[المقدمة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ترجمة المصنف «1»
هو أبو الربيع سليمان بن موسى بن سالم بن حسان بن سليمان بن أحمد بن عبد السلام الحميري الكلاعي البلنسي الأندلسي المالكي المعروف بابن سالم.
ولد سنة خمس وستين وخمسمائة (565 هـ) ، ونشأ ببلنسية، وتلقى العلوم في رحلته إلى إشبيلية وشاطبة وغرناطة والإسكندرية.
توفي شهيدا سنة أربع وثلاثين وستمائة للهجرة (634 هـ) في موقعة أنيشة حاملا اللواء بنفسه.
من مؤلفاته:
1- أحاديث مصافحة أبي بكر ابن العربي الإمامين.
2- أحاديث مصافحة أبي علي الإمامين.
3- أربعون السباعية من الحديث.
4- الأربعون حديثا عن أربعين شيخا لأربعين من الصحابة في أربعين معنى.
5- الإعلام بأخبار البخاري الإمام ومن بلغت روايته عنه من الأغفال والأعلام.
__________
(1) انظر ترجمته في تاريخ الإسلام للذهبي (وفيات سنة 634) ، وتذكرة الحفاظ (4/ 1417) ، وسير أعلام النبلاء (23/ 134) ، والعبر للذهبي (5/ 137) ، والوافي (15/ 432) ، ومرآة الجنان (5/ 85) ، وشذرات الذهب (5/ 164) ، وهدية العارفين (1/ 399) .(المقدمة/1)
6- الاكتفاء؛ وهو الكتاب الذي بين أيدينا.
7- الامتثال لمثال المبهج في ابتداع الحكم واختراع الأمثال.
8- برنامج مروياته.
9- تحفة الرواد في العوالي البلدية الإسناد.
10- جنى الرطب في سني الخطب.
11- جهد النصيح في معارضة المعري في خطبة الفصيح.
12- حلية الأمالي في الواقعات والعوالي.
13- ديوان الرسائل.
14- ديوان شعره.
15- الصحف المبشرة في القطع المعشرة.
16- مجازفة اللحن للاحن الممتحن.
17- المسلسلات والإنشادات.
18- مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام في اليقظة والمنام.
19- المعجم فيمن وافقت كنيته زوجته.
20- مفاوضة القلب والعليل في منابذة الأمل الطويل بطريقة المعري وملقى السبيل.
21- ميدان السابقين وحلبة الصادقين المصدقين.
22- نتيجة الحب الصميم وزكاة النثير والنظيم.
23- نكتة الأمثال ونفثة السحر الحلال. بنى فيه الكلام على التوشيح بما تضمنه كتاب أبي عبيد من أمثال العرب واضطرار الكلام إليها.(المقدمة/2)
عملنا في التحقيق
1- قمنا بنسخ المخطوط من النسخة المحفوظة بدار الكتب المصرية بمكتبة طلعت تحت رقم 2074، وهي نسخة جيدة كتبت بخط مشرقي دقيق، ثم قمنا بضبطها بالاستعانة بالنسخة المطبوعة بالقاهرة.
2- قمنا بتخريج آيات القرآن الكريم وإثبات التخريج عقب الآية بين معقوفتين.
3- قمنا بتخريج الأحاديث المذكورة بالكتاب.
4- ترجمنا لبعض الأعلام وإن كان قليلا.
5- قمنا بالتعليق على بعض المواضع بالكتاب، وشرح بعض الألفاظ الغريبة.
6- قمنا بتخريج بعض الأبيات الشعرية.
7- قمنا بعمل عجالة للتعريف بالمؤلف.
والله سبحانه المسؤول أن يجعله خالصا لوجهه الكريم، وأن ينفع به، إنه بعباده رؤوف رحيم.(المقدمة/3)
الجزء الأول
صورة الصفحة الأولى من الخطوط(1/1)
صورة الصفحة الأخيرة من المخطوط(1/2)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
مقدمة المصنف
قال الشيخ الفقيه الخطيب المحدث الثبت الشهيد أبو الربيع، سليمان بن موسى بن سالم، الكلاعى، البلنسى، كرم الله مثواه، وجعل الجنة مستقره ومأواه:
الحمد لله الذى منّ علينا بالإسلام، وأكرمنا بنبيه محمد عليه أفضل الصلوات والسلام، وجعل آثاره الكريمة ضالتنا المنشودة، والاقتداء بهديه الأهدى، ونوره الأوضح الأبدى غايتنا المقصودة وأمنيتنا المودودة، وأنعم على قلوبنا بالارتياح والاهتزاز عند سماع مصدره أو إليه منتماه.
وإنه لأثر رجاء فى هذه القلوب البطالة وأثاره خير يرجى، أن يذودها عن مشارع الجهالة ومنازع الضلالة، فإن الارتياح للذكر شهادة الحب وأمارة المحب.
وقد روى عنه صلوات الله عليه نقلة السنة أن من أحبه كان معه فى الجنة. فنسأل الله أن يكتبنا فى محبيه حقيقة، ويسلك بنا من الوقوف عند مقتضيات أوامره ونواهيه طريقة بالسعادة خليفة.
فما نزال طالبين ذلك من أكرم مطلوب لديه، راغبين فيه إلى خير مرغوب إليه. وإن لم نكن أهلا للإسعاف بتقصيرنا فى الأعمال، فإنه جل جلاله أهل الجود والإفضال.
ونصلى قبل وبعد على هذا النبى المبارك الكريم، صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتخبين، خير صحب وخير آل.
وهذا كتاب ذهبت فيه إلى إيقاع الإقناع، وإمتاع النفوس والأسماع، باتساق الخبر عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر نسبه ومولده وصفته ومبعثه، وكثير من خصائصه، وأعلام نبوته ومغازيه، وأيامه من لدن مولده إلى أن استأثر به وقبض روحه الطيبة إليه، صلوات الله وبركاته عليه.
مقدما لذلك ما يجب تقديمه، ومتمما من ذكر أوليته المباركة بلدا ومحتدا، بما يحسن علمه وتعليمه، ملخصا جميعه من كتب أئمة هذا الشأن الذين صرفوا إليه اعتناءهم،(1/3)
واستنفذوا فى آناءهم، ككتاب محمد بن إسحاق، الذى تولى عبد الملك بن هشام تهذيبه واختصاره، وكتاب موسى بن عقبة، الذى استحسن الأئمة اقتصاده واقتصاره، وغيرهما من المجموعات التى لا يديم الإنصاف قصد جماعها ولا يذم الاختبار اختياره.
ولكنه عظم المعول بحكم الخاطر الأول على كتاب ابن إسحاق، إياه أردت وتجريده من اللغات وكثير من الأنساب والأشعار قصدت، وعلى ترتيبه غالبا جريت، ومنزعه فى أكثر ما يخص المغازى تحريت.
فإنه الذى شرب ماء هذا الشأن فأنقع، ووقع كتابه من نفوس الخاص والعام أجل موقع.
إلا أنه يتخلله، كما أشرنا إليه قبل، أشياء من غير المغازى تقدح عند الجمهور فى إمتاعه، وتقطع بالخواطر المستجمعة لسماعه.
وإن كانت تلك القواطع عريقة فى نسب العلم، وحقيقة بالتقييد والنظم. فسعى أن يكون لها مكان هو بإيرادها أخص، إذ لكل مقام لا يحسن فى غيره الإيراد له والنص.
ولذلك نويت فيه أن أحذف ما تخلله من مشبع الأنساب التى ليس احتياج كل الناس إليها بالضرورى الحثيث، ونفيس اللغات المعوق اعتراضها اتصال الأحاديث، حتى لا يبقى إلا الأخبار المجردة، وخلاصة المغازى التى هى فى هذا المجموع المقصودة المعتمدة.
ظنا منى أنه إذا أذن الله فى تمامه، وتكفل تعالى بتيسير محاولته وفق المأمول وتقريب مرامه، استأنفت النفوس له قبولا وعليه إقبالا، ولم يزده هذا النقص لدى جمهورهم إلا كمالا.
ثم بدا لى أن أزيد على هذا المقدار ما يحسن فى هذا المضمار، وأعوض مما حذفت منه من اللغات والأنساب والأشعار، بما يكون له إن شاء الله مزية الاختيار، ويروق عليه رونق الإيثار، منتقيا ذلك من الدواوين التى طار بها فى الناس طائر الاشتهار، ومتخيرا له من الأماكن التى لا يستقل بحصر فوائدها وانتقاء فرائدها كل مختار.
ككتاب ابن عقبة، وقد سميته، فإنه وإن اختصره جدا فقد أحسن العبارة، وأتى مواضع من المغازى حذاها بسطه وحماها اختصاره.
وسأضع على كثير منها ميسمه وأرسمها فى هذا المختصر على نحو ما رسمه.(1/4)
وقد وقفت على كتاب محمد بن عمر الواقدى فى المغازى، ولم يحضرنى الآن، لكنى رأيته كثيرا ما يجرى مع ابن إسحاق، فاستغنيت عنه به لفضل فصاحة ابن إسحاق فى الإيراد، وحسن بيانه الذى لا يفقد معه استحسان الحديث المعاد.
وللواقدى أيضا كتاب المبعث، وهو مشبع فى بابه، ممتع باستيفائه واستيعابه، قد نقلت هنا منه جملا، تناسب الغرض المسطور، وتصد المعترض أن يجور.
وكذلك كتاب الزبير بن أبى بكر القاضى رحمه الله فى أنساب قريش، وهو كما سمعت شيخنا الخطيب أبا القاسم ابن حبيش رحمه الله يحكى عن شيخه أبى الحسن ابن مغيث أنه كان يقول فيه: هو كتاب عجب لا كتاب نسب.
التقطت أيضا من درره نفائس معجبة، وتخيرت من فوائده نخبا لمتخيرها موجبة.
ومثله التاريخ الكبير لأبى بكر ابن أبى خيثمة، وناهيك به من بحر لا تكدره الدلاء، وغمر لا ينفذه الأخذ الدراك ولا يستنزفه الورد الولاء.
وكم شىء أستحسنه من غير هذه الكتب المسماة فأنظمه فى هذا النظام، وأضطر إلى الإفادة به مساق الكلام. إما متمما لحديث سابق، وإما مفيدا بغرض لما تقدمه مطابق.
فإن لم يكن بينهم فى الأحاديث اختلاف يشعر بنقض، فكثيرا ما أدخل حديث بعضهم فى حديث بعض، ليكون المساق أبين والاتساق أحسن.
وإن عرض عارض خلاف فالفصل حينئذ أرفع للإشكال وأدفع للمقال.
وربما فصلت بين بعض أحاديثهم وإن اشتبهت معانيها، بحسب ما تدعو إليه ضرورة الموضع، أو تحمل على إعادته حلاوة الموقع.
وكل ذلك يشهد الله أن المراد فيه بالقصد الأول وجهه الكريم، وإحسانه العميم، ورحمته التى منها شق لنفسه أنه الرحمن الرحيم.
ثم القصد الثانى متوفر على إيثار الرغبة فى إيناس الناس بأخبار نبيهم صلى الله عليه وسلم، وعمارة خواطرهم بما يكون لهم فى العاجل والآجل أنفع وأسلم.
وقد عم عليه الصلاة والسلام ببركة دعائه سامع حديثه ومبلغه، وقال صلى الله عليه وسلم: «ما أفاد المسلم أفضل من حديث حسن بلغه فبلغه» .
ولا أحسن بعد كتاب الله الذى هو أحسن القصص وأصدق القصص، وأفضل(1/5)
الحصص، وأجلى الأشياء للغصص من أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم التى بالوقوف عليها توجد حلاوة الإسلام، ويعرف كيف تمهدت السبل إلى دار السلام.
فإنه لا يخلو الحاضرون لهذا الكتاب من أن يسمعوا ما صنع الله لرسوله فى أعداء تنزيله، فيستجزلوا ثواب الفرح بنصر الله، أو يستمعوا ما امتحنه الله به من المحن التى لا يطيق احتمالها إلا نفوس أنبياء الله بتأييد الله، فيعتبروا بعظيم ما لقيه من شدائد الخطوب، ويصطبروا لعوارض الكروب، تأدبا بآدابه، وجريا فى الصبر على ما يصيبهم والاحتساب لما ينوبهم على طريقة صبره واحتسابه.
وتلك غايات لن نبلغ عفوها بجهدنا، ولن نصل أدانيها بنهاية ركضنا وشدنا، وإنما علينا بذل الجهد فى قصد الاهتداء، وعلى الله سبحانه المعونة فى الغاية والابتداء.
وإذا استوفيت بفضل الله طلق هذا المعنى كما نويت، وبلغت حاجة نفسى منه وقضيت، فلى نية، إن ساعدت المشيئة عليها، فى أن أصل هذا الغرض المتقدم، من ذكر مغازى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بذكر مغازى الخلفاء الثلاثة الأول، رضى الله عنهم، منتحلا على رجاء معونة الله أسبابها، ومنتخلا من كتاب شيخنا الخطيب أبى القاسم، رحمه الله، ومن غيره مما هو فى نحو معناه، صفوها ولبابها، لتنتظم الفائدتان معا، ويكون الخبر عن مغازى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومغازى خلفائه، الذين بهديهم الائتمام، فى مكان واحد مجتمعا.
وأرجو بحول الله الذى له الطول وبيده القوة والحول، أن يكون هذا المجموع كافيا فى البابين، وافيا بالغرضين المنتابين، ولذلك ترجمته بكتاب: الاكتفاء بما تضمنه من مغازى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومغازى الخلفاء.
وفضله جل جلاله نعم الكفيل أن يجزى به خير الجزاء، ويجعله من عددنا النافعة يوم اللقاء، فهو عز وجهه الملجأ والمعول، وبه أستعين وعليه أتوكل، لا إله إلا هو سبحانه، هو حسبى وإليه أنيب.(1/6)
ذكر نسب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما وكيف طهره الله نفسا وخيما وشرفه حديثا وقديما وألقى إلى آبائه الأقدمين من الدلائل على اصطفائه إياه فى الآخرين وابتعاثه له رحمة للعالمين ما صيره لديهم قبل وجوده بطوائل السنين معلوما
فى الصحيح من حديث واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بنى كنانة، واصطفى من بنى كنانة قريشا، واصطفى من قريش بنى هاشم، واصطفانى من بنى هاشم» «1» .
وفى حديث عن عبد الله بن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لم يزل الله عز وجل ينقلنى من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة، صفيا مهذبا، لا تتشعب شعبتان إلا كنت فى خيرهما» «2» .
وخرج أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذى، من حديث المطلب بن أبى وداعة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على المنبر فقال: «من أنا» ؟ فقالوا: «أنت رسول الله عليك السلام» قال: «أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إن الله خلق الخلق فجعلنى فى خيرهم فرقة، ثم جعلهم فرقتين، فجعلنى فى خيرهم فرقة، ثم جعلهم قبائل، فجعلنى فى خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتا، فجعلنى فى خيرهم بيتا، وخيرهم نفسا» . وفى رواية:
«فأنا خيرهم نفسا، من خيرهم بيتا» «3» .
__________
(1) أخرجه الترمذى (3605) ، الإمام أحمد فى المسند (4/ 107) ، الألبانى فى السلسلة الضعيفة (163) ، الزبيدى فى إتحاف السادة المتقين (9/ 89) ، السيوطى فى الدر المنثور (3/ 294، 4/ 274) ، ابن أبى شيبة فى المصنف (11/ 478) .
(2) أخرجه السيوطى فى الدر المنثور (3/ 294، 5/ 98) .
(3) أخرجه الترمذى (1/ 76) باب ما جاء فى فضل النبى، البيهقى فى السنن الكبرى (7/ 387، 388، 10/ 57) ، الحاكم فى المستدرك (2/ 64، 3/ 258) ، ابن أبى شيبة فى المصنف (11/ 20) ، الطبرانى فى الكبير (7/ 383، 17/ 136) ، الهيثمى فى المجمع (1/ 22، -(1/7)
وصدق صلى الله عليه وسلم، والصدق شيمته، وفوق العالمين طرا قدره الرفيع وقيمته، هو أشرفهم حسبا وأفضلهم نسبا وأكرمهم أما وأبا.
هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب «1» بن هاشم- واسمه عمرو- بن عبد مناف- واسمه المغيرة- بن قصى- واسمه زيد- بن كلاب بن مرة بن كعب، ابن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
هذا الصحيح المجتمع عليه فى نسبه، وما فوق ذلك مختلف فيه.
ولا خلاف فى أن عدنان من ولد إسماعيل نبى الله، ابن إبراهيم خليل الله، عليهما السلام، وإنما الاختلاف فى عدد من بين عدنان وإسماعيل من الآباء. فمقلل ومكثر.
وكذلك من إبراهيم إلى آدم عليهما السلام، لا يعلم ذلك على حقيقته إلا الله.
روى عن ابن عباس قال: كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا انتهى إلى عدنان أمسك ثم يقول:
«كذب النسابون» ، قال الله تعالى: «وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً» [الفرقان: 38] .
ومن عدنان تفرقت القبائل من ولد إسماعيل.
فولد عدنان رجلين: معد بن عدنان، وعك بن عدنان.
فصارت عك فى دار اليمن، لأن عكا تزوج فى الأشعريين منهم وأقام فيهم، فصارت الدار واللغة واحدة.
والأشعريون هم بنو أشعر بن نبت بن أدد بن زيد بن هميسع بن عمرو بن عريب ابن يشجب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان «2» .
وقحطان هو عند جمهور العلماء بالنسب أبو اليمن كلها، وإليه يجتمع نسبها، والعرب كلها عندهم من ولد إسماعيل وقحطان. وبعض اليمن يقول: قحطان من ولد إسماعيل، وإسماعيل أبو العرب كلها. والله أعلم.
__________
4/ 238، 244، 10/ 375) ، شرح السنة للبغوى (3/ 239، 9/ 246) ، الزبيدى فى إتحاف السادة المتقين (2/ 206، 7/ 194) ، المتقى الهندى فى الكنز (29687) .
(1) قال ابن إسحاق فى السيرة: اسم عبد المطلب شيبة بن هاشم. وانظر ذكر نسب النبى فى: السيرة (1/ 23، 24) ، والبداية والنهاية كتاب سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسبه (2/ 257) .
(2) انظر: السيرة (1/ 27) ذكر نسب ولد إسماعيل.(1/8)
وأما معد، فذكر الزبير بن أبى بكر رحمه الله، أن بختنصر لما أمر بغزو بلاد العرب وإدخال الجنود عليهم فيها، وقتل مقاتلهم لانتهاكهم معاصى الله، واستحلالهم محارمه وقتلهم أنبياءه، وردهم رسالاته، أمر أرميا بن حلقيا، وكان فيما ذكر نبى بنى إسرائيل فى ذلك الزمان: أن ائت معد بن عدنان الذى من ولده محمد خاتم النبيين، فأخرجه عن بلاده واحمله معك إلى الشام، وتول أمره قبلك.
ويقال: بل المحمول عدنان، والأول أكثر.
وفى حديث عن ابن عباس، أن الله بعث ملكين، فاحتملا معدا، فلما أدبر الأمر رده فرجع إلى موضعه من تهامة، بعدما دفع الله بأسه عن العرب، فكان بمكة وناحيتها مع أخواله من جرهم، وبها منهم بقية هم ولاة البيت يومئذ، فاختلط بهم وناكحهم.
فولد معد بن عدنان نفرا، منهم قضاعة، وكان بكره الذى به يكنى فيما يزعمون، وقنص، ونزار، وإياد.
فأما قضاعة فتيامنت إلى حمير بن سبأ وانتمت إلى ابنه مالك بن حمير، حتى قال قائل منهم يفخر بذلك:
نحن بنو الشيخ الهجان الأزهر ... قضاعة بن مالك بن حمير
النسب المعروف غير المنكر ... فى الحجر المنقوش تحت المنبر «1»
وأنكر كثير من الناس منتماهم هذا، وجرت بينهم وبين من قال به من القضاعيين فى ذلك أقاويل معروفة وأشعار محفوظة.
قال الزبير: ولم يجتمع رأى قضاعة على الانتساب فى اليمن، بل أهل العلم منهم والدين مقيمون على نسبهم فى معد.
وأما قنص بن معد، فهلكت بقيتهم فيما زعموا، وكان منهم النعمان بن المنذر ملك الحيرة «2» .
واحتج من قال ذلك بأن عمر- رضى الله عنه- حين أتى بسيف النعمان بن
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 28) .
(2) انظر: السيرة (1/ 28) .(1/9)
المنذر، دعا جبير بن مطعم بن عدى بن نوفل بن عبد مناف بن قصى «1» ، فسلحه إياه، ثم قال: ممن كان يا جبير النعمان بن المنذر؟.
فقال: كان من أشلاء، قنص بن معد.
وكان جبير أنسب قريش لقريش والعرب قاطبة، وكان يقول: إنما أخذت النسب من أبى بكر الصديق.
وكان أبو بكر رضى الله عنه، أنسب العرب «2» .
وقد قيل فى نسب النعمان غير ذلك، مما سيأتى ذكره عند تأدية الحديث إليه، إن شاء الله تعالى.
وقد ذكر أيضا فى بنى معد الضحاك بن معد.
ذكر الزبير بإسناد له إلى مكحول قال: أغار الضحاك بن معد على بنى إسرائيل فى أربعين رجلا من بنى معد، عليهم دراريع الصوف خاطمى خيلهم بحبال الليف، وسبوا وظفروا، فقالت بنو إسرائيل: يا موسى، إن بنى معد أغاروا علينا، وهم قليل، فكيف لو كانوا كثيرا وأغاروا علينا وأنت نبينا؟ فادع الله عليهم.
فتوضأ موسى وصلى، وكان إذا أراد حاجة من الله صلى، ثم قال: يا رب إن بنى معد أغاروا على بنى إسرائيل فقتلوا وسبوا وظفروا، وسألونى أن أدعوك عليهم.
فقال الله تعالى: يا موسى لا تدع عليهم، فإنهم عبادى، وإنهم ينتهون عند أول أمرى، وإن فيهم نبيا أحبه وأحب أمته.
قال: يا رب، ما بلغ من محبتك له؟.
قال: أغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
قال: يا رب ما بلغ من محبتك لأمته؟.
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب (1/ 303) ، الإصابة ترجمة رقم (1094) ، أسد الغابة ترجمة رقم (698) ، نسب قريش (201) ، طبقات خليفة ترجمة رقم (43) ، التاريخ الكبير (2/ 223) ، المعارف (485) ، الجرح والتعديل (2/ 512) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (35) ، جمهرة أنساب العرب (116) ، العقد الثمين (3/ 408) .
(2) انظر: السيرة (1/ 28) .(1/10)
قال: يستغفرنى مستغفرهم فأغفر له، ويدعونى داعيهم فأستجيب له.
قال: يا رب فاجعلهم من أمتى.
قال: نبيهم منهم.
قال: يا رب فاجعلنى منهم.
قال: تقدمت واستأخروا.
قال الزبير: وحدثنى على بن المغيرة قال: لما بلغ بنو معد عشرين رجلا أغاروا على عسكر موسى عليه السلام، فدعا عليهم فلم يجب فيهم، ثم أغاروا، فدعا عليهم فلم يجب فيهم، ثلاث مرات.
فقال: يا رب، دعوتك على قوم فلم تجبنى فيهم بشىء.
فقال: يا موسى، دعوتنى على قوم منهم خيرتى فى آخر الزمان.
وأما نزار بن معد، واسمه مشتق من النزر وهو القليل، فيقال: إن أباه معدا لما ولد له نظر إلى نور بين عينيه، ففرح لذلك فرحا شديدا، ونحر وأطعم، وقال: إن هذا كله لنزر فى حق هذا المولود.
وما كان الذى رآه إلا نور النبوة، الذى لم يزل ينتقل فى الأصلاب، حتى انتهى إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فطبق الأرض نورا، وهدى الله به من أراد سعادته من عباده، صراطا مستقيما.
وكل هذه الأنوار والآثار شاهدة له- عليه السلام- بعظيم عناية الله، وكريم المكانة عنده، فلم تزل بركته صلى الله عليه وسلم متعرفة فى آبائه الماضين، وظاهرة على أسلافه الأكرمين، تشير المخايل اللائحة فيهم إليه، وتدل الدلائل الواضحة فى أوليتهم عليه، صلوات الله وبركاته عليه.
فولد نزار بن معد: مضر وربيعة وأنمارا وإيادا، وإليه دفع أبوه حجابة الكعبة فيما ذكر الزبير. وأمه سودة بنت عك بن عدنان.
وقيل هى أم مضر خاصة، وأم إخوته الثلاثة أختها شقيقة ابنة عك بن عدنان.
وقد قيل: إن إيادا شقيق لمضر، أمهما معا سودة.(1/11)
فإنمار هو أبو بجيلة وخثعم، وقد تيامنت بجيلة إلا من كان منهم بالشام والمغرب، فإنهم على نسبهم إلى أنمار بن نزار.
وجرير بن عبد الله «1» صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم من سادات بجيلة وله يقول القائل:
لولا جرير هلكت بجيلة ... نعم الفتى وبئست القبيلة
وكذلك تيامنت الدار أيضا بخثعم، وهم بنو أقيل بن أنمار، وإنما خثعم جبل تحالفوا عنده فسموا به، وهم بالسراة على نسبهم إلى أنمار.
وإذا كان بين مضر واليمن فيما هنالك حرب، كانت خثعم مع اليمن على مضر «2» .
ويروى أن نزارا لما حضرته الوفاة، قسم ماله بين بنيه الأربع: مضر وربيعة وإياد وأنمار.
فقال: هذه القبة لقبة كانت له حمراء من أدم، وما أشبهها من المال لمضر، وهذا الخباء الأسود وما أشبهه لربيعة، وهذه الخادم، وكانت شمطاء، وما أشبها لإياد. وهذه البدرة والمجلس لأنمار يجلس فيه.
وقال لهم: إن أشكل عليكم الأمر فى ذلك واختلفتم فى القسمة، فعليكم بالأفعى الجرهمى. وكان بنجران.
فاختلفوا بعده وأشكل أمر القسمة عليهم، فتوجهوا إلى الأفعى. فبينا هم فى مسيرهم إليه إذ رأى مضر كلأ قد رعى، فقال: إن البعير الذى رعى هذا لأعور.
فقال ربيعة: وهو أزور. وقال إياد: وهو أبتر. وقال أنمار: وهو شرود.
فلم يسيروا إلا قليلا، حتى لقيهم رجل توضع به راحلته، فسألهم عن البعير، فقال له مضر: أهو أعور؟ قال: نعم. قال ربيعة: أهو أزور؟ قال: نعم. قال إياد: أهو أبتر؟ قال نعم. قال أنمار: وهو شرود؟ قال: نعم، هذه والله صفة بعيرى دلونى عليه. فحلفوا له ما
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (326) ، الإصابة الترجمة رقم (1139) ، أسد الغابة الترجمة (730) ، طبقات ابن سعد (6/ 22) ، طبقات خليفة (116، 138) ، تاريخ خليفة (218) ، التاريخ الكبير (2/ 211) ، الجرح والتعديل (2/ 502) ، تهذيب الكمال (191) ، تاريخ الإسلام (2/ 274) ، العبر (1/ 57) ، تهذيب التهذيب (2/ 73) ، خلاصة تذهيب الكمال (61) ، شذرات الذهب (1/ 57، 58) .
(2) انظر: السيرة (1/ 78) .(1/12)
رأوه، فلزمهم وقال: كيف أصدقكم وأنتم تصفون بعيرى بصفته!! فساروا حتى قدموا نجران، فنزلوا بالأفعى الجرهمى، فنادى صاحب البعير: بعيرى، وصفوا لى صفته، ثم قالوا: لم نره!
فقال لهم الأفعى: كيف وصفتموه، ولم تروه؟
فقال له مضر: رأيته يرعى جانبا ويدع جانبا فعرفت أنه أعور.
وقال ربيعة: رأيت إحدى يديه ثابتة الأثر والأخرى فاسدة الأثر، فعلمت أنه أفسدها لشدة وطئه لازوراره.
وقال إياد: عرفت بتره باجتماع بعره، ولو كان ذيالا لمصع به.
وقال أنمار: عرفت أنه شرود، أنه كان يرعى فى المكان المتلف نبته، ثم يجوزه إلى مكان أرق منه وأخبث.
قال الشيخ: ليسوا بأصحاب بعيرك، فاطلبه.
ثم سألهم من هم؟
فأخبروه، فرحب بهم وقال: تحتاجون إلى وأنتم كما أرى!
فدعا لهم بطعام، فأكل وأكلوا وشرب وشربوا.
فقال مضر: لم أر كاليوم خمرا أجود لولا أنها نبتت على قبر.
وقال ربيعة: لم أر كاليوم لحما أطيب لولا أنه ربى بلبن كلبة.
وقال إياد: لم أر كاليوم رجلا سرنى لولا أنه ليس لأبيه الذى يدعى له.
وقال أنمار: لم أر كاليوم كلاما أنفع فى حاجتنا.
وسمع صاحبهم كلامهم، فقال: ما هؤلاء؟! إنهم لشياطين.
ثم أتى أمه، فسألها، فأخبرته أنها كانت تحت ملك لا يولد له، فكرهت أن يذهب الملك، فأمكنت رجلا نزل بهم من نفسها، فوطئها، فجاءت به.
وقال للقهرمان: الخمر التى شربناها ما أمرها؟
قال: من حبلة غرستها على قبر أبيك.(1/13)
وسأل الراعى عن اللحم، فقال: شاة أرضعناها من لبن كلبة، ولم يكن ولد فى الغنم غيرها. فأتاهم، فقال: قصوا على قصتكم، فقصوا عليه ما أوصى به أبوهم، وما كان من اختلافهم.
فقال: ما أشبه القبة الحمراء من مال فهو لمضر. فصارت إليه الدنانير والإبل، وهى حمر، فسميت مضر الحمراء.
قال: وما أشبه الخباء الأسود من دابة ومال فهو لربيعة. فصارت له الخيل، وهى دهم، فسمى ربيعة الفرس.
قال: وما أشبه الخادم، وكانت شمطاء، من مال فيه بلق، فهو لإياد. فصارت له الماشية البلق. وقضى لأنمار بالدراهم والأرض. فساروا من عنده على ذلك.
وكان يقال: مضر وربيعة هما الصريحان من ولد إسماعيل.
وروى ميمون بن مهران، عن عبد الله بن العباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسبوا مضر وربيعة فإنهما كانا مسلمين» «1» .
وقال صلى الله عليه وسلم فيما روى عنه: «إذا اختلف الناس فالحق مع مضر» «2» .
وسمع عليه السلام قائلا يقول:
إنى امرؤ حميرى حين تنسبنى ... لا من ربيعة آبائى ولا مضرا
فقال صلى الله عليه وسلم: «ذلك أبعد لك من الله ومن رسوله» «3» .
ومما يؤثر من حكم مضر بن نزار ووصاياه: من يزرع شرا يحصد ندامة، وخير الخير أعجله، فاحملوا أنفسكم على مكروهها فيما أصلحكم، واصرفوها عن هواها فيما أفسدها، فليس بين الصلاح والفساد إلا صبر فواق.
فولد مضر بن نزار رجلين: إلياس بن مضر، وعيلان بن مضر.
قال الزبير: وأمهما الحنفاء بنت إياد بن معد.
__________
(1) أخرجه ابن حجر فى الفتح (7/ 146) ، المتقى الهندى فى الكنز (23987) .
(2) أخرجه المتقى الهندى فى الكنز (33989) ، ابن حجر فى المطالب العالية (4188) ، ابن عدى فى الكامل فى الضعفاء (1456) ، ابن أبى شيبة فى المصنف (12/ 198) .
(3) أخرجه أبو داود فى السنن كتاب البيوع باب (88) ، البيهقى فى السنن الكبرى (6/ 174) ، الزيلعى فى نصب الراية (4/ 128) .(1/14)
وقال ابن هشام: أمهما جرهمة. ولما أدرك إلياس بن مضر، أنكر على بنى إسماعيل ما غيروا من سنن آبائهم وسيرهم، وبان فضله عليهم ولان جانبه لهم، حتى جمعهم على رأيه، ورضوا به رضا لم يرضوه بأحد من ولد إسماعيل بعد أدد.
فردهم إلى سنن آبائهم، حتى رجعت سنتهم تامة على أولها.
وهو أول من أهدى البدن إلى البيت، أو فى زمانه.
وأول من وضع الركن للناس بعد هلاكه، حين غرق البيت وانهدم زمن نوح عليه السلام.
فكان أول من سقط عليه إلياس، أو فى زمانه، فوضعه فى زاوية البيت للناس.
ومن الناس من يقول: إنما هلك الركن بعد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. وهو الأشبه، إن شاء الله.
ولم تبرح العرب تعظم إلياس بن مضر تعظيم أهل الحكمة، كلقمان وأشباهه.
فولد إلياس بن مضر ثلاثة نفر: مدركة، وطابخة، وقمعة.
وأمهم خندف بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، واسمها ليلى، واسم مدركة عامر، واسم طابخة عمرو، واسم قمعة عمير.
وإنما حالت أسماؤهم إلى الذى ذكرنا أولا عنهم، فيما ذكروا، أن أرنبا أنفرت إبل إلياس بن مضر، فصاح ببنيه هؤلاء أن يطلبوا الإبل والأرنب.
فأما عمير فاطلع من المظلة ثم قمع. فسمى قمعة.
وخرج عامر وعمرو فى آثار الإبل، وخرجت أمهم ليلى تسعى خلفهم.
فقال لها زوجها إلياس: أين تخندفين؟ أى أين تسعين. فسميت خندف «1» .
ومر عامر وعمرو بظبى، فرماه عمرو فقتله، ويقال: بل رمى الأرنب التى أنفرت الإبل، فقال له عامر: اطبخ صيدك، وأنا أكفيك الإبل. فطبخ عمرو، فسمى طابخة.
وأدرك الإبل عامر، فسمى مدركة.
__________
(1) قال ابن حجر فى فتح البارى (6/ 633) : خندف هى بكسر المعجمة وسكون النون وفتح الدال بعدها فاء، وهو اسم امرأة إلياس بن مضر، واسمها: ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، لقبت بخندف لمشيتها والخندف: الهرولة.(1/15)
واشتهر بنو خندف هؤلاء بأمهم خندف للذى سار من فعلها فى الناس.
وذلك أنه لما مرض زوجها إلياس وجدت لذلك وجدا شديدا، ونذرت إن هلك، ألا تقيم فى بلد مات فيه، ولا يظلها بيت بعده، وأن تسيح فى الأرض. وحرمت الرجال والطيب.
فلما هلك إلياس خرجت سائحة فى الأرض حتى هلكت حزنا.
وكانت وفاته يوم الخميس، فكانت كلما طلعت الشمس من ذلك اليوم تبكيه حتى تغيب، فصارت خندف وما صنعت عجبا فى الناس، يتحدثون به ويذكرونه فى أشعارهم.
فقيل لرجل من إياد، أو همدان، وقد هلكت امرأته: ألا تبكى عليها؟
فقال: لو كان ذلك يردها لفعلت كما فعلت خندف على إلياس. ثم اندفع يقول:
لو أنه يغنى بكيت كخندف ... على إلياس حتى ملها الشر تندب
إذا مونس لاحت خراطيم شمسه ... بكت غدوة حتى ترى الشمس تغرب
ولم تر عيناها سوى الدفن قبره ... فساحت وما تدرى إلى أين تذهب
فلم يغن شيئا طول ما بلغت به ... وما طلها دهر وعيش معذب
وفقدت امرأة من غسان أخاها ثم أباها، فمكثت دهرا تبكى عليهما، فنهاها قومها، فقالت:
تلحون سلمى أن بكت أباها ... وقبل ما قد ثكلت أخاها
فحولوا العذل إلى سواها ... عصتكم سلمى إلى هواها
كما عصت خندف من نهاها ... خلت بنيها أسفا وراها
تبكى على آلياس فما أتاها
فولد مدركة بن إلياس نفرا، منهم خزيمة بن مدركة، وهذيل بن مدركة.
وأمهما امرأة من قضاعة، قيل: هى سلمى بنت سويد بن أسلم بن الحاف بن قضاعة. وقيل غير ذلك.(1/16)
فولد خزيمة بن مدركة كنانة وأسدا وأسدة والهون.
وأم كنانة منهم، عوانة بنت سعد بن قيس بن عيلان بن مضر. وقيل: هند بنت عمرو بن قيس بن عيلان. قرأته بخط أحمد بن يحيى بن جابر.
فولد كنانة بن خزيمة جماعة منهم: النضر، وبه كان يكنى، ونضير، ومالك، وملكان، وعمرو، وعامر، وأمهم برة بنت مر، خلف عليها كنانة بعد أبيه خزيمة، على ما كانت الجاهلية تفعله، إذا مات الرجل خلف على زوجته بعده أكبر بنيه من غيرها.
فنهى الله عن ذلك بقوله: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [النساء: 22] «1» .
ويقال: إن برة هذه، لما أهديت أولا إلى خزيمة بن مدركة، قالت له: إنى رأيت فى المنام كأنى ولدت غلامين من خلاف بينهما سابياء، فبينا أنا أتأملهما إذا أحدهما أسد يزأر وإذا الآخر قمر ينير.
فأتى خزيمة كاهنة بتهامة، فقص عليها الرؤيا، فقالت: لئن صدقت رؤياها لتلدن منك غلاما يكون لولده قلوب باسلة، ثم لتموتن عنها فيختلف عليها ابن لك، فتلد منه غلاما يكون لولده عدل وعدد وقروم مجد وعز إلى آخر الأبد.
ثم توفى خزيمة، فخلف عليها كنانة بعد أبيه، فولدت له النضر وإخوته، وإنما سمى النضر، لنضارة وجهه وجماله.
وأتى أبوه كنانة بن خزيمة وهو نائم فى الحجر، فقيل له: تخير يا أبا النضر بين الصهيل والهدر وعمارة الجدر وعز الدهر.
فقال: كل يا رب.
فصار هذا كله فى قريش.
والنضر هو جماع قريش فى قول طائفة من أهل العلم بالنسب، والأكثر على أن فهر بن مالك بن النضر هو قريش.
فمن كان من ولده فهو قرشى، ومن لم يكن من ولده فليس بقرشى.
وذكر الزبير أن هذا هو رأى كل من أدرك من نساب قريش.
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 93) .(1/17)
فولد النضر بن كنانة مالكا، ويخلد، والصلت «1» .
فولد مالك فهر بن مالك. وأمه جندلة بنت الحارث بن جندل بن عامر بن سعيد بن الحارث بن مضاض الجرهمى. وهو جماع قريش عند الأكثر.
قال الزبير: قد اجتمع النساب من قريش وغيرهم أن قريشا إنما تفرقت عن فهر.
ويقال: إن قريشا هو اسمه الذى سمته به أمه، ولقبته فهرا.
فولد فهر بن مالك غالبا ومحاربا والحارث وأسدا، وأختهم جندلة. وأم جميعهم ليلى بنت سعد بن هذيل بن مدركة «2» .
ولما حضرت الوفاة فهر بن مالك، قال لابنه غالب: يا بنى، إن فى الحزن إقلاق النفوس قبل المصائب، فإذا وقعت المصيبة برد حرها، وإنما القلق فى غليانها، فإذا أنا مت فبرد حر مصيبتك بما ترى من وقع المنية أمامك وخلفك، وعن يمينك وعن شمالك، وبما ترى من آثارها فى محيى الحياة، ثم اقتصر على قليلك، وإن قلت منفعته، فقليل ما فى يدك أغنى لك من كثير ما أخلق وجهك وإن صار إليك.
فولد غالب بن فهر لؤيا وتيما، وهو الأدرم، كان منقوص الذقن.
ويقال لقومه: بنو الأدرم.
وأمهما فى قول ابن إسحاق «3» : سلمى بنت عمرو الخزاعى.
وفى قول الزبير: عاتكة بنت يخلد بن النضر.
وروى أن لؤى بن غالب قال لأبيه، وهو غلام حديث: يا أبت، من رب معروفة قل إخلاقه، ونضر ماؤه. ومن أخلقه أخمله، وإذا أخلق الشىء لم يذكر، وعلى المولى تكبير صغيره ونشره، وعلى المولى تصغير كبيره وستره.
فقال له أبوه غالب: إنى لأستدل بما أسمع من قولك على فضلك، وأستدعى لك به الطول على قومك، فإن ظفرت بطول فعد على قومك بفضلك، وكف غرب جهلهم بحلمك، ولم شعثهم برفقك، فإنما تفضل الرجال الرجال بأفعالها، ومن قايسها على أوزانها أسقط الفضل ولم تعل به درجة على أحد، وللعليا فضل أبدا على السفلى.
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 94- 95) .
(2) انظر: السيرة (1/ 95) .
(3) انظر: السيرة (1/ 95) .(1/18)
فولد لؤى بن غالب كعبا وعامرا، وسامة، وعوفا وسعدا، وخزيمة «1» .
فدخل بنو خزيمة فى شيبان، ويسمون فيهم بعائذة، وهى امرأة من اليمن، كانت أم بنى عبيد بن خزيمة فنسبوا إليها.
وكذلك دخل بنو سعد، فى شيبان، ويسمون فيهم ببنانة حاضنة كانت لهم من قضاعة، وقيل من النمر بن قاسط، فنسبوا إليها.
وأما سامة بن لؤى، فخرج إلى عمان، ويزعمون أن عامر بن لؤى أخرجه.
وذلك أنه كان بينهما شىء، ففقأ سامة عين عامر، فأخافه عامر، فخرج إلى عمان.
فيزعمون أن سامة بن لؤى بينا هو يسير على ناقته، إذ وضعت رأسها ترتع، فأخذت حية بمشفرها، فهصرتها «2» حتى وقعت الناقعة لشقها، ثم نهشت ساقه فقتلته. فقال سامة حين أحس بالموت، فيما يزعمون:
عين فابكى لسامة بن لؤى ... علقت ما بسامة العلاقة
لا أرى مثل سامة بن لؤى ... يوم حلوا به قتيلا لناقة
بلغا عامرا وكعبا رسولا ... أن نفسى إليهما مشتاقة
إن تكن فى عمان دارى فإنى ... غالبى خرجت من غير فاقة
رب كأس هرقت يا بن لؤى ... حذر الموت لم تكن مهراقة
رمت دفع الحتوف يا بن لؤى ... ما لمن رام ذاك بالحتف طاقة
وخروس السرى تركت رديا ... بعد جد وحدة ورشاقة «3»
قال ابن هشام: وبلغنى أن بعض ولده أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتسب إلى سامة بن لؤى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألشاعر؟» فقال له بعض أصحابه: كأنك يا رسول الله أردت قوله:
رب كأس هرقت يابن لؤى ... حذر الموت لم تكن مهراقة
قال: «أجل» «4» .
__________
(1) انظر: السيرة (96) .
(2) الهصر: هو الكسر، هصر الشىء يهصره هصرا: جبذه وأماله وأهتصره، وقال أبو عبيدة: هصرت الشىء ووقصته إذا كسرته. انظر: اللسان (مادة هصر) .
(3) خروس السرى: يعنى ناقة صموتا صبورا. السرى: هو سير الليل، وقيل: سير الليل كله.
(4) ذكره الأصفهانى فى كتاب الأغانى (9/ 104) ، وليس له إسناد يعرف.(1/19)
قال ابن إسحاق «1» : وأما عوف بن لؤى، فإنه خرج فيما يزعمون فى ركب من قريش، حتى إذا كان بأرض غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان أبطئ به، فانطلق من كان معه من قومه، فأتاه ثعلبة بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان، فحبسه والتاطه وآخاه وزوجه، فانتسب بتلك المؤاخاة إلى سعد بن ذبيان أبى ثعلبة.
وثعلبة، يزعمون، هو القائل له:
احبس على ابن لؤى جملك ... تركتك القوم ولا مترك لك
ويروى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، قال: لو كانت مدعيا حيا من العرب أو ملحقهم بنا لا دعيت بنى مرة بن عوف، إنا لنعرف منهم الأشباه مع ما نعرف من موقع ذلك الرجل حيث وقع؛ يعنى عوف بن لؤى.
وهم فى نسب غطفان مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان، وهم يقولون إذا ذكر لهم النسب: ما ننكره ولا نجحده، وإنه لأحب النسب إلينا.
وقيل: إن عمر بن الخطاب قال لرجال من بنى مرة: إن شئتم أن ترجعوا إلى نسبكم فارجعوا إليه. وكان القوم أشرافا فى غطفان هم سادتهم وقادتهم، منهم هرم بن سنان ابن أبى حارثة، وأخوه خارجة بن سنان، والحارث بن عوف، والحصين بن الحمام، وهشام بن حرملة، قوم لهم صيت وذكر فى غطفان وقيس كلها، فأقاموا على نسبهم.
على أن الحصين بن الحمام قد تحير فى هذا واختلف رأيه، فلما سمع قول الحارث ابن ظالم، أحد بنى مرة بن عوف، حين هرب من النعمان بن المنذر ولحق بقريش:
وما قومى بثعلبة بن سعد ... ولا بفزارة الشعر الرقابا «2»
فقومى إن سألت بنو لؤى ... بمكة علموا مضر الضرابا
سفهنا باتباع بنى بغيض ... وترك الأقربين لنا انتسابا
سفاهة مخلف لما تروى ... هراق الماء واتبع السرابا «3»
فلو طوعت عمرك كنت فيهم ... وما ألفيت انتجع السحابا «4»
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 98- 99) .
(2) الشعر: جمع أشعر، وهو الكثير الشعر.
(3) المخلف: الذى يسقى الماء. هراق: أى صبه.
(4) انتجع: أى ذهب فى طلب الكلاء فى موضعه. وذكره ابن إسحاق فى السيرة وزاد فى آخره بيت هو:
وخش رواحة القرشى رحلى ... بناحية ولم يطلب ثوابا
انظر: السيرة (1/ 98- 99) .(1/20)
قال الحصين بن الحمام يرد عليه وينتمى إلى غطفان:
ألا لستم منا ولسنا إليكم ... برئنا إليكم من لؤى بن غالب
أقمنا على عز الحجاز وأنتم ... بمعتلج البطحاء بين الأخاشب
يعنى قريشا.
ثم ندم الحصين على ما قال، وعرف صدق الحارث، فأكذب نفسه وقال:
ندمت على قول مضى كنت قلته ... تبينت فيه أنه جد كاذب
فليت لسانى كان نصفين منهما ... بكيم ونصف عند مجرى الكواكب
أبونا كنانى بمكة قبره ... بمعتلج البطحاء بين الأخاشب
لنا الربع من بيت الحرام وراثة ... وربع البطاح عند دار ابن حاطب
يعنى أن بنى لؤى كانوا أربعة، كعبا، وعامرا، وسامة، وعوفا.
وفى بنى مرة بن عوف كان البسل، وذلك ثمانية أشهر حرم لهم من كل سنة من بين العرب، يسيرون به إلى أى بلاد العرب شاؤا، ولا يخافون منهم شيئا، قد عرفوا ذلك لهم لا يدفعونه ولا ينكرونه.
وكان سائر العرب إنما يأمنون فى الأشهر الحرم الأربعة فقط.
وذكر الزبير عن أبى عبيدة، أنه كانت لقريش فى هذا مزية على سائر العرب قاطبة، وذلك أن العربى لم يكن ليخرج من داره فى غير الأشهر الحرم إلا فى جماعة، وكان القرشى يخرج حيث شاء وأنى شاء، فيقال: رجل من أهل الله فلا يعرض له عارض، ولا يريبه أحد بمكروه، ويعظمه من لقيه أو ورد عليه، ولذلك قال من قال منهم:
القرشى بكل بلد حرام.
وأما كعب بن لؤى، وعامر بن لؤى، فهما أهل الحرم وصريح ولد لؤى.
وكان كعب منهما عظيم القدر فى العرب، وأرخوا بموته إعظاما له، إلى أن كان عام الفيل فأرخوا به «1» .
وكان بين موته والفيل، فيما ذكروا، خمسمائة سنة وعشرون سنة. وكان يوم الجمعة يسمى العروبة، فسماه كعب الجمعة لاجتماع قومه فيه يخطبهم ويذكرهم.
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 102) .(1/21)
فيقول فيما يقول: أيها الناس، اسمعوا وعوا، وافهموا وتعلموا، ليل ساج ونهار ضاح، والسماء بناء، والأرض مهاد، والنجوم أعلام، لم تخلق عبثا فتضربوا عن أمرها صفحا، الآخرون كالأولين، والدار أمامكم، واليقين غير ظنكم، صلوا أرحامكم، واحفظوا أصهاركم، وأوفوا بعهدكم، وثمروا أموالكم، فإنها قوام مروآتكم، ولا تصونوها عما يجب عليكم، وعظموا هذا الحرم وتمسكوا به فسيكون له نبأ عظيم، وسيخرج به نبى كريم. ثم ينشد أبياتا منها:
صروف وأنباء تقلب أهلها ... لها عقدة ما يستحيل مريرها
على غفلة يأتى النبى محمد ... فيخبر أخبارا صدوقا خبيرها
ثم يقول:
يا ليتنى شاهد فحواء دعوته ... حين العشيرة تبغى الحق خذلانا
أما والله لو كنت ذا سمع وبصر ويد ورجل لتنصبت فيها تنصب الفحل، ولأرقلت فيها إرقال الجمل، فرحا بدعوته جذلا بصرخته.
فولد كعب بن لؤى بن مرة، وهصيصا، وعديا «1» .
وأمهم وحشية بنت شيبان بن محارب بن فهر بن مالك.
وقيل: إن أم عدى وحده امرأة من فهر، وهى حبيبة بنت بجالة بن سعد بن فهم بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار.
فولد مرة بن كعب كلابا، وتيما، ويقظة «2» .
فولد كلاب رجلين: قصيا وزهرة. وأمهما فاطمة بنت سعد بن سيل، أحد الجدرة من خثعمة الأسد من اليمن، حلفاء فى بنى الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، ويقال خثعمة الأسد «3» .
واسم سيل: خير، وإنما سمى سيلا لطوله. وسيل اسم جبل، وهو خير بن حمالة بن عوف بن غنم بن عامر الجادر، بن عمرو بن خثعمة بن يشكر بن مبشر بن صعب بن دهمان بن نصر بن الأزد.
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 102) .
(2) انظر: السيرة (1/ 102) .
(3) انظر: السيرة (1/ 103) .(1/22)
وسمى عامر الجادر لأنه بنى جدارا للكعبة، كان وهى من سيل أتى أيام ولاية جرهم البيت.
وكان عامر تزوج منهم بنت الحارث بن مضاض، وقيل لولده الجدرة لذلك.
وذكر الشرفى بن القطامى، أن الحاج كانوا يتمسحون بالكعبة ويأخذون من طينها وحجارتها تبركا بذلك، وأن عامرا هذا كان موكلا بإصلاح ما شعث من جدرها، فسمى الجادر. والله أعلم.
وسعد بن سيل جد قصى بن كلاب، وهو أول من حلى السيوف بالفضة والذهب، وأهدى إلى كلاب بن مرة مع ابنته فاطمة سيفين محليين، فجعلا فى خزانة الكعبة.
وقصى هو الذى جمع الله به قريشا، وكان اسمه زيدا، فسمى مجمعا لما جمع من أمرها. وسمى قصيا لتقصيه عن بلاد قومه مع أمه فاطمة بعد وفاة أبيه كلاب بن مرة.
وحديثه فى ذلك طويل، وسنذكره إن شاء الله عند ذكر ولايته البيت، وهناك نذكر مآثره وعظيم غنائه فى إقامة أمر قومه، إن شاء الله، فإن القصد هنا الإيجاز ما أمكن فى إيراد هذا النسب المبارك، لتحصل لسامعه الفائدة بانتظامه واتصاله، ولا يضل ذلك عليه بما تخلل أثناءه من القواطع التى تباعد بين أطرافه.
فولد قصى بن كلاب أربعة نفر وامرأتين «1» :
عبد مناف، وعبد الدار، وعبد العزى، وعبدا، وتخمر، وبرة.
وأمهم جميعا حبى بنت حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعى.
وساد عبد مناف فى حياة أبيه، وكان مطاعا فى قريش، وهو الذى يدعى القمر لجماله، واسمه المغيرة.
ذكر الزبير عن موسى بن عقبة، أنه وجد كتابا فى حجر، فيه: أنا المغيرة بن قصى، آمر بتقوى الله وصلة الرحم.
وإياه عنى القائل بقوله:
كانت قريش بيضة فتفلقت ... فالمح خالصه لعبد مناف
فولد عبد مناف أربعة نفر: هاشما، وعبد شمس، والمطلب، ونوفلا «2» .
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 103- 104) .
(2) انظر: السيرة (1/ 104) .(1/23)
وكلهم لعاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة بن بهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر.
إلا نوفلا فليس منهم، فإنه لوافدة بنت عمرو المازنية. مازن بن منصور بن عكرمة.
فولد هاشم بن عبد مناف أربعة نفر وخمس نسوة «1» .
عبد المطلب، وأسدا، وأبا صيفى، ونضلة، والشفاء، وخالدة، وضعيفة، ورقية، وحية، وأم عبد المطلب أمهم سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدى بن النجار.
فولد عبد المطلب عشرة نفر وست نسوة «2» .
العباس، وحمزة، وعبد الله، وأبا طالب، واسمه عبد مناف، والزبير، والحارث، وهو أكبرهم، والحجل، والمقوم، وضرارا، وعبد العزى أبا لهب، وصفية، وأم حكيم البيضاء، وعاتكة، وأميمة، وأروى، وبرة.
فأم عبد الله وأبى طالب وجميع النساء غير صفية، فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤى.
فولد عبد الله بن عبد المطلب، محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وسيد الأولين والآخرين، ونخبة الخلق أجمعين، فنسبه صلى الله عليه وسلم أشرف الأنساب، وسببه إلى الله سبحانه باصطفائه إياه واختياره له أفضل الأسباب، وبيته فى قريش أوسط بيوتها الحرمية، وأعرق معادنها الكرمية، لم تخل قط مكة من سيد منهم أو سادات، يكونون خير جيلهم ورؤساء قبيلهم، حتى إذا درجوا سما قسماؤهم فى المجد الصميم، وشركاؤهم فى النسب الكريم إلى ذلك المقام، فعرجوا فصحبوا على ذلك الزمان.
لواؤهم على من ناوأهم منصور، وسؤدد البطحاء عليهم مقصور، والعيون إليهم أية سلكوا صور.
ثم أتى الوادى فطم على القرى، وشد الله أركان مجدهم العريق العتيق بهذا النبى الأمى، فاحتازوا المجد عن آخره. وفازوا من شرف الدين والدنيا بما تعجز ألسنة البلغاء عن أدنى مفاخره.
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 104) .
(2) انظر: السيرة (1/ 105) .(1/24)
وأمه صلى الله عليه وسلم هى آمنة بنت وهب، بن عبد مناف، بن زهرة، بن كلاب «1» ، قسمية أبيه من هذا الأب، وكريمة قومها أولى المكان النبيه والحسب.
وحسبها من الشرف المتين والكرم المبين والفخر الممكن غاية التمكين، أن كانت أما لخاتم النبيين، صلى الله عليه وسلم وعلى آله أجمعين.
فكيف ولها من نصاعة الحسب المحسب، وعتاقة المنسب والمنصب، ما يقف عند البطاح، وتعترف له قريش البطاح.
فرسول الله صلوات الله وبركاته عليه، خيرة الخير من كلا طرفيه، وقد اعتنى الناس بنسبه الكريم نثرا ونظما، ونقبوا عن آبائه الأمجاد، وأمهاته الطاهرات الميلاد أبا فأبا وأما فأما.
فرادوا من ذلك الفخار حدائق غلبا، وسادوا من شرف تلك الآثار مراقى شمّا.
وقد تقدمت من ذلك نبذ منثورة أثناء الكلام، وستأتى إن شاء الله منظومة مع أشكالها، تفوق العقد فى النظام، فى قصيدة فريدة مفيدة، لأبى عبد الله بن أبى الخصال، خاتمة رؤساء الآداب، والعلماء المبرزين فى هذا الباب، سماها «معراج المناقب، ومنهاج الحسب الثاقب، فى ذكر نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعجزاته ومناقب أصحابه» ، قرأتها على شيخنا الخطيب أبى القاسم بن حبيش، عنه فقد رأيت أن أورد منها هنا ما يختص بهذا النسب الكريم على اختصار، يفى إن شاء الله بالغرض المروم، إذ الكلام المنظوم أعذب جريا على الألسان وأهذب رأيا فى الإفادة بالمستحسن.
وأولها:
إليك فهمى والفؤاد بيثرب ... وإن عاقنى عن مطلع الوحى مغربى
أعلل بالآمال نفسا أغرها ... بتقديم غاياتى وتأخير مذهبى
ودينى على الأيام زورة أحمد ... فهل ينقضى دينى ويقرب مطلبى
وهل أردن فضل الرسول بطيبة ... فيا برد أحشائى ويا طيب مشربى
وهل فضلت من مركب العمر فضلة ... تبلغنى أم لا بلاغ لمركب
ألا ليت زادى شربة من مياهها ... وهل مثلها ريا لغلة مذنب
__________
(1) انظر نسبها فى: السيرة (1/ 105) ، وذكرها هناك من جهة الأب، ومن جهة الأم وقال بعد نسبها من جهة الأب: وأمها برة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصى بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر.(1/25)
ويا ليتنى فيها إلى الله صائر ... وقلبى عن الإيمان غير مقلب
وإن امرؤ وارى البقيع عظامه ... لفى زمرة تلقى بسهل ومرحب
وفى ذمة من خير من وطئ الثرى ... ومن يعتلقه حبله لا يعذب
وما لى لا أشرى الجنان بعزمة ... يهون عليها كل طام ويسبسب
وماذا الذى يثنى عنانى وإننى ... لجواب آفاق كثير التقلب
أفقر ففى كفى لله نعمة ... وبين فقد فارقت قبل بنى أبى
وقد مرنت نفسى على البعد وانطوت ... على مثل حد السمهرى المدرب
وكم غربة فى غير حق قطعتها ... فهلا لذات الله كان تغربى
وكم فاز دونى بالذى رمت فائز ... وأخطأنى ما ناله من تغرب
أراه وأهوى فعلة البر قاعدا ... فيا قعدى البر قم وتلبب
أمانى قد أفنى الشباب انتظارها ... وكيف بما أعيى الشباب لأشيب
وقد كانت أسرى فى الظلام بأدهم ... فهأنا أغدو فى الصباح بأشهب
فمن لى وأنى لى بريح تحطنى ... إلى ذروة البيت الرفيع المطنب
إلى الهاشمى الأبطحى محمد ... إلى خاتم الرسل المكين المقرب
إلى صفوة الله الأمين لوحيه ... أبى القاسم الهادى إلى خير مشعب
إلى ابن الذبيحين الذى صيغ مجده ... ولما تصغ شمس ولا بدر غيهب
إلى المنتقى من عهد آدم فى الذرى ... يردد فى سر الصريح المهذب
إلى من تولى الله تطهير بيته ... وعصمته من كل عيص مؤشب
فجاء برىء العرض من كل وصمة ... فما شئت من أم حصان ومن أب
كروض الربا كالشمس فى رونق الضحى ... كناشئ ماء المزن قبل التصوب
عليه من الرحمن عين كلاءة ... تجنبه إلمام كل مجنب
إذا أعرضت أعراقه عن قبيلة ... فما أعرضت إلا لأمر مغيب
وما عبرت إلا على مسلك الهدى ... ولا عثرت إلا على كل طيب
فمن مثل عبد الله خير لداته ... وآمنة فى خير ضنء ومنصب
إذا اتصلت جاءتك أفلاذ زهرة ... كأسد الشرى من كل أشوس أغلب
ولا خال إلا دون سعد بن مالك ... ولو كان فى عليا معد ويعرب
ومن ذا له جد كشيبة ذى الندى ... وساقى الحجيج بين شرق ومغرب
له سؤدد البطحاء غير مدافع ... وحومة ما بين الصفا والمحصب
أبو الحارث السامى إلى كل ذروة ... يقصر عن إدراكها كل كوكب(1/26)
به وبما فى برده من أمانة ... حمى الله ذاك البيت من كل مرهب
وأهلك بالطير الأبابيل جمعهم ... فيا لهم من عارض غير خلب
وفيما رآه شيبة الحمد آية ... تلوح لعين الناظر المتعجب
وفى ضربه عنه القداح مروعا ... ومن يرم بين العين والأنف يرهب
وما زال يرمى والسهام تصيبه ... إلى أن وقبه الكوم من نسل أرحب
وكانوا أناسا كلما أمهم أذى ... تكشف عن صنع من الله معجب
وعاش بنو الحاجات فيهم وأخصبوا ... وإن أصبحوا فى منزل غير مخصب
وعمرو المعالى هاشم وثريده ... بمكة يدعو كل أغبر مجدب
بمثنى جفان كالجواب منيخة ... ملئن عبيطات السنام المرعب
هو السيد المتبوع والقمر الذى ... على صفحته فى الرضا ماء مذهب
بنى الله للإسلام عزا بصهره ... إلى منتهى الأحياء من آل يثرب
وعبد مناف دوحة الشرف الذى ... تفرع منها كل أروع محرب
مطاع قريش والكفيل بعزها ... ومانعها من كل ضيم ومنهب
وزيد ومن زيد قصى مجمع ... سمعت وبلغنا وحسبك فاذهب
به اجتمعت أحياء فهر وأحرزت ... تراث أبيها دون كل مذبذب
وأصبح حكم الله فى آل بيته ... فهم حوله من سادنين وحجب
وما أسلمته عن تراخ خزاعة ... ولكن كما عض الهناء بأجرب
ولاذت قريش من كلاب بن مرة ... بجذل حكاك أو بعذق مرحب
ومرة ذو نفس لدى الحرب مرة ... وفى السلم نفس الصرخدى المذوب
وكعب عقيد الجود والحكم والنهى ... وذو الحكم الغر المبشر بالنبى
خطيب لؤى واللواء بكفه ... لخطبة ناد أو لخطة مقنب
وأول من سمى العروبة جمعة ... وصدر أما بعد يلحى ويطبى
وأرخ آل الله دهرا بموته ... سنين سدى يتعبن كف المحسب
وأضحى لؤى غالبا كل ماجد ... ومن غالب يمينه للمجد يغلب
وفهر أبو الأحياء جامع شملها ... وكاسبها من فخره خير مكسب
تقرش فامتازت قريش بفضله ... وسد فسدوا خلة المتأوب
وغادره اسما فى الكتاب منزلا ... يمر به فى آية كل معرب
ومالك المربى على كل مالك ... فتى النضر حابته السيادة بل حبى
هو الليث فى الهيجاء والغيث فى الندى ... وبدر الدياجى حين يسرى ويحتبى(1/27)
تردى بفضفاض على المجد نسجه ... وليس عليه، فليجر ويسحب
وللنضر يا للنضر من كل مشهد ... هو الشمس صعد فى سناها وصوب
وأعرض بحر من كنانة زاخر ... يساق إلى أمواجه كل مذنب
وخير حكما فى الصهيل أو الوغا فلم ... أو البيت أو عز على الدهر مصحب
يقتصر واختار كلا فحازه ... إلى غاية العزم المديد المعقب
له البيت محجوبا وعز مخلد ... وأجرد يعبوب إلى جانب أصهب
وخزم آناف العتاة خزيمة ... فلاذوا بأخلاق الذلول المغرب
عظيم لسلمى بنت سود بن أسلم ... لكل قضاعى كريم مصعب
ومدركة ذو اليمن والنجح عامر ... وخير مسمى فى العلا وملقب
تراءى مطلا إذ تقمع صنوه ... ففاز بقدح ظافر لم يخيب
لأم الجبل الشم والقطر والحصى ... لخندف إن تستركب الأرض تركب
وإلياس مأوى الناس فى كل أزمة ... ومهربهم فى كل خوف ومرهب
وزاجرهم إذ بدلوا الدين ضيلة ... وأضحوا بلا هاد ولا متحوب
وجاءهم بالركن بعد هلاكه ... وقد كان فى صدع من الرض أنكب
وما هو إلا معجز لنبوة ... وبشرى وعقبى للبشير المعقب
وحج وأهدى البدن أول مشعر ... لها وفروض الحج لم تترتب
وكم حكمة لم تسمع الأذن مثلها ... له إن تلح فى ناظر العين تكتب
إلى قنص تنميه سوداء نبته ... كلا طرفيه من معد لمنسب
وفى مضر تاه الكلام وأقبلت ... مآثر سدت كل وجه ومذهب
وحينا وكاثرنا النجوم بجمعها ... بأكثر منها فى العديد وأثقب
هنالك آتى الله من شاء فضله ... وقيل لهذا سر وللآخر اركب
وكانا شقيقى نبعة فتفاوتا ... لعلم وحكم ماله من معقب
وما منهما إلا حنيف ومسلم ... على نهج إسماعيل غير منكب
وقد سلم الأفعى بنجران حكمه ... إليهم ولم ينظر إلى متعقب
رأى فطنا أبدت له عن نجاره ... وكان لنبع فاستحال لأثأب
وتلك علامات النبوة كلها ... تشير إلى منظورها المترقب
وقال رسول الله مهما اختلفتم ... ولم تعرفوا قصد السبيل الملحب
ففى مضر جرثومة الحق فاعمدوا ... إلى مضر تلفوه لم يتنقب
وما سيد إلا نزار يفوته ... ومن فاته بدر الدجى لم يؤنب(1/28)
قريع معد والذى سد نفده ... متى يأتهم شعب من الدهر يرأب
أبو أبحر الدنيا وأطوادها التى ... بها ثبتت طرّا فلم تنقلب
ولم يكفه حتى أعانت معانة ... بكل عتيق جرهمى مهذب
وجاء والسماء شموسها ... وأقمارها فى ذيله المتسحب
وبين يديه الأنجم الزهر بثها ... على الأرض حتى لا مساغ لأجنبى
وقدما تحفى الله من يختنصر ... به والورى من هالك ومعذب
وجنبه أرض البوار وحازه ... إلى معقل من حرزه متأشب
وحل بأرمينية تحت حفظه ... لدى ملك عن جانبيه مذبب
فلما تجلى الروع أسرى بعبده ... إلى حرم أمن لأبنائه اجتبى
وقد كان رد الله عنهم كليمه ... ليالى يدعو دعوة المتغضب
وجاء بنو يعقوب يشكون منهم ... ينادونه هذا قتيل وذا سبى
فقال له لا تدع موسى عليهم ... فمنهم نبى أصطفيه وأجتبى
أحبهم فيه رضا وأحبه ... كذلك من أحببه يكرم ويحبب
وأغفر إن يستغفرونى ذنوبهم ... ومهما دعا داع أجبهخ وأقرب
فقال إذن فاجعلهم رب أمتى ... فمن ترضاه يا رب يرض ويرغب
فقال هم فى آخر الدهر صفوتى ... يقضون أعدائى ويستنصرون بى
دعائم إيمان وأركان سؤدد ... مضت بعلاها مهدد بنت جلحب
ومصعد عدنان إلى جذم آدم ... بأبين من قصد الصباح وألحب
ونهى رسول الله صد وجوهها ... وكان لنا فى نظمها شد ملهب
وإلا فأد بن الهميسع ماثل ... ونبت بن قيدار سلالة أشجب
وواجه أعراق الثرى كل من ترى ... وأسمع إسماعيل دعوة مكثب
وقام خليل الله يتلوه آزر ... أغر صباحى لأدهم غيهب
إلى الناحر ابن الشارع الغمر يرتقى ... وللداع ثم القاسم الشامخ الأب
ويعبر ينميه إلى المجد شالخ ... إلى الرافد الوهاب برك وطيب
لسام أبى السامين طرا سما بهم ... لنوح للمكان العلى لمثوب
لإدريس ثم الرائد بن مهلهل ... لقينن ثم الطاهر المتطيب
إلى هبة الرحمن شيث بن آدم ... أبى البشر الأعلى لطين لأثلب
فمنه خلقنا ثم فيه معادنا ... ومنه إلى عدن فسدد وقارب
وهنا انتهى ما يخص المنتمى العلى من هذه الكلمة، التى فرى ناظمها فى الإحسان(1/29)
الفرى المحمود، فاقتصرت منها على ما وفى بالغرض المقصود، واستوفى رجال النسب المجيد والحسب التليد، تعجيلا لقرى المستفيد، واكتفاء من القلادة بالقدر المحيط بالجيد، وإنها إن شاء الله لكافية فى الباب، ومقدمة فى الكلام اللباب، وتحفة إنما يعرف قدرها أولو الألباب.
والله يجزى قائلها الحسنى، وينفعه بمقصده الأسنى.
وإذ قد انتهينا إلى ما حسن لدينا إيراده فى هذا المعنى وصفا وذكرا، وخدمنا النسب الأشرف نظما ونثرا، فلنعرج على ذكر البقعة التى اختارها الله لرسوله الكريم منشأ، وجعلها لقومه قرارا ومتبوأ، وأولية البيت العتيق الذى جعله الله مثابة وأمنا للناس، ورفعه على أفضل القواعد وأكرم الأساس، ثم دحا الأرض من تحته رفعا للشبهة فى شرفه والالتباس.
ثم نذكر من وليه من آبائه الكرام، إذا هم أهله الأعلون وأولياؤه الأحقاء به الأولون، وهو مأثرتهم التى لم يزالوا إياها يرعون، ومن جرائها يراعون، وتراث المجد الذى إليهم يعزى وإليه يعزون، وبسيما شرفه يعرفون وباسمه يدعون.
ونشير إلى حرمته العظيمة فى الحرمات، وما أنزل الله تعالى بمن بغاه بسوء أو أتى فيه بأمر مذموم مشنوء من أليم العقوبات وعظيم النقمات.
لنخدم البلد كما خدمنا المحتد، ونقضى حق المكان الشريف كما قضينا حق الحسب التليد والطريف.
حق نخلص إلى ذكر المولد المبارك الذى منه نتدرج إلى المقصود، الذى نحن عليه عاملون، ولتمامه آملون، رجاء أن نجد ذلك مذخورا عند المولى الذى يضاعف لعبيده الحسنات ويعفو عن السيئات ويعلم ما يفعلون.
ذكر أولية بيت الله المحرم وركنه المستلم ومن تولى بناءه من ملائكته وأنبيائه صلى الله على جميعهم وسلم
قال الله العظيم: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ [آل عمران: 96] .(1/30)
وفى الصحيح من حديث أبى ذر الغفارى، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أى مسجد وضع فى الأرض أول؟ فقال له: «المسجد الحرام» قال: قلت: ثم أى؟ قال: «ثم المسجد الأقصى» قلت: كم بينهما؟ قال: «أربعون عاما» «1» .
وذكر الزبير بن أبى بكر بإسناده إلى جعفر بن محمد الصادق رضى الله عنه، قال:
كنت مع أبى محمد بن على بمكة فى ليالى العشر قبل التروية بيوم أو يومين، وأبى قائم يصلى فى الحجر، وأنا جالس وراءه، فجاء رجل أبيض الرأس واللحية، جليل العظام بعيد ما بين المنكبين عريض الصدر، عليه ثوبان غليظان فى هيئة محرم، فجلس إلى جنبه، فخفف أبى الصلاة، فسلم ثم أقبل عليه، فقال له الرجل: يا أبا جعفر، أخبرنى عن بدء خلق هذا البيت كيف كان؟.
فقال له أبو جعفر محمد بن على: ممن أنت يرحمك الله؟ قال: رجل من أهل الشام.
فقال له محمد بن على: إن أحاديثنا إذا سقطت إلى الشام جاءتنا صحاحا، وإذا سقطت إلى العراق حجاءتنا وقد زيد فيها ونقص.
ثم قال: بدء خلق هذا البيت أن الله تبارك وتعالى، قال للملائكة: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، فردوا عليه: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها الآية.
وغضب عليهم، فعاذوا بالعرش، وطافوا حوله سبعة أطواف يسترضون ربهم، فرضى عنهم وقال لهم: ابنوا لى فى الأرض بيتا فيعوذ به من سخطت عليه من بنى آدم ويطوفون حوله، كما فعلتم بعرشى، فأرضى عنهم.
فبنوا له هذا البيت. فهذا يا عبد الله بدء خلق هذا البيت.
فقال الرجل: يا أبا جعفر، فما بدء خلق هذا الركن؟.
فقال: إن الله تبارك وتعالى لما خلق الخلق، قال لبنى آدم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى.
وأقروا. وأجرى نهرا أحلى من العسل وألذ من الزبد، ثم أمر القلم فاستمد من ذلك النهر فكتب إقرارهم وما هو كائن إلى يوم القيامة، ثم ألقم ذلك الكتاب هذا الحجر، فهذا الاستلام الذى ترى إنما هو بيعة على إقرارهم بالذى كانوا أقروا به.
__________
(1) أخرجه البخارى (4/ 177، 197) ، مسلم فى صحيحه كتاب المساجد (1، 2) ، البيهقى فى السنن الكبرى (2/ 433) ، السيوطى فى الدر المنثور (2/ 52) ، ابن كثير فى التفسير (2/ 63، 5/ 409) ، القرطبى فى التفسير (4/ 137) ، أبو نعيم فى الحلية (4/ 216) .(1/31)
وقال جعفر بن محمد: كان أبى إذا استلم الركن قال: اللهم أمانتى أديتها، وميثاقى وفيت به، ليشهد لى عندك بالوفاء. قال: وقام الرجل فذهب.
قال جعفر بن محمد: فأمرنى أبى أن أرده عليه، فخرجت فى أثره وأنا أراه، يحول بينى وبينه الزحام، حتى دخل نحو الصفا، فتبصرته على الصفا فلم أره، ثم ذهبت إلى المروة فلم أره عليها، فجئت إلى أبى فأخبرته فقال لى أبى: لم تكن لتجده، وذلك الخضر عليه السلام؟!!
وخرج الترمذى من حديث عبد الله بن عباس وصححه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بنى آدم» «1» .
ومن حديث عبد الله بن عمرو، مرفوعا وموقوفا، قال: «إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة، طمس الله نورهما، ولو لم يطمس نورهما لأضاآ ما بين المشرق والمغرب» «2» .
ومن حديث ابن عباس أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الحجر: «والله ليبعثه الله يوم القيامة، له عينان يبصر بهما ولسان ينطق، يشهد على من استلمه بحق» «3» .
وذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبرى من حديث عبد الصمد بن معقل، أنه سمع وهب بن منبه يقول: إن آدم عليه السلام لما هبط إلى الأرض فرأى سعتها ولم ير فيها أحدا غيره، قال: يا رب أما لأرضك هذه عامر يسبح بحمدك ويقدسك غيرى؟
قال الله تعالى: إنى سأجعل فيها من ولدك من يسبح بحمدى ويقدسنى، وسأجعل فيها بيوتا ترفع لذكرى ويسبح فيها خلقى ويذكر فيها اسمى، وسأجعل من تلك البيوت بيتا أخصه بكرامتى وأوثره باسمى، فأسميه بيتى، وعليه وضعت جلالى، ثم أنا
__________
(1) أخرجه الترمذى حديث رقم (877) ، ابن خزيمة فى صحيحه (2733) ، المتقى الهندى فى الكنز (34737) ، الزبيدى فى إتحاف السادة المتقين (4/ 344) ، التبريزى فى مشكاة المصابيح (2577) .
(2) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (2/ 213) ، الحاكم فى المستدرك (1/ 456) ، المتقى الهندى فى كنز العمال (34741) ، التبريزى فى مشكاة المصابيح (2579) ، السيوطى فى جمع الجوامع (5570) .
(3) أخرجه الترمذى فى سننه حديث (961) ، الزبيدى فى إتحاف السادة المتقين (4/ 276) ، المتقى الهندى فى الكنز (34723) .(1/32)
مع ذلك فى كل شىء ومع كل شىء، أجعل ذلك البيت حرما آمنا، يتحرم بحرمته من حوله ومن تحته ومن فوقه، فمن حرمه بحرمتى استوجب بذلك كرامتى ومن أخاف أهله فقد أخفر ذمتى وأباح حرمتى، أجعله أول بيت وضع للناس ببطن مكة مباركا، يأتونه شعثا غبرا على كل ضامر يأتين من كل فج عميق، يزجون بالتلبية زجيجا ويثجون بالبكاء ثجيجا، ويعجون بالتكبير عجيجا.
فمن اعتمده لا يريد غيره فقد وفد إلى وزارنى وضافنى، وحق على الكريم أن يكرم وفده وأضيافه، وأن يسعف كلا بحاجته.
تعمره يا آدم ما كنت حى، ثم تعمره الأمم والقرون والأنبياء من ولدك، أمة بعد أمة وقرنا بعد قرن «1» .
وفى حديث غير هذا عن عطاء وقتادة، أن آدم عليه السلام، لما أهبطه الله من الجنة وفقد ما كان يسمعه ويأنس إليه من أصوات الملائكة وتسبيحهم، استوحش حتى شكا ذلك إلى الله تعالى فى دعائه وصلاته، فوجهه إلى مكة، وأنزل الله تعالى ياقوتة من ياقوت الجنة فكانت على موضع البيت الآن.
وقال الله: يا آدم، إنى قد أهبطت لك بيتا تطوف به، كما يطاف حول عرشى وتصلى عنده كما يصلى عند عرشى.
فانطلق إليه آدم، فطاف به هو ومن بعده من الأنبياء، إلى أن كان الطوفان، فرفعت تلك الياقوتة، حتى أمر الله إبراهيم عليه السلام ببناء البيت، فبناه، فذلك قوله تعالى:
وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ الآية.
وعن ابن عباس، أن الله أوحى إلى آدم: أن لى حرما بحيال عرشى، فانطلق فابن لى بيتا فيه، ثم حف به كما رأيت ملائكتى يحفون بعرشى، فهنالك أستجيب لك ولولدك، من كان منهم فى طاعتى.
فقال آدم: أى رب، وكيف لى بذلك؟ لست أقوى عليه ولا أهتدى لمكانه.
فقيض الله له ملكا فانطلق به نحو مكة، فكان آدم عليه السلام إذا مر بروضة ومكان يعجبه قال للملك: انزل بنا هاهنا. فيقول له الملك: أمامك.
حتى قدم مكة، فبنى البيت من خمسة أجبل، من طور سيناء، وطور زيتا، ومن لبنان، والجودى، وبنى قواعده من حراء.
__________
(1) أخرجه الطبرى فى التاريخ (1/ 131) .(1/33)
فلما فرغ من بنائه خرج به الملك إلى عرفات، فأراه المناسك كلها، التى يفعلها الناس اليوم، ثم قدم به مكة، فطاف بالبيت أسبوعا ثم رجع إلى أرض الهند فمات بها.
وفى رواية أنه حج من الهند أربعين حجة على رجليه.
وذكر الواقدى عن أبى بكر بن سليمان بن أبى خيثمة العدوى قال: قلت لأبى جهم ابن حذيفة: يا عم، حدثنى عن بناء البيت ونزول إسماعيل عليه السلام الحرم.
قال: يا ابن أخى سلنى عنه على نشاط منى فإنى أعلم من ذلك ما لا يعلمه غيرى.
قال: فمكثت شهرا أذكره المرة بعد المرة، فيقول مثل قوله الأول، وكان قد كبر ورق وضعف، فدخلت عليه يوما وهو مسرور، فقال لى: اسمع حديثك الذى سألتنى عنه.
إن البيت بناؤه حرم فى السماء السابعة وفى الأرض السابعة. يعنى أن ما يقابله حرم.
وإن آدم عليه السلام، أمر بأساسه فبناه هو وحواء، أسساه بصخر أمثال الخلفات، يعنى النوق التى فى بطونها أجنة، واحدتها خلفة. أذن الله عز وجل للصخر أن يطيعهما.
ثم نزل البيت من السماء من ذهب أحمر، وكل به من الملائكة سبعون ألف ملك، فوضعوه على رأس آدم عليه السلام، ونزل الركن، وهو يومئذ درة بيضاء، فوضع موضعه اليوم من البيت، وطاف به آدم وصلى فيه. فلما مات آدم عليه السلام وليه بعده ابنه شيث، فكان كذلك حتى حجه نوح عليه السلام. فلما كان الغرق يعنى الطوفان، بعث الله جل ثناؤه سبعين ألف ملك فرفعوه إلى السماء، كى لا يصيبه الماء النجس، وبقيت قواعده، وجاءت السفينة فدارت به سبعا ثم دثر البيت، فلم يحجه من بين نوح وبين إبراهيم أحد من الأنبياء على جميعهم السلام «1» .
وعن غير الواقدى فى غير حديث أبى الجهم، أن شيث بن آدم عليهما السلام، هو أول من بنى الكعبة، وأنها كانت قبل أن يبنيها خيمة من ياقوتة حمراء يطوف بها آدم ويأنس بها لأنها أنزلت إليه من الجنة، وكان قد حج إلى موضعها من الهند.
وفى الخبر أن موضعها كان غثاء على الماء قبل أن يخلق الله السموات والأرض، فلما
__________
(1) قد أورد الحافظ ابن كثير فى البداية والنهاية الكثير من الأخبار عن بناء البيت. انظرها فى البداية والنهاية (1/ 167- 170) .(1/34)
بدأ الله خلق الأشياء، خلق التربة قبل السماء، فلما خلق السماء وقضاهن سبع سماوات، دحا الأرض، أى بسطها، وإنما دحاها من تحت الكعبة، فلذلك سميت مكة أم القرى.
وذكر ابن هشام أن الماء لم يصل الكعبة حين الطوفان، ولكنه قام حولها، وبقيت هى فى هواء إلى السماء، وأن نوحا قال لأهل السفينة، وهى تطوف بالبيت: إنكم فى حرم الله عز وجل وحول بيته، فأحرموا لله ولا يمس أحد امرأة. وجعل بينهم وبين النساء حاجزا، فتعدى حام، فدعا عليه نوح بأن يسود الله لون بنيه، فأجابه الله على وفق ما دعاه، واسود كوش بن حام وولده إلى يوم القيامة.
وقد قيل فى سبب دعوته غير هذا، فالله أعلم.
ويروى أنه لما نضب ماء الطوفان، بقى مكان البيت ربوة من مدرة، فحج إليه بعد ذلك هود وصالح ومن آمن معهما، وأن يعرب قال لهود عليه السلام: ألا تبنيه؟ قال: إنما يبنيه نبى كريم يأتى من بعدى، يتخذه الرحمن خليلا.
قال أبو الجهم، من حديث الواقدى «1» : حتى أراد الله بإبراهيم ما أراد، فولد له إسماعيل وهو ابن تسعين سنة، فكان بكر أبيه، فلما أراد الله عز وجل، أن يبوئ لإبراهيم مكان البيت وأعلامه، أوحى الله إليه يأمره بالمسير إلى بلده الحرام، فركب إبراهيم البراق، وحمل إسماعيل أمامه وهو ابن سنتين، وهاجر خلفه، ومعه جبريل يدله على موضع البيت ومعالم الحرم، فكان لا يمر بقرية إلا قال له إبراهيم: بهذه أمرت يا جبريل؟ فيقول جبريل: لا. حتى قدم به مكة، وهى إذ ذاك عضاة وسلم وسمر، والعماليق يومئذ حول الحرم، وهم أول من نزل مكة ويكونون بعرفة، وكانت المياه يومئذ قليلة، وكان موضع البيت قد دثر وهو ربوة حمراء مدرة، وهو يشرف على ما حوله، فقال جبريل حين دخل من كداء «2» ، وهو الجبل الذى يطلعك على الحجون «3» والمقبرة: بهذا أمرت. قال إبراهيم: بهذا أمرت؟ قال: نعم.
__________
(1) انظر ما ذكره ابن كثير فى البداية (1/ 159) .
(2) كداء: بفتح أوله ممدود لا يصرف لأنه مؤنث، جبل بمكة، وهو عرفة وهى كلها موقف إلا عرنة فليست فى الحرم بينها وبين الحرم رمية حجر. انظر: الروض المعطار (490) ، معجم ما استعجم (4/ 1117، 1118) .
(3) الحجون: بفتح الحاء، موضع بمكة عند المحصب، وهو الجبل المشرف بحذاء المسجد الذى يلى شعب الجزارين إلى ما بين الحوضين اللذين فى حائط عوف، وقيل: الحجون مقبرة أهل مكة تجاه دار أبى موسى الأشعرى رضى الله عنه. انظر: الروض المعطار (188) .(1/35)
فانتهى إلى موضع البيت، فعمد إبراهيم إلى موضع الحجر فآوى فيه هاجر وإسماعيل، وأمر هاجر أن تتخذ فيه عريشا، فلما أراد إبراهيم أن يخرج، ورأت أم إسماعيل أنه ليس بحضرتها أحد من الناس ولا ماء ظاهر، تركت ابنها فى مكانه وتبعت إبراهيم، فقالت: يا إبراهيم إلى من تدعنا؟ فسكت عنها، حتى إذا دنا من كداء قال: إلى الله عز وجل أدعكم. فقالت: فالله عز وجل أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: فحسبى تركتنا إلى كاف.
وانصرفت هاجر إلى ابنها، وخرج إبراهيم حتى وقف على كداء، ولا بناء ولا ظل ولا شىء يحول دون ابنه، فنظر إليه، فأدركه ما يدرك الوالد من الرحمة لولده، فقال:
رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ.
ثم انصرف إبراهيم راجعا إلى الشام، وعمدت هاجر فجعلت عريشا فى موضع الحجر من سمر وثمام ألقته عليه ومعها شن فيه شىء من ماء، فلما نفد الماء عطش إسماعيل وعطشت أمه، فانقطع لبنها، فأخذ إسماعيل كهيئة الموت، فظنت أنه ميت، فجزعت وخرجت جزعا أن تراه على تلك الحال، وقالت: يموت وأنا غائبة عنه أهون على، وعسى الله أن يجعل لى فى ممشاى خيرا.
فانطلقت فنظرت إلى جبل الصفا، فأشرفت عليه تستغيث ربها عز وجل وتدعوه، ثم انحدرت إلى المروة، فلما كانت فى الوادى خبت حتى انتهت إلى المروة، فعلت ذلك سبع مرار، كلما أشرفت على الصفا نظرت إلى ابنها، فتراه على حاله، وإذا أشرفت على المروة فمثل ذلك.
فكان ذلك أول ما سعى بين الصفا والمروة. وكان من قبلها يطوفون بالبيت ولا يسعون بين الصفا والمروة، ولا يقفون المواقف، حتى كان إبراهيم.
فلما كان الشوط السابع ويئست سمعت صوتا، فاستمعت فلم تسمع إلا الأول، فظنت أنه شىء عرض لسمعها من الظمأ والجهد.
فنظرت إلى ابنها فإذا هو يتحرك، فأقامت على المروة مليا، ثم سمعت الصوت الأول، فقالت: إنى سمعت صوتك فأعجبنى، فإن كان عندك خير فأغثنى، فإنى قد هلكت وهلك ما عندى.(1/36)
فخرج الصوت يصوت بين يديها، وخرجت تتلوه قد قويت له نفسها، حتى انتهى الصوت عند رأس إسماعيل، ثم بدا لها جبريل، فانطلق بها حتى وقف على موضع زمزم، فضرب بعقبه مكان البئر، فظهر الماء فوق الأرض حين فحص بعقبه، وفارت بالرواء، وجعلت أم إسماعيل تحظر الماء بالتراب خشية أن يفوتها قبل أن تأتى بشنتها، فاستقت وبادرت إلى ابنها فسقته وشربت، فجعل ثدياها يتقطران لبنا، فكان ذلك اللبن طعاما وشرابا لإسماعيل، وكانت تجتزئ بماء زمزم، فقال لها الملك: لا تخافى أن ينفد هذا الماء، وأبشرى، فإن ابنك سيشب ويأتى أبوه من الشام، فتبنون ها هنا بيتا يأتيه عباد الله من أقطار الأرضين ملبين لله جل ثناؤه شعثا غبرا، فيطوفون به ويكون هذا الماء شرابا لضيفان الله عز وجل، الذين يزورون بيته.
فقالت: بشرك الله بخير، وطابت نفسها، وحمدت الله عز وجل.
ويقبل غلامان من العماليق يريدان بعيرا لهما أخطأهما، فقد عطشا وأهلهما بعرفة، فنظرا إلى طير يهوى قبل الكعبة فاستنكرا ذلك، وقالا: أنى يكون الطير على غير ماء؟
فقال أحدهما لصاحبه: أمهل حتى نبرد، ثم نسلك فى مهوى الطير.
فأبردا ثم تروحا، فإذا الطير ترد وتصدر، فاتبعا الواردة منها حتى وقفا على أبى قبيس، فنظرا إلى الماء وإلى العريش، فنزلا وكلما هاجر وسألاها متى نزلت؟ فأخبرتهما، وقالا: لمن هذا الماء؟ فقالت: لى ولابنى. فقالا: من حفره؟ فقالت: سقيا الله جل ثناؤه.
فعرفا أن أحدا لا يقدر على أن يحفر هناك ماء، وعهدهما بما هناك قريب وليس به ماء.
فرجعا إلى أهلهما من ليلتهما، فأخبراهم، فتحولوا حتى نزلوا معها على الماء فأنست بهم، ومعهم الذرية، فنشأ إسماعيل مع ولدانهم.
وكان إبراهيم يزور هاجر فى كل شهر على البراق يغدو غدوة فيأتى مكة، ثم يرجع فيقيل فى منزله بالشام.
فزارها بعد، ونظر إلى من هناك من العماليق وإلى كثرتهم وغمارة الماء، فسر بذلك.
ولما بلغ إسماعيل عليه السلام، تزوج امرأة من العماليق، فجاء إبراهيم زائرا لإسماعيل، وإسماعيل فى ماشية يرعاها ويخرج متنكبا قوسه، فيرمى الصيد مع رعيته، فجاء إبراهيم عليه السلام إلى منزله، فقال: السلام عليكم يا أهل البيت.(1/37)
قال: فسكتت فلم ترد، إلا أن تكون ردت فى نفسها، فقال: هل من منزل؟ فقالت:
لا هيم الله إذن، قال: فكيف طعامكم وشرابكم وشاؤكم؟ فذكرت جهدا، فقالت: أما الطعام فلا طعام، وأما الشاء فإنما نحلب الشاة بعد الشاة المصر، وأما الماء فعلى ما ترى من الغلظ، قال: فأين رب البيت؟ قالت: فى حاجته.
قال: فإذا جاء فأقرئيه السلام، وقولى له غير عتبة بيتك.
ورجع إبراهيم إلى منزله، وأقبل إسماعيل راجعا إلى منزله بعد ذلك بما شاء الله عز وجل، فلما انتهى إلى منزله سأل امرأته هل جاءك أحد؟ فأخبرته بإبراهيم وقوله وما قالت له، ففارقها وأقام ما شاء الله أن يقيم.
وكانت العماليق هم ولاة الحكم بمكة فضيعوا حرمة الحرم واستحلوا منه أمورا عظاما ونالوا ما لم يكونوا ينالون، فقام فيهم رجل منهم يقال له عموق، فقال: يا قوم أبقوا على أنفسكم، فقد رأيتم وسمعتم من أهلك من هذه الأمم، فلا تفعلوا، تواصلوا ولا تستخفوا بحرم الله عز وجل وموضع بيته.
فلم يقبلوا ذلك منه، وتمادوا فى هلكة أنفسهم.
ثم إن جرهما وقطوراء، وهما أبناء عم خرجوا سيارة من اليمن، أجدبت البلاد عليهم، فساروا بذراريهم وأموالهم، فلما قدموا مكة رأوا فيها ماء معينا وشجرا ملتفا، ونباتا كثيرا، وسعة من البلاد، ودفئا فى الشتاء.
فقالوا: إن هذا الموضوع يجمع لنا ما نريد.
فأعجبهم ونزلوا به، وكان لا يخرج من اليمن قوم إلا ولهم ملك يقيم أمرهم، سنة فيهم جروا عليها واعتادوها ولو كانوا نفرا يسيرا.
فكان مضاض بن عمرو على قومه من جرهم، وكان على قطوراء السميدع، رجل منهم.
فنزل مضاض بمن معه من جرهم أعلى مكة بقعيقعان «1» فما حاز.
ونزل السميدع بقطوراء أسفل مكة بأجياد «2» ، فما حاز.
__________
(1) قعيقعان: جبل بأعلى مكة، قيل سمى قعيقعان لأن مضاض بن عمرو لما سار إلى السميدع معه كتيبة فيها عدتها من الرماح والدرق والسيوف تقعقع بذلك فسمى قعيقعان، والقصة طويلة. انظر: الروض المعطار (477) ، معجم ما استعجم (3/ 1086) .
(2) أجياد: بفتح أوله وإسكان ثانية وبالياء أخت الواو والدال المهملة، كأنه جمع جيد، أحد جبال-(1/38)
وذهبت العماليق إلى أن ينازعوهم أمرهم فعلت أيديهم على العماليق وأخرجوهم من الحرم كله، فصاروا فى أطرافه لا يدخلونه.
وجعل مضاض والسميدع يقطعان المنازل لمن ورد عليهما من قومهما فكثروا وأثروا، فكان مضاض يعشر، كل من دخل مكة من أعلاها، وكان السميدع يشعر كل من دخل من أسفلها، وكل على قومه لا يدخل أحدهما على صاحبه، وكانوا قوما عربا وكان اللسان عربيا.
وكان إبراهيم يزور إسماعيل، فلما نظر إلى جرهم نظر إلى لسان عجيب وسمع كلاما حسنا، ونظر إسماعيل إلى رعلة بنت مضاض بن عمرو، فأعجبته فخطبها إلى أبيها فتزوجها.
فجاء إبراهيم زائرا لإسماعيل، فجاء إلى بيت إسماعيل، فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله، فقامت إليه المرأة فردت عليه ورحبت به، فقال: كيف عيشكم ولبنكم وما شيتكم؟ فقالت خير عيش بحمد الله عز وجل، نحن فى لبن كثير ولحم كثير وماؤنا طيب، قال: هل من حب؟ قالت: يكون إن شاء الله ونحن فى نعم. قال: بارك الله لكم.
قال أبو جهم: فكان أبى يقول: ليس أحد يخلى عن اللحم والماء بغير مكة إلا اشتكى بطنه، ولعمرى لو وجد عندنا حبا لدعا فيه بالبركة فكانت أرض زرع.
ويقال: إن إبراهيم قال لها: ما طعامكم؟ قالت: اللحم واللبن. قال: فما شرابكم؟
قالت: اللبن والماء. قال: بارك الله لكم فى طعامكم وشرابكم، فاللبن طعام وشراب.
قالت: فانزل رحمك الله فاطعم واشرب. قال: إنى لا أستطيع النزول. قالت: فإنى أراك شعثا أفلا أغسل رأسك وأدهنه؟ قال: بلى إن شئت. فجاءته بالمقام وهو يومئذ حجر رطب أبيض مثل المهاة، ملقى فى بيت إسماعيل، فوضع عليه قدمه اليمنى وقدم إليها رأسه وهو على دابته فغسلت شق رأسه الأيمن، فلما فرغت حولت له المقام حتى وضع قدمه اليسرى، وقدم إليها رأسه فغسلت شق رأسه الأيسر، فالأثر الذى فى المقام من ذلك. قال أبو الجهم: فقد رأيت موضع العقب والإصبع.
__________
- مكة وهو الجبل الأخضر العالى بغربى المسجد الحرام، وفى رأسه منار يذكر أن أبا بكر رضى الله عنه أمر ببنائه ينادى عليه المؤذنون فى رمضان، يقابل من الكعبة الركن اليمانى يخرج إليه من باب إبراهيم عليه السلام، ويقابل قعيقعان من ناحية الغرب. انظر: الروض المعطار (12، 13) .(1/39)
وعن الواقدى من غير حديث أبى الجهم أن أبا سعيد الخدرى سأل عبد الله بن سلام عن الأثر الذى فى المقام، فقال: كانت الحجارة على ما هى عليه اليوم إلا أن الله جل ثناؤه، أراد أن يجعل المقام آية من آياته.
قال أبو الجهم: فلما فرغت يعنى المرأة، من غسل رأس إبراهيم عليه السلام، قال لها:
إذا جاء إسماعيل فقولى له: أثبت عتبة بابك فإن صلاح المنزل العتبة.
فلما جاء إسماعيل قال: هل جاءك أحد بعدى؟ فأخبرته بإبراهيم وما صنعت به، ثم قال لها: هل قال لك أن تقولى لى شيئا؟ قالت: قال لى أثبت عتبة بابك فإن صلاح المنزل العتبة.
ففرح إسماعيل وقال: أتدرين من هو؟ قالت: لا. قال: هذا خليل الله إبراهيم أبى، وأما قوله: «أثبت عتبة بابك» فقد أمرنى أن أقرك وقد كنت على كريمة وقد ازددت على كرامة. فصاحت وبكت، فقال: ما لك؟ قالت: ألا أكون علمت بمن هو فأكرمه وأصنع به غير الذى صنعت! فقال لها إسماعيل: لا تبكى ولا تجزعى فقد أحسنت ولم تكونى تقدرين أن تفعلى فوق الذى فعلت، ولم يكن ليزيدك على الذى صنع بك.
فولدت لإسماعيل عشرة ذكور أحدهم نابت «1» .
فلما بلغ إسماعيل ثلاثين سنة وإبراهيم يومئذ ابن مائة سنة، أوحى الله جل ثناؤه إلى إبراهيم أن ابن لى بيتا. قال إبراهيم: أى رب أين أبنيه؟.
فأوحى الله إليه: أن اتبع السكينة، وهى ريح لها وجه وجناحان ومع إبراهيم الملك والصرد.
فانتهوا بإبراهيم إلى مكة، فنزل إسماعيل إلى الموضع الذى بوأه الله جل وعز، لإبراهيم، وموضع البيت ربوة حمراء مدرة مشرفة على ما حولها.
فحفر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وليس معهما غيرهما، أساس البيت، يريدان أساس آدم الأول.
__________
(1) قال ابن هشام فى السيرة (1/ 24- 28) : حدثنا زياد بن عبد الله البكائى، عن محمد بن إسحاق المطلبى، قال: ولد إسماعيل بن إبراهيم، عليهما السلام، اثنى عشر رجلا: نابتا، وكان أكبرهم، وقيذر، وأذبل، وميشا، ومسمغا، وماشى، ودما، وأذر، وطيما، ويطور، ونبش، وقيذما، وأمهم: رعلة بنت مضاض بن عمرو الجرهمى. قال ابن هشام: ويقال: مضاض، وجرهم بن قحطان، وقحطان أبو اليمن كلها، وإليه يجتمع نسبها، ابن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح.(1/40)
فحفرا عن ربض البيت يعنى حوله، فوجدا صخرة لا يطيقها إلا ثلاثون رجلا، وحفرا حتى بلغا أساس آدم ثم بنى عليه، وحلقت السكينة كأنها سحابة، على موضع البيت، فقالت: ابن علىّ.
فلذلك لا يطوف بالبيت أحد أبدا، كافر ولا جبار، إلا رأيت عليه السكينة.
فبنى إبراهيم وإسماعيل البيت، فجعل طوله فى السماء تسع أذرع، وعرضه ثلاثين ذراعا، وطوله فى الأرض اثنين وعشرين ذراعا، وأدخل الحجر وهو سبعة أذرع فى البيت، وكان قبل ذلك زربا لغنم إسماعيل.
وإنما بناه بحجارة بعضها على بعض، ولم يجعل له سقفا، وجعل له بابا وحفر له بئرا عند بابه خزانة للبيت، يلقى فيها ما أهدى للبيت وجعل الركن علما للناس.
فذهب إسماعيل إلى الوادى يطلب حجرا، ونزل جبريل بالحجر الأسود، وكان قد رفع إلى السماء حين غرقت الأرض، كما رفع البيت، فنزل به جبريل فوضعه إبراهيم موضع الركن، وجاء إسماعيل بالحجر من الوادى فوجد إبراهيم قد وضع الحجر، فقال:
من أين هذا؟ من جاءك به؟ قال إبراهيم: من لم يكلنى إليك ولا إلى حجرك «1» .
وعن الواقدى أيضا من غير حديث أبى الجهم، أن يزيد بن رومان، قال: سمعت ابن الزبير يقول: إن إبراهيم عليه السلام ابتغى الحجر، فناداه من فوق أبى قبيس: ألا أنا هذا.
فرقى إليه إبراهيم فأخذه، فوضعه موضعه الذى هو فيه اليوم.
وكان الله جل ثناؤه لما غرقت الأرض استودع أبا قبيس الركن، وقال: إذا رأيت خليلى يا بنى لى بيتا فأعطه الركن فأعطاه الركن.
وعن غير ابن الزبير أن أبا قبيس لذلك كان يسمى فى الجاهلية الأمين، لوفائه بما استودعه الله إياه.
__________
(1) قال ابن كثير فى البداية باب بناء البيت العتيق: قال السدى: لما أمر الله إبراهيم وإسماعيل أن يبنيا البيت، ثم لم يدريا أين مكانه حتى بعث الله ريحا يقال له الخجوج لها جناحان ورأس فى صورة حية، فكنست لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول، واتبعاها بالمعاول يحفران حتى وضعا الأساس، وذلك حين يقول تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ فلما بلغا القواعد بنيا الركن، قال إبراهيم لإسماعيل: يا بنى، اطلب لى الحجر الأسود من الهند، وكان أبيض ياقوتة بيضاء مثل النعامة، وكان آدم هبط به من الجنة فاسود من خطايا الناس، فجاءه إسماعيل بحجر فوجده عند الركن، فقال: يا أبتى، من جاءك بهذا؟ قال: جاء به من هو أنشط منك. وانظر ما ورد فى ذكر بناء البيت فى البداية (1/ 167) وما بعدها.(1/41)
قال أبو جهم: ولما فرغ إبراهيم من بناء البيت وأدخل الحجر فى البيت، جعل المقام لاصقا بالبيت عن يمين الداخل، فلما كانت قريش قصر الخشب عليهم، فأخرجوا الحجر، وكان ما أخرجوا منه سبعة أذرع.
وأمر إبراهيم بعد فراغه من البناء أن يؤذن فى الناس بالحج، فقال: يا رب، وما يبلغ صوتى؟!
قال الله جل ثناؤه: أذّن وعلىّ البلاغ.
فارتفع على المقام وهو يومئذ ملصق بالبيت، فارتفع به المقام حتى كان أطول الجبال، فنادى وأدخل إصبعيه فى أذنيه، وأقبل بوجهه شرقا وغربا، يقول: أيها الناس، كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق، فأجيبوا ربكم عز وجل.
فأجابه من تحت البحور السبعة، ومن بين المشرق والمغرب إلى منقطع التراب من أطراف الأرض كلها: لبيك اللهم لبيك.
أفلا تراهم يأتون يلبون؟!
فمن حج من يومئذ إلى يوم القيامة فهو ممن استجاب لله عز وجل.
وذلك قول الله جل ثناؤه: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ [آل عمران: 97] يعنى نداء إبراهيم على المقام بالحج فهى الآية.
قال الواقدى: وقد روى أن الآية هى أثر إبراهيم على المقام.
قال أبو الجهم: فلما فرغ إبراهيم من الأذان ذهب به جبريل فأراه الصفا والمروة، وأقامه على حدود الحرم، وأمره أن ينصب عليها الحجارة، ففعل إبراهيم ذلك، وكان أول من أقام أنصاب الحرم، ويريه إياها جبريل.
فلما كان اليوم السابع من ذى الحجة، خطب إبراهيم عليه السلام بمكة، حين زاغت الشمس قائما، وإسماعيل جالس، ثم خرجا من الغد يمشيان على أقدامهما يلبيان محرمين، مع كل واحد منهما إداوة يحملها وعصا يتوكأ عليها، فسمى ذلك اليوم يوم التروية.
فأتيا منى فصليا بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح، وكانا نزلا فى الجانب الأيمن، ثم أقام حتى طلعت الشمس على ثبير، ثم خرج يمشى هو وإسماعيل حتى أتيا(1/42)
عرفة، وجبريل معهما يريهما الأعلام، حتى نزلا بنمرة، وجعل يريه أعلام عرفات، وكان إبراهيم قد عرفها قبل ذلك، فقال إبراهيم: قد عرفت: فسميت عرفات.
فلما زاغت الشمس خرج بهما جبريل عليه السلام، حتى انتهى بهما إلى موضع المسجد اليوم، فقام إبراهيم فتكلم بكلمات، وإسماعيل جالس، ثم جمع بين الظهر والعصر، ثم ارتفع بهما إلى الهضاب، فقاما على أرجلهما يدعوان إلى أن غابت الشمس وذهب الشعاع، ثم دفعا من عرفة على أقدامهما، حتى انتهيا إلى جمع فنزلا، فصلى إبراهيم المغرب والعشاء فى ذلك الموضع الذى يصلى فيه اليوم، ثم باتا حتى إذا طلع الفجر وقفا على قزح، فلما أسفر قبل طلوع الشمس دفعا على أرجلهما حتى انتهيا إلى محسر، فأسرعا حتى قطعاه ثم عادا إلى مشيهما الأول، ثم رميا جمرة العقبة بسبع حصيات حملاها من جمع، ثم نزلا من منى فى الجانب الأيمن، ثم ذبحا فى المنحر اليوم، وحلقا رؤسهما، ثم أقاما أيام منى يرميان الجمار حين تزيغ الشمس ماشيين ذاهبين وراجعين، وصدرا يوم الصدر فصليا الظهر بالأبطح، وكل هذا يريه جبريل عليه السلام.
قال أبو الجهم: فلما فرغ إبراهيم من الحج انطلق إلى منزله بالشام، فكان يحج البيت كل عام، وحجته سارة، وحجه إسحاق ويعقوب والأسباط، والأنبياء هلم جرا.
وحجه موسى بن عمران عليه السلام.
روى الواقدى بإسناد له عن ابن عباس قال: مر موسى عليه السلام، بصفاح الروحاء يلبى، تجاوبه الجبال، عليه عباءتان قطوانيتان من عباء الشام.
وعن جابر بن عبد الله قال: حج هارون نبى الله البيت، فمر بالمدينة يريد الشام، فمرض بالمدينة فأوصى أن يدفن بأصل أحد، ولا تعلم به يهود، مخافة أن ينبشوه فدفنوه فقبره هناك.
وعن ابن عباس، أن الحواريين كانوا إذا بلغوا الحرم نزلوا يمشون حتى يأتوا البيت.
وعن ابن الزبير: أن الحواريين خلعوا نعالهم حين دخلوا الحرم، إعظاما أن ينتعلوا فيه.
ثم توفى الله خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم، بعد أن وجه إليه ملك الموت، فاستنظره إبراهيم، ثم أعاده إليه لما أراد الله قبضه، فأخبره بما أمر به، فسلم إبراهيم لأمر ربه عز وجل فقال له ملك الموت: يا خليل الله، على أى حال تحب أن أقبضك؟ قال: تقبضنى وأنا ساجد، فقبضه وهو ساجد، وصعد بروحه إلى الله عز وجل، ودفن إبراهيم عليه السلام بالشام «1» .
__________
(1) قال ابن كثير: قد روى ابن عساكر عن غير واحد من السلف، عن أخبار أهل الكتاب فى-(1/43)
وعاش إسماعيل عليه السلام بعد أبيه ما عاش، وتوفى بمكة، فدفن داخل الحجر، مما يلى باب الكعبة، وهنالك قبر أمه هاجر، ودفن معها وكانت توفيت قبله.
ولما توفى إسماعيل عليه السلام، ولى البيت بعده ابنه نابت، ولم يله أحد من ولده غيره. ثم مات فدفن فى الحجر مع أمه رعلة بنت مضاض.
فولى البيت بعده جده مضاض بن عمرو، ثم أخواله من جرهم، وقاموا عليه، فكانوا هم ولاته وحجابه وولاة الأحكام بمكة.
وكان البيت قد دخله السيل من أعلى مكة فانهدم، فأعادته جرهم على بناء إبراهيم، وجعلت له مصراعين وقفلا.
قال ابن إسحاق: ثم إن جرهما وقطوراء بغى بعضهم على بعض وتنافسوا الملك بها، ومع مضاض يومئذ إسماعيل وبنو نابت وإليه ولاية البيت دون السميدع. فسار بعضهم إلى بعض، فخرج مضاض من قعيقعان فى كتيبته سائرا إلى السميدع، ومع كتيبته عدتها من الرماح والدرق والسيوف والجعاب يقعقع بذلك معه.
فيقال: ما سمى قعيقعان قعيقعان إلا لذلك. وخرج السميدع من أجياد ومعه الخيل والرجال. فيقال: ما سمى أجياد أجيادا إلا لخروج الجياد من الخيل مع السميدع منه «1» .
وغير ابن إسحاق يقول: إنما سمى أجياد لأن مضاضا ضرب فى ذلك الموضع أجياد مائة رجل من العمالقة. وقيل: بل أمر بعض الملوك غير مسمى بضرب رقاب فيه، فكان يقول لسيافه: توسط الأجياد. وهذا ونحوه أصح فى تسمية الموضع بأجياد، مما قال ابن إسحاق.
قال: فالتقوا بفاضح «2» ، فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل السميدع وفضحت قطوراء.
فيقال: ما سمى فاضح فاضحا إلا بذلك.
__________
- صفة مجىء ملك الموت إلى إبراهيم عليه السلام أخبارا كثيرة، الله أعلم بصحتها، وقد قيل: إنه مات فجأة، وكذا داود وسليمان، والذى ذكره أهل الكتاب وغيرهم خلاف ذلك، قالوا: ثم مرض إبراهيم عليه السلام، ومات عن مائة وخمس وسبعين، وقيل: وتسعين سنة، ودفن فى المغارة التى كانت بحبرون الحيثى، عند امرأته سارة، التى فى مزرعة عفرون الحيثى، وتولى دفنه إسماعيل وإسحاق، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وقد ورد ما يدل أنه عاش مائتى سنة، كما قاله ابن الكلبى. انظر البداية باب ذكر موته عليه السلام (1/ 178) وما بعدها.
(1) انظر: السيرة (1/ 107- 108) .
(2) فاضح: موضع بمكة. انظر الروض المعطار (ص 433) .(1/44)
ثم إن القوم تداعوا إلى الصلح، فساروا حتى نزلوا المطابخ «1» شعبا بأعلى مكة، فاصطلحوا به وأسلموا الأمر إلى مضاض.
فلما رجع إليه أمر مكة فصار ملكها له، نحر للناس وأطعمهم، فاطبخ الناس وأكلوا.
فيقال: ما سميت المطابخ إلا لذلك. وبعض أهل العلم يزعم أنها إنما سميت بذلك لما كان تبع نحر بها وأطعم، وكان منزله.
فكان الذى كان بين مضاض والسميدع أول بغى كان بمكة، فيما يزعمون.
ثم نشر الله ولد إسماعيل بمكة، وأخوالهم من جرهم ولاة البيت والحكام بمكة، لا ينازعهم ولد إسماعيل فى ذلك، لخؤولتهم وقرابتهم، وإعظاما للحرمة أن يكون بها بغى أو قتال.
فلما ضاقت مكة على ولد إسماعيل، انتشروا فى البلاد، فلا يناوئون قوما إلا أظهرهم الله عليهم بدينهم فوطئوهم.
ثم إن جرهم بغوا بمكة، واستحلوا [خلالا] «2» من الحرمة، وظلموا من دخلها من غير أهلها، وأكلوا مال الكعبة الذى يهدى لها، فرق أمرهم.
فلما رأت ذلك بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة، وغبشان من خزاعة، أجمعوا لحربهم وإخراجهم من مكة، فآذنوهم بالحرب. فاقتتلوا فغلبتهم بنو بكر وغبشان، فنفوهم من مكة.
وكانت مكة فى الجاهلية لا تقر فيها ظلما ولا بغيا، ولا يبغى فيها أحد إلا أخرجته، فكانت تسمى الناسة، ولا يريدها ملك يستحل حرمتها إلا هلك مكانه. فيقال: ما سميت ببكة «3» ، إلا أنها كانت تبك أعناق الجبابرة إذا أحدثوا فيها شيئا.
__________
(1) المطابخ: موضع معروف بمكة. انظر: الروض المعطار (ص 543) .
(2) ما بين المعقوفتين فى الأصول: «حلالا» ، وما أوردناه من السيرة. وخلال: جمع خلة وهى الخصلة.
(3) قال ابن هشام فى السيرة (1/ 109) : أخبرنى أبو عبيدة: أن بكة اسم لبطن مكة؛ لأنهم يتباكون فيها، أى: يزدحمون، وأنشدنى:
إذا الشريب أخذته أكه ... فخله حتى يبك بكه
أى: فدعه حتى يبك إبله، أى يخليها إلى الماء، فتزدحم عليه، وهو موضع البيت والمسجد، وهذان البيتان لعامان بن كعب بن عمرو بن سعد بن زيد مناة بن تميم.(1/45)
فلم يزل أهلها على وجه الدهر يصونون جنابها ويحافظون على حرمتها.
يقال: إنه اجتمع رأى بنى إسماعيل وخيارهم على أن لا يدعوا أحدا أحدث فى حرم الله حدثا إلا غربوه منه، ثم لم يرجع فيه. ويقال: بل كان ذلك مما سن لهم أولوهم، فصارت سنة فيهم يدينون بها، ثم خلف من خلف بعدهم على ذلك، يرون فيه رأيهم، وتكبر مواقعة الظلم فى حرم الله والتعدى به فى نفوسهم، ويعتقدون أن الباغى فيه معاقب فى دنياه فى نفسه وماله، وأن الحالف عند البيت حانثا مخوف عليه مما أصاب قبله ممن فعل فعله، وأن دعاء المظلوم عنده وخصوصا فى الشهر الحرام مجاب فى ظالمه، ويوثرون فى ذلك أشياء أراها الله إياهم، صونا لحرمه الكريم، وتنزيها لبيت خليله إبراهيم.
ذكر الواقدى من حديث عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث، قال: عدا رجل من بنى كنانة بن هذيل على ابن عم له وظلمه واضطهده فناشده بالرحم وعظم عليه، فأبى إلا ظلمه، فقال: والله لألحقن بحرم الله فى هذا الشهر، ولأدعون الله عليك. فقال له ابن عمه مستهزئا به: هذه ناقتى فلانة، فأنا أفقرك ظهرها فاذهب فاجتهد.
فأعطاه ناقة، وخرج حتى جاء الحرم فى الشهر الحرام، فقال: اللهم إنى أدعوك جاهدا مضطرا على ابن عمى فلان، ترميه بداء لا دواء له.
ثم انصرف، فيجد ابن عمه قد رمى فى بطنه فصار مثل الزق، فمازال ينتفخ حتى انشق.
قال عبد المطلب: لحدثت بهذا الحديث ابن عباس، فقال: أنا رأيت رجلا دعا على ابن عم له بالعمى، يعنى فى الحرم، فرأيته يقاد أكمة العميان.
وعن ابن عباس، قال: سمعت عمر بن الخطاب يسأل رجلا من بنى سليم عن ذهاب بصره. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، كنا فى بنى ضبعاء عشرة، وكان لنا ابن عم، فكنا نظلمه ونضطهده، فكان يذكرنا بالله والرحم، وكنا أهل بيت نرتكب كل الأمور، فلما رأى ابن عمنا أنا لا نكف عنه ولا نرد إليه ظلامته، أمهل حتى دخلت الأشهر الحرم، انتهى إلى الحرم فجعل يرفع يديه إلى الله جل ثناؤه، ويقول:
لاهم «1» أدعوك دعاء جاهدا ... اقتل بنى الضبغاء إلا واحدا
__________
(1) لاهم: أى اللهم، والعرب تحذف منها الألف واللام للتخفيف.(1/46)
ثم اضرب الرجل ودعه قاعدا ... أعمى إذا قيد يعنى القائدا
قال: فمات إخوتى تسعة فى تسعة أشهر، فى كل شهر واحد، وبقيت أنا، فعميت، ورمانى الله عز وجل فى رجلى، وكمهت فليس يلائمنى قائد.
قال ابن عباس: فسمعت عمر يقول: سبحان الله إن هذا لهو العجب!
قال: وسمعت عمر يسأل ابن عمهم الذى دعا عليهم، فقال: دعوت عليهم كل ليلة رجب الشهر كله بهذا الدعاء، فأهلكوا فى تسعة أشهر وأصاب الباقى ما أصابه.
قال ابن عباس: وعدا رجل على ابن عم له فاستاق ذودا له، فخرج يطلبه حتى أصابه فى الحرم، فقال: ذودى. فقال اللص: كذبت ليس لك. قال: فاحلف. قال: إذا أحلف. فحلف عند المقام بالله الخالق رب هذا البيت ما هن لك.
فقيل له: لا سبيل لك عليه.
فقام رب الذود بين الركن والمقام باسطا يديه يدعو على صاحبه، فما برح مقامه يدعو عليه حتى دله فذهب عقله، فجعل يصيح بمكة: ما لى وللذود، ما لى ولفلان رب الذود.
فبلغ ذلك عبد المطلب، فجمع الذود فدفعها إلى المظلوم فخرج بها، وبقى الآخر مدلها حتى تردى من جبل فمات فأكلته السباع.
وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه، يقول: لو وجدت قاتل الخطاب فى الحرم ما هجته.
وكان يقول: لأن أذنب بركبة سبعين ذنبا أحب إلى من أن أذنب ذنبا واحدا فى الحرم. وركبه خارج الحرم، محاذية لذات عرق.
وذكر رضى الله عنه، يوما وهو خليفة ما كان يعاقب به من حلف ظلما، يعنى فى الحرم، زمن الجاهلية، فقال: إن الناس ليرتكبون ما هو أعظم منها ثم لا يعجل لهم من العقوبة مثل ما كان يعجل لأولئك، فما ترون ذلك؟
فقالوا: أنت أعلم يا أمير المؤمنين.
قال: إن الله جل ثناؤه، جعل فى الجاهلية، إذ لا دين حرمة حرمها وعظمها وشرفها، وجعل العقوبة لمن استحل شيئا مما حرم، ليتنكب عن انتهاك ما حرم مخافة(1/47)
تعجيل العقوبة، فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم أو عدهم فيما انتهكوا مما حرم الساعة، فقال:
وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ [القمر: 46] .
فأخر العقاب إلى يوم القيامة، وأراهم الله الاستجابة بعضهم لبعص ليتناهوا عن الظلم، وأخر أهل الإسلام ليوم الجمع، ويستجب الله لمن يشاء، فاتقوا الله وكونوا مع الصادقين.
ومن المشهور فى هذا الباب أمر إساف ونائلة، وهما صنما قريش اللذان أقاموهما على زمزم ينحرون عندهما. ذكروا أنهما كان رجلا وامرأة من جرهم، إساف بن بغى، ونائلة بنت ديك، فوقع إساف على نائلة فى الكعبة، فمسخهما الله حجرين. ويقال:
أحدثا فيها فمسخهما الله؛ فالله أعلم.
وأمرهما معدود فيما بلغت إليه جرهم من الاستخفاف بحرمة الحرم وقلة مبالاتهم بالبغى فيه، مع ما أراهم الله من عظيم الآية بمسخهما حجرين، فما نهاهم ذلك عن قبيح ما كانوا عليه، حتى أخرجهم الله عن جوار بيته بأيدى آخرين من عباده، فكان من أمرهم مع خزاعة ما كان.
فخرج عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمى بغزالى الكعبة وبحجر الركن فدفنها فى زمزم، وانطلق هو ومن معه من جرهم إلى اليمن، وحزنوا على ما فارقوا من أمر مكة وملكها حزنا شديدا. فقال عمرو بن الحارث بن مضاض فى ذلك، وليس بمضاض الأكبر:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر «1»
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالى والجدود العواثر «2»
وكنا ولاة البيت من بعد نابت ... نطوف بذاك البيت والخير ظاهر
ونحن ولينا البيت من بعد نابت ... بعز فما يحظى لدينا المكاثر
ملكنا فعززنا فأعظم بملكنا ... فليس لحى غيرنا ثم فاخر
ألم تنكحوا من خير شخص علمته ... فأبناؤه منا ونحن الأصاهر
__________
(1) هذه الأبيات ذكرها فى السيرة وذكر قبل هذا البيت:
وقائلة والدمع سكب مبادر ... وقد شرقت بالدمع منها المحاجر
انظر: السيرة (1/ 109) .
(2) صورف الليالى: شدائدها. والجدود: هو البخت والحظ.(1/48)
فإن تنثنى الدنيا علينا بحالها ... فإن لها حالا وفيها التشاجر
فأخرجنا منها المليك بقدرة ... كذلك يا للناس تجرى المقادر
أقول إذا نام الخلى ولم أنم ... إذا العرش لا يبعد سهيل وعامر
وبدلت منها أو جها لا أحبها ... قبائل منها حمير ويحابر
وصرنا أحاديثا وكنا بغبطة ... بذلك عضتنا السنون الغوابر
فسحت دموع العين تبكى لبلدة ... بها حرم أمن وفيها المشاعر
وتبكى لبيت ليس يؤذى حمامه ... يظل به أمنا وفيه العصافر
وفيه وحوش لا ترام أنيسة ... إذا خرجت منه فليست تغادر
وقال عمرو بن الحارث أيضا يذكر بكرا وغبشان وساكنى مكة الذين خلفوا فيما بعدهم:
يا أيها الناس سيروا إن قصركم ... أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا
حثوا المطى وأرخوا من أزمتها ... قبل الممات وقضوا ما تقضونا
كنا أناسا كما كنتم فغيرنا ... دهر فأنتم كما كنا تكونونا
قال ابن هشام: هذا ما صح له منها، وحدثنى بعض أهل العلم بالشعر أن هذه الأبيات أول شعر قيل فى العرب، وأنها وجدت مكتوبة فى حجر باليمن ولم يسم لنا قائلها «1» .
ثم إن غبشان من خزاعة وليت البيت دون بنى بكر بن عبد مناة.
وغبشان لقب، واسمه الحارث، وخزاعة يقال: إنهم من ولد قمعة بن إلياس بن مضر، وأن أباهم عمرو بن لحى، هو عمرو بن لحى بن قمعة بن خندف، وخزاعة يأبون هذا النسب، ويقولون: إنهم من ولد كعب بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن غسان.
وقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أريت عمرو بن لحى بن قمعة بن خندف يجر قصبه فى النار، فسألته عمن بينى وبينه من الأمم، فقال: هلكوا» «2» .
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 111) .
(2) أخرجه البخارى فى صحيحه (4/ 224، 6/ 69) ، كنز العمال للمتقى الهندى (34095) ، الخطيب البغدادى فى تاريخه (5/ 173) ، السيوطى فى الحاوى للفتاوى (2/ 375) ، الطحاوى فى مشكل الآثار (2/ 207) .(1/49)
فقيل له: ومن عمرو بن لحى؟ قال: أبو هؤلاء الحى من خزاعة، وهو أول من غير الحنيفية دين إبراهيم، وأول من نصب الأوثان حول الكعبة «1» .
فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذا، فرسول الله أعلم وما قال فهو الحق.
وعمرو بن ربيعة الذى تنتسب إليه خزاعة يقال: هو عمرو بن لحى، وإن حارثة بن ثعلبة بن عمرو خلف على أم لحى، ولحى هو ربيعة، بعد أن تأيمت من قمعة، ولحى صغير، فتبناه حارثة وانتسب إليه.
فيكون النسب على هذا صحيحا بالوجهين، إلى قمعة بالولادة وفق ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله، وإلى حارثة بن ثعلبة بالتبنى، والانتساب به موجود كثيرا فى العرب.
فلما وليت خزاعة البيت حفظوه مما كانت جرهم استباحته، وتوافروا على تعظيمه والذب عنه، وكان الذى يليه منهم عمرو بن الحارث الغبشانى، ثم قومه من بعده، وقريش إذ ذاك حلول وصرم «2» متقطعون وبيوتات متفرقون فى قومهم من بنى كنانة.
فأقامت خزاعة على ولاية البيت، يتوارثون ذلك كابرا عن كابر، حتى كان آخرهم حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعى. وبعده انتقلت ولاية البيت إلى قصى بن كلاب.
وكان من حديث قصى «3» أنه لما هلك أبوه كلاب بن مرة، خلف ولديه زهرة وقصيا، مع أمهما فاطمة بنت سعد بن سيل من عذرة، وزهرة يومئذ رجل، وقصى فطيم، فقدم مكة بعد مهلك كلاب حاج مع قضاعة فيهم ربيعة بن حرام بن ضنة بن عبد كبير بن عذرة، فتزوج فاطمة بنت سعد فاحتملها إلى بلاده، فاحتملت ابنها قصيا لصغره، وأقام زهرة فى قومه.
فولدت فاطمة لربيعة رزاحا، فكان أخا قصى لأمه، وكان لربيعة بنون ثلاثة من امرأة أخرى، وهم: حن ومحمود وجلهمة، بنو ربيعة.
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 81)
(2) قال فى اللسان (مادة صرم) : الصرم بالكسر: الأبيات المجتمعة المنقطعة من الناس، وهو الفرقة من الناس ليسوا بالكثير والجمع أصرم وأصاريم وصرمان.
(3) انظر: السيرة (1/ 115- 120) .(1/50)
وأقام قصى بأرض قضاعة لا ينسب إلا إلى ربيعة بن حرام.
فناضل يوما رجلا من قضاعة يدعى رفيعا، فنضله قصى، وهو يومئذ شاب، فغضب المنضول، فوقع بينهما حتى تقاولا وتنازعا، فقال رفيع: ألا تلحق ببلدك وبقومك، فإنك لست منا!.
فرجع قصى إلى أمه، وقد وجد فى نفسه مما قال، فسألها عن ذلك فقالت: أو قد قال هذا؟ أنت والله يا بنى أكرم منه نفسا ووالدا ونسبا وأشرف منزلا، أنت ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة القرشى، وقومك بمكة عند البيت الحرام وفيما حوله، تفد العرب إلى ذلك البيت، وقد قالت لى كاهنة رأتك: هذا يلى أمرا جليلا، فطب نفسا.
فأجمع قصى الخروج إلى قومه واللحوق بهم، وكره الغربة بأرض قضاعة، وضاق ذرعا بالمقام فيهم، فقالت له أمه: لا تعجل حتى يدخل عليك الشهر الحرام، فتخرج فى حاج العرب، فإنى أخشى عليك أن يصيبك بعض الناس.
فأقام قصى حتى إذا دخل الشهر الحرام وخرج حاج قضاعة خرج معهم، وهم يظنون أنه إنما يريد الحج ثم يرجع إلى بلاده، حتى قدم مكة، فلما فرغ من الحج أقام بها، وعالجه القضاعيون على الخروج معهم فأبى.
وكان رجلا جلدا نهدا نسيبا، فلم ينشب أن خطب إلى حليل بن حبشية ابنته حبى، فعرف حليل النسب ورغب فى الرجل فزوجه، وحليل يومئذ يلى أمر مكة والحكم فيها وحجابة البيت.
فأقام قصى معه بمكة، وولدت له حبى بنيه عبد الدار وعبد مناف وعبد العزى وعبدا.
فلما انتشر ولد قصى وكثر ماله وعظم شرفه هلك حليل، فرأى قصى أنه أولى بالكعبة وبأمر مكة من خزاعة وبنى بكر، وأن قريشا قرعة إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وصريح ولده.
فكلم رجالا من قريش وبنى كنانة، ودعاهم إلى إخراج خزاعة وبنى بكر من مكة، فأجابوه إلى ذلك، فكتب عند ذلك قصى إلى أخيه من أمه رزاح بن ربيعة، يدعوه إلى نصرته والقيام معه، فخرج رزاح ومعه إخوته لأبيه، حن ومحمود وجلهمة، فيمن تبعهم من قضاعة فى حاج العرب، وهم مجمعون لنصر قصى والقيام معه.(1/51)
فلما اجتمع الناس بمكة وفرغوا من الحج ولم يبق إلا أن يصدر الناس، كان أول ما تعرض له قصى من المناسك أمر الإجازة للناس بالحج.
وكانت صوفة هى التى تلى ذلك مع الدفع بهم من عرفة ورمى الجمار، وهم ولد الغوث بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر «1» .
والغوث هو أول من ولى ذلك منهم.
وذلك أن أمه كانت امرأة من جرهم، وكانت لا تلد، فنذرت لله إن هى ولدت ولدا أن تصدق به على الكعبة عبدا لها يخدمها ويقوم عليها، فولدت الغوث وكان يقوم على الكعبة فى الدهر الأول مع أخواله من جرهم، فولى الإجازة بالناس من عرفة لمكانه الذى كان به من الكعبة، وولده من بعده حتى انقرضوا.
فقال مر بن أد أبو الغوث لوفاء نذر أمه:
إنى جعلت رب من بنيه ... ربطة بمكة العليه
فباركن لى بها إليه ... واجعله لى من صالح البريه
وكان الغوث بن مر، زعموا، إذا دفع بالناس قال:
لا هم إنى تابع تباعه ... إن كان إثم فعلى قضاعه
وذلك أن قضاعة كان منهم أحياء يستحلون الحرمة فى الجاهلية، فكانت صوفة تدفع بالناس من عرفة، وتجيز بهم إذا نفروا من منى إذا كان يوم النفر أتوا لرمى الجمار، ورجل من صوفة يرمى للناس، لا يرمون حتى يرمى، فكان ذوو الحاجات المتعجلون يأتونه فيقولون له: قم فارم حتى نرمى معك. فيقول: لا والله حتى تميل الشمس. فيظل ذوو الحاجات الذين يحبون التعجيل يرمونه بالحجارة ويستعجلونه بذلك، ويقولون له:
ويلك قم فارم بنا. فيأبى عليهم، حتى إذا مالت الشمس قام فرمى ورمى الناس معه.
فإذا فرغوا من رمى الجمار وأرادوا النفر من منى أخذت صوفة بجانبى العقبة فحبسوا الناس وقالوا: أجيزى «2» صوفة. فلم يجز أحد من الناس حتى يرموا، فإذا نفذت صوفة ومضت خلى سبيل الناس فانطلقوا بعدهم، فكانوا كذلك حتى انقرضوا.
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 116) .
(2) أجيزى: جزت الطريق وجاز الموضع: أى سار فيه وسلكه، وأجازه: حلفه وقطعه، وأجازه: أنفذه. انظر: اللسان (مادة جوز) .(1/52)
فورثهم ذلك من بعدهم بالقعدد بنو سعد بن زيد مناة بن تميم، وكانت من بنى سعد فى آل صفوان بن الحارث بن شجنة بن عطارد بن عوف بن كعب بن سعد.
فكان صفوان هو الذى يجيز للناس بالحج من عرفة، ثم بنوه من بعده، حتى كان آخرهم الذى قام عليه الإسلام كرب بن صفوان.
وفى ذلك يقول ابن مغراء السعدى:
لا يبرح الناس ما حجوا معرفهم ... حتى يقال أجيزوا آل صفوانا
فأما قول ذى الإصبع العدوانى، واسمه حرثان بن عمرو، وقيل له ذو الإصبع لحية لدغته فى إصبعه فقطعها:
عذير الحى من عدوا ... ن كانوا حية الأرض «1»
بغى بعضهم ظلما ... فلم يرع على بعض
ومنهم كانت السادا ... ت والموفون بالقرض
ومنهم من يجيز النا ... س بالسنة والفرض
ومنهم حكم يقضى ... فلا ينقض ما يقضى
وإنما قال ذلك لأن الإفاضة من المزدلفة كانت فى عدوان، وهو عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان، يتوارثون ذلك كابرا عن كابر، حتى كان آخرهم الذى قام عليه الإسلام أبو سيارة عميلة بن الأعزل.
قال حويطب بن عبد العزى: رأيت أبا سيارة يدفع بالناس من جمع على أتان له عقوق. وذكروا أنه أجاز عليها أربعين سنة «2» .
قالوا: وكان إذا وقف بالناس قال: اتقوا الله ربكم، وأصلحوا أموالكم، واحفظوا جيرانكم، وقاتلوا أعداءكم، اللهم حبب بين نسائنا، وبغض بين رعائنا، واجعل أمر الناس بأيدى صالحائنا؛ ثم يقول: أفيضوا على بركة الله.
وفيه يقول شاعر من العرب:
نحن دفعنا عن أبى سياره ... وعن مواليه بنى فزاره
__________
(1) حية الأرض: يقال حية فلان وحية الوادى، إذا كان مهيبا شديد الشكيمة حاميا لحوزته، أراد أنهم كانوا ذوى إرب وشدة لا يضيعون ثأرا. انظر: اللسان (مادة حيا) .
(2) انظر: السيرة (1/ 114) .(1/53)
حتى أجاز سالما حماره ... مستقبل القبلة يدعو جاره
قوله: «حكم يقضى» يعنى عامر بن ظرب العدوانى، وكانت العرب لا يكون بينها ثائرة ولا عضلة «1» فى قضاء إلا أسندوا ذلك إليه ثم رضوا بما قضى فيه.
فاختصم إليه، فى بعض ما كانوا يختلفون فيه، فى رجل خنثى له ما للرجل وله ما للمرأة، أيجعله رجلا أو امرأة؟ ولم يأتوه بأمر كان أعضل منه.
فقال: حتى أنظر فى أمركم، فو الله ما نزل بى مثل هذه منكم يا معشر العرب.
فاستأخروا عنه، فبات ليلته ساهرا يقلب أمره وينظر فى شأنه فلا يتوجه له من وجه، وكانت له جارية يقال لها: سخيلة، ترعى عليه غنمه، فكان يعاتبها إذا سرحت فيقول:
صبحت والله يا سخيل. وإذا راحت عليه يقول: مسيت والله يا سخيل. وذلك أنها كانت تؤخر السرح حتى يسبقها بعض الناس، وتؤخر الإراحة حتى يسبقها بعض الناس.
فلما رأت سهره وقلة قراره على فراشه قالت: ما لك لا أبالك! ما عراك فى ليلتك هذه؟! قال: ويلك دعينى، أمر ليس من شأنك. ثم عادت له بمثل قولها، فقال فى نفسه:
عسى أن تأتى مما أنا فيه بفرج. فقال: ويحك، اختصم إلى فى ميراث خنثى، أأجعله رجلا أو امرأة؟ فو الله ما أدرى ما أصنع وما يتوجه لى فيه وجه.
فقالت: سبحان الله! لا أبالك! اتبع القضاء المبال، أقعده، فإن بال من حيث يبول الرجل فهو رجل، وإن بال من حيث تبول المرأة فهو امرأة. قال: مسى سخيل بعدها أو ضحى، فرجتها والله. ثم خرج على الناس حين أصبح، فقضى بالذى أشارت إليه «2» .
وهذا كله من الخبر معترض قطع اتصال حديث صوفة وقصى، فنرجع الآن إليه ونصله بموضع انقطاعه.
حيث ذكر أن صوفة هى التى كانت تلى الإجازة بالناس من منى والدفع بهم من عرفة، وأن قصيا عزم على انتزاع ذلك من أيديهم والقيام به دونهم، واستدعى لمظاهرته على ذلك أخاه رزاحا فوصله مع من ذكر وصوله معه.
فلما كان ذلك العام فعلت صوفة مثل ما كانت تفعل، قد عرفت ذلك لها العرب، وهو دين فى أنفسهم من عهد جرهم وخزاعة.
__________
(1) العضلة: الأمر الشديد، وقيل: الإعوجاج، والعضلة أيضا من أسماء الداهية.
(2) انظر: السيرة (1/ 115) .(1/54)
فأتاهم قصى بمن معه من قومه من قريش وكنانة وقضاعة عند العقبة، فقال: لنحن أولى بهذا الأمر منكم.
فقاتلوه، فاقتتل الناس قتالا شديدا، ثم انهزمت صوفة وغلبهم قصى على ما كان بأيديهم من ذلك.
وانحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن قصى، وعرفوا أنه سيمنعهم كما منع صوفة، وأنه سيحول بينهم وبين الكعبة وأمر مكة، فلما انحازوا عنه بادأهم وأجمع لحربهم، وخرجت له خزاعة وبنو بكر فالتقوا، فاقتتلوا قتالا شديدا بالأبطح، حتى كثرت القتلى فى الفريقين جميعا، وفشت الجراح فيهم وأكثر ذلك فى خزاعة.
ثم إنهم تداعوا إلى الصلح وإلى أن يحكموا بينهم رجلا من العرب، فحكموا يعمر ابن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن قصى.
فقضى بينهم أن قصيا أولى بالكعبة وأمر مكة من خزاعة، وأن كل دم أصابه قصى من خزاعة وبنى بكر موضوع يشدخه «1» تحت قدميه، وأن ما أصابت خزاعة وبنو بكر من قريش وكنانة وقضاعة ففيه الدية مؤداة، وأن يخلى بين قصى وبين الكعبة ومكة.
فسمى يعمر بن عوف يومئذ الشداخ، لما شدخ من الدماء، ووضع منها، ويقال:
الشداح أيضا.
فولى قصى البيت وأمر مكة، وجمع قومه من منازلهم إلى مكة، وتملك على قومه وأهل مكة فملكوه، إلا أنه قد أقر العرب على ما كانوا عليه، وذلك أنه كان يراه دينا فى نفسه لا ينبغى تغييره.
فأقر آل صفوان وعدوان والنسأة ومرة بن عوف على ما كانوا عليه؛ حتى جاء الإسلام فهدم الله به ذلك كله «2» .
وبنو مرة بن عوف هم أهل البسل وقد تقدم ذكرهم.
وأما النسأة «3» فهم بنو فقيم بن عدى بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر.
__________
(1) يشدخه: الشدخ الكسر فى كل شىء رطب، وقيل: هو التهشيم يعنى به كسر اليابس وكل أجوف. وقال الليث: الشدخ كسرك الشىء الأجوف كالرأس ونحوه. انظر: اللسان (مادة اشدخ) .
(2) انظر: السيرة (1/ 116) .
(3) انظر: السيرة (1/ 54) .(1/55)
وهم الذين كانوا ينسأون الشهور على العرب فى الجاهلية، فيحلون الشهر من أشهر الحرم ويحرمون مكانه الشهر من أشهر الحل ويؤخرون ذلك الشهر، ففيه أنزل الله سبحانه: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ [التوبة: 37] .
وكان أول من نسأ الشهور منهم على العرب، فأحلت منها ما أحل وحرمت منها ما حرم: القلمس، وهو حذيفة بن عبد بن فقيم بن عدى، وتوارث ذلك بنوه من بعده، حتى كان آخرهم الذى قام عليه الإسلام أبو ثمامة جنادة بن عوف بن أمية بن قلع بن عباد بن حذيفة، وهو القلمس.
قال الزبير: وكان أبعدهم ذكرا وأطولهم أمرا، يقال: إنه نسأ أربعين سنة.
وكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه، فحرم الأشهر الحرم الأربعة:
رجبا، وذا القعدة، وذا الحجة، والمحرم. فإذا أراد أن يحل منها شيئا أحل المحرم فأحلوه، وحرم مكانه صفرا فحرموه، ليواطئوا عدة الأربعة الأشهر الحرم.
فإذا أرادوا الصدر قام فيهم فقال: اللهم إنى قد أحللت أحد الصفرين، الصفر الأول، ونسأت الآخر للعام المقبل.
وفى ذلك يقول عمير بن قيس، جذل الطعان، أحد بنى فراس بن غنم بن مالك بن كنانة، يفخر بالنسأة على العرب:
لقد علمت معد أن قومى ... كرام الناس إن لهم كراما «1»
فأى الناس فاتونا بوتر ... وأى الناس لم نعلك لجاما «2»
ألسنا الناسئين على معد ... شهور الحل نجعلها حراما
فهذا كان شأن النسأة فى الجاهلية، فأقره قصى على ما كان عليه، مع سائر ما ذكر إقراره العرب عليه، حتى جاء الإسلام فهدم الله به ذلك كله.
فكان قصى أول بنى كعب بن لؤى أصاب ملكا أطاع له به قومه، فكانت إليه
__________
(1) أن لهم كراما: أراد أن لهم آباء كراما أو أخلاقا كراما.
(2) الوتر: قيل طالب الثأر، وقيل: هو الظلم فى الزّحل، وقيل هو الزحل عامة. وقوله: لم نعلك لجاما: أى لم نزجرهم كما ينزجر الفرس باللجام. وتقول: أعلكت الفرس لجامه، إذا رددته من نشاطه فعلك اللجام.(1/56)
الحجابة والسقاية، والرفادة، والندوة، واللواء. فحاز شرف مكة كله، وقطع مكة رباعا بين قومه، فأنزل كل قوم من قريش منازلهم من مكة التى أصبحوا عليها.
ويزعم الناس أن قريشا هابوا قطع الشجر من الحرم فى منازلهم، فقطعها قصى بيده وأعوانه؛ فسمته قريش مجمعا، لما جمع من أمرها، وتيمنت بأمره، فما تنكح امرأة ولا يزوج رجل من قريش، ولا يشاورون فى أمر نزل بهم، ولا يعقدون لواء لحرب قوم غيرهم إلا فى داره، يعقده لهم بعض ولده، ولا يعذر غلام إلا فى داره، ولا تدرع جارية «1» من قريش إلا فى داره، يشق عليها فيها درعها إذا بلغت ذلك، ثم تدرعه ثم ينطلق بها إلى أهلها.
ولا تخرج عير من قريش فيرحلون إلا من داره، ولا يقدمون إلا نزلوا فى داره.
فكان أمره فى قريش فى حياته ومن بعد موته كالدين المتبع، لا يعمل بغيره.
واتخذ لنفسه الندوة، وجعل بابها إلى المسجد الكعبة، ففيها كانت قريش تقضى أمورها.
ولما فرغ قصى من حربه انصرف أخوه رزاح إلى بلاده بمن معه من قومه، فلما استقر فى بلاده نشره الله ونشر حبا، فهما قبيلا عذرة اليوم.
فهذا حديث قصى فى ولاية البيت بعد حليل بن حبشية وإخراج خزاعة عنه «2» .
وخزاعة تزعم أن حليلا أوصى بذلك قصيا وأمره به حين انتشر له من ابنته من الولد ما انتشر، وقال: أنت أولى بالكعبة وبالقيام عليها وبأمر مكة من خزاعة فعند ذلك طلب قصى ما طلب.
قال ابن إسحاق: ولم يسمع ذلك من غيرهم؛ فالله أعلم.
وقد ذكر الواقدى الأمرين على نحو ما ذكر ابن إسحاق.
قال: وقد سمعنا فى ذلك وجها آخر، ذكر أن أبا غبشان رجلا من خزاعة، كان ولى الكعبة فباع حجابتها من قصى بن كلاب بيعا. وذكر غيره أنه باع منه مفتاح الكعبة بزق خمر. فلذلك قيل: أخسر صفقة من أبى غبشان.
__________
(1) تدرع جارية: من درع: ودرع المرأة: قميصها وهو أيضا الثوب الصغير فى بيتها والجمع أدرع. وفى التهذيب: الدرع: ثوب تجوب المرأة وسطه وتجعل له يدين وتخيط فرجته. انظر: اللسان (مادة درع) .
(2) انظر: السيرة (1/ 115) .(1/57)
وذكر الواقدى أيضا بإسناد له، أن رجلا من قضاعة يقال له: أبو الشموس؛ حدث عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وهو خليفة حديث قصى بن كلاب، وكيف استعان بإخوته على خزاعة، فاستمع له عمر وتعجب لأول الحديث وقال: ذكرتنا أمرا كان دثر منا، فالحمد لله رب العالمين، إن الله عز وجل ليصنع لهذا الحى من قريش، وهم أولى الناس أن يتقوا الله وتحسن سيرة من ولى منهم، بصنع الله لهم، جعل فيهم الإمامة وقبل ذلك النبوة.
قالوا: فلما كبر قصى ورق، وكان عبد الدار بكره، وكان عبد مناف قد شرف فى زمان أبيه وذهب كل مذهب، وعبد العزى وعبد، قال قصى لعبد الدار: أما والله يا بنى لألحقنك بالقوم وإن كانوا قد شرفوا عليك.
لا يدخل رجل منهم الكعبة حتى تكون أنت تفتحها له، ولا يعقد لقريش لواء إلا أنت بيدك، ولا يشرب رجل بمكة إلا من سقايتك، ولا يأكل أحد من أهل الحرم طعاما إلا من طعامك، ولا تقطع قريش أمرا من أمورها إلا فى دارك.
فأعطاه دار الندوة التى لا تقضى قريش أمرا من أمورها إلا فيها، وأعطاه الحجابة واللواء والسقاية والرفادة.
وكانت الرفادة خرجا تخرجه قريش فى كل موسم من أموالها إلى قصى بن كلاب، فيصنع به طعاما للحاج فيأكله من لم يكن له سعة ولا زاد «1» .
وذلك أن قصيا فرضها على قريش، فقال لهم حين أمرهم به: يا معشر قريش، إنكم جيران الله وأهل بيته وأهل الحرم، وإن الحجاج ضيف الله وزوار بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيام الحج حتى يصدروا عنكم» .
ففعلوا، فكانوا يخرجون لذلك كل عام من أموالهم خرجا فيدفعونه إليه، فيصنعه طعاما للناس أيام منى، فجرى ذلك من أمره فى الجاهلية على قومه حتى قام الإسلام، ثم جرى فى الإسلام إلى يومنا هذا، فهو الطعام الذى يصنعه السلطان كل عام بمنى للناس حتى ينقضى الحج.
فمضى أمر قصى فى عبد الدار ابنه، وجعل إليه كل ما كان بيده من أمر قومه؛ وكان قصى لا يخالف ولا يرد عليه شىء صنعه.
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 120) .(1/58)
ثم إن قصيا هلك، فأقام أمره فى قومه وفى غيرهم بنوه من بعده. فاختطوا مكة رباعا بعد الذى كان قصى قطع لقومه بها، فكانوا يقطعونها فى قومهم وفى غيرهم من حلفائهم ويبيعونها.
فأقامت قريش على ذلك معهم ليس بينهم اختلاف ولا تنازع «1» .
ثم إن بنى عبد مناف بن قصى: عبد شمس وهاشما والمطلب ونوفلا أجمعوا أن يأخذوا ما فى يدى بنى عبد الدار بن قصى مما كان قصى جعل إلى عبد الدار من الحجابة واللواء والسقاية والرفادة، ورأوا أنهم أولى بذلك منهم لشرفهم عليهم وفضلهم فى قومهم، فتفرقت عند ذلك قريش، فكانت طائفة منهم مع بنى عبد مناف على رأيهم يرون أنهم أحق به من بنى عبد الدار لمكانهم فى قومهم، وكانت طائفة مع بنى عبد الدار يرون ألا ينزع منهم ما كان قصى جعل إليهم.
فكان صاحب أمر بنى عبد مناف، عبد شمس بن عبد مناف؛ وذلك أنه كان أسنهم.
وكان صاحب أمر بنى عبد الدار عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار.
وكانت بنو أسد بن عبد العزى بن قصى، وبنو زهرة بن كلاب، وبنو تيم بن مرة ابن كعب، وبنو الحارث بن فهر مع بنى عبد مناف.
وكان بنو مخزوم بن يقظة بن مرة، وبنو سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب، وبنو جمح بن عمرو بن هصيص، وبنو عدى بن كعب مع بنى عبد الدار.
وخرجت عامر بن لؤى ومحارب بن فهر، فلم يكونوا مع واحد من الفريقين.
فعقد كل قوم على أمرهم حلفا مؤكدا على أن لا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا ما بل بحر صوفة «2» .
فأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبا «3» فوضعوها لأحلافهم فى المسجد عند
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 120)
(2) قال فى اللسان (مادة صوف) : صوف البحر شىء على شكل هذا الصوف الحيوانى واحدته صوفة، ومن الأبديات قولهم: لا آتيك ما بل بحر صوفة.
(3) قال فى السيرة: يزعمون أن بعض نساء بنى عبد مناف قد أخرجته لهما، ولم يسمها. وقال السهيلى فى الروض الأنف: سماها الزبير فى موضعين من كتابه فقال: هى أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوأمة أبيه. انظر: الروض الأنف (1/ 153) .(1/59)
الكعبة، ثم غمس القوم أيديهم فيها فتعاقدوا وتعاهدوا هم وحلفاؤهم، ثم مسحوا الكعبة بأيديهم توكيدا على أنفسهم، فسموا المطيبين.
وتعاقد بنو عبد الدار وتعاهدواهم وحلفاؤهم عند الكعبة حلفا مؤكدا على أن لا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا، فسموا الأحلاف.
ثم سوند بين القبائل ولز بعضها ببعض، فعبئت عبد مناف لبنى سهم، وعبئت بنو أسد لبنى عبد الدار، وعبئت زهرة لبنى جمح، وعبئت تيم لبنى مخزوم، وعبئت بنو الحارث بن فهر لبنى عدى، ثم قالوا: لتغن كل قبيلة من أسند إليها.
فبينما الناس على ذلك قد أجمعوا للحرب إذ تداعوا إلى الصلح على أن يعطوا بنى عبد مناف السقاية والرفادة، وأن تكون الحجابة واللواء والندوة لبنى عبد الدار كما كانت، ففعلوا، ورضى كل واحد من الفريقين بذلك، وتحاجز الناس عن الحرب، وثبت كل قوم مع من حالفوا، حتى جاء الله بالإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما كان من حلف فى الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا شدة» «1» .
فهذا حلف المطيبين «2» .
وقد كان فى قريش حلف آخر بعده، وهو حلف الفضول «3» ، تداعت إليه قبائل من قريش، فاجتمعوا إليه فى دار عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، لشرفه وسنه، فتعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول.
واختلف فى السبب الذى دعا قريشا إلى هذا الحلف، ولم سمى بهذا الاسم، فأما ما
__________
(1) أخرجه البيهقى فى السنن الكبرى (6/ 335) .
(2) انظر: السيرة (1/ 120- 122) .
(3) قال السهيلى فى الروض الأنف (1/ 155) : قال ابن قتيبة: كان قد سبق قريشا إلى مثل هذا الحلف جرهم فى الزمن الأول، فتحالف منهم ثلاثة هم ومن تبعهم، أحدهم: الفضل بن فضالة، والثانى: الفضل بن وداعة، والثالث: فضيل بن الحارث، هذا قول القتبى. وقال الزبير: الفضيل ابن شراعة، والفضل بن وداعة، والفضل بن قطاعة، فلما أشبه حلف قريش الآخر فعل هؤلاء الجرهميين سمى: حلف الفضول، والفضول جمع فضل، وهى أسماء أولئك الذين تقدم ذكرهم، وهذا الذى قال ابن قتيبة حسن.(1/60)
دعاهم إليه، فذكر الزبير وغيره أن رجلا من أهل اليمن من بنى زبيد قدم مكة معتمرا ومعه بضاعة له، فاشتراها رجل من بنى سهم، ويقال: إنه العاص بن وائل، فلوى الرجل بحقه، فسأله ماله فأبى عليه، وسأله متاعه فأبى عليه، فجاء إلى بنى سهم يستعديهم عليه، فأغلظوا له، فعرف أن لا سبيل إلى ماله، فطوف فى قبائل قريش يستعين بهم، فتخاذلت القبائل عنه، فلما رأى ذلك قام على الحجر، ويقال: بل أشرف على أبى قبيس حين أخذت قريش مجالسها ثم نادى بأعلى صوته ثم قال:
يا آل فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائى الدار والنفر
وأشعث محرم لم يقض حرمته ... بين الإله وبين الحجر والحجر
أقائم من بنى سهم بذمتهم ... أم ذاهب فى ضلال مال معتمر
فلما سمعت ذلك قريش أعظموه وتكلموا فيه، فقال المطيبون: والله لئن قمنا فى هذا لتغضبن الأحلاف، وقال الأحلاف: والله لئن تكلمنا فى هذا ليغضبن المطيبون. فقال ناس من قريش: تعالوا فلنكن حلفا فضولا دون المطيبين ودون الأحلاف، فلذلك قيل له:
حلف الفضول.
فاجتمعوا فى دار عبد الله بن جدعان، وصنع لهم طعاما كثيرا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ معهم قبل أن يوحى إليه، فاجتمعت بنو هاشم وبنو المطلب وزهرة وأسد وتيم، فتحالفوا على أن لا يظلم بمكة قريب ولا غريب ولا حر ولا عبد إلا كانوا معه، حتى يأخذوا له بحقه ويردوا إليه مظلمته من أنفسهم ومن غيرهم، ثم عمدوا إلى ماء من ماء زمزم فجعلوه فى جفنة، ثم بعثوا به إلى البيت فغسلت فيه أركانه، ثم أتوا به فشربوه، ثم انطلقوا إلى الرجل الذى تعدى على الرجل المستصرخ، العاص بن وائل أو غيره. فقالوا:
والله لا نفارقك حتى تؤدى إليه حقه.
فأعطى الرجل حقه، فمكثوا كذلك لا يظلم أحد حقه بمكة إلا أخذوه له، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد شهدت فى دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لى به حمر النعم، ولو أدعى به فى الإسلام لأجبت» «1» .
وحكى الزبير أيضا أنه إنما سمى حلف الفضول لأنهم تحالفوا على أن لا يتركوا لأحد عند أحد فضلا إلا أخذوه. وقيل: إنما سمى بذلك لأنه لما تداعى له من ذكر من قبائل قريش كره ذلك سائر المطيبين والأحلاف بأسرهم، وسموه حلف الفضول، عيبا
__________
(1) أخرجه البيهقى فى السنن الكبرى (6/ 167) ، القرطبى فى تفسيره (6/ 33، 10/ 169) ، ابن كثير فى البداية والنهاية (2/ 291) .(1/61)
له، وقالوا: هذا من فضول القوم.
وقيل: بل كان هذا الحلف على مثل حلف تقدم إليه نفر من جرهم يقال لهم:
الفضل وفضال والفضيل، فسمى لذلك هذا الآخر حلف الفضول، وأيا ما كان من ذلك، فهى مأثره لقريش من مآثرها الكرام، وآثارها العظام، نالتهم فيه بركة حضور رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو وإن كان فعلا جاهليا دعتهم السياسة إليه، فقد صار لحضور رسول الله صلى الله عليه وسلم له وما قاله بعد النبوة فيه وأكده من أمره، حكما شرعيا وفعلا نبويا.
وقد نشأ بين حسين بن على بن أبى طالب رضى الله عنهما، وبين الوليد بن عتبة بن أبى سفيان زمن معاوية، والوليد يومئذ أمير المدينة من قبله منازعة فى مال كان بينهما بذى المروة، فكأن الوليد تحامل على حسين فى حقه لسلطانه، فقال له حسين: أحلف بالله لتنصفنى من حقى أو لآخذن سيفى ثم لأقومن فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لأدعون بحلف الفضول.
فقال عبد الله بن الزبير وهو عند الوليد: وأنا أحلف بالله لئن دعا به لآخذن سيفى ثم لأقومن معه حتى ينصف من حقه أو نموت جميعا. وبلغت المسور بن مخرمة الزهرى فقال مثل ذلك. وبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمى فقال مثل ذلك. فلما بلغ ذلك الوليد أنصف الحسين من حقه حتى رضى. ولم تكن بنو عبد شمس دخلت فى هذا الحلف.
وقد سأل عبد الملك بن مروان عن ذلك محمد بن جبير بن مطعم إذ قدم عليه حين قتل ابن الزبير، واجتمع الناس على عبد الملك بن مروان، وكان محمد بن جبير أعلم قريش، فلما دخل عليه قال: يا أبا سعيد، ألم نكن نحن وأنتم، يعنى بنى عبد شمس وبنى نوفل ابنى عبد مناف، فى حلف الفضول؟ قال: أنت أعلم. قال عبد الملك: لتخبرنى يا أبا سعيد بالحق من ذلك. فقال: لا والله، لقد خرجنا منه نحن وأنتم. قال: صدقت.
فكان عتبة بن ربيعة بن عبد شمس يقول: لو أن رجلا وحده خرج من قومه لخرجت من عبد شمس، حتى أدخل فى حلف الفضول.
وكانت لقريش أحلام عظام، كانوا منها فى جاهليتهم على مثل السلطان الضابط، عناية من الله بهم ومنا منه سبحانه عليهم، هم سكان الحرم، وأهل الله وحجاب بيته، وأهل السقاية والرفادة والرياسة واللواء والندوة ومكارم مكة، وكانوا على إرث من دين أبويهم إبراهيم وإسماعيل صلى الله عليهما، من قرى الضيف ورفد الحاج وتعظيم(1/62)
الحرم ومنعه من البغى فيه والإلحاد، وقمع الظالم ومنع المظلوم.
إلا أنه دخلت على أوليتهم أحداث غيرت أصول الحنيفية عندهم، وطال الزمان حتى أفضى ذلك بهم إلى جهالات بشرائع الدين وضلالات عن سنن التوحيد فتدارك الله ذلك كله بنبيه صلى الله عليه وسلم، فهدى من الضلالة وعلم من الجهالة.
فيقال: إنه كان أول من غير الحنيفية دين إبراهيم ونصب الأوثان حول الكعبة ودعا إلى عبادتها: عمرو بن لحى بن قمعة بن إلياس بن مضر.
روى أبو هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون الخزاعى: «يا أكثم، رأيت عمرو بن لحى بن قمعة بن خندف يجر قصبه فى النار، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا بك منه» . فقال أكثم: عسى أن يضرنى بشبهه يا نبى الله، قال: «لا، لأنك مؤمن وهو كافر، إنه كان أول من غير دين إسماعيل، فنصب الأوثان وبحر البحيرة وسيب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحامى» «1» .
فالبحيرة «2» : عند العرب الناقة تشق أذنها ولا يركب ظهرها ولا يجزّ وبرها ولا يشرب لبنها إلا ضيف، أو يتصدق به، وتهمل لآلهتهم.
والسائبة: التى ينذر الرجل إن برئ من مرضه أو أصاب أمرا يطلبه أن يسيبها ترعى لا ينتفع بها.
والوصيلة: التى تلد أمها اثنين فى كل بطن، فيجعل صاحبها لآلهته الإناث منها ولنفسه الذكور، فتلدها أمها ومعها ذكر فى بطن فيقولون: وصلت أخاها، فيسيب أخوها معها فلا ينتفع به.
والحامى: الفحل إذا نتج له عشر إناث متتابعات ليس بينهن ذكر حمى ظهره، فلم يركب ولم يجز وبره وخلى فى إبله يضرب فيها، لا ينتفع منه بغير ذلك.
فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم أنزل عليه: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [المائدة:
103] .
__________
(1) أخرجه الطبرى فى تفسيره (7/ 56) ، ابن كثير فى تفسيره (3/ 204) ، الألبانى فى السلسلة الصحيحة (1677) .
(2) انظر: السيرة (1/ 90- 92) ، أمر البحيرة والسائبة والوصيلة والحامى.(1/63)
وذكر بعض أهل العلم أن عمرو بن لحى خرج من مكة إلى الشام فى بعض أموره، فلما قدم مآب من أرض البلقاء وبها يومئذ العماليق وهم من ولد عملاق، ويقال:
عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، رآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التى أراكم تعبدون؟ قالوا: هذه أصنام نعبدها ونستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا.
فقال لهم: أفلا تعطوننى منها صنما فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه؟ فأعطوه صنما يقال له: «هبل» ؛ فقدم به مكة، فنصبه وأمر الناس بعبادته وتعظيمه.
قال ابن إسحاق: ويزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة فى بنى إسماعيل، أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن منهم حين ضاقت عليهم والتمسوا الفسيح فى البلاد، إلا حمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم، فحيثما نزلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة. حتى سلخ ذلك بهم إلى أن كانوا يعبدون ما استحسنوه من الحجارة، وأعجبهم حتى خلفت الخلوف «1» ونسوا ما كانوا عليه واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم قبلهم من الضلالات «2» .
وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم يتمسكون بها، من تعظيم البيت والطواف به والحج والعمرة والوقوف على عرفة والمزدلفة وهدى البدن والإهلال بالحج والعمرة، مع إدخالهم فيه ما ليس منه.
فكانت كنانة وقريش إذا أهلوا قالوا: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك تملكه وما ملك» ، فيوحدونه بالتلبية، ثم يدخلون معه أصنامهم، ويجعلون ملكها بيده! يقول الله تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف: 106] ، أى ما يوحدوننى بمعرفة حقى إلا جعلوا معى شريكا من خلقى.
وقد كانت لقوم نوح أصنام عكفوا عليها، قص الله تبارك وتعالى خبرها على رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال: وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً [نوح: 23] .
وذكر الواقدى بإسناد له عن أبى هريرة أن أول ما عبدت الأصنام فى زمن نوح عليه
__________
(1) الخلوف: جمع خلاف، وهو القرن بعد القرن.
(2) انظر: السيرة (1/ 82) .(1/64)
السلام، وأن ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا كانوا رجالا صالحين من قوم نوح، أهل عبادة وفضل، فماتوا، فوجد عليهم أهلوهم وتوحش الناس لفقدهم، فقال لهم رجل: ألا أصورهم لكم صورا من خشب فتنظرون إليهم وتسكنون إلى رؤيتهم؟ قالوا: بلى إن قدرت، قال: أنا أقدر على تصويرهم، ولا أقدر أن أنفخ الروح فيهم.
فجاء بالصور كهيئتهم أحياء، فأخذ أهل كل بيت صورة صاحبهم فوضعوها فى منزلهم ينظرون إليها، فأذهب ذلك بعض حزنهم. فكانوا على ذلك ما شاء الله، حتى هلك ذلك القرن، ثم خلف قرن آخر ثم ثالث بعده فكانوا على ما كان عليه القرن الأول حتى هلكوا.
ثم خلف القرن الرابع، فقالوا: لو أنا عبدنا هؤلاء لقربونا إلى الله وشفعوا لنا عنده، ولا يزيدونا إلا خيرا إنما نريد ما يقربنا منه، فعبدوها حتى هلكوا، وعبدها من بعدهم.
فلما غرقت الأرض زمن نوح عليه السلام، غرقت تلك الأصنام، فمكثت ما شاء الله أن تمكث، ثم استخرجها عمرو بن لحى ففرقها فى القبائل. فالله تعالى أعلم.
وقد خرج البخارى فى صحيحه من حديث عبد الله بن عباس موقوفا عليه فى التفسير نحو ما ذكره الواقدى مختصرا، أن ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا أسماء رجال صالحين من قوم نوح عليه السلام، فلما هلكوا أوحى الشياطين إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التى كانوا يجلسون إليها أنصابا وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت.
قال ابن إسحاق: واتخذ أهل كل دار فى دارهم صنما يعبدونه، فإذا أراد الرجل منهم سفرا تمسح به حين يركب، فكان ذلك آخر ما يصنع حين يتوجه إلى سفره، وإذا قدم من سفره تمسح به، وكان أول ما يبدأ به قبل أن يدخل على أهله، فلما بعث الله رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بالتوحيد قالت قريش: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص: 5] «1» .
__________
(1) ذكر الإمام أحمد فى مسنده (1/ 227) أن هذه الآية نزلت حين مرض أبو طالب فدخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل وشكوا النبى صلى الله عليه وسلم لعمه أبى طالب فقال له أبو طالب: أى ابن أخى ما بال قومك يشكونك يزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وأكثروا عليه من القول وتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا عم إنى أريدهم على لمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب وتؤدى إليهم بها العجم الجزية» ، ففزعوا لكلمته ولقوله، فقال القوم: كلمة واحدة، نعم وأبيك عشرا، قالوا: فما هى؟ قال: «لا إله إلا الله» ، فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم، وهم يقولون: أَجَعَلَ-(1/65)
وكانت العرب قد اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهى بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحجاب، وتهدى إليها كما تهدى للكعبة، وتطوف بها كطوافها، وتنحر عندها، وهى تعرف فضل الكعبة عليها، لأنها قد عرفت أنها بيت إبراهيم عليه السلام ومسجده.
وسيمر فى تضاعيف هذا الكتاب بعض أخبار هذه الطواغيت وكيف جعل الله عاقبة أمرها خسرا، فأزهق الحق باطلها وعفى الإسلام آثارها، وأكمل الله تعالى دينه، وتم نوره ونعمته، ونصر دين الهدى والحق، فأظهره على الدين كله.
ومع إصفاق العرب مضرها ويمنها على هذا الضلال، فقد كان وقع إلى بعضهم باليمن دين اليهودية فدانوا به، ووقع أيضا دين النصرانية بنجران من أرض العرب على ما نذكره.
فأما موقع اليهودية باليمن فمن جهة تبع الآخر، وهو تبان أسعد أبو كرب بن كلكى ابن كرب بن زيد، وهو تبع الأول بن عمرو ذى الأذعار بن أبرهة ذى المنار. وتبان أسعد هو الذى قدم المدينة وساق الحبرين من يهود إلى اليمن، وعمر البيت الحرام وكساه.
وكان قد جعل طريقه حين أقبل من المشرق على المدينة، وكان قد مر بها فى بدأته فلم يهج أهلها وخلف بين أظهرهم ابنا له فقتل غيلة، فقدمها، وهو مجمع لإخرابها واستئصال أهلها وقطع نخلها.
فجمع له هذا الحى من الأنصار، ورئيسهم عمرو بن ظلة أخو بنى النجار، وقد كان رجل من بنى عدى بن النجار يقال له: أحمر، عدا على رجل من أصحاب تبع، حين نزل بهم، فقتله. وذلك أنه وجده فى عذق له يجده «1» ، فضربه بمنجله فقتله، وقال: إنما التمر لمن أبره «2» . فزاد ذلك تبعا حنقا عليهم.
فاقتتلوا، فتزعم الأنصار أنهم كانوا يقاتلونه بالنهار ويقرونه بالليل! فيعجبه ذلك منهم، ويقول: والله إن قومنا لكرام.
__________
- الْآلِهَةَ الآية، فزل فيهم: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. وأخرجه الترمذى فى كتاب التفسير (3232) . وذكره ابن كثير فى البداية (3/ 135) .
(1) العذق: كل غصن له شعب، وقيل: هى النخلة عند أهل الحجاز، ويجده: أى يقطعه.
(2) أبره: أى أصلحه، والأبر: العامل، والمؤتبر: رب الزرع، والمأبور: الزرع والنخل المصلح. انظر: اللسان (مادة أبر) .(1/66)
فبينا تبع على ذلك من حربهم إذ جاءه حبران من أحبار يهود من بنى قريظة عالمان راسخان، حين سمعا بما يريد من إهلاك المدينة وأهلها، فقالا له: أيها الملك: لا تفعل، فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بيتك وبينها، ولم نأمن عليك عاجل العقوبة. فقال لهما: ولم ذلك؟ قالا: هى مهاجر نبى يخرج من هذا الحرم من قريش فى آخر الزمان، تكون داره وقراره.
فتناهى ورأى أن لهما علما، وأعجبه ما سمع منهما، فانصرف عن المدينة واتبعهما على دينهما.
وهذا الحى من الأنصار يزعمون أنه إنما كان حنق تبع على هذا الحى من يهود، الذين كانوا بين أظهرهم، وإنما أراد هلاكهم فمنعوهم منه، ثم انصرف عنهم، ولذلك قال فى شعره:
حنقا على سبطين حلا يثربا ... أولى لهم بعقاب يوم مفسد
وذكر ابن هشام أن الشعر الذى فيه هذا البيت مصنوع «1» .
وكان تبع وقومه أصحاب أوثان يعبدونها، فوجه إلى مكة وهى طريقه إلى اليمن، حتى إذا كان بين عسفان وأمج «2» أتاه نفر من هذيل بن مدركة فقالوا له: أيها الملك:
ألا ندلك على بيت مال داثر أغفلته الملوك قبلك، فيه اللؤلؤ والزبرجد والياقوت والذهب والفضة؟ قال: بلى. قالوا: بيت بمكة يعبده أهله ويصلون عنده «3» .
وإنما أراد الهذليون هلاكه بذلك، لما عرفوا من هلاك من أراده من الملوك وبغى عنده. فلما أجمع لما قالوا أرسل إلى الحبرين، فسألهما عن ذلك، فقالا: ما أراد القوم إلا هلاكك وهلاك جندك، وما نعلم بيتا لله اتخذه فى الأرض لنفسه غيره، ولئن فعلت ما دعوك إليه لتهلكن وليهلكن من معك جميعا.
__________
(1) قال السهيلى فى الروض الأنف (1/ 29) : الشعر الذى زعم ابن هشام أنه مصنوع، قد ذكره فى كتاب التيجان وهو قصيد مطول أوله:
ما بال عينيك لا تنام كأنما ... كحلت مآقيها بسم الأسود
انتهى باختصار.
(2) أمج: بفتح أوله وثانيه وبالجيم، قرية جامعة ما بين مكة والمدينة على أميال من قديد لها سور، وهى كثيرة المزارع وأهلها من خزاعة، وبها آثار كثيرة وبها نخل، وهى محلة بنى نمرة وجماعة من الناس. انظر: الروض المعطار (ص 30، 31) .
(3) انظر: السيرة (1/ 37) .(1/67)
قال: فماذا تأمرانى أن أصنع إذا قدمت عليه؟ قالا: تصنع عنده ما يصنع أهله، تطوف به وتعظمه وتكرمه، وتحلق رأسك عنده، وتذلل له حتى تخرج من عنده.
قال: فما يمنعكما أنتما من ذلك؟ قالا: أما والله إنه لبيت أبينا إبراهيم، وإنه لكما أخبرناك، ولكن أهله حالوا بيننا وبينه بالأوثان التى نصبوها حوله، وبالدماء التى يهريقون عنده، وهم نجس أهل شرك؛ أو كما قالا له.
فعرف نصحهما وصدق حديثهما، فقرب النفر من هذيل فقطع أيديهم وأرجلهم.
ثم مضى حتى قدم مكة فطاف بالبيت ونحر عنده، وحلق رأسه، وأقام بمكة ستة أيام فيما يذكرون ينحر بها للناس ويطعم أهلها ويسقيهم العسل.
ورأى فى المنام أن يكسو البيت فكساه الخصف «1» ، ثم أرى أن يكسوه أحسن من ذلك، فكساه المعافر، ثم أرى أن يكسوه أحسن من ذلك، فكساه الملاء والوصائل، فكان تبع فيما يزعمون أول من كسا البيت.
وأوصى به ولاته من جرهم، وأمرهم بتطهيره، وأن لا يقربوه دما ولا ميتة ولا مئلاة «2» وهى المحائض وجعل له بابا ومفتاحا. ثم خرج موجها إلى اليمن بمن معه من جنوده وبالحبرين، حتى إذا دخل اليمن دعا قومه إلى الدخول فيما دخل فيه، فأبوا عليه، حتى يحاكموه إلى النار التى كانت باليمن.
ويقال: إنه لما دنا من اليمن ليدخلها حالت حمير بينه وبين ذلك، وقالوا: لا تدخلها علينا وقد فارقت ديننا. فدعاهم إلى دينه وقال: إنه خير من دينكم. قالوا: فحاكمنا إلى النار، قال: نعم.
وكان باليمن فيما يزعم أهل اليمن، نار تحكم بينهم فيما يختلفون فيه، تأكل الظالم ولا تضر المظلوم.
فخرج قومه بأوثانهم وما يتقربون به فى دينهم، وخرج الحبران بمصاحفهما فى أعناقهما متقلديها، حتى قعدوا للنار عند مخرجها الذى تخرج منه، فخرجت النار عليهم، فلما أقبلت نحوهم حادوا عنها وهابوها، فذمرهم من حضرهم من الناس وأمروهم بالصبر لها. فصبروا حتى غشيتهم فأكلت الأوثان وما قربوا معها، ومن حمل ذلك من
__________
(1) الخصف: سفائف تسف من سعف النخل، فيسوى منها شقائق تلبس بيوت الأعراب، وقيل: هى ثياب غلاظ. انظر: اللسان (مادة/ خصف) .
(2) مئلاة: هى خرقة الحائض وهى أيضا خرقة النائحة.(1/68)
رجال حمير.
وخرج الحبران بمصاحفهما فى أعناقهما تعرق جباههما لم تضرهما. فأصفقت عند ذلك حمير على دينه. من هنالك وعن ذلك كان أصل اليهودية باليمن.
قال ابن إسحاق «1» : وقد حدثنى محدث أن الحبرين ومن خرج من حمير إنما اتبعوا النار ليردوها وقالوا: من ردها فهو أولى بالحق فدنا منها رجال حمير بأوثانهم ليردوها، فدنت منهم لتأكلهم، وحادوا عنها ولم يستطيعوا ردها، ودنا منها الحبران بعد ذلك، وجعلا يتلوان التوراة وتنكص «2» عنهما حتى رداها إلى مخرجها الذى خرجت منه.
فأصفقت عند ذلك حمير على دينهما. فالله أعلم أى ذلك كان.
وكان رئام بيتا لهم يعظمونه وينحرون عنده ويكلمون منه إذ كانوا على شركهم، فقال الحبران لتبع: إنما هو شيطان يفتنهم فخل بيننا وبينه. قال: فشأنكما به. فاستخرجا منه فيما يزعم أهل اليمن، كلبا أسود، فذبحاه ثم هدما ذلك الييت.
قال ابن إسحاق «3» : فبقاياه اليوم كما ذكر لى، بها آثار الدماء التى كانت تهراق عليه. وتبع هذا هو أحد الملوك الذين وطئوا البلاد ودوخوا الأرض ودانت لهم الممالك، ويقال: إنه المسمى فى قوله تعالى: أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ [الدخان: 37] ، ذلك لأنه لما آمن فى آخر عمره ووحد، خالفته حمير فتفرقوا عنه، فانتقهم الله منهم.
وحكى الحسن بن أحمد الهمدانى: أنه أول ملك بشر برسول الله صلى الله عليه وسلم وآمن به، وهو رتب الملوك وأبناء الملوك من قومه فى قبائل العرب والعجم ومدائنها وأمصارها، وكان لكل قبيلة من العرب ولكل حى من العجم ملك من قومه، إما حميرى وإما كهلانى يسمع له ويطاع.
ويذكر أنه جمع الملوك وأبناء الملوك والأقاول وأبناء الأقاول من قومه، وقال لهم:
أيها الناس: إن الدهر نفد أكثره ولم يبق إلا أقله، وإن الكثير إذا قل إلى النقصان
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 40- 41) .
(2) تنكص: من النكوص: وهو الإحجام عن شىء، وقيل: هو الرجوع إلى الوراء، وقيل: هو القهقرى. انظر: اللسان (مادة/ نكص) .
(3) انظر: السيرة (1/ 41) .(1/69)
أجرى منه إلى الزيادة، سارعوا إلى المكارم، فإنها تقربكم إلى الفلاح، واعملوا، على أنه من سلم من يومه لم يسلم من غده، ومن سلم من الغد لا يسلم مما بعده، وإنكم لتؤوبون مآب الآباء والأجداد وتصيرون إلى ما صاروا إليه، والموت كل يوم أقرب إلى المرء من حياته منه، ولكل زمان أهل، ولكل دائرة سبب، وسبب عطلان هذه الفترة التى من عز فيها بز من هو دونه، ظهور نبى يعز الله به دينه ويخصه بالكتاب المبين، على يأس من المرسلين، رحمة للمؤمنين وحجة على الكافرين، فليكن ذلك عندكم وعند أبنائكم بعدكم وأبناء أبنائكم قرنا فقرنا وجيلا فجيلا، ليتوقعوا ظهوره وليؤمنوا به وليجتهدوا فى نصره على كافة الأحياء، حتى يفىء الناس له إلى أمر الله.
وأنشد له:
شهدت على أحمد أنه ... رسول من الله بارى النسم
فلو مد دهرى إلى دهره ... لكنت وزيرا له وابن عم
وألزمت طاعته كل من ... على الأرض من عرب أو عجم
ولكن قولى له دائما ... سلام على أحمد فى الأمم
فى أبيات ذكرها، وأشعار غير هذا أثبت فى «إكليله» كثيرا منها.
قال: وذكروا أن الملوك وأبناء الملوك من حمير وكهلان لم تزل تتوقع ظهور النبى صلى الله عليه وسلم وتبشر به، وتوصى بالطاعة له والإيمان به والجهاد معه والقيام بنصره، منذ ذلك العصر إلى أن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا بذلك حين بعث من أحرص الناس على نصره وطاعته.
فمنهم من سمع له وأطاع وآمن به قبل أن يراه، ومنهم من وصل إليه كتابه فسمع وأطاع وآمن وصدق، ومنهم من آواه ونصره وأيده وجاهد فى سبيل الله دونه، نطق بذلك الكتاب المنير فى قوله: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [الحشر: 9] .
وقوله تبارك وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة: 54، 55] إلى آخر الآية.
قال الهمدانى: عن أبى الحسن الخزاعى يقال: إنهم همدان. ثم أشار إلى ذكر سيف(1/70)
ابن ذى يزن للنبى صلى الله عليه وسلم وما ألقاه من أمره إلى جده عبد المطلب عند وفادته عليه.
قال: وذكروا أنه لم يكن لسيف بن ذى يزن ذلك العلم فى قصة النبى صلى الله عليه وسلم إلا من جهة تبع، وما تناهى إليه مما كان ألقاه إليهم وعرفهم به من خبر النبى صلى الله عليه وسلم، وسنذكر خبر سيف هذا فى موضعه إن شاء الله.
وأما موقع النصرانية «1» بأرض العرب، فقد كان بنجران بقايا من أهل دين عيسى ابن مريم على الإنجيل، أهل فضل واستقامة من أهل دينهم، لهم رأس يقال له عبد الله ابن الثامر، وكان موقع أصل ذلك الدين بنجران، وهى بأوسط أرض العرب فى ذلك الزمان، وأهلها وسائر العرب كلها أهل أوثان يعبدونها أن رجلا من بقايا أهل ذلك الدين يقال له: «فيميون» ، وقع بين أظهرهم فحملهم عليه فدانوا به.
فحدث وهب بن منبه: أن فيميون كان رجلا صالحا مجتهدا زاهدا فى الدنيا مجاب الدعوة، وكان سائحا ينزل القرى، لا يعرف فى قرية إلا خرج منها إلى قرية لا يعرف بها، وكان لا يأكل إلا من كسب يده، وكان بناء يعمل الطين، وكان يعظم الأحد، فإذا كان يوم الأحد لم يعمل فيه شيئا، وخرج إلى فلاة من الأرض، فصلى فيها حتى يمسى.
قال: وكان فى قرية من قرى الشام يعمل عمله ذلك مستخفيا، ففطن لشأنه رجل من أهلها يقال له صالح، فأحبه صالح حبا لم يحب شيئا كان قبله مثله، فكان يتبعه حيث ذهب ولا يفطن له فيميون، حتى خرج مرة فى يوم الأحد إلى فلاة من الأرض كما كان يصنع، وقد أتبعه صالح، وفيميون لا يدرى، فجلس صالح منه منظر العين مستخفيا منه لا يحب أن يعلم بمكانه، وقام فيميون يصلى، فبينا هو يصلى إذ أقبل نحوه التنين، الحية ذات الرؤس السبعة، فلما رآها فيميون دعا عليها فماتت، ورآها صالح ولم يدر ما أصابها فخاف عليه فعيل عوله فصرخ: يا فيميون التنين قد أقبل نحوك.
فلم يلتفت إليه وأقبل على صلاته حتى فرغ منها.
وأمسى فانصرف وعرف أنه قد عرف، وعرف صالح أنه قد رأى مكانه، فقال له: يا فيميون تعلم والله أنى ما أحببت شيئا قط حبك، وقد أردت صحبتك والكينونة معك حيثما كنت.
قال: ما شئت، أمرى كما ترى، فإن علمت أنك تقوى عليه فنعم. فلزمه صالح، وقد كاد أهل القرية يفطنون لشأنه، وكان إذا ما جاءه العبد به الضر دعا له فشفى، وإذا
__________
(1) راجع السيرة (1/ 46) ، وما بعدها. أمر عبد الله بن الثامر، وأصحاب الأخدود.(1/71)
دعى إلى أحد به ضر لم يأته.
وكان لرجل من أهل القرية ابن ضرير، فسأل عن شأن فيميون، فقيل له: إنه لا يأتى أحدا دعاه، ولكنه رجل يعمل للناس البنيان بالأجر، فعمد الرجل إلى ابنه ذلك فوضعه فى حجرته وألقى عليه ثوبا، ثم جاءه فقال: يا فيميون، إنى قد أردت أن أعمل فى بيتى عملا، فانطلق معى حتى تنظر إليه فأشارطك عليه.
فانطلق معه حتى دخل حجرته، ثم قال له: ما تريد أن تعمل فى بيتك هذا؟ قال:
كذا وكذا. ثم انتشط الثوب عن الصبى وقال: يا فيميون: عبد من عباد الله أصابه ما ترى فادع الله له. فدعا له فيميون فقام الصبى ليس به بأس «1» .
وعرف فيميون أنه قد عرف، فخرج من القرية، واتبعه صالح، فبينا هو يمشى فى بعض الشام إذ مر بشجرة عظيمة فناداه منها رجل فقال: يا فيميون ما زلت أنتظرك وأقول: متى هو جاء، حتى سمعت صوتك فعرفت أنك هو، لا تبرح حتى تقوم على، فإنى ميت الآن.
قال: فمات. وقام عليه حتى واراه، ثم انصرف ومعه صالح، حتى وطئا بعض أرض العرب، فاحتفظتهما سيارة من بعض العرب، فخرجوا بهما حتى باعوهما بنجران، وأهل نجران يومئذ على دين العرب يعبدون نخلة طويلة بين أظهرهم لها عيد فى كل سنة، إذا كان ذلك العيد علقوا عليها كل ثوب حسن وجدوه وحلى النساء، ثم خرجوا إليها فعكفوا عليها يوما.
فابتاع فيميون رجل من أشرافهم، وابتاع صالحا آخر، فكان فيميون إذا قام من الليل يصلى فى بيت أسكنه إياه سيده، استسرج له البيت نورا حتى يصبح، من غير مصباح، فرأى ذلك سيده فأعجبه ما يرى منه، فسأله عن دينه فأخبره به، وقال له فيميون: إنما أنتم فى باطل، إن هذه النخلة لا تضر ولا تنفع، لو دعوت عليها إلهى الذى أعبد أهلكها، وهو الله وحده لا شريك له، فقال له سيده: فافعل، فإنك إن فعلت دخلنا فى
__________
(1) قال فى الروض الأنف (1/ 46) : ذكر الطبرى قصة الرجل الذى دعى لابنه فشفى بأتم مما ذكره ابن إسحاق، قال: فيميون حين دخل الرجل وكشف له عن ابنه: اللهم عبد من عبادك دخل عليه عدوك فى نعمتك ليفسدها عليه فاشفه وعافه وامنعه منه، فقام الصبى ليس به بأس، فتبين من هذا أن الصبى كان مجنونا لقوله: دخل عليه عدوك: يعنى الشيطان، وليس هذا فى حديث ابن إسحاق.(1/72)
دينك وتركنا ما نحن عليه.
فقام فيميون فتطهر وصلى ركعتين، ثم دعا الله عليها، فأرسل الله ريحا فجعفتها من أصلها فألقتها. فاتبعه عند ذلك أهل نجران على دينه، فحملهم على الشريعة من دين عيسى ابن مريم عليه السلام، ثم دخلت عليهم الأحداث التى دخلت على أهل دينهم بكل أرض، فمن هنالك كانت النصرانية بنجران، فيما ذكر وهب بن منبه فى حديثه هذا.
وأما محمد بن كعب القرظى، وبعض أهل نجران، فذكروا أن أهل نجران كانوا أهل شرك، يعبدون الأوثان، وكان فى قرية من قراها ساحر يعلم غلمان أهل نجران السحر، فلما نزلها فيميون ولم يسمه محمد بن كعب ولا شركاؤه فى الحديث، قالوا: رجل نزلها ابتنى خيمة بين نجران وبين تلك القرية التى بها الساحر، فجعل أهل نجران يرسلون غلمانهم إلى ذلك الساحر، فبعث الثامر ابنه عبد الله مع غلمان أهل نجران، فكان إذا مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى من صلاته وعبادته، فجعل يجلس إليه ويسمع منه، حتى أسلم فوحد الله وعبده، وجعل يسأله عن شرائع الإسلام، حتى إذا فقه فيه جعل يسأله عن الاسم الأعظم، وكان يعلمه، فكتمه إياه، فقال: يا ابن أخى إنك لن تحمله، أخشى عليك ضعفك عنه.
والثامر أبو عبد الله بن الثامر، لا يظن إلا أن ابنه يختلف إلى الساحر كما يختلف الغلمان.
فلما رأى عبد الله أن صاحبه قد ضن به عنه وتخوف ضعفه فيه، عمد إلى قداح فجمعها، ثم لم يبق لله اسما يعلمه إلا كتبه فى قدح، لكل اسم قدح، حتى إذا أحصاها أو قد لها نارا، ثم جعل يقذفها فيها قدحا قدحا، حتى إذا مر بذلك الاسم الأعظم قذف فيها بقدحه فوثب القدح حتى خرج منها لم تضره شيئا، فأخذه ثم أتى صاحبه فأخبره أنه قد علم الاسم الذى كتمه، فقال: وما هو؟ قال: هو كذا وكذا قال: وكيف علمته؟ فأخبره بما صنع، قال أى ابن أخى، قد أصبته فأمسك على نفسك وما أظن أن تفعل.
فجعل عبد الله بن الثامر إذا دخل نجران لم يلق أحدا به ضر إلا قال له: يا عبد الله، أتوحد الله وتدخل فى دينى فأدعو الله فيعافيك مما أنت فيه من البلاء؟ فيقول: نعم.
فيوحد الله ويسلم، ويدعو له فيشفى.(1/73)
حتى لم يبق بنجران أحد به ضر إلا أتاه فاتبعه على أمره ودعا له فعوفى. حتى رفع شأنه إلى ملك نجران، فدعاه فقال: أفسدت على أهل قريتى وخالفت دينى ودين آبائى، لأمثلن بك.
قال: لا تقدر على ذلك، فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل فيطرح على رأسه فيقع إلى الأرض ليس به بأس، وجعل يبعث به إلى مياه بنجران بحور لا يقع أحد فيها إلا هلك، فيلقى فيها فيخرج ليس به بأس..
فلما غلبه قال له عبد الله بن الثامر: إنك والله لا تقدر على قتلى حتى توحد الله فتؤمن بما آمنت به، فإنك إن فعلت سلطك الله على، فقتلتنى. فوحد الله ذلك الملك وشهد شهادة عبد الله بن الثامر، ثم ضربه بعصا فى يده فشجه شجة غير كبيرة فقتله، وهلك الملك مكانه.
واستجمع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر، وكان على ما جاء به عيسى من الإنجيل وحكمه، ثم أصابهم ما أصاب أهل دينهم من الأحداث. فمن هنالك كان أصل النصرانية بنجران.
قال ابن إسحاق: فهذا حديث محمد بن كعب القرظى وبعض أهل نجران عن عبد الله بن الثامر، فالله أعلم أى ذلك كان «1» .
وحديث عبد الله بن الثامر هذا قد ورد فى الصحيح مرفوعا إلى النبى صلى الله عليه وسلم من طرق ثابتة، خرجه مسلم بن الحجاج من حديث صهيب، وبينه وبين حديث ابن إسحاق اختلاف، وفيه مع ذلك زوائد تحسن لأجلها إعادة الحديث.
فروى عبد الرحمن بن أبى ليلى، عن صهيب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك: إنى قد كبرت، فابعث إلى غلاما أعلمه السحر.
فبعث إليه غلاما يعلمه، فكان فى طريقه إذا سلك راهب، فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه، فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا خشيت الساحر فقل: حبسنى أهلى، وإذا خشيت أهلك فقل: حبسنى الساحر.
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 46- 48) .(1/74)
فبينما هو كذلك، إذا أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل. فأخذ حجرا فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضى الناس.
فرماها فقتلها، ومضى الناس. فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب: أى بنى، أنت اليوم أفضل منى، قد بلغ من أمرك ما أرى وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل على.
وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوى الناس من سائر الأدواء، فسمع به جليس للملك، وكان قد عمى، فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما ها هنا لك أجمع إن أنت شفيتنى.
قال: إنى لا أشفى أحدا، إنما يشفى الله، فإن آمنت بالله، دعوت الله فشفاك. فآمن بالله، فشفاه الله. فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربى، قال: ولك رب غيرى؟! قال: ربى وربك الله.
فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فجىء بالغلام فقال له الملك: أى بنى، قد بلغ من سحرك ما يبرىء الأكمة والأبرص وتفعل وتفعل. فقال: إنى لا أشفى أحدا، إنما يشفى الله.
فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب. فجىء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فدعا بالمنشار فوضع فى مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه. ثم جىء بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك. فأبى، فدعا بالمنشار فوضع فى مفرق رأسه، فشقه به حتى وقع شقاه.
ثم جىء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك. فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال:
اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته، فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه، فذهبوا به، وصعدوا به الجبل، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فسقطوا.
وجاء يمشى إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله. فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال: اذهبوا به فاحملوه فى قرقورة فتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، فذهبوا به فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا وجاء يمشى إلى الملك.
فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله.(1/75)
فقال للملك: إنك لست بقاتلى حتى تفعل ما آمرك به، قال: وما هو؟.
قال: تجمع الناس فى صعيد واحد، وتصلبنى على جذع، ثم خذ سهما من كنانتى، ثم ضع السهم فى كبد القوس، ثم قل: باسم الله رب الغلام، ثم ارمنى، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتنى. فجمع الناس فى صعيد واحد وصلبه على جذع، ثم أخذ سهما من كنانته، ثم وضع السهم فى كبد القوس، ثم قال: باسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم فى صدغه، فوضع يده فى صدغه فى موضع السهم فمات.
فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام. فأتى الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد والله نزل بك حذرك، قد آمن الناس.
فأمر بالأخدود بأفواه السكك فخدت وأضرم النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه، يعنى فأقحموه فيها. أو قيل له: اقتحم. ففعلوا، حتى جاءت امرأة ومعها صبى لها، فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أمه، اصبرى فإنك على الحق!!.
فهذا حديث مسلم عن عبد الله بن الثامر وأهل نجران، وإن وقعت الأسماء فيه مبهمة، فقد فسرها العلماء بما ورد من ذلك مبينا فى حديث ابن إسحاق وغيره، وجعلوا ذلك كله حديثا واحدا «1» .
وذكر ابن إسحاق «2» أنه لما كان من اجتماع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر ما تقدم الحديث به، سار إليهم ذو نواس بجنوده، فدعاهم إلى اليهودية، وخيرهم بينها وبين القتل، فاختاروا القتل، فخد لهم الأخدود، فحرق بالنار، وقتل بالسيف، ومثل بهم، حتى قتل منهم قريبا من عشرين ألفا.
ففى ذى نواس وجنده ذلك أنزل الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ إلى آخر الآيات «3» .
والأخدود هنا هو الحفر المستطيل فى الأرض، كالخندق والجدول، ويقال أيضا لأثر السيف والسوط والسكين ونحوه فى الجلد: أخدود.
__________
(1) انظر: غوامض الأسماء المبهمة لابن بشكوال (8/ 534، 535) . وانظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (6/ 17) ، الدر المنثور للسيوطى (6/ 334) .
(2) انظر: السيرة (1/ 48) .
(3) ذكره ابن كثير فى تفسيره (8/ 390) ، والطبرى فى التاريخ (1/ 436) .(1/76)
قال ابن إسحاق: ويقال: كان فيمن قتل ذو نواس عبد الله بن الثامر رأسهم وإمامهم. وحدث عن عبد الله بن أبى بكر أنه حدث أن رجلا من أهل نجران حفر خربة من خرب نجران فى زمن عمر بن الخطاب، فوجدوا عبد الله بن الثامر تحت دفن منها قاعدا واضعا يده على ضربة فى رأسه ممسكا عليها بيده، فإذا أخرت يده عنها تثعبت دما، وإذا أرسلت يده ردها عليها فأمسك دمها، فى يده خاتم مكتوب فيه: ربى الله.
فكتب فيه إلى عمر، فكتب إليهم: أن أقروه على حاله وردوا عليه الدفن الذى كان عليه. ففعلوا «1» .
وذو نواس هذا هو زرعة بن تبان أسعد أبى كرب، وهو تبع الآخر، وقد تقدم خبره، وابنه زرعة ذو نواس هذا كان من صغار بنيه، وصار إليه ملك اليمن، وأمر حمير بعد أبيه بزمان.
وذلك أنه ملك اليمن بين أضعاف ملوك التبابعة، ربيعة بن نضر بن أبى حارثة ابن عمرو بن عامر، وكان من سادات اليمن وأهل الشرف منها. وهو صاحب الرؤيا التى يعرف من تأويلها استيلاء الحبشة على اليمن، والبشارة بظهور النبى صلى الله عليه وسلم.
وذلك أنه رأى رؤياه هالته وفظع بها، فلم يدع كاهنا ولا ساحرا ولا عائفا ولا منجما من أهل مملكته إلا جمعه إليه، فقال لهم: إنى قد رأيت رؤيا هالتنى وفظعت بها، فأخبرونى به وبتأويلها. قالوا: اقصصها علينا نخبرك بتأويلها. قال: إنى إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم عن تأويلها، إنه لا يعرف تأويلها إلا من عرفها قبل أن أخبره بها.
فقال له رجل منهم: فإن كان الملك يريد هذا فليبعث إلى سطيح «2» وشق «3» ، فإنه
__________
(1) ذكره ابن كثير فى تفسيره (8/ 391) من طريق ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنى محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه حدث أن رجلا.... وساق القصة.
(2) اسم سطيح هو: ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب بن عدى بن مازن غسان. وقال السهيلى فى الروض الأنف (1/ 27) : كان سطيح جسما ملقى لا جوارح له، فيما يذكرون، ولا يقدر على الجلوس إلا إذا غضب انتفخ فجلس، وكان شعه شعّة إنسان، فيما يذكرون، إنما له يد واحدة ورجل واحدة وعين واحدة، ويذكر عن وهب بن منبه أنه قال: قيل لسطيح: أنى لك هذا العلم؟ فقال: لى صاحب من الجن استمع أخبار السماء من طور سيناء حين كلم الله تعالى موسى عليه السلام، فهو يؤدى إلىّ من ذلك ما يؤديه.
(3) اسم شق هو ابن صعب، بن يشكر بن رهم بن أفرك بن قسر بن عبقر بن أنمار بن إراش، وأنمار أبو بجيلة وخثعم. قاله ابن إسحاق. انظر: السيرة (1/ 30) وما بعدها.(1/77)
ليس أحد أعلم منهما، فهما يخبرانه بما سأل عنه. فبعث إليهما، فقدم عليه سطيح قبل شق، فقال: إنى قد رأيت رؤيا هالتنى وفظعت بها، فأخبرنى بها، فإنك إن أصبتها أصبت تأويلها.
فقال: أفعل. رأيت حممة خرجت من ظلمة فوقعت بأرض تهمة فأكلت منها كل ذات جمجمة.
فقال له الملك: ما أخطأت منها شيئا يا سطيح، فما عندك فى تأويلها؟.
فقال: أحلف بما بين الحرتين من حنش، ليهبطن أرضكم الحبش، فليملكن ما بين أبين «1» إلى جرش» .
فقال الملك: وأبيك يا سطيح، إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى هو كائن؟ أفى زمانى أم بعده؟ قال: لا، بل بعده بحين، أكثر من ستين أو سبعين يمضين من السنين.
قال: أفيدوم ذلك من ملكهم أو ينقطع؟ قال: بل ينقطع لبضع وسبعين من السنين، ثم يقاتلون ويخرجون منها هاربين. قال: ومن يلى ذلك من قتلهم وإخراجهم؟ قال: يليه إرم بن ذى يزن، يخرج عليهم من عدن فلا يترك منهم أحدا باليمن.
قال: أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع؟ قال: بل ينقطع. قال: ومن يقطعه؟ قال:
نبى زكى، يأتيه الوحى من قبل العلى. قال: وممن هو هذا النبى؟ قال: رجل من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر، يكون الملك فى قومه إلى آخر الدهر.
قال: وهل للدهر من آخر؟ قال: نعم، يوم يجمع فيه الأولون والآخرون، يسعد فيه المحسنون ويشقى فيه المسيئون. قال: أحق ما تخبرنى؟ قال: نعم، والشفق والغسق، والقمر إذا اتسق، إن ما أنبأتك لحق، ثم قدم عليه شق، له كقوله لسطيح، وكتمه ما قال سطيح، لينظر أيتفقان أم يختلفان.
قال: نعم، رأيت حممه خرجت من ظلمة فوقعت بين روضة وأكمة فأكلت منها كل ذات نسمة. فلما قال له ذلك عرف أن قد اتفقا وأن قولهما واحد، إلا أن سطيحا
__________
(1) أبين: بلاد باليمن، قيل فيه بكسر الألف وفتحها، وهو اسم رجل فى الزمن القديم إليه تنيب عدن وأبين من بلاد اليمن وبينها وبين عدن اثنا عشر ميلا. انظر: الروض المعطار (ص 11) .
(2) جرش: بلاد باليمن، وهى من البلاد التى كان أهلها اتخذوا الأصنام بعد دين إسماعيل عليه السلام، وهم مذحج بن أدد، وهم الذين قالوا: لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً انظر: الروض المعطار (ص 159) .(1/78)
قال: «بأرض تهمة، فأكلت منها كل ذات جمجمة» ، وقال شق: «وقعت بين روضة وأكمة فأكلت منها كل ذات نسمة» .
فقال: الملك: ما أخطأت يا شق منها شيئا، فما عندك فى تأويلها؟ قال: أحلف بما بين الحرتين من إنسان، ليهبطن أرضكم السودان، فليغلبن على كل طفلة البنان، وليملكن ما بين أبين إلى نجران «1» .
قال له الملك: وأبيك يا شق إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى هو كائن؟ أفى زمانى أم بعده؟ فقال، لا، بل بعده بزمان، ثم يستنقذكم منهم عظيم ذو شان، ويذيقهم أشد الهوان.
قال: ومن هذا العظيم الشأن؟ قال: غلام ليس بدنى ولا مدن يخرج من بيت ذى يزن. قال: أفيدوم سلطانه أم ينقطع؟ قال: بل ينقطع برسول مرسل يأتى بالحق والعدل، بين أهل الدين والفضل، يكون الملك فى قومه إلى يوم الفصل.
قال: وما يوم الفصل؟ قال: يوم يجزى فيه الولاة، يدعى فيه من السماء بدعوات، يسمع منها الأحياء والأموات، ويجمع فيه الناس للميقات، يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات.
قال: أحق ما تقول؟ قال: إى ورب السماء والأرض وما بينهما من رفع وخفض، إن ما أنبأتك لحق ما فيه أمض، فوقع فى نفس ربيعة بن نضر ما قالا، فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم، وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور بن خرزاد فأسكنهم الحيرة.
فمن بقية ولد ربيعة بن نضر فيما يزعمون، النعمان بن المنذر، فهو فى نسب اليمن وعلمهم: النعمان بن المنذر بن النعمان بن المنذر بن عمرو بن عدى بن ربيعة بن نضر، ذلك الملك.
وقد تقدم قول من قال من العلماء أن النعمان من ولد قنص بن معد. وقد قيل أيضا إن النعمان من ولد الساطرون صاحب الحضر، وهو حصن عظيم كالمدينة على شاطئ الفرات، وهو الذى ذكره عدى بن زيد فى قوله:
__________
(1) نجران: من بلاد اليمن، سميت بنجران بن زيد بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. انظر: الروض المعطار (ص 573) .(1/79)
وأخو الحضر إذا بناه وإذ دج ... لة تجبى إليه والخابور
شاده مرمرا وجلله كل ... سا فللطير فى ذراه وكور «1»
لم يهبه ريب المنون فباد الم ... لك عنه فبابه مهجور
وأما شق وسطيح، فإن شقا هو ابن صعب بن يشكر من بنى أنمار بن نزار أبى بجيلة وخثعم. وكان شق إنسان فيما زعموا، إنما له يد واحدة ورجل واحدة وعين واحد، ولذلك سمى بشق «2» .
وسطيح هو ربيع بن ربيعة من بنى ذبيان بن عدى بن مازن بن غسان، وكانت العرب تسميه الذيبى، وإياه عنى ميمون بن قيس الأعشى بقوله:
ما نظرت ذات أشفار كنظرتها ... حقا كما نطق الذيبى إذ سجعا
وإنما قيل له سطيح، لأنه كان جسدا ملقى له رأس وليس له جوارح، فيما ذكروا.
وكان لا يقدر على الجلوس، فإذا غضب انتفخ وجلس. وذكر أنه قيل له: أنى لك هذا العلم؟
فقال: لى صاحب من الجن استمع أخبار السماء من طور سيناء، حين كلم الله منه موسى عليه السلام، فهو يؤدى إلى من ذلك ما يؤديه. وعاش سطيح بعد هذا الحديث زمانا طويلا، حتى أدرك مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فذكر الخطابى وغيره من حديث هانئ بن هانئ المخزومى، وأتت عليه مائة وخمسون سنة، أنه لما كانت الليلة التى ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى فسقط منه أربع عشرة شرفة، وغاضت بحيرة ساوة، وفاض وادى السماوة، وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك ألف عام. وأرى الموبذان إبلا صعابا تقود خيلا عرابا، قد قطعت دجلة وانتشرت فى بلادها.
فلما أصبح كسرى أفزعه ذلك فصبر عليه تشجعا، حتى إذا عيل صبره رأى ألا يدخر ذلك عن قومه ومرازبته، فلبس تاجه وقعد على سريره، ثم بعث إليهم فلما اجتمعوا عنده قال: أتدرون فيم بعثت فيكم؟ قالوا: لا، إلا أن يخبرنا الملك.
فبينا هم كذلك، إذ ورد عليه كتاب بخمود النار، فازداد غما إلى غمه، ثم أخبر بما
__________
(1) شاده: أى بناه وأعلاه. والمرمر: الرخام. وجلله: أى كساه. وكلسا: هو ما طلى به الحائط من حصى وجيار. وكور: جمع وكر وهو عش الطائر.
(2) انظر: السيرة (1/ 31) .(1/80)
رأى وما هاله من ذلك. فقال الموبذان: وأنا أصلح الله الملك قد رأيت فى هذه الليلة رؤيا. ثم قص عليه رؤيا فى الإبل. فقال: أى شىء يكون هذا يا موبذان؟ قال: حدث يكون من ناحية العرب. وكان أعلمهم فى أنفسهم.
فكتب عند ذلك كسرى إلى النعمان بن المنذر أن يوجه إليه برجل عالم بما يريد أن يسأله عنه. فوجد إليه بعبد المسيح بن عمرو بن حيان بن بقيلة الغسانى. فلما قدم عليه قال له الملك: ألك علم بما أريد أن أسألك عنه؟ قال: ليخبرنى الملك عما أحب، فإن كان عندى منه علم وإلا أخبرته بمن يعلمه.
فأخبره بالذى وجه إليه فيه. فقال له: علم ذلك عند خال لى يسكن مشارف الشام، يقال له سطيح. قال: فائته فسله عما سألتك عنه، ثم ائتنى بتفسيره. فخرج عبد المسيح حتى أتى إلى سطيح وقد أشفى على الموت، فسلم عليه وكلمه، فلم يرد عليه سطيح جوابا، فأنشأ عبد المسيح يقول:
أصم أم يسمع غطريف اليمن ... أم فاد فاز لم به شأو العنن
يا فاصل الخطة أعيت من ومن ... أتاك شيخ الحى من آل سنن
وأمه من آل ذئب بن حجن ... أبيض فضفاض الرداء والبدن
رسول قيل العجم ينمى للوسن ... لا يرهب الوغد ولا ريب الزمن
تجوب بى الأرض علنداة شزن ... ترفعنى وجنا وتهوى فيه وجن
حتى أتى عارى الجاحى والقطن ... تلفه فى الريح بوغاء الدمن
فلما سمع سطيح شعره رفع رأسه يقول: عبد المسيح، أتى إلى سطيح، على جمل مشيح، وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بنى ساسان، لارتجاس الإيوان وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، رأى إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت فى بلادها.
عبد المسيح، إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وفاض وادى السماوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليس الشام لسطيح شاما، يملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرفات، وكل ما هو آت آت.
ثم قضى سطيح مكانه، فلما قدم عبد المسيح على كسرى أخبره بمقالة سطيح.
فقال: إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكا قد كانت أمور. فملك منهم عشرة إلى أربع سنين وملك الباقون إلى خلافة عثمان رضى الله عنه.(1/81)
فلما هلك ربيعة بن نصر رجع ملك اليمن كله إلى حسان بن تبان أسعد أبى كرب، فسار بأهل اليمن يريد أن يطأبهم أرض العرب وأرض الأعاجم حتى إذا كان بأرض العراق كرهت حمير وقبائل اليمن المسير معه وأرادوا الرجعة إلى بلادهم وأهلهم، فكلموا أخا له يقال له عمرو وكان معه فى جيشه فقالوا له: اقتل أخاك حسان ونملكك علينا وترجع بنا إلى بلادنا. فأجابهم.
فاجتمعوا على ذلك إلا ذو رعين الحميرى، فإنه نهاه عن ذلك ولم يقبل منه. فقال ذو رعين الحميرى:
ألا من يشترى سهرا بنوم ... سعيد من يبيت قرير عين
فإما حمير غدرت وخانت ... فمعذرة الإله لذى رعين
ثم كتبهما فى رقعة وختم عليها ثم أتى بها عمرا فقال له: ضع لى هذا الكتاب عندك. ففعل. ثم قتل عمرو أخاه حسان ورجع بمن معه إلى اليمن «1» .
فلما نزل اليمن منع منه النوم وسلط عليه السهر، فلما جهده ذلك سأل الأطباء والحزاة «2» من الكهان والعرافين عما به؛ فقال له قائل منهم: إنه والله ما قتل رجل أخاه أو ذا رحمه بغيا على مثل ما قتلت أخاك عليه إلا ذهب نومه وسلط عليه السهر.
فلما قيل له ذلك جعل يقتل كل من أمره بقتل أخيه حسان من أشراف اليمن حتى خلص إلى ذى رعين. فقال له ذو رعين: إن لى عندك براءة. قال: وما هى؟ قال:
الكتاب الذى دفعت إليك.
فأخرجه فإذا فيه البيتان، فتركه ورأى أنه قد نصحه. وهلك عمرو، فمرج أمر حمير عند ذلك وتفرقوا، فوثب عليهم رجل من حمير لم يكن من بيوت المملكة، يقال له لخنيعة «3» ينوف ذو شناتر «4» ، فقتل خيارهم وعبث ببيوت أهل المملكة منهم، فقال قائل من حمير:
تقتل أبناها وتنفى سراتها ... وتبنى بأيديها لها الذل حمير
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 41) .
(2) الحزاة: جمع حاز، والحازى هو الذى ينظر فى الأعضاء وفى خيلان الوجه يتكهن، وقال الليث: هو الكاهن.
(3) لخنيعة: قال ابن دريد: وهو من اللخع، وهو استرخاء فى الجسم.
(4) ذو شناتر: الشناتر هو الأصابع بلغة حمير، واحدها: شنترة.(1/82)
تدمر دنياها بطيش حلومها ... وما ضيعت من دينها فهو أكثر
كذاك القرون قبل ذاك بظلمها ... وإسرافها تأتى الشرور فتخسر
وكان لخنيعة امرآ فاسقا يعمل عمل قوم لوط، فكان يرسل إلى الغلام من أبناء الملوك فيقع عليه فى مشربة له قد صنعها لذلك لئلا يملك بعد ذلك، ثم يطلع من مشربته تلك إلى حرسه وجنده قد أخذ مسواكا فجعله فى فيه علامة للفراغ من خبيث فعله.
حتى بعث إلى زرعة ذى نواس، بن تبان أسعد، أخى حسان، وكان صبيا صغيرا حين قتل حسان، ثم شب غلاما جميلا وسيما ذا هيئة وعقل، فلما أتاه رسوله عرف ما يريد به، فأخذ سكينا حديدا لطيفا فخبأه بين قدمه ونعله، ثم أتاه فلما خلا معه وثب إليه، فواثبه ذو نواس فوجأه حتى قتله، ثم حز رأسه فوضعه فى الكوة التى كان يشرف منها، ووضع مسواكه فى فيه ثم خرج على الناس، فسألوه فأشار لهم إلى الرأس فنظروا فإذا رأس لخنيعة مقطوع، فخرجوا فى أثر ذى نواس حتى أدركوه، فقالوا: ما ينبغى أن يملكنا غيرك إذ أرحتنا من هذا الخبيث فملكوه، واجتمعت عليه حمير وقبائل اليمن، فكان آخر ملوك حمير، ويسمى يوسف، فأقام فى ملكه سنين «1» .
قال ابن قتيبة: ثمانيا وستين سنة. إلى أن كان منه فى أهل نجران ما تقدم ذكره، فكان ذلك سببا لاستئصال ملكه واستيلاء الحبشة على اليمن.
ذكر دخول الحبشة أرض اليمن واستيلائهم على ملكها وذكر السبب فى ذلك مع ما يتصل به من أمر الفيل
ولما انتهى زرعة ذو نواس إلى ما انتهى إليه بأهل نجران من التحريق والقتل، أفلت منهم رجل من سبأ يقال له دوس ذو ثعلبان على فرس له، فسلك الرمل فأعجزهم، فمضى على وجهه ذلك حتى أتى قيصر صاحب الروم، فاستنصره على ذى نواس وجنوده، وأخبره بما بلغ منهم، فقال له: بعدت بلادك منا، ولكنى سأكتب لك إلى ملك الحبشة فإنه على هذا الدين، وهو أقرب إلى بلادك.
فكتب إليه يأمره بنصره والطلب بثأره.
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 43) .(1/83)
فقدم دوس على النجاشى بكتاب قيصر، فبعث سبعين ألفا من الحبشة، وأمر عليهم رجلا منهم يقال له أرياط، ومعه فى جنده أبرهة الأشرم، فركب أرياط البحر حتى نزل بساحل اليمن ومعه دوس، فسار إليه ذو نواس فى حمير، ومن أطاعه من قبائل اليمن، فلما التقوا انهزم ذو نواس وأصحابه، فلما رأى ذو نواس ما نزل به وبقومه وجه فرسه إلى البحر، ثم ضربه فدخل به، فخاض به ضحضاح «1» البحر حتى أفضى به إلى غمره فأدخله فيه، فكان آخر العهد به.
ودخل أرياط اليمن، فملكها «2» .
فأقام بها سنين فى سلطانه ذلك، ثم نازعه فى أمر الحبشة باليمن أبرهة الحبشى، حتى تفرقت الحبشة عليهما، فانحاز إلى كل واحد منهما طائفة منهم، ثم سار أحدهما إلى الآخر، فلما تقارب الناس أرسل أبرهة إلى أرياط أنك لا تصنع بأن تلقى الحبشة بعضها ببعض حتى تفنيها شيئا، فابرز لى وأبرز لك، فأينا أصاب صاحبه انصرف إليه جنده. فأرسل إليه أرياط: أنصفت.
فخرج إليه أبرهة، وكان رجلا قصيرا لحيما، وكان ذا دين فى النصرانية، وخرج إليه أرياط، وكان رجلا عظيما جميلا طويلا، وفى يده حربة له، وخلف أبرهة غلام له يقال له عتودة يمنع ظهره، فرفع أرياط الحربة فضرب أبرهة يريد يافوخه «3» ، فوقعت الحربة على جبهة أبرهة، فشرمت حاجبه وأنفه وعينه وشفته، فبذلك سمى أبرهة الأشرم.
وحمل عتودة على أرياط من خلف أبرهة فقتله. فانصرف جند أرياط إلى أبرهة، فاجتمعت عليه الحبشة باليمن، وودى أبرهة أرياط. فلما بلغ ذلك النجاشى غضب غضبا شديدا وقال: عدا على أميرى فقتله بغير أمرى! ثم حلف لا يدع أبرهة حتى يطأ بلاده ويجز ناصيته.
فحلق أبرهة رأسه وملأ جرابا من تراب اليمن ثم بعث به إلى النجاشى، وكتب إليه:
أيها الملك إنما كان أرياط عبدك، وأنا عبدك، اختلفنا فى أمرك، وكل طاعته لك، إلا أنى كنت أقوى على أمر الحبشة وأضبط لها وأسوس منه وقد حلقت رأسى كله حين
__________
(1) الضحضاح: هو الماء القليل يكون فى الغدير، وقيل: هو الماء اليسير، وقيل: هو ما لا غرق فيه ولا له غمر، وقيل: هو الماء إلى الكعبين إلى أنصاف السوق. انظر: اللسان (مادة، ضحح) .
(2) انظر: السيرة (1/ 49- 50) .
(3) يافوخه: أى وسط رأسه ويجمع على يآفيخ.(1/84)
بلغنى قسم الملك، وبعثت إليه بجراب من تراب أرضى ليضعه تحت قدميه، فيبر قسمه فى.
فلما انتهى ذلك إلى النجاشى رضى عنه، وكتب إليه: أن اثبت بأرض اليمن حتى يأتيك أمرى «1» .
فأقام بها، ثم إن أبرهة بنى القليس «2» بصنعاء، فبنى كنيسة لم ير مثلها فى زمانها بشىء من الأرض، ثم كتب إلى النجاشى: إنى قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك، ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب.
فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشى غضب رجل من النسأة أحد بنى فقيم بن عدى بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة، فخرج حتى أتى القليس فأحدث فيها، ثم لحق بأرضه، فأخبر بذلك أبرهة؛ فقال: من صنع هذا؟ فقيل له: رجل من أهل هذا البيت الذى تحج العرب إليه بمكة، لما سمع قولك: «أصرف إليها حج العرب» غضب فجاء فقعد فيها، أى أنها ليست لذلك بأهل «3» .
فغضب عند ذلك أبرهة، وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه. ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت، ثم ساروا وخرج معه بالفيل. وسمعت بذلك العرب فأعظموه وفظعوا به، ورأوا جهاده حقا عليهم، حين سمعوا بأنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام.
فخرج إليه رجل كان من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن بيت الله، وما يريد من هدمه وإخرابه.
فأجابه من أجابه إلى ذلك، ثم عرض له فقاتله، فهزم ذو نفر وأصحابه، وأخذ له ذو نفر فأتى به أسيرا، فلما أراد قتله قال له ذو نفر: أيها الملك لا تقتلنى، فإنه عسى أن يكون بقائى معك خيرا لك من قتلى.
وكان أبرهة رجلا حليما، فتركه من القتل وحبسه عنده فى وثاق.
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 53- 54) .
(2) القليس: هى الكنيسة التى بناها أبرهة على باب صنعاء، وسميت القليس لارتفاع بنيانها وعلوه.
(3) انظر: السيرة (1/ 56) .(1/85)
ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج له، حتى إذا كان بأرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخثعمى فى قبيلى خثعم «1» : شهران وناهس، ومن تبعه من قبائل العرب، فقاتله فهزمه أبرهة، وأخذ له نفيل أسيرا فأتى به، فلما هم بقتله قال له نفيل:
أيها الملك لا تقتلنى فإنى دليلك بأرض العرب، وهاتان يداى لك على قبيلى خثعم، شهران وناهس، بالسمع والطاعة.
فخلى سبيله وخرج به معه يدله، حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب ابن مالك الثقفى فى رجال ثقيف، فقالوا له: أيها الملك إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون ليس عندنا لك خلاف، وليس بيتنا هذا البيت الذى تريد. يعنون اللات، إنما تريد البيت الذى بمكة، ونحن نبعث من يدلك عليه.
فتجاوز عنهم. واللات بيت لهم بالطائف كانوا يعظمونه نحو تعظيم الكعبة، فبعثوا معه أبا رغال يدله على الطريق إلى مكة. فخرج أبرهة ومعه أبو رغال، حتى أنزله المغمس، فلما أنزله به مات أبو رغال هنالك، فرجمت قبره العرب، فهو القبر الذى يرجم الناس بالمغمس «2» .
فلما نزل أبرهة المغمس بعث رجلا من الحبشة يقال له الأسود بن مقصود على خيل له حتى انتهى إلى مكة، فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم، وأصاب فيها مائتى بعير لعبد المطلب بن هاشم، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها.
فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله، ثم عرفوا أنه لا طاقة لهم به، فتركوا ذلك.
وبعث أبرهة حناطة الحميرى إلى مكة وقال له: سل عن سيد أهل هذا البلد وشريفهم، ثم قل له: إن الملك يقول لك: إنى لم آت لحربكم، إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تعرضوا دونه بحرب فلا حاجة لى بدمائكم. فإن هو لم يرض حربى فائتنى به.
__________
(1) قال فى الروض الأنف: خثعم اسم جبل سمى به بنو عفرس لأنهم نزلوا عنده، ويقال: إنهم تخثعموا بالدم عند حلف عقدوه، وقيل: بل خثعم ثلاث: شهران، وناهس، وأكلب عند أهل النسب هو ابن لهيعة بن نزار.
(2) المغمس: مكان يبعد عن مكة بثلثى فرسخ، وهو فى طرف الحرم فيه برك محمود فيل أبرهة حين توجه به إلى مكة لأخراب الكعبة بزعمه، والميم الثانية فى المغمس مكسورة وروى فتحها فأما الأولى فمضمومة.(1/86)
فلما دخل حناطة مكة سأل عن سيد قريش وشريفها، فقيل له: عبد المطلب بن هاشم. فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة؛ فقال له عبد المطلب: والله ما نريد حربه وما لنا بذلك منه طاقة، هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم أو كما قال فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمته، وإن يخل بينه وبينه، فو الله ما عندنا دفع عنه.
فقال حناطة: فانطلق إليه، فإنه قد أمرنى أن آتيه بك.
فانطلق معه عبد المطلب ومعه بعض بنيه، حتى أتى المعسكر فسأل عن ذى نفر، وكان له صديقا، حتى دخل عليه فى محبسه فقال له: يا ذا نفر هل عندك من غناء فيما نزل بنا؟ فقال له ذو نفر: وما غناء رجل أسير فى يدى ملك ينتظر أن يقتله غدوا أو عشيا! ما عندى غناء فى شىء مما نزل بك، إلا أن أنيسا سائس الفيل صديق لى فسأرسل إليه فأوصيه بك وأعظم عليه حقك، وأسأله أن يستأذن لك على الملك فتكلمه بما بدا لك، ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك. قال: حسبى.
فبعث: ذو نفر إلى أنيس فقال له: إن عبد المطلب سيد قريش وصاحب عير مكة يطعم الناس بالسهل والوحوش فى رؤس الجبال، وقد أصاب له الملك مائتى بعير، فاستأذن له عليه وانفعه عنده بما استطعت. قال: أفعل.
فكلم أنيس أبرهة، قال له: أيها الملك، هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك، فأذن له فليكلمك فى حاجته. ووصفه له بما وصفه ذو نفر لأنيس.
فإذن له أبرهة، وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجمله وأعظمه، فلما رآه أبرهة أجله وأكرمه عن أن يجلسه تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه، فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه. ثم قال لترجمانه: قل له: حاجتك؟ فقال له ذلك الترجمان. فقال: حاجتى أن يرد على الملك مائتى بعير أصابها لى. فلما قال له ذلك قال أبرهة لترجمانه: قل له: قد كنت أعجبتنى حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتنى! أتكلمنى فى مائتى بعير أصبتها لك، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمنى فيه!؟.
قال عبد المطلب: أنا رب الإبل، وإن للبيت ربا سيمنعه. قال: ما كان ليمتنع منى.
قال: أنت وذاك. ويزعم بعض أهل العلم أنه كان ذهب مع عبد المطلب إلى أبرهة يعمر ابن نفاثة بن عدى بن الدئل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وهو يومئذ سيد بنى بكر، وخويلد بن واثلة الهذلى، وهو يومئذ سيد هذيل، فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة(1/87)
على أن يرجع عنهم ولا يهدم البيت، فأبى عليهم، فالله أعلم أكان ذلك أم لا.
فرد أبرهة على عبد المطلب الإبل التى أصاب له، فلما انصرفوا عنه انصرف عبد المطلب إلى قريش، فأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز فى شعف الجبال والشعاب، تخوفا عليهم من معرة الجيش.
ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده. فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:
لا هم إن العبد يم ... نع رحله فامنع حلالك «1»
لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم غدوا محالك
ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال فتحرزوا فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها.
فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة وهيأ فيله وعبى جيشه. وكان اسم الفيل محمودا، وأبرهة مجمع لهدم البيت والانصراف إلى اليمن، فلما وجهوا الفيل إلى مكة قام نفيل بن حبيب إلى جنب الفيل، ثم أخذ بأذنه فقال له: ابرك محمود وارجع راشدا من حيث جئت، فإنك فى بلد الله الحرام. ثم أرسل أذنه فبرك الفيل وخرج نفيل يشتد حتى أصعد فى الجبل.
وضربوا الفيل ليقوم فأبى، وضربوه فى رأسه بالطبرزين «2» ليقوم فأبى، فأدخلوا محاجن لهم فى مراقه فبزغوه بها ليقوم فأبى، فوجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة فبرك.
وأرسل الله عليهم طيرا من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان مع كل طائر منها ثلاثة أحجار، يحملها حجر فى منقاره وحجران فى رجليه، أمثال الحمص والعدس لا تصيب منهم أحدا إلا هلك، وليس كلهم أصابت.
وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذى منه جاؤا ويسألون عن نفيل بن حبيب
__________
(1) لا هم: أى اللهم، والعرب تحذف منها الألف واللام للتخفيف، حلالك: جمع حلة وهى جماعة البيوت وربما أريد بها القوم المجتمعون لأنهم يحلون فيها.
(2) الطبرزين: آلة من الحديد. وقال السهيلى فى الروض الأنف: طبر هو الفأس، وذكر الطبرستان بفتح الباء وقال معناه: شجر قطع بفأس.(1/88)
ليدلهم على الطريق إلى اليمن، فقال نفيل حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته:
أين المفر والإله الطالب ... والأشرم المغلوب ليس الغالب
وقال نفيل أيضا:
ألا حييت عنا يا ردينا ... نعمناكم مع الإصباح عينا
ردينة لو رأيت ولا تريه ... لدى جنب المحصب ما رأينا
إذا لعذرتنى وحمدت أمرى ... ولم تأسى على ما فات بينا
حمدت الله إذ أبصرت طيرا ... وخفت حجارة تلقى علينا
فكل القوم يسأل عن نفيل ... كأن علىّ للحبشان دينا «1»
فخرجوا يتساقطون بكل طريق ويهلكون بكل مهلك على كل منهل، وأصيب أبرهة فى جسده وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة، كلما سقطت أنملة منها اتبعتها مدة تمث قيحا ودما، حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه، فيما يزعمون.
ويقال: إنه أول ما رئيت الحصبة والجدرى بأرض العرب ذلك العام، وإنه أول ما رئى بها مرائر الشجر الحرمل «2» والحنظل والعشر «3» ذلك العام.
فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم كان مما يعد الله على قريش من نعمته عليهم وفضله، ما رد عنهم من أمر الحبشة لبقاء أمرهم ومدتهم، فقال تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ.
وقالت عائشة رضى الله عنها: لقد رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعمين مقعدين يستطعمان.
قال ابن إسحاق: فلما رد الله الحبشة عن مكة وأصابهم ما أصابهم به من النقمة،
__________
(1) ذكر هذه الأبيات فى السيرة (1/ 62) . فقال:
ألا حييت عنا يا ردينا ... نعمناكم مع الإصباح عينا
أتانا قابس منكم عشاء ... فلم يقدر لقابسكم لدينا
ثم ذكرها سواء.
(2) الحرمل: حب نبات معروف يخرج السوداء والبلغم إسهالا.
(3) العشر: شجر مر يحمل ثمرا كالأترج وليس فيه منتفع.(1/89)
أعظمت العرب قريشا، وقالوا: هم أهل الله، قاتل الله عنهم وكفاهم مؤنة عدوهم، فقالوا فى ذلك أشعارا يذكرون فيها ما صنع الله بالحبشة وما رد عن قريش من كيدهم، فقال عبد الله بن الزبعرى السهمى:
تنكلوا عن بطن مكة إنها ... كانت قديما لا يرام حريمها
لم تخلق الشعرى ليالى حرمت ... إذ لا عزيز من الأنام يرومها
سائل أمير الحبش عنها ما رأى ... ولسوف ينبى الجاهلين عليهما
ستون ألفا لم يؤوبوا أرضهم ... بل لم يعش بعد الإياب سقيمها
كانت بها عاد وجرهم قبلهم ... والله من فوق العباد يقيمها
وقال أبو قيس بن الأسلت الأنصارى ثم الخطمى، من قصيدة سيأتى ذكرها بجملتها:
فقوموا فصلوا ربكم وتمسحوا ... بأركان هذا البيت بين الأخاشب
فعندكم منه بلاء مصدق ... غداة أبى يكسوم هادى الكتائب
كتيبته بالسهل تمشى ورجله ... على القاذفات فى رؤس المناقب «1»
فلما أتاكم نصر ذى العرش ردهم ... جنود المليك بين ساف وحاصب
فولوا سراعا هاربين ولم يؤب ... إلى قومه ملحبش غير عصائب «2»
وقالت سبيعة بنت الأحب بن زبينة من بنى نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور، لابنها خارجة بن عبد مناف بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، تعظم عليه حرمة مكة وتنهاه عن البغى فيها وتذكر تبعا وتذلله لها، والفيل وهلاك جيشه عندها:
أبنى لا تظلم بمك ... ة لا الصغير ولا الكبير
واحفظ محارمها بن ... ى ولا يغرنك الغرور
أبنى من يظلم بمك ... ة يلق أطراف الشرور
أبنى يضرب وجهه ... ويلح بخديه السعير
أبنى قد جربتها ... فوجدت ظالمها يبور
الله آمنها وما ... بنيت بعرصتها قصور
والله آمن طيرها ... والعصم «3» تأمن فى ثبير
ولقد غزاها تبع ... فكسا بنيتها الحبير «4»
__________
(1) القاذفات: أعالى الجبال البعيدة. والمناقب: جمع منقبة، وهى الطريق فى رأس الجبل.
(2) ملحبش: أى من الحبش، والعصائب: الجماعات.
(3) العصم: جمع أعصم، وهو الوعل، قيل له ذلك لأنه يعتصم بالجبال.
(4) الحبير: هو الثور الحبير: أى هو الجديد الناعم، وقيل: الثياب الموشية.(1/90)
وأذل ربى ملكه ... فيها فأوفى بالنذور
يمشى إليها حافيا ... بفنائها ألفا بعير
ويظل يطعم أهلها ... لحم المهارى والجزور
يسقيهم العسل المصف ... ى والرحيض من الشعير
والفيل أهلك جيشه ... يرمون فيها بالصخور
والملك فى أقصى البلا ... د وفى الأعاجم والجزير
فاسمع إذا حدثت واف ... هم كيف عاقبة الأمور
ولم يزل شعراء أهل الجاهلية يذكرون ذلك فى أشعارهم معتدين بصنع الله فيه، وقد جرى على ذلك شعراء الإسلام، فقال الفرزدق بن غالب التميمى، يمدح سليمان بن عبد الملك بن مروان ويعرض للحجاج بن يوسف، ويذكر الفيل وجيشه:
فلما طغى الحجاج حين طغى به ... غنى قال إنى مرتق فى السلالم
فقال كما قال ابن نوح سأرتقى ... إلى جبل من خشية الماء عاصم
رمى الله فى جثمانه مثل ما رمى ... عن القبلة البيضاء ذات المحارم
جنودا تسوق الفيل حتى أعادهم ... هباء وكانوا مطرخيمى الطراخم «1»
نصر كنصر البيت إذ ساق فيله ... إليه عظيم المشركين الأعاجم
قال ابن إسحاق «2» : فلما هلك أبرهة ملك الحبشة ابنه يكسوم بن أبرهة، وبه كان يكنى، فلما هلك يكسوم ملك اليمن فى الحبشة أخوه مسروق بن أبرهة.
فلما طال البلاء على أهل اليمن، خرج سيف بن ذى يزن الحميرى حتى قدم على قيصر ملك الروم، فشكا إليه ما هم فيه، وسأله أن يخرجهم عنه، ويليهم هو، ويبعث إليهم من شاء من الروم، فلم يشكه.
فخرج حتى أتى النعمان بن المنذر، وهو عامل كسرى على الحيرة وما يليها من أرض العراق، فشكا إليه أمر الحبشة، فقال له النعمان: إن لى على كسرى وفادة فى كل عام، فأقم حتى يكون ذلك؛ ففعل.
ثم خرج معه فأدخله على كسرى، وكان كسرى يجلس فى إيوان مجلسه الذى فيه تاجه، وكان تاجه مثل القلنقل العظيم، فيما يزعمون، يضرب فيه الياقوت والزبرجد
__________
(1) الطراخم: جمع الطراخم وهو الممتلئ كبرا المتعظم.
(2) انظر: السيرة (1/ 69) .(1/91)
واللؤلؤ بالذهب والفضة، معلقا بسلسلة من ذهب فى رأس طاقة فى مجلسه ذلك، وكانت عنقه لا تحمل تاجه، إنما يستر بالثياب حتى يجلس فى مجلسه ذلك، ثم يدخل رأسه فى تاجه، فإذا استوى فى مجلسه كشفت عنه الثياب، فلا يراه رجل لم يره قبل ذلك إلا برك هيبة له.
فلما دخل عليه سيف بن يزن برك، وقيل: إنه لما دخل عليه طأطأ رأسه، فقال الملك:
إن هذا لأحمق! يدخل على من هذا الباب الطويل ثم يطأطئ رأسه!.
فقيل ذلك لسيف، فقال: إنما فعلت هذا لهمى، لأنه يضيق عنه كل شىء. ثم قال:
أيها الملك، غلبنا على بلادنا الأغربة.
فقال كسرى: أى الأغربة؟ الحبشة أم السند؟ قال: بل الحبشة، فجئتك لتنصرنى ويكون ملك بلادى لك. قال: بعدت بلادك مع قلة خيرها، فلم أكن لأورط جيشا من فارس بأرض العرب، لا حاجة لى بذلك.
ثم أجازه بعشرة آلاف درهم واف، وكساه كسوة حسنة. فلما قبض ذلك سيف خرج فجعل ينثر تلك الورق للناس. فبلغ ذلك الملك فقال: إن لهذا لشأنا.
ثم بعث إليه فقال: عمدت إلى حباء الملك تنثره للناس! فقال: وما أصنع بهذا؟! ما جبال أرضى التى جئت منها إلا ذهب وفضة، يرغبه فيها.
فجمع كسرى مرازبته «1» فقال: ماذا ترون فى أمر هذا الرجل وما جاء له؟ فقال قائل: أيها الملك إن فى سجونك رجالا حبستهم للقتل، فلو أنك بعثتهم معه، فإن يهلكوا كان ذلك الذى أردت، وإن ظفروا كان ملكا ازددته.
فبعث معه كسرى من كان فى سجونه، وكانوا ثمانمائة رجل، واستعمل عليهم رجلا منهم يقال له: وهرز وكان ذا سن فيهم وأفضلهم حسبا وبيتا، فخرجوا فى ثمان سفائن فغرقت سفينتان ووصلت إلى ساحل عدن ست سفائن.
فجمع سيف إلى وهرز من استطاع من قومه وقال له: رجلى مع رجلك حتى نموت جميعا أو نظفر جميعا. قال وهرز: أنصفت.
وخرج إليه مسروق بن أبرهة ملك اليمن وجمع إليه جنوده، فأرسل إليهم وهرز ابنا له ليقاتلهم فيختبر قتالهم، فقتل ابن وهرز، فزاده ذلك حنقا عليهم. فلما تواقف الناس
__________
(1) مرازبته: أى وزراءه. وقيل: هو الفارس الشجاع المقدم عند الملك.(1/92)
على مصافهم قال وهرز: أرونى ملكهم. قالوا له: أترى رجلا على الفيل عاقدا تاجه على رأسه، بين عينيه ياقوتة حمراء؟. قال: نعم. قالوا: ذلك ملكهم. قال: اتركوه.
فوقفوا طويلا ثم قال: علام هو؟ قالوا: قد تحول على الفرس. قال: اتركوه. فوقفوا طويلا. ثم قال: علام هو؟ قالوا: على البغلة. قال وهرز: بنت الحمار! ذل وذل ملكه، إنى سأرميه، فإن رأيتم أصحابه لم يتحركوا فاثبتوا حتى أوذنكم، فإنى قد أخطأت الرجل، وإن رأيتم القوم قد استداروا ولاثوا به فقد أصبت الرجل، فاحملوا عليهم.
ثم أوتر قوسه، وكانت فيما يزعمون، لا يوترها غيره من شدتها، وأمر بحاجبيه فعصبا له، ثم رمى فصك الياقوتة التى بين عينيه فتغلغلت النشابة فى رأسه حتى خرجت من قفاه؟ ونكس عن دابته، واستدارت الحبشة ولاثت به، وحملت عليهم الفرس وانهزموا فقتلوا وهربوا فى كل وجه.
وأقبل وهرز ليدخل صنعاء، حتى إذا أتى بابها قال: لا تدخل رايتى منكسة أبدا، اهدموا الباب. فهدم، ثم دخلها ناصبا رايته. وقال فى ذلك أبو الصلت بن أبى ربيعة الثقفى، وتروى لابنه أمية بن أبى الصلت:
ليطلب الوتر أمثال ابن ذى يزن ... مذيم فى البحر للأعداء أحوالا
يهم قيصر لما حاز رحلته ... فلم يجد عنده بعض الذى سالا
حتى أتى ببنى الأحرار يحملهم ... إنك عمرى لقد أسرعت قلقالا «1»
لله درهم من عصبة خرجوا ... ما إن أرى لهم فى الناس أمثالا
بيضا مرازبة غلبا أساورة ... أسدا تربب فى الغيضات أشبالا
أرسلت أسدا على سود الكلاب فقد ... أضحى شريدهم فى الأرض فلالا «2»
فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفعا ... فى رأس غمدان دارا منك محلالا «3»
واشرب هنيئا فقد شالت نعامتهم ... وأسبل اليوم فى برديك إسبالا»
__________
(1) بنو الأحرار: أراد بهم الفرس، والقلقال: التحرك بسرعة.
(2) الفلال: جمع فل وهم القوم المنهزمون.
(3) رأس غمدان: قال ياقوت فى معجم البلدان (4/ 210) : قيل إنه قصر بناه يشرح بن يحصب على أربعة أوجه وبنى فى داخله قصرا على سبعة سقوف، وقيل: إن الذى بناه سليمان بن داود عليهما السلام، وقيل: إنه بين صنعاء وطيوه وهدم غمدان فى أيام عثمان بن عفان رضى الله عنه.
(4) شالت نعامتهم: أى هلكوا، والإسبال: إرخاء الثوب.(1/93)
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
وأقام وهرز والفرس باليمن، فمن بقية ذلك الجيش من الفرس الأبناء الذين باليمن اليوم.
وكان ملك الحبشة باليمن منذ دخلها أرياط إلى أن أخرجتهم الفرس عنها اثنتين وسبعين سنة، وفق ما ذكره سطيح وشق فى تأويل رؤيا ربيعة بن نصر.
ثم مات وهرز، فأمر كسرى ابنه المرزبان بن وهرز على اليمن، ثم مات المرزبان فأمر كسرى ابنه التينجان بن المرزبان، ثم مات فأمر كسرى ابن التينجان، ثم عزله وولى باذان، فلم يزل عليها حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم «1» .
فلما بلغ مبعثه كسرى كتب إلى باذان: إنه بلغنى أن رجلا من قريش خرج بمكة يزعم أنه نبى، فسر إليه فاستتبه، فإن تاب وإلا فابعث إلى برأسه. فبعث باذان بكتاب كسرى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد وعدنى أن يقتل كسرى فى يوم كذا من شهر كذا.
فلما أتى باذان الكتاب توقف لينظر وقال: إن كان نبيا فسيكون ما قال. فقتل الله كسرى على يد ابنه شيرويه فى اليوم الذى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما بلغ ذلك باذان بعث بإسلام من معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت الرسل من الفرس: إلى من نحن يا رسول الله، قال: «أنتم منا وإلينا أهل البيت» .
قال الزهرى: فمن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سلمان منا أهل البيت» «2» .
وكأن هذه الأخبار وإن قطعت بعض ما كنا بسبيله من أمر بنى قصى فلها أيضا من الإفادة بنحو ما قصدناه وحسن الإمتاع بالشأن المناسب لما اعتمدناه ما يحسن اعتراضها وينظم فى سلك واحد مع ما مر من ذلك أو يأتى أغراضها.
وعلينا بمعونة الله فى تجويد الترتيب لذلك كله تطبيق المنفصل ورد هذه الأحاديث المتفرقة فى حكم الحديث المتصل، فنطيل ولا نمل، ونقصر فلا نخل كل ذلك ببركة
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 74) .
(2) انظر الحديث فى: المستدرك للحاكم (3/ 598) ، المعجم الكبير للطبرانى (6/ 261) ، تفسير الطبرى (21/ 85) ، البداية والنهاية لابن كثير (2/ 180، 4/ 99) ، طبقات ابن سعد (7/ 65) ، كنز العمال للمتقى الهندى (33340) ، دلائل النبوة للبيهقى (3/ 418) ، كشف الخفاء للعجلونى (1/ 558) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 130) .(1/94)
المختار الذى يممنا تخليد أوليته، وتيمنا بخدمة آثاره وسيرته، صلى الله عليه وعلى آله الأكرمين وصحابته.
وكنا انتهينا من شأن بنى قصى بعده، إلى ما تراضوا به بينهم من الصلح على أن تكون السقاية والرفادة لبنى عبد مناف، وتكون حجابة البيت واللواء والندوة لبنى عبد الدار، على نحو ما جعله قصى إلى أبيهم.
فولى السقاية والرفادة هاشم بن عبد مناف. وذلك أن عبد شمس كان رجلا سفارا قلما يقيم بمكة، وكان مقلا ذا ولد كثير، وكان هاشم موسرا، وكان فيما يزعمون، إذا حضر الحج قام صبيحة هلال ذى الحجة فيسند ظهره إلى الكعبة من تلقاء بابها، فيحض قومه على رفادة الحاج التى سنها لهم قصى، ويقول لهم فى خطبته: يا معشر قريش، أنتم سادة العرب، أحسنها وجوها، وأعظمها أحلاما، وأوسط العرب أنسابا، وأقرب العرب بالعرب أرحاما.
يا معشر قريش، إنكم جيران بيت الله، أكرمكم الله بولايته وخصكم بجواره دون بنى إسماعيل، حفظ منكم أحسن ما حفظ جار من جاره، وإنه يأتيكم فى هذا الموسم زوار الله، يعظمون حرمة بيته، فهم ضيف الله، وأحق الضيف بالكرامة ضيفه، فأكرموا ضيفه وزواره، فإنهم يأتون شعثا غبرا من كل بلد على ضوامر كالقداح، وقد أزحفوا وأرملوا فأقروهم وأعينوهم، فورب هذه البنية لو كان لى مال يحمل ذلك لكفيتكموه، وأنا مخرج من طيب مالى وحلاله، ما لم تقطع فيه رحم، ولم يؤخذ بظلم، ولم يدخل فيه حرام فواضعه، فمن شاء منكم أن يفعل مثل ذلك فعله. وأسألكم بحرمة هذا البيت ألا يخرج رجل منكم من ماله لكرامة زوار بيت الله ومعونتهم إلا طيبا لم تقطع فيه رحم، ولم يؤخذ غصبا «1» .
فكانت بنو كعب بن لؤى وسائر قريش يجتهدون فى ذلك ويترافدون عليه، ويخرجون ذلك من أموالهم حتى يأتوا به هاشم بن عبد مناف فيضعوه فى داره، حتى أن كان أهل البيت ليرسلون بالشىء اليسير على قدرهم. وكان هاشم يخرج فى كل سنة مالا كثيرا. وكان قوم من قريش أهل يسار، ربما أرسل كل إنسان منهم بمائة مثقال هرقلية.
وكان هاشم يأمر بحياض من أدم، فتجعل فى موضع زمزم من قبل أن تحفر، ثم يستقى فيها من البيار التى بمكة، فيشرب الحاج.
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 120) .(1/95)
وكان يطعمهم أول ما يطعمهم بمكة قبل التروية بيوم، ثم بمنى، وبجمع وعرفة، يثرد لهم الخبز واللحم، والخبز والسمن، والسويق والتمر، ويحمل لهم الماء، فيطعمهم ويسقيهم حتى يصدروا.
وكان اسم هاشم عمرا، ويقال له: عمرو العلا. وإنما سمى هاشما لهشمه الخبز بمكة لقومه، وهو فيما يذكرون أول من سن الرحلتين لقريش، رحلة الشتاء والصيف. وفى ذلك يقول بعض شعرائهم:
عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... قوم بمكة مسنتين عجاف «1»
سنت إليه الرحلتان كلاهما ... سفر الشتاء ورحلة الإصياف
وذلك أن قريشا كانوا قوما تجارا، وكانت تجارتهم لا تعدو مكة، إنما يقدم الأعاجم بالسلع فيشترون منهم ويتبايعون فيما بينهم، ويبيعون ممن حولهم من العرب. فلم يزالوا كذلك حتى ذهب هاشم إلى الشام، فكان يذبح كل يوم شاة، فيصنع جفنة ثريد، ويدعو من حوله فيأكلون.
وكان هاشم من أحسن الناس وأجملهم، إلى شرف نفسه وكرم فعاله. فذكر لقيصر فدعا به فلما رآه وكلمه أعجب به وأدناه. فلما رأى هاشم مكانه منه، طلب منه أمانا لقومه ليقدموا بلاده بتجاراتهم. فأجابه إلى ذلك. وكتب لهم قيصر كتاب أمان لمن أتى منهم.
فأقبل هاشم بذلك الكتاب، فكلما مر بحى من أحياء العرب أخذ من أشرافهم إيلافا لقومه يأمنون به عندهم وفى أرضهم من غير حلف، وإنما هو أمان الطريق.
واستوفى أخذ ذلك ممن بين مكة والشام، فأتى قومه بأعظم شىء أتوا به قط بركة، فخرجوا بتجارة عظيمة، وخرج هاشم معهم ليوفيهم إيلافهم الذى أخذ لهم من العرب، فلم يزل يوفيهم إياه، ويجمع بينهم وبين العرب حتى قدم بهم الشام.
فهلك هاشم فى سفره ذلك بغزة من أرض الشام. وكان أول بنى عبد مناف هلكا.
وخرج المطلب بن عبد مناف، وهو يسمى الفيض لسماحته وفضله، إلى اليمن، فأخذ من ملوكهم أمانا لمن تجر من قومه إلى بلادهم، ثم أقبل يأخذ لهم الإيلاف ممن
__________
(1) هشم الثريد: به سمى هاشم بن عبد مناف أبو عبد المطلب جد النبى صلى الله عليه وسلم كان يسمى عمرا وهو أول من ثرد الثريد وهشمه فسمى هاشما، فقالت فيه ابنته هذه الأبيات، وقال ابن برى: الشعر لابن الزبعرى. انظر هذا القول والبيت فى اللسان (12/ 611) .(1/96)
كان على طريقه من العرب، كما فعل أخوه هاشم، حتى أتى مكة، ثم رجع إلى اليمن، فمات بردمان.
وخرج عبد شمس بن عبد مناف إلى ملك الحبشة، فأخذ منه أمانا كذلك لمن تجر من قريش إلى بلاده، ثم أخذ الإيلاف من العرب الذين على الطريق إليها حتى بلغ مكة، وتوفى بها فقبره بالحجون.
وخرج نوفل بن عبد مناف، وكان أصغر ولد أبيه إلى العراق، فأخذ عهدا من كسرى لتجار قريش، ثم أقبل يأخذ الإيلاف ممن مر به من العرب حتى قدم مكة، ثم رجع إلى العراق فمات بسلمان من ناحية العراق.
فجبر الله قريشا بهؤلاء النفر الأربعة من بنى عبد مناف، فنمت أموالهم، واتسعت تجارتهم، فكان بنو عبد مناف يسمون لأجل ذلك المجيزين، والعرب تسميهم أقداح النضار، لطيب أحسابهم، وكرم فعالهم.
وقال مطرود بن كعب الخزاعى يبكيهم جميعا حين أتاه نعى نوفل منهم، وكان آخرهم هلكا:
يا ليلة هيجت ليلاتى ... إحدى ليالى القسيات «1»
وما أقاسى من هموم وما ... عالجت من رزء المنيات
إذا تذكرت أخى نوفلا ... ذكرنى بالأوليات
ذكرنى بالأزر الحمر وال ... أردية الصفر القشيبات «2»
أربعة كلهم سيد ... أبناء سادات لسادات
ميت بردمان وميت بسل ... مان وميت بين غزات «3»
وميت أسكن لحدا لدى ال ... حجون شرقى البنيات
أخلصهم عبد مناف فهم ... من لوم من لام بمنجاة
إن المغيرات وأبناءها ... من خير أحياء وأموات «4»
__________
(1) القسيات: من القسوة أى لا لين عندهن ولا رأفة، والقسى: الشديد.
(2) القشيبات: واحدها القشب: وهو الجديد والناس تقول ثوب قشيب أى جديد.
(3) ردمان: بفتح أوله وهو فعلان من الردم وهو موضع باليمن. اسم ماء قديم جاهلى وبه قبر نوفل بن عبد مناف، وكان فى الجاهلية طريق إلى تهامة من العراق. غزات: أى غزة.
(4) المغيرات: المقصود بها بنو المغيرة وهو عبد مناف.(1/97)
وإنما سماهم المغيرات لأن عبد مناف أباهم كان اسمه المغيرة. فقيل لمطرود فيما يزعمون: لقد قلت فأحسنت، ولو كان أفحل مما هو كان أحسن.
فقال: أنظرونى ليالى. فمكث أياما ثم قال:
يا عين جودى وأذرى الدمع وانهمرى ... وابكى على السر من كعب المغيرات
يا عين واسحنفرى بالدمع واحتفلى ... وابكى خبيئة نفسى فى الملمات «1»
وابكى على كل فياض أخى ثقة ... ضخم الدسيعة وهاب الجزيلات «2»
محض الضريبة عالى الهم مختلق ... جلد النجيزة ناء بالعظيمات «3»
صعب البديهة لا نكس ولا وكل ... ماضى العزيمة متلاف الكريمات
صقر توسط من كعب إذا نسبوا ... بحبوحة المجد والشم الرفيعات
ثم اندبى الفيض والفياض مطلبا ... واستخرطى بعد فياض بجمات
أمسى بردمان عنا اليوم مغتربا ... يا لهف نفسى عليه بين أموات
وابكى لك الويل إما كنت باكية ... لعبد شمس بشرقى البنيات
وهاشم فى ضريح وسط بلقعة ... تسفى الرياح عليه بين غزات
ونوفل كان دون القوم خالصتى ... أمسى بسلمان فى رمس بمومات
لم ألق مثلهم عجما ولا عربا ... إذا استقلت بهم أدم المطيات
أمست ديارهم منهم معطلة ... وقد يكونون زينا فى السريات*
أفناهم الدهر أم كلت سيوفهم ... أم كل من عاش أزواد المنيات
أصبحت أرضى من الأقوام بعدهم ... بسط الوجوه وإلقاء التحيات
يا عين وابكى أبا الشعث الشجيات ... يبكينه حسرا مثل البليات**
يبكين أكرم من يمشى على قدم ... يعولنه بدموع بعد عبرات
__________
(1) اسحنفرى: أى أديمى الدمع. والخبيئة: الشىء المخبوء يريد أنه ذخيرة عند نزول الشدائد.
(2) الدسيعة: العطية وضخم الدسيعة أى كثير العطية.
(3) محض الضريبة: أى مخلص الطبيعة. والمختلق: تام الخلق. والنجيزة: الطبيعة من العين المختلف من كل شىء.
(*) السريات: جمع سرية وهى طائفة من الجيش يبلغ أقصاه أربعمائة وسموا بذلك لأنهم يكونون خلاصة العسكر وخيارهم من الشىء السرى النفيس وقيل سموا بذلك لأنهم ينفذون سرا وخفية. انظر: اللسان (مادة سرا) .
(**) البليات: جمع بلية، وهى: الناقة كانت تشد فى الجاهلية عند قبر صاحبها حتى تموت، وكانوا يقولون: يبعث صاحبها عليها. انظر: اللسان (مادة بلا) .(1/98)
يبكين شخصا طويل الباع ذا فخر ... أبى الهضيمة فراج الجليلات
يبكين عمرو العلا إذ حان مصرعه ... سمح السجية بسام العشيات
يبكينه مستكينات على حزن ... يا طول ذلك من حزن وعولات
يبكين لما جلاهن الزمان له ... خضر الخدود كأمثال الحميات
محتزمات على أوساطهن لما ... جر الزمان من أحداث المصيبات
أبيت ليلى أراعى النجم من ألم ... أبكى وتبكى معى شجوى بنياتى
ما فى القروم لهم عدل ولا خطر ... ولا لمن تركوا شروى بقيات
أبناؤهم خير أبناء وأنفسهم ... خير النفوس لدى جهد الأليات
كم وهبوا من طمر سابح أرن ... ومن طمرة نهب فى طمرات
ومن سيوف من الهندى مخلصة ... ومن رماح كأشطان الركيات
ومن توابع مما يفضلون بها ... عند المسائل من بذل العطيات
فلو حسبت وأحصى الحاسبون معى ... لم أحص أفعالهم تلك الهنيات
هم المدلون إما معشر فخروا ... عند الفخار بأنساب نقيات
زين البيوت التى خلوا مساكنها ... فأصبحت منهم وحشا خليات
أقول والعين لا ترقا مدامعها ... لا يبعد الله أصحاب الرزيات
وكان هاشم بن عبد مناف قد قدم المدينة فتزوج بها سلمى بنت عمرو أحد بنى عدى بن النجار، وكانت قبله عند أحيحة بن الجلاح فيما ذكر ابن إسحاق. قال:
وكانت لا تنكح الرجال لشرفها حتى يشترطوا لها أن أمرها بيدها، إن كرهت رجلا فارقته.
فولدت لهاشم عبد المطلب فسمته شيبة «1» ، فتركه هاشم عندها حتى كان وصيفا أو فوق ذلك. ثم خرج إليه عمه المطلب ليقبضه فيلحقه ببلده وقومه، فقالت له سلمى:
لست بمرسلته معك.
فقال لها المطلب: إنى غير منصرف حتى أخرج به معى، إن ابن أخى قد بلغ وهو غريب فى غير قومه، ونحن أهل بيت شرف فى قومنا نلى كثيرا من أمرهم، ورهطه وعشيرته وبلده خير له من الإقامة فى غيرهم. أو كما قال.
وقال شيبة لعمه المطلب فيما يزعمون: لست بمفارقها إلا أن تأذن لى. فأذنت له
__________
(1) قال الطبرى فى تاريخه (1/ 501) : سمى شيبة لشيبة كانت فى رأسه ويكنى بأبى الحارث والحارث أكبر ولده.(1/99)
ودفعته إليه، فاحتمله فدخل به مكة مردفه على بعيره، فقالت قريش: عبد المطلب ابتاعه.
فبها سمى شيبة: عبد المطلب. فقال المطلب: ويحكم إنما هو ابن أخى هاشم قدمت به من المدينة «1» .
وذكر الزبير أن شيبة إنما سمى عبد المطلب، لأن عمه المطلب لما قدم به من يثرب ودخل به مكة ضحوة مردفه خلفه والناس فى أسواقهم ومجالسهم، قاموا يرحبون به ويقولون: من هذا معك؟ فيقول: عبد لى ابتعته بيثرب، فلما كان العشية ألبسه حلة ابتاعها له، ثم أجلسه فى مجلس بنى عبد مناف وأخبرهم خبره، فجعل بعد ذلك يخرج فى تلك الحلة فيطوف فى سكك مكة، وكان أحسن الناس، فيقولون: هذا عبد المطلب، لقول المطلب فيه ذلك، فلج اسمه عبد المطلب، وترك شيبة.
وكان يقال لعبد المطلب: شيبة الحمد، وإنما سمى شيبة لأنه كان فى ذؤابته شعرة بيضاء.
ثم ولى عبد المطلب بن هاشم السقاية والرفادة بعد عمه المطلب، فأقامها للناس وأقام لقومه ما كان آباؤه يقيمون لقومهم من أمرهم قبله، وشرف فى قومه شرفا لم يبلغه أحد من آبائه، وأحبه قومه وعظم خطره فيهم.
ويقال: كان يعرف فى عبد المطلب نور النبوة وهيبة الملك.
قال الزبير: ومكارم عبد المطلب أكثر من أن أحيط بها، كان سيد قريش غير مدافع نفسا وأبا وبيتا وجمالا وبهاء وفعالا وكمالا. فصلى الله على المنتخب من ذريته، المخصوص بأولية الفخر وآخريته، وعلى آله الأكرمين وعترته وسلم تسليما.
ذكر حفر عبد المطلب زمزم وما يتصل بذلك من حديث مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم
قد تقدم الخبر عن زمزم أنها بئر إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، التى سقاه الله حين ظمأ وهو صغير.
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 125- 126) .(1/100)
وكانت جرهم دفنتها حين ظعنوا من مكة بين صنمى قريش إساف ونائلة عند منحر قريش، فبقى أمرها كذلك إلى أن أمر عبد المطلب بن هاشم بحفرها.
فذكر ابن إسحاق «1» وغيره من حديث على بن أبى طالب رضى الله عنه، قال: قال عبد المطلب: إنى لنائم فى الحجر إذ أتانى آت فقال: احفر طيبة. قلت: وما طيبة؟ ثم ذهب عنى. فلما كان الغد رجعت إلى مضجعى فنمت فيه، فجاءنى فقال: احفر برة.
فقلت: وما برة؟ ثم ذهب عنى.
فلما كان الغد رجعت إلى مضجعى فنمت فيه، فجاءنى فقال: احفر المضنونة.
فقلت: وما المضنونة؟ ثم ذهب عنى. فلما كان الغد رجعت إلى مضجعى فنمت فيه فجاءنى فقال: احفر زمزم. قلت: وما زمزم؟.
قال: لا تنزف أبدا ولا تذم، تسقى الحجيج الأعظم، وهى بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم عند قرية النمل «2» . فلما بين له شأنها ودل على موضعها وعرف أنه قد صدق، غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث، ليس له يومئذ ولد غيره فحفر.
فلما بدا لعبد المطلب الطى كبر. فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته، فقاموا إليه، فقالوا: يا عبد المطلب، إنها بئر أبينا إسماعيل، وإن لنا فيها حقا فأشر كنا معك فيها.
قال: ما أنا بفاعل، إن هذا الأمر خصصت به دونكم وأعطيته من بينكم.
قالوا له: فأنصفنا، فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها. قال: اجعلوا بينى وبينكم من شئتم نحاكمكم إليه. قالوا: كاهنة بنى سعد بن هذيم، قال: نعم. وكانت بأطراف الشام.
فركب عبد المطلب ومعه نفر من بنى أبيه من بنى عبد مناف، وركب من كل قبيلة من قريش نفر. قال: والأرض إذ ذاك مفاوز. قال: فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين الحجاز والشام فنى ماء عبد المطلب وأصحابه، فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة، فاستسقوا من معهم من قبائل قريش فأبوا عليهم، وقالوا: إنا بمفازة ونحن نخشى على أنفسا مثل ما أصابكم.
فلما رأى عبد المطلب ما صنع القوم وما يتخوف على نفسه وأصحابه قال: ماذا
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 130) .
(2) قال السهيلى فى الروض الأنف (1/ 169) : قرية النمل لا تحرث ولا تبذر وتجلب الحبوب إلى قريتها من كل جانب.(1/101)
ترون؟ قالوا: ما رأينا إلا تبع لرأيك، فمرنا بما شئت. قال: فإنى أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما بكم الآن من القوة، فكلما مات رجل دفعه أصحابه فى حفرته ثم واروه حتى يكون آخركم رجلا واحدا، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعا.
قالوا: نعم ما أمرت به، فقام كل رجل منهم فحفر حفرته، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشا. ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه: والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضرب فى الأرض ولا نبتغى لأنفسنا لعجز، فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد، ارتحلوا.
فارتحلوا، حتى إذا فرغوا، ومن معهم من قبائل قريش ينظرون إليهم ما هم فاعلون، تقدم عبد المطلب إلى راحلته فركبها، فلما انبعثت به انفجرت من تحت خفها عين من ماء عذب، فكبر عبد المطلب وكبر أصحابه، ثم نزل فشرب وشرب أصحابه واستقوا حتى ملأوا أسقيتهم.
ثم دعا القبائل من قريش، فقال: هلم إلى الماء، فقد سقانا الله فاشربوا واستقوا.
فجاؤا فشربوا واستقوا، ثم قالوا: قد والله قضى لك علينا يا عبد المطلب، والله لا نخاصمك فى زمزم أبدا، إن الذى سقاك الماء بهذه الفلاة لهو الذى سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشدا.
فرجع ورجعوا معه ولم يصلوا إلى الكاهنة وخلوا بينه وبينها. وفى غير حديث على ابن أبى طالب رضى الله عنه، أن عبد المطلب قيل له حين أمر بحفر زمزم:
ثم ادع بالماء الروى غير الكدر ... يسقى حجيج الله فى كل مبر
ليس يخاف منه شىء ما عمر
فخرج عبد المطلب حين قيل له ذلك إلى قريش، فقال: تعلمون أنى قد أمرت أن أحفر زمزم، قالوا: فهل بين لك أين هى؟ قال: لا. قالوا: فارجع إلى مضجعك الذى رأيت فيه ما رأيت فإن يك حقا من الله يبين لك، وإن يك من الشيطان فلن يعود إليك.
فرجع عبد المطلب إلى مضجعه فنام فيه فأتى فقيل له: احفر زمزم، إنك إن حفرتها لم تندم، وهى تراث من أبيك الأعظم لا تنزف أبدا ولا تذم، تستقى الحجيج الأعظم،(1/102)
مثل نعام جافل «1» لم يقسم، ينذر فيها ناذر لمنعم، تكون ميراثا وعقدا محكم، ليست كبعض ما قد تعلم، وهى بين الفرث والدم.
فزعموا أنه حين قيل له ذلك قال: وأين هى؟ قيل له: عند قرية النمل حيث ينقر الغراب غدا. فغدا عبد المطلب ومعه ابنه الحارث وليس له يومئذ ولد غيره، فوجد قرية النمل ووجد الغراب ينقر عندها، بين الوثنين إساف ونائلة اللذين كانت قريش تنحر عندهما ذبائحهما.
فجاء بالمعول وقام ليحفر حيث أمر، فقامت إليه قريش حين رأوا جده، فقالوا: والله لا نتركنك تحفر بين وثنينا هذين اللذين ننحر عندهما. فقال عبد المطلب لابنه الحارث:
ذب عنى فو الله لأمضين لما أمرت به.
فلما عرفوا أنه غير نازع خلوا بينه وبين الحفر وكفوا عنه، فلم يحفر إلا يسيرا حتى بدا له الطى، فكبر وعرف أنه قد صدق، فلما تمادى به الحفر وجد فيها غزالين من ذهب، وهما الغزالان اللذان دفنت جرهم فيها حين خرجت من مكة، ووجد فيها أسيافا قلعية «2» وأدراعا.
فقالت له قريش: يا عبد المطلب لنا معك فى هذا شرك وحق، قال: لا، ولكن هلموا إلى أمر نصف بينى وبينكم، فضرب عليها بالقداح. قالوا: وكيف نصنع؟ قال: أجعل للكعبة قدحين ولى قدحين ولكم قدحين، فمن خرج قدحاه على شىء فهو له ومن تخلف قدحاه فلا شىء له، قالوا: أنصفت.
فجعل قدحين أصفرين للكعبة، وقدحين أسودين لعبد المطلب، وقدحين أبيضين لقريش. ثم أعطوا القداح الذى يضرب بها عند هبل، وهبل صنم فى جوف الكعبة، وهو أعظم أصنامهم، وهو الذى عنى أبو سفيان بن حرب لما نادى يوم أحد: اعل هبل، أى أظهر دينك.
وقام عبد المطلب يدعو الله، وضرب صاحب القداح، فخرج الأصفران على
__________
(1) جافل: الجفول هو سرعة الذهاب والندور فى الأرض، يقال: جفلت الإبل جفولا إذا شردت. انظر: اللسان (مادة جفل) .
(2) قلعية: اسم معدن ينسب إليه الرصاص الجيد، قيل: وهو جبل بالشام، وقيل أيضا: هو قلعة عظيمة فى أول بلاد الهند من جهة الصين فيه معدن الرصاص القلعى لا يكون إلا فى قلعتها وفى هذه القلعة تضرب السيوف القلعية وهى الهندية العتيقة. انظر: معجم البلدان (4/ 389) .(1/103)
الغزالين، وخرج الأسودان على الأسياف والأدراع لعبد المطلب، وتخلف قدحا قريش.
فضرب عبد المطلب الأسياف بابا للكعبة، وضرب فى الباب الغزالين من ذهب، فكان أول ذهب حليته الكعبة، فيما يزعمون «1» .
وذكر الزبير أن عبد المطلب لما أنبط الماء فى زمزم حفرها فى القرار ثم بحرها حتى لا تنزف، ثم بنى عليها حوضا فطفق هو وابنه ينزعان عليها فيملآن ذلك الحوض، فيشرب منه الحاج. وكان قوم حسدة من قريش لا يزالوان يكسرون حوضه ذلك بالليل ويغتسلون فيه، فيصلحه عبد المطلب حين يصبح.
فلما أكثروا فساده دعا عبد المطلب ربه، فقيل له فى المنام: قل: اللهم إنى لا أحلها لمغتسل، وهى لشارب حل وبل.
فقام عبد المطلب فى المسجد فنادى بالذى أرى، ثم انصرف فلم يكن يفسد حوضه ذلك عليه أحد من قريش أو يغتسل فيه إلا رمى فى جسده بداء، حتى تركوا حوضه ذلك وسقايته فرقا.
وذكر الزبير أيضا أن عبد المطلب لما حفر زمزم وأدرك منها ما أدرك وجدت قريش فى أنفسها مما أعطى، فلقيه خويلد بن أسد بن عبد العزى، فقال: يا ابن سلمى، لقد سقيت ماء رغدا ونثلت عادية حتدا، قال: يا ابن أسد، أما إنك تشرك فى فضلها، والله لا يساعفنى أحد عليها ببر ولا يقوم معى بأزر إلا بذلت له خيرا لصهر.
فقال خويلد بن أسد:
أقول وما قولى عليهم بسنة ... إليك ابن سلمى أنت حافر زمزم
حفيرة إبراهيم يوم ابن آجر ... وركضة جبريل على عهد آدم
فقال عبد المطلب: ما وجدت أحدا ورث العلم الأقدم غير خويلد بن أسد. ثم إن عبد المطلب أقام سقاية زمزم للحجاج، وكانت قريش قبل حفر زمزم قد احتفرت بئارا بمكة «2» ، وكانت خارجا من مكة آبار حفائر قديمة من عهد مرة بن كعب وكلاب بن
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 132- 133) .
(2) قال ابن هشام فى السيرة (1/ 133- 136) : وكانت قريش قبل حفر زمزم قد احتفرت بئارا بمكة، فيما حدثنا زياد بن عبد الله البكائى عن محمد بن إسحاق، ثم أخذ يذكر أسماء الآبار التى حفرت قبل زمزم فقال: حفر عبد شمس بن عبد مناف الطوى، وهى البئر التى بأعلى مكة عند البيضاء، دار محمد بن يوسف الثقفى. وحفر هاشم بن عبد مناف بذر، وهى البئر التى-(1/104)
مرة وكبراء قريش الأول، منها يشربون، فعفت زمزم على تلك البئار التى كانت قبلها يسقى عليها الحاج.
وانصرف الناس إليها لمكانها من المسجد الحرام، ولفضلها على ما سواها من المياه، ولأنها بئر إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وافتخرت بها بنو عبد مناف على قريش كلها وعلى سائر العرب.
وكان عبد المطلب فيما يزعمون «1» والله أعلم، قد نذر حين لقى من قريش ما لقى عند حفر زمزم: لئن ولد له عشرة نفر ثم بلغوا معه حتى يمنعوه، لينحرن أحدهم لله عز وجل عند الكعبة.
فلما توافى بنوه عشرة وعرف أنهم سيمنعونه جمعهم ثم أخبرهم بنذره ودعاهم إلى الوفاء به، فأطاعوه وقالوا: وكيف نصنع؟ قال: ليأخذ كل رجل منكم قدحا ثم يكتب اسمه فيه ثم ائتونى ففعلوا، ثم أتوه فدخل بهم على هبل فى جوف الكعبة، وكان على بئر فى جوف الكعبة، فيها يجمع ما يهدى للكعبة، وكان عند هبل قداح سبعة بها يضربون على ما يريدون، وإلى ما تخرج به القداح ينتهون فى أمورهم.
فقال عبد المطلب لصاحب القداح: اضرب على بنى هؤلاء بقداحهم هذه. وأخبره بنذره الذى نذر، وأعطاه كل رجل منهم قدحه الذى فيه اسمه. وكان عبد الله بن عبد المطلب أحب بنى أبيه إليه فيما يزعمون، فكان عبد المطلب يرى أن السهم إذا أخطأه فقد أشوى.
فلما أخذ صاحب القداح القداح ليضرب بها، قام عبد المطلب عند هبل يدعو الله،
__________
- عند المستنذر، خطم الخندمة على فم شعب أبى طالب، وحفر سجلة، وهى بئر المطعم بن عدى بن نوفل بن عبد مناف التى يسقون عليها اليوم، ويزعم بنو نوفل أن المطعم ابتاعها من أسد بن هاشم، ويزعم بنو هاشم أنه وهبها له حين ظهرت زمزم، فاستغنوا بها عن تلك الآبار وحفر أمية بن عبد شمس الحفر لنفسه. وحفرت بنو أسد بن عبد العزى: شفية، وهى بئر بنى أسد. وحفرت بنو عبد الدار: أم أحراد. وحفرت بنو جمح السنبلة، وهى بئر خلف بن وهب. وحفرت بنو سهم: الغمر، وهى بئر بنى سهم. وكانت آبار حفائر خارجا من مكة قديمة من عهد مرة بن كعب، وكلاب بن مرة، وكبراء قريش الأوائل منها يشربون، وهى رم، ورم: بئر مرة بن كعب بن لؤى. وخم، وخم: بئر بنى كلاب بن مرة. والحفر. انتهى باختصار.
(1) انظر: السيرة (1/ 136- 139) ، تاريخ الطبرى (2/ 239، 243) ، طبقات ابن سعد (1/ 88، 89) .(1/105)
ثم ضرب صاحب القداح، فخرج القدح على عبد الله، فأخذ عبد المطلب بيده وأخذ الشفرة، ثم أقبل به إلى إساف ونائلة ليذبحه، فقامت إليه قريش من أنديتها وقالوا: ماذا تريد يا عبد المطلب؟ قال: أذبحه. فقالت له قريش وبنوه: والله لا تذبحه أبدا حتى تعذر فيه، لئن فعلت هذا لا يزال الرجل يأتى بابنه فيذبحه فما بقاء الناس على هذا؟!.
وقال له المغيرة بن عبد الله بن عمرو بنم مخزوم، وكان عبد الله بن أخت القوم، أمه وأم أخويه الزبير وأبى طالب فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم:
والله لا تذبحه أبدا حتى تعذر فيه، فإن كان فداؤه بأموالنا فديناه. وقالت له قريش وبنوه: لا تفعل وانطلق إلى الحجاز فإن بها عرافة لها تابع، فتسألها ثم أنت على رأس أمرك، إن أمرتك بذبحه ذبحته وإن أمرتك بأمر لك وله فيه فرج قبلته.
فانطلقوا حتى قدموا المدينة، فوجدوها فيما يزعمون، بخيبر، فركبوا حتى جاؤها فسألوها، وقص عليها عبد المطلب خبره وخبر ابنه وما أراد به ونذره فيه. فقالت لهم:
ارجعوا عنى اليوم حتى يأتينى تابعى فأسأله.
فرجعوا من عندها، فلما خرجوا عنها قام عبد المطلب يدعو الله، ثم غدوا عليها فقالت لهم: قد جاءنى الخبر، كم الدية فيكم؟ قالوا: عشرة من الإبل، وكانت كذلك، قالت: فارجعوا إلى بلادكم ثم قربوا صاحبكم وقربوا عشرة من الإبل، ثم اضربوا عليه وعليها بالقداح، فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم، وإن خرجت على الإبل فانحروها عنه فقد رضى ربكم ونجا صاحبكم.
فخرجوا حتى قدموا مكة، فلما أجمعوا ذلك من الأمر قام عبد المطلب يدعو الله، ثم قربوا عبد الله وعشرا من الإبل، وعبد المطلب عند هبل يدعو الله، ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله، فزادوا عشرا من الإبل، فبلغت الإبل عشرين، وقام عبد المطلب يدعو الله، ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله، فزادوا عشرا من الإبل، ومازالوا كذلك يزيدون عشرا فعشرا من الإبل ويضربون عليها، كل ذلك يخرج القدح على عبد الله، حتى بلغت الإبل مائة من الإبل، وقام عبد المطلب يدعو الله، ثم ضربوا فخرج القدح على الإبل، فقالت قريش: قد انتهى، رضى ربك يا عبد المطلب.
فزعموا أن عبد المطلب قال: لا والله حتى أضرب عليها ثلاث مرات، فضربوا على عبد الله وعلى الإبل، وقام عبد المطلب يدعو الله، فخرج القدح على الإبل، ثم عادوا الثانية والثالثة وعبد المطلب قائم يدعو الله، فخرج القدح فى كلتيهما على الإبل.(1/106)
فنحرت، ثم تركت لا يصد عنها إنسان ولا يمنع.
ثم انصرف عبد المطلب آخذا بيد عبد الله، فمر به فيما يزعمون، على امرأة من بنى أسد بن عبد العزى «1» ، وهى أخت ورقة بن نوفل بن أسد، وهى عند الكعبة.
قال الزبير: وكان عبد الله أحسن رجل رئى فى قريش قط، فقالت له حين نظرت إلى وجهه: أين تذهب يا عبد الله. قال: مع أبى. قالت: لك مثل الإبل التى نحرت عنك وقع على الآن، قال: أنا مع أبى ولا أستطيع خلافه ولا فراقه.
فخرج به عبد المطلب حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة، وهو يومئذ سيد بنى زهرة سنا وشرفا، فزوجه ابنته آمنة بنت وهب وهى يومئذ أفضل امرأة فى قريش نسبا وموضعا.
فزعموا أنه دخل عليها حين أملكها مكانه فوقع عليها فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرج من عندها فأتى المرأة التى عرضت عليه ما عرضت، فقال لها: مالك لا تعرضين على اليوم ما عرضت بالأمس، قالت له: فارقك النور الذى كان معك بالأمس، فليس لى بك اليوم حاجة، وقد كانت تسمع من أخيها ورقة بن نوفل، وكان تنصر واتبع الكتب، أنه كائن فى هذه الأمة نبى.
ويقال: إن عبد الله إنما دخل على امرأة كانت له مع آمنة ابنة وهب، وقد عمل فى طين له وبه آثار من الطين، فدعاها إلى نفسها، فأبطأت عليه لما رأت به من آثار الطين، فخرج من عندها، فتوضأ وغسل ما كان به من ذلك، ثم خرج عائدا إلى آمنة، فمر بتلك المرأة فدعته إلى نفسها فأبى عليها، وعمد إلى آمنة فدخل عليها فأصابها، فحملت بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر بامرأته تلك فقال لها: هل لك؟ قالت: لا، مررت بى وبين عينيك غرة فدعوتك فأبيت، ودخلت على آمنة فذهبت بها.
فزعموا أن امرأته تلك كانت تحدث: أنه مر بها وبين عينيه مثل غرة الفرس، قالت:
فدعوته رجاء أن تكون تلك بى، فأبى على ودخل على آمنة فأصابها فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) قال السهيلى فى الروض الأنف (1/ 180) : واسم هذه المرأة رقية بنت نوفل أخت ورقة بن نوفل تكنى أم فتال وبهذه التكنية وقع ذكرها فى رواية يونس بن إسحاق وذكر البرقى عن هشام الكلبى، قال: إنما مر على امرأة اسمها فاطمة بنت مر، كانت من أجمل النساء وأعفهن، وكانت قد قرأت الكتب، فرأت نور النبوة فى وجهه فدعته إلى نفسها فلما أبى قالت شعرا. انتهى باختصار.(1/107)
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوسط قومه نسبا، وأعظمهم شرفا، من قبل أبيه وأمه صلى الله عليه وسلم، ويزعمون فيما يتحدث الناس، والله أعلم، أن أمه كانت تحدث أنها أتيت حين حملت به، فقيل لها: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع إلى الأرض فقولى: أعيذه بالواحد من شر كل حاسد، ثم سميه محمدا.
ثم لم يلبث عبد الله بن عبد المطلب، أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن هلك وأمه حامل به.
هذا قول ابن إسحاق «1» . وخالفه كثير من العلماء، فقالوا: إن النبى صلى الله عليه وسلم كان فى المهد حين توفى أبوه. ذكره الدولابى وغيره. وذكر ابن أبى خيثمة أنه كان ابن شهرين، وقيل أكثر من ذلك. والله أعلم.
وولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، لاثنتى عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول عام الفيل. قيل: بعد الفيل بخمسين يوما «2» .
وحكى الواقدى عن سليمان بن سحيم قال: كان بمكة يهودى يقال له يوسف، فلما كان اليوم الذى ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يعلم به أحد من قريش قال: يا معشر قريش قد ولد نبى هذه الأمة فى بحرتكم هذه اليوم. وجعل يطوف فى أنديتهم فلا يجد خبرا، حتى انتهى إلى مجلس عبد المطلب فسأل فقيل له: ولد لابن عبد المطلب غلام.
فقال: هو نبى والتوراة.
وقال حسان بن ثابت: والله إنى لغلام يفعة ابن سبع سنين أو ثمان أعقل كل ما
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 140- 141) .
(2) هذا قول ابن إسحاق. انظر: السيرة (1/ 142) . وذكره ابن كثير فى البداية باب مولد النبى صلى الله عليه وسلم (2/ 264- 267) وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل على قول الجمهور، فقيل: بعده بشهر، وقيل: بأربعين يوما، وقيل: بخمسين يوما، وهو أشهر. وعن أبى جعفر الباقر: كان قدوم الفيل للنصف من المحرم ومولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده بخمس وخمسين ليلة، وقال آخرون: بل كان عام الفيل قبل مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر سنين قاله ابن أبزى. وقيل: بثلاث وعشرين سنة، رواه شعيب بن شعيب عن أبيه عن جده. وقيل: بعد الفيل بثلاثين سنة، قاله موسى بن عقبة عن الزهرى رحمه الله، واختاره موسى بن عقبة أيضا رحمه الله. وقال أبو زكريا العجلانى: بعد الفيل بأربعين عاما، رواه ابن عساكر وهذا غريب جدا، وأغرب منه ما قال خليفة بن خياط: حدثنى شعيب بن حبان عن عبد الواحد بن أبى عمرو عن الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس، قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الفيل بخمس عشرة سنة، وهذا حديث غريب ومنكر وضعيف أيضا، قال خليفة بن خياط: والمجتمع عليه أنه عليه السلام ولد عام الفيل.(1/108)
أسمع إذا سمعت يهوديا يصرخ على أطمة بيثرب: يا معشر يهود. حتى إذا اجتمعوا قالوا: ويلك! مالك! قال: طلع الليلة نجم أحمد الذى ولد به «1» .
وذكر ابن السكن من حديث عثمان بن أبى العاص عن أمه فاطمة بنت عبد الله، أنها شهدت ولادة آمنة بنت وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا. قالت: فما شىء أنظر إليه من البيت إلا نور، وإنى لأنظر إلى النجوم تدنو حتى إنى لأقول لتقعن على.
وذكر ابن مخلد فى تفسيره أن إبليس رن أربع رنات، رنة حين لعن، ورنة حين أهبط، ورنة حين ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورنة حين أنزلت فاتحة الكتاب!
قال ابن إسحاق «2» : فلما وضعته أمه أرسلت إلى جده عبد المطلب أنه قد ولد لك غلام، فائته فانظر إليه. فأتاه ونظر إليه، وحدثته بما رأت حين حملت به، وما قيل لها فيه، وما أمرت أن تسميه.
فيزعمون أن عبد المطلب أخذه فدخل به الكعبة فقام يدعو الله ويشكر له ما أعطاه، ثم خرج به إلى أمه فدفعه إليها. ويروى أن عبد المطلب إنما سماه محمدا لرؤيا رآها.
زعموا أنه أرى فى منامه كأن سلسلة من فضة خرجت من ظهره لها طرف فى السماء وطرف فى الأرض وطرف فى المشرق وطرف فى المغرب، ثم عادت كأنها شجرة على كل ورقة منها نور، وإذا أهل المشرق والمغرب يتعلقون بها.
فقصها فعبرت له بمولود يكون من صلبه يتبعه أهل المشرق والمغرب ويحمده أهل السماء والأرض. فلذلك سماه محمدا، مع ما حدثته أمه.
ولا يعرف فى العرب أحد تسمى بهذا الاسم قبله، سوى نفر سموا به من أجله منهم محمد بن سفيان بن مجاشع التميمى، ومحمد بن أحيحة بن الجلاح، وآخر من ربيعة.
وكان آباؤهم قد وفدوا على بعض الملوك ممن كان عنده علم بالكتاب الأول، فأخبرهم بمبعث النبى صلى الله عليه وسلم وتقارب زمانه، وباسمه، وكان كل واحد منهم قد خلف امرأته حاملا، فنذر كل واحد منهم إن ولد له ذكر أن يسميه محمدا.
ففعلوا ذلك رجاء أن يكونه. والله أعلم حيث يجعل رسالاته. وقد وقع فى مواضع أخر أن هؤلاء النفر كانوا أربعة، ولم يذكر فيهم محمد بن أحيحة، وحديثهم مخالف لما ذكرناه خلافا يسيرا.
__________
(1) ذكره البيهقى فى دلائل النبوة (1/ 91) .
(2) انظر: السيرة (1/ 143) .(1/109)
روينا من حديث عبد الملك بن أبى سوية عن أبيه عن جده قال: سألت محمد بن عدى بن ربيعة: كيف سماك أبوك محمدا؟ فقال: سألت أبى عما سألتنى عنه، فقال:
خرجت رابع أربعة من بنى تميم أنا فيهم، وسفيان بن مجاشع بن دارم وأسامة بن مالك ابن خندف ويزيد بن ربيعة، نريد ابن جفنة ملك غسان فلما شارفنا الشام نزلنا إلى غدير عليه شجرات وقربه شخص نائم، فتحدثنا فاستمع كلامنا وأشرف علينا فقال: إن هذه لغة ما هى لغة أهل هذه البلاد. فقلنا: نحن قوم من مضر قال: من أى المضريين؟
قلنا: من خندف. قال: أما إنه يبعث فيكم وشيكا نبى خاتم النبيين فسارعوا إليه وخذوا بحظكم منه ترشدوا.
فقلت له: ما اسمه؟ قال: محمد: فرجعنا من عند ابن جفنة فولد لكل رجل منا ابن سماه محمدا. والتمس لرسول الله صلى الله عليه وسلم الرضعاء، فاسترضع له من امرأة من بنى سعد بن بكر يقال لها: حليمة بنت أبى ذؤيب «1» .
وكانت تحدث أنها خرجت من بلدها مع زوجها وابن لها ترضعه، فى نسوة من بنى سعد بن بكر تلتمس الرضعاء. قالت: وفى سنة شهباء «2» لم تبق لنا شيئا.
قالت: فخرجت على أتان لى قمراء «3» معنا شارف لنا «4» ، والله ما تبض بقطرة ولا ننام ليلتان أجمع من صبينا الذى معنا من بكائه من الجوع، ما فى ثديى ما يغنيه وما فى شارفنا ما يغذيه، ولكنا نرجو الغيث والفرج.
فخرجت على أتانى تلك، فلقد أذمت بالركب حتى شق ذلك عليهم، ضعفا وعجفا. حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء، فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله
__________
(1) هى حليمة بنت أبى ذؤيب، وأبو ذؤيب هو عبد الله بن الحارث بن شجنة بن جابر بن رزام بن ناضرة بن سعد بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن غيلان بن مضر. وانظر ترجمتها: فى الاستيعاب الترجمة رقم (3336) ، الإصابة الترجمة رقم (11056) ، أسد الغابة الترجمة رقم (6855) .
(2) سنة شهباء: إذا كانت مجدبة بيضاء من الجدب لا يرى فيها خضرة، وقيل الشهباء التى ليس فيها مطر. انظر: اللسان (مادة شهب) .
(3) القمراء: لون يميل إلى الخضرة، وقيل بياض، فيه كدرة يقال: حمار أقمر وأتان قمراء أى بيضاء وليلة قمراء أى مضيئة. انظر: اللسان (مادة قمر) .
(4) الشارف: الناقة التى قد أسنت وقال أبو الأعرابى الشارف الناقة الهمة، والشارف من الإبل المسن والمسنة والجمع شوارف. انظر: اللسان (مادة شرف) .(1/110)
صلى الله عليه وسلم فتأباه إذا قيل لها إنه يتيم، وذلك أنا إنما كنا نرجو المعروف من أبى الصبى، فكنا نقول: يتيم ما عسى أن تصنع أمه وجده!! فكنا نكرهه لذلك.
فما بقيت امرأة قدمت معى إلا أخذت رضيعا غيرى. فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبى: والله إنى لأكره أن أرجع من بين صواحبى ولم آخذ رضيعا، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه.
قال: لا عليك أن تفعلى، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة. قالت: فذهبت إليه فأخذته، وما حملنى على أخذه إلا أنى لم أجد غيره.
فلما أخذته رجعت به إلى رحلى، فلما وضعته فى حجرى أقبل عليه ثدياى بما شاء من لبن، فشرب حتى روى وشرب معه أخوه حتى روى. ثم ناما وما كنا ننام معه قبل ذلك. وقام زوجى إلى شارفنا تلك فإذا إنها لحافل «1» ، فحلب منها ما شرب وشربت حتى انتهينا ريا وشبعا.
فبتنا بخير ليلة، يقول صاحبى حين أصبحنا: تعلمى والله يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة! قلت: والله إنى لأرجو ذلك. ثم خرجنا، وركبت أتانى وحملته عليها معى، فو الله لقطعت بالركب، ما يقدر على شىء من حميرهم، حتى إن صواحبى ليقلن: يا بنت أبى ذؤيب ويحك! اربعى «2» علينا! أليست هذه أتانك التى كنت خرجت عليها؟! فأقول لهن: بلى والله إنها لهى. فيقلن: والله إن لها لشأنا.
قالت: ثم قدمنا منازلنا من بنى سعد، ولا أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها، فكانت غنمى تروح على حين قدمنا به معنا شباعا لبنا، فنحلب ونشرب وما يحلب إنسان قطرة لبن ولا يجدها فى ضرع، حتى كان الحاضر من قومنا يقولون لرعيانهم:
ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعى بنت أبى ذؤيب. فتروح أغنامهم جياعا ما تبض بقطرة لبن وتروح غنمى شباعا لبنا.
فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير، حتى مضت سنتان وفصلته. وكان يشب شبابا لا يشبه الغلمان، فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاما جعفرا. فقدمنا به على أمه ونحن أحرص شىء على مكثه فينا، لما كنا نرى من بركته.
__________
(1) حافل: ممتلئة الضرع من اللبن، والحفل اجتماع اللبن فى الضرع، والمحفلة التى اجتمع لبنها فى ضرعها أياما.
(2) اربعى: أى انتظرينا، وهى من ربع يربع إذا وقف وانتظر. انظر: اللسان (مادة ربع) .(1/111)
فكلمنا أمه وقلت لها: لو تركت بنى عندى حتى يغلظ، فإنى أخشى عليه وباء مكة. فلم نزل بها حتى ردته معنا، فرجعنا به.
فو الله إنه بعد مقدمنا به بأشهر مع أخيه لفى بهم لنا خلف بيوتنا إذ أتانا أخوه يشتد، فقال لى ولأبيه ذاك أخى القرشى قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه فشقا بطنه فهما يسوطانه.
قالت: فخرجت أنا وأبوه نحوه، فوجدناه قائما منتقعا وجهه. قالت: فالتزمته والتزمه أبوه، فقلنا: ما لك يا بنى؟ قال: «جاءنى رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعانى فشقا بطنى فالتمسا فيه شيئا لا أدرى ما هو» «1» .
قالت: فرجعنا به إلى خبائنا وقال لى أبوه: يا حليمة لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب، فألحقيه بأهله قبل أن يظهر ذلك به. قالت: فاحتملناه فقدمنا به على أمه، فقالت: ما أقدمك به يا ظئر «2» ولقد كنت حريصة عليه وعلى مكثه عندك؟.
قلت: قد بلغ والله بابنى، وقضيت الذى على، وتخوفت الأحداث عليه، فأديته عليك كما تحبين. قالت: ما هذا شأنك، فاصدقينى خبرك. قالت: فلم تدعنى حتى أخبرتها.
قالت: أفتخوفت عليه الشيطان؟ قلت: نعم.
قالت: كلا والله ما للشيطان عليه سبيل، وإن لبنى لشأنا، أفلا أخبرك خبره، قلت:
بلى. قالت: رأيت حين حملت به أنه خرج منى نور أضاء لى قصور بصرى من أرض الشام.
ثم حملت به، فو الله ما رأيت من حمل قط كان أخف ولا أيسر منه، ووقع حين ولدته وإنه لواضع يديه بالأرض رافع رأسه إلى السماء. دعيه عنك وانطلقى راشدة «3» .
__________
(1) قصة شق صدر النبى، وهو عند حليمة السعدية مشهوره، وقد رواها الإمام مسلم فى صحيحه (1/ 101، 102) عن أنس بن مالك: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل، وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه فاستخرجه، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله فى طست من ذهب بماء زمزم ثم لزمه ثم أعاده إلى مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه، يعنى مرضعته، أن محمدا قد قتل فاستقبلوه وهو منتقع اللون» .
(2) الظئر: مهموز العاطفة على غير ولدها المرضعة له من الناس والإبل الذكر والأنثى فى ذلك سواء والجمع اظئار. انظر: اللسان (مادة ظئر) .
(3) انظر: السيرة (144- 146) .(1/112)
ويروى أن نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا له: يا رسول الله: أخبرنا عن نفسك. قال: «نعم، أنا دعوة أبى إبراهيم، وبشارة عيسى ابن مريم، ورأت أمى حين حملت بى أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام، واسترضعت فى بنى سعد بن بكر، فبينا أنا مع أخ لى خلف بيوتنا نرعى بهما لنا، أتانى رجلان عليهما ثياب بيض بطست من ذهب مملوءة ثلجا، فأخذانى فشقا بطنى ثم استخرجا قلبى فشقاه فاستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها ثم غسلا قلبى وبطنى بذلك الثلج حتى أنقياه، ثم قال أحدهما لصاحبه: زنه بعشرة من أمته فوزننى بعشرة فوزنتهم. ثم قال زنه بمائة من أمته. فوزننى بهم فوزنتهم. ثم قال: زنه بألف من أمته. فوزننى بهم فوزنتهم. فقال: دعه عنك، فلو وزنته بأمته لوزنها» «1» .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من نبى إلا وقد رعى الغنم» . قيل: وأنت يا رسول الله؟ قال: «وأنا» «2» .
وكان يقول لأصحابه: «أنا أعربكم، أنا قرشى واسترضعت فى بنى سعد بن بكر» «3» .
وزعم الناس فيما يتحدثون «4» ، والله أعلم، أن أمه السعدية لما قدمت به مكة أضلها فى الناس وهى مقبلة به نحو أهله، فالتمسته فلم تجده، فأتت عبد المطلب فقالت له: إنى قدمت بمحمد هذه الليلة فلما كنت بأعلى مكة أضلنى، فو الله ما أدرى أين هو.
فقام عبد المطلب عند الكعبة يدعو الله أن يرده، فيزعمون أنه وجده ورقة بن نوفل ورجل آخر من قريش فأتيا به عبد المطلب فقالا: هذا ابنك وجدناه بأعلى مكة. فأخذه عبد المطلب فجعله على عنقه وهو يطوف بالكعبة يعوذه ويدعو له؛ ثم أرسل به إلى أمه آمنة.
__________
(1) انظر الحديث فى: تفسير القرطبى (2/ 131) ، تفسير الطبرى (1/ 435) ، الدر المنثور للسيوطى (1/ 139، 5/ 207) ، كنز العمال للمتقى الهندى (31833، 31834، 31835، 31889) ، دلائل النبوة للبيهقى (1/ 69) ، طبقات ابن سعد (1/ 1/ 96) ، البداية والنهاية لابن كثير (2/ 275) .
(2) انظر الحديث فى: كنز العمال للمتقى الهندى (9242) ، البداية والنهاية لابن كثير (6/ 324) .
(3) انظر الحديث فى: كشف الخفاء للعجلونى (1/ 232) ، كنز العمال للمتقى الهندى (31884) ، طبقات ابن سعد (1/ 1/ 71) ، البداية والنهاية لابن كثير (2/ 277) .
(4) انظر: السيرة (1/ 148) .(1/113)
وذكر بعض أهل العلم «1» أن مما هاج أمه السعدية على رده، ما ذكرت لأمه وما أخبرتها عنه، أن نفرا من الحبشة نصارى رأوه معها حين رجعت به بعد فطامه، فنظروا إليه وسألوها عنه، وقلبوه، ثم قالوا لها: لنأخذن هذا الغلام فلنذهبن به إلى ملكنا وبلدنا، فإن هذا غلام كائن له شأن نحن نعرف أمره. فلم تكد تنفلت به منهم.
وذكر الواقدى أن أمه حليمة السعدية بعد أن رجعت به من عند أمه حضرت به سوق ذى المجاز، وبها يومئذ عراف من هوازن يؤتى إليه بالصبيان ينظر إليهم، فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى الحمرة فى عينيه وإلى خاتم النبوة، صاح: يا معشر العرب فاجتمع إليه أهل الموسم، فقال: اقتلوا هذا الصبى. وانسلت به حليمة. فجعل الناس يقولون: أى صبى هو؟ فيقول: هذا الصبى. فلا يرون شيئا، قد انطلقت به أمه، فيقال له:
ما هو؟ فيقول: رأيت غلاما، وآلهتكم، ليغلبن أهل دينكم وليكسرن أصنامكم وليظهرن أمره عليكم. فطلب بعكاظ فلم يوجد.
ورجعت به حليمة إلى منزلها، فكانت بعد هذا لا تعرضه لأحد من الناس. ولقد نزل بهم عراف، فأخرج إليه صبيان أهل الحاضر، وأبت حليمة أن تخرجه إليه، إلى أن غفلت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج من المظلة فرآه العراف فدعاه فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل الخيمة، فجهد بهم العراف أن يخرج إليه فأبت. فقال: هذا نبى.
وقد عرضه عمه أبو طالب على عائف من لهب، كان إذا قدم من مكة أتاه رجال قريش بغلمانهم ينظر إليهم ويعتاف لهم، فأتاه به أبو طالب وهو غلام مع من يأتيه، قال:
فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم شغله عنه شىء فقال: الغلام على به. فلما رأى أبو طالب حرصه عليه غيبه، فجعل يقول: ويلكم ردوا على الغلام الذى رأيت آنفا، فو الله ليكونن له شأن.
وانطلق به أبو طالب. وكانت حليمة بعد رجوعها به من مكة لا تدعه أن يذهب مكانا بعيدا. فغفلت عنه يوما فى الظهيرة، فخرجت تطلبه حتى تجده مع أخته. فقالت:
فى هذا الحر؟! فقالت أخته: يا أمه، ما وجد أخى حرا، رأيت غمامة تظل عليه إذا وقف وقفت وإذا سار سارت، حتى انتهى إلى هذا الموضع.
تقول أمها: أحقا يا بنية؟ قالت: إى والله. قال: تقول حليمة: أعوذ بالله من شر ما يحذر على ابنى. فكان ابن عباس يقول: رجع إلى أمه وهو ابن خمسن سنين. وكان غيره يقول: رجع إليها وهو ابن أربع سنين. هذا كله عن الواقدى.
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 148- 149) .(1/114)
قال ابن إسحاق: فكان النبى صلى الله عليه وسلم مع أمه آمنة وجده عبد المطلب فى كلاءة الله وحفظه، ينبته الله نباتا حسنا لما يريد من كرامته. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ست سنين توفيت أمه بالأبواء بين مكة والمدينة «1» .
وكان قد قدمت به إلى أخواله من بنى عدى بن النجار تزيره إياهم، فماتت وهى راجعة به إلى مكة. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جده عبد المطلب.
وكان يوضع لعبد المطلب فراش فى ظل الكعبة، فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتى وهو غلام جفر حتى يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم: دعوا ابنى فو الله إن له لشأنا.
ثم يجلسه معه عليه ويمسح ظهره بيده ويسره ما يراه يصنع «2» .
قالوا: وكانت أم أيمن تحدث تقول: كنت أحضن رسول الله صلى الله عليه وسلم فغفلت عنه يوما فلم أدر إلا بعبد المطلب قائما على رأسى يقول: يا بركة، قلت: لبيك، قال: أتدرين أين وجدت ابنى؟ قلت: لا أدرى. قال: وجدته مع غلمان قريبا من السدرة، لا تغفلى عن ابنى، فإن أهل الكتاب يزعمون أن ابنى نبى هذه الأمة، وأنا لا آمن عليه منهم.
وكان لا يأكل طعاما إلا قال: على بابنى. فيؤتى به إليه.
وحدث كعب بن مالك عن شيوخ من قومه أنهم خرجوا عمارا، وعبد المطلب يومئذ حى بمكة، ومعهم رجل من يهود تيماء، صحبهم للتجارة يريد مكة أو اليمن، فنظر إلى عبد المطلب، فقال: إنا نجد فى كتابنا الذى لم يبدل أنه يخرج من ضئضى هذا نبى يقتلنا وقومه قتل عاد.
وجلس عبد المطلب يوما فى الحجر وعنده أسقف نجران: وكان صديقا له، وهو يحادثه وهو يقول: إنا نجد صفة نبى بقى من ولد إسماعيل، هذه مولده، من صفته كذا وكذا.
وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الحديث، فنظر إليه الأسقف وإلى عينيه وإلى ظهره وإلى قدميه، فقال: هو هذا. فقال الأسقف: ما هذا منك؟ قال: ابنى. قال الأسقف: لا،
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 149) .
(2) انظر: السيرة (1/ 149) .(1/115)
ما نجد أباه حيّا. قال عبد المطلب: هو ابن ابنى مات أبوه وأمه حبلى به. قال: صدقت.
قال عبد المطلب: تحفظوا بابن أخيكم، ألا تسمعون ما يقال فيه؟!.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يلعب مع الغلمان حتى بلغ الردم، فرآه قوم من بنى مدلج فدعوه، فنظروا إلى قدميه وإلى أثره، ثم خرجوا فى طلبه حتى صادفوا عبد المطلب قد لقيه فاعتنقه، فقالوا لعبد المطلب: ما هذا منك؟ قال: ابنى. قالوا: فاحتفظ به، فإنا لم نر قدما قط أشبه بالقدم الذى فى المقام من قدمه.
فقال عبد المطلب لأبى طالب: اسمع ما يقول هؤلاء. فكان أبو طالب يحتفظ به.
وقد روى أبو داود السجستانى من حديث ابن عباس، قال: أتى نفر من قريش امرأة كاهنة، فقالوا: أخبرينا بأقربنا شبها بصاحب هذا المقام.
قالت: إن جررتم على السهلة عباءة ومشيتم عليها أنبأتكم بأقربكم شبها به. فجروا عليها عباءة، ثم مشوا عليها، فرأت أثر قدم لمحمد صلى الله عليه وسلم، فقالت: هذا والله أقربكم شبها به.
قال ابن عباس: فمكثوا بعد عشرين سنة، ثم بعث محمد صلى الله عليه وسلم. ولما ظهر سيف بن ذى يزن على الحبشة، وذلك بعد مولد النبى صلى الله عليه وسلم أتته وفود العرب وأشرافها وشعراؤها يهنئونه ويمدحونه ويذكرون من حسن بلائه وطلبه بثأر قومه.
فأتاه وفد قريش وفيهم عبد المطلب بن هاشم فى أناس من وجوه قريش، فقدموا عليه صنعاء فأذن لهم، فلما دخلوا عليه دنا عبد المطلب منه فاستأذنه فى الكلام، فقال:
إن كنت ممن يتكلم بين يدى الملوك فقد أذنا لك.
فقال عبد المطلب: إن الله قد أحلك أيها الملك محلا رفيعا صعبا منيعا، شامخا باذخا، وأنبتك منبتا طابت أرومته وعزت جرثومته، وثبت أصله، وبسق فرعه، فى أكرم موطن، وأطيب معدن.
وأنت أيها الملك رأس العرب الذى به تنقاد، وعمودها الذى عليه العماد، ومعقلها الذى يلجأ إليه العباد، سلفك لك خير سلف، وأنت لنا فيه خير خلف، فلم يخمل من أنت سلفه، ولن يهلك من أنت خلفه، نحن أيها الملك أهل حرم الله وسدنة بيته، أشخصنا إليك الذى أبهجنا بكشف الكرب الذى فدحنا، فنحن وفد التهنئة لا وفد المرزئة.(1/116)
فقال له سيف: وأيهم أنت أيها المتكلم؟ فقال: أنت عبد المطلب بن هاشم. قال: ابن أختنا؟ قال: نعم؟ قال: أدنه، فأدناه. ثم أقبل عليه وعلى القوم، فقال لهم: مرحبا وأهلا، قد سمع الملك مقالتكم وعرف قرابتكم وقبل وسيلتكم، وأنتم أهل الليل والنهار، فلكم الكرامة ما أقمتم والحباء إذا ظعنتم.
ثم أنهضوا إلى دار الضيافة والوفود، فأقاموا شهرا لا يصلون إليه ولا يأذن لهم بالانصراف. ثم انتبه لهم انتباهة فأرسل إلى عبد المطلب، فقال له: إنى مفوض إليك من سنى علمى أمرا لو يكون غيرك لم أبح له به، ولكنى رأيتك معدنه فأطلعتك عليه، فليكن عندك مكنونا حتى يأذن الله فيه، فإن الله بالغ أمره.
إنى أجد فى الكتاب المكنون والعلم المخزون الذى اختزناه لأنفسنا واجتبيناه دون غيرنا خيرا عظيما وخطرا جسيما، فيه شرف الحياة وفضيلة الوفاة، للناس عامة ولرهطك كافة، ولك خاصة.
فقال له عبد المطلب: مثلك أيها الملك سر وبر، فما هو؟ فداك أهل الوبر زمرا بعد زمر.. فقال: إذا ولد بتهامة غلام بين كتفيه شامة، كانت له الإمامة ولكم به الزعامة إلى يوم القيامة.
فقال له عبد المطلب: لقد أبت بخير ما آب بمثله وافد، ولولا هيبة الملك وإجلاله وإعظامه لسألته من ساره إياى ما أزداد به سرورا.
فقال له ابن ذى يزن: هذا حينه الذى يولد فيه، أو قد ولد، اسمه محمد، يموت أبوه وأمه ويكفله جده وعمه، قد ولدناه مرارا والله باعثه جهارا وجاعل له منا أنصارا يعز بهم أولياءه ويذل بهم أعداءه، يضرب بهم الناس عن عرض، ويستبيح بهم كرائم الأرض، ويكسر الصلبان ويخمد النيران ويعبد الرحمن ويدحر الشيطان، قوله فصل وحكمه عدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويبطله.
فقال له عبد المطلب: عز جدك وعلا كعبك ودام ملكك وطال عمرك، فهل الملك سارى بإفصاح، فقد أوضح لى بعض الإيضاح.
فقال له ابن ذى يزن: والبيت والحجب، والعلامات والنصب، إنك يا عبد المطلب لجده غير كذب. فخر عبد المطلب ساجدا، فقال له: ارفع رأسك ثلج صدرك وعلا أمرك، هل أحسست بشىء مما ذكرت لك؟.(1/117)
فقال عبد المطلب: كان لى ابن، وكنت عليه رفيقا، فزوجته كريمة من كرائم قومه، فجاء بغلام فسميته محمدا، فمات أبوه وأمه، وكفلته أنا.
فقال له ابن ذى يزن: إن الذى قلت لك كما قلت، فاحتفظ بابنك واحذر عليه اليهود، فإنهم أعداؤه، ولن يجعل الله عليه سبيلا، واطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك، فإنى لا آمن أن تدخلهم التعاسة من أن تكون لكم الرياسة، فيطلبون له الغوائل وينصبون له الحبائل، وهم فاعلون وأبناؤهم، ولولا أنى أعلم أن الموت مخترمى قبل مبعثه لسرت بخيلى ورجلى حتى أصير بيثرب دار ملكه، فإنى أجد فى الكتاب الناطق والعلم السابق أن بيثرب استحكام أمره وأهل النصرة له، وموضع قبره، ولولا أنى أخاف عليه الآفات واحذر عليه العاهات لأعلنت على حداثة سنه بذكره، ولكنى صارف ذلك إليك، من غير تقصير بمن معك.
ثم أمر لكل رجل من القوم بعشرة أعبد وعشر إماء، وحلس من البرود، ومائة من الإبل، وخمسة أرطال ذهب، وعشرة أرطال فضة، وكرش مملوءة عنبرا. وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك كله، وقال له: إذا حال الحول فائتنى. فمات ابن ذى يزن قبل أن يحول الحول، فكان عبد المطلب كثيرا ما يقول: يا معشر قريش، لا يغبطنى أحدكم بجزيل عطاء الملك وإن كثر، فإنه إلى نفاد، ولكن ليغبطنى بما يبقى لى ولعقبى من بعدى ذكره، وفخره وشرفه. فإذا قيل له: فما ذاك؟ قال: ستعلمون نبأه ولو بعد حين.
وحديث سيف بن ذى يزن هذا عن غير ابن إسحاق وهو عندنا بالإسناد، وقد تقدم ما ألقاه تبع الآخر إلى ملوك حمير وأبنائهم من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن علم سيف بذلك إنما كان من تلك الجهات. والله أعلم.
ثم إن عبد المطلب بن هاشم هلك عن سن عالية مختلف فى حقيقتها «1» . أدناها فيما انتهى إلى ووقفت عليه، خمس وتسعون سنة؛ ذكره الزبير.
وأعلاها فيما ذكر الزبير أيضا، عن نوفل بن عمارة قال: كان عبيد بن الأبرص ترب عبد المطلب، وبلغ مائة وعشرين سنة، وبقى عبد المطلب بعده عشرين سنة.
وقال محمد بن سعيد بن المسيب: لما حضرت الوفاة عبد المطلب وعرف أنه ميت جمع بناته وكن ستا: صفية، وبرة، وعاتكة، وأم حكيم البيضاء، وأميمة وأروى، فقال
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 149) .(1/118)
لهن: ابكين على حتى أسمع ما تقلن قبل أن أموت. فقالت كل واحدة منهن شعرا ترثيه به وأنشدته إياه، فأشار برأسه، وقد أصمت: أن هكذا فابكيننى. وذكر ابن إسحاق تلك الأشعار «1» .
وقال ابن هشام: إنه لم ير أحدا من أهل العلم بالشعر يعرفها «2» .
قال ابن إسحاق: وقال حذيفة بن غانم أخو بنى عدى بن كعب يبكى عبد المطلب بن هاشم، ويذكر فضله، وفضل قصى على قريش وفضل ولده من بعده عليهم:
أعينى جودا بالدموع على الصدر ... ولا تسأما أسقيتما سبل القطر «3»
وجودا بدمع واشفحا كل شارق ... بكاء امرئ لم يشوه نائب الدهر «4»
وسحا وجما واسجما ما بقيتما ... على ذى حياء من قريش وذى ستر
على رجل جلد القوى ذى حفيظة ... جليل المحيا غير نكس ولا هذر
على المزد البهلول ذى البأس والندى ... ربيع لؤى فى القحوط وفى العسر
على خير حاف من معد وناعل ... كريم المساعى طيب الخيم والنجر «5»
على شيبة الحمد الذى كان وجهه ... يضىء سواد الليل كالقمر البدر
وساقى الحجيج ثم للخير هاشم ... وعبد مناف ذلك السيد الفهرى
طوى زمزما عند المقام فأصبحت ... سقايته فخرا على ذى فخر
ليبك عليه كل عان بكربة ... وآل قصى من مقل وذى وفر
بنوه سراة كهلهم وشبابهم ... تفلق عنهم بيضة الطائر الصقر
__________
(1) انظر ما ذكره ابن إسحاق فى: السيرة (1/ 150- 154) .
(2) هذا قول ابن هشام فى السيرة وقد ذكر أنه ذكرها لأنه رواه عن محمد بن سعيد بن المسيب فكتبه. انظر: السيرة (1/ 150) .
(3) سبل: أى المطر، وقيل: هو المطر بين السحاب والأرض حين يخرج من السحاب ويخرج من الأرض. انظر: اللسان (مادة سبل) .
(4) كل شارق: الشارق أى كل يوم طلعت فيه الشمس، وقيل: الشارق قرن الشمس. ولم يشوه: الإشواء يوضع موضع الإبقاء، قال أبو منصور: هذا كله من إشواء الرامى وذلك إذا رمى فأصاب الأطراف ولم يصيب المقتل فيوضع الإشواء موضع الخطأ والشىء الهين.
(5) أورد فى السيرة بعد هذا البيت بيتين لم يذكرهما هنا هما:
وخيرهم أصلا وفرعا ومعدنا ... وأحظاهم بالمكرمات وبالذكر
وأولاهم بالمجد والحلم والنهى ... وبالفضل عند المجحفات من الغبر
انظر: السيرة (1/ 155) .(1/119)
قصى الذى عادى كنانة كلها ... ورابط بيت الله فى العسر واليسر
فإن تك غالته المنايا وصرفها ... فقد عاش ميمون النقيبة والأمر
وأبقى رجالا سادة غير عزل ... مصاليت أمثال الردينية السمر
أبو عتبة الملقى إلى حباءه ... أغر هجان اللون من نفر غر
وحمزة مثل البدر يهتز للندى ... نقى الثياب والذمام من الغدر
وعبد مناف ماجد ذو حفيظة ... وصول لذى القربى رحيم بذى الصهر
كهولهم خير الكهول ونسلهم ... كنسل الملوك لا تبور ولا تحرى
متى ما تلاقى منهم الدهر ناشئا ... تجده بإجريا أوائله يجرى
هم ملأوا البطحاء مجدا وسؤددا ... إذا استبق الخيرات فى سالف العصر
وهم حضروا والناس باد فريقهم ... وليس بها إلا شيوخ بنى عمرو
بنوها ديارا جمة وطووا بها ... بئرا تسح الماء من ثبج بحر
لكى يشرب الحجاج منها وغيرهم ... إذا ابتدروها صبح تابعة النحر
ثلاثة أيام تظل ركابهم ... محبسة بين الأخاشب والحجر
وقدما غنينا قبل ذلك حقبة ... ولا نستقى إلا بخم أو الحفر
هم يغفرون الذنب ينقم دونه ... ويعفون عن قول السفاهة والهجر
أخارج إما أهلكن فلا تزل ... لهم شاكرا حتى تغيب فى القبر
ولا تنس ما أسدى ابن لبنى فإنه ... قد أسدى يدا محقوقة منك بالشكر
وأنت ابن لبنى من قصى إذا انتموا ... بحيث انتهى قصد الفؤاد من الصدر
وأمك سر من خزاعة جوهر ... إذا حصل الأنساب يوما ذوو الخبر
إلى سبأ الأبطال تنمى وتنتمى ... وأكرم بها منسوبة فى ذرى الدهر*
ابن لبنى هذا أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب، وهو أبو عتبة الذى ذكره قبل فى هذا الشعر. وكانت أمه امرأة من خزاعة اسمها لبنى بنت هاجر. ولذلك قال: «وأمك سر من خزاعة» «1» .
ونماها إلى سبأ الأبطال بناء على ما قدمناه من انتماء خزاعة إلى عمرو بن عامر، من
__________
(*) أورد فى السيرة بعد هذا البيت بيتين لم يذكرهما هنا هما:
أبو شمير منهم وعمرو بن مالك ... وذو جدن من قومها وأبو الجبر
وأسعد قاد الناس عشرين حجة ... يؤيد فى تلك المواطن بالنصر
انظر: السيرة (1/ 157، 158) .
(1) انظر: السيرة (1/ 158) .(1/120)
غسان وانتفائهم من المضرية. واليد التى ذكر هذا الشاعر أنها ترتبت عليه لأبى لهب:
وذكر ابن إسحاق أنه كان أخذ بغرم أربعة آلاف درهم بمكة، فوقف بها، فمر به أبو لهب فافتكه.
ونسب الزبير هذا الشعر لحذافة بن غانم، ودليله قوله فيه:
«أخارج إما أهلكن» ... البيت.
فإن خارجة هو ابن حذافة وحذيفة الذى نسب ابن إسحاق إليه الشعر هو أخو حذافة، ولا يعرف له ابن يسمى خارجة، وإنما هو والد أبى جهم بن حذيفة، واسم أبى جهم عبيد «1» ، وهو الذى بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخميصة ذات الأعلام التى ألهته عن صلاته، وأمر أن يؤتى بأنبجانية.
ولما هلك عبد المطلب، ولى زمزم والسقاية عليها ابنه العباس وهو يومئذ من أحدث إخوته سنا، فلم تزل إليه حتى قام الإسلام وهى بيده، فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما مضى من ولايته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجله إجلال الولد الوالد.
يقول كريب مولى ابن عباس: وما ينبغى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجل إلا والدا أو عما، فضيلة خص الله بها العباس دون من سواه. وقال صلى الله عليه وسلم: «احفظونى فى عمى عباس، فإن عم الرجل صنو أبيه» «2» .
وطلع يوما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «هذا العباس أجود قريش كفّا وأوصلها» «3» .
ولم يزل العباس سيدا فى الجاهلية والإسلام، يمنع الجار ويبذل المال ويعطى فى النوائب.
قال الزبير: وكان يقال: كان للعباس بن عبد المطلب ثوب لعارى بنى هاشم، وجفنة
__________
(1) هو: أبو جهم بن حذيفة بن غانم بن عامر بن عبد الله بن عبيد بن عويج بن عدى بن كعب القرشى العدوى، قيل: اسمه عامر بن حذيفة، وقيل: عبيد الله بن حذيفة. انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2929) ، الإصابة الترجمة رقم (9703) ، أسد الغابة الترجمة رقم (5780) .
(2) أخرجه الطبرانى فى الصغير (1/ 207) ، الخطيب البغدادى فى التاريخ (10/ 68) ، الهيثمى فى المجمع (9/ 269) ، المتقى الهندى فى الكنز (33389، 33395، 33396، 33411) ، ابن عدى فى الضعفاء (2/ 768) .
(3) أخرجه ابن كثير فى البداية والنهاية (7/ 161) ، السيوطى فى اللآلئ المصنوعة (1/ 223) ، الحاكم فى المستدرك (3/ 328، 329) .(1/121)
لجائعهم، ومقطرة لجاهلهم. والمقطرة: خشبة ذات سلسلة يحبس فيها الناس. وفى ذلك يقول إبراهيم بن على بن هرمة:
وكانت لعباس ثلاث نعدها ... إذا ما جناب الحى أصبح أشهبا
فسلسلة تنهى الظلوم وجفنة ... تناخ فيكسوها السنام المرغبا
وحلمة عصب ما تزال معدة ... لعار ضريك ثوبه قد تهدبا
وقال ابن شهاب: لقد جاء الله بالإسلام وإن جفنة العباس لتدور على فقراء بنى هاشم، وإن قيده وسوطه لمعد لسفهائهم. قال: فكان ابن عمر يقول: هذا والله الشرف، يطعم الجائع ويؤدب السفيه!.
وكان أبو بكر وعمر فى ولايتهما لا يلقى العباس واحد منهما وهو راكب إلا نزل عن دابته وقادها ومشى مع العباس حتى يبلغ منزله أو مجلسه فيفارقه. وبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مهلك جده عبد المطلب مع عمه أبى طالب. وكان عبد المطلب يوصيه به فيما يزعمون.
وذلك أن عبد الله أبا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا طالب أخوان لأب وأم، فكان أبو طالب هو الذى يلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد جده، فكان إليه ومعه «1» .
وذكر الواقدى أن أبا طالب كان مقلا من المال، وكانت له قطعة من الإبل تكون بعرنة، فيبدو إليها فيكون فيها، ويؤتى بلبنها إذا كان حاضرا بمكة.
فكان عيال أبى طالب إذا أكلوا جميعا وفرادى لم يشبعوا، وإذا أكل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شبعوا. فكان أبو طالب إذا أراد أن يعشيهم أو يغديهم يقول: كما أنتم حتى يأتى ابنى.
فيأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل معهم فيفضلون من طعامهم؛ وإن كان لبنا شرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أولهم، ثم يناول العيال القعب فيشربون منه فيروون من عند آخرهم من القعب الواحد، وإن كان أحدهم ليشرب قعبا!. فيقول أبو طالب: إنك لمبارك!. وكان الصبيان يصبحون شعثا رمضا ويصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم دهينا كحيلا.
وقالت أم أيمن «2» ، وكانت تحضنه: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم شكا جوعا قط ولا
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 159) .
(2) هى: بركة بنت ثعلبة بن عمرو بن حصن بن مالك بن سلمة بن عمرو بن النعمان، غلبت عليها كنيتها. انظر ترجمتها فى: الاستيعاب الترجمة رقم (3287) ، الإصابة الترجمة رقم (10921) .(1/122)
عطشا، وكان يغدو إذا أصبح فيشرب من ماء زمزم شربة، فربما عرضنا عليه الغذاء فيقول: لا أريده أنا شبعان.
قال ابن إسحاق «1» : ثم إن أبا طالب خرج فى ركب تاجرا إلى الشام، فلما تهيأ للرحيل صب به «2» رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يزعمون، فرق له أبو طالب وقال: والله لأخرجن به معى ولا يفارقنى ولا أفارقه أبدا أو كما قال.
فخرج به معه، فلما نزل الركب بصرى «3» من أرض الشام، وبها راهب يقال له بحيرى فى صومعة له، وكان إليه علم أهل النصرانية، ولم يزل فى تلك الصومعة منذ قط راهب إليه يصير علمهم عن كتاب فيها فيما يزعمون يتوارثونه كابرا عن كابر.
فلما نزلوا ذلك العام ببحيرى وكانوا كثيرا ما يمرون به قبل ذلك فلا يكلمهم ولا يعرض لهم، حتى كان ذلك العام، فلما نزلوا به قريبا من صومعته صنع لهم طعاما كثيرا، وذلك فيما يزعمون عن شىء رآه وهو فى صومعته، يزعمون أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الركب حين أقبلوا وغمامة تظله من بين القوم، ثم أقبلوا فنزلوا فى ظل شجرة قريبا منه، فنظر إلى الغمامة حتى أظلت الشجرة وتهصرت «4» أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استظل تحتها، فلما رأى ذلك بحيرى نزل من صومعته وقد أمر بذلك الطعام فصنع، ثم أرسل إليهم فقال: إنى قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش وأحب أن تحضروا كلكم صغيركم وكبيركم وعبدكم وحركم. فقال له رجل منهم:
والله يا بحيرى إن لك اليوم لشأنا! ما كنت تصنع هذا بنا، وقد كنا نمر بك كثيرا، فما شأنك اليوم؟.
قال له بحيرى: صدقت، قد كان ما تقول، ولكنكم ضيف، وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاما فتأكلوا منه كلكم. فاجتمعوا إليه وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم لحداثة سنه فى رحال القوم، فلما نظر بحيرى فى القوم لم ير الصفة التى يعرف
__________
(1) هذه قصة بحيرى، وقد ذكرها ابن إسحاق فى السيرة (1/ 160- 162) .
(2) صب به: الصبابة الشوق، وقيل: رقته وحرارته، وقيل: رقة الهواء، وصب الرجل إذا عشق يصب صبابا. انظر: اللسان (مادة صبب) .
(3) بصرى: موضع بالشام من أعمال دمشق وهى قصبة كورة حوران مشهورة عند العرب. انظر: معجم البلدان (1/ 441) .
(4) تهصرت: قال الجوهرى: هصرت الفض بالكسر إذا أخذت برأسه فأملته إليك، وتهصرت أغصان الشجر أى تهدلت عليه. انظر: اللسان (مادة هصر) .(1/123)
ويجد عنده، فقال: يا معشر قريش لا يتخلفن أحد منكم عن طعامى.
فقالوا له: يا بحيرى ما تخلف عنك أحد ينبغى له أن يأتيك إلا غلام، وهو أحدث القوم سنا، فتخلف فى رحالهم. فقال: لا تفعلوا، ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم.
فقال رجل من قريش: واللات والعزى، إن كان للؤما بنا أن يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا. ثم قام إليه فاحتضنه وأجلسه مع القوم.
فلما رآه بحيرى جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا قام إليه بحيرى فقال: يا غلام أسألك بحق اللات والعزى إلا ما أخبرتنى عما أسألك عنه. وإنما قال له بحيرى ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما. فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسألنى باللات والعزى شيئا، فو الله ما أبغضت شيئا قط بغضهما» . فقال له بحيرى: فبالله إلا ما أخبرتنى عما أسألك عنه. قال له: سلنى عما بدا لك.
فجعل يسأله عن أشياء من حاله فى نومه وهيئته وأموره، ويخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم فيوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته وأموره ويخبره. ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التى عنده. فلما فرغ أقبل على عمه أبى طالب، فقال:
ما هذا الغلام منك؟ قال: ابنى، قال: ما هو بابنك، وما ينبغى لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا، قال: فإنه ابن أخى. قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حبلى به.
قال: صدقت، فارجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر عليه يهود، فو الله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، فأسرع به إلى بلاده «1» .
فخرج به عمه أبو طالب سريعا حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام.
فزعموا أن نفرا من أهل الكتاب قد كانوا رأوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى بحيرى فى ذلك السفر الذى كان فيه مع عمه أبى طالب، فأرادوه فردهم عنه بحيرى، وذكرهم الله
__________
(1) ذكر قصة بحيرى: الترمذى فى السنن (3620) ، ابن أبى شيبة فى المصنف (11/ 479، 14/ 286) ، أبو نعيم فى الدلائل (129) ، الحاكم فى المستدرك (2/ 616) ، ابن حجر فى الفتح (8/ 587) ، ابن هشام فى السيرة (1/ 160) ، ابن سعد فى الطبقات (1/ 120) ، الطبرى فى التاريخ (2/ 277) ، ابن عساكر فى تاريخ دمشق (1، 10) ، السهيلى فى الروض الأنف (1/ 205- 208) .(1/124)
وما يجدون فى الكتاب من ذكره وصفاته، وأنهم إن أجمعوا إلى ما أرادوا لم يخلصوا إليه، حتى عرفوا ما قال لهم وصدقوه بما قال، فتركوه وانصرفوا عنه.
فشب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلؤه الله ويحفظه، ويحوطه من أقذار الجاهلية لما يريد به من كرامته ورسالته. حتى بلغ أن كان رجلا أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقا، وأكرمهم حسبا، وأحسنهم جوارا، وأعظمهم حلما، وأصدقهم حديثا وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفحش والأخلاق التى تدنس الرجال، تنزها وتكرما. حتى ما اسمه فى قومه إلا الأمين، لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة.
وكان صلى الله عليه وسلم يحدث عما كان الله يحفظه به فى صغره وأمر جاهليته، أنه قال: لقد رأيتنى فى غلمان قريش ننقل حجارة لبعض ما يلعب به الغلمان، كلنا قد تعرى وأخذ إزاره وجعله على رقبته يحمل عليها الحجارة، فإنى لأقبل معهم كذلك وأدبر إذ لكمنى لاكم ما أراه لكمة وجيعة، ثم قال: شد عليك إزارك. قال: فأخذته فشددته على، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتى وإزارى على من بين أصحابى «1» . وذكر البخارى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما هممت بسوء من أمر الجاهلية إلا مرتين» «2» .
وروى غيره أن إحدى المرتين كان فى غنم يرعاها هو وغلام من قريش، فقال لصاحبه: «اكفنى أمر الغنم حتى آتى مكة» ، وكان بها عرس فيها لهو، فلما دنا من الدار ليحضر ذلك ألقى عليه النوم، فنام حتى ضربته الشمس، عصمة من الله له!. والمرة الأخرى مثل الأولى سواء.
وذكر الواقدى عن أم أيمن قالت: كانت بوانة صنما تحضره قريش وتعظمه وتنسك له وتحلق عنده وتعكف عليه يوما إلى الليل فى كل سنة، فكان أبو طالب يحضره مع قومه ويكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحضر ذلك العيد معهم فيأبى ذلك.
قالت: حتى رأيت أبا طالب غضب عليه ورأيت عماته غضبن يومئذ أشد الغضب، وجعلن يقلن: إنا لنخاف عليك مما تصنع من اجتناب آلهتنا. ويقلن: ما تريد يا محمد أن تحضر لقومك عيدا ولا تكثر لهم جمعا؟!
فلم يزالوا به حتى ذهب، فغاب عنهم ما شاء الله ثم رجع مرعوبا فزعا، فقلن له: ما
__________
(1) ذكره ابن إسحاق فى السيرة (1/ 162- 163) ، البيهقى فى دلائل النبوة (2/ 31) ، ابن حجر فى فتح البارى (7/ 181) ، ابن كثير فى البداية والنهاية (2/ 287) .
(2) أخرجه الهيثمى فى المجمع (8/ 226) ، المتقى الهندى فى الكنز (35438) .(1/125)
دهاك؟ قال: إنى أخشى أن يكون بى لمم. فقلن: ما كان الله عز وجل ليبتليك بالشيطان وفيك من خصال الخير ما فيك، فما الذى رأيت؟.
قال: إنى كلما دنوت من صنم منها تمثل لى رجل أبيض طويل يصيح بى: وراءك يا محمد لا تمسه. قالت: فما عاد إلى عيد لهم حتى نبئ صلوات الله عليه وعلى آله.
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة تزوج خديجة بنت خويلد، فيما ذكره غير واحد من أهل العلم «1» .
وذكر الواقدى بإسناد له إلى نفيسة بنت منية أخت يعلى بن منية، وقد رويناه أيضا من طريق أبى على بن السكن، وحديث أحدهما داخل فى حديث الآخر مع تقارب اللفظ، وربما زاد أحدهما الشىء اليسير، وكلاهما ينمى إلى نفيسة.
قالت: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، خمسا وعشرين سنة وليس له بمكة اسم إلا الأمين، لما تكاملت فيه من خصال الخير، قال أبو طالب: يا ابن أخى أنا رجل لا مال لى، وقد اشتد الزمان علينا وألحت علينا سنون منكرة، وليست لنا مادة ولا تجارة، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالا من قومك فى عيراتها فيتجرون لها فى مالها ويصيبون منافع.
فلو جئتها فعرضت نفسك عليها لأسرعت إليك وفضلتك على غيرك، لما يبلغها عنك من طهارتك، وإن كنت لأكره أن تأتى الشام وأخاف عليك من يهود، ولكن لا تجد من ذلك بدا.
وكانت خديجة امرأة تاجرة ذات شرف ومال كثير وتجارة تبعث بها إلى الشام، فتكون عيرها كعامة عير قريش، وكانت تستأجر الرجال وتدفع إليهم المال مضاربة.
وكانت قريش قوما تجارا، ومن لم يكن تاجرا من قريش فليس عندهم بشىء.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلعلها ترسل إلى فى ذلك. فقال أبو طالب: إنى أخاف أن تولى غيرك، فتطلب أمرا مدبرا. فافترقا، وبلغ خديجة ما كان من محاورة عمه له، وقبل ذلك ما قد بلغها من صدق حديثه، وعظم أمانته وكريم أخلاقه، فقالت: ما علمت أنه يريد هذا.
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 165) ، طبقات ابن سعد (8/ 14- 19) ، الروض الأنف للسهيلى (4/ 267) ، تاريخ الطبرى (3/ 161) .(1/126)
ثم أرسلت إليه فقالت: إنه دعانى إلى البعث إليك ما بلغنى من صدق حديثك وعظم أمانتك وكرم أخلاقك، وأنا أعطيك ضعف ما أعطى رجلا من قومك. ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقى أبا طالب فذكر له ذلك، فقال: إن هذا لرزق ساقه الله إليك.
فخرج مع غلامها ميسرة حتى قدم الشام، وجعل عمومته يوصون به أهل العير، حتى قدم الشام فنزلا فى سوق بصرى فى ظل شجرة قريبا من صومعة راهب يقال له:
نسطورا. فاطلع الراهب إلى ميسرة وكان يعرفه، فقال: يا ميسرة، من هذا الذى نزل تحت هذه الشجرة؟.
فقال ميسرة: رجل من قريش من أهل الحرم. فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبى. ثم قال له: فى عينيه حمرة. قال ميسرة: نعم، لا تفارقه.
فقال الراهب: هو هو، وهو آخر الأنبياء، ويا ليت أنى أدركه حين يؤمر بالخروج.
فوعى ذلك ميسرة. ثم حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم سوق بصرى، فباع سلعته التى خرج بها واشترى، فكان بينه وبين رجل اختلاف فى سلعة، فقال الرجل: احلف باللات والعزى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حلفت بهما قط. فقال الرجل: القول قولك.
ثم قال لميسرة، وخلا به: يا ميسرة، هذا نبى، والذى نفسى بيده إنه لهو، تجده أحبارنا منعوتا فى كتبهم فوعى ذلك ميسرة. ثم انصرف أهل العير جميعا. وكان ميسرة يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانت الهاجرة واشتد الحر، يرى ملكين يظلانه من الشمس وهو على بعيره.
قال: وكان الله عز وجل قد ألقى على رسول الله صلى الله عليه وسلم المحبة من ميسرة، فكان كأنه عبد لرسول الله. فلما رجعوا وكانوا بمر الظهران تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل مكة فى ساعة الظهيرة، وخديجة فى علية لها، معها نساء فيهن نفيسة بنت منية، فرأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل وهو راكب على بعيره، وملكان يظلان عليه، فأرته نساءها، فعجبن لذلك.
ودخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فخبرها بما ربحوا، فسرت بذلك. فلما دخل عليها ميسرة أخبرته بما رأت، فقال لها ميسرة: قد رأيت هذا منذ خرجنا من الشام. وأخبرها بقول الراهب نسطورا، وقول الآخر الذى خالفه فى البيع. قالوا: وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجارتها، فربحت ضعف ما كانت تربح، وأضعفت له ما سمت له. فلما استقر عندها هذا، وكانت امرأة حازمة شريفة لبيبة، مع ما أراد الله بها من الكرامة والخير، وهى(1/127)
يومئذ أوسط نساء قريش نسبا، وأعظمهن شرفا، وأكثرهن مالا، وكل قومها كان حريصا على نكاحها لو يقدر عليه، عرضت عليه نفسها.
فقالت له فيما يزعمون: يا ابن عم، إنى قد رغبت فيك لقرابتك وصيتك فى قومك وأمانتك، وحسن خلقك، وصدق حديثك. فلما قالت له ذلك، ذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه عمه حمزة بن عبد المطلب يرحمه الله حتى دخل على خويلد بن أسد، فخطبها إليه فتزوجها. هكذا ذكر ابن إسحاق «1» .
وذكر الواقدى وغيره من حديث نفيسة، أن خديجة أرسلت إليه دسيسا، فدعته إلى تزوجها. فلما أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت إلى عمها عمرو بن أسد فحضر، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فى عمومته فزوجه أحدهم. وقال عمرو: هذا الفحل لا يقدح أنفه.
قال ابن هشام: وأصدقها رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين بكرة «2» . وكانت أول امرأة تزوجها، ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت.
قال ابن إسحاق فولدت خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولده كلهم، إلا إبراهيم: القاسم وبه كان يكنى والطاهر، والطيب، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة «3» .
فأما القاسم والطاهر والطيب فهلكوا فى الجاهلية. وأما بناته فكلهن أدركن الإسلام، فأسلمن وهاجرن معه. هذا قول ابن إسحاق فى ذكور البنين، أنهم هلكوا فى الجاهلية «4» .
وقال الزبير بن بكار، وهو من أئمة هذا الشأن: ولدت له القاسم، وعبد الله وهو الطاهر والطيب، ولد بعد النبوة ومات صغيرا «5» . وفى مسند الفريابى، ما يدل على أنه مات قبل أن يتم رضاعه وبعد النبوة.
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 165- 168) .
(2) انظر: السيرة (1/ 166) .
(3) انظر: السيرة (1/ 166) .
(4) انظر: السيرة (1/ 167) .
(5) قيل: أن عبد الله يسمى الطيب والطاهر وهو ولد بعد النبوة على الصحيح وهو الذى مات بمكة صغيرا، فقال العاص بن وائل السهمى: قد انقطع ولده فهو أبتر، يعنى النبى، فنزل فيه قوله تعالى: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ. وانظر: المختصر الصغير (68) ، تاريخ دمشق لابن عساكر (1/ 103- 108) ، ابن الجوزى فى تلقيح فهوم أهل الأثر (30) .(1/128)
وذلك أن خديجة دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موت القاسم وهى تبكى عليه، فقالت: يا رسول الله، لو كان عاش حتى تكمل رضاعته لهون على. فقال: إن له مرضعا فى الجنة تستكمل رضاعته. فقالت: لو أعلم ذلك لهون على. فقال: إن شئت أسمعتك صوته فى الجنة. فقالت: بل أصدق الله ورسوله.
قال ابن هشام «1» : وأما إبراهيم فأمه مارية سرية النبى صلى الله عليه وسلم التى أهداها إليه المقوقس من حفن من كورة أنصناء. وهى قبطية من قبط مصر، وهذا هو الصهر الذى ذكره لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قوله: «الله الله فى أهل الذمة، أهل المدرة السوداء السحم الجعاد، فإن لهم نسبا وصهرا» «2» .
قال مولى غفرة: نسبهم أن أم إسماعيل النبى عليه السلام منهم، وصهرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسرر فيهم. وفى حديث آخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا افتتحتم مصر فاستوصوا بأهلها خيرا، فإن لهم ذمة ورحما» .
قال ابن إسحاق «3» : وكانت خديجة بنت خويلد قد ذكرت لورقة بن نوفل بن أسد ابن عبد العزى وكان ابن عمها وكان نصرانيا قد تتبع الكتب وعلم من علم الناس، ما ذكر لها غلامها ميسرة من قول الراهب وما كان يرى منه إذ كان الملكان يظلانه.
فقال ورقة: لئن كان هذا حقا يا خديجة إن محمدا لنبى هذه الأمة، قد عرفت أنه كائن لهذه الأمة نبى ينتظر، هذا زمانه. أو كما قال. فجعل ورقة يستبطئ الأمر ويقول:
حتى متى؟! وقال فى ذلك:
لججت وكنت فى الذكرى لجوجا ... لهم طالما بعث النشيجا «4»
ووصف من خديجة بعد وصف ... فقد طال انتظارى يا خديجا
ببطن المكتين على رجائى ... حديثك أن أرى منه خروجا
بما خبرتنا من قول قس ... من الرهبان أكره أن يعوجا «5»
بأن محمدا سيسود يوما ... ويخصم من يكون له حجيجا
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 167) .
(2) أخرجه المتقى الهندى فى الكنز (34023) ، الهيثمى فى المجمع (10/ 63) ، السيوطى فى جمع الجوامع (9659) .
(3) انظر: السيرة (1/ 167) .
(4) النشيجا: هو البكاء مع صوت، والألف الملقحة للإطلاق.
(5) القس: هو عابد النصارى.(1/129)
ويظهر فى البلاد ضياء نور ... يقيم به البرية أن تموجا
فيلقى من يحاربه خسارا ... ويلقى من يسالمه فلوجا
فيا ليتى إذا ما كان ذاكم ... شهدت فكنت أولهم ولوجا
ولوجا فى الذى كرهت قريش ... ولو عجت بمكتها عجيجا
أرجى بالذى كرهوا جميعا ... إلى ذى العرش إن سلفوا عروجا
وهل أمر السفاهة غير كفر ... بمن يختار من سمك البروجا
فإن يبقوا وأبق تكن أمور ... يضج الكافرون لها ضجيجا
وإن أهلك فكل فتى سيلقى ... من الأقدار متلفة حروجا
وقال ورقة بن نوفل أيضا فى ذلك، وهو مما رواه يونس بن بكير عن ابن إسحاق:
أتبكر أم أنت العشية رائح ... وفى الصدر من إضمارك الحزن قادح
لفرقة قوم لا أحب فراقهم ... كأنك عنهم بعد يومين نازح
وأخبار صدق خبرت عن محمد ... يخبرها عنه إذا غاب ناصح
فتاك الذى وجهت يا خير حرة ... بغدو وبالنجدين حيث الصحاصح
إلى سوق بصرى فى الركاب التى غدت ... وهن من الأحمال قعص دوالح
فخبرنا عن كل حبر بعلمه ... وللحق أبواب لهن مفاتح
بأن ابن عبد الله أحمد مرسل ... إلى كل من ضمت عليه الأباطح
وظنى به أن سوف يبعث صادقا ... كما أرسل العبدان هود وصالح
وموسى وإبراهيم حتى يرى له ... بهاء ومنشور من الذكر واضح
ويتبعه حيا لؤى بن غالب ... شبابهم والأشيبون الجحاجح
فإن أبق حتى يدرك الناس دهره ... فإنى به مستبشر الود فارح
وإلا فإنى يا خديجة فاعلمى ... عن أرضك فى الأرض العريضة سائح
ذكر بنيان قريش الكعبة مع ذكر ما أحدثوه فى المناسك
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة، اجتمعت قريش لبنيان الكعبة. قال موسى بن عقبة: وإنما حمل قريشا على ذلك أن السيل كان أتى من فوق الردم الذى صنعوا فأخربه، فخافوا أن يدخلها الماء، وكان رجل يقال له: مليح سرق طيب الكعبة.(1/130)
فأرادوا أن يشدوا بنيانها، وأن يرفعوا بابها، حتى لا يدخلها إلا من شاؤا وأعدوا لذلك نفقة، وعمالا، ثم عمدوا إليها ليهدموها على شفق وحذر من أن يمنعهم الله الذى أرادوا.
قال ابن إسحاق «1» : وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ويهابون هدمها، وإنما كانت رضما «2» فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك أن نفرا سرقوا كنز الكعبة، وإنما كان يكون فى بئر فى جوف الكعبة.
قال: وكان الذى وجد عنده الكنز دويك مولى لبنى مليح بن عمرو، من خزاعة قال ابن هشام: فقطعت قريش يده. وتزعم قريش أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك.
قال: وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم فتحطمت فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها، وكان بمكة رجل قبطى نجار، فتهيأ فى أنفسهم بعض ما يصلحها.
وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التى كان يطرح فيها ما يهدى لها، فتتشرف على جدار الكعبة، وكانت مما يهابون، وذلك أنه كان لا يدخلها أحد إلا احزألت «3» وكشت «4» وفتحت فاها، فكانوا يهابونها. فبينا هى يوما تتشرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع، بعث الله إليها طائرا فاختطفها، فذهب بها.
فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله قد رضى ما أردنا، عندنا عامل رفيق وعندنا خشب، وقد كفانا الله الحية.
فلما أجمعوا أمرهم فى هدمها وبنيانها، قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران ابن مخزوم، فتناول من الكعبة حجرا فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه، فقال: يا معشر قريش، لا تدخلوا فى بنيانها من كسبكم إلا طيبا، لا تدخلوا فيها معر بغى ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس. والناس ينحلون هذا الكلام الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم «5» .
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 168) .
(2) رضما: الرضم الحجارة يجعل بعضها على بعض.
(3) احزألت: أى رفعت رأسها.
(4) كشت: صوتت باحتكاك بعض جلدها ببعض.
(5) ذكره الطبرى فى تاريخه (1/ 525) ، البيهقى فى الدلائل (2/ 61) .(1/131)
ثم إن قريشا تجزأت الكعبة، فكان شق الباب لبنى عبد مناف وزهرة، وكان ما بين الركن الأسود والركن اليمانى لبنى مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم، وكان ظهر الكعبة لبنى جمح وبنى سهم، وكان شق الحجر لبنى عبد الدار بن قصى، ولبنى أسد بن عبد العزى بن قصى، ولبنى عدى بن كعب رهو الحطيم.
ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه، فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم فى هدمها، فأخذ المعول، ثم قام عليها وهو يقول: اللهم لم ترع، ويقال: لم نزع اللهم إنا لا نريد إلا الخير.
ثم هدم من ناحية الركنين، فتربص الناس تلك الليلة، وقالوا: ننظر، فإن أصيب لم نهدم منها شيئا ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شىء هدمنا، فقد رضى الله ما صنعنا.
فأصبح الوليد من ليلته غاديا إلى عمله، فهدم وهدم الناس معه، حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس أساس إبراهيم أفضوا إلى حجارة خضر، كالأسنة آخذ بعضها بعضا.
وقال ابن إسحاق «1» : فحدثنى بعض من يروى الحديث: أن رجلا من قريش ممن كان يهدمها، أدخل عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما، فلما تحرك الحجر تنقضت مكة بأسرها، فانتهوا عن ذلك الأساس.
قال «2» : وحدثت أن قريشا وجدوا فى الركن كتابا بالسريانية، فلم يدروا ما هو حتى قرأه لهم رجل من يهود، فإذا هو: أنا الله ذو بكة، خلقتها يوم خلقت السموات والأرض، وصورت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء، لا تزول حتى يزول أخشباها، مبارك لأهلها فى الماء واللبن.
وحدثت أنهم وجدوا فى المقام كتابا فيه: مكة بيت الله الحرام، يأتيها رزقها من ثلاثة سبل، لا يحلها أول من أهلها. وزعم ليث بن أبى سليم أنهم وجدوا حجرا فى الكعبة قبل مبعث النبى صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة إن كان ما يذكر حقا، مكتوبا فيه: من يزرع خيرا يحصد غبطة، ومن يرزع شرا يحصد ندامة، تعملون السيئات، وتجزون الحسنات!! أجل كما لا يجتنى من الشوك العنب.
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 170- 171) .
(2) انظر: السيرة (1/ 171) .(1/132)
قال ابن إسحاق «1» : ثم إن القبائل من قريش، جمعت الحجارة لبنيانها، كل قبيلة تجمع على حدة، ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الركن، فاختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تجاوزوا وتحالفوا، وأعدوا للقتال، فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما، ثم تعاقدوا هم وبنو عدى على الموت، وأدخلوا أيديهم فى ذلك الدم فى تلك الجفنة، فسموا لعقة الدم. فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا، ثم إنهم اجتمعوا فى المسجد، فتشاوروا وتناصفوا.
فزعم بعض أهل الرواية، أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكان عامئذ أسن قريش كلها، قال: يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه، أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضى بينكم؛ ففعلوا. فكان أول داخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوه، قالوا: هذا الأمين، رضينا، هذا محمد. فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال صلى الله عليه وسلم:
«هلم إلى ثوبا» . فأتى به، فأخذ الركن فوضعه فيه بيده ثم قال: «لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعا» . ففعلوا: حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم، ثم بنى عليه «2» .
وكانت الكعبة على عهد النبى صلى الله عليه وسلم، ثمانى عشرة ذراعا، كانت تكسى القباطى، ثم كسيت البرود. وأول من كساها الديباج، الحجاج بن يوسف. هذا قول ابن إسحاق «3» . وقال الزبير: أول من كساها الديباج عبد الله بن الزبير.
وذكر جماعة سواهما منهم الدار قطنى: أن نتلة بنت جناب، أم العباس بن عبد المطلب، كانت قد أضلت العباس يومئذ وهو صغير، فنذرت إن هى وجدته أن تكسو الكعبة الديباج، ففعلت ذلك حين وجدته.
وذكر الزبير أن الذى أضلته نتلة بنت جناب إنما هو ابنها ضرار بن عبد المطلب شقيق العباس، ونذرت أن تكسو البيت إن وجدته، فكسته حين وجدته ثيابا بيضا، فالله تعالى أعلم.
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 171) .
(2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 425) ، مسند أبى داود الطيالسى (113) ، مستدرك الحاكم (1/ 458) ، دلائل النبوة للبيهقى (2/ 56، 57) ، مصنف عبد الرزاق (5/ 98، 100) ، الهيثمى فى المجمع (3/ 292) .
(3) انظر: السيرة (1/ 173) .(1/133)
قال ابن إسحاق «1» : وكانت قريش لا أدرى أقبل الفيل أم بعده ابتدعت أمر الحمس «2» ، رأيا رأوه وأداروه.
فقالوا: نحن بنو إبراهيم وأهل الحرمة وولاة البيت، وقاطن مكة وساكنها، فليس لأحد من العرب مثل حقنا، ولا مثل منزلتنا، ولا تعرف له العرب مثل ما تعرف لنا، فلا تعظموا شيئا من الحل كما تعظمون الحرم، فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمتكم، وقالوا: قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم.
فتركوا الوقوف على عرفة والإفاضة منها وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم، ويرون لسائر العرب أن يقفوا عليها، وأن يفيضوا منها، إلا أنهم قالوا: نحن أهل الحرم، وليس ينبغى لنا أن نخرج من الحرمة، ولا نعظم غيرها كما نعظمها، نحن الحمس، والحمس أهل الحرم. ثم جعلوا لمن ولدوا من العرب من ساكن الحل والحرم مثل الذى لهم بولادتهم إياهم، يحل لهم ما يحل لهم ويحرم عليهم ما يحرم عليهم.
ثم ابتدعوا فى ذلك أمورا لم تكن لهم، حتى قالوا: لا ينبغى للحمس أن يأتقطوا الأقط «3» ، ولا يسألوا السمن «4» وهم حرم، ولا يدخلوا بيتا من شعر، ولا يستظلوا إن استظلوا إلا فى بيوت الأدم ما كانوا حرما.
ثم رفعوا فى ذلك فقالوا: لا ينبغى لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاؤا به معهم من الحل إلى الحرم إذا جاؤا حجاجا أو عمارا، ولا يطوفوا بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا فى ثياب الحمس، فإن لم يجدوا منها شيئا طافوا بالبيت عراة، فإن تكرم منهم متكرم من رجل أو امرأة، ولم يجد ثياب أحمس فطاف فى ثيابه التى جاء بها من الحل، ألقاها إذا فرغ من طوافه، ثم لم ينتفع بها، ولم يمسها هو ولا أحد غيره أبدا، فكانت العرب تسمى تلك الثياب اللقى.
فحملوا على ذلك العرب فدانت به، فوقفوا على عرفات وأفاضوا منها، وطافوا بالبيت عراة، أما الرجال فيطوفون عراة، وأما النساء فتضع إحداهن ثيابها كلها إلا ثوبا مفرجا عليها، ثم تطوف فيه.
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 173- 177) .
(2) الحمس: جمع أحمس، وهو شديد الصلب.
(3) الأقط: شىء يتخذ من المخيض الغنمى، وجمعه أقطان.
(4) يسلئوا السمن: يقال سلأت السمن وأستلأته إذا طبخ.(1/134)
فكانوا كذلك حتى بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عليه حين أحكم له دينه وشرع له سنن حجه: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ الآية [البقرة: 199] . يعنى قريشا، والناس العرب. فرفعهم فى سنة الحج إلى عرفات والوقوف عليها والإفاضة منها.
وأنزل عليه فيما كانوا حرموا على الناس من طعامهم ولبوسهم عند البيت، حين طافوا عند البيت عراة وحرموا ما جاؤا به من الحل من الطعام: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ الآية كلها [الأعراف: 31- 32] .
فوضع الله أمر الحمس، وما كانت قريش ابتدعت منه عن الناس، بالإسلام حين بعث الله به رسوله «1» . ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالموافق قومه على تغيير مشاعر الحج والعدول عن مواقف الناس.
قال جبير بن مطعم: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحى، وإنه لواقف على بعيره بعرفات مع الناس من بين قومه حتى يدفع معهم، توفيقا من الله له «2» .
وقد تقدم ما أحدثوه فى النسىء، وما أبطل الله من حكمه بقوله سبحانه: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة: 37] ، فأغنى ذلك عن إعادته.
ذكر ما حفظ عن الأحبار والرهبان والكهان من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه سوى ما تقدم من ذلك مع ذكر شىء مما سمع من ذلك عند الأصنام أو هتفت به الهواتف
قال ابن إسحاق «3» : وكانت الأحبار من يهود، والرهبان من النصارى، والكهان من العرب، قد تحدثوا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه لما تقارب من زمانه. أما الأحبار من اليهود، والرهبان من النصارى، فعما وجدوا فى كتبهم من صفته وصفة زمانه، وما كان من عهد أنبيائهم إليهم فيه.
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 177) .
(2) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (2/ 305) .
(3) انظر: السيرة (1/ 177- 182) .(1/135)
وأما الكهان من العرب فأتتهم به الشياطين فيما تسترق من السمع، إذ كانت لا تحجب عن ذلك، وكان الكاهن والكاهنة، لا يزال يقع منهما ذكر بعض أموره لا تلقى العرب لذلك فيه بالا، حتى بعثه الله ووقعت تلك الأمور التى كانوا يذكرون فعرفوها.
فلما تقارب أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحضر مبعثه، حجبت الشياطين عن السمع، وحيل بينها وبين المقاعد التى كانت تقعد فيها لاستراقه، فرموا بالنجوم، فعرفت الجن أن ذلك لأمر حدث من أمر الله فى العباد.
يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم حين بعثه يقص عليه خبرهم إذ حجبوا: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً [الجن: 1، 10] .
فلما سمعت الجن القرآن عرفت أنها منعت من السمع قبل ذلك لئلا يشكل الوحى بشىء من خبر السماء فيلتبس على أهل الأرض ما جاءهم من الله فيه، لوقوع الحجة وقطع الشبهة، فآمنوا به وصدقوا. ثم: وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ [الأحقاف: 29، 30] .
وقول الجن: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ الآية [الجن:
6] ، هو أن الرجل من العرب من قريش وغيرهم كان إذا سافر فنزل بطن واد من الأرض ليبيت فيه قال: إنى أعوذ بعزيز هذا الوادى من الجن الليلة من شر ما فيه.
وذكر «1» أن أول العرب فزع للرمى بالنجوم، حين رمى بها، ثقيف، وأنهم جاؤا إلى رجل منهم يقال له: عمرو بن أمية، أحد بنى علاج، وكان أدهى العرب وأنكرها رأيا فقالوا له: يا عمرو، ألم تر ما حدث فى السماء من القذف بهذه النجوم؟.
قال: بلى، فانظروا فإن كانت معالم النجوم التى يهتدى بها فى البر والبحر، وتعرف
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 179) .(1/136)
بها الأنواء من الصيف والشتاء، لما يصلح الناس فى معايشهم، هى التى يرمى بها فهو والله طى الدنيا، وهلاك هذا الخلق الذى فيها.
وإن كانت نجوما غيرها، وهى ثابتة على حالها، فهذا لأمر أراد الله به هذا الخلق.
فما هو؟!.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفر من الأنصار: «ما كنتم تقولون فى هذا النجم الذى يرمى به؟» . قالوا: يا نبى الله، كنا نقول حين رأيناها يرمى بها: مات ملك، ملّك ملك ولد مولود، مات مولود، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس ذلك كذلك، ولكن الله تبارك وتعالى، كان إذا قضى فى خلقه أمرا سمعه حملة العرش فسبحوا، فسبح من تحتهم لتسبيحهم، فسبح من تحت ذلك، فلا يزال التسبيح يهبط حتى ينتهى إلى السماء الدنيا فيسبحوا. ثم يقول بعضهم لبعض: مم سبحتم؟ فيقولون: سبح من فوقنا فسبحنا لتسبيحهم. فيقولون: ألا تسألون من فوقكم مم سبحوا؟ فيقولون مثل ذلك، حتى ينتهوا إلى حملة العرش، فيقال لهم: مم سبحتم؟ فيقولون: قضى الله فى خلقه كذا وكذا؟ للأمر الذى كان. فيهبط به الخبر من سماء إلى سماء حتى ينتهى إلى السماء الدنيا، فيتحدثوا به، فتسترقه الشياطين بالسمع على توهم واختلاف، ثم يأتون به الكهان فيخطئون بعضا ويصيبون بعضا، ثم إن الله حجب الشياطين بهذه النجوم التى يقذفون بها، فانقطعت الكهانة اليوم، فلا كهانة» «1» .
وذكر أبو جعفر العقيلى بإسناد له، إلى لهيب بن مالك اللهبى قال: حضرت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت عنده الكهانة، فقلت: بأبى أنت وأمى نحن أول من عرف حراسة السماء وزجر الشياطين، ومنعهم من استراق السمع عند قذف النجوم، وذلك أنا اجتمعنا إلى كاهن لنا يقال له: خطر بن مالك، وكان شيخا كبيرا، قد أتت عليه مائة سنة وثمانون سنة، وكان من أعلم كهاننا، فقلنا: يا خطر، هل عندك علم من هذه النجوم التى يرمى بها؟ فإنا قد فزعنا لها وخفنا سوء عاقبتها.
فقال: ائتونى بسحر، أخبركم الخبر، ألخير أم ضرر، ولأمن أو حذر. قال: فانصرفنا عن يومنا، فلما كان من غد فى وجه السحر أتيناه، فإذا هو قائم على قدميه شاخص فى السماء بعينيه، فناديناه: يا خطر، يا خطر. فأومأ إلينا أن أمسكوا فأمسكنا.
__________
(1) أخرجه مسلم فى صحيحه كتاب السلام باب تحريم الكهانة (571) ، الترمذى فى سننه (3224) ، الإمام أحمد فى المسند (1/ 218) ، البيهقى فى الدلائل (2/ 236، 237) .(1/137)
فانقض نجم عظيم من السماء، وصرخ الكاهن رافعا صوته: أصابه أصابه، خامره عقابه، عاجله عذابه، أحرقه شهابه، زايله جوابه، يا ويحه ما حاله، بلبله بلباله، عاوده خباله، تقطعت حباله، وغيرت أحواله.
ثم أمسك طويلا وقال: يا معشر بنى قحطان، أخبركم بالحق والبيان، أقسمت بالكعبة والأركان، والبلد المؤتمن السدان، لقد منع السمع عتاة الجان، بثاقب، بكف ذى سلطان من أجل مبعوث عظيم الشأن يبعث بالتنزيل والقرآن وبالهدى وفاصل الفرقان، تبطل به عبادة الأوثان. قال: فقلنا: يا خطر، إنك لتذكر أمرا عظيما، فماذا ترى لقومك؟. فقال:
أرى لقومى ما أرى لنفسى ... أن يتبعوا خير بنى الإنس
برهانه مثل شعاع الشمس ... يبعث فى مكة دار الحمس
بمحكم التنزيل غير اللبس
فقلنا له: يا خطر، وممن هو؟ فقال: والحياة والعيش، إنه لمن قريش، ما فى حلمه طيش ولا فى خلقه هيش يكون فى جيش وأى جيش! من آل قحطان وآل أيش. فقلنا:
بين لنا من أى قريش هو؟. فقال: والبيت ذى الدعائم، إنه لمن نجل هاشم، من معشر أكارم، يبعث بالملاحم، وقتل كل ظالم. ثم قال: هذا هو البيان، أخبرنى به رئيس الجان. ثم قال: الله أكبر، جاء الحق وظهر، وانقطع عن الجن الخبر. ثم سكت وأغمى عليه، فما أفاق إلا بعد ثالثة، فقال: لا إله إلا الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله، لقد نطق عن مثل نبوة، وإنه ليبعث يوم القيامة أمة وحده» .
قال ابن إسحاق «1» : وحدثنى بعض أهل العلم أن امرأة من بنى سهم يقال لها الغيطلة، كانت كاهنة فى الجاهلية، جاءها صاحبها ليلة من الليالى فانقض تحتها «2» ، ثم قال: بدر ما بدر، يوم عقر ونحر. فقالت قريش حين بلغها ذلك: ما يريد؟ ثم جاءها ليلة أخرى فانقض تحتها، ثم قال: شعوب ما شعوب، تصرع فيه كعب لجنوب. فلما بلغ
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 180) .
(2) انقض تحتها: أى تكلم بصوت خفى.(1/138)
ذلك قريشا، قالوا: ماذا يريد؟ إن هذا لأمر هو كائن فانظروا ما هو. فما عرفوه حتى كانت وقعة بدر وأحد بالشعب، فعرفوا أنه كان الذى جاء به إلى صاحبته.
قال «1» : وحدثنى على بن نافع الجرشى أن جنبا «2» بطنا من اليمن، كان لهم كاهن فى الجاهلية، فلما ذكر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتشر فى العرب قالت له جنب: انظر لنا فى أمر هذا الرجل. واجتمعوا له فى أسفل جبله.
فنزل عليهم حين طلعت الشمس فوقف لهم قائما متكئا على قوس له، فرفع رأسه إلى السماء طويلا، ثم جعل ينزو ثم قال: أيها الناس، إن الله أكرم محمدا واصطفاه، وطهر قلبه وحشاه، ومكثه فيكم أيها الناس قليل. ثم أسند فى جبله راجعا من حيث جاء.
وحدثنى من لا أتهم «3» ، أن عمر بن الخطاب بينا هو جالس فى الناس فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أقبل رجل من العرب يريد عمر، فلما نظر إليه عمر قال: إن الرجل لعلى شركه ما فارقه، أو لقد كان كاهنا فى الجاهلية، فسلم عليه الرجل، ثم جلس، فقال له عمر: هل أسلمت؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: فهل كنت كاهنا فى الجاهلية؟ فقال الرجل: سبحان الله يا أمير المؤمنين! لقد خلت فى واستقبلتنى بأمر ما أراك قلته لأحد من رعيتك منذ وليت، فقال عمر: اللهم غفرا، قد كنا فى الجاهلية على شر من هذا، نعبد الأصنام ونعتنق الأوثان، حتى أكرمنا الله برسوله وبالإسلام، قال:
نعم، والله يا أمير المؤمنين، لقد كنت كاهنا فى الجاهلية. قال: فأخبرنى، ما جاء به صاحبك، قال: جاءنى قبيل الإسلام بشهر أو شيعه، فقال: ألم تر إلى الجن وإبلاسها «4» وإياسها من دينها، ولحوقها بالقلاص «5» وأحلاسها «6» !.
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 180) .
(2) جنبا: جنب من مزحش وهم عبد الله، وأنس الله، وزيد الله، وأوس الله، وجعفى والحكم وجروة بنو سعد العشيرة بن مزحش، ومزحش هو مالك بن أدد وسموا جنبا لأنهم جانبوا بنى عمهم صداء ويزيد ابنى سعد العشيرة بن مزحش.
(3) انظر: السيرة (1/ 181) .
(4) إبلاسها: أبلس الرجل إذا سكت ذليلا أو مغلوبا.
(5) القلاص: القلاص من الإبل: الفتية.
(6) أحلاسها: جمع حلاس، وهو كساء جلد يوضع على ظهر البعير ثم يوضع عليه الرجل ليقيه من الدبر.(1/139)
قال ابن هشام: هذا الكلام سجع وليس بشعر، وأنشدنى بعض أهل العلم بالشعر:
عجبت للجن وإبلاسها ... وشدها العيس بأحلاسها
تهوى إلى مكة تبغى الهدى ... ما مؤمن الجن كأنجاسها
فقال عمر رضى الله عنه، عند ذلك، يحدث الناس: والله إنى لعند وثن من أوثان الجاهلية فى نفر من قريش، قد ذبح لهم رجل من العرب عجلا، فنحن ننتظر قسمه ليقسم لنا منه، إذ سمعت من جوف العجل صوتا ما سمعت قط أنفذ منه، وذلك قبيل الإسلام بشهر أو شيعه يقول: يا ذريح أمر نجيح، رجل يصيح يقول: لا إله إلا الله «1» .
قال ابن هشام: ويقال: رجل يصيح بلسان فصيح يقول: لا إله إلا الله. وهذا الرجل الذى ظن به عمر رضى الله عنه، ما ظن، هو سواد بن قارب الدوسى «2» ، وكان يتكهن فى الجاهلية.
وقد ذكر خبره غير ابن إسحاق، فساقه سياقة أحسن من هذه وأتم، وذكر فيه أنه كان نائما على جبل من جبال السراة ليلة من الليالى، فأتاه آت، فضربه برجله وقال: قم يا سواد بن قارب، أتاك رسول من لؤى بن غالب. قال: فرفعت رأسى وجلست فأدبر وهو يقول:
عجبت للجن وتطلابها ... وشدها العيس بأقتابها
تهوى إلى مكة تبغى الهدى ... ما صادق الجن ككذابها
فارحل إلى الصفوة من هاشم ... ليس قداماها كأذنابها «3»
وأتاه فى الليلة الثانية، فضربه برجله، وقال: قم يا سواد بن قارب، أتاك رسول من لؤى بن غالب. قال: فرفعت رأسى وجلست، فأدبر وهو يقول:
عجبت للجن وأخبارها ... ورحلها العيس بأكوارها
تهوى إلى مكة تبغى الهدى ... ما مؤمنوها مثل كفارها
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى فى كتاب مناقب الأنصار، باب إسلام عمر، رضى الله عنه (7/ حديث رقم 3866) .
(2) هو: سواد بن قارب الدوسى. كذا قال الكلبى، وقال ابن أبى خيثمة: سواد بن قارب سدوسى من بنى سدوس. انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1114) ، الإصابة الترجمة رقم (3596) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2334) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 248) ، الوافى بالوفيات (16/ 35) ، التاريخ الكبير (4/ 202) ، الأعلام (3/ 144) .
(3) انظر الأبيات فى: الاستيعاب (2/ 224) .(1/140)
فارحل إلى الصفوة من هاشم ... ليس قداماها كأدبارها
وأتاه فى الليلة الثالثة بعدما نام، فضربه برجله وقال: قم يا سواد بن قارب أتاك رسول الله صلى الله عليه وسلم من لؤى بن غالب قال: فرفعت رأسى فجلست، فأدبر وهو يقول:
عجبت للجن وإبلاسها ... ورحلها العيس بأحلاسها
تهوى إلى مكة تبغى الهدى ... ما مؤمنوها مثل أرجاسها
فارحل إلى الصفوة من هاشم ... وارم بعينيك إلى رأسها
قال: فلما أصبحت اقتعدت بعيرى فأتيت مكة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ظهر، فأخبرته الخبر وبايعته. وفى بعض طرق حديثه أنه أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم شعرا منه فى معنى ما جاءه به رئيه «1» :
أتانى رئى بعد هدء وهجعة ... ولم يك فيما قد بلوت بكاذب
ثلاث ليال قوله كل ليلة ... أتاك رسول من لؤى بن غالب
فرفعت أذيال الإزار وشمرت ... بى العرمس الوجنا هجول السباسب
فأشهد أن الله لا شىء غيره ... وأنك مأمون على كل غائب
وأنك أدنى المرسلين وسيلة ... إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب
فمرنا بما يأتيك من وحى ربنا ... وإن كان فيما جئت شيب الذوائب
وكن لى شفيعا حين لا ذو قرابة ... بمغن فتيلا عن سواد بن قارب
ولسواد بن قارب هذا مقام حميد فى قومه دوس، حين بلغهم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يثبتهم فى الدين ويحضهم على التمسك بالإسلام، سنذكره إن شاء الله مع نظائره بعد استيفاء الخبر عن وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذكر الواقدى بإسناد له قال: كان أبو هريرة يحدث أن قوما من خثعم كانوا عند صنم لهم جلوسا، وكانوا يتحاكمون إلى أصنامهم، فيقال لأبى هريرة: هل كنت أنت تفعل ذلك؟ فيقول: قد والله فعلت فأكثرت، فالحمد لله الذى تنقذنى بمحمد صلى الله عليه وسلم.
قال أبو هريرة: فبينا الخثعميون عند صنمهم إذ سمعوا هاتفا يهتف:
يا أيها الناس ذوو الأجسام ... ومسندو الحكم إلى الأصنام
أكلكم أوره كالكهام
__________
(1) ذكرها فى الاستيعاب (2/ 224) .(1/141)
ألا ترون ما أرى أمامى ... من ساطع يجلو دجى الظلام
ذاك نبى سيد الأنام ... من هاشم فى ذروة السنام
مستعلن بالبلد الحرام ... جاء بهدم الكفر بالإسلام
أكرمه الرحمن من إمام
قال أبو هريرة: فأمسكوا ساعة حتى حفظوا ذلك ثم تفرقوا، فلم تمض بهم ثالثة حتى فجأهم خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد ظهر بمكة. قال: فما أسلم الخثعميون حتى استأخر إسلامهم ورأوا عبرا عند صنمهم.
وذكر الواقدى أيضا أن رجلا من الأنصار حدث عمر بن الخطاب رضى الله عنه، قال: انطلقت أنا وصاحبان لى نريد الشام، حتى إذا كانا بقفرة من الأرض نزلنا بها، فبينا نحن كذلك لحقنا راكب، فكنا أربعة وقد أصابنا سغب شديد، والتفت فإذا أنا بظبية عضباء ترتع قريبا منى فوثبت إليها. فقال الرجل الذى لحقنا: خل سبيلها، لا أبا لك، والله لقد رأيتنا ونحن نسلك هذا الطريق ونحن عشرة أو أكثر فيختطف بعضنا بعضا، فما هو إلا أن كانت هذه الظبية فما يهاج بها أحد.
فأبيت وقلت: لا لعمر الله لا أخليها، فارتحلنا وقد شددتها معى، حتى إذا ذهب سدف من الليل إذا هاتف يهتف بنا ويقول:
يا أيها الركب السراع الأربعه ... خلوا سبيل النافر المفزعه
خلوا عن العضباء فى الوادى سعه ... لا تذبحن الظبية المروعه
فيها لأيتام صغار منفعه
قال: فخليت سبيلها، ثم انطلقنا حتى أتينا الشام، فقضينا حوائجنا، ثم أقبلنا حتى إذا كنا بالمكان الذى كنا فيه هتف بنا هاتف من خلفنا:
إياك لا تعجل وخذها من ثقه ... فإن شر السير سير الحقحقه(1/142)
قد لاح نجم فأضاء مشرقه ... يخرج من ظلما عسوف موبقه
ذاك رسول مفلح من صدقه ... الله أعلى أمره وحققه
قال الرجل: فأتيت مكة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإسلام. فقال عمر: الحمد لله الذى أكرمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وروينا عن أبى المنذر هشام بن محمد الكلبى بإسناد متصل إليه قال: لقيت شيوخا من شيوخ طيئ المقدمين، فسألتهم عن قصة مازن يعنى مازن بن الغضوبة الطائى، وسبب إسلامه ووفوده على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقطاعه أرض عمان، وذلك بمن الله وفضله.
وكان مازن بأرض عمان بقرية تدعى سنابل. قال مازن: فعترت ذات يوم عتيرة، وهى الذبيحة، فسمعت صوتا من الصنم يقول: يا مازن أقبل أقبل، فاسمع ما لا تجهل، هذا نبى مرسل، جاء بحق منزل، فآمن به كى تعزل، عن حر نار تشعل، وقودها بالجندل.
قال مازن: فقلت: إن هذا والله لعجب، ثم عترت بعد أيام عتيرة أخرى، فسمعت صوتا أبين من الأول، وهو يقول: يا مازن اسمع تسر، ظهر خير وبطن شر، بعث نبى من مضر، بدين الله الأكبر، فدع نحيتا من حجر، تسلم من حر سقر.
قال مازن: فقلت إن هذا والله لعجب وإنه لخير يراد بى، وقدم علينا رجل من أهل الحجاز فقلنا: ما الخبر وراءك؟ قال: خرج بتهامة رجل يقول لمن أتاه: أجيبوا داعى الله، يقال له: أحمد.
فقلت: هذا والله نبأ ما سمعت. فثرت إلى الصنم فكسرته جذاذا وشددت راحلتى ورحلت، حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرح لى الإسلام فأسلمت، فأنشأت أقول:
كسرت ياجر أجذاذا وكان لنا ... ربا نطيف به ضلا بتضلال
بالهاشمى هدانا من ضلالتنا ... ولم يكن دينه منا على بال
يا راكبا بلغن عمرا وإخوتها ... أنى لمن قال ربى ياجر قالى
وقلت: يا رسول الله، إنى امرؤ مولع بالطرب وشرب الخمر وبالهلوك إلى النساء، وألحت على السنون، فأذهبن الأموال وأهزلن الذرارى والرجال، وليس لى ولد، فادع الله أن يذهب عنى ما أجد ويأتينى بالحياء، ويهب لى ولدا. فقال النبى صلى الله عليه وسلم: «اللهم أبدله(1/143)
بالطرب قراءة القرآن، وبالحرام الحلال، وآتهم بالحياء، وهب له ولدا» «1» .
قال مازن: فأذهب الله عنى كل ما أجد، وأخصبت عمان، وتزوجت أربع حرائر، ووهب الله لى حيان بن مازن، وأنشأت أقول:
إليك رسول الله سقت مطيتى ... تجوب الفيافى من عمان إلى العرج
لتشفع لى يا خير من وطئ الحصى ... فيغفر لى ربى فأرجع بالفلج
إلى معشر خالفت فى الله دينهم ... فلا رأيهم رأيى ولا شرجهم شرجى
وكنت امرأ بالزغب والخمر مولعا ... شبابى حتى أذن الجسم بالنهج
فأصبحت همى فى جهاد ونيتى ... فلله ما صومى ولله ما حجى
ومما يلحق بهذا الباب من حسان أخبار الكهان وإن كان بعد المبعث بزمان ولكنه يجتمع مع الأحاديث السابقة فى الدلالة على صدق الرسول، والإعلام بالغيب المجهول، والإرشاد إلى سواء السبيل، ما ذكره أبو على إسماعيل بن القاسم فى أماليه بإسناد له إلى ابن الكلبى عن أبيه قال:
كان خنافر بن التوأم الحميرى كاهنا، وكان قد أوتى بسطة فى الجسم وسعة فى المال، وكان عاتيا، فلما وفدت وفود اليمن على النبى صلى الله عليه وسلم وظهر الإسلام أغار على إبل لمراد فاكتسحها، وخرج بأهله وماله ولحق بالشحر فحالف جودان بن يحيى الفرضمى، وكان سيد منيعا، ونزل بواد من أودية الشحر مخصب كثير الشجر من الأيك والعرين.
قال خنافر: وكان رئيى فى الجاهلية لا يغيب عنى، فلما شاع الإسلام فقدته مدة طويلة وساءنى ذلك، فبينا أنا ليلة فى ذلك الوادى نائما إذ هوى هوى العقاب، فقال خنافر: قلت شصار؟ فقال: اسمع أقل. قلت: أسمع. فقال: عه تغنم، لكل مدة نهاية وكل ذى أمد إلى غاية. قلت: أجل. فقال: كل دولة إلى أجل ثم يتاح لها حول، انتسخت النحل ورجعت إلى حقائقها الملل، إنك سجير موصول والنصح لك مبذول.
إنى آنست بأرض الشام نفرا من أهل العزام حكاما على الحكام يذكرون ذا رونق من الكلام، ليس بالشعر المؤلف، ولا بالسجع المتكلف فأصغيت فزجرت، فعاودت فظلفت، فقلت: بم تهينمون وإلام تعتزون؟ فقالوا: خطاب كبار جاء من عند الملك الجبار، فاسمع يا شصار عن أصدق الأخبار، واسلك أوضح الآثار تنج من أوار النار.
قلت: وما هذا الكلام؟ قالوا: فرقان بين الكفر والإيمان، رسول من مضر، ابتعث
__________
(1) أخرجه البيهقى فى الدلائل (2/ 36، 256) ، الهيثمى فى المجمع (8/ 248) .(1/144)
فظهر، فجاء بقول قد بهر، وأوضح نهجا قد دثر، فيه مواعظ لمن اعتبر، ومعاذ لمن ازدجر، ألف بالآى الكبر.
فقلت: ومن هذا المبعوث من مضر؟ قالوا: أحمد خير البشر، فإن آمنت أعطيت الشبر، وإن خالفت أصليت سقر. فآمنت يا خنافر، وأقبلت إليك أبادر، فجانب كل نجس كافر، وشايع كل مؤمن طاهر، وإلا فهو الفراق عن لا تلاق.
قلت: من أين أبغى هذا الدين؟ قال: من ذات الإحرين والنفر الميامين أهل الماء والطين. قلت: أوضح. قال: الحق بيثرب ذات النخل، والحرة ذات النعل، فهنالك أهل الفضل والطول والمواساة والبذل.
ثم أملس عنى فبت مذعورا أراعى الصباح، فلما برق لى النور امتطيت راحلتى وآذنت أعبدى واحتملت بأهلى، حتى وردت الجوف فرددت الإبل على أربابها بحولها وسقايها، وأقبلت أريد صنعاء، فأصبت فيها معاذ بن جبل أميرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فبايعته على الإسلام، وعلمنى من القرآن. فمن الله على بالهدى بعد الضلالة، والعلم بعد الجهالة، وقلت فى ذلك:
ألم تر أن الله عاد بفضله ... فأنقذ من لفح الزخيخ خنافرا
وكشف لى عن حجمتى عماهما ... وأوضح لى نهجى وقد كان داثرا
دعانى شصار للتى لو رفضتها ... لصليت جمرا من لظى الهوب واهرا
فأصبحت والإسلام حشو جوانحى ... وجانبت من أمسى عن الحق نائرا
وكان مضلى من هديت برشده ... فلله مغو عاد بالرشد آمرا
نجوت بحمد الله من كل قحمة ... تؤرث هلكا يوم شايعت شاصرا
فقد أمنتنى بعد ذاك يحابر ... بما كنت أغشى المنديات يحابرا
فمن مبلغ فتيان قومى ألوكة ... بأنى من أقتال من كان كافرا
عليكم سواء القصد لا فل حذكم ... فقد أصبح الإسلام للكفر قاهرا
وذكر ابن هشام أن بعض أهل العلم حدثه، أنه كان لمرداس أبى عباس بن مرداس السلمى وثن يعبده، وهو حجر يقال له: ضمار، فلما حضر مرداسا الموت قال لعباس:
أى بنى اعبد ضمار، فإنه ينفعك ويضرك. فبينما العباس يوما عند ضمار، إذ سمع من جوف ضمار مناديا يقول:
قل للقبائل من سليم كلها ... أودى ضمار وعاش أهل المسجد(1/145)
إن الذى ورث النبوة والهدى ... بعد ابن مريم من قريش مهتدى
أودى ضمار وكان يعبد مرة ... قبل الكتاب إلى النبى محمد
فحرق العباس ضمار، ولحق بالنبى صلى الله عليه وسلم فأسلم. والأخبار فى هذا الباب مما نقل من ذلك عن الكهان، أو سمع عند الأصنام، أو هتفت به هواتف الجان كثيرة جدا، وقد أتينا منها بما استحسناه مما ذكره ابن إسحاق، أو ذكره سواه.
قال ابن إسحاق «1» : وحدثنى عاصم بن عمر بن قتادة، عن رجال من قومه قالوا: إن مما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله لنا وهداه، لما كنا نسمع من أحبار يهود.
كنا أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: إنه قد تقارب زمان نبى يبعث الآن، نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم فلما بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أجبناه حين دعانا إلى الله وعرفنا ما كانوا يتواعدوننا به، فبادرنا إليه، فآمنا به وكفروا به، ففينا وفيهم نزلت هذه الآية من البقرة: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ [البقرة: 89] «2» .
قال «3» : وحدثنى صالح بن إبراهيم، عن محمود بن لبيد، عن سلمة بن سلامة بن وقش، وكان من أصحاب بدر، قال كان لنا جار من يهود فى بنى عبد الأشهل، فخرج علينا يوما من بيته حتى وقف على بنى عبد الأشهل، فذكر القيامة والبعث والحساب والميزان والجنة والنار، فقال ذلك لقوم أهل شرك، أصحاب أوثان، لا يرون أن بعثا كائن بعد الموت، فقالوا له: ويحك يا فلان أو ترى هذا كائنا، أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار، يجزون فيها بأعمالهم. قال: نعم والذى يحلف به: ولود أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور فى الدار يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطينونه عليه، بأن ينجو من تلك النار غدا، فقالوا له: ويحك يا فلان، وما آية ذلك؟ قال: نبى مبعوث من نحو هذه البلاد، وأشار بيده إلى مكة واليمن. قالوا: ومتى نراه؟ قال: فنظر إلى، وأنا من أحدثهم سنا، فقال: إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه.
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 182) .
(2) أخرجه الطبرى فى تفسيره (1/ 325) ، ابن كثير فى تفسيره (1/ 178) .
(3) انظر: السيرة (1/ 183) .(1/146)
قال سلمة: فو الله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم وهو حى بين أظهرنا، فآمنا به وكفر به بغيا وحسدا. فقلنا له: ويحك يا فلان! ألست بالذى قلت لنا فيه ما قلت؟! قال: بلى، ولكن ليس به! «1» .
قال «2» : وحدثنى عاصم بن عمر، عن شيخ من بنى قريظة، قال: قال لى: هل تدرى عم كان إسلام ثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية وأسد بن عبيد، نفر من هدل إخوة بنى قريظة كانوا معهم فى جاهليتهم، ثم كانوا ساداتهم فى الإسلام؟ قال: قلت: لا، قال:
فإن رجلا من يهود من أهل الشام يقال له: ابن الهيبان، قدم علينا قبل الإسلام بيسير، فحل بين أظهرنا، لا والله ما رأينا رجلا قط لا يصلى الخمس أفضل منه، فأقام عندنا، فكنا إذا قحط عنا المطر قلنا له: اخرج يا ابن الهيبان فاستسق لنا. فيقول: لا والله حتى تقدموا بين يدى مخرجكم صدقة. فنقول له: كم؟ فيقول: صاعا من تمر أو مدين من شعير. فنخرجهما ثم يخرج بنا إلى ظاهر حرثنا فيستسقى لنا، فو الله ما يبرح مجلسه حتى يمر السحاب ونسقى، قد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث، ثم حضرته الوفاة عندنا. فلما عرف أنه ميت قال: يا معشر يهود، ما ترون أنه أخرجنى من أرض الخمر والحمير إلى أرض البؤس والجوع؟ قلنا: أنت أعلم.
قال: فإنما قدمت هذه البلدة أتوكف خروج نبى قد أظل زمانه، وهذه البلدة مهاجرة، فكنت أرجو أن يبعث فأتبعه، وقد أظلكم زمانه، فلا تسبقن إليه يا معشر يهود، فإنه يبعث بسفك الدماء وسبى الذرارى والنساء ممن خالفه، فلا يمنعنكم ذلك منه.
فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم وحاصر بنى قريظة قال هؤلاء الفتية، وكنا شبابا أحداثا: يا بنى قريظة، والله إنه للنبى الذى عهد إليكم فيه ابن الهيبان، قالوا: ليس به. قالوا: بلى والله، إنه لهو بصفته. فنزلوا فأسلموا فأحرزوا دماءهم وأموالهم وأهاليهم «3» . قال ابن إسحاق: فهذا ما بلغنا عن أحبار يهود.
قال «4» : وحدثنى عاصم بن عمر بن قتادة الأنصارى، عن محمود، عن ابن عباس، قال: حدثنى سلمان الفارسى من فيه، قال: كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان، من
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (3/ 467) .
(2) انظر: السيرة (1/ 183- 184) .
(3) أخرجه البيهقى فى الدلائل (2/ 80- 81) ، وذكره ابن سيد الناس فى عيون الأثر (1/ 131) .
(4) انظر: السيرة (1/ 184- 185) .(1/147)
أهل قرية يقال لها: جى، وكان أبى دهقان قريته، وكنت أحب خلق الله إليه، لم يزل به حبه إياى حتى حبسنى فى بيته كما تحبس الجارية، واجتهدت فى المجوسية حتى كنت قطن النار الذى يوقدها، ولا يتركها تخبو ساعة، وكانت لأبى ضيعة عظيمة، فشغل فى بنيان له يوما، فقال لى: يا بنى، إنى قد شغلت فى بنيانى هذا اليوم عن ضيعتى، فاذهب إليها فاطلعها. وأمرنى فيها ببعض ما يريد، ثم قال لى: ولا تحتبس عنى، فإنك إن احتبست عنى كنت أهم إلى من ضيعتى وشغلتنى عن كل شىء من أمرى، فخرجت أريد ضيعته التى بعثنى إليها فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدرى ما أمر الناس، لحبس أبى إياى فى بيته.
فلما سمعت أصواتهم، دخلت عليهم أنظر ما يصنعون، فلما رأيتهم أعجبتنى صلاتهم، ورغبت فى أمرهم وقلت: هذا والله خير من الدين الذى نحن عليه. فو الله ما برحتهم حتى غربت الشمس، وتركت ضيعة أبى فلم آتها، ثم قلت لهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام، فرجعت إلى أبى وقد بعث فى طلبى، وشغلته عن عمله كله، فلما جئته قال: أى بنى أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت؟! قلت: يا أبت مررت بأناس يصلون فى كنيسة لهم فأعجبنى ما رأيت فى دينهم، فو الله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس.
قال: أى بنى ليس فى ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه، فقلت له: كلا والله، إنه لخير من ديننا، قال: فخافنى، فجعل فى رجلى قيدا ثم حبسنى فى بيته، وبعثت إلى النصارى، فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام فأخبرونى بهم، فقدم عليهم تجار من النصارى، فأخبرونى. فقلت لهم: إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة إلى بلادهم، فآذنونى بهم.
قال: فلما أرادوا الرجعة أخبرونى بهم، فألقيت الحديد من رجلى، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام. فلما قدمتها قلت: من أفضل أهل هذا الدين علما؟ قالوا: الأسقف فى الكنيسة. فجئته فقلت له: إنى قد رغبت فى هذا الدين، وأحببت أن أكون معك وأخدمك فى كنيستك، وأتعلم منك، وأصلى معك. قال: ادخل، فدخلت معه، فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه شيئا منها اكتنزه لنفسه ولم يعطه المساكين، حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق. فأبغضته بغضا شديدا لما رأيته يصنع، ثم مات. واجتمعت النصارى ليدفنوه، فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء،(1/148)
يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها، فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئا. فقالوا لى: وما علمك بذلك. فقلت: أنا أدلكم على كنزه فأريتهم موضعه فاستخرجوا سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا، فلما رأوها، قالوا: والله لا ندفنه أبدا.
فصلبوه ورجموه بالحجارة.
وجاؤا برجل آخر فجعلوه مكانه، فما رأيت رجلا لا يصلى الخمس، رأى أنه أفضل منه، أزهد فى الدنيا ولا أرغب فى الآخرة، ولا أدأب ليلا ونهارا منه، فأحببته حبا لم أحبه شيئا قبله، فأقمت معه زمانا، ثم حضرته الوفاة، فقلت له: يا فلان إنى كنت معك وأحببتك حبا لم أحبه شيئا قبلك وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصى بى، وبم تأمرنى.
فقال: أى بنى، والله ما أعلم اليوم أحدا على ما كنت عليه، لقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلا بالموصل «1» وهو فلان، وهو على ما كنت عليه.
فلما مات وغيب لحقت بصاحب الموصل فقلت له: يا فلان، إن فلانا أوصانى عند موته أن ألحق بك، وأخبرنى أنك على أمره. فقال لى: أقم عندى.
فأقمت عنده فوجدته خير رجل على أمر صاحبه. فلم يلبث أن مات، فلما حضرته الوفاة قلت له: يا فلان إن فلانا أوصى بى إليك، وأمرنى باللحوق بك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصى بى؟ وبم تأمرنى؟ فقال: يا بنى، والله ما أعلم رجلا على ما كنا عليه إلا رجلا بنصيبين «2» ، وهو فلان فالحق به.
فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين، فأخبرته خبرى، وما أمرنى به صاحبى فقال: أقم عندى. فأقمت عنده، فوجدته على أمر صاحبيه، فأقمت مع خير رجل، فو الله ما لبث أن نزل به الموت، فلما حضر قلت له: يا فلان إن فلانا كان أوصى بى إلى فلان، ثم أوصى بى فلان إليك، فإلى من توصى بى: وبم تأمرنى.
__________
(1) الموصل: فى الجانب الغربى من دجلة، وسميت بهذا الاسم؛ لأنها وصلت بين الفرات ودجلة، وشراب أهلها من ماء الدجلة. انظر: الروض المعطار (ص 563) ، نزهة المشتاق (199) .
(2) نصيبين: مدينة فى ديار ربيعة العظمى، وهى من بلاد الجزيرة بين دجلة والفرات، وهى قديمة عظيمة كثيرة الأنهار، ولها نهار عظيم، يقال له الهرماس عليه قناطر حجارة، وأهلها قوم من ربيعة من بنى تغلب، وافتتحها عياض بن غنم الفهرى فى خلافة عمر رضى الله عنه سنة ثمان عشرة، وكانت مدينة رومية، فلما افتتحها عياض أسكنها المسلمين. انظر: الروض المعطار (ص 577) ، نزهة المشتاق (199) ، آثار البلاد (467) .(1/149)
قال: يا بنى، والله ما أعلمه بقى أحد على أمرنا آمرك أن تأتيه، إلا رجلا بعمورية «1» من أرض الروم، فإنه على مثل ما نحن عليه، فإن أحببت فأته. فلما مات وغيب، لحقت بصاحب عمورية، فأخبرته خبرى، فقال: أقم عندى.
فأقمت عند خير رجل على هدى أصحابه وأمرهم، واكتسبت حتى كانت لى بقرات وغنيمة، ثم نزل به أمر الله، فلما حضر قلت له: يا فلان، إنى كنت مع فلان فأوصى بى إلى فلان، ثم أوصى بى فلان إلى فلان، ثم أوصى بى فلان إليك، فإلى من توصى بى؟
وبم تأمرنى؟.
قال: أى بنى، والله ما أعلمه أصبح على مثل ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه ولكنه قد أظل زمان نبى مبعوث بدين إبراهيم، يخرج بأرض العرب، مهاجره إلى أرض بين حرتين «2» بينهما نخل، به علامات لا تخفى، يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد، فافعل. ثم مات وغيب.
فمكثت بعمورية، ما شاء الله أن أمكث، ثم مر بى نفر من كلب تجار. فقلت لهم:
احملونى إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتى هذه وغنيمتى هذه، فقالوا: نعم.
فأعطيتهموها وحملونى معهم، حتى إذا بلغوا وادى القرى ظلمونى، فباعونى من رجل يهودى عبدا، فكنت عنده فرأيت النخل، فرجوت أن يكون البلد الذى وصف لى صاحبى، ولم يحق فى نفسى.
فبينا أنا عنده إذ قدم عليه ابن عم له من بنى قريظة من المدينة، فابتاعنى منه، فاحتملنى إلى المدينة، فو الله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبى فأقمت بها.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام بمكة ما أقام لا أسمع له بذكر، مع ما أنا فيه من شغل الرق.
ثم هاجر إلى المدينة، فو الله إنى لفى رأس عذق لسيدى أعمل له فيه بعض العمل، وسيدى جالس تحتى، إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه. فقال: يا فلان قاتل الله بنى قيلة، والله إنهم الآن لمجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعمون أنه نبى.
__________
(1) عمورية: فى بلاد الروم من ناحية بلاد طوس وتفسيره المشرق، وهى مدينة كبيرة مشهورة فى بلاد الروم وبلاد المسلمين، أزلية، غير أن الفتوح تتوالى عليها من عهد المسلمين والروم، ولها سور حصين، وهى على نهر كبير يصب فى الفرات، ومنها الطريق إلى طرسوس، وبين عمورية والخليج مائة وخمسة وسبعين ميلا، وكانت منزلا لبعض ملوك الروم. انظر: الروض المعطار (ص 413، 414) ، نزهة المشتاق (260) .
(2) حرتين: الحرة كل أرض ذات حجارة سود متشيطة من أثر احتراق بركانى.(1/150)
فلما سمعتها أخذتنى العرواء حتى ظننت أنى سأسقط على سيدى، فنزلت عن النخلة فجعلت أقول لابن عمه ذلك: ماذا تقول؟ فغضب سيدى فلكمنى لكمة شديدة، ثم قال: ما لك ولهذا، أقبل على عملك. فقلت: لا شىء إنما أردت أن أستثبته عما قال.
وقد كان عندى شىء جمعته، فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء، فدخلت عليه فقلت له: إنه قد بلغنى أنك رجل صالح، ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شىء كان عندى للصدقة، فرأيتكم أحق به من غيركم، فقربته إليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «كلوا» . وأمسك يده فلم يأكل.
فقلت فى نفسى: هذه واحدة، ثم انصرفت عنه، فجمعت شيئا، وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ثم جئته به، فقلت: إنى قد رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هدية أكرمتك بها. فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها وأمر أصحابه فأكلوا معه.
فقلت فى نفسى هاتان ثنتان. ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببقيع «1» الغرقد قد تبع جنازة من أصحابه، على شملتان لى وهو جالس فى أصحابه، فسلمت عليه ثم استدرت أنظر إلى ظهره، هل أرى الخاتم الذى وصف لى صاحبى؟ فلما رآنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أستدير به، عرف أنى أستثبت فى شىء وصف لى، فألقى الرداء عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فأكببت عليه أقبله وأبكى. فقال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تحول» . فتحولت فجلست بين يديه، فقصصت عليه حديثى كما حدثتك يا ابن عباس.
فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمع ذلك أصحابه. ثم شغل سلمان الرق، حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر وأحد. قال سلمان: ثم قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كاتب يا سلمان» . فكاتبت صاحبى على ثلاثمائة نخلة أحييها له بالفقير «2» وأربعين أوقية.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعينوا أخاكم» فأعانونى بالنخل، الرجل بثلاثين ودية، والرجل بعشرين ودية، والرجل بخمس عشرة والرجل بعشر، يعين الرجل بقدر ما عنده، حتى اجتمعت إلى ثلاثمائة ودية، فقال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذهب يا سلمان ففقر لها فإذا فرغت فائتنى، أكن أنا أضعها بيدى» .
__________
(1) بقيع: أصل البقيع فى اللغة الموضع الذى فيه أروم الشجر من ضروب شتى وبه سمى بقيع الغرقد، والغرقد كبار العوسج وهو مقبرة أهل المدينة، وهى داخل المدينة. انظر: معجم البلدان (1/ 473) .
(2) أحييها له بالفقير: أى بالحفر والغرس، بفقرات الأرض إذا حفرتها، ومنها سميت البئر فقرا.(1/151)
ففقرت وأعاننى أصحابى حتى إذا فرغت جئته فأخبرته، فخرج معى إليها، فجعلنا نقرب إليه الودى ويضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده حتى فرغت. فو الذى نفس سلمان بيده، ما ماتت منها ودية واحدة، فأديت النخل وبقى على المال فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المعادن، فقال: ما فعل الفارسى المكاتب فدعيت له فقال:
«خذ هذه فأدها مما عليك يا سلمان» . قلت: وأين تقع هذه يا رسول الله مما على؟! قال:
«خذها فإن الله سيؤدى بها عنك» . فأخذتها فوزنت لهم منها، والذى نفس سلمان بيده، أربعين أوقية، فأوفيتهم حقهم، فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق حرا. ثم لم يفتنى معه مشهد «1» .
وعن سلمان أنه قال: لما قلت: وأين تقع هذه من الذى على يا رسول الله؟! أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلبها على لسانه. ثم قال: «خذها فأوفهم منها» . فأخذتها فأوفيتهم منها حقهم كله أربعين أوقية «2» .
وعنه أيضا أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبره خبره: أن صاحب عمورية قال له:
أيت كذا وكذا من أرض الشام، فإن بها رجلا بين غيضتين، يخرج فى كل سنة من هذه الغيضة إلى هذه الغيضة مستجيزا، يعترضاه ذوو الأسقام. فلا يدعو لأحد منهم إلا شفى، فسله عن هذا الدين الذى تبتغى، فهو يخبرك عنه.
قال سلمان: فخرجت حتى جئت حيث وصف لى، فوجدت الناس قد اجتمعوا بمرضاهم هناك، حتى خرج لهم تلك الليلة مستجيزا من إحدى الغيضتين إلى الأخرى، فغشيه الناس مرضاهم، لا يدعو لمريض إلا شفى، وغلبونى عليه، فلم أخلص إليه حتى دخل الغيضة التى يريد أن يدخل، إلا منكبه فتناولته فقال: من هذا؟ والتفت إلى، فقلت:
يرحمك الله أخبرنى عن الحنيفية دين إبراهيم. قال: إنك لتسأل عن شىء ما يسأل عنه الناس اليوم، قد أظلك زمان نبى يبعث بهذا الدين من أهل الحرم، فائته فهو يحملك عليه.
ثم دخل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لئن كنت صدقتنى يا سلمان، لقد لقيت عيسى ابن مريم» «3» .
__________
(1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (5/ 443) ، مجمع الزوائد للهيثمى (9/ 335) ، تاريخ بغداد للخطيب البغدادى (1/ 169) ، المعجم الكبير للطبرانى (6065) .
(2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (5/ 444) ، مجمع الزوائد للهيثمى (9/ 336) ، البداية والنهاية لابن كثير (2/ 310) .
(3) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (1/ 365) ، طبقات ابن سعد (4/ 1/ 57) ، البداية والنهاية لابن كثير (2/ 314) .(1/152)
ومن حديث غير ابن إسحاق، عن أبى سفيان بن حرب قال: خرجت أنا وأمية بن أبى الصلت، وآخر سقط اسمه من كتابى، تجارا إلى الشام. قال أبو سفيان: فكلما نزلنا منزلا أخرج أمية سفرا يقرأه علينا، فكنا كذلك حتى نزلنا بقرية من قرى النصارى، فرأوه وعرفوه وأهدوا له فذهب معهم إلى بيعتهم، ثم رجع فى وسط النهار، فطرح ثوبيه، واستخرج ثوبين أسودين، فلبسهما ثم قال: يا أبا سفيان، هل لك فى عالم من علماء النصارى إليه تناهى علم الكتب تسله عما بدا لك؟. قال: قلت لا أرب لى فيه، والله لئن حدثنى ما أحب لا أثق به، ولئن حدثنى ما أكره لأوجلن منه.
قال: وذهب يخالفه شيخ من النصارى، فدخل علينا فقال، يعنى له وللآخر الذى كان معه: ما منعكما أن تذهبا إلى هذا الشيخ؟ قلنا: لسنا على دينه. قال: وإن، فإنكما تسمعان عجبا وتريانه. قال: قلنا: لا أرب لنا فى ذلك. قال أثقفيان أنتما؟ قلنا: لا ولكن من قريش. قال: فما منعكما من الشيخ، فو الله إنه ليحبكم ويوصى بكم.
وخرج من عندنا، ومكث أمية عنا حتى جاءنا بعد هدأة من الليل، فطرح ثوبيه ثم انجدل على فراشه، فو الله ما قام ولا نام حتى أصبح. قال: فأصبح كئيبا حزينا، ساقطا غبوقه على صبوحه ما يكلمنا، ثم قال: ألا ترحلان؟ قلنا: وهل بك من رحيل؟ قال:
نعم، فارحلا.
فرحلنا فسرنا بذلك ليلتين من همه وبثه. ثم قال ليلة: ألا تحدث يا أبا سفيان؟ قلت:
وهل بك من حديث! فو الله ما رأيت مثل الذى رجعت به من عند صاحبك. قال: أما إن ذلك شىء لست فيه إنما ذلك شىء وجلت به من منقلبى. قلت: وهل لك من منقلب؟ قال: إى والله لأموتن ولأحاسبن. قلت: فهل أنت قابل أمانى؟ قال: وعلى ماذا؟ قلت: على أنك لا تبعث ولا تحاسب؛ فضحك ثم قال: بلى والله يا أبا سفيان لنبعثن ولنحاسبن، وليدخلن فريق فى الجنة وفريق فى النار. قلت: فى أيتهما أنت أخبرك صاحبك. قال: لا علم لصاحبى بذلك فى ولا فى نفسه.
فكنا فى ذلك ليلتنا، يعجب منا ونضحك منه، حتى قدمنا غوطة دمشق وإياها كنا نريد، فبعنا متاعنا وأقمنا بذلك شهرين، ثم ارتحلنا حتى نزلنا بتلك القرية من قرى النصارى، فلما رأوه جاؤه فأهدوا له، وذهب معهم إلى بيعتهم، حتى جاءنا مع نصف النهار، فلبس ثوبيه الأسودين، فذهب ولم يدعنا إليه كما دعانا أول مرة، ثم جاءنا بعد هدأة من الليل، فطرح ثوبيه، ثم رمى بنفسه على فراشه فو الله ما نام ولا قام، فأصبح(1/153)
مبثوثا حزينا، لا يكلمنا ولا نكلمه ثم قال لى: ألا ترحلان؟ قلت: بلى إن شئت. قال:
فارحلا.
فرحلنا فسرنا كذلك من بثه وحزنه ليالى. ثم قال لى ليلة: يا أبا سفيان، هل لك فى المسير؟ وتخلف هذا الغلام يستأنس بأصحابنا ويستأنسون به؟ قلت له: ما شئت. قال:
فسر. فسرنا حتى برزنا. قال: هى يا صخر!. قلت: ما لك؟. قال: هى عن عتبة بن ربيعة أيجتنب المحارم والمظالم؟ قلت: إى والله. قال: ويصل الرحم ويأمر بصلتها؟
قلت: نعم ويصل الرحم ويأمر بصلتها. قال: وكريم الطرفين، واسط فى العشيرة؟
قلت: كريم الطرفين واسط فى العشيرة. قال: فهل تعلم قرشيا أشرف منه؟ قلت: لا والله ما أعلم. قال: ومحوج هو؟ قلت: لا بل ذو مال. قال: فكم أتى له؟ قلت: هو ابن سبعين نظر إليها قد قاربها، هو لها، هو ابنها. قال: فالسن والشرف أزريا به؟ قلت:
وما لهما أزريا به؟ لا والله بل هما زاداه خيرا. قال: هو ذاك هل لك فى المبيت؟ قلت:
هل لك فيه حاجة؟ قال: فاضطجعنا. حتى مر الثقل فسرنا حتى نزلنا فكنا فى المنزل وبتنا.
ثم رحلنا، فلما كان الليل قال: يا أبا سفيان. قلت: لبيك. قال: هل لك فى البارحة؟ قلت: هل لى. قال: فسرنا على ناقتين ناجيتين، حتى إذا برزنا قال: يا صخر، إيه عن عتبة. قلت: إيه عنه. قال: أيجتنب المحارم والمظالم ويأمر بصلة الرحم ويصلها؟
قلت: ويفعل. قال: ومحوج؟ قلت: ومحوج.
قال: هل تعلم قرشيا أسود منه؟ قلت: والله ما أعلمه. قال: أو كم أتى له؟ قلت:
سبعون هو لها هو ابنها قد واقعها. قال: فإن السن والشرف أزريا به. قلت: لا والله ما أزريا به ولكنهما زاداه، وأنت قائل شيئا فقله. قال: والله لا تذكر حديثى حتى يأتى ما هو آت. قلت: والله لا أذكره. قال: الذى رأيت أصابنى فإنى جئت هذا العالم فسألته عن أشياء. قلت: أخبرنى عن هذا النبى الذى ينتظر؟ قال: هو رجل من العرب. قلت:
قد علمت فمن أى العرب؟ قال: هو من أهل بيت تحجه العرب. قلت: فينا بيت تحجه العرب. قال: لا، هم إخوتكم وجيرانكم من قريش. قال: فأصابنى والله شىء ما أصابنى مثله قط. وخرج من يدى فوز الدنيا والآخرة، وكنت أرجو أن أكون أنا هو.
قلت: فإذا كان ما كان فصفه لى؟ قال: بلى، هو شاب حين دخل فى الكهولة بدء أمره، إنه يجتنب المحارم والمظالم، ويصل الرحم ويأمر بصلتها، وهو محوج ليس ينازع(1/154)
شرفا كريم الطرفين، متوسط فى العشيرة أكثر جنده من الملائكة قلت: وما آية ذلك؟
قال: قد رجف بالشام منذ هلك عيسى ابن مريم ثمانون رجفة كلها فيهم مصيبة عامة، وبقيت رجفة عامة، فيها مصيبة يخرج على أثرها.
قال أبو سفيان: قلت: وإن هذا هو الباطل، لئن بعث الله رسولا، لا يأخذه إلا شريفا مسنا. قال: والذى يحلف به إن هذا لهكذا يا أبا سفيان. هل لك فى المبيت. فبتنا حتى مر بنا الثقل، فرحلنا حتى إذا كان بيننا وبين مكة ليلتان، أدركنا الخبر من خلفنا:
أصاب الشام بعدكم رجفة دمر أهلها وأصابتهم فيها مصيبة عظيمة. قال: كيف ترى يا أبا سفيان؟ قلت: أرى والله ما أظن صاحبك إلا صادقا.
وقدمنا مكة فقضيت ما كان معى، ثم انطلقت حتى جئت أرض الحبشة تاجرا، فمكثت بها خمسة أشهر، ثم أقبلت حتى قدمت مكة فبينا أنا فى منزلى، جاءنى الناس يسلمون على، حتى جاءنى فى آخرهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وعندى هند جالسة تلاعب صبية لها، فسلم على ورحب بى وسألنى عن سفرى ومقدمى، ثم انطلق.
فقلت: والله إن هذا الفتى لعجب، ما جاءنا أحد من قريش له معى بضاعة، إلا سألنى عنها وما بلغت وو الله إن له معى لبضاعة، ما هو بأغناهم عنها، ثم ما سألنى فقالت: أو ما علمت بشأنه؟ قلت وفزعت: ما شأنه؟! قالت: والله إنه ليزعم أنه رسول الله. قال:
فوقذنى ذلك وذكرنى قول النصرانى، ووجمت حتى قالت لى: ما لك؟ فانتبهت وقلت:
إن هذا والله لهو الباطل، لهو أعقل من أن يقول هذا. قالت: بلى والله إنه ليقوله، ويؤتى عليه وإن له لصاحبة معه على أمره. قلت: هو والله باطل.
فخرجت فبينا أنا أطوف إذ لقيته، فقلت: إن بضاعتك قد بلغت وكان فيها خير، فأرسل إليها فخذها، ولست آخذا فيها ما آخذ من قومك قال: فإنى غير آخذها حتى تأخذ منى ما تأخذ من قومى. قلت: ما أنا بفاعل. قال: فو الله إذا لا آخذها. قلت:
فأرسل إليها. فأخذت منها ما كنت آخذ، وبعثت إليه ببضاعته.
ولم أنشب أن خرجت تاجرا إلى اليمن فقدمت الطائف فنزلنا على أمية، فتغديت معه ثم قلت: يا أبا عثمان، هل تذكر حديث النصرانى؟ قال: أذكره. قلت: فقد كان، قال: ومن؟ قلت: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب. ثم قصصت عليه خبر هند. قال:
فالله يعلم أنه تصبب عرقا ثم قال: يا أبا سفيان لعله، وإن صفته لهيه، ولئن ظهر وأنا حى لأبلين الله فى نصرته عذرا.(1/155)
ومضيت إلى اليمن فلم أنشب أن جاءنى هناك استهلاله، وأقبلت حتى قدمت الطائف فنزلنا على أمية بن أبى الصلت. قلت: قد كان من هذا الرجل ما قد بلغك وسمعت.
قال: قد كان. قلت: فأين أنت؟ قال: ما كنت لأومن برسول ليس من ثقيف! قال أبو سفيان: فأقبلت إلى مكة وو الله ما أنا منه ببعيد حتى جئت فوجدته هو وأصحابه يضربون ويقهرون، فجعلت أقول: فأين جنده من الملائكة؟! ودخلنى ما دخل الناس من النفاسة.
ووقع فى هذا الحديث من قول أبى سفيان: أن عتبة بن ربيعة ذو مال، ووقع بعد ذلك من قول أبى سفيان أيضا أنه محوج، ولا يصح أن يجتمع الأمران، وأحدهما غلط من الناقل، والله أعلم.
والمشهور من حال عتبة أنه كان فقيرا وكان يقال: لم يسد من قريش مملق إلا عتبة وأبو طالب، فإنهما سادا بغير مال. وأما أمية بن أبى الصلت فرجل من ثقيف، لم يرض دين أهل الجاهلية، ولا وفقه الله للدخول فى السمحة الحنيفية.
فكان كما روى عن عروة بن الزبير قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمية بن أبى الصلت فقال: «أوتى علما فضيعه» . وكما روى عن الحسن وقتادة أنهما قالا فى قول الله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ [الأعراف: 175] أنه أمية بن أبى الصلت.
ولغيرهما من العلماء فى المعنى بهذه الآية قول أشهر من هذا، وهو أن المراد بها بلعام بن باعوراء، فالله تعالى أعلم.
قال ابن إسحاق «1» : واجتمعت قريش يوما فى عيد لهم عند صنم من أصنامهم، كانوا يعظمونه، وينحرون له، ويعكفون عنده، فخلص منهم أربعة نفر نجيا «2» ، ثم قال بعضهم لبعض: تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض.
قالوا: أجل. وهم: ورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى، وزيد بن عمرو بن نفيل، فقال بعضهم لبعض: تعلموا والله ما قومكم على شىء، لقد أخطأوا دين أبيهم إبراهيم، ما حجر نطيف به لا يسمع ولا يبصر، ولا يضر ولا ينفع!!. يا قوم: التمسوا لأنفسكم فإنكم والله ما أنتم على شىء.
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 191- 192) .
(2) نجى: النجى جماعة يتحدثون سرا يخفون حديثهم عن غيرهم، وهو لفظ يستوى فيه الواحد والاثنان والجماعة.(1/156)
فتفرقوا فى البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم.
فأما ورقة بن نوفل فاستحكم فى النصرانية، واتبع الكتب من أهلها. وذكر الزبير بن أبى بكر بإسناد له إلى عروة بن الزبير قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ورقة بن نوفل.
فقال: «لقد رأيته فى المنام عليه ثياب بيض، فقد أظن أن لو كان من أهل النار لم أر عليه البياض» . وكان يذكر الله فى شعره فى الجاهلية، ويسبحه وهو الذى يقول:
لقد نصحت لأقوام وقلت لهم ... أنا النذير فلا يغرركم أحد
لا تعبدن إلها غير خالقكم ... فإن دعوكم فقولوا بيننا حدد
سبحان ذى العرش سبحانا يدوم له ... رب البرية فرد واحد صمد
سبحان ذى العرش سبحانا نعود له ... وقبل سبحه الجودى والجمد
مسخر كل ما تحت السماء له ... لا ينبغى أن ينادى ملكه أحد
لا شىء مما ترى تبقى بشاشته ... يبقى الإله ويودى المال والولد
لم تغن عن هرمز يوما خزائنه ... والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجرى الرياح له ... والإنس والجن فيما بينها برد
أين الملوك التى كانت لعزتها ... من كل أوب إليها وافد يفد
حوض هنالك مورود بلا كذب ... لا بد من ورده يوما كما وردوا
وفى هذا الشعر ألفاظ عن غير الزبير، والبيت الأخير كذلك، وفيه أبيات تروى لأمية بن أبى الصلت.
قال ابن إسحاق «1» : وأما عبيد الله بن جحش فأقام على ما هو عليه من الالتباس حتى أسلم، ثم هاجر مع المسلمين إلى أرض الحبشة، ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبى سفيان مسلمة، فلما قدماها تنصر وفارق الإسلام حتى هلك هنالك نصرانيا، وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على امرأته أم حبيبة، وكان حين تنصر يمر بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: فقحنا وصأصأتم. أى أبصرنا وأنتم تلتمسون البصر ولم تبصروا بعد.
وأما عثمان بن الحويرث فقدم على قيصر ملك الروم فتنصر وحسنت منزلته عنده.
وذكر الزبير: أن قيصر ملكه على أهل مكة، وكتب له إليهم كتابا. فأنفت قريش أن يدنيوا لأحد، وصاح فيه ابن عمه أبو زمعة الأسود بن المطلب بن أسد والناس فى الطواف: إن قريشا لقاح لا تملك ولا تملك فمضت قريش على كلامه، ومنعوا عثمان
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 192) .(1/157)
ما جاء يطلب، فرجع إلى قيصر ومات بالشام مسموما. يقال: سمه عمرو بن حفنة الغسانى الملك، وكان يقال لعثمان: هذا البطريق، ولا عقب له.
قال ابن إسحاق «1» : وأما زيد بن عمرو بن نفيل فوقف فلم يدخل فى يهودية ولا نصرانية وفارق دين قومه، فاعتزل الأوثان، والميتة والدم، والذبائح التى تذبح على الأوثان ونهى عن قتل الموؤدة، وقال: أعبد رب إبراهيم، وبادى قومه بعيب ما هم عليه.
قالت أسماء بنت أبى بكر الصديق رضى الله عنهما: لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل شيخا كبيرا مسندا ظهره إلى الكعبة، وهو يقول: يا معشر قريش، والذى نفس زيد بن عمرو بيده، ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيرى. ثم يقول: اللهم لو أنى أعلم أى الوجوه أحب إليك عبدتك به، ولكن لا أعلمه. ثم يسجد على راحلته «2» .
وسأل ابنه سعيد بن زيد وابن عمه عمر بن الخطاب بن نفيل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنستغفر لزيد بن عمرو؟ قال: «نعم، فإنه يبعث أمه وحده» «3» .
وقال زيد بن عمرو بن نفيل فى فراق دين قومه:
أربا واحدا أم ألف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور
عزلت اللات والعزى جميعا ... كذلك يفعل الجلد الصبور
فلا عزى أدين ولا ابنتيها ... ولا صنمى بنى عمرو أزور
ولا غنما* أدين وكان ربا ... لنا فى الدهر إذ حلمى يسير
عجبت وفى الليالى معجبات ... وفى الأيام يعرفها البصير
بأن الله قد أفنى رجالا ... كثيرا كان شأنهم الفجور
وأبقى آخرين ببر قوم ... فيربل منهم الطفل الصغير
وبينا المرء يعثر ثاب يوما ... كما يتروح الغصن المطير «4»
ولكن أعبد الرحمن ربى ... ليغفر ذنبى الرب الغفور
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 193) .
(2) ذكره البخارى فى صحيحه تعليقا فى كتاب مناقب الأنصار، باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل (7/ 143) .
(3) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (2/ 124) ، البداية والنهاية لابن كثير (2/ 239) ، المطالب العالية لابن حجر (4055) .
(*) هكذا فى الأصول، وفى السيرة (1/ 194) : «ولا هبلا» .
(4) ثاب: رجع. يتروح: يهتز ويحتضر، وينبت ورقة بعد سقوطه.(1/158)
فتقوى الله ربكم احفظوها ... متى ما تحفظوها لا تبوروا
ترى الأبرار دارهم جنان ... وللكفار حامية سعير
وخزى فى الحياة وإن يموتوا ... يلاقوا ما تضيق به الصدور
وقال زيد بن عمرو بن نفيل، وذكر ابن هشام: أن أكثرها لأمية بن أبى الصلت «1» ، فى قصيدة له:
إلى الله أهدى مدحتى وثنائيا ... وقولا رصينا لا ينى الدهر باقيا
إلى الملك الأعلى الذى ليس فوقه ... إله ولا رب يكون مدانيا
ألا أيها الإنسان إياك والردى ... فإنك لا تخفى من الله خافيا
فإياك لا تجعل مع الله غيره ... فإن سبيل الرشد أصبح باديا
حنانيك إن الجن كانت رجاؤهم ... وأنت إلهى ربنا ورجائيا
رضيت بك اللهم ربا فلن أرى ... أدين إلها غيرك الله ثانيا
وأنت من فضل من ورحمة ... بعثت إلى موسى رسولا مناديا
فقلت له إذهب وهارون فادعوا ... إلى الله فرعون الذى كان طاغيا
وقولا له آنت سويت هذه ... بلا وتد حتى اطمأنت كما هيا
وقولا له آنت رفعت هذه ... بلا عمد أرفق إذا بك بانيا «2»
وقولا له آنت سويت وسطها ... منيرا إذا ما جنه الليل هاديا
وقولا له من يرسل الشمس غدوة ... فيصبح ما مست من الأرض ضاحيا
وقولا له من ينبت الحب فى الثرى ... فيصبح منه البقل يهتز رابيا
ويخرج منه حبه فى رؤسه ... وفى ذاك آيات لمن كان واعيا
وأنت بفضل منك نجيت يونسا ... وقد بات فى أضعاف حوت لياليا
وإنى وإن سبحت باسمك ربنا ... لأكثر إلا ما غفرت خطائيا
فرب العباد ألق سيبا ورحمة ... على وبارك فى بنى وماليا
وقال زيد بن عمرو أيضا:
وأسلمت وجهى لمن أسلمت ... له الأرض تحمل صخرا ثقالا
دحاها فلما رآها استوت ... على الماء أرسى عليها الجبالا
__________
(1) أمية بن الصلت بن أبى ربيعة بن عبد عوف بن عقدة بن غيرة. انظر ترجمته فى: الشعر والشعراء (ص 300) .
(2) أرفق إذا بك بانيا: هذا على التعجب، أى أرفقك بانيا؟.(1/159)
وأسلمت وجهى لمن أسلمت ... له المزن تحمل عذبا زلالا
إذا هى سيقت إلى بلدة ... أطاعت فصبت عليها سجالا
ويروى أن زيدا كان إذا استقبل الكعبة داخل المسجد قال: لبيك حقّا حقّا تعبدا ورقا، عذت بما عاذ به إبراهيم مستقبل القبلة وهو قائم، إذ قال: إنى لك عان راغم، مهما تجشمنى فإنى جاشم، البر أبقى لا الخال، ليس مهجر كمن قال. ويقال: البر أبقى لا الحال «1» .
وكان الخطاب بن نفيل قد آذى زيدا حتى أخرجه إلى أعلى مكة. فنزل حرا مقابل مكة. وكان الخطاب عمه وأخاه لأمه، وكل به شبابا من شباب قريش وسفهائهم، فقال لهم: لا تتركوه يدخل مكة. فكان لا يدخلها إلا سرا منهم، فإذا علموا بذلك آذنوا به الخطاب فأخرجوه وآذوه، مخافة أن يفسد عليهم دينهم وأن يتابعه أحد منهم على فراقه «2» .
وكان زيد قد أجمع الخروج من مكة ليضرب فى الأرض يطلب الحنيفية دين إبراهيم، فكانت امرأته صفية بنت الحضرمى كلما رأته تهيأ للخروج أو أراده، آذنت به الخطاب بن نفيل، وكان الخطاب وكلها به وقال: إذا رأيته هم بأمر فآذنينى به «3» .
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 196) .
(2) انظر: السيرة (1/ 197) ، وهناك أورد شعر قاله فى ذلك وهو:
لاهم إنى محرم لا حله ... وإن بيتى أوسط المحله
عند الصفا ليس بذى مضله
(3) ذكره فى السيرة وذكر هناك شعر يعاتب فى امرأته على ذلك وهو:
لا تحبسينى فى الهوا ... ن صفى ما دابى ودابه
إنى إذا خفت الهوا ... ن مشيع ذلل ركابه
دعموص أبواب الملو ... ك وجائب للخرق نابه
قطاع أسباب تذل ... بغير أقران صعابه
وإنما أخذ الهوا ... ن العير إذ يوهى إهابه
ويقول إنى لا أذل ... بصك جنبيه صلابه
وأخى ابن أمى ثم ... عمى لا يواتينى خطابه
وإذا يعاتبنى بسو ... ء قلت أعيانى جوابه
ولو أشاء لقلت ... ما عندى مفاتحه وبابه
انظر السير: (1/ 195- 196) .(1/160)
ثم خرج يطلب دين إبراهيم ويسأل الرهبان والأحبار، حتى بلغ الموصل والجزيرة كلها، ثم أقبل فجال الشام كلها، حتى انتهى إلى راهب بميفعة «1» من أرض البلقاء «2» ، كان ينتهى إليه علم النصرانية فيما يزعمون، فسأله عن الحنيفية دين براهيم، فقال: إنك لتطلب دينا ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم، ولكن قد أظلك زمان نبى يخرج من بلادك التى خرجت منها يبعث بدين إبراهيم الحنيفية، فالحق به فإنه مبعوث الآن، هذا زمانه.
وقد كان زيد رام اليهودية والنصرانية فلم يرض منها شيئا، فخرج سريعا حين قال له ذلك الراهب ما قال، يريد مكة، حتى إذا توسط بلاد لخم عدوا عليه فقتلوه. فقال ورقة بن نوفل يبكيه «3» :
رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما ... تجنبت تنورا من النار حاميا
بدينك ربا ليس رب كمثله ... وتركك أوثان الطواغى كما هيا
وإدراكك الدين الذى قد طلبته ... ولم تك عن توحيد ربك ساهيا
فأصبحت فى دار كريم مقامها ... تعلل فيها بالكرامة لاهيا
تلاقى خليل الله فيها ولم تكن ... من الناس جبارا إلى النار هاويا
وقد تدرك الإنسان رحمة ربه ... ولو كان تحت الأرض سبعين ودايا
قال ابن إسحاق «4» : وكان فيما بلغنى عما كان وضع عيسى ابن مريم فيما جاءه من الله فى الإنجيل لأهل الإنجيل من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أثبت لهم يحنس الحوارى حين نسخ لهم الإنجيل من عهد عيسى ابن مريم إليهم فى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أبغضنى فقد أبغض الرب، ولولا أنى صنعت بحضرتهم صنائع لم يصنعها أحد قبلى ما كانت لهم خطيئة، ولكن من الآن بطروا، وظنوا أنهم يعزوننى وأيضا للرب، ولكن لا بد من أن تتم الكلمة التى فى الناموس، أنهم أبغضونى مجانا، أى باطلا، فلو قد جاء المنحمنا هذا الذى يرسله الله إليكم من عند الرب، روح القسط هو الذى من عند الرب خرج
__________
(1) ميفعة: أصل الميفعة الموضع المرتفع من البقاع.
(2) البلقاء: مدينة بالشام من عمل دمشق سميت بالبلقاء بن سورية من بنى عبيل بن لوط وهو بناها، وبها كان اجتماع الحكمين أبى موسى وعمرو بن العاص، رضى الله عنهما، فكان من أمرهما ما كان، وقيل كان ذلك بدومة الجندل على عشرة أيام من دمشق. انظر: الروض المعطار (ص 96، 97) .
(3) انظر الأبيات فى: السيرة (1/ 198) .
(4) انظر: السيرة (1/ 198) .(1/161)
فهو شهيد على، وأنتم أيضا لأنكم قديما كنتم معى، هذا قلت لكم لكيلا تشكوا.
والمنحمنا بالسريانية هو محمد صلى الله عليه وسلم، وهو بالرومية البرقليطس.
قال ابن هشام: وبلغنى أن رؤساء نجران كانوا يتوارثون كتبا عندهم، فكلما مات رئيس منهم فأفضت الرياسة إلى غيره ختم على تلك الكتب خاتما مع الخواتم التى قبله ولم يكسرها، فخرج الرئيس الذى كان على عهد النبى صلى الله عليه وسلم يمشى فعثر، فقال ابنه: تعس الأبعد. يريد النبى صلى الله عليه وسلم، فقال له أبوه: لا تفعل فإنه نبى واسمه فى الوضائع. يعنى الكتب. فلما مات لم تكن لابنه همة إلا أن شد فكسر الخواتم، فوجد ذكر النبى صلى الله عليه وسلم، فأسلم فحسن إسلامه وحج.
وهو الذى يقول:
إليك تعدو قلقا وضينها ... معترضا فى بطنها جنينها
مخالفا دين النصارى دينها
وقد جاءت أحاديث حسان بما وقع من صفة النبى صلى الله عليه وسلم فى التوراة، لم يذكر ابن إسحاق منها شيئا. فمن ذلك ما ذكره الواقدى عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله ابن عمرو بن العاص فقلت: أخبرنى عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى التوراة؟ فقال: أجل والله إنه لموصوف فى التوراة بصفته فى الفرقان: يا أيها النبى إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، أنت عبدى ورسولى، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب فى الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا لا إله إلا الله، يفتح بها أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا.
قال عطاء: ثم لقيت كعب الأحبار فسألته فما اختلفا فى حرف! وذكر الواقدى أيضا، عن النعمان السبئى قال: وكان من أحبار اليهود باليمن، فلما سمع بذكر النبى صلى الله عليه وسلم قدم عليه فسأله عن أشياء، ثم قال: إن أبى كان يختم على سفر يقول: لا تقرأه على يهود حتى تسمع بنبى قد خرج بيثرب، فإذا سمعت به فافتحه.
قال نعمان: فلما سمعت بك فتحت السفر، فإذا فيه صفتك كما أراك الساعة، وإذا فيه ما تحل وما تحرم، وإذا فيه أنك خير الأنبياء وأمتك خير الأمم واسمك أحمد صلى الله عليك وسلم، وأمتك الحمادون، قربانهم دماؤهم وأناجيلهم صدورهم، لا يحضرون(1/162)
قتالا إلا وجبريل معهم، يتحنن الله إليهم كتحنن الطير على أفراخه.
ثم قال لى: إذا سمعت به فاخرج إليه وآمن به وصدق به. فكان النبى صلى الله عليه وسلم يحب أن يسمع أصحابه حديثه، فأتاه يوما فقال النبى صلى الله عليه وسلم: «يا نعمان حدثنا» ، فابتدأ النعمان الحديث من أوله فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم، ثم قال: «أشهد أنى رسول الله» «1» ، ويقال: إن النعمان هذا هو الذى قتله الأسود العنسى وقطعه عضوا عضو وهو يقول:
أشهد أن محمدا رسول الله، وأنك كذاب مفتر على الله عز وجل. ثم حرقه بالنار.
ذكر المبعث
قال ابن إسحاق «2» : فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة بعثه الله رحمة للعالمين وكافة للناس. وكان الله قد أخذ له الميثاق على كل نبى بعثه قبله بالإيمان به والتصديق له والنصر على من خالفه، وأخذ عليهم أن يؤدوا ذلك إلى كل من آمن بهم وصدقهم، فأدوا من ذلك ما كان عليهم من الحق.
فيه يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي أى ثقل ما حملتكم من عهدى قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 81] . فأخذ الله ميثاق النبيين جميعا بالتصديق له والنصر وأدوا ذلك إلى من آمن بهم وصدقهم من أهل هذين الكتابين.
وعن عائشة رضى الله عنها، أن أول ما ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة حين أراد الله كرامته ورحمة العباد به، الرؤيا الصادقة، لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح، وحبب الله إليه الخلوة، فلم يكن شىء أحب إليه من أن يخلو وحده «3» .
__________
(1) أخرجه البخارى (4/ 88، 7/ 103) ، مسلم كتاب الإيمان (178) ، البيهقى فى الدلائل (1/ 142) ، السيوطى فى الدر المنثور (1/ 273) ، ابن كثير فى البداية (6/ 190) ، العجلونى فى كشفا الخفاء (1/ 142) ، أبو نعيم فى الدلائل (165) .
(2) انظر: السيرة (1/ 199) .
(3) انظر الحديث فى: البخارى فى صحيحه كتاب بدء الوحى (1/ 22) ، صحيح مسلم كتاب الإيمان (1/ 252) ، مسند الإمام أحمد (6/ 153، 232، 233) . مستدرك الحاكم (3/ 183، 184) .(1/163)
وعن بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراده الله بكرامته وابتدائه بالنبوة، كان إذا خرج لحاجته أبعد حتى تحسر عنه البيوت ويفضى إلى شعاب مكة وبطون أوديتها، فلا يمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بحجر ولا شجرة إلا قال: السلام عليك يا رسول الله. فيلتفت حوله عن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى إلا الشجر والحجارة، فمكث كذلك يرى ويسمع ما شاء الله أن يمكث، ثم جاءه جبريل بما جاءه من كرامة الله وهو بحراء فى رمضان «1» .
وعن عبيد بن عمير بن قتادة الليثى، يحدث كيف كان بدء ما ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة حين جاءه جبريل قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور فى حراء من كل سنة شهرا، وكان ذلك مما تحنث به قريش فى الجاهلية، والتحنث: التبرر.
فكان يجاور ذلك الشهر من كل سنة، يطعم من جاءه من المساكين، فإذا قضى جواره من شهره ذلك كان أول ما يبدأ به إذا انصرف قبل أن يدخل بيته الكعبة، فيطوف بها سبعا أو ما شاء الله، ثم يرجع إلى بيته «2» .
حتى إذا كان الشهر الذى أراد الله به فيه ما أراد من كرامته، وذلك الشهر رمضان، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حراء كما كان يخرج لجواره ومعه أهله، حتى إذا كانت الليلة التى أكرمه الله فيها برسالته ورحم العباد بها جاءه جبريل بأمر الله.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءنى وأنا نائم بنمط «3» من ديباج فيه كتاب «4» ، فقال: إقرأ.
قلت: «ما أقرأ» فغتنى به حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلنى، فقال: اقرأ. فقلت: «ما أقرأ» فغتنى «5» به حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلنى فقال: اقرأ، قلت: «ما أقرأ» فغتنى به حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلنى فقال: اقرأ: قلت: «ماذا أقرأ؟» ، ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لى بمثل ما صنع، قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ
__________
(1) ذكره ابن سعد فى الطبقات (1/ 157) ، البيهقى فى دلائل النبوة (2/ 146) ، الحاكم فى المستدرك (4/ 70) .
(2) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 12) .
(3) النمط: هو ضرب من البسط.
(4) كتاب: قال فى الروض الأنف: قال بعض المفسرين فى قوله تعالى: الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ إنها إشارة إلى الكتاب الذى جاء به جبريل حين قال له: اقرأ.
(5) فغتنى: قال ابن الأثير: الغت والغط سواء كأنه أراد عصرنى عصرا شديدا حتى وجدت منه المشقة، كما يجد من يغمس فى الماء قهرا.(1/164)
مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 1، 5] ، فقرأتها ثم انتهى فانصرف عنى وهببت من نومى، «فكأنما كتبت فى قلبى كتابا» .
فخرجت حتى إذا كنت فى وسط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله وأنا جبريل، فرفعت رأسى إلى السماء أنظر، فإذا جبريل فى صورة رجل صاف قدميه فى أفق السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله، وأنا جبريل.
فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهى عنه فى آفاق السماء، فلا أنظر فى ناحية منها إلا رأيته كذلك، فمازلت واقفا ما أتقدم أمامى وما أرجع ورائى، حتى بعثت خديجة رسلها فى طلبى، فبلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف فى مكانى ذلك، ثم انصرف عنى وانصرفت عنه راجعا إلى أهلى حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفا إليها. فقالت: يا أبا القاسم أين كنت؟ فو الله لقد بعث رسلى فى طلبك فبلغوا مكة ورجعوا إلى، ثم حدثتها بالذى رأيت، فقالت: أبشر يا ابن عمى واثبت، فو الذى نفس خديجة بيده إنى لأرجو أن تكون نبى هذه الأمة.
ثم قامت فجمعت عليها ثيابها، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل وهو ابن عمها، وكان قد تنصر وقرأ الكتب وسمع من أهل التوراة والإنجيل، فأخبرته بما أخبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى وسمع، فقال ورقة: قدوس قدوس، والذى نفس ورقة بيده لئن كنت صدقتنى يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذى كان يأتى موسى، وإنه لنبى هذه الأمة، فقولى له فليثبت، فرجعت خديجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة.
فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف، صنع كما كان يصنع، بدأ بالكعبة فطاف بها، فلقيه ورقة بن نوفل وهو يطوف بالكعبة، فقال له: يا ابن أخى، أخبرنى بما رأيت وسمعت، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له ورقة: والذى نفسى بيده، إنك لنبى هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذى جاء موسى، ولتكذبنه ولتؤذينه ولتخرجنه ولتقاتلنه، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه، ثم أدنى رأسه منه فقيل يا فوخه، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله «1» .
ويروى عن خديجة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أى ابن عم، أتستطيع أن تخبرنى بصاحبك هذا الذى يأتيك إذا جاءك؟ قال: «نعم» . قالت: فإذا جاءك فأخبرنى به،
__________
(1) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (2/ 146، 149) ، فتح البارى لابن حجر (8/ 588، 589) .(1/165)
فجاءه جبريل كما كان يصنع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا خديجة، هذا جبريل قد جاءنى» ، قالت: قم يا ابن عم فاجلس على فخذى اليسرى، فقام فجلس عليها، قالت:
هل تراه؟ قال: «نعم» . قالت: فتحول فاقعد على فخذى اليمنى، فتحول فقعد على فخذها اليمنى، فقالت: هل تراه؟ قال: «نعم» . قالت: فتحول فاجلس فى حجرى، فتحول فجلس فى حجرها، ثم قالت له: هل تراه؟ قال: «نعم» ؛ فتحسرت وألقت خمارها ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فى حجرها، ثم قالت: هل تراه؟ قال: «لا» . قالت: يا ابن عم، اثبت وأبشر، فو الله إنه لملك ما هذا بشيطان «1» .
ويروى أن خديجة أدخلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها وبين درعها، فذهب عند ذلك جبريل، وابتدىء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتنزيل فى رمضان.
يقول الله عز وجل: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ [البقرة: 181] ، وقال: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:
1] إلى خاتمة السورة.
وقال: حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [الدخان: 1، 4] ، وقال: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ [الأنفال: 42] ، يعنى ملتقى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين ببدر، وذلك يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة من شهر رمضان.
هكذا أورد ابن إسحاق «2» رحمه الله هذه الآيات كالمستشهد بها على ابتداء التنزيل فى شهر رمضان على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفى صورة هذا الاستشهاد نظر. فإن ظاهر قوله سبحانه: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ عموم نزول القرآن بجملته فيه.
وكذلك قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وإِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ.
ولم يقع الأمر فى إنزاله على رسوله صلى الله عليه وسلم هكذا، بل أنزله الله عليه فى رمضان وفى غيره متفرقا، آيات وسورا، بحسب سؤال السائلين، أو أحداث المحدثين، أو ما شاء الله من هداية العالمين.
وقد قيل فى قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ أى
__________
(1) انظر الحديث فى: الجامع الكبير (2/ 721) .
(2) انظر: السيرة (1/ 204) .(1/166)
الذى أنزل فى شأنه القرآن، أى نزل الأمر من الله عز وجل، بصيامه كتابا يتلى وقرآنا لا يدرس ولا يبلى.
كما يقال: «نزل القرآن بالصلاة» أى نزل جزء منه بفرضها و «نزل القرآن فى عائشة» رضى الله عنها، وإنما نزلت منه آيات ببراءتها من الإفك. ومثل هذا الإطلاق موجود فى الأحاديث والآثار كثيرا.
ولنسلم أن معنى قوله: أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أى ابتدىء فيه إنزاله، فقد قيل ذلك وليس ببعيد فى المفهوم ولا مما تضيق عنه سعة الكلام، ثم نجرى ذلك المجرى الآيتين الأخيرتين، وهما: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ، وإِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وإن بعد ذلك فيهما لما ورد من الآثار المصححة لحكم عمومهما حسبما نذكره بعد، فما بال الآية الأخرى التى هى: وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ تنتظم فى هذا النظام، وقد أعقبها مفسرا بأن المعنى بذلك يوم بدر، وهو الحق؟!.
وهل كان يوم بدر إلا فى السنة الثانية من الهجرة، وبعد اثنتى عشرة سنة من البعث ونزول الوحى، أو بعد خمس عشرة سنة، على ما ورد من الخلاف فى مدة مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد النبوة، وما زال القرآن المكى والمدنى ينزل فى ماضى تلك السنين!.
فإن كان ابن إسحاق عنى ما ذكرناه عنه ونسبناه إليه فقد بينا وجه رده واستوفينا التنبيه عليه، وإن كان عنى غير ذلك فقصر عنه تحرير عبارته أو سقط على الناقل من كلامه ما كان يفى لو بقى بإفهامه، فالله تعالى أعلم. والرجل أولى منا بأن يصيب ويسلم، إلا أنه لا ينكر أن يغلط هذا البشر.
ونعوذ بالله أن نقصد بهذا الاعتداء على ذى علم أو الغض من ذى حق، فإن العلماء هم آباؤنا الأقدمون وهداتنا المتقدمون، بأنوارهم نسرى فنبصر ونستبصر، وإلى غاياتهم نجرى فطورا نصل وأطوارا نقصر، فلهم دوننا قصب السبق، ولهم علينا فى كل الأحوال أعظم الحق، إذا أصابوا اعتمدنا، وإذا أخطأوا استفدنا، وإذا أفادوا استمددنا، فجزاهم الله عنا أفضل الجزاء، ووفقنا لتوفية حقوق الأئمة والعلماء.
وبعد: فمن أحسن ما يتقلد فى تلك الآيات الثلاث التى صدر بها كلامه، مما يحفظ حكم عمومها ويطابق ظاهر مفهومها، ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهم أجمعين، أن القرآن أنزل جملة واحدة فى شهر رمضان إلى سماء الدنيا، فجعل فى بيت العزة، ثم أنزل على النبى صلى الله عليه وسلم شيئا فشيئا إلى حين وفاته.(1/167)
وقيل للشعبى: شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن، أما كان ينزل فى سائر السنة؟
قال: بلى، ولكن جبريل عليه السلام، كان يعارض محمدا صلى الله عليه وسلم فى شهر رمضان ما أنزل فى ماضى السنة فيمحو الله ما يشاء ويثبت.
قال ابن إسحاق «1» : ثم تتام الوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مؤمن بالله مصدق لما جاءه منه، قد قبله بقبوله وتحمل منه ما حمله على رضا العباد وسخطهم. وللنبوة أثقال ومؤنة لا يحملها، ولا يستطيع بها إلا أهل القوة والعزم من الرسل بعون الله وتوفيقه، لما يلقون من الناس وما يرد عليهم مما جاؤا به عن الله عز وجل.
فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر الله على ما يلقى من قومه من الخلاف والأذى.
وآمنت به خديجة بنت خويلد، وصدقت بما جاءه من الله، وآزرته على أمره. فكانت أول من آمن بالله ورسوله وصدق بما جاء منه.
فخفف الله بذلك عن رسوله، لا يسمع شيئا يكرهه من رد عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها، تثبته وتخفف عليه وتصدقه وتهون عليه أمر الناس. يرحمها الله «2» .
ثم فتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحى حتى شق عليه وأحزنه. فجاءه جبريل بسورة وَالضُّحى، يقسم له ربه جل وعلا، وهو الذى أكرمه بما أكرمه به، ما ودعه ولا قلاة.
فقال: وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى، يقول: ما حرمك فتركك، وما أبغضك منذ أحبك، وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى أى لما عندى من مرجعك إلى خير لك مما عجلت لك من الكرامة فى الدنيا، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى من الفلج فى الدنيا والثواب فى الآخرة، أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى «3» .
يعرفه بما ابتدأه به من كرامته فى عاجل أمره، ومنه عليه فى يتمه وعيلته وضلالته، واستنفاذه من ذلك برحمته، فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ أى لا تكن جبارا ولا متكبرا ولا فحاشا فظا على الضعفاء من بعاد الله، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ اذكرها وادع إليها «4» .
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 204) .
(2) انظر: السيرة (1/ 205) .
(3) انظر: السيرة (1/ 206) .
(4) انظر: السيرة (1/ 207) .(1/168)
فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر ما أنعم الله به عليه وعلى العباد به من النبوة سرا إلى من يطمئن به إليه من أهله. وافترضت عليه الصلاة، فصلى صلوات الله وسلامه عليه ورحمته وبركاته.
قالت عائشة رحمها الله: افترضت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما افترضت ركعتين ركعتين كل صلاة، ثم إن الله أتمها فى الحضر أربعا وأقرها فى السفر على فرضها الأولى ركعتين «1» .
وعن بعض أهل العلم أن الصلاة حين افترضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو بأعلى مكة فهمز له بعقبة فى ناحية الوادى فانفجرت له منه عين، فتوضأ جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر، ليريه كيف الطهور للصلاة، ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رأى جبريل توضأ، ثم قام به جبريل فصلى به وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاته، ثم انصرف جبريل فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة فتوضأ ليريها كيف الطهور للصلاة كما أراه جبريل، فتوضأت كما توضأ لها ثم صلى بها كما صلى به جبريل فصلت بصلاته «2» .
وعن نافع بن جبير بن مطعم، وكان كثير الرواية عن ابن عباس، قال: لما افترضت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل فصلى به الظهر حين مالت الشمس، ثم صلى به العصر حين كان ظله مثله، ثم صلى به المغرب حين غابت الشمس، ثم صلى به العشاء الآخرة حين ذهب الشفق، ثم صلى به الصبح حين طلع الفجر. ثم صلى به الظهر حين كان ظله مثله، ثم صلى به العصر حين كان ظله مثليه، ثم صلى به المغرب حين غابت الشمس لوقتها بالأمس، ثم صلى به العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل الأول، ثم صلى به الصبح مسفرا غير مشرق. ثم قال: يا محمد، الصلاة فيما بين صلاتك اليوم وصلاتك بالأمس «3» .
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (1/ 464) ، سنن أبى داود (1198) ، النسائى (1/ 225) ، أحمد فى المسند (6/ 272) .
(2) انظر الحديث فى: تاريخ الطبرى (1/ 535، 536) ، مجمع الزوائد للهيثمى (9/ 223، 224) ، وذكره السهيلى فى الروض الأنف (1/ 283، 284) .
(3) انظر الحديث فى: سنن أبى داود (1/ 393) ، سنن الترمذى (149) ، مسند الإمام أحمد (3081) ، مستدرك الحاكم (1/ 193) . وذكره السهيلى فى الروض الأنف (1/ 284) ، وقال: هذا الحديث لم يكن ينبغى له أن يذكره فى هذا الموضع، لأن أهل الصحيح متفقون على أن هذه القصة كانت فى الغد من ليلة(1/169)
قال ابن إسحاق «1» : ثم كان أول ذكر من الناس آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى وصدق بما جاءه من الله تبارك وتعالى، علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، وهو ابن عشر سنين يومئذ.
وكان مما أنعم الله به عليه أنه كان فى حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام. وذلك أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس عمه، وكان من أيسر بنى هاشم: «يا عباس، إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا إليه فلنخفف عنه من عياله، آخذ من بنيه رجلا وتأخذ أنت رجلا فنكفهما عنه» ، قال العباس: نعم، فانطلقا حتى أتيا أبا طالب، فقالا: إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما لى عقيلا فاصنعا ما شئتما، ويقال: عقيلا وطالبا، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّا فضمه إليه، وأخذ العباس جعفرا فضمه إليه، فلم يزل علىّ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله نبيا فاتبعه على وآمن به وصدقه، ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه «2» .
وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة، وخرج معه على بن أبى طالب مستخفيا من أبى طالب ومن جميع أعمامه وسائر قومه، فيصليان الصلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا. فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوما وهما يصليان فقال لرسول الله: يا ابن أخى، ما هذا الدين الذى أراك تدين به؟! قال: «أى عم، هذا دين الله ودين ملائكته ورسله، ودين أبينا إبراهيم» . أو كما قال صلى الله عليه وسلم. «بعثنى الله به رسولا إلى العباد، وأنت أى عم أحق من بذلت له النصيحة ودعوته إلى الهدى، وأحق من أجابنى إليه وأعاننى عليه» . أو كما قال.
فقال أبو طالب: أى ابن أخى، إنى لا أستطيع أن أفارق دين آبائى وما كانوا عليه، ولكن والله لا يخلص إليك بشىء تكرهه ما بقيت «3» .
__________
- الإسراء، وذلك بعد ما نبئ بخمسة أعوام، وقد قيل: إن الإسراء كان قبل الهجرة بعام ونصف، وقيل: بعام، فذكره ابن إسحاق فى بدء نزول الوحى، وأول أحوال الصلاة.
(1) انظر: السيرة (1/ 208- 209) .
(2) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (2/ 162) .
(3) انظر الحديث فى: تاريخ الطبرى (2/ 313) .(1/170)
وذكروا أنه قال لعلى: أى بنى ما هذا الدين الذى أنت عليه؟. فقال: يا أبت، آمنت برسول الله وصدقت بما جاء به وصليت معه لله واتبعته. فزعموا أنه قال له: أما إنه لم يدعك إلا إلى خير فالزمه.
قال ابن إسحاق «1» : ثم أسلم زيد بن حارثة الكلبى مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أول ذكر أسلم وصلى بعد على بن أبى طالب، وعن غير ابن إسحاق أن زيدا أصابه فى الجاهلية سباء فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد وقيل: بل وهبه لها، فوهبته خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه وتبناه، وذلك قبل أن يوحى إليه، وكان حارثة أبوه قد جزع عليه جزعا شديدا وبكى عليه حين فقده، فقال:
بكيت على زيد ولم أدر ما فعل ... أحى فيرجى أم أتى دونه الأجل
فو الله ما أدرى وإنى لسائل ... أغالك بعدى السهل أم غالك الجبل
ويا ليت شعرى هل لك الدهر أوبة ... فحسبى من الدنيا رجوعك لى بجل
تذكرنيه الشمس عند طلوعها ... وتعرض ذكراه إذا غربها أفل
وإن هبت الأرواح هيجن ذكره ... فيا طول ما حزنى عليه وما وجل
سأعمل نص العيس فى الأرض جاهدا ... ولا أسأم التطواف أو تسأم الإبل
حياتى أو تأتى على منيتى ... فكل امرىء فإن وإن غره الأمل
ثم إن أناسا من كلب حجوا فرأوا زيدا فعرفهم وعرفوه، فأعلموا أباه ووصفوا له موضعه وعند من هو. فخرج أبوه حارثة وعمه كعب ابنا شراحيل لفدائه.
وقدما مكة فسألا عن النبى صلى الله عليه وسلم فدخلا عليه فقالا: يا ابن عبد المطلب بن هاشم، يا ابن سيد قومه، أنتم أهل حرم الله وجيرانه، تفكون العانى وتطعمون الأسير، جئناك فى ابننا عبدك، فامنن عليه وأحسن إلينا فى فدائه. قال: «من هو؟» قالوا: زيد بن حارثة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فهلا غير ذلك؟» قالوا: ما هو؟ قال: «أدعوه فأخيره، فإن اختاركم فهو لكم، وإن اختارنى فو الله ما أنا بالذى أختار على من اختارنى أحدا» .
قالا: قد زدتنا على النصف وأحسنت.
فدعاه فقال: «هل تعرف هؤلاء؟» قال: نعم. قال: «من هذا؟» قال: أبى وهذا عمى.
قال: «فأنا من قد علمت ورأيت صحبتى لك فاخترنى أو اخترهما» . قال زيد: ما أنا بالذى اختار عليك أحدا، أنت منى مكان الأب والعم!، فقالا: ويحك يا زيد! أتختار
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 210) .(1/171)
العبودية على الحرية، وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك! قال: نعم، قد رأيت من هذا الرجل شيئا ما أنا بالذى أختار عليه أحدا أبدا. فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه إلى الحجر فقال: «يا من حضر، اشهدوا أن زيدا ابنى يرثنى وأرثه» . فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت نفوسهما، فانصرفوا «1» .
فدعى: زيد بن محمد، حتى جاء الله بالإسلام فنزلت: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ الآية [الأحزاب: 4] . فدعى من يومئذ زيد بن حارثة «2» .
قال ابن إسحاق «3» : ثم أسلم أبو بكر بن أبى قحافة، واسمه عتيق، وقيل: عبد الله، وعتيق لقب، لحسن وجهه وعتقه، فيما قال ابن هشام. واسم أبى قحافة عثمان بن عامر ابن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤى.
فلما أسلم أظهر إسلامه ودعا إلى الله وإلى رسوله. وكان أبو بكر رجلا مؤلفا لقومه محببا سهلا، وكان أنسب قريش لقريش وأعلم قريش بها وبما كان فيها من خير وشر، وكان رجلا تاجرا ذا خلق ومعروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر، لعلمه وتجارته وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه.
قال «4» : فأسلم بدعائه فيما بلغنى، عثمان بن عفان بن أبى العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصى، والزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصى، وعبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة بن كلاب، وسعد بن أبى وقاص مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة، وطلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استجابوا له فأسلموا وصلوا.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيما بلغنى «ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت فيه عنده كبوة ونظر وتردد، إلا ما كان من أبى بكر بن أبى قحافة، ما عكم عنه حين ذكرته له وما تردد فيه» «5» .
__________
(1) انظر الحديث فى: معجم الطبرانى الكبير (5/ 66، 12/ 114) ، تفسير ابن كثير (3/ 469) كنز العمال للمتقى الهندى (36493، 36496) .
(2) ذكره الهيثمى فى المجمع (9/ 274) .
(3) انظر: السيرة (1/ 211) .
(4) انظر: السيرة (1/ 2129) .
(5) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (1/ 108، 3/ 27) ، الدلائل للبيهقى (2/ 164) .(1/172)
قال «1» : فكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا الناس بالإسلام فصلوا وصدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقوا بما جاءه من الله، ثم أسلم أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر.
وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، والأرقم بن أبى الأرقم بن أسد أبى جندب بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وعثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤى.
وأخواه قدامة وعبد الله ابنا مظعون، وعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قصى، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى بن عبد الله بن قرط بن رياح بن رزاح بن عدى بن كعب بن لؤى.
وامرأته فاطمة بنت عمه الخطاب بن نفيل أخت عمر بن الخطاب، وأسماء بنت أبى بكر الصديق، وعائشة بنت أبى بكر الصديق وهى صغيرة، وخباب بن الأرت حليف بنى زهرة، وعمير بن أبى وقاص، أخو سعد بن أبى وقاص، وعبد الله بن مسعود الهذلى، حليف بنى زهرة، وجماعة سوى هؤلاء سماهم ابن إسحاق «2» .
قال: ثم دخل الناس فى الإسلام أرسالا من الرجال والنساء، حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدث به، ثم إن الله عز وجل أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصدع بما جاءه منه وأن يبادى الناس بأمره ويدعو إليه، وكان بين ما أخفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره واستسر به إلى أن أمره الله بإظهار ثلاث سنين فيما بلغنى، من مبعثه، ثم قال الله له: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر: 94] ، ثم قال: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 114، 115] . وفى موضع آخر:
وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ [الحجر: 89] .
قال «3» : وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلوا ذهبوا فى الشعاب واستخفوا بصلاتهم من قومهم، فبينا سعد بن أبى وقاص فى نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شعب من شعاب مكة إذ ظهر عليهم ناس من المشركين وهم يصلون، فناكروهم وعابوا
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 212) .
(2) انظر: السيرة (1/ 212- 216) .
(3) انظر: السيرة (1/ 217) .(1/173)
عليهم ما يصنعون، حتى قاتلوهم، فضرب سعد يومئذ رجلا من المشركين بلحى بعير «1» فشجه. فكان أول دم هريق فى الإسلام.
فلما بادى رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه بالإسلام وصدع به كما أمره الله لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه، حتى ذكر آلهتهم وعابها. فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه، وأجمعوا خلافه وعداوته، إلا من عصم الله منهم بالإسلام، وهم قليل مستخفون.
وحدب «2» على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أبو طالب ومنعه وقام دونه ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمره الله مظهرا له، لا يرده عنه شىء.
فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعتبهم من شىء أنكروه عليه، من فراقهم وعيب آلهتهم، ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه وقام دونه فلم يسلمه لهم، مشى رجال من أشرافهم إلى أبى طالب، عتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس وأبو سفيان بن حرب، وأبو البخترى بن هشام، والحارث بن أسد بن عبد العزى بن قصى، والأسود ابن المطلب بن أسد بن عبد العزى، وأبو جهل بن هشام بن المغيرة، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، والعاص بن وائل، ومن مشى منهم.
فقالوا: يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلى بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيه. فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا، وردهم ردا جميلا، فانصرفوا عنه.
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه، يظهر دين الله ويدعو إليه، ثم شرى الأمر «3» بينه وبينهم، حتى تباعد الرجال وتضاغنوا، وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها، فتذامروا فيه وحض بعضهم بعضا عليه.
ثم إنهم مشوا إلى أبى طالب مرة أخرى، فقالوا له: يا أبا طالب، إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك فى ذلك حتى يهلك أحد الفريقين. أو كما قالوا له.
__________
(1) لخى بعير: اللحى العظم الذى على الخد، وهو من الإنسان العظم الذى تنبت عليه اللحية.
(2) حدب: أى عطف عليه ومنعه، يقال: فلان حدب على فلاذن، إذا كان عاطفا عليه مانعا له.
(3) شرى الأمر: أى كثر واستفحل، يقال: شرى البرق إذا كثر لمعانه، ويقال: شرى الرجل إذا غضب.(1/174)
ثم انصرفوا عنه، فعظم على أبى طالب فراق قومه وعداوتهم، ولم يطب نفسا بإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خذلانه. وذكر أن أبا طالب حين قالت له قريش هذه المقالة بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال له: يا ابن أخى، إن قومك قد جاؤنى فقالوا كذا وكذا، للذى قالوا له فأبق على وعلى نفسك ولا تحملنى من الأمر ما لا أطيق. فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بداء، وأنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، فقال له: «يا عم، والله لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على أن أترك هذا الأمر، حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته!» ، ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى! ثم قام، فلما ولى ناداه أبو طالب، فقال: أقبل يا ابن أخى، فأقبل عليه، فقال: اذهب يا ابن أخى فقل ما أحببت، فو الله لا أسلمك لشىء أبدا «1» .
ثم إن قريشا حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسلامه، مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة، فقالوا له: يا أبا طالب، هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى فى قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره واتخذه ولدا، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذى خالف دينك ودين آبائك وفرق جماعة قومك وسفه أحلامهم فنقتله، فإنما هو رجل كرجل، قال: والله لبئس ما تسوموننى! أتعطوننى ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابنى تقتلونه! هذا والله ما لا يكون أبدا. فقال المطعم بن عدى بن نوفل بن عبد مناف:
والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مما تكره، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا، فقال له أبو طالب: والله ما أنصفونى، ولكنك قد أجمعت خذلانى ومظاهرة القوم على، فاصنع ما بدا لك أو كما قال. فحقب الأمر وحميت الحرب وتنابذ القوم وبادى بعضهم بعضا «2» .
__________
(1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 48) ، الألبانى فى السلسلة الضعيفة (909) ، وقال: هذا إسناد ضعيف معضل، يعقوب بن عتبة هذا من ثقات أتباع التابعين مات سنة ثمان وعشرين ومائة، وقد وجدت للحديث طريقا أخرى بسند حسن لكن بلفظ: «ما أنا بأقدر على أن أدع لكم ذلك، على أن تستشعلوا لى منها شعلة» يعنى الشمس، وقد خرجته فى الأحاديث الصحيحة (92) .
(2) قال فى السيرة بعد أن ذكر ما أورد ابن هشام هنا: فقال أبو طالب عند ذلك، يعرض بالمطعم ابن عدى، ويعم من خذله من بنى عبد مناف، ومن عاداه من قبائل قريش، ويذكر ما سألوه، وما تباعد من أمرهم:(1/175)
قال «1» : ثم إن قريشا تذامروا بينهم على من فى القبائل منهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أسلموا معه. فوثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم. ومنع الله تبارك وتعالى، رسوله منهم بعمه أبى طالب، وقد قام أبو طالب حين رأى قريشا يصنعون ما يصنعون فى بنى هاشم وبنى المطلب فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيام دونه، فاجتمعوا إليه وقاموا معه وأجابوه إلى ما دعاهم إليهم، إلا ما كان من أبى لهب.
فلما رأى أبو طالب من قومه ما سره من جدهم وحدبهم عليه جعل يمدحهم ويذكر قديمهم وفضل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم ومكانه منهم ليشد لهم رأيهم وليحدبوا معه على أمره، فقال:
إذا اجتمعت يوما قريش لمخفر ... فعبد مناف سرها وصميمها «2»
فإن حصلت أشراف عبد منافها ... ففى هاشم أشرافها وقديمها
وإن فخرت يوما فإن محمدا ... هو المصطفى من سرها وكريمها
تداعت قريش غثها وسمينها ... علينا فلم تظفر وطاشت حلومها «3»
وكنا قديما لا نقر ظلامة ... إذا ما ثنوا صعر الخدود نقيمها
__________
-
ألا قل لعمرو والوليد ومطعم ... ألا ليت حظى من حياطتكم بكر
من الخور حبحاب كثير رغاؤه ... يرش على الساقين من بوله قطر
تخلف خلف الورد ليس بلا حق ... إذا ما علا الفيفاء قيل له وبر
أرى أخوينا من أبينا وأمنا ... إذا سئلا قالا إلى غيرنا الأمر
بلى لهما أمر ولكن تجرجما ... كما جرجمت من رأس ذى علق صخر
أخص خصوصا عبد شمس ونوفلا ... هما نبذانا مثل ما ينبذ الجمر
هما أغمزا للقوم فى أخويهما ... فقد أصبحا منهم أكفهما صفر
هما أشركا فى المجد من لا أبا له ... من الناس إلا أن يرس له ذكر
وتيم ومخزوم وزهرة منهم ... وكانوا لنا مولى إذا بغى النصر
فو الله لا تنفك منا عداوة ... ولا منهم ما كان من نسلنا شفر
فقد أسفهت أحلامهم وعقولهم ... وكانوا كجفر بئس ما صنعت جفر
انظر: السيرة (1/ 219- 220) .
(1) انظر: السيرة (1/ 220) .
(2) سرها وصميمها: أى خالصها وكريمها.
(3) غثها وسمينها: الغث اللحم الضعيف، والسمين الماقبل أو العكس. طاشت حلومها: أى ذهبت عقولها.(1/176)
ونحمى حماها كل يوم كريهة ... ونضرب عن أحجارها من يرومها
بنا انتعش العود الذوى وإنما ... بأكنافنا تندى وتنمى أرومها
ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش، وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم، فقال لهم: يا معشر قريش، إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا، قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس، فقل وأقم لنا رأيا نقول فيه، قال: بل أنتم فقولوا أسمع. قالوا: نقول: كاهن. قال: والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة «1» الكاهن ولا سجعه. قالوا: فنقول: مجنون. قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا تخالجه «2» ولا وسوسته. قالوا: فنقول شاعر. قال ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر قالوا: فنقول ساحر. قال: ما هو بساحر، قد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثه ولا عقده «3» ، قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة وإن أصله لعذق «4» وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر، جاء بقول هو سحر، يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون لسبل الناس حين قدموا الموسم، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا لهم أمره، وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتشر ذكره فى بلاد العرب كلها «5» .
فلما خشى أبو طالب دهماء العرب أن يركبوه مع قومه قال قصيدته التى يعوذ فيها بحرم مكة وبمكانه منها، وتودد فيها أشراف قومه، وهو على ذلك يخبرهم وغيرهم فى ذلك من شعره أنه غير مسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تاركه لشىء أبدا حتى يهلك دونه.
وأولها:
__________
(1) زمزمة الكاهن: أى كلام خفى لا يهم.
(2) التخالج: اختلاج الأعضاء وتحركها عن غير إراده.
(3) نفثه وعقده: هذه إشارة إلى ما كان يفعل الساحر إذ كان يأخذ خيطا فيعقده ثم ينفث عليه بلا ريق.
(4) العذق: الكثير الشعب والأطراف، ومن رواه عذق فمعناه كثير الماء، والعذق: كل غصن له شعب، وأيضا هو النخلة عند أهل الحجاز. انظر: اللسان (مادة عذق) .
(5) انظر: السيرة (1/ 222- 224) .(1/177)
ولما رأيت القوم لاود فيهم ... وقد قطعوا كمل العرى والوسائل «1»
وقد صارحونا بالعداوة والأذى ... وقد طاوعوا أمر العدو المزايل
وقد حالفوا قوما علينا أظنة ... يعضون غيظا خلفنا بالأنامل «2»
صبرت لهم نفسى بسمراء سمحة ... وأبيض عضب من تراث المقاول
وأحضرت عند البيت رهطى وإخوتى ... وأمسكت من أثوابه بالوصائل
قياما معا مستقبلين رتاجه ... لدى حيث يقضى حلفه كل نافل
وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم ... بمفضى السيول من إساف ونائل
موسمة الأعضاء أو قصراتها ... مخيسة بين السديس وبازل
ترى الودع فيها والرخام وزينة ... بأعناقها معقودة كالعثاكل
أعوذ برب الناس من كل طاعن ... علينا بسوء أو ملح بباطل
ومن كاشح يسعى لنا بمعيبة ... ومن ملحق فى الدين ما لم نحاول
وثور ومن أرسى ثبيرا مكانه ... وراق ليرقى فى حراء ونازل
وبالبيت حق البيت من بطن مكة ... وبالله إن الله ليس بغافل
وبالحجر الأسود إذ يمسحونه ... إذا اكتنفوه بالضحى والأصائل
وموطىء إبراهيم فى الصخر وطأة ... على قدميه حافيا غير ناعل
وأشواط بين المروتين إلى الصفا ... وما فيهما من صورة وتماثل
ومن حج بيت الله من كل راكب ... ومن كل ذى نذر ومن كل راجل
وبالمشعر الأقصى إذا عمدوا له ... إلال إلى مفضى الشراج القوابل «3»
وتوقافهم فوق الجبال عشية ... يقيمون بالأيدى صدور الرواحل
وليلة جمع والمنازل من منى ... وهل فوقها من حرمة ومنازل
وجمع إذا ما المقربات أجزنه ... سراعا كما يخرجن من وقع وابل «4»
وبالجمرة الكبرى إذا صمدوا لها ... يؤمنون قذفا رأسها بالجنادل
وكندة إذ هم بالحصاب عشية ... تجيز بهم حجاج بكر بن وائل
حليفان شدا عقد ما اختلفا له ... وردا عليه عاطفات الوسائل
__________
(1) الوسائل: جمع وسيلة، وهى الوصلة والقربة، وقيل: هى المنزلة عند الملك.
(2) أظنة: جمع ظنين، وهو المتهم الذى تظن به التهمة.
(3) إلال: بالفتح هو جبل بعرفات، وسمى إلال لأن الحجيج إذا رأوه الوا فى السير واجتهدوا ليدركوا الموقف.
(4) المقربات: الخيل التى تقرب مرابطها من البيوت لكرمها. وابل: المطر الشديد.(1/178)
وحطمهم سمر الصفاح وسرحه ... وشبرقه وخد النعام الجوافل «1»
فهل بعد هذا من معاذ لعائذ ... وهل من معيذ يتقى الله عاذل
يطاع بنا الأعدا وودوا لو أننا ... تسد بنا أبواب ترك وكابل
كذبتم وبيت الله نترك مكة ... ونظعن إلا أمركم فى بلابل
كذبتم وبيت الله نبزى محمدا ... ولما نطاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وينهض قوم فى الحديد إليكم ... نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل «2»
وحتى نرى ذا الضغن يركب ردعه ... من الطعن فعل الأنكب المتحامل
وإنا لعمرو الله إن جد ما أرى ... لتلتبسن أسيافنا بالأماثل
بكفى فتى مثل الشهاب سميدع ... أخى ثقة حامى الحقيقة باسل «3»
وما ترك قوم لا أبالك سيدا ... يحوط الذمار غير ذرب مواكل «4»
وأبيض يستسقى الغمام بكفه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم ... فهم عنده فى رحمة وفواضل «5»
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا ... عقوبة شر عاجلا غير آجل
بميزان قسط لا يخيس شعيرة ... له شاهد من نفسه غير عائل
__________
(1) سمر: يحتمل أن يكون أصله سمرا بفتح فضم وهو من شجر الطلح. الصفاح: هو جمع صفح، وهو عرض الجبل، ويقال: أسفله حيث يسيل ماؤه، سرحه: السرح: شجر. شبرقة: الشبرق بالكسر نبات غض، وقيل: شجر منبته نجد وتهامة، وثمرته شاكة صغيرة الجرم حمراء مثل الدم وواحدته شبرق. وخد النعام: الوخد ضرب من سير الإبل وهو سعة الخطوة فى المشى.
(2) الروايا: الإبل التى تحمل الماء. الصلاصل: واحدتها صلصلة وهى الصوت وذات الصلاصل: الزادات التى فيها بقية من الماء يسمع لها صوت حين تسير الإبل.
(3) سميدع: السيد من الرجال. الباسل: الأسد لكراهة منظره وقبحه، والبسالة الشجاعة، والباسل الشديد، وقيل الشجاع، والجمع بسلاء وبسل.
(4) جاء فى السيرة قبل هذه البيت بيت آخر وهو:
شهورا وأياما وحولا مجرما ... علينا وتأتى حجة بعد قابل
وما ترك قوم ... ... ... مواكل
انظر: السيرة (1/ 226) .
(5) ذكر بعد هذا البيت فى السيرة أبيات آخر لم يذكرها هنا. انظرها فى: السيرة (1/ 227- 228) .(1/179)
لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا ... بنى خلف قيضا بنا والغياطل «1»
ونحن الصميم من ذؤابة هاشم ... وآل قصى فى الخطوب الأوائل
وسهم ومخزوم تمالوا وألبوا ... علينا العدى من كل طمل وخامل
فعبد مناف أنتم خير قومكم ... فلا تشركوا فى أمركم كل واغل «2»
لعمرى لقد وهنتم وعجزتم ... وجئتم بأمر مخطىء للمفاصل «3»
فإن يك قوما نتئر ما صنعتم ... وتحتلبوها لقحة غير باهل «4»
فأبلغ قصيا أن سينشر أمرنا ... وبشر قصيا بعدنا بالتخاذل
ولو طرقت ليلا قصيا عظيمة ... إذا ما لجأنا دونهم فى المداخل
ولو صدقوا ضربا خلال بيوتهم ... لكنا أسى عند النساء المطافل
فإن نك كعب من لوى صميمة ... فلا بد يوما مرة من تزايل «5»
فكل صديق وابن أخت نعده ... لعمرى وجدنا غبه غير طائل
سوى أن رهطا من كلاب بن مرة ... براء إلينا من معقة خاذل «6»
ونعم ابن أخت القوم غير مكذب ... زهير حساما مفردا من حمائل
أشم من الشم البهاليل ينتمى ... إلى حسب فى حومة المجد فاضل «7»
لعمرى لقد كلفت وجدا بأحمد ... وإخوته دأب المحب المواصل
فلا زال فى الدنيا جمالا لأهلها ... وزينا لمن والاه رب المشاكل
فمن مثله فى الناس أى مؤمل ... إذا قاسه الحكام عند التفاضل
حليم رشيد عادل غير طائش ... يوالى إلها ليس عنه بغافل «8»
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 228) .
(2) الواغل: هو الداخل على القوم فى شرابهم وهو الذى يهجم على الشراب ليشرب معهم وليس منهم.
(3) ذكر فى السيرة بعد هذا البيت بيتان لم يذكرهما. انظرهما فى: السيرة (1/ 228) .
(4) ذكر فى السيرة بعد هذا البيت أبيات لم يذكرها هنا، انظرهما فى: السيرة (1/ 229) .
(5) هذا البيت لم يذكره فى السيرة.
(6) ذكر فى السيرة بعد هذ البيت أبيات لم يذكرها هنا، انظرها فى: السيرة (1/ 229) .
(7) أشم: قيل: جبل أشم أى طويل الرأس. البهاليل: جمع بهلول وهو العزيز الجامع لكل خير، وقيل: هو الحيى الكريم.
(8) الأبيات التى وردت هنا بعد هذا البيت غير موجود فى السيرة بهذا التريتب فقد ذكرها هناك بترتيب أخر وهو:(1/180)
فأيده رب العباد بنصره ... وأظهر دينا حقه غير باطل
فو الله لولا أن أجئ بسبة ... تجر على أشياخنا فى القبائل
لكنا ابتعناه على كل حالة ... من الدهر جدا غير قول التهازل
لقد علموا أن ابننا لا مكذب ... لدينا ولا يعنى بقول الأباطل
فأصبح فينا أحمد فى أرومة ... تقصر عنها سورة المتطاول
حدبت بنفسى دونه وحميته ... ودافعت عنه بالذرى والكلاكل
والقصيدة أطول من هذا، وإنما تركنا ما تركنا منها اختصارا.
وذكر ابن هشام أن بعض أهل العلم بالشعر ينكر أكثرها «1» ، قال: وحدثنى من أثق به قال: أقحط أهل المدينة فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكوا إليه ذلك، فصعد المنبر فاستسقى، فما لبث أن جاء من المطر ما أتاه أهل الضواحى يشكون منه الغرق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم حوالينا ولا علينا» . فانجاب السحاب عن المدينة، فصار حواليها كالإكليل «2» ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أدرك أبو طالب هذا اليوم لسره» ، فقال له بعض أصحابه: كأنك يا رسول الله أردت لقوله:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
قال: «أجل» «3» .
__________
-
فو الله لولا أن أجىء بسبة ... تجر على أشياخنا فى المحافل
لكنا اتبعناه على كل حالة ... من الدهر جدا غير قول التهازل
لقد علموا أن ابننا لا مكذب ... لدينا ولا يعنى بقول الأباطل
فأصبح فينا أحمد فى أرومة ... تقصر عنها سورة المتطاول
حدبت بنفسى دونه وحميته ... ودافعت عنه بالذرا والكلاكل
فأيده رب العباد بنصره ... وأظهر دينا حقه غير باطل
رجال كرام غير ميل نماهم ... إلى الخير آباء كرام المحاصل
فإن تك كعب من لؤى صقيبة ... فلا بد يوما مرة من تزايل
انظر: السيرة (1/ 230) .
(1) انظر: السيرة (1/ 230) .
(2) الإكليل: هو شبه عصابة مزينة بالجواهر، وقيل: يريد أن الغيم تقشع عنها واستدار بآفاقها، وقيل: هو منزل من منازل القمر وهى أربعة أنجم. انظر: اللسان (مادة كلل) .
(3) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (2/ 15، 35، 37، 38، 40، 8/ 92) ، مسلم كتاب الاستسقاء (8/ 9) ، النسائى (3/ 160، 161، 162، 166، 167) ، سنن ابن ماجه-(1/181)
قال ابن إسحاق «1» : فلما انتشر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فى العرب وبلغ البلدان، ذكر بالمدينة، ولم يك حى من العرب أعلم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر وقبل أن يذكر من الأوس والخروج، وذلك لما كانوا يسمعون من أخبار يهود، وكانوا لهم حلفاء ومعهم فى بلادهم.
فلما وقع ذكره بالمدينة وتحدثوا بما بين قريش فيه من الاختلاف، قال أبو قيس بن الأسلت الأوسى، وكان يحب قريشا، وكان يقيم فيهم السنين بامرأته أرنب بنت أسد ابن عبد العزى بن قصى، قصيدة يعظم فيها الحرمة، وينهى قريشا عن الحرب ويذكر فضلهم وأحلامهم، ويأمرهم بالكف بعضهم عن بعض وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذكرهم بلاء الله عندهم ودفعه الفيل عنهم فقال:
ويا راكبا إما عرضت فبلغن ... مغلغلة عنى لؤى بن غالب «2»
رسول امرىء قد راعه ذات بينكم ... على النأى محزون بذلك ناصب
وقد كان عندى للهموم معرس ... ولم أقض منها حاجتى ومآربى
أعيذكم بالله من شر صنعكم ... وشر تباغيكم ودس العقارب
وإظهار أخلاق ونجوى سقيمة ... كوخز الأثافى وقعها حق صائب «3»
فذكرهم بالله أول وهلة ... وإحلال إحرام الظباء الشوازب «4»
__________
- (1269) ، مسند الإمام أحمد (3/ 104، 187، 194، 261، 271، 4/ 236) ، البيهقى فى السنن الكبرى (3/ 353، 354، 355، 356، 4/ 221) ، الدر المنثور للسيوطى (6/ 28) ، مجمع الزوائد للهيثمى (3/ 12) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (5902) ، نصب الراية للزيلعى (2/ 239) ، فتح البارى (2/ 413، 501، 508، 510، 512، 519، 10/ 504، 11/ 143) ، صحيح ابن خزيمة (1423، 1789) ، شرح السنة للبغوى (4/ 414) ، كنز العمال للمتقى الهندى (23540، 23548) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (7/ 195) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 107، 5/ 89، 6/ 102، 106) ، دلائل النبوة للبيهقى (2/ 89، 6/ 139، 144) ، طبقات ابن سعد (1/ 1/ 17، 1/ 2/ 42) ، المعجم الكبير للطبرانى (10/ 346) ، مصنف ابن أبى شيبة (10/ 219، 346، 11/ 481) .
(1) انظر: السيرة (1/ 232) .
(2) مغلغله: قال السهيلى: المغلغلة: الداخل إلى أقصى ما يراد بلوغه منها أى محموة من بلد إلى بلد وقيل: المسرعة من الفلفلة وهى سرعة السير. انظر: اللسان (مادة غلغل) .
(3) الوخز: الطعن الغير نافذ، وقيل: هو الطعن النافذ فى جنب المطعون. الأشافى: جمع إشفى، وهى حديدة يفرز بها الأسكافى.
(4) أحرام الظباء: التى يحرم صيدها فى الحرم. الشوازب: المضمرات، وقيل: الشازب الضامر اليابس من الناس وغيرهم.(1/182)
وقل لهم والله يحكم حكمه ... ذروا الحرب تذهب عنكم فى المراحب
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة ... هى الغول للأقصين أو للأقارب
تقطع أرحاما وتهلك أمة ... وتبرى السديف من سنام وغارب «1»
فإياكم والحرب لا تغلقنكم ... وحوضا وخيم الماء مر المشارب «2»
تزين للأقوام ثم يرونها ... بعاقبة إذ بينت أم صاحب «3»
تحرق لا تشوى ضعيفا وتنتحى ... ذوى العز منكم بالحتوف الصوائب
ألم تعلموا ما كان فى حرب داحس ... فتعتبروا أو كان فى حرب حاطب
وكم قد أصابت من شريف مسود ... طويل العماد ضيفه غير خائب
وماء هريق فى الضلال كأنما ... أذاعت به ريح الصبا والجنائب «4»
يخبركم عنها امرؤ حق عالم ... بأيامها والعلم علم التجارب
فبيعوا الحراب ملمحارب واذكروا ... حسابكم والله خير محاسب
ولى امرىء فاختار دينا فلا يكن ... عليكم رقيبا غير رب الثواقب
أقيموا لنا دينا حنيفا فأنتم ... لنا غاية قد يهتدى بالذوائب
وأنتم لهذا الناس نور وعصمة ... تؤمون والأحلام غير عوازب
وأنتم إذا ما حصل الناس جوهم ... لكم سره البطحاء شم الأرانب «5»
تصونون أجسادا كراما عتيقة ... مهذبة الأنساب غير أشائب
ترى طالبى الحاجات نحو بيوتكم ... عصائب هلكى تهتدى بعصائب
__________
(1) تبرى: تقطع. السديف: هو اللحم الذى يكون فى أعلى ظهر الإبل، وهو ما يسمى بالسنام، والغارب: أعلى الظهر.
(2) ذكر فى السيرة قبل هذا البيت بيتان لم يذكرهما هنا وهما:
وتستبدلوا بالأتحمية بعدها ... شليلا وأصداء ثياب المحارب
وبالمسك الكافور غبرا سوابغا ... كأن قتيريها عيون الجنادب
انظر: السيرة (1/ 234) .
(3) بينت: أى ظهر أمرها واتضح. أم صاحب: قال السهيلى فى الروض الأنف: أى عجوز كأم صاحب لك إذا لا يصحب الرجل إلا الرجل فى سنه.
(4) ريح الصبا: ريح معروفة تقابل الدبور، وقيل: الصبا ريح ومهبها المستوى أن تهب من موضع مطلع الشمس إذا استوى الليل والنهار، وينحتها الدبور، وقيل: الصبا ريح تستقبل البيت. انظر: اللسان (مادة صبا) .
(5) سرة: قيل: سرة الشىء، خيره وأعلاه. الشم: ارتفاع فى قصبة الأنف مع استواء أعلاه وإشراف الأرنبة قليلا. الأرانب: جمع أرنبة وهى القصبة التى فيها ثقب الأنف.(1/183)
لقد علم الأقوام أن سراتكم ... على كل حال خير أهل الجباجب «1»
فقوموا فصلوا ربكم وتمسحوا ... بأركان هذا البيت بين الأخاشب
فعندكم منه بلاء ومصدق ... غداة أبى يكسوم هادى الكتائب
كتيبته بالسهل تمسى ورجله ... على القاذفات فى رؤس المناقب «2»
فلما أتاكم نصر ذى العرش ردهم ... جنود إله بين ساف وحاصب
فولوا سراعا هاربين ولم يؤب ... إلى قومه ملحبش غير عصائب
فإن تهلكوا نهلك وتهلك عصائب ... يعاش بها قول امرىء غير كاذب
ثم إن قريشا اشتد أمرهم، للشقاء الذى أصابهم، فى عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أسلم معه منهم، فأغروا برسول الله صلى الله عليه وسلم سفهاءهم، فكذبوه وآذوه ورموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون، رسول الله صلى الله عليه وسلم مظهر لأمر الله لا يستخفى به، مباد لهم بما يكرهون من عيب دينهم، واعتزال أوثانهم، وفراقه إياهم على كفرهم.
فحدث عروة بن الزبير أنه قال لعبد الله بن عمرو بن العاص: ما أكثر ما رأيت قريشا أصابوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانوا يظهرون من عداوته؟ قال: حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوما فى الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط! سفه أحلامنا وشتم آباءنا وعاب ديننا وفرق جماعتنا وسب آلهتنا، لقد صبرنا معه على أمر عظيم. أو كما قالوا. فبينما هم فى ذلك طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشى حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفا بالبيت، فلما مر بهم غمزوه ببعض القول.
قال: فعرفت ذلك فى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مضى فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك فى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها، فوقف ثم قال: «أتسمعون يا معشر قريش؟! والذى نفسى بيده لقد جئتكم بالذبح» . قال:
فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع، حتى أن أشدهم وصاة فيه قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم، فو الله ما كنت جهولا. قال: فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان الغد
__________
(1) الجباجب: بالضم هو المستوى من الأرض وهى هنا أسماء منازل بمنى سميت به لأنه كروش الأضاحى تلقى فيها أيام الحج.
(2) القاذفات: أعالى الجبال، وقيل: هى كل ما أشرف من رؤس الجبال وأعاليها. المناقب: جمع منقبة، الطريق الضيق بين دارين أو جبلين لا يستطاع سلوكه.(1/184)
اجتمعوا فى الحجر وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه حتى إذا باداكم بما تكرهون تركتموه!.
فبيناهم فى ذلك طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فأحاطوا به يقولون: أنت الذى تقول كذا وكذا، للذى يقول من عيب آلهتهم. فيقول رسول الله:
«نعم أنا الذى أقول ذلك» . فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجمع ردائه، فقام أبو بكر دونه وهو يبكى ويقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله!! ثم انصرفوا عنه. فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشا نالوا منه قط «1» .
ذكر إسلام حمزة بن عبد المطلب رضى الله عنه
قال ابن إسحاق «2» : وحدثنى رجل من أسلم، كان واعية، أن أبا جهل مر برسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا فآذاه وشتمه ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينة والتضعيف لأمره، فلم يكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومولاة لعبد الله بن جدعان فى مسكن لها تسمع ذلك. ثم انصرف عنه فعمد إلى نادى قريش عند الكعبة فجلس معهم. فلم يلبث حمزة ابن عبد المطلب أن أقبل متوحشا قوسه راجعا من قنص له، وكان صاحب قنص يرميه ويخرج له، وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم، وكان أعز فتى فى قريش وأشده شكيمة.
فلما مر بالمولاة، وقد رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته قالت له: يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقى ابن أخيك محمد آنفا من أبى الحكم بن هشام! وجده ها هنا جالسا فآذاه وسبه وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد. فاحتمل حمزة الغضب، لما أراد الله به من كرامته، فخرج يسعى لم يقف على أحد، معدا لأبى جهل إذا لقيه أن يقع به.
فلما دخل المسجد نظر إليه جالسا فى القوم فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجه بها شجة منكرة، ثم قال: أتشتمه، فأنا على دينه أقول ما يقول، فرد على إن استطعت. فقامت رجال بنى مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل،
__________
(1) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (2/ 276) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (7/ 66) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 15) .
(2) انظر: السيرة (1/ 240) .(1/185)
فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة، فإنى والله قد سببت ابن أخيه سبا قبيحا. وتم حمزة على إسلامه وعلى ما بايع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله. فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز وامتنع، وأن حمزة سيمنعه، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه «1» .
وعن محمد بن كعب القرظى، قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة، وكان سيدا، قال يوما وهو جالس فى نادى قريش، والنبى صلى الله عليه وسلم جالس فى المسجد وحده: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟
وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون. فقالوا: بلى يا أبا الوليد، فقم إليه فكلمه.
فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخى، إنك منا حيث قد علمت من السطة فى العشيرة والمكان فى النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع منى أعرض عليك أمورا تنظر فيها، لعلك تقبل منا بعضها.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قل يا أبا الوليد أسمع» .
قال: يا ابن أخى، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذى يأتيك رئيا لا تستطيع رده من نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه. أو كما قال له.
حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع منه قال: «أقد فرغت يا أبا الوليد؟» قال:
نعم. قال: «فاسمع منى» . قال: أفعل، قال: بسم الله الرحمن الرحيم حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ [فصلت: 1، 4] . ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه، فلما سمعها عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليها
__________
(1) ذكره أبو نعيم فى حلية الأولياء (1/ 40) ، وفى الدلائل (194) ، الهيثمى فى المجمع (9/ 267) ، ابن عساكر فى التاريخ (12/ 720) .(1/186)
يستمع منه، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها، فسجد ثم قال: «قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك» . فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذى ذهب به.
فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائى أنى سمعت قولا ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعونى واجعلوها بى، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فو الله ليكونن لقوله الذى سمعت نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به. قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيى فيه، فاصنعوا ما بدا لكم «1» .
قال ابن إسحاق «2» : ثم إن الإسلام جعل يفشو بمكة فى قبائل قريش فى الرجال والنساء، وقريش تحبس من قدرت على حبسه، وتفتن من استطاعت فتنته من المسلمين، ثم إن أشراف قريش من كل قبيلة، اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، ثم قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه.
فبعثوا إليه فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا، وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بداء، وكان عليهم حريصا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم، حتى جلس إليهم، فقالوا: يا محمد، إنا قد بعثنا إليك لنكلمك، وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وشتمت الآلهة، وسفهت الأحلام، وفرقت الجماعة، فلما بقى أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك، أو كما قالوا به، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تريد به الشرف فينا فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذى يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك، وكانوا يسمون التابع من الجن رئيا، فربما كان ذلك، بذلنا أموالنا فى طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بى ما تقولون، ما جئت بما جئت به أطلب أموالكم ولا
__________
(1) انظر الحديث فى: كنز العمال للمتقى الهندى (35428) ، دلائل النبوة للبيهقى (2/ 204، 205) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 62- 64) .
(2) انظر: السيرة (1/ 243) .(1/187)
الشرف فيكم ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثنى إليكم رسولا وأنزل على كتابا، وأمرنى أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالات ربى ونصحت لكم، فإن تقبلوا منى ما جئتمكم به فهو حظكم فى الدنيا والآخرة، وإن تردوه على أصبر لحكم الله حتى يحكم الله بينى وبينكم» . أو كما قال صلى الله عليه وسلم، قالوا: يا محمد، فإن كنت غير قابل شيئا مما عرضنا عليك فإنك قد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلدا ولا أقل ماء ولا أشد عيشا منا، فسل لنا ربك الذى بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التى قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا وليخرق فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصى بن كلاب، فإنه كان شيخ صدق فنسألهم عما تقول: أحق هو أم باطل، فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا به منزلتك من الله وأنه بعثك رسولا إلينا كما تقول.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بهذا بعثت إليكم، إنما جئتكم من الله بما بعثنى به، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم فى الدنيا والآخرة، وإن تردوه على أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بينى وبينكم» ، قالوا: فإذا لم تفعل هذا لنا فخذ لنفسك، سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك، وسله فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغى، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنا بفاعل وما أنا بالذى يسأل ربه هذا وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثنى بشيرا ونذيرا» . أو كما قال: «فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم فى الدنيا والآخرة، وإن تردوه على أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بينى وبينكم» .
قالوا: فأسقط السماء علينا كسفا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل، فإنا لا نؤمن بك إلا أن تفعل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلك إلى الله إن شاء أن يفعله بكم فعل» . قالوا:
يا محمد، فما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب، فيتقدم إليك فيعلمك ما تراجعنا به ويخبرك ما هو صانع فى ذلك بنا إذ لم نقبل منك ما جئتنا به؟ إنه بلغنا أنك إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له: الرحمن، وإنا والله ما نؤمن بالرحمن أبدا، فقد أعذرنا إليك يا محمد، وإنا والله لا نتركك، وما بلغت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا.
وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة وهى بنات الله. وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا.(1/188)
فلما قالوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم قام عنهم، وقام معه عبد الله بن أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب، فقال له: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا، فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول ويصدقوك ويتبعوك، فلم تفعل، ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم ومنزلتك من الله، فلم تفعل، ثم سألوك أن تعجل لهم بعض ما تخوفهم به من العذاب، فلم تفعل. أو كما قال له، فو الله لا أؤمن لك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلمأ ثم ترقى فيه وأنا أنظر، حتى تأتيها، ثم تأتى معك بصك معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، وأيم الله لو فعلت ذلك ما طننت أنى أصدقك. ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزينا آسفا لما فاته مما كان يطمع به من قومه حين دعوه، ولما رأى من مباعدتهم إياه.
فلما قام عنهم قال أبو جهل: يا معشر قريش إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وشتم آلهتنا، وإنى أعاهد الله لأجلسن له غدا بحجر ما أطيق حمله، أو كما قال، فإذا سجد فى صلاته فضخت به رأسه، فأسلمونى عند ذلك أو امنعونى، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم. قالوا: والله لا نسلمك لشىء أبدا فامض لما تريد.
فلما أصبح أبو جهل أخذ حجرا كما وصف، ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره، وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يغدر، وكان بمكة وقبلته إلى الشام، فكان إذا صلى صلى بين الركنين: الركن اليمانى والحجر الأسود وجعل الكعبة بينه وبين الشام.
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى، وقد غدت قريش فى أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه مرعوبا قد يبست يداه على حجره حتى قذف الحجر من يده. وقامت إليه رجال قريش فقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: قمت إليه لأفعل ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لى دونه فحل من الإبل لا والله ما رأيت مثل هامته ولا قصرته، ولا أنيابه لفحل قط، فهم بى أن يأكلنى.
قال ابن إسحاق «1» : فذكر لى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ذلك جبريل، لو دنا لأخذه» «2» .
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 246) .
(2) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (2/ 191) .(1/189)
فلما قال لهم ذلك أبو جهل قام النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف ابن عبد الدار بن قصى، فقال لهم: يا معشر قريش، إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلاما حدثا أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثا وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم فى صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم به قلتم: ساحر.
لا والله ما هو بساحر، قد رأينا السحرة نفثهم وعقدهم. وقلتم: كاهن. لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة تخالجهم وسمعنا سجعهم. وقلتم: شاعر، لا والله ما هو بشاعر، لقد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزه. وقلتم: مجنون. لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه، يا معشر قريش، انظروا فى شأنكم فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم.
فلما قال لهم ذلك النضر بن الحارث بعثوه وبعثوا معه عقبة بن أبى معيط إلى أحبار يهود بالمدينة، وقالوا لهما: سلاهم عن محمد وصفا لهم صفته وأخبراهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ليس عندنا من علم الأنبياء.
فخرجا حتى قدما المدينة فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفا لهم أمره وأخبراهم ببعض قوله، وقالا لهم: إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا!.
فقالت لهما أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبى مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول فروا فيه رأيكم، سلوه عن فتية ذهبوا فى الدهر الأول ما كان أمرهم؟ فإنه كان لهم حديث عجيب، وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبأه؟ وسلوه عن الروح ما هو؟ فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبى، وإن لم يفعل فهو رجل متقول فاصنعوا فى أمره ما بدا لكم.
فأقبل النضر بن الحارث وعقبة بن أبى معيط حتى قدما مكة، فقالا: يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد. أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء، فإن أخبركم عنها فهو نبى، وإن لم يفعل فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم.
فجاؤا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عن تلك الأشياء، فقال لهم: «أخبركم بما سألتم عنه غدا» ، ولم يستثن، فانصرفوا عنه، ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يذكرون خمس عشرة ليلة لا يحدث الله عز وجل، إليه فى ذلك وحيا ولا يأتيه جبريل، حتى أرجف آل مكة، وقالوا: وعدنا محمد غدا، واليوم خمس عشرة ليلة قد أصبحنا منها لا يخبرنا بشىء مما(1/190)
سألناه عنه. وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحى عنه وشق عليه ما يتلكم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل من الله بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف والروح.
فذكر لى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل حين جاءه: «لقد احتبست عنى يا جبريل حتى سؤت ظنا» . فقال له جبريل: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم: 64] «1» .
فلما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما عرفوا من الحق، وعرفوا صدقه فيما حدث وموقع نبوته فيما جاءهم به من علم الغيوب حين سألوه عما سألوه عنه، حال الحسد منهم له بينهم وبين اتباعه وتصديقه، فعتوا على الله وتركوا أمره عيانا ولجوا فيما هم عليه من الكفر، فقال قائلهم: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:
26] أى اجعلوه لغوا وباطلا، واتخذوه هزوا لعلكم تغلبونه بذلك، فإنكم إن ناظرتموه وخاصمتموه غلبكم.
فقال أبو جهل بن هشام يوما وهو يهزأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الحق: يا معشر قريش، يزعم محمد أنما جنود الله الذين يعذبونكم فى النار ويحبسونكم فيها تسعة عشر، وأنتم أعظم الناس عددا وكثرة، أفيعجز كل مائة رجل منكم عن رجل منهم؟!.
فأنزل الله فى ذلك من قوله: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً [المدثر:
31] إلى آخر القصة «2» .
فلما قال ذلك بعضهم لبعض، جعلوا إذا جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن وهو يصلى يتفرقون عنه ويأبون أن يستمعوا له، فكان الرجل منهم إذا أراد أن يستمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما يتلو من القرآن وهو يصلى استرق السمع دونهم فرقا منهم، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ذهب خشية أذا هم فلم يستمع، وإن خفض رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته فظن الذى يستمع أنهم لا يسمعون شيئا من قراءته وسمع هو شيئا دونهم أصاخ يستمع له «3» .
__________
(1) ذكره الواحدى فى أسباب النزول (252) ، ابن حجر فى فتح البارى (8/ 284) .
(2) ذكره الشوكانى فى فتح القدير (5/ 471) ، وقال: أخرجه ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس ولم يذكر له إسنادا.
(3) ذكره الطبرى فى تفسيره (15/ 164) .(1/191)
وقال عبد الله بن عباس «1» : إنما نزلت هذه الآية: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا [الإسراء: 110] من أجل أولئك النفر «2» .
يقول: لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ فيتفرقوا عنك وَلا تُخافِتْ بِها فلا يسمعها من يحب أن يسمعها ممن يسترق ذلك دونهم، لعله يرعوى إلى بعض ما يستمع فينتفع بذلك.
وكان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عبد الله بن مسعود فيما حدث به عروة بن الزبير «3» قال: اجتمع يوما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه؟ فقال عبد الله بن مسعود:
أنا. قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه. قال:
دعونى فإن الله سيمنعنى. قال: فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام فى الضحى، وقريش فى أنديتها، حتى قام عند المقام ثم قال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ رافعا بها صوته الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ. ثم استقبلها يقرؤها، وتأمموه فجعلوا يقولون: ما قال ابن أم عبد؟ ثم قالوا: إنه ليتلوا بعض ما جاء به محمد.
فقاموا إليه فجعلوا يضربون فى وجهه وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا بوجهه. فقالوا: هذا الذى خشينا عليك. قال: ما كان أعداء الله أهون على منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها قالوا: لا، حسبك، فقد أسمعتهم ما يكرهون «4» .
وذكر الزهرى «5» أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلى من الليل فى بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق، فتلاوموا وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم فى نفسه شيئا.
ثم انصرفوا، حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 259) .
(2) انظر الحديث فى: صحيح البخارى حديث رقم (7490) ، صحيح مسلم كتاب الصلاة (1/ 145) ، سنن الترمذى (3146) .
(3) انظر: السيرة (1/ 259- 260) .
(4) ذكره القرطبى فى تفسيره (7/ 147) ، الطبرى فى تاريخه (2/ 334، 335) .
(5) انظر: السيرة (1/ 260- 261) .(1/192)
يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة. ثم انصرفوا، حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود. فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا.
فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان فى بيته فقال: أخبرنى يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها.
قال الأخنس: وأنا والذى حلفت به، ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطمعوا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسى رهان قالوا: منا نبى يأتيه الوحى من السماء!!.
فمن يدرك هذه؟! والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه. فقام عنه الأخنس وتركه «1» .
قال ابن إسحاق «2» : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا عليهم القرآن ودعاهم إلى الله قالوا يستهزئون به: قلوبنا فى أكنة لا نفقه ما تقول، وفى آذاننا وقر لا نسمع ما تقول، ومن بيننا وبينك حجاب قد حال بيننا وبينك، فاعمل بما أنت عليه إنا عاملون بما نحن عليه، إنا لا نفقه عنك شيئا، فأنزل الله عليه فى ذلك من قولهم: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً إلى قوله: وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً [الإسراء: 45، 46] .
أى كيف فهموا توحيدك ربك، إن كنت جعلت على قلوبهم أكنة وفى آذانهم وقرا وبينك وبينهم حجابا بزعمهم؟ أى أنى لم أفعل. نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً [الإسراء: 47] .
أى ذلك ما تواصوا به من ترك ما بعثتك به إليهم. انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا [الإسراء: 48] ، أى أخطأوا المثل الذى ضربوا لك، فلا يصيبون
__________
(1) ذكره ابن كثير فى تفسيره (5/ 81) .
(2) انظر: السيرة (1/ 261- 262) .(1/193)
به هدى ولا يعتدل بهم فيه قول وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً [الإسراء: 49] أى قد جئت تخبرنا أنا سنبعث بعد موتنا إذا كنا عظاما ورفاتا وذلك ما لا يكون. قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الإسراء: 50، 51] أى الذى خلقكم مما تعرفون، فليس خلقكم من تراب بأعز من ذلك عليه. وسئل ابن عباس عن قول الله عز وجل: أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ما الذى أراد الله به؟ فقال:
الموت.
قال ابن إسحاق «1» : ثم إنهم عدوا على من أسلم واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش، وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر، من استضعفوا منهم، يفتنونهم عن دينهم، منهم من يفتتن من شدة البلاء الذى يصيبه، ومنهم من يصلب لهم ويعصمه الله منهم.
فكان بلال بن رباح وهو ابن حمامة لبعض بنى جمح «2» مولدا من مولديهم، وكان صادق الإسلام طاهر القلب، فكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره فى بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له:
لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى فيقول وهو فى ذلك البلاء: أحد أحد.
وكان ورقة بن نوفل يمر به وهو يعذب بذلك، وهو يقول: أحد أحد، فيقول: أحد أحد والله يا بلال! «3» ثم يقبل على أمية ومن يصنع ذلك به من بنى جمح فيقول: أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنه حنانا.
أى: لأتخذن قبره منسكا ومسترحما، والحنان: الرحمة. حتى مر به أبو بكر الصديق يوما وهم يصنعون ذلك به فقال لأمية: ألا تتقى الله فى هذا المسكين؟! حتى متى؟!
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 262) .
(2) بنى جمح: ينتسبون إلى جمح بن عمرو، وهو بطن من العدنانية. انظر: معجم قبائل العرب (1/ 202، 203) .
(3) قال ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 107) : قد استشكل بعضهم هذا من جهة أن ورقة توفى بعد البعثة فى فترة الوحى، وإسلام من أسلم إنما كان بعد نزول: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ فكيف يمر ورقة ببلال وهو يعذب؟ وفيه نظر.(1/194)
قال: أنت الذى أفسدته فأنقذه. فقال أبو بكر: أفعل: عندى غلام أسود أجلد منه وأقوى، على دينك، أعطيكه به. قال: قد قبلت. قال: هو لك. فأعطاه أبو بكر غلامه ذلك، وأخذ بلالا فأعتقه «1» .
وأعتق معه على الإسلام قبل أن يهاجر إلى المدينة ست رقاب، بلال سابعهم، عامر ابن فهيرة، وأم عبيس «2» ، وزنيرة «3» ، فأصيب بصرها حين أعتقها، فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى. فقالت: كذبوا وبيت الله، ما تضر اللات والعزى ولا تنفعان. فرد الله إليها بصرها «4» .
وأعتق النهدية وابنتها، وكانتا لامرأة من بنى عبد الدار، فمر بهما أبو بكر وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها وهى تقول: والله لا أعتقكما أبدا. فقال أبو بكر: حلا يا أم فلان. فقالت: حل أنت، أفسدتهما فأعتقهما. قال: فبكم هما؟ قالت: بكذا وكذا.
قال: قد أخذتهما، وهما حرتان، أرجعا إليها طحينها. قالتا: أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده إليها؟ قال: أو ذلك إن شيئتما «5» .
ومر بجارية بنى نوفل حى من بنى عدى، وعمر بن الخطاب يعذبها لتترك الإسلام وهو يومئذ مشرك، فابتاعها أبو بكر فأعتقها. وقال له أبوه أبو قحافة: يا بنى، إنى أراك تعتق رقابا ضعافا فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالا جلداء يمنعونك ويقومون دونك؟ فقال أبو بكر: يا أبت إنى إنما أريد ما أريد.
فيتحدث أنه ما نزل هؤلاء الآيات إلا فيه وفيما قال أبوه: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى إلى آخر السورة [الليل: 7] «6» .
__________
(1) ذكره أبو نعيم فى حلية الأولياء (1/ 148) ، ابن سعد فى الطبقات (1/ 243) .
(2) قال ابن عبد البر فى الاستيعاب (4/ 500) : أم عبيس، قال الزبير: كانت فتاة لبنى تيم بن مرة فأسلمت، وكانت ممن يعذب فى الله فاشتراها أبو بكر فأعتقها.
(3) قال ابن عبد البر فى الاستيعاب (4/ 406) : زنيرة: مولاة أبى بكر الصديق، هى أحد السبعة الذين كانوا يعذبون فى الله، فاشتراهم أبو بكر وأعتقهم. انظر ترجمتها فى: أسد الغابة الترجمة رقم (6948) ، الإصابة الترجمة رقم (11222) .
(4) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 107) .
(5) ذكره ابن كثير فى البداية (3/ 107) .
(6) ذكره الطبرى فى تفسيره (30/ 221) ، الحاكم فى المستدرك (2/ 525) ، وابن كثير فى تفسيره (8/ 444) .(1/195)
وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه، وكانوا أهل بيت إسلام، إذا حميت الظهيرة يعذبونهم برمضاء مكة، فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول فيما بلغنى:
«صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة» «1» . فأما أمه فقتلوها وهى تأبى إلا الإسلام.
وكان أبو جهل الفاسق الذى يغرى بهم، فى رجال من قريش، إذا سمع بالرجل له شرف ومنعة قد أسلم أنبه وأخزاه فقال: تركت دين أبيك وهو خير منك! لنسفهن حلمك ولنفيلن رأيك ولنضعن شرفك. وإن كان تاجرا قال: والله لنكسدن تجارتك ولنهلكن مالك. وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به.
وقال سعيد بن جبير لعبد الله بن عباس «2» : أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به فى ترك دينهم؟ قال: نعم والله، إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوى جالسا من شدة الضر الذى به حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة حتى يقولوا له: اللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم. حتى إن الجعل ليمر بهم فيقولون له: أهذا الجعل إلهك من دون الله؟
فيقول: نعم. افتداء منهم مما يلغون من جهده «3» .
ذكر الهجرة إلى أرض الحبشة
قال ابن إسحاق «4» : فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية بمكانه من الله ومن عمه أبى طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء قال لهم: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد،
__________
(1) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (3/ 383) ، المطالب العالية لابن حجر (4034) ، كنز العمال للمتقى الهندى (37366، 37368) ، حلية الأولياء لأبى نعيم (1/ 140) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 59) .
(2) انظر: السيرة (1/ 265) .
(3) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 171) . وقال: وفى مثل هذا أنزل الله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ الآية، فهؤلاء كانوا معذورين بما حصل لهم من الإهانة والعذاب البليغ، أجارنا الله من ذلك بحوله وقوته.
(4) انظر: السيرة (1/ 266- 268) .(1/196)
وهى أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه» «1» .
فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفرارا بدينهم إلى الله. فكانت أول هجرة كانت فى الإسلام.
وكان أول من خرج من المسلمين عثمان بن عفان مع امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة معه امرأته سهلة بنت سهيل، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، ومصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومى معه امرأته أم سلمة، وعثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح، وعامر بن ربيعة حليف آل الخطاب بن نفيل معه امرأته ليلى بنت أبى حثمة، وسهل بن بيضاء من بنى الحارث بن فهر، وأبو سبرة بن أبى رهم، ويقال: بل أبو حاطب بن عمرو. ويقال: هو كان أول من قدمها.
وكان هؤلاء العشرة أول من خرج من المسلمين، ثم خرج جعفر بن أبى طالب وتتابع المسلمون حتى اجتمعوا بأرض الحبشة منهم من خرج بأهله ومنهم من خرج بنفسه.
فكان جميع من لحق بأرض الحبشة من المسلمين سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغارا أو ولدوا بها، ثلاثة وثمانين رجلا، إن كان عمار بن ياسر فيهم، وهو يشك فيه.
وكان مما قيل من الشعر فى الحبشة أن عبد الله بن الحارث بن قيس بن عدى بن سعيد بن سهم، حين أمنوا بأرض الحبشة وحمدوا جوار النجاشى، وعبدوا الله لا يخافون على ذلك أحدا قال:
يا راكبا بلغن عنى مغلغلة ... من كان يرجو بلاغ الله والدين «2»
كل امرىء من عباد الله مضطهد ... ببطن مكة مقهور ومفتون
أنا وجدنا بلاد الله واسعة ... تنجى من الذى والمخزاة والهون
فلا تقيموا على ذل الحياة وخز ... ى فى الممات وغيب غير مأمون
إنا تبعنا رسول الله واطرحوا ... قول النبى وعالوا فى الموازين
فاجعل عذابك بالقوم الذين بغوا ... وعائذا بك أن يعلوا فيطغونى
وقال عبد الله بن الحارث أيضا، يذكر نفى قريش إياهم من بلادهم ويعاتب بعض
__________
(1) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 66) .
(2) مغلغلة: بفتح العين هى الرسالة المحمولة من بلد إلى بلد.(1/197)
قومه فى ذلك:
أبت كبدى لا أكذبنك قتالهم ... على وتأباه على أناملى
وكيف قتالى معشرا أدبوكم ... على الحق ألا تأشبوه بباطل
نفتهم عباد الجن من حر أرضهم ... فأضحوا على أمر شديد البلابل «1»
فإن تك كانت فى عدى أمانة ... عدى بن سعد عن تقى أو تواصل
فقد كنت أرجو أن ذلك فيهم ... بحمد الذى لا يطبى بالجعائل
وبدلت شبلا شبل كل ضعيفة ... بذى فجر مأوى الضعاف الأرامل «2»
وقال عبد الله بن الحارث أيضا:
وتلك قريش تجحد الله حقه ... كما جحدت عاد ومدين والحجر «3»
فإن أنا لم أبرق فلا يسعنى ... من الأرض بر ذو فضاء ولا بحر
بأرض بها عبد الإلة محمد ... أبين ما فى النفس إذ بلغ النفر
فسمى عبد الله يرحمه الله، المبرق ببيته الذى قال.
وقال عثمان بن مظعون يعاتب أمية بن خلف وهو ابن عمه، وكان يؤذيه فى إسلامه، وكان أمية شريف قومه فى زمانه ذلك:
أتيم بن عمرو للذى جاء بغضه ... ومن دونه الشرمان والبرك أكتع «4»
أأخرجتنى من بطن مكة آمنا ... وأسكنتنى فى صرح بيضاء تقذع
تريش نبالا لا يواتيك ريشها ... وتبرى نبالا ريشها لك أجمع
وحاربت أقواما كراما أعزة ... وأهلكت أقواما بهم كنت تقرع
ستعلم إن نابتك يوما ملمة ... وأسلمك الأوباش ما كنت تصنع
وتيم بن عمرو، الذى يدعو عثمان، هو جمح بن عمرو، كان اسمه تيما.
قال ابن إسحاق «5» : فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمنوا واطمأنوا
__________
(1) حر أرضهم: هى الأرض الكريمة. البلابل: شدة الهم والوساوس فى الصدور وحديث النفس.
(2) لا يطبى: أى لا يستمال ولا يستدعى. الجعائل: جمع جعالة وهى الرشوة.
(3) الحجر: هو اسم ديار ثمود بوادى القرى من المددينة والشام، وقيل: هو من وادى القرى على يوم بين جبال وبها قامت منازل ثمود. انظر: معجم البلدان (2/ 221) .
(4) الشرم: لجة البحر، وقيل: موضع فيه: وقيل: هو أبعد قعره والشروم غمرات البحر واحدها شرم. انظر: اللسان (مادة شرم) . البرك: هو جماعة الإبل الباركة، وقيل: اسم موضع.
(5) انظر: السيرة (1/ 275- 279) .(1/198)
بأرض الحبشة، وأنهم قد أصابوا بها دارا وقرارا، ائتمروا بينهم أن يبعثوا فيهم رجلين من قريش جلدين إلى النجاشى، فيردهم عليهم، ليفتنوهم فى دينهم، ويخرجوهم من دارهم، التى اطمأنوا بها وأمنوا فيها.
فبعثوا عبد الله بن أبى ربيعة، وعمرو بن العاص وجمعوا لهما هدايا للنجاشى ولبطارقته ثم بعثوهما.
فقال أبو طالب، حين رأى ذلك من رأيهم وما بعثوهما فيه، أبياتا يحض النجاشى على حسن جوارهم والدفع عنهم:
ألا ليت شعرى كيف فى النأى جعفر ... وعمرو وأعداء العدو الأقارب
وهل نالت أفعال النجاشى جعفرا ... وأصحابه أو عاق ذلك شاغب
تعلم أبيت اللعن أنك ماجد ... كريم فلا يشقى لديك المجانب «1»
تعلّم فإن الله زادك بسطة ... وأسباب خير كلها بك لازب
وأنك فيض ذو سجال غزيرة ... ينال الأعادى نفعها والأقارب
وذكر ابن إسحاق: من حديث «2» أم سلمة زوج النبى صلى الله عليه وسلم، قالت: لما نزلنا أرض الحبشة، تعنى مع زوجها الأول أبى سلمة، جاورنا بها خير جار النجاشى، أمنا على ديننا، وعبدنا الله تعالى لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشا، ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشى فينا رجلين منهم جليدين، وأن يهدوا للنجاشى هدايا مما يستظرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم، فجمعوا له أدما كثيرا، ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا لهم، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبى ربيعة، وعمرو بن العاص، وأمروهما بأمرهم، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشى فيهم، ثم قدما إلى النجاشى هداياه، ثم اسألاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم.
قالت: فخرجا حتى قدما إلى النجاشى، ونحن عنده بخير دار، عند خير جار، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلماه، وقالا لكل بطريق: إنه قد ضوى إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا فى دينكم، وجاؤا بدين مبتدع، لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم
__________
(1) أبيت اللعن: هذه تحية العرب فى الجاهلية للملوك. المجانب: أراد به الداخل فى حماه.
(2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (1/ 202) ، مجمع الزوائد (6/ 24، 27) .(1/199)
إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عينا «1» ، وأعلم بما عابوا عليهم؛ فقالوا لهما: نعم.
ثم إنهما قربا هداياهما إلى النجاشى فقبلها، ثم قالا له: أيها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا فى دينك، جاؤا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم عليهم، فهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.
قالت: ولم يكن شىء أبغض إلى عبد الله بن أبى ربيعة، وعمرو بن العاص من أن لا يسمع كلامهما النجاشى. فقالت بطارقته: صدقا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى بلادهم وقومهم.
فغضب النجاشى، ثم قال: لاها الله، إذا لا أسلمهم إليهما، ولا يكاد قوم جاورونى ونزلوا بلادى، واختارونى على من سواى، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان من أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما، ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهم، وأحسنت جوارهم ما جاورونى. ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاهم فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا كائنا فى ذلك ما هو كائن.
فلما جاؤا، وقد دعا النجاشى أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله، سألهم فقال لهم: ما هذا الدين الذى قد فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به فى دينى ولا فى دين أحد من هذه الملل؟.
قالت: فكان الذى كلمه جعفر بن أبى طالب، قال: أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتى الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسىء الجوار، ويأكل القوى منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. قالت: فعدد عليه أمور الإسلام.
__________
(1) أعلى بهم عينا: أى أبصر بهم، وقيل: أى عينهم وأبصارهم فوق عين غيرهم.(1/200)
فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا، وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك ورغبنا فى جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك، فقال له النجاشى: هل معك مما جاء به عن الله من شىء؟ فقال له جعفر: نعم.
قال: فاقرأه علىّ. فقرأ عليه صدرا من: كهيعص، فبكى والله النجاشى حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما يتلى عليهم.
ثم قال لهم النجاشى: إن هذا والذى جاء به موسى ليخرج من مشكاة «1» واحدة، انطلقا، فو الله لا أسلمهم إليكما أبدا ولا يكادون.
فلما خرجا من عنده، قال عمرو بن العاص: والله لآتينه عنهم غدا بما أستأصل به خضراءهم «2» . قالت: فقال له عبد الله بن أبى ربيعة، وكان أتقى الرجلين فينا: لا تفعل فإن لهم أرحاما، وإن كانوا قد خالفونا. قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد. ثم غدا عليه، فقال: أيها الملك، إنهم يقولون فى عيسى ابن مريم قولا عظيما، فسلهم عما يقولون فيه.
قالت: فأرسل إليهم ليسألهم عنه، ولم ينزل مثلها قط. فاجتمع القوم، ثم قال بعضهم لبعض: ماذا تقولون فى عيسى ابن مريم إذا سألكم عنه؟ فقالوا: نقول والله ما قال الله، وما جاءنا به نبينا، كائنا فى ذلك ما هو كائن.
قالت: فلما دخلوا عليه قال لهم: ما تقولون فى عيسى ابن مريم؟ قالت: فقال جعفر ابن أبى طالب: نقول فيه الذى جاءنا به نبينا، نقول: عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، قالت: فضرب النجاشى بيده إلى الأرض فأخذ منها عودا، ثم قال: ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود، قالت: فتناخرت «3» بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم شيوم بأرضى أى آمنون، من سبكم غرم، من سبكم غرم، من سبكم غرم، فما أحب أن لى دبرا من ذهب وأنى
__________
(1) مشكاة: أى الثقب الذى يوضع فيه الفتيل والمصباح، وهى الكوة غير النافذ.
(2) استأصل به خضراءهم: أى جماعتهم وقوتهم ومعظمهم، وقيل: شجرتهم التى تفرعوا منها.
(3) تناخرت: أى تكلمت وكأنه كلام من غضب ونفور.(1/201)
آذيت رجلا منكم. ويقال دبرا، وهو الجبل بلسان الحبشة فيما قال ابن هشام.
ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لى بها، فو الله ما أخذ الله منى الرشوة حين رد على ملكى فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فى فأطيعهم فيه. قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاآ به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار، قالت: فو الله إنا لعلى ذلك إذ نزل به رجل من الحبشة ينازعه فى ملكه فو الله ما علمتنا حزنا قط كان أشد من حزن حزناه عند ذلك، تخوفا أن يظهر ذلك الرجل على النجاشى فيأتى رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشى يعرف منه.
وسار إليه النجاشى وبينهما عرض النيل، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رجل يخرج حتى يحضر وقيعة القوم ثم يأتينا بالخبر؟ فقال الزبير بن العوام: أنا قالوا: فأنت.
وكان من أحدث القوم سنا، فنفخوا له قربة فجعلنها فى صدره ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التى بها ملتقى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم.
قالت: ودعونا الله للنجاشى بالظهور على عدوه والتمكين له فى بلاده. فو الله إنا لعلى ذلك متوقعون لما هو كائن إذ طلع الزبير يسعى، فلمع بثوبه يقول: ألا أبشروا فقد ظهر النجاشى وأهلك الله عدوه فو الله ما علمتنا فرحنا فرحة قط مثلها.
ورجع النجاشى، وقد أهلك الله عدوه ومكن له فى بلاده واستوسق عليه أمر الحبشة، فكنا عنده فى خير منزل حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الزهرى «1» : فحدثت عروة بن الزبير هذا الحديث، فقال: هل تدرى ما قوله: «ما أخذ الله منى الرشوة حين رد على ملكى فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فى فأطيع الناس فيه» قلت: لا والله.
قال: فإن عائشة أم المؤمنين حدثتنى أن أباه كان ملك قومه، ولم يكن له ولد إلا النجاشى، وكان للنجاشى عم له من صلبه إثنا عشر رجلا، وكانوا أهل بيت مملكة الحبشة، فقالت الحبشة بينها: لو أنا قتلنا أبا النجاشى وملكنا أخاه، فإنه لا ولد له غير هذا الغلام، وإن لأخيه من صلبه إثنى عشر رجلا فتوارثوا ملكهم من بعده بقيت الحبشة بعده دهرا.
فعدوا على أبى النجاشى فقتلوه وملكوا أخاه، فمكثوا على ذلك حينا ونشأ
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 279- 281) .(1/202)
النجاشى مع عمه، وكان لبيبا حازما من الرجال، فغلب على أمر عمه ونزل منه بكل منزلة، فلما رأت الحبشة مكانه منه قالت بينها: والله لقد غلب هذا الفتى على أمر عمه، وإنا لنتخوف أن يملكه علينا، وإن ملكه علينا ليقتلننا أجمعين، لقد عرف أنا نحن قتلنا أباه.
فمشوا إلى عمه، فقالوا: إما أن تقتل هذا الفتى أو لتخرجنه من بين أظهرنا، فإنا قد خفناه على أنفسنا. قال: ويلكم! قتلت أباه بالأمس وأقتله اليوم! بل أخرجه من بلادكم.
فخرجوا به إلى السوق فباعوه من رجل من التجار بستمائة درهم، فقذفه فى سفينة فانطلق به حتى إذا كان العشى من ذلك اليوم هاجت سحابة من سحائب الخريف فخرج عمه يستمطر تحتها فأصابته صاعقة فقتلته.
ففزعت الحبشة إلى ولده فإذا هو محمق ليس فى ولده خير، فمرج على الحبشة أمرهم، فلما ضاق عليهم ما هم فيه قال بعضهم لبعض: تعلموا والله أن ملككم الذى لا يقيم أمركم غيره الذى بعتموه غدوة، فإن كان لكم بأمر الحبشة حاجة فأدركوه.
قالت: فخرجوا فى طلبه وطلب الرجل الذى باعوه منه حتى أدركوه فأخذوه منه، ثم جاؤا به فعقدوا عليه التاج وأقعدوه على سرير الملك، فجاءهم التاجر الذى كانوا باعوه منه، فقال: إما أن تعطونى مالى وإما أن أكلمه فى ذلك. فقالوا: لا نعطيك شيئا.
قال: إذا والله أكلمه. قالوا: فدونك.
فجاءه فجلس بين يديه، فقال: أيها الملك، ابتعت غلاما من قوم بالسوق بستمائة درهم، فأسلموا إلى غلامى وأخذوا دراهمى، حيث إذا سرت أدركونى فأخذوا غلامى ومنعونى دراهمى.
فقال لهم النجاشى: لتعطنه دراهمه أو ليضعن غلامه يده فى يده فليذهبن به حيث شاء! قالوا: بل نعطيه دراهمه «1» .
وكان ذلك أول ما خبر من صلابته فى دينه وعدله فى حكمه رحمه الله تعالى، وعن عائشة قالت: لما مات النجاشى كان يتحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور.
وذكر ابن إسحاق «2» أيضا، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، أن الحبشة اجتمعت، فقالوا للنجاشى، يعنى عندما وافق جعفر بن أبى طالب على قوله فى عيسى ابن مريم:
__________
(1) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 123- 124) .
(2) انظر: السيرة (1/ 281) .(1/203)
إنك فارقت ديننا. وخرجوا عليه، فأرسل إلى جعفر وأصحابه وهيأ سفنا وقال: اركبوا فيها وكونوا كما أنتم، فإن هزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شيئتم، وإن ظفرت فاثبتوا.
ثم عمد إلى كتاب فكتب فيه: هو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ويشهد أن عيسى عبده ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم.
ثم جعله فى قبائه عند المنكب الأيمن، وخرج إلى الحبشة وصفوا له، فقال: يا معشر الحبشة، ألست أحق الناس بكم؟ قالوا: بلى. قال: فكيف رأيتم سيرتى فيكم؟ قالوا:
خير سيرة. قال: فما لكم؟ قالوا: فارقت ديننا وزعمت أن عيسى عبد. قال: فما تقولون أنتم فى عيسى؟ قالوا: نقول هو ابن الله. قال النجاشى، ووضع يده على صدره على قبائه: هو يشهد أن عيسى لم يزد على هذا شيئا. وإنما يعنى على ما كتب. فرضوا وانصرفوا، فبلغ ذلك النبى صلى الله عليه وسلم، فلما مات النجاشى صلى عليه واستغفر له «1» .
قال ابن إسحاق «2» : ولما قدم عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبى ربيعة على قريش، ولم يدركوا ما طلبوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وردهما النجاشى بما يكرهون، وأسلم عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وكان رجلا ذا شكيمة لا يرام ما وراء ظهره، امتنع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحمزة حتى عازوا قريشا.
فكان عبد الله بن مسعود يقول: ما كنا نقدر على أن نصلى عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه «3» .
وقال ابن مسعود فى رواية البكائى عن غير ابن إسحاق: إن إسلام عمر كان فتحا، وإن هجرته كانت نصرا، وإن إمارته كانت رحمة، ولقد كنا وما نصلى عند الكعبة، حث أسلم عمر، وذكر مثل ما تقدم نصا إلى آخره.
__________
(1) وردت من الأحاديث الكثير فى صلاة النبى صلى الله عليه وسلم على النجاشى، ومنها ما أخرجه الإمام أحمد فى المسند (4/ 360، 363) عن جرير بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أخاكم النجاشى قد مات فاستغفروا له» .
(2) انظر: السيرة (1/ 281- 282) .
(3) ذكره الهيثمى فى المجمع (9/ 62) ، ابن سعد فى الطبقات (1/ 270) . الحاكم فى المستدرك (3/ 83، 84) .(1/204)
ذكر الحديث عن إسلام عمر بن الخطاب رضى الله عنه
حدث عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أمه، أم عبد الله بنت أبى حثمة قالت: والله إنا لنترحل إلى أرض الحبشة، وقد ذهب عامر فى بعض حاجتنا، إذ أقبل عمر بن الخطاب حتى وقف على، وهو على شركه، قالت: وكنا نلقى منه البلاء أذى لنا وشدة علينا، فقال: إنه للانطلاق يا أم عبد الله! فقلت: نعم، والله لنخرجن فى أرض الله، آذيتمونا وقهرتمونا، حتى يجعل الله لنا مخرجا! فقال: صحبكم الله! ورأيت له رقة لم أكن أرها، ثم انصرف وقد أحزنه فيما أرى خروجنا. قالت: فجاء عامر بحاجته تلك، فقلت له: يا أبا عبد الله لو رأيت عمر آنفا ورقته علينا! قال: أطمعت فى إسلامه؟
قالت: نعم. قال: لا يسلم الذى رأيت حتى يسلم حمار الخطاب! قالت: يأسا منه لما كان يرى منه من غلظته وقسوته عن الإسلام «1» .
قال ابن إسحاق «2» : وكان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة.
قال: وكان إسلامه فيما بلغنى، أن أخته فاطمة بنت الخطاب كانت قد أسلمت، وأسلم زوجها سعيد بن زيد، وهم مستخفون بإسلامهم من عمر، وكان نعيم بن عبد الله النحام من بنى عدى قد أسلم، وكان يستخفى بإسلامه فرقا من قومه، وكان خباب بن الأرت يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب يقرئها القرآن.
فخرج عمر يوما متوشحا سيفه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورهطا من أصحابه، قد ذكروا له أنهم اجتمعوا فى بيت عند الصفا، قريبا من أربعين بين رجال ونساء، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه حمزة، وأبو بكر الصديق، وعلى بن أبى طالب، فى رجال من المسلمين.
فلقيه نعيم فقال: أين تريد يا عمر؟ قال: أريد محمدا هذا الصابىء الذى فرق أمر قريش وسفه أحلامها وأعاب دينها وسب آلهتها فأقتله. فقال له نعيم: والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر! أترى بنى عبد مناف تاركيك تمشى على الأرض، وقد قتلت محمدا! أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم.
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 282) .
(2) انظر: السيرة (1/ 282- 283) .(1/205)
قال: أى أهل بيتى؟ قال: ختنك وابن عمك سعيد بن زيد وأختك فاطمة، فقد والله أسلما وتابعا محمدا على دينه، فعليك بهما.
فرجع عمر عائدا إلى أخته وختنه، وعندهما خباب معه صحيفة فيها «طه» يقرؤهما إياها، فلما سمعوا حسّ عمر تغيب خباب فى مخدع لهم، أو فى بعض البيت، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر قراءة خباب، فلما دخل قال: ما هذه الهينمة التى سمعت؟ قالا: ما سمعت شيئا. قال: بلى والله، لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا على دينه.
وبطش بختنه سعيد، فقامت إليه أخته لتكفه عن زوجها، فضربها فشجها، فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه: نعم أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك!.
ولما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم وارعوى، وقال لها: أعطينى هذه الصحيفة التى سمعتكم تقرأون آنفا أنظر ما هذا الذى جاء به محمد. وكان عمر كاتبا، فلما قال ذلك قالت له أخته: إنا نخشاك عليها. قال: لا تخافى، وحلف لها بآلهته ليردنها إليها إذا قرأها. فلما قال ذلك طمعت فى إسلامه، فقالت له: يا أخى، إنك نجس على شركك، وإنه لا يمسها إلا الطاهر. فقام عمر فاغتسل، فأعطته الصحيفة، وفيها «طه» فقرأها، فلما قرأ منها صدرا قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه. فلما سمع ذلك خباب خرج إليه فقال: يا عمر، والله إنى لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه، فإنى سمعته أمس وهو يقول: اللهم أيد الإسلام بأبى الحكم بن هشام، أو بعمر بن الخطاب، فالله الله يا عمر. فقال له عند ذلك: فدلنى يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم. فقال له خباب:
هو فى بيت عند الصفا معه نفر من أصحابه.
فأخذ عمر سيفه فتوشحه، ثم عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فضرب عليهم الباب، فلما سمعوا صوته قام رجل منهم فنظر من خلل الباب فرآه متوشحا السيف فرجع وهو فزع فقال: يا رسول الله، هذا عمر بن الخطاب متوشحا السيف. فقال حمزة بن عبد المطلب: فأذن له، فإن كان جاء يريد خيرا بذلناه له، وإن كان جاء يريد شرا قتلناه بسيفه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائذن له. فأذن له الرجل. ونهض إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقيه فى الحجرة فأخذ بحجرته أو بمجمع ردائه ثم جبذه جبذة شديدة. وقال: «ما جاء بك يا ابن الخطاب، فو الله ما أرى أن تنتهى حتى ينزل الله بك قارعة!» ، فقال عمر: يا رسول الله، جئت لأومن بالله ورسوله وبما جاء من عنده. قال: فكبر رسول(1/206)
الله صلى الله عليه وسلم تكبيرة عرف أهل البيت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمر قد أسلم. فتفرقوا من مكانهم وقد عزوا فى أنفسهم حين أسلم عمر، مع إسلام حمزة، وعرفوا أنهما سيمنعان رسول الله صلى الله عليه وسلم وينتصفون بهما من عدوهم «1» . فهذا حديث الرواة من أهل المدينة عن إسلام عمر.
وقد روى غيرهم إن إسلام عمر فيما تحدثوا به عنه أنه كان يقول: كنت للإسلام مباعدا وكنت صاحب خمر فى الجاهلية أحبها وأشربها، وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش بالحزورة «2» ، فخرجت ليلة أريد جلسائى أولئك فى مجلسهم ذلك فلم أجد فيه منهم أحدا، فقلت: لو أنى جئت فلانا الخمار لعلى أجد عنده خمرا فأشرب منها، فجئته فلم أجده، فقلت: فلو أنى جئت الكعبة فطفت بها سبعا أو سبعين. فجئت أريد ذلك فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلى، وكان إذا صلى استقبل الشام وجعل بينه وبينها الكعبة، فكان مصلاه بين الركنين: الركن الأسود والركن اليمانى، فقلت حين رأيته: والله لو أنى استمعت لمحمد الليلة حتى أستمع ما يقول.
فقلت: لئن دنوت منه لأروعنه، فجئت من قبل الحجر، فدخلت تحت ثيابها، فجعلت أمشى رويدا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلى يقرأ القرآن حتى قمت فى قبلته مستقبله ما بينى وبينه إلا ثياب الكعبة. فلما سمعت القرآن رق له قلبى! فبكيت ودخلنى الإسلام، فلم أزل قائما فى مكانى ذلك حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته ثم انصرف، وكان إذا انصرف خرج على دار ابن أبى حسين، وكانت طريقه حتى يخرج المسعى ثم يسلك بين دار عباس بن عبد المطلب وبين دار ابن أزهر.
فتبعته حتى إذا دخل بينهما أدركته، فلما سمع حسى عرفنى، فظن أنى إنما تبعته لأوذيه فنهمنى ثم قال: «ما جاء بك يا ابن الخطاب هذه الساعة؟» قلت: جئت لأومن بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله، فحمد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «قد هداك الله يا عمر» ، ثم مسح صدرى ودعا لى بالثبات، ثم انصرفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته «3» .
__________
(1) انظر الحديث فى: طبقات ابن سعد (3/ 91) ، دلائل النبوة للبيهقى (2/ 219) .
(2) الحزورة: هى الآن قطعة من المسجد فى مكة.
(3) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 129) .(1/207)
قال ابن إسحاق «1» : فالله أعلم أى ذلك كان.
وذكر محمد بن عبد الله بن سنجر الحافظ فى إسلام عمر رضى الله عنه، زيادة لم يذكرها ابن إسحاق، فروى بإسناد له إلى شريح بن عبيد قال: قال عمر بن الخطاب:
خرجت أتعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن أسلم، فوجدته قد سبقنى إلى المسجد فقمت خلفه، فاستفتح سورة الحاقة فجعلت أتعجب من تأليف القرآن، فقلت: هذا والله شاعر كما قالت قريش، فقرأ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ [الحاقة: 40، 41] ، قال: قلت: كاهن علم ما فى نفسى فقرأ: وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ [الحاقة: 42] إأى آخر السورة.
قال: فوقع الإسلام فى قلبى كل موقع.
قال ابن إسحاق «2» : وحدثنى نافع عن ابن عمر قال: لما أسلم عمر قال: أى قريش أنقل للحديث؟ قيل له: جميل بن معمر الجمحى. فغدا عليه وغدوت أتبع أثره أنظر ما يفعل، وأنا غلام أعقل كل ما رأيت، حتى جاءه فقال له: أعلمت يا جميل أنى أسلمت ودخلت فى دين محمد؟! فو الله ما راجعه حتى قام يجر رداءه، واتبعه عمر، واتبعت أبى، حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، وهم فى أنديتهم حول الكعبة، ألا إن ابن الخطاب قد صبأ، قال: يقول عمر من خلفه: كذب ولكنى أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، وثاروا إليه، فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤسهم.
قال: وطلع فقعد، وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا، فبيناهم على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلة حبرة وقميص موشى حتى وقف عليهم فقال: ما شأنكم؟ قالوا:
صبأ عمر. قال: فمه، رجل اختار لنفسه أمرا فماذا تريدون؟ أترون بنى عدى بن كعب يسلمون لكم صاحبهم. هكذا عن الرجل. فو الله لكأنما كانوا ثوبا كشط عنه. فقلت لأبى بعد أن هاجر إلى المدينة: يا أبت، من الرجل الذى زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت وهو يقاتلونك؟ جزاه الله خيرا. قال: أى بنى، ذلك العاص بن وائل السهمى، لا جزاه الله خيرا «3» .
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 286) .
(2) انظر: السيرة (1/ 286) .
(3) ذكره ابن كثر فى البداية والنهاية (3/ 129- 130) .(1/208)
وهذا الدعاء عليه وله مما زاده ابن هشام عن غير ابن إسحاق.
وعن بعض آل عمر قال عمر «1» : لما أسلمت تلك الليلة تذكرت أى الناس أشد عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى آتيه فأخبره أنى قد أسلمت، قال: قلت: أبو جهل. وكان عمر ابنا لحنتمة بنت هشام بن المغيرة، فأقبلت حين أصبحت حتى ضربت عليه بابه، فخرج إلى فقال: مرحبا وأهلا يا ابن أختى، ما جاء بك؟ قلت: جئتك أخبرك أنى قد آمنت بالله وبرسوله محمد وصدقت بما جاء به، فضرب الباب فى وجهى وقال: قبحك الله وقبح ما جئت به.
وفيما رواه يونس بن بكير عن ابن إسحاق أن عمر رضى الله عنه، قال حين أسلم.
الحمد لله ذى المن الذى وجبت ... له علينا أياد كلها عبر
وقد بدأنا فكذبنا فقال لنا ... صدق الحديث نبى عنده الخبر
وقد ظلمت ابنة الخطاب ثم هدى ... ربى عشية قالوا قد صبا عمر
لما دعت ربها ذا العرش جاهدة ... والدمع من عينها عجلان يبتدر
أيقنت أن الذى تدعوه خالقها ... تكاد تسبقنى من عبرة درر
فقلت أشهد أن الله خلقنا ... وأن أحمد فينا اليوم مشتهر
نبى صدق أتى بالحق من ثقة ... وفى الأمانة ما فى عوده خور
قال ابن إسحاق «2» : فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزلوا بلدا أصابوا به أمنا وقرارا، وأن النجاشى قد منع من لجأ إليه منهم، وأن عمر قد أسلم فكان هو وحمزة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وجعل الإسلام يفشوا فى القبائل، اجتمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على نبى هاشم وبنى المطلب، على أن لا يتكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئا ولا يبتاعوا منهم.
فلما اجتمعوا لذلك كتبوا فى صحيفة ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة فى جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم.
فلما فعلت قريش ذلك انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبى طالب فدخلوا معه فى شعبه واجتمعوا إليه وخرج من بنى هاشم أبو لهب إلى قريش فظاهرهم، ولقى هندا
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 287) .
(2) انظر: السيرة (1/ 287- 288) .(1/209)
بنت عتبة بن ربيعة حين فارق قومه وظاهر عليم قريشا، فقال لها: يا بنت عتبة، هل نصرت اللات والعزى وفارقت من فارقهما وظاهر عليهما؟ قالت: نعم، فجزاك الله خيرا يا أبا عتبة.
وقال أبو طالب فيما صنعت قريش من ذلك واجتمعوا عليه:
ألا أبلغا عنى على ذات بيننا ... لؤيا وخصا من لؤى بنى كعب
ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا ... نبيا كموسى خط فى أول الكتب
وأن عليه فى العباد محبة ... ولا خير ممن خصه الله بالحب
وأن الذى لصقتم من كتابكم ... لكم كائن نحسا كراغية السقب «1»
أفيقوا أفيقوا قبل أن يحفر الثرى ... ويصبح من لم يجن ذنبا كذى الذنب
ولا تبتغوا أمر الوشاة وتقطعوا ... أواصرنا بعد المودة والقرب
وتستجلبوا حربا عوانا وربما ... أمر على من ضاقه حلب الحرب
فلسنا ورب البيت نسلم أحمدا ... لعزاء من عض الزمان ولا كرب
ولما تبن منا ومنكم سوالف ... وأيد أترت بالقساسية الشهب «2»
بمعترك ضنك ترى كسر القنا ... به والنسور الطخم يعكفن كالشرب
كأن مجال الخيل فى حجراته ... ومعمعة الأبطال معركة الحرب «3»
أليس أبونا هاشم شد أزره ... وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب
ولسنا نمل الحرب حتى تملنا ... ولا نتشكى ما قد ينوب من النكب
ولكننا أهل الحفائظ والنهى ... إذا طار أرواح الكماة من الرعب
فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا حتى جهدوا لا يصل إليهم شىء إلا سرا، مستخفيا به من أراد صلتهم من قريش.
وقد كان أبو جهل فيما يذكرون، لقى حكيم بن حزام معه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة وهى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الشعب فتعلق به وقال: أتذهب بالطعام إلى بنى هاشم؟ فقال له أبو البخترى: طعام كان لعمته عنده، أفتمنعه أن يأتيها بطعامها؟
خل سبيل الرجل.
__________
(1) كراغية السقب: الراغية من الرغاء بضم أوله وهو أصوات الإبل. والسقب ولد الناقة.
(2) تبن: تنفصل. السوالف: صفحات الأعناق. أثرت: يعنى قطعت. القساسية: سيوف تنسب إلى قساس وهو جعل لبنى أسد فيه معدن الحديد.
(3) مجال الخيل: إيجالة الفرسان إياها. حجراته: أى النواحى. معمعة: الصوت.(1/210)
فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ أبو البخترى لحى بعير فضربه، فشجه ووطئه وطأ شديدا، وحمزة بن عبد المطلب قريب يرى ذلك وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيشمتوا بهم.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك يدعو قومه ليلا ونهارا وسرا وجهرا، مباديا لأمر الله لا يتقى فيه أحدا من الناس.
فجعلت قريش حين منعه الله منها وقام عمه وقومه من بنى هاشم وبنى المطلب دونه وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من البطش به، يهمزونه ويستهزئون به ويخاصمونه وجعل القرآن ينزل فى قريش بأحداثهم، وفيمن نصب لعداوته، منهم من سمى لنا، ومنهم من نزل فيه القرآن فى عامة من ذكر الله من الكفار.
فكان من سمى لنا من قريش ممن نزل فيه القرآن عمه أبو لهب وامرأته أم جميل بنت حرب بن أمية، حمالة الحطب، وإنما سماها الله عز وجل حمالة الحطب أنها كانت فيما بلغنى، تحمل الشوك فتطرحه على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يمر.
وكان أبو لهب يقول فى بعض ما يقول: يعدنى محمد أشياء لا أراها، يزعم أنها كائنة بعد الموت، فماذا وضع فى يدى بعد ذلك! ثم ينفخ فى يديه ويقول: تبا لكما ما أرى فيكما شيئا مما يقول محمد!
فأنزل الله عز وجل فيهما: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ [المسد: 1، 5] «1» .
قال ابن إسحاق «2» : فذكر لى أن أم جميل حين سمعت ما نزل فيها وفى زوجها من
__________
(1) ذكره الشوكانى فى فتح القدير (5/ 745) . وروى البخارى فى سبب نزول هذا السورة عن ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم خرج إلى البطحاء فصعد الجبل فنادى «يا صباحاه» فاجتمعت إليه قريش: فقال: أرأيتم إن حدثتكم أن العدم مصبحكم أو ممسيكم أكنتم تصدقونى؟» قالوا: نعم، قال: «فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد» ، فقال أبو لهب ألهذا جمعتنا؟ تبا لك فأنزل الله تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ إلى آخرها. وفى رواية فقام ينفض يديه وهو يقول: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ.
(2) انظر: السيرة (1/ 291- 292) .(1/211)
القرآن، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس فى المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر الصديق وفى يدها فهر «1» من حجارة، فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت: يا أبا بكر، أين صاحبك؟ فقد بلغنى أنه يهجونى، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، أما والله إنى لشاعرة، ثم قالت:
مذ مما عصينا ... وأمره أبينا
وعن غير ابن إسحاق: ودينه قلينا، ثم انصرفت. فقال أبو بكر: يا رسول الله، أما تراها رأتك؟ فقال: «ما أرتنى، لقد أخذ الله ببصرها عنى» «2» .
وكانت قريش إنما تسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم مذمما ثم يسبونه، فكان عليه السلام، يقول:
«ألا تعجبون لما صرف الله عنى من أذى قريش! يسبون ويهجون مذمما وأنا محمد!» «3» .
وأمية بن خلف الجمحى، كان إذا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم همزه ولمزه، فأنزل الله فيه:
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة: 1] إلى آخر السورة «4» .
والعاص بن وائل السهمى، كان خباب بن الأرت، قد باع منه سيوفا عملها له وكان قينا بمكة، فجاءه يتقاضاه، فقال له: يا خباب، أليس يزعم محمد صاحبكم هذا الذى أنت على دينه أن فى الجنة ما ابتغى أهلها من ذهب أو فضة أو ثياب أو خدم؟! قال: بلى.
قال: فأنظرنى إلى يوم القيامة يا خباب حتى أرجع إلى تلك الدار فأقضيك هنالك حقك، فو الله لا تكون أنت وأصحابك يا خباب آثر عند الله منى ولا أعظم حظا فى ذلك!.
فأنزل الله فى ذلك: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً [مريم: 77، 80] «5» .
__________
(1) الفهر: حجر على مقدار ملء الكف.
(2) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (2/ 195) ، تفسير ابن كثير (8 م 536، 357) ، مجمع الزوائد للهيثمى (7/ 144) ، المطالب العالية لابن حجر (3/ 399) . مستدرك الحاكم (2/ 361) .
(3) انظر الحديث فى: صحيح البخارى كتاب المناقب (3533) ، مسند الإمام أحمد (2/ 244، 369) .
(4) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 135) .
(5) انظر الحديث فى: صحيح البخارى كتاب البيوع (2091) ، صحيح مسلم كتاب صفات المنافقين (4/ 35) .(1/212)
ولقى أبو جهل بن هشام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنى، فقال له: والله يا محمد لتتركن سب آلهتنا أو لنسبن إلهك الذى بعثك، فأنزل الله تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام: 108] ، فذكر لى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كف عن سب آلهتهم وجعل يدعوهم إلى الله «1» .
والنضر بن الحارث بن كلدة، من شياطين قريش ممن كان يؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصب له العداوة، وكان قدم الحيرة وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا فذكر فيه بالله ودعا فيه إلى الله وحذر قومه ما أصاب الأمم الخالية من نقمة الله، خلفه فى مجلسه إذا قام ثم قال: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثا منه، فهلم فأنا أحدثكم أحسن من حديثه. ثم يحدثهم عن رستم الشيذ واسبنديار وملوك فارس، ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثا منى؟ والله ما محمد بأحسن حديثا منى، وما أحاديثه إلا أساطير الأولين اكتتبها كما اكتتبتها، فأنزل الله عز وجل فيه:
وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان: 5، 6] وكل ما ذكر فيه الأساطير من القرآن، وأنزل أيضا فيه: يْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها
كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الجاثية: 7، 8] «2» . وهو القائل: سأنزل مثل ما أنزل الله! فيما ذكر ابن هشام.
قال ابن إسحاق «3» : وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنى، يوما مع الوليد بن المغيرة فى المسجد، فجاء النضر بن الحارث فجلس معهم فى المجلس، وفيه غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض له النضر، فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه، ثم تلا عليه وعليهم: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ [الأنبياء: 98، 100] «4» .
ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل عبد الله بن الزبعرى السهمى حتى جلس، فقال له الوليد: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفا وما قعد، وقد زعم محمد أنا
__________
(1) ذكره الطبرى فى تفسيره (7/ 207) .
(2) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 136) .
(3) انظر: السيرة (1/ 294- 295) .
(4) ذكره ابن كثير فى تفسيره (5/ 375) .(1/213)
وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم، فقال ابن الزبعرى: أما والله لو وجدته لخصمته، فسلوا محمدا: أكل ما يعبد من دون الله فى جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة واليهود تعبد عزيرا والنصارى تعبد عيسى ابن مريم.
فعجب الوليد ومن كان معه من قول ابن الزبعرى، ورأوا أنه قد احتج وخاصم.
فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: «كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده، إنهم إنما يعبدون الشياطين ومن أمرتهم بعبادته» . فأنزل الله عليه: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ [الأنبياء: 101] ، أى عيسى وعزيرا ومن عبدوا من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله، فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله «1» .
ونزل فيما يذكرون أنهم يعبدون الملائكة وأنها بنات الله: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ إلى قوله:
وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأنبياء:
26، 29] «2» .
وأنزل فيما ذكر من أمر عيسى أنه يعبد من دون الله وعجب الوليد ومن حضر من حجته وخصومته: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ثم قال: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ [الزخرف: 57، 61] ، أى ما وضعت على يديه من إحياء الموتى وإبراء الأسقام فكفى به دليلا على علم الساعة، يقول: فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ.
والأخنس بن شريق الثقفى حليف بنى زهرة، وكان من أشراف القوم وممن يستمع منه، فكان يصيب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرد عليه، فأنزل الله فيه: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [ن: 10، 13] ، إلى قوله: زَنِيمٍ.
ولم يقل: «زنيم» لعيب فى نسبه، إن الله لا يعب أحدا بنسبه ولكنه حقق بذلك نعته
__________
(1) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (7/ 104) ، مسند الإمام أحمد (1/ 317) ، مستدرك الحاكم (3/ 284، 285) .
(2) انظر: السيرة (1/ 296) .(1/214)
ليعرف، والزنيم العديد للقوم «1» . قال الخطيم التميمى، فى الجاهلية:
زنيم تداعاه الرجال زيادة ... كما زيد فى عرض الأديم الأكارع «2»
والوليد بن المغيرة، قال: أينزل على محمد وأترك وأنا كبير قريش وسيدها، ويترك أبو مسعود عمرو بن عمير الثقفى سيد ثقيف ونحن عظيما القريتين! فأنزل الله فيه، فيما بلغنى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا إلى قوله: وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف: 20، 22] .
وأبى بن خلف الجمحى وعقبة بن أبى معيط، وكانا متصافيين حسنا ما بينهما، فكان عقبة بن أبى معيط قد جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع منه، فبلغ ذلك أبيا فأتى عقبة فقال: ألم يبلغنى أنك جالست محمدا وسمعت منه؟! ثم قال: وجهى من وجهك حرام أن أكلمك، واستغلظ من اليمين، إن أنت جلست إليه أو سمعت منه، أو لم تأته فتتفل فى وجهه.
ففعل ذلك عدو الله عقبة، فأنزل الله فيه: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا [الفرقان: 27، 29] .
ومشى أبى بن خلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم بال قد ارفتّ فقال: يا محمد أنت تزعم أن الله يبعث هذا بعد ما [أرمّ] «3» ؟! ثم فته بيده ثم نفخه فى الريح نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم أنا أقول ذلك، يبعثه الله وإياك بعد ما تكونان هكذا، ثم يدخلك النار» «4» ، فأنزل الله فيه: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ [يس: 78، 80] .
واعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم [وهو يطوف بالكعبة] «5» ، فيما بلغنى، الأسود بن المطلب
__________
(1) العديد للقوم: الذى يعد فى الناس وليس منهم.
(2) الأكارع: جمع كراع بضم الكاف بمعنى الأطراف.
(3) ما بين المعقوفتين ورد فى الأصل: «أرى» ، وما أوردناه من السيرة. وأرم: أى بليت.
(4) ذكره ابن الجوزى فى زاد المسير (6/ 283) ، الطبرى فى تفسيره (23/ 21) ، الحاكم فى المستدرك (2/ 429) ، الواحدى فى أسباب النزول (308) .
(5) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل وما أوردناه من السيرة، والمصنف ينقل منها.(1/215)
والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل، وكانوا ذوى أسنان فى قومهم، فقالوا: يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد فنشترك نحن وأنت فى الأمر، فإن كان الذى تعبد خيرا مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه!.
فأنزل الله فيهم: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ، السورة كلها، أى إن كنتم لا تعبدون الله إلا أن أعبد ما تعبدون فلا حاجة لى بذلك منكم، لكم دينكم ولى دين.
وأبو جهل بن هشام، لما ذكر الله شجرة الزقوم تخويفا بها لهم، قال يا معشر قريش:
هل تدرون ما شجرة الزقوم التى يخوفكم بها محمد؟ قالوا: لا. قال: عجوة يثرب بالزبد! والله لئن استمكنا منها لتنزقمنها تزقما «1» !.
فأنزل الله فيه: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان: 43] ، ووقف الوليد بن المغيرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله يكلمه وقد طمع فى إسلامه، فبينا هو فى ذلك مر به ابن أم مكتوم الأعمى، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يستقرئه القرآن، فشق ذلك منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أضجره، وذلك أنه شغله عما كان فيه من أمر الوليد وما طمع فيه من إسلامه، فلما أكثر عليه انصرف عنه عابسا، وتركه، فأنزل الله فيه: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى إلى قوله: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ [عبس: 1، 14] «2» .
أى: إنما بعثتك بشيرا ونذيرا لم أخص بك أحدا دون أحد، فلا تمنعه ممن ابتغاه ولا تتصد به لمن لا يريده.
قال ابن إسحاق «3» : ولما بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين خرجوا إلى أرض الحبشة إسلام أهل مكة فأقبلوا لما بلغهم ذلك، حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن ذلك كان باطلا، فلم يدخل أحد منهم، إلا بجوار أو مستخفيا.
وذكر موسى بن عقبة أن رجوع هؤلاء الذين رجعوا كان قبل خروج جعفر وأصحابه إلى أرض الحبشة، وأنهم الذين خرجوا أولا قبله ثم رجعوا حين أنزل الله سورة النجم.
__________
(1) لتزقمنها تزقما: أى تبتلعها ابتلاعا.
(2) انظر الحديث فى: سنن الترمذى (5/ 331) ، تفسير الطبرى (30/ 33) ، فتح القدير للشوكانى (5/ 544) ، المستدرك للحاكم (2/ 514) .
(3) انظر: السيرة (1/ 300- 302) .(1/216)
قال: وكان المشركون يقولون: لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه، ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارة بمثل الذى يذكر به آلهتنا من الشتم والشر.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد عليه ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذيبهم، وأحزنه ضلالتهم وكان يتمنى هداهم فلما أنزل الله تعالى سورة «النجم» قال: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النجم: 19، 20] ، ألقى الشيطان عندها على لسانه كلمات حين ذكر الطواغيت فقال: وإنهم لمن الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لهى التى ترتجى «1» .
كان ذلك من سجع الشيطان وفتنته، فوقعت هاتان الكلمتان فى قلب كل مشرك بمكة وذلت بها ألسنتهم وتباشروا بها وقالوا: إن محمدا قد رجع إلى دينه الأول ودين أبائه. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر «والنجم» سجد وسجد كل من حضره من مسلم أو مشرك، غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلا كبيرا، فرفع ملء كفه ترابا فسجد عليه.
فعجب الفريقان كلاهما من اجتماعهم فى السجود لسجود رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين، ولم يكن المسلمون سمعوا الذى ألقى الشيطان على ألسنة المشركين.
وأما المشركون فاطمأنت نفوسهم إلى النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما ألقى الشيطان فى أمنية النبى صلى الله عليه وسلم فسجدوا لتعظيم آلهتهم.
وفشت تلك الكلمة فى الناس وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة ومن بها من المسلمين، عثمان بن مظعون وأصحابه، وحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم وصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة على التراب على كفيه، وحدثوا أن المسلمين قد أمنوا بمكة. فأقبلوا سراعا وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم الله آياته، وقال عز من قائل: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ
__________
(1) ذكره البيهقى فى دلائل النبوة (2/ 66) ، وأشار إلى أن هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، وقد جرح رواتها. وذكره القاضى عياض فى الشفاء (2/ 116- 123) وقال: يكفيك أن هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل، مع ضعف نقلته، واضطراب روايته، وانقطاع إسناده، واختلاف كلمته.(1/217)
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الحج: 52، 54] .
فلما بين الله قضاءه فبرأه من سجع الشيطان انقلب المشركون بضلالتهم وعداوتهم للمسلمين فاشتدوا عليهم. فلهذا الذى ذكره ابن عقبة لم يستطع أحد ممن رجع من أرض الحبشة أن يدخل مكة إلا بجوار أو مستخفيا، كما ذكر ابن إسحاق.
قال: فكان جميع من قدم مكة منهم ثلاثة وثلاثين رجلا، دخل منهم بجوار، فيمن سمى لنا: عثمان بن مظعون الجمحى، دخل بجوار من الوليد بن المغيرة، وأبو سلمة بن عبد الأسد بجوار خاله أبى طالب.
فأما عثمان «1» فإنه لما رأى ما فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من البلاء، وهو يغدو ويروح فى أمان الوليد، قال: والله إن غدوى ورواحى آمنا بجوار رجل من أهل الشرك، وأصحابى وأهل دينى يلقون من البلاء والأذى فى الله ما لا يصيا بنى لنقص كبير فى نفسى.
فمشى إلى الوليد بن المغيرة فقال له: يا أبا عبد شمس، وفت ذمتك وقد رددت إليك جوارك، قال: لم يا ابن أخى؟ لعله آذاك أحد من قومى؟ قال: لا ولكنى أرضى بجوار الله ولا أريد أن أستجير بغيره. قال: فانطلق إلى المسجد فرد على جوارى علانية كما أجرتك علانية.
فخرجا حتى أتيا المسجد، فقال الوليد: هذا عثمان جاء يرد على جوارى. قال:
صدق، قد وجدته وفيا كريم الجوار، ولكنى أحببت أن لا أستجير بغير الله. ثم انصرف عثمان، ولبيد بن ربيعة فى مجلس من قريش ينشدهم، فجلس معهم عثمان، فقال لبيد «2» :
__________
(1) هو: عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص القرشى الجمحى، يكنى أبا السائب، وأمه سخيلة بنت العنبس بن أهبان بن حذافة بن جمح، وهى أم السائب وعبد الله. انظر ترجمته فى: الاستيعاب (3/ 165) الترجمة رقم (1798) .
(2) هو: لبيد أبى ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب العامرى، ويكنى لبيد بن عقيل وكان من شعراء الجاهلية وأدرك لبيد الإسلام وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى وفد بنى كلاب فأسلموا ورجعوا إلى بلادهم. انظر ترجمته فى: الشعر والشعراء (ص 69) .(1/218)
ألا كل شىء ما خلا الله باطل
قال عثمان: صدقت. قال:
وكل نعيم لا محالة زائل
قال عثمان: كذبت، نعيم الجنة لا يزول.
قال لبيد: يا معشر قريش، والله ما كان يؤذى جليسكم فمتى حدث هذا فيكم! فقال رجل من القوم: إن هذا سفيه فى سفهاء معه فارقوا ديننا فلا تجدن فى نفسك منه.
فرد عليه عثمان حتى شرى أمرهما، فقام إليه ذلك الرجل فلطم عينه فحضرها والوليد ابن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان، فقال: أما والله يا ابن أخى إن كانت عينك عما أصابها لغنية، لقد كنت فى ذمة منيعة، قال: بل والله إن عينى الصحيحة لفقيرة إلى ما أصاب أختها فى الله: وإنى لفى جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس.
فقال له الوليد: هلم يا ابن أخى إن شئت إلى جوارك. فقال: لا «1» .
وأما أبو سلمة بن عبد الأسد، فإنه لما استجار بأبى طالب مشى إليه رجال بنى مخزوم فقالوا: يا أبا طالب هذا منعت منا ابن أخيك محمدا، فما لك ولصاحبنا تمنعه منا؟
فقال: إنه استجار بى وهو ابن أختى، وإن أنا لم أمنع ابن أختى لم أمنع ابن أخى. فقام أبو لهب فقال: يا معشر قريش، والله لقد أكثرتم على هذا الشيخ ما تزالون توثبون عليه فى جواره من بين قومه، والله لتنتهن عنه أو لنقومن معه فى كل ما قام فيه حتى يبلغ ما أراد. فقالوا: بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة، وكان لهم وليا وناصرا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبقوا على ذلك.
فطمع فيه أبو طالب حين سمعه يقول ما قال، ورجا أن يقوم معه فى شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يحرضه على ذلك:
وإن امرآ أبو عتيبة عمه ... لفى روضة ما إن يسام المظالما
أقول له وأين منه نصيحتى ... أبا معتب ثبت سوادك قائما «2»
ولا تقبلن الدهر ما عشت خطة ... تسب بها إما هبطت المواسما
وول سبيل العجز غيرك منهم ... فإنك لم تخلق على العجز لازما
__________
(1) ذكره أبو نعيم فى حلية الأولياء (1/ 103، 104) ، ابن الأثير فى أسد الغابة (3/ 598، 599) .
(2) ثبت سوادك: يريد كثر قومك ولا تقللهم بفراقك والسواد الشخص.(1/219)
وحارب فإن الحرب نصف ولن ترى ... أخا الحرب يعصى الخسف حتى يسالما
وكيف ولم يجنوا عليك عظيمة ... ولم يخذلوك غانما أو مغارما
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا ... وتيما ومخزوما عقوقا ومأثما
بتفريقهم من بعد ود وألفة ... جماعتنا كيما ينالوا المحارما
كذبتم وبيت الله نبزى محمدا ... ولما تروا يوما لدى الشعب قائما
وكان أبو بكر رضى الله عنه، كما حدثت عائشة رضى الله عنها، حين ضاقت عليه مكة وأصابه فيها الأذى، ورأى من تظاهر قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما رأى، قد استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الهجرة فأذن له، فخرج مهاجرا حتى إذا سار من مكة يوما أو يومين لقيه ابن الدغنة، أخو بنى الحارث بن عبد مناة بن كنانة، وهو يومئذ سيد الأحابيش فقال: أين يا أبا بكر؟.
قال: أخرجنى قومى وآذونى وضيقوا على. قال: لم؟ فو الله إنك لتزين العشيرة وتعين على النوائب وتفعل المعروف وتكسب المعدوم، فارجع فأنت فى جوارى. فرجع معه حتى إذا دخل مكة قام ابن الدغنة فقال: يا معشر قريش، إنى قد أجرت ابن أبى قحافة فلا يعرضن له أحد إلا بخير، قالت: فكفوا عنه.
وكان لأبى بكر مسجد عند باب داره فى بنى جمح فكان يصلى فيه، وكان رجلا رقيقا إذا قرأ القرآن استبكى، فيقف عليه الصبيان والعبيد والنساء يعجبون لما يرون من هيئته، فمشى رجال من قريش إلى ابن الدغنة فقالوا له: إنك لم تجر هذا ليؤذينا، إنه رجل إذا صلى وقرأ ما جاء به محمد يرق وكانت له هيئة ونحو، فنحن نتخوف على صبياننا ونسائنا وضعفتنا أن يفتنهم، فائته فأمره أن يدخل بيته فليصنع فيه ما شاء، فمشى ابن الدغنة فقال: يا أبا بكر، إنى لم أجرك لتؤذى قومك، إنهم قد كرهوا مكانك الذى أنت به وتأذوا بذلك منك فادخل بيتك فاصنع فيه ما أحببت، قال: أو أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله؟ قال: فاردد على جوارى. قال: قد رددته عليك. فقام ابن الدغنة فقال: يا معشر قريش، إن ابن أبى قحافة قد رد على جوارى فشأنكم بصاحبكم «1» .
وعن القاسم بن محمد أن أبا بكر لقيه سفيه من سفهاء قريش وهو عامد إلى الكعبة، فحثا على رأسه التراب، فمر الوليد بن المغيرة أو العاص بن وائل فقال أبو بكر: ألا ترى
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى كتاب الكفالة (2297) ، مسند الإمام أحمد (6/ 198) .(1/220)
ما يصنع هذا السفيه؟ قال: أنت فعلت هذا بنفسك، وهو يقول: أى رب ما أحلمك أى رب ما أحلمك! «1» .
قال ابن إسحاق «2» : ثم إنه قام فى نقض الصحيفة التى تكاتبت فيها قريش على بنى هاشم وبنى المطلب نفر من قريش، ولم يبل أحد فيها أحسن من بلاء هشام بن عمرو بن الحارث بن حبيب بن نصر بن مالك بن حسل، وذلك أنه كان ابن أخى نضلة بن هاشم بن عبد مناف لأمه، فكان هشام لبنى هشام واصلا، وكان ذا شرف فى قومه، فكان فيما بلغنى ليلا بالبعير قد أوقره طعاما، حتى إذا أقبله فى فم الشعب خلع خطامه من رأسه ثم ضرب على جنبه ليدخل الشعب عليهم، ويأتى به قد أوقره [برّا] «3» فيفعل به مثل ذلك.
ثم إنه مشى إلى زهير بن أمية بن المغيرة، وأمه عاتكة بنت عبد المطلب، فقال: يا زهير، أرضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء، وأخوالك حيث قد علمت لا يباعون ولا يبتاع منهم ولا ينكحون ولا ينكح إليهم، أما إنى أحلف بالله، أن لو كانوا أخوال أبى الحكم بن هشام ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبدا.
فقال: ويحك يا هشام، فماذا أصنع؟ أنما أنا رجل واحد. والله لو كان معى رجل آخر لقمت فى نقضها حتى أنقضها. قال: قد وجدت رجلا. قال: من هو؟ قال: أنا.
قال له زهير: ابغنا ثالثا.
فذهب إلى المطعم بن عدى فقال له: يا مطعم، أرضيت أن يهلك بطنان من بنى عبد مناف وأنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه! أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنهم إليها منكم سراعا قال: ويحك فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد. قال: قد وجدت ثانيا. قال: من هو؟ قال: أنا. قال: أبغنا ثالثا. قال: قد فعلت. قال: من هو؟
قال: زهير بن أبى أمية. قال: ابغنا رابعا.
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 306) .
(2) انظر: السيرة (1/ 306- 308) .
(3) ما بين المعقوفتين كذا فى الأصل، وفى السيرة: بزا. وقال السهيلى فى الروض الأنف: بزا بالزى المعجمة وفى غير نسخة الشيخ أبى بحر: برا، وفى رواية يونس: بزا أو برا، على الشك من الراوى.(1/221)
فذهب إلى أبى البخترى بن هشام، فقال له نحوا مما قال للمطعم بن عدى. فقال:
وهل من أحد يعين على هذا؟ قال: نعم. قال: من هو؟ قال: زهير بن أبى أمية والمطعم ابن عدى وأنا معك. قال: ابغنا خامسا.
فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، فكلمه وذكر له قرابتهم ومكانهم.
فقال: وهل على هذا الأمر الذى تدعونى إليه من أحد؟ قال: نعم. ثم سمى له القوم.
فاتعدوا خطم الحجون ليلا بأعلى مكة، فاجتمعوا هنالك فأجمعوا أمرهم وتعاهدوا على القيام فى الصحيفة حتى ينقضوها. وقال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم.
فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير عليه حلة، فطاف بالبيت سبعا ثم أقبل على الناس فقال: يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يباعون ولا يبتاع منهم! والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.
قال أبو جهل، وكان فى ناحية المسجد: كذبت والله لا تشق. قال زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابتها حين كتبت. قال أبو البخترى: صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها ولا نقر به. قال المطعم بن عدى: صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها. وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك.
فقال أبو جهل: هذا أمر قضى بليل تشوور فيه بغير هذا المكان. وأبو طالب جالس فى ناحية المسجد، وقام المطعم إلى الصحيفة ليشقها فوجد الأرضة قد أكلتها إلا باسمك اللهم. وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة، فشلت يده فيما يزعمون.
وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبى طالب: «يا عم، إن الله قد سلط الأرضة على صحيفة قريش فلم تدع فيها اسما هو لله إلا أثبتته ونفت منها القطيعة والظلم والبهتان» . قال: أربك أخبرك بهذا؟ قال: «نعم» . قال: فو الله ما يدخل عليك أحد. ثم خرج إلى قريش فقال: يا معشر قريش، إن ابن أخى أخبرنى بكذا وكذا، فهلم صحيفتكم فإن كانت كما قال فانتهوا عن قطيعتنا، وإن كان كاذبا دفعت إليكم ابن أخى. قال القوم: رضينا. فتعاقدوا على ذلك، ثم نظروا فإذا هى كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فزادهم ذلك شرا، فعند ذلك صنع الرهط من قريش فى نقض الصحيفة ما صنعوا «1» .
__________
(1) ذكره السيوطى فى الخصائص الكبرى (1/ 250، 251) ، ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 97) .(1/222)
قال ابن إسحاق «1» : فلما مزقت الصحيفة وبطل ما فيها قال أبو طالب فيما كان من أمر أولئك الذين قاموا فى نقضها يمدحهم:
ألا هل أتى بحرينا صنع ربنا ... على نأيهم والله بالناس أرود «2»
فنخبرهم أن الصحيفة مزقت ... وأن كل ما لم يرضه الله مفسد
تراوحها إفك وسحر مجمع ... ولم يلف سحر آخر الدهر يصعد «3»
جزى الله رهطا بالحجون تتابعوا ... على ملأ يهدى لحزم ويرشد
قعودا لدى خطم الحجون كأنهم ... مقاولة بل هم أعز وأمجد
أعان عليها كل صقر كأنه ... إذا ما مشى فى رفرف الدرع أحرد
جرى على جل الخطوب كأنه ... شهاب بكفى قابس يتوقد
من الأكرمين من لؤى بن غالب ... إذا سيم خسفا وجهه يتربد
طويل النجاد خارج نصف ساقه ... على وجهه نسقى الغمام ونسعد
عظيم الرماد سيد وابن سيد ... يحض على مقرى الضيوف ويحشد
ويا بنى لأفياء العشيرة صالحا ... إذا نحن طفنا فى البلاد ويمهد
ألظ بهذا الصلح كل مبرأ ... عظيم اللواء أمره ثم يحمد
قضوا ما قضوا فى ليلهم ثم أصبحوا ... على مهل وسائر الناس رقد
هم رجعوا سهل بن بيضاء راضيا ... وسر أبو بكر بها ومحمد
متى شرك الأقوام فى جل أمرنا ... وكنا قديما قبلها نتودد
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 309) .
(2) بحرينا: يقصد به من هاجر من المسلمين فى البحر.
(3) ذكر بعد هذا البيت، أبيات آخره لم يذكرها هنا وهى:
تداعى لها من ليس فيها بقرقر ... فطائرها فى رأسها يتردد
وكانت كفاء رقعة بأثيمة ... ليقطع منها ساعد ومقلد
ويظعن أهل المكتين فيهربوا ... فرائصهم من خشية الشر ترعد
ويترك حراث يقلب أمره ... أيتهم فيهم عند ذاك وينجد
وتصعد بين الأخشبين كتيبة ... لها حدج سهم وقوس ومرهد
فمن ينش من حضار مكة عزه ... فعزتنا فى بطن مكة أتلد
نشأنا بها والناس فيها قلائل ... فلم ننفكك نزداد خيرا ونحمد
ونطعم حتى يترك الناس فضلهم ... إذا جعلت أيدى المفيضين ترعد
انظر: السيرة (1/ 309- 310) .(1/223)
وكنا قديما لا نقر ظلامة ... وندرك ما شئنا ولا نتشدد
فيا لقصى هل لكم فى نفوسكم ... وهل لكم فيما يجىء به غد
فإنى وإياكم كما قال قائل ... لديك البيان لو تكلمت أسود
أسود هنا اسم جبل كان قتل فيه قتيل لم يعرف قاتله، فقال أولياء المقتول هذه المقالة، يعنون بها أن هذا الجبل لو تكلم لأبان عن القائل ولعرف بالجانى، ولكنه لا يتكلم، فذهبت مقالتهم تلك مثلا.
قال ابن إسحاق «1» : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يرى من قومه يبذل لهم النصيحة ويدعوهم إلى النجاة مما هم فيه، وجعلت قريش حين منعه الله منهم يحذرونه الناس ومن قدم عليهم من العرب.
فكان طفيل بن عمرو الدوسى «2» وكان رجلا شريفا شاعرا لبيبا يحدث أنه قدم مكة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بها، فمشى إليه رجال من قريش فقالوا له: يا طفيل إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذى بين أظهرنا قد أعضل بنا «3» ، فرق جماعتنا وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر يفرق به بين الرجل وبين أبيه، وبين الرجل وبين أخيه وبين الرجل وبين زوجته، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمنه ولا تسمعن منه.
قال: فو الله ما زالوا بى حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئا ولا أكلمه، حتى حشوت فى أذنى حين غدوت إلى المسجد كرسفا «4» فرقا من أن يبلغنى شىء من قوله، وأنا لا أريد أن أسمعه، قال: فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلى عند الكعبة، فقمت قريبا منه، فأبى الله إلا أن يسمعنى بعض قوله، فسمعت كلاما حسنا، فقلت فى نفسى: واثكل أمى! والله إنى لرجل لبيب شاعر وما يخفى على الحسن من القبيح، فما يمنعنى أن أسمع من هذا الرجل، فإن كان الذى يأتى به حسنا قبلته، وإن كان قبيحا تركته.
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 312- 313) .
(2) هو: الطفيل بن عمرو بن طريف بن العاص بن ثعلبة بن سليم بن فهم بن غنم بن دوس الدوسى من دوس. انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1283) ، طبقات ابن سعد (4/ 1/ 175) ، طبقات خليفة (13/ 114) ، تاريخ خليفة (111) الجرح والتعديل (4/ 489) ، العبر (1/ 14) ، تاريخ ابن عساكر (7/ 62) .
(3) أعضل بنا: أى أشد أمره ولم يوجد له وجه.
(4) كرسفا: الكرسف يعنى القطن.(1/224)
فمكثت حتى انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته فاتبعته، حتى إذا دخل بيته دخلت عليه فقلت: يا محمد، إن قومك قالوا لى كذا وكذا، فو الله ما برحوا يخوفوننى امرك حتى سددت أذنى بكرسف لئلا أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يسمعنى فسمعت قولا حسنا، فاعرض على أمرك، فعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام وتلا على القرآن، فلا والله ما سمعت قولا قط أحسن منه ولا أمرا أعدل منه، فأسلمت وشهدت شهادة الحق، وقلت: يا نبى الله، إنى امرؤ مطاع فى قومى وإنى راجع إليهم وداعيهم إلى الإسلام فادع الله أن يجعل لى آية تكون لى عونا عليهم فيما أدعوهم إليه. فقال: اللهم اجعل له آية.
فخرجت إلى قومى حتى إذا كنت على ثنية تطلعنى على الحاضر وقع نور بين عينى مثل المصباح. قلت: اللهم فى غير وجهى، إنى أخشى أن يظنوا أنها مثلة وقعت فى وجهى لفراقى دينهم. قال: فتحول فوقع فى رأس سوطى، فجعل أهل الحاضر يتراؤن ذلك النور فى سوطى كالقنديل المعلق، وأنا أهبط إليهم من الثنية حتى جئتهم، فلما نزلت أتانى أبى وكان شيخا كبيرا، فقلت: إليك عنى يا أبا فلست منك ولست منى.
قال: لم يا بنى؟ قلت: أسلمت وتابعت دين محمد. قال: أى بنى فدينى دينك. فقلت:
فاذهب فاغتسل وطهر ثيابك، ثم تعال حتى أعلمك ما علمت. فذهب فاغتسل وطهر ثيابه، ثم جاء فعرضت عليه الإسلام فأسلم، ثم أتتنى صاحبتى فقلت لها: إليك عنى فلست منك ولست منى. قالت: لم بأبى أنت وأمى؟! قلت: فرق بينى وبينك الإسلام وتابعت دين محمد. قالت: فدينى دينك. قلت: فاذهبى إلى حنا ذى الشرى.
قال ابن هشام «1» : ويقال: حمى ذى الشرى، فتطهرى منه، وكان ذو الشرى صنما لدوس والحنا حمى حموه له، به وشل من ماء يهبط من جبل. فقالت: بأبى أنت وأمى، أتخشى على الصبية من ذى الشرى شيئا؟ قلت: لا أنا ضامن لذلك. فذهبت فاغتسلت ثم جاءت فعرضت عليها الإسلام فأسلمت، ثم دعوت دوسا إلى الإسلام فأبطأوا على، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فقلت يا نبى الله، إنه غلبنى على دوس الزنا فادع الله عليهم. فقال: اللهم اهد دوسا، ارجع إلى قومك فادعهم وارفق بهم.
فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الإسلام حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ومضى بدر وأحد والخندق، ثم قدمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن أسلم معى من قومى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر حتى نزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتا من دوس، ثم لحقنا
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 314) .(1/225)
برسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فأسهم لنا مع المسلمين، ثم لم أزل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى فتح الله عليه مكة قلت: يا رسول الله، ابعثنى إلى ذى الكفين، صنم عمرو بن حممة، حتى أحرقه.
قال ابن إسحاق «1» : فخرج إليه فجعل وهو يوقد عليه النار يقول:
يا ذا الكفين لست من عبادكا ... ميلادنا أقدم من ميلادكا
إنى حشوت النار فى فؤادكا «2»
ثم رجع، فكان بالمدينة حتى قبض الله رسوله، فلما ارتدت العرب خرج مع المسلمين فسار معهم حتى فرغوا من طليحة ومن أرض نجد كلها، ثم سار مع المسلمين إلى اليمامة ومعه ابنه عمرو بن الطفيل فرأى رؤيا وهو متوجه إلى اليمامة فقال لأصحابه: إنى قد رأيت رؤيا فاعبروها لى. رأيت أن رأسى حلق، وأنه خرج من فمى طائر، وأنه لقيتنى امرأة فأدخلتنى فى فرجها وأرى ابنى يطلبنى طلبا حثيثا ثم رأيته حبس عنى.
قالوا: خيرا؛ قال: أما أنا والله فقد أولتها. قالوا: ماذا؟ قال: أما حلق رأسى فوضعه، وأما الطائر الذى خرج من فمى فروحى، وأما المرأة التى أدخلتنى فى فرجها فالأرض تحفر لى وأغيب فيها، وأما طلب ابنى إياى ثم حبسه عنى فإنى أراه سيجهد أن يصيبه ما أصابنى، فقتل رحمه الله شهيدا باليمامة، وجرح ابنه جراحة شديدة ثم [استبلّ] «3» منها ثم قتل عام اليرموك فى زمان عمر شهيدا «4» .
وذكر ابن هشام «5» أن أعشى بنى قيس بن ثعلبة «6» خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 314) .
(2) انظر: الأبيات فى الاستيعاب الترجمة رقم (1283) ، الإصابة الترجمة رقم (4273) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2613) .
(3) ما بين المعقوفتين ورد فى الأصل: «استقل» ، وما أوردناه من السيرة. واستبل منها: يقال بل وأبل واستبل المريض من مرضه إذا أفاق وبرىء.
(4) ذكره بنحوه ابن عبد البر فى الاستيعاب الترجمة رقم (1283) ، ابن حجر فى الإصابة (3/ 287) بنحوه مختصرا، ابن لأثير فى أسد الغابة (3/ 78) ، ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 99) .
(5) انظر: السيرة (1/ 317- 319) .
(6) قال فى كتاب الشعر والشعراء (154) : هو من سعد بن ضبيعة بن قيس، وكان أعمى، ويكنى أبا بصير، وكان أبوه قيس يدعى قتيل الجوع.(1/226)
الإسلام، وقال قصيدة يمدحه فيها، نذكرها بعد. فلما كان بمكة أو قريبا منها اعترضاه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره، فأخبره أنه جاء يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلم.
فقال له: يا أبا بصير، إنه يحرم الزنا. فقال الأعشى: والله إن ذلك لأمر ما لى فيه من أرب. فقال: يا أبا بصير، فإنه يحرم الخمر «1» . فقال: أما هذه فو الله إن فى النفس منها لعلالات، ولكنى منصرف فأتروى منها عامى هذا ثم آتيه فأسلم.
فانصرف فمات فى عامه ذلك ولم يعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا ما ذكر ابن هشام فى قصة الأعشى، وظاهره يقتضى أن قصده كان إلى مكة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها حينئذ لم يهاجر بعد.
ويعارض هذا الظاهر ما ذكر من تحريم الخمر، فإن أهل النقل مجمعون على أن الخمر إنما حرمت بالمدينة بعد أن مضى بدر وأحد ونزل تحريمها فى سورة المائدة وهى من آخر ما نزل من القرآن فإن صح أن خروج الأعشى كان قبل الهجرة كما فى ظاهر الخبر فلعل المشرك الذى لقيه وأخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريم الخمر، أراد بهذا القول تنفيره عن الإسلام وإبعاده عنه، مع ما كان من كراهية رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدا للخمر وتنزيه الله إياه عنها.
ألا تراه ليلة الإسراء لما عرضت عليه آنية الخمر واللبن اختار اللبن فقيل له: هديت للفطرة، لو أخذت الخمر غوت أمتك. والإسراء إنما كان بمكة فى صدر الإسلام. وقد يمكن أن يكون قصد الأعشى إلى المدينة بعد الهجرة وبعد تحريم الخمر فتلقاه بعض المشركين من قريش ممن لم يكن أسلم بعد.
ولعل هذا هو الأولى بدليل قوله فى قصيدته الآتية بعد:
ألا أيهذا السائلى أين يممت ... فإن لها فى أهل يثرب موعدا
والله أعلم بالحقيقة فى ذلك كله، والقصيدة التى مدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم هى قوله:
__________
(1) قال السهيلى فى الروض الأنف (2/ 136) : هذه غفلة من ابن هشام، ومن قال بقوله: فإن الناس مجمعون على أن الخمر لم ينزل تحريمها إلا بالمدينة بعد أن مضيت بدر وأحد، وحرمت فى سورة المائدة وهى من أخر ما نزل، وفى الصحيحين من ذلك قصة حمزة حين شربها، وغتنه القينتان: ألا يا حمز للشرف النواء، فبقر خواصر الشارفين، واجتنب أسمنتها، وقوله للنبى صلى الله عليه وسلم: هل أنتم إلا عبيد لآبائى، وهو ثمل، ... الحديث، فإن صح خبر الأعشى وما ذكر له فى الخمر، فلم يكن هذا بمكة، وإنما كان بالمدينة، ويكون القائل له: أما علمت أنه يحرم الخمر من المنافقين أو من اليهود، فالله أعلم.(1/227)
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا ... وبت كما بات السليم مسهدا «1»
وما ذاك من عشق النساء وإنما ... تناسيت قبل اليوم خلة مهددا
ولكن أرى الدهر الذى هو خائن ... إذا أصلحت كفاى عاد فأفسدا
كهولا وشبابا فقدت وثروة ... فلله هذا الدهر كيف ترددا
وما زلت أبغى المال مذ أنا يافع ... وليدا وكهلا حين شبت وأمردا
وأبتذل العيس المراقيل تعتلى ... مسافة ما بين النجير فصرخدا «2»
ألا أيهذا السائلى أين يممت ... فإن لها فى أهل يثرب موعدا
فإن تسألى عنى فيا رب سائل ... حفى عن الأعشى به حيث [أصهدا] «3»
أجدت برجليها النجاء وراجعت ... يداها خنفاا لينا غير أحردا
وفيها إذا ما هجرت عجرفية ... إذا خلت حرباء الظهيرة أصيدا «4»
وآليت لا آوى لها من كلالة ... ولا من حفى حتى تلاقى محمدا
متى ما تناخى عند باب ابن هشام ... تراحى وتلقى من فواضله ندا
نبيا يرى ما لا ترون وذكره ... أغار لعمرى فى البلاد وأنجدا «5»
له صدقات ما تغب ونائل ... وليس عطاء اليوم مانعه غدا
أجدك لم تسمع وصاة محمد ... نبى الإله حين أوصى وأشهدا
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ... ولا قيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله ... فترصد للموت الذى كان أرصدا
فإياك والميتات لا تقربنها ... ولا تأخذن سهما حديدا لتقصدا
وذا النصب المنصوب لا تنسكنّه ... ولا تعبد الأوثان والله فاعبدا «6»
ولا تقربن حرة كان سرها ... عليك حراما فانكحن أو تأبدا
__________
(1) الأرمد: الذى يشتكى عينيه من الرمد. المسهد: الذى منع النوم.
(2) العيس: الإبل البيض يخالطها حمرة. المراقيل: مأخوذ من الإرقال وهو السرعة فى السير. النجير: موضع فى حضرموت فى اليمن. صرخد: موضع بالجزيرة.
(3) ما بين المعقفوتين ورد فى الأصل: «أصعدا» ، وما أوردناه من السيرة. وأصهدا: أى ذهب.
(4) العجرفية: أى تخليط من غير استقامة. الحرباء: بكسر فسكون دويبة تكون فى أعلى الشجرة.
(5) أغار لعمرى: معناه بلغ الغور وهو منخفض من الأرض. أنجد: بلغ النجد وهو ما ارتفع من الأرض.
(6) النصب: حجارة كان يذبحون لها. النسك: الدم كانوا يعترون عند أصناهم ثم يطلون رؤس الأصنام بدماء العتائر.(1/228)
وذا الرحم القربى فلا تقطعنه ... لعاقبة ولا الأسير المقيدا
وسبح على حين العشيات والضحى ... ولا تحمد الشيطان والله فاحمدا
ولا تسخرن من بائس ذى ضرارة ... ولا تحسبن المال للمرء مخلدا
قال ابن إسحاق «1» : وقد كان عدو الله أبو جهل مع عداوته رسول الله صلى الله عليه وسلم وبغضه إياه، يذله الله إذا رآه.
حدثنى «2» عبد الملك بن عبد الله بن أبى سفيان الثقفى، وكان واعية، قال: قدم رجل من إراش «3» بإبل له مكة، فابتاعها منه أبو جهل فمطله بأثمانها، فأقبل الإراشى حتى وقف على ناد من قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فى ناحية المسجد، فقال: يا معشر قريش، من رجل يؤدينى على أبى الحكم بن هشام، فإنى غريب ابن سبيل وقد غلبنى على حقى.
فقال له أهل ذلك المجلس: أترى ذلك الرجل؟ لرسول الله صلى الله عليه وسلم يهزأون به لما يعلمون بينه وبين أبى جهل من العداوة، اذهب إليه فهو يؤديك عليه.
فأقبل الإراشى حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا عبد الله، إن أبا الحكم بن هشام غلبنى على حق لى قبله وأنا غريب ابن سبيل، وقد سألت هؤلاء القوم عن رجل يؤدينى عليه، يأخذ لى حقى منه، فأشاروا لى إليك فخذ لى حقى منه يرحمك الله.
قال: انطلق إليه. وقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه قام معه قالوا لرجل ممن معهم:
اتبعه فانظر ما يصنع.
قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءه فضرب عليه بابه فقال: من هذا؟ فقال:
محمد. فاخرج إلى. فخرج إليه وما فى وجهه من رائحة، لقد انتقع لونه، فقال: أعط هذا حقه. قال نعم، لا يبرح حتى أعطيه الذى له.
فدخل فخرج إليه بحقه فدفعه إليه، فأقبل الإراشى حتى وقف على ذلك المجلس فقال: جزاه الله خيرا، فقد والله أخذ لى حقى. وجاء الرجل الذى بعثوا معه فقالوا ويحك، ماذا رأيت؟ قال: عجبا من العجب! والله ما هو إلا أن ضرب عليه بابه فخرج
__________
(1) انظر: السيرة (1/ 318) .
(2) انظر: السيرة (1/ 318- 319) .
(3) إراش: هو ابن الغوث أو ابن عمرو بن الغوث ابن بنت مالك وهو والد أنمار الذى ولد بجيله وخثعم.(1/229)
إليه وما معه روحه، فقال: أعط هذا الرجل حقه. قال: نعم، لا يبرح حتى أخرج إليه حقه. فدخل فخرج إليه بحقه فأعطاه إياه، ثم لم يلبث أبو جهل أن جاء، فقالوا: ويلك! ما لك؟ والله ما رأينا مثل ما صنعت قط، قال: ويحكم! والله ما هو إلا أن ضرب على بابى وسمعت صوته فملئت رعبا، ثم خرجت إليه وإن فوق رأسه لفحلا من الإبل ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قط، والله لو أبيت لأكلنى «1» .
وذكر الواقدى عن يزيد بن رومان قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا فى المسجد معه رجال من أصحابه أقبل رجل من بنى زبيد يقول: يا معشر قريش، كيف تدخل عليكم المادة أو يجلب إليكم جلب أو يحل تاجر بساحتكم وأنتم تظلمون من دخل عليكم فى حرمكم. يقف على الحلق حلقة حلقة.
حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أصحابه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ومن ظلمك؟
فذكر أنه قدم بثلاثة أجمال كانت خيرة إبله، فسامه أبو جهل ثلث أثمانها ثم لم يسمه بها لأجله سائم، قال: فأكسد على سلعتى وظلمنى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأين أجمالك؟» قال: هى هذه بالحزورة. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم معه وقام أصحابه، فنظر إلى الجمال فرأى جمالا فرها. فساوم الزبيدى حتى ألحقه برضاه، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فباع جملين منها بالثمن، وأفضل بعيرا باعه وأعطى أرامل بنى عبد المطلب ثمنه، وأبو جهل جالس فى ناحية من السوق لا يتكلم. ثم أقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا عمرو، إياك أن تعود لمثل ما صنعت بهذا الأعرابى فترى منى ما تكره» . فجعل يقول: لا أعود يا محمد، لا أعود يا محمد، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عليه أمية بن خلف ومن حضر من القوم، فقالوا: ذللت فى يدى محمد، فإما أن تكون تريد أن تتبعه وإما رعب دخلك منه. قال: لا أتبعه أبدا، إن الذى رأيتم منى لما رأيت معه، لقد رأيت رجالا عن يمينه وشماله معهم رماح يشرعونها إلى، لو خالفته لكانت إياها. أى لأتوا على نفسى.
وذكر محمد بن إسحاق «2» عن أبيه قال: كان ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب أشد قريش، فخلا يوما برسول الله صلى الله عليه وسلم فى بعض شعاب مكة، فقال له: يا ركانة، ألا تتقى الله وتقبل ما أدعوك إليه؟! قال: لو أعلم أن الذى تقول حق لا تبعتك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفرأيت إن صرعتك أتعلم أن ما أقول حق؟ قال: نعم. قال: فقم
__________
(1) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 94- 95) .
(2) انظر: السيرة (1/ 319- 320) .(1/230)
حتى أصارعك. فقام إليه ركانة فصارعه، فلما بطش به رسول الله صلى الله عليه وسلم أضجعه لا يملك من نفسه شيئا، ثم قال: عد يا محمد. فعاد فصرعه. فقال: يا محمد، إن ذا للعجب أتصرعنى!! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأعجب من ذلك إن شئت أن أريكه إن اتقيت الله واتبعت أمرى» ، قال: ما هو؟ قال: «أدعو لك هذه الشجرة التى ترى فتأتينى» . قال:
ادعها. فدعا بها، فأقبلت حتى وقفت بين يدى رسول صلى الله عليه وسلم فقال لها: «ارجعى إلى مكانك، فرجعت إلى مكانها» ، فذهب ركانة إلى قومه فقال: يا بنى عبد مناف، ساحروا بصاحبكم أهل الأرض، فو الله ما رأيت أسحر منه قط. ثم أخبرهم بالذى رأى وصنع «1» .
قال ابن إسحاق «2» : ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة عشرون رجلا أو قريبا من ذلك، من النصارى، يقال: إنهم من أهل نجران، حين بلغهم خبره من الحبشة، فوجدوه فى المسجد، فجلسوا إليه وكلموه وسألوه، ورجال من قريش فى أنديتهم حول الكعبة، فلما فرغوا من مسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أرادوا دعاهم إلى الله وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا له وآمنوا به وصدقوه وعرفوا منه ما كان يوصف لهم فى كتابهم من أمره، فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل فى نفر من قريش، فقالوا لهم: خيبكم الله من ركب! بعثكم من وراءكم من أهل دينكم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه! ما نعلم ركبا أحمق منكم. أو كما قالوا. فقالوا لهم: سلام عليكم لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه، لم نأل أنفسنا خيرا.
فيقال والله أعلم: فيهم نزلت هؤلاء الآيات: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ إلى قوله: لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [القصص:
52، 55] .
فقال «3» : وقد سألت الزهرى فقال: ما زلت أسمع من علمائنا أنهن نزلت فى النجاشى وأصحابه. والآيات من المائدة قول الله عز وجل: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً
__________
(1) انظر الحديث فى: البدآية والنهاية لابن كثير (3/ 103) ، دلائل النبوة للبيهقى (6/ 250) ، أبى داود فى المراسيل (308) ، البيهقى فى السنن الكبرى (10/ 18) .
(2) انظر: السيرة (1/ 320- 321) .
(3) انظر: السيرة (1/ 321) .(1/231)
لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ [المائدة: 82، 83] .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس فى المسجد فجلس إليه المستضعفون من أصحابه، خباب وعمار وأبو فكيهة يسار وصهيب وأشباههم هزئت بهم قريش وقال بعضهم لبعض: هؤلاء أصحابه كما ترون، أهؤلاء من الله عليهم من بيننا بالهدى والحق! لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقنا هؤلاء إليه وما خصهم الله به دوننا.
فأنزل الله عليهم: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام: 52، 54] «1» .
وهؤلاء أيضا، ومن قال بقولهم هم الذين عنى الله سبحانه بقوله: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ [الأحقاف: 11] .
قال ابن إسحاق «2» : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنى كثيرا ما يجلس عند المروة إلى مبيعة غلام نصرانى يقال له: جبر، عبد لبنى الحضرمى، وكانوا يقولون: والله ما يعلم محمدا كثيرا مما يأتى به إلا جبر النصرانى، فأنزل الله فى ذلك من قولهم: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل: 103] «3» .
وكان العاص بن وائل إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعوه، فإنما هو رجل أبتر، لو قد مات لقد انقطع ذكره واسترحتم منه، فأنزل الله عز وجل، فى ذلك من قوله: إِنَّا
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح مسلم كتاب الفضائل (4/ 46) ، سنن ابن ماجه (4127) ، تفسير الطبرى (7/ 127) .
(2) انظر: السيرة (1/ 322) .
(3) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (2/ 357) ، الواحدى فى أسباب النزول (ص 235) ، تفسير الطبرى (14/ 119، 120) .(1/232)
أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الكوثر: 1، 4] «1» ، أى أعطيناك ما هو خير من الدنيا وما فيها. والكوثر العظيم. وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الكوثر الذى أعطاك الله؟ قال: «نهر كما بين صنعاء إلى أيلة آنيته كعدد نجوم السماء ترده طير لها أعناق كأعناق الإبل» . قال عمر بن الخطاب: إنها يا رسول الله لناعمة.
قال: «آكلها أنعم منها» «2» .
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما إلى الإسلام، فقال له زمعة بن الأسود والنضر بن الحارث والأسود بن عبد يغوث وأبى بن خلف والعاص بن وائل: لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويرى معك؟ فأنزل الله فى ذلك: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ [الأنعام: 8، 9] «3» .
ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوليد بن المغيرة وأمية بن خلف وأبى جهل، فهمزوه واستهزأوا به، فغاظه ذلك، فأنزل الله عليه: لا وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الأنعام: 10] «4» .
ذكر الحديث عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال ابن إسحاق «5» : ثم أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى
__________
(1) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (7/ 143) ، أسباب النزول للواحدى (ص 404) .
(2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 220، 221، 236) ، مجمع الزوائد للهيثمى (10/ 360، 361) .
(3) ذكره الشوكانى فى فتح القدير (2/ 147) .
(4) ذكره الشوكانى فى فتح القدير (2/ 148) .
(5) انظر: السيرة (2/ 5- 7) . قلت: ولم يذكر ابن إسحاق تحديد السنة التى وقع فيها الإسراء، وقد تعرض ابن كثير فى البداية والنهاية لذلك، فقال: ذكر ابن عساكر أحاديث الإسراء فى أوائل البعثة، وأما ابن إسحاق فذكرها فى هذا الموطن بعد البعثة بنحو من عشر سنين، وروى البيهقى من طريق موسى بن عقبة، عن الزهرى أنه قال: أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل خروجه إلى المدينة بسنة ... ثم روى عن الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن أسباط بن نصر، عن إسماعيل السدى أنه قال: فرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس ببيت المقدس ليلة أسرى به-(1/233)
وهو بيت المقدس من إيلياء، وقد فشا الإسلام مكة فى قريش وفى القبائل كلها.
فكان من الحديث فيما بلغنى، عن مسراه صلوات الله عليه وسلامه، عن عبد الله بن مسعود، وأبى سعيد الخدرى، وعائشة زوج النبى صلى الله عليه وسلم، ومعاوية بن أبى سفيان، وأم هانىء بنت أبى طالب، والحسن بن أبى الحسن، وابن شهاب الزهرى، وقتادة وغيرهم من أهل العلم ما اجتمع فى هذا الحديث، كل يحدث عنه بعض ما ذكر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسرى به.
وكان فى مسراه وما ذكر منه بلاء وتمحيص وأمر من الله فى قدرته وسلطانه، فيه عبرة لأولى الألباب وهدى ورحمة وثبات لمن آمن وصدق.
وكان من أمر الله على يقين، فأسرى به كيف شاء وكما شاء ليريه من آياته ما أراد، حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم وقدرته التى يصنع بها ما يريد.
فكان عبد الله بن مسعود، فيما بلغنى عنه، يقول أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبراق، وهى الدابة التى كانت تحمل عليها الأنبياء قبله، تضع حافرها فى منتهى طرفها، فحمل عليه، ثم خرج به صاحبه يرى الآيات فيما بين السموات والأرض حتى انتهى إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى فى نفر من الأنبياء عليهم السلام قد جمعوا له، فصلى بهم ثم أتى بثلاثة آنية، إناء فيه لبن، وإناء فيه خمر، وإناء فيه ماء، قال:
فسمعت قائلا يقول: إن أخذ الماء فغرق وغرقت أمته، وإن أخذ الخمر فغوى وغوت أمته، وإن أخذ اللبن هدى وهديت أمته. قال: «فأخذت إناء اللبن فشربت، فقال له جبريل: هديت وهديت أمتك يا محمد» «1» .
قال «2» : وحدثت عن الحسن أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينا أنا نائم فى الحجر
__________
- قبل مهاجره بستة عشر شهرا. فعلى قول السدى يكون الإسراء فى شهر ذى القعدة، وعلى قول الزهرى وعروة يكون فى ربيع الأول. ثم ذكر عن جابر، وابن عباس قالا: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل يوم الإثنين الثانى عشر من ربيع الأول، وفيه بعث وفيه عرج به إلى السماء وفيه هاجر ومات. وفيه انقطاع، ثم ذكر أن المقدسى أورد حديثا لا يصح سند: أن الإسراء كان ليلة السابع والعشرين من رجب والله أعلم. انظر: المنتظم لابن الجوزى (حاشية 3/ 26) تحقيقنا.
(1) ذكره ابن كثير فى تفسيره (5/ 28) ، ابن حجر فى فتح البارى (7/ 256) ، الهيثمى فى المجمع (1/ 78) ، السيوطى فى الخصائص الكبرى (1/ 268، 269) .
(2) انظر: السيرة (2/ 7) .(1/234)
جاءنى جبريل فهمزنى بقدمه، فجلست فلم أر شيئا، فعدت لمضجعى، فجاءنى الثانية فهمزنى بقدمه فجلست فلم أر شيئا، فعدت لمضجعى فجاءنى الثالثة فهمزنى بقدمه فجلست فأخذ بعضدى، فقمت معه فخرج بى إلى باب المسجد، فإذا دابة أبيض، بين البغل والحمار، فى فخذيه جناحان يحفز بهما رجليه. يضع يديه فى منتهى طرفه، فحملنى عليه ثم خرج معى لا يفوتنى ولا أفوته» «1» .
وفى حديث قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لما دنوت منه لأركبه شمش فوضع جبريل يده على معرفته ثم قال: ألا تستحى يا براق مما تصنع! فو الله ما ركبك عبد الله قبل محمد أكرم عليه منه. فاستحيا حتى ارفض عرقا ثم قر حتى ركبته» «2» .
وفى حديث الحسن من انتهاء جبريل بالنبى صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس وإمامته فيه بمن وجد عنده من الأنبياء، على جميعهم السلام، نحو ما تقدم من ذلك فى حديث ابن مسعود.
قال: ثم أتى بإناءين فى أحدهما خمر وفى الآخر لبن، فأخذ إناء اللبن وترك إناء الخمر، فقال له جبريل: هديت للفطرة وهديت أمتك وحرمت عليكم الخمر.
وذكر تحريم الخمر هنا غريب جدا، والذى عليه العلماء أن الخمر إنما حرمت بالمدينة بعد سنين من الهجرة.
قال الحسن: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فلما أصبح غدا على قريش فأخبرهم الخبر. فقال أكثر الناس: هذا والله الإمر البين «3» ، والله إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة وشهرا مقبلة، أفيذهب ذلك محمد فى ليلة واحدة ويرجع إلى مكة!. قال: فارتد كثير ممن كان أسلم، وذهب الناس إلى أبى بكر، فقالوا: هل لك يا أبا بكر فى صاحبك! يزعم أنه جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة.
فقال لهم أبو بكر: إنكم تكذبون عليه. فقالوا: بلى ها هو ذاك فى المسجد يحدث به الناس.
فقال أبو بكر: والله لئن كان قاله لقد صدق، فما يعجبكم من ذلك؟! فو الله إنه
__________
(1) انظر الحديث فى: تفسير الطبرى (15/ 3، 4) .
(2) انظر الحديث فى: سنن الترمذى (3331) ، تفسير الطبرى (15/ 12، 13) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 247) ، مسند الإمام أحمد (3/ 164) .
(3) الإمر البين: هو الأمر العظيم أو الشنيع، وقيل: هو العجب.(1/235)
ليخبرنى أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض فى ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد ما تعجبون منه، ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبى الله، أحدثت هؤلاء أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة؟ قال: «نعم» . قال: يا نبى الله، فصفه لى فإنى قد جئته.
قال الحسن: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فرفع لى حتى نظرت إليه» ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفه لأبى بكر، ويقول أبو بكر: صدقت أشهد أنك رسول الله. كلما وصف له منه شيئا قال: صدقت أشهد رسول الله. حتى إذا انتهى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بكر:
وأنت يا أبا بكر الصديق أشهد أنك. فيومئذ سماه الصديق.
قال الحسن: وأنزل الله فيمن ارتد عن إسلامه لذلك: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً [الإسراء: 60] ، فهذا حديث عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما دخل فيه من حديث قتادة «1» .
قال ابن إسحاق «2» : وحدثنى بعض آل أبى بكر أن عائشة كانت تقول: ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن أسرى بروحه «3» .
وكان معاوية بن أبى سفيان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كانت رؤيا من الله صادقة «4» .
فلم ينكر ذلك من قولهما لقول الحسن إن هذه الآية نزلت فى ذلك، قول الله:
وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ولقوله تعالى فى الخبر عن إبراهيم إذ قال لابنه: يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات: 102] ثم مضى على ذلك، فعرفت أن الوحى من الله يأتى الأنبياء أيقاظا ونياما.
__________
(1) ذكر البخارى فى صحيحه (4716) كتاب التفسير باب وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ، من حديث ابن عباس، قال: هى رؤيا عين رأيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به والشجرة الملعونة هى شجرة الزقوم. وأخرجه أحمد فى مسنده (1/ 221، 370) ، الترمذى فى كتاب التفسير (3134) ، الحاكم فى المستدرك (2/ 362) .
(2) انظر: السيرة (2/ 9) .
(3) ذكره الطبرى فى تفسيره (15/ 13) .
(4) ذكره الطبرى فى تفسيره (15/ 13) .(1/236)
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تنام عينى وقلبى يقظان» «1» . فالله أعلم أى ذلك كان قد جاءه وعاين ما عاين من أمر الله، على أى حاليه كان نائما أو يقظان، كل ذلك حق وصدق.
وزعم الزهرى عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف لأصحابه إبراهيم وموسى وعيسى حين رآهم فى تلك الليلة صلوات الله على جميعهم، فقال: «أما إبراهيم فلم أر رجلا أشبه بصاحبكم، ولا صاحبكم أشبه به منه، وأما موسى فرجل آدم طويل ضرب جعد أقنى كأنه من رجال شنوءة، وأما عيسى ابن مريم فرجل أحمر بين القصير والطويل، سبط الشعر كثير خيلان الوجه كأنه خرج من ديماس تخال رأسه يقطر ماء وليس فيه ماء، أشبه رجالكم به عروة بن مسعود الثقفى» «2» .
قال ابن هشام «3» : وكانت صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر عمر مولى غفرة، عن إبراهيم بن محمد بن على بن أبى طالب، قال: كان علىّ إذا نعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول: لم يكن بالطويل الممغط ولا القصير المتردد، كان ربعة من القوم، ولم يكن بالجعد القطط ولا بالسبط كان جعدا رجلا، ولم يكن بالمطهم ولا بالمكلثم، وكان أبيض مشربا أدعج العينين أهدب الأشفار جليل المشاش والكند دقيق المسربة أجرد شئن الكفين والقدمين، إذا تمشى تقلع كأنما يمشى فى صبب، وإذا التفت التفت معا، بين كتفيه خاتم النبوة، وهو صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين أجود الناس كفا وأجرأ الناس صدرا وأصدق الناس لهجة وأوفى الناس بذمة وألينهم عريكة وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه ومن خالطه معرفة أحبه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله، صلى الله عليه وسلم «4» .
__________
(1) انظر الحديث فى: تفسير الطبرى (15/ 13) .
(2) انظر الحديث فى: تفسير الطبرى (15/ 12) .
(3) انظر: السيرة (2/ 11) .
(4) انظر الحديث فى: سنن الترمذى (3638) ، وقال: حديث حسن غريب ليس إسناده بمتصل. وقال أبو عيسى: سمعت أبا جعفر محمد بن الحسين، يقول: سمعت الأصمعى يقول فى تفسير صفة النبى صلى الله عليه وسلم: الممغط: الذاهب طولا، وقال: سمعت أعرابيا يقول فى كلامه تمغط فى نشابته، أى مدها مدا شديدا. والمتردد: الداخل بعضه فى بعض قصرا. وأما القطط: فالشديد الجعودة. والرجل: الذى فى شعره حجونة، أى تثن قليل. وأما المطهم: فالبادن الكثير اللحم. والمكلثم: المدور الوجه. والمشرب: الذى فى بياضه حمرة. والأدعج: الشديد سواد العين. والأهدب: الطويل الأشفار. والكتد: مجتمع الكتفين وهو الكامل. والمسربة: هو الشعر الدقيق الذى كأنه قضيب من الصدر إلى السربة. والشثن: الغليظ الأصابع من الكفين والقدمين. والتقلع: أن-(1/237)
قال ابن إسحاق «1» : وكان فيما بلغنى عن أم هانىء بنت أبى طالب أنها كانت تقول: ما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو فى بيتى، نام عندى تلك الليلة فصلى العشاء الآخرة ثم نام ونمنا، فلما كان قبيل الفجر أهبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صلى الصبح وصلينا معه قال: يا أم هانىء، لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادى، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ثم قد صليت معكم صلاة الغداة الآن كما ترين، ثم قام ليخرج فأخذت بطرف ردائه، فتكشف عن بطنه وكأنه قبطية مطوية، فقلت: يا نبى الله، لا تحدث بهذا الناس فيكذبوك ويؤذوك، قال: والله لأحدثنهموه. فقلت لجارية لى حبشية: ويحك، اتبعى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تسمعى ما يقول للناس وما يقولون له، فلما خرج إلى الناس أخبرهم فعجبوا وقالوا: ما آية ذلك يا محمد، فإنا لم نسمع بمثل هذا قط؟ قال: آية ذلك أنى مررت بعير بنى فلان بوادى كذا، فأنفرهم حسن الدابة، فند لهم بعير فدللتهم عليه وأنا موجه إلى الشام، ثم أقبلت حتى إذا كانت بضجنان مررت بعير بنى فلان فوجدت القوم نياما ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشىء، فكشفت غطاءه وشربت ما فيه ثم غطيت عليه كما كان، وآية ذلك أن عيرهم الآن تصوب من البيضاء، ثنية التنعيم، يقدمها جمل أورق عليه غرارتان إحداهما سوداء والأخرى برقاء، فابتدر القوم الثنية فلم يلقهم أول من الجمل، كما وصف لهم، وسألوهم عن الإناء فأخبروهم أنهم وضعوه مملوء ماء ثم غطوه، وأنهم هبوا فوجدوه مغطى كما غطوا ولم يجدوا فيه ماء، وسألوا الآخرين وهم بمكة فقالوا: صدق والله، لقد أنفرنا فى الوادى الذى ذكر وندّ لنا بعير، فسمعنا صوت رجل يدعونا إليه حتى أخذناه «2» .
قال ابن إسحاق «3» : وحدثنى من لا أتهم، عن أبى سعيد الخدرى أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لما فرغت مما كان فى بيت المقدس أتى بالمعراج، ولم أر شيئا قط أحسن منه، وهو الذى يمد إليه ميتكم عينيه إذا حضر، فأصعدنى صاحبى فيه حتى انتهى بى إلى باب من أبواب السماء يقال له: باب الحفظة، عليه ملك من الملائكة يقال له:
__________
- يمشى بقوة. والصبب: الحدور، يقال: إنحدرنا فى صبوب وصبب. وقوله: جليل المشاش: يريد رؤس المناكب. العشرة: الصحبة. والعشير: الصاحب. والبديهة: المفاجأة، يقال: بدهته بأمر أى فجأته.
(1) انظر: السيرة (2/ 12- 13) .
(2) انظر الحديث فى: تفسير الطبرى (15/ 2) ، تفسير ابن كثير (5/ 39) ، مجمع الزوائد للهيثمى (1/ 76، 9/ 42) ، عيون الأثر لابن سيد الناس (1/ 174) .
(3) انظر: السيرة (2/ 13) .(1/238)
إسماعيل تحت يديه اثنا عشر ألف ملك تحت يدى كل ملك منهم اثنا عشر ألف ملك.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حدث بهذا الحديث: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر: 31] ، فلما دخل بى قال: «من هذا يا جبريل؟ قال: محمد. قال: أو قد بعث؟
قال: نعم، فدعا لى بخير» . وقاله «1» .
قال «2» : وحدثنى بعض أهل العلم عمن حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ثم تلقتنى الملائكة حين دخلت السماء الدنيا، فلم يلقنى ملك إلا ضاحكا مستبشرا، يقول خيرا ويدعو به، حتى لقينى ملك من الملائكة فقال مثل ما قالوا ودعا بمثل ما دعوا به، إلا أنه لم يضحك، ولم أر منه من البشر مثل ما رأيت من غيره، فقلت لجبريل: من هذا الملك الذى قال لى مثل ما قالت الملائكة ولم يضحك ولم أر منه من البشر مثل الذى رأيت منهم. فقال جبريل: أما إنه لو كان ضحك إلى أحد قبلك أو كان ضاحكا إلى أحد بعدك لضحك إليك، ولكنه لا يضحك، هذا مالك صاحب النار.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقلت لجبريل، وهو من الله بالمكان الذى وصف لكم مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير: 21] ألا تأمره أن يرينى النار؟ فقال: بلى، يا مالك أر محمدا النار، فكشف عنها غطاءها ففارت وارتفعت حتى ظننت لتأخذن ما أرى.
فقلت لجبريل: مره فليردها إلى مكانها. فأمره، فقال لها: اخبى فرجعت إلى مكانها الذى خرجت منه، فما شبهت رجوعها إلا وقوع الظل، حتى إذا دخلت من حيث خرجت رد عليها غطاءها «3» .
قال أبو سعيد الخدرى فى حديثه «4» عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لما دخلت السماء الدنيا رأيت بها رجلا جالسا تعرض عليه أرواح بنى آدم، فيقول لبعضها إذا عرضت عليه خيرا ويسر به، ويقول: روح طيبة خرجت من جسد طيب، ويقول لبعضها إذا عرضت عليه أف، ويعبس بوجهه، روح خبيثة خرجت من جسد خبيث.
قال: قلت: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا أبوك آدم تعرض عليه أرواح ذريته، فإذا
__________
(1) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (2/ 390) ، تفسير ابن كثير (5/ 20، 22) ، البداية والنهاية (3/ 110، 111) ، الكامل فى الضعفاء لابن عدى (5/ 79) .
(2) انظر: السيرة (2/ 14) .
(3) لم أقف على تخريجه، بهذا اللفظ فيما بين يديه من مصادر.
(4) تقدم تخريجه.(1/239)
مرت به روح المؤمن منهم سر بها وإذا مرت به روح الكافر منهم أنف منها وكرهها.
قال: ثم رأيت رجالا لهم مشافر كمشافر «1» الإبل، فى أيديهم قطع من نار كالأفهار «2» يقذفونها فى أفواههم فتخرج من أدبارهم، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟
قال: هؤلاء أكلة أموال اليتامى ظلما.
ثم رأيت رجالا لهم بطون لم أر مثلها قط، بسبيل آل فرعون، يمرون عليهم كالإبل المهيومة «3» حتى يعرضوا على النار، يطأونهم لا يقدرون على أن يتحولوا من مكانهم ذلك. قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا.
ثم رأيت رجالا بين أيديهم لحم سمين طيب إلى جنبه لحم غث منتن، يأكلون من الغث المنتن ويتركون السمين الطيب، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يتركون ما أحل الله لهم من النساء، ويذهبون إلى ما حرم الله عليهم منهن.
ثم رأيت نساء معلقات بثديهن، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء اللاتى أدخلن على الرجال من ليس من أولادهم. قال: ثم صعد بى إلى السماء الثانية فإذا فيها ابنا الخالة عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكريا.
قال: ثم أصعد بى إلى السماء الثالثة فإذا فيها رجل صورته كصورة القمر ليلة البدر، قلت: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا أخوك يوسف بن يعقوب، ثم أصعد بى إلى السماء الرابعة، فإذا فيها رجل، فسألته من هو؟ فقال: هذا إدريس. قال: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا [مريم: 57] .
قال: ثم أصعد بى إلى السماء الخامسة فإذا فيها كهل أبيض الرأس واللحية عظيم العثنون لم أر كهلا أجمل منه. قلت: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا المحبب فى قومه:
هارون بن عمران.
قال: ثم أصعد بى إلى السماء السادسة فإذا فيها رجل آدم طويل أقنى كأنه من رجال شنوءة فقلت: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا أخوك موسى بن عمران.
__________
(1) مشافر: جمع شفر، وهو للبعير كالشفة للإنسان والجعفلة للفرس. انظر: اللسان (مادة شفر) .
(2) الأفهار: جمع فهر بكسر فسكون وهو الحجر قدر ما يدق به الجوز ونحوه وتصغيرها فهير. انظر: اللسان (مادة فهر) .
(3) المهيومة: العطشى، وقيل: هو من الداء، وقيل: الهيم الإبل التى يصيبها داء فلا تروى من الماء.(1/240)
ثم أصعد بى إلى السماء السابعة فإذا كهل جالس على كرسى إلى باب البيت المعمور، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يرجعون فيه إلى يوم القيامة، لم أر رجلا أشبه بصاحبكم ولا صاحبكم أشبه به منه. قلت: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا أبوك إبراهيم.
ثم دخل بى الجنة فرأيت فيها جارية لعساء فسألتها لمن أنت؟ وقد أعجبتنى فقالت:
لزيد بن حارثة. فبشر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا.
ومن حديث عبد الله بن مسعود «1» أن جبريل لم يصعد به إلى سماء من السموات إلا قالوا له حين يستأذن فى دخولها: من هذا يا جبريل؟ فيقول: محمد. فيقولون: أو قد بعث؟ فيقول: نعم. فيقولون حياه الله من أخ وصاحب. حتى انتهى به إلى السماء السابعة، ثم انتهى به إلى ربه، ففرض عليه خمسين صلاة كل يوم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأقبلت راجعا فلما مررت بموسى بن عمران، ونعم الصاحب كان لكم، سألنى: كم فرض عليك من الصلاة؟ فقلت: خمسين صلاة فى كل يوم.
قال: إن الصلاة ثقيلة وإن أمتك ضعيفة، فارجع إلى ربك فسله أن يخفف عنك وعن أمتك. فرجعت فسألت ربى فوضع عنى عشرا، ثم انصرفت فمررت على موسى فقال لى مثل ذلك، فرجعت فسألت ربى فوضع عنى عشرا ثم لم يزل يقول لى مثل ذلك كلما رجعت إليه، فأرجع فأسأل حتى انتهيت إلى أن وضع عنى ذلك إلا خمس صلوات فى كل يوم وليلة.
ثم رجعت على موسى فقال لى مثل ذلك، فقلت: قد راجعت ربى وسألته حتى استحييت منه، فلما أنا بفاعل. فمن أداهن منكم إيمانا واحتسابا لهن كان له أجر خمسين صلاة «2» .
قال ابن إسحاق «3» : فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر الله صابرا محتسبا مؤديا إلى قومه النصيحة، على ما يلقى منهم من التكذيب والأذى والاستهزاء، وكان عظماء المستهزئين خمسة نفر من قومه، وكانوا ذوى أسنان وشرف فى قومهم: الأسود بن المطلب الأسدى، أبو زمعة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنى قد دعا عليه لما كان يبلغه من أذاه
__________
(1) انظر: السيرة (2/ 17) .
(2) انظر الحديث فى: صحيح مسلم كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم (1/ 259) .
(3) انظر: السيرة (2/ 19) .(1/241)
واستهزائه به فقال: «اللهم أعم بصره وأثكله ولده» «1» .
والأسود بن عبد يغوث الزهرى، والوليد بن المغيرة المخزومى، والعاص بن وائل السهى، والحارث بن الطلاطله الخزاعى. فلما تمادوا فى الشر وأكثروا برسول الله صلى الله عليه وسلم الاستهزاء أنزل الله عليه: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر: 94، 96] .
فأتى جبريل عليه السلام، رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يطوفون بالبيت، فقام وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه، فمر به الأسود بن المطلب فرمى فى وجهه بورقة خضراء فعمى، وسيأتى بعد أنه أصيب له يوم بدر ثلاثة من ولده، ابناه زمعة وعقيل وابن ابنه الحارث بن زمعة، فاستوفى الله سبحانه بذلك فيه لرسوله صلى الله عليه وسلم إجابة دعوته عليه بالعمى والثكل.
ثم مر به الأسود بن عبد يغوث فأشار إلى بطنه فاستسقى بطنه فمات منه حبنا، وعن غير ابن إسحاق أنه لما نزل: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر: 95] نزل جبريل عليه السلام، فحنا ظهر الأسود بن عبد يغوث الزهرى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خالى خالى فقال له جبريل: خله عنك، ثم حناه حتى قتله.
قال ابن إسحاق: ومر به الوليد بن المغيرة فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعب رجله أصابه قبل ذلك بسنين وهو يجر سبله، فانتقض به فقتله. ومر به العاص بن وائل فأشار إلى أخمص رجله، فخرج على حمار له يريد الطائف فربض به على شبرقة فدخلت فى أخمص رجله شوكة فقتلته. ومر به الحارث بن الطلاطلة فأشار إلى رأسه فامتخض قيحا فقتله «2» .
قال «3» : وكان النفر الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بيته أبو لهب، والحكم بن أبى العاص بن أمية، وعقبة بن أبى معيط، وعدى ابن حمراء الثقفى، وابن الأصداء الهذلى، وكانوا جيرانه لم يسلم أحد منهم إلا الحكم.
فكان أحدهم فيما ذكر لى، يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلى، وكان أحدهم يطرحها فى برمته إذا نصبت له حتى اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرا يستتر به منهم إذا
__________
(1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 105) ، تفسير الطبرى (14/ 48) ، تفسير ابن كثير (4/ 470) .
(2) انظر الحديث فى: تفسير ابن كثير (4/ 470) ، تفسير الطبرى (14/ 48) .
(3) انظر: السيرة (2/ 26) .(1/242)
صلى. فكان صلى الله عليه وسلم إذا طرحوا عليه ذلك الأذى يخرج به على العود فيقف به على بابه ثم يقول: يا بنى عبد مناف أى جوار هذا؟! ثم يلقيه فى الطريق «1» .
قال ابن إسحاق «2» : ثم إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا فى عام واحد، فتتابعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المصائب بهلك خديجة، وكانت له وزير صدق على الإسلام، يسكن إليها، وبمهلك أبى طالب عمه، وكان له عضدا وحرزا فى أمره ومنعة وناصرا على قومه، وذلك قبل مهاجره إلى المدينة بثلاث سنين.
فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تكن تطمع به فى حياة أبى طالب، حتى اعترضاه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه ترابا، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهى تبكى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها: «لا تبكى يا بنية، فإن الله مانع أباك.
ويقول بين ذلك: ما نالت منى قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب» «3» .
قال: ولما اشتكى أبو طالب وبلغ قريشا ثقله قال بعضها لبعض: إن حمزة وعمر قد أسلما، وقد فشا أمر محمد فى قبائل قريش كلها، فانطلقوا بنا إلى أبى طالب فليأخذ لنا على ابن أخيه ولنعطه منا فإنا والله ما نأمن أن يبتزونا «4» أمرنا.
فمشوا إلى إبى طالب فكلموه، وهم أشراف قومه، عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل ابن هشام، وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب فى رجال من أشرافهم، فقالوا: يا أبا طالب، إنك منا حيث قد علمت، وقد حضرك ما ترى وتخوفنا عليك، وقد علمت الذى بيننا وبين ابن أخيك، فادعه وخذ له منا وخذ لنا منه ليكف عنا ونكف عنه وليدعنا وديننا وندعه ودينه، فبعث إليه أبو طالب فجاء فقال: يا ابن أخى، هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليعطوك وليأخذوا منك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم كلمة واحدة تعطونيها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم. فقال أبو جهل: نعم وأبيك، وعشر كلمات، قال: تقولون: لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه.
__________
(1) انظر الحديث فى: طبقات ابن سعد (1/ 201) ، تاريخ الطبرى (1/ 553) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 134، 135) .
(2) انظر: السيرة (1/ 27) .
(3) انظر الحديث فى: تاريخ الطبرى (1/ 553) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 122) .
(4) يبتزونا: البز هو السلب ومعناه يسلبوننا إياه ويغلوبننا عليه.(1/243)
قال: فصفقوا بأيديهم ثم قالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلها واحدا؟! إن أمرك لعجب. ثم قال بعضهم لبعض: والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه. ثم تفرقوا «1» .
فقال أبو طالب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: والله يا ابن أخى ما رأيتك سألتهم شططا. فلما قالها طمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه فجعل يقول له: أى عم، فأنت فقلها أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة. فلما رأى حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا ابن أخى والله لولا مخافة السبة عليك وعلى بنى أبيك من بعدى، وأن تظن قريش أنى إنما قلتها جزعا من الموت لقلتها، لا أقولها إلا لأسرك به. فلما تقارب من أبى طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه فأصغى إليه بأذنيه، فقال: يا ابن أخى، والله لقد قال أخى الكلمة التى أمرته أن يقولها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم أسمع» «2» .
وخرج مسلم بن الحجاج فى صحيحه من حديث المسيب بن حزن قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبى أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عم قل: لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله» ، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبى أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟! فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» «3» .
فأنزل الله عز وجل: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ [التوبة: 113] . وأنزل فى أبى طالب فقال لرسوله صلى الله عليه وسلم: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص: 56] .
وفى الصحيح أيضا أن العباس قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبا طالب كان يحوطك
__________
(1) انظر الحديث فى: المستدرك للحاكم (2/ 432) ، تفسير الطبرى (23/ 79) ، البيهقى فى السنن الكبرى (9/ 188) ، أسباب النزول للواحدى (ص 309) .
(2) انظر الحديث فى: فتح البارى لابن حجر (7/ 234) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 123) .
(3) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (2/ 119) ، صحيح مسلم كتاب الإيمان (39) ، طبقات ابن سعد (1/ 1/ 77) ، تفسير ابن كثير (6/ 256) ، الدر المنثور للسيوطى (5/ 134) ، تفسير القرطبى (8/ 272) ، تفسير الطبرى (11/ 30) .(1/244)
وينصرك ويغضب لك، فهل ينفعه ذلك؟ قال: «نعم، وجدته فى غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح» «1» .
وفيه أيضا من حديث أبى سعيد الخدرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب، فقال: «لعله تنفعه شفاعتى يوم القيامة فيجعل فى ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلى منه دماغه» «2» .
وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أهون أهل النار عذابا أبو طالب، وهو منتعل بنعلين يغلى منهما دماغه» «3» .
ويروى أن أبا طالب لما حضرته الوفاة جمع إليه وجوه قريش فأوصاهم فقال: يا معشر قريش، أنتم صفوة الله من خلقه وقلب العرب، فيكم السيد المطاع وفيكم المقدم الشجاع والواسع الباع، واعلموا أنكم لم تتركوا للعرب فى المآثر نصيبا إلا احتزتموه، ولا شرفا إلا أدركتموه، فلكم بذلك على الناس الفضيلة، ولهم به إليكم الوسيلة، وإنى أوصيكم بتعظيم هذه البنية فإن فيها مرضاة للرب وقواما للمعاش وثباتا للوطأة، صلوا أرحاكم ولا تقطعوها فإن فى صلة الرحم منسأة فى الأجل وزيادة فى العدد، واتركوا البغى والعقوق ففيهما هلكت القرون قبلكم، أجيبوا الداعى وأعطوا السائل فإن فيهما شرف الحياة والممات، عليكم بصدق الحديث وأداء الأمانة، فإن فيها محبة فى الخاص ومكرمة فى العام، وإنى أوصيتم بمحمد خيرا فإنه الأمين فى قريش والصديق فى العرب، وهو الجامع لكل ما أوصيتكم به، وقد جاء بأمر قبله الجنان وأنكره اللسان مخافة الشنآن، وأيم الله لكأنى أنظر إلى صعاليك العرب وأهل البر فى الأطراف والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته وصدقوا كلمته وعظموا أمره، فخاض بهم غمرات الموت
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح مسلم (195) ، مسند الحميدى (460) .
(2) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (5/ 66، 8/ 144) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (10/ 513) ، دلائل النبوة للبيهقى (2/ 347) ، كنز العمال للمتقى الهندى (34092) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 125) ، تفسير القرطبى (8/ 163) ، فتح البارى لابن حجر (11/ 417) ، السلسلة الصحيحة للألبانى (1/ 54) .
(3) انظر الحديث فى: صحيح مسلم كتاب الإيمان (362) ، مسند الإمام أحمد (1/ 290) ، مستدرك الحاكم (4/ 581) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (5668) ، مسند أبو عوانة (1/ 98) ، دلائل النبوة للبيهقى (2/ 348) ، كنز العمال للمتقى الهندى (91512) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 125) .(1/245)
فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا ودورها خرابا وضعفاؤها أربابا وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه، وأبعدهم منه أخطأهم عنده، قد محضته العرب ودادها وأعطته قيادها، دونكم يا معشر قريش ابن أبيكم، كونوا له ولاة ولحزبه حماة، والله لا يسلك أحد منهم سبيله إلا رشد، ولا يأخذ أحد بهديه إلا سعد، ولو كان لنفسى مدة ولأجلى تأخير لكففت عنه الهزاهز ولدافعت عنه الدواهى.
ذكر خروج النبى صلى الله عليه وسلم إلى الطائف بعد مهلك عمه أبى طالب
قال ابن إسحاق «1» : ولما هلك أبو طالب ونالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم تكن تنال منه فى حياته، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وحده يلتمس النصرة من ثقيف والمنعة بهم من قومه، ورجا أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله.
فلما انتهى إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ، سادة ثقيف وأشرافهم، وهم إخوة ثلاثة، عبد ياليل ومسعود وخبيب، بنو عمرو بن عمير بن عقدة بن غيرة بن عوف بن ثقيف، وعند أحدهم امرأة من قريش من بنى جمح، فجلس إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام والقيام على من خالفه من قومه، فقال له أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك؛ وقال الآخر: أما وجد الله أحدا يرسله غيرك! وقال الثالث: والله لا أكلمك أبدا! لئن كنت رسولا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغى لى أن أكلمك، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف، وقد قال لهم فيما ذكر لى: إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا على. وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه فيذئرهم ذلك عليه. فلم يفعلوا، أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس.
قال موسى بن عقبة: وقعدوا له صفين على طريقه، فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين صفيهم جعل لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة، حتى أدموا رجليه.
وزاد سليمان التيمى أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أذلقته الحجارة قعد إلى الأرض فيأخذون بعضديه فيقيمونه، فإذا مشى رجموه وهم يضحكون!.
__________
(1) انظر: السيرة (2/ 29) .(1/246)
قال ابن عقبة: فخلص منهم ورجلاه تسيلان دما فعمد إلى حائط من حوائطهم فاستظل فى ظل حبلة منه وهو مكروب موجع، وإذا فى الحائط عتبة وشيبة ابنا ربيعة، فلما رآهما كره مكانهما لما يعلم من عداوتهما لله ورسوله.
وذكر ابن إسحاق «1» : أن الحائط كان لهما، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اطمأن، يعنى فى ظل الحبلة، قال: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتى، وقلة حيلتى، وهوانى على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربى، إلى من تكلنى؟ إلى بعيد يتجهمنى أم إلى عدو ملكته أمرى؟ إن لم يكن بك على غضب فلا أبالى ولكن عافيتك هى أوسع لى، أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بى غضبك أو يحل على سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك» «2» .
قال: فلما رآه ابنا ربيعة وما لقى، تحركت له رحمهما، فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له: عداس، فقالا له: خذ قطفا من هذا العنب، فضعه فى هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له يأكل منه. ففعل عداس، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: له: كل. فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يده قال: بسم الله ثم أكل، فنظر عداس فى وجهه ثم قال له: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أى البلاد أنت يا عداس وما دينك؟ قال: نصرانى وأنا من أهل نينوى «3» . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أمن قرية الرجل الصالح يونس ابن متى؟ قال له عداس: وما يدريك ما يونس ابن متى؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك أخى كان نبيا وأنا نبى. فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه. فلما جاءهما عداس قالا له: ويلك، مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال: يا سيدى ما فى الأرض شىء خير من هذا، لقد أعلمنى بأمر لا يعلمه إلا نبى. قالا: ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك فإن دينك خير من دينه «4» .
__________
(1) انظر: السيرة (2/ 30) .
(2) انظر الحديث فى: تفسير الطبرى (1/ 80، 81) ، وضعفه الألبانى فى ضعيف الجامع (1/ 358) .
(3) نينوى: هى قرية يونس بن متى عليه السلام بالموصل وبسواد الكوفية، ناحية يقال لها نينوى منها كربلاء.
(4) انظر تخريج الحديث السابق.(1/247)
وقد خرج البخارى ومسلم من حديث عائشة رضى الله عنها، أنها قالت للنبى صلى الله عليه وسلم:
هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ فقال: «لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسى على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبنى إلى ما أردت، فانطلقت على وجهى وأنا مهموم، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسى فإذا أنا بسحابة قد أظلتنى، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام، فنادانى وقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم» . فنادانى ملك الجبال فسلم على فقال: يا محمد ذلك لك، فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين. فقال النبى صلى الله عليه وسلم: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا» «1» .
وذكر ابن هشام «2» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف عن أهل الطائف، ولم يجيبوه إلى ما دعاهم إليه من تصديقه ونصرته، سار إلى حراء، ثم بعث إلى الأخنس بن شريق ليجيره، فقال: أنا حليف والحليف لا يجير. فبعث إلى سهيل بن عمرو فقال: إن بنى عامر لا تجير على بنى كعب. فبعث إلى المطعم بن عدى فأجابه إلى ذلك، ثم تسلح المطعم وأهل بيته، وخرجوا حتى أتوا المسجد، ثم بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ادخل. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت وصلى عنده ثم انصرف إلى منزله.
ولأجل هذه السابقة التى سبقت للمطعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أسارى بدر: لو كان المطعم بن عدى حيّا ثم كلمنى فى هؤلاء النتنى، لتركتهم له.
وفى انصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف، راجعا إلى مكة حين يئس من خير ثقيف مر به النفر من الجن الذين ذكر الله تعالى، فى كتابه ورسول الله صلى الله عليه وسلم بنخلة «3» قد قام من جوف الليل يصلى، فمر به أولئك النفر من الجن فيما ذكر ابن إسحاق قال: وهم فيما ذكر لى سبعة نفر من جن أهل نصيبين، فاستمعوا له، فلما فرغ من صلاته ولوا إلى
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (4/ 139) ، صحيح مسلم كتاب الجهاد (112) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (9/ 88) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (5848) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 166) ، كنز العمال للمتقى الهندى (31982) ، تفسير ابن كثير (3/ 259) .
(2) انظر: السيرة (2/ 31) .
(3) نخلة: موضع على ليلة من مكة، وكان بها لقريش وبنى كنانة بعض الطواغيت التى كانت تعظمها مع الكعبة لأنهم قالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً فكانت لهم بيوت تعظمها وتطوف بها كطوافها بالكعبة. انظر الروض المعطار (ص 576) .(1/248)
قومهم منذرين، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا، فقص الله خبرهم عليه صلى الله عليه وسلم «1» ، قال عز من قائل: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف: 29، 31] .
ذكر عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه على قبائل العرب
قال ابن إسحاق «2» : ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه، إلا قليلا مستضعفين ممن آمن به.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه فى المواسم إذا كانت على قبائل العرب، يدعوهم إلى الله ويخبرهم أنه نبى مرسل، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين عن الله ما بعثه به «3» .
قال ربيعة بن عباد الدؤلى: إنى لغلام شاب مع أبى بمنى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل من العرب فيقول: يا بنى فلان إنى رسول الله إليكم يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بى وتصدقونى وتمنعونى حتى أبين عن الله ما بعثنى به، وخلفه رجل أحول وضىء له غديرتان، عليه حلة عدنية، فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله، وما دعا إليه قال ذلك الرجل: يا بنى فلان إن هذا يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم، وحلفاءكم من الجن من بنى مالك بن أقيش إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه.
قال ربيعة: فقلت لأبى: من هذا الرجل الذى يتبعه يرد عليه ما قال؟ قال: هذا عمه
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (4/ 240) ، سنن الترمذى (3379) .
(2) انظر: السيرة (2/ 33) .
(3) انظر الحديث فى: الكامل فى التاريخ لابن الأثير (2/ 93) ، عيون الأثر لابن سيد الناس (2/ 257) .(1/249)
عبد العزى بن عبد المطلب، أبو لهب «1» .
وعن غير ربيعة «2» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى كندة فى منازلهم، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فأبوا عليه «3» .
وأتى كلبا فى منازلهم إلى بطن منهم يقال لهم بنو عبد الله، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه حتى إنه ليقول لهم: «يا بنى عبد الله: إن الله قد أحسن اسم أبيكم» . فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم «4» .
وعرض نفسه على بنى حنيفة فلم يك أحد من العرب أقبح ردا عليه منهم «5» .
ذكر الواقدى بإسناد له عن عامر بن سلمة الحنفى، وكان قد أسلم فى آخر عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: نسأل الله عز وجل، أن لا يحرمنا الجنة، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءنا ثلاثة أعوام بعكاظ وبمجنة وبذى المجاز يدعونا إلى الله عز وجل، وأن نمنع له ظهره حتى يبلغ رسالات ربه، ويشرط لنا الجنة، فما استجبنا له ولا رددنا جميلا، لقد أفحشنا عليه وحلم عنا.
قال عامر: فرجعت إلى حجر فى أول عام فقال لى هوذة بن على: هل كان فى موسمكم هذا خبر؟ فقلت: رجل من قريش يطوف على القبائل، يدعوهم إلى الله وحده، وإلى أن يمنعوا ظهره حتى يبلغ رسالة ربه ولهم الجنة. فقال هوذة: من أى قريش؟ قلت: هو من أوسطهم نسبا من بنى عبد المطلب.
قال هوذة: أهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب؟ قلت: هو هو. قال: أما إن أمره سيظهر على ما ها هنا، فقلت: ها هنا قط من بين البلدان؟ قال: وغير ما ها هنا.
ثم وافيت السنة الثانية فقدمت حجرا، فقال: ما فعل الرجل؟ فقلت: رأيته على حاله فى العام الماضى. قال: ثم وافيت فى السنة الثالثة وهى آخر ما رأيته، وإذا بأمره قد أمر،
__________
(1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 492، 493) ، مستدرك الحاكم (1/ 15) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 35) ، تاريخ الطبرى (1/ 556) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 138) .
(2) ذكر فى السيرة (2/ 34) هذا الحديث عن ابن شهاب الزهرى.
(3) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 139) ، تاريخ الطبرى (1/ 556) .
(4) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (2/ 418) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 139) ، تاريخ الطبرى (1/ 556) .
(5) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 139) ، تاريخ الطبرى (1/ 556) .(1/250)
وإذا ذكره كثير فى الناس، وأسمع أن الخزرج تبعته، فقدمت حجرا، فقال لى هوذة: ما فعل الرجل؟ فقلت: رأيت أمره قد أمر ورأيت قومه عليه أشداء. فقال هوذة: هو الذى قلت لك، ولو أنا تبعناه كان خيرا لنا، ولكنا نضن بملكنا. وكان قومه قد توجوه وملكوه.
قال عامر: فمر بى سليط بن عمرو العامرى، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هوذة، فضيفته وأكرمته وأخبرنى من خبر هوذة، أنه لم يسلم، وقد رد ردا دون رد. قال:
فأخبرت سليطا خبرى لهوذة، فأخبره سليط رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلم عامر بن سلمة، ومات هوذة بن على سنة ثمان من الهجرة كافرا على نصرانيته. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى عبس إلى الإسلام فلم يقبلوا.
قال أبو وابصة العبسى فيما ذكر الواقدى: جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى منزلنا بمنى، فدعانا إلى الله، فو الله ما استجبنا له، وما خير لنا، وكان معنا ميسرة بن مسروق العبسى فقال لنا: أحلف بالله لو صدقنا هذا الرجل وحملناه حتى نحل به وسط رحالنا لكان الرأى. فقال له القوم: من بين العرب نفعل هذا؟ قال: نعم من بين العرب، فأحلف بالله ليظهرن أمره، حتى يبلغ كل مبلغ. فقال له القوم: دعنا منك لا تعرضنا لما لا قبل لنا به.
وطمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ميسرة، فكلمه، فقال ميسرة: ما أحسن كلامك وأنوره، ولكن قومى يخالفوننى، وإنما الرجل بقومه. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج القوم صادرين إلى أهليهم، فقال لهم ميسرة: ميلوا بنا إلى فدك فإن بها يهود، نسألهم عن هذا الرجل. فمالوا إلى يهود، فأخرجوا سفرا لهم فوضعوه، ثم درسوا ذكر النبى صلى الله عليه وسلم، الأمى العربى يركب الحمار ويجتزىء بالكسرة، وليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بالجعد ولا بالبسط، فى عينيه حمرة مشرب اللون. قالوا: فإن كان هذا الذى دعاكم فأجيبوه، وادخلوا فى دينه، فإنا نحسده ولا نتبعه ولنا منه فى مواطن بلاء عظيم، ولا يبقى فى العرب أحد إلا تبعه أو قتله، فكونوا ممن يتبعه.
قال ميسرة: يا قوم والله ما بقى شىء، إن هذا لأمر بين. قال القوم: نرجع إلى الموسم ونلقاه، ورجع القوم إلى بلادهم، فأبى ذلك عليهم رجالهم، فلم يتبعه أحد منهم، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجرا وحج حجة الوداع لقيه ميسرة، فعرفه فقال: يا رسول الله، والله مازلت حريصا على اتباعك منذ يوم رأيتك أنخت بنا حتى(1/251)
كان ما كان، وأبى الله عز وجل، إلا ما ترى من تأخر إسلامى، وقد مات عامة النفر الذين كانوا معى، فأين مدخلهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات على غير الإسلام فهو فى النار» . فقال ميسرة: الحمد لله الذى تنقدنى. فأسلم، فحسن إسلامه، وكان له عند أبى بكر الصديق رضى الله عنه، مكان.
وعن ابن إسحاق «1» : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بنى عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم نفسه، فقال رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس: والله لو أنى أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال له: أرأيت إن تابعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: «الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء» . قال: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك «2» .
فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم أدركته السن حتى لا يقدر أن يوافى معهم موسمهم، فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه بما يكون فى ذلك الموسم، فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان فى موسمهم، فقالوا جاءنا فتى من قريش ثم أحد بنى عبد المطلب يزعم أنه بنى، يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا.
فوضع الشيخ يديه على رأسه ثم قال: يا بنى عامر، هل لنا من تلاف، هل لذباباها من مطلب؟ «3» والذى نفس فلان بيده ما تقولها إسماعيلى قط وإنها لحق، فأين رأسكم كان عنكم؟!.
وزاد الواقدى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قام عن بنى عامر وانصرف إلى راحلته ليركبها أتاه بيجرة، ونسبه الواقدى: بيجرة بن عبد الله بن سلمة، ورجلان معه فنخسوا به راحلته حتى سقط عنها، ويقال: قطعوا بطان راحلته.
قال: فقامت امرأة منهم يقال لها: ضباعة بنت قرط، وكانت قد أسلمت وكانت تحت عبد الله بن جدعان، فكرهته ففارقها وخلف عليها بعده هشام بن المغيرة، وهى أم ابنه سلمة، وصاحت: يا بنى عامر أيؤذى محمد وأنا شاهدة؟! فقام إليهم غطيف
__________
(1) انظر: السيرة (2/ 34- 35) .
(2) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 139، 140) ، تاريخ الطبرى (1/ 556) .
(3) قال السهيلى فى الروض الأنف (2/ 181) : هو مثل يضرب لما فاته منها، وأصله: من ذنابى الطائر إذا أفلت من حباله فطلبت الأخذ بذنابيه.(1/252)
وغطفان ابنا سهيل وعذرة بن عبد الله بن سلمة بن قشير، فضربوهم حتى هزموهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم صنعوا ما صنعوا: اللهم بارك على هؤلاء، والعن هؤلاء الآخرين. فأسلم الذين بارك عليهم جميعا ومات الذين لعن وهم كفار.
وذكر الواقدى أيضا، من حديث جهم بن أبى جهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على بنى عامر يدعوهم إلى الله، فقام رجل منهم فقال له: عجبا لك والله، أعياك قومك ثم أعياك أحياء العرب كلها، حتى تأتينا وتردد علينا مرة بعد مرة! والله لأجعلنك حديثا لأهل الموسم.
ونهض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان جالسا فكسر الله عز وجل ساقه، فجعل يصيح من رجله، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه. قال الواقدى بإسناد ذكره: وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم غسان فى منازلهم بعكاظ، وهم جماعة كثيرة، فجلس إليهم فدعاهم إلى الله تعالى، أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا.
قال: وأن تمنعوا لى ظهرى حتى أبلغ رسالات ربى ولكم الجنة. فقال رجل منهم:
هذا والله يا قوم الذى تذكر النصارى فى كتبها والذى يقولون: بقى من الأنبياء نبى اسمه أحمد، فتعالوا نؤمن به ونتبعه فنكون من أنصاره وأوليائه، فإنهم يزعمون أنه يظهر على ما بلغ الخف والحافر، فيجتمع لنا شرف الدنيا مع ما يكون بعد الموت.
قال القوم: فنكون نحن أول العرب دخل فى هذا الأمر فتنصب لنا العرب قاطبة ويبلغ ملوك بنى الأصفر فيخرجوننا من ديارهم، ولكننا نقف عنه وننظر ما تصنع العرب، ثم ندخل فيما يدخل فيه الناس.
قال الرجل: يا محمد تأبى عشيرتى أن يتبعوا قولى فيك، ولو أطاعونى رشدوا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذه القلوب بيد الله عز وجل. فانصرف عنهم، ثم عاد بعد ذلك إليهم فدعاهم إلى الإسلام فقالوا: نرجع إلى من وراءنا ثم نلقاك قابلا.
فرجعوا فوفد منهم نفر إلى الحارث بن أبى شمر، فذكروا له أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال الحارث: إياكم أن يتبعه رجل منكم، إذا يبيد ملكى من الشام ويتهمنى هرقل.
قال: فأمسكوا عن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى محارب بن خصفة بعكاظ فوجدهم فى محالهم فيهم شيخ منهم وهو جالس فى أصحابه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن راحلته ودعا إلى الله(1/253)
وطلب المنعة حتى يبلغ رسالات ربه، فرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبح الرد وقال له: عجبا لك! يأبى قومك أن يتبعوك، وتأتى إلى محارب تدعوهم إلى ترك ما كان عليه آباؤهم! اذهب فإنه غير متبعك رجل من محارب آخر الدهر.
ويقبل إليه سفيه منهم فقال: يا محمد، ما فى بطن ناقتى هذه إن كنت صادقا؟
فلعمرى إنك لتدعى من العلم أعظم مما سألتك عنه، تزعم أن الله يوحى إليك ويكلمك.
فأسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل إليه رجل منهم يقال له: سلمة بن قيس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا قريبا من منزلهم، فأراد أن يطرحه فى البئر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنحى عن البئر، فجعل سلمة يقول: لو وقعت فى البئر استراح منك أهل الموسم. وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بزمام راحلته يقودها وهم يرمونها بالحجارة حتى توارى عنهم وهو يقول: «اللهم إنك لو شئت لم يكونوا هكذا، وإن قلوبهم بيدك وأنت أعلم بهم، فإن كان هذا عن سخط بك على فلك العتبى، ولا حول ولا قوة إلا بك» .
وذكر قاسم بن ثابت بن حزم العوفى من حديث عبد الله بن عباس، عن على بن أبى طالب رضى الله عنه، أنه قال: لما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا معه وأبو بكر الصديق؛ حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب فتقدم أبو بكر فسلم وكان رجلا نسابة ومقدما فى كل خير، فقال: ممن القوم؟ قالوا: من ربيعة. قال:
ومن رأى ربيعة؟ أمن هامتها أم من لهازمها: قالوا: بل من هامتها العظمى، قال: وأى هامتها العظمى أنتم؟ قالوا: ذهل الأكبر «1» .
فذكر الحديث فى مناسبة أبى بكر إياهم ومقاولته لهم، وانبراء دغفل بن حنظلة النسابة إليهم من بينهم وهو يومئذ غلام حين بقل وجهه، وموافقته لأبى بكر، حتى اجتذب أبو بكر زمام الناقة ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حديث مشهور تركته لشهرته، مع أن المقصود فيما بعده.
قال على بن أبى طالب رضى الله عنه: ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليهم السكينة والوقار، فتقدم أبو بكر فسلم وكان مقدما فى كل خير، فقال: ممن القوم؟ قالوا: من شيبان بن ثعلبة، فالتفت أبو بكر إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: بأبى أنت وأمى هؤلاء غرر فى قومهم. وفيهم مفروق بن عمرو وهانىء بن قبيصة والمثنى بن حارثة والنعمان بن شريك، وكان مفروق بن عمرو قد غلبهم جمالا ولسانا، وكانت له غديرتان تسقطان على تربيتيه وكان أدنى القوم مجلسا من أبى بكر.
__________
(1) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 184- 185) .(1/254)
فقال له أبو بكر: كيف العدد فيكم؟ قال له مفروق: إنا لنزيد على ألف ولن تغلب ألف من قلة. فقال أبو بكر: فكيف المنعة فيكم؟ قال: علنيا الجهد ولكل قوم جد، قال أبو بكر: فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم؟ فقال مفروق: إنا لأشد ما نكون غضبا حين نلقى، وإنا لأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد والسلاح على اللقاح والنصر من عند الله، يديلنا مرة ويديل علينا، لعلك أخو قريش؟.
فقال أبو بكر: أو قد بلغكم أنه رسول الله؟ فها هو ذا. فقال مفروق: قد بلغنا أنه يذكر ذلك، فالإم تدعو يا أخا قريش؟.
فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنى رسول الله، وإلى أن تتؤونى وتنصرونى، فإن قريشا قد ظاهرت على أمر الله وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغنى الحميد» .
فقال مفروق: وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام: 151] .
فقال مفروق: وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90] .
فقال مفروق: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك. وكأنه أراد أن يشركه فى الكلام هانىء بن قبيصة.
فقال: وهذا هانىء بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا.
فقال هانىء: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وإنى أرى أن تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك، لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر، زلة فى الرأى وقلة نظر فى العاقبة، وإنما تكون الزلة مع العجلة، ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقدا، ولكن ترجع ونرجع وتنظر وننظر. وكأنه أحب أن يشركه فى الكلام المثنى بن حارثة فقال:
وهذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا.
فقال المثنى: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب هو جواب هانىء بن قبيصة(1/255)
فى ترك ديننا واتباعنا إياك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر وإنما منزلنا بين صريى اليمامة والسمامة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذان الصريان؟ فقال: أنهار كسرى ومياه العرب، فأما ما كان من أنهار كسرى فذنب صاحبه غير مغفور وعذره غير مقبول، وأما ما كان من مياه العرب فذنب صاحبه مغفور وعذره مقبول، وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى أن لا نحدث حدثا ولا نؤوى محدثا، وإنى أرى أن هذا الأمر الذى تدعونا إليه هو مما تكرهه الملوك، فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلى مياه العرب فعلنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أسأتم فى الرد إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم وأموالهم ويفرشكم نساءهم أتسبحون الله وتقدسونه؟» فقال النعمان:
اللهم لك ذا.
فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً [الأحزاب: 45] . ثم نهض النبى صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدى فقال: يا أبا بكر، يا أبا حسن، أية أخلاق فى الجاهلية! ما أشرفها! بها يدفع الله بأس بعضهم عن بعض وبها يتحاجزون فيما بينهم «1» .
قال ابن إسحاق «2» : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك من أمره كلما اجتمع له الناس بالموسم أتاهم يدعو القبائل إلى الله وإلى الإسلام ويعرض عليهم نفسه وما جاء به من الله تعالى من الهدى والرحمة، ولا يسمع بقادم قدم مكة من العرب له اسم وشرف إلا تصدى له فدعاه إلى الله وعرض عليه ما عنده.
وقدم سويد بن صامت «3» أخو بنى عمرو بن عوف مكة حاجا أو معتمرا، فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه إلى الله وإلى الإسلام فقال له سويد: فلعل الذى معك مثل الذى معى.
__________
(1) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 184- 185) .
(2) انظر: السيرة (2/ 35) .
(3) هو: سويد بن الصامت الأوسى، لقى النبى صلى الله عليه وسلم بسوق ذى المجاز من مكة فى حجة حجها سويد على ما كانوا يحجون عليه فى الجاهلية. انظر ترجمته فى: الاستيعاب (2/ 235، 236) الترجمة رقم (1121) .(1/256)
قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما الذى معك؟» قال: مجلة لقمان «1» ، يعنى حكمة لقمان.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعرضها على فعرضها عليه. فقال: «إن هذا الكلام حسن والذى معى أفضل من هذا، قرآن أنزله الله على هو هدى ونور» .
فتلا عليه القرآن ودعاه إلى الإسلام، فلم يبعد منه، وقال: إن هذا القول حسن. ثم انصرف عنه فقدم المدينة على قومه، فلم يلبث أن قتلته الخزرج قبل بعاث. فإن كان رجال من قومه ليقولون: إنا لنراه قد قتل وهو مسلم «2» .
وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل، لجلده وشعره وشرفه ونسبه وهو القائل:
ألا رب من تدعو صديقا ولو ترى ... مقاتله بالغيب ساءك ما يفرى
مقالته كالشهد ما كان شاهدا ... وبالغيب مأثور على ثغرة النحر
يسرك باديه وتحت أديمه ... نميمة غش تبترى عقب الظهر «3»
تبين لك العينان ما هو كاتم ... من الغل والبغضاء بالنظر الشزر
فرشنى بخير طال ما قد بريتنى ... وخير الموالى من يريش ولا يبرى
ولما قدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة ومعه فتية من بنى عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم فجلس إليهم فقال لهم: هل لكم فى خير مما جئتم له؟ فقالوا له: وما ذاك؟ قال:
أنا رسول الله بعثنى إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا وأنزل على الكتاب. ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن.
__________
(1) قال السهيلى فى الروض الأنف (2/ 183) : مجلة لقمان وهى الصحيفة وكأنها مفصلة من الجلال والجلالة: أما الجلالة فمن صفة المخلوق، والجلال من صفة الله تعالى وقد أجاز بعضهم أن يقاس المخلوق: جلا وجلالة وأنشد:
فلا ذا جلال هبته لجلالة ... ولا ذا ضياع هن يتركن للفقر
ولقمان كان نوبيا من أهل آيلة، وهو لقمان بن عنقاء بن سرور فيما ذكروا وابنه الذى ذكر فى القرآن هو ثاران فيما ذكر الزجاج وغيره، وقد قيل فى اسمه غير ذلك، وليس بلقمان بن عاد الحميرى. انتهى.
(2) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (2/ 419) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 147) .
(3) ذكر هذا البيت ابن عبد البر فى الاستيعاب (2/ 236) فذكر شطره الأول كما ورد هنا أما الثانى:
... ... منحية شر يفترى عقب الظهر
وانظر الأبيات أيضا فى أسد الغابة الترجمة رقم (2348) .(1/257)
فقال إياس بن معاذ، وكان غلاما حدثا: أى قوم، هذا والله خير لكم مما جئتم له.
فيأخذ أبو الحيسر جفنة من البطحاء فضرب بها وجه إياس وقال: دعنا منك، فلعمرى لقد جئنا لغير هذا، فصمت إياس، وقام عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانصرفوا إلى المدينة، فكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج «1» .
ثم لم يلبث إياس أن هلك، فأخبر من حضر من قومه عند موته أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات، فما كانوا يشكون أن قد مات مسلما، لقد كان استشعر الإسلام فى ذلك المجلس حين سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمع.
بدء إسلام الأنصار وذكر العقبة الأولى
قال ابن إسحاق «2» : فلما أراد الله إظهار دينه وإعزاز نبيه وإنجاز موعوده له، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الموسم الذى لقى فيه النفر من الأنصار فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع فى كل موسم، فبينما هو عند العقبة لقى رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا، فقال لهم: «من أنتم؟» قالوا: نفر من الخزرج، قال: «أمن موالى يهود؟» قالوا: نعم، قال: «أفلا تجلسون أكلمكم؟» قالوا: بلى، فجلسوا معه فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن.
وكان مما صنع الله به فى الإسلام أن يهود كانوا معهم فى بلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان، وكان قد عزوهم ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شىء قالوا لهم: «إن نبيا مبعوث الآن قد أظل زمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم» .
فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلموا والله إنه للنبى الذى توعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه.
__________
(1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (5/ 427) ، دلائل النبوة للبيهقى (2/ 420، 421) ، المستدرك للحاكم (3/ 180، 181) .
(2) انظر: السيرة (2/ 38) .(1/258)
فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام وقالوا له: إنا تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك. ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم قد آمنوا وصدقوا «1» .
وهم فيما ذكر لى «2» ، ستة نفر من الخزرج: منهم من بنى النجار: أسعد بن زرارة أبو أمامة «3» ، وعوف بن الحارث بن رفاعة وهو ابن عفراء «4» . ومن بنى زريق: رافع بن مالك بن العجلان «5» ، ومن بنى سلمة: قطبة بن عامر بن حديدة «6» وعقبة بن عامر بن نابى «7» ، وجابر بن عبد الله بن رئاب «8» .
فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم؛ فلم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا فيهم من الستة المسمين قبل: أبو أمامة وعوف ورافع وقطبة وعقبة، ومن غير الستة من الخزرج أيضا:
__________
(1) انظر الحديث فى: عيون الأثر لابن سيد الناس (1/ 262) ، دلائل النبوة للبيهقى (2/ 433، 434) ، تاريخ الطبرى (1/ 588) .
(2) انظر: السيرة (2/ 39- 40) .
(3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (30) ، الإصابة الترجمة رقم (111) ، أسد الغابة الترجمة رقم (98) .
(4) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2025) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4128) .
(5) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (739) ، الإصابة الترجمة رقم (2550) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1598) ، الثقات (3/ 123) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 174) ، تقريب التهذيب (1/ 241) ، الجرح والتعديل (3/ 2159) ، تهذيب التهذيب (3/ 232) ، سير أعلام النبلاء (1/ 219) ، دائرة معارف الأعلمى (18/ 202) .
(6) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2140) ، الإصابة الترجمة رقم (7173) ، أسد الغابة الترجمة (4308) ، الثقات (3/ 347) ، الطبقات الكبرى (9/ 159) ، تجريد أسماء الصحابة (2/ 15) ، الاستبصار (163) .
(7) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1844) ، الإصابة الترجمة رقم (5619) .
(8) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (289) ، الإصابة الترجمة رقم (1027) ، أسد الغابة الترجمة رقم (646) ، طبقات خليفة الترجمة رقم (623) ، التاريخ الكبير (2/ 207) ، الجرح والتعديل (2/ 492) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (25) ، تهذيب الكمال (182) ، تاريخ الإسلام (3/ 143) ، تذكرة الحفاظ (1/ 40) ، تذهيب التهذيب (1/ 99) ، خلاصة تذهيب الكمال (50) ، شذرات الذهب (1/ 84) ، تهذيب ابن عساكر (3/ 389) .(1/259)
ذكوان بن عبد قيس بن خلدة الزرقى «1» ، وعبادة بن الصامت «2» ، ويزيد بن ثعلبة «3» من بنى غصينة من بلى حليف لهم، والعباس بن عبادة بن نضلة العجلانى «4» ، ومعاذ بن الحارث بن رفاعة «5» ، وهو ابن عفراء، ومن الأوس: أبو الهيثم بن مالك بن التيهان «6» ، وعويم بن ساعدة «7» ، فلقوه بالعقبة، وهى العقبة الأولى.
قال عبادة بن الصامت: كنت ممن حضر العقبة الأولى، وكنا اثنى عشر رجلا، بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء وذلك قبل أن تفترض الحرب، على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق ولا نزنى ولا نقتل أولادنا ولا نأتى بهتانا نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه فى معروف. قال: «فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئا فأصبتم بحد فى الدنيا فهو كفارة له، وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله، إن شاء عذب وإن شاء غفر» «8» .
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (710) ، الإصابة الترجمة رقم (2442) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1531) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 167) ، الوافى بالوفيات (14/ 38) ، الاستبصار (47) ، الجرح والتعديل (3/ 2038) .
(2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1380) ، الإصابة الترجمة رقم (4515) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2791) .
(3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2791) ، الإصابة الترجمة رقم (9261) ، أسد الغابة الترجمة رقم (5536) ، الثقات (3/ 445) ، تجريد أسماء الصحابة (2/ 135) ، الطبقات الكبرى (1/ 220) .
(4) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1385) ، الإصابة الترجمة رقم (2525) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2798) ، الوافى بالوفيات (16/ 634) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 295) ، الثقات (3/ 288) .
(5) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2450) ، الإصابة الترجمة رقم (8068) .
(6) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (3246) ، الإصابة الترجمة رقم (10689) ، أسد الغابة الترجمة رقم (6331) ، تجريد أسماء الصحابة (2/ 210) ، التاريخ لابن معين (2/ 148) ، تنقيح المقال (3/ 24) .
(7) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2075) ، الإصابة الترجمة رقم (6127) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4138) ، طبقات ابن سعد (3/ 2/ 30) ، مشاهير علماء الأمصار (107) ، حلية الأولياء (2/ 11) ، تهذيب الكمال (1068) ، تهذيب التهذيب (8/ 174) ، خلاصة تذهيب الكمال (306) .
(8) انظر الحديث فى: صحيح البخارى كتاب مناقب الأنصار (3892، 3893) ، صحيح-(1/260)
قال ابن إسحاق «1» : فلما انصرف عنه القوم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصى، وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم فى الدين، فكان مصعب يسمى المقرىء بالمدينة، وكان منزله على أسعد بن زرارة بن عدس أبى أمامة، وكان يصلى بهم، وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض «2» .
إسلام سعد بن معاذ وأسيد بن حضير على يدى مصعب بن عمير رضى الله عنه
ذكر ابن إسحاق عمن سمى من شيوخه «3» أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير يريد به دار بنى عبد الأشهل ودار بنى ظفر، فدخل به حائطا من حوائط بنى ظفر، فجلسا فيه واجتمع إليهما رجال ممن أسلم.
فلما سمع بذلك سعد بن معاذ «4» وأسيد بن حضير «5» وهما يومئذ سيدا قومهما بنى عبد الأشهل، وكلاهما مشرك على دين قومه، قال سعد لأسيد: لا أبا لك، انطلق إلى هذين الرجلين اللذين أتيا دارينا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما وانههما عن أن يأتيا دارينا، فإنه لولا أن أسعد بن زرارة منى حيث قد علمت كفيتك ذلك، هو ابن خالتى ولا أجد عليه مقدما.
__________
- مسلم كتاب الحدود (3/ 43) ، مسند الإمام أحمد (5/ 316) ، دلائل النبوة للبيهقى (2/ 246، 247) ، مستدرك الحاكم (2/ 624) .
(1) انظر: السيرة (2/ 43) .
(2) انظر الحديث فى: تاريخ الطبرى (1/ 559) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 264) .
(3) انظر: السيرة (2/ 44) .
(4) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (963) ، الإصابة الترجمة رقم (3213) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2046) ، طبقات خليفة (77) ، التاريخ الكبير (4/ 65) ، الجرح والتعديل (4/ 93) ، تهذيب الكمال (477) ، العبر (1/ 7) ، تهذيب التهذيب (3/ 481) ، خلاصة تذهيب الكمال (635) ، شذرات الذهب (1/ 11) .
(5) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (54) ، الإصابة الترجمة رقم (185) ، أسد الغابة الترجمة رقم (170) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 21) ، تهذيب الكمال (1/ 113) ، تقريب التهذيب (1/ 78) ، خلاصة تذهيب تهذيب الكمال (1/ 98) ، الوافى بالوفيات (9/ 258) ، سير الإعلام (1/ 299) ، تهذيب التهذيب (1/ 347) ، الجرح والتعديل (2/ 1163) ، الأنساب (1/ 278) ، الرياض المستطابة (29) .(1/261)
فأخذ أسيد حربته ثم أقبل إليهما، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه. قال: فوقف عليهما متشتما فقال: ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا، اعتزلانا إن كانت بأنفسكما حاجة.
فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهته كف عنك ما تكره. قال: أنصفت، ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن، فقالا فيما ذكر عنهما: والله لعرفنا فى وجهه الإسلام قبل أن يتكلم فى إشراقه وتسهله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله، كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا فى هذا الدين؟ قالا له: تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك ثم تتشهد شهادة الحق ثم تصلى.
فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وتشهد شهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين ثم قال لهما:
إن ورائى رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكما الآن، سعد ابن معاذ. ثم انصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس فى ناديهم، فلما نظر إليه سعد مقبلا قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذى ذهب به، فلما وقف على النادى قال له سعد: ما فعلت؟ قال كلمت الرجلين فو الله ما رأيت بهما بأسا، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت. وقد حدثت أن بنى حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك «1» .
فقام سعد مغضبا مبادرا متخوفا للذى ذكر له من بنى حارثة، فأخذ الحربة من يده ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئا. ثم خرج إليهما فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيدا إنما أراد أن يسمع منهما، فوقف عليهما متشتما ثم قال: يا أبا أمامه، والله لولا ما بينى وبينك من القرابة ما رمت هذا منى، أتغشانا فى دارينا بما نكره!.
وقد قال أسعد لمصعب بن عمير: أى مصعب، جاءك والله سيد من وراءه من قومه، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان. فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع، فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره.
قال سعد: أنصفت. ثم ركز الحربة وجلس، فعرض عليه الإسلام وقرأ عليه القرآن.
قالا: فعرفنا والله فى وجهه الإسلام قبل أن يتكلم لإشراقه وتسهله، ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم فى هذا الدين؟.
قالا: تغتسل فتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلى ركعتين. فقام فاغتسل
__________
(1) ليخفروك: أخفره أى نقض عهده وخاس به وغدره، وأخفر الذمة لم يف بها.(1/262)
وطهر ثوبيه وتشهد شهادة الحق وركع ركعتين، ثم أخذ حربته فأقبل عامدا إلى نادى قومه ومعه أسيد بن حضير، فلما رآه قومه مقبلا قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذى ذهب به.
فلما وقف عليهم قال: يا بنى عبد الأشهل كيف تعلمون أمرى فيكم؟ قالوا: سيدنا، أفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة «1» . قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم حرام على حتى تؤمنوا بالله ورسوله.
قال: فو الله ما أمسى فى دار بنى عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما أو مسلمة.
ورجع مصعب إلى منزل أسعد بن زرارة فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون «2» ، إلا ما كان من دار بنى أمية بن زيد وخطمة ووائل وواقف، وتلك أوس الله، وهم من الأوس بن حارثة.
وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت «3» وكان شاعرا لهم قائدا يسمعون منه ويطيعونه، فوقف بهم عن الإسلام حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضى بدر وأحد والخندق، وقال فيما رأى من الإسلام وما اختلف الناس فيه من أمره:
أرب الناس أشياء المت ... يلف الصعب منها بالذلول
أرب الناس إما إن ضللنا ... فيسرنا لمعروف السبيل
فلولا ربنا كنا يهودا ... وما دين اليهود بذى شكول «4»
ولولا ربنا كنا نصارى ... مع الرهبان فى جبل الجليل
ولكنا خلقنا إذ خلقنا ... حنيفا ديننا عن كل جيل «5»
نسوق الهدى ترسف مذعنات ... مكشفة المناكب فى الجلول
__________
(1) أيمننا نقيبة: النقيبة أيمن النعل، وقال ابن بزرج: اللهم نقيبة أى نفاذ رأى، ورجل ميمون النقيبة: مبارك النفس، مظفر بما يحاول. انظر: اللسان (مادة نقب) .
(2) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (2/ 438، 439) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 42) .
(3) انظر ترجمته فى: طبقات فحول الشعراء (1/ 226) .
(4) قال السهيلى فى الروض الأنف: شكول جمع شكل، وشكل الشىء بالفتح هو مثله، والشكل بالكسر الدل والحسن، فكأنه أراد أن دين اليهود بدع فليس له شكول أى: ليس له نظير فى الحقائق ولا مثيل يعضده من الأمر بالمعروف المقبول.
(5) خنيفا: من حنف إذا مال، أى مائلا عن الأديان الباطلة، والميل هو الصنف من الناس.(1/263)
ذكر العقبة الثانية
قال ابن إسحاق «1» : ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة، وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة، فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق، حين أراد الله ما أراد من كرامته والنصر لنبيه وإعزاز الإسلام وأهله وإذلال الشرك وأهله.
حدث كعب بن مالك «2» ، وكان ممن شهد العقبة وبايع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:
خرجنا فى حجاج قومنا من المشركين وقد صلينا وفقهنا، ومعنا البراء بن معرور «3» سيدنا وكبيرنا، فلما وجهنا لسفرنا وخرجنا من المدينة قال لنا البراء: يا هؤلاء، إنى قد رأيت رأيا وو الله ما أدرى أتوافقونى عليه أم لا. فقلنا: وما ذاك؟ قال: رأيت ألا أدع هذه البنية منى بظهر، يعنى الكعبة، وأن أصلى إليها. فقلنا: والله ما بلغنا أن نبينا يصلى إلا إلى الشام، وما نريد أن نخالفه. فقال: إنى لمصل إليها. فقلنا له: لكنا لا نفعل.
فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام وصلى إلى الكعبة، حتى قدمنا مكة، فلما قدمناها وقد كنا عبنا عليه ما صنع، قال لى: يا ابن أخى انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسأله عما صنعت فى سفرى هذا فإنه والله لقد وقع فى نفسى منه شىء لما رأيت من خلافكم إياى فيه، فخرجنا نسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا لا نعرفه لم نره قبل ذلك، فلقينا رجلا من أهل مكة فسألناه عنه فقال: هل تعرفانه؟ فقلنا: لا. فقال: هل تعرفان العباس عمه؟ قلنا: نعم. وقد كنا نعرف العباس، كان لا يزال يقدم علينا تاجرا.
قال: فإذا دخلتما المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس.
فدخلنا المسجد فإذا العباس جالس ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس معه، فسلمنا ثم جلسنا إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل؟ قال: نعم، هذا البراء بن معرور سيد قومه وهذا كعب بن مالك، فو الله ما أنسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) انظر: السيرة (2/ 48- 49) .
(2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2231) ، الإصابة الترجمة رقم (7447) ، شذرات الذهب (1/ 56) ، تهذيب الكمال (1147) ، تاريخ الإسلام (2/ 243) ، تهذيب التهذيب (8/ 440، 441) ، خلاصة تذهيب الكمال (321) ، طبقات خليفة (103) .
(3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (171) ، الإصابة الترجمة رقم (622) ، أسد الغابة الترجمة رقم (392) ، طبقات ابن سعد (3/ 2/ 146) ، شذرات الذهب (1/ 9) ، العبر (1/ 3) ، الاستبصار (142) .(1/264)
ألشاعر؟ قال: نعم. فقال له البراء بن معرور: يا نبى الله، إنى خرجت فى سفرى هذا وقد هدانى الله للإسلام، فرأيت أن لا أجعل هذه البنية منى بظهر، فصليت إليها، وخالفنى أصحابى فى ذلك، حتى وقع فى نفسى منه شىء فماذا ترى يا رسول الله؟
قال: قد كنت على قبلة لو صبرت عليها. فرجع البراء إلى قبلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى معنا إلى الشام. قال: وأهله يزعمون أنه صلى إلى الكعبة حتى مات، وليس كما قالوا، نحن أعلم به منهم «1» .
قال كعب «2» : ثم خرجنا إلى الحج وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق، فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التى واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لها، ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام «3» ، أبو جابر، سيد من ساداتنا أخذناه معنا وكنا نكتم من معنا من المشركين أمرنا فكلمناه وقلنا: يا أبا جابر، إنك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك أن تكون حطبا للنار غدا.
ثم دعوناه إلى الإسلام وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إيانا العقبة، فأسلم وشهد معنا وكان نقيبا. فنمنا تلك الليلة مع قومنا فى رجالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلل تسلل القطا مستخفين، حتى اجتمعنا فى الشعب عند العقبة ونحن ثلاثة وسبعون رجلا ومعنا امرأتان من نسائنا، نسيبة بنت كعب أم عمارة «4» ، إحدى نساء بنى مازن بن النجار، وأسماء بنت [عمرو بن عدى بن نابى] «5» ، أم منيع»
، إحدى نساء بنى سلمة، فاجتمعنا فى الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه العباس وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له.
__________
(1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 461) ، صحيح ابن خزيمة (429) ، الهيثمى فى المجمع (6/ 42، 43) .
(2) انظر: السيرة (2/ 49- 50) .
(3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1633) ، الإصابة الترجمة رقم (4856) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3086) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 325) ، تاريخ الإسلام (2/ 205) ، سير أعلام النبلاء (1/ 324) ، حلية الأولياء (2/ 4) ، الأعلام (4/ 11) .
(4) انظر ترجمتها فى: الاستيعاب الترجمة رقم (3624) ، الإصابة الترجمة رقم (12183) ، أسد الغابة الترجمة رقم (7550) ، تهذيب التهذيب (12/ 474) ، خلاصة تذهيب الكمال (499) .
(5) ما بين المعقوفتين ورد فى الأصل: «عدى بن عمرو» ، والتصحيح من السيرة والاستيعاب.
(6) انظر ترجمتها فى: الاستيعاب الترجمة رقم (3263) ، الإصابة الترجمة رقم (6712) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3274) .(1/265)
فلما جلس كان أول متكلم العباس فقال: يا معشر الخزرج، وكانت العرب إنما يسمون هذا الحى من الأنصار الخزرج، خزرجها وأوسها، إن محمدا منا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو فى عز من قومه ومنعة فى بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه فى عز ومنعة من قومه وبلده.
فقلنا له: قد سمعنا ما قلت. فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.
فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب فى الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعونى مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم.
فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم والذى بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أهل الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر.
فاعترض القول، والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو الهيثم بن التيهان، فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالا ونحن قاطعوها، يعنى اليهود، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟.
قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم منى، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم. قال كعب: وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أخرجوا إلى منكم اثنى عشر نقيبا يكونون على قومهم بما فيهم.
فأخرجوا منهم اثنى عشر نقيبا، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، من الخزرج:
أبو أمامة أسعد بن زرارة، وسعد بن الربيع «1» ، وعبد الله بن رواحة «2» ، ورافع بن مالك
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (936) ، الإصابة الترجمة رقم (3161) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1994) ، طبقات ابن سعد (3/ 2/ 77) ، تاريخ خليفة (71) ، الجرح والتعديل (4/ 82- 83) ، الاستبصار (114) .
(2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1548) ، الإصابة الترجمة رقم (4694) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2943) ، الثقات (3/ 221) ، حلية الأولياء (1/ 118، 121) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 310) ، تهذيب التهذيب (5/ 212) ، تهذيب الكمال (2/ 681) ، تقريب التهذيب (1/ 415) ، خلاصة تذهيب (2/ 55) ، الوافى بالوفيات (17/ 168) ، سير أعلام النبلاء (1/ 230) ، الأعلام (4/ 86) .(1/266)
ابن العجلان، والبراء بن معرور، وعبد الله بن عمرو بن حرام، وعبادة بن الصامت، وسعد بن عبادة بن دليم «1» ، والمنذر بن عمرو «2» . ومن الأوس: أسيد بن حضير، وسعد ابن خيثمة «3» ، ورفاعة بن عبد المنذر «4» .
قال ابن هشام «5» : وأهل العلم يعدون فيهم أبا الهيثم بن التيهان ولا يعدون رفاعة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنقباء: «أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفاله الحواريين لعيسى ابن مريم، وأنا كفيل على قومى» ، قالوا: نعم «6» .
وحدث «7» عاصم بن عمر بن قتادة أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العباس بن عبادة بن نضلة، أخو بنى سالم بن عوف: يا معشر الخزرج: هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم. قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر، والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلا أسلمتموه فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزى الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فهو والله خير الدنيا والآخرة، قالوا: فإنا
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (949) ، الإصابة الترجمة رقم (3181) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2012) ، طبقات ابن سعد (3/ 2/ 142) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (201) ، تهذيب الكمال (474) ، تهذيب التهذيب (3/ 475) ، خلاصة تذهيب الكمال (2134) ، شذرات الذهب (1/ 28) .
(2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2523) ، الإصابة الترجمة رقم (8242) ، أسد الغابة الترجمة رقم (5114) ، الثقات (3/ 386) ، الاستبصار (100) ، الأعلام (7/ 294) ، تجريد أسماء الصحابة (2/ 95) .
(3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (934) ، الإصابة الترجمة رقم (3155) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1986) ، شذرات الذهب (1/ 9) ، سير أعلام النبلاء (1/ 266) ، الوافى بالوفيات (15/ 216) ، الأعلام (3/ 84) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 213) .
(4) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (780) ، الإصابة الترجمة رقم (2675) ، أسد الغابة الترجمة (1692) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 184) ، سير أعلام النبلاء (1/ 135، 185) ، الوافى بالوفيات (14/ 171) ، تهذيب التهذيب (3/ 282) ، تقريب التهذيب (1/ 251) ، حلية الأولياء (1/ 366) ، خلاصة تذهيب (1/ 327) .
(5) انظر: السيرة (2/ 54) .
(6) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 162) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 292) ، تاريخ الطبرى (1/ 562، 563) .
(7) انظر: السيرة (2/ 55) .(1/267)
نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟
قال: الجنة. قالوا: ابسط يدك. فبسط يده فبايعوه «1» .
قال عاصم: والله، ما قال ذلك العباس إلا ليشد العقد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى أعناقهم.
وقال غيره: ما قاله إلا ليؤخر القوم تلك الليلة رجاء أن يحضرها عبد الله بن أبى بن سلول فيكون أقوى لأمر القوم. فالله أعلم أى ذلك كان.
قال ابن إسحاق «2» : فبنو النجار يزعمون أن أبا أمامة أسعد بن زرارة كان أول من ضرب على يده، وبنو عبد الأشهل يقولون: بل أبو الهيثم بن التيهان.
وفى حديث معبد بن كعب عن أخيه عبد الله، عن أبيه قال: كان أول من ضرب على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم البراء بن معرور، ثم بايع القوم، فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرح الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط: يا أهل الجباجب، وهى المنازل، هل لكم فى مذمم والصباء معه قد اجتمعوا على حربكم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا أزب العقبة هذا ابن أزيب، ويقال ابن أزيب، أتسمع أى عدو الله، أما والله لأفرغن لك» ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ارفضوا إلى رحالكم» ، فقال له العباس بن عبادة بن نضلة: والذى بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى بأسيافنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم أومر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم» . فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها، فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتى جاؤونا فى منازلنا، فقالوا: يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حى من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم.
فانبعث من هنالك من مشركى قومنا يحلفون بالله ما كان من هذا شىء، وما علمناه.
وصدقوا، لم يعلموه، وبعضنا ينظر إلى بعض.
ثم قام القوم وفيهم الحارث بن هشام المخزومى «3» ، وعليه نعلان له جديدان فقلت
__________
(1) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 48) ، مسند الإمام أحمد (4/ 119، 120) ، تاريخ الطبرى (1/ 563) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 162) .
(2) انظر: السيرة (2/ 56- 57) .
(3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (452) ، الإصابة الترجمة رقم (1509) ، أسد الغابة الترجمة رقم (979) ، تهذيب الكمال (223) ، تذهيب التهذيب (1/ 116) ، خلاصة تذهيب الكمال (69) ، تهذيب ابن عساكر (4/ 8) ، العقد الثمين (4/ 32) .(1/268)
له كلمة، كأنى أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا: يا أبا جابر ما تستطيع وأنت سيد من ساداتنا أن تتخذ مثل نعلى هذا الفتى من قريش؟! فسمعها الحارث فخلعهما من رجليه، ثم رمى بهما إلى فقال: والله لتنتعلنهما، قال: يقول أبو جابر: مه، أحفظت والله الفتى، فاردد إليه نعليه. قلت: والله لا أردهما، فأل والله صالح، والله لئن صدق الفأل لأسلبنه «1» .
وفى حديث غير كعب أنهم أتوا عبد الله بن أبى سلول، فقالوا: مثل ما ذكر كعب من القول، فقال لهم: إن هذا لأمر جسيم، ما كان قومى ليتفوتوا على بمثل هذا، وما علمته كان، فانصرفوا عنه.
ونفر الناس من منى، فتنطس «2» القوم الخبر، فوجدوه قد كان، وخرجوا فى طلب القوم، فأدركوا سعد بن عبادة بأذاخر والمنذر بن عمرو أخا بنى ساعدة، وكلاهما كان نقيبا، فأما المنذر فأعجز القوم، وأما سعد فأخذوه فربطوا يديه إلى عنقه بنسع «3» رحله، ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة، يضربونه ويجذبونه بجمته، وكان ذا شعر كثير.
قال سعد: فو الله، إنى لفى أيديهم إذ طلع علىّ نفر من قريش فيهم رجل وضىء أبيض شعشاع حلو من الرجال، قال فقلت فى نفسى: إن يك عند أحد من القوم خير فعند هذا، فلما دنا منى، رفع يده فلكمنى لكمة شديدة، فقلت فى نفسى: لا والله، ما عندهم بعد هذا من خير، فو الله إنى لفى أيديهم يسحبوننى إذ أوى إلى رجل ممن معهم، فقال لى: ويحك! أما بينك وبين أحد من قريش تجارة ولا عهد؟ فقلت: بلى والله لقد كنت أجيز لجبير بن مطعم تجارة وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادى، وللحارث بن حرب ابن أمية. قال: ويحك فاهتف باسم الرجلين واذكر ما بينك وبينهما.
قال: ففعلت، وخرج ذلك الرجل إليهما، فوجدهما عند الكعبة، فقال لهما: إن رجلا من الخزرج الآن يضرب بالأبطح ليهتف بكما، ويذكر أن بينه وبينكما جوارا، قالا: ومن هو؟ قال: سعد بن عبادة، قالا: صدق والله، إن كان ليجيز لنا تجارنا ويمنعهم
__________
(1) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (3/ 181) ، فتح البارى لابن حجر (3/ 262) .
(2) تنطس القوم: تنطس عن الأخبار أى بحث وكل مبالف فى شىء متنطس وتنتطست الأخبار تجسستها. انظر: اللسان (مادة تنطس) .
(3) النسع: هو سير يضفر على هيئة لأعنة النعال تشد به الرحال، والجمع أنساع ونسوع ونسع، والقطعة منه نسعة، وقيل: هو سير مضفور يجعل زماما وغيره وقد تنسج عريضة تجعل على صدور البعير. انظر: اللسان (مادة نسع) .(1/269)
أن يظلموا ببلده، قال: فجاآ فخلصا سعدا من أيديهم، وكان الذى لكم سعدا سهيل ابن عمرو «1» .
قال ابن هشام: والذى أوى له أبو البحترى بن هشام.
قال ابن إسحاق «2» : فكان أول شعر قيل فى الهجرة بيتين قالهما ضرار بن الخطاب ابن مرداس «3» ، أخو بنى محارب بن فهر. قال:
تداركت سعدا عنوة فأخذته ... وكان شفاء لو تداركت منذرا
ولو نلته ظلت هناك جراحة ... وكان حقيقا أن يهان ويهدرا
فأجابه حسان بن ثابت «4» فقال:
ولست إلى عمرو ولا المرء منذر ... إذا ما مطايا القوم أصبحن ضمرا
فلولا أبو وهب لمرت قصائد ... على شرف البرقاء يهوين حسرا
أتفخر بالكتان لما لبسته ... وقد تلبس الأنباط ريطا مقصرا
فلا تك كالوسنان يحلم أنه ... بقرية كسرى أو بقرية قيصرا
ولا تك كالثكلى وكانت بمعزل ... عن الثكل لو كان الفؤاد تفكرا
ولا تك كالشاة التى كان حتفها ... بحفر ذراعيها فلم ترض محفرا
ولا تك كالعاوى فأقبل نحره ... ولم يخشه سهم من النبل مضمرا
فإنا ومن يهدى القصائد نحونا ... كمستبضع تمرا إلى أرض خيبرا
قال «5» : فلما قدموا المدينة أظهروا الإسلام، وفى قومهم بقايا من شيوخ لهم على دينهم من الشرك، منهم: عمرو بن الجموح، وكان ابنه معاذ شهد العقبة وبايع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عمرو سيدا من سادات بنى سلمة، وشريفا من أشرافهم، وكان
__________
(1) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (2/ 44، 449) ، مسند الإمام أحمد (3/ 460، 462) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 45) ، مستدرك الحاكم (3/ 252) .
(2) انظر: السيرة (2/ 58- 59) .
(3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1260) ، الإصابة الترجمة رقم (4193) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2563) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 271) ، الثقات (3/ 200) ، الوافى بالوفيات (16/ 363) ، تاريخ بغداد (1/ 200) .
(4) انظر ترجمته فى: الاستيعاب (1/ 400) الترجمة رقم (525) ، الإصابة الترجمة رقم (1709) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1153) .
(5) انظر: السيرة (2/ 60) .(1/270)
قد اتخذ فى داره صنما من خشب، يقال له: مناة، كما كانت الأشراف يصنعون، يتخذه إلها يعظمه، ويطهره، فلما أسلم فتيان بنى سلمة، ابنه معاذ، ومعاذ بن جبل فى فتيان منهم ممن أسلم وشهد العقبة، كانوا يدلجون بالليل على صنم عمرو ذلك، فيحملونه فيطرحونه فى بعض حفر بنى سلمة، وفيها عذر الناس، منكسا على رأسه.
فإذا أصبح عمرو قال: ويلكم، من عدا على آلهتنا هذه الليلة، ثم يغدو يلتمسه، حتى إذا وجده غسله وطهره وطيبه، ثم قال: أما والله، لو أعلم من فعل بك هذا لأخزيته، فإذا أمسى ونام عمرو، عدوا عليه ففعلوا به مثل ذلك، فيغدو فيجده فى مثل ما كان فيه من الأذى، فيغسله ويطهره ويطيبه، ثم يعدون عليه إذا أمسى، فيفعلون به مثل ذلك، فلما أكثروا عليه استخرجه من حيث ألقوه يوما، فغسله وطهره وطيبه، ثم جاء بسيفه فعلقه عليه، ثم قال له: إنى والله ما أعلم من يصنع بك ما ترى، فإن كان فيك خير فامتنع فهذا السيف معك، فلما أمسى ونام عمرو، عدوا عليه، فأخذوا السيف من عنقه، ثم أخذوا كلبا ميتا فقرنوه به بحبل، ثم ألقوه فى بئر من آبار بنى سلمة فيها عذر من عذر الناس، وغدا عمرو بن الجموح فلم يجده فى مكانه.
فخرج يتتبعه حتى وجده فى تلك البئر منكسا مقرونا بكلب ميت، فلما رآه أبصر شأنه، وكلمه من أسلم من قومه فقال حين أسلم وعرف من الله ما عرف يذكر صنمه ذلك، وما أبصره من أمره، ويشكر الله الذى أنقذه مما كان فيه من العمى والضلالة:
والله لو كنت إلها لم تكن ... أنت وكلب وسط بئر فى قرن «1»
أف لملقاك إلها مستدن ... الآن فتشناك من سوء الغبن «2»
الحمد لله العلى ذى المنن ... الواهب الرزاق ديان الدين
هو الذى أنقذنى من قبل أن ... أكون فى ظلمة قبر مرتهن
قال ابن إسحاق «3» : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بيعة العقبة لم يؤذن له فى الحرب ولم تحلل له الدماء، إنما يؤمر بالدعاء إلى الله تبارك وتعالى، والصبر على الأذى والصفح عن الجاهل، فكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من قومه حتى فتنوهم عن دينهم ونفوهم
__________
(1) القرن: بفتح القاف والراء، قيل: هو شىء من لحاء شجر يفتل منه حبل، وقيل: الحبل من اللحاء، وقيل: هو الخصلة المفتولة من العهن.
(2) مستدن: أى ذليل مستبعد، وقال السهيلى فى الروض الأنف: هو من السدانة وهى خدمة البيت. والغبن: يكون فى الرأى تقول غبن رأى فلان كما تقول سفهت نفس فلان.
(3) انظر: السيرة (2/ 74- 75) .(1/271)
عن بلادهم، فهم من بين مفتون فى دينه وبين معذب فى أيديهم وبين هارب فى البلاد، منهم بأرض الحبشة، ومنهم بالمدينة وفى كل وجه.
فلما عتت قريش على الله وردوا عليه ما أرادهم به من الكرامة، وكذبوا نبيه وعذبوا ونفوا من عبده ووحده وصدق نبيه واعتصم بدينه، أذن الله تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم فى القتال والامتناع والانتصار ممن ظلمهم وبغى عليهم، فكانت أول آية أنزلت فى إذنه فى الحرب وإحلاله له الدماء والقتال لمن بغى عليهم، فيما بلغنى عن عروة بن الزبير، وغيره من العلماء «1» ، قول الله تبارك وتعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج: 39، 41] .
ثم أنزل الله عليه: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أى حتى لا يفتن مؤمن عن دينه وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [البقرة: 193] أى وحتى يعبد الله لا يعبد غيره.
بدء الهجرة إلى المدينة
قال ابن إسحاق «2» : فلما أذن الله تبارك وتعالى لرسوله فى الحرب، وبايعه هذا الحى من الأنصار على الإسلام والنصرة له ولمن اتبعه وأوى إليهم من المسلمين، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه من قومه ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها واللحوق بإخوانهم من الأنصار، وقال: إن الله قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها، فخرجوا أرسالا وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ينتظر أن يأذن له ربه فى الخروج من مكة والهجرة إلى المدينة «3» .
فكان أول من هاجر إليها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش من بنى مخزوم: أبو
__________
(1) انظر الحديث فى: سنن الترمذى (3171) ، سنن النسائى الكبرى (6/ 411) ، المستدرك للحاكم (2/ 66) ، تفسير ابن كثير (5/ 430) .
(2) انظر: السيرة (2/ 77) .
(3) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 169) .(1/272)
سلمة بن عبد الأسد «1» ، هاجر إليها قبل بيعة أصحاب العقبة بسنة، وكان قدم مكة من أرض الحبشة، فلما آذته قريش وبلغه إسلام من أسلم من الأنصار خرج إلى المدينة مهاجرا «2» .
قالت أم سلمة: لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لى بعيره ثم حملنى عليه وحمل معى ابنى سلمة فى حجرى، ثم خرج بى يقود بعيره، فلما رأته رجال بنى المغيرة قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها فى البلاد؟! قالت: فنزعوا خطام البعير من يده فأخذونى منه، وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد رهط أبى سلمة، فقالوا: لا والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا. فتجاذبوا بنى سلمة بينهم حتى خلعوا يده! وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسنى بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجى أبو سلمة إلى المدينة، ففرق بينى وبين زوجى وبين ابنى، فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح فما أزال أبكى حتى أمسى، سنة أو قرييا منها. حتى مر بى رجل من بنى عمى فرأى ما بى فرحمنى فقال لبنى المغيرة: ألا تحرجون من هذه المسكينة! فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها.
فقالوا لى: الحقى بزوجك إن شئت. ورد بنو عبد الأسد إلى عند ذلك ابنى، فارتحلت بعيرى ثم أخذت بنى فوضعته فى حجرى، ثم خرجت أريد زوجى بالمدينة وما معى أحد من خلق الله، قلت: أتبلغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجى.
حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن أبى طلحة «3» ، أخا بنى عبد الدار، فقال: إلى أين يا بنت أبى أمية؟ قلت: أريد زوجى بالمدينة. قال: أو ما معك أحد؟ قلت:
لا والله، إلا الله وبنى هذا! قال: والله مالك من مترك. فأخذ بخطام البعير يقودنى معه يهوى بى، فو الله ما صحبت رجلا من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه كان إذا بلغ
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (3043) ، الإصابة الترجمة رقم (10049) ، أسد الغابة الترجمة رقم (5978) ، تهذيب الكمال (1610) ، تقريب التهذيب (2/ 430) ، تهذيب التهذيب (12/ 115) .
(2) انظر الحديث فى: فتح البارى لابن حجر (7/ 268) ، تاريخ الطبرى (1/ 565) .
(3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1790) ، الإصابة الترجمة رقم (5456) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3580) ، الثقات (3/ 260) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 373) ، تقريب التهذيب (2/ 10) ، تهذيب التهذيب (7/ 124) ، تهذيب الكمال (2/ 910) ، الجرح والتعديل (6/ 1055) ، سير أعلام النبلاء (3/ 10) .(1/273)
المنزل أناخ بى ثم استأخر عنى، حتى إذا نزلت استأخر ببعيرى فحط عنه ثم قيده فى الشجر، ثم تنحى إلى شجرة فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيرى فرحله ثم استأخر عنى فقال: اركبى، فإذا ركبت واستويت على بعيرى أتى فأخذ بخطامه فقادنى حتى ينزل بى، فلم يزل يصنع ذلك بى حتى أقدمنى المدينة، فلما نظرنا إلى قرية بنى عمرو بن عوف وكان أبو سلمة بها، قال: زوجك فى هذه القرية فادخليها على بركة الله. ثم انصرف راجعا إلى مكة، فكانت أم سلمة تقول: ما أعلم أهل بيت فى الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبى سلمة، وما رأيت صاحبا كان أكرم من عثمان بن طلحة «1» .
قال ابن إسحاق «2» : ثم كان أول من قدمها من المهاجرين بعد أبى سلمة، عامر بن ربيعة»
حليف بنى عدى بن كعب، معه امرأته ليلى بنت أبى حثمة بن غانم «4» ، ثم عبد الله بن جحش بن رئاب من بنى غنم بن ذودان بن أسد بن خزيمة حليف بنى أمية ابن عبد شمس، احتمل بأهله وبأخيه أبى أحمد [عبد] «5» بن جحش «6» ، وكان أبو أحمد رجلا ضرير يطوف مكة أعلاها وأسفلها بغير قائد، وكان شاعرا وكانت عنده الفرعة بنت أبى سفيان بن حرب، وكانت أمه أميمة بنت عبد المطلب.
فغلقت دار بنى جحش هجرة، فمر بها عتبة بن ربيعة والعباس بن عبد المطلب وأبو جهل بن هشام فنظر إليها عتبة تخفق أبوابها يبابا ليس فيها ساكن، فتنفس الصعداء ثم قال:
وكل دار وإن طالت سلامتها ... يوما ستدركها النكباء والحوب
ولما خرج بنو جحش من دارهم عدا عليها أبو سفيان بن حرب فباعها من عمرو بن علقمة أخى بنى عامر بن لؤى، فذكر ذلك عبد الله بن جحش، لما بلغه لرسول الله صلى الله عليه وسلم،
__________
(1) ذكر هذه القصة ابن حجر فى الإصابة (8/ 240) ، البخارى فى التاريخ الكبير (4/ 80) .
(2) انظر: السيرة (2/ 77- 79) .
(3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1335) ، الإصابة الترجمة رقم (4339) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2693) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 284) .
(4) انظر ترجمتها فى: الاستيعاب الترجمة رقم (3516) ، الإصابة الترجمة رقم (11712) ، أسد الغابة الترجمة رقم (7261) .
(5) ما بين المعقوفتين ورد فى الأصل: «عبيد» ، والتصحيح من السيرة، والاستيعاب.
(6) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1388، 2860) ، الإصابة الترجمة رقم (9505) ، أسد الغابة الترجمة رقم (5669) .(1/274)
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا ترضى يا عبد الله أن يعطيك الله بها دارا فى الجنة خيرا منها؟» قال: بلى. قال: «فذلك لك» .
فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة كلمة أبو أحمد فى دارهم، فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الناس لأبى أحمد: يا أبا أحمد، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره أن ترجعوا فى شىء أصيب منكم فى الله. فأمسك عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان بنو غنم بن ذودان أهل الإسلام قد أوعبوا إلى المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هجرة رجالهم ونساءهم، فقال أبو أحمد بن جحش يذكر هجرة بنى أسد بن خزيمة من قومه إلى الله تبارك وتعالى وإلى رسوله، وإيعابهم فى ذلك حين دعوا إلى الهجرة:
ولو حلفت بين الصفا أم أحمد ... ومروتها بالله برت يمينها
لنحن الأولى كنا بها ثم لم نزل ... بمكة حتى عاد غثا سمينها
بها خيمت غنم بن ذودان وانبنت ... وما أرعدت غنم وخف قطينها
إلى الله تعدو بين مثنى وواحد ... ودين رسول الله بالحق دينها
وقال أبو أحمد أيضا:
ولما رأتنى أم أحمد غاديا ... بذمة من أخشى بغيب وأرهب
تقول فإما كنت لا بد فاعلا ... فيمم بنا البلدان ولتنأ يثرب
فقلت لها ما يثرب بمظنة ... وما يشأ الرحمن فالعبد يركب
إلى الله وجهى والرسول ومن يقم ... إلى الله يوما وجهه لا يخيب
فكم قد تركنا من حميم مناصح ... وناصحة تبكى بدمع وتندب
يرى أن وترا نأينا عن بلادنا ... ونحن نرى أن الرغائب نطلب «1»
دعوت بنى غنم لحقن دمائهم ... وللحق لما لاح للناس ملحب
أجابوا بحمد الله لما دعاهم ... إلى الحق داع والنجاح فأوعبوا
وكنا وأصحابا لنا فارقوا الهدى ... أعانوا علينا بالسلاح وأجلبوا «2»
كفوجين أما منهما فموفق ... على الحق مهدى وفوج معذب
طغوا وتمنوا كذبة وأزلهم ... عن الحق إبليس فخابوا وخيبوا
__________
(1) الوتر: طلب الثأر، يريد أنه يستحق أن يطالبوا مخرجهم به. النأى: البعد. الرغائب: جمع رغيبة، وهى من العطاء الكثير.
(2) أجلبوا: يروى بالجيم وبالحاء المهملة فمن رواه بالحاء المهملة فمعناه أعانوا، ومن واه بالجيم فمعناه أحدثوا جلبه وهى الصياح.(1/275)
ورغنا إلى قول النبى محمد ... فطاب ولاة الحق منا وطيبوا
نمت بأرحام إليهم قريبة ... ولا قرب بالأرحام إذ لا تقرب
فأى ابن أخت بعدنا يأمننكم ... وأية صهر بعد صهرى يرقب
ستعلم يوما أينا إذ تزايلوا ... وزيل أمر الناس للحق أصوب
ثم خرج عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وعياش بن أبى ربيعة المخزومى «1» ، حتى قدما المدينة.
قال عمر رضى الله عنه: لما أردنا الهجرة إلى المدينة اتعدت أنا وعياش بن أبى ربيعة، وهشام بن العاص التناضب من أضاة بنى غفار «2» فوق سرف، وقلنا: أينا لم يصبح عندها فقد حبس فليمض صاحباه. فأصبحت أنا وعياش عندها وحبس عنا هشام وفتن فافتتن.
فلما قدمنا المدينة نزلنا بقباء، وخرج أبو جهل والحارث أخوه إلى عياش، وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما حتى قدما علينا فقالا له: إن أمك نذرت أن لا تمس رأسها بمشط حق تراك ولا تستظل من شمس حتى تراك.
فرق لها، فقلت له: يا عياش، والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم، فو الله لو قد آذى أمك لا متشطت! ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت. فقال: أبر قسم أمى، ولى هناك مال فآخذه.
قلت: والله إنك لتعلم أنى لمن أكثر قريش مالا، فلك نصف مالى ولا تذهب معهما.
فأبى على إلا أن يخرج معهما، فلما أبى إلا ذلك قلت: أما إذ قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتى هذه فإنها نجيبة ذلول، فالزم ظهرها فإن رابك من القوم ريب فانج عليها.
فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: والله يا أخى لقد استغلظت بعيرى هذا أفلا تعقبنى على ناقتك هذه؟ قال: بلى. قال: فأناخ وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه رباطا ثم دخلا به مكة، وفتناه فافتتن!.
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2032) ، الإصابة الترجمة رقم (6138) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4145) .
(2) أضاة بنى غفار: الأضاءة الماء المستنقع من سيل، ويقال: هو مسيل الماء إلى الغدير، وغفار قبيلة من كنانة على عشرة أميال من مكة. انظر: معجم البلدان (1/ 214) .(1/276)
وفى غير حديث عمر أنهما دخلا به مكة نهارا موثقا ثم قالا: يا أهل مكة هكذا فافعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفيهنا هذا «1» .
قال عمر رضى الله عنه، فى حديثه: فكنا نقول: ما الله بقابل ممن افتتن صرفا ولا عدلا ولا توبة، عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله تبارك وتعالى، فيهم وفى قولنا وقولهم لأنفسهم: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الزمر: 53] «2» .
قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: فكتبتها بيدى فى صحيفة وبعثت بها إلى هشام ابن العاص، قال: فقال هشام: لما أتتنى جعلت أقرؤها بذى طوى أصعد بها فيه وأصوب ولا أفهمها، حتى قلت: اللهم فهمنيها. فألقى الله فى قلبى أنها إنما نزلت فينا وفيما كنا نقول فى أنفسنا ويقال فينا. فرجعت إلى بعيرى فجلست عليه، فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة. هذا ما ذكر ابن إسحاق فى شأن هشام.
وذكر ابن هشام عمن يثق به «3» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو بالمدينة: من لى بعياش ابن أبى ربيعة، وهشام بن العاص؟ فقال الوليد بن الوليد بن المغيرة: أنا لك يا رسول الله بهما. فخرج إلى مكة فقدمها مستخفيا، فلقى امرأة تحمل طعاما، فقال لها: أين تريدين يا أمة الله؟ فقالت: أريد هذين المسجونين تعنيهما، فتبعها حتى عرف موضعيهما، وكانا محبوسين فى بيت لا سقف له، فلما أمسى تسور عليهما ثم أخذ مروة فوضعها تحت قيديهما ثم ضربهما بسيفه فقطعهما، فكان يقال لسيفه ذو المروة لذلك.
ثم حملهما على بعيره وساق بهما فعثر فدميت إصبعه فقال:
هل أنت إلا إصبع دميت ... وفى سبيل الله ما لقيت
__________
(1) انظر: السيرة (2/ 82) .
(2) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (2/ 435) ، السنن الكبرى للبيهقى (9/ 14) ، دلائل النبوة (2/ 146) ، تفسير الطبرى (24/ 11) ، طبقات ابن سعد (3/ 271) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 61) ، كشف الأستار (2/ 370) .
(3) انظر: السيرة (2/ 83) .(1/277)
ثم قدم بهما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» .
ثم تتابع المهاجرون أرسالا، فنزل طلحة بن عبيد الله وصهيب بن سنان على خبيب ابن إساف. بالسبخ، ويقال: بل نزل طلحة على أسعد بن زرارة.
قال ابن هشام «2» : وذكر لى أن صهيبا حين أراد الهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكا حقيرا فكثر مالك عندنا وبلغت الذى بلغته، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك! والله لا يكون ذلك.
فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالى أتخلون سبيلى؟ قالوا: نعم. قال: فإنى قد جعلت لكم مالى. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ربح صهيب، ربح صهيب» «3» !.
قال ابن إسحاق «4» : وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد أصحابه من المهاجرين، ينتظر أن يؤذن له فى الهجرة، ولم يتخلف معه أحد بمكة من المهاجرين، إلا من حبس أو فتن، إلا على بن أبى طالب وأبو بكر الصديق، وكان أبو بكر كثيرا ما يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الهجرة فيقول له: لا تعجل، لعل الله يجعل لك صاحبا. فيطمع أبو بكر أن يكونه «5» .
ولما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كانت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، عرفوا أنهم قد نزلوا دارا وأصابوا منهم منعة، فحذروا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفوا أنه مجمع لحربهم، فاجتمعوا له فى دار الندوة، وهى دار قصى بن كلاب التى كانت قريش لا تقضى أمرا إلا فيها، يتشاورون ما يصنعون فى أمره.
فاعترض لهم إبليس فى هيئة شيخ جليل عليه بت «6» ، فوقف على باب الدار فى
__________
(1) ذكره ابن حجر فى فتح البارى (1/ 557) ، وقال: من زيادات ابن هشام فى السيرة.
(2) انظر: السيرة (2/ 84) .
(3) انظر الحديث فى: الحلية لأبى نعيم (1/ 151، 153) ، مستدرك الحاكم (3/ 398) ، طبقات ابن سعد (3/ 227، 228) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 173، 174) ، المطالب العالية لابن حجر (3/ 3552) .
(4) انظر: السيرة (2- 87) .
(5) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 62) ، وقال: رواه الطبرانى وفيه عبد الرحمن بن بشير الدمشقى ضعفه أبو حاتم.
(6) بت: بفتح الباء وتشديد التاء، الكساء الغليظ من صوف جيد أو خز يلبس كالعباءة ويدل على المكانة والشرف، وجمعه بتوت.(1/278)
اليوم الذى اتعدوا له، ويسمى يوم الزحمة، فلما رأوه واقفا على بابها قالوا: من الشيخ؟
قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذى اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون وعسى أن لا يعدمكم منه رأيا ونصحا قالوا: أجل، فادخل. فدخل معهم وقد اجتمع فيها أشراف قريش وغيرهم.
فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، وإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا بمن اتبعه من غيرنا، فأجمعوا فيه رأيا، فتشاوروا ثم قال قائل: احبسوه فى الحديد وأغلقوا عليه بابا ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله، زهيرا والنابغة ومن مضى منهم من هذا الموت حتى يصيبه ما أصابهم.
فقال الشيخ النجدى: لا والله، ما هذا لكم برأى، والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذى أغلقتم دونه إلى أصحابه. فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا لكم برأى فانظروا فى غيره.
فتشاوروا ثم قائل منهم: نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا، فإذا خرج عنا فو الله ما نبالى أين ذهب ولا حيث وقع إذا غاب عنا وفرغنا منه فأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت.
قال الشيخ النجدى: لا والله، ما هذا لكم برأى، ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال لما يأتى به؟! والله لو فعلتم ذلك ما أمنت أن يحل على حى من أحياء العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بهم فيأخذ أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد، أديروا فيه رأيا غير هذا، فقال أبو جهل: والله إن لى فيه لرأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد. قالوا: وما هو يا أبا الحكم، قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدا نسيبا وسيطا فينا، ثم نعطى كل فتى منهم سيفا صارما ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه فى القبائل جميعا فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا، فرضوا منا بالعقل فعقلناه لهم.
فقال الشيخ النجدى: القول ما قاله الرجل، هو الرأى لا رأى غيره. فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له. فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذى كنت تبيت عليه، فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه(1/279)
حتى ينام فيثبون عليه، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم قال لعلى بن أبى طالب: نم على فراشى وتسج بردى هذا الحضرمى الأخضر فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شىء تكرهه منهم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام فى برده ذلك إذا نام «1» .
فاجتمعوا له وفيهم أبو جهل، فقال وهو على بابه: إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم جنان كجنان الأردن، وإن لم تفعلوا كان لكم فيه ذبح، ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم نار تحرقون فيها! وخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ حفنة من تراب فى يده ثم قال: نعم، أنا الذى أقول ذلك، أنت أحدهم.
وأخذ الله على أبصارهم عنه فلا يرونه، وجعل ينثر ذلك التراب على رؤسهم وهو يتلو هؤلاء الآيات: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إلى قوله تعالى: وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس: 9] .
حتى فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الآيات ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابا، ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب، فأتاهم آت ممن لم يكن معهم فقال:
ما تنتظرون هاهنا؟ قالوا: محمدا. قال: خيبكم الله! قد والله خرج عليكم محمد، ثم ما ترك منكم رجلا إلا وضع على رأسه ترابا، وانطلق لحاجته، أفلا ترون ما بكم؟!
فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب، ثم جعلوا يطلعون فيرون عليا على الفراش متسجيا برد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: والله، إن هذا لمحمد نائما عليه برده، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا، فقام على عن الفراش، فقالوا: والله لقد صدقنا الذى كان حدثنا «2» .
فكان مما أنزل الله من القرآن فى ذلك اليوم وما كانوا أجمعوا له قول الله سبحانه:
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [الأنفال: 30] «3» .
__________
(1) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (2/ 468) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 176) ، طبقات ابن سعد (1/ 212) .
(2) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 177) ، فتح القدير للشوكانى (4/ 510) .
(3) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (1/ 348) ، مجمع الزوائد للهيثمى (7/ 27) ، مستدرك الحاكم (3/ 4) .(1/280)
وأذن الله تبارك وتعالى، عند ذلك لنبيه فى الهجرة.
ذكر الحديث عن خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر الصديق رضى الله عنه مهاجرين إلى المدينة
حدث «1» عروة بن الزبير، عن عائشة رضى الله عنها قالت: كان لا يخطىء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتى بيت أبى بكر أحد طرفى النهار، إما بكرة وإما عشية، حتى إذا كان اليوم الذى أذن الله فيه لرسوله فى الهجرة والخروج من مكة من بين ظهرانى قومه، أتانا بالهاجرة فى ساعة كان لا يأتى فيها، قالت: فلما رآه أبو بكر قال: ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الساعة إلا من حدث.
فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره، فجلس عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عند أبى بكر إلا أنا وأختى أسماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخرج عنى من عندك. فقال: يا نبى الله، إنما هما ابنتاى، وما ذاك فداك أبى وأمى؟.
فقال: «إن الله قد أذن لى فى الخروج والهجرة» . فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله، قال: «الصحبة» . قالت: فو الله ما شعرت قط قبل ذلك أن أحدا يبكى من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكى يومئذ!.
ثم قال: يا نبى الله، إن هاتين الراحلتين قد كنت أعددتهما لهذا. وكان أبو بكر رجلا ذا مال، فكان حين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الهجرة، فقال له: «لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا» ، قد طمع بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يعنى نفسه، فابتاع راحلتين، فحبسهما فى داره يعلفهما إعدادا لذلك.
واستأجر عبد الله بن أريقط رجلا من بنى الديل بن بكر وكان مشركا، يدلهما الطريق، ودفعا إليه راحلتيهما فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما.
قال ابن إسحاق «2» : ولم يعلم بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج أحد، إلا على بن أبى طالب، وأبو بكر الصديق، وآل أبى بكر. أما على فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره بخروجه، وأمره أن يتخلف بعده بمكة حتى يؤدى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التى كانت
__________
(1) انظر: السيرة (2/ 91) .
(2) انظر: السيرة (2/ 92) .(1/281)
عنده للناس، ولم يكن بمكة أحد عنده شىء يخشى عليه إلا وضعه عنده لما يعلم من صدقه وأمانته.
فلما أجمع عليه السلام الخروج أتى أبا بكر فخرجا من خوخة «1» لأبى بكر فى ظهر بيته، ثم عمدا إلى غار بثور، جبل بأسفل مكة، فدخلاه.
وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهارا ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون فى ذلك اليوم من الخبر، فكان يفعل ذلك، وأمر عامر بن فهيرة «2» مولاه أن يرعى غنمه نهاره، ثم يريحها عليهما إذا أمسى فى الغار، فكان عامر يرعى رعيان أهل مكة فإذا أمسى أراح عليهما، فاحتلبا وذبحا، فإذا غدا عبد الله بن أبى بكر من عندهما إلى مكة، تبع عامر أثره بالغنم حتى يعفى عليه، وكانت أسماء بنت أبى بكر تأتيهما من الطعام بما يصلحهما.
وذكر ابن هشام «3» عن الحسن بن أبى الحسن قال: انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى الغار ليلا فدخل أبو بكر قبله فلمس الغار لينظر فيه سبع أو حية، يقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه «4» .
ولما فقدت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم طلبوه بمكة أعلاها وأسفلها، وبعثوا القافة يتبعون أثره فى كل وجه، فوجد الذى ذهب قبل ثور أثره هناك، فلم يزل يتبعه حتى انقطع له لما انتهى إلى ثور. وشق على قريش خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وجزعوا لذلك، فطفقوا يطلبونه بأنفسهم فيما قرب منهم، ويرسلون من يطلبه فيما بعد عنهم، وجعلوا مائة ناقة لمن رده عليهم، ولما انتهوا إلى فم الغار، وقد كانت العنكبوت ضربت على بابه بعشاش بعضها على بعض، بعد أن دخله رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكروا، قال قائل منهم:
ادخلوا الغار، فقال أمية بن خلف: وما أربكم إلى الغار؟ إن عليه لعنكبوتا أقدم من ميلاد محمد!.
__________
(1) خوخة: هى الكوة فى الجدار تؤدى الضوء، وقيل: هى باب صغير كالنافذة الكبيرة تكون بين بيتين ينصب عليها باب. انظر: اللسان (مادة خوخ) .
(2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1346) ، الإصابة الترجمة رقم (4433) ، تلقيح المقال (2/ 6059) .
(3) انظر: السيرة (2/ 92- 93) .
(4) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 180) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 279) .(1/282)
قالوا: فنهى النبى صلى الله عليه وسلم يومئذ عن قتل العنكبوت، وقال: «إنها جند من جنود الله» «1» .
وخرج أبو بكر البزار فى مسنده من حديث أبى مصعب المكى، قال: أدركت زيد ابن أرقم، والمغيرة بن شعبة، وأنس بن مالك، يحدثون: أن النبى صلى الله عليه وسلم لما كان ليلة بات فى الغار، أمر الله تبارك وتعالى شجرة فنبتت فى وجه الغار فسترت وجه النبى صلى الله عليه وسلم، وأمر الله العنكبوت فنسجت على وجه الغار، وأمر الله عز وجل، حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار، وأتى المشركون من كل بطن حتى إذا كانوا من النبى صلى الله عليه وسلم على قدر أربعين ذراعا، معهم قسيهم وعصيهم، تقدم رجل منهم فنظر فرأى الحمامتين، فرجع فقال لأصحابه: ليس فى الغار شىء، رأيت حمامتين على فم الغار فعرفت أن ليس فيه أحد.
فسمع قول النبى صلى الله عليه وسلم فعرف أن الله قد درأ بهما عنه، فشمت عليهما وفرض جزاءهما، واتخذت فى حرم الله ففرخن. أحسبه قال: فأصل كل حمام فى الحرم من فراخهما.
وذكر قاسم بن ثابت فيما تولى شرحه من الحديث أن الله أنبت الراءة على باب الغار لما دخله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر رضى الله عنه، قال: وهى شجرة معروفة. قال غيره: تكون مثل قامة الإنسان، ولها زهر أبيض تحشى به المخاد للينه وخفته.
وحكى الواقدى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل الغار، دعا بشجرة كانت أمام الغار، فأقبلت حتى وقفت على باب الغار، فحجبت أعين الكفار وهم يطوفون فى الجبل.
وقال أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه. فقال: «يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما!» «2» .
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر معه فى الغار ثلاثا، حتى إذا مضت الثلاثة وسكن عنهما الناس، أتاهما صاحبهما الذى استأجرا ببعيريهما، وأتتهما أسماء بنت أبى بكر بسفرتهما، ونسيت أن تجعل لها عصاما «3» ، فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة فإذا ليس
__________
(1) ذكره السيوطى فى الدر المنثور (3/ 240) .
(2) انظر الحديث فى: سنن الترمذى (3096) ، مسند الإمام أحمد (1/ 4) ، طبقات ابن سعد (3/ 1/ 123) ، الدر المنثور للسيوطى (3/ 242) ، كنز العمال للمتقى الهندى (32614، 32568) ، شرح السنة للبغوى (13/ 366) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (7/ 68، 111) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (5868) .
(3) العصام: الحبل أو شبهه يشد على فم المزادة ونحوها ليحفظ باقيها أو تعلق منها فى وتد.(1/283)
فيها عصام، فتحل نطاقها فتجعله عصاما، ثم تعلقها به، فكان يقال لها: ذات النطاق لذلك فيما ذكر ابن إسحاق «1» .
وأما ابن هشام «2» فذكر أنها إنما يقال لها: ذات النطاقين، وهو المشهور عنها رضى الله عنها، وذكر أنه سمع غير واحد من أهل العلم يفسره بأنها شقت نطاقها باثنين، فعلقت السفرة بواحد وانتطقت بالآخر.
قال ابن إسحاق: فلما قرب أبو بكر الراحلتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم له أفضلهما، ثم قال: اركب فداك أبى وأمى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنى لا أركب بعيرا ليس لى.
قال: فهى لك يا رسول الله بأبى أنت وأمى. قالا: لا، ولكن ما الثمن الذى ابتعتها به؟
قال: كذا وكذا. قال: قد أخذتها بذلك. فركبا وانطلقا، وأردف أبو بكر خلفه مولاه عامر بن فهيرة ليخدمهما فى الطريق «3» .
قال»
: فحدثت عن أسماء بنت أبى بكر قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل، فقالوا: أين أبوك يا ابنة أبى بكر؟ قلت: لا أدرى والله. فرفع أبو جهل يده وكان فاحشا خبيثا فلطم خدى لطمة طرح منها قرطى، ثم انصرفوا فمكثنا ثلاث ليال ما ندرى أين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبل رجل من الجن من أسفل مكة يتغنى بأبيات من شعر غناء العرب، وإن الناس ليتبعونه يسمعون صوته وما يرونه، حتى خرج من أعلى مكة وهو يقول:
جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين حلا خيمتى أم معبد
هما نزلا بالبر ثم تروحا ... فأفلح من أمسى رفيق محمد
ليهن بنى كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
قالت أسماء: فلما سمعنا قوله عرفنا حيث وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن وجهه إلى المدينة «5» .
__________
(1) انظر: السيرة (2/ 93) .
(2) انظر: السيرة (2/ 93- 94) .
(3) انظر الحديث فى: صحيح البخارى كتاب الإيجارة (2263) ، مسند الإمام أحمد (6/ 473، 475) .
(4) انظر: السيرة (2/ 94) .
(5) انظر الحديث فى: الحاكم فى المستدرك (3/ 9، 10) ، ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 192- 194) .(1/284)
وعن غير ابن إسحاق وهو عندنا بالإسناد من طرق، أن أم معبد هذه امرأة من بنى كعب من خزاعة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من مكة مهاجرا إلى المدينة هو وأبو بكر ومولاة عامر بن فهيرة ودليلهما الليثى عبد الله بن الأريقط مروا على خيمتى أم معبد الخزاعية «1» وكانت امرأة برزة جلدة تحتبى بفناء القبة ثم تسقى وتطعم، فسألوها لحما وتمرا ليشتروه منها فلم يصيبوا عندها شيئا من ذلك، وكان القوم مرملين مسنتين، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة فى كسر الخمية فقال: «ما هذه الشاة يا أم معبد؟» قالت:
شاة خلفها الجهد عن المغنم. قال: «هل بها من لبن؟» قالت: هى أجهد من ذلك. قال:
«أتأذنين أن أحلبها؟» قالت: نعم، بأبى أنت وأمى إن رأيت بها حلبا فاحلبها، فدعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح بيده ضرعها وسمى الله ودعا لها فى شاتها فتفاجت عليه ودرت واجترت، ودعا بإناء يربض الرهط فحلب فيه ثجا حتى علاه البهاء، ثم سقاها حتى رويت وسقى أصحابه حتى رووا وشرب آخرهم، ثم أراضوا، ثم حلب فيه ثانيا بعد بدء حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها وبايعها وارتحلوا عنها.
فقل ما لبثت حتى جاء زوجها أبو معبد «2» يسوق أعنزا عجافا يتساوكن هزلا ضخامهن قليل، فلما رأى أبو معبد اللبن عجب وقال: من أين لك هذا اللبن يا أم معبد؛ والشاء عازب حيال ولا حلوب فى البيت؟ قالت: لا والله، إلا أنه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا. قال: صفيه لى يا أم معبد: قالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة أبلج الوجه حسن الخلق لم يعبه ثجلة ولم تزر به صعلة وسيم قسيم فى عينيه دعج وفى وعج وفى أشفاره غطف وفى عنقه سطع وفى صوته صحل وفى لحيته كثافة، أزج أقرن إن صمت فعليه الوقار وإن تكلم سما وعلاه البهاء، أجمل وأبهاه من بعيد وأحسنه وأجمله من قريب، حلو المنطق فصل لا نزر ولا هذر كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، ربعة لا يائس من طول ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين فهو أنضر الثلاثة منظرا وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفون به إن قال أنصتوا لقوله وإن أمر تبادروا لأمره محفود محشود لا عابس ولا مفند.
__________
(1) هى: عاتكة بنت خالد بن منقذ بن ربيعة، أم معبد الخزاعية، ويقال: عاتكة بنت خالد بن مهاجرا. انظر ترجمتها فى: الاستيعاب الترجمة رقم (3457) ، الإصابة الترجمة رقم (11451) ، أسد الغابة الترجمة رقم (7086) .
(2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (3209) ، الإصابة الترجمة رقم (10551) ، أسد الغابة الترجمة رقم (6262) .(1/285)
قال أبو معبد: هو والله صاحب قريش الذى ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة، ولقد هممت أن أصحبه ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا «1» . وأصبح صوت بمكة عال يسمعون الصوت بمكة علا يسمعون الصوت ولا يدرون من صاحبه، وهو يقول:
جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين قالا خيمتى أم معبد
هما نزلاها بالهدى فاهتدت به ... فقد فاز من أمسى رفيق محمد
فيا لقصى ما زوى الله عنكم ... به من فعال لا تجارى وسؤدد
ليهن بنى كعب مقام فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها ... فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
دعاها بشاة حائل فتحلبت ... له بصريح ضرة الشاة مزبد
فغادرها رهنا لديها لحالب ... يرددها فى مصدر ثم مورد
فلما سمع بذلك حسان بن ثابت جعل يجاوب الهاتف ويقول:
لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم ... وقدس من يسرى إليهم ويغتدى
ترحل عن قوم فضلت عقولهم ... وحل على قوم بنور مجدد
هداهم به بعد الضلالة ربهم ... وأرشدهم من يتبع الحق يرشد
وهل يستوى ضلال قوم تسكعوا ... عمى وهداة يهتدى بمهتدى
لقد نزلت منهم على أهل يثرب ... ركاب هدى حلت عليهم بأسعد
نبى يرى ما لا يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب الله فى كل مسجد
وإن قال فى يوم مقالة غائب ... فتصديقها فى اليوم أو فى ضحى الغد
ليهن أبا بكر سعادة جده ... بصحبته من يسعد الله يسعد
وذكر أبو منصور محمد بن سعد الماوردى بإسناد له إلى قيس بن النعمان قال: لما انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر معه يستخفيان فى الغار فمرا بعبد يرعى غنما فاستسقياه من اللبن فقال: والله ما لى شاة تحلب، غير أن هاهنا عناقا حملت أول الشاء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ائتنا بها» . فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة ثم حلب عسا فسقى أبا بكر، ثم حلب آخر فسقى الراعى، ثم حلب فشرب.
فقال العبد: من أنت؟ فو الله ما رأيت مثلك قط! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتراك إن
__________
(1) انظر الحديث فى: طبقات ابن سعد (1/ 1/ 155) ، دلائل النبوة للبيهقى (1/ 278) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 56) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (7/ 159، 186) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (5943) ، كنز العمال للمتقى الهندى (46300) .(1/286)
حدثتك تكتم على؟» قال: نعم، قال: «فإنى محمد رسول الله» . قال: أنت الذى تزعم قريش أنك صابئ؟ قال: «إنهم ليقولون ذلك» .
قال العبد: فإنى أشهد أنك رسول الله، وأن ما جئت به الحق، وأنه ليس يفعل فعلك إلا نبى، ثم قال العبد: أتبعك؟ قال: «لا، حتى تسمع بنا أنا قد ظهرنا» «1» .
وخرج البرقانى فى مصافحته من حديث البراء بن عازب «2» رضى الله عنهما، وأورده الإمامان البخارى ومسلم فى صحيحيهما من حديثه قال: اشترى أبو بكر رضى الله عنه، من عازب رحلا بثلاثة عشر درهما، فقال أبو بكر لعازب: مر البراء أن يحمله إلى أهلى. فقال له عازب: حتى تحدثنى كيف صنعت أنت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجتما من مكة والمشركون يطلبونكم.
قال: ارتحلنا من مكة فأحثثنا يومنا وليلتنا حتى أظهرنا وقام قائم الظهيرة، فرميت ببصرى هل أرى من ظل نأوى إليه، فإذا أنا بصخرة فانتهيت إليها فإذا بقية ظل لها، فنظرت بقية ظلها فسويته وفرشت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فروة وقلت: اضطجع يا رسول الله، فاضطجع، ثم ذهبت أنظر ما حوله هل أرى من الطلب أحدا، فإذا أنا براعى غنم يسوق غنمه إلى الصخرة يريد منها مثل الذى أريد، يعنى الظل. فسألته فقلت: لمن أنت يا غلام؟ قال: فلان، رجل من قريش سماه، فعرفته، فقلت: هل فى غنمك من لبن؟
قال: نعم، قلت: هل أنت حالب لى؟ قال: نعم، فاعتقل شاة من غنمه فأمرته أن ينفض ضرعها من الغبار، ثم أمرته أن ينفض كفيه، فقال هكذا، فضرب إحدى يديه على الأخرى فحلب لى كثبة من لبن وقد رويت معى لرسول الله صلى الله عليه وسلم إداوة على فمها خرقة، فصببت على اللبن حتى برد أسفله، فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد استيقظ، قلت: يا رسول الله اشرب، فشرب حتى رضيت، وقلت: قد آن الرحيل يا رسول الله، فارتحلنا والقوم يطلبوننا فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم «3» على فرس له،
__________
(1) ذكره ابن حجر فى المطالب العالية (4295) .
(2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (174) ، الإصابة الترجمة رقم (618) ، أسد الغابة الترجمة رقم (389) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (272) ، جمهرة أنساب العرب (341) ، العقد الفريد (5/ 282) ، الوافى بالوفيات (10/ 104) ، مرآة الجنان (1/ 145) ، تقريب التهذيب (1/ 94) ، خلاصة تذهيب التهذيب (46) ، شذرات الذهب (1/ 77، 78) ، طبقات الفقهاء (52) ، تاريخ الطبرى (10/ 192) .
(3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (921) ، الإصابة الترجمة رقم (3122) ، أسد الغابة-(1/287)
فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله، وبكيت، قال: «لا تحزن إن الله معنا!» .
قال: فلما دنا فكان بيننا وبينه قدر رمحين أو ثلاثة قلت: هذا الطلب يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بلغنا، وبكيت، قال: «ما يبكيك؟» فقلت: أما والله ما على نفسى أبكى، ولكنى أبكى عليك، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اكفناه بما شئت» ، فساخت فرسه فى الأرض إلى بطنها، فوثب عنها وقال: يا محمد، قد علمت أن هذا عملك فادع الله أن ينجينى مما أنا فيه، فو الله لأعمين على من ورائى من الطلب، وهذه كنانتى فخذ منها سهما فإنك ستمر على إبلى وغنمى بمكان كذا وكذا، فخذ منها حاجتك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا حاجة لى فى إبلك» ، ودعا له، فانطلق راجعا إلى أصحابه. وفى حديث البخارى ومسلم: فجعل لا يلقى أحدا إلا قال: قد كفيتكم ما هنا. فلا يلقى أحدا إلا ردة. قال: ووفى لنا «1» .
وعن سراقة بن مالك بن جعشم فيما أورده ابن إسحاق «2» قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجرا إلى المدينة جعلت قريش فيه مائة ناقة لمن رده عليهم. قال: فبينما أنا جالس فى نادى قومى أقبل رجل منا حتى وقف علينا فقال: والله لقد رأيت ركبة ثلاثة مروا على آنفا، إنى لأراهم محمدا وأصحابه، قال: فأومأت إليه، يعنى أن أسكت، ثم قلت: إنما هم بنو فلان يتبعون ضالة لهم. قال: لعله. ثم سكت.
فمكثت قليلا ثم قمت فدخلت بيتى، ثم أمرت بفرسى فقيد لى إلى بطن الوادى وبسلاحى فأخرج لى من دبر حجرتى، ثم أخذت قداحى التى أستقسم بها، ثم انطلقت فلبست لامتى، ثم أخرجت قداحى، فاستقسمت بها فخرج السهم الذى أكره: لا يضره. وكنت أرجو أن أرده على قريش فآخذ المائة، فركبت على أثره، فبينا فرسى يشتد بى عثر بى فسقطت عنه، فقلت: ما هذا؟! ثم أخرجت قداحى فاستقسمت بها
__________
- الترجمة رقم (1955) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 210) ، تقريب التهذيب (1/ 284) ، تهذيب التهذيب (3/ 456) ، تهذيب الكمال (1/ 466) ، شذرات الذهب (1/ 35) ، الأعلام (3/ 80) ، الأنساب (7/ 116) ، العقد الثمين (4/ 523) .
(1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (4/ 246، 5/ 4) ، صحيح مسلم (2310) ، مسند الإمام أحمد (1/ 2، 3) ، مصنف ابن أبى شيبة (14/ 328) ، دلائل النبوة للبيهقى (2/ 478، 485) ، امجمع الزوائد للهيثمى (6/ 52) ، شرح السنة للبغوى (13/ 369) ، الدر المنثور للسيوطى (3/ 239) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 8) .
(2) انظر: السيرة (2/ 96- 97) .(1/288)
فخرج السهم الذى أكره: لا يضره. فأبيت إلا أن أتبعه، فركبت فى أثره، فبينا فرسى يشتد بى عثر بى فرسى وذهبت يداه فى الأرض وسقطت عنه، ثم انتزع يديه من الأرض وتبعها دخان كالإعصار، فعرفت حين رأيت ذلك أنه قد منع منى وأنه ظاهر، فناديت القوم: أنا سراقة بن جعشم، انظرونى أكلمكم، فو الله لا أريبكم ولا يأتيكم منى شىء تكرهونه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بكر رضى الله عنه: «قل له: ما تبتغى؟» قال: تكتبوا لى كتابا يكون آية بينى وبينك. قال: «اكتب يا أبا بكر» .
فكتب لى كتابا فى عظم أو فى رقعة أو فى خرقة ثم ألقاه إلى، فأخذته فجعلته فى كنانتى، ثم رجعت فلم أذكر شيئا مما كان، حتى إذا كان فتح مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفرغ من حنين والطائف خرجت ومعى الكتاب لألقاه فلقيته بالجعرانة فدخلت فى كتيبة من خيل الأنصار فجعلوا يقرعوننى بالرماح ويقولون: إليك إليك ماذا تريد؟، فدنوت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته، والله لكأنى أنظر إلى ساقه فى غرزه كأنها جمارة، فرفعت يدى بالكتاب ثم قلت: يا رسول الله هذا كتابك لى، أنا سراقة بن جعشم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يوم وفاء وبر ادن. فدنوت فأسلمت. ثم تذكرت شيئا أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فما أذكره، إلا أنى قلت: يا رسول الله الضالة من الإبل تغشى حياضى وقد ملأتها لإبلى، هل لى من أجر فى أن أسقيها؟ قال: «نعم، فى كل ذات كبد حرى أجر» «1» . ثم رجعت إلى قومى فسقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقتى.
وفى حديث آخر عن غير ابن إسحاق أن سراقة بن مالك بن جعشم هذا كان شاعرا مجيدا، وأنه قال يخاطب أبا جهل بن هشام بعد انصرافه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أبا حكم والله لو كنت شاهدا ... لأمر جوادى إذ تسوخ قوائمه
علمت ولم تشكك بأن محمدا ... رسول ببرهان فمن ذا يقاومه
عليك بكف القوم عنه فإننى ... أرى أمره يوما ستبدو معالمه
بأمر يود الناس فيه بأسرهم ... بأن جميع الناس طرا يسالمه
وذكر ابن إسحاق من رواية يونس بن بكير عنه شعرا نسبه إلى أبى بكر الصديق
__________
(1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (4/ 175) ، سنن ابن ماجه (3686) ، مستدرك الحاكم (3/ 619) ، مسند الحميدى (902) ، مجمع الزوائد للهيثمى (3/ 131) ، وقال: رواه أحمد ورجاله ثقات.(1/289)
رضى الله عنه يذكر فيه مسيره مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصة الغار وأمر سراقة، وهو:
قال النبى ولم يجزع يوقرنى ... ونحن فى سدفة من ظلمة الغار
لا تخش شيئا فإن الله ثالثنا ... وقد توكل لى منه بإظهار
وإنما كيد من تخشى بوادره ... كيد الشياطين كادته لكفار
والله مهلكهم طرا بما كسبوا ... وجاعل المنتهى منهم إلى النار
وأنت مرتحل عنهم وتاركهم ... إما غدوا وإما مدلج سارى
وهاجر أرضهم حتى يكون لنا ... قوم عليهم ذوو عز وأنصار
حتى إذا الليل وارتنا جوانبه ... وسد دون الذى نخشى بأستار
سار الأريقط يهدينا وأنيقه ... ينعين بالقرم نعيا تحت أكوار
يعسفن عرض الثنايا بعد أطولها ... وكل سهب رقاق الترب موار
حتى إذا قلت قد أنجدن عارضها ... من مدلج فارس فى منصب وار
يردى به مشرف الأقطار معتزم ... كالسيد ذى اللبدة المستأسد الضارى
فقال كروا فقلنا إن كرتنا ... من دونها لك نصر الخالق البارى
إن يخسف الأرض بالأحوى وفارسه ... فانظر إلى أربع فى الأرض غوار
فهيل لما رأى أرساغ مقربه ... قد سخن فى الأرض لم تحفر بمحفار
فقال هل لكم أن تطلقوا فرسى ... وتأخذوا موثقى فى نصح أسرار
وأصرف الحى عنكم إن لقيتهم ... وأن أعور منهم عين عوار
فادع الذى هو عنكم كف عدوتنا ... يطلق جوادى وأنتم خير أبرار
فقال قولا رسول الله مبتهلا ... يا رب إن كان منه غير إخفار
فنجه سالما من شر دعوتنا ... ومهر مطلقا من كلم آثار
فأظهر الله إذ يدعو حوافره ... وفاز فارسه من هول أخطار
وسراقة بن مالك هذا الذى أظهر الله فيه هذا العلم العظيم من أعلام نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قد أظهر الله فيه أثرا آخر من الآثار الشاهدة له عليه السلام بأن الله أطلعه من الغيب فى حياته ما ظهر مصداقه بعد وفاته.
روى سفيان بن عيينة، عن أبى موسى، عن الحسن، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسراقة بن مالك: «كيف بك إذا لبست سوارى كسرى؟!» «1» قال: فلما أتى عمر رضى الله عنه، بسوارى كسرى ومنطقته وتاجه دعا سراقة بن مالك فألبسه إياهما.
__________
(1) انظر الحديث فى: إتحاف السادة المتقين للزبيدى (7/ 18) ، كشفا الخفاء للعجلونى (1/ 674) .(1/290)
وكان سراقة رجلا أزب كثير شعر الساعدين، وقال له: ارفع يديك فقل: الله أكبر! الحمد لله الذى سلبهما كسرى بن هرمز الذى كان يقول: أنا رب الناس، وألبسهما سراقة بن مالك بن جعشم أعرابيا من بنى مدلج!! ورفع بها عمر رضى الله عنه، صوته.
قال ابن إسحاق «1» : وذكر إسنادا رفعه إلى أسماء بنت أبى بكر، قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج معه أبو بكر احتمل أبو بكر ماله كله، خمسة آلاف أو ستة، فدخل علينا جدى أبو قحافة وقد ذهب بصره، فقال: والله إنى لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه. فقلت: يا أبت إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا. فأخذت أحجارا فوضعتها فى كوة كان أبى يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوبا ثم أخذت بيده فقلت: يا أبت ضع يدك على هذا المال. قالت: فوضع يده عليه ثم قال: لا بأس إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن، وفى هذا بلاغ لكم، ولا والله ما ترك لنا شيئا، ولكنى أردت أن أسكن الشيخ بذلك «2» .
وذكر ابن إسحاق الطريق التى سلك برسول الله صلى الله عليه وسلم وبأبى بكر الصديق رضى الله عنه دليلهما عبد الله بن أريقط، والمناقل التى سار بهما عليهما إلى أن قدم بهما قباء على بنى عمرو بن عوف لاثنتى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول يوم الاثنين، حين اشتد الضحى وكادت الشمس تعتدل «3» .
وقال غير ابن إسحاق: قدمها لثمان خلون من ربيع الأول.
وقال ابن الكلبى: خرج من الغار يوم الاثنين أول يوم من ربيع الأول، ووصل المدينة يوم الجمعة لاثنتى عشرة منه. فالله تعالى أعلم.
وذكر ابن إسحاق «4» : من حديث عبد الرحمن بن [عويم] «5» بن ساعدة، قال:
حدثنى رجال من قومى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: لما سمعنا بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة توكفنا قدومه، فكنا نخرج إذا صلينا الصبح إلى ظاهر حرتنا ننتظره، فو الله
__________
(1) انظر: السيرة (2/ 95- 96) .
(2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (6/ 350) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 59) .
(3) انظر: السيرة (2/ 98- 99) .
(4) انظر: السيرة (2/ 100) .
(5) ما بين المعقوفتين ورد فى الأصل: «عويمر» ، والتصحيح من السيرة والاستيعاب. وانظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1456) ، الإصابة الترجمة رقم (6244) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3372) ، التاريخ الكبير (5/ 325) .(1/291)
ما نبرح حتى تغلبنا الشمس على الظلال، فإذا لم نجد ظلا دخلنا، وذلك فى أيام حارة.
حتى إذا كان اليوم الذى قدم فيه جلسنا كما كنا نجلس، حتى إذا لم يبق ظل دخلنا بيوتنا، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخلنا البيوت، فكان أول من رآه رجل من يهود وقد رأى ما كنا نصنع وأنا ننتظر قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا، فصرخ بأعلى صوته: يا بنى قيلة هذا جدكم قد جاء.
فخرجنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فى ظل نخلة ومعه أبو بكر فى مثل سنه، وأكثرنا لم يكن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، وركبه الناس، وما يعرفونه من أبى بكر حتى زال الظل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام أبو بكر فأظله بردائه فعرفناه عند ذلك «1» .
قال ابن إسحاق «2» : فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يذكرون على كلثوم بن هدم «3» ، أخى بنى عمرو بن عوف. ويقال: بل نزل على سعد بن خيثمة.
ويقول من يذكر نزوله على كلثوم أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من منزل كلثوم جلس للناس فى بيت سعد بن خيثمة، لأنه كان عزبا لا أهل له، فمن هناك يقال: نزل عليه.
وكان يقال لبيت سعد: بيت العزاب، لأنه كان منزل المهاجرين منهم. فالله أعلم أى ذلك كان «4» .
ونزل أبو بكر الصديق رضى الله عنه، على خبيب بن إساف «5» ، أحد بنى الحارث ابن الخزرج بالسنج، ويقال: على خارجة بن زيد بن أبى زهير «6» منهم.
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى كتاب مناقب الأنصار (7/ 281، 282) ، طبقات ابن سعد (1/ 233) ، دلائل النبوة للبيهقى (2/ 498، 499) ، شرح السنة للبغوى (7/ 109) .
(2) انظر: السيرة (2/ 100) .
(3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2237) ، الإصابة الترجمة رقم (7459) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4494) ، طبقات ابن سعد (3/ 2/ 149) ، تاريخ خليفة (55) ، الاستبصار (293) .
(4) ذكره الطبرى فى تاريخه (1/ 571) ، ابن كثير فى السيرة (2/ 270) ، ابن سعد فى الطبقات (1/ 233) .
(5) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (651) ، الإصابة الترجمة رقم (2224) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1413) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 156) ، الاستبصار (186) ، تبصير المنتبه (3/ 927) ، الطبقات الكبرى (8/ 360) .
(6) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (608) ، الإصابة الترجمة رقم (2140) ، أسد الغابة-(1/292)
وأقام على بن أبى طالب بمكة ثلاث ليال وأيامها، حتى أدى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التى كانت عنده للناس، حتى إذا فرغ منها لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل معه. فكان على رضى الله عنه، وإنما كانت إقامته بقباء ليلة أو ليلتين، يقول: كانت بقباء امرأة مسلمة لا زوج لها، فرأيت إنسانا يأتيها من جوف الليل فيضرب عليها بابها فتخرج إليه فيعطيها شيئا معه فتأخذه.
قال: فاستربت شأنه، فقلت لها: يا أمة الله، من هذا الذى يضرب عليك بابك كل ليلة فتخرجين إليه فيعطيك شيئا لا أدرى ما هو، وأنت امرأة مسلمة لا زوج لك؟ قالت:
هذا سهل بن حنيف، قد عرف أنى امرأة لا أحد لى، فإذا أمسى عدا على أوثان قومه فكسرها ثم جاءنى بها فقال: احتطبى بهذا! فكان على رضى الله عنه، يأثر ذلك فى أمر سهل بن حنيف، حين هلك عنده بالعراق «1» .
قال ابن إسحاق «2» : فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء فى بنى عمرو بن عوف يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وأسس مسجدهم «3» ، ثم أخرجه الله تعالى، من بين أظهرهم يوم الجمعة. وبنو عمرو بن عوف يزعمون أنه مكث فيهم أكثر من ذلك، فالله أعلم.
فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة فى بنى سالم بن عوف فصلاها فى المسجد الذى فى بطن الوادى، وادى رانوناء، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة «4» .
فأتاه عتبان بن مالك «5» ، وعباس بن عبادة بن نضلة «6» ، فى رجال من بنى سالم، فقالوا: يا رسول الله، صلى الله عليك، أقم عندنا فى العدد والعدة والمنعة. قال: «خلوا سبيلها فإنها مأمورة لناقته، فخلوا سبيلها» .
__________
- الترجمة رقم (1330) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 147) ، سير أعلام النبلاء (4/ 437، 446) ، روضات الجنات (3، 275) ، الاستبصار (1/ 115) ، الثقات (3/ 111) .
(1) ذكره الصالحى فى السيرة الشامية (3/ 379) ، ابن سيد الناس فى عيون الأثر (1/ 312) .
(2) انظر: السيرة (2/ 102) .
(3) انظر الحديث فى: صحيح البخارى كتاب مناقب الأنصار (3932) .
(4) ذكره الطبرى فى تاريخه (2/ 7) ، ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 213، 214) .
(5) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2042) ، الإصابة الترجمة رقم (5412) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3541) .
(6) انظر ترجمته فى: الاستيعاب (1385) ، الإصابة الترجمة رقم (2525) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2798) .(1/293)
فانطلقت حتى إذا وازنت دار بنى بياسة تلقاه زياد بن لبيد وفروة بن عمرو، فى رجال من بنى بياضة، فقالوا: يا رسول الله، هلم إليها إلى العدد والعدة والمنعة. «قال:
خلوا سبيلها فإنها مأمورة، فخلوا سبيلها» .
حتى إذا مرت بدار بنى ساعدة اعترضاه سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو فى رجال منهم، فقالوا: يا رسول الله، هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة، قال: خلوا سبيلها فإنها مأمورة، فخلوا سبيلها، فانطلقت حتى إذا وازنت دار بنى الحارث بن الخزرج اعترضاه سعد بن الربيع وخارجة بن زيد بن أبى زهير، وعبد الله بن رواحة فى رجال من بلحارث، فقالوا: يا رسول الله، هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة. قال: خلو سبيلها فإنها مأمورة. فخلوا سبيلها، فانطلقت حتى إذا مرت بدار بنى عدى بن النجار وهم أخواله دنيا أم عبد المطلب، سلمى بنت عمرو إحدى نسائهم، اعترضاه سليط بن قيس وأبو سليط أسيرة بن أبى خارجة، فى رجال منهم، فقالوا: يا رسول الله، هلم إلى أخواله دنيا أم عبد المطلب، سلمى بنت عمرو إحدى نسائهم، اعترضاه سليط بن قيس وأبو سليط أسيرة بن أبى خارجة، فى رجال منهم، فقالوا: يا رسول الله، هلم إلى أخوالك إلى العدد والعدة والمنعة. قال. «خلوا سبيلها» ، حتى إذا أتت دار بنى مالك بن النجار بركت على باب مسجده، وهو يومئذ مربد لغلامين يتيمين من بنى مالك بن النجار، فى حجر معاذ بن عفراء، فلما بركت ورسول الله صلى الله عليه وسلم عليها لم ينزل وثبت، فسارت غير بعيد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع لها زمامها لا يثنيها به، ثم التفتت خلفها فرجعت إلى مبركها أول مرة فبركت فيه، ثم تحلحلت ورزمت ووضعت جرانها، فنزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحتمل أبو أيوب رحله فوضعه فى بيته.
ونزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بنى مسجده ومساكنه، وسأل عن المربد لمن هو؟
فقال له معاذ بن عفراء: هو يا رسول الله لسهل وسهيل ابنى عمرو، وهما يتيما له وسأرضيهما منه، فاتخذه مسجدا، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يا بنى، وعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرغب المسلمين فى العمل فيه، فعمل فيه المهاجرون والأنصار ودأبوا «1» .
فقال قائل من المسلمين:
لئن قعدنا والنبى يعمل ... لذاك منا العمل المضلل
وحدث «2» أبو أيوب قال: لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بيتى نزل فى السفل وأنا
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى كتاب مناقب الأنصار (3906) ، صحيح مسلم كتاب الجهاد (3/ 129) ، مسند الإمام أحمد (2/ 381) ، سنن أبى داود حديث رقم (453) . سنن ابن ماجه (742) .
(2) انظر: السيرة (2/ 106- 107) .(1/294)
وأم أيوب فى العلو، فقلت له: يا نبى الله بأبى أنت وأمى! إنى لأكره وأعظم أن أكون فوقك وتكون تحتى، فاظهر أنت فكن فى العلو وننزل نحن فنكون فى السفل. فقال: «يا أبا أيوب، إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن تكون فى سفل البيت» «1» .
فلقد انكسر حب لنا فيه ماء، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة ما لنا لحاف غيرها ننشف بها الماء، تخوفا أن يقطر على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شىء فيؤذيه.
فكنا نصنع له العشاء ثم نبعث به إليه، فإذا رد علينا فضله تيممت أنا وأم أيوب موضع يده فأكلنا منه، نبتغى بذلك البركة، حتى بعثنا إليه بعشائه وقد جعلنا له فيه بصلا أو ثوما، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أر ليده فيه أثرا، فجئته فزعا فقلت: يا رسول الله، بأبى أنت وأمى رددت عشاءك ولم أر فيه موضع يدك، وكنت إذا رددته علينا تيممت أنا وأم أيوب موضع يدك نبتغى بذلك البركة. قال: إنى وجدت فيه ريح هذه الشجرة وأنا رجل أناجى، فأما أنتما فكلوه. فأكلناه ولم نصنع له تلك الشجرة بعد «2» .
قال ابن إسحاق «3» : وتلاحق المهاجرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق بمكة منهم أحد إلا مفتون أو محبوس، ولم يوعب أهل هجرة من مكة بأهليهم وأموالهم إلى الله تبارك وتعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، إلا أهل دور مسمون، بنو مظعون من بنى جمح، وبنو جحش ابن رئاب، حلفاء بنى أمية، وبنو البكير من بنى سعد بن ليث، حلفاء بنى عدى بن كعب، فإن دورهم غلقت بمكة هجرة، ليس فيها ساكن.
فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة إذ قدمها شهر ربيع الأول إلى صفر من السنة الداخلة، بنى له فيها مسجده ومساكنه. قال: وكانت أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنى عن أبى سلمة بن عبد الرحمن، نعوذ بالله أن نقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل، أنه قام فيهم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: «أما بعد، أيها الناس، فقدموا لأنفسكم تعلمن والله ليصعقن أحدكم ثم ليدعن غنمه ليس لها راع، ثم ليقولن له ربه، ليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه: ألم يأتك رسولى فبلغك وآتيتك مالا وأفضلت عليك فما قدمت لنفسك؟ فلينظرن يمينا وشمالا فلا يرى شيئا، ثم لينظرن قدامه فلا يرى غير جهنم. فمن استطاع أن يقى وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل، ومن لم
__________
(1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (5/ 415) ، صحيح مسلم كتاب الفتن (3/ 171) .
(2) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 201) ، مستدرك الحاكم (3/ 460) ، ورواه أبو بكر بن أبى شيبة وابن أبى عاصم كما فى الإصابة (1/ 405) .
(3) انظر: السيرة (2/ 107) .(1/295)
يجد فبكلمة طيبة، فإن بها تجزى الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته» «1» .
قال ابن إسحاق «2» : ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس مرة أخرى فقال: «إن الحمد لله أحمده وأستعينه، نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إن أحسن الحديث كتاب الله تبارك وتعالى، قد أفلح من زينه الله فى قلبه، وأدخله فى الإسلام بعد الكفر، فاختاره على ما سواه من أحاديث الناس، إنه أحسن الحديث وأبلغه، أحبوا ما أحب الله، أحبوا الله من كل قلوبكم، ولا تملوا كلام الله وذكره، ولا تقس عنه قلوبكم، فإنه من كل ما يخلق الله يختار ويصطفى، فقد سماه الله خيرته من الأعمال ومصطفاه من العباد، والصالح من الحديث ومن كل ما أوتى الناس الحلال والحرام، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا واتقوه حق تقاته، واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم، وتحابوا بروح الله بينكم، إن الله يغضب أن ينكث عهده، والسلام عليكم» «3» .
قال ابن إسحاق «4» : وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا بين المهاجرين والأنصار وادع فيه يهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم، واشترط عليهم وشرط لهم «5» .
__________
(1) انظر ذكر أول خطبة للنبى صلى الله عليه وسلم فى: المنتظم لابن الجوزى (3/ 65) ، تاريخ الطبرى (2/ 394) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 213) .
(2) انظر: السيرة (2/ 109) .
(3) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 214) .
(4) انظر: السيرة (2/ 109) .
(5) ذكر ابن هشام فى السيرة نص ما اشتراطه النبى صلى الله عليه وسلم على المهاجرين والأنصار، فقال: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبى صلى الله عليه وسلم، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم، فلحق بهم، وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون الأولى، كل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو ساعدة على رعبتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو الحارث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم-
- الأولى، وكل طائفة منهم تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو النبت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدى عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وإن المؤمنين لا يتركون مفرحا بينهم أن يعطوه بالمعروف فى فداء أو عقل «وأن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه، وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم، أو ابتغى دسيعة ظلم، أو إثم، أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعا، ولو كان ولد أحدهم، ولا يقتل مؤمن مؤمنا فى كافر، ولا ينصر كافر على مؤمن، وإن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالى بعض دون الناس، وإنه من تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم، وإن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن فى قتال فى سبيل الله، إلا على سواء وعدل بينهم، وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضا، وإن المؤمنين يبىء بعضهم على بعض بما نال دماءهم فى سبيل الله، وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه، وإنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا، ولا يحول دونه على مؤمن، وإنه من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة، فإنه قود به إلا أن يرضى ولى المقتول، وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه، وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما فى هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر، أن ينصر محدثا ولا يؤويه، وأنه من نصره أو آواه، فإن عليه لعنة الله وغصبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل، وإنكم مهما اختلفتم فيه من شىء، فإن مرده إلى الله عز وجل، وإلى محمد صلى الله عليه وسلم، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يهود بنى عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه، وأهل بيته، وإن اليهود بنى النجار مثل ما ليهود بنى عوف، وإن ليهود بنى الحارث مثل ما ليهود بنى عوف، وإن ليهود بنى ساعدة مثل ما ليهود بنى عوف، وإن ليهود بنى جشم مثل ما ليهود بنى عوف، وإن ليهود بنى الأوس مثل ما ليهود بنى عوف، وإن ليهود بنى ثعلبة مثل ما ليهود بنى عوف، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته، وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم، وإن لبنى الشطيبة مثل ما ليهود بنى عوف، وإن البر دون الإثم، وإن موالى ثعلبة كأنفسهم، وإن بطانة يهود كأنفسهم، وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم، وإنه لا ينحجز على ثار جرح، وإنه من فتك فبنفسه فتك، وأهل بيته، إلا من ظلم، وإن الله على أبر هذا وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها، وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى-(1/296)
وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، فقال فيما بلغنا ونعوذ بالله أن نقول عليه ما لم يقل: تآخوا فى الله أخوين أخوين. ثم أخذ بيد على بن أبى طالب فقال: هذا أخى. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيد المرسلين وإمام المتقين ورسول رب العالمين الذى ليس له خطير ولا نظير من العباد، وعلى بن أبى طالب أخوين.
ثم سمى ابن إسحاق نفرا ممن آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه تركنا ذكرهم اختصارا «1» .
قال: وهلك فى تلك الأشهر أبو أمامة أسعد بن زرارة، والمسجد يا بنى، أخذته الذبحة أو الشهقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بئس الميت أبو أمامة ليهود ولمنافقى العرب، يقولون:
لو كان نبيا لم يمت صاحبه! ولا أملك لنفسى ولا لصاحبى من الله شيئا» «2» .
ولما مات أبو أمامة اجتمعت بنو النجار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو أمامة نقيبهم، فقالوا: يا رسول الله، إن هذا كان منا حيث قد علمت، فاجعل منا رجلا مكانه يقيم فى أمرنا ما كان يقيم. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنتم أخوالى وأنا أولى بكم، فأنا نقيبكم» «3» . وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخص بها بعضهم دون بعض. فكان من فضل بنى النجار الذى يعدون على قومهم أن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نقيبهم.
__________
- الله عز وجل، وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الله على أتقى ما فى هذه الصحيفة وأبره، وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها، وإن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه وتلبسونه، فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك، فإنه لهم على المؤمنين، إلا من حارب فى الدين، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذى قبلهم، وإن يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة، مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة» . قال ابن هشام: ويقال: مع البر المحسن من أهل هذه الصحيفة. قال ابن إسحاق: «وإن البر دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وإن الله على أصدق ما فى هذه الصحيفة وأبره، وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم، وإنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم أو أثم، وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم» . انظر: السيرة (2/ 109- 112) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 224، 225) ،
(1) انظر السيرة (2/ 113- 116) .
(2) انظر الحديث فى: سنن ابن ماجه (3492) ، مجمع الزوائد للهيثمى (5/ 98) ، مستدرك الحاكم (4/ 214) .
(3) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (3/ 186) ، طبقات ابن سعد (3/ 611) .(1/298)
قال ابن إسحاق «1» : فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة واجتمع إليه إخوانه من المهاجرين واجتمع أمر الأنصار، استحكم أمر الإسلام فقامت الصلاة وفرضت الزكاة والصيام، وقامت الحدود وفرض الحلال والحرام وتبوأ الإسلام بين أظهرهم، وكان هذا الحى من الأنصار الذين تبوأوا الدار والإيمان.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدمها إنما يجتمع إليه الناس للصلاة فى حين مواقيتها بغير دعوة، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل بوقا كبوق يهود الذى يدعون به لصلاتهم، ثم كرهه، ثم أمر بالناقوس فنحت ليضرب به للمسلمين للصلاة.
فبيناهم على ذلك رأى عبد الله بن زيد أخو بلحارث بن الخزرج النداء، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله، إنه طاف فى هذه الليلة طائف، مر بى رجل عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوسا فى يده، فقلت: يا عبد الله أتبيع هذا الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قلت: ندعوا به إلى الصلاة. قال: أفلا أدلك على خير من ذلك؟ قلت: وما هو؟ قال: تقول: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حى على الصلاة، حى على الصلاة، حى على الفلاح، حى على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله.
فلما أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألقها عليه فليؤذن بها فإنه أندى صوتا منك» .
فلما أذن بها بلال سمعها عمر بن الخطاب وهو فى بيته، فخرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجر رداءه وهو يقول: يا نبى الله والذى بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذى رأى.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلله الحمد» «2» .
وذكر ابن هشام «3» عن عبيد بن عمير أن عمر بن الخطاب بينا هو يريد أن يشترى خشبتين للناقوس عندما ائتمر به النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذ رأى فى المنام أن لا تجعلوا الناقوس، بل أذنوا بالصلاة، فذهب عمر إلى النبى صلى الله عليه وسلم ليخبره بالذى رأى، فما راعه إلا
__________
(1) انظر: السيرة (2/ 117) .
(2) انظر الحديث فى: سنن أبى داود (499) ، مسند الإمام أحمد (4/ 43) ، السنن الكبرى للبيهقى (1/ 391) ، سنن الدارمى (1187) ، سنن الترمذى (189) ، سنن الدارقطنى (1/ 241) ، تلخيص الحبير لابن حجر (2/ 208) ، البخارى فى خلق أفعال العباد (ص 48) ، الإرواء للألبانى (1/ 265) .
(3) انظر: السيرة (2/ 118) .(1/299)
بلال يؤذن، وقد جاء النبى صلى الله عليه وسلم الوحى بذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبره: «سبقك بذلك الوحى» «1» .
قال ابن إسحاق «2» : فلما اطمأنت برسول الله صلى الله عليه وسلم داره وأظهر الله بها دينه وسره بما جمع من المهاجرين والأنصار من أهل ولايته.
قال أبو قيس صرمة بن أبى أنس «3» ، أخو بنى عدى بن النجار، يذكر ما أكرمهم الله تبارك وتعالى، به من الإسلام، وما خصهم به من نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم:
ثوى فى قريش بضع عشرة حجة ... يذكر لو يلقى صديقا مواتيا
ويعرض فى أهل المواسم نفسه ... فلم ير من يؤوى ولم ير داعيا
فلما أتانا أظهر الله دينه ... فأصبح مسرورا بطيبة راضيا
وألفى صديقا واطمأنت به النوى ... وكان له عونا من الله [هاديا] *
يقص لنا ما قال نوح لقومه ... وما قال موسى إذ أجاب المناديا
فأصبح لا يخشى من الناس واحدا ... قريبا ولا يخشى من الناس نائيا
بذلنا له الأموال من جل مالنا ... وأنفسنا عند الوغى والتآسيا
ونعلم أن الله لا شىء غيره ... ونعلم أن الله أفضل هاديا
نعادى الذى عادى من الناس كلهم ... جميعا وإن كان الحبيب المصافيا
أقول إذا أدعوك فى كل بيعة ... تباركت قد أكثرت لاسمك داعيا
أقول إذا جاوزت أرضا مخوفة ... حنانيك لا تظهر على الأعاديا
فطأ معرضا إن الحتوف كثيرة ... وإنك لا تبقى لنفسك باقيا
فو الله ما يدرى الفتى كيف يتقى ... إذا هو لم يجعل له الله واقيا
ولا تجعل النخل المقيمة ربها ... إذا أصبحت ريا وأصبح ثاويا
وكان أبو قيس هذا رجلا قد ترهب فى الجاهلية ولبس المسوح وفارق الأوثان واغتسل من الجنابة وتطهر من الحائض من النساء وهم بالنصرانية، ثم أمسك عنها، ودخل بيتا له فاتخذه مسجدا لا يدخل عليه فيه طامث ولا جنب، وقال: أعبد رب
__________
(1) انظر الحديث فى: مصنف عبد الرازق (1/ 456) .
(2) انظر: السيرة (2/ 119) .
(3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1244) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2501) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 264) ، الأعلام (30/ 203) ، تبصرة المنتبه (3/ 998) .
(*) ما بين المعقوفتين كذا فى الأصل وورد فى السيرة «باديا» .(1/300)
إبراهيم. حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأسلم وحسن إسلامه وهو شيخ كبير، وكان قوالا بالحق معظما لله فى جاهليته يقول فى ذلك أشعارا حسانا، هو الذى يقول «1» :
يقول أبو قيس وأصبح غاديا ... ألا ما استطعتم من وصاتى فافعلوا
أوصيكم بالله والبر والتقى ... وأعراضكم والبر بالله أول
وإن قومكم سادوا فلا تحسدنهم ... وإن كنتم أهل الرياسة فاعدلوا
وإن نزلت إحدى الدواهى بقومكم ... فأنفسكم دون العشيرة فاجعلوا
وإن ناب غرم فادح فارفقوهم ... وما حملوكم فى الملمات فاحملوا
وإن أنتم أمعرتم فتعففرا ... وإن كان فضل الخير فيكم فأفضلوا «2»
وقال أبو قيس أيضا «3» :
سبحوا الله شرق كل صباح ... طلعت شمسه وكل هلال
عالم السر والبيان لدينا ... ليس ما قال ربنا بضلال
وله الطير تستدير وتأوى ... فى وكور من آمنات الجبال
وله الوحش بالفلاة تراها ... فى حقاف وفى ظلال الرمال
وله هودت يهود ودانت ... كل دين إذا ذكرت عضال
وله شمس النصارى وقاموا ... كل عيد لديهم واحتفال
وله الراهب الحبيس تراه ... رهن بؤس وكان ناعم بال
يا بنى الأرحام لا تقطعوها ... وصلوها قصيرة من طوال
واتقوا الله فى ضعاف اليتامى ... ربما يستحل غير الحلال
واعلموا أن لليتيم وليا ... عالما يهتدى بغير السؤال
ثم مال اليتيم لا تأكلوه ... إن مال اليتيم يرعاه والى
يا بنى النجوم لا تخزلوها ... إن خزل النجوم ذو عقال
يا بنى الأيام لا تأمنوها ... واحذروا مكرها ومر الليالى
واعلموا أن أمرها لنفاد ال ... خلق ما كان من جديد وبالى
واجمعوا أمركم على البر والتق ... وى وترك الخنا وأخذ الحلال
__________
(1) انظر الأبيات فى: السيرة (2/ 119) .
(2) أمعرتم: قال السهيلى: معناها افتقرتم، وقيل أمعر: أى افتقر وفنى زاده كمعر تمعيرا، وأمعرت الأرض: لم يكن فيها نبات أو قل ماؤها.
(3) انظر الأبيات فى: السيرة (2/ 120) .(1/301)
قال ابن إسحاق «1» : ونصب عند ذلك أحبار يهود لرسول الله صلى الله عليه وسلم العداوة بغيا وحسدا وضغنا لما خص الله به العرب من أخذه رسوله منهم.
وانضاف إليهم رجال من الأوس والخزرج، ممن كان عسى على جاهليته فكانوا أهل نفاق على دين آبائهم من الشرك والتكذيب بالبعث، إلا أن الإسلام قهرهم بظهوره واجتماع قومهم عليه، فظهروا بالإسلام واتخذوه جنة من القتل، ونافقوا فى السر فكان هواهم مع يهود لتكذيبهم النبى صلى الله عليه وسلم وجحودهم الإسلام.
وكانت أحبار يهودهم الذين يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتعنتونه ويأتونه باللبس ليلبسوا الحق بالباطل، إلا ما كان من عبد الله بن سلام ومخيريق فكان القرآن ينزل فيما يسألون عنه إلا قليلا من المسائل فى الحلال والحرام كان المسلمون يسألون عنها.
وكان من حديث عبد الله بن سلام «2» وإسلامه، وكان حبرا عالما، قال: لما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت صفته واسمه وزمانه الذى كنا نتوكف له، فكنت مسرا لذلك صامتا عليه حتى قدم المدينة، فلما نزل بقباء فى بنى عمرو بن عوف أقبل رجل حتى أخبر بقدومه وأنا فى رأس نخلة لى أعمل فيها، وعمتى خالدة بنت الحارث تحتى جالسة، لما سمعت الخبر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرت، فقالت لى عمتى حين سمعت تكبيرتى:
خيبك الله! لو كنت سمعت موسى بن عمران قادما ما زدت!.
فقلت لها: أى عمة، هو والله أخو موسى بن عمران وعلى دينه، بعث بما بعث به.
فقالت: أى ابن أخى، أهو النبى الذى كنا نخبر أنه يبعث مع نفس الساعة؟ فقلت لها:
نعم. فقالت: فذاك إذا، قال: ثم رحت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت ثم رجعت إلى أهلى فأمرتهم فأسلموا وكتمت إسلامى من يهود. ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إن يهود قوم بهت، وإنى أحب أن تدخلنى فى بعض بيوتك وتغيا بنى عنهم، ثم تسألهم عنى حتى يخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا بإسلامى، فإنهم إن علموا به بهتونى وعابونى.
__________
(1) انظر: السيرة (2/ 122) .
(2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1579) ، الإصابة الترجمة رقم (4743) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2986) ، شذرات الذهب (1/ 40، 53) ، تهذيب التهذيب (5/ 249) ، تقريب التهذيب (1/ 422) ، خلاصة تذهيب (2/ 64) ، الوافى بالوفيات (17/ 198) ، الأعلام (4/ 90) ، الثقات (3/ 228) ، الرياض المستطابة (193) .(1/302)
قال: فأدخلنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بعض بيوته، ودخلوا عليه فكلموه وسألوه ثم قال لهم: أى رجل الحصين بن سلام فيكم؟ فقالوا: سيدنا وابن سيدنا، وحبرنا وعالمنا.
فلما فرغوا من قولهم خرجت عليهم فقلت لهم: يا معشر يهود اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به، فو الله إنكم لتعلمون أنه رسول الله، تجدونه مكتوبا عندكم فى التوراة باسمه وصفته، فإنى أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأومن به وأصدقه وأعرفه. قالوا: كذبت. ثم وقعوا بى! فقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم أخبرك يا نبى الله أنهم قوم بهت، أهل غدر وكذب وفجور؟! قال: فأظهرت إسلامى وإسلام أهل بيتى، وأسلمت عمتى خالدة فحسن إسلامها «1» .
قال ابن إسحاق «2» : وكان من حديث مخيريق، وكان حبرا عالما غنيا كثير الأموال من النخل، وكان يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته وما يجد فى علمه، وغلب عليه إلف دينه فلم يزل على ذلك حتى إذا كان يوم أحد، وكان يوم السبت، قال: يا معشر يهود، والله إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق. قالوا: إن اليوم يوم السبت. قال: لا سبت لكم، ثم أخذ سلاحه فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأحد وعهد إلى من وراءه من قومه: إن قتلت هذا اليوم فأموالى لمحمد يصنع فيها ما أراه الله.
فلما اقتتل الناس قاتل حتى قتل، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أمواله، فعامة صدقاته بالمدينة منها. وكان صلى الله عليه وسلم فيما بلغنى يقول: «مخيريق خير يهود» «3» .
قال «4» : وحدثنى عبد الله بن أبى بكر، قال: حدثت عن صفية ابنة حيى أنها قالت: كنت أحب ولد أبى إليه وإلى عمى أبى ياسر، لم ألقهما مع ولد لهما إلا أخذانى دونه، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة غدا عليه أبى وعمى مغلسين، فلم يرجعا حتى كان مع غروب الشمس، فأتيا كالين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى فهششت إليهما كما كنت أصنع، فو الله ما التفت إلى واحد منهما مع ما بهما من الغم، وسمعت عمى أبا ياسر وهو يقول لأبى: أهو هو؟ قال: نعم والله.
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى كتاب الأنبياء (3329) ، دلائل النبوة للبيهقى (2/ 530، 531) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 211) .
(2) انظر: السيرة (2/ 126) .
(3) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 237، 4/ 36) ، طبقات ابن سعد (1/ 502) ، عيون الأثر لابن سيد الناس (1/ 334) .
(4) انظر: السيرة (2/ 126- 127) .(1/303)
قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم. قال: فما فى نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت «1» .
وكان هذان الأخوان الشقيان من أشد يهود للعرب حسدا لما خصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم، فكانا جاهدين فى رد الناس عن الإسلام بما استطاعا، فأنزل الله عز وجل فيهما:
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 109] .
ومر شأس بن قيس، وكان شيخا قد [عمى] «2» عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم، على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج فى مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذى كان بينهم من العداوة فى الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بنى قيلة بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار.
فأمر شابا من يهود كان معه فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم ثم اذكر يوم بعاث وما كان فيه وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار. وكان يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس، وكان عليها يومئذ حضير أبو أسيد بن حضير، وعلى الخزرج عمرو بن النعمان البياضى فقاتلا جميعا.
ففعل الشاب ما أمره به شأس، فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب وهما أوس بن قيظى وجبار بن صخر فتاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها الآن جذعة. وغضب الفريقان جميعا وقالوا: قد فعلنا موعدكم الظاهرة وهى الحرة، السلاح السلاح.
فخرجوا إليها، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم فقال: يا معشر المسلمين، الله الله! أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الحاهلية واستنقذكم به من الكفر وألف به بينكم.
فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان وكيد من عدوههم فبكوا وعانق الرجال من
__________
(1) ذكره ابن سيد الناس فى عيون الأثر (1/ 335) .
(2) ما بين المعقوفتين كذا فى الأصل وورد فى السيرة «عسا» ، وعسا: أى اشتد وقوى، يريد أنه تمكن فى كفره فصعب إخراجه منه. انظر: السيرة (2/ 162) .(1/304)
الأوس والخزرج بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، وقد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شأس بن قيس.
فأنزل الله تبارك وتعالى، فى شأن شأس وما صنع: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [آل عمران:
99] «1» .
وأنزل الله فى أوس بن قيظى وجبار بن صخر ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا عما أدخل عليهم شأس من أمر الجاهلية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران: 100، 103] .
قال «2» : وحدثت عن سعيد بن جبير أنه قال: أتى رهط من يهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: يا محمد، هذا الله خلق الخلق، فمن خلقه؟ قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتقع لونه، ثم ساورهم غضبا لربه، فجاءه جبريل فسكنه فقال: خفض عليك يا محمد، وجاءه من الله بجواب ما سألوه عنه: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ.
فلما تلاها عليهم قالوا: فصف لنا يا محمد كيف خلقه؟ كيف ذراعة؟ كيف عضده؟
فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد من غضبه الأول وساورهم، فأتاه جبريل فقال له مثل ما قال أول مرة، وجاءه من الله تبارك وتعالى بجواب ما سألوه عنه، يقول الله جل وعلا: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر: 67] «3» .
__________
(1) ذكره الطبرى فى تفسيره (4/ 16) .
(2) انظر: السيرة (2/ 178) .
(3) انظر الحديث فى: صحيح مسلم كتاب التفسير (4/ 19) ، صحيح البخارى (4811) ، تفسير ابن جرير (1/ 378) .(1/305)
ودخل أبو بكر الصديق رضى الله عنه، بيت المدراس على يهود، فوجد منهم ناسا كثيرا قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له: فنحاص وكان من علمائهم وأحبارهم، ومعه حبر من أحبارهم يقال له: أشيع، فقال أبو بكر لفنحاص: ويلك يا فنحاص؟ اتق الله وأسلم، فو الله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله قد جاءكم بالحق من عنده، تجدونه مكتوبا عندكم فى التوراة والإنجيل.
فقال فنحاص لأبى بكر: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء وما هو عنا بغنى، ولو كان عنا غنيا ما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطيناه، ولو كان عنا غنيا ما أعطانا الربا! فغضب أبو بكر فضرب وجه فنحاص ضربا شديدا، وقال: والذى نفسى بيده لولا العهد الذى بيننا وبينك لضربت رأسك أى عدو الله. فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد، انظر ما صنع بى صاحبك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بكر: «ما حملك على ما صنعت؟» فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن عدو الله قال قولا عظيما، إنه زعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال فضربت وجهه.
فجحد ذلك فنحاص، وقال: ما قلت ذلك. فأنزل الله عز وجل، فيما قال فنحاص ردا عليه وتصديقا لأبى بكر: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ [آل عمران: 181] » .
ونزل فى أبى بكر وما بلغه فى ذلك من الغضب: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران: 186] .
وكان ممن انضاف إلى يهود من المنافقين من الأوس والخزرج فيما ذكروا والله أعلم «2» : من الأوس: جلاس بن سويد بن الصامت من بنى حبيب بن عمرو بن عوف، وهو القائل، وكان ممن تخلف عن غزوة تبوك: لئن كان هذا الرجل صادقا لنحن شر من الحمر.
__________
(1) انظر الحديث فى: تفسير الطبرى (4/ 129) ، تفسير ابن كثير (2/ 153) .
(2) انظر: السيرة (2/ 127- 130) .(1/306)
وكان فى حجره عمير بن سعد، خلف جلاس على أمه بعد أبيه، فقال له عمير:
والله يا جلاس إنك لأحب الناس إلىّ، وأحسنه عندى وأعزهم علىّ أن يصيبه شىء يكرهه، ولقد قلت مقالة لئن رفعتها عليك لفضحنك، ولئن صمت عليها ليهلكن دينى، ولإحداهما أيسر على من الأخرى.
ثم مشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ما قال جلاس، فحلف جلاس لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالله لقد كذب على عمير وما قلت ما قال.
فأنزل الله فيه: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [التوبة: 74] «1» .
فزعموا أنه تاب فحسنت توبته حتى عرف منه الإسلام والخير. وأخوه الحارث بن سويد، قتل المجذر بن زياد البلوى. وذلك أن المجذر فيما ذكر ابن هشام، قتل أباه سويد بن الصامت بعض الحروب إذ كانت بين الأوس والخزرج، فلما كان يوم أحد طلب الحارث غرة المجذر ليقتله بأبيه، فقتله.
وذكر ابن إسحاق «2» أن سويدا إنما قتله معاذ بن عفراء غيلة فى غير حرب، رماه بسهم فقتله قبل يوم بعاث. قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يذكرون قد أمر عمر بن الخطاب بقتل الحارث إن هو ظفر به ففاته فكان بمكة، ثم بعث إلى أخيه جلاس يطلب التوبة ليرجع إلى قومه. فأنزل الله تبارك وتعالى فيه: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [آل عمران: 86] . إلى آخر القصة.
ونبتل بن الحارث من بنى ضبيعة بن زيد بن مالك، وهو القائل: إنما محمد أذن، من حدثه شيئا صدقه. فأنزل الله تعالى: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [التوبة: 61] «3» .
__________
(1) ذكره الطبرى فى تفسيره (10/ 127) ، ابن كثير فى تفسيره (4/ 120) .
(2) انظر: السيرة (2/ 129) .
(3) انظر الحديث فى: أسباب النزول للواحدى (ص 206) ، الشوكانى فى فتح القدير (2/ 529) .(1/307)
وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر: «من أحب أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل ابن الحارث» «1» ، وكان جسميا أدلم ثائر شعر الرأس أحمر العينين.
وذكر أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه يجلس إليك رجل أدلم «2» ثائر شعر الرأس أسفع الخدين «3» أحمر العينين كأنهما قدران من صفر كبده أغلظ من كبد الحمار، ينقل حديثك إلى المنافقين، فاحذره. وكان تلك صفة نبتل بن الحارث فيما يذكرون.
وعمرو بن خذام، وعبد الله بن نبتل، وحارثة بن عامر بن العطاف وابناه زيد ومجمع وهم ممن اتخذ مسجد الضرار. وكان مجمع، غلاما حدثا قد جمع من القرآن أكثره، وكان يصلى بهم فيه، فلما كان زمان عمر بن الخطاب كلم فى مجمع ليصلى بقومه بنى عمرو بن عوف فى مسجدهم، فقال: لا، أو ليس بإمام المنافقين فى مسجد الضرار!.
فقال له مجمع: يا أمير المؤمنين، والله الذى لا إله إلا هو ما علمت بشىء من أمرهم، ولكنى كنت غلاما قارئا للقرآن وكانوا لا قرآن معهم، فقدمونى أصلى بهم وما أرى أمرهم إلا على أحسن ما ذكروا. فزعموا أن عمر رضى الله عنه، تركه فصلى بقومه «4» .
ومن الخزرج، ثم من بنى عوف: عبد الله بن أبى بن سلول، وكان رأس المنافقين وإليه يجتمعون. وهو الذى قال فى غزوة بنى المصطلق: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. وسيأتى ذكر ذلك مستوفى وبيان سببه عند الانتهاء إلى غزوة بنى المصطلق، إن شاء الله تعالى.
وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وسيد أهلها عبد الله بن أبى هذا، لا يختلف عليه فى شرفه من قومه اثنان، لم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين، حتى جاء الإسلام، ومعه فى الأوس رجل، هو فى قومه من الأوس شريف مطاع، أبو عامر عبد عمرو بن صيفى بن النعمان أحد بنى ضبيعة بن زيد، وهو أبو حنظلة الغسيل يوم أحد، وكان قد ترهب ولبس المسوح، فكان يقال له الراهب، فشقيا بشرفهما!.
أما عبد الله بن أبى فكان قومه قد نظموا له الخرز ليتوجوه ويملكوه عليهم، فجاءهم
__________
(1) انظر: الحديث فى: البداية والنهاية (3/ 238) .
(2) أدلم: الرجل الأدلم: الطويل الأسود، ويقال: هو المسترخى الشفتين.
(3) أسفع الخدين: أسفع من السفعة وهى حمرة تضرب إلى السواد.
(4) انظر: السيرة (2/ 131) .(1/308)
الله تبارك وتعالى برسوله صلى الله عليه وسلم وهم على ذلك، فلما انصرف عنه قومه إلى الإسلام ضغن ورأى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استلبه ملكا، فلما رأى قومه قد أبوا إلا الإسلام دخل فيه كارها مصرا على نفاق وضغن «1» .
وحدث أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة يعوده من شكو أصابه على حمار عليه ألحاف فوقه قطيفة فركبه فخطمه «2» بحبل من ليف وأردفنى خلفه، فمر بعبد الله بن أبى وحوله رجال من قومه، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم تذمم أن يجاوزه حتى ينزل، فنزل فسلم ثم جلس فتلا القرآن ودعا إلى الله وذكر به وحذر وبشر وأنذر، وعبد الله زام لا يتكلم، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا هذا إنه لا أحسن من حديثك هذا إن كان حقا، فاجلس فى بيتك فمن جاءك فحدثه إياه، ومن لم يأتك فلا تغشه به ولا تأته فى مجلسه بما يكره.
فقال عبد الله بن رواحة فى رجال كانوا عنده من المسلمين: بل فاغشنا به وائتنا فى مجالسنا ودورنا وبيوتنا، فهو والله ما نحب ومما أكرمنا الله به وهدانا له.
فقال عبد الله حين رأى من خلاف قومه ما رأى:
متى ما يكن مولاك خصمك لم تزل ... تذل ويصرعك الذين تصارع
وهل ينهض البازى بغير جناحه ... وإن جد يوما ريشه فهو واقع «3»
قال: وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل على سعد بن عبادة وفى وجهه ما قال عدو الله ابن أبى، فقال: والله يا رسول الله، إنى لأرى فى وجهك شيئا: لكأنك سمعت شيئا تكرهه؟ قال: «أجل» . ثم أخبره بما قال ابن أبى. فقال سعد: يا رسول الله، ارفق به، فو الله لقد جاءنا الله بك وإنا لننظم له الخرز لنتوجه، فإنه ليرى أن قد سلبته ملكا!.
وأما أبو عامر فأبى إلا الكفر والفراق لقومه حين اجتمعوا على الإسلام، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة فقال: ما هذا الدين الذى جئت به؟ قال: «جئت بالحنيفية دين إبراهيم» . قال: فأنا عليها. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنك لست عليها» .
قال: إنك أدخلت يا محمد فى الحنيفية ما ليس منها. قال: «ما فعلت ولكنى جئت بها بيضاء نقية» . قال: الكاذب أماته الله طريدا غريبا وحيدا، يعرض برسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) انظر: السيرة (2/ 189- 190) .
(2) الاختطام: أن يجعل على رأس الدابة وأنفها حبل يمسك منه الراكب.
(3) انظر الأبيات فى: السيرة (191- 192) .(1/309)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أجل، فمن كذب يفعل الله ذلك به» «1» .
فكان هو ذلك عدو الله، خرج إلى مكة ببضعة عشر رجلا مفارقا للإسلام ولرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقولوا: الراهب، ولكن قولوا الفاسق» «2» . فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة خرج إلى الطائف، فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام فمات بها طريدا غريبا وحيدا!.
قال ابن إسحاق «3» : وكان ممن تعوذ بالإسلام ودخل فيه مع المسلمين وأظهره وهو منافق من أحبار يهود، من بنى قينقاع: سعد بن حنيف، ونعمان بن أوفى، وعثمان بن أوفى، وزيد بن اللصيت، وهو الذى قال حين ضلت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم: يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء وهو لا يدرى أين ناقته! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودل على ناقته وجاءه الخبر بما قال عدو الله فى رحله: «إن قائلا قال: يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء وهو لا يدرى أين ناقته، وإنى والله ما أعلم إلا ما علمنى الله، وقد دلنى الله عليها فهى فى هذا الشعب قد حبستها شجرة بزمامها» . فذهب رجال من المسلمين فوجدوها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وكما وصف «4» .
وكان هؤلاء المنافقون المسلمون وغيرهم ممن لم يسم يحضرون المسجد فيستمعون أحاديث المسلمين ويسخرون منهم ويستهزئون بدينهم.
فاجتمع يوما فى المسجد منهم ناس فرآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدثون بينهم خافضى أصواتهم قد لصق بعضهم ببعض، فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجوا من المسجد إخراجا عنيفا.
فقام أبو أيوب خالد بن زيد إلى عمرو بن قيس أحد بنى غنم بن مالك بن النجار، وكان صاحب آلهتهم فى الجاهلية، فأخذ برجله فسحبه حتى أخرجه من المسجد، وهو يقول: أتخرجنى يا أبا أيوب من مربد بنى ثعلبة!.
ثم أقبل أبو أيوب أيضا، إلى رافع بن وديعة أحد بنى النجار فلببه بردائه ثم نتره نترا شديدا ثم لطم وجهه وأخرجه من المسجد وهو يقول: أف لك منافقا خبيثا، أدراجك يا منافق من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) انظر الحديث فى: المنتظم لابن الجوزى (3/ 184) ، عيون الأثر لابن سيد الناس (1/ 351) .
(2) انظر الحديث فى: عيون الأثر لابن سيد الناس (1/ 351) .
(3) انظر: السيرة (2/ 135) .
(4) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (5/ 232) .(1/310)
وقام عمارة بن حزم إلى زيد بن عمرو، وكان طويل اللحية، فأخذ بلحيته فقاده بها قودا عنيفا حتى أخرجه من المسجد، ثم جمع عمارة يديه فلدمه بهما فى صدره لدمة خر منها. قال: يقول: خدشتنى يا عمارة! قال: أبعدك الله يا منافق، فما أعد الله لك من العذاب أشد من ذلك، فلا تقربن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقام أبو محمد، رجل من بنى النجار، وكان بدريا، إلى قيس بن عمرو فجعل يدفع فى قفاه حتى أخرجه من المسجد. وكان قيس غلاما شابا لا يعلم فى المنافقين شاب غيره.
وقام رجل من بلحارث يقال له: عبد الله بن الحارث إلى رجل يقال له: الحارث بن عمرو وكان ذا جمة فأخذ بجمته يسحبه عنيفا على ما مر به من الأرض حتى أخرجه من المسجد.
قال: يقول المنافق: لقد أغلظت يا ابن الحارث. فقال له: إنك أهل لذلك يا عدو الله لما أنزل الله فيك، فلا تقرب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنك نجس. وقام رجل من بنى عمرو بن عوف إلى أخي ذوى بن الحارث فأخرجه من المسجد إخراجا عنيفا وأفف منه «1» وقال: غلب عليك الشيطان وأمره.
فهؤلاء من حضر المسجد يومئذ، من المنافقين فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإخراجهم «2» .
ففى هؤلاء من أحبار يهود والمنافقين من الأوس والخزرج نزل صدر سورة البقرة إلى المائة منها، فيما بلغنى والله أعلم.
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وفد نصارى نجران، ستون راكبا، فدخلوا عليه المسجد حين صلى العصر عليهم ثياب الحبرات جبب وأردية، فى جمال رجال بنى الحارث بن كعب، يقول بعض من رآهم يومئذ، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأينا بعدهم وفدا مثلهم.
وحانت صلاتهم فقاموا يصلون فى المسجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوهم. فصلوا إلى المشرق، وكان فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، فى الأربعة عشر منهم ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم: العاقب أمير القوم وذو رأيهم وصاحب مشورتهم الذى لا يصدرون
__________
(1) أقف منه: أى قال له أف، وهى كلمة تقال لكل ما يتقل ويضجر منه.
(2) انظر: السيرة (2/ 137) .(1/311)
إلا عن رأيه، واسمه عبد المسيح، والسيد ثمالهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم واسمه الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أحد بنى بكر بن وائل أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدراسهم وكان أبو حارثة هذا قد شرف فيهم ودرس كتبهم حتى حسن علمه فى دينهم، فكان ملوكهم قد شرفوه ومولوه وأخدموه وبنوا له الكنائس وبسطوا عليه الكرامات، لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده فى دينهم «1» .
فلما وجهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نجران، جلس أبو حارثة على بغلة له موجها [إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم] «2» وإلى جنبه أخ له يقال له: كرز بن علقمة، ويقال كوز بن علقمة، فعثرت بغلة أبى حارثة فقال كوز: تعس الأبعد. يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له أبو حارثة: بل أنت تعست: قال: ولم يا أخى؟ قال: والله إنه للنبى الذى كنا ننتظره. فقال له كوز: فما يمنعك منه وأنت تعلم هذا؟! قال: ما صنع بنا هؤلاء القوم، شرفونا ومولونا وأكرمونا وقد أبوا إلا خلافه، فلو فعلت نزعوا منا كل ما ترى.
فأضمر عليها منه أخوه كوز بن علقمة حتى أسلم بعد ذلك، فهو كان يحدث عنه هذا الحديث «3» .
وكان أبو حارثة هذا ممن كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم هو والعاقب والسيد، وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلاف من أمرهم فى عيسى عليه السلام، يقولون: هو الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، ويقولون: هو ولد الله كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله، إذن لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض. سبحان الله عما يصفون، عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون. ويقولون: هو ثالث ثلاثة. وما من إله إلا إله واحد.
ففى كل هذا من قولهم قد نزل القرآن مدحضا حججهم ومبطلا دعاويهم، والله يقول الحق وهو يهدى السبيل. قال الله العظيم: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [المائدة: 72] .
__________
(1) انظر: السيرة (2/ 180) .
(2) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وما أوردناه من السيرة.
(3) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (5/ 382، 383) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 59) ، طبقات ابن سعد (1/ 357) .(1/312)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المائدة: 72، 75] .
وقال عز من قائل: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة: 30، 31] .
ولما كلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإسلام، فقال له حبران ممن كلمه منهم: قد أسلمنا. فقال لهما: «إنكما لم تسلما فأسلما» . فقالا: بلى قد أسلمنا قبلك. فقال:
«كذبتما، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولدا وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير» .
قالا: فمن أبوه يا محمد؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجيبهما «1» .
فأنزل الله فى ذلك من قولهم واختلاف أمرهم كله صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها.
فافتتح السورة بتنزيه نفسه سبحانه مما قالوا، وتوحيده إياها بالخلق والأمر، ردا عليهم ما ابتدعوا من الكفر وجعلوا معه من الأنداد ليعرفهم بذلك ضلالتهم. فقال جل قوله وتعالى جده: الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران: 1، 6] .
ثم استمر سبحانه فيما شاء من التبيان لهم والإعذار إليهم والاحتجاج عليهم، وإرشاد عباده المؤمنين إلى سبيل الضراعة إليه بأن لا يزيغ قلوبهم بعد إذ هداهم، وأن يهب لهم من لدنه رحمة، وما وصل بذلك من قوله الحق وذكره الحكيم.
__________
(1) انظر الحديث فى: فتح البارى لابن حجر (7/ 699) ، تفسير ابن كثير (2/ 41) ، فتح القدير للشوكانى (1/ 466) .(1/313)
ثم استقبل لهم أمر عيسى وكيف كان بدء ما أراد به، فقال: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
ثم ذكر امرأة عمران ونذرها لله ما فى بطنها محررا، أى تعبده له سبحانه لا ينتفع به لشىء من الدنيا، ثم ما كان من وضعها مريم وتعويذها إياها وذريتها بالله من الشيطان الرجيم.
يقول الله تبارك وتعالى: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا أى ضمها وقام عليها بعد أبيها وأمها.
ثم قص خبرها وخبر زكريا وما دعا به وما أعطاه، إذ وهب له يحيى، ثم ذكر مريم وقول الملائكة لها: يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ
. يقول الله جل وعز: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ أى يستهمون عليها، أيهم يخرج سهمه يكفلها. وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ أى ما كنت معهم إذ يختصمون فيها.
يخبره بخفى ما كتموا منه من العلم، تحقيقا لنبوته وإقامة للحجة عليهم بما يأتيهم به مما أخفوا منه. ثم قال تعالى: إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ.
أى هكذا كان أمره لا ما يقولون فيه، وإن هذه حالاته التى يتقلب بها فى عمره كتقلب بنى آدم فى أعمارهم صغارا وكبارا، إلا أن الله خصه بالكلام فى مهده آية لنبوته، وتعريفا للعباد مواقع قدرته. قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ.
أى يصنع ما أراد ويخلق ما يشاء من بشر أو غير بشر. ويصور فى الأرحام ما يشاء وكيف يشاء بذكر وبغير ذكر. إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
ثم أخبرها بما يريد به من كرامته وتعليمه الكتاب والحكمة والتوراة المنزلة على موسى قبله والإنجيل المنزل عليه، وجعله رسولا إلى بنى إسرائيل، مؤيدا من الايات بما(1/314)
هو صادر عن إذنه موقوف على مشيئته تحقيقا لما أراد من نبوته، كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله، وغير ذلك مما أيده الله به من العجائب المصدقة له، وأمره إياهم بتقوى الله وطاعته وقوله لهم: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ تبريا من الذى يقولون فيه واحتجاجا لربه عليهم. فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أى هذا الهدى قد حملتكم عليه وجئتكم به. فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ إلى آخر قولهم.
ثم ذكر رفعه إياه إليه حين اجتمعوا لقتله، فقال: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ. ثم أخبرهم ورد عليهم فيما أقروا لليهود بصلبه، كيف رفعه وطهره منهم فقال: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثم القصة حتى انتهى إلى قوله: ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ.
أى قد جاءك الحق من ربك فلا ترتابن به ولا تمترين فيه، وإن قالوا: كيف خلق عيسى من غير ذكر فقد خلقت آدم من تراب بتلك القدرة من غير أنثى ولا ذكر، فكان كما كان عيسى لحما ودما وشعرا وبشرا، فليس خلق عيسى من غير ذكر بأعجب من هذا.
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أى من بعد ما قصصت عليك من خبره وكيفية أمره فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ.
نبتهل: ندعو باللعنة، ونبتهل أيضا، نجتهد بالدعاء. إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ أى ما أخبرتك به من أمر عيسى وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. فدعاهم الله إلى النصف وقطع عنهم الحجة.
فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الله عز وجل، فى شأن عيسى وفصل القضاء بينه وبينهم بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه، دعاهم إلى ذلك، فقالوا: يا أبا القاسم، دعنا ننظر فى أمرنا ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه.(1/315)
فانصرفوا عنه ثم خلوا بالعاقب، وكان ذا رأيهم، فقالوا: يا عبد المسيح، ما ترى؟
فقال: «والله، يا معشر النصارى لقد علمتم أن محمدا لنبى مرسل، ولقد جاءكم من خبر صاحبكم بالحق، ولقد علمتم ما لا عن قوم نبيا قط فبقى كبيرهم ولا نبت صغيرهم، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلا ألف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول فى صاحبكم فوادعوا الرجل ثم انصرفوا إلى بلادكم» .
فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم، قد رأينا أن لا نلاعنك وأن نتركك على دينك ونرجع إلى ديننا، ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا فى أشياء اختلفنا فيها من أموالنا، فإنكم عندنا رضى.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ائتونى العشية أبعث معكم القوى الأمين» . فكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه، يقول: ما أحببت الإمارة قط حبى إياها يومئذ، رجاء أن أكون صاحبها، فرحت إلى الظهر مهجرا، فلما صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر سلم ثم نظر عن يمينه ويساره فجعلت أتطاول له ليرانى، فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة ابن الجراح، فدعاه فقال: أخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه. قال عمر:
فذهب بها أبو عبيدة «1» .
ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قدمها وهى أوبأ أرض الله من الحمى، فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم حتى جهدوا فما كانوا يصلون إلا وهم قعود، وصرف الله ذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم فخرج عليهم صلوات الله عليه، وهم يصلون كذلك، فقال لهم:
«اعلموا أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم» . فتجشم المسلمون القيام على ما بهم من الضعف والسقم التماس الفضل! «2» .
وكان أبو بكر الصديق رضى الله عنه، ممن أصابته الحمى، وكذلك مولياه عامر بن فهيرة وبلال، قالت عائشة: فدخلت أعودهم قبل أن يضرب علينا الحجاب وهم فى بيت واحد وبهم ما لا يعلمه إلا الله من الوعك، فدنوت من أبى بكر فقلت له: كيف
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى كتاب المغازى (4380) ، صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة (4/ 55) .
(2) انظر الحديث فى: صحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين (1/ 120) ، سنن النسائى (1658) ، سنن أبى داود (950) ، سنن ابن ماجه (1229، 1230، 1231) ، مسند الإمام أحمد (2/ 193، 3/ 425، 6/ 61، 71) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 224) ، فتح البارى لابن حجر (2/ 682) .(1/316)
كل امرىء مصبح فى أهله ... والموت أدنى من شراك نعله
فقلت: والله ما يدرى أبى ما يقول، ثم دنوت إلى عامر فقلت: كيف تجدك يا عامر؟
فقال:
لقد وجدت الموت دون ذوقه ... إن الجبان حتفه من فوقه
كل امرىء مجاهد بطوقه ... كالثور يحمى جلده بروقه
قالت: وكان بلال إذا تركته الحمى اضطجع بفناء البيت ثم رفع عقيرته وقال:
ألا ليت شعرى هل أبيتن ليلة ... بواد وحولى إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة ... وهل يبدون لى شامة وطفيل
قالت عائشة: فذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعت منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم حبب لنا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشد، وبارك لنا فى مدها وصاعها، وانقل وباءها إلى مهيعة» «1» ، وهى الجحفة.
شروع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حرب المشركين وذكر مغازيه التى أعز الله بها الإيمان والمؤمنين
قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تهيأ لحربه وقام فيما أمره الله تبارك وتعالى به من جهاد عدوه وقتال من أمره الله بقتاله ممن يليه من مشركى العرب.
وخرج غازيا فى صفر على رأس اثنى عشر شهرا من مقدمه المدينة.
حتى بلغ ودّان وهى غزوة الأبواء «2» ، يريد قريشا وبنى ضمرة من بكر بن عبد مناة ابن كنانة، فوادعته فيها بنو ضمرة، وكان الذى وادعه منهم عليهم مخشىّ بن عمرو الضمرى، وكان سيدهم فى زمانه ذلك.
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى كتاب مناقب الأنصار (3926) ، صحيح مسلم كتاب الحج (2/ 480) ، مسند الإمام أحمد (5/ 309) ، السنن الكبرى للبيهقى (3/ 332) ، الترغيب والترهيب للمنذرى (2/ 226) ، دلائل النبوة للبيهقى (2/ 569) ، موطأ الإمام مالك (2/ 14) .
(2) راجع هذه الغزوة فى: المغازى للواقدى (1/ 11، 12) ، طبقات ابن سعد (2/ 1/ 3، 4) ، تاريخ الطبرى (2/ 407) ، البداية والنهاية (3/ 246) .(1/317)
ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولم يلق كيدا، فأقام بها.
وبعث فى مقامه ذلك عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قصى «1» فى ستين أو ثمانين راكبا من المهاجرين، ليس فيهم من الأنصار أحد.
فسار حتى بلغ ماء بالحجاز بأسفل ثنية المرّة، فلقى بها جمعا عظيما من قريش، فلم يكن بينهم قتال، إلّا أن سعد بن أبى وقاص قد رمى يومئذ بسهم، فكان أول سهم رمى به فى سبيل الله.
وقال سعد فى رميته تلك فيما يذكرون:
ألا هل أتى رسول الله أنى ... حميت صحابتى بصدور نبلى
أذود بها أوائلهم ذيادا ... بكل حزونة وبكل سهل
فما يعتد رام فى عدوّ ... بسهم يا رسول الله قبلى
فى أبيات ذكرها ابن إسحاق، وذكر ابن هشام أن أكثر أهل العلم بالشعر ينكرها لسعد.
ثم انصرف القوم عن القوم وللمسلمين حامية.
وفرّ من المشركين إلى المسلمين المقداد بن عمرو البهرانى «2» وعتبة بن غزوان «3» ، وكانا مسلمين ولكنهما خرجا ليتوصلا بالكفار.
ويقال: إن أبا بكر الصديق رضى الله عنه قال فى غزوة عبيدة هذه:
__________
(1) انظر ترجمته فى: الثقات (3/ 312) ، الاستبصار (158، 301) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 369) ، الأعلام (4/ 198) ، سير أعلام النبلاء (1/ 256) ، الإصابة ترجمة رقم (5391) ، أسد الغابة ترجمة رقم (3534) .
(2) انظر ترجمته فى: طبقات ابن سعد (3/ 1/ 144) ، طبقات خليفة (61، 67، 168) ، التاريخ الكبير (8/ 54) ، التاريخ الصغير (60، 61) ، المعارف (263) ، الجرح والتعديل (8/ 426) ، حلية الأولياء (1/ 172، 176) ، تهذيب التهذيب (10/ 285) ، شذرات الذهب (1/ 39) ، الإصابة ترجمة رقم (8201) ، أسد الغابة ترجمة رقم (5076) .
(3) انظر ترجمته فى: طبقات ابن سعد (3/ 1/ 69) ، التاريخ الكبير (6/ 520، 521) ، المعارف (275) ، الجرح والتعديل (6/ 373) ، حلية الأولياء (1/ 171، 172) ، تهذيب التهذيب (7/ 100) ، شذرات الذهب (1/ 27) ، سير أعلام النبلاء (1/ 304) ، الإصابة ترجمة رقم (5427) ، أسد الغابة ترجمة رقم (3556) .(1/318)
أمن طيف سلمى بالبطاح الدمائث ... أرقيت وأمر فى العشيرة حادث «1»
ترى من لؤى فرقة لا يصدها ... عن الكفر تذكير ولا بعث باعث
رسول أتاهم صادق فتكذبوا ... عليه وقالوا لست فينا بماكث
إذا ما دعوناهم إلى الحق أدبروا ... وهروّا هرير المحجرات اللواهث «2»
فكم قد متتنا فيهم بقرابة ... وترك التقى شىء لهم غير كارث
فإن يرجعوا عن كفرهم وعقوقهم ... فما طيبات الحلّ مثل الخبائث
وإن يركبوا طغيانهم وضلالهم ... فليس عذاب الله عنهم بلابث
ونحن أناس من ذؤابة غالب ... لنا العز منها فى الفروع الأثائث
فأولى بربّ الراقصات عشية ... حراجيج تجرى فى السريح الرّثائث
كأدم ظباء حول مكة عكف ... بردن حياض البئر ذات النّبائث
لئن لم يفيقوا عاجلا من ضلالهم ... ولست إذا آليت قولا بحانث
لتبتدرنهم غارة ذات مصدق ... تحرم أطهار النساء الطوامث
وكانت راية عبيدة أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الإسلام.
وبعض العلماء يزعم أنه بعثه حين أقبل من غزوة الإبواء قبل أن يصلى إلى المدينة، وأنه بعث فى مقامه بالمدينة حمزة بن عبد المطلب إلى سيف البحر من ناحية العيص فى ثلاثين راكبا من المهاجرين، فلقى أبا جهل بذلك الساحل فى ثلاثمائة راكب من أهل مكة، فحجز مجدى بن عمرو الجهنى، وكان موادعا للفريقين.
فانصرف بعض القوم عن بعض، ولم يك بينهم قتال.
وبعض الناس يقول: كانت راية حمزة أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من المسلمين، وذلك أن بعثه وبعث عبيدة كانا معا، فشبه ذلك على الناس.
وقد زعموا أن حمزة قال فى ذلك شعرا يذكر فيه أن رايته أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإن كان حمزة قال ذلك فقد صدق إن شاء الله، لم يكن يقول إلا حقّا، فالله أعلم أى ذلك كان.
__________
(1) الدمائث: أى الرمال اللينة.
(2) هروا: أى وثبوا كما تثب الكلاب. والمجحرات: أى الكلاب التى اجحرت، أى لجئت إلى مواضعها.(1/319)
فأما ما سمعنا من أهل العلم عندنا: فعبيدة بن الحارث أول من عقد له.
والشعر المنسوب لحمزة رضى الله عنه:
ألا يا لقومى للتحكم والجهل ... وللنقص من رأى الرجال وللعقل
وللراكبينا بالمظالم لم نطأ ... لهم حرمات من سوام ولا أهل «1»
كأنا تبلناهم ولا تبل عندنا ... لهم غير أمر بالعفاف وبالعدل»
وأمر بإسلام فلا يقبلونه ... وينزل منهم مثل منزلة الهزل
فما برحوا حتى انتدبت بغارة ... لهم حيث حلوا ابتغى راحة الفضل
بأمر رسول الله أول خافق ... عليه لواء لم يكن لاح من قبل
لواء لديه النصر من ذى كرامة ... إله عزيز فعله أفضل الفعل
عشية ساروا حاشدين وكلنا ... مراجله من غيظ أصحابه تغلى
فلما تراءينا أناخوا فعقلوا ... مطايا وعقلنا مدى غرض النبل
فعلنا لهم حبل الإله نصيرنا ... وليس لكم إلا الضلالة من حبل
فثار أبو جهل هنالك باغيا ... فخاب ورد الله كيد أبى جهل
وما نحن إلا فى ثلاثين راكبا ... وهم مئتان بعد واحدة فضل
فيال لؤى لا تطيعوا غواتكم ... وفيئوا إلى الإسلام والمنهج السهل «3»
فإنى أخاف أن يصب عليكم ... عذاب فتدعوا بالندامة والثّكل
ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ربيع الأول يريد قريشا حتى بلغ بواط «4» من ناحية رضوى، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا.
ثم غزاهم فسلك على نقب بنى دينار على فيفاء الحبار، فنزل تحت شجرة ببطحاء ابن أزهر، يقال لها: ذات الساق، فصلى عندها، فثمّ مسجده صلى الله عليه وسلم، وصنع له عندها طعام فأكل منه وأكل الناس معه، فموضع أثافى البرمة معلوم هنالك، واستقى له من ماء يقال له: المشرب المشترب.
ثم ارتحل حتى هبط بليل، ثم سلك فرش ملل حتى لقى الطريق بصحيرات اليمام، ثم اعتدل به الطريق حتى نزل العشيرة من بطن ينبع، فأقام بها جمادى الأولى وليالى من
__________
(1) السوام: أى الإبل الراعية، وقيل: هى المرسلة فى المرعى.
(2) تبلناهم: أى عاديناهم.
(3) فيئوا: أى ارجعوا. والمنهج: أى الطريق الواضح.
(4) انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 8) ، البداية والنهاية (3/ 246) .(1/320)
جمادى الآخرة. ووادع فيها بنى مدلج وحلفاءهم من بنى ضمرة ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا.
وبعث سرية فيما بين ذلك من غزوة سعد بن أبى وقاص فى ثمانية رهط من المهاجرين، فبلغ الخرّار من أرض الحجاز، ثم رجع ولم يلق كيدا.
ولم يقم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين قدم من غزوة العشيرة «1» إلا ليالى قلائل لا تبلغ العشر، حتى أغار كرز بن جابر الفهرى «2» على سرح المدينة.
فخرج صلى الله عليه وسلم فى طلبه حتى بلغ واديا يقال له: سفوان من ناحية بدر، وفاته كرز فلم يدركه. وهى غزوة بدر الأولى.
ثم رجع إلى المدينة.
وبعث عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدى «3» فى رجب مقفلة من تلك الغزاة، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين، وهم: أبو حذيفة بن عتبة، وسعد بن أبى وقاص، وعكاشة بن محصن، وعتبة بن غزوان، وعامر بن ربيعة، وواقد بن عبد الله التميمى، وخالد بن البكير، وسهيل بن بيضاء. وكتب له كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضى لما أمره به، ولا يستكره من أصحابه أحدا.
فلما سار عبد الله يومين فتح الكتاب فإذا فيه: «إذا نظرت فى كتابى هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصد بها قريشا وتعلم لنا من أخبارهم» .
فقال عبد الله: سمعا وطاعة، ثم قال لأصحابه: قد أمرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضى إلى نخلة أرصد فيها قريشا حتى آتيه منهم بخبر، وقد نهانى أن أستكره أحدا منكم، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها، فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمضى ومضى معه أصحابه، لم يختلف عنه منهم أحد، وسلك على الحجاز حتى إذا
__________
(1) راجع هذه الغزوة فى: المغازى للواقدى (1/ 12، 13) ، طبقات ابن سعد (2/ 1/ 4، 5) ، تاريخ الطبرى (2/ 408) ، البداية والنهاية (3/ 246) .
(2) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (7409) ، أسد الغابة ترجمة رقم (4449) .
(3) انظر ترجمته فى: الثقات (3/ 237) ، صفوة الصفوة (1/ 385) ، حلية الأولياء (1/ 108، 109) ، شذرات الذهب (1/ 54) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 302) ، تهذيب التهذيب (5/ 143) ، الجرح والتعديل (5/ 22، 101) .(1/321)
كان بمعدن فوق الفرع يقال له: بحران أضل سعد بن أبى وقاص وعتبه بن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه، فتخلفا فى طلبه.
ومضى عبد الله فى بقية أصحابه حتى نزل بنخلة، فمرت به عير لقريش تحمل زبيبا، وأدما، وتجارة من تجارة قريش، فيها عمرو بن الحضرمى، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة المخزومى وأخوه نوفل، والحكم بن كيسان، فلما رآهم القوم هابوهم، وقد نزلوا قريبا منهم، فأشرف لهم عكاشة بن محصن، وكان قد حلق رأسه، فلما رأوه أمنوا، وقالوا:
عمار لا بأس عليكم منهم، وتشاور القوم فيهم، وذلك فى آخر يوم من رجب، فقالوا:
والله لئن تركتموهم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمنعن منكم به، ولئن قتلتوهم لتقتلنهم فى الشهر الحرام.
فتردد القوم وهابوا ثم شجعوا أنفسهم وأجمعوا قتل من قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم.
فرمى واقد بن عبد الله عمرو بن الحضرمى بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبد الله، والحكم، وأفلت القوم نوفل فأعجزهم.
وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة.
وعزل عبد الله بن جحش لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمس تلك الغنيمة وقسم سائرها بين أصحابه، وذلك قبل أن يفرض الله الخمس من المغانم فلما أحل الله الفىء بعد ذلك وأمر بقسمه وفرض الخمس فيه، وقع على ما كان عبد الله صنع فى تلك العير.
فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أمرتكم بقتال فى الشهر الحرام» «1» . فوقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا.
فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم سقط فى أيدى القوم وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا، وقالت قريش: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال.
فقال من يرد عليهم من المسلمين ممن كان بمكة: إنما أصابوا ما أصابوا فى شعبان.
وقالت يهود، تفاءل بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمرو بن الحضرمى قتله واقد بن عبد
__________
(1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 249) .(1/322)
الله: عمرو: عمرت الحرب، والحضرمى: حضرت الحرب، وواقد بن عبد الله: وقدت الحرب: فجعل الله تبارك وتعالى ذلك عليهم لا لهم.
فلما أكثر الناس فى ذلك، أنزل الله على رسوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ [البقرة: 217] .
أى إن كنتم قتلتم فى الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراجكم منه أهله أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم، والفتنة أكبر من القتل، أى قد كانوا يفتنون المسلم فى دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه، فذلك أكبر عند الله من القتل.
فلما نزل القرآن بهذا من الأمر وفرج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشّفق، قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين، وبعثت قريش فى فدائهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لا، حتى يقدم صاحبانا، يعنى سعد بن أبى وقاص وعتبة بن غزوان، فإنا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما، نقتل صاحبيكم» . فقدم سعد وعتبة، فأفدى الأسيرين عند ذلك منهم.
فأما الحكم فأسلم فحسن أسلامه، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استشهد يوم بئر معونة، وأما عثمان فلحق بمكة فمات بها كافرا.
فلما تجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن طمعوا فى الأجر، فقالوا: يا رسول الله، أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطى فيها أجر المجاهدين؟
فأنزل الله تبارك وتعالى فيهم: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة: 218] ، فوضعهم الله من ذلك على أعظم الرجاء.
وقال أبو بكر الصديق رضى الله عنه فى تلك الغزوة أبياتا، ويقال بل عبد الله بن جحش، قالها حين قالت قريش: قد أحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، فسفكوا فيه الدم وأخذوا المال وأسروا الرجال:
تعدون قتلا فى الحرام عظيمة ... وأعظم منه لو يرى الرشد راشد
صدودكم عما يقول محمد ... وكفر به والله راء وشاهد(1/323)
وإخراجكم من مسجد الله أهله ... لئلا يرى فى البيت الله ساجد
فإنا وإن عيرتمونا بقتله ... وأرجف بالإسلام باغ وحاسد
سقينا من ابن الحضرمى رماحنا ... بنخلة لما أوقد الحرب واقد
دما وابن عبد الله عثمان بيننا ... ينازعه غلّ من القيد عاقد
غزوة بدر الكبرى «1»
قال ابن إسحاق «2» : ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع بأبى سفيان بن حرب مقبلا من الشام فى عير لقريش عظيمة.
فندب المسلمين إليهم، وقال: «هذه عير قريش، فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها» «3» .
فانتدب الناس، فخف بعضهم وثقل بعضهم، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربا.
وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتجسس الأخبار، ويسأل من لقى من الرّكبان، تخوفا، حتى أصاب من بعضهم خبرا باستنفار رسول الله صلى الله عليه وسلم له ولعيره، فحذر عند ذلك، واستأجر ضمضم بن عمرو الغفارى، فبعثه إلى مكة ليخبر قريشا بذلك، ويستنفرهم إلى أموالهم، فخرج ضمضم سريعا.
وكانت عاتكة بنت عبد المطلب «4» قد رأت قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث رؤيا أفزعتها، فقالت لأخيها العباس: يا أخى، والله لقد رأيت الليلة رؤيا لقد أفظعتنى وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة، فاكتم عنى ما أحدثك، فقال لها: وما رأيت؟.
__________
(1) ذكرها ابن الجوزى فى المنتظم (3/ 97) ، الواقدى فى المغازى (1/ 19) ، ابن سعد فى الطبقات (2/ 1/ 6 ط الشعب) ، الطبرى فى تاريخه (2/ 421) ، ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 256) ، ابن الأثير فى الكامل فى التاريخ (2/ 14) .
(2) انظر السيرة (2/ 211) .
(3) انظر الحديث فى: الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 1/ 6) ، الدر المنثور للسيوطى (3/ 168) ، تفسير ابن كثير (3/ 557) ، تفسير القرطبى (7/ 373) ، تفسير الطبرى (9/ 122) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 256) .
(4) انظر ترجمتها فى: طبقات ابن سعد (8/ 43) ، المعارف (118) ، الإصابة ترجمة رقم (11455) ، أسد الغابة ترجمة رقم (7088) .(1/324)
قالت: رأيت راكبا أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح ثم صرخ بأعلى صوته: ألا أنفروا يالغدر لمصارعكم فى ثلاث، فأرى الناس اجتمعوا إليه، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه، فبيناهم حوله، مثل به بعيره على ظهر الكعبة، ثم صرخ بمثلها، ألا أنفروا يالغدر إلى مصارعكم فى ثلاث، ثم مثل به بعيره على رأس أبى قبيس «1» فصرخ بمثلها، ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوى، حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت فما بقى بيت من بيوت مكة ولا دار إلا دخلتها منها فلقة.
قال العباس: والله إن هذه لرؤيا، وأنت فاكتميها ولا تذكريها لأحد.
ثم خرج العباس فلقى الوليد بن عتبة بن ربيعة، وكان له صديقا، فذكرها له واستكتمه إياها، فذكرها الوليد لأبيه عتبة، ففشا الحديث حتى تحدثت به قريش.
قال العباس: فغدوت لأطوف بالبيت وأبو جهل فى رهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة، فلما رآنى قال: يا أبا الفضل، إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا.
فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم، فقال لى أبو جهل يا بنى عبد المطلب، متى حدثت فيكم هذه النّبيئة؟ قال: قلت: وما ذاك؟ قال: الرؤيا التى رأت عاتكة، فقلت:
وما رأت؟.
قال يا بنى عبد المطلب، أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساءكم؟ قال:
زعمت عاتكة فى رؤياها أنه قال: انفروا فى ثلاث، فسنتربص بكم هذه الثلاث، فإن يك حقّا ما تقول فسيكون، وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شىء نكتب عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت فى العرب.
قال العباس: فو الله، ما كان منى إليه كبير، إلا أنى جحدت ذلك وأنكرت أن تكون رأيت شيئا، ثم تفرقنا.
فلما أمسيت لم تبق امرأة من بنى عبد المطلب إلا أتتنى، فقالت: أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع فى رجالكم، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع، ثم لم يكن عندك غيرة بشىء مما سمعت؟ فقلت: قد والله فعلت، وما كنا منى إليه من كبير، وإيم الله لأتعرضن له فإن عاد لأكفيكنّه.
قال: فغدوت فى اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا حديد مغضب، أرى أنه قد فاتنى
__________
(1) أبو قبيس: جبل مشرف على مكة من شرقيها. انظر: معجم البلدان (1/ 80) .(1/325)
أمر أحب أن أدركه منه، فدخلت المسجد فرأيته، وكان رجلا خفيفا حديد الوجه حديد اللسان حديد النظر، فو الله، إنى لأمشى نحوه أتعرضه ليعود لبعض ما قال، فأقع به، إذ خرج نحو باب المسجد يشتد، فقلت فى نفسى: ماله، لعنة الله؟! أكل هذا فرقا منى أن أشاتمه! وإذا هو قد سمع ما لم أسمع، صوت ضمضم بن عمرو [الغفارى] وهو يصرخ ببطن الوادى واقفا على بعيره قد جدعه وحول رحله وشق قميصه وهو يقول:
يا معشر قريش، اللطيمة اللطيمة، أموالكم مع أبى سفيان قد عرض لها محمد فى أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث.
قال: فشغلنى عنه، وشغله عنى ما جاء من الأمر.
فتجهز الناس سراعا وقالوا: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمى؟ كلا والله ليعلمن غير ذلك.
فكانوا بين رجلين، إما خارج وإما باعث مكانه رجلا.
وأو عبت قريش فلم يتخلف من أشرافها أحد، إلا أن أبا لهب تخلف وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة. وكانت عليه لأبى لهب أربعة آلاف درهم، فاستأجره بها على أن يجزىء عنه بعثة.
وأجمع أمية بن خلف القعود- وكان شيخا جليلا جسيما ثقيلا- فأتاه عقبة بن أبى معيط وهو جالس فى المسجد بين ظهرى قومه بمجمرة فيها نار ومجمر حتى وضعها بين يديه، ثم قال: يا أبا على، استجمر فإنما أنت من النساء! فقال: قبحك الله وقبح ما جئت به. ثم تجهز وخرج مع الناس.
ولما فرغوا من جهازهم وأجمعوا السير ذكروا حربا كانت بينهم وبين بنى بكر ابن عبد مناة بن كنانة، وقالوا: إنا نخشى أن يأتونا من خلفنا، فكاد ذلك يثبتهم، فتبدى لهم إبليس فى صورة سراقة بن جعشم المدلجى، وكان من أشراف بنى كنانة، فقال: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشىء تكرهونه.
فخرجوا سراعا.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ليال مضت من شهر رمضان فى أصحابه، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار «1» ، وكان أبيض، وكان أمام
__________
(1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (8020) ، أسد الغابة ترجمة رقم (4936) .(1/326)
رسول الله صلى الله عليه وسلم رايتان سوداوان، إحداهما مع على بن أبى طالب- رضى الله عنه- والأخرى مع بعض الأنصار، وجعل على الساقة قيس بن أبى صعصعة أخا بنى مازن بن النجار، وكانت راية الأنصار مع سعد بن معاذ فيما قال ابن هشام.
فسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقة من المدينة إلى مكة حتى إذا كان قريبا من الصفراء بعث بسبس بن عمرو «1» ، وعدى بن أبى الزغباء «2» الجهينيين إلى بدر يتجسسان له الأخبار عن أبى سفيان وغيره.
فمضيا حتى نزلا بدرا، فأناخا إلى تل قريب من الماء، فسمعا جاريتين من جوارى الحاضر تتلازما على الماء، والملزومة تقول لصاحبتها: إنما ترد العير غدا أو بعده فأعمل لهم ثم أقضيك. فقال مجدى بن عمرو، وكان على الماء: صدقت، ثم خلص بينهما.
فلما سمع بذلك عدى وبسبس، انطلقا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه.
ثم تقدم أبو سفيان العير حذرا حتى ورد الماء، فقال لمجدى: هل أحسست أحدا؟
قال: لا، إلا أنى قد رأيت راكبين أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا فى شن لهما، ثم انطلقا.
فأتى أبو سفيان مناخهما، فأخذ من أبعار بعيريهما ففته فإذا فيه النوى، فقال: هذه والله علائف يثرب! فأسرع إلى اصحابه فضرب وجه عيره عن الطريق فساحل بها، وترك بدرا بيساره.
ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى واديا يقال له: «ذفران» ، فجزع فيه، ثم نزل.
وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فأخبر الناس واستشارهم.
فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: «اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون» ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فو الذى بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه.
__________
(1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (810) ، أسد الغابة ترجمة رقم (405) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 48) ، معرفة الصحابة (3/ 175) .
(2) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (5498) ، أسد الغابة ترجمة رقم (3613) ، الثقات (3/ 316) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 377) .(1/327)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشيروا على» «1» . وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم عدد الناس، وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله، إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت فى ذمتنا، نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم من بلادهم إلى عدو، فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال:
«أجل» «2» ، قال: فقد آمنا بك وصدقناك؛ وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فو الذاى بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما يتخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بناعدونا غدا، إنا لصبر فى الحرب صدق عند اللقاء لعل يريك منا ما تقربه عينك، فسر بنا على بركة الله.
فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشطه ذلك، ثم قال: «سيروا وأبشروا فإن الله تبارك وتعالى قد وعدنى إحدى الطائفتين، والله لكأنى الآن انظر إلى مصارع القوم» «3» .
ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من «ذفران» «4» حتى نزل قريبا من بدر فركب هو ورجل من أصحابه، قيل: هو أبو بكر الصديق، حتى وقف على شيخ من العرب فسأله عن قريش، وعن محمد وأصحابه، وما بلغه عنهم، فقال الشيخ: لا اخبر كما حتى تخبرانى ممن أنتما؟
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أخبرتنا أخبرناك» . قال: أو ذاك بذاك، قال: «نعم» ، قال الشيخ: فإنى بلغنى أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذى أخبرنى فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغنى أن قريشا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذى أخبرنى فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذى به قريش. فلما فرغ من خبره، قال: ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نحن من ماء» «5» . ثم انصرف عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (9/ 356) ، دلائل النبوة للبيهقى (2/ 377، 381) .
(2) انظر الحديث فى: سنن أبى داود (5233) ، مسند الإمام أحمد (1/ 255، 284، 3/ 438، 5/ 286، 372، 381) ، الدر المنثور للسيوطى (5/ 205) ، كنز العمال للمتقى الهندى (31379) .
(3) انظر الحديث فى: تفسير ابن كثير (3/ 72) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 336) .
(4) ذفران: واد قرب واد الصفراء والذفر كل ريح من طيب أو نتن. انظر: معجم البلدان (3/ 6) .
(5) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 264) .(1/328)
قال: يقول الشيخ: ما من ماء! أمن ماء العراق؟
ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه، فلما أمسى بعث على بن أبى طالب والزبير بن العوام، وسعد بن أبى وقاص فى نفر من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون الخبر له عليه، فأصابوا راوية لقريش فيهما غلامان لبعضهم، فأتوا بهما فسألوهما، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلى، فقالا: نحن سقاة قريش، بعثونا نسقيهم من الماء، فكره القوم خبرهما، ورجوا أن يكونا لأبى سفيان، فضربوهما، فلما أذلقوهما قالا: نحن لأبى سفيان، فتركوهما.
وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد سجدتيه، ثم سلم وقال: «إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما! صدقا والله، إنهما لقريش، أخبرانى عن قريش. فقالا: هم وراء هذا الكثيب الذى ترى» . قال: «كم القوم؟» قالا: كثير. قال: «ما عدتهم؟» قالا:
ما ندرى. قال: «كم ينحرون كل يوم؟» قالا: يوما تسعا ويوما عشرا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القوم ما بين التسعمائة والألف» «1» .
ثم قال لهما: «من فيهم من أشراف قريش؟» قالا: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البخترى بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر، وطعيمة بن عدى، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأمية ابن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو، وعمرو بن عبد ود.
فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال: «هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها» «2» .
وأقبلت قريش؛ فلما نزلوا الجحفة رأى جهيم بن الصلت بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف رؤيا، فقال: إنى أرى فيما يرى النائم، وإنى لبين النائم واليقظان، إذ نظرت إلى رجل أقبل على فرس حتى وقف ومعه بعير له، ثم قال: قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، وابو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف وفلان، فعدد رجالا ممن قتل يوم بدر من أشراف قريش، ثم رأيته ضرب فى لبة بعيره ثم أرسله فى العسكر فيما بقى خباء من أخبية العسكر إلا أصابه نضح من دمه.
__________
(1) انظر الحديث فى: تفسير ابن كثير (2/ 13، 4/ 11) ، تفسير الطبرى (3/ 131) ، الدر المنثور للسيوطى (3/ 166) .
(2) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 277، 278) ، تاريخ الطبرى (2/ 28) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 75، 76) ، دلائل النبوة للبيهقى (3/ 42) .(1/329)
فبلغت أبا جهل فقال: وهذا- أيضا- نبى آخر من بنى المطلب! سيعلم غدا من المقتول إن نحن التقينا.
قال: ولما رأى أبو سفيان قد أحرز عيره أرسل إلى قريش: إنكم خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم فقد نجاها اله، فارجعوا.
قال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدرا، وكان موسما للعرب لهم به سوق كل عام، فنقيم عليه ثلاثا، فننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونسقى الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها، فامضوا.
وقال الأخنس بن شريق الثقفى: يا بنى زهرة، وكان حليفا لهم: قد نجى الله أموالكم وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله، فاجعلوه بن جنبها وارجعوا، فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا فى غير ضيعة، لا ما يقول هذا.
فرجعوا فلم يشهدها زهرى واحد، أطاعوه وكان فيهم مطاعا.
ولم يكن بقى من قريش بطن إلا قد نفر منهم ناس إلا بنو عدى بن كعب، لم يخرج منهم رجل واحد، فرجعت بنو زهرة مع الأخنس، فلم يشهد بدرا من هذين القبيلين أحد.
وكان بين طالب بن أبى طالب وكان فى القوم، وبين بعض قريش محاورة، فقالوا:
والله لقد عرفنا يا بنى هاشم وإن خرجتم معنا أن هواكم لمع محمد. فرجع طالب إلى مكة مع من رجع، وقال:
لا هم إما يغزون طالب ... فى عصبة مخالفا محارب
فى مقنب من هذه المقانب ... فليكن المسلوب غير السالب
وليكن المغلوب غير الغالب
ومضت قريش حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادى خلف العقنقل والقلب ببدر فى العدوة الدنيا إلى المدينة.
وبعث الله- عز وجل- السماء، وكان الوادى دهسا، فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه منها ما لبد لهم الأرض ولم يمنعهم من المسير، وأصاب قريشا منها ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يبادرهم إلى الماء، حتى إذا جاؤا أدنى ماء من بدر نزلوا به.(1/330)
فذكروا أن الحباب بن المنذر بن الجموح الأنصارى قال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتاخر عنه؟ أم هو الرأى والجرب والمكيدة؟
فقال: «بل هو الرأى والحرب والمكيدة» . قال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بنا حتى نأنى أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ما وراءه من القلب، ثم نبنى عليه حوضا فنملأه ماء ثم نتقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد أشرت بالرأى» «1» . فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس، فساروا حتى إذا اتى ماء إلى القوم نزل عليه، ثم أمر بالقلب فغورت وبنى حوضا على القليب الذى نزل عليه فملىء ماء ثم قذفوا فيه الآنية.
وقال سعد بن معاذ: يا نبى الله، ألا نبنى لك عريشا تكون فيه، ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا، كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلف عنك أقوام يا نبى الله ما نحن بأشد حبا لك منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله- عز وجل- بهم يناصحونك ويجاهدون معك.
فأثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه خيرا ودعا له بخير، ثم بنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش فكان فيه.
وارتحلت قريش حين أصبحت فأقبلت، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم تصوب من الكثيب الذى جاؤا منه، قال: «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذى وعدتنى به، اللهم أحنهم الغداة» «2» .
وقد كان خفاف بن أيماء بن رحضة الغفارى أو أبوه بعث إلى قريش حين مروا به ابنا له بجزائر أهداها لهم، وقال: إن أحببتم أن نمدكم بسلاح ورجال فعلنا. فأجابوه: أن وصلتك رحم، قد قضيت الذى عليك، فلعمرى لئن كنا إنما نقاتل الناس ما بنا ضعف عنهم، ولئن كنا إنما نقاتل الله كما يزعم محمد ما لأحد بالله من طاقة!
فلما نزل الناس أقبل نفر من قريش فيهم حكيم بن حزام حتى وردوا حوض رسول
__________
(1) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (4/ 426، 427) .
(2) انظر الحديث فى: صحيح مسلم (3/ 58) ، مسند الإمام أحمد (208، 221) ، تاريخ الطبرى (2/ 30) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 268) .(1/331)
الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «دعوهم» . فما شرب منه يومئذ رجل إلا قتل، إلا ما كان من حكيم بن حزام فإنه لم يقتل، ثم أسلم بعد فحسن إسلامه، فكان إذا اجتهد فى يمينه قال: لا، والذى نجانى من يوم بدر «1» .
ولما اطمأن القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحى فقالوا: احزر لنا أصحاب محمد.
فدار بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم، فقال: ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصونه، ولكن أمهلونى حتى أنظر أللقوم كمين أو مدد، وضرب فى الوادى حتى أبعد فلم ير شيئا، فرجع إليهم فقال: ما رأيت شيئا، ولكن قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلا منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك، فروا رأيكم.
فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى فى الناس فأتى عتبة بن ربيعة فقال: يا أبا الوليد، إنك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها، هل لك إلى أن لا تزال تذكر منها بخير إلى آخر الدهر، قال: وما ذلك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس، وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمى. قال: قد فعلت، أنت على بذلك إنما هو حليفى فعلى عقله وما أصيب من ماله، فأت ابن الحنظلية- يعنى أبا جهل- فإنى لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره.
ثم قام عتبة خطيبا فقال:
يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا، والله لئن أصبتموه لا يزال رجل ينظر فى وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد، وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذلك الذى أردتم، وإن كان غير ذلك ألقاكم، ولم تعرضوا منه ما تريدون.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى عتبة فى القوم على جمل له أحمر فقال: «إن يك عند أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر، إن يطيعوه يرشدوا» «2» .
قال حكيم: فانطلقت حتى جئت أبا جهل فوجدته قد نثل درعا له من جرابها فهو يهيئها، فقلت له: يا أبا الحكم، إن عتبة أرسلنى إليك بكذا وكذا، للذى قال. فقال:
انتفخ والله سحره حين رأى محمدا وأصحابه، كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا
__________
(1) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (3/ 298) ، الطبرى فى تاريخه (2/ 30) .
(2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (1/ 117) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 75، 76) .(1/332)
وبين محمد وما بعتبة ما قال: ولكنه قد رأى أن محمدا وأصحابه أكلة جزور وفيهم ابنه، فقد تخوفكم عليه.
ثم بعث إلى عامر بن الحضرمى، فقال: هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينيك، فقم فانشد خفرتك، ومقتل أخيك.
فقام عامر بن الحضرمى فاكتشف ثم صرخ: واعمراه، واعمراه! فحميت الحرب وحقب أمر الناس واستوسقوا على ما هم عليه من الشر وأفسد على الناس الرأى الذى دعاهم إليه عتبة.
فلما بلغ عتبة قول أبى جهل: انتفخ والله سحره، قال: سيعلم مصفر استه من انتفخ سحره أنا أم هو؟!
ثم التمس عتبة بيضة ليدخلها فى رأسه فما وجد فى الجيش بيضة تسعة من عظم هامته، فلما ذلك اعتجر على رأسه ببرد له.
وخرج الأسود بن عبد الأسد المخزومى وكان رجلا شرسا سيىء الخلق، فقال:
أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتن دونه.
فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب فضربه فأطن قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دما، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه يريد. زعم أن يبر يمينه، وأتبعه حمزة فضربه حتى قتله فى الحوض.
ثم خرج بعده عتبة بن ربيعة بين اخيه شيبة وابنه الوليد بن عتبة حتى إذا نصل من الصف دعا إلى المبارزة، فخرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة، وهم: عوف ومعوذ ابنا الحارث وأمهما عفراء، وعبد الله بن رواحة. فقالوا: من أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار.
قالوا: ما لنا بكم من حاجة، ثم نادى مناديهم: يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة وقم يا علىّ» «1» . فلما قاموا ودنوا منهم، قالوا: من أنتم، فقال عبيدة: عبيدة، وقال حمزة: حمزة، وقال على: على.
قالوا: نعم، أكفاء كرام.
فبارز عبيدة، وكان أسن القوم، عتبة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علىّ الوليد.
فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله. وأما علىّ فلم يمهل الوليد أن قتله، واختلف عبيدة
__________
(1) انظر الحديث فى: سنن أبى داود (2665) ، من حديث على بن أبى طالب رضى الله عنه.(1/333)
وعتبة بينهما ضربتين كلاهما أثبت صاحبه، وكر حمزة وعلىّ بأسيافهما على عتبة فذففا عليه، واحتملا صاحبهما فحازاه إلى أصحابه.
وذكر ابن عقبة، أنه لما طلب القوم المبارزة فقام إليهم ثلاثة نفر من الأنصار، استحيا النبى صلى الله عليه وسلم من ذلك لأنه كان أول قتال التقى فيه المسلمون والمشركون ورسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد معهم، فأحب النبى صلى الله عليه وسلم أن تكون الشوكة ببنى عمه، فناداهم أن ارجعوا إلى مصافكم، وليقم إليهم بنو عمهم. فعند ذلك قام حمزة وعلىّ وعبيدة.
ثم تزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أنه لا يحملوا حتى يأمرهم، وقال: «إن أكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل» «1» .
ورسول الله صلى الله عليه وسلم فى العريش معه أبو بكر الصديق، وكان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحد، أحد.
وعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم- يومئذ- صفوف أصحابه وفى يده قدح يعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية- حليف بنى عدى بن النجار- وهو مستنثل من الصف- أى بارز- فطعن فى بطنة بالقدح وقال: «استو يا سواد» . فقال: يا رسول الله أو جعتنى، وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدنى. فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال: «استقد» ، فاعتنقه فقبل بطنه، فقال له: «ما حملك على هذا يا سواد؟» «2» قال: يا رسول الله، حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدى جلدك، فدعا له بخير، وقاله له.
ثم عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف ورجع إلى العريش، فدخله ومعه فيه أبو بكر، ليس معه فيه غيره، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ما وعده من النصر ويقول فيما يقول: «اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد» . وأبو بكر يقول: يا نبى الله، بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك.
وخفق رسول الله صلى الله عليه وسلم خفقة وهو فى العريش، ثم انتبه فقال: «أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله! هذا جبريل آخذا بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع» «3» . يريد الغبار.
ورمى مهجع مولى عمر بن الخطاب بسهم فقتله، فكان أول قتيل من المسلمين.
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (3984، 3985) ، سنن أبى داود (2663) .
(2) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 271) ، تاريخ الطبرى (2/ 32) .
(3) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 284) .(1/334)
ثم رمى حارثة بن سراقة- أحد بنى عدى بن النجار- وهو يشرب من الحوض بسهم فأصاب نحره فقتله.
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فحرضهم، ثم قال: «والذى نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة» «1» .
فقال عمير بن الحمام، أخو بنى سلمة وفى يده تمرات يأكلهن: بخ بخ! أفما بينى وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلنى هؤلاء! ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل حتى قتل.
وقال- يومئذ- عوف بن الحارث وهو ابن عفراء: يا رسول الله، ما يضحك الرب من عبده؟ فقال: «غمسه يده فى العدو حاسرا» «2» فنزع درعا كانت عليه فقذفها ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل.
وقاتل عكاشة بن محصن الأسدى حليف بنى عبد شمس يوم بدر بسيفه حتى انقطع فى يده، فاتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه جذلا من حطب، فقال: «قاتل بهذا يا عكاشة» »
، فلما أخذه هذه فعاد فى يده سيفا طويل القامة شديد المتن أبيض الحديدة، فقاتل به حتى فتح الله على المسلمين، وكان ذلك السيف يسمى العون، ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل فى الردة وهو عنده، قتله طليحة الأسدى.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشا ثم قال: «شاهت الوجوه» «4» ، ثم نفحهم بها، ثم أمر أصحابه فقال: «شدوا» ، فكانت الهزيمة عليهم.
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح مسلم كتاب الإمارة (3/ 145) ، مسند الإمام أحمد (3/ 136، 137) ، مستدرك الحاكم (3/ 426) .
(2) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 271) .
(3) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (3/ 98، 99) ، المغازى للواقدى (1/ 93) .
(4) انظر الحديث فى: صحيح مسلم فى كتاب الجهاد باب (28) رقم (81) ، مسند الإمام أحمد (1/ 303، 368، 5/ 286) ، مستدرك الحاكم (1/ 163، 3/ 157) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 84، 184، 8/ 4، 228) ، دلائل النبوة للبيهقى (5/ 141، 6/ 240) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 169، 8/ 32) ، الدر المنثور للسيوطى (5/ 174، 224، 226، 345) ، كنز العمال للمتقى الهندى (3697، 29924، 29925، 30213، 30204) ، تفسير ابن كثير (3/ 571، 586، 4/ 69) ، تفسير القرطبى (8/ 98، 16، 263) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 284) .(1/335)
وجعل الله تلك الحصباء عظيما شانها، لم تترك من المشركين رجلا إلا ملأت عينيه.
واستولى عليهم المسلمون معهم الله وملائكته يقتلونهم ويأسرونهم ويجدون النفر كل رجل منهم منكبّ على وجهه لا يدرى أين يتوجه، يعالج التراب ينزعه من عينيه.
فقتل الله من قتل من صناديد قريش، وأسر من أسر من أشرافهم.
فلما وضع القوم أيديهم يأسرون وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم متوشح السيف فى نفر من الأنصار يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم خوف كرة العدو عليه، رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى وجه سعد الكراهية لما يصنع الناس، فقال له:
«لكأنك والله يا سعد تكره ما يصنع القوم؟» «1» فقال: أجل والله يا رسول الله، كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان فى القتل أحب إلى من استقبال الرجال.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ لأصحابه: «إنى قد عرفت أن رجالا من بنى هاشم وغيرهم أخرجوا كرها، لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقى منكم أحدا من بنى هاشم فلا يقتله، ومن لقى أبا البخترى بن هشام فلا يقتله، ومن لقى العباس عم رسول الله فلا يقتله، فإنه إنما خرج مستكرها» . فقال أبو حذيفة: أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشيرتنا ونترك العباس! والله لئن وجدته لألحمنه السيف. فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لعمر بن الخطاب: «يا أبا حفص» . قال عمر: والله، إنه لأول يوم كنانى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبى حفص. «أيضرب وجه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف؟» «2» فقال عمر: يا رسول الله، دعنى فلأضرب عنقه بالسيف، فو الله لقد نافق.
فكان أبو حذيفة يقول: ما أنا بآمن من تلك الكلمة التى قلت يومئذ ولا أزال منها خائفا إلا أن تكفرها عنى الشهادة، فقتل يوم اليمامة شهيدا رحمه الله.
وإنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أبى البخترى لأنه كان أكف القوم عنه بمكة، وكان لا يؤذيه ولا يبلغه عنه شىء يكرهه، وكان ممن قام فى نقض الصحيفة التى كتبت قريش على بنى هاشم وبنى المطلب.
فلقيه المجذر بن زياد البلوى حليف الأنصار- يوم بدر- فقال له: إن رسول الله
__________
(1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 284) ، تاريخ الطبرى (2/ 34) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (2/ 126) .
(2) انظر الحديث فى: تاريخ الطبرى (2/ 34) ، عيون الأثر لابن سيد الناس (1/ 398) .(1/336)
صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن قتلك، ومع أبى البخترى زميل له خرج معه من مكة، قال: وزميلى؟
قال المجذر: لا والله ما نحن بتاركى زميلك، ما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بك وحدك.
قال: إذا والله لأموتن أنا وهو جميعا، لا تحدث عنى نساء مكة إنى تركت زميلى حريصا على الحياة، وقال يرتجز:
لن يسلم ابن حرة زميله ... حتى يموت أو يرى سبيله
ثم اقتتلا فقتله المجذر، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والذى بعثك بالحق لقد جهدت عليه أن يستأسر فآتيك به فأبى إلا أن يقاتلنى فقاتلته فقتلته.
هذا الذى ذكر ابن إسحاق فى قتل أبى البخترى «1» .
وقال موسى بن عقبة: يزعم ناس أن أبا اليسر قتل أبا البخترى ويأبى أعظم الناس إلا أن المجذر هو الذى قتله.
ثم أضرب ابن عقبة عن القولين، وقال: بل قتله- غير شك- أبو داود المازنى وسلبه سيفه فكان عند بنيه حتى باعه بعضهم من بعض بنى أبى البخترى.
وكان المجذر قد ناشده أن يستأسره، وأخبره بنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتله، فأبى أبو البخترى أن يستأسر وشد عليه المجذر بالسيف وطعنه الأنصارى، يعنى أبا داود المازنى، بين ثدييه فأجهز عليه فقتله.
ويومئذ قال المجذر فيما ذكروا:
إما جهلت أو نسيت نسبى ... فأثبت النسبة أنى من بلى
الطاعنين برماح اليزنى ... والضاربين الكبش حتى ينحنى
بشر بيتم من أبوه البخترى ... أو بشرن بمثلها منى بنى
أنا الذى يقال أصلى من بلى ... أطعن بالصعدة حتى تنثنى
وأعبط القرن بعضب مشرفى ... أرزم للموت كإرزام المرى
فلا ترى مجذرا يفرى فرى
وقال عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه: كان أمية بن خلف لى صديقا بمكة، وكان اسمى عبد عمرو، فلما أسلمت تسميت عبد الرحمن، فكان يلقانى فيقول: يا عبد عمرو، أرغبت عن اسم سماكه أبوك؟ فأقول نعم. فيقول: فإنى. لا أعرف الرحمن،
__________
(1) انظر السيرة (2/ 233) .(1/337)
فاجعل بينى وبينك شيئا أدعوك به، أما أنت فلا تجيا بنى باسمك الأول، وأما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف. فقلت له: يا أبا علىّ، اجعل ما شئت. قال: فأنت عبد الإله.
فقلت: نعم.
حتى إذا كان يوم بدر مررت به وهو واقف مع ابنه على آخذ بيده ومعى أدراع لى قد استلبتها فأنا أحملها، فلما رآنى قال: يا عبد عمرو. فلم أجبه فقال: يا عبد الإله.
فقلت: نعم. قال: هل لك فىّ فأنا خير لك من هذه الأدراع؟ قلت: نعم.
فطرحت الأدراع من يدى وأخذت بيده ويد ابنه، وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط! أما لكم حاجة فى اللبن؟ يريد الفداء.
وقال عبد الرحمن: قال لى أمية وأنا بينه وبين ابنه آخذ بأيديهما: من الرجل منكم المعلم بريشة نعامة فى صدره؟ زائده قلت: ذلك حمزة بن عبد المطلب. قال: ذلك الذى فعل بنا الأفاعيل.
قال عبد الرحمن: فو الله، إنى لأقودهما إذ رآه بلال، وكان هو الذى يعذبه بمكة على ترك الإسلام، فيخرجه إلى رمضاء مكة إذا حميت فيضجعه على ظهره ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول: لا تزال هكذا أو تفارق دين محمد. فيقول بلال:
أحد أحد. فلما رآه قال: رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجوت، قال: قلت أى بلال أبأسيرى؟!
قال: لا نجوت إن نجا. قلت: أتسمع يا ابن السوداء؟ قال: لا نجوت إن نجا. ثم صرخ بأعلى صوته: يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا.
فأحاطوا بنا حتى جعلونا فى مثل المسكة، وأنا اذب عنه، فأخلف رجل السيف فضرب رجل ابنة فوقع، وصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط، فقلت: انج بنفسك، ولا نجاء به، فو الله ما أغنى عنك شيئا، فهبروهما بأسيافهم حتى فرغوا منهما، فكان عبد الرحمن يقول: رحم الله بلالا، ذهبت أدراعى وفجعنى بأسيرى.
وقاتلت الملائكة يوم بدر. قال ابن عباس: ولم تقاتل فى يوم سواه، وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عددا ومددا لا يضربون، وكانت سماهم يوم بدر عمائم بيضاء، قد أرسلوها فى ظهروهم، ويوم حنين عمائم حمرا.(1/338)
وذكر ابن هشام «1» عن على- رضى الله عنه- فى سيماهم يوم بدر مثل ما قال ابن عباس، إلا جبريل، فإن فى حديث على أنه كانت عليه عمامة صفراء.
وقال ابن عباس: حدثنى رجل من غفار قال: أقبلت أنا وابن عم لى حتى أصعدنا فى حيل يشرف بنا على بدر، ونحن مشركان ننظر لمن تكون الدبرة فننتهب مع من ينتهب؛ فبينا نحن فى الجبل إذ دنت منا سحابة فسمعنا فيها حمحمة الخيل، فسمعت قائلا يقول:
أقدم حيزوم. فأما ابن عمى فانكشف قناع قلبه فمات مكانه، وأما أنا فكدت أهلك ثم تماسكت.
وقال أبو أسيد الساعدى بعد أن ذهب بصره، وكان شهد بدرا: لو كنت اليوم ببدر ومعى بصرى لأريتكم الشعب الذى خرجت منه الملائكة، لا أشك ولا أتمارى.
وقال أبو داود المازنى: إنى لأتبع رجلا من المشركين يوم بدر لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفى، فعرفت أنه قد قتله غيرى.
فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدوه أمر بأبى جهل أن يلتمس فى القتلى، وقال لهم:
«انظروا إن خفى عليكم فى القتلى إلى أثر جرح فى ركبته، فإنى ازدحمت يوما أنا وهو على مأدبة لعبد الله بن جدعان ونحن غلامان وكنت أشف منه بيسير، فدفعته فوقع على ركبتيه فجحشت فى إحداهما جحشا لم يزل أثره به» «2» .
__________
(1) انظر السيرة (2/ 237) .
(2) ذكر ابن الجوزى فى المنتظم (3/ 115) فى ذكر مقتل أبى جهل قصة أصح من هذا وهى فى صحيح البخارى، فقال: أخبرنا عبد الأول، قا: أخبرنا الداوودى، قال: أخبرنا ابن أعين، قال: أخبرنا الفربرى، قال: حدثنا البخارى، قال: أخبرنا مسدد، قال: حدثنا يوسف بن يعقوب الماجشون، عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، عن جده عبد الرحمن، أنه قال: بينا أنا واقف فى الصف يوم بدر، فنظرت عن يمينى وعن شمالى، فإذا أنا بغلامين من الأنصار، حديثه أسنانهما، تمنيت لو كنت بين أضله منهما، فغمزنى أحدهما، فقال: يا عم هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، وما حاجتك إليه يا ابن أخى؟ قال: بلغنى أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذى نفسى بيده لئن رأيته لم يفارق سوادى سوداه حتى يموت الأعجل منا، قال: فغمزنى الآخر، فقال لى مثلها، فتعجبت لذلك ثم لم أنشب أن نظرت إلى أبى جهل يجول فى الناس، فقلت لهما: ألا تريان هذا صاحبكما الذى تسألان عنه، فابتدراه فاستقبلهما فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه، فقال: «أيكما قتله؟» فقال كل واحد منهما: أنا قتلته، قال: «مسحتما سيفيكما؟» ، قالا: لا، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فى السيفين، فقال: «كلا كما قتله» ، وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح.(1/339)
وكان من حديث عدو الله يوم بدر أنه لما التقى الناس ودنا بعضهم من بعض قال:
اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة. فكان هو المستفتح، وأقبل يرتجز وهو يقول:
ما تنقم الحرب العوان منى ... بازل عامين حديث سنى
لمثل هذا ولدتنى أمى
وكان أول من لقيه ذكر معاذ بن عمرو بن الجموح أخو بنى سلمة، قال: سمعت القوم وأبو جهل فى مثل الحربة يقولون: أبو الحكم لا يخلصن إليه.
فلما سمعتها جعلته من شأنى فصمدت نحوه، فلما أمكننى حملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقة، فضربنى ابنه عكرمة على عاتقى فطرح يدى فتعلقت بجلدة من جنبى، وأجهضنى القتال عنه، فلقد قاتلت عامة يومى وإنى لأسحبها خلفى، فلما آذتنى وضعت عليها قدمى ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها وعاش بعد ذلك معاذ هذا- رحمه الله- إلى زمان عثمان رضى الله عنه.
ثم مر بأبى جهل، وهو عقير، معوذ بن عفراء فضربه حتى أثبته فتركه وبه رمق، وقاتل معوذ حتى قتل.
فمر عبد الله بن مسعود بأبى جهل حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتماسه فى القتلى. قال عبد الله: وقد كان ضبث بى مرة بمكة فآذانى ولكزنى، فوجدته بآخر رمق فعرفته فوضعت رجلى على عنقه ثم قلت له: أخزاك الله يا عدو الله! قال: وبماذا أخزانى؟
أعمد من رجل قتلتموه، أخبرنى لمن الدائرة اليوم؟ قلت: لله ولرسوله.
ثم احتززت رأسه، ثم جئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله هذا رأس عدو الله أبى جهل. فقال: «آلله الذى لا إله غيره؟» «1» وكانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت:
نعم، والله الذى لا إله غيره. ثم ألقيت رأسه بين يديه، فحمد الله.
وخرج مسلم فى صحيحه عن عبد الرحمن بن عوف، قال: بينا أنا واقف فى الصف
__________
- وقال ابن الجوزى هما: معاذ بن عمرو، ومعاذ بن عفراء. قلت: والحديث أخرجه: البخارى فى صحيحه (6/ 246) ، مسلم فى صحيحه كتاب الجهاد والسير (3/ 42) ، أحمد فى المسند (1/ 193) .
(1) انظر الحديث فى: السنن الكبر للبيهقى (9/ 62) ، تاريخ الطبرى (2/ 37) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 288) .(1/340)
يوم بدر نظرت عن يمينى وشمالى، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثه أسنانهما، فتمنيت لو كنت بين اضلع منهما فغمزنى أحدهما، فقال: يا عم، هل تعرف أبا جهل؟
قلت: نعم وما حاجتك إليه يا ابن أخى؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذى نفسى بيده لئن رأيته لا يفارق سوادى سواده حتى يموت الأعجل منا. قال: فتعجبت لذلك، فغمزنى الآخر فقال مثلها.
قال: فلم أنشب أن نظرت إلى أبى جهل يجول فى الناس، فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذى تسألان عنه.
فابتدراه، فضرباه بسيفيهما حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه، فقال:
«أيكما قتله؟» فقال كل واحد منهما: أنا قتلته. فقال: «هل مسحتما سيفيكما؟» قالا:
لا، فنظر فى السيفين، فقال: «كلاكما قتله» . وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح.
والرجلان: معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء.
وذكر ابن عقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوم بدر على القتلى، فالتمس أبا جهل فلم يجده، حتى عرف ذلك فى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اللهم لا يعجزن فرعون هذه الأمة» .
فسعى له الرجال حتى وجده عبد الله بن مسعود مصروعا، بينه وبين المعركة غير كبير، مقنعا فى الحديد واضعا سيفه على فخذيه، ليس به جرح ولا يستطيع أن يحرك منه عضوا، وهو مكب ينظر إلى الأرض، فلما رآه ابن مسعود طاف حوله ليقتله وهو خائف أن ينوء إليه، فلما دنا منه وأبصره لا يتحرك ظن أنه مثبت جراحا، فأراد أن يضربه بسيفه، فخاف أن لا يعنى شيئا فأتاه من ورائه، فتناول قائم سيف أبى جهل فاستله وهو مكب لا يتحرك، ثم رفع سابغة البيضة عن قفاه، فضربه فوقع رأسه بين يديه، ثم سلبه، فلما نظر إليه إذا هو ليس به جراح وأبصر فى عنقه حدرا وفى يديه وكتفه مثل آثار السياط.
فأتى ابن مسعود النبى صلى الله عليه وسلم فأخبره بقتله، والذى رأى به، فقال النبى صلى الله عليه وسلم، زعموا:
«ذلك ضرب الملائكة» .
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتلى أن يطرحوا فى القليب فطرحوا فيه إلا ما كان من أمية ابن خلف، فإنه انتفخ فى درعه فملأها، فذهبوا ليحركوه فتزايل، فأقروه وألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة.(1/341)
ويقال: إنهم ألقوا فى القليب وقف عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أهل القليب، بئس عشيرة النبى كنتم لنبيكم، كذبتمونى وصدقنى الناس، وأخرجتمونى وآوانى الناس، وقاتلتمونى ونصرنى الناس. يا أهل القليب، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا، فإنى قد وجدت ما وعدنى ربى حقا» .
فقال له أصحابه: يا رسول الله، أتكلم قوما موتى؟
فقال لهم: «لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حق» .
قالت عائشة: والناس يقولون: لقد سمعوا ما قلت لهم، وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لقد علموا» «1» .
وفى حديث أنس أن المسلمين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين نادى أصحاب القليب: يا رسول الله، أتنادى قوما قد جيفوا. فقال: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبونى» «2» .
وذكر ابن عقبة نحوا من ذلك عن نافع عن عبد الله بن عمر.
وقال حسان بن ثابت:
عرفت ديار زينب بالكثيب ... كخط الوحى فى الورق القشيب
تداولها الرياح وكل جون ... من الوسمى منهمر سكوب
فأمسى رسمها خلقا وأمست ... يبابا بعد ساكنها الحبيب
فدع عنك التذكر كل يوم ... ورد حرارة الصدر الكئيب
وخبر بالذى لا عيب فيه ... بصدق غير أخبار الكذوب
بما صنع المليك غداة بدر ... لنا فى المشركين من النصيب
غداة كأن جمعهم حراء ... بدت أركانه جنح الغروب
فلا قيناهم منا بجمع ... كأسد الغاب مردان وشيب
أمام محمد قد وازروه ... على الأعداء فى لقح الحروب
بأيديهم صوارم مرهفات ... وكل مجرب ماضى الكعوب
__________
(1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (6/ 276) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 90، 91) ، مستدرك الحاكم (3/ 224) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 292) .
(2) انظر الحديث فى: صحيح مسلم كتاب الجنة (4/ 77) ، سنن النسائى (2074) ، مسند الإمام أحمد (2/ 31) .(1/342)
بنو الأوس الغطارف وآزرتها ... بنو النجار فى الدين الصليب
فغادرنا أبا جهل صريعا ... وعتبة قد تركنا بالحبوب
وشيبة قد تركنا فى رجال ... ذوى حسب إذا نسبوا حسيب
يناديهم رسول الله لما ... قذفناهم كباكب فى القليب
ألم تجدوا كلامى كان حقا ... وأمر الله يأخذ بالقلوب
فما نطقوا ولو نطقوا لقالوا ... صدقت وكنت ذا رأى مصيب
ولما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلقوا فى القليب أخذ عتبة بن ربيعة فسحب إلى القليب، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم- فيما ذكر- فى وجه أبى حذيفة بن عتبة فإذا هو كئيب قد تغير، فقال: «يا أبا حذيفة، لعلك دخلك من شأن أبيك شىء؟» «1» أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
قال: لا والله يا رسول الله، ما شككت فى أبى ولا فى مصرعه، ولكنى كنت أعرف من أبى رأيا وحلما وفضلا، فكنت أرجو أن يهديه ذلك للإسلام، فلما رأيت ما أصابه، وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذى كنت أرجو له، أحزننى ذلك.
فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير وقال له خيرا.
وكان فى قريش فتية أسلموا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فلما هاجر إلى المدينة حبسهم آباؤهم وعشائرهم بمكة، وفتنوهم فافتتنوا، ثم ساروا مع قومهم إلى بدر فأصيبوا به جميعا، فنزل فيهم من القرآن فيما ذكر: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً [النساء: 97] .
وأولئك الفتية: الحارث بن زمعة بن الأسود، وأبو قيس بن الفاكه، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة، وعلى بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه بن الحجاج.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بما فى العسكر مما جمع الناس فجمع.
فاختلف فيه المسلمون، فقال من جمعه: هو لنا. وقال الذين كانوا يقاتلون العدو ويطلبونه: والله لولا نحن ما أصبتموه، لنحن شغلنا عنكم القوم حتى أصبتم ما أصبتم.
وقال الذين كانوا يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم مخافة أن يخالف إليه العدو:
والله، ما أنتم بأحق به منا، ولقد رأينا أن نقتل العدو إذ منحنا الله أكتافهم، ولقد
__________
(1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (2/ 294) .(1/343)
رأينا أن نأخذ المتاع حين لم يكن دونه من يمنعه، ولكنا خفنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كرة العدو فقمنا دونه، فما أنتم بأحق به منا.
فكان عبادة بن الصامت إذا سئل عن الأنفال، قال: فينا معاشر أصحاب بدر أنزلت حين اختلفنا فى النفل وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فقسمه بيننا عن بواء. يقول: على السواء. فكان فى ذلك تقوى الله وطاعته وطاعة رسوله، وصلاح ذات البين.
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة بشيرا إلى أهل العالية بما فتح الله على رسوله وعلى المسلمين، وبعث زيد بن حارثة إلى أهل السافلة، قال أسامة بن زيد: فأتانا الخبر- حين سوينا على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفنى عليها مع زوجها عثمان- أن زيد بن حارثة قد قدم.
قال: فجئته وهو واقف بالمصلى وقد غشيه الناس وهو يقول: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة وأبو جهل بن هشام، وزمعة بن الأسود، وأبو البخترى بن هشام، وأمية ابن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج. قلت: يا أبه أحق هذا؟ قال: نعم والله يا بنى.
ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا إلى المدينة ومعه الأسارى من المشركين، وفيهم عقبة بن أبى معيط والنضر بن الحارث، حتى إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مضيق الصفراء، نزل على كثيب يقال له: سير إلى سرحة به، فقسم هنالك النفل الذى أفاء الله على المسلمين من المشركين على السواء.
ثم ارتحل حتى إذا كان بالروحاء، لقيه المسلمون يهنئونه بما فتح الله عليه ومن معه من المسلمين، فقال لهم سلمة بن سلامة بن وقش: ما الذى تهنئوننا به؟ فو الله، إن لقينا إلا عجائز صلعا كالبدن المعلقة فنحرناها، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «أى ابن أخى؟
أولئك الملأ» «1» .
حتى إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفراء، قتل النضر بن الحارث، قتله على بن أبى طالب- رضى الله عنه- ثم خرج حتى إذا كان بعرق الظبية، قتل عقبة بن أبى معيط، فقال عقبة حين أمر بقتله: فمن للصبية يا محمد؟ قال: «النار» «2» .
__________
(1) انظر الحديث فى: تاريخ الطبرى (2/ 38) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 305) .
(2) انظر الحديث فى: تاريخ الطبرى (2/ 38) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 89) .(1/344)
فقتله عاصم بن ثابت بن أبى الأقلح، فى قول ابن عقبة وابن إسحاق. وقال ابن هشام «1» : قتله على بن أبى طالب رضى الله عنه.
وقالت قتيلة أخت النضر بن الحارث لما بلغها مقتل أخيها:
يا راكبا إن الأثيل مظنة ... من صبح خامسة وأنت موفق «2»
أبلغ بها ميتا بأن تحية ... ما إن تزال بها النجائب تخفق «3»
منى إليك وعبرة مسفوجة ... جادت بواكفها وأخرى تخنق
هل يسمعنى النضر إن ناديته ... أم كيف يسمع ميت لا ينطق
أمحمد يا خير ضنء كريمة ... فى قومها والفحل فحل معرق «4»
ما كان ضرك لو مننت وربما ... منّ الفتى وهو المغيظ المحنق
أو كنت قابل فدية فلينفقن ... بأعز ما يغلو به ما ينفق
فالنضر أقرب من أسرت قرابة ... وأحقهم إن كان عتق يعتق
ظلت سيوف بنى أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تشقق
قال ابن هشام: فيقال، والله أعلم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه هذا الشعر قال: «لو بلغنى هذا قبل مقتله لمننت عليه» «5» .
ثم مضرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قدم المدينة قبل الأسارى بيوم، وقد كان فرقهم بين أصحابه، وقال: استوصوا بالأسارى خيرا.
وكان أبو عزيز بن عمير أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه فى الأسارى، قال: وكنت فى رهط من الأنصار حين أقبلوا بى من بدر، وكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصونى بالخبز، وأكلوا التمر، لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا، ما تقع فى يد رجل منهم كسرة من الخبز إلا نفحنى بها، قال: فاستحى فأردها عليه فيردها على ما يمسها!
قال: ومر بى أخى مصعب ورجل من الأنصار يأسرنى، فقال له: شد يديك به، فإن أمه ذات متاع، لعلها تفديه منك، فقال له أبو عزيز- فيما ذكر ابن هشام- يا أخى،
__________
(1) انظر السيرة (2/ 249) .
(2) الأثيل: تصغير أثل، والأثل: هو شجر الطرفاء، ثم سمى به موضع قرب المدينة بين بدر، ووادى الصفراء. ومظنة: موضع لحصول الظن.
(3) النجائب: كرام الإبل. تخفق: تسرع.
(4) ضن: النسل والولد. المعرق: الكريم الذى يأتى بنسل كرام.
(5) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 306) .(1/345)
هذه وصاتك بى! فقال له مصعب: إنه أخى دونك، فسألت أمه عن أغلى ما فدى به قرشى، فقيل لها: أربعة آلاف درهم، فبعثت ففدته بها.
وذكر قاسم بن ثابت فى دلائله: أن قريشا لما توجهت إلى بدر مر هاتف من الجن على مكة- فى اليوم الذى أوقع بهم المسلمون- وهو ينشد بأبعد صوت ولا يرى شخصه:
أزار الحنيفيون بدرا وقيعة ... سينقض منها ركن كسرى وقيصرا
أبادت رجالا من لؤى وأبرزت ... خرائد يضربن الترائب حسرا
فيا ويح من أمسى عدو محمد ... لقد جار عن قصد الهدى وتحيرا
فقال قائلهم: من الحنيفيون؟ فقالوا: هو محمد وأصحابه، يزعمون أنهم على دين إبراهيم الحنيف، ثم لم يلبثوا أن جاءهم الخبر اليقين.
وكان أول من قدم مكة بمصاب قريش: الحيسمان بن عبد الله الخزاعى. فقالوا: ما وراءك؟ قال: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف، وزمعة بن الأسود، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وأبو البخترى بن هشام، فلما جعل يعدد أشراف قريش، قال صفوان بن أمية وهو قاعد فى الحجر: والله إن يعقل هذا، فسلوه عنى. قالوا: ما فعل صفوان بن أمية؟ قال: ها هو ذاك جالس فى الحجر، وقد والله رأيت اباه وأخاه حين قتلا.
وقال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت فأسلم العباس، وأم الفضل، وأسلمت، وكان العباس يهاب قومه، ويكره خلافهم، فكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرق فى قومه، وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر، فلما جاءه الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش كبته الله وأخزاه، ووجدنا فى أنفسنا قوة وعزة، وكنت أعمل الأقداح فى حجرة زمزم، فو الله، إنى لجالس فيها أنحت أقداحى وعندى أم الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل أبو لهب يجر رجليه بشر حتى جلس إلى طنب الحجرة ظهره إلى ظهرى.
فبينا هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم.
فقال أبو لهب: هلم إلى فعندك لعمرى الخبر، فجلس إليه والناس قيام عليه، فقال: يا ابن أخى، أخبرنى كيف كان أمر الناس؟ قال: والله، ما هو إلا أن لقينا القوم منحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاؤا ويأسروننا كيف شاؤا، وأيم الله مع ذلك ما لمت الناس،(1/346)
لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض، واله ما تليق شيئا، ولا يقوم لها شىء.
قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة بيدى ثم قلت: تلك والله الملائكة! فرفع أبو لهب يده فضرب وجهى ضربة شديدة، وثاورته فاحتملنى وضرب بى الأرض، ثم برك علىّ يضربنى وكنت رجلا ضعيفا، فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة فضربته به ضربة فلقت فى رأسه شجة منكرة. وقالت أتستضعفه أن غاب عنه سيده! فقام موليا ذليلا، فو الله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة فقتلته.
وذكر محمد بن جرير الطبرى فى تاريخه أن العدسة قرحة كانت العرب تتشاءم بها، ويرون أنها تعدى أشد العدوى.
فلما أصابت أبا لهب تباعد عنه بنوه، وبقى بعد موته ثلاثا لا تقرب جنازته، ولا يحاول دفنه، فلما خافوا السّبّة فى تركه حفروا له ثم دفعوه بعود فى حفرته، وقذفوه بالحجارة من بعيد، حتى واروه.
وقال ابن إسحاق فى رواية يونس بن بكير عنه: إنهم لم يحفروا له ولكن أسندوه إلى حائط وقذفوا عليه الحجارة من خلف الحائط، حتى واروه.
ويروى أن عائشة- رضى الله عنها- كانت إذا مرت بموضعه ذلك غطت وجهها.
وخرج البخارى فى صحيحه: أن أبا لهب رآه بعض أهله فى المنام بشرحيبة، أى حالة، فقال: ما لقيت بعدكم راحة، غير أنى سقيت فى مثل هذه- وأشار إلى النقرة بين السبابة والإبهام- بعتقى ثويبة.
وثويبة هذه أرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وارضعت عمه حمزة وابا سلمة بن عبد الأسد.
وروى غير البخارى أن الذى رأى أبا لهب من أهله هو أخوه العباس، وأنه قال:
مكثت حولا بعد موت أبى لهب لا أراه فى نوم، ثم رأيته فى شر حال، فقال: ما لقيت بعدكم راحة، إلا أن العذاب يخفف عنى كل يوم اثنين.
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد يوم الاثنين، فبشرت أبا لهب بمولده ثوبية مولاته، فقالت له: أشعرت أن آمنة ولدت غلاما لأخيك عبد الله؟ فقال لها: اذهبى فأنت حرة، فنفعه ذلك وهو فى النار، كما نفع أخاه ابا طالب ذبه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتهاده فى منعه ونصرته، فهو أهون أهل النار عذابا.(1/347)
ويفعل الله ما يشاء مما يطابق سابق تقديره، وقد قضى الله- سبحانه- بإحباط عمل الكافرين، فمحال أن يقيم لهم يوم القيامة وزنا، أو ينالوا عنده بشىء قدموه مما يتصور بصورة الأعمال الصالحة نعيما، إلا أنه ربما جعل التفاوت بين جماهيرهم وبين شاء منهم بمقدار العذاب، فيضاعفه على قوم أضعافا، ويضع من شدائده عن آخرين تخفيفا.
وكل عذاب الله شديد، فنعوذ برضا مولانا الكريم من سخطه، وبمعافاته من عقوبته.
وحدث محمد بن إسحاق بن يسار عن يحيى بن عباد، عن أبيه عباد بن عبد الله بن الزبير، قال: ناحت قريش على قتلاهم، ثم قالوا: لا تفعلوا فيبلغ محمدا وأصحابه فيشمتوا بكم، ولا تبعثوا فى أسراكم حتى تستأنوا بهم لا يأرب عليكم محمد وأصحابه فى الفداء.
قال: وكان الأسود بن المطلب قد أصيب له ثلاثة من ولده: زمعة وعقيل ابناه، والحارث بن زمعة وهو ابن ابنه، وكان يحب أن يبكى عليهم، فسمع نائحة من الليل فقال لغلام له وقد ذهب يصره، انظر هل أحل النحب؟ هل بكت قريش على قتلاها؟
لعلى ابكى على أبى حكيمة- يعنى زمعة- فإن جوفى قد احترق!
فلما رجع إليه الغلام، قال: إنما هى امرأة تبكى على بعير لها أضلته. قال: فذاك حين يقول الأسود:
أتبكى أن يضل لها بعير ... ويمنعها من النوم السهود
فلا تبكى على بكر ولكن ... على بدر تقاصرت الجدود
فى أبيات ذكرها ابن إسحاق «1» .
وقد تقدم دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأسود بن عبد المطلب هذا بأن يعمى الله بصره ويثكله ولده، فاستجيب له وفق دعائه، سبق العمى أولا إلى بصره، ثم أصيب يوم بدر بمن سمى آنفا من ولده، فتمت إجابة الله سبحانه رسوله فيه.
وكان فى الأسارى أبو وداعة السهمى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن له بمكة ابنا كيسا تاجرا ذا مال، وكأنكم به قد جاءكم فى طلب فداء أبيه» «2» ، فلما قالت قريش: لا
__________
(1) انظر السيرة (2/ 253) .
(2) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 90) ، تاريخ الطبرى (2/ 41) .(1/348)
تعجلوا بفداء أسراكم لا يأرب عليكم محمد وأصحابه، قال المطلب بن أبى وداعة، وهو الذى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عنى، صدقتم لا تعجلوا. وانسل من الليل فقدم المدينة فأخذ اباه بأربعة آلاف درهم.
ثم بعثت قريش فى فداء الأسارى، فقدم مكرز بن حفص بن الأحتف فى فداء سهيل بن عمرو وكان الذى أسره مالك بن الدخشم أخو بنى سالم بن عوف، فلما قاولهم فيه مكرز وانتهى إلى رضاهم قالوا: هات الذى لنا، قال: اجعلوا رجلى مكان رجله، وخلوا سبيله حتى يبعث إليكم بفدائه. فخلوا سبيل سهيل، وحبسوا مكرزا مكانه عندهم، فقال مكرز:
فديت بأذواد ثمان سبا فتى ... ينال الصميم غرمها لا المواليا
رهنت يدى والمال أيسر من يدى ... على ولكنى خشيت المخازيا
وقلت سهيل خيرنا فاذهبوا به ... لأبنائنا حتى ندير الأمانيا
وكان سهيل قد قام فى قريش خطيبا عندما استنفرهم أبو سفيان، فقال: يا لغالب أتاركون أنتم محمدا والصبا من أهل يثرب يأخذون عيرانكم وأموالكم، من أراد مالا فهذا مالى، ومن أراد قوة فهذه قوة.
فيروى أن عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما أسر سهيل يوم بدر: يا رسول الله، انزع ثنتيتى سهيل بن عمرو يدلع لسانه، فلا يقوم عليك خطيبا فى موطن أبدا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أمثل به، فيمثل الله بى، وإن كنت نبيا! إنه عسى أن يقوم مقاما لا تذمة» «1» .
فصدق الله ورسوله، وكان لسهيل بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فى تثبيت أهل مكة على الإيمان مقام سيأتى ذكر حديثه فى موضعه إن شاء الله.
وكان عمرو بن أبى سفيان بن حرب أسيرا فى يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسارى بدر، فقيل لأبى سفيان بن حرب: أفد عمرا ابنك. فقال: أيجمع على دمى ومالى، قتلوا حنظلة وأفدى عمرا؛ دعوه فى أيديهم يمسكونه ما بدا لهم!
__________
(1) انظر الحديث فى: كنز العمال للمتقى الهندى (13395، 13447، 13448) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 310) .(1/349)
فبينا هو كذلك محبوس بالمدينة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ خرج سعد بن النعمان بن أكال أخو بنى عمرو بن عوف معتمرا، ومعه مرية له، وكان شيخا مسلما فى غنم له بالبقيع، فخرج من هنالك معتمرا ولا يخشى الذى صنع به، لم يظن أنه يحبس بمكة، إنما جاء معتمرا، وقد كان عهد قريشا لا يعرضون لأحد جاء حاجا أو معتمرا إلا بخير، فعدا عليه أبو سفيان بن حرب بمكة فحبسه بابنه عمرو. ثم قال:
أرهط ابن أكال أجيبوا دعاءه ... تعاقدتم لا تسلموا السيد الكهلا
فإن بنى عمرو لئام أذلة ... لئن لم تفكوا عن أسيرهم الكبلا
فأجابه حسان بن ثابت فقال:
ولو كان سعد يوم مكة مطلقا ... لأكثر فيكم قبل أن يؤسر القتلا
بعضب حسام أو بصفراء نبعة ... تحن إذا ما أنبضت تحفز النبلا
ومشى بنو عمرو بن عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه خبره، وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبى سفيان، فيفكوا به صاحبهم، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعثوا به إلى أبى سفيان، فخلى سبيل سعد.
وكان فى الأسارى- أيضا- أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس، ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج ابنته زينب، وكان صلى الله عليه وسلم يثنى عليه فى صهره خيرا، وكان من رجال مكة المعدودين مالا وأمانة وتجارة، وهو ابن أخت خديجة- رضى الله عنها- وهى سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحى أن يزوجه، وكان لا يخالفها، فزوجه، وكانت تعده بمنزلة ولدها.
فلما أكرم الله رسوله صلى الله عليه وسلم بنبوته، آمنت به خديجة وبناته، فصدقنه ودن بدينه، وشهدن أن الذى جاء به هو الحق، وثبت أبو العاص على شركه.
فلما بادى رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا بأمر الله تبارك وتعالى وبالعداوة، قالوا: إنكم فرغتم محمدا من همه، فردوا عليه بناته فاشغلوه بهن. فمشوا إلى أبى العاص فقالوا له: فارق صاحبتك ونحن نزوجك أى امرأة من قريش شئت. قال: لا ها الله، إذا لا أفارق صاحبتى، وما أحب أن لى بها امرأة من قريش.
ثم مشوا إلى عتبة بن أبى لهب وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد زوجه رقية أو أم كلثوم، فقالوا له: طلق ابنة محمد ونحن ننكحك أى امرأة من قريش شئت، فقال: إن زوجتمونى ابنة أبان بن سعيد بن العاص، أو ابنة سعيد بن العاص فارقتها. فزوجوه بنت سعيد بن(1/350)
العاص وفارقها، ولم يكن دخل بها، فأخرجها الله من يده كرامة لها وهوانا له. وخلف عليها عثمان بن عفان بعده.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل بمكة ولا يحرم، مغلوبا على أمره، وكان الإسلام قد فرق بين زينب ابنته وبين أبى العاص، إلا أنه كان لا يقدر أن يفرق بينهما، فأقامت معه على إسلامها وهو على شركه، حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما سارت قريش إلى بدر سار فيهم أبو العاص فأصيب فى الأسارى، فكان بالمدينة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بعث أهل مكة فى فداء أسراهم بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى فداء أبى العاص بمال وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبى العاص حين بنى بها، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة، وقال: «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها الذى لها فافعلوا» «1» قالوا: نعم يا رسول الله. فأطلقوه وردوا عليها مالها.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ عليه أن يخلى سبيل زينب إليه، أو وعده أبو العاص بذلك، أو شرطه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى إطلاقه، ولم يظهر ذلك منه ولا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعلم ما هو.
إلا أنه لما خرج أبو العاص إلى مكة وخلى سبيله، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانه زيد بن حارثة، ورجلا من الأنصار، فقال: كونا ببطن يأجح حتى تمر بكما زينب فتصحباها، حتى تأتيانى بها. فخرجا وذلك بعد بدر بشهر أو سبعة، فلما قدم أبو العباس مكة أمرها باللحوق بأبيها، فخرجت تتجهز.
قالت زينب: بينا أنا أتجهز بمكة لقيتنى هند ابنة عتبة، فقالت: يا ابنة محمد ألم يبلغنى أنك تريدين اللحوق بأبيك؟ قالت: ما أردت ذلك. قالت: أى ابنة عم لا تفعلى، إن كانت لك حاجة بمتاع مما يرفق بك فى سفرك أو بمال تتبلغين به إلى أبيك، فإن عندى حاجتك، فلا تضطنى منى فإنه لا يدخل بين النساء ما يدخل بين الرجال. قالت زينب:
فو الله ما أراها قالت ذلك إلا لتفعل، ولكنى خفتها فأنكرت أن أكون أريد ذلك، وتجهزت.
__________
(1) انظر الحديث فى: سنن أبى داود (2692) ، مسند الإمام أحمد (6/ 276) ، السنن الكبرى للبيهقى (6/ 322) ، مستدرك الحاكم (4/ 45) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (3970) .(1/351)
ولما فرغت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهازها قدم إليها كنانة بن الربيع «1» أخو زوجها بعيرا فركبته، وأخذ قوسه وكنانته ثم خرج بها نهارا يقود بها وهى فى هودج لها، وتحدث بذلك رجال قريش، فخرجوا فى طلبها حتى أدركوها بذى طوى، فكان أول من سبق إليها هبار بن الأسود الفهرى، فروعها هبار بالرمح وهى فى هودج لها، وكانت حاملا- فيما يزعمون- فلما ريعت طرحت ذا بطنها.
وبرك حموها كنانة ونثر كنانته ثم قال: والله، لا يدنو منى رجل إلا وضعت فيه سهما. فتكر كر الناس عنه، وأتى أبو سفيان بن حرب فى جلة من قريش فقال: أيها الرجل، كف عنا نبلك حتى نكلمك. فكف، فأقبل أبو سفيان حتى وقف عليه، فقال:
إنك لم تصب، خرجت بالمرأة على رؤس الناس علانية، وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا، وما دخل علينا من محمد. فيظن الناس إذا خرجت إليه ابنته علانية على رؤس الناس من بين أظهرنا أن ذلك عن ذل أصابنا عن مصيبتنا التى كانت، وأن ذلك من ضعف ووهن، ولعمرى! ما لنا بحبسها عن أبيها من حاجة، وما لنا فى ذلك من ثورة ولكن أرجع المرأة، حتى إذا هدأت الأصوات وتحدث الناس أن قد رددناها، فسلها سرا وألحقها بأبيها. ففعل، فأقامت ليالى حتى إذا هدأت الأصوات خرج بها ليلا حتى أسلمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه، فقدما بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما انصرف الذين خرجوا إلى زينب لقيتهم هند بنت عتبة فقالت لهم:
أفى السلم أعيار جفاء وغلظة ... وفى الحرب أشباه النساء العوارك
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرية بعثها بتحريق هبار بن الأسود أو الرجل الذى سبق معه إلى زينب إن ظفروا بهما، ثم بعث إليهم فقال: «إنى كنت قد أمرتكم بتحريق هذين الرجلين إن أخذتموهما، ثم رأيت أنه لا ينبغى أن يعذب بالنار إلا الله عز وجل، فإن ظفرتم بهما فاقتلوهما» «2» .
وأقام أبو العاص بمكة وأقامت زينب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين فرق بينهما الإسلام، حتى إذا كان قبيل الفتح خرج أبو العاص تاجرا إلى الشام، وكان رجلا مأمونا، بمال له وأموال لرجال من قريش أبضعوها معه، فلما فرغ من تجارته وأقبل قافلا لقيته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابوا ما معه وأعجزهم هاربا، فلما قدمت السرية بما أصابوا من ماله
__________
(1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (7479) ، أسد الغابة ترجمة رقم (4506) .
(2) انظر الحديث فى: مصنف ابن أبى شيبة (12/ 389) .(1/352)
أقبل أبو العاص تحت الليل حتى دخل على زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستجار بها فأجارته، وجاء فى طلب ماله، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصبح فكبر وكبر الناس معه صرخت زينب من صفة النساء: أيها الناس: إنى قد أجرت أبا العاص بن الربيع.
فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة أقبل على الناس فقال: «أيها الناس، هل سمعتم ما سمعت؟» قالوا: نعم، قال: «أما والذى نفس محمد بيده، ما علمت بشىء حتى سمعت ما سمعتم، إنه يجير على المسلمين أدناهم» .
ثم انصرف، فدخل على ابنته فقال: «أى بنية، أكرمى مثواه ولا يخلصن إليك، فإنك لا تحلين له» «1» . وبعث إلى السرية الذين أصابوا مال أبى العاص فقال لهم: «إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم، وقد أصبتم له مالا، فإن تحسنوا وتردوا عليه الذى له فإنا نحب ذلك، وإن أبيتم فهو فىء الله الذى أفاء عليكم، فأنتم أحق به» «2» . قالوا: يا رسول الله، بل نرده عليه، فردوه عليه، حتى إن الرجل ليأتى بالدلو ويأتى الرجل بالشنه والإداوده، حتى إن الرجل ليأتى بالشظاظ حتى ردوا عليه ماله بأسره لا يفقد منه شيئا، ثم احتمل إلى مكة فأدى إلى كل ذى مال من قريش ماله ثم قال: يا معشر قريش، هل بقى لأحد منكم عندى مال لم يأخذه؟ قالوا: لا، فجزاك الله خيرا، فقد وجدناك وفيا كريما. قال: فإنى أشهد لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، والله ما منعنى من الإسلام عنده إلا تخوف أن تظنوا أنى إنما أردت أن آكل أموالكم، فلما أداها الله إليكم وفرغت منها، أسلمت. ثم خرج حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحكى ابن هشام عن أبى عبيدة «3» ، أن أبا العاص لما قدم من الشام ومعه أموال المشركين قيل له: هل لك أن تسلم وتأخذ هذه الأموال، فإنها للمشركين؟ فقال: بئس ما أبدأ به إسلامى أن أخون أمانتى.
ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفر من الأسارى من قريش بغير فداء، منهم أبو عزة عمرو ابن عبد الله الجمحى، كان متحاجا ذا بنات، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، لقد عرفت مالى من مال، وإنى لذو حاجة وذو عيال، فامنن على. فمن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ عليه أن لا يظاهر عليه أحدا، فقال أبو عزة فى ذلك يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) انظر الحديث فى: نصب الراية للزيلعى (3/ 211) ، سنن البيهقى (9/ 95) ، مستدرك الحاكم (3/ 236، 237) .
(2) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (4/ 85) ، مستدرك الحاكم (3/ 237) .
(3) انظر السيرة (2/ 264) .(1/353)
ويذكر فضله على قومه:
ومن مبلغ عنى الرسول محمدا ... بأنك حق والمليك حميد
وأنت امرؤ تدعو إلى الحق والهدى ... عليك من الله العظيم شهيد
وأنت امرؤ بوئت فينا مباءة ... لها درجات سهلة وصعود
فإنك من حاربته لمحارب ... شقى ومن سالمته لسعيد
ولكن إذا ذكرت بدرا وأهله ... تأوب ما بى حسرة وقعود «1»
وذكر موسى بن عقبة أن المسلمين جهدوا على أبى عزة هذا عندما أسر ببدر أن يسلم، فقال: لا، حتى أضرب فى الخزرجية يوما إلى الليل.
وما وقع فى شعره ومحاورته رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يقتضى التصريح برسالته، فلا أعلم له مخرجا، إن صح، إلا أن يكون ذلك من جملة ما قصد به أبو عزة أن يخدع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعاد على عدو الله ما ائتمر، ولم يخدع إلا نفسه وما شعر، وذلك أنه لما أخذت قريش قبل أحد فى الإعداد لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم طلبا بثأرهم فى يوم بدر قال صفوان ابن أمية لأبى عزة هذا: يا أبا عزة، إنك امرؤ شاعر، فأعنا بلسانك، فاخرج معنا، فقال:
إن محمدا قد منّ علىّ فلا أريد أن أظاهر عليه. قال: بلى، فأعنا بنفسك، فلك الله على إن رجعت أن أعينك، وإن أصبت أن أجعل بناتك مع بناتى، يصيبهن ما أصابهن من عز ويسر.
فخرج أبو عزة يسير فى تهامة ويدعو بنى كنانة ويقول:
أيا بنى عبد مناة الرزام ... أنتم حماة وأبو كم حام
لا تعدمونى نصركم بعد العام ... لا تسلمونى لا يحل إسلام
ثم كان من الأمر يوم أحد ما كان، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الوقعة مرهبا لعده حتى انتهى إلى حمراء الأسد، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم فى وجهه ذلك أبا عزة الجمحى، فقال: يا رسول الله، أقلنى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله لا تمسح عارضيك بمكة، تقول:
خدعت محمدا مرتين، اضرب عنقه يا زبير» «2» . فضرب عنقه.
وذكر ابن هشام- فيما بلغه عن سعيد بن المسيب- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «إن
__________
(1) ذكر قصته ابن حجر فى فتح البارى (10/ 547) ، العجلونى فى كشف الخفاء (2/ 505) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 312، 313) ، ابن سيد الناس فى عيون الأثر (1/ 412) .
(2) انظر الحديث فى: فتح البارى لابن حجر (10/ 547) ، السنن الكبرى للبيهقى (9/ 65) .(1/354)
المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، اضرب عنقه، يا عاصم بن ثابت» «1» فضرب عنقه.
وكان عمير بن وهب «2» شيطانا من شياطين قريش، وممن كان يؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة ويلقون منه عنتا، وكان ابنه وهب بن عمير فى أسارى بدر، فجلس عمير مع صفوان بن أمية فى الحجر بعد مصاب أهل بدر بيسير، فذكر أصحاب القليب ومصابهم، فقال له صفوان: فو الله، إن فى العيش خير بعدهم. فقال عمير: صدقت والله، أما والله لولا دين على ليس له عندى قضاء وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدى لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لى فيهم علة، ابنى أسير فى أيديهم.
فاغتنمها صفوان فقال: على دينك أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالى أواسيهم ما بقوا لا يسعنى شىء ويعجز عنهم، قال: عمير: فاكتم عنى شأنى وشأنك، قال: أفعل.
ثم أمر عمير بسيفه فشحذ له وسم، ثم انطلق حتى قدم المدينة. فبينا عمر بن الخطاب فى نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر ويذكرون ما أكرمهم الله به وما أراهم من عدوهم، إذ نظر عمر إلى عمير بن وهب حين أناخ على باب المسجد متوشحا السيف، فقال: هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب ما جاء إلا لشر، وهذا الذى حرش بيننا «3» وحرزنا للقوم «4» يوم بدر.
ثم دخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا بنى الله، هذا عدو الله عمير بن وهب، قد جاء متوشحا سيفه. قال: «فأدخله علىّ» . فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه فى عنقه فلببه بها وقال لرجال من الأنصار كانوا معه: ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجلسوا عنده واحذروا عليه هذا الخبيث فإنه غير مأمون. ثم دخل به، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك قال: «أرسله يا عمر، أدن يا عمير» . فدنا ثم قال: أنعموا صباحا، وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام، تحية أهل الجنة» قال: أما والله إن كنت بها يا محمد لحديث عهد. قال: «فما جاء بك يا عمير؟» قال: جئت لهذا الأسير الذى فى أيديكم فأحسنوا فيه، قال: «فما
__________
(1) انظر الحديث فى: السنن الكبرى للبيهقى (9/ 65) ، مشكل الآثار للطحاوى (2/ 197) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 51) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 1/ 30) .
(2) انظر ترجمته فى: الجرح والتعديل (6/ 2091) ، الإصابة ترجمة رقم (6073) ، أسد الغابة ترجمة رقم (4096) ، البداية والنهاية (3/ 113، 5/ 8) .
(3) حرش بيننا: أى أفسد بيننا.
(4) حزرنا للقوم: أى قدر عددنا.(1/355)
بال السيف فى عنقك؟» فقال: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت شيئا! قال:
«أصدقنى، ما الذى جئت له؟» قال: ما جئت إلا لذلك. قال: «بلى، قعدت أنت وصفوان بن أمية فى الحجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دين على وعيال عندى لخرجت حتى أقتل محمدا، فتحمل لك صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلنى له، والله حائل بينك وبين ذلك» . قال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحى، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فو الله إنى لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذى هدانى للإسلام وساقنى هذا المساق. ثم شهد بشهادة الحق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«فقهوا أخاكم فى دينه، وأقرئوه القرآن، وأطلقوا له أسيره» «1» ففعلوا.
ثم قال: يا رسول الله، إنى كنت جاهدا على إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله، وأنا أحب أن تأذن لى فأقدم مكة فأدعوهم إلى الله وإلى الإسلام، لعل الله يهديهم، وإلا آذيتهم فى دينهم كما كنت أوذى أصحابك فى دينهم.
فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلحق بمكة. وكان صفوان حين خرج عمير يقول: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن فى أيام تنسيكم وقعة بدر. وكان يسأل عنه الركبان، حتى قدم راكب فأخبره عن إسلامه، فحلف أن لا يكلمه أبدا ولا ينفعه بنفع أبدا، فلما قدم عمير مكة أقام بها يدعو إلى الإسلام ويؤذى من خالفه أذى شديدا، فأسلم على يديه ناس كثير.
وعمير هذا أو الحارث بن هشام- يشك ابن إسحاق- هو الذى رأى إبليس حين نكص على عقبيه يوم بدر فقال: أين أى سراق؟ ومثل عدو الله فذهب. فأنزل الله- تبارك وتعالى- فيه: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ [الأنفال: 48] فذكر استدراج إبليس إياهم بتشبهه بسراقة بن مالك بن جعشم لهم حين ذكروا ما بينهم وبين بنى بكر من الحرب، يقول الله عز وجل: فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ ونظر عدو الله إلى جنود الله من الملائكة قد أيد الله بهم رسوله والمؤمنين على عدوهم نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ وصدق عدو الله الكذوب، رأى ما لم يروا وقال: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ
__________
(1) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (8/ 286، 287) ، الخصائص الكبرى للسيوطى (1/ 344) ، تاريخ الطبرى (2/ 44، 46) ، المغازى للواقد (1/ 125) ، عيون الأثر لابن سيد الناس (1/ 413، 414) .(1/356)
وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ فذكر أنهم كانوا يرونه فى كل منزل فى صورة سراقة لا ينكرونه، حتى إذا كان يوم بدر والتقى الجمعان نكص على عقبية فأوردهم ثم أسلمهم.
وفى ذلك يقول حسان بن ثابت:
قومى الذين هم آووا نبيهم ... وصدقوه وأهل الأرض كفار
إلا خصائص أقوام هم سلف ... للصالحين مع الأنصار أنصار
مستبشرين بقسم الله قولهم ... لما أتاهم كريم الأصل مختار
أهلا وسهلا ففى أمن وفى سعة ... نعم النبى ونعم القسم والجار
فأنزلوه بدار لا يخاف بها ... من كان جارهم دارا هى الدار
وقاسموهم بها الأموال إذ قدموا ... مهاجرين وقسم الجاحد النار
سرنا وساروا إلى بدر لحينهم ... لو يعلمون يقين العلم ما ساروا
دلاهم بغرور ثم أسلمهم ... إن الخبيث لمن والاه غرار
وقال إنى لكم جار فأوردهم ... شر الموارد فيه الخزى والعار
ثم التقينا فولوا عن سراتهم ... من منجدين ومنهم فرقة غاروا
ويروى أن قريشا رأوا سراقة المدلجى بعد وقعة بدر، وهو الذى تمثل لهم إبليس فى صورته يوم بدر كما تقدم، فقالوا له: يا سراقة، أخرمت الصف وأوقعت فينا الهزيمة؟! فقال: والله ما علمت بشىء من أمركم حتى كانت هزيمتكم، وما شهدت معكم. فما صدقوه حتى اسلموا وسمعوا ما أنزل الله فى ذلك، فعلموا أنه كان إبليس تمثل لهم.
ولما انقضى أمر بدر، أنزل الله- تبارك وتعالى- فيه من القرآن «الآنفال» بأسرها.
وكان جميع من شهد بدرا من المسلمين من المهاجرين والأنصار، من شهدها ومن ضرب له بسهمه وأجره ثلاثمائة رجل وأربعة عشر رجلا، من المهاجرين ثلاثة وثمانون رجلا: ثلاثة منهم ضرب لهم بسهامهم وأجورهم ولم يشهدوا، وهم: عثمان بن عفان، تخلف على امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لمرضها الذى توفيت فيه قبل أن يرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر، فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه. قال: وأجرى يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: «وأجرك» . وطلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد، كانا بالشام فرجعا بعد رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر، فضرب لكليهما بسهمه. قال: وأجرى يا رسول الله؟ قال:
وأجرك.
ومن الأوس: واحد وستون، اثنان منهم ضرب لهما بسهميهما: عاصم بن عدى(1/357)
العجلانى، رده رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن خرج معه وضرب له بسهم، وخوّات بن جبير ضرب له، أيضا، بسهمه.
ومن الخزرج مائة وسبعون رجلا، منهم الحارث بن الصمة كسر به بالروحاء فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه.
واستشهد يومئذ من المسلمين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر رجلا: ستة من قريش:
عبيدة بن الحارث بن المطلب، وعمير بن أبى وقاص الزهرى، وذو الشمالين بن عبد عمرو حليف بنى زهرة، وعاقل بن البكير حليف لبنى عدى، ومهجع مولى عمر بن الخطاب، وصفوان بن بيضاء.
ومن الأنصار ثمانية نفر، خمسة من الأوس: سعد بن خيثمة، ومبشر بن عبد المنذر من بنى عمرو بن عوف، ويزيد بن الحارث الذى يقال له: ابن فسحم من بنى الحارث ابن الخزرج، وعمير بن الحمام من بنى سلمة، ورافع بن المعلى من بنى جشم.
وثلاثة من الخزرج من بنى النجار: حارثة بن سراقة، وعوف ومعوذ ابنا الحارث بن رفاعة منهم، وهم ابنا عفراء، رحمة الله على جميعهم ورضوانه.
وكان من المسلمين يوم بدر من الخيل فرس الزبير بن العوام، وفرس مرثد بن أبى مرثد الغنوى، وفرس المقداد بن عمرو البهرانى.
وذكر ابن إسحاق أن جميع من أحصى له من قتلى قريش من المشركين يوم بدر خمسون رجلا. وقال ابن هشام «1» : حدثنى أبو عبيدة عن أبى عمرو أن قتلى بدر من المشركين كانوا سبعين رجلا والأسرى كذلك، وهو قول ابن عباس وسعيد بن المسيب.
وفى كتاب الله تبارك وتعالى: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها يقول لأصحاب أحد، وكان من أستشهد منهم سبعين رجلا، يقول: قد أصبتم يوم بدر مثلى من استشهد منكم يوم أحد: سبعين قتيلا وسبعين أسيرا.
وأنشدنى أبو زيد الأنصارى لكعب بن مالك من قصيدة له ينعى قتلى بدر:
فأقام بالعطن المعطن منهم ... سبعون عتبة منهم والأسود
وكان مما قيل فى يوم بدر من الشعر: قول حمزة بن عبد المطلب يرحمه الله، ومن أهل العلم من ينكرها له:
__________
(1) انظر السيرة (2/ 307) .(1/358)
ألم تر أمرا كان من عجب الدهر ... وللحين أسباب مبينة الأمر
وما ذاك إلا أن قوما أفادهم ... فخانوا تواص بالعقوق وبالكفر
عشية راحوا نحو بدر بجمعهم ... فكانوا رهونا للركية من بدر «1»
وكنا طلبنا العير لم نبغ غيرها ... فساروا إلينا فالتقينا على قدر
فلما التقينا لم تكن مثنوية ... لنا غير طعن بالمثقفة السمر
وضرب ببيض يختلى الهام حدها ... مشهرة الألوان بينة الأثر
ونحن تركنا عتبة الغى ثاويا ... وشيبة فى القتلى تجرجم فى الجفر
وعمرو ثوى فيمن ثوى من حماتهم ... فشقت جيوب النائحات على عمرو
جيوب نساء من لؤى بن غالب ... كرام تفر عن الذوائب من فهر
أولئك قوم قتلوا فى ضلالهم ... وخلوا لواء غير محتضر النصر
لواء ضلال قاد إبليس أهله ... فخاس بهم إن الخبيث إلى غدر
وقال لهم إذ عاين الأمر واضحا ... برئت إليكم ما بى اليوم من صبر
فإنى أرى ما لا ترون وإننى ... أخاف عقاب الله والله ذو قسر «2»
فقدمهم للحين حتى تورطوا ... وكان بما لم يخبر القوم ذا خبر «3»
فكانوا غداة البئر ألفا وجمعنا ... ثلاث مئين كالمسدمة الزهر «4»
وفينا جنود الله حين يمدنا ... بهم فى مقام ثم مستوضح الذكر
فشد بهم جبريل تحت لوائنا ... لدى مأزق فيه مناياهم تجرى «5»
وقال على بن أبى طالب- رضى الله عنه- فى يوم بدر، ولم ير ابن هشام أحدا يعرفها من أهل العلم بالشعر:
ألم تر أن الله أبلى رسوله ... بلاء عزيز ذى اقتدار وذى فضل «6»
بما أنزل الكفار دار مذلة ... فلاقوا هوانا من إسار ومن قتل
فآمسى رسول الله قد عز نصره ... وكان رسول الله أرسل بالعدل
فجاء بفرقان من الله منزل ... مبينة آياته لذوى العقل
__________
(1) الرهون: جمع رهن. والركية: البئر المطوية بالحجارة.
(2) القسر: الغابة والقهر.
(3) تورطوا: وقعوا فى هلكة.
(4) المسدمة: الفحول من الإبل. والزهر: جمع أزهر وأراد به البيض.
(5) المأزق: الموضع الضيق فى الحرب.
(6) أبلى رسوله: منّ عليه وصنع له صنعا حسنا.(1/359)
فأمن أقوام بذاك وأيقنوا ... فأمسوا بحمد الله مجتمعى الشمل
وأنكر أقوام فزاغت قلوبهم ... فزادهم ذو العرش خبلا على خبل
وأمكن منهم يوم بدر رسوله ... وقوما غضابا فعلهم أحسن الفعل
بأيديهم ببعض خفاف عصوا بها ... وقد حادثوها بالجلاء وبالصقل
فكم تركوا من ناشئ ذى حمية ... صريع ومن ذى نجدة منهم كهل
تبيت عيون النائحات عليهم ... تجود بإسيال الرشاش وبالوبل
نوائح تنعى عتبة الغى وابنه ... وشيبة تنعاه وتنعى أبا جهل
وذا الرجل تنعى وابن جدعان فيهم ... مسلبة حرى مبينة الثكل «1»
ثوى منهم فى بئر بدر عصابة ... ذوى نجدات فى الحروب وفى المحل
دعا الغى منهم من دعا فأجابه ... وللغى أسباب مرمقة الوصل
فأضحوا لدى دار الجحيم بمعزل ... عن الشغب والعدوان فى أشغل الشغل
وقال كعب بن مالك أخو بنى سلمة يذكر بدرا:
عجبت لأمر الله والله قادر ... على ما أراد ليس لله قاهر
قضى يوم بدر أن نلاقى معشرا ... بغوا وسبيل البغى فى النار جائر
وقد حشدوا واستنفروا من يليهم ... من الناس حتى جمعهم متكاثر
وسارت إلينا لا تحاول غيرنا ... بأجمعها كعب جميعا وعامر
وفينا رسول الله والأوس حوله ... له معقل منهم عزيز وناصر
وجمع بنى النجار تحت لوائه ... يمشون فى الماذى والنقع ثائر
فلما لقيناهم وكل مجاهد ... لأصحابه مستبسل النفس صابر
شهدنا بأن الله لا رب غيره ... وأن رسول الله بالحق ظاهر
وقد عريت بيض خفاف كأنها ... مقاييس يزهيها لعينيك شاهر
بهن أيدنا جمعهم فتبددوا ... وكان يلاقى الحين من هو فاجر
فكب أبو جهل صريعا لوجهه ... وعتبة قد غادرته وهو عائر
وشيبة والتيمى غادرن فى الوغى ... وما منهم إلا بذى العرش كافر
فأمسوا وقود النار فى مستقرها ... وكل كفور فى جهنم صائر
__________
(1) ذا الرجل: أراد به الأسود بن المطلب بن عبد المخزومى، الذى خرج من صفوف المشركين يريد أن يقتحم على المسلمين ليشرب من حوضهم، وقد عاهد الله أن يشرب منه أو يموت فضربه حمزة فقطع قدمه. والحرى: المحترقة الجوف.(1/360)
تلظى عليهم وهى قد شب حميها ... بزبر الحديد والحجارة ساجر
وكان رسول الله قد قال أقبلوا ... فولوا وقالوا إنما أنت ساحر
لأمر أراد الله أن يهلكوا به ... وليس لأمر حمه الله زاجر
ولضرار بن الخطاب الفهرى فى هذا الروى شعر، ذكر ابن إسحاق أن كعب بن مالك أجابه عنه بهذا الشعر الذى كتبناه آنفا، والأظهر من مقتضى الشعر أن ضرارا هو الذى أجاب كعب بن مالك ونقض عليه. وهذا شعر ضرار:
عجبت لفخر الأوس والحين دائر ... عليهم غدا والدهر فيه بصائر
وفخر بنى النجار إن كان معشر ... أصيبوا ببدر كلهم ثم صابر
فإن تك قتلى غودرت من رجالنا ... فإنا رجال بعدهم سنغادر
وتردى بنا جرد عناجيج وسطكم ... بنى الأوس حتى يشفى النفس ثائر
ووسط بنى النجار سوف نكرها ... لها بالقنا والدارعين زوافر
فنترك صرعى تعصب الطير حولهم ... وليس لهم إلا الأمانى ناصر
وتبكيهم من أهل يثرب نسوة ... لهن بها ليل عن النوم ساهر
وذلك أنا لا تزال سيوفنا ... بهن دم ممن يحاربن مائر
فإن تظفروا فى يوم بدر فإنما ... بأحمد أمسى جدكم وهو ظاهر
وبالنفر الأخيار هم أولياؤه ... يحامون فى اللأواء والموت حاضر
يعد أبو بكر وحمزة فيهم ... ويدعى على وسط من أنت ذاكر
أولئك لا من نتجت فى ديارها ... بنو الأوس والنجار حين تفاخر
ولكن أبوهم من لؤى بن غالب ... إذا عدت الأنساب كعب وعامر
هم الطاعنون الخيل فى كل معرك ... غداة الهياج الأطيبون الأكاثر
ومن شعر حسان بن ثابت يعرض بالحارث بن هشام وفراره عن يوم بدر:
إن كنت كاذبة الذى حدثتنى ... فنجوت منجى الحارث بن هشام
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ... ونجا برأس طمرة ولجام «1»
فأجابه الحارث بن هشام- فيما ذكر- فقال:
الله أعلم ما تركت قتالهم ... حتى علوا فرسى بأشقر مزبد
وعرفت أنى إن أقاتل واحد ... أقتل ولا ينكى عدوى مشهدى
فصددت عنهم والأحبة فيهم ... طمعا لهم بعقاب يوم مفسد
__________
(1) الطمرة: الفرس الكثير الجرى.(1/361)
وقال حسان بن ثابت أيضا، ويقال: إنها لعبد الله بن الحارث السهمى، يشبه أنها من قصيدة:
مستشعرى حلق الماذى يقدمهم ... جلد النحيزة ماض غير رعديد «1»
أعنى رسول الإله الحق فضله ... على البرية بالتقوى وبالجود
وقد زعمتم بأن تحموا ذماركم ... وماء بدر زعمتم غير مورود «2»
ثم وردنا ولم نسمع لقولكم ... حتى شربنا رواء غير تصريد «3»
مستعصمين بحبل غير منجذم ... مستحكم من حبال الله ممدود
فينا الرسول وفينا الحق نتبعه ... حتى الممات ونصر غير محدود
وقال حسان بن ثابت أيضا:
ألا ليت شعرى هل أتى أهل مكة ... إبارتنا الكفار فى ساعة العسر
قتلنا سراة القوم عند مجالنا ... فلم يرجعوا إلا بقاصمة الظهر
فكم قتلنا من كريم مرزء ... له حسب فى قومه نابه الذكر
تركناهم للعاويات يتبنهم ... ويصلون نارا بعد حامية القعر
لعمرك ما حامت فوارس مالك ... وأشياعهم يوم التقينا على بدر
وقال عبيدة بن الحارث بن المطلب فى يوم بدر، يذكر مبارزته هو وحمزة وعلىّ عدوهم، وما كان من إصابة رجله يومئذ. قال ابن هشام: وبعض أهل العلم بالشعر ينكرها له:
ستبلغ عنا أهل مكة وقعة ... يهب لها من كان عن ذاك نائيا
بعتبة إذ ولى وشيبة بعده ... وما كان فيها بكر عتبة راضيا «4»
فإن تقطعوا رجلى فإنى مسلم ... أرجى بها عيشا من الله دانيا
مع الحور أمثال التماثيل أخلصت ... مع الجنة العليا لمن كان عاليا
وبعت بها عيشا نغرفت صفوه ... وعالجته حتى فقدت الأدانيا «5»
__________
(1) مستشعرى: لابس، تقول: استشعرت الثوب إذا لبسته. والماذى: الدروع اللينة البيض. والنحيزة: الطبيعة. والرعديد: الجبان.
(2) الرواء: التملؤ من الماء. والتصريد: تقليل الشرب.
(3) الذمار: ما وجب على المرء أن يحميه.
(4) بكر عتبة: يريد ولده الأول.
(5) تعرقت: مزجت، تعرقت التراب إذا مزجته.(1/362)
وأكرمنى الرحمن من فضل منه ... بثوب من الإسلام غطى المساويا
وما كان مكروها إلىّ قتالهم ... غداة دعا الأكفاء من كان داعيا
لقيناهم كالأسد تعثر بالقنا ... نقاتل فى الرحمن من كان عاصيا
فما برحت أقدامنا من مقامنا ... ثلاثتنا حتى أزيروا المنانيا
قال ابن هشام «1» : لما أصيبت رجل عبيدة قال: أما والله لو أدرك أبو طالب هذا اليوم لعلم أنى أحق منه بما قال حين يقول:
كذبتم وبيت الله نبزى محمدا ... ولما نطاعن حوله ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل
ولما هلك عبيدة بن الحارث من مصاب رجله قالت هند ابنة أثاثة بن عباد بن المطلب ترثيه وكانت وفاته بالصفراء، وبها دفن يرحمه الله تعالى:
لقد ضمن الصفراء مجدا وسؤددا ... وحلما أصيلا وافر اللب والعقل
عبيدة فابكيه لأضياف غربة ... وأرملة تهوى لأشعث كالجذل
وبكيه للأقوام فى كل شتوة ... إذا احمر آفاق السماء من المحل
وبكيه للأيتام والريح زفزف ... وتشتيت قدر طال ما أزبدت تغلى
فإن تصبح النيران قد مات ضوؤها ... فقد كان يذكيهن بالحطب الجزل
لطارق ليل أو لملتمس القرى ... ومستنبح أضحى لديه على رسل
وقال طالب بن أبى طالب يمدح النبى صلى الله عليه وسلم، ويبكى أصحاب القليب من قريش:
ألا إن عينى أنفدت ماءها سكبا ... تبكى على كعب وما إن ترى كعبا
ألا إن كعبا فى الحروب تخاذلوا ... وأرادهم ذا الدهر واجترحوا ذنبا
وعامر تبكى للملمات غدوة ... فياليت شعرى هل أرى لهما قربا
هما أخواى لن يعدا لغية ... تعد ولن يستام جارهما غصبا
فيا أخوينا عبد شمس ونوفلا ... فدا لكما لا تبعثوا بيننا حربا
ولا تصحبوا من بعد ود وألفة ... أحاديث فيها كلكم يشتكى النكبا
ألم تعلموا ما كان فى حرب داحس ... وجيش أبى يكسوم إذ ملأوا الشعبا
فلولا دفاع الله لا شىء غيره ... لأصبحتم لا تمنعون لكم سربا
فما إن جنينا فى قريش عظيمة ... سوى أن حمينا خير من وطئ التربا
أخا ثقة فى النائبات مرزأ ... كريما ثناه لا بخيلا ولا ذربا
__________
(1) انظر السيرة (2/ 327) .(1/363)
يطيف به العافون يغشون بابه ... يؤمون بهرا لا نزورا ولا صربا
فو الله لا تنفك نفسى حزينة ... تململ حتى تصدقوا الخزرج الضربا
وكانت وقعة بدر يوم الجمعة، لسبع عشرة من شهر رمضان، وكان فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم منها فى عقبة أو فى شوال بعده.
فلما قدم المدينة لم يقم بها إلا سبع ليال حتى غزا بنفسه يريد بنى سليم، فبلغ ماء من مياههم يقال له: الكدر «1» ، فأقام عليه ثلاث ليال، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا، فأقام بها بقية شوال وذا القعدة وأفدى فى إقامته تلك جل الأسارى من قريش «2» .
وكان أبو سفيان بن حرب حين رجع فل قريش من بدر نذر أن لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا صلى الله عليه وسلم، فخرج فى مائتى راكب من قريش لتبر يمينه، فسلك النجدية حتى نزل بصدر قناة، على بريد أو نحوه من المدينة، ثم خرج من الليل حتى أتى بنى النضير تحت الليل، فأتى حيى بن أخطب فضرب عليه بابه، فأبى أن يفتح له وخافه، فانصرف عنه إلى سلام بن مشكم، وكان سيد بنى النضير فى زمانه ذلك وصاحب كنزهم، فاستأذن عليه فأذن له فقراه وسقاه وبطن له من خبر الناس، ثم خرج فى عقب ليلته حتى أتى أصحابه، فبعث رجالا منهم، فأتوا ناحية العريض فحرقوا بها أصوار نخل وقتلوا رجلا من الأنصار وحليفا له فى حرث لهما، ثم انصرفوا راجعين، ونذر بهم الناس، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فى طلبهم حتى بلغ قرقرة الكدر، ثم انصرف وقد فاته أبو سفيان بن حرب وأصحابه، وطرحوا من أزوادهم يتخففون منها للنجاء، وكان أكثر ما طرحوه السويق، فهجم المسلمون على سويق كثير، فسميت غزوة السويق، فقال المسلمون حين رجع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول، أتطمع لنا أن تكون غزوة؟ قال: «نعم» «3» .
ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم نجدا يريد غطفان، وهى غزوة ذى أمر، فأقام بنجد ثم رجع ولم يلق كيدا.
__________
(1) وهذه الغزوة تعرف بغزوة: قرقرة الكدر، كما فى الطبقات الكبرى (2/ 31) ، أو: قرارة الكدر، كما فى المغازى للواقدى (1/ 196) . وتراجع هذه الغزوة فى: البداية والنهاية لابن كثير (3/ 344) ، المنتظم لابن الجوزى (3/ 156) .
(2) انظر السيرة (3/ 5) .
(3) انظر الحديث فى: الدلائل للبيهقى (3/ 166) ، التاريخ للطبرى (2/ 50) ، الكامل فى التاريخ (2/ 39، 40) .(1/364)
ثم غزا قريشا حتى بلغ بحران «1» ، معدنا بالحجاز من ناحية الفرع، ثم رجع منه إلى المدينة ولم يلق كيدا، وذلك بعد مقامه به نحوا من شهرين، ربيع الآخر وجمادى الأولى من سنة ثلاث.
أمر بنى قينقاع
وكان فيما بين ما ذكر من غزو رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بنى قيقناع.
وكانوا أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاربوا فيما بين بدر وأحد.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم فى سوقهم، ثم قال: «يا معشر يهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أنى نبى مرسل، تجدون ذلك فى كتابكم وعهد الله إليكم» «2» .
قالوا: يا محمد، إنك ترى أنا قومك! لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس.
فقال ابن عباس «3» : ما أنزل هؤلاء الآيات إلا فيهم: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ [آل عمران: 12، 13] .
وكان منشأ أمرهم: أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته بسوق قينفاع" وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها، فضحكوا بها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديا، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فأغضب المسلمون فوقع الشر بينهم وبين بنى قينقاع.
__________
(1) ذكرها ابن الأثير فى الكامل (2/ 142) ، والطبرى فى تاريخه (2/ 52) ، والواقدى فى المغازى (1/ 196، 197) .
(2) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 3) .
(3) انظر السيرة (3/ 8) .(1/365)
فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه، فقام إليه عبد الله بن أبىّ بن سلول، حين أمكنه الله منهم، فقال: يا محمد، أحسن فى موالى، وكانوا حلفاء الخزرج، فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد أحسن فى موالى، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدخل يده فى جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يقال لها: ذات الفضول، فقال له:
«أرسلنى» ! وغضب صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظللا، ثم قال: «ويحك أرسلنى» . قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن فى موالى، أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعونى من الأحمر والأسود تحصدهم فى غداة واحدة! إنى والله امرؤا أخشى الدوائر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هم لك» «1» .
ولما حاربت بنو قينقاع تشبث عبد الله بن أبى بأمرهم وقام دونهم، قال: مشى عبادة بن الصامت، وكان أحد بنى عوف، لهم من حلفه مثل الذى لهم من عبد الله بن ابى، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلعهم إليه وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وقال: يا رسول الله، أتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم.
ففيه وفى عبد الله بن أبى نزلت [هذه] القصة من المائدة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يريد عبد الله بن أبىّ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ. ثم القصة فى قوله: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ وذلك لتولى عبادة بن الصامت الله ورسوله والذين آمنوا، وتبرية، من بنى قينقاع وحلفهم وولايتهم وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ [المائدة: 51- 56] .
سرية زيد بن حارثة «2»
ولما كان من وقعة بدر ما كان، خافت قريش طريقهم التى كانوا يسلكون إلى
__________
(1) انظر الحديث فى: تاريخ للطبرى (2/ 49) ، الطبقات لابن سعد (2/ 29) .
(2) هذه السرية ذكرها الواقدى فى المغازى (1/ 197، 198) ، وابن سعد فى الطبقات (2/ 36) ، وابن الأثير فى التاريخ (2/ 145) .(1/366)
الشام، فسلكوا طريق العراق، فخرج منهم تجار فيهم أبو سفيان بن حرب، ومعه فضة كثيرة وهى عظم تجارتهم، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة فلقيهم على القردة- ماء من مياه نجد- فأصاب تلك العير وما فيها وأعجزه الرجال فقدم بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فذلك الذى يعنى حسان بن ثابت بقوله فى غزوة بدر الآخره يؤنب قريشا فى أخذهم تلك الطريق:
دعو فلجات الشام قد حال دونها ... جلاد كأفواه المخاض الأوارك «1»
بأيدى رجال هاجروا نحو ربهم ... وأنصاره حقا وأيدى الملائك
إذا سلكت للغور من بطن عالج ... فقولا لها ليس الطريق هنالك «2»
مقتل كعب بن الأشرف
ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة بشيرين إلى من بالمدينة من المسلمين بفتح الله عليه وقتل من قتل من المشركين ببدر، قال كعب بن الأشرف وكان رجلا من طيىء، ثم أحد بنى نبهان، وأمه من بنى النضير، حين بلغه هذا الخبر:
أحق هذا؟ أترون أن محمدا قتل هؤلاء الذين يسمى هذان الرجلان؟ فهؤلاء اشراف العرب وملوك الناس، والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير لى من ظهرها.
فلما تبين عدو الله الخبر، خرج حتى قدم مكة، فجعل يحرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينشد الأشعار، ويبكى أصحاب القليب من قريش، ثم رجع إلى المدينة فشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لى من ابن الأشراف؟ فقال له محمد بن مسلمة الأشهلى:
أنا لك به يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أقتله قال: فافعل إن قدرت على ذلك.
فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثا لا يأكل ولا يشرب إلا ما يعلق به نفسه، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه فقال له: لم تركت الطعام والشراب؟ فقال يا رسول الله،
__________
(1) الفلجات: العيون الجارية. والمخاض: الإبل الحوامل. والأوارك: الإبل التى ترعى الآراك، وهو شجر السواك.
(2) الغور: الأرض المنخفضة. وبطن عالج: أى موضع كثير الرمل.(1/367)
قلت لك قولا لا أدرى هل أفين لك به أم لا. قال: إنما عليك الجهد، قال: يا رسول الله، لا بد لنا من أن نقول. قال: قولوا ما بدا لكم فأنتم فى حل من ذلك.
فاجتمع فى قتله محمد بن مسلمة، وسلكان بن سلامة أبو نائلة، وعباد بن بشر والحارث بن أوس، وكلهم من بنى عبد الأشهل، وأبو عبس بن جبر أخو بنى حارثة، ثم قدموا إلى عدو الله ابن الأشرف سلكان بن سلامة وكان أخاه من الرضاعة، فجاءه فتحدث معه ساعة ثم قال: ويحك يا ابن الأشرف! إنى قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك فاكتم عنى، قال: أفعل، قال: كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء من البلاء، عادتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة، وقطعت عنا السبل حتى ضاع العيال وجهدت الأنفس. فقال كعب: أنا ابن الأشرف! أما والله لقد كنت أخبرك يا ابن سلامة أن الأمر سيصير إلى ما أقول. فقال له سلكان: إنى قد أردت أن تبيعنا طعاما ونرهنك ونوثق لك. قال: أترهنونى نساءكم؟ قال: كيف نرهنك نساءنا وأنت أشب أهل يثرب وأعطرهم. قال: أترهنونى أبناءكم؟ قال: لقد أردت أن تفضحنا، يسب ابن أحدنا فيقال: رهن فى وسق شعير! ثم قال له: إن معى أصحابا لى على مثل رأيى وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم وتحسن فى ذلك ونرهنك من الحلقة ما فيه وفاء وأراد سلكان أن لا ينكر السلاح إذا جاؤا بها. قال: إن فى الحلقة لوفاء.
فرجع سلكان إلى أصحابه فأخبرهم وأمرهم أن يأخذوا السلاح ويجتمعوا إليه، فاجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمشى معهم صلوات الله عليه إلى بقيع الغرقد فى ليلة مقمرة، ثم وجههم وقال: انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم. ثم رجع إلى بيته.
فأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه، فهتف به أبو نائلة، وكان حديث عهد بعرس، فوثب فى ملحفته، فأخذت امرأته بناحيتها وقالت: إنك امرؤ محارب، وإن أصحاب الحرب لا ينزلون هذه الساعة. قال: إنه أبو نائلة لو وجدنى نائما ما أيقظنى. فقالت: والله إنى لأعرف فى صوته الشر. فقال لها كعب: لو يدعى الفتى لطعنة لأجاب!
فنزل فتحدث معهم ساعة وتحدثوا معه، فقالوا له: هل لك يا ابن الأشرف إلى أن نتماشى إلى شعب العجوز فنتحدث فيه بقية ليلتنا هذه. قال: إن شئتم.
فخرجوا يتماشون، فمشوا ساعة، ثم إن أبا نائلة شام يده فى فود رأسه ثم شم يده، فقال: ما رأيت كالليلة طيبا أعطر قط، ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها، حتى اطمأن، ثم مشى ثم عاد لمثلها، فأخذ بفود رأسه.(1/368)
ثم قال: اضربوا عدو الله، فضربوه فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئا. قال محمد ابن مسلمة: فتذكرت معولا كان فى سيفى حين رأيت أسيافنا لا تغنى شيئا، فأخذته وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن إلا أوقدت عليه نار، قال: فوضعته فى ثنيته ثم تحاملت عليه حتى بلغت غايته فوقع عدو الله وقد أصيب الحارث بن أوس بجرح فى رجله أو رأسه أصابه بعض أسيافنا، فخرجنا حتى أسندنا فى حرة العريض وقد ابطأ علينا الحارث بن أوس صاحبنا ونزفه الدم، فوقفنا له ساعة ثم أتانا يتبع آثارنا فاحتملناه فجئنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر الليل وهو قاءم يصلى، فسلمنا عليه فخرج إلينا فأخبرناه بقتل عدو الله، وتفل على جرح صاحبنا، ثم رجعنا إلى أهلينا فأصبحنا وقد خافت يهود لوقعتنا بعدو الله، فليس بها يهودى إلا وهو يخاف على نفسه.
وذكر ابن عقبة أن كعب بن الأشرف لما قدم على قريش يستنفرهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له أبو سفيان والمشركون، نناشدك الله، أديننا أحب إلى الله أم دين محمد وأصحابه؟ وأينا أهدى فى رأيك وأقرب إلى الحق، فإنا نطعم الجزور الكوماء ونسقى اللبن على الماء ونطعم ما هبت الشمال.
فقال: ابن الأشرف: أنتم أهدى سبيلا، فأنزل الله فيه والله أعلم بما ينزل: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا [النساء: 51] .
وذكر ابن إسحاق أن هذه الآية إنما نزلت فى حيى بن أخطب وسلام بن أبى الحقيق وجماعة غيرهما من أحبار يهود، ليس ابن الأشرف مذكورا فيهم، وهم الذين حزيوا الأحزاب من قريش وغطفان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدموا على قريش قالوا: هؤلاء أحبار يهود وأهل العلم بالكتاب الأول فسلوهم: أدينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم فقالوا: بل دينكم خير من دينه وأنتم أهدى منه وممن اتبعه. فأنزل الله تعالى فيهم الآية المذكورة. فالله تعالى أعلم.
قال ابن إسحاق: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه. فوثب محيصة بن مسعود الأوسى على ابن سنينة من تجار يهود، وكان يلابسهم ويبايعهم فقتله، فلما قتله جعل أخوه حويصة بن مسعود ولم يكن أسلم يومئذ وكان أسن من محيصة، يضربه ويقول: أى عدو الله أقتلته، وأما والله لرب شحم فى بطنك من ماله فقال محيصة: والله لقد أمرنى بقتله من لو أمرنى بقتلك لضربت عنقك! قال: فو الله إن كان(1/369)
لأول إسلام حويصة. قال: أو الله لو أمرك محمد بقتلى لقتلتنى؟ قال: نعم، والله لو أمرنى بضرب عنقك لضربتها، قال: والله إن دينا بلغ منك هذا لعجب! فأسلم حويصة، وقال محيصة فى ذلك:
يلوم ابن أمى لو أمرت بقتله ... لطبقت ذفراه بأبيض قاضب «1»
حسام كلون الملح أخلص صقله ... متى ما أصوبه فليس بكاذب «2»
وما سرنى أنى قتلتك طائعا ... وأن لنا ما بين بصرى ومأرب «3»
وذكر ابن هشام أن هذا عرض لمحيصة بعد غزوة بنى قريظة وظفر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع إليهم منهم كعب بن يهوذا. قال: وكان عظيما فيهم، ليقتله، فقال له أخوه حويصة وكان كافرا: أقتلت كعب بن يهوذا؟ قال: نعم. قال: أما والله لرب شحم قد نبت فى بطنك من ماله، إنك للئيم. فقال له محيصة: لقد أمرنى بقتله من لو أمرنى بقتلك لقتلتك. فعجب من قوله، ثم ذهب عنه متعجبا فذكروا أنه جعل ينتفض من الليل فيعجب من قول أخيه محيصة حتى أصبح وهو يقول: والله إن هذا لدين. ثم أتى النبى صلى الله عليه وسلم فأسلم.
غزوة أحد «4»
وكان من حديث أحد أنه لما قتل الله من قتل من كفار قريش يوم بدر ورجع فلهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان بن حرب بعيرهم، مشى عبد الله بن أبى ربيعة وعكرمة بن أبى جهل وصفوان بن أمية فى رجال ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر فكلموا ابا سفيان ومن كانت له فى تلك العير تجارة من قريش، وقالوا لهم: إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم، فأعينوا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثأرا بمن اصاب منا. ففعلوا.
ففيهم يقال: أنزل الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال: 36] .
__________
(1) طبقت: قطعت. والزفران: عظمان ناتئان خلف الأذنين. والقاضب: القاطع.
(2) الحسام: السيف القاطع.
(3) بصرى: مدينة بالشام. ومأرب: مدينة باليمن.
(4) انظر السيرة (3/ 20) .(1/370)
فاجتمعت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فعل ذلك أبو سفيان وأصحاب العير، وحركوا لذلك من أطاعهم من القبائل وحرضوهم عليه وخرجوا بحدهم وجدهم وأحابيشهم «1» ومن تابعهم من بنى كنانة وأهل تهامة، وخرجوا معهم بالظعن التماس الحفيظة وأن لا يفروا، فخرج أبو سفيان بن حرب وكان قائد الناس بهند بنت عتبة، وكذلك سائر أشراف قريش وكبرائهم خرجوا معهم بنسائهم.
وكان جبير بن مطعم قد أمر غلامه وحشيا الحبشى بالخروج مع الناس وقال له: إن قتلت حمزة عم محمد بعمى طعيمة بن عدى فأنت عتيق. فكانت هند بنت عتبة كلما مرت بوحشى أو مر بها قالت: ويها أبا دسمة، وهى كنيته، اشف واشتف.
فأقبلوا حتى نزلوا بعينين- جبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادى مقابل المدينة.
فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون قد نزلوا حيث نزلوا، قال عليه السلام:
«إنى قد رأيت والله خيرا، رأيت بقرا تذبح، ورأيت فى ذباب سيفى ثلما، فأما البقر، فهى ناس من أصحابى يقتلون، وأما الثلم الذى فى ذباب سيفى فهو رجل من أهل بيتى يقتل، ورأيت أنى أدخلت يدى فى درع حصينة فأولتها المدينة، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها» «2» .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الخروج، وكان عبد الله بن أبى يرى رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ذلك، فقال رجل من المسلمين ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد وغيره ممن كان فاته بدر: يا رسول الله، اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبنا عنهم. فقال عبد الله بن أبى: يا رسول الله، أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم، فو الله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فدعهم يا رسول الله فإن أقاموا أقاموا بشر محبس وإن دخلوا قاتلهم الرجال فى وجوههم ورماهم الصبيان والنساء بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاؤا.
__________
(1) أحابيشهم: أحياء من القارة انضموا إلى بنى ليث فى الحرب التى وقعت بينهم وبين قريش قبل الإسلام.
(2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 351) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 107) ، الدلائل للبيهقى (3/ 225، 266) ، تفسير الطبرى (4/ 46، 47) .(1/371)
فلم يزل برسول الله صلى الله عليه وسلم الناس الذين كان من أمرهم حب لقاء العدو، حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس لأمته، وذلك يوم الجمعة حين فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة، وقد مات فى ذلك اليوم رجل من الأنصار يقال له: مالك بن عمرو، أخو بنى النجار، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرج عليهم وقد ندم الناس، فقالوا: يا رسول الله، استكرهناك ولم يكن ذلك لنا، فإن شئت فاقعد صلى الله عليه وسلم عليك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ينبغى للنبى إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل» «1» .
فخرج فى ألف من أصحابه، حتى إذا كانوا بين المدينة وأحد انخذل عنه عبد الله بن أبى بثلث الناس، وقال: أطاعهم وعصانى، ما ندرى علام نقتل أنفسنا هاهنا أيها الناس.
فرجع بمن اتبعه من أهل النفاق والريب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام يقول: يا قوم، أذكركم الله أن تخذلوا قومكم ونبيكم عند ما حضر من عدوهم. قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أنه يكون قتال. فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الإنصراف عنهم، قال: أبعدكم الله أعداء الله فسيغنى الله عنكم نبيه.
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سلك فى حرة بنى حارثة، فذب فرس بذنبه فأصاب كلّاب سيف فاستله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يحب الفأل ولا يعتاف:
«يا صاحب السيف، شم سيفك، فإنى أرى السيوف ستسل اليوم» «2» .
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رجل يخرج بنا على القوم من كثب، أى من قرب، من طريق لا تمر بنا عليهم» ، فقال أبو خيثمة أخو بنى حارثة: أنا يا رسول الله.
فنفذ به فى حرة بنى حارثة وبين أموالهم حتى سلك فى مال لمربع بن قيظى، وكان منافقا ضرير البصر، فلما سمع حس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين قام يحثى فى وجوههم التراب ويقول: إن كنت رسول الله فإنى لا أحل لك أن تدخل حائطى.
وذكر أنه أخذ حفنة من تراب فى يده ثم قال: والله لو أعلم أنى لا اصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك. فابتدره القوم ليقتلوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقتلوه، فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر» «3» .
__________
(1) انظر الحديث فى: الدر المنثور للسيوطى (2/ 68) ، تفسير الطبرى (4/ 46) ، تفسير ابن كثير (2/ 91) .
(2) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 14) .
(3) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 14) .(1/372)
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشّعب من أحد فجعل ظهره وعسكره إلى أحد وقال: «لا يقاتلن أحد حتى نأمره بالقتال» «1» .
وقد سرحت قريش الظهر والكراع فى زروع كانت للمسلمين، فقال رجل من الأنصار: أترعى زرع بنى قيلة ولما نضارب!
وتعبى رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال وهو فى سبعمائة رجل، وأمر على الرماة عبد الله بن جبير أخا بنى عمرو بن عوف، وهو معلم يومئذ بثياب بيض، والرماة خمسون رجلا، فقال: انضح الخيل عنا لا يأتوننا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك.
وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير أخى بنى عبد الدار.
وتعبأت قريش وهم ثلاث آلاف ومعهم مائتا فرس قد جنبوها، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد وعلى الميسرة عكرمة بن أبى جهل.
وقد كان أبو عامر عبد عمرو بن صيفى من الأوس، خرج عن قومه إلى مكة مباعدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يعد قريشا أن لو لقى قومه لم يختلف عليه منهم رجلان، فلما التقى الناس كان أول من لقيهم أبو عامر فى الأحابيش وعبدان أهل مكة، فنادى: يا معشر الأوس أنا أبو عامر. قالوا: فلا أنعم الله بك عينا يا فاسق. وبذلك سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يسمى فى الجاهلية الراهب، فلما سمع ردهم عليه، قال: «لقد أصاب قومى بعدى شر! ثم قاتلهم قتالا شديدا ثم راضخهم «2» بالحجارة» «3» .
وقال أبو سفيان- يومئذ- لأصحاب اللواء من بنى عبد الدار يحرضهم بذلك: يا بنى عبد الدار، إنكم قد وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم، إذا زالت زالوا، فإما أن تكفونا لواءنا وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه.
فهموا به وتواعدوه قالوا: أنحن نسلم إليك لواءنا! ستعلم غدا إذا التقينا كيف نصنع.
وذلك أراد أبو سفيان.
فاقتتل الناس حتى حميت الحرب.
__________
(1) انظر الحديث فى: الدر المنثور للسيوطى (5/ 61) .
(2) راضخهم: رماهم.
(3) انظر الحديث فى: تاريخ الطبرى (2/ 512) .(1/373)
وقاتل أبو دجانة «1» سماك بن خرشة أخو بنى ساعدة، حتى أمعن فى الناس، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسيف عنده: «من يأخذ هذا السيف بحقه؟» فقام إليه رجال فأمسكه عنهم، حتى قام إليه أبو دجانة فقال: وما حقه يا رسول الله؟ قال: «أن تضرب به فى العدو حتى ينحنى» «2» . قال: أنا آخذه يا رسول الله بحقه. فأعطاه إياه، وكان أبو دجانة رجلا شجاعا يختال عند الحرب، وكان إذا أعلم بعصابة له حمراء فاعتصب بها علم الناس أنه سيقاتل، فلما أخذ السيف من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج عصابته تلك فعصب بها رأسه، ثم جعل يتبختر بين الصفين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه يتبختر:
«إنها لمشية يبغضها الله إلا فى مثل هذا الموطن» «3» .
وكان الزبير بن العوام قد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك السيف مع من سأله منه فمنعه إياه، فقال: وجدت فى نفسى حين سألته إياه فمنعنيه وأعطاه أبا دجانة، وقلت: أنا ابن صفية عمته ومن قريش وقد قمت إليه فسألته إياه قبله فأعطاه إياه وتركنى! والله لأنظرن ما يصنع، فأتبعه، فأخرج عصابة حمراء فعصب بها رأسه، فقالت الأنصار:
أخرج أبو دجانة عصابة الموت! وهكذا كانت تقول له إذا تعصب لها، فخرج وهو يقول:
أنا الذى عاهدنى خليلى ... ونحن بالسفح لدى النخيل
أن لا أقوم الدهر فى الكيول ... أضرب بسيف الله والرسول «4»
فجعل لا يلقى أحدا إلا قتله، وكان فى المشركين رجل لا يدع جريحا إلا ذفف عليه: فجعل كل واحد منهما يدنو من صاحبه، فدعوت الله أن يجمع بينهما، فالتقيا فاختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه بدرقته فعضت بسيفه، وضربه أبو دجانة فقتله، ثم رأيته قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة ثم عدل السيف عنها، قال الزبير: فقلت الله ورسوله أعلم.
__________
(1) انظر ترجمته فى: أسد الغابة ترجمة رقم (5863) ، الإصابة ترجمة رقم (9866) ، تنقيح المقال (3/ 15) ، ريحانة الأدب (7/ 95) ، معجم رجال الحديث (21/ 151) .
(2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 123) ، مستدرك الحاكم (3/ 230) ، مصنف ابن أبى شيبة (12/ 206، 14/ 401) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 109، 9/ 124) ، كنز العمال للمتقى الهندى (10972، 10973) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 15) .
(3) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (3/ 234) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 15) .
(4) الكيول: آخر الصفوف فى الحرب.(1/374)
وقال أبو دجانة: رأيت إنسانا يخمش الناس خمشا شديدا فصمدت إليه، فلما حملت عليه السيف ولول فإذا امرأة، فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة.
وقاتل حمزة بن عبد المطلب حتى قتل أحد النفر الذين كانوا يحملون اللواء من بنى عبد الدار، وكان جبير بن مطعم قد وعد غلامه وحشيا بالعتق إن قتل حمزة بعمه طعيمة ابن عدى المقتول يوم بدر، قال وحشى: فخرجت مع الناس وكنت رجلا حبشيا أقذف بالحربة قذف الحبشة قل ما أخطىء بها شيئا، فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة حتى رأيته فى عرض الناس مثل الجمل الأورق يهد الناس بسيفه هدا ما يقوم له شىء، فو الله إنى لأتهيأ له أريده وأستتر منه بشجرة أو بحجر ليدنو منى إذ تقدمنى إليه سباع بن عبد العزى الغبشانى، فلما رآه حمزة قال له: هلم إلى يا بن مقطعة البظور. وكانت أمه ختّانة بمكة، قال: فضربه ضربة فكأنما أخطأ رأسه، قال: وهززت حربتى حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت فى ثنته حتى خرجت من بين رجليه وذهب لينوء نحوى فغلب وتركته وإياها حتى مات، ثم أتيته فأخذت حربتى ورجعت إلى العسكر فقعدت فيه، ولم تكن لى بغيره حاجه، إنما قتلته لأعتق.
فلما قدمت مكة عتقت، ثم أقمت حتى افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة هربت إلى الطائف فكنت بها، فلما خرج وفد الطائف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلموا تعيت على المذاهب، فو الله إنى لفى ذلك إذ قال لى رجل: ويحك إنه والله ما يقتل أحدا من الناس دخل فى دينه، فلما قال لى ذلك خرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فلم يرعه إلا بى قائما على رأسه أتشهد شهادة الحق، فلما رآنى قال: أو حشىّ؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: أقعد فحدثنى كيف قتلت حمزة، فحدثته فلما فرغت قال: ويحك! غيب عنى وجهك. فكنت أتنكّبه صلى الله عليه وسلم حيث كان لئلا يرانى حتى قبضه الله تعالى.
فلما خرج المسلمون إلى مسيلمة الكذاب خرجت معهم وأخذت بحربتى التى قتلت بها حمزة، فلما التقى الناس رأيت مسيلمة قائما فى يده السيف وما أعرفه، فتهيأت له وتهيأ له رجل من الأنصار من الناحية الأخرى كلانا يريده، فهززت حربتى حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت فيه وشدّ عليه الأنصارى فضربه بالسيف، فربك أعلم أينا قتله، فإن كنت قتلته فقد قتلت خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قتلت شر الناس!
وذكر ابن إسحاق «1» بإسناد له إلى عبد الله بن عمر، وكان شهد اليمامة قال:
سمعت يومئذ صارخا يقول: قتله العبد الأسود.
__________
(1) انظر السيرة (3/ 33) .(1/375)
قال ابن إسحاق: فبلغنى أن وحشيا لم يزل يحد فى الخمر حتى خلع من الديوان.
فكان عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، يقول: قد علمت أن الله لم يكن ليدع قاتل حمزة.
قال ابن إسحاق «1» : وقاتل مصعب بن عمير «2» دون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل، قتله ابن قميئة الليثى، وهو يظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع إلى قريش فقال: قتلت محمدا.
فلما قتل مصعب أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء على بن أبى طالب، فقاتل على ورجال من المسلمين.
ولما اشتد القتال يومئذ جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت راية الأنصار وأرسل إلى على أن قدم الراية، فتقدم فقال: أنا أبو القصم، فناداه أبو سعد بن أبى طلحة: هل لك يا أبا القصم فى البراز من حاجة؟ قال: نعم. فبرزا بين الصفين فاختلفا ضربتين فضربه على فصرعه ثم انصرف ولم يجهز عليه، فقال له أصحابه: أفلا أجهزت عليه؟ فقال: إنه استقبلنى بعورته فعطفتنى عليه الرحم وعرفت أن الله قد قتله.
ويقال: إن أبا سعد هذا خرج بين الصفين وطلب من يبارزه مرارا فلم يخرج إليه أحد، فقال: يا أصحاب محمد، زعمتم أن قتلاكم فى الجنة وقتلانا فى النار، كذبتم واللات لو تعلمون ذلك حقا لخرج إلى بعضكم. فخرج إليه علىّ فاختلفا ضربتين فقتله علىّ. وقد قيل: إن سعد بن أبى وقاص هو الذى قتل أبا سعد هذا.
وقاتل عاصم بن ثابت بن أبى الأقلح «3» ، فقتل مسافع بن طلحة وأخاه الجلاس ابن طلحة، كلاهما يشعره سهما «4» فيأتى أمه فيضع رأسه فى حجرها فتقول: يا بنى من أصابك؟ فيقول: سمعت رجلا يقول رمانى: خذها وأنا ابن أبى الأقلح. فندرت إن أمكنها الله من رأس عاصم أن تشرب فيه الخمر، وكان عاصم قد عاهد الله أن لا يمس مشركا ولا يمسه مشرك أبدا، فتمم الله له ذلك حيا وميتا حسب ما نذكره عند مقتل عاصم على الرجيع- ماء لهذيل- إن شاء الله تعالى.
__________
(1) انظر السيرة (3/ 34) .
(2) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (8020) ، أسد الغابة ترجمة رقم (4936) .
(3) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (4365) ، أسد الغابة ترجمة رقم (2665) .
(4) يشعره سهما: أى يصيبه به فى جسده، فيصير له مثل الشعار، والشعار ما ولى الجسد من الثياب.(1/376)
والتقى يوم أحد حنظلة بن أبى عامر الغسيل وأبو سفيان، فلما استعلاه حنظلة رآه شداد بن الأسود بن شعوب قد علا أبا سفيان فضربه شداد فقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن صاحبكم- يعنى حنظلة- لتغسله الملائكة فسلوا أهله ما شأنه؟ فسئلت صاحبته، فقالت: خرج وهو جنب حين سمع الهاتفة. فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لذلك غسلته الملائكة» «1» .
ثم أنزل نصره على المسلمين وصدقهم وعده فحسوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن العسكر ونهكوهم قتلا.
وقد حملت خيل المشركين على المسلمين ثلاث مرات، كل ذلك تنضح بالنبل فترجع مفلولة، وكانت الهزيمة لا شك فيها.
فلما أبصر الرماة الخمسون أن الله قد فتح لإخوانهم قالوا: والله ما نجلس هنا لشىء، قد أهلك الله العدو، وإخواننا فى عسكر المشركين، فتركوا منازلهم التى عهد إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يتركوها، وتنازعوا وفشلوا، وعصوا الرسول فأوجفت الخيل فيهم قتلا، ولم يكن نبل ينضحها ووجدت مدخلا عليهم، فكان ذلك سبب الهزيمة على المسلمين بعد أن كانت لهم.
قال الزبير بن العوام رضى الله عنه: والله، لقد رأيتنى أنظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحبها منكشفات هوارب، ما دون أخذهن قليل ولا كثير، إذا مالت الرماة إلى العسكر حتى كشفنا القوم عنه، وخلوا ظهورنا للخيل، فأتتنا من خلفنا، وصرخ صارخ: ألا إن محمدا قد قتل، فانكفأنا وانكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب اللواء، حتى ما يدنو منه أحد من القوم.
وانكشف المسلمون فأصاب فيهم العدو، ويقال: إن الصارخ هو الشيطان.
وكان يوم بلاء وتمحيص أكرم الله فيه من أكرم من المسلمين بالشهادة. حتى خلص العدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدث بالحجارة حتى وقع لشقه فأصيبت رباعيته وكلمت شفته وشج فى وجهه فجعل الدم يسيل على وجهه، وجعل صلى الله عليه وسلم يمسحه وهو يقول: «كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم» «2» .
__________
(1) انظر الحديث فى: السنن الكبرى للبيهقى (4/ 15) ، دلائل النبوة للبيهقى (3/ 246) ، إرواء الغليل للألبانى (3/ 167) ، السلسلة الصحيحة للألبانى (1/ 581) .
(2) انظر الحديث فى: سنن ابن ماجه (4027) ، مسند الإمام أحمد (3/ 206) ، الدر المنثور-(1/377)
فأنزل الله عليه فى ذلك: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ [آل عمران: 128] .
وكان الذى كسر رباعيته وجرح شفته عتبة بن أبى وقاص وشجه عبد الله بن شهاب الزهرى فى جبهته وجرح ابن قميئة وجنته فدخلت حلقتان من حلق المغفر فى وجنته، ووقع صلوات الله عليه فى حفرة من الحفر التى عمل أبو عامر ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون، فأخذ على بن أبى طالب بيده ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما. ومص مالك بن سنان والد أبى سعيد الخدرى الدم من وجهه ثم ازدرده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مس دمه دمى لم تصبه النار» «1» .
وقال صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشى على الأرض فلينظر إلى طلحة» «2» .
ونزع أبو عبيدة بن الجراح إحدى الحلقتين من وجهه صلى الله عليه وسلم فسقطت ثنيته، ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى، فكان ساقط الثنيتين.
وكان سعد بن أبى وقاص يقول: والله، ما حرصت على قتل رجل قط حرصى على قتل عتبة بن أبى وقاص- وهو أخوه- وإن كان ما علمت لسىء الخلق مبغضا فى قومه، ولقد كفانى منه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشتد غضب الله على من دمى وجه رسوله» «3» .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غشيه القوم: «من رجل يشرى لنا نفسه؟» فقام زياد بن السكن فى نفر خمسة من الأنصار، وبعض الناس يقولون: إنما هو عمارة بن زياد بن السكن، فقاتلوا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا ثم رجلا، يقتلون دونه، حتى كان آخرهم زياد أو عمارة، فقاتل حتى أثبتته الجراحة، ثم جاءت فئة من المسلمين فأجهضوهم عنه،
__________
- للسيوطى (2/ 71) ، إتحاف السادة المتقين (7/ 92) ، تفسير ابن كثير (2/ 98) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 366) ، المغنى عن حمل الأسفار للعراقى (2/ 352) ، أخلاق النبوة (72) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 23) .
(1) انظر الحديث فى: تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (6/ 112) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 24) .
(2) انظر الحديث فى: المعجم الكبير للطبرانى (1/ 76) ، السنة لابن أبى عاصم (2/ 614) ، كنز العمال للمتقى الهندى (33369) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (7/ 80) .
(3) انظر الحديث فى: موارد الظمآن للهيثمى (2212) ، دلائل النبوة للبيهقى (3/ 265) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 30) .(1/378)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أدنوه منى» «1» . فأدنوه منه فوسده قدمه، فمات وخده على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقاتلت أم عمارة نسيبه بنت كعب المازنية، يومئذ قالت: خرجت أول النهار وأنا أنظر ما يصنع الناس ومعى سقاء فيه ماء، فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فى أصحابه والدولة والريح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف وأرمى عن القوس، حتى خلصت الجراح إلىّ.
قالت أم سعد بنت سعد بن الربيع: فرأيت على عاتقها جراحا أجوف له غور فقلت: من أصابك بهذا، قالت: ابن قميئة أقمأه الله، لما ولى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل يقول: دلونى على محمد فلا نجوت إن نجا. فاعترضته أنا ومصعب بن عمير وأناس ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربنى هذه الضربة، ولقد ضربته على ذلك ضربات، ولكن عدو الله كانت عليه درعان.
وترس دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو دجانة بنفسه، يقع النبل فى ظهره وهو منحن عليه، حتى كثر فيه النبل.
ورمى سعد بن أبى وقاص دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال سعد: فلقد رأيته يناولنى النبل ويقول: «أرم فداك أبى وأمى» «2» حتى إنه ليناولنى السهم ماله من نصل فيقول: «ارم به» .
ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد عن قوسه حتى اندقت سيتها.
وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان «3» فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فكانت أحسن عينيه وأحدهما.
__________
(1) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (3/ 235) .
(2) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (4/ 47، 5/ 124، 8/ 52) ، صحيح مسلم فى كتاب فضائل الصحابة (41، 42) ، سنن الترمذى (2829، 3753) ، السنن الكبرى للبيهقى (9/ 162) ، دلائل النبوة للبيهقى (3/ 239) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 27، 8/ 72) .
(3) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (7091) ، أسد الغابة ترجمة رقم (4277) ، طبقات خليفة (81، 96) ، تاريخ خليفة (153) ، التاريخ الكبير (7/ 184، 185) ، تاريخ الفسوى (1/ 320) ، الجرح والتعديل (7/ 132) ، تاريخ ابن عساكر (14/ 200) ، تهذيب الكمال (1123) ، تاريخ الإسلام (2/ 50) ، العبر (1/ 27) ، تهذيب التهذيب (8/ 357، 358) ، خالصة تذهيب الكمال (315) ، شدرات الذهب (1/ 34) .(1/379)
وأصيب فم عبد الرحمن بن عوف فهتم وجرح عشرين جراحة أو أكثر، أصابه بعضها فى رجله فعرج.
وأتى أنس بن النضر عم أنس بن مالك وبه سمى، إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله فى رجال من المهاجرين والأنصار قد ألقوا بأيديهم، فقال: ما يجلسكم؟ قالوا:
قد قتل محمد رسول الله. قال: فما تصنعون بالحياة بعده! قوموا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل، رحمه الله تعالى.
وروى حميد عن أنس، أن عمه أنس بن النضر هذا غاب عن قتال يوم بدر، فقال:
غبت عن أول قتال قاتله رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين لئن أشهدنى الله قتالا ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون فقال: اللهم إنى أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، يعنى المشركين، وأعتذر إليك مما جاء به هؤلاء، يعنى المسلمين، ثم مشى بسيفه فلقيه سعد بن معاذ فقال: أى سعد، والذى نفسى بيده إنى لأجد ريح الجنة دون أحد! واها لريح الجنة. فقال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع. فوجدناه بين القتلى وبه بضع وثمانون جراحة من ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم، وقد مثلوا به حتى عرفته أخته ببنانه.
قال أنس: كنا نقول أنزلت هذه الآية: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب: 23] فيه وفى أصحابه.
قال ابن إسحاق «1» : وكان أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة وتحدث الناس بقتله: كعب بن مالك الأنصارى، قال: عرفت عينيه تزهران تحت المغفر فناديت بأعلى صوتى: يا معشر المسلمون أبشروا، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إلى أن أنصت. فلما عرف المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم نهضوا به ونهض معهم نحو الشّعب، معه أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام والحارث بن الصمة، ورهط من المسلمين.
فلما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الشعب أدركه أبى بن خلف وهو يقول: أين محمد: لا نجوت إن نجوت! فقال القوم: يا رسول الله، أيعطف عليه رجل منا؟ فقال: «دعوه» «2» .
__________
(1) انظر السيرة (3/ 46) .
(2) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (3/ 624) ، سنن ابن ماجه (530) ، مجمع الزوائد للهيثمى (3/ 19) .(1/380)
فلما دنا تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة، يقول بعض القوم: فلما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم منه انتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعراء من ظهر البعير إذا انتفض بها، ثم استقبله فطعنه فى عنقه طعنة تدأدأ منها عن فرسه مرارا.
وكان أبى بن خلف يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فيقول: يا محمد، إن عندى العوذ، فرسا أعلفه كل يوم فرقا من ذرة أقتلك عليه. فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أقتلك إن شاء الله» «1» .
فلما رجع إلى قريش وقد خدشه فى عنقه خدشا غير كبير فاحتقن الدم قال: قتلنى والله محمد! فقالوا له: ذهب والله فؤادك! والله إن بك بأس. قال: إنه قد كان قال لى بمكة: أنا أقتلك. فو الله لو بصق على لقتلنى.
فمات عدو الله بسرف وهم قافلون به إلى مكة.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قاله يومئذ: «اشتد غضب الله على رجل قتله رسول الله» «2» . فسحقا لأصحاب السعير.
ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشعب خرج على بن أبى طالب حتى ملأ درقته من المهراس، فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشرب منه، فوجد له ريحا فعافه ولم يشرب منه، وغسل عن وجهه الدم فصب على رأسه وهو يقول: «اشتد غضب الله على من دمى وجه رسوله» «3» .
فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الشعب معه أولئك النفر من أصحابه إذا علت عالية من قريش الجبل فقال: «اللهم إنه لا ينبغى لهم أن يعلونا» «4» فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل.
ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صخرة من الجبل ليعلوها فلم يستطع، وقد كان بدن
__________
(1) انظر الحديث فى: تفسير القرطبى (7/ 385) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 35) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 1/ 32) .
(2) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (4/ 275) ، شرح السنة للبغوى (12/ 337) ، كنز العمال للمتقى الهندى (29885، 29887) .
(3) سبق تخريجه.
(4) انظر الحديث فى: تفسير الطبرى (4/ 90) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 36) ، دلائل النبوة للبيهقى (3/ 238) .(1/381)
وظاهر بين درعين فجلس تحته بن عبيد الله فنهض به حتى استوى عليها، فقال صلى الله عليه وسلم:
«أوجب طلحة» «1» .
وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر- يومئذ- قاعدا من الجراح التى أصابته، وصلى المسلمون خلفه قعودا.
ولما خرج صلى الله عليه وسلم إلى أحد رفع حسيل بن جابر وهو اليمان أبو حذيفة بن اليمان، وثابت بن قيس فى الآكام مع النساء والصبيان، فقال أحدهما لصاحبه وهما شيخان كبيران: لا اب لك! ما ننتظر؟ فو الله إن بقى لواحد منا من عمره إلا ظمء حمار، إنما نحن هامة اليوم أو غد، أفلا نأخذ أسيافنا ثم نلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعل الله يرزقنا شهادة معه؟ فأخذا اسيافهما ثم خرجا حتى دخلا فى الناس ولم يعلم بهما.
فأما ثابت فقتله المشركون، وأما حسيل فاختلفت عليه أسياف المسلمين فقتلوه وهم لا يعرفونه، فقال حذيفة: أبى! قالوا: والله إن عرفناه. وصدقوا. قال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين. فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يديه فتصدق حذيفة بديته على المسلمين، فزاده عند رسول الله خيرا.
وكان ممن قتل يوم أحد مخيرق من أحبار اليهود، وقد تقدم خبره وكيف قال- يومئذ- ليهود: لقد علمتم أن نصر محمد عليكم لحق. فتعللوا عليه بأنه يوم السبت، فقال لهم: لا سبت لكم. وأخذ سيفه وعدّته فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتل معه حتى قتل بعد أن قال: إن أصبت فمالى لمحمد يصنع فيهما يشاء. وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«مخيريق خير يهود» «2» .
وكان عمرو بن ثابت وقش أصيرم بنى عبد الأشهل يأبى الإسلام على قومه، فلما
__________
(1) انظر الحديث فى: سنن الترمذى (3738) ، مسند الإمام أحمد (1/ 165) ، السنن الكبرى للبيهقى (6/ 370، 9/ 46) ، مستدرك الحاكم (3/ 25، 373) ، موارد الظمآن للهيثمى (2212) ، الترغيب والترهيب للمنذرى (2/ 281) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 361، 12/ 91) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (6112) ، شرح السنة للبغوى (14/ 120) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (3/ 1/ 155) ، السنة لابن أبى عاصم (2/ 612) ، كنز العمال للمتقى الهندى (33364) ، دلائل النبوة للبيهقى (3/ 238) .
(2) انظر الحديث فى: الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 2/ 183) ، دلائل النبوة لأبى نعيم (1/ 18) ، البداية والنهاية لابن كثير (3/ 237، 4/ 36) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (3/ 245، 10/ 87) .(1/382)
كان يوم أحد بدا له فى الإسلام فأسلم، ثم أخذ سيفه فغزا حتى دخل فى عرض الناس فقاتل حتى أثبتته الجراحة، فبينا رجال من بنى الأشهل يلتمسون قتلاهم فى المعركة إذا هم به، فقالوا: والله إن هذا للأصيرم، ما جاء به؟ لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الحديث.
فسألوه ما جاء بك عمرو؟ أحدب على قومك أم رغبة فى الإسلام؟ قال: بل رغبة فى الإسلام، آمنت بالله وبرسوله وأسلمت ثم أخذت سيفى فغدوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قاتلت حتى أصابنى ما أصابنى. ثم لم يلبث أن مات فى ايديهم، فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنه لمن أهل الجنة» «1» .
وكان أبو هريرة يقول: حدثونى عن رجل دخل الجنة لم يصل قط؟ فإذا لم يعرفه الناس سألوه من هو؟ فيقول: أصيرم بنى عبد الأشهل؟
وكان عمرو بن الجموح أعرج شديد العرج، وكان له بنون أربعة مثل الأسد يشهدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد، فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه وقالوا له: إن الله قد عذرك. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن بنى يريدون أن يحبسونى عن هذا الوجه والخروج معك فيه، فو الله إنى لأرجو أن أطأ بعرجتى هذه فى الجنة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أنت فقد عذرك الله فلا جهاد عليك» . وقال لبنيه: «ما عليكم أن لا تمنعوه لعل الله يرزقه الشهادة» «2» فخرج معه فقتل، يرحمه الله.
ووقعت هند بنت عتبة «3» والنسوة اللاتى معها يمثلن بالقتلى من المسلمين يجدعن الاذان والأنوف، حتى اتخذت هند من آذان الرجال وأنوفهم خدما وقلائد، وأعطت خدمها وقلائدها وقرطها وحشيا قاتل حمزة، وبقرت عن كبد حمزة- رضى الله عنه- فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها، ثم علت على صخرة مشرفة فصرخت بأعلى صوتها:
نحن جزيناكم بيوم بدر ... والحرب بعد الحرب ذات سعر «4»
ما كان عن عتبة لى من صبر ... ولا أخى وعمه وبكر
__________
(1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (5/ 428، 429) .
(2) انظر الحديث فى: إتحاف السادة المتقين (10/ 332) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 37) .
(3) انظر ترجمتها فى: الإصابة ترجمة رقم (11860) ، أسد الغابة ترجمة رقم (7350) ، الثقات (2/ 439) ، أعلام النساء (5/ 239) ، تجريد أسماء الصحابة (2/ 310) ، أزمنة التاريخ الإسلامى (1008) ، تلقيح فهوم أهل الأثر (319) ، ودر السحابة (824) .
(4) السعر: أى الالتهاب.(1/383)
شفيت نفسى وقضيت نذرى ... شفيت وحشى غليل صدرى
فشكر وحشى علىّ عمرى ... حتى ترم أضلعى فى قبرى
فأجابتها هند بنت أثاثة بن عباد بن المطلب، فقالت:
خزيت فى بدر وبعد بدر ... يا منه وقاع عظيم الكفر
صبحك الله غداة الفجر ... بالهاشمين الطوال الزهر
بكل قطاع حسام يفرى ... حمزة ليثى وعلى صقرى
إذ رام شيب وأبوك غدرى ... فخضبا منه ضواحى النحر
ونذرك السوء فشر نذر
وقد كان الحليس بن زبان أخو بنى الحارث بن عبد مناة، وهو يومئذ سيد الأحابيش، مر بأبى سفيان وهو يضرب فى شدق حمزة بن عبد المطلب بزح الرمح ويقول: ذق عقق، فقال الحليس: يا بنى كنانة، هذا سيد قريش يصنع بابن عمه ما ترون لحما. فقال: ويحك، اكتمها عنى فإنها كانت زلة.
ثم إن أبا سفيان حين أراد الإنصراف أشرف على الجبل ثم صرخ بأعلى صوته:
أنعمت فعال، إن الحرب سجال يوم بيوم بدر، اعل هبل. أى ظهر دينك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قم يا عمر فأجبه، فقل: الله أعلى وأجل، لا سواء، قتلانا فى الجنة وقتلاكم فى النار» «1» .
وفى الصحيح من حديث البراء أن أبا سفيان قال: إنه لنا العزى ولا عزى لكم.
فقال النبى صلى الله عليه وسلم: «أجيبوه» . قالوا: ما نقول؟ قال قالوا: «الله مولانا ولا مولى لكم» «2» .
وفيه أيضا: أن أبا سفيان أشرف يوم أحد فقال: أفى القوم محمد؟ فقال: لا تجيبوه.
فقال: أفى القوم ابن أبى قحافة؟ قال: لا تجيبوه. قال: أفى القوم ابن الخطاب؟ فلما لم يجبه أحد قال: إن هؤلاء قتلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا، فلم يملك عمر نفسه، فقال:
كذبت يا عدو الله قد أبقى الله لك ما يخزيك.
قال ابن إسحاق: فلما أجاب عمر أبا سفيان قال له: هلم إلى يا عمر، فقال رسول
__________
(1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 38) .
(2) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (4/ 80) ، مسند الإمام أحمد (4/ 293) ، دلائل النبوة للبيهقى (3/ 213) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (6/ 398) .(1/384)
الله صلى الله عليه وسلم لعمر: «ايته فانظر ما شأنه» «1» . فجاءه فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر:
أقتلنا محمدا؟ قال عمر: اللهم لا وإنه ليسمع كلامك الآن، قال: أنت أصدق عندى من ابن قميئه وابر. لقول ابن قميئة لهم: إنى قد قتلت محمدا، ثم نادى أبو سفيان: إنه قد كان فى قتلاكم مثل، والله ما رضيت وما سخطت، وما أمرت وما نهيت.
ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى: إن موعدكم بدر العام القابل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه قل: «نعم، هو بيننا وبينكم موعد» «2» .
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب فقال: «اخرج فى آثار القوم فانظر ماذا يصنعون وماذا يريدون، فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة، والذى نفسى بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لأناجزنهم» «3» ؛ فخرج على فرآهم قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل ووجهوا إلى مكة.
وفرغ الناس لقتلاهم وانتشروا يبتغونهم، فلم يجدوا قتيلا إلا وقد مثلوا به إلا حنظلة ابن أبى عامر فإن أباه كان مع المشركين فتركوه له، وزعموا أن أباه وقف عليه قتيلا فدفع صدره بقدمه وقال: قد تقدمت إليك فى مصرعك هذا، ولعمر الله إن كنت لواصلا للرحم برا بالوالدة.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رجل ينظر لى ما فعل سعد بن الربيع، أفى الأحياء هو أم فى الأموات؟» «4» فقال رجل من الأنصار: أنا أنظر لك يا رسول الله ما فعل. فنظر فوجده جريحا فى القتلى وبه رمق، قال فقلت له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنى أن أنظر أفى الأحياء أنت أم فى الأموات؟ قال: أنا فى الأموات، فأبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنى السلام وقل له: إن سعد بن الربيع يقول: جزاك الله عنا خير ما جزى نبيّا عن أمته، وأبلغ قومك السلام عنى وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم ومنكم عين تطرف. قال: ثم لم أبرح حتى مات. فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبره.
__________
(1) انظر الحديث فى: تفسير الطبرى (2/ 90) .
(2) انظر الحديث فى: التاريخ لابن كثير (4/ 38) ، تاريخ الطبرى (2/ 71) .
(3) انظر الحديث فى: تاريخ الطبرى (2/ 71) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 138) ، المغازى للواقدى (1/ 298) .
(4) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (3/ 285) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 39) .(1/385)
وفى سعد هذا يقول أبو بكر الصديق- رضى الله عنه- وقد دخل عليه رجل وعلى صدره بنت لسعد جارية صغيرة يرشفها ويقبلها فقال الرجل: من هذه؟ فقال أبو بكر رضى الله عنه: بنت رجل خير منى، سعد بن الربيع، كان من النقباء ليلة العقبة وشهد بدرا، واستشهد يوم أحد.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتمس حمزة بن عبد المطلب فوجده ببطن الوادى قد بقر بطنه عن كبده ومثل به فجدع أنفه وأذناه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى ما رأى: «لولا أن تحزن صفية ويكون سنّة من بعدى لتركته حتى يكون فى بطون السباع وحواصل الطير، ولئن أظهرنى الله على قريش فى مواطن من المواطن لأمثلن بثلاثين رجلا منهم» «1» .
فلما رأى المسلمون حزن الرسول صلى الله عليه وسلم وغيظه على من فعل بعمه ما فعل، قالوا: والله لئن أظفرنا الله بهم يوما من الدهر لنمثلن بهم مثله لم يمثلها أحد من العرب. فأنزل الله تعالى، فيما قاله من ذلك رسوله صلوات الله عليه وسلامه: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل: 126، 127] ، فعفا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصبر ونهى عن المثلة.
ويقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وقف على حمزة قال: «لن أصاب بمثلك أبدا! ما وقفت موقفا قط أغيظ إلى من هذا» «2» . ثم قال: «جاءنى جبريل فأخبرنى أن حمزة مكتوب فى أهل السموات السبع: حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله» «3» .
ثم أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجى ببرده، ثم صلى عليه فكبر سبع تكبيرات، ثم أتى بالقتلى، يوضعون إلى حمزة وصلى عليهم وعليه معهم، حتى صلى عليه ثنتين وسبعين صلاة.
وأقبلت صفية بنت عبد المطلب «4» إليه، وكان أخاها لأبيها وأمها فقال رسول الله
__________
(1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 39) .
(2) انظر الحديث فى: فتح البارى لابن حجر (1/ 371) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 40) .
(3) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 40) .
(4) انظر ترجمتها فى: طبقات ابن سعد (8/ 41) ، طبقات خليفة (331) ، تاريخ خليفة (147) ، المعارف (128) ، تاريخ الإسلام (3812) ، الإصابة ترجمة رقم (11411) .(1/386)
صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير بن العوام: «القها فأرجعها، لا ترى ما بأخيها» . فقال لها: يا أمه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعى. قالت ولم؟ وقد بلغنى أن قد مثّل بأخى، وذلك فى الله، فما أرضانا بما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله. فلما أخبر الزبير بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «خل سبيلها» . فأتته فنظرت إليه فصلت عليه واسترجعت واستغفرت له.
ثم أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفن.
وزعم آل عبد الله بن جحش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفن عبد الله بن جحش مع حمزة فى قبره، وهو ابن أخته أميمة بنت عبد المطلب، وكان قد مثل به كما مثل بخاله حمزة، إلا أنه لم يبقر عن كبده وجدع أنفه وأذناه، فلذلك يقال له: المجدع فى الله.
وكان فى أول النهار قد لقى سعد بن أبى وقاص فقال له عبد الله: هلم يا سعد فلندع الله وليذكر كل واحد منا حاجته فى دعائه وليؤمن الآخر. فقال سعد: يا رب إذا لقيت العدو فلقنى رجلا شديدا بأسه شديدا حرده أقاتله فيك ويقاتلنى ثم ارزقنى الظفر عليه حتى أقتله وأسلبه سلبه. فأمن عبد الله بن جحش ثم قال: اللهم ارزقنى رجلا شديدا بأسه شديدا حرده أقاتله فيك ويقاتلنى فيقتلنى ثم يجدع أنفى وأذنى، فإذا لقيتك غدا قلت لى: يا عبد الله، فيم جدع أنفك وأذناك؟ فأقول: فيك يا رب وفى رسولك. فتقول لى: صدقت. فأمن سعد على دعوته.
قال سعد: كانت دعوة عبد الله خيرا من دعوتى، لقد رأيته النهار وإن أذنيه وأنفه معلقان فى خيط، ولقيت أنا فلان من المشركين فقتلته وأخذت سلبه.
وذكر الزبير أن سيف عبد الله بن جحش انقطع يوم أحد فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرجونا فعاد فى يده سيفا منه، فقاتل به فكان ذلك السيف يسمى العرجون، ولم يزل هذا يتوارث حتى بيع من بغا التركى بمائتى دينار.
واحتمل ناس من المسلمين قتلاهم إلى المدينة فدفنوهم بها، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك قال: «ادفنوهم حيث صرعوا» «1» .
ولما أشرف صلوات الله عليه وسلامه يوم أحد على القتلى قال: «أنا شهيد على هؤلاء، إن ما من جريح يجرح فى الله إلا والله يبعثه يوم القيامة يدمى جرحه اللون لون
__________
(1) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (3/ 290) .(1/387)
دم والريح ريح مسك، انظروا أكثر هؤلاء جمعا للقرآن فاجعلوه أمام أصحابه فى القبر» «1» . وكانوا يدفنون الاثنين والثلاثة فى القبر الواحد.
وقال- يومئذ- حين أمر بدفن القتلى: «انظروا عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو بن حرام، فإنهما كانا متصافيين فى الدنيا فاجعلوهما فى قبر واحد» «2» .
وذكر مالك بن أنس فى موطّئه أن السيل حفر قبرهما بعد زمان فحفر عنهما ليغيرا من مكانهما، فوجدا لم يتغيرا كأنما ماتا بالأمس، وكان أحدهما قد جرح فوضع يده على جرحه فدفن وهو كذلك فأميطت يده عن جرحه ثم أرسلت فرجعت كما كانت، وكان بين أحد وبين يوم حفر عنهما ست وأربعون سنة.
ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا إلى المدينة فلقيته حمنة بنت جحش، فلما لقيت الناس نعى لها أخوها عبد الله بن جحش فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعى لها خالها حمزة بن عبد المطلب فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعى لها زوجها مصعب بن عمير فصاحت وولولت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن زوج المرأة منها لبمكان» «3» لما رأى من تثبتها على أخيها وخالها وصياحها على زوجها.
ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدار من دور الأنصار فسمع البكاء والنوائح على قتلاهم، فذرفت عيناه فبكى، ثم قال: «لكن حمزة لا بواكى له» «4» .
فلما رجع سعد بن معاذ وأسيد بن حضير إلى دار بنى عبد الأشهل أمرا نساءهما أن يتحزمن ثم يذهبن فيبكين على عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففعلن فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بكاءهن على حمزة خرج عليهن وهن على باب المسجد يبكين عليه، فقال: «ارجعن
__________
(1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 41، 42) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (3/ 1/ 7) .
(2) انظر الحديث فى: الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 562) ، موطأ مالك (2/ 470/ 49) .
(3) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (3/ 301) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 46) .
(4) انظر الحديث فى: سنن ابن ماجه (1591) ، مسند الإمام أحمد (2/ 40، 84، 92) ، السنن الكبرى للبيهقى (4/ 70) ، مستدرك الحاكم (1/ 381، 3/ 195) ، المعجم الكبير للطبرانى (3/ 159، 11/ 392) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 120) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 1/ 31، 3/ 1/ 5، 10، 11) ، مصنف ابن أبى شيبة (3/ 394) ، مصنف عبد الرزاق (6694) ، دلائل النبوة للبيهقى (3/ 216، 301) ، كنز العمال للمتقى الهندى (36945) .(1/388)
يرحمكن الله، فقد آسيتن «1» بأنفسكن» «2» . وقيل: إنه لما سمع بكاءهن قال: «رحم الله الأنصار، فإن المواساة منهم ما علمت لقديمة، مروهن فلينصرفن» .
ومر رسول الله فى انصرافه بامرأة من بنى دينار وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد، فلما نعوا لها قالت: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيرا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين. قالت: أرونيه حتى أنظر إليه. فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل! تريد صغيرة.
فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله ناول سيفه ابنته فاطمة فقال: «اغسلى عن هذا دمه يا بنية، فو الله لقد صدقنى اليوم» «3» ، وناولها على بن أبى طالب سيفه فقال: وهذا فاغسلى عنه دمه، فو الله لقد صدقنى اليوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لئن كنت صدقت القتال لقد صدق معك سهل بن حنيف وأبو دجانة» «4» .
وكان يقال لسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذو الفقار. ونادى مناد يوم أحد:
لا سيف إلا ذو الفقا ... ر ولا فتى إلا على
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلى بن أبى طالب: «لا يصيب المشركون منا مثلها حتى يفتح الله علينا» «5» .
وكان يوم أحد السبت للنصف من شوال.
فلما كان الغد منه يوم الأحد أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بطلب العدو، وأذن مؤذنه:
أن لا يخرجن معنا أحد إلا أحد حضر يومنا بالأمس.
فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام فقال: يا رسول الله، كان أبى خلفنى على أخوات لى سبع وقال: «يا بنى لا ينبغى لى ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن، ولست بالذى أو ثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسى، فتخلف على أخواتك.
فتخلفت عليهن. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج معه.
وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهبا للعدو ليبلغهم أنه خرج فى طلبهم فيظنوا به قوة، وأن الذى أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم.
__________
(1) آسيتن: أى عزيتن وعاونتن.
(2) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 47) ، دلائل النبوة للبيهقى (3/ 301، 302) .
(3) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 47) .
(4) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (3/ 24) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 47) .
(5) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 47) .(1/389)
وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أخوان من بنى الأشهل فرجعا جريحين، قال أحدهما: فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج فى طلب العدو قلت لأخى أو قال لى: أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! والله ما لنا من دابة نركبها وما منا إلا جريح ثقيل. فخرجنا وكنت أيسر جرحا منه، فكان إذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون.
وانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى خروجه ذلك إلى حمراء الأسد، على ثمانية أميال من المدينة. فأقام بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء ثم رجع إلى المدينة.
وقد مر به هنالك معبد بن أبى معبد الخزاعى، وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عيبة نصح رسول الله بتهامة، صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئا كان بها، ومعبد يومئذ مشرك فقال: يا محمد، أما والله لقد عز علينا ما أصابك فى أصاحبك، ولوددنا أن الله عافاك فيهم.
ثم خرج ورسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد، حتى لقى ابا سفيان بن حرب ومن معه بالروحاء وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقالوا: أصبنا حد أصحابه وقادتهم وأشرافهم ثم نرجع قبل أن نستأصلهم! لنكرن على بقيتهم فلنفرغن منهم. فلما رأى أبو سفيان معبدا قال: ما وراءك يا معبد؟ قال: محمد قد خرج فى أصحابه يطلبكم فى جمع لم أر مثله قط يتحرقون عليكم تحرقا، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه فى يومكم وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنق عليكم شىء لم أر مثله قط. فقال: ويحك ما تقول؟ قال: والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصى الخيل. قال: فو الله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم. قال: فإنى أنهاك عن ذلك، والله لقد حملنى ما رأيت على أن قلت فيه أبياتا من الشعر. قال: وما قلت؟ قال قلت:
كادت تهد من الأصوات راحلتى ... إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل «1»
تردى بأسد كرام لا تنابلة ... عند اللقاء ولا ميل معازيل «2»
فظلت عدوا أظن الأرض مائلة ... لما سموا برئيس غير مخذول
فقلت ويل ابن حرب من لقائكم ... إذا تغطمطت البطحاء بالجيل «3»
__________
(1) تهد: تسقط من الإعياء لهول ما رأت من صوت الجيش وكثرته. والجرد: الخيل العتاق. والأبابيل: الجماعات.
(2) تردى: أى تسرع. والتنابلة: القصار. والميل: أى الذى لا رمح له.
(3) أبو حرب: هو أبو سفيان. وتغطمطت: أى اهتزت وارتجت. والجيل: الصنف من الناس.(1/390)
إنى نذير لأهل البسل ضاحية ... لكل ذى إربة منهم ومعقول
من جيش أحمد لا وخشا قنابلة ... وليس يوصف ما أنذرت بالقيل
فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه.
ومر به ركب من عبد القيس فقال: أبن تريدون؟ قالوا: نريد المدينة، قال: ولم؟
قالوا: نريد الميرة. قال: فهل أنتم مبلغون عنى محمدا رسالة أرسلكم بها إليه وأحمل لكم بهذه غدا زبيبا بعكاظ إذا ما أتيتموها؟ قالوا: نعم. قال: فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم. فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بحمراء الأسد فأخبروه بالذى قال أبو سفيان وأصحابه فقالوا: «حسبنا الله ونعم الوكيل» «1» .
ويقال: إنهم لما هموا بالرجعة إلى المدينة ليستأصلوا- كما زعموا- بقية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم صفوان بن أمية: لا تفعلوا فإن القوم قد حربوا وقد خشينا أن يكون لهم قتال غير الذى كان، فارجعوا. فرجعوا.
فقال النبى صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد حين بلغه أنهم هموا بالرجعة: «والذى نفسى بيده لقد سومت «2» لهم حجارة لو صبحوا بها لكانوا كأمس الذاهب» «3» .
وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم فى وجهه قبل رجوعه إلى المدينة معاوية بن المغيرة بن أبى العاص بن أمية بن عبد شمس جد عبد الملك بن مروان أبا أمه وأبا عزة الجمحى، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أسره ببدر ثم من عليه، وقد تقدم ذكر ذلك وذكر مقتله إياه فى هذه الأخذة الثانية صدر غزوة أحد، ولجأ معاوية بن المغيرة إلى عثمان بن عفان فاستأمن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنه على أنه إن وجد بعد ثلاث قتل، فأقام بعدها وتوارى. فبعث النبى زيد بن حارثة وعمار بن ياسر وقال: «إنكما ستجدانه بموضع كذا» «4» . فوجداه فقاتلاه.
__________
(1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (1/ 326) ، المعجم الكبير للطبرانى (12/ 128) ، الدر المنثور للسيوطى (2/ 101، 5/ 338) ، دلائل النبوة للبيهقى (3/ 317) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 1/ 48) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 50) ، السلسلة الصحيحة للألبانى (1079) ، زاد المسير لابن الجوزى (5/ 336، 505) ، تفسير ابن كثير (5/ 196) ، تفسير الطبرى (4/ 119، 29/ 95) ، تاريخ بغداد للخطيب البغدادى (11/ 86) .
(2) سومت: علمت.
(3) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 51) .
(4) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 51) .(1/391)
وكان يوم أحد يوم بلاء ومصيبة وتمحيص، اختبر الله به المؤمنين ومحن به المنافقين ممن كان يظهر الإيمان بلسانه وهو مستخف بالكفر فى قلبه، وأكرم الله فيه من أراد كرامته بالشهادة من أهل ولايته.
وكان مما أنزل الله- تبارك وتعالى- من القرآن فى شأن أحد ستون آية من آل عمران فى طاعة من أطاع، ونفاق من نافق، وصفة ما كان فى يومهم، وتعزية المؤمنين فى مصيبتهم ومعاتبة من عاتب منهم.
يقول الله تبارك وتعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. أى سميع لما يقولون عليم بما يخفون.
إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا أى تتخاذلا. والطائفتان: بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس، وهما الجناحان، يقول الله تبارك وتعالى: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما أى المدافع عنهما ما همتا به من ذلك برحمته وعائذته حتى سلمتا ولحقتا بنبيهما. وقيل: إنه لما أنزل الله- تعالى- فى هاتين الطائفتين قالتا: ما نحب أنا لم نهم بما هممنا لتولى الله إيانا فى ذلك.
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، أى من كان به ضعف من المؤمنين فليتوكل على وليستعن بى أعنه على أمره وأدفع عنه حتى أبلغ به وأقويه على نيته.
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ أقل عددا وأضعف قوة فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أى فاتقونى فإنه شكر نعمتى.
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ، أى إن تصبروا لعدوى وتطيعوا أمر ويأتوكم من وجههم هذا أمددكم بهذا العدد من الملائكة مسومين أى معلمين.
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، أى ما سميت لكم من سميته من جنود ملائكتى إلا لتستبشروا بذلك وتطمئن قلوبكم إليه، لما أعرف من ضعفكم، وما النصر إلا من عند الله لسلطانى وقدرتى، وذلك أن العزة والحكم لى لا إلى أحد من خلقى.
ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ(1/392)
ظالِمُونَ، أى ليس لك من الحكم شىء فى عبادى إلا ما أمرتك به فيهم، أو أتوب عليهم برحمتى فإن شئت فعلت، أو أعذبهم بذنوبهم فبحقى فإنهم ظالمون أى عصوا فاستوجبوا ذلك بمعصيتهم إياى.
ثم استقبل ذكر المصيبة التى نزلت بهم والبلاء الذى أصابهم والتمحيص لما كان فيهم واتخاذه الشهداء منهم، فقال تعزية لهم وتعريفا لهم فيما صنعوا وفيما هو صانع بهم: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ، أى قد مضت منى وقائع نقمة فى أهل التكذيب برسلى والشرك، فى عاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين، فرأوا مثلات قد مضت منى فيهم ولمن هو على مثل ما هم عليه: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ، أى نور وأدب لمن أطاعنى وعرف أمرى.
وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا، أى لا تضعفوا ولا تبتئسوا على ما أصابكم وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ لكم تكون العاقبة والظهور إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أى أن كنتم صدقتم نبيى بما جاءكم به عنى.
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ أى جراح فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ أى جراح مثلها وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ أى نصرفها للبلاء والتمحيص وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ، أى حسبتم أن تدخلوا الجنة فتصيبوا كرامة ثوابى ولم أختبركم بالشدة وأبتليكم بالمكاره حتى أعلم صدق ذلك منكم، الإيمان بى والصبر على ما أصابكم فىّ.
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ أى الشهادة مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ يعنى الذين استنهضوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخروج بهم إلى عدوهم يوم أحد لما فاتهم من يوم بدر رغبة فى الشهادة، يقول: فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ.
وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ، أى لقول الناس: قتل محمد. وانهزامهم عند ذلك وانصرافهم عن عدوهم.
أفئن مات أو قتل رجعتم عن دينكم كفارا كما كنتم، وتركتم جهاد عدوكم وكتاب ربكم وما خلف نبيه من دينه معكم وعندكم وقد بين لكم فيما جاءكم به عنى أنه ميت عنكم ومفارق لكم؟! وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ أى يرجع عن دينه فَلَنْ يَضُرَّ(1/393)
اللَّهَ شَيْئاً أى لن ينقص ذلك عز الله ولا ملكه ولا سلطانه ولا قدرته وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ أى من أطاعه وعمل بأمره.
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ أى من أراد الدنيا خاصة أتاه منها ما كتب له وما له فى الآخرة من نصيب، ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن آتاه منها ما وعد به مع ما يجرى عليه فى دنياه من رزقه المقدر له، وذلك هو جزاء الشاكرين أى المتقين.
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا، أى وكم من نبى أصابه القتل ومعه جماعات من أنصاره، فما وهنوا لفقد نبيهم وما ضعفوا عن عدوهم وما استكانوا لما أصابهم فى الجهاد عن الله وعن دينهم، وذلك هو الصبر وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ.
وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ، أى فقولوا مثل ما قالوا، واعلموا أن ذلك بذنوب منكم فاستغفروه كما استغفروا كما استغفروا، وامضوا على دينكم كما مضوا على دينهم ولا ترتدوا على أعقابكم راجعين، وسلوه كما سألوه أن يثبت أقدامكم وينصركم على القوم الكافرين. فكل هذا من قولهم كان وقد قتل نبيهم، ولم يفعلوا كما فعلتم.
فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا بالظهور على عدوهم وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ الذى به وعدهم وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ أى عن عدوكم فتذهب دنياكم وآخرتكم.
بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ فإن كان ما تقولون بألسنتكم صدقا عن قلوبكم فاعتصموا به ولا تنتصروا بغيره، ولا ترجعوا كفارا على أعقابكم مرتدين عن دينه.
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ الذى به كنت أنصركم عليهم جزاء لهم بما أشركوا بى، فلا تظنوا أن لهم عاقبة نصر ولا ظهورا عليكم ما اعتصمتم بى(1/394)
واتبعتم أمرى، وإنما أصابكم منهم ما أصابكم بذنوب قدمتموها لأنفسكم خالفتم بها أمرى وعصيتم فيها نبيى.
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ، أى لقد وفيت لكم ما وعدتكم من النصر على عدوكم إذ تحسونهم بالسيوف أى تستأصلونهم قتلا بإذنى وتسليطى أيديكم عليهم وكفى أيديهم عنكم حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ أى تخاذلتم وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ اختلفتم فيه وَعَصَيْتُمْ بترك أمر نبيكم، يعنى الرماة الذين عهد إليهم ألا يفارقوا مكانهم فخالفوا أمره حتى أتى المسلمون من قبلهم مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ أى الفتح لا شك فيه وهزيمة القوم عن نسائهم وأموالهم مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا أى النهب وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ أى الذين جاهدوا فى الله ولم يخالفوا إلى ما نهوا عنه ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، أى أنه سبحانه وإن عاقب من يشاء من عباده ببعض الذنوب فى عاجل الدنيا أدبا وموعظة، فإنه غير مستوف كل ماله فيهم من الحق بما أصابوا من معصية، فضلا من الله ورحمة.
ثم أنبهم بالفرار عن نبيهم وهو يدعوهم ولا يعطفون عليه فقال: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ أى كربا بعد كرب بقتل من قتل من إخوانكم وعلو عدوكم عليكم وما وقع فى أنفسكم حين سمعتم أنه قتل نبيكم لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ من الظهور على عدوكم بعد أن رأيتموه بأعينكم وَلا ما أَصابَكُمْ من قتل إخوانكم بما فرجت عنكم من الكرب بوقاية نبيكم وكشف كرب الشيطان فى الصراخ بقتله بينكم، فكان هذا هو الذى فرج الله به عنهم ما تابع عليهم من الغم، فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيا بين أظهرهم هان عليهم ما فاتهم من القوم بعد الظهور عليهم والمصيبة التى أصابتهم فيمن قتل منهم.
ثم قال تعالى بعد آيات ذكر فيها ما ذكر من قصة أحد وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ يعنى عبد الله بن أبى والراجعين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سار إلى عدوه عن المشركين. يقول الله تبارك وتعالى: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.(1/395)
ثم قال لنبيه عليه السلام يرغب المؤمنين فى الجهاد ويهون عليهم القتل: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.
قال عبد الله بن عباس رضى الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم فى أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوى إلى قناديل من ذهب فى ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا لئلا يزهدوا فى الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب» قال الله تبارك وتعالى: فأنا أبلغهم عنكم» «1» ؛ فأنزل الله- عز ذكره- على رسوله صلى الله عليه وسلم هذه الآيات: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلى آخرها.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشهداء على بارق نهر بباب الجنة فى قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا» «2» .
وسئل عبد الله بن مسعود عن هؤلاء الآيات: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً فقال: أما إنا قد سألنا عنها فقيل لنا: إنه لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم فى أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوى إلى قناديل من ذهب فى ظل العرش فيطلع الله إليهم اطلاعة، فيقول: يا عبادى، ما تشتهون فأزيدكم؟ فيقولون: ربنا لا فوق ما أعطيتنا، الجنة نأكل منها حيث شئنا. ثم يطلع الله إليهم اطلاعه فيقول: يا عبادى، ما تشتهون فأزيدكم؟ فيقولون: ربنا لا فوق ما أعطيتنا، الجنة نأكل منها حيث نشاء، ثم يطلع إليهم اطلاعة فيقول: يا عبادى، ما
__________
(1) انظر الحديث فى: سنن أبو داود (2520) ، مسند الإمام أحمد (1/ 266) ، السنن الكبرى للبيهقى (9/ 163) ، مستدركم الحاكم (2/ 88، 297) ، دلائل النبوة للبيهقى (3/ 304) ، مصنف ابن أبى شيبة (5/ 294) ، الدر المنثور للسيوطى (2/ 95) ، زاد المسير لابن الجوزى (1/ 499) ، تفسير ابن كثير (2/ 141) ، تفسير الطبرى (4/ 113) ، تفسير القرطبى (4/ 268) .
(2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (1/ 266) ، مستدرك الحاكم (2/ 74) ، المعجم الكبير للطبرانى (10/ 405) ، مصنف ابن أبى شيبة (5/ 290) ، إتحاف السادة المتقين (10/ 338) ، موارد الظمآن للهيثمى (1611) ، الدر المنثور للسيوطى (2/ 96) ، مجمع الزوائد للهيثمى (5/ 294، 298) ، كنز العمال للمتقى الهندى (11099) ، الترغيب والترهيب للمنذرى (2/ 323) ، تفسير الطبرى (2/ 34، 4/ 113) ، تفسير ابن كثير (2/ 142) .(1/396)
تشتهون فأزيدكم؟ فيقولون: ربنا لا فوق ما أعطيتنا، الجنة نأكل منها حيث شئنا، إلا أنا نحب أن ترد أرواحنا فى أجسادنا ثم تردنا إلى الدنيا فنقاتل فيك حتى نقتل فيك مرة أخرى» .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجابر بن عبد الله: «ألا أبشرك يا جابر؟» «1» قال: قلت: بلى يا رسول الله. قال: «إن أباك حيث أصيب بأحد أحياه الله، ثم قال: ما تحب يا عبد الله ابن عمرو أن أفعل بك؟ قال: أى رب أحب أن تردنى إلى الدنيا فأقاتل فيك فأقتل مرة أخرى» «2» .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذى نفسى بيده ما من مؤمن يفارق الدنيا يحب أن يرجع إليها ساعة من النهار وأن له الدنيا وما فيها، إلا الشهيد فإنه يحب أن يرد إلى الدنيا فيقاتل فى الله فيقتل مرة أخرى» .
واستشهد من المسلمين يوم أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار خمسة وستون رجلا، أربعة من المهاجرين وسائرهم من الأنصار وقتل الله من المشركين يومئذ اثنتين وعشرين رجلا.
وكان مما قيل من الشعر فى يوم أحد قول كعب بن مالك الأنصارى رحمه الله:
ألا هل أتى غسان عنا ودونهم ... من الأرض خرق سيره متنعنع
صحار وأعلام كأن قتامها ... من البعد نقع هامد متقطع
تظل به البزل العراميس رزحا ... ويخلو به غيث السنين فيمرع
به جيف الحسرى يلوح صليبها ... كما لاح كتان التجار الموضع
به العين والآرام يمشين خلفة ... وبيض نعام قيضه يتقلع
مجالدنا عن ديننا كل فخمة ... مذربة فيها القوانس تلمع
وكل صموت فى الصوان كأنها ... إذا لبست نهى من الماء مترع
ولكن ببدر سائلوا من لقيتم ... من الناس والأنباء بالغيب تنفع
وإنا بأرض الخوف لو كان أهلها ... سوانا لقد أجلوا بليل فأقشعوا
__________
(1) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (9/ 317) ، إتحاف السادة المتقين (5/ 24، 10/ 383) ، المغنى عن حمل الأسفار للعراقى (1/ 205، 4/ 480) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 44) .
(2) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 44) .(1/397)
إذا جاء منا راكب كان قوله ... أعدوا لما يزجى ابن حرب ويجمع
ولما ابتنوا بالعرض قال سراتنا ... علام إذا لم نمنع العرض نزرع
وفينا رسول الله نتبع أمره ... إذا قال فينا القول لا نتطلع
تدلى عليه الروح من عند ربه ... ينزل من جو السماء ويرفع
نشاوره فيما نريد وقصدنا ... إذا ما اشتهى أنا نطيع ونسمع
وقال رسول الله لما بدوا لنا ... ذروا عنكم هول المنيات واطمع
وكونوا كمن يشرى الحياة تقربا ... إلى ملك يحيا لديه ويرجع
ولكن خذوا أسيافكم وتوكلوا ... على الله إن الأمر لله أجمع
فسرنا إليهم جهرة فى رحالهم ... ضحيا علينا البيض لا نتخشع
بملمومة فيها السنور والقنا ... إذا ضربوا أقدامها لا تورع
فجئنا إلى موج من البحر وسطه ... أحابيش منهم حاسر ومقنع
ثلاثة آلاف ونحن نصيبة ... ثلاث مئين إن كثرنا وأربع
نعاورهم تجرى المنية بيننا ... نشارعهم حوض المنايا ونشرع
تهادى قسى النبع فينا وفيهم ... وما هو إلا اليثربى المقطع
ومنجوفة حرمية صاعدية ... يذر عليها السم ساعة تصنع
وخيل تراها بالفضاء كأنها ... جراد صبا فى قرة يتريع
فلما تلاقينا ودارت بنا الرحى ... وليس لأمر حمه الله مدفع
ضربناهم حتى تركنا سراتهم ... كأنهم بالقاع خشب مصرع
لدن غدوة حتى استفقنا عشية ... كأن ذكاها حر نار تلفع
وراحوا سراعا موجفين كأنهم ... جهام هراقت ماءه الريح مقلع
ورحنا وأخرانا بطاء كأنها ... أسود على لحم ببيشة ظلع
فنلنا ونال القوم منا وربما ... فعلنا ولكن ما لدى الله أوسع
ودارت رحانا واستدارت رحاهم ... وقد جعلوا كل من الشر يشبع
ونحن إناس لا نرى القتل سبة ... على كل من يحمى الذمار ويمنع
جلاد على ريب الحوادث لا ترى ... على هالك عين لنا الدهر تدمع
بنو الحرب لا نعيا بشئ نقوله ... ولا نحن مما جرت الحرب نجزع
وقال حسان بن ثابت يجيب عبد الله بن الزبعرى عن كلمة له على روى هذا الجواب يفخر فيها بيوم أحد، وكلتا الكلمتين ينكرها بعض أهل العلم لمن نسبت إليه:(1/398)
أشاقتك من أم الوليد ربوع ... بلاقع ما من أهلهن جميع
عفاهن ضيفى الرياح وواكف ... من الدلو زجاف السحاب هموع
فلم يبق إلا موقد النار حوله ... رواكد أمثال الحمام كنوع «1»
فدع ذكر دار بددت بين أهلها ... نوى لمتينات الحبال قطوع
وقل إن يكن يوم بأحد يعده ... سفيه فإن الحق سوف يشيع
فقد صابرت فيه بنو الأوس كلهم ... وكان لهم ذكر هناك رفيع
وحامى بنو النجار فيه وصابروا ... وما كان منهم فى اللقاء جزوع
أمام رسول الله لا يخذلونه ... لهم ناصر من ربهم وشفيع
وفوا إذ كفرتم يا سخين بربكم ... ولا يستوى عبد وفى ومضيع
بأيديهم بيض إذا حمش الوغى ... فلا بد أن يردى لهن صريع «2»
كما غادرت فى النقع عتبة ثاويا ... وسعدا صريعا والوشيج شروع «3»
وقد غادرت تحت العجاجة مسندا ... أبيا وقد بل القميص نجيع
يكف رسول الله حيث تنصبت ... على القوم مما قد يثرن نقوع
أولئك قوم سادة من فروعكم ... وفى كل قوم سادة وفروع
بهن نعز الله حتى يعزنا ... وإن كان أمر يا سخين فظيع
فلا تذكروا قتلى وحمزة فيهم ... قتيل ثوى لله وهو مطيع
فإن جنان الخلد منزلة له ... وأمر الذى يقضى الأمور سريع
وقتلاكم فى النار أفضل رزقهم ... حميم معا فى جوفها وضريع «4»
وقال كعب بن مالك يجيب ابن الزبعرى وعمرو بن العاص عن كلمتين قالاها فى ذلك:
أبلغ قريشا وخير القول أصدقه ... والصدق عند ذوى الألباب مقبول
أن قد قتلنا بقتلانا سراتكم ... أهل اللواء ففيما يكثر القيل
ويوم بدر لقيناكم لنا مدد ... فيه مع النصر ميكال وجبريل
إن تقتلونا فدين الحق فطرتنا ... والقتل فى الحق عند الله تفضيل
__________
(1) رواكد: الحجارة التى كانوا ينصبونها لوضع القدور عليها. وكنوع: أى لاصقة بالأرض.
(2) حمش: أى اشتد وقوى. ويردى: أى يهلك.
(3) ثاويا: أى مقيما.
(4) الضريع: نبات أخضر يرمى به البحر.(1/399)
وإن تروا أمرنا فى رأيكم سفها ... فرأى من خالف الإسلام تضليل
فلا تمنوا لقاح الحرب واقتعدوا ... إن أخا الحرب أصدى اللون مشغول
إنا بنو الحرب نمريها وننتجها ... وعندنا لذوى الأضغان تنكيل «5»
إن ينج منها ابن حرب بعدما بلغت ... منه التراقى وأمر الله مفعول «6»
فقد أفادت له حلما وموعظة ... لمن يكون له لب ومعقول
ولو هبطتم ببطن السيل كافحكم ... ضرب بشاكلة البطحاء ترعيل «7»
تلقاكم عصب حول النبى لهم ... مما يعدون للهيجا سرابيل «8»
من جذم غسان مسترخ حمائلهم ... لا جبناء ولا ميل معازيل
يمشون تحت عمايات القتال كما ... تمشى المصاعبة الأدم المراسيل «9»
أو مثل مشى أسود الظل ألثقها ... يوم رذاذ من الجوزاء مشمول
فى كل سابغة كالنهى محكمة ... قيامها فلح كالسيف بهلول «10»
ترد حد قدان النبل خاسئة ... ويرجع السيف عنها وهو مفلول
ولو قذفتم بسلع عن ظهوركم ... وللحياة ودفع الموت تأجيل «11»
ما زال فى القوم وتر منكم أبدا ... تعفو السلام عليه وهو مطلول «12»
وقال كعب- أيضا فى يوم أحد من قصيدة يفخر فيها بقومه:
فإن كنت عن شأننا سائلا ... فسل عنه ذا العلم ممن يلينا
بنا كيف نفعل إن قلصت ... عوانا ضروسا عضوضا حجونا
ألسنا نشد عليها العقا ... ب حتى تدر وحتى تلينا
ويوم له وهج دائم ... شديد التهاول حامى الأرينا
طويل شديد أوار القتا ... ل يبغى حواقره المقرفينا
تخال الكماة بأعراضه ... ثمالى على لذة منزفينا
__________
(5) نمريها: نستدرها. والأضغان: أى العداوة.
(6) التراقى: عظام الصدر.
(7) شاكلة البطحاء: أى جانبها. والترعيل: أى الضرب السريع.
(8) الهيجا: أى الحرب.
(9) المصاعبة: الفحول من الإبل.
(10) السالفة: الدرع الكاملة الشاملة.
(11) سلع: اسم جبل.
(12) تعفو: تذهب آثارها. والسلام: الحجارة. ومطول: لم يؤخذ بثأره.(1/400)
تعاور أيمانهم بينهم ... كؤوس المنايا بحد الظبينا
شهدنا فكنا أولى بأسه ... وتحت العماية والمعلمينا
بخرس الحسيس حسان رواء ... وبصرية قد أجمن الجفونا
فما ينفللن وما ينحنين ... وما ينتهين إذا ما نهينا
كبرق الخريف بأيدى الكماة ... يفجعن بالطل هاما سكونا
وعلمنا الضرب آباؤنا ... وسوف نعلم أيضا بنينا
جلاد الكماة وبذل التلا ... د عن جل أحسابنا ما بقينا
إذا مر قرن كفى نسله ... وأورثه بعده آخرينا
تشب وتهلك آباؤنا ... وبينا نربى بنينا فنينا
وقال حسان بن ثابت يبكى حمزة بن عبد المطلب رضى الله عنه:
أتعرف الدار عفا رسمها ... بعدك صوب السبل الهاطل «1»
بين السراديح فأدمانة ... فمدفع الروحاء فى حائل «2»
سألتها عن ذاك فاستعجمت ... لم تدر ما مرجوعة السائل «3»
دع عنك دارا قد عفا رسمها ... وابك على حمزة ذى النائل «4»
المالئ الشيزى إذا أعصفت ... غبراء فى ذى الشبم الماحل «5»
والتارك القرن لدى لبدة ... يعثر فى ذى الخرص الذابل «6»
واللابس الخيل إذ أجحمت ... كالليث فى غابته الباسل
أبيض فى الذروة من هاشم ... لم يمر دون الحق بالباطل
مال شهيدا بين أسيافكم ... شلت يدا وحشى من قاتل «7»
أى امرئ غادر فى ألة ... مطرورة مارنة العامل «8»
__________
(1) عفا: أى غير ودرس. ورسمها: أى أثرها.
(2) السراديح: جمع سرادح، وهو الوادى. وأدمانة: اسم موضع. والروحاء: اسم موضع. وحائل: جبل.
(3) استعجمت: أى لم ترد جوابا. ومرجوعة السائل: أى رجوع جوابه.
(4) النائل: أى العطاء.
(5) الشيزى: الجفان التى تصنع من خشب الشيز.
(6) القرن: الذى يقاومك فى القتال. واللبدة: أى الغبار الملبد.
(7) وحشى: هو قاتل حمزة.
(8) والألة: الحربة التى لها سنان طويل. والمطرورة: أى المحددة. والمارنة: أى اللينة. والعامل: أعلى(1/401)
أظلمت الأرض لفقدانه ... واسود نور القمر الناصل
صلى عليه الله فى جنة ... عالية مكرمة الداخل
كنا نرى حمزة حرزا لنا ... فى كل أمر نابنا نازل
وكان فى الإسلام ذا تدرأ ... يكفيك فقد القاعد الخاذل
لا تفرحى يا هند واستحلبى ... دمعا وأذرى عبرة الثاكل
وابك على عتبة إذ قطه ... بالسيف تحت الرهج الجائل
إذا خر فى مشيخة منكم ... من كل عات قلبه جاهل
أرداهم حمزة فى أسرة ... يمشون تحت الحلق الفاضل
غداة جبريل وزير له ... نعم وزير الفارس الحامل
وقال عبد الله بن رواحة يبكى حمزة، وتروى- أيضا- لكعب بن مالك رضى الله عنهم أجمعين:
بكت عينى وحق لها بكاها ... وما يغنى البكاء ولا العويل
على أسد الإله غداة قالوا ... أحمزة ذاكم الرجل القتيل
أصيب المسلمون به جميعا ... هناك وقد أصيب به الرسول
أبا يعلى لك الأركان هدت ... وأنت الماجد البر الوصول
عليك سلام ربك فى جنان ... مخالطها نعيم لا يزول
وقالت صفية بنت عبد المطلب تبكى أخاها حمزة رضى الله عنهما:
أسائلة أصحاب أحد مخافة ... بنات أبى من أعجم وخبير
فقال الخبير إن حمزة قد ثوى ... وزير رسول الله خير وزير
دعاه الإله الحق ذو العرش دعوة ... إلى جنة يحيا بها وسرور
فذلك ما كنا نرجى ونرتجى ... لحمزة يوم الحشر خير مصير
فو الله لا أنساك ما هبت الصبا ... بكاء وحزنا محضرى ومسيرى
على أسد الله الذى كان مدرها ... يذود عن الإسلام كل كفور
فيا ليت شلوى عند ذاك وأعظمى ... لدى أضبع تعتادنى ونسور
أقول وقد أعيى النعى عشيرتى ... جزى الله خيرا من أخ ونصير
وقالت نعم امرأة شماس بن عثمان تبكى زوجها شماسا وأصيب يوم أحد:
__________
أعلى الرمح.(1/402)
يا عين جودى بفيض غير إبساس ... على كريم من الفتيان لباس
صعب البديهة ميمون نقيبته ... حمال ألوية ركاب أفراس «1»
أقول لما أتى الناعى له جزعا ... أودى الجواد وأودى المطعم الكاسى «2»
وقلت لما خلت منه مجالسه ... لا يبعد الله عنا قرب شماس
فأجابها أخوها يعزيها فقال:
اقنى حياءك فى ستر وفى كرم ... فإنما كان شماس من الناس «3»
لا تقتلى النفس إذ حانت منيته ... فى طاعة الله يوم الروع والباس «4»
قد كان حمزة ليث الله فاصطبرى ... فذاق يومئذ من كأس شماس
وقالت هند بنت عتبة حين انصرف المشركون عن أحد:
رجعت وفى نفسى بلابل جمة ... وقد فاتنى بعض الذى كان مطلبى «5»
من أصحاب بدر من قريش وغيرهم ... بنى هاشم منهم ومن أهل يثرب
ولكننى قد نلت شيئا ولم يكن ... كما كنت أرجو فى مسيرى ومركبى
وهذه هند أم معاوية بن أبى سفيان، وكانت امرأة فيها مكارة وذكورة ولها نفس وأنفة، وكان المسلمون قد أصابوا يوم بدر أباها عتبة وعمها شيبة وأخاها الوليد، فأصابها من ذلك ما يصيب من مثله النفوس الشهمة والقلوب الكافرة، فخرجت إلى أحد مع زوجها أبى سفيان تبتغى الانتصار وتطلب الأوتار، فهذا قولها- يرحمها الله- والوتر يقلقها والكفر يحنقها والحزن يحرقها والشيطان ينطقها.
ثم إن الله سبحانه هداها إلى الإسلام وأخذ بحجزتها عن سواء النار، فصلحت حالها وتبدلت أقوالها، حتى قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قالت له: والله يا رسول الله، ما كان على الأرض أهل خباء أحب إلى أن يذلوا من أهل خبائك، وما أصبح اليوم الأرض خباء أحب إلى أن يعزوا من أهل خبائك. أو نحو هذا من القول.
فالحمد لله الذى هدانا برسوله أجمعين، وإياه سبحانه نسأل أن يميتنا على خير ما هدانا إليه، لا مبدلين ولا مغيرين.
***
__________
(1) البديهة: أول الأمر والرأى. وميمون نقيبته: أى مسعود الفأل. والألوية: جمع لواء، وهو العلم.
(2) الناعى: الذى يأتى بخبر الميت.
(3) اقنى حياءك: أى حافظى عليه ولا تخرجى عنه.
(3) اقنى حياءك: أى حافظى عليه ولا تخرجى عنه.
(4) المنية: أى الموت. والروع: أى الفزع. والبأس: أى الشجاعة.
(5) البلابل: أى الأحزان.(1/403)
غدر عضل والقارة بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أحد رهط من عضل والقارة، وهم بنو الهون ابن خزيمة بن مدركة، فقالوا له: يا رسول الله، إن فينا إسلاما فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهوننا فى الدين ويقرئوننا القرآن ويعلموننا شرائع الإسلام.
فبعث معهم ستة من أصحابه: مرثد بن أبى مرثد الغنوى «1» وأمره عليهم، وخالد بن البكير «2» ، وعاصم بن ثابت بن أبى الأقلح، وخبيب بن عدى «3» ، وزيد بن الدثنة «4» ، وعبد الله بن طارق «5» .
فخرجوا حتى إذا كانوا على الرجيع، ماء لهذيل بناحية الحجاز من صدر الهدأة «6» ، غدروا بهم فاستصرخوا عليهم هذيلا فلم يرع القوم وهم فى رحالهم إلا الرجال بأيديهم السيوف قد غشوهم، فأخذوا أسيافهم ليقاتلوا القوم فقالوا لهم: إنا والله ما نريد قتلكم، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئا من أهل مكة، ولكم عهد الله وميثاقه أن لا نقتلكم.
فأما مرثد وخالد وعاصم فقالوا: والله لا نقبل من مشرك عهدا ولا عقدا أبدا. وقال عاصم:
ما علتى وأنا جلد نابل ... والقوس فيها وتر عنابل «7»
__________
(1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (7895) ، أسد الغابة ترجمة رقم (4831) ، البداية والنهاية (6/ 353) ، تجريد أسماء الصحابة (2/ 68) ، تهذيب الكمال (3/ 1314) ، تهذيب التهذيب (10/ 82) .
(2) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (2153) ، أسد الغابة ترجمة رقم (1348) ، طبقات ابن سعد (3/ 1/ 283) .
(3) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (2227) ، أسد الغابة ترجمة رقم (1417) ، حلية الأولياء (1/ 112، 114) .
(4) انظر ترجمته فى: أسد الغابة ترجمة رقم (1835) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 199) ، الإصابة ترجمة رقم (2605) .
(5) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (4787) ، أسد الغابة ترجمة رقم (3026) .
(6) الهدأة: موضع بين عسفان ومكة.
(7) النابل: صاحب النبل. وعنابل: أى غليظ شديد.(1/404)
تزل عن صفحتها المعابل ... الموت حق والحياة باطل
وكل ما حم الإله نازل ... بالمرء والمرء إليه آثل
إن لم أقاتلكم فأمى هابل
ثم قاتل القوم حتى قتل وقتل صاحباه رحمهم الله.
فلما قتل عاصم ارادت هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد بمكة، وكانت حين أصاب ابنيها يوم أحد نذرت لئن قدرت على راس عاصم لتشربن فى قحفة الخمر، فمنعه الدبر فقالوا: دعوه حتى يمسى فتذهب عنه فنأخذه. فبعث الله الوادى فاحتمل عاصما فذهب به.
وقد كان عاصم أعطى الله عهدا أن لا يمس مشركا وألا يمسه مشرك أبدا، تنجسا!
فكان عمر بن الخطاب يقول: يحفظ الله العبد المؤمن! كان عاصم نذر أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركا أبدا فى حياته، فمنعه الله بعد وفاته كما امتنع منه فى حياته.
وأما زيد بن الدثنة وخبيب بن عدى وعبد الله بن طارق فلانوا ورقوا ورغبوا فى الحياة، فأعطوا بأيديهم فأسروهم، ثم خرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها، حتى إذا كانوا بالظهران «1» انتزع عبد الله بن طارق يده من القران ثم أخذ سيفه واستأخر عنه القوم، فرموه بالحجارة حتى قتلوه، فقبره بالظهران.
وأما خبيب بن عدى وزيد بن الدثنة فقدموا بهما مكة فابتاع خبيبا حجير بن أبى إهاب التميمى لعقبة بن الحارث بن عامر بن نوفل ليقتله بأبيه.
وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف، فبعث به مع مولى له يقال له: نسطاس إلى التنعيم، فأخرجوه من الحرم ليقتلوه، واجتمع رهط من قريش منهم أبو سفيان بن حرب، فقال له أبو سفيان لما قدم ليقتل: أنشدك الله يا زيد، أتحب أن محمدا الآن عندنا مكانك تضرب عنقه وأنك فى أهلك؟ فقال: والله ما أحب أن محمدا الآن فى مكانه الذى هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنى جالس فى أهلى!
يقول أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا.
ثم قتله- رحمه الله- نسطاس مولى صفوان.
__________
(1) الظهران: واد قرب مكة عنده قرية يقال لها: مرّ، تضاف إلى هذا الوادى، فيقال: واد الظهران. انظر: معجم البلدان (4/ 63) .(1/405)
قال ابن عقبة: وزعموا أنهم رموه بالنبل وأرادوا فتنته فلم يزده إلا إيمانا ويقينا.
وأما خبيب بن عدى فجلس بمكة فى بيت ماوية مولاة حجير بن أبى إهاب، فكانت تخبر بعد ما أسلمت، قالت: لقد اطلعت عليه يوما وإن فى يده لقطفا من عنب مثل رأس الرجل يأكل منه، وو الله ما أعلم فى أرض الله عنبا يؤكل!
قالت: وقال لى حين حضره القتل: ابعثى إلى بحديدة أتطهر بها للقتل، فأعطيت الموسى غلاما من الحى فقلت: ادخل بها على هذا الرجل، قالت: فو الله ما هو إلا أن ولى الغلام بها إليه، فقلت: ماذا صنعت؟ أصاب والله الرجل ثأره يقتل هذا الغلام، فيكون رجلا برجل. فلما ناوله الحديدة أخذها من يده ثم قال: لعمرك ما خافت أمك غدرى حين بعثتك بهذه الحديدة إلىّ؟ ثم خلى سبيله.
ثم خرجوا بخبيب حتى إذا جاؤا به التنعيم ليصلبوه قال لهم: إن رأيتم أن تدعونى حتى أركع ركعتين فافعلوا. قالوا له؛ دونك فاركع. فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما، ثم أقبل على القوم فقال: أما والله لولا تظنوا أنى إنما طولت جزعا من القتل لا ستكثرت من الصلاة.
فكان خبيب أول من سن هاتين الركعتين عند القتل للمسلمين.
ثم رفعوه على خشبة، فلما أوثقوه قال: اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك فبلغه الغداة ما يصنع بنا. ثم قال: اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا ولا تغادر منهم أحدا. ثم قتلوه.
فكان معاوية بن أبى سفيان يقول: حضرت- يومئذ- فيمن حضره مع أبى أبى سفيان، فلقد رأيته يلقينى فى الأرض فرقا من دعوة خبيب، وكانوا يقولون: الرجل إذا دعى عليه فاضطجع لجنبه زلت عنه.
وكان ممن حضره- يومئذ- سعيد بن عامر بن جذيم الجمحى «1» ، ثم أسلم بعد ذلك واستعمله عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- على بعض الشام، فكانت تصيبه غشية بين ظهرى القوم، فذكر ذلك لعمر وقيل: إن الرجل مصاب. فسأله عمر- رحمه الله- فى قدمة قدمها عليه فقال: يا سعيد، ما هذا الذى يصيبك؟ قال: والله يا أمير
__________
(1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (3280) ، أسد الغابة ترجمة رقم (2084) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 223) ، شذرات الذهب (2) ، الجرح والتعديل (4/ ترجمة 205) ، حلية الأولياء (1/ 368) ، الطبقات الكبرى (7/ 242، 402) ، صفة الصفوة (1/ 660) ، الوافى بالوفيات (15/ 320) ، البداية والنهاية (6/ 103) .(1/406)
المؤمنين ما بى من بأس، ولكنى كنت فيمن حضر خبيب بن عدى حين قتل وسمعت دعوته، فو الله ما خطرت على قلبى وأنا فى مجلس قط إلا وغشى على فزادته عند عمر خيرا.
وذكر ابن عقبة أن خبيبا وزيدا قتلا فى يوم واحد، قال: وزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو جالس فى ذلك اليوم الذى قتلا فيه: «وعليكما أو وعليك السلام، خبيب قتلته قريش» ، لا ندرى أذكر ابن الدثنة معه أم لا.
وقال خبيب- رحمه الله- لما اجتمع القوم لصلبه:
لقد جمع الأحزاب حولى وألبوا ... قبائلهم واستجمعوا كل مجمع «1»
وكلهم مبدى العداوة جاهد ... علىّ لأنى فى وثاق بمضيع
وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم ... وقربت من جذع طويل ممنع
إلى الله أشكو غربتى ثم كربتى ... وما أرصد الأحزاب لى عند مصرعى
فذا العرش صبرنى على ما يراد بى ... فقد بضعوا لحمى وقد ياس مطمعى
وذلك فى ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع
وقد خيرونى الكفر والموت دونه ... وقد هملت عيناى من غير مجزع «2»
وما بى حذار الموت إنى لميت ... ولكن حذارى جحيم نار ملفع «3»
ولست أبالى حين أقتل مسلما ... على أى جنب كان فى الله مصرعى
فلست بمبد للعدو تخشعا ... ولا جزعا إنى إلى الله مرجعى
وقال حسان بن ثابت يبكى خبيبا:
يا عين جودى بدمع منك منسكب ... وابكى خبيبا مع الفتيان لم يؤب
صقرا توسط فى الأنصار منصبه ... سمح السجية محضا غير مؤتشب
قد هاج عينى على علات عبرتها ... إذ قيل نص إلى جذع من الخشب
يا أيها الراكب الغادى لطيته ... أبلغ اليك وعيدا ليس بالكذب «4»
بنى كهينة أن الحرب قد لقحت ... محلوبها الصاب إذ تمرى لمحتلب
فيها أسود بنى النجار تقدمهم ... شهب الأسنة فى معصوصب لجب
__________
(1) ألبوا: أى جمعوا. ومجمع: مكان الاجتماع.
(2) هملت عيناى: أى سال دمعها.
(3) الجحيم: أى الملتهب المتقد. والملفع: أى المشتمل.
(4) الطية: ما انطوت عليه نيتك من الجهة التى تريد أن تتوجه إليها.(1/407)
وقال حسان- أيضا- يهجو هذيلا:
لعمرى لقد شانت هذيل بن مدرك ... أحاديث كانت فى خبيب وعاصم
أحاديث لحيان صلوا بقبيحها ... ولحيان جرامون شر الجرائم «1»
أناس هم من قومهم فى صميمهم ... بمنزلة الزمعان دبر القوائم
هم غدروا يوم الرجيع وأسلمت ... أمانتهم ذا عفة ومكارم
رسول رسول الله غدرا ولم تكن ... هذيل توقى منكرات المحارم
فسوف يرون النصر يوما عليهم ... بقتل الذى يحميه دون المحارم
أبابيل دبر شمس دون لحمه ... حمت لحم شهاد عظام الملاحم
لعل هذيلا أن يروا بمصابه ... مصارع قتلى أو مقاما لمأتم
ويوقع فيهم وقعة ذات صولة ... يوافى بها الركبان أهل المواسم
بأمر رسول الله إن رسوله ... رأى رأى ذى حزم بلحيان عالم
قبيلته ليس الوفاء يهمهم ... وإن ظلموا لم يدفعوا كف ظالم
إذا الناس حلوا بالقضاء رأيتهم ... بمجرى مسيل الماء بين المخارم «2»
محلهم دار البوار ورأيهم ... إذا نابهم أمر كرأى البهائم
غزوة بئر معونة «3»
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحاب بئر معونة فى صفر على رأس أربعة أشهر من أحد.
وكان من حديثهم أن أبا براء ملاعب الأسنة، واسمه عامر بن مالك بن جعفر قدم المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام ودعاه إليه، فلم يسلم ولم يبعد من الإسلام، وقال: يا محمد، لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنى أخشى عليهم أهل نجد» «4» . قال: أنا لهم جار فابعثهم.
__________
(1) صلوا بقبيحها: أى أصابهم شرها. وجرامون: أى كاسبون.
(2) المخارم: مسايل الماء التى يخرمها السيل، أى يقطعها.
(3) راجع الغزوة فى: الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 51، 54) ، المنتظن لابن الجوزى (3/ 198) ، المغازى للواقدى (1/ 346) .
(4) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 128) ، دلائل النبوة للبيهقى (3/ 339) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 73) .(1/408)
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو أخا بنى ساعدة، المعنق ليموت، فى أربعين رجلا من أصحابه، منهم الحارث بن الصمة، وحرام بن ملحان، وعروة بن أسماء بن الصلت السلمى، ونافع بن بديل بن ورقاء، وعامر بن فهيرة، فى رجال مسمين من خيار المسلمين.
فساروا حتى نزلوا بئر معونة وهى بين أرض بنى عامر وحرة بنى سليم، كلا البلدين منها قريب، وهى إلى حرة بنى سليم أقرب.
فلما نزلوها بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدو الله عامر بن الطفيل، فلما أتاهم لم ينظر فى كتابه حتى عدا على الرجل فقتله، ثم استصرخ عليهم بنى عامر فأبوا أن يجيبوه، وقالوا: لن نخفر أبا براء، وقد عقد لهم عقدا وجوارا.
فاستصرخ عليهم قبائل من بنى سليم: عصية ورعلا وذكوان، فأجابوه إلى ذلك، فخرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم فى رحالهم فلما رأوهم أخذوا سيوفهم ثم قاتلوهم حتى قتلوا من عند آخرهم رحمهم الله، إلا كعب بن زيد أخا بنى دينار بن النجار- يرحمه الله- فإنهم تركوه وبه رمق فارتث من بين القتلى فعاش حتى قتل يوم الخندق شهيدا.
وكان فى سرح القوم عمرو بن أمية الضمرى، ورجل من الأنصار من بنى عمرو بن عوف قيل: إنه المنذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح، فلم ينبئهما بمصاب أصحابهما إلا الطير تحوم على العسكر فقالا: والله إن لهذا الطير لشأنا.
فأقبلا لينظرا فإذا القوم فى دمائهم وإذا الخيل التى اصابهم واقفة.
فقال الأنصارى لعمرو بن أمية: ما ترى؟
قال: أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره الخبر. فقال الأنصارى: لكنى ما كنت لأرغب بنفسى عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، وما كنت لتخبرنى عنه الرجال.
ثم قاتل القوم حتى قتل.
وأخذوا عمرو بن أمية أسيرا، فلما أخبرهم أنه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل وجز ناصيته وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمه.
فخرج عمرو بن أمية حتى إذا كان بالقرقرة من صدر قناة أقبل رجلان من بنى عامر حتى نزلا معه فى ظل هو فيه فسألهما ممن أنتما؟ فقالا: من بنى عامر. فأمهلهما حتى(1/409)
إذا ناما عدا عليهما فقتلهما، وهو يرى أنه قد أصاب بهما ثؤرة من بنى عامر فى ما أصابوه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مع العامريين عقد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوار لم يعلم به عمرو بن أمية، فلما قدم عمرو على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر قال: لقد قتيلين لأدينهما. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا عمل أبى براء، قد كنت لهذا كارها متخوفا» «1» .
وكان فيمن أصيب- يومئذ- عامر بن فهيرة، فكان عامر بن الطفيل يقول: من رجل منهم لما قتل رأيته رفع بين السماء والأرض حتى رأيت السماء دونه؟ قالوا: هو عامر بن فهيرة.
وذكر ابن عقبة أنه لم يوجد جسد عامر بن فهيرة يومئذ، فيرون أن الملائكة هى وارته، رحمة الله عليه.
وكان جبار بن سلمى فيمن حضرها- يومئذ- مع عامر بن الطفيل ثم أسلم فكان يقول: إن مما دعانى إلى الإسلام أنى طعنت رجلا منهم بالرمح بين كتفيه، فنظرت إلى سنان الرمح حين خرج من صدره، فسمعته يقول: فزت والله! فقلت فى نفسى: ما فاز! ألست قد قتلت الرجل؟! حتى سألت بعد ذلك عن قوله فقالوا: الشهادة. فقلت: فاز لعمر الله.
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو فى صلاة الغداة على الذين قتلوا أصحاب بئر معونة، يدعو على رعل وذكوان وعصية الذين عصوا الله ورسوله، وأنزل فيمن قتل هنالك قرآن ثم رفع: «بلغوا عنا قومنا أن لقينا ربنا فرضى عنا ورضينا عنه» .
ذكر غزوة بنى النضير «2» والسبب الذى هاج الخروج إليهم
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إليهم يستعينهم فى دية العامرين، اللذين قتل عمرة
__________
(1) انظر الحديث فى: الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 37) ، دلائل النبوة للبيهقى (3/ 341) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 129) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 73) .
(2) راجع هذه الغزوة فى: المغازى للواقدى (1/ 363) ، طبقات ابن سعد (1/ 2/ 40) ، تاريخ الطبرى (2/ 550) ، الكامل (2/ 64) ، صحيح البخارى (5/ 88) ، فتح البارى (7/ 329) ، عيون الأثر (2/ 61) ، الدرر لابن عبد البر (164) ، البداية والنهاية (4/ 74) ، دلائل النبوة للبيهقى (3/ 176، 354) .(1/410)
ابن أمية الضمرى، للجور الذى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد لهما، فقالوا له لما كلمهم فى ذلك: نعم، يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه، اجلس حتى تطعم وترجع بحاجتك.
فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ظل جدار من جدر بيوتهم معه نفر من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلى، ينتظرون أن يصلحوا أمرهم.
فخلا بعضهم ببعض والشيطان معهم لا يفارقهم، فائتمروا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، فمن رجل يعلو على هذا البيت فيقلى عليه صخرة فيريحنا منه.
فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب، أحدهم، فقال: أنا لذلك وصعد ليفعل.
فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام راجعا إلى المدينة وترك أصحابه فى مجلسهم، فلما استلبث النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه قاموا فى طلبه، فلقوا رجلا مقبلا من المدينة فسألوه عنه فقال: لقيته داخلا المدينة، فأقبلوا حتى انتهوا إليه فأخبرهم بما كانت يهود أرادت من الغدر به.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والسير إليهم، ثم سار بالناس ونزل بهم، فتحصنوا منه فى الحصون.
وعرض عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجلاء عن أوطانهم وأن يسيروا حيث شاؤا فراسلهم أولياؤهم من المنافقين- عبد الله بن أبى فى رهط من قومه- حين سمعوا ما يراد منهم: أن اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم، إن قاتلتم قاتلنا معكم، وإن خرجتم خرجنا معكم.
فغرتهم أمانى المنافقين، ونادوا النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه: إنا والله لا نخرج، ولئن قاتلتنا لنقاتلنك.
فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر الله فيهم، فلما انتهى إلى أزقتهم وحصونهم كره أن يمكنهم من القتال فى دورهم وحصونهم، فحفظ الله له أمره وعزم له على رشده، فأمر بالأدنى فالأدنى من دورهم أن تهدم وبالنخيل أن تحرق وتقطع، وكف الله أيديهم وأيدى المنافقين فلم ينصروهم، وألقى الله فى قلوب الفريقين كليهما الرعب، فهدموا الدور التى هم فيها من أدبارها، فلما كادوا يبلغون آخر دورهم وهم ينتظرون المنافقين(1/411)
ويتربصون من نصرهم ما كانوا يمنونهم به حتى يئسوا مما عندهم، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى كان عرض عليهم قبل ذلك.
فقاضاهم- صلوات الله عليه وسلامه- على أن يجليهم ويكف عن دمائهم وعلى أن لهم ما استقلت به الإبل من أموالهم إلا الحلقة فقط.
فطاروا بذلك كل مطير وتحملوا بما أقلت إبلهم، حتى إن الرجل ليهدم بيته عن نجاف بابه فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به. فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام، وكان أشرافهم بنو أبى الحقيق وحيى بن أخطب فيمن سار إلى خيبر، فلما نزلوها دان لهم أهلها.
وخلى بنو النضير الأموال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت له خاصة بحكم الله له بها ليضعها حيث شاء، فقسمها على المهاجرين الأولين دون الأنصار، إلا أن سهل بن حنيف وأبا دجانة سماك بن خرشة ذكرا فقرا فأعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم منها.
وكانت اليهود قد عيروا المسلمين حين يهدمون الدور ويقطعون النخل فنادوا: أن محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخيل وتحريقها؟
وما ذنب شجرة وأنتم تزعمون أنكم مصلحون فى الأرض؟!
فأنزل الله- سبحانه- فى قصتهم وما ذكروه من قولهم وبيان وجه الحكم فى أموالهم سورة الحشر بأسرها. فقال عز من قائل:
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ، للذى كان منهم من الهدم من أدبار بيوتهم وهدم المسلمين لما يليهم منها.
وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا أى بالسيف وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ أى مع ما لقوه فى الدنيا من النقمة.
ثم قال- تعالى- فيما عابوه من قطع النخيل وعدوه من ذلك فسادا: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ أى فبأمر الله قطعت، لم يكن ذلك فسادا بل نقمة أنزلها بهم وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ.(1/412)
ثم بين تعالى لرسوله الحكم فى أموالهم وأنها نفل له لا سهم لأحد فيها معه فقال عز ذكره وجل قوله: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن أراه الله من المهاجرين الأولين كما تقدم، وأعطى منها الرجلين المسميين من الأنصار.
وقال على بن أبى طالب يذكر إجلاء بنى النضير وما تقدم قبل ذلك من قتل كعب ابن الأشرف، ويقال: بل قالها رجل من المسلمين غير علىّ:
عرفت ومن يعتدل يعرف ... وأيقنت حقا ولم أصدف «1»
عن الكلم المحكم اللاء من ... لدى الله ذى الرأفة الأراف
رسائل تدرس فى المؤمنين ... بهن اصطفى أحمد المصطفى
فأصبح أحمد فينا عزيزا ... عزيز المقامة والموقف «2»
فيا أيها الموعدوه سفاها ... ولم يأت جورا ولم يعنف «3»
ألستم تخافون أدنى العذاب ... وما آمن الله كالأخوف
وأن تصرعوا تحت أسيافه ... كمصرع كعب أبى الأشرف
غداة رأى الله طغيانه ... وأعرض كالجمل الأحنف
فأنزل جبريل فى قتله ... بوحى إلى عبده ملطف
فدس الرسول رسولا له ... بأبيض ذى هبة مرهف
فباتت عيون له معولات ... متى ينع كعب لها تذرف «4»
وقلن لأحمد ذرنا قليلا ... فإنا من النوح لم نشتف
فخلاهم ثم قال اظعنوا ... دحورا على رغم الآنف
وأجلى النضير إلى غربة ... وكانوا بدار ذوى زخرف
إلى أذرعات ردافى وهم ... على كل ذى دبر أعجف «5»
__________
(1) لم أصدف: لم أعرض.
(2) المقامة: موضع الإقامة.
(3) السفاه: الضلال. لم يعتف: أى لم يأتى غير العفة.
(4) معولات: باكيات بصوت مرتفع. ينعى: يذكر خبر قتله. تذرف: تسيل بالدموع.
(5) أذرعات: بلد فى أطراف الشام يجاور أرض البلقاء ينسب إليها الخمر. انظر: معجم البلدان (1/ 130) .(1/413)
ولم يسلم من بنى النضير إلا رجلان: يامين بن عمير بن كعب «1» ، ابن عم عمرو بن جحاش، وأبو سعد بن وهب «2» ، أسلما خوفا على أموالهما فأحرزاها، وحدث بعض آل يامين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليامين: «ألم تر ما لقيت من ابن عمك وما هم به من شأنى؟» «3» فجعل يامين لرجل جعلا على أن يقتل عمرو بن جحاش فقتله، فيما يزعمون.
غزوة ذات الرقاع «4»
ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد غزوة بنى النضير شهر ربيع وبعض جمادى، ثم غزا نجدا يريد بنى محارب وبنى ثعلبة من غطفان حتى نزل نخلا.
وهى غزوة ذات الرقاع وسميت بذلك لأنهم رقعوا فيها راياتهم، وقيل: لأجل شجرة بذلك الموضع يقال لها: ذات الرقاع. وقيل: لما كانوا يعصبون على أرجلهم من الخرق إذ نقبت أقدامهم.
فلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم هنالك جمعا من غطفان، فتقارب الناس ولم يكن بينهم حرب وخاف الناس بعضهم بعضا، حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بالناس صلاة الخوف، ثم انصرف بهم.
وفى هذه الغزوة عرض له رجل من محارب يقال له: غورث، وقد قال لقومه من غطفان ومحارب: ألا أقتل لكم محمدا؟ قالوا: بلى، وكيف تقتله؟ قال: أفتك به. فأقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس وسيفه فى حجره فقال: يا محمد، أنظر إلى سيفك هذا؟
قال: «نعم» «5» . فأخذه فاستله ثم جعل يهزه ويهم به فيكبته الله، ثم قال: يا محمد، أما
__________
(1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (9233) .
(2) انظر ترجمته فى: الإكمال (1/ 3960) ، الإصابة ترجمة رقم (10010) ، أسد الغابة (5955) .
(3) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 76) .
(4) راجع هذه الغزوة فى: المغازى للواقدى (1/ 395) ، طبقات ابن سعد (2/ 1/ 43) ، تاريخ الطبرى (2/ 55) ، الكامل (2/ 66) ، دلائل النبوة (3/ 369) ، البداية والنهاية (4/ 83) .
(5) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (4/ 9، 10، 13، 7/ 189، 1/ 5، 16، 63، 153) ، صحيح مسلم (42، 44، 56، 61، 167، 251، 275) ، سنن الترمذى (669، 726، 1204) ، سنن ابن ماجه (181، 557، 842، 1235، 1414، 435، 550، 696، 973، 1135، 1254، 1759، 1835، 2716، 2717، 1425، 1475، 1476، -(1/414)
تخافنى؟ قال: «لا والله ما أخاف منك» . قال: أما تخافنى وفى يدى السيف؟ قال: «بلى يمنعنى الله منك» «1» . ثم عمد إلى سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فرده عليه.
فأنزل الله تبارك وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [المائدة: 11] .
وقيل: إنها إنما نزلت فى عمرو بن جحاش وما هم به من إلقاء الحجر على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم وصل إلى بنى النضير مستعينا بهم فى دية العامريين. فالله أعلم أى ذلك كان.
وحدث جابر بن عبد الله قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوة ذات الرقاع من نخل فأصاب رجل امرأة رجل من المشركين، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا أتى زوجها وكان غائبا، فلما أخبر الخبر حلف أن لا ينتهى حتى يهريق فى أصحاب محمد دما، فخرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلا، فقال: «من رجل يكلؤنا «2» ليلتنا؟» «3» قال: فانتدب رجل من المهاجرين، قيل: هو عمار بن ياسر، ورجل من الأنصار، قيل: هو عباد بن بشر، فلما خرج الرجلان إلى فم الشعب قال الأنصارى
__________
- 1510، 1718، 1915، 1945، 2907، 3236، 3451) ، مسند الإمام أحمد (1/ 27، 2041، 5/ 100) ، سنن الدارمى (1/ 12) ، السنن الكبرى للبيهقى (1/ 158، 168، 442، 9/ 43) ، مستدرك الحاكم (2/ 214) ، مصنف ابن أبى شيبة (8/ 431، 480، 9/ 88، 10/ 521، 564، 11/ 8، 10، 12/ 41، 42، 45، 141، 14/ 149، 305، 324، 435، 439، 594) ، المعجم الكبير للطبرانى (1/ 172، 2/ 29، 231، 7/ 21، 11/ 246، 247، 270، 331، 12/ 134، 153، 167، 168، 185، 199، 200، 431، 436، 437) ، كنز العمال للمتقى الهندى (4660/ 128846، 12855، 35346، 35446، 35488، 35493، 35866، 37527، 37566، 37669، 45891) ، فتح البارى لابن حجر (1/ 87، 11/ 491) ، زاد المسير لابن الجوزى (5/ 69) ، الترغيب والترهيب للمنذرى (3/ 595) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 340، 354) .
(1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 84) .
(2) يكلؤنا: أى يحفظنا.
(3) انظر الحديث فى: سنن أبى داود باب (79) ، مسند الإمام أحمد (3/ 344) ، السنن الكبرى للبيهقى (1/ 140، 9/ 150) ، مستدرك الحاكم (1/ 156) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 85) .(1/415)
للمهاجرى: أى الليل تحب أن أكفيكه أوله أو آخره؟ قال: بل اكفنى أوله فاضطجع المهاجرى فنام، وقام الأنصارى يصلى، وأتى الرجل فلما رأى شخصه عرف أنه ربيئة القوم، فرماه بسهم فوضعه فيه، قال: فانتزعه عنه وثبت قائما، ثم رماه بسهم آخر فوضعه فيه فنزعه فوضعه، وثبت قائما، ثم عاد له بثالث، فوضعه فيه فنزعه ثم ركع وسجد، ثم أهب صاحبه فقال: اجلس فقد أثبت. قال: فوثب، فلما رآهما الرجل عرف أن قد نذرا به فهرب، فلما رأى المهاجرى ما بالأنصارى من الدماء، قال: سبحان الله، أفلا أهببتنى أول ما رماك؟ قال: كنت فى سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها حتى أنفذها فلما تابع على الرمى ركعت فآذنتك، وأيم الله لولا أن أضيع ثغرا أمرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه لقطع نفسى قبل أن أقطعها أو أنفذها!
وقال جابر بن عبد الله: خرجت إلى غزوة ذات الرقاع على جمل لى ضعيف، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلت الرفاق تمضى وجعلت أتخلف، حتى أدركنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما لك يا جابر؟» قلت: يا رسول الله، أبطأ بى جملى، قال: «أنخه» «1» فأنخته وأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «أعطنى هذه العصا من يدك أو اقطع لى عصا من شجرة» «2» ، ففعلت، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخسه بها نخسات ثم قال: «اركب» »
، فركبت فخرج- والذى بعثه بالحق- يواهق ناقته مواهقة، وتحدثت معه فقال لى:
«أتبيعنى جملك هذا يا جابر؟» «4» قلت: يا رسول الله، بل أهبه لك. قال: «لا ولكن بعينه» . قلت: فسمنيه. قال: «قد أخذته بدرهم» . قلت: لا إذن تغبننى يا رسول الله.
قال: «فبدرهمين» . قلت: لا. فلم يرفع لى حتى بلغ الأوقية فقلت: أقد رضيت؟ قال:
«نعم» . قلت: فهو لك. قال: «قد أخذته» «5» .
ثم قال: «يا جابر، هل تزوجت بعد؟» «6» قلت: نعم يا رسول الله، قال: «أثيبا أم بكرا؟» قلت: بل ثيبا. قال: «أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك؟» قلت: يا رسول الله، إن
__________
(1) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (3/ 382) .
(2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (2/ 517، 3/ 375) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 86) .
(3) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 376) ، المعجم الكبير للطبرانى (17/ 336) .
(4) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 316) ، دلائل النبوة للبيهقى (3/ 382) .
(5) انظر الحديث فى: سنن الترمذى (916) ، مسند الإمام أحمد (3/ 376) ، سنن الدارقطنى (3/ 45) .
(6) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (6/ 376) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (3/ 390) .(1/416)
أبى أصيب يوم أحد وترك بنات له سبعا فنكحت امرأة جامعة تجمع رؤسهن وتقوم عليهن. قال: «أصبت إن شاء الله، أما إنه لو قد جئنا صرارا أمرنا بجزور فنحرت وأقمنا عليها يومنا ذلك وسمعت بنا فنفضت نمارقها» «1» . قلت: والله يا رسول الله مالها من نمارق. قال: «إنها ستكون، فإذا أنت قدمت فاعمل عملا كيسا» «2» . قال: فلما جئنا صرارا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجزور فنحرت وأقمنا عليها ذلك اليوم، فلما أمسى دخل ودخلنا، فحدثت المرأة الحديث وما قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فدونك فسمع وطاعة.
فلما أصبحت أخذت برأس الجمل فأقبلت به حتى أنخته على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جلست فى المسجد قريبا منه، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى الجمل، فقال: «ما هذا؟» «3» فقالوا: يا رسول الله، هذا جمل جاء به جابر. قال: «فأين جابر؟» فدعيت له. فقال: «يا ابن أخى خذ برأس جملك فهو لك» . ودعا بلالا وقال: «اذهب بجابر فأعطه أوقية» «4» .
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (5/ 123) ، صحيح مسلم فى كتاب الفضائل (84) ، سنن النسائى (1/ 172) ، السنن الكبرى للبيهقى (1/ 254، 6/ 67) ، مستدرك الحاكم (3/ 306) ، سنن الدارقطنى (4/ 229) ، المعجم الكبير للطبرانى (1/ 87، 2/ 290) ، موارد الظمآن للهيثمى (999، 1334) ، مسند الإمام أحمد (3/ 308، 376) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (6/ 453) ، كنز العمال للمتقى الهندى (13567، 45632) ، الدر المنثور للسيوطى (1/ 240) ، 4/ 110) ، منحة المعبود للساعاتى (1049) ، تفسير الطبرى (1/ 13، 14) ، تفسير ابن كثير (8/ 475) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 64) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (3/ 1/ 88، 4/ 1/ 163) ، البداية والنهاية لابن كثير (6/ 29) ، موطأ مالك (366) .
(2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 376) .
(3) انظر الحديث فى: صحيح مسلم فى كتاب صلاة المسافرين (291) ، سنن الترمذى (1094) ، سنن النسائى (3/ 72، 4/ 84، 6/ 164، 280، 7/ 30، 273) ، مسند الإمام أحمد (5/ 438) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 2/ 157، 4/ 1/ 16، 24، 58، 59) ، سنن الدارقطنى (2/ 55، 8/ 86، 215) ، مصنف ابن أبى شيبة (1/ 122، 337، 3/ 225، 6/ 552، 8/ 76، 80، 379، 11/ 437، 14/ 280، 323) ، المعجم الكبير للطبرانى (11/ 320، 12/ 5، 94، 95، 17/ 13، 249، 18/ 172، 189) ، دلائل النبوة للبيهقى (6/ 99) ، مجمع الزوائد للهيثمى (5/ 86، 7/ 260، 8/ 68، 121، 9/ 35، 85، 86، 96، 336، 338، 10/ 241، 242، 852) ، السلسلة الصحيحة للألبانى (3/ 179، 447) ، سنن أبى داود (4068، 5236، 4748) ، سنن ابن ماجه (2136، 4160) .
(4) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (4/ 2097) ، مسند الإمام أحمد (3/ 375، 376) .(1/417)
قال: فذهبت معه فأعطانى أوقية وزادنى شيئا يسيرا، فو الله ما زال ينمى عندى ويرى مكانه من بيتنا حتى أصيب أمس فيما أصيب لنا! يعنى يوم الحرة.
قال ابن إسحاق «1» : ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة ذات الرقاع أقام بها بقية جمادى الأولى الآخرة ورجب.
ثم خرج فى شعبان إلى بدر لميعاد أبى سفيان، حتى نزله فأقام عليه ثمانى ليال ينتظره.
وخرج أبو سفيان، فى أهل مكة، حتى نزل مجنة من ناحية، الظهران- وبعض الناس يقول غسفان- ثم بداله فى الرجوع، فقال: يا معشر قريش، إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب ترعون فيه الشجر وتشربون فيه اللبن، فإن عامكم هذا عام جدب، وإنى راجع فارجعوا. فرجع الناس، فسماهم أهل مكة جيش السويق يقولون: إنما خرجتم تشربون السويق.
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على بدر ينتظر ابا سفيان لميعاده، فأتاه مخشى بن عمرو الضمرى، وهو الذى كان وادعه على بنى ضمرة فى غزوة ودان فقال: يا محمد، أجئت للقاء قريش على هذا الماء؟ قال: «نعم يا أخا بنى ضمرة، وإن شئت مع ذلك رددنا إليك ما كان بيننا وبينك ثم جالدناك حتى يحكم الله بيننا وبينك» «2» . قال: لا والله يا محمد، مالنا بذلك منك من حاجة.
ومر برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو هناك ينتظر أبا سفيان معبد بن أبى معبد الخزاعى فقال وناقته تهوى به، وقد رأى مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم:
قد نفرت من رفقتى محمد ... وعجوة من يثرب كالعنجد «3»
تهوى على دين أبيها الأتلد ... قد جعلت ماء قديد موعدى
وماء ضجان لها ضحى الغد
وقال عبد الله بن رواحة فى ذلك، ويقال: إنها لكعب بن مالك:
وعدنا أبا سفيان بدرا فلم نجد ... لميعاده صدقا وما كان وافيا
فأقسم لو وافيتنا فلقيتنا ... لأبت ذميما وافتقدت المواليا
__________
(1) انظر السيرة (3/ 178) .
(2) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 88) .
(3) العنجد: حب الزبيب.(1/418)
تركنا به أوصال عتبة وابنه ... وعمرا أبا جهل تركناه ثاويا
عصيتم رسول الله أف لدينكم ... وأمركم السيئ الذى كان غاويا
فإنى وإن عنفتمونى لقائل ... فدا لرسول الله أهلى وماليا
أطعناه لم نعدله فينا بغيره ... شهابا لنا فى ظلمة الليل هاديا
وقال حسان بن ثابت فى ذلك:
دعوا فلجات الشام قد حال دونها ... جلاد كأفواه المخاض الأوارك
بأيدى رجال هاجروا نحو ربهم ... وأنصاره حقا وأيدى الملائك
إذا سلكت للغور من بطن عالج ... فقولا لها ليس الطريق هنالك
أقمنا على الرس النزوع ثمانيا ... بأرعن جرار عريض المبارك
بكل كميت جوزه نصف خلقه ... وقب طوال مشرفات الحوارك
ترى العرفج العامى تذرى أصوله ... مناسم أخفاف المطى الرواتك «1»
فإن نلق فى تطوافنا والتماسنا ... فرات بن حيان يكن رهن هالك
وإن تلق قيس بن امرئ القيس بعده ... يزد فى سواد لونه لون حالك
فأبلغ أبا سفيان عنى رسالة ... فإنك من غر الرجال الصعالك
ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فأقام بها حتى مضى ذو الحجة، وهى سنة أربع من مقدمه المدينة، ثم غزا دومة الجندل «2» ، ثم رجع قبل أن يصل إليها ولم يلق كيدا، صلى الله عليه وسلم.
غزوة الخندق «3»
وكانت فى شوال من سنة خمس فى قول ابن إسحاق.
وكان من الحديث عن الخندق أنه لما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى النضير خرج نفر من اليهود- سلام بن أبى الحقيق وحيى بن أخطب وكنانة بن الربيع النضريون، وهوذة بن
__________
(1) مناسم: جمع منسم، وهو طرف خف البعير. والرواتك: أى المسرعة.
(2) راجع هذه الغزوة فى: المغازى للواقدى (1/ 402) ، طبقات ابن سعد (2/ 1/ 44) ، تاريخ الطبرى (2/ 564) ، البداية والنهاية (4/ 92) ، دلائل النبوة (3/ 389) .
(3) راجع هذه الغزوة فى: المغازى للواقدى (2/ 440) ، طبقات ابن سعد (2/ 1/ 47) ، تاريخ الطبرى (2/ 564) ، الكامل (2/ 70) ، البداية والنهاية (4/ 92) ، دلائل النبوة (13/ 392) .(1/419)
قيس وأبو عمارة الوائليان- فى نفر من بنى النضير وبنى وائل، وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين قدموا مكة على قريش فاستفزوهم واستنفروهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى حربه، وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله.
فقالت لهم قريش: يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه، فهم الذين الله عز وجل فيهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً [النساء: 51- 52] .
فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا لذلك واتعدوا له.
ثم خرج أولئك النفر حتى جاؤا غطفان من قيس عيلان فدعوهم إلى مثل ما دعوا إليه قريشا، وأخبروهم أنهم سيكونون معهم وأن قريشا قد تابعوهم على ذلك.
وجعلت يهود لغطفان تحريضا على الخروج نصف تمر خيبر كل عام.
فزعموا أن الحارث بن عوف أخا بنى مرة قال لعيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر ولقومه من غطفان: يا قوم أطيعونى، دعوا قتال هذا الرجل وخلوا بينه وبين عدوة من العرب، فغلب عليهم الشيطان وقطع أعناقهم الطمع ونفذوا لأمر عيينة على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكتبوا إلى حلفائهم من بنى أسد، فأقبل طليحة الأسدى، فيمن اتبعه من بنى أسد، وهما الحليفان أسد وغطفان.
وكتبت قريش إلى رجال من بنى سليم أشراف بينهم وبينهم أرحام استمدادا لهم، فأقبل أبو الأعور بمن اتبعه من سليم مددا لقريش.
فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن فى بنى فزارة والحارث بن عوف فى بنى مرة ومسعر بن رخلية الأشجعى فيمن تابعه من قومه من أشجع، وتكامل لهم ولمن استمدوه فأمدهم جمع عظيم، هم الذين سماهم الله «الأحزاب» .
فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بخروجهم وبما أجمعوا له من الأمر أخذ فى حفر الخندق وضربه على المدينة، فعمل فيه صلى الله عليه وسلم ترغيبا للمسلمين فى العمل والأجر وعمل معه المسلمون، فدأب فيه ودأبوا حتى أحكموه.(1/420)
وأبطأ عنهم فى عملهم ذلك رجال من المنافقين وجعلوا يورون بالضعيف من العمل ويتسللون إلى أهلهم بغير علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إذن، وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التى لا بد له منها يذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويستأذنه فى اللحوق بحاجته فيأذن له فإذا قضى حاجته رجع إلى ما كان فيه من عمله رغبة فى الخبر واحتسابا له، فأنزل الله فى أولئك من المؤمنين: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور: 62] . فنزلت هذه الآية فيمن كان من المسلمين من أهل الحسبة والرغبة فى الحرب والطاعة لله ولرسوله.
ثم قال تبارك وتعالى، يعنى المنافقين الذين كانوا يتسللون من العمل ويذهبون بغير إذن من النبى صلى الله عليه وسلم: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [النور: 63] .
وكانت فى حفر الخندق أحاديث فيها من الله عبرة فى تصديق رسوله وتحقيق نبوته، عاين ذلك المسلمون. فمنها: أنه اشتد عليهم فى بعض الخندق كدية فشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا بإناء من ماء فتفل فيه ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به، ثم نضح ذلك الماء على تلك الكدية فيقول من حضرها: فو الذى بعثه بالحق لانهالت حتى عادت كالكثيب ما ترد فأسا ولا مسحاة.
ودعت عمرة بنت رواحة أم النعمان بن بشير ابنة لها من بشير فأعطتها حفنة من تمر فى ثوبها ثم قالت: أى بنية، اذهبى إلى ابيك وخالك عبد الله بن رواحة بغدائهما.
قالت: فأخذتها فانطلقت فمررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألتمس أبى وخالى، فقال:
تعالى يا بنية، ما هذا معك؟ قالت: قلت: يا رسول الله، هذا تمر بعثتنى به أمى إلى أبى، بشير بن سعد وخالى عبد الله بن رواحة يتغديانه. قال: هاتيه. قالت: فصببته فى كفى رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ملأتهما ثم أمر بثوب فبسط له، ثم دحا بالتمر عليه فتبدد فوق الثوب، ثم قال لإنسان عنده: اصرخ فى أهل الخندق: أن هلم إلى الغداء. فاجتمع اهل الخندق عليه فجعلوا يأكلون منه وجعل يزيد حتى صدر أهل الخندق وإنه ليسقط من أطراف الثوب!(1/421)
وقال جابر بن عبد الله: عملنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الخندق وكنا نعمل فيه نهارا فإذا أمسينا رجعنا إلى أهالينا، فكانت معى شويهة غير جد سمينة، فقلت: والله لو صنعناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فأمرت امرأتى فطحنت لنا شيئا من شعير فصنعت لنا منه خبزا وذبحت تلك الشاة فشويناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أمسينا وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الانصراف عن الخندق قلت: يا رسول الله، إنى قد صنعت لك شويهة كانت عندنا وصنعنا معها شيئا من خبز هذا الشعير، فأحب أن تنصرف معى إلى منزلى. وإنما أريد أن ينصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم معى وحده.
فلما قلت له ذلك قال: «نعم» . ثم أمر صارخا فصرخ: أن انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت جابر بن عبد الله. قال: قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون! فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه فجلس وأخرجناها إليه، فبرك وسمى الله ثم أكل وتواردها الناس، كلما فرغ قوم قاموا وجاء ناس، حتى صدر أهل الخندق عنها.
وحدث سلمان الفارسى قال: ضربت فى ناحية من الخندق فغلظت على ورسول الله صلى الله عليه وسلم قريب منى، فلما رآنى أضرب ورأى شدة المكان على نزل فأخذ المعول من يدى فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة، ثم ضرب به ضربة أخرى فلمعت تحته برقة أخرى، ثم ضرب به الثالثة فلمعت برقة أخرى، قلت: بأبى أنت وأمى يا رسول الله! ما هذا الذى رأيت لمع تحت المعول وأنت تضرب؟ قال: «أوقد رأيت ذلك يا سلمان» : قلت: نعم.
قال: «أما الأولى فإن الله فتح على بها اليمن، وأما الثانبة فإن الله فتح على بها الشام والمغرب، وأما الثالثة فإن الله فتح بها على المشرق» «1» . فكان أبو هريرة يقول حين فتحت الأمصار فى زمان عمر وزمان عثمان وما بعده: افتتحوا ما بدا لكم، فو الذى نفس أبى هريرة بيده ما افتتحتم من مدينة ولا تفتحونها إلى يوم القيامة إلا وقد أعطى الله محمدا صلى الله عليه وسلم مفاتيحها قبل ذلك.
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة بين الجرف وزغابة فى عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من بنى كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد حتى نزلوا بذنب نقمى إلى جانب أحد.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع- فى ثلاثة آلاف
__________
(1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 99) .(1/422)
من المسلمين- فضرب هنالك عسكره والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالذرارى والنساء فجعلوا فى الآطام.
وخرج عدو الله حيى بن أخطب حتى أتى كعب بن أسد صاحب عقد بنى قريظة، وعهدهم، وكان قد وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه وعاقده على ذلك وعاهده، فلما سمع كعب بحيى بن أخطب أغلق دونه باب حصنه، فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له، فناداه حيى: ويحك يا كعب افتح لى. فقال: ويحك يا حيى إنك امرؤ مشؤوم، وإنى قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بينى وبينه، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا، قال: ويحك افتح لى أكلمك. قال: ما أنا بفاعل. قال والله: إن أغلقت دونى إلا على جشيشتك أن آكل معك منها. فأحفظ الرجل ففتح له فقال: ويحك يا كعب! جئتك بعز الدهر وببحر طام! جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمى إلى جنب أحد، قد عاهدونى وعاقدونى على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه.
فقال له كعب: جئتنى والله بذل الدهر، وبجهام قد هراق ماءه فهو يرعد ويبرق وليس فيه شىء، ويحك يا حيى فدعنى وما أنا عليه فإنى لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء.
فلم يزل حيى بكعب يفتله فى الذروة والغارب حتى سمح له، على أن أعطاه عهدا من الله وميثاقا لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك فى حصنك حتى يصيا بنى ما أصابك.
فنقض كعب بن أسد عهده، وبرىء مما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى المسلمين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ، وهو- يومئذ- سيد الأوس وسعد بن عبادة، وهو- يومئذ- سيد الخزرج ومعهما عبد الله بن رواحة وخوات بن جبير فقال: «انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم؟ فإن كان حقا فالحنوا إلى لحنا أعرفه ولا تفتوا فى أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فأجهروا به الناس» .
فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم، نالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: من رسول الله؟! لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد؛ فشاتمهم سعد ابن معاذ وشاتموه، وكان رجلا فيه حدة، فقال له سعد بن عبادة: دع عنك مشاتمتهم فما بيننا أربى من المشاتمة.(1/423)
ثم أقبلا ومن معهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: فسلموا عليه، ثم قالوا: عضل والقارة. أى كعذر عضل والقارة بأصحاب الرجيع- خبيب وأصحابه- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين» «1» .
وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى ظن المؤمنون كل ظن ونجم النفاق من بعض المنافقين، وحتى قال قائل منهم: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط!.
وأقام عليه المشركون قريبا من شهر لم يكن بينهم حرب إلا الرمياء. بالنبل والحصار.
فلما اشتد على الناس البلاء بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث بن عوف، وهما قائدا غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، فجرى بينه وبينهما المراوضة فى الصلح حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح، ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فذكر لهما ذلك واستشارهما فيه، فقالا: يا رسول الله، أمرا تحبه فتصنعه؟ أم شيئا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به؟ أم شيئا تصنعه لنا؟ قال: «بل شىء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا انى رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما» «2» .
فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قرى أو بيعا، فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟! ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأنت وذلك» «3» . فتناول سعد الصحيفة فمحا ما فيها من الكتب ثم قال: ليجهدوا علينا.
فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وعدوهم محاصروهم، ولم يكن بينهم قتال، إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود وعكرمة بن أبى جهل وهبيرة بن أبى وهب
__________
(1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 104) ، دلائل النبوة للبيهقى (3/ 430) .
(2) انظر الحديث فى: المعجم الكبير للطبرانى (3/ 57) . البداية والنهاية لابن كثير (4/ 105) .
(3) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (3/ 430، 431) .(1/424)
وضرار بن الخطاب تلبسوا للقتال ثم خرجوا على خليهم حتى مروا بمنازل بنى كنانة فقالوا: تهيأوا يا بنى كنانة للحرب فستعلمون من الفرسان اليوم. ثم أقبلوا تعنق بهم خيلهم حتى وقفوا على الخندق، فلما رأوه قالوا: والله إن هذه لمكيدة، ما كانت العرب تكيدها! ثم تيمموا مكانا من الخندق ضيقا فضربووا خيلهم فاقتحمت منه فجالت بهم فى السبخة بين الخندق وسلع، وخرج على بن أبى طالب فى نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التى أقحموا منها خيلهم، وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم، وكان عمرو بن عبد ود قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد يوم أحد فلما كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مكانه، فلما وقف هو وخيله قال: من يبارز؟ فبرز على بن أبى طالب فقال له: يا عمرو إنك كنت عاهدت الله لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه، فقال له: أجل؛ فقال له على: فإنى أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام. قال: لا حاجة لى بذلك. قال: فإنى أدعوك إلى النزال. قال له:
ولم يا ابن أخى! فو الله ما أحب أن أقتلك. قال على: لكنى والله أحب أن أقتلك! فحمى عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه، ثم أقبل على على فتنازلا وتجاولا، فقتله علىّ.
وخرجت خيلهم منهزمة حتى اقتحمت من الخندق هاربة.
وذكر ابن إسحاق فى غير رواية البكائى أن عمرا لما نادى يطلب من يبارزه قام على- رضى الله عنه- وهو مقنع فى الحديد فقال: أنا له يا نبى الله فقال له: «اجلس إنه عمرو» ثم ذكر عمرو النداء وجعل يؤنبهم ويقول: أين جنتكم التى تزعمون أنه من قتل منكم دخلها! أفلا تبرزون إلى رجلا؟! فقام على فقال: أنا له يا رسول الله. قال:
«اجلس إنه عمرو» . ثم نادى الثالثة وقال:
ولقد بححت من الندا ... أبجمعكم هل من مبارز
ووقفت إذ جبن المشجع ... وقفة الرجل المناجز
وكذاك أنى لم أزل ... متسرعا نحو الهزاهز
إن الشجاعة فى الفتى ... والجود من خير الغرائز
فقال علىّ- رضى الله عنه- فقال: أنا له يا رسول الله. فقال: «إنه عمرو» فقال:
وإن كان عمرا. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فمشى إليه علىّ وهو يقول:
لا تعجلن فقد أتا ... ك مجيب صوتك غير عاجز(1/425)
ذو نية وبصيرة ... والصدق منجى كل فائز
إنى لأرجو أن أقي ... م عليك نائحة الجنائز
من ضربة نجلاء يب ... قى ذكرها عند الهزاهز
فقال عمرو: من أنت؟ قال: أنا على، قال: ابن عبد مناف؟ قال: أنا على بن أبى طالب. فقال: غيرك يا ابن أخى من أعمامك من هو أسن منك، فإنى أكره أن أهريق دمك. فقال على: لكنى والله ما أكره أن أهريق دمك. فغضب ونزل فسل سيفه كأنه شعلة نار، ثم أقبل نحو على مغضبا. ويقال: إنه كان على فرسه فقال له على: كيف أقاتلك وأنت على فرسك؟ ولكن تنزل معى. فنزل عن فرسه ثم أقبل نحوه فاستقبله علىّ بدرقته فضربه عمرو فيها فقدّها وأثبت فيها السيف وأصاب رأسه فشجه، وضربه علىّ على حبل العاتق فسقط وثار العجاج، وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم التكبير فعرف أن عليا قد قتله، فثم يقول على رضى الله عنه:
أعلى تقتحم الفوارس هكذا ... عنى وعنه أخبروا أصحابى
فاليوم يمنعنى الفرار حفيظتى ... ومصمم فى الرأس ليس بنابى
أدى عمير حين أخلص صقله ... صافى الحديدة يستفيض ثوابى
فغدوت ألتمس القراع بمرهف ... عضب مع النتراء فى إقراب
قال ابن عبد حين شد ألية ... وحلفت فاستمعوا من الكذاب
أن لا يفر ولا يهلل فالتقى ... أسدان يضطربان كل ضراب
نصر الحجارة من سفاهة رأيه ... ونصرت دين محمد بصواب
فصددت حين تركته متجدلا ... كالجذع بين دكادك وروابى
وعففت عن أثوابه ولو أننى ... كنت المجدل بزنى أثوابى
لا تحسبن الله خاذل دينه ... ونبيه يا معشر الأحزاب
وكان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وبنى قريظة: «حم لا ينصرون» .
وكانت عائشة- رضى الله عنها- يوم الخندق فى حصن بنى حارثة، وكان من أحرز حصون المدينة، وكانت أم سعد بن معاذ معها فى الحصن، قالت عائشة: وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب، فمر سعد وعليه درع له مقصلة وقد خرجت منها ذراعه كلها وفى يده حربته يرقد بها- أى يسرع بها- فى نشاط، وهو يقول:
لبث قليلا يشهد الهيجا حمل ... لا بأس بالموت إذا حان الأجل
فقالت أمه: الحق أى بنى فقد والله أخرت. قالت عائشة: فقلت لها: يا أم سعد،(1/426)
والله لوددت أن درع سعد كانت أسبغ مما هى. قالت: وخفت عليه حيث أصاب السهم منه، فرمى سعد بسهم فقطع منه الأكحل، رماه حبان بن قيس بن العرقة أحد بنى عامر لؤى، فلما أصابه قال: خذها وأنا ابن العرقة. فقال له سعد: عرق الله وجهك فى النار، اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقى لها فإنه لا قوم أحب إلى أن أجاهد من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه، اللهم وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لى شهادة ولا تمتنى حتى تقرعينى من بنى قريظة.
وكان عبد الله بن كعب بن مالك يقول: ما أصاب سعدا- يومئذ- إلا أبو أسامة الجشمى حليف بنى مخزوم، وقال فى ذلك شعرا يخاطب به عكرمة بن أبى جهل:
أعكرم هلا لمتنى إذ تقول لى ... فداك بآطام المدينة خالد
ألست الذى ألزمت سعدا مرشة ... لها بين أثناء المرافق عاند
قضى نحبه منها سعيد فأعولت ... عليه مع الشمط والعذارى النواهد «1»
فى أبيات ذكرها ابن إسحاق.
ويقال: إن الذى رمى سعدا خفافة بن عاصم بن حبان. فالله أعلم أى ذلك كان.
وكانت صفية بنت عبد المطلب فى فارع، أطم حسان بن ثابت، قالت: وحسان معنا فيه مع النساء والصبيان. قالت صفية: فمر بنا رجل من يهود فجعل يطيف بالحصن وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون فى نحور عدوهم لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا إن أتانا آت، قالت: قلت يا حسان، إن هذا اليهودى كما ترى يطيف بالحصن، وإنى والله ما آمنه أن يدل على عورتنا من وراءنا من يهود، وقد شغل عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فانزل إليه فقتله. قال: يغفر الله لك يا ابنة عبد المطلب! والله لقد علمت ما أنا بصاحب هذا. فلما قال لى ذلك ولم أر عنده شيئا احتجزت ثم أخذت عمودا ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته، فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن فقلت لحسان: انزل فاسلبه فإنى لم يمنعنى من سلبه إلا أنه رجل. قال: مالى بسلبه من حاجة يا بنت عبد المطلب.
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه فيما وصف الله من الخوف والشدة لتظاهر عدوهم عليهم وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم.
__________
(1) النحب: الأصل. والشمط: جمع شمطاء، وهى المرأة التى خالط شعرها الشيب. والنواهد: جمع ناهد، أى التى ظهر نهدها.(1/427)
ثم إن نعيم بن مسعود الأشجعى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنى قد أسلمت وإن قومى لم يعلموا بإسلامى، فمرنى بما شئت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة» «1» .
فخرج نعيم حتى أتى بنى قريظة، وكان لهم نديما فى الجاهلية فقال: يا بنى قريظة، قد عرفتم ودى إياكم وخاصة ما بينى وبينكم. قالوا: صدقت فلست عندنا بمتهم. فقال لهم: إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم به أموالكم وابناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشا وغطفان قد جاؤا لحرب محمد وأصحابه وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره فليسوا كأنتم فإن رأوا نهزة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، فلا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم تأخذوا حتى منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمدا حتى تناجزوه.
قالوا: لقد أشرت بالرأى.
ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لأبى سفيان ومن معه من رجالهم، قد عرفتم ودى لكم وفراقى محمدا، وإنه قد بلغنى أمر رأيت على حقا أن أبلغكموه نصحا لكم فاكتموا عنى قالوا: نفعل. قال: تعلمون أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه أنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين من قريش وغطفان رجالا من اشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقى منهم حتى نستأصلهم؟ فأرسل إليهم: نعم. فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا.
ثم خرج حتى أتى غطفان فقال: يا معشر غطفان، إنكم أصلى وعشيرتى وأحب الناس إلىّ، ولا أراكم تتهموننى. قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتهم؛ قال: فاكتموا عنى. قالوا: نفعل. ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم ما حذرهم.
فلما كانت ليلة السبت، وكان ذلك من صنع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أرسل أبو سفيان بن حرب ورؤس غطفان إلى بنى قريظة عكرمة بن أبى جهل فى نفر من قريش وغطفان فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخف والحافر فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا
__________
(1) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (3/ 445) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 111) .(1/428)
ونفرغ مما بيننا وبينه؛ فأرسلوا إليهم: إن اليوم يوم السبت، وهو يوم لا نعمل فيه شيئا، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثا فأصابه ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمدا، فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب، واشتد عليكم القتال أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل فى بلادنا ولا طاقة لنا بذلك.
فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان: والله، إن الذى حدثكم نعيم بن مسعود لحق. فأرسلوا إلى بنى قريظة: إنا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا.
فقالت بنو قريظة حين انتهت إليهم الرسل بهذا: إن الذى ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا فإن رأوا فرصة انتهزوها وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل فى بلدكم. فأرسلوا إلى قريش وغطفان: إنا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا. فأبوا عليهم.
وخذل الله بينهم، وبعث عليهم الريح فى ليال شاتية شديدة البرد، فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح آنيتهم.
فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اختلف من أمرهم وما فرق الله من جماعتهم دعا حذيفة بن اليمان فبعثه ليلا لينظر ما فعل القوم، فحدث حذيفة- رحمه الله- وقد قال له رجل من أهل الكوفة: يا أبا عبد الله، أرأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه؟ قال نعم يا ابن أخى. قال: فكيف كنتم تصنعون؟ قال: والله لقد كنا نجهد. قال الرجل: والله لو أدركناه ما تركناه يمشى على الأرض ولحملناه على أعناقنا. فقال حذيفة: يا بن أخى، والله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق وصلى هويا من الليل ثم التفت إلينا فقال:
«من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع- يشرط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجعة- أسال الله أن يكون رفيقى فى الجنة؟» «1» فما قام رجل من القوم من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد، فلما لم يقم أحد دعانى فلم يكن لى بد من القيام حين دعانى فقال:
«يا حذيفة، اذهب فادخل فى القوم فانظر ما يفعلون ولا تحدثن شيئا حتى تأتينا» «2» .
__________
(1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (2/ 392) ، تفسير الطبرى (21/ 80) ، تفسير ابن كثير (6/ 386) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 113) .
(2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (5/ 392) ، تفسير ابن كثير (6/ 386) ، تفسير الطبرى (21/ 80) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 113) .(1/429)
فذهبت فدخلت فى القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء، فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش، لينظر امرؤ من جليسه. قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذى إلى جنبى فقلت: من أنت؟ قال: فلان بن فلان.
وذكر ابن عقبة أنه فعل ذلك بمن يلى جانبيه يمينا ويسارا، قال: وبدرهم بالمسألة خشية أن يظنوا له.
قال حذيفة: ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذى نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون ما تطمئن لنا قدر ولا تقوم لنا نار ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإنى مرتحل. ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث فما أطلق عقاله إلا وهو قائم. ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى: «أن لا تحدث شيئا حتى تأتينى» ثم شئت لقتلته بسهم.
فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلى فى مرط «1» لبعض نسائه، فلما رآنى أدخلنى إلى رجليه وطرح على طرف المرط ثم ركع وسجد وإنى لفيه، فلما سلم أخبرته الخبر.
وسمعت غطفان بما فعلت قريش فانشمروا راجعين إلى بلادهم.
ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف عن الخندق راجعا إلى المدينة والمسلمون معه وقد عضهم الحصار، فرجعوا مجهودين فوضعوا السلاح.
فلما كانت الظهر أتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجرا بعمامة من إستبرق على بغلة عليها رحالة عليها قطيفة من ديباج.
ويقولون فيما ذكر ابن عقبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فى المغتسل عندما جاءه جبريل وهو يرجل رأسه قد رجّل أحد شقيه. فجاءه جبريل على فرس عليه اللأمة حتى وقف بباب المسجد عند موضع الجنائز، وإن على وجه جبريل لأثر الغبار، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له جبريل: غفر الله لك! أقد وضعتم السلاح؟ قال: «نعم» . قال جبريل: ما وضعت الملائكة السلاح بعد وما رجعت الآن إلا من طلب القوم، إن الله يأمرك يا محمد بالمسير إلى بنى قريظة فإنى عامد إليهم فمزلزل بهم.
__________
(1) المرط: أى الكساء.(1/430)
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنا فأذن فى الناس: من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا فى بنى قريظة.
وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب برايته إلى بنى قريظة وابتدرها الناس، فسار علىّ- رضى الله عنه- حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع حتى لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطريق فقال: يا رسول الله، لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابيث. قال: «لم؟ أظنك سمعت منهم لى أذى» قال: نعم. قال: «لو رأونى لم يقولوا من ذلك شيئا «1» » . فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم قال: «يا إخوان القردة، هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟» «2» قالوا: يا أبا القاسم، ما كنت جهولا.
ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفر من أصحابه فى طريقة قبل أن يصل إلى بنى قريظة، فقال:
«هل مرّ بكم أحد؟» قالوا: يا رسول الله، مر بنا دحية بن خليفة الكلبى على بغلة بيضاء عليها رحالة عليها قطيفة ديباج. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلك جبريل بعث إلى بنى قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف الرعب فى قلوبهم» «3» .
وتلاحق الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى رجال من بعد العشاء الآخرة لم يصلوا العصر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يصلين أحد العصر إلا ببنى قريظة» «4» فصلوا العصر بها من بعد العشاء الآخرة، فما عابهم الله بذلك فى كتابه ولا عنفهم به رسوله.
وذكر ابن عقبة أن الناس لما حانت العصر وهم فى الطريق ذكروا الصلاة فقال بعضهم: ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمركم أن تصلوا العصر فى بنى قريظة. وقال آخرون: هى الصلاة. فصلى منهم طائفة وأخرت الصلاة طائفة حتى صلوها فى بنى قريظة بعد أن غابت الشمس، فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من عجل الصلاة ومن أخرها، فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعنف واحدة من الطائفتين.
__________
(1) انظر الحديث فى: تفسير الطبرى (21/ 95، 96) .
(2) انظر الحديث فى: تفسير الطبرى (21/ 96) .
(3) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (8/ 117) ، إرواء الغليل للألبانى (3/ 403) .
(4) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (2/ 19، 5/ 143) ، صحيح مسلم فى كتاب الجهاد باب (23) ، رقم (69) ، شرح السنة للبغوى (14/ 11) ، تغليق التعليق لابن حجر العسقلانى (377) ، فتح البارى لابن حجر (2/ 436، 7/ 408، 409، 13/ 240) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 110، 117) .(1/431)
وحاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى قريظة خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار، وقذف الله فى قلوبهم الرعب.
وكان حيى بن أخطب دخل مع بنى قريظة فى حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه، فلما أيقنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم قال لهم كعب بن أسد: يا معشر يهود، قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإنى عارض عليكم خلالا ثلاثا فخذوا أيها شئتم. فقالوا: وما هى؟
قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه فو الله لقد تبين لكم أنه نبى مرسل وأنه للذى تجدونه فى كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم. وقالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا ولا نستبدل به غيره. قال: فإذا أبيتم على هذه فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد واصحابه رجالا مصلتين السيوف لم نترك وراءنا ثقلا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه وإن نظهر فلعمرى لنجدن النساء والأبناء. قالوا: أنقتل هؤلاء المساكين؟ فما خير العيش بعدهم! قال: فإذا أبيتم على هذه فإن الليلة ليلة السبت وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فيها فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة. قالوا: أنفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يحدث من كان قبلنا إلا من قد علمت فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ! قال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه حازما ليلة واحدة من الدهر!
ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر، أخا بنى عمرو ابن عوف، وكانوا حلفاء الأوس، نستشيره فى أمرنا، فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون فى وجهه، فرق لهم وقالوا له: يا أبا لبابة، أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم. وأشار بيده إلى حلقة: إنه الذبح.
قال أبو لبابة: فو الله مازالت قدماى من مكانهما حتى عرفت أنى قد خنت الله ورسوله. ثم أنطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتبط فى المسجد إلى عمود من عمده. وقال: لا أبرح مكانى هذا حتى يتوب الله على مما صنعت، وعاهد الله: أن لا أطأ بنى قريظة أبدا ولا أرى فى بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا.
فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره وكان قد استبطأه قال: «أما إنه لو كان جاءنى لا ستغفرت له، فأما إذ فعل ما فعل فما أنا بالذى أطلقه من مكانه حتى يتوب الله(1/432)
عليه» «1» . فنزلت توبته على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فى بيت أم سلمة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من السحر وهو يضحك؛ قلت: مم تضحك أضحك الله سنك؟ قال:
«تيب على أبى لبابة» «2» . قالت: قلت: أفلا أبشره يا رسول الله. قال: «بلى إن شئت» «3» . قال: فقامت على باب حجرتها، وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب فقالت: يا أبا لبابة، أبشر فقد تاب الله عليك. قالت: فثار الناس إليه ليطلقوه فقال لا والله حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذى يطلقنى بيده. فلما مر عليه خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه.
وذكر ابن هشام «4» أن أبا لبابة أقام مرتبطا بالجذع ست ليال تأتيه امرأته فى كل وقت صلاة فتحله للصلاة، ثم يعود فيرتبط بالجذع.
والآية التى نزلت فى توبته: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة: 102] ، وأنزل الله فى أبى لبابة، فيما روى عن عبد الله بن قتادة:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال: 27] .
ثم إن ثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية وأسد بن عمير وهم نفر من بنى هدل ليسوا من بنى قريظة ولا بنى النضير، نسبهم فوق ذلك هم بنو عم القوم، أسلموا تلك الليلة التى نزلت فيها بنو قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحرزوا دماءهم وأموالهم، وكان إسلامهم فيما زعموا عما كان ألقاه إليهم من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن الهيبان القادم عليهم قبل الإسلام متوكفا لخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحققا لنبوته، فنفع الله هؤلاء الثلاثة بذلك واستنقذهم به من النار.
وقد تقدم ذكر خبره فيما مضى من هذا الكتاب.
__________
(1) انظر الحديث فى: تفسير الطبرى (21/ 97) .
(2) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (4/ 17) .
(3) انظر الحديث فى: صحيح مسلم (1412، 2151) ، السلسلة الصحيحة للألبانى (313) ، صحيح البخارى (4/ 26، 125) ، المعجم الكبير للطبرانى (6/ 109، 8/ 275) ، مجمع الزوائد للهيثمى (3/ 312، 5/ 67) ، كنز العمال للمتقى الهندى (17905، 29993، 30154، 37155) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 8) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 1/ 20) .
(4) انظر السيرة (3/ 207) .(1/433)
وخرج فى تلك الليلة عمرو بن سعدى القرظى. فمر بحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه محمد بن مسلمة، فلما رآه قال: «من هذا؟» قال: أنا عمرو بن سعدى. وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بنى قريظة فى غدرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لا أغدر بمحمد أبدا.
فقال محمد بن مسلمة حين عرفه: اللهم لا تحرمنى إقالة عثرات الكرام! ثم خلى سبيله، فخرج على وجهه حتى بات فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة تلك الليلة ثم ذهب فلم يدر أين توجه من الأرض إلى يومه هذا. فذكر شأنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ذلك رجل نجاه الله برفائه» «1» . وبعض الناس يزعم أنه كان أوثق برمة فيمن أوثق من بنى قريظة حين نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصبحت رمته ملقاة ولا يدرى أين ذهب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه تلك المقالة. فالله أعلم أى ذلك كان.
ولما نزل بنو قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم تواثبت الأوس فقالوا: يا رسول الله، إنهم موالينا دون الخزرج، وقد فعلت فى موالى إخواننا بالأمس ما قد علمت- يريدون بنى قينقاع- وما كان من حصار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ونزولهم على حكمه، وكيف سأله إياهم عبد الله بن أبىّ بن سلول فوهبهم له. فلما كلمته الأوس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم» قالوا: بلى. قال: «فذاك إلى سعد بن معاذ» » .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعل سعد بن معاذ فى خيمة لامرأة من أسلم يقال لها:
رفيدة فى مسجده، كانت تداوى الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لقومه حين أصابه السهم فى الخندق:
«اجعلوه فى خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب» «3» . فلما حكمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بنى قريظة أتاه قومه فحملوه على حمار قد وطأوا له بوسادة من أدم، وكان رجلا جسيما، ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: يا أبا عمرو، أحسن فى مواليك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم. فلما أكثروا قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه فى الله لومة لائم!
فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بنى عبد الأشهل فنعى لهم رجال بنى قريظة قبل أن يصل إليهم سعد، عن كلمته التى سمع منه.
__________
(1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 121) .
(2) انظر الحديث فى: تفسير الطبرى (21/ 97) .
(3) انظر الحديث فى: تفسير الطبرى (21/ 97) .(1/434)
فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قوموا إلى سيدكم» «1» فاما المهاجرون من قريش فيقولون: إنما أراد الأنصار. وأما الأنصار فيقولون: قد عم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين. فقاموا إليه فقالوا: يا أبا عمرو، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم. فقال سعد بن معاذ: عليكم عهد الله وميثاقه: أن الحكم فيهم لما حكمت؟ قالوا: نعم. قال: وعلى من ها هنا- فى الناحية التى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا له. فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم «نعم» . قال سعد: فإنى أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى والنساء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» «2» .
ثم استنزلوا فحسبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المدينة فى دار امرأة من بنى النجار، ثم خرج صلى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم فى تلك الخنادق، يخرج بهم إليها أرسالا. وفيهم عدو الله حيى بن أخطب وكعب بن أسد رأس القوم، وهم ستمائة أو سبعمائة، والمكثر يقول: كانوا بين الثمان المائة والتسع المائة.
وقالوا لكعب بن أسد وهم يذهب بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالا: يا كعب ما تراه يصنع بنا؟ قال: أفى كل موطن لا تعقلون! ألا ترون أن الداعى لا ينزع وأن من ذهب به منكم لا يرجع؟ هو والله القتل.
فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتى بعدو الله حيى بن أخطب وعليه حلة فقاحية قد شقها عليه من كل ناحيه قدر أنملة لئلا يسلبها، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أما والله ما لمت نفسى فى عداوتك ولكن من يخذل الله يخذل! ثم أقبل على الناس فقال: يا أيها الناس، إنه لا بأس بأمر الله، كتاب وقدر وملحمة كتبت على بنى إسرائيل! ثم جلس فضربت عنقه. فقال فى ذلك
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (4/ 81، 5/ 44، 6/ 72، 134) ، صحيح مسلم فى كتاب الجهاد باب (22) رقم (64) ، سنن أبى داود (5215، 5216) ، سنن الترمذى (856) ، مسند الإمام أحمد (3/ 22، 71) ، السنن الكبرى للبيهقى (6/ 58، 9/ 63، 97) ، المعجم الكبير للطبرانى (6/ 6) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 138) ، مصنف ابن أبى شيبة (14/ 425) ، دلائل النبوة (4/ 18) ، كنز العمال للمتقى الهندى (25483) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (4695، 39635) ، فتح البارى لابن حجر (1/ 320، 5/ 51، 177، 78، 7/ 411، 11/ 49) ، زاد المسير لابن الجوزى (8/ 193) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (3/ 2/ 4، 5) ، شرح السنة للبغوى (11/ 92) ، السلسلة الصعيفة للألبانى (346) .
(2) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 108) .(1/435)
جبل ابن جوال الثعلبى:
لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه ... ولكنه من يخذل الله يخذل
لجاهد حتى أبلغ النفس عذرها ... وقلقل يبغى العز كل مقلقل «1»
بل ابتغى عدو الله ذل الأبد فوجده، وجاهد الله فجهده، فأصبح برأيه القائل وسعيه الخاسر من الذين لهم خزى فى الدينا ولهم فى الآخرة عذاب النار.
وقتل من نساء بنى قريظة امرأة واحدة لم يقتل من نسائهم غيرها، قالت عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها: والله إنها لعندى تحدث معى وتضحك ظهرا وبطنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل رجالها فى السوق إذ هتف هاتف باسمها: أين فلانة قالت: أنا والله، قلت لها: ويلك مالك؟ قالت: أقتل. قلت: ولم؟ قالت: لحدث أحدثته. فانطلق بها فضربت عنقها. فكانت عائشة تقول: والله لا أنسى عجبا منها، طيب نفسها وكثرة ضحكها وقد علمت أنها تقتل.
قال ابن هشام «2» : هى التى طرحت الرحا على خلاد بن سويد فقتلته.
وكان الزبير بن باطا القرظى قد من على ثابت قيس بن شماس فى الجاهلية، أخذه يوم بعاث فجز ناصيته ثم خلى سبيله. فجاءه ثابت لما قتل بنو قريظة وهو شيخ كبير فقال: يا أبا عبد الرحمن، هل تعرفنى؟ قال: وهل يجهل مثلى مثلك. قال: فإنى أردت أن أجزيك بيدك عندى. قال: إن الكريم يجزى الكريم. ثم أتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
يا رسول الله، إنه كان للزبير على منة وقد أحببت أن أجزيه بها فهب لى دمه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو لك» «3» . فأتاه فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وهب لى دمك فهو لك، قال: شيخ كبير لا أهل له ولا ولد فما يصنع بالحياة؟ فأتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بأبى أنت وأمى يا رسول الله امرأته وولده. قال: «هم لك» . فأتاه فقال: قد وهب لى رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلك وولدك فهم لك. قال: أهل بيت بالحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم على ذلك؟ فأتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ماله. قال: هو لك.
فأتاه ثابت فقال: قد أعطانى رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك فهو لك، فقال: أى ثابت ما فعل الذى كان وجهه مرآة صينية يتراءى فيها عذارى الحى، كعب بن أسد؟ قال: قتل. قال:
__________
(1) مقلقل: تحرك.
(2) انظر السيرة (3/ 211) .
(3) انظر الحديث فى: سنن النسائى فى كتاب البيوع باب (77) ، مسند الإمام أحمد (3/ 303) ، تغليق التعليق لابن حجر العسقلانى (736) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 141) .(1/436)
فما فعل سيد الحاضر والبادى حيى بن أخطب؟ قال: قتل. قال: فما فعل مقدمتنا إذا شددنا وحاميتنا إذا فررنا عزال بن شموال. قال: قتل. قال: فما فعل المجلسان؟، يعنى بنى كعب بن قريظة وبنى عمرو بن قريظة. قال: ذهبوا فقتلوا. قال: فإنى أسألك يا ثابت بيدى عندك إلا ألحقتنى بالقوم، فو الله ما فى العيش بعد هؤلاء من خير، فما أنا بصابر لله فيلة دلو ناضح حتى ألقى الأحبة. فقدمه ثابت فضرب عنقه.
فلما بلغ أبا بكر الصديق- رضى الله عنه- قوله: «ألقى الأحبة» قال: يلقاهم والله فى نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتل كل من أنبت منهم. قال عطية القرظى: وكنت غلاما فوجدونى لم أنبت فخلوا سبيلى.
وكان رفاعة بن شموال القرظى رجلا قد بلغ فلاذ بسلمى بنت قيس أم المنذر، أخت سليط بن قيس، وكانت إحدى خالات رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلت القبلتين معه وبايعته بيعة النساء، فقالت: يا نبى الله، بأبى أنت وأمى هب لى رفاعة، فإنه زعم أنه سيصلى ويأكل لحم الجمل. فوهبه لها فاستحيته.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بنى قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين، وأعلم فى ذلك اليوم سهمان الخيل وسهمان الرجال وأخرج منها الخمس، فكان للفارس ثلاثة أسهم، للفرس سهمان ولفارسه سهم، وللراجل من ليس له فرس سهم. وكانت الخيل يوم بنى قريظة ستة وثلاثين فرسا، وكان أول فىء وقعت فيه السهمان وأخرج منه الخمس، فعلى سنتها وما مضى من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وقعت المقاسم ومضت السنة فى المغازى.
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن زيد الأنصارى الأشهلى بسبايا من سبايا بنى قريظة إلى نجد فابتاع له بهم خيلا وسلاحا.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اصطفى لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خنافة من بنى عمرو بن قريظة، فكانت عنده حتى توفى عنها وهى فى ملكه، وكان عرض عليها أن يتزوجها ويضرب عليها الحجاب فقالت يا رسول الله، بل تتركنى فى ملكك فهو أخف على وعليك فتركها. وكانت حين سباها قد تعصت بالإسلام وابت إلا اليهودية، فعزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجد فى نفسه لذلك من أمرها، فبينا هو مع أصحابه إذ سمع(1/437)
وقع نعلين خلفه فقال: «إن هذا لثعلبة بن سعية يبشرنى بإسلام ريحانة» «1» . فجاءه فقال:
يا رسول الله، قد أسلمت ريحانة. فسره ذلك من أمرها.
وأنزل الله- عز وجل- فى أمر الخندق وبنى قريظة القصة فى سورة الأحزاب يذكر فيها ما نزل بهم من البلاء، ويذكر نعمته عليهم وكفايته إياهم حتى فرج عنهم ذلك:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [الأحزاب: 9- 12] فى آيات استوفى فيها تعالى ذكر ما شاء من قصتهم.
ثم قال سبحانه: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً [الأحزاب:
24- 27] .
فلما انقضى شأن بنى قريظة انفجر بسعد بن معاذ جرحه فمات شهيدا، يرحمه الله.
فذكروا أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قبض سعد من خوف الليل معتجرا بعمامة من استبرق فقال: يا محمد، من هذا الميت الذى فتحت له أبواب السماء واهتز له العرش؟! فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا يجر ثوبه إلى سعد بن معاذ فوجده قد مات.
وقد كان سعد رجلا بادنا، فلما حمله الناس وجدوا له خفة، فقال رجال من المنافقين: والله إن كان لبادنا، وما حملنا من جنازة أخف منه. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن له حملة غيركم، والذى نفس محمد بيده لقد استبشرت الملائكة بروح سعد واهتز له العرش» «2» .
__________
(1) انظر الحديث فى: الطبقات الكبرى لابن سعد (8/ 131) ، دلائل النبوة للبيهقى (4/ 24) .
(2) انظر الحديث فى: سنن الترمذى (5/ 3849) ، مستدرك الحاكم (3/ 207) .(1/438)
وقالت عائشة- رضى الله عنها- لأسيد بن حضير، وهو قافل معها من مكة وبلغه موت امرأة فحزن عليها بعض الحزن: يغفر الله لك أبا يحيى، اتحزن على امرأة وقد أصبت بابن عمك وقد اهتز له العرش؟ تعنى سعدا.
وقال جابر بن عبد الله: لما دفن سعد ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبح الناس معه وكبر فكبر الناس معه فقالوا: يا رسول الله، مم سبحت؟ قال: «لقد تضايق على هذا الرجل الصالح قبره حتى فرجه الله عنه» «1» .
ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن للقبر لضمة لو كان أحد منها ناجيا لكان سعد ابن معاذ» «2» .
ولسعد يقول رجل من الأنصار:
وما اهتز عرش الله من موت هالك ... سمعنا به إلا لسعد أبى عمرو
وقالت أم سعد حين احتمل نعشه وهى تبكيه:
ويل أم سعد سعدا ... صرامة وحدا
وسؤددا ومجدا ... وفارسا معدا
سد به مسدا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل نائحة تكذب إلا نائحة سعد بن معاذ» «3» .
وقال حسان بن ثابت يبكى سعدا:
لقد سجمت من فيض عينى عبرة ... وحق لعينى أن تفيض على سعد
قتيل ثوى فى معرك فجعت به ... عيون ذوارى الدمع دائمة الوجد «4»
على ملة الرحمن وارث جنة ... مع الشهداء وفدها أكرم الوفد
فإن تك قد ودعتنا وتركتنا ... وأمسيت فى غبراء مظلمة اللحد
فأنت الذى يا سعد أبت بمشهد ... كريم وأثواب المكارم والحمد
بحكمك فى حيى قريظة بالذى ... قضى الله فيهم ما قضيت على عمد
__________
(1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 360) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (135) ، إرواء الغليل للألبانى (3/ 166) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 128) .
(2) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 128) .
(3) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 130) .
(4) ثوى: أى أقام. والمعرك: موضع القتال. وذوارى الدمع: أى تسكبه. والوجد: أى الحزن.(1/439)
فوافق حكم الله حكمك فيهم ... ولم تعف إذ ذكرت ما كان من عهد
فإن كان ريب الدهر أمضاك فى الألى ... شروا هذه الدنيا بجناتها الخلد
فنعم مصير الصادقين إذا دعوا ... إلى الله يوما للوجاهة والقصد
وقال حسان يبكى سعدا ورجالا من الشهداء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ألا يا لقومى هل لما حم دافع ... وهل ما مضى من صالح العيش راجع
تذكر عصرا قد مضى فتهافتت ... بنات الحشا وانهل منى المدامع
صبابة وجد ذكرتنى أخوة ... وقتلى مضى فيها طفيل ورافع
وسعد فأضحوا فى الجنان وأوحشت ... منازلهم فالأرض منهم بلاقع
وفوا يوم بدر للرسول وفوقهم ... ظلال المنايا والسيوف اللوامع
دعا فأجابوه بحق وكلهم ... مطيع له فى كل أمر وسامع
فما نكلوا حتى تولوا جماعة ... ولا يقطع له فى كل أمر وسامع
فما نكلوا حتى تولوا جماعة ... ولا يقطع الآجال إلا المصارع
لأنهم يرجون منه شفاعة ... إذا لم يكن إلا النبيون شافع
فذلك يا خير العباد ملاذنا ... إجابتنا لله والموت نافع
لنا القدم الأولى إليك وخلفنا ... لأولنا فى ملة الله تابع
ونعلم أن الملك لله وحده ... وأن قضاء الله لا بد واقع
ولم يستشهد من المسلمين يوم الخندق إلا ستة نفر كلهم من الأنصار: سعد بن معاذ، وأنس بن أوس بن عتيك، وعبد الله بن سهل الأشهليون، والطفيل بن النعمان، وثعلبة بن غنمة الجشميان. ومن بنى دينار بن النجار كعب بن زيد، أصابه سهم غرب فقتله، رحمة الله عليهم.
واستشهد يوم بنى قريظة من المسلمين خلاد بن سويد من بنى الحارث بن الخزرج، طرحت عليه رحى فشدخته شدخا شديدا، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن له لأجر شهيدين» .
ومات أبو سنان بن محصن أخو عكاشة بن محصن، ورسول الله صلى الله عليه وسلم محاصر بنى قريظة.
ولما انصرف أهل الخندق عن الخندق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: محاصر بنى قريظة.
ولما انصرف أهل الخندق عن الخندق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا، ولكنكم تغزونهم» «1» .
__________
(1) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (3/ 458) ، تفسير ابن كثير (6/ 396) .(1/440)
فكان كذلك لم تغزوهم قريش بعد ذلك وكان هو صلى الله عليه وسلم يغزوهم حتى فتح الله عليه مكة.
وقال حسان بن ثابت فى يوم الخندق يجيب عبد الله بن الزبعرى شاعر قريش عن كلمة قالها فى ذلك:
هل رسم دارسة المقام بباب ... متكلم لمحاور بجواب
قفر عفا رهم السحاب رسومه ... وهبوب كل مظلة مرباب
ولقد رأيت بها الحلول يزينهم ... بيض الوجوه ثواقب الأحساب «1»
فدع الديار وذكر كل خريدة ... بيضاء آنسة الحديث كعاب «2»
واشك الهموم إلى الإله وما ترى ... من معشر ظلموا الرسول غضاب
ساروا بأجمعهم إليه وألبوا ... أهل القرى وبوادى الأعراب
جيش عيينة وابن حرب فيهم ... متخمطين بحلية الأحزاب
حتى إذا وردوا المدينة وارتجوا ... قتل الرسول ومغنم الأسلاب
وغدوا علينا قادرين بأيدهم ... ردوا بغيظهم على الأعقاب
بهبوب معصفة تفرق جمعهم ... وجنود ربك سيد الأرباب
فكفى الإله المؤمنين قتالهم ... وأثابهم فى الأجر خير ثواب
من بعد ما قنطوا ففرق جمعهم ... تنزيل نصر مليكنا الوهاب
وأقر عين محمد وصحابه ... وأذل كل مكذب مرتاب
عاتى الفؤاد موقع ذى ريبة ... فى الكفر ليس بطاهر الأثواب «3»
علق الشقاء بقلبه ففؤاده ... فى الكفر آخر هذه الأحقاب
وقال كعب بن مالك فى ذلك- أيضا- يجيب ابن الزبعرى عن كلمته:
أبقى لنا حدث الحروب بقية ... من خير نحلة ربنا الوهاب
بيضاء مشرقة الذرى ومعاطنا ... حم الجذوع غزيرة الأحلاب
كاللوب يبذل جمعها وحفيلها ... للجار وابن العم والمنتاب
ونزائعا مثل السراج نمى بها ... علف الشعير وجزة المقضاب
__________
(1) الحلول: البيوت المجتمعة. وثواقب: أى مشرقة.
(2) الخريدة: أى المرأة الناعمة. والكعاب: أى التى نهد ثديها فى أول ما نهد.
(3) عاتى الفؤاد: أى قاسيه. وموقع ذى ريبة: أصله من التوقيع فى ظهر الدابة، وهو انسلاخ يكون فيه.(1/441)
عرى الشوى منها وأردف نحضها ... جرد المتون وسار فى الآراب
قودا تراح إلى الصياح إذ غدت ... فعل الضراء تراح للكلاب
وتحوط سائمة الذمار وتارة ... تردى العدى وتؤوب بالأسلاب
يعدون بالزغف المضاعف شكة ... وبمترصات فى الثقاف صياب
وصوارم نزع الصياقل غلبها ... وبكل أروع ماجد الأنساب
يصل اليمين بمارن متقارب ... وكلت وقيعته إلى خباب
وكتيبة ينفى القران قتيرها ... وترد حد قواجز النشاب
أعيت أبا كرب وأعيت تبعا ... وأبت بسالتها على الأعراب
ومواعظ من ربنا نهدى بها ... بلسان أزهر طيب الأثواب
عرضت علينا فاشتهينا ذكرها ... من بعد ما عرضت على الأحزاب
حكما يراها المجرمون بزعمهم ... حرجا ويفهمها ذوو الألباب
جاءت سخينة كى تغالب ربها ... فليغلبن مغالب الغلاب
ولما قال كعب بن مالك هذا البيت: «جاءت سخينة» إلى آخره. قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد شكرك الله يا كعب على قولك هذا» «1» .
وقال كعب أيضا:
لقد علم الأحزاب حين تألبوا ... علينا وراموا ديننا ما نوادع
أضاميم من قيس بن عيلان أصفقت ... وخندف لم يدروا بما هو واقع «2»
يذودوننا عن ديننا ونذودهم ... عن الكفر والرحمن راء وسامع
إذا غايظونا فى مقام أعاننا ... على غيظهم نصر من الله واسع
وذلك حفظ الله فينا وفضله ... علينا ومن لم يحفظ الله ضائع
هدانا لدين الحق واختاره لنا ... ولله فوق الصانعين صنائع
وقال كعب أيضا:
ألا أبلغ قريشا أن سلعا ... وما بين العريض إلى الصماد
نواضح فى الحروب مدربات ... وخوص بقيت من عهد عاد
رواكد يزخر المران فيها ... فليست بالجمام ولا الثماد
بلاد لم تثر إلا لكيما ... نجالد إن نشطتم للجلاد
__________
(1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 134) .
(2) أضاميم: أى جماعات انضم بعضها إلى بعض. وأصفقت: أى اجتمعت وتوافقت على الأمر.(1/442)
أثرنا سكة الأنباط فيها ... فلم نر مثلها جلهات وادى
قصرنا كل ذى حضر وطول ... على الغايات مقتدر جواد
أجيبونا إلى ما نجتذيكم ... من القول المبين والسداد
وإلا فاصبروا لجلاد يوم ... لكم منا إلى شطر المذاد
نصبحكم بكل أخى حروب ... وكل مطهم سلس القياد
وكل طمرة خفق حشاها ... تدف دفيف صفراء الجراد
وكل مقلص الآراب نهد ... تميم الخلق من أخر وهاد
خيول لا تضاع إذا أضيعت ... خيول الناس فى السنة الجماد
ينازعن الأعنة مصغيات ... إذا نادى إلى الفزع المنادى
إذا قالت لنا النذر استعدوا ... توكلنا على رب العباد
وقلنا لن يفرج ما لقينا ... سوى ضرب القوانس والجهاد
ولم فلم نر عصبة فيمن لقينا ... من الأقوام من قار وباد
أشد بسالة منا إذا ما ... أردناه وألين فى الوداد
إذا ما نحن أشرجنا عليها ... جياد الجدل فى الأرب الشداد
قذفنا فى السوابغ كل صقر ... كريم غير معتلث الزناد
أشم كأنه أسد عبوس ... غداة بدا ببطن الجزع غادى
ليظهر دينك اللهم إنا ... بكفك فاهدنا سبل الرشاد
وقال حسان بن ثابت يذكر بنى قريظة:
تفاقد معشر نصروا قريشا ... وليس لهم ببلدتهم نصير «1»
هم أوتوا الكتاب فضيعوه ... وهم عمى من التوراة بور
فهان على سراة بنى لؤى ... حريق بالبويرة مستطير
ولما سمع ذلك أبو سفيان بن الحارث قال:
أدام الله ذلك من صنيع ... وحرق فى طرائقها السعير
فى أبيات ذكرها ابن إسحاق لم يأل قائلها أن صدق حسان.
وقال فى ذلك- أيضا- جبل بن جوال الثعلبى، وبكى النضير وقريظة ونعى على سعد بن معاذ إسلامه مواليه منهم خلاف ما فعل عبد الله بن أبى فى بنى قينقاع:
__________
(1) تفاقد: أى فقد بعضهم بعضا.(1/443)
ألا يا سعد سعد بنى معاذ ... لما لقيت قريظة والنضير
لعمرك إن سعد بنى معاذ ... غداة تحملوا لهو الصبور
فأما الخزرجى أبو حباب ... فقال لقينقاع لا تسيروا
ويقول فى آخرها:
تركتم قدركم لا شىء فيها ... وقدر القوم حامية تفور
فقال سعد حين بلغه هذا الشعر: من لقيهم فليحدثهم أنهم خانوا الله ورسوله فأخزاهم الله.
مقتل سلام بن أبى الحقيق
وكان سلام بن أبى الحقيق أبو رافع فيمن حزب الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان مما صنع الله به لرسوله أن هذين الحيين من الأنصار- الأوس والخزرج- كانا يتصاولان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تصاول الفحلين، لا تصنع الأوس شيئا فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عناء إلا قالت الخزرج: والله لا يذهبون بهذه فضلا علينا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى الإسلام. فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها، وإذا فعلت الخزرج شيئا قالت الأوس مثل ذلك.
وكانت الأوس قبل أحد قد قتلت كعب بن الأشرف فى عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتحريضه عليه، فقالت الخزرج: والله لا يذهبون بها فضلا علينا أبدا.
فتذاكروا بعد أن انقضى شأن الخندق وبنى قريظة: من رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى العداوة كابن الأشرف؟ فذكروا ابن أبى الحقيق وهو بخيبر، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قتله فأذن لهم، فخرج إليه من الخزرج من بنى سلمة خمسة نفر: عبد الله بن عتيك، ومسعود بن سنان، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة الحارث بن ربعى، وخزاعى بن أسود حليف لهم من أسلم.
فخرجوا، وأمر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عتيك ونهاهم أن يقتلوا وليدا أو امرأة.
فخرجوا حتى إذا قدموا خيبر أتوا دار ابن أبى الحقيق ليلا، فلم يدعوا لهم بيتا فى الدار إلا أغلقوه على أهله، وكان فى علية له إليها عجلة فأسندوا فيها حتى قاموا على بابه، فاستأذنوا، فخرجت عليهم امرأة فقالت من أنتم؟ فقالوا: أناس من العرب نلتمس(1/444)
الميرة. قالت: ذاكم صاحبكم فادخلوا إليه. قال: فلما دخلنا أغلقنا علينا وعليها الحجرة تخوفا أن يكون دونه مجادلة تحول بيننا وبينه. قال: وصاحت امرأته فنوهت بنا، وابتدرناه وهو على فراشه بأسيافنا، والله ما يدلنا عليه فى سواد الليل إلا بياضه كأنه قبطية ملقاة.
قال: ولما صاحت بنا امرأته جعل الرجل منا يرفع عليها سيفه ثم يذكر نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكف يده، ولولا ذلك لفرغنا منها بليل، فلما ضربناه بأسيافنا تحامل عليه عبد الله ابن أنيس بسيفه فى بطنه حتى أنفذه وهو يقول: قطنى قطنى، أى حسبى حسبى.
قال: وخرجنا وكان عبد الله بن عتيك رجلا سىء البصر، فوقع من الدرجة فوثئت يده وثئا شديدا، قال ابن هشام: ويقال: رجله، وحملناه حتى نأتى منهرا من عيونهم فندخل فيه. قال: وأوقدوا النيران واشتدوا فى كل وجه يطلبون، حتى إذا يئسوا رجعوا إلى صاحبهم فاكتنفوه وهو يقضى بينهم. فقلنا كيف لنا بأن نعلم أن عدو الله قد مات؟
فقال رجل منا: أنا أذهب فأنظر لكم. فانطلق حتى دخل فى الناس، قال: فوجدتها ورجال يهود حوله وفى يدها المصباح تنظر فى وجهه وتحدثهم وتقول: أما والله لقد سمعت صوت ابن عتيك ثم أكذبت وقلت أنى ابن عتيك بهذه البلاد. ثم أقبلت عليه تنظر فى وجهه ثم قالت: فاظ وإله يهود. فما سمعت من كلمة كانت ألذ إلى نفسى منها.
قال: ثم جاءنا فأخبرنا الخبر، فاحتملنا صاحبنا فقدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه بقتل عدو الله واختلفنا عنده فى قتله، كلنا ندعيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هاتوا أسيافكم» . فجئناه بها فنظر إليها، فقال لسيف عبد الله بن أنيس: «هذا قتله، أرى فيه أثر الطعام» «1» .
وقال حسان بن ثابت يذكر قتل كعب بن الأشرف وقتل سلام بن أبى الحقيق:
لله در عصابة لاقيتهم ... يابن الحقيق وأنت يابن الأشرف
يسرون بالبيض الخفاف إليكم ... مرحا كأسد فى عرين مغرف «2»
حتى أتوكم فى محل بلادكم ... فسقوكم حتفا ببيض ذفف «3»
مستنصرين لنصر دين نبيهم ... مستصغرين لكل أمر مجحف
__________
(1) انظر الحديث فى: الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 1/ 66) .
(2) مغرف: ملتف الشجر.
(3) ذفف: سريعة القتل.(1/445)
ذكر إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد رضى الله عنهما
حدث عمرو بن العاص- رحمه الله- قال: لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق جمعت رجالا من قريش كانوا يريون رأيى ويسمعون منى فقلت لهم: تعلموا والله إنى أرى أمر محمد يعلو الأمور علوا منكرا، وإنى قد رأيت أمرا فما ترون فيه؟ قالوا: وماذا رأيت؟ قال: رأيت أن نلحق بالنجاشى فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشى، فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا أن نكون تحت يدى محمد، وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا فلن يأتينا منهم إلا خير.
قالوا: إن هذا لرأى. قلت: فاجمعوا ما نهدى له، وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم، فجمعنا له أدما كثيرا، ثم خرجنا حتى قدمنا عليه، فو الله إنا لعنده إذ جاءه عمرو بن أمية الضمرى، بعثه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شأن جعفر وأصحابه، قال: فدخل عليه ثم خرج من عنده فقلت لأصحابى: هذا عمرو بن أمية لو قد دخلت على النجاشى سألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه، فإذا فعلت ذلك رأت قريش أنى قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد: قال: فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصنع فقال لى: مرحبا بصديقى، أهديت لى من بلدك شيئا؟ قلت: نعم أيها الملك، قد أهديت لك أدما كثيرا. ثم قربته إليه فأعجبه واشتهاه، ثم قلت له: أيها الملك، إنى قد رأيت رجلا خرج من عندك وهو رسول رجل عدو لنا فأعطينيه لأقتله فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا.
قال: فغضب ثم مد يده وضرب بها أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره، فلو انشقت لى الأرض لدخلت فيها فرقا منه، ثم قلت له: أيها الملك، والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه، قال: أتسألنى أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذى كان يأتى موسى لتقتله؟! قلت أيها الملك أكذلك هو؟ قال: ويحك يا عمرو، أطعنى واتبعه فإنه والله لعلى الحق وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده. فقلت:
أفتبايعنى له على الإسلام؟ قال: نعم. فبسط يده فبايعته على الإسلام.
ثم خرجت إلى أصحابى وقد حال رأيى عما كان عليه، وكتمت أصحابى إسلامى، ثم خرجت عامدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسلم، فلقيت خالد بن الوليد وذلك قبيل الفتح، وهو مقبل من مكة، فقلت: أين يا أبا سليمان؟ قال: والله لقد استقام المنسم وإن الرجل(1/446)
لنبى، أذهب والله فأسلم، حتى متى؟! قلت: والله ما جئت إلا لأسلم.
فقدمنا المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقدم خالد بن الوليد فأسلم وبايع ثم دنوت فقلت: يا رسول الله، إنى أبايعك على أن يغفر لى ما تقدم من ذنبى ولا أذكر ما تأخر.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عمرو بايع، فإن الإسلام يجب ما كان قبله، وإن الهجرة تجب ما كان قبلها» «1» ، قال: فبايعته وانصرفت.
وذكر ابن إسحاق عمن لا يتهم أن عثمان بن طلحة بن أبى طلحة أخا بنى عبد الدار كان معهما أسلم حين أسلما.
وذكر غيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين رآهم: «رمتكم مكة بأفلاذ كبدها» .
وحدث الواقدى بإسناد له قال: قال عثمان بن طلحة: لقينى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة فدعانى إلى الإسلام فقلت: يا محمد، العجب لك حين تطمع أن أتبعك وقد خالفت قومك وجئت بدين محدث ففرقت جماعتهم وألفتهم وأذهبت بهاءهم.
فانصرف، وكنا نفتح الكعبة فى الجاهلية يوم الاثنين والخميس، فأقبل يوما يريد أن يدخل الكعبة مع الناس، فغلظت عليه ونلت منه وحلم عنى ثم قال: يا عثمان، لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدى أضعه حيث شئت.
فقلت: لقد هلكت قريش- يومئذ- وذلت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل عمرت وعزت يومئذ» . ودخل الكعبة فوقعت كلمته منى موقعا ظننت أن الأمر سيصير إلى ما قال: فأردت الإسلام، فإذا قومى يزبروننى زبرا شديدا ويزرون برأيى، فأمسكت عن ذكره. فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة جعلت قريش تشفق من رجوعه عليها، فهم على ما هم عليه حتى جاء النفير إلى بدر، فخرجت فيمن خرج من قومنا وشهدت المشاهد كلها معهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عام القضية غير الله قلبى عما كان عليه ودخلنى الإسلام وجعلت أفكر فيما نحن عليه وما نعبد من حجر لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضر، وأنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وظلف أنفسهم عن الدنيا فيقع ذلك منى فأقول: ما عمل القوم إلا على الثواب لما يكون بعد الموت.
__________
(1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (4/ 199) ، السنن الكبرى للبيهقى (9/ 123) ، دلائل النبوة للبيهقى (4/ 348) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 142) ، مجمع الزوائد للهيثمى (9/ 351) .(1/447)
وجعلت أحب النظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أن رأيته خارجا من باب بنى شيبة يريد منزله بالأبطح، فأردت أن آتيه وآخذ بيده وأسلم عليه فلم يعزم لى على ذلك، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا إلى المدينة، ثم عزم لى على الخروج إليه، فأدلجت إلى بطن يأجج فألقى خالد بن الوليد، فاصطحبنا حتى نزلنا الهدة فما شعرنا إلا بعمرو بن العاص فانقمعنا عنه وانقمع منا، ثم قال: أين يريد الرجلان؟ فأخبرناه فقال: وأنا أريد الذى تريدان.
فاصطحبنا جميعا حتى قدمنا المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته على الإسلام وأقمت حتى خرجت معه فى غزوة الفتح ودخل مكة، فقال لى: «يا عثمان، ايت بالمفتاح» ، فأتيته به فأخذه منى ثم دفعه إلى وقال: «خذوها تالدة خالدة ولا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان، إن الله استأمنكم على بيته فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف» «1» .
قال عثمان: فلما وليت نادانى فرجعت إليه فقال: «ألم يكن الذى قلت لك؟» فذكرت قوله لى قبل الهجرة بمكة: «لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدى أضعه حيث شئت» ، فقلت بلى، أشهد أنك رسول الله!
قال الواقدى: فهذا أثبت الوجوه فى إسلام عثمان.
غزوة بنى لحيان «2»
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس ستة أشهر من فتح بنى قريظة إلى لحيان يطلبهم بأصحاب الرجيع- خبيب وأصحابه- وأظهر أنه يريد الشام ليصيب من القوم غرة.
فلما انتهى إلى منازلهم بغران وهو واد بين أمج وعسفان وجدهم قد حذروا وتمنعوا فى رؤس الجبال. فلما أخطأه من غرتهم ما أراد قال: لو أنا هبطنا عسفان لرأى أهل مكة أنا قد جئنا مكة. فخرج فى مائتى راكب من أصحابه حتى نزل عسفان ثم بعث فارسين من أصحابه حتى بلغا كراع الغميم ثم كرا وراح رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا.
__________
(1) انظر الحديث فى: المعجم الكبير للطبرانى (11/ 120) ، مجمع الزوائد للهيثمى (3/ 285) ، الدر المنثور (2/ 175) ، كنز العمال للمتقى الهندى (34766) .
(2) راجع هذه الغزوة فى: طبقات ابن سعد (2/ 1/ 56) ، المغازى للواقدى (2/ 535) ، تاريخ الطبرى (2/ 595) ، البداية والنهاية (4/ 81) .(1/448)
فكان جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين وجه راجعا:
«آيبون تائبون إن شاء الله، لربنا حامدون، أعوذ بالله من وعثاء السفر وكآبة المنقلب وسوء المنظر فى الأهل والمال» «1» .
غارة عيينة بن حصن على سرح المدينة وخروج النبى صلى الله عليه وسلم فى أثره، وهى غزوة ذى قرد «2»
ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من غزوة بنى لحيان لم يقم بالمدينة إلا ليال قلائل، حتى أغار عيينة بن حصن فى جبل من غطفان على لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغابة، وفيها رجل من بنى غفار وامرأة له، فقتلوا الرجل واحتملوا المرأة فى اللقاح.
وكان أول من نذر بهم سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمى، غدا يريد الغابة متوشحا سيفه ونبله ومعه غلام لطلحة بن عبيد الله معه فرس يقوده، حتى إذا علا ثنية الوداع نظر إلى بعض خيولهم فأشرف فى ناحية سلع ثم صرخ: واصباحاه. ثم خرج يشد فى آثار القوم وكان مثل السبع، حتى لحق القوم فجعل يردهم بالنبل ويقول إذا رمى:
خذها وانا ابن الأكوع ... اليوم يوم الرضع
فإذا وجهت الخيل نحوه انطلق هاربا ثم عارضهم فإذا أمكنه الرمى رمى ثم قال:
خذها وانا ابن الأكوع ... اليوم يوم الرضع
فيقول قائلهم: أأكيعنا هو أول النهار.
وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم صياح ابن الأكوع فصرخ بالمدينة: الفزع الفزع. فترامت الخيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أول من انتهى إليه من الفرسان المقداد بن عمرو، وهو الذى يقال له: المقداد بن الأسود. ثم كان أول فارس وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد المقداد من الأنصار عباد بن بشر وسعد بن زيد الأشهليان وأسيد بن ظهير الحارثى، يشك فيه، وعكاشة بن محصن، ومحرز بن نضلة الأسديان وأبو قتادة السلمى وأبو عياش، الزرقى.
__________
(1) انظر الحديث فى: عمل اليوم والليلة لابن السنى (525) ، مصنف ابن أبى شيبة (12/ 519، 520) .
(2) راجع هذه الغزوة فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 150) ، طبقات ابن سعد (2/ 80) .(1/449)
فلما اجتمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عليهم سعد بن زيد وقال: «اخرج فى طلب القوم حتى ألحقك فى الناس» «1» . وقال لأبى عياش: «يا أبا عياش لو أعطيت هذا الفرس رجلا هو أفرس منك فلحق بالناس» . قال أبو عياش: فقلت: يا رسول الله، أنا أفرس الناس. ثم ضربت الفرس فو الله ما جرى بى خمسين ذراعا حتى طرحنى، فعجبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لو أعطيته أفرس منك» وأقول: أنا أفرس! فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرس أبى عياش هذا- فيما زعموا- معاذ ابن ماعص أو عائذ بن ماعص، فكان ثامنا.
فخرج الفرسان فى طلب القوم حتى تلاحقوا، وكان أول فارس لحق بالقوم محرز بن نضلة الأخرم، ويقال له أيضا: قمير، ولما كان الفزع جال فرس لمحمود بن مسلمة فى الحائط وهو مربوط بجذع نخل حين سمع صاهلة الخيل، وكان فرسا صنيعا جاما، فقال بعض نساء بنى عبد الأشهل: يا قمير، هل لك فى أن تركب هذا الفرس فإنه كما ترى، ثم تلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمسلمين؟ قال: نعم فأعطينه إياه فخرج عليه فلم يلبث أن بز الخيل بجمامه حتى أدرك القوم، فوقف لهم بين أيديهم ثم قال: قفوا بنى اللكيعة حتى يلحق بكم من وراءكم من المهاجرين والأنصار، وحمل عليه رجل منهم فقتله، وجال الفرس فلم يقدر عليه حتى وقف على أرية فى بنى عبد الأشهل. فقيل: إنه لم يقتل من المسلمين- يومئذ- غيره، وقد قيل: إنه قتل معه وقاص بن محرز المدلجى.
ولما تلاحقت الخيل قتل أبو قتادة حبيب بن عيينة بن حصن وغشاه برده ثم لحق بالناس، وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المسلمين فإذا حبيب مسجى ببرد أبى قتادة، فاسترجع الناس وقالوا: قتل أبو قتادة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس بأبى قتادة، ولكنه قتيل لأبى قتادة وضع عليه برده ليعرفوا أنه صاحبه» «2» .
وأدرك عكاشة بن محصن أو بارا وابنه عمرو بن أوبار وهما على بعير واحد فانتظمهما بالرمح فقتلهما جميعا، واستنقذوا بعض اللقاح.
وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بالجبل من ذى قرد وتلاحق به الناس، وأقام عليه يوما وليلة، وقال له أبو سلمة بن الأكوع: يا رسول الله، لو سرحتنى فى مائة رجل لاستنقذت بقية السرح وأخذت بأعناق القوم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنهم الآن ليغبقون فى غطفان» «3» .
__________
(1) انظر الحديث فى: المعجم الكبير للطبرانى (7/ 32) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 143) .
(2) انظر الحديث فى: المعجم الكبير للطبرانى (7/ 31) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 143) .
(3) انظر الحديث فى: صحيح مسلم فى كتاب الجهاد (3/ 132/ 1433، 1441) .(1/450)
فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم: فى أصحابه فى كل مائة رجل جزورا. وأقاموا عليها ثم رجع قافلا إلى المدينة.
وأفلتت ارمأة الغفارى على ناقة من إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قدمت عليه فأخبرته الخبر، فلما فرغت قالت: يا رسول الله، إنى قد نذرت لله أن أنحرها إن نجانى الله عليها، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «بئس ما جزيتها أن حملك الله عليها ونجاك بها ثم تنحرينها، إنه لا نذر فى معصية الله ولا فيما لا تملكين، إنما هى ناقة من إبلى، ارجعى إلى أهلك على بركة الله» «1» .
فهذا حديث ابن إسحاق عن غزوة ذى قرد.
وخرج مسلم بن الحجاج- رحمه الله- حديثا فى صحيحه بإسناده إلى سلمة بن الأكوع فذكر حديثا طويلا خالف به حديث ابن إسحاق فى مواضع منه، فمن ذلك:
أن هذه الغزوة كانت بعد انصراف الرسول صلى الله عليه وسلم الحديبية، وجعلها ابن إسحاق قبل ذلك، وكذلك فعل ابن عقبة.
وفيه أن سلمة بن الأكوع»
استنقذ سرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بجملتة، قال سلمة: فو الله مازلت أرميهم وأعقر بهم فإذا رجع إلى فارس أتيت شجرة فجلست فى أصلها ثم رميته فعقرت به حتى إذا تضايق الجبل فدخلوا فى تضايقه علوت الجبل فجعلت أرديهم بالحجارة. قال: فمازلت كذلك أتبعهم حتى ما خلق الله من بعير من ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خلفته وزاء ظهرى وخلوا بينى وبينه، ثم اتبعتهم أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة وثلاثين رمحا يستخفون، ولا يطرحون شيئا إلا جعلت عليه آراما من الحجارة يعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى أتوا متضايقا من ثنية فإذا هم قد أتاهم فلان بن بدر الفزارى، فجلسوا يتضخون- أى يتغدون- وجلست على رأس قرن.
قال الفزارى: ما هذا الذى أرى؟ قالوا: لقينا من هذا البرح، والله ما فارقنا منذ غلس يرمينا حتى انتزع كل شىء فى أيدينا. قال فليقم إليه نفر منكم أربعة، قال: فصعد إلى
__________
(1) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (4/ 187) .
(2) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (3374) ، أسد الغابة ترجمة رقم (2155) ، طبقات ابن سعد (305) ، طبقات خليفة ترجمة رقم (689) ، التاريخ الكبير (4/ 69) ، المعارف (212) ، المعرفة والتاريخ (1/ 336) ، مشاهير علماء الأنصار ترجمة رقم (80) ، تهذيب الكمال (525) ، تاريخ الإسلام (3/ 158) ، العبر (1/ 84) ، البداية والنهاية (9/ 6) ، تهذيب التهذيب (4/ 150) ، شذرات الذهب (1/ 81) ، تهذيب ابن عساكر (6/ 232) .(1/451)
منهم أربعة فى الجبل، فلما أمكنونى من الكلام قلت: هل تعرفوننى؟ قالوا: لا، ومن أنت؟ قلت: أنا سلمة بن الأكوع والذى كرم وجه محمد صلى الله عليه وسلم لا اطلب رجلا منكم إلا أدركته ولا يطلبنى فيدركنى. قال أحدهم: أنا أظن ذلك، فرجعوا.
فما برحت مكانى حتى رأيت فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخللون الشجر، فإذا أولهم الأخرم الأسدى، على أثره أبو قتادة الأنصارى وعلى أثره المقداد بن الأسود الكندى فأخذت بعنان الأخرم فولوا مدبرين، قلت: يا أخرم احذرهم لا يقتطعونك حتى يلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال: يا سلمة، إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر وتعلم أن الجنة حق والنار حق فلا تحل بينى وبين الشهادة. قال: فخليته فالتقى هو وعبد الرحمن، قال: فعقر بعبد الرحمن فرسه وطعنه عبد الرحمن فقتله، وتحول على فرسه. ولحق أبو قتادة فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبد الرحمن فطعنه فقتله، فو الذى كرم وجه محمد لتبعتهم أعدو على رجلى حتى ما أرى من ورائى من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولا غبارهم شيئا، حتى يعدلوا قبل غروب الشمس إلى شعب فيه ماء يقال له: ذو قرد ليشربوا منه وهم عطاش فنظروا إلى أعدو وراءهم فحلأتهم عنه. فما ذاقوا منه قطرة، ويخرجون فيشتدون فى ثنية فأعدو فألحق منهم فأمكسه بسهم فى نغض كتفه، قلت:
خذها وانا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرضع
قال: يا ثكلته أمه أأكوعه بكرة؟ قلت: نعم يا عدو نفسه أكوعه بكرة.
قال: وأردوا فرسين على ثنية فجئت بهما أسوقهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولحقنى عامر بسطيحة فيها مذقة من لبن وسطيحة فيها ماء فتوضأت وشربت ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الماء الذى حلأتهم عنه قد أخذ تلك الإبل وكل شىء استنقذته من المشركين وكل رمح وكل بردة، وإذا بلال نحر ناقة من الإبل التى استنقذت من القوم، وإذا هو يشتوى لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كبدها وسنامها، قلت: يا رسول الله، خلنى فأنتحب من القوم مائة رجل فأتبع القوم فلا يبقى منهم مخبر إلا قتلنه. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه فى ضوء النار قال: «يا سلمة، أتراك كنت فاعلا؟» قلت: نعم، والذى أكرمك، قال: «إنهم الآن ليقرون بأرض غطفان» . قال: فجاء رجل من غطفان فقال:
نحر لهم فلان جزورا فلما كشطوا جلدها رأوا غبارا فقالوا: إياكم القوم فخرجوا هاربين.
فلما أصبحنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالنا(1/452)
سلمة» . ثم أعطانى رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمين: سهم الفارس وسهم الراجل فجمعهما لى جميعا.
وذكر الزبير بن أبى بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر فى غزوة قرد هذه على ماء يقال له:
بيسان، فسأل عنه فقيل: اسمه يا رسول الله: بيسان وهو مالح. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟:
«لا، بل اسمه نعمان وهو طيب» . فغير رسول الله صلى الله عليه وسلم الاسم وغير الله- تعالى- الماء.
فاشتراه طلحة بن عبيد الله ثم تصدق به وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنت يا طلحة إلا فياض» . فسمى طلحة الفياض.
وكان مما قيل من الشعر فى يوم ذى قرد قول حسان بن ثابت:
أظن عيينة إذا زارها ... بأن سوف يهدم فيها قصورا
فأكذبت ما كنت صدقته ... وقلتم سنغنم أمرا كبيرا
وولوا سراعا كشد النعام ... ولم يكشفوا عن ملط حصيرا
أمير علينا رسول الملي ... ك أحبب بذاك إلينا أميرا
رسول نصدق ما جاءه ... ويتلوا كتابا مضيئا منيرا
وقال كعب بن مالك:
أيحسب أولاد اللقيطة أننا ... على الخيل لسنا مثلهم فى الفوارس
وإنا أناس لا نرى القتل سبة ... ولا ننثنى عند الرماح المداعس
وإنا لنقرى الضيف من قمع الذرى ... ونضرب رأس الأبلخ المتشاوس «1»
نرد كماة المعلمين إذا انتحوا ... بضرب يسلى نخوة المتقاعس
بكل فتى حامى الحقيقة ماجد ... كريم كسرحان الغضاة مخالس
يذودون عن أحسابهم وتلادهم ... ببيض تقد الهام تحت القوانس
فسائل بنى بدر إذا ما لقيتهم ... بما فعل الإخوان يوم التمارس
إذا ما خرجتم فاصدقوا من لقيتم ... ولا تكتموا أخباركم فى المجالس
وقولوا زللنا عن مخالب خادر ... به وحر فى الصدر ما لم يمارس
وقال شداد بن عارض الجشمى فى يوم ذى قرد لعيينة بن حصن وكان عيينة يكنى أبا مالك:
__________
(1) القمع: جمع قمعة، وهى أعلى سنام البعير. والذرا: أى الأسنمة. والأبلخ: أى المتكبر. والمتشاوس: هو الذى ينظر بمؤخر عينه نظرة المتكبر.(1/453)
فهلا كررت أبا مالك ... وخيلك مدبرة تقتل
ذكرت الإياب إلى عسجر ... وهيهات قد بعد المقفل «1»
وطمنت نفسك ذا ميعة ... مسح الفضاء إذا يرسل
إذا قبضته إليك الشما ... ل جاش كما اضطرم المرجل
فلما عرفتم عباد الإل ... هـ لم ينظر الآخر الأول
عرفتم فوارس قد عودوا ... طراد الكماة إذا أسهلوا
إذا طردوا الخيل تشقى بهم ... فضاحا وإن يطردوا ينزلوا
فيعتصموا فى سواء المقا ... م بالبيض أخلصها الصيقل «2»
غزوة بنى المصطلق وهى غزوة المريسيع «3»
وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى المصطلق من خزاعة فى شعبان سنة ست، وكان بلغه أنهم يجمعون له، وقائدهم الحارث بن أبى ضرار أبو جويرية زوج النبى صلى الله عليه وسلم.
فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له:
المريسيع، فتزاحف الناس واققتلوا، فهزم الله بنى المصطلق وقتل من قتل منهم ونفل رسوله أبناءهم ونساءهم وأموالهم.
وكان شعار المسلمين فى ذلك اليوم: يا منصور أمت أمت.
وأصاب- يومئذ- رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت رجلا من المسلمين من بنى كلب بن عوف بن عامر بن أمية بن ليث بن بكر يقال له: هشام ابن صبابة، وهو يرى أنه من العدو فقتله خطأ.
فبينا الناس على ذلك الماء وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من غفار يقال له: جهجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهنى حليف بنى عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا، فصرخ الجهنى: يا معشر الأنصار.
__________
(1) عسجر: موضع بالقرب من مكة. والمقفل: أى الرجوع.
(2) أخلصها الصقيل: أى أزال ما عليها من الصدأ.
(3) راجع هذه الغزوة فى: المغازى للواقدى (1/ 404) ، طبقات ابن سعد (2/ 1/ 45) ، تاريخ الطبرى (2/ 593) ، الكامل (2/ 81) ، البداية والنهاية (4/ 156) .(1/454)
وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين. فغضب عبد الله بن أبى بن سلول فقال: أقد فعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا فى بلادنا، والله ما أعدنا وجلابيب قريش هؤلاء إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، وأما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. ثم أقبل على من حضره من قومه- وفيهم زيد بن أرقم غلام حدث- فقال:
هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم.
فمشى زيد بن أرقم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، وذلك عند فراغه من عدوه، وعنده عمر بن الخطاب، فقال: مر به عباد بن بشر فليقتله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، لا ولكن أذن بالرحيل» «1» .
وذلك فى ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها.
فارتحل الناس وقد مشى عبد الله بن أبى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغة أن زيدا بلغه ما سمع منه، فحلف بالله ما قلت ما قال ولا تكلمت به. وكان فى قومه شريفا عظيما، فقال من حضر من الأنصار من أصحابه: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام أوهم فى حديثه ولم يحفظ ما قال الرجل. حدبا على ابن أبى ودفعا عنه.
فلما استقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار لقيه أسيد بن حضير فحياه بتحية النبوة وسلم عليه ثم قال: يا نبى الله، والله لرحت فى ساعة منكرة ما كنت تروح فى مثلها. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟» قال: وأى صاحب يا رسول الله؟ قال:
«عبد الله بن أبى» . قال: وما قال؟ قال: «زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل» «2» .
قال: فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز. ثم قال: يا رسول الله صلى الله عليك ارفق به، فو الله لقد جاء الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه ليرى أن قد استلبته ملكا!
ثم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى وليلتهم حتى أصبح، وسار يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس ثم نزل بالناس فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياما، وإنما فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذى كان بالأمس ثم راح
__________
(1) انظر الحديث فى: مصنف ابن أبى شيبة (12/ 540، 14/ 432) .
(2) انظر الحديث فى: تفسير الطبرى (28/ 75) .(1/455)
بالناس، فهبت عليهم ريح شديدة آذتهم وتخوفوها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تخافوها فإنما هبت لموت عظيم من الكفار» «1» . فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت- أحد ينى قينقاع- وكان من عظماء يهود وكهفا للمنافقين مات ذلك اليوم.
ونزلت السورة التى ذكر الله فيها المنافقين فى عبد الله بن أبى ومن كان على مثل أمره. فلما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذن زيد بن أرقم ثم قال: «هذا الذى أوفى الله بأذنه» «2» .
وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبى الذى كان من أمر أبيه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
يا رسول الله، إنه بلغنى أنك تريد قتل عبد الله بن أبى فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلا فمرنى فأنا أحمل إليك رأسه، فو الله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده منى، إنى أخشى أن تأمر به غيرى فيقتله فلا تدعنى نفسى أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبى يمشى فى الناس فأقتله فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقى معنا» «3» .
وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويؤاخذونه ويعنفونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شأنهم: «كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتله يوم قلت لى اقتله لأرعدت له آنف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته» «4» ! فقال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمرى.
وقدم مقيس بن صبابة من مكة متظاهرا بالإسلام، فقال يا رسول الله، جئتك مسلما، وجئتك اطلب دية أخى قتل خطأ، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية أخيه هشام بن صبابة، فأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم غير كثير ثم عدا على قاتل أخيه فقتله. ثم خرج إلى مكة مرتدا وقال فى شعر له:
شفى النفس أن بات بالقاع مسندا ... تضرج ثوبيه دماء الأخادع «5»
__________
(1) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (4/ 61) .
(2) انظر الحديث فى: كنز العمال للمتقى الهندى (4413) ، سنن الترمذى (5/ 3313) ، فتح البارى لابن حجر (8/ 514) .
(3) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (4/ 62) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 158) .
(4) انظر الحديث فى: تفسير الطبرى (28/ 76) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 158) .
(5) تضرج: أى تلطخ. والأخادع: عروق القفا.(1/456)
وكانت هموم النفس من قبل قتله ... تلم فتحمينى وطاء المضاجع
حللت به وترى وأدركت ثؤرتى ... وكنت إلى الأوثان أول راجع
ثأرت به فهرا وحملت عقله ... سراة بنى النجار أرباب فارع
وقال أيضا:
جللته ضربة باتت لها وشل ... من ناقع الجوف يعلوه وينصرم
فقلت والموت تغشاه أسرته ... لا تأمنن بنى بكر إذا ظلموا
وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بنى المصطلق سبيا كثيرا، فشا قسمة فى المسلمين، وكان فيمن أصيب- يومئذ- من السبايا جويرية بنت الحارث بن أبى ضرار، فوقعت فى السهم لثابت بن قيس بن الشماس أو لابن عم له، فكاتبته على نفسها.
قال عائشة رضى الله عنها: وكانت- تعنى جويرية- امرأة حلوة ملاحة لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه فى كتابتها، فو الله ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتى فكرهتها وعرفت أنه سيرى منها ما رايت، فدخلت عليه فقالت: يا رسول الله، أنا جويرية بنت الحارث بن أبى ضرار سيد قومه، وقد أصابنى من البلاء ما لم يخف عليك فوقعت فى السهم لثابت بن قيس بن الشماس أو لابن عم له، فكاتبته على نفسى، فجئتك أستعينك على كتابتى، قال: «فهل لك فى خير من ذلك؟» قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: «أقضى كتابتك وأتزوجك» «1» . قالت: نعم يا رسول الله. قال: «قد فعلت» «2» . وخرج الخبر إلى الناس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوج جويرية. فقال الناس: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأرسلوا ما بأيديهم، قالت: فلقد أعتق بتزوجه إياها مائة أهل بيت من بنى المصطلق، فما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها.
وبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إسلامهم الوليد بن عقبة بن أبى معيط، فلما سمعوا به ركبوا إليه، فلما سمع بهم هابهم فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن القوم هموا بقتله ومنعوه ما قبلهم من صدقتهم، فأكثر المسلمون فى ذكر غزوهم حتى هم رسول
__________
(1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (6/ 277) .
(2) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (4/ 78) ، المعجم الكبير للطبرانى (7/ 205) ، موارد الظمآن للهيثمى (1213) ، الطبقات الطبرى لابن سعد (8/ 83، 107) ، إتحاف السادة المتقين (5/ 41) ، الدر المنثور للسيوطى (1/ 12) ، كنز العمال للمتقى الهندى (11530) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (1/ 306) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/ 64) .(1/457)
الله صلى الله عليه وسلم يأن يغزوهم، فبينا هم فى ذلك قدم وفدهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، سمعنا برسولك حين بعثته إلينا، فخرجنا إليه لنكرمه ونؤدى إليه ما قبلنا من الصدقة، فانشمر راجعا، فبلغنا أنه زعم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنا خرجنا إليه لنقتله وو الله ما جئنا لذلك. فأنزل الله فيه وفيهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ [الحجرات: 6] .
هكذا ذكر ابن إسحاق «1» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى بنى المصطلق بعد إسلامهم الوليد بن عقبة ولم يعين مدة توجيهه إياه إليهم، وقد يوهم ظاهره أن ذلك كان بحدثان إسلامهم، ولا يصح ذلك، إذ الوليد من مسلمة الفتح، وإنما كان الفتح فى سنة ثمان بعد غزوة بنى المصطلق وإسلامهم بسنتين، فلا يكون هذا التوجيه إلا بعد ذلك ولا بد.
وقد قال أبو عمر بن عبد البر: لا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت أن قوله عز وجل: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ نزلت فى الوليد بن عقبة حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بنى المصطلق مصدقا، والله سبحانه أعلم.
وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره ذلك حتى إذا كان قريبا من المدينة قال: «أهل الإفك فى الصديقة المبرأة المطهرة عائشة بنت الصديق، رضى الله عنهما، ما قالوا» .
فحدثت- يرحمها الله- قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه. فلما كانت غزوة بنى المصطلق أقرع بين نسائه كما كان يصنع فخرج سهمى عليهن معه فخرج بى صلى الله عليه وسلم. قالت: وكان النساء إذ ذاك إنما يأكلن العلق لم يهبجهن اللحم فيثقلن، وكنت إذا رحّل لى بعيرى جلست فى هودجى ثم يأتى القوم الذين يرحلون لى ويحملوننى فيأخذون بأسفل الهودج فيرفعونه فيضعونه على ظهر البعير فيشدونه بحباله ثم يأخذون برأس البعير فينطلقون به.
فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره ذلك وجه قافلا حتى إذا كان قريبا من المدينة نزل منزلا فبات به بعض الليل ثم أذن فى الناس بالرحيل، فارتحل الناس وخرجت لحاجتى وفى عنقى عقد لى فيه جزع ظفار فلما فرغت انسل من عنقى ولا أدرى، فلما رجعت إلى الرحل ذهبت ألتمسه فى عنقى فلم أجده وقد أخذ الناس فى الرحيل، فرجعت إلى مكانى الذى ذهبت إليه فالتمسته حتى وجدته، وجاء خلافى القوم الذين كانوا يرحلون لى البعير وقد فرغوا من رحلته فأخذوا الهودج وهم يظنون أنى فيه كما
__________
(1) انظر: السيرة (3/ 269) .(1/458)
كنت أصنع، فاحتملوه فشدوه على البعير ولم يشكوا أنى فيه، ثم أخذوا برأس البعير فانطلقوا به، ورجعت إلى العسكر وما فيه داع ولا مجيب قد انطلق الناس، قالت:
فتلففت بجلبابى ثم اضطجعت فى مكان وعرفت أنه لو قد افتقدت لرجع إلى.
فو الله إنى لمضطجعة إذ مر بى صفوان بن المعطل السلمى، وكان تخلف عن العسكر لبعض حاجته فلم يبت مع الناس، فرأى سوادى، فأقبل حتى وقف على، وقد كان يرانى قبل أن يضرب علينا الحجاب، فلما رآنى قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! ظعينة رسول الله صلى الله عليه وسلم! وأنا متلففة فى ثيابى. قال: ما خلفك، رحمك الله؟ قالت: فما كلمته، ثم قرب البعير فقال: اركبى. واستأخر عنى، فركبت وأخذ برأس البعير فانطلق سريعا يطلب الناس، فو الله ما أدركنا الناس وما افتقدت حتى أصبحت، ونزل الناس فلما اطمأنوا طلع الرجل يقودنى، فقال أهل الإفك ما قالوا. فارتعج العسكر، والله ما أعلم بشىء من ذلك.
ثم قدمنا المدينة فلم ألبث أن اشتكيت شكوا شديدا لا يبلغنى من ذلك شىء وقد انتهى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أبوى لا يذكرون لى منه قليلا ولا كثيرا، إلا أنى قد أنكرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض لطفه بى، كنت إذا اشتكيت رحمنى ولطف لى فلم يفعل ذلك فى شكوى ذلك فأنكرت ذلك منه، كان إذا دخل على وعندى أمى تمرضنى قال: كيف تيكم، لا يزيد على ذلك حتى وجدت فى نفسى حين رأيت من جفائه لى. فقلت: يا رسول الله لو أذنت لى فانتقلت إلى أمى فتمرضنى؟ قال: «لا عليك» .
فانتقلت إلى أمى ولا علم لى بشىء مما كان، حتى نقهت من وجعى بعد بضع وعشرين ليلة، وكنا قوما عربا لا نتخذ فى بيوتنا هذه الكنف التى تتخذ الأعاجم نعافها ونكرهها، إنما كنا نذهب فى فسح المدينة، وإنما كان النساء يخرجن كل ليلة فى حوائجهن، فخرجت ليلة لبعض حاجتى ومعى أم مسطح بنت أبى رهم بن المطلب بن عبد مناف، وكانت أمها خالة أبى بكر الصديق، فو الله إنها لتمشى معى إذ عثرت فى مرطها فقالت: تعس مسطح. قلت: بئس لعمر الله ما قلت لرجل من المهاجرين قد شهد بدرا. قالت: أو ما بلغك الخبر يا بنت أبى بكر؟ قلت: وما الخبر؟ فأخبرتنى بالذى كان من قول أهل الإفك. قلت: أوقد كان هذا؟ قالت: نعم والله لقد كان.
فو الله ما قدرت على أن أقضى حاجتى ورجعت، فوالله مازلت أبكى حتى ظننت(1/459)
أن البكاء سيصدع كبدى. وقلت لأمى: يغفر الله لك! تحدث الناس بما تحدثوا به ولا تذكرين لى من ذلك شيئا؟ قالت: أى بنية خفضى عليك الشأن، فو الله لقل ما كنت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كثرن وكثر الناس عليها.
قالت: وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الناس فخطبهم ولا أعلم بذلك، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أيها الناس، ما بال رجال يؤذوننى فى أهلى ويقولون عليهم غير الحق، والله ما علمت منهم إلا خيرا، ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيرا، وما يدخل بيتا من بيوتى إلا وهو معى» . قالت: وكان كبر ذلك عند عبد الله بن أبى فى رجال من الخزرج مع الذى قال مسطح وحمنة بنت جحش، وذلك أن أختها زينب كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن من نسائه امرأة تناصينى فى المنزلة عنده غيرها، فأما زينب فعصمها الله بدينها فلم تقل إلا خيرا، وأما حمنة فأشاعت من ذلك ما أشاعت تضادنى لأختها، فشقيت بذلك.
فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المقالة قال أسيد بن خضير: يا رسول الله، إن يكونوا من الأوس نكفكهم وإن يكونوا من إخواننا من الخزرج فمرنا بأمرك فو الله إنهم لأهل أن تضرب أعناقهم. فقام سعد بن عبادة فقال: كذبت لعمر الله لا تضرب أعناقهم، أما والله ما قلت هذه المقالة إلا أنك قد عرفت أنهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا. فقال أسيد: كذبت لعمر الله ولكنك منافق تجادل عن المنافقين. قالت:
وتثاور الناس حتى كاد يكون بين هذين الحيين من الأوس والخزرج شر.
ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا على بن أبى طالب وأسامة بن زيد فاستشارهما، فأما أسامة فأثنى خيرا، ثم قال: يا رسول الله، أهلك ولا نعلم منهم إلا خيرا، وهذا الكذب والباطل. وأما على فإنه قال: يا رسول الله، إن النساء لكثير وإنك لتقدر أن تستخلف، وسل الجارية فإنها ستصدقك. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة ليسألها، فقام إليها على فضربها ضربا شديدا ويقول: اصدقى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقول: والله ما أعلم إلا خيرا، وما كنت أعيب على عائشة شيئا إلا أنى كنت أعجن عجينى فآمرها أن تحفظه فتنام عنه فتأتى الشاة فتأكله.
قالت: ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندى أبواى وعندى امرأة من الأنصار فأنا أبكى وهى تبكى معى، فجلس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «يا عائشة إنه قد كان ما بلغك من قول الناس، فاتقى الله وإن كنت قارفت سوآ مما يقول الناس فتوبى إلى الله(1/460)
فإن يقبل التوبة عن عباده» «1» . قالت: فو الله إن هو إلا أن قال لى ذلك فقلص دمعى حتى ما أحس منه شيئا. وانتظرت أبوى أن يجيبا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يتكلما.
قالت: وأيم الله لأنا كنت أحقر فى نفسى وأصغر شأنا من أن ينزل الله فى قرآنا يقرأ به فى المسجد ويصلى به، ولكنى كنت أرجوا أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى منامه شيئا يكذب الله به عنى لما يعلم من براءتى أو يخبر خبرا، فأما قرآن ينزل فى فو الله لنفسى كانت أحقر عندى من ذلك.
قالت: فلما لم أرى أبوى يتكلمان قلت لهما: ألا تجيبان رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالا: والله ما ندرى بماذا نجيبه. قالت: وو الله ما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل على آل أبى بكر فى تلك الأيام. قالت: فلما استعجما على استعبرت فبكيت ثم قلت: والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبدا، والله إنى لأعلم لئن أقررت بما يقول الناس والله يعلم أنى منه بريئة لأقولن ما لم يكن، ولئن أنا أنكرت ما يقولون لا تصدقوننى، ثم التمست اسم يعقوب فما أذكره فقلت: ولكنى سأقول كما قال أبو يوسف: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ [يوسف: 18] .
قالت: فو الله ما برح رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه حتى تغشاه من الله ما كان يتغشاه، فسجى بثوبه ووضعت له وسادة من أدم تحت رأسه، فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت فو الله ما فرغت ولا باليت، قد عرفت أنى بريئة وأن الله غير ظالمى، وأما أبواى فو الذى نفس عائشة بيده ما سرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقا من أن يأتى من الله تحقيق ما قال الناس. ثم سرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس وإنه ليتحدر منه مثل الجمان وفى يوم شات، فجعل يمسح العرق عن جبينه ويقول: «أبشرى يا عائشة فقد أنزل الله براءتك» «2» قلت: بحمد الله.
ثم خرج إلى الناس فخطبهم وتلا عليهم ما أنزل الله عليه من القرآن فى ذلك ثم أمر بمسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش وحسان بن ثابت، وكانوا ممن أفصح بالفاحشة فضربوا حدهم.
قالت: فلما نزل القرآن ذكر من قال من الفاحشة ما قال من أهل الإفك فقال: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ
__________
(1) انظر الحديث فى: فتح البارى لابن حجر (8/ 475) ، البدآية والنهاية لابن كثير (4/ 163) .
(2) انظر الحديث فى: سنن أبى داود (4/ 4735) ، سنن الترمذى (5/ 3180) .(1/461)
مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ [النور: 11] قيل: إنه حسان بن ثابت وأصحابه، ويقال: عبد الله بن أبى وأصحابه.
ثم قال: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ أى هلا قلتم إذ سمعتموه كما قال أبو أيوب الأنصارى وصاحبته أم أيوب، وذلك أنها قالت لزوجها: يا أبا أيوب، ألا تسمع ما يقول الناس فى عائشة؟
قال: بلى وذلك الكذب، أكنت يا أم أيوب فاعلته؟ قال: لا والله ما كنت لأفعله. قال:
فعائشة والله خير منك.
ثم قال تعالى: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ.
فلما نزل هذا فى عائشة وفيمن قال لها ما قال قال أبو بكر- رحمه الله وكان ينفق على مسطح لقرابته وحاجته: والله لا أنفق على مسطح أبدا ولا أنفعه بنفع أبدا بعد الذى قال لعائشة وادخل علينا. قالت: فأنزل الله فى ذلك وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور: 22] قالت: فقال أبو بكر: بلى، والله إنى لأحب أن يغفر الله لى فرجع إلى مسطح نفقته التى كان ينفق عليه وقال: والله لا أنزعها منه أبدا.
وذكر ابن إسحاق «1» : أن حسان بن ثابت مع ما كان منه فى صفوان بن المعطل من القول السىء قال مع ذلك شعرا يعرض فيه بصفوان ومن أسلم من مضر يقول فيه:
أمسى الجلابيب قد عزوا وقد كثروا ... وابن الفريعة أمسى بيضة- البلد
فلما بلغ ذلك ابن المعطل اعترض حسان بن ثابت فضربه بالسيف ثم قال:
تلق ذباب السيف عنى فإننى ... غلام إذا هو جيت لست بشاعر
فوثب عند ذلك ثابت بن قيس بن شماس على صفوان فجمع يديه إلى عنقه بحبل ثم انطلق به إلى دار بنى الحارث بن الخزرج، فلقيه عبد الله بن رواحة فقال: ما هذا؟ قال:
أما أعجبك ضرب حسان بالسيف؟ والله ما أراه إلا قد قتله. فقال له ابن رواحة: هل علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشىء مما صنعت؟ قال: لا والله. قال: لقد اجترأت، أطلق الرجل.
فأطلقه.
__________
(1) انظر السيرة (3/ 278) .(1/462)
ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فدعا حسان وصفوان، فقال صفوان: يا رسول الله، آذانى وهجانى فاحتملنى الغضب فضربته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان: «يا حسان، أتشوهت على قومى أن هداهم الله للإسلام؟» ثم قال: «أحسن يا حسان فى الذى أصابك» «1» . قال: هى لك. فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عوضا منها بئر «حاء» ماء كان لأبى طلحة بالمدينة فتصدق به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضعه حيث شاء فأعطاه حسان فى ضربته، وأعطاه «سيرين» أمة قبطية ولدت له ابنه عبد الرحمن.
وقد روى من وجوه أن إعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه سيرين إنما كان لذبه بلسانه عن النبى صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم.
وكانت عائشة- رحمها الله- تقول: لقد سئل عن ابن المعطل فوجدوه حصورا لا يأتى النساء ثم قتل بعد ذلك شهيدا.
وقال بعد ذلك حسان يمدح عائشة- رضى الله عنها- ويعتذر من الذى كان فى شأنها:
حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل «2»
عقيلة حى من لؤى بن غالب ... كرام المساعى مجدهم غير زائل
مهذبة قد طيب الله جنبها ... وطهرها من كل سوء وباطل
فإن كنت قد قلت الذى قد زعمتم ... فلا رفعت سوطى إلى أناملى
وكيف وودى ما حييت ونصرتى ... لآل رسول الله زين المحافل
له رتب عال على الناس كلهم ... تقاصر عنه سورة المتطاول
فإن الذى قد قيل ليس بلائط ... ولكنه قول امرئ بى ماحل
وقال قائل من المسلمين فى ضرب حسان وصاحبيه فى فريتهم على عائشة رضى الله عنها:
لقد ذاق حسان الذى كان أهله ... وحمنة إذ قالوا هجيرا ومسطح
تعاطوا برجم الغيب زوج نبيهم ... وسخطة ذى العرش الكريم فأترحوا
وآذوا رسول الله فيها فجللوا ... مخازى تبقى عمموها وفضحوا
__________
(1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 163) ، مجمع الزوائد للهيثمى (9/ 234) .
(2) الحصان: أى العفيفة. والرزان: أى الملازمة موضعها. وما تزن: أى ما تتهم. وغرثى: أى جائعة.(1/463)
وصبت عليهم محصدات كأنها ... شآبيب قطر من ذرى المزن تسفح
وقد ذكر أبو عمر بن عبد البر الحافظ أن قوما أنكروا أن يكون حسان خاض فى الإفك أو جلد فيه، ورووا عن عائشة- رحمها الله- أنها برأته من ذلك، ثم ذكر عن الزبير بن بكار وغيره أن عائشة كانت فى الطواف مع أم حكيم بنت خالد بن العاص وابنة عبد الله بن أبى ربيعة، فتذاكرن حسان فابتدرتاه بالسب فقالت لهما عائشة: ابن الفريعة تسبان! إنى لأرجوا أن يدخله الله الجنة بذبه عن النبى صلى الله عليه وسلم بلسانه، أليس القائل:
هجوت محمدا فأجبت عنه ... وعند الله فى ذاك الجزاء
فإن أبى ووالده وعرضى ... لعرض محمد منكم وقاء
فقالتا لها: أليس ممن لعنه الله فى الدنيا والآخرة بما قال فيك؟ قلت: لم يقل شيئا، ولكنه القائل:
حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
فإن كان ما قد قيل عنى قلته ... فلا رفعت سوطى إلى أناملى
غزوة الحديبية
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ذى القعدة من سنة ست معتمرا لا يريد حربا، واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادى من الأعراب ليخرجوا معه، وهو يخشى من قريش الذى صنعوا، أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت.
فأبطأ عليه كثير من الأعراب، وخرج بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق به من العرب، وساق معه الهدى وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه، وليعلم أنه إنما خرج زائرا لهذا البيت ومعظما له.
حتى إذا كان بعسفان لقيه بسر بن سفيان الكعبى «1» فقال: يا رسول الله، هذه قريش قد سمعت بمسيرك معهم العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور وقد نزلوا بذى طوى يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا وهذا خالد بن الوليد فى خيلهم قد قدموها إلى كراع الغميم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا ويح قريش! لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم
__________
(1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (646) ، أسد الغابة ترجمة رقم (411) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 48) ، الوافى بالوفيات (10/ 133) ، العقد الثمين (9/ 367) ، تقريب التهذيب (2/ 95، 160، 4/ 294) .(1/464)
لو خلوا بينى وبين سائر العرب فإن هم أصابونى كان الذى أرادوا، وإن أظهرنى الله عليهم دخلوا فى الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة؛ فما تظن قريش؟
فو الله لا أزال أجاهد على الذى بعثنى الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة» «1» .
ثم قال: «من رجل يخرج بنا على غير طريقهم؟» «2» فقال رجل من أسلم: أنا، فسلك بهم طريقا وعرا أجرل بين شعاب، فلما خرجوا منه وقد شق عليهم وأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قولوا: نستغفر الله ونتوب إليه» . فقالوا ذلك، فقال: «والله إنها للحطة التى عرضت على بنى إسرائيل فلم يقولوها» «3» .
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال: «اسلكوا ذات اليمين بين ظهرى الحمص فى طريق تخرج على ثنية المرار «4» » ، فهبط الحديبية من أسفل مكة. فسلك الجيش ذلك الطريق، فلما رأت خيل قريش هدة الجيش قد خالفوا عن طريقهم وكفوا راجعين إلى قريش، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا سلك فى ثنية المرار بركت ناقته، فقال الناس: خلأت.
فقال: «ما خلأت، وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعونى قريش اليوم إلى خطة يسلون فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها «5» » ، ثم قال للناس:
«انزلوا» . قيل: يا رسول الله، ما بالوادى ماء ننزل عليه. فأخرج صلى الله عليه وسلم سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه، فنزل فى قليب من تلك القلب، فغرزه غى جوفه فجاش بالرواء حتى ضرب الناس عنه بعطن.
فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه بديل بن ورقاء فى رجال من خزاعة فكلموه وسألوه ما الذى جاء له، فأخبرهم أنه لم يأت يريد حربا وإنما جاء زائرا للبيت ومعظما لحرمته، ثم قال لهم نحوا قال لبسر بن سفيان، فرجعوا إلى قريش فقالوا: إنكم تعجلون على محمد، إن محمدا لم يأت لقتال إنما جاء زائرا لهذا البيت. فاتهموهم وجبهوهم وقالوا:
إن كان جاء ولا يريد قتالا فو الله لا يدخلها علينا عنوة أبدا ولا تحدث بذلك عنا العرب.
ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص بن الأخيف أخا بنى عامر بن لؤى، فلما رآه رسول
__________
(1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (4/ 323) ، كنز العمال للمتقى الهندى (11307) ، تفسير ابن كثير (7/ 328) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 165) .
(2) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 165) .
(3) انظر الحديث السابق.
(4) ثنية المرار: حشيشة مرة إذا أكلتها الإبل قلصت مشافرها.
(5) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (4/ 323) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 165) .(1/465)
الله صلى الله عليه وسلم مقبلا قال: «هذا رجل غادر» «1» . فلما انتهى إليه وكلمة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوا مما قال لبديل وأصحابه. فرجع إلى قريش فأخبرهم. ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة أو ابن زبان، أحد بنى الحارث بن عبد مناة بن كنانة- وكان يومئذ سيد الأحابيش- فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدى فى وجهه حتى يراه» «2» . فلما رأى الهدى يسيل عليه من عرض الوادى فى قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاما لما رأى؛ فقال لهم ذلك، فقالوا له: اجلس. فإنما أنت أعرابى لا علم لك؛ فغضب الحليس عند ذلك وقال: يا معشر القوم، والله ما على هذا حالفناكم وما على هذا عاقدناكم، أيصد عن بيت الله من جاء معظما له؟! والذى نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد. فقالوا له: كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.
ثم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عروة بن مسعود الثقفى فقال: يا معشر قريش إنى قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذا جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ، وقد عرفت أنكم والد وأنى ولد- وكان لسبيعة بنت عبد شمس- وقد سمعت بالذى نابكم فجمعت من أطاعنى من قومى ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسى. قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم. فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس بين يديه ثم قال: يا محمد، أجمعت أوشاب الناس ثم جئت إلى بيتك لتقضهابهم؟! إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبدا، وأيم الله لكأنى بهؤلاء قد انكشفوا عنك. فرد عليه أبو بكر الصديق- رضى الله عنه- وقال:
أنحن ننكشف عنه! ثم جعل عروة يتناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كلمة والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله فى الحديد، فجعل يقرع يده إذا فعل ذلك ويقول:
اكفف يدك عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن لا تصل إليك. فيقول عروة: ويحك ما أفظك وأغلظك. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: من هذا يا محمد؟ قال: «هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة» «3» . قال: أى غدر هل غسلت سوءتك إلا بالأمس! يريد أن المغيرة
__________
(1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (4/ 324) ، تفسير ابن كثير (7/ 328) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 166) .
(2) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 166) .
(3) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (4/ 324) ، المطالب العالية لابن حجر (4347) ، تفسير ابن كثير (7/ 329) .(1/466)
كان قتل قبل إسلامه ثلاثة عشر رجلا من ثقيف فتهايج الحيان من ثقيف بنو مالك رهط المقتولين والأحلاف رهط المغيرة، فودى عروة المقتولين ثلاث عشرة دية وأصلح ذلك الأمر.
وكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عروة بنحو مما كلم به أصحابه، وأخبره أنه لم يأت يريد حربا حربا فقام من عنده وقد رأى ما يصنع به أصحابه لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه، ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه ولا يسقط من شعره شىء إلا أخذوه، فرجع إلى قريش فقال:
يا معشر قريش، إنى قد جئت كسرى فى ملكة وقيصر فى ملكه والنجاشى فى ملكه، وإنى والله ما رأيت ملكا فى قوم قط مثل محمد فى أصابه! ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشىء أبدا فروا رأيكم.
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم خراش بن أمية الخزاعى «1» فحمله على بعير له وبعثه إلى قريش ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له، فعقروا به الجمل وأرادوا قتله فمنعته الاحابيش، فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعثت قريش أربعين رجلا أو خمسين وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبوا لهم من أصحابه أحدا، فأخذوا أخذا، فأتى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلى سبيلهم.
ثم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له فقال: يا رسول الله، إنى أخاف قريشا على نفسى، وليس بمكة من بنى عدى بن كعب أحد يمنعنى، وقد عرفت قريش عداوتى إياها وغلظتى عليها، ولكنى أدلك على رجل أعز بها منى: عثمان بن عفان.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان فبعثه إلى أبى سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب وأنه جاء زائرا لهذا البيت ومعظما لحرمته؛ فخرج عثمان إلى مكة فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها فحمله بين يديه ثم أجاره.
وقال له فيما ذكره غير ابن إسحاق: أقبل وأدبر ولا تخف أحدا بنو سعيد أعزة الحرم.
فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به، فقالوا له حين فرغ: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف. قال: ما كنت لأفعل
__________
(1) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (2238) ، أسد الغابة ترجمة رقم (1428) ، الثقات (3/ 107) ، الطبقات الكبرى (4/ 139) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 157) ، المغازى للواقدى (600) ، الجرح والتعديل (3/ 392) ، تاريخ الطبرى (3/ 631) ، الوافى بالوفيات (13/ 301) .(1/467)
حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فاحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان قد قتل، فقال حين بلغه ذلك: «لا نبرح حتى نناجز القوم» «1» .
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، فكان الناس يقولون: بايعهم على الموت. وكان جابر يقول: بايعنا على ألانفر.
فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ولم يختلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس لصق بإبط ناقته يستتر بها من الناس.
ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذى كان من أمر عثمان باطل. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بايع لعثمان: ضرب بإحدى يديه على الأخرى وقال: «هذه يد عثمان» .
ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو وقالوا: إيت محمدا فصالحه ولا يكون فى صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فو الله لا تحدث العرب أنه دخلها علينا عنوة أبدا.
فأتى سهيل، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا قال: «قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل» «2» .
فلما انتهى إليه سهيل تكلم فأطال الكلام وتراجعا، ثم جرى بينهما الصلح.
فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب وثب عمر بن الخطاب فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر، أليس برسول الله؟ قال: بلى. قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى. قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى. قال: فعلام نعطى الدنية»
فى ديننا! قال أبو بكر: يا عمر، الزم غرزه فإنى أشهد أنه رسول الله. قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله.
ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ألست برسول الله؟ قال: «بلى» . قال:
أولسنا بالمسلمين؟ قال: «بلى» . قال: أو ليسوا بالمشركين؟ قال: «بلى» «4» . قال: فعلام
__________
(1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 167) .
(2) انظر الحديث فى: السنن الكبرى للبيهقى (9/ 221) ، دلائل النبوة للبيهقى (4/ 145) .
(3) الدنية: الذل والصغار والخسيس من الأمر.
(4) انظر الحديث فى: صحيح مسلم (1412، 2151) ، السلسلة الصحيحة للألبانى (313) ، صحيح البخارى (4/ 26، 125) ، المعجم الكبير للطبرانى (6/ 109، 8/ 275) ، مجمع الزوائد للهيثمى (3/ 312، 5/ 67) ، كنز العمال للمتقى الهندى (17905، 29993، 30154، 37155) ، فتح البارى لا بن حجر (7/ 8) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 1/ 20) .(1/468)
نعطى الدنية فى ديننا؟! قال: «أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعنى» «1» .
فكان عمر يقول: مازلت أتصدق واصوم واصلى وأعتق من الذى صنعت- يومئذ- مخافة كلامى الذى تكلمت به حين رجوت أنه يكون خيرا.
ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب رضى الله عنه فقال اكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم» «2» ، فقال سهيل بن عمرو: لا أعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اكتب باسمك اللهم» «3» . فكتبها ثم قال: «اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو» . فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو. اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه، وأن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال «4» ، وأنه من أحب أن يدخل فى عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل فى عقد قريش وعهدهم دخل فيه» «5» .
فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن فى عقد محمد وعهده. وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن فى عقد قريش وعهدهم.
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (5/ 201) ، صحيح مسلم فى كتاب النكاح (135) ، السنن الكبرى للبيهقى (7/ 229) ، التاريخ الكبير للبخارى (3/ 217) ، تفسير ابن كثير (4/ 69، 7/ 330) ، زاد المسير لابن الجوزى (7/ 425) ، موارد الظمآن للهيثمى (1305، 1705، 2128) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 356) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 1/ 109، 113) .
(2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 268، 4/ 86، 325، 330) ، السنن الكبرى للبيهقى (9/ 220، 227) ، مصنف عبد الرزاق (9720) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 145، 146) ، تفسير ابن كثير (1/ 36، 7/ 324) ، تفسير الطبرى (26/ 59، 63) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 502) ، كنز العمال للمتقى الهندى (1627، 30151، 30154) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 175) .
(3) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (4/ 86، 325، 330) ، تفسير ابن كثير (7/ 324) ، تفسير الطبرى (26، 59، 63) ، فتح البارى لابن حجر (5/ 331، 7/ 502) ، كنز العمال للمتقى الهندى (30154) .
(4) الأسلال: أى السرقة الخفية. والأغلال: أى الخيانة.
(5) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (1/ 342، 4/ 87) ، تفسير الطبرى (13/ 101) .(1/469)
«وأنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنها فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثا معك سلاح الراكب: السيوف فى القرب لا تدخلها بغيرها» .
فبينا رسول الله يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو إذ جاء أبو جندل ابن عمرو يرسف «1» فى الحديد قد انفلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا وهم لا يشكون فى الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع وما يحمل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى نفسه دخل الناس من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون.
فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتلبيبة ثم قال: يا محمد، قد لجت القضية بيتى وبينك قبل أن يأتيك هذا. قال: صدقت. فجعل ينتره بتلبيبه ويجره ليرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أرد إلى المشركين يفتنونى فى دينى؟! فزاد الناس ذلك إلى ما بهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المسلمين فرجا ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صالحا وأعطيناهم على ذلذك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدرهم» «2» .
فوثب عمر بن الخطاب مع أبى جندل يمشى إلى جنبه ويقول: اصبر يا أبا جندل، فإنما هم المشركون وإنما دم أحدهم دم كلب! - ويدنى قائم السيف منه- يقول عمر:
رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه، فضن الرجل بأبيه ونفذت القضية.
فلما فرغ من الكتاب اشهد رجالا من المسلمين ورجالا من المشركين، أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وسعد ابن أبى وقاص ومحمود بن مسلمة، ومكرز بن حفص وهو مشرك وعلى بن أبى طالب وهو كان كاتب الصحيفة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطربا فى الحل وكان يصلى فى الحرم، فلما فرغ من الصلح
__________
(1) انظر ترجمته فى: الثقات (5/ 568) ، الإصابة ترجمة رقم (9699) ، أسد الغابة ترجمة رقم (5775) .
(2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (4/ 325) ، تفسير ابن كثير (7/ 330) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (7/ 135) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 169) .(1/470)
قام إلى هديه فنحره ثم جلس فحلق رأسه وأهدى عامئذ فى هداياه جملا لأبى جهل فى رأسه برة من فضة ليغيظ بذلك المشركين. فلما رآه الناس قد نحر وحلق تواثبوا ينحرون ويحلقون، وكان فيهم- يومئذ- من قصر فقال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله المحلقين» . قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: «يرحم الله المحلقين» . قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: «يرحم الله المحلقين» «1» . قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال:
«والمقصرين» «2» . فقالوا: يا رسول الله، فلم ظاهرت الترحيم للمحلقين دون المقصرين؟
قال: «لم يشكوا» «3» .
ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة ذلك قافلا، حتى إذا كان بين مكة والمدينة نزلت سورة الفتح: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً.
ثم ذكر القصة فيه وفى أصحابه، حتى إذا انتهى إلى ذكر البيعة فقال: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً. ثم ذكر من تخلف عنهم من الأعراب فاستوفى قصتهم. ثم قال: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ. عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً. ثم قال: وَهُوَ
__________
(1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (1/ 353، 2/ 16، 4/ 70، 6/ 402) ، السنن الكبرى للبيهقى (5/ 134) ، مشكل الآثار للطحاوى (2/ 144) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (2/ 101) ، كنز العمال للمتقى الهندى (12738، 12739) ، البدآية والنهاية لابن كثير (4/ 169، 5/ 189) ، مصنف ابن أبى شيبة (14/ 452، 453) ، دلائل النبوة للبيهقى (4/ 151) .
(2) انظر الحديث فى: صحيح مسلم (945، 649) ، سنن الترمذى (912) ، سنن ابن ماجه (3044) ، مسند الإمام أحمد (1/ 253، 2/ 79، 138، 231، 411، 4/ 70، 5/ 381، 6/ 393، 402) ، سنن الدارمى (2/ 64) ، مصنف ابن أبى شيبة (14/ 452، 453) ، موطأ مالك (395) ، دلائل النبوة للبيهقى (4/ 151) ، المعجم الكبير للطبرانى (19/ 275) ، شرح السنة للبغوى (7/ 202) .
(3) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (1/ 353) .(1/471)
الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً، يعنى النفر الذين وجهت قريش بهم ليصيبوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا فلم ينالوا شيئا وأخذوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بجملتهم وسيقوا إليه فخلى سبيلهم.
ثم قال بعد: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ يعنى سهيل ابن عمرو حين حمى أن يكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. وأن محمدا رسول الله:
فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها، أى التوحيد: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبد ورسوله.
ثم قال: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا أى لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم التى رأى أنه سيدخل مكة آمنا لا يخاف. وقد قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة بعض من كان معه: ألم تقل يا رسول الله أنك تدخل مكة آمنا؟ قال: «بلى» ، قال:
«أفقلت لكم من عامى هذا؟» قالوا: لا. قال: «فهو كما قال لى جبريل» «1» فحقق له سبحانه من موعده ما أنجزه له بعد وصدقه بقوله جل قوله: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ معه فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً صلح الحديبية.
يقول الزهرى: فما فتح فى الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب وأمن الناس كلهم بعضهم بعضا والتقوا فتفاوضوا فى الحديث والمنازعة، فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، فلقد دخل فى تينك السنتين مثل من كان فى الإسلام قبل ذلك وأكثر.
قال ابن هشام «2» : والدليل على ما قال الزهرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية فى ألف وأربعمائة فى قول جابر بن عبد الله ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين فى عشرة آلاف.
وذكر ابن عقبة أنه لما كان صلح الحديبية قال رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا بفتح، لقد صددنا عن البيت وصد هدينا. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قول أولئك فقال:
__________
(1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (4/ 331) ، تفسير ابن كثير (8/ 120) .
(2) انظر السيرة (3/ 296) .(1/472)
«بئس الكلام هذا، بل هو أعظم الفتوح، قد رضى المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألوكم القضية ويرغبوا إليكم فى الأمان، وقد رأوا منكم ما كرهوا وأظفركم الله عليهم وردكم سالمين مأجورين، فهو أعظم الفتوح، أتنسون يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم فى أخراكم؟! أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا؟» «1» فقال المسلمون: صدق الله ورسوله فهو أعظم الفتوح، والله ما فكرنا فيما فكرت فيه، ولأنت أعلم بالله وأمره منا.
وفى الصحيح من حديث سهل بن حنيف أنه قال يوم صفين: يا أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم، فلقد رأيتنى يوم أبى جندل ولو أستطيع أن أراد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته والله ورسوله أعلم.
وخرج البخارى من حديث البراء بن عازب قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة والحديبية بئر، فنزحناها فلم نترك فيها قطرة، فبلغ ذلك النبى صلى الله عليه وسلم فأتاها فجلس على شفيرها ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ ثم مضمض ودعا ثم صبه فيها فتركناها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركابنا.
وعن سالم بن أبى الجعد عن جابر بن عبد الله قال: عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة فتوضأ منها ثم أقبل الناس نحوه فقالوا: يا رسول الله، ليس عندنا ماء نتوضأ به ولا يشرب إلا ما فى ركوتك. قال: فوضع النبى صلى الله عليه وسلم يده فى الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون. قال: فشربنا وتوضانا؛ فقلت لجابر كم كنتم يومئذ؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة «2» .
__________
(1) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (4/ 160) ، الدر المنثور للسيوطى (6/ 68) .
(2) الحديث عن نبع الماء من بين أصابع النبى صلى الله عليه وسلم وانبجاسه وتدفقه وفورانه متعدد المواضع لتكرر حدوثه، وهو محكى فى البخارى الصحيح ج 1 ص 89، 100، 102 (كتاب الوضوء) ، ج 5 ص 35، 36، 38 (كتاب المناقب) ، ج 4 ص 260، (باب غزوة الحديبية) ، مسلم. الجامع الصحيح ج 2 ص 138- 141 (كتاب المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها) ، ج 7 ص 59 (كتاب الفضائل، باب معجزات النبى صلى الله عليه وسلم) ، ج 8 ص 235، 236 (كتاب الزهد والرقائق، حديث جابر الطويل وقصة أبى اليسر) . وراجع: ابن جماعة، المختصر الصغير (ص 60) .(1/473)
وذكر ابن عقبة عن ابن عباس قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية كلمة بعض أصحابه فقالوا: جهدنا وفى الناس ظهر فانحروه لنا فلنأكل من لحومه ولندهن من شحومه ولنحتذ من جلوده. فقال عمر: لا تفعل يا رسول الله، فإن الناس إن يكن فيهم بقية ظهر أمثل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ابسطوا أنطاعكم وعباءكم» «1» ