاية الأرب للنويرى (19/ 112، 113) ، البداية والنهاية لابن كثير (6/ 349) ، تاريخ ابن خلدون (2/ 81) .
(3) سابط: هى سابط كسرى، موضع بالمدائن. انظر: معجم البلدان (3/ 166، 167) .(2/390)
ولما اطمأن خالد بالأنبار والمسلمون، وأمن أهل الأنبار وظهروا، رآهم يكتبون بالعربية ويتعلمونها، فسألهم: ما أنتم؟ فقالوا: قوم من العرب، نزلنا إلى قوم من العرب كانت أوئلهم نزلوا أيام بختنصر حين أباح العرب، فلم نزل عنها. فقال: ممن تعلمتم الكتابة؟ فقالوا: تعلمنا الخط من إياد، وأنشدوا قول الشاعر:
قوم إياد لو أنهم أمم ... أو لو أقاموا فتهزل النعم
قوم لهم باحة العراق إذا ... ساروا جميعا والخط والقلم
«1» فصالح خالد من حولهم، وبدأ بأهل البوازيج، فبعث إليه أهل كلواذة «2» ليعقد لهم، وكاتبهم عيبته من وراء دجلة.
ثم إن الأنبار وما حولها نقضوا فيما كان يكون بين المسلمين والمشركين الدول ما خلا أهل البوازيج فإنهم ثبتوا كما ثبت أهل بانقيا.
حديث عين التمر «3»
ولما فرغ خالد من الأنبار، واستحكمت له، استخلف عليها الزبرقان بن بدر، وقصد لعين التمر، وبها يومئذ مهران بن سوسن فى جمع عظيم من العجم، وعقة بن أبى عقة فى جمع عظيم من العرب من النمر وتغلب وإياد ومن لاقاهم. فلما سمعوا بخالد قال عقة لمهران: إن العرب أعلم بقتال العرب، فدعنا وخالدا. قال: صدقت، لعمرى لأنتم أعلم بقتال العرب، وإنكم لمثلنا فى قتال العجم. فخدعه واتقى به، وقال: دونكموهم وإن احتجتم إلينا جئناكم.
فلما مضى عقة نحو خالد قالت الأعاجم لمهران: ما حملك على أن تقول هذا القول لهذا الكلب فقال: دعونى فإنى لم أرد إلا ما هو خير لكم وشر له، إنه قد جاءكم من قتل ملوككم، وفل حدكم، ما اتقيته بهم، فإن كانت لهم على خالد فهى لكم، وإن كانت الأخرى لم يبلغوا منهم حتى يهنوا فنقاتلهم ونحن أقوياء وهم ضعفاء، فاعترفوا له بفضل الرأى، فلزم مهران العين ونزل عقة لخالد على الطريق، وبينه وبين مهران روحة أو غدوة، فقدم عليه خالد وهو فى تعبئة جنده، فعبأ خالد جنده وقال لمجنبتيه: اكفونا ما
__________
(1) انظر الأبيات فى: الطبرى (3/ 375) ، البداية والنهاية لابن كثير (6/ 349) .
(2) كلواذة: موضع بين الكوفة وواسط. انظر معجم البلدان (4/ 477) .
(3) انظر: الطبرى (3/ 376، 377) ، الأخبار الطوال للدينورى (ص 112) ، الكامل لابن الأثير (2/ 269، 270) ، البداية والنهاية لابن كثير (6/ 349، 350) .(2/391)
عندكم فإنى حامل، ووكل بنفسه حوامى، ثم حمل وعقة يقيم صفوفه، فاحتضنه فأخذه أسيرا، وانهزم صفه من غير قتال، فاتبعهم المسلمون وأكثروا فيهم القتل والأسر.
ولما جاء الخبر مهران هرب فى جنده، وتركوا الحصن. فلما انتهى فلال عقة من العرب والعجم إلى الحصن اقتحموه واعتصموا به، وأقبل خالد فى الناس حتى نزل عليه ومعه عقة أسيرا وعمرو بن الصعق، وهم يرجون أن يكون خالد كمن كان يغير عليهم من العرب، فلما رأوه يحاولهم سألوه الأمان. فأبى إلا حكمه، فسكنوا إليه.
فلما فتحوا دفعهم إلى المسلمين أسارى، وأمر بعقة فضربت عنقه ليوئس الأسرى من الحياة، فلما رأوه مطروحا على الجسر يئسوا ثم دعا بعمرو بن الصعق فضربت عنقه، وضرب أعناق أهل الحصن أجمعين، وسبى كل من حوى حصنهم، وغنم ما فيه، ووجد فى بيعتهم أربعين غلاما يتعلمون الإنجيل، عليهم باب مغلق، فكسره عنهم، وقال: ما أنتم؟ قالوا: رهن، فقسمهم فى أهل البلاء، فمن أولئك الغلمان أبو زياد مولى ثقيف، وحمران مولى عثمان، ونصير أبو موسى بن نصير، وسيرين والد محمد بن سيرين، وأبو عمرة جد عبد الله بن عبد الأعلى الشاعر.
وقال عاصم بن عمرو فى ذلك يعير عقة:
ألا أبلغا الوركاء أن عميدها ... رهينة جيش من جيوش الزعافر
فبهلا لمن غرت كفالة عتقه ... بنى عامر أخرى الليالى الغوابر
أتيح له ضرغامة لا يفله ... قراع الكماة والليوث المساعر
أتيحت له نار تسيح وتلتوى ... وترمى بأمثال النجوم العناهر
حديث دومة الجندل وما بعدها من الأيام بحصيد والخنافس ومصيخ والبشر والفراض «1»
قالوا: ولما قدم الوليد بن عقبة من عند خالد إلى أبى بكر، رضى الله عنه، بما بعثه به إليه من الأخماس، وجهه أبو بكر إلى عياض وأمده به، فقدم عليه الوليد وهو يحاصر أهل دومة، وهم محاصروه، وقد أخذوا عليه الطريق، فقال له الوليد: الرأى فى بعض الحالات
__________
(1) انظر: المغازى للواقدى (1/ 402) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 62، 63) ، معجم البلدان (2/ 487) ، الطبرى (3/ 378- 385) ، الكامل لابن الأثير (2/ 270- 275) ، البداية والنهاية لابن كثير (6/ 350- 352) .(2/392)
خير من جند كثيف، ابعث إلى خالد واستمده، ففعل، فقدم رسوله على خالد غب وقعة العين مستغيثا، فعجل به خالد إلى عياض وكتب إليه معه: إياك أريد.
لبث قليلا تأتك الجلائب ... يحملن آسادا عليها القاشب
كتائب يتبعها كتائب
ولما فرغ خالد من عين التمر خلف فيها عويمر بن الكاهل الأسلمى، وخرج فى تعبئته التى دخل فيها العين يريد عياضا، ولما بلغ أهل دومة مسير خالد إليهم بعثوا إلى أحزابهم من بهراء وكلب وغسان وتنوخ والضجاعم، وقبل ما أتتهم منهم طوائف فيهم وديعة الكلبى، وابن الأيهم التنوخى، وابن الحدرجان، فأشجوا عياضا وأشجوا به، فلما بلغهم دنو خالد وهم على رئيسين: أكيدر بن عبد الملك، والجودى بن ربيعة، اختلفوا، فقال أكيدر: أنا أعلم الناس بخالد، لا أحد أيمن طائرا منه، ولا أحد فى حرب، ولا يرى وجه خالد قوم قلوا أو كثروا إلا انهزموا عنه، فأطيعونى وصالحوا القوم، فأبوا عليه، فقال: لن أمالئكم على حرب خالد، فشأنكم.
فخرج لطيته، وبلغ ذلك خالدا فبعث عاصم بن عمرو معارضا له، فأخذه وقال: إنما تلقيت الأمير خالدا، فلما أتى به خالدا أمر به فضربت عنقه، وأخذ ما كان معه من شىء، ومضى خالد حتى ينزل على أهل دومة، وعليهم الجودى بن ربيعة، فجعل خالد دموة بين عسكره وعسكر عياض، وكان النصارى الذين أمدوا أهل دومة من العرب محيطين بحصن دومة لم يحملهم الحصن، فلما اطمأن خالد خرج الجودى فنهض بوديعة فزحفا لخالد، وخرج ابن الحدرجان وابن الأيهم إلى عياض، فاقتتلوا فهزم الله الجودى ووديعة على يدى خالد، وهزم عياض من يليه، وركبهم المسلمون، فأما خالد فإنه أخذ الجودى أخذا، وأخذ الأقرع بن حابس وديعة، وأرز بقية الناس إلى الحصن، فلم يحملهم، فلما امتلأ الحصن، أغلق من فى الحصن الحصن دون أصحابهم، فبقوا حوله، وقال عاصم ابن عمرو: يا بنى تميم، حلفاؤكم كلب آسوهم وأجيروهم، فإنكم لا تقدرون لهم على مثلها، ففعلوا، وكان سبب نجاتهم يومئذ وصية عاصم بهم، وأقبل خالد إلى الذين أرزوا إلى الحصن فقتلهم حتى سد بهم باب الحصن، ودعا بالجودى فضرب عنقه، وضرب أعناق الأسرى إلا أسير كلب، فإن عاصما والأقرع وبنى تميم قالوا: قد أمناهم، فأطلقهم لهم خالد، وقال: ما لى ولكم أتحوطون أمر الجاهلية وتضيعون أمر الإسلام؟ فقال له عاصم: لا تحسدهم العافية، ولا تحرزهم الشيطان. ثم أطاف خالد بباب الحصن، فلم يزل عنه حتى اقتلعه، واقتحموا عليهم، فقتلوا المقاتلة وسبوا الشرخ فأقاموهم فيمن يزيد،(2/393)
فاشترى خالد ابنة الجودى، وكانت موصوفة بالجمال، ثم إن خالدا رد الأقرع إلى الأنبار، وثبت بدومة قليلا، ثم ارتحل منها إلى الحيرة، فلما كان قريبا منها حيث يصحبها أخذ القعقاع أهلها بالتغليس فخرجوا يتلقونه وهم مغلسون، وجعل بعضهم يقول لبعض:
مروا بنا فهذا فرج الشر.
قالوا: وقد كان خالد عند ما أقام بدومة كاتب عرب الجزيرة الأعاجم غضبا لعقة، فخرج زرمهر من بغداد ومعه روزبه يريدان الأنبار، واتعدا حصيدا والخنافس، فكتب بذلك الزبرقان وهو على الأنبار إلى القعقاع بن عمرو وهو يومئذ خليفة خالد على الحيرة، فبعث القعقاع أبا ليلى بن فدكى السعدى وأمره بحصيد، وبعث عروة بن الجعد البارقى وأمره بالخنافس، وقال لهما: إن رأيتما مقدما فأقدما. فخرجا فحالا بينهما وبين الريف، وانتظر روزبه وزرمهر بالمسلمين اجتماع من كاتبهما من ربيعة، وقد كانوا تكاتبوا واتعدوا.
فلما رجع خالد من دومة إلى الحيرة على الظهر وبلغه ذلك وقد عزم على مصادمة أهل المدائن كره خلاف أبى بكر، وأن يتعلق عليه بشىء، فعجل القعقاع وابن عمرو، وأبا ليلى بن فدكى إلى روزبه وزرمهر، فسبقاه إلى عين التمر، وقدم على خالد كتاب امرئ القيس الكلبى، أن الهذيل بن عمران قد عسكر بالمصيخ، ونزل ربيعة بن بجير بالثنى فى عسكر غضبا لعقة، يريدان زرمهر وروزبه. فخرج خالد وعلى مقدمته الأقرع ابن حابس، واستخلف على الحيرة عياض بن غنم، وأخذ خالد طريق القعقاع وأبى ليلى حتى قدم عليهما بالعين، فبعث القعقاع إلى حصيد، وأمره على الناس، وبعث أبا ليلى إلى الخنافس، وأمره على الناس، وقال: زجياهم ليجتمعوا ومن استشارهم، وإلا فواقعاهم، فأبى روزبه وزرمهر إلا المقام.
فلما رآهما القعقاع لا يتحركان سار نحو حصيد، وعلى من به من العرب والعجم روزبه. ولما رأى روزبه أن القعقاع قد قصد له استمد زرمهر، فأمده بنفسه، واستخلف على عسكره المهبوذان، فالتقوا حينئذ فاقتتلوا، فقتل الله العجم مقتلة عظيمة، وقتل القعقاع زرمهر وقتل، أيضا، روزبه، قتله عصمة بن عبد الله، أحد بنى الحارث بن طريف، من بنى ضبة، وكان عصمة من البررة، وكل فخذ هاجرت بأسرها تدعى البررة، وكل قوم هاجروا من بطن يدعون الخيرة، فكان المسلمون خيرة بررة، وغنم المسلمون يوم حصيد غنائم كثيرة، وأرز فلّال حصيد إلى الخنافس فاجتمعوا بها.(2/394)
وقال القعقاع فى ذلك اليوم:
ألم ينه عنا غى فارس أننا ... منعناهم من ريفهم بالصوارم
وأنا أناس قد تعود خيلنا ... لقاء العادى بالحتوف القواصم
وروزا قتلنا حيث أرهف حده ... وكل رئيس زاريا بالعظائم
تركنا حصيدا لا أنيس بجوه ... وقد شقيت أربابه بالأعاجم
وإنى لراج أن تلاقى جموعهم ... غديّا بإحدى المنكرات الصوادم
ألا أبلغا أسماء أن خليلها ... قضى وطرا من روزمهر الأعاجم
وسار أبو ليلى ابن فدكى بمن معه ومن قدم عليه نحو الخنافس وبها المهبوذان، فلما أحس بهم هرب هو ومن معه إلى المصيخ «1» وبه الهذيل بن عمران، فلما انتهى الخبر إلى خالد بمصاب أهل الحصيد «2» وهرب أهل الخنافس كتب إلى القعقاع وأبى ليلى وعروة وواعدهم ليلة وساعة يجتمعون فيها على المصيخ، وهو بين حوران والقلت، وخرج خالد من العين قاصدا للمصيخ على الإبل يجنب الخيل، فلما كان فى تلك الساعة من ليلة الموعد اتفقوا جميعا معه بالمصيخ، فأغاروا على الهذيل ومن معه ومن أوى إليهم، وهم نائمون، أتوهم بالغارة من ثلاثة أوجه، فقتلوهم، وامتلأ الفضاء قتلى، فما شبهوا إلا غنما مصرعة، وأفلت الهذيل فى أناس قليل، وقد كان حرقوص بن النعمان بن النمر بن قاسط محضهم النصح، وأجاد الرأى، فلم ينتفعوا بتحذيره، وذلك أن حرقوصا قال قبل الغارة:
ألا فاسقيانى قبل خيل أبى بكر ... لعل منايانا قريب ولا ندرى
ألا فاسقيانى بالزجاج وكررا ... علينا كميت اللون صافية تجرى
أظن خيول المسلمين وخالدا ... ستطرقكم عند الصباح إلى البشر
فهل لكم فى السير قبل قتالهم ... وقبل خروج المعصرات من الخدر
أرينى سلاحى يا أميمة إننى ... أخاف بيات القوم مطلع الفجر «3»
وكان حرقوص معرسا بامرأة من بنى هلال تدعى أم تغلب، فقتلت تلك الليلة، وقد تقدم من حديث عدى بن حاتم فيما مضى من هذا الكتاب، قال: أغرنا على المصيخ، وإذا رجل يدعى حرقوص بن النعمان بن النمر، وإذا حوله بنوه وامرأته، وبينهم جفنة من
__________
(1) المصيخ: موضع بين حوران والقلت. انظر: معجم البلدان (2/ 391) .
(2) حصيد: واد بين الكوفة والشام. انظر: معجم البلدان (2/ 226) .
(3) انظر الأبيات فى: الطبرى (3/ 416، 417) ، الكامل لابن الأثير (2/ 280) ، معجم البلدان لياقوت (1/ 427، 5/ 144) .(2/395)
خمر، وهم عليها عكوف، فقال: اشربوا شرب وداع، فما أرى أن تشربوا خمرا بعدها، خالد بالعين وجنوده بحصيد، وقد بلغه جمعنا وليس بتاركنا.
ألا فاشربوا من قبل قاصمة الظهر ... بعيد انتفاخ القوم بالعكر الدثر
وقبل منايانا المصيبة بالقدر ... لحين لعمرى لا يزيد ولا يحرى
فسبق إليه وهو فى ذلك بعض الخيل، فضرب رأسه، فإذا هو فى جفنته، وأخذنا بناته وقتلنا بنيه.
وأصاب جرير بن عبد الله بالمصيخ عبد العزى بن أبى رهم من النمر، وإنما حضر جرير مما كان بالعراق ما كان بعد الحيرة، وذلك أنه كان ممن خرج مع خالد بن سعيد ابن العاص إلى الشام، فاستأذن جرير فى القدوم على أبى بكر ليكلمه فى قومه بجيلة، وكانوا أوزاعا فى العرب، ليجمعهم ويتخلصهم، فأذن له، فقدم على أبى بكر فذكر له عدة من النبى صلى الله عليه وسلم وأتاه عليها بشهود، وسأله إنجازها، فغضب أبو بكر وقال: ترى شغلنا وما نحن فيه، من بعوث المسلمين لمن بإزائهم من الأشدين: فارس والروم ثم أنت تكلفنى التشاغل بما لا يغنى عنى عما هو أرضى لله ولرسوله، دعنى وسر نحو خالد بن الوليد حتى أنظر ما يحكم الله فى هذين الوجهين. فسار جرير حتى قدم على خالد وهو بالحيرة، فشهد معه ما كان بعدها من الأيام، وأصاب يوم المصيخ، كما ذكرنا، عبد العزى بن أبى رهم، وكان معه ومع رجل آخر من قومه يقال له لبيد بن جرير كتاب من أبى بكر، رضى الله عنه، بإسلامهم، وسمى عبد العزى عبد الله، وبلغ أبا بكر مع ذلك أن عبد العزى قال ليلة الغارة:
وأقول إذ طرق الصباح بغارة ... سبحانك اللهم رب محمد
سبحان ربى لا إله غيره ... رب العباد ورب من يتودد
فوداه أبو بكر لما بلغه هذا، وودى لبيدا، وقال: أما إن ذلك ليس على إذ نازلا أهل حرب. وأوصى بأولادهما.
وكان عمر، رضى الله عنه، يعتد على خالد بقتلهما إلى قتل مالك بن نويرة، فيقول أبو بكر، رضى الله عنه: كذلك يلقى من ساكن أهل الحرب فى ديارهم.
وقد كان ربيعة بن بجير التغلبى نزل الثنى والبشر غضبا لعقة، وواعد لذلك روزبه وزرمهر والهذيل قبل أن يصيبهم ما أصابهم بالمصيخ، فلما أصاب خالد أهل المصيخ بما أصابهم به، تقدم إلى القعقاع وإلى أبى ليلى، بأن يرتحلا أمامه، وواعدهما ليلة ليفترقوا(2/396)
فيها للغارة على ربيعة ومن معه من ثلاثة أوجه، كما فعل بأهل المصيخ، ثم خرج خالد من المصيخ فنزل حوران «1» ، ثم الرنق، ثم الحماة «2» ، ثم الزميل»
، وهو البشر «4» والثنى معه، وهما شرقى الرصافة، فبدأ بالثنى، واجتمع هو وأصحابه، فبيت من ثلاثة أوجه ربيعة بن بجير ومن اجتمع له وإليه، ومن ناشب لذلك من الشبان لذلك من الشبان، فجرد خالد فيهم السيوف بياتا، فلم يفلت من ذلك الجيش مخبر، واستبقى الشيوخ، وبعث بخمس الله، عز وجل، إلى أبى بكر، رضى الله عنه، مع النعمان بن عوف الشيبانى، وقسم النهب والسبايا، فاشترى على بن أبى طالب، رضى الله، من ذلك السبى ابنة ربيعة التغلبى، فاتخذها، فولدت له عمر ورقية.
وقال أبو مقرز فى ذلك:
لعمر بنى بجير حيث صاروا ... ومن آذاهم يوم الثنى
لقد لاقت سراتهم فضاحا ... وفينا بالنساء على المطى
وكان الهذيل حيث نجا من المصيخ أوى إلى الزميل، إلى عتاب بن فلان، وهو بالبشر فى عسكر ضخم، فبيتهم خالد بمثلها غارة شعواء من ثلاثة أوجه، سبقت إليهم الخبر عن ربيعة، وكانت على خالد يمين: ليبغتن تغلب فى دارها، فقتل فيهم مقتلة لم يقتلوا قبلها مثلها، وأصابوا منهم ما شاؤا، وقسم خالد فى الناس فيئهم، وبعث الأخماس إلى أبى بكر، رضى الله عنه، مع الصباح بن فلان المزنى، ثم عطف خالد من البشر إلى الرضاب «5» وبها هلال بن عقة وقد أرفض عنه أصحابه حين سمعوا بدنو خالد، فانقشع عنها هلال ولم يلق كيدا، ثم قصد خالد بعدها إلى الفراض، والفراض تخوم الشام والعراق والجزيرة، فأفطر فيها فى رمضان فى تلك السفرة التى اتصلت له فيها هذه الغزوات والأيام، ونظمن نظما إلى ما كان قبل ذلك منه.
__________
(1) حوران: كانت كورة واسعة من أعمال دمشق من جهة القبلة ومزارع وحرار. انظر: معجم البلدان (2/ 317) .
(2) من المدن المشهورة بالشام، كانت مدينة عظيمة وكبيرة. انظر: معجم البلدان (2/ 317، 318) .
(3) الزميل: موضع شرقى الرصافة. انظر معجم البلدان (3/ 151) .
(4) البشر: اسم جبل يمتد من عرض إلى الفرات من أرض الشام من جهة البادية. انظر: معجم البلدان (1/ 426- 428) .
(5) الرضاب: موضع الرصافة قبل بناء هاشم إياه. انظر: معجم البلدان (3/ 50) .(2/397)
قالوا: ولما اجتمع المسلمون بالفراض حميت الروم واغتاظت، واستعانوا بمن يليهم من مسالح أهل فارس، وقد حموا واغتاظوا واستمدوا تغلب وإياد والنمر، فأمدوهم بأجمعهم، واجتمعوا كلهم على كلمة واحدة، ثم ناهدوا خالدا حتى إذا صار الفرات بينه وبينهم قالوا: إما أن تعبروا إلينا، وإما أن نعبر إليكم قال خالد: اعبروا إلينا، قالوا: فتنحوا حتى نعبر، قال خالد: لا نفعل، ولكن اعبروا أسفل منا. فقال الروم وفارس بعضهم لبعض:
احتسبوا ملككم، هذا رجل يقاتل عن دين، وله عقل وعلم، وو الله لينصرن ولتخذلن، ثم لم ينتفعوا بذلك، فعبروا أسفل من خالد، فلما تتاموا قالت الروم: امتازوا حتى يعرف اليوم ما كان من حسن أو قبح، من أينا يجىء ففعلوا، ثم اقتتلوا قتالا شديدا طويلا، ثم هزمهم الله تعالى.
وقال خالد للمسلمين: ألحوا عليهم، فجعل صاحب الخيل يحشر منهم الزمرة برماح أصحابه، فإذا جمعوهم قتلوهم، فقتل يوم الفراض فى المعركة وفى الطلب مائة ألف، وأقام خالد على الفراض بعد الوقعة عشرا، ثم أذن فى القفل إلى الحيرة، وأمر عاصم بن عمرو أن يسير بهم، وأمر شجرة بن الأعز أن يسوقهم.
وأظهر خالد أنه فى الساقة، وخرج من الفراض حاجا لخمس بقين من ذى القعدة مكتتما بحجه، ومعه عدة من أصحابه، يعتسف البلاد حتى أتى مكة بالسمت، فقضى حجه، ثم أتى الحيرة، فوافاه بها كتاب أبى بكر، رضى الله عنه، يأمره فيه بالمسير إلى الشام ويعاتبه على ما فعل، إذ لم يعلم أبو بكر بحجته هذه إلا بعد انصرافه إلى الحيرة.
وقد تقدم هذا كله فيما رسم قبل من فتوح الشام مستوفى فى بيانه، وكيف كان مسيره إلى الشام وتركه المثنى بن حارثة بعده على العراق، ومشاطرته إياه فى الناس، كل ذلك بأمر أبى بكر، رضى الله عنه، حسب ما تقدم ذكره.
حديث المثنى بعد خالد «1»
ولما انفصل خالد، رحمه الله، إلى الشام شيعه المثنى إلى قراقر، ورجع من تشييعه إلى الحيرة، فأقام بها فى سلطانه، ووضع فى المسلحة التى كان فيها على السيب أخاه، وسد أماكن كل من خرج مع خالد من الأمراء برجال أمثالهم من أهل الغناء، ووضع مذعور ابن عدى فى بعض تلك الأماكن.
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 411- 415) ، الكامل لابن الأثير (2/ 284- 286) ، تاريخ ابن خلدون (2/ 87- 91) .(2/398)
واستقام أهل فارس على رأس سنة من مقدم خالد على الحيرة، بعد خروجه إلى الشام بقليل، وذلك سنة ثلاث عشرة، على شهربراز بن أردشير بن شهريار ممن يناسب إلى كسرى، ثم إلى سابور. فوجه إلى المثنى جندا عظيما عليهم هرمز جاذويه فى عشرة آلاف، ومعه فيل، وكتبت المسالح إلى المثنى بإقباله، فخرج المثنى من الحيرة نحوه، وضم إليه أصحاب المسالح، وجعل على مجنبتيه أخويه: المعنّى ومسعودا، وأقام له ببابل، وأقبل هرمز جاذويه، وقد كتب شهر براز إلى المثنى بن حارثة: «من شهربراز إلى المثنى: إنى قد بعثت إليك جندا من وخش أهل فارس، إنما رعاة الدجاج والخنازير، ولست أقاتلك إلا بهم» .
فكتب إليه المثنى: «من المثنى إلى شهربراز، إنما أنت أحد رجلين. إما صادق، فذلك شر لك وخير لنا، وإما كاذب، فأعظم الكذابين عقوبة وفضيحة عند الله وفى الناس الملوك، وأما الذى يدلنا عليه الرأى، فإنكم إنما اضطرتم إليهم، فالحمد لله الذى رد كيدكم إلى رعاة الدجاج والخنازير» .
فجزع أهل فارس من كتابه، وقالوا: إنما أتى شهربراز من شؤم مولده ولؤم منشئه، وكان يسكن ميسان «1» ، وأن بعض البلدان شين على من يسكنه. وقالوا له: جرأت عدونا بالذى كتبت إليهم، فإذا كاتبت أحدا فاستشر. ثم التقوا ببابل، فاقتتلوا بعدوة الصراة الدنيا، على الطريق الأول، قتالا شديدا.
ثم إن المثنى وفرسان من المسلمين اعتمدوا الفيل، وكان يفرق بين الصفوف والكراديس، فأصابوا مقتله، فقتلوه وهزموا أهل فارس، واتبعهم المسلمون يقتلونهم، حتى جازوا بهم مسالحهم، فأقاموا فيها، وتتبع الطلب الفالة، حتى انتهوا إلى المدائن، ومات شهربراز منهزم هرمز جاذويه، واختلف أهل فارس، وبقى ما دون دجلة وبرس من السواد فى يد المثنى وأيدى المسلمين.
ثم إن أهل فارس اجتمعوا بعد شهربراز على دخت زنان ابنة كسرى، فلم ينفذ لها أمر، وخلعت، وملك سابور بن شهربراز، وقام بأمره الفرخزاد بن البندوان، فقاتلا جميعا، وملكت آرز ميدخت، وتشاغلوا بذلك، وأبطأ خبر أبى بكر، رضى الله عنه، على المسلمين، فخلف المثنى على المسلمين بشير بن الخصاصية، ووضع مكانه فى المسالح سعيد بن مرة العجلى، وخرج المثنى نحو أبى بكر ليخبره خبر المسلمين والمشركين،
__________
(1) ميسان: كورة واسعة كثيرة القرى والنخيل بين البصرة وواسط. انظر: معجم البلدان (5/ 242) .(2/399)
ولكى يستأذنه فى الاستعانة بمن قد ظهرت توبته من أهل الردة ممن يستطعمه الغزو، وليخبره أنه لم يخلف أحدا أنشط إلى قتال فارس وحربها ومعونة المهاجرين منهم، إذ كان أبو بكر، رضى الله عنه، قد منع من الاستعانة بهم رأسا، وقال لأمرائه: لا تستعينوا فى حربكم بأحد ممن ارتد، فإنى لم أكن لأستنصر بجيش فيهم أحد ممن ارتد، وبالجزاء إن فعلت أن لا تنصروا.
وقال عروة بن الزبير: أمران يعرف بهما حال من شهد الفتوح، من ذكر أن أبا بكر، رضى الله عنه، استعان فى حربه بأحد ممن ارتد فقد كذب، وذكر من قول أبى بكر فى ذلك ما بدأنا به.
قال: ومن زعم أن عمر، رضى الله عنه، حين أذن لمن ارتد فى الجهاد أمر أحدا منهم فقد كذب، وإنما تألف من تألف بالإمارة منهم عثمان بن عفان، رضى الله عنه، رجاء ما رجاه منهم عمر حين استعان بهم، فمن قبلهم ابتدأت الفتنة، وعلق عثمان، رضى الله عنه، عند الذى بدا منهم يتمثل بقول الأول:
وكنت وعمرا كالمسمّن كلبه ... فخدشه أنيابه وأظافره
فقدم المثنى بن حارثة المدينة، وأبو بكر مريض مرضه الذى توفاه الله تعالى، منه، وذلك بعد مخرج خالد إلى الشام، وقد تقدم ذكر وفاة أبى بكر واستخلافه عمر، رضى الله عنهما، فى أول موضع احتيج إلى ذكر ذلك فيه من فتح الشام، وتوفى أبو بكر وأحد شقى السواد فى سلطانه، والجمهور من جند أهل العراق بالحيرة، والمسالح بالسيب، والغارات تنتهى بهم إلى شاطئ دجلة، ودجلة حجاز بين العرب والعجم.
فهذا حديث العراق فى خلافة أبى بكر، رضى الله عنه، من مبتدئه إلى منتهاه.
ذكر ما كان من خبر العراق فى خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وما كان من أمر المثنى بن حارثة معه، وذكر أبى عبيد بن مسعود، على ما فى ذلك كله من الاختلاف بين رواة الآثار «1»
ذكر سيف عن شيوخه قالوا: أول ما عمل به عمر، رحمه الله، أن ندب الناس مع
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 444- 454) ، الأخبار الطوال للدينورى (ص 113) ، الكامل لابن الأثير (2/ 297- 301) ، كنز الدرر للدوادارى (3/ 193، 194) ، البداية والنهاية لابن كثير (7/ 26، 27) .(2/400)
المثنى بن حارثة الشيبانى إلى أهل فارس قبل صلاة الصبح، من الليلة التى مات فيها أبو بكر، رضى الله عنه، ثم أصبح فبايع الناس، وعاد فندب الناس إلى فارس، وتتابع الناس على البيعة ففزعوا فى ثلاث، كل يوم يندبهم فلا ينتدب أحد، وكان وجه فارس من أكره الوجوه إليهم، وأثقلها عليهم، لشدة سلطانهم وشوكتهم وعزهم وقهرهم الأمم.
قالوا: فلما كان فى اليوم الرابع عاد ينتدب الناس إلى العراق، فكان أول منتدب أبو عبيد بن مسعود، وسعد بن عبيد القارى، حليف الأنصار، وتتابع الناس.
قال القاسم بن محمد: وتكلم المثنى بن حارثة، فقال: يا أيها الناس، لا يعظمن عليكم هذا الوجه، فإنا قد تبجحنا ريف فارس، وغلبناهم على خير شقى السواد، وشاطرناهم ونلنا منهم، واجترأ من قبلنا عليهم، ولها إن شاء الله ما بعدها.
وقام عمر، رضى الله عنه، فى الناس، وقال: إن الحجاز ليس لكم بدار إلا على النجعة، ولا يقوى عليه أهله إلا بذلك، أين المهاجرين عن موعود الله، عز وجل، سيروا فى الأرض التى وعدكم الله فى كتاب بأن يورثكموها، فإنه قال: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، والله مظهر دينه، ومعز ناصره، ومولى أهله مواريث الأمم. أين عابد الله الصالحون!.
فلما اجتمع ذلك البعث، وكان أولهم، كما تقدم أبو عبيد، ثم ثنى سعد بن عبيد أو سليط بن قيس، قيل لعمر، رحمه الله: أمر عليهم رجلا من السابقين من المهاجرين والأنصار. فقال: لا والله لا أفعل، إن الله تعالى إنما رفعكم بسبقكم وسرعتكم إلى العدو، فإذا جبنتم وكرهتم اللقاء، فأولوا الرياسة منكم من سبق إلى الدفع وأجاب الدعاء، لا والله لا أؤمر عليهم إلا أولهم انتدابا.
ثم دعا أبا عبيد، ودعا سليطا وسعدا، فقال لهما: أما إنكما لو سبقتماه لوليتكما ولأدركتكما بها إلى ما لكما من القدمة. فأمر أبا عبيد على الجيش، وقال له: اسمع من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، وأشركهم فى الأمر، ولا تجيبن مسرعا حتى تتبين، فإنها الحرب، لا يصلحها إلا الرجل المكيث الذى يعرف الفرصة والكف، ثم قال له: إنه لم يمنعنى أن أؤمر سليطا إلا تسرعه إلى الحرب، وفى التسرع إليها إلا عن بيان ضياع، والله لولا ذلك لأمرته، ولكن الحرب لا يصلحها إلا المكيث.
ويروى أن عمر انتخب من أهل المدينة ومن حولها ألف رجل، أمر عليهم أبا عبيد، فقيل له: استعمل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا ها الله ذا يا أصحاب النبى، لا(2/401)
أندبكم فتبطئون، وينتدب غيركم فأؤمركم عليهم إنما فضلتم بتسرعكم، فإن نكلتم فضلوكم.
وعجل عمر، رضى الله عنه، المثنى، وقال: النجاء حتى يقدم عليك أصحابك. فخرج المثنى، وقدم الحيرة فى عشر، ولحقه أبو عبيد بعد شهر.
وفى كتاب المدائنى أن تحرك عمر لهذا البعث إنما كان بكتاب المثنى إليه، يستمده ويحرضه على أرض فارس، فذكر بإسناد له إلى جماعة من أهل العلم يزيد بعضهم على بعض: أن عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، قال حين ولى: والله لأعزلن خالد بن الوليد والمثنى بن حارثة ليعلما أن الله إنما ينصر دينه وليس ينصر إياهما، فكتب إليه المثنى وهو بالحيرة: أنا بأرض فارس، وقد عرفناهم وغازيناهم وغلبناهم على بعض ما فى أيديهم، ومعى رجال من قومى لهم صلاح ونجدة وصدق بلاء عند الناس وجرأة على البلاد، فإن رميتنا بجماعة من قبلك رجوت أن يفتح الله عليهم، قالوا: ولم تكن لعمر، رحمه الله، همة حين قام بأمر المسلمين إلا الروم وفارس، فلما أتاه كتاب المثنى بن حارثة خطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وحثهم على الجهاد، ورغبهم فيه، وأنبأهم بما أعد الله للمجاهدين فى سبيله، وقال: أنتم بين فتح عاجل وذخر آجل، وقد أصبحتم بالحجاز بغير دار مقام، وقد وعدكم الله كنوز كسرى وقيصر، وأنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الفتح: 28] ، وقال: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [التوبة: 33] ، فانهضوا لجهاد عدوكم من أهل فارس، فإن لكم بها إخوانا ليسوا مثلكم فى السابقة، وقد لقوهم وقاتلوهم فاستعدوا للمسير إليهم رحمكم الله وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:
60] ، ولا تركنوا إلى الدنيا، واستعينوا بالله واصبروا.
فتثاقل الناس حين ذكر فارس. فقال عمر: ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [التوبة: 38] ، فقام أبو عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة الثقفى، فقال: أنا أول من انتدب، ثم قام سليط بن قيس بن عمرو فقال: يا أمير المؤمنين، أنا ثان، ثم قام رهط من الأنصار، فسمى منهم نفرا. قال:
ثم تتابع الناس وكثروا وقالوا: يا أمير المؤمنين، أمر علينا رجلا، فقال: أؤمر عليكم أول من انتدب، فاستعمل عليهم أبا عبيد، وقال: لم يمنعنى من استعمال سليط بن قيس، وهو من أهل بدر إلا عجلة فيه، فخشيت أن يلقى المسلمين ملقى يهلكون فيه، وكان فيمن(2/402)
انتدب سعد بن عبيد القارى، ففر يوم الجسر، فكان بعد ذلك يقول: إن الله اعتد علىّ بغرة فى أرض فارس، فعسى أن يعيد لى فيها كرة.
وفى حديث غير المدائنى: فكانت الوجوه تعرض عليه بعد ذلك فيأبى إلا العراق، ويقول: إن الله اعتد علىّ فيها بغرة، وذكر نحو ما تقدم.
واختلف ما ذكره سيف فيمن كان إليه أمر فارس عند قدوم أبى عبيد بحسب اختلاف أهل الأخبار عليه فى ذلك.
فمما ذكره أن بوران بنت كسرى كانت، كلما اختلف الناس بالمدائن، عدلا بينهم حتى يصطلحوا، فلما قتل الفرخزاد وقدم رستم فقتل أرزميدخت، كانت بوران عدلا إلى أن استخرجوا يزدجرد.
قال: فقدم أبو عبيد والعدل بوران، وصاحب الحرب رستم.
وذكر من طريق آخر: أن بوران هى التى استحثت رستم فى السير، وكان على فرج خراسان، لما قتل الفرخزاد، فأقبل رستم فى الناس حتى نزل المدائن، لا يلقى جيشا لأرزميدخت إلا هزمه، واقتتلوا بالمدائن، فهزمهم سياوخش وهو قاتل الفرخزاد، وحصر أرزميدخت ثم افتتح المدائن، فقتل سياوخش، وفقأ عين أرزميدخت، ونصب بوران، فدعته إلى القيام بأمر فارس، وشكت إليه تضعضعهم وإدبار أمرهم، على أن تملكه عشر حجج، ثم يكون الملك فى آل كسرى إن وجدوا من غلمانهم أحدا، وإلا ففى نسائهم.
فقال رستم: أما أنا فسامع مطيع، غير طالب عوضا ولا ثوابا، فإن شرفتمونى وصنعتم إلىّ شيئا فأنتم أولياء ما صنعتم، إنما أنا سهمكم وطوع أيديكم. فقالت بوران: اغد علىّ، فغدا عليها، ودعت مرازبة فارس، فكتبت له: بأنك على حرب فارس، ليس عليك إلا الله عن رضا منا وتسليم لحكمك، وحكمك جائز فيهم ما كان حكمك فى منع أرضهم وجمعهم عن فرقتهم، وتوجته وأمرت أهل فارس أن يسمعوا له ويطيعوا، ودانت له فارس بعد قدوم أبى عبيد.
فهذا ما ذكره سيف فى شأن مملكة فارس إذ ذاك.
قال: وكتب رستم إلى دهاقنة السواد أن يثوروا بالمسلمين، ودس إلى كل رستاق رجلا ليثور بأهله، فبعث جابان إلى البهقباذ الأسفل، وبعث نرسى إلى كسكر، وبعث المصادمة إلى المثنى، وبلغ المثنى ذلك، فضم إليه مسالحه وحذر، وعجل جابان فنزل(2/403)
النمارق، وتوالوا على الخروج، فخرج نرسى، فنزل زندورد، وثار أهل الرساتيق من أعلى الفرات إلى أسفله، وخرج المثنى بن حارثة فى جماعة حتى ينزل خفان، لئلا يؤتى من خلفه بشىء يكرهه، فأقام حتى قدم عليه أبو عبيد.
وأما المدائنى فلم يعرض لما عرض له سيف فى شأن مملكة فارس، بل بنى على أن يزدجرد هو كان الملك عليهم حينئذ، فإنه قال بعقب ما نسب إليه قبل: وبلغ يزدجرد أن ملك العرب يسير إليه، فشاور أهل بيته ومرازبته، فقالوا له: وجه إلى أطرافك فحصنها وأخرج من فيها من العرب، فوجه جالينوس ورستم وليس بالأزدى ومردان شاه ونرسى ابن خال أبرويز، وكل واحد فى خمسة آلاف، وأمرهم أن ينزلوا متفرقين، ويكون بعضهم قريبا من بعض كل رجل فى أصحابه، ويمد بعضهم بعضا إن احتاجوا إلى ذلك، وأمرهم أن يقتلوا من قدروا عليه من العرب، فخرجوا والمثنى بالحيرة، فبلغه مسيرهم، فخرج لينزل على البلاد، فلقى على قنطرة النهرين خرزاذبه فقتله.
ومضى المثنى فنزل من وراء أليس، ونزل العجم متفرقين، فنزل نرسى كسكر، ونزل مردان شاه فيما بين سورا وقبين، ونزل رستم بابل، ونزل جالينوس بارسمى، ووجه جالينوس جابان فى ألف إلى أليس، ووجه أزاذبه إلى الحيرة فى ألف، وفصل أبو عبيد بن مسعود من المدينة فى ألف وثمانمائة من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فيهم من ثقيف أربعمائة معهم أبو محجن، كان مع خالد بن الوليد بالشام فلما.
أتتهم وفاة أبى بكر رجع إلى المدينة، فخرج مع أبى عبيد، وانضم إلى أبى عبيد فى الطريق مائة من بنى أسد، ومائتان من طيئ، ومائة من بنى ذبيان بن بغيض، ومائة من بنى عبس، معهم خمسة وعشرون فرسا، وخرج المثنى بن حارثة فى ثلاثمائة وسبعين من بكر بن وائل، وثلاثمائة من بنى تميم حنظلة وعمرو وسعد والرباب، فتلقى أبا عبيد ثم أقبل معه حتى نزل عسكره الذى كان فيه، ووضع عيونا على المسلحة التى بأليس فأتوه فأعلموه فأخبر أبا عبيد، فقال له: إن أذنت لى سرت إليهم، فأذن له وضم إليه ابنه جبر بن أبى عبيد، وقال لابنه جبر: لا تخالفه، فسار المثنى فصبح أليس وهم آمنون فلم يكن بينهم كبير قتال حتى انهزموا، فأصاب المسلمون سلاحا ومتاعا ليس بالكثير، ورجع إلى أبى عبيد، ونزل جابان فيما بين الحيرة والقادسية، وكتب أبو عبيد إلى عمر، رضى الله عنه، بخبر أليس، فسر المسلمون ونشطوا، وخرج قوم من المدينة إلى أبى عبيد، وتقدم أبو عبيد فلقى جابان فيما بين الحيرة والقادسية، وجابان فى ألفين معه ازاذبه، فلم يطل القتال بينهم حتى انهزم المشركون.(2/404)
وفيما ذكره سيف من الأحاديث أن أبا عبيد لما نزل خفان مع المثنى أقام بها أياما ليستجم أصحابه، وقد اجتمع إلى جابان بشر كثير، وخرج أبو عبيد بعد ما جم الناس وطهرهم، وجعل المثنى على الخيل، فنزلوا على جابان بالنمارق فاقتتلوا قتالا شديدا، فهزم الله أهل فارس، وأسر جابان، أسره مطر بن فضة أحد بنى تيم الله، وأسر مردان شاه، أسره أكتل بن شماخ العكلى، فأما أكتل فإنه ضرب عنق مردان شاه، وذلك أنه سأله: ما اسمك؟، فيما ذكره المدائنى، فقال له: مردان شاه. قال: وما مردان شاه؟ قال:
ملك الرجال. قال: لا جرم والله لأقتلنك، فقتله. وأما مطر بن فضة فإن جابان خدعه وهو لا يعرفه، وكان جابان شيخا كبيرا، فقال لمطر: إنكم معشر العرب أهل وفاء، فهل لك أن تؤمننى وأعطيك غلامين أمردين خفيفين فى عملك وكذا وكذا، قال: نعم، قال:
فأدخلنى على ملككم حتى يكون ذلك بمشهد منه، فأدخله على أبى عبيد، فتم له على ذلك وأجاز ذلك أبو عبيد، فعرفه ناس فقالوا لأبى عبيد: هذا الملك جابان، وهو الذى لقينا بهذا الجمع، فقال أبو عبيد: فما تأمروننى، أيؤمنه صاحبكم وأقتله أنا، معاذ الله من ذلك.
وفى رواية: إنى أخاف الله إن قتلته، وقد أمنه رجل من المسلمين فى الذمة والتود والتناصر كالجسد، ما لزم بعضهم لزم كلهم. فقالوا: إنه الملك، قال: وإن كان لا أعذر به، فتركه، وقال له: اذهب حيث شئت.
وهرب أصحاب جابان حين أسر إلى كسكر ونرسى بأسفلها. وكانت كسكر قطيعة له، وكان النرسيان له، يحميه لا يأكله بشر، إلا ملك فارس، أو من أكرموه فيه بشىء، ولا يغرسه غيرهم، فكان ذلك مذكورا من فعلهم فى الناس، وأن ثمرهم هذا حمى، فقال رستم وبوران لنرسى: أشخص إلىّ قطيعتك فأحمها من عدوك وعدونا وكونن رجلا، فلما انهزم الناس يوم النمارق، ووجهت الفالة نحو نرسى، ونرسى فى عسكره، نادى أبو عبيد بالرحيل، وقال للمجردة: اتبعوهم حتى تدخلوهم عسكر نرسى، أو تبيدوهم فيما بين النمارق إلى بارق درونى «1» .
ومضى أبو عبيد حين ارتحل من النمارق حتى ينزل على نرسى بكسكر، والمثنى فى تعبئته التى قاتل فيها جابان، وقد أتى الخبر رستم وبوران بهزيمة جابان، فبعثوا إليه الجالينوس، وبلغ ذلك نرسى وأهل كسكر وباروسما ونهر جوبر والزوابى، فرجوا أن يلحق قبل الوقعة، وعالجهم أبو عبيد، فالتقوا أسفل من كسكر بمكان يدعى السقاطية،
__________
(1) بارق: ماء بالعراق من أعمال الكوفة. انظر: معجم البلدان (1/ 319) .(2/405)
فاقتتلوا فى صحار ملس هناك قتالا شديدا، ثم إن الله، عز وجل، هزم فارس، وهرب نرسى، وغلب المسلمون على عسكره وأرضه، وأخذ أبو عبيد ما حوى معسكرهم، وجمع الغنائم، فرأى من الأطعمة شيئا عظيما، فبعث فيمن يليه من العرب فانتفلوا ما شاؤا، لا يؤثرون فيه، وأخذت خزائن نرسى، فلم يكونوا بشىء مما خزن أفرح منهم بالنرسيان؛ لأنه كان يحميه ويمالئه عليه ملوكهم، فاقتسمه المسلمون، فجعلوا يطعمونه الفلاحين.
قال المدائنى: وسار أبو عبيد إلى الجالينوس فلقيه بباروسما فهزمه، فلحق بالمدائن، وبلغ الذين كانوا ببابل هزيمة نرسى وجالينوس، فرجعوا إلى المدائن، ودخل أبو عبيد باروسما، فصالحه ابن الأنذرزعر عن كل رأس بأربعة دراهم، وهيئوا له طعاما فأتوه به، فقال: لا آكل إلا ما يأكل مثله المسلمون. فقالوا: كل، فكل أصحابك يأكل مثل ما تؤتون به، فأكل، فلما راح المسلمون سألهم عن طعامهم فأخبروه، فإذا الذى أكلوا مثل طعامه.
وفى بعض ما أورده سيف من الأخبار أن ابن الأنذرزعر لما أعلم أبا عبيد بالطعام الذى صنعوا له، وأتوا به قال لهم: هل أكرمتم الجند بمثله وقريتموهم؟ قالوا: لا، قال:
فردوه فلا حاجة لنا فيه، بئس المرء أبو عبيد إن صحب قوما من بلادهم اهراقوا دماءهم دونه، أو لم يهريقوها فاستأثر عليهم بشىء يصيبه! لا والله لا يأكل مما أفاء الله عليهم إلا مثل ما يأكل أوساطهم!.
قال المدائنى: وبعث أبو عبيد من باروسما المثنى بن حارثة إلى زندورد، وعاصم بن عمرو الأسدى إلى نهر جوير، وعروة بن زيد الخيل إلى الزوابى، فأما المثنى فإن أهل زندورد حاربوه فظفر بهم فقتل وسبى، وأما أهل الزوابى ونهر جوبر فصالحوا على صلح باروسما، فبعث أبو عبيد بخمس ما أصاب من أليس وخفان وكسكر وزندورد، وما صالح عليه إلى عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، ونزل أبو عبيد والمسلمون الحيرة.
وذكر سيف، أيضا، أنهم بعثوا بخمس ما أصابوا من النرسيان إلى عمر، رحمه الله، وكتبوا إليه: إن الله، عز وجل، أطعمنا مطاعم كانت الأكاسرة يحمونها الناس، فأحبننا أن تروها لتذكروا أنعم الله وأفضاله.
وقال فى ذلك عاصم بن عمرو:
ضربنا حماة النرسيان بكسكر ... غداة لقيناهم ببيض بواتر(2/406)
وفزنا على الأيام والحرب لاقح ... بجرد حسان أو برود غرائر
وظلت فلال النرسيان وتمره ... مباحا لمن بين الدبا والأصافر
أبحنا حمى قوم وكان حماهم ... حراما على من رامه بالعساكر
وقال، أيضا، يذكر ملتقى القوم بالنمارق:
لعمرى وما عمرى علىّ بهين ... لقد صبحت بالخزى أهل النمارق
نجوسهم ما بين أليس غدوة ... وبين قديس فى طريق البرارق
بأيدى رجال هاجروا نحو ربهم ... يجوسونهم ما بين درتا وبارق
وبين الرواة فيما تقدم من الأخبار اختلاف فى أسماء الأعاجم والأماكن، وفى التقديم والتأخير لم أر لذكر أكثر ذلك وجها إلا ما كان منه زائدا فى الإمتاع ومحسنا انتظام الحديث.
ومما ذكروا أن عمرا، رضى الله عنه، تقدم به إلى أبى عبيد حين بعثه فى هذا الوجه وأوصاه بجنده، أن قال له: إنك تقدم على أرض المكر والخديعة والخيانة والجبرية، وتقدم على قوم جرؤا على الشر فعلموه، وتناسوا الخير فجهلوه، فانظر كيف تكون! واخزن لسانك، ولا يفشون لك سر؛ فإن صاحب السر ما ضبطه متحصن لا يؤتى من وجه يكرهه، وإذا ضيعه كان بمضيعة.
حديث وقعة الجسر «1»
ويقال لها: وقعة القس، قس الناطف، ويقال لها: المروحة.
وقد جمعت الذى أوردت هنا من الحديث عن هذه الوقعة من أحاديث متفرقة أوردها الخطيب أبو القاسم، رحمه الله، فى كتابه عن سيف بن عمر وغيره، يزيد بعضها على بعض ومما وقع إلىّ، أيضا، عن أبى الحسن المدائنى فى فتوح العراق، وحديثه أطول افتضاضا وأشد اتصالا، وقد جعلت هذه الأحاديث كلها على اختلافها حديثا واحدا، إلا أن يعرض فيها ما يتناقض، فإما أن أسقط، حينئذ، أحد النقيضين بعد الاجتهاد فيه وفى الذى أوثر إثباته منهما، وإما أن أذكرهما معا وأبين ذلك، وأنسبه إلى من وقع ذكره فى حديثه، وكثيرا ما مضى عملى فى هذا الكتاب على هذا النحو، وعليه يستمر، إن
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 454- 459) ، الكامل لابن الأثير (2/ 301- 303) ، البداية والنهاية لابن كثير (7/ 27- 29) ، نهاية الأرب للنويرى (19/ 182- 184) .(2/407)
شاء الله، قصدا للتهذيب وحرصا على الجمع بين الإمتاع والإيجاز بحول الله سبحانه.
وأفتتح بما افتتح به المدائنى هذه القصة للذى ذكرته من حسن اتصال حديثه.
قال: ولما فتح أبو عبيد ما فتح، وهزم تلك الجنود، ونزل الحيرة، ورجعت المرازبة إلى يزدجرد منهزمين، شمتهم، وأقصاهم، ودعا بهمن ذا الحاجب فعقد له على اثنى عشر ألفا، وقال له: قدم هؤلاء الذين انهزموا، فإن انهزموا فاضرب أعناقهم، ودفع إليه درفش كايبان، راية كانت لكسرى فكانوا يتيمنون بها، وكانت من جلود النمور، عرضها ثمانية أذرع فى طول اثنى عشر ذراعا، وأعطاه سلاحا كثيرا، وحمل معه من أداة القتال وآله الحرب أوقارا من الإبل، ودفع إليه الفيل الأبيض، فخرج فى عدة لم ير مثلها.
وفى كتاب سيف أن رستم هو صاحب ذلك، وأنه الذى رجع إليه الجالينوس ومن أفلت من جنده بناء على ما قدمنا من الاختلاف فى ملك فارس إلى من كان حينئذ.
قال: فقال رستم: أى العجم أشد على العرب فيما ترون؟ قالوا: بهمن جاذويه، وهو ذو الحاجب، فوجهه ومعه الفيلة، ورد جالينوس معه. وذكر بعض ما تقدم.
وبلغ المسلمون مسيرهم، فقال المثنى لأبى عبيد: إنك لم تلق مثل هذا الجمع ولا مثل هذه العدة، ولمثل ما أتوك به روعة لا تثبت لها القلوب، فارتحل من منزلك هذا حتى نعبر الفرات ونقطع الجسر وتصير الفرات بينك وبينهم فتراهم، فإن عبروا إليك قاتلتهم، واستعنت الله، قال: إنى لأرى هذا وهنا، ثم أخذ برأى المثنى فعبر الفرات ونزل المروحة وقطع الجسر، وأقبل بهمن فنزل قس الناطف، بينه وبين أبى عبيد الفرات، وأرسل إلى أبى عبيد: إما أن تعبر إلينا، وإما أن نعبر إليك. فقال أبو عبيد: نعبر إليكم. فقال المثنى أذكرك الله والإسلام أن لا تعبر إليهم، فحلف ليعبرن إليهم، ودعا ابن صلوبا فعقد له الجسر فقال سليط بن قيس الأنصارى: يا أبا عبيد أذكرك الله ألا تركت للمسلمين مجالا، فإن العرب من شأنها أن تفر ثم تكر، فاقطع هذا الجسر وتحول عن منزلك وانزل أدنى منزل من البر وتكتب إلى أمير المؤمنين فتعلمه ما قد أجلبوا به علينا، ونقيم فإذا كثر عددنا وجاء مددنا رجعنا إليهم وبنا قوة، وأرجو أن يظهرنا الله عليهم. قال: جبنت والله يا سليط. قال: والله إنى لأشد منك بأسا، وأشجع منك قلبا، ثم تقدم فعبر، فقال المثنى لأبى عبيد: والله ما جبن، ولكن أشار بالرأى، وأنا أعلم بقتال هؤلاء منك، لئن عبرت إليهم فى ضيق هذا المطرد ليجزرن المسلمين هذا العدو. وقال: والله لأعبرن إليهم، وكان رسول بهمن قد قال: إن أهل فارس قد عيروهم، يعنى المسلمين، بالجبن(2/408)
عن العبور إليهم، فازداد أبو عبيد محكا، فقال المثنى للناس: اجعلوا جبنها بى ولا تعبروا فقالوا: كيف نصنع وقد عبر أميرنا وسليط فى الأنصار وعبر الناس فقال المثنى: إنى لأرى ما تصنعون ولولا أن خذلانكم يقبح ولا أراه يحل ما صحبتكم، ثم عبر، فالتقى الناس فى موضع ضيق المطرد.
قال: وكانت دومة امرأة أبى عبيد رأت وهى بالطائف كأن رجلا نزل من السماء معه إناء فيه شراب، فشرب منه أبو عبيد ورجال من أهل بيته يأتى ذكرهم، فقصتها على أبى عبيد، فقال: هذه الشهادة إن شاء الله.
فلما التقوا قال أبو عبيد: إن قتلت فأميركم عبد الله بن مسعود بن عمرو، يعنى أخاه، فإن قتل فأميركم جبر بن أبى عبيد، يعنى ولده، فإن قتل فأميركم حبيب بن ربيعة ابن عمرو بن عمير، فإن قتل فأميركم أبو الحكم بن حبيب بن ربيعة بن عمرو بن عمير، فإن قتل فأميركم أبو قيس بن حبيب، وهؤلاء الإخوة الثلاثة بنو عمه، حتى عدّ كل من شرب الإناء، ثم قال: فإن قتل فأميركم المثنى بن حارثة، وسير على ميمنته سليط بن قيس، وعلى ميسرته المثنى.
وقدم ذو الحاجب جالينوس معه الفيل الأبيض وراية كسرى وقد أطافت به حماة المشركين، معلمين أمامهم رجال يمشون على العمد، فكانت بين الناس مشاولة، يخرج العشرة والعشرون فيقتتلون مليا من النهار، ثم حمل المشركون على المسلمين فنضحوهم بالنبل، وجثت رجالهم فاستقبلوا بالرماح، ولم يقدروا من المسلمين على شىء فانصرفوا عنهم، ثم حملوا عليهم الثانية ففعلوا مثلها، ثم انصرفوا، وحملوا عليهم الثالثة فصبروا، فلما رأوا أنهم لا يقدرون على ما يريدون من المسلمين جاؤا بالنشاب فوضعوه كأنه آكام وتفرقوا ثلاث فرق، فقصدت فرقة لأبى عبيد فى القلب، وفرقة لسليط فى الميمنة، وفرقة للمثنى فى الميسرة، ثم صاروا كراديس، فجعل الكردوس يمر بهم معرضا بالمسلمين ويرميهم حتى كثرت الجراحات فيهم، وعضلت الأرض بأهلها.
وأقبلت الفيلة عليها النخل، والخيول عليها التجافيف، والفرسان عليهم الشعر، فلما نظرت إلى ذلك خيول المسلمين رأت شيئا منكرا لم تكن ترى مثله، فجعل المسلمون إذا حملوا عليهم لم تقدم خيولهم، وإذا حملوا على المسلمين بالفيلة والجلاجل فرقت بين كراديسهم، لا تقوى لهم الخيل إلا على نفار، وخزقهم الفرس بالنشاب، وعض المسلمين الألم، وجعلوا لا يصلون إليهم، فنادى سليط بن قيس: يا أبا عبيد أرأيى أم رأيك أما(2/409)
والله لتعلمن أنك قد أضررت برأيك نفسك والمسلمين، ثم قال: يا معشر المسلمين علام نستهدف لهؤلاء المشركين من أراد الجنة فليحمل معى، فحمل فى جماعة أكثرهم من الأنصار، فقتل وقتلوا، وترجل أبو عبيد وترجل الناس ومشوا إليهم، فتكافحوا وصافحوهم بالسيوف وحمى البأس حتى كثرت القتلى من الطائفتين جميعا، وجعلت الفيلة لا تحمل على جماعة إلا دفعتهم، فنادى أبو عبيد: احتوشوا الفيلة فقطعوا بطنها واقلبوا عنها أهلها؛ وواثب هو الفيل الأبيض، فتعلق ببطانه فقطعه، ووقع الذين عليه، وفعل القوم مثل ذلك؛ فما تركوا فيلا إلا حطوا رحله وقتلوا أصحابه، وقال أبو عبيد: ما لهذه الدابة من مقتل؟ قالوا: بلى، مشفرها إن قطع، فضرب مشفره فقطعه وبرك عليه فاستدبره أبو محجن فضرب عرقوبيه فاستدار وسقط لجنبه، وتعاور أبا عبيد المشركون فقتلوه، وقيل: بل اتقاه الفيل بيده لم نفح مشفره بالسيف فأصابه بيده فوقع فخبطه الفيل وقام عليه.
فلما بصر الناس بأبى عبيد تحت الفيل خشعت أنفس بعضهم، وأخذ اللواء الذى كان أمره من بعده فقاتل الفيل حتى تنحى عن أبى عبيد فاجتره إلى المسلمين وأخذوا شلوه، ثم تجرثم الفيل فاتقاه الفيل بيده دأب أبى عبيد، وخبطه الفيل، وقام عليه، وتتابع أمراء أبى عبيد الذين عهد إليهم بأخذ اللواء، فيقاتل حتى يموت، وصبر الناس حتى قتلوا، وصارت الراية إلى المثنى بن حارثة، فجاش بها ساعة ثم انهزم الناس وركبهم المشركون واقتطعوا زر بن خطم أو ابن حصن بن جوين الطائى فجماعة من المسلمين، فنادى زر:
يا معشر المسلمين، أنا زر، إنه ليس بعار أن يقتل الرجل وهو مقبل على عدوه معه سيف يضرب به سبالهم وأنفهم، وإنما العار أن يقتل الرجل وهو غير مقبل على عدوه، فاثبتوا فرب قوم قد فروا ثم كروا ففتح الله عليهم، فثاب إليه ناس من أهل الحفاظ حتى صاروا نحوا من ثلاثمائة، وأحاط بهم المشركون حتى خافوا الهلاك، ونظر إليهم المثنى بن حارثة، فقال لناس من بكر بن وائل: أى إخوانكم قد أحسنوا القتال وصبروا لعدوهم، فإن أمسكتم عنهم هلكوا، وإن كررتم رجوت أن تفرجوا عنهم وأن يكشف الله لهم السبيل إلى الجسر، فحمل على المشركين فى سبعين من بكر بن وائل أصحاب خيل مقدحة، كان يعدها للطلب والغارة فى بلاد العدو فقاتلهم حتى ارتفع عنهم المشركون وانضموا إلى إخوانهم من المسلمين.
ونظر عروة بن زيد الخيل وقد أحيط به وهو فى عشرين فرسا، إلى خيل المسلمين تطارد المشركين فقال لمن معه: أرى فى المسلمين بقية، فاحملوا على من بيننا وبين(2/410)
أصحابنا، فحملوا وأفرجوا لهم حتى وصلوا إلى المسلمين، وكان عروة يومئذ على فرس كميت أغر الذنوب، فأبلى أحسن بلاء، كان يشد عليه المنسر من مناسر العجم وهو وحده فإذا غشوه كر عليهم فيتصدعون حتى عرف مكانه، وتعجب الناس يومئذ من عروة لما رأوا من بلائه، فقال المثنى: إن البأس ليس له بمستنكر، ومضى الناس نحو الجسر، وحماهم المثنى وعروة بن زيد الخيل والكلح الضبى وعاصم بن عمرو الأسدى وعامر بن الصلت السلمى ونادى المثنى: أيها الناس، أنا دونكم فاعبروا على هيئتكم ولا تدهشوا فإنا لن نزول حتى نراكم من ذلك الجانب، ولا تفرقوا أنفسكم. فانتهى الناس إلى الجسر وقد سبق إليه عبد الله بن مرثد الثقفى أو غيره فقطعه وقال: قاتلوا عن دينكم، فخشع الناس واقتحموا الفرات فغرق من لم يصبروا، وأسرع المشركون فيمن صبروا، وأتاهم المثنى بن حارثة فأمر بالسفينة التى قطعت فوصلت بالجسر وعبر الناس، وقال المثنى للرجل الذى قطع الجسر: ما حملك على ما صنعت؟ قال: أردت أن يصبر الناس، ويقال إن سليط بن قيس كان من آخر من قتل عند الجسر.
وأصيب يومئذ من المسلمين ألف وثمانمائة منهم ثلاثمائة من ثقيف فيهم ثمانون خاضبا، واستحر القتل يومئذ ببنى عوف بن عقدة رهط أبى عبيد فابيد منهم: أبو عبيد وأمراؤه الذين أمر، وغيرهم. ويقال: قتل يومئذ معه اثنان وعشرون رجلا ممن هاجر، وقتل من المشركين ألفان.
وقتل أكثر من ذلك فيما ذكره سيف، قال: خبط الفيل أبا عبيد، وقد أسرعت السيوف فى أهل فارس، وأصيب منهم ستة آلاف فى المعركة، ولم يبق إلا الهزيمة، فلما خبط أبو عبيد، وقام عليه الفيل جال المسلمون جولة، ثم تموا عليها، وركبهم أهل فارس.
وقال عثمان النهدى: هلك يومئذ، يعنى من المسلمين، أربعة آلاف بين قتيل وغريق، وهرب ألفان، وبقى ثلاثة آلاف.
ولما فرغ الناس بالعبور عبر المثنى وحمى جانبه، واضطرب عسكره ورماهم ذو الحاجب فلم يقدر عليهم، وقطع المسلمون الجسر بعد عبورهم، فعبره المشركون.
قالوا «1» : وخرج جابان، ومردانشاه فى ألف من الأساورة منتخبين ليسبقوا المسلمين إلى الطريق، وبلغ ذلك المثنى، فاستخلف على الناس عاصم بن عمرو، وخرج يريدهما
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 458، 459) .(2/411)
فى جريدة خيل، فاعترضاه يظنانه هاربا، فأخذهما أسيرين فضرب أعناقهما، وقال: أنتما كذبتما أميرنا واستفززتماه.
وخرج أهل أليس على أصحابها، فأخذوهم فجاؤا بهم إلى المثنى، فضرب أعناقهم، وعقد بذلك لأهل أليس ذمة ثم رجع إلى عسكره.
وقيل: بل لقيهم المثنى فقتل مردانشاه فى المعركة وأسر جابان فضرب المثنى رقبته، وقد تقدم فى ذكر ملتقى أبى عبيد بجابان بين الحيرة والقادسية أن أكتل بن شماخ العكلى أسر مردانشاه ثم ضرب عنقه، وأسر مطر بن فضة جابان فخدعه وافتدى منه، وأحد الأمرين هو الصحيح فى قتل مردانشاه، فالله أعلم.
وانهزم المشركون، ومضى المثنى إلى أليس، وتفرق بنو تميم إلى بواديهم، ومضى أهل المدينة وأسد غطفان فنزلوا الثعلبية. وكان لعروة بن زيد الخيل من حسن الغناء فى يوم الجسر ما تقدم ذكره، فقال له المثنى: يا عروة، أما والله لو أن معى مثلك ألف فارس من العرب ما تهيبت أن أصبح ابن كسرى فى مدائنه وما كنت أكره أن ألقى مثل هذا الجمع الذى فل المسلمين مصحرا ولرجوت أن يظفرنى الله بهم، فهل لك فى المقام معى لا أوثر عليك نفسى ولا أحدا من قومى؟ قال: لا، إنى كنت مع هذا الرجل، يعنى أبا عبيد، وقد أصيب، فأرجع إلى عمر فيرى رأيه.
فلما نزل الناس التعلبية سألوا عروة أن يأتى عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، بكتابهم، فكتبوا إليه: إنا لقينا عدو الإسلام من أهل فارس بمكان يقال له قس الناطف فقتل أميرنا أبو عبيد وأمراء أمرهم أبو عبيد، وسليط بن قيس ورجال من المسلمين منهم من تعرف، ومنهم من تنكر، وتولى أمر الناس المثنى بن حارثة أخو بنى شيبان فحماهم فى فوارس، جزاهم الله عن الإسلام خيرا، فكتبنا إليك وقد نزلنا الثعلبية فرارا من الزحف لا نرى إلا إنّا قد هلكنا، وقد بعثنا إليك فارس المسلمين عروة يخبرك عنا ويأتينا بأمرك.
فلما قرأ عمر الكتاب فانتهى إلى قوله: منهم من تعرف ومنهم من تنكر بكى وقال:
ما ضر قوما عرفهم الله أن ينكرهم عمر، لكن الله لا يخفى عليه من عباده المحسنون، يا عروة ارجع إليهم فأعلمهم أنهم ليسوا بفرار، وإنما انحازوا إلىّ، وأنا لهم فئة، وسيفتح الله عليهم تلك البلاد إن شاء الله، يرحم الله أبا عبيد لو انحاز إلينا واعتصم بالحيف لكنا له فئة.(2/412)
وكتب عمر مع عروة إلى المثنى بن حارثة: أما بعد، فإن الله كتب القتل على قوم فلم يكن مماتهم ليكون إلا قتلا، وكتب على قوم الموت فهم يموتون موتا، فطوبى لمن قتل فى سبيل الله محتسبا نفسه صابرا، وقد بلغنى عنك ما كنت أحب أن تكون عليه، فالزم مكانك الذى أنت به، وادع من حولك من العرب، ولا تعجل إلى قتال إلا أن تقاتل، أو ترى فرصة حتى تأتيك أمداد المسلمين، وكأن قد أتتك على الصعبة والذلول.
فقدم عروة بن زيد على المثنى بكتاب عمر، ورجع أهل الحجاز وأسد وغطفان إلى بلادهم، وأقام المثنى حتى قدمت الأمداد.
ويقال: إن أول خبر تحدث به عن أهل الجسر بالمدينة أن رجلا قدمها من الطائف فجلس إلى حذاء فقال: ما لى لا أسمع أهل المدينة يبكون قتلاهم؟ فقال له الحذاء: ومن قتل؟ قال:
قتل أبو عبيد بن مسعود، وسليط بن قيس، فأخذ الحذاء بتلابيبه حتى أتى به عمر فأخبره بما قال، فقال له عمر: ما تقول ويلك! قال: يا أمير المؤمنين إنّا منذ ليال بفناء من أفنية الطائف إذ سمعنا أصوات نساء من ناحية باب شهار يقلن: يا أبا عبيداه، ويا سليطاه، وسمعنا قائلا يقول:
إن بالجسر فتية سعداء ... صبرا صادقين يوم اللقاء
كم تقى مجاهد كان فيهم ... خاشع القلب مستجاب الدعاء
يجأر الليل كله بعويل ... ونجيب وزفرة وبكاء
قال: فما انقضى حديثه حتى قدم عبد الله بن زيد الخطمى، وكان أول من قدم بخبر الجسر ممن شهده فمر بباب حجر عائشة، ويقال: أتى عمر وهو على المنبر فلما دخل المسجد ورآه عمر قال: ما عندك يا ابن زيد؟ قال: أتاك الخبر يا أمير المؤمنين، ثم صعد إليه فأخبره، فقالت عائشة: ما رأينا رجلا حضر أمرا فحدث عنه كان أثبت حديثا من عبد الله بن زيد ولا أخفى فزعا.
ولما قدم أهل المدينة المدينة وأخبروا عمن سار منهم إلى البادية استحياء من الهزيمة، اشتد ذلك على عمر، رحمه الله، فرق للناس ورحمهم، وقال: اللهم إن كل مسلم فى حل منى، أنا فئة كل مسلم، من لقى العدو ففزع بشىء من أمره فأنا له فئة؛ يرحم الله أبا عبيد، لو كان انحاز إلىّ لكنت له فئة.
وكان معاذ القارئ ممن شهدها وفر يومئذ، وكان يصلى بالناس فى شهر رمضان على(2/413)
عهد عمر، فكان بعد إذا قرأ: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ [الأنفال: 16] ، خنقته العبرة وبكى، فكان عمر يقول: أنا لكم فئة.
وكان عمر، رضى الله عنه، قد رأى فى النوم أن أبا عبيد وأصحابه انتهوا إلى ضرس من الحيرة فتحيروا ولم يجدوا مخرجا، فرجعوا فلم يجدوا طريقا، فرفعوا إلى السماء، فقال عمر: هذه شهادة، فليت شعرى ما فعل عدوهم؟ فكان يتوقع الخبر حتى قدم عبد الله بن زيد الخطمى فأخبره، فبكى وقال: ما وجهت أحدا وجها أكره إلىّ من الوجه الذى توجه إليه أبو عبيد.
وقال أبو محجن بن حبيب بن عمرو بن عبيد يرثى أبا عبيد ومن أصيب معه، وهو ابن عم أبى عبيد وأخو بنى حبيب الثلاثة المقتولين معه من أمرائه:
أنى تهدت نحونا أم يوسف ... ومن دون مسراها فياف مجاهل
إلى فتية بالطف نيلت سراتهم ... وغرى أفراس بها ورواحل
وأضحى بنو عمرو لدى الجسر منهم ... إلى جانب الأبيات حزم ونابل
وأضحى أبو جبر خلا ببيوته ... بما كان تعدوه الضعاف الأرامل
ألا قد علت قلب الهموم الشواغل ... وراجعت النفس الأمور القواتل
سيعلم أهل الغىّ كيف عزيمتى ... ويعلم ودادى الذين أواكل
غناى وأخذى بالذى أنا أهله ... إذا نزلت بى المعضلات العضائل
فما رمت حتى خرقوا برماحهم ... ثيابى وجادت بالدماء الأباجل
وما رمت حتى كنت آخر راجع ... وصرع حولى الصالحون الأماثل
وقد غادرونى فى مكر جيادهم ... كأنى غادتنى من الراح شامل
وأمسى على سيفى نزيف ومهرتى ... لدى الفيل تدمى نحرها والشواكل
فما لمت نفسى فيهم غير أنها ... إلى أجل لم يأتها وهو عاجل
مررت على الأنصار وسط رحالهم ... فقلت لهم هل منكم اليوم قافل
ألا لعن الله الذين يسرهم ... رداى وما يدرون ما الله فاعل
وقال أبو محجن أيضا:
يا عين جودى على جبر ووالده ... إذا تحطمت الرايات والحلق
يوم بيوم أتى جبر وإخوته ... والنفس نفسان منها الهول والشفق(2/414)
يا خل سل المنايا ما تركن لنا ... عزا ننوء به ما هدهد الورق
وقال حسان بن ثابت يرثى سليط بن قيس ومن أصيب من قومه:
لقد عظمت فينا الرزية أننا ... جلاد على ريب الحوادث والدهر
لدى الجسر يوم الجسر لهفى عليهم ... غداة إذا ما قد لقينا على الجسر
يقول رجال ما لحسان باكيا ... وحق لى التبكاء بالنحب والغزر
أبعد أبى قيس سليط تلومنى ... سفاها أبى الأيتام فى العسر واليسر
فقل للألى أمسوا أسروا شماتة ... به كنتم يوم النزال على بدر
وقالت امرأة من ثقيف:
أضحت منازل آل عمرو قفرة ... بعد الجزيل ونائل مبذول
وكأنما كانوا لموقف ساعة ... قردا زفته الريح كل سبيل
حديث البويب ووقعة مهران «1»
ولما بلغ عمر، رضى الله عنه، أمر الجسر، وأتاه كتاب المسلمين بالخبر استخلف على المدينة على بن أبى طالب وخرج فنزل بصرار يريد أرض فارس، وقدم طلحة بن عبيد الله فنزل الأعوص، فدخل عليه العباس بن عبد المطلب وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف فأشاروا عليه بالمقام، وقالوا: شاور الناس، فكتب إلى على وطلحة فقدما عليه، فجمع الناس فقال: إنى نزلت منزلى هذا وأنا أريد العراق فصرفنى عن ذلك قوم من ذوى الرأى منكم، وقد أحضرت هذا الأمر من خلفت ومن قدمت، فأشيرووا علىّ، فقال على بن أبى طالب، رضى الله عنه، أرى أن ترجع إلى المدينة وتكتب إلى من هناك من المسلمين أن يدعوا من حولهم ويحذروا على أنفسهم، وقد قدم قوم من العرب يريدون الهجرة فوجههم إليهم فتكون دار هجرة حتى إذا كثروا وليت أمرهم رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل السابقة والقدم فى الإسلام، فانصرف عمر إلى المدينة وكتب إلى المثنى بأن يدعو من حوله ولا يقاتل أحدا حتى يأتيه المدد، وقدم من الأسد وبارق وغامد وكنانة سبعمائة أهل بيت، فقال لهم عمر: أين تريدون؟ فقالوا: سلفنا بالشام. قال: أو غير ذلك، أرضا تبتذونها إن شاء الله ويغنمكم الله كنوزها، أخوار فارس. فقال مخنف بن سليم الغامدى: مرنا بأحب الوجهين إليك. قال: العراق. قال:
__________
(1) انظر: فتوح البلدان للبلاذرى (ص 310- 312) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (2/ 303- 306) ، الطبرى (3/ 460- 472) ، البداية والنهاية لابن كثير (7/ 29، 30) .(2/415)
فامضوا على بركة الله، فأمر عمر على الأزد رجلا منهم، وعلى كنانة غالب بن عبد الله الليثى فشخصوا إلى أرض الكوفة، فقدموا على المثنى بن حارثة، فأقبل بهم حتى نزلوا العذيب.
وفيما ذكره سيف «1» أن الأزد وكنانة لما سألوا الشام قال لهم عمر: ذلك وجه قد كفيتموه، العراق العراق إذروا بلدة قد فل الله شوكتها وعدوها، واستقبلوا جهاد قوم قد حووا فنون العيش، لعل الله أن يرث بكم قسطكم من ذلك فتعيشوا مع من عاش من الناس، فقال غالب الليثى وعرفطة البارقى، كل واحد منهما لقومه: يا عشيرتاه أجيبوا أمير المؤمنين إلى ما أراد، فقال كل فريق لصاحبهم: إنا قد أطعناك وأجبنا أمير المؤمنين إلى ما أراد، فدعا لهم عمر بخير، وأمر على كنانة غالبا وسرحه فيهم، وأمر على الأزد عرفجة بن هرثمة البارقى وعامتهم من بارق، وفرحوا برجوع عرفجة إليهم. فخرج هذا فى قومه وهذا فى قومه حتى قدما على المثنى، وكان عرفجة هذا حليفا فى بجيلة لأمر عرض له فى قومه أخرجه عنهم، ومن قدمته هذه رجع إلى قومه ونسبه حسب ما يذكر بعد إن شاء الله تعالى.
وقدم بعدهم أربعمائة أهل بيت من كندة والسكون، فيهم الأشعث بن قيس ومعاوية بن حديج وشرحبيل بن السمط، فقالوا: يا أمير المؤمنين قدمنا نريد سلفنا بالشام، فنظر إليهم وعليهم الحلل فأعرض عنهم، فكلموه، أيضا، فلم يأمرهم بشىء، فقيل له: ما يمنعك؟ قال: إنى لمتردد فيهم منقبض عنهم، لا ينزل هؤلاء بلدا إلا فتنوا أهله، وما قدم أحد المدينة أكره إلىّ منهم، فأمضى نصفهم إلى الشام، عليهم معاوية بن حديج، ونصفهم إلى العراق عليهم شرحبيل بن السمط.
وقدم من مذحج المدينة ألف بيت فيهم ثلاثمائة أهل بيت من النخع، فقال عمر:
سيروا إلى أرض فارس، قالوا: لا، ولكنا نسير إلى الشام، فقال يزيد بن كعب النخعى:
أنا أخرج فيمن أطاعنى، فخرج فى ثلاثمائة أهل بيت من النخع، وقال هند الجملى: أنا أخرج فيمن أطاعنى، فخرج فى خمسمائة أهل بيت من مراد، فكان عمر يقول بعد ذلك: سيد أهل الكوفة سمى المرأة هند الجملى.
ثم قدم المدينة أهل ألف بيت من همدان، فقالوا لعمر: خر لنا. قال: أرض العراق.
قالوا: بل الشام، قال: بل العراق، فصرفوا ركابهم إلى العراق.
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 463) .(2/416)
وقد كانت قدمت بجيلة فيهم جرير بن عبد الله، وسيدهم عرفجة بن هرثمة البارقى، حليف لهم، فقال عمر: اخرجوا إلى العراق، وأمر عليهم عرفجة، فقال جرير لبجيلة:
أخبروا عمر أنه ولى عليكم رجلا ليس منكم، وكانت بجيلة قد غضبت على عرفجة فى أمر عرض بينهم وبينه، فكلموا عمر فى ذلك واستعفوه منه، فقال: لا أعفيكم من أقدمكم هجرة وإسلاما، وأعظمكم بلاء وإحسانا، فلما أعلموه أنه ليس منهم، قال لعرفجة: إن هؤلاء استعفونى منك، وزعموا أنك لست منهم، فما عندك؟ قال: صدقوا، لست منهم وما يسرنى أننى منهم، أنا امرؤ من الأزد من بارق فى كثف لا يحصى عدده، وحسب غير مؤتشب. فقال عمر: نعم الحى الأزد، يأخذون نصيبهم من الخير والشر.
وقال عرفجة: إنه كان من شأنى أن الشر تفاقم فينا، ودارنا واحدة، وأصبنا الدماء، ووتر بعضنا بعضا فاعتزلتهم لما خفتهم، فكنت فى هؤلاء أسودهم وأقودهم، فحفظوا علىّ لأمر دار بينى وبين دهاقنتهم، فحسدونى وكفرونى، فقال: لا يضرك فاعتزلهم إذ كرهوك.
وقيل: إن عمر قال: اثبت على منزلتك ودافعهم، قال: لست فاعلا، ولا سائرا، فأمر عليهم جرير بن عبد الله، وقيل: إن جريرا كان إليه من بجيلة بعضها، فجمعها إليه عمر، وقال له جرير: يا أمير المؤمنين إن قومى متفرقون فى العرب، فأخرجهم وأنا أغزو بهم أرض فارس، وكانوا متفرقين فى هوزان وغطفان وتميم وفى أزد شنوءة والطائف وجرش، فكتب عمر إلى القبائل التى فيها بجيلة: أى نسب تواصل عليه الناس قبل الإسلام فهو النسب ليس لأحد أن يدعه، وليس له أن ينتقل إلى غير ما كان يعرف به، فمن كان من بجيلة لم ينتسب إلى غيرهم حتى جاء الإسلام فلا تحولوا بينهم وبين الرجوع إلى قومهم، فخرج قيس كبة وشحمة وعرينة من هوازن وغيرها من القبائل، وخرج العتيل والفتيان من بنى الحارث وخرج على وذبيان من الأزد بالسراة، ولما أعطى عمر، رضى الله عنه، جريرا حاجته فى استخراج بجيلة من الناس فأخرجهم، أمرهم بالموعد بين مكة والمدينة، ولما تتاموا قال لجرير: اخرج حتى تلحق بالمثنى، فكره ذلك جرير ومال إلى الشام، فقال له عمر: قد علمتم ما لقى إخوانكم بأرض فارس، فاخرجوا فإنى أرجو أن يورثكم الله أرضهم وديارهم، ولك الربع من كل شىء بعد الخمس، وقيل: بل جعل له ولقومه ربع الخمس مما أفاء الله عليه فى غزاتهم هذه، له ولمن اجتمع إليه ومن أخرج له من القبائل، استصلحهم عمر، رضى الله عنه، بذلك، إذ كان هواهم(2/417)
الشام، فأبى هو عليهم إلا العراق، وقال لهم: اتخذونا طريقا، فقدموا المدينة وهم أربعة آلاف، وقيل: ألفان، ثم فصلوا منها إلى العراق ممدين للمثنى، فقال عمر: لو ضممت إلى هؤلاء من الجبين من ابنى نزار، يعنى تميما وبكرا فوجه معهم قوما منهم، ثم تتابعت الأمداد.
وكان أول من نزل العذيب بالعيال من قبائل اليمن والحجاز الأزد ثم حضرموت وكندة ثم النخع ومراد ثم همدان ثم بجيلة، ثم جاءت قبائل الحجاز وأهل البوادى من تميم وبكر، وجاءت طيئ عليها عدى بن حاتم، وجاءت أسد، وجاءت قيس عليهم عبد الله بن المعتم العبسى، وجاءت الرباب وعلى تيم وعدى هلال بن علفة، وعلى ضبة المنذر بن حسان، وجاءت حنظلة وعمرو، وطوائف من سعد، وجاءت النمر بن قاسط عليهم أنس بن هلال بن عقة، وبعث عمر أيضا، عصمة بن عبد الله الضبى فيمن تبعه من بنى ضبة، وكان قد كتب إلى أهل الردة يأذن لهم فى الجهاد ويستنفرهم إليه، فلم يوافقه أحد منهم إلا رمى به المثنى.
وذكر المدائنى أن يزدجرد وجه مهران بعد وقعة الجسر وأمره أن يبث المسالح إلى أدانى أرض العرب، ويقتل كل عربى قدر عليه.
وفيما ذكره الطبرى عن سيف أن رستم والفيرزان هما اللذان رأيا إنفاذ مهران بعد أن طالعا برأيهما فى ذلك بوران ابنة كسرى، وذلك عند ما علما بتوافى أمداد العرب إلى المثنى، فخرج مهران فى الخيول وجاء يريد الحيرة، وبلغ المثنى الخبر وهو معسكر بمرج السباخ، ما بين القادسية وخفان، فاستبطن فرات بادقلى، وأرسل إلى جرير ومن معه: أنه جاءنا أمر لن نستطيع معه المقام حتى تقدموا علينا، فعجلوا اللحاق بنا، وموعدكم البويب.
وكتب إلى عصمة وإلى كل قائد أظله بمثل ذلك، وقال: خذوا على الجوف، فسلكوا القادسية وسلك المثنى وسط السواد، فطلع على النهرين ثم على الخورنق، وطلع عصمة ومن سلك معه طريقه على النجف، وطلع جرير ومن سلك معه على الجوف، فانتهوا إلى المثنى وهو البويب، ومهران من وراء الفرات بإزائه، فاجتمع عسكر المسلمين على البويب مما يلى موضع الكوفة اليوم، وعليهم المثنى، وهم بإزاء مهران وعسكره، فقال المثنى لرجل من أهل السواد: ما يقال لهذه الرقعة التى فيها مهران وعسكره؟ فقال:
بسوسا، فقال: أكدى مهران وهلك، ونزل منزلا هو البسوس، وأقام بمكانه حتى كاتبه(2/418)
مهران: إما أن تعبروا إلينا، وإما أن نعبر إليكم، فقال المثنى: اعبروا فعبر مهران، فنزل على شاطئ الفرات معهم فى الملطاط، فقال المثنى لذلك السوادى: ما يقال لهذه الرقعة التى نزلها مهران وعسكره؟ فقال: شوميا، وذلك فى رمضان، فنادى المثنى فى الناس:
انهدوا لعدوكم، فتناهدوا، ومهران فى ثلاثة عشر ألفا معه ثلاثة فيلة، فقدموا فيلتهم واستعدوا للحرب، فأقبلوا إلى المسلمين فى ثلاثة صفوف، مع كل صف فيل، ورجلهم أما فيلهم، وجاؤا ولهم زجل. فقال المثنى للمسلمين: إن الذى تسمعون فشل، فالزموا الصمت وائتمروا همسا، والمسلمون أربعة آلاف، ألفان وثمانمائة من اليمن، وألف ومائتان من سائر الناس، ويقال: كانوا ستة آلاف، وألف ومائتان من تميم وقيس وبكر، وسائرهم من اليمن.
وتنازع جرير والمثنى الإمارة يومئذ، فقال له المثنى: إنما بعثك أمير المؤمنين مددا لى، وقال جرير: بل استعملنى، فقيل: صار الأمر بينهما إلى ما قال المثنى، فكان هو الأمير، وقيل: صار جرير أميرا على من قدم معه والمثنى أميرا على من قدم قبل ذلك، ومن قال هذا زعم أن المثنى قال لجرير عند ما نهدوا للعدو: خلنى وتعبئة الناس، ففعل جرير وعبأ المثنى الجيش فصير مضر وربيعة فى القلب، وصير اليمن ميمنة، وميسرة، وقال المثنى: يا معشر المسلمين، إنى قد قاتلت العرب والعجم، فمائة من العرب كانوا أشد علىّ من ألف من العجم، ويقال: إنه قال لهم: قاتلت العرب والعجم فى الجاهلية والإسلام والله لمائة من العجم فى الجاهلية كانوا أشد علىّ من ألف من العرب، ولمائة من العرب اليوم أشد علىّ من ألف من العجم، إن الله قد أذهب مصدوقتهم، ووهن كيدهم، فلا يهولنكم سوادهم، إن للعجم قسيّا لجا، وسهاما طوالا هى أغنى سلاحهم عندهم فلو قد لقوكم رموكم بها، وإذا أعجلوا عنها أو فقدوها، فهم كالبهائم أينما وجهتموها توجهت، فتترسوا والزموا مصافكم واصبروا لشدة أو شدتين، ثم أنتم الظاهرون إن شاء الله تعالى.
وركب يومئذ فرسا ذنوبا أدهم يدعى الشموس للين عريكته وطهارته، وكان لا يركبه إلا لقتال ويدعه ما لم يكن قتال، ومر على الرايات يحض القبائل، فقال له شرحبيل بن السمط: ما أنصفتنا يا مثنى، جعلت معدك وسطا وجعلتنا ميمنة وميسرة، قال: إذا أنصفكم، الله ما أريد لهم شيئا من الخير إلا وأنا أريد لكم مثله، وما عهدى بمعد يدرى بالناس من البأس، ثم صير تميما مع الأزد فى الميمنة، وصير ربيعة مع كندة فى الميسرة، وصفوا صفوفهم، وقال: الزموا الصمت فإنى مكبر ثلاث تكبيرات، فإذا(2/419)
كبرت الثالثة فاحملوا، فنظر إلى سعد بن عبيد الأنصارى قد نصل من الصف، فقال: من أنت؟ قال: سعد بن عبيد، فررت يوم الجسر من الزحف، فأردت أن أجعل توبتى من فرتى أن أشرى نفسى لله. فقال له: إن خيرا مما تريد أن تقف مع المسلمين فتناضل عن دينك.
وقال جرير: يا معشر بجيلة، إن لكم فى هذه البلاد إن فتحها الله لكم حظا ليس لغيركم، فاصبروا التماس إحدى الحسنيين: الشهادة فثوابها الجنة أو النصر ففيه الغنى من العيلة، ولا تقاتلوا رياء ولا سمعة، بحسب امرئ من خساسته حظا أن يريد بجهاده وعدوه حمد أحد من الخلق.
ومر المثنى على الرايات راية راية يحرضهم ويهزهم بأحسن ما فيهم، ولكلهم يقول:
إنى لأرجو أن لا تؤتى العرب اليوم من قبلكم، والله، ما يسرنى اليوم لنفسى شىء إلا وهو يسرنى لعامتكم، فيجيبونه بمثل ذلك، وأنصفهم المثنى فى القول والفعل، وخالط الناس فى المكروه والمحبوب، فلم يستطع أحد منهم أن يعيب له قولا ولا عملا، ووقف على أهل الميمنة فنظر إلى رجل من العنبر على فرس عتيق رائع، فقال: يا أخا بنى العنبر، إنك لمن قوم صدق فى اللقاء، أما والله يا بنى تميم إنكم لميامين فى الحرب، صبر عند البأس، إنى لأرجو أن يعز الله بكم دينه.
وقال للأزد: اللهم صبحهم برضوانك، وادفع عنهم عين الحاسد، أنتم والله الأنجاد الأمجاد الحسان الوجوه، وإنى لأرجو أن يأتى العرب اليوم منكم ما تقر به أعينهم، ونظر إلى فوارس من قيس فى القلب فقال: نعم فتيان الصباح أنتم، اللهم جللهم عافيتك وافرغ عليهم الصبر، يوما كبعض أيامكم، ونظر إلى ناس من طيئ فى القلب، فقال:
جزاكم الله خيرا، فنعم الحى أنتم فى اللقاء وعند العطاء، فإنه ليحضهم إذ شدت كتيبة من العجم على الميسرة وفيها بكر وكندة فصبروا لهم، ثم شدت عليهم الثانية فانكشفت بكر وكندة، فقال المثنى: إن الخيل تنكشف ثم تكر، يا معشر طيئ الزموا مصافكم وأغنوا ما يليكم، واعترض الكتيبة التى كشفتهم بخيل كانت معه فمنعهم من اتباعهم وقاتلهم، فثارت عجاجة بينهم ورجع أهل الميسرة، وأقبلت الميمنة نحو المثنى وقد انكشف العدو عنه، وسيفه بيده وقد جرح جراحات وهو يقول: اللهم عليك تمام النصر، هذا منك، فلك الحمد، فقال له مخنف بن سليم الغامدى: الحمد لله الذى عافاك، فقد كنت أشفقت عليك. قال: كم من كربة قد فرجها الله، هل منعم عليه يكافئ ربه بنعمة من نعمه!!.(2/420)
وكانت هزيمة المشركون، فاتبعهم المسلمون حتى انتهوا إلى نهر بنى سليم، ثم كروا على المسلمين وركدت الحرب بينهم مليا، فلا يسمع إلا هرير الرجال، وقد كان أنس بن هلال النمرى قدم ممدا للمثنى فى أناس من النمر نصارى، وابن مردى الفهرى الثعلبى فى ناس من قومه كذلك، وقالوا حين رأو نزول العجم بالعرب: نقاتل مع قومنا، فلما طال القتال يومئذ واشتد عمد المثنى إلى أنس بن هلال، فقال: يا أنس، إنك امرؤ عربى، وإن لم تكن على ديننا، فإذا رأيتنى قد حملت على مهران فاحمل معى، وقال لابن مردى الفهرى مثل ذلك، فأجاباه، فحمل المثنى على مهران فأزاله حتى دخل فى ميمنته، ثم خالطوهم، واجتمع القلبان، وارتفع الغبار والمجنبات تقتتل، لا يستطيعون أن يفزعوا لنصر أميرهم، لا المسلمون ولا المشركون، وقد كان المثنى قال لهم: إذا رأيتمونا أصبنا فلا تدعوا ما أنتم فيه، فإن الجيش ينكشف ثم ينصرف، فالزموا مصافكم وأغنوا عنا من يليكم، وأوجع قلب المسلمين قلب المشركون، ووقف المثنى حتى أسفر الغبار وقد فنى قلب المشركين، والمجنبات قد هز بعضها بعضا، فلما رآه المسلمون وقد أزال القلب وأفنى أهله قويت مجنبات المسلمين على المشركين وجعلوا يردون الأعاجم على أدبارهم، وجعل المسلمون والمثنى فى القلب يدعون لهم بالنصر، ويرسل إليهم من يذمرهم ويقول لهم: إن المثنى يقول لكم عادتكم فى أمثالهم، انصروا الله ينصركم، حتى هزم القوم.
وكانت راية الأزد مع عبد الله بن سليم، فجعل بتقدم بها، فقال له رجل: لو تأخرت قليلا، فقال:
أقسمت بالرحمن أن لا أبرحا ... أو يصنع الله لنا فيفتحا
وقاتل حتى قتل، وتقدم أبو أمية عبد الله بن كعب الأزدى وهو يقول: اللهم إليك أسعى لترضى، وإياك أرجو فاغفر ذنبى، ثم تقدم فقاتل حتى قتل، رحمه الله، فحمل أبو رملة بن عبد الله بن سليم، وكانت عنده الرباب ابنة عبد الله بن كعب، فقتل قاتل عبد الله بن كعب واحتز رأسه، فأتى به ابنه، وهو غلام مراهق، فقال: دونك رأس قاتل أبيك، فعض الفتى بأنفه، ومر به رجل من بكر بن وائل يقال له عجل، فقال: يا فتى ما أشجعك على الأموات فحمى الفتى واعترض العدو، فاتبعه عمه جندب وهو يقول: يا عجل، قتلت ابن أخى، فلحقه وقد قتل رجلا، فرده، وقتل حصين بن القعقاع بن معبد ابن زرارة، فأخذ الراية مولى لهم أو مولى للأزد يقال له خصفة، فقاتل حتى قتل، ودارت بينهم رحى الحرب، وأخذت جرير الرماح فنادى: وا قوماه، أنا جرير، فقاتلت عنه جماعة من قيس ليس معهم غيرهم حتى خلص، وشدت جماعة على مسعود بن(2/421)
حارثة وهو معلم بعصابة خضراء وهو يفرى فريا، فطعن رجلا فقتله، وطعن آخر فانكسر رمحه فاختلفا بسيفيهما ضربتين فقتل كل واحد منهما صاحبه، فوقف عليه أخوه المثنى فقال: هكذا مصارع خياركم، وقيل: إنه ارتث يومئذ فمات بعد فى إناس من الجرحى من أعلام المسلمين ماتوا كذلك، منهم خالد بن هلال، فصلى عليهم المثنى وقدمهم على الأسنان والقرآن، وقال: والله إنه ليهون علىّ وجدى أن شهدوا البويب، أقدموا وصبروا، ولم يجزعوا ولم يتكلموا، وإن كان فى الشهادة لكفارة لبحور الذنوب، ولما ارتث مسعود بن حارثة يومئذ فتضعضع من معه رأى ذلك وهو دنف فقال: يا معشر كعب بن وائل، ارفعوا رايتكم رفعكم الله، لا يهولنكم مصرعى، وقتل جرير وغالب بن عبد الله الليثى وحنظلة بن ربيعة الأسدى وعروة بن زيد الخيل كل واحد منهم عشرة.
وقال ربعى بن عامر، وشهدها يومئذ مع أبيه: احصى مائة رجل من المسلمين قتل كل واحد منهم عشرة فى المعركة. وذكر أن غالبا وعروة وعرفجة فى الأزد كانوا من أصحاب التسعة، فالله أعلم.
وقال يومئذ لعروة رجل من قومه، ورآه يقدم: أهلكت قومك يا عروة، فقال:
يا قوم لا تعنفونى قومى ... لا تكثروا عدلى ولا من لومى
لا تعدونى النصر بعد اليوم
وسمع رجل يومئذ من مهران يرتجز وهو يقول:
إن تسألوا عنى فإنى مهران ... أنا لمن أنكرنى ابن باذان
فعجب من أن يتكلم بالعربية، فقيل له: إنه ولد باليمن، ويقال: إنه عربى نشأ مع أبيه باليمن، وكان أبوه عاملا لكسرى.
وأبصر جرير بن عبد الله، مهران يقاتل، فحمل عليه جرير والمنذر بن حسان فقاتلاه، طعنه المنذر فأداره عن دابته وقد وقذه فنزل إليه جرير فاحتز رأسه وتنازعا سلبه ثم أخذ جرير سلاحه، وأخذ المنذر حليته وثيابه وبرذونه، وقيل فى قتله غير هذا، وهو مما حدثت به أم ولد لزيد بن صوحان أن زيدا أخرجها معه إلى العسكر حتى لقوا مهران صاحب كسرى، فجعل الناس يحيدون عن مهران، فقال زيد: ما شأن الناس يحيدون عن هذا؟
قيل: كرهوه، فنزل زيد فمشى إليه فاختلفا ضربتين، فأطن مهران يده، فرجع فأخذ عمامتى فشقها ثم لفها على يده ثم عاوده فنسف ساقيه بالسيف فقتله، فابتدر المسلمون(2/422)
سلبه، فلم يأخذ زيد من سلبه إلا السيف، نفله إياه الأمير، فكان زيد يقول: من يشترى سيفا وهذا أثره، ويخرج يده الجذماء فيريها، وقد قيل إن غلاما نصرانيا من بنى تغلب هو الذى قتل مهران، فالله أعلم.
وهزم المشركون فأتوا الفرات، واتبعهم المسلمون، فانتهوا إلى الجسر، وقد عبرت طائفة من المشركين الجسر، فحالوا بين الباقين وبينه، فأخذوا يمينا وشمالا، فقاتلهم المسلمون حتى أمسوا، واقتحم طائفة الفرات فغرق بعضهم ونجا بعض، ورجع المسلمون عنهم حين أمسوا، فعبر من بقى منهم الجسر، ثم قطعوه فأصبح المسلمون فعقدوه واتبعوهم حتى بلغوا بيوت ساباط، ثم انصرفوا وصلبوا مهران على الجسر.
ويقال: إن المثنى قطع الجسر أولا ليمنع أهل فارس العبور، ثم ندم على ذلك وقال:
لقد عجزت عجزة وقى الله شرها بمسابقتى إياهم إلى الجسر وقطعه حتى أحرجتهم، فإنى غير عائد فلا تعودوا ولا تعتدوا بى أيها الناس، فإنما كانت زلة، لا ينبغى إخراج أحد إلا من لا يقوى على الامتناع.
ولما افترق الأعاجم على شاطئ الفرات مصعدين ومصوبين واعتورتهم خيول المسلمين أكثروا القتل فيهم حتى جعلوهم جثاء، فما كانت بين العرب والعجم وقعة كانت أقوى رمة منها.
حدث أبو روق قال: والله إن كنا لنأتى البويب، يعنى بعد ذلك بزمان، فنرى ما بين السكون وبنى سليم عظاما بيضاء تلولا تلوح من هامهم وأوصالهم نعتبر بها. قال:
وحدثنى بعض من شهدها أنهم كانوا يحرزونها مائة ألف.
واقتسم المسلمون ما أفاء الله عليهم، ونفلت بجيلة وجرير ما جعل لهم عمر بن الخطاب وحمل الخمس أو باقى الخمس، وجلس المثنى للناس يحدثهم ويحدثونه لما فرغوا، وكلما جاء رجل فتحدث قال له المثنى: أخبرنى عنك، فقال قرط بن جماح العبدرى:
قتلت رجلا فوجدت منه رائحة المسك فقلت: مهران، ورجوت أن يكون إياه، فإذا هو شهريرار صاحب الخيل فو الله ما رأيته إذ لم يكن مهران شيئا. وكان قرط قد قاتل يومئذ حتى دق قنى وقطع أسيافا.
وقال ربعى وهو يحدث المثنى: لما رأيت ركود الحرب واحتدامها قلت: تترسوا بالمجان فإنهم شادّون عليكم فاصبروا لشدتين وأنا زعيم لكم بالظفر فى الثالثة، فأجابونى فولى الله كفالتى.(2/423)
وقال ابن ذى السهمين محدثا: قلت لأصحابى إنى سمعت الأمير يقرأ ويذكر فى قراءته الزحف، فما ذكره إلا لفضل فيه، فاقتدوا برايتكم ولتحمى خيلكم رجلكم، وازحفوا فما لقول الله من خلف، فأنجز الله لهم وعده كما رجوت.
وقال عرفجة محدثا: حزنا كتيبة منهم إلى الفرات، ورجوت أن يكون الله قد أذن فى غرقهم وأن يسلينا بها عن مصيبة الجسر، فلما حصلوا فى حد الإحراج كروا علينا فقتلناهم قتالا شديدا حتى قال بعض قومى: لو أخذت رايتك، فقلت علىّ إقدامها، وحملت بها على حاميتهم فقتلته فولوا نحو الفرات فما بلغوه ومنهم أحد فيه الروح.
وقد كان المثنى قال يومئذ: من يتبع آثار المنهزمة حتى يبلغ السيب؟ فقام جرير فى قومه فقال: يا معشر بجيلة إنكم وجميع المسلمين ممن شهد هذا اليوم فى السابقة والفضيلة سواء، وليس لأحد منهم فى هذا الخمس غدا من النفل مثل الذى لكم منه، نفلا من أمير المؤمنين، فلا يكونن أحد أسرع إلى هذا العدو ولا أشد عليه منكم للذى لكم منه إلى ما ترجون، فإنما تنتظرون إحدى الحسنيين الشهادة والجنة أو الظفر والغنيمة والجنة.
ومال المثنى على الذين أرادوا أن يستنثلوا بالأمس من منهزمة يوم الجسر فقال: أين المستنثل بالأمس وأصحابه؟ انتدبوا فى آثار هؤلاء القوم إلى السيب وأبلغوا من عدوكم ما تغيظونهم به فهو خير لكم وأعظم أجرا، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم.
وكان هذا المستنثل، أو هو إن شاء الله سعد بن عبيد الأنصارى، قد أراد الخروج بالأمس من صف المسلمين إلى العدو، فقيل للمثنى: ألا ترى إلى هذا الرجل الذى يريد أن يستنثل، فركض إليه، فقال: يا أبا عبد الله، ما تريد أن تصنع؟ قال: فررت يوم أبى عبيد، فأردت أن تكون توبتى وانتصارى أن أمشى إليهم فأقاتل حتى أقتل، قال: إذن لا تضر عدوك ولا تنفع وليك، ولكن أدلك على ما هو خير لك، تثبت على صفك وتجزى قرنك وتواسى أخاك بنفسك وتنصره وينصرك فتكون قد نفعت المسلم وضررت العدو، فأطاعه وثبت مكانه، فكان يومئذ أول منتدب.
فأمر المثنى أن يعقد لهم الجسر ثم أخرجهم فى أثر القوم، واتبعتهم بجيلة وخيول المسلمين بعد من كل فارس، ولم يبق فى العسكر جسرى إلا خرج فى الخيل، فانطلقوا فى طلب العدو حتى بلغوا السيب، فأصابوا من البقر والسبى وسائر الغنائم شيئا كثيرا فقسمه المثنى عليهم، وفضل أهل البلاء من جميع القبائل، ونفل بجيلة يومئذ ربع الخمس بينهم بالسوية وبعث بثلاثة أرباعه إلى عمر، رضى الله عنه، وألقى الله الرعب فى قلوب(2/424)
أهل فارس، وكتب القواد الذين قادوا الناس فى الطلب إلى المثنى، وكتب إليه عاصم وعصمة وجرير: إن الله قد كفى رستم ووجه لنا ما رأيت، وليس دون القوم شىء، فأذن لنا فى الإقدام، فأذن لهم فأغاروا حتى بلغوا ساباط، وتحصن أهلها منهم، واستباحوا القريات دونها وراماهم أهل الحصن عن حصنهم بساباط ثم انطفئوا راجعين إلى المثنى.
قالوا: وكان المثنى وعصمة وجرير أصابوا فى أيام البويب على الظهر نزل مهران غنما ودقيقا وبقرا، فبعثوا بها إلى عيالات من قدم من المدينة وقد خلفوهن بالقوادس، وإلى عيالات أهل الأيام قبلهم وهن بالحيرة، وكان دليل الذين ذهبوا بنصيب العيالات اللواتى بالقوادس عمرو بن عبد المسيح بن بقيلة، فلما رفعوا للنسوة فرأين الخيل تصايحن وحسبنها غارة فقمن دون الصبيان بالحجارة والعمد، فقال عمرو: هكذا ينبغى لنساء هذا الجيش، وبشروهن بالفتح.
ولما أهلك الله، عز وجل، مهران استكمن المسلمون من الغارة على السواد فيما بينهم وبين دجلة، فمخروها لا يخافون كيدا ولا يلقون فيها مانعا، وانتفضت مسالح العجم فرجعت إليهم واعتصموا بالساباط، وسرهم أن يتركوا ما وراء دجلة، ونزل جرير والمثنى الحيرة وبثا المسالح فيما بين الأنبار وعين التمر إلى الطف، فمن كان أقام على صلحه قبلوا ذلك منه، ومن نقض أغاروا عليه، فكان أهل الحيرة وبانيقيا وغيرهم على صلحهم.
وكانت وقعة البويب فى رمضان من سنة ثلاث عشرة.
وتنازع، أيضا، المثنى وجرير الإمارة، وكان المثنى أحب إلى نزار، وجرير أحب إلى اليمانية، فكتب إلى عمر، رحمه الله، فى ذلك، فكان من مشورته فيه وعمله ما سيأتى بعد ذكره.
وشخص المثنى عند ذلك فنزل أليس، ويقال شراف، وهو وجع من جراحات به، وارتحل معه عامة النزارية، فلما رأى ذلك جرير تحول فنزل العذيب مع العيال، ومعه أخلاط الناس وهو الأمير عليهم فى قول بعضهم، وفى هذه الإمارات كلها اضطراب من نقلة الأخبار واختلاف بين القبائل، فبنو شيبان تقول: كان جرير الأمير يوم قتل مهران المثنى، وبجيلة تقول: كان الأمير يوم ذلك وقبل وبعد، والأظهر مما تقدم من الأخبار أن المثنى كان الأمير فى تلك الحرب، إلا أن يكون جرير على من معه كما قد قيل، فالله تعالى أعلم.(2/425)
وقد قال الأعور الشنى فلم يذكر لغير المثنى يومئذ إمارة:
هاجت عليك ديار الحرب أحزانا ... واستبدلت بعد عبد القيس همذانا
وقد أرانا بها والشمل مجتمع ... أدنى النخيلة قتلى جند مهرانا
كأن الأمير المثنى يوم راجفة ... مهران أشجع من ليث بخفانا
أزمان سار المثنى بالخيول لهم ... فقتل الزحف من رجلى وركبانا
سما لمهران والجيش الذى معه ... حتى أبادهم مثنى ووحدانا
إذ لا أمير أراه بالعراق لنا ... مثل المثنى الذى من آل شيبانا
حديث غارة المثنى على سوقى الخنافس وبغداد «1»
ذكر سيف عن شيوخه أن المثنى لما نزل أليس، قرية من قرى الأنبار، وهذه الغزاة تدعى غزاة الأنبار الآخرة، وغزاة أليس الآخرة، وقد مخر السواد وخلف بالحيرة بشير بن الخصاصية، وأرسل جريرا إلى ميسان، وهلال بن علقمة إلى دست ميسان وأذكى المسالح بعصمة بن فلان الضبى، وبالكلح الضبى، وبعرفجة البارقى وأمثالهم من قواد المسلمين، ألزّ به رجلان: أحدهما أنبارى والآخر حيرى، يدله كل واحد منهما على سوق، فأما الأنبارى فدله على سوق الخنافس، وأما الحيرى فدله على بغداد. فقال المثنى:
أيتهما قبل صاحبتهما؟ فقالوا: بينهما أيام، فقال: أيهما أعجل؟ قالوا: سوق الخنافس يتوافى إليها الناس، ويجتمع إليها ربيعة وقضاعة يخفرونهم. فاستعد لها المثنى، حتى إذا ظن أنه يوافيهم يوم سوقها ركب نحوهم، فأغار على الخنافس يوم سوقها، وبها خيلان من ربيعة وقضاعة وهم الخفراء، فانتسف السوق وما فيها، وسلب الخفراء، ثم رجع عوده على دبئه حتى تطرق دهاقين الأنبار طروقا فى أول يومه فتحصنوا منه، فلما عرفوه نزلوا إليه فأتوه بالأعلاف والزاد، وأتوا بالأدلاء على بغداد، وكان وجهه إلى سوق بغداد فصبحهم.
وقال المثنى فى غارته على خنافس:
صبحنا فى الخنافس جمع بكر ... وحيا من قضاعة غير ميل
بفتيان الوغى من كل حى ... تبارى فى الحوادث كل جيل
نسفنا سوقهم والخيل زور ... من التطواف والشد البجيل
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 472- 476) ، تاريخ بغداد للخطيب البغدادى (1/ 25- 27) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (2/ 306، 307) ، نهاية الأرب للنويرى (19/ 187- 189) .(2/426)
وذكر الخطيب أبو بكر بن ثابت البغدادى فى تاريخه «1» أن بغداد كانت فى أيام مملكة العجم قرية يجتمع فيها رأس كل سنة التجار، ويقوم بها للفرس سوق عظيمة، فلما توجه المسلمون إلى العراق وفتحوا أول السواد، ذكر للمثنى بن حارثة أمر سوق بغداد، ثم أورد بإسناد له عن ابن إسحاق أن أهل الحيرة قالوا للمثنى، وذكره سيف من طريق آخر أن رجلا من أهل الحيرة قال للمثنى، واللفظ فى الحديثين متقارب، وقد دخل حديث أحدهما فى حديث الآخر، قالوا: ألا ندلك على قرية يأتيها تجار مدائن كسرى وتجار السواد ويجتمع بها فى كل سنة من الناس مثل خراج العراق، وهذه أيام سوقهم التى يجتمعون فيها، فإن أنت قدرت على أن تعبر إليهم وهم لا يشعرون أصبت بها مالا يكون غناء للمسلمين وقوة على عدوهم، وبينها وبين مدائن كسرى عامة يوم، فقال لهم: فكيف لى بها؟ قالوا: إن أردتها فخذ طريق البر، حتى تنتهى إلى الأنبار، ثم تأخذ رؤس الدهاقين، فيبعثون معك الأدلاء، فتسير سواد ليلة من الأنبار حتى تأتيهم ضحى.
قال: فخرج من النخيلة ومعه أدلاء الحيرة، حتى دخل الأنبار، فنزل بصاحبها فتحصن منه، فأرسل إليه: ما يمنعك من النزول؟ فأرسل إليه: إنى أخاف، فأرسل إليه: انزل فإنك آمن على دمك وقريتك، وترجع سالما إلى حصنك، فتوثق عليه ثم نزل، فأطعمه المثنى، وخوفه واستكتمه، وقال: إنى أريد أن أعبر فابعث معى الأدلاء إلى بغداد، حتى أغير منها إلى المدائن، قال: أنا أجىء معك، قال المثنى: لا أريد أن تجىء معى، ولكن ابعث معى من يعرف الطريق، ففعل وأمر لهم بزاد وطعام وعلف، وبعث معهم دليلا، فأقبل حتى إذا بلغ المنصف قال له المثنى: كم بيننا وبين هذه القرية؟ قال: أربعة فراسخ أو خمسة، وقد بقى عليك ليل، فقال لأصحابه: من ينتدب للحرس، فانتدب له قوم، فقال لهم: اذكروا حرسكم، ثم نزل وقال للناس: أنزلوا فاقضوا واطمعوا وتوضأوا وتهيأوا وابعثوا الطلائع فلا يلقون أحدا إلا حبسوه، ثم سار بهم فصبحهم فى أسواقهم، فوضع فيهم السيف، فقتل وأخذ الأموال، وقال لأصحابه: لا تأخذوا إلا الذهب والفضة، ومن المتاع ما يقدر الرجل منكم على حمله على دابته، وهرب الناس، وتركوا أمتعتهم وأموالهم، وملأ المسلمون أيديهم من الصفراء والبيضاء والحرّ من كل شىء.
ثم كر راجعا، ثم نزل بنهر السيلحيين من الأنبار، فقال للمسلمين: احمدوا الله الذى سلمكم وغنمكم، وانزلوا فاعلفوا خيلكم من هذا القصب، وعلقوا عليها، وأصيبوا من
__________
(1) انظر: تاريخ بغداد (1/ 25- 27) .(2/427)
أزوادكم، فسمع القوم يهمس بعضهم إلى بعض أن القوم سراع الآن فى طلبنا، فقال:
تناجوا بالبر والتقوى ولا تتناجوا بالإثم والعدوان، قبح الله من يتناجون به، انظروا فى الأمور وقدروها ثم تكلموا، تحسبونهم الآن فى طلبكم، فو الله لو كان الصريخ قد بلغهم الآن إنه لكبير، ولو كان الصريخ عندهم لبلغهم من رعب غارتنا عليهم إلى جنب مدائنهم ما يشغلهم عن طلبنا حتى نلحق معسكرنا وجماعتنا، إن للغارات روعات تنتشر عليها يوما إلى الليل، ولو كان بهم من القوة ما يحملهم على طلبنا ثم جهدوا وجهدهم ما أدركونا، نحن على الجياد العراب وهم على المقارف البطاء، ولو أنهم طلبونا فأدركونا لم نقاتلهم إلا التماس الثواب ورجاء النصر، فثقوا بالله وأحسنوا به الظن، فقد نصركم الله عليهم وهم أكثر منكم وأعز، وسأخبركم عنى وعن انكماشى والذى أريد من ذلك، إن خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبا بكر أوصانا أن نقل العرجة ونسرع الكرة فى الغارات، ونسرع فى غير ذلك الأوبة، فأقبلوا ومعهم دليلهم حتى انتهوا إلى الأنبار، فاستقبلهم صاحبها بالكرامة، فوعده المثنى بالإحسان إليه لو استقام أمرهم، ورجع المثنى إلى عسكره.
حديث السرايا من الأنبار «1»
قالوا: لما رجع المثنى من بغداد إلى الأنبار، سرح المضارب العجلى وزيدا إلى الكباث، ثم خرج فى أثرهم، فقدم الرجلان الكباث، وقد ارفض عنه أهله وأخلوه، وكانوا كلهم من بنى تغلب، وكان عليهم فارس العناب التغلبى يحميهم، فركب المسلمون آثارهم يتبعونهم، فأدركوا أخرياتهم، فحماهم فارس العناب ساعة ثم هرب، وقتلوا فى أخرياتهم فأكثروا، ورجع المثنى إلى عسكره بالأنبار، فسرح فرات بن حيان، وكان خلفه فى عسكره، وسرح معه عتبة بن النهاس، وأمرهما بالغارة على أحياء من تغلب والنمر بصفين، ثم اتبعهما وخلف على الناس عمرو بن أبى سلمى الهجيمى.
فلما دنوا من صفين، فر أهلها فعبروا الفرات إلى الجزيرة وتحصنوا، وفارق المثنى فراتا وعتبة، فأرمل المثنى وأصحابه من الزاد، حتى نحروا رحلهم إلا ما لا بد لهم منه فأكلوها حتى أخفافها وعظامها وجلودها، ثم أدركوا عيرا من أهل دياف وحوران، فقتلوا العلوج وأصابوا ثلاثة نفر من بنى تغلب خفراء، فأخذوا العير، وكان ظهرا فاضلا، وقال
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 475، 476) ، الكامل لابن الأثير (2/ 307) ، نهاية الأرب للنويرى (19/ 188، 189) .(2/428)
لهم: دلونى، فقال له أحدهم: أمنونى على أهلى ومالى، وأدلكم على حى من بنى تغلب غدوت من عندهم اليوم، فآمنه المثنى وسار معه يومه، حتى إذا كان العشى هجم عليهم، فإذا النعم صادرة عن الماء، والقوم جلوس بأفنية البيوت، فبعث غارته فقتلوا المقاتلة، وسبوا الذرية، وانتسفوا الأموال، وإذا هم بنو ذى الرويحلة، فاشترى من كان من ربيعة السبايا بنصيبهم من الفىء، فأعتقوا سبيهم، وكانت ربيعة لا تسبى، إذا العرب يتسابون فى جاهليتهم.
وأخبر المثنى أن جمهور من سلك البلاد قد انتجعوا شاطئ دجلة، فسرح فى آثارهم حذيفة بن محصن، وكان على مقدمته فى غزواته كلها بعد البويب، ثم اتبعه فأدركوهم دون تكريت يخوضون الماء، فأصابوا ما شاؤا من النعم، حتى أصاب الرجل خمسا من السبى وخمسا من النعم، وجاء المثنى بذلك حتى نزل على الناس بالأنبار، ومضى فرات وعتيبة فى وجههما، حتى أغارا على صفين وبها النمر وتغلب متساندين، فأغاروا عليهم ونقبوهم، فرموا بطائفة فى الماء، فناشدوهم وجعلوا ينادون: الغرق الغرق، فلم يقلعوا عنهم، وجعل عتيبة والفرات يذمرون الناس وينادونهم: تغريق بتحريق، يذكرونهم يوما من أيام الجاهلية أحرقوا فيه قوما من بكر بن وائل فى غيضة من الغياض، ثم انطلق المسلمون راجعين إلى المثنى وقد غرقوهم.
فلما تراجع الناس إلى عسكرهم بالأنبار وتوافت بها البعوث والسرايا، انحدر بهم المثنى إلى الحيرة فنزل بها، وكانت لعمر، رحمه الله، فى كل جيش عيون يتعرفون الأخبار من قبلهم، فكتب إليه بما كان فى تلك الغزاة، وأبلغ الذى قال عتيبة والفرات، يوم بنى تغلب والماء، فبعث إليهما فسألهما، فأخبراه أنهما قالا ذلك على وجه المثل، وأنهما لم يفعلا ذلك على وجه طلب بذحل فى الجاهلية، فاستحلفهما، فحلفا ما أرادا بذلك إلا المثل، وإعزاز الإسلام، فصدقهم وردهما إلى المثنى.
ذكر ما هيج حرب القادسية على ما ذكره سيف عن أشياخه «1»
قالوا: قال أهل فارس لرستم والفيزران، وهما عميدا أهل فارس: أين يذهب بكما لم يبرح بكما الاختلاف حتى وهنتما أهل فارس، وأطمعتما فيهم عدوهم وإن لم يبلغ من خطركما أن تقركما فارس على هذا الرأى، وأن تعرضاها للهلكة، ما تنتظرون، والله ما
__________
(1) انظر: الطبرى (3/ 477- 479) ، الكامل لابن الأثير (2/ 308، 309) .(2/429)
تنتظرون إلا أن ينزل بنا ونهلك، ما بعد ساباط وبغداد وتكريت إلا المدائن، والله ما جرأ علينا هذا غيركم، ولولا أن فى قتلكم هلاكنا لعجلنا لكم القتل الساعة، ولئن لم تنتهوا لنهلكنكم ثم نهلك وقد اشتفينا منكم.
قالوا: فقال الفيرزان ورستم لبوران ابنة كسرى: اكتبى لنا نساء كسرى وسراريه ونساء آل كسرى وسراريهم، ففعلت، وأخرجت ذلك إليهم فى كتاب، فأرسلوا فى طلبهن فلم تبق امرأة منهن إلا أتوا بها، فوضعوا عليهن العذاب يستدلونهن على ذكر من آل كسرى، فلم يوجد عند واحدة منهن أحد منهم، وقلن، أو من قال منهن:
لم يبق منهم إلا غلام يدعى يزدجرد من ولد شهريار بن كسرى، وأمه من أهل داريا، فأرسلوا إليها فأخذوها به، فدلتهم عليه، وكانت قد دفعته إلى أخواله فى أيام شيرى حين جمعهن فى القصر الأبيض، فقتل الذكور، واعدتهم ثم دلته إليهم فى زبيل، فأرسلوا إليه، فجاؤا به وهو ابن إحدى وعشرين سنة فملكوه، واجتمعوا عليه، واطمأنت فارس واستوثقوا، وتبارى الرؤساء فى طاعته ومناصحته، فسمى الجنود لكل مسلحة كانت لكسرى، أو موضع ثغر، وبلغ ذلك من أمرهم واجتماعهم على يزدجرد المثنى والمسلمين، فكتبوا بذلك إلى عمر، رحمه الله، بما ينتظرون ممن بين ظهرانيهم، فلم يصل الكتاب إلى عمر حتى كفر أهل السواد، من كان له منهم عهد ومن لم يكن له، فخرج المثنى على حاميته حتى ينزل بذى قار، وينزل الناس بذى الطف فى عسكر واحد، فكتب إليهم عمر:
أما بعد، فاخرجوا من بين ظهرانى الأعاجم، وتفرقوا فى المياه التى تليهم على حدود أرضكم وأرضهم، ولا تدعوا فى ربيعة ومضر أحدا من أهل النجدات، ولا فارسا إلا أجلبتموه، فإن جاء طائعا وإلا حشدتموه، احملوا العرب على الجد إذا جد العجم، لتلقوا جدهم بجدكم.
فنزل المثنى بذى قار، ونزل الناس بالجل وشراف إلى غضى، وغضى جبال البصرة، وكان جرير بن عبد الله بغضى وسبرة بن عمرو العنبرى ومن أخذ أخذهم فيمن معهم إلى سلمى، فكنوا فى أمواه العراق من أولها إلى آخرها مسالح ينظر بعضهم إلى بعض، ويغيث بعضهم بعضا إن كان كون، وذلك فى ذى القعدة سنة ثلاث عشرة.
وعادت مسالح كسرى وثغوره وهم فى ملك فارس هائبون مشفقون، والمسلمون يتدفقون قد ضروا بهم كالأسد يثأر عن فريسته، ثم يعاود الكر وأمراؤهم يكفكفونهم؛(2/430)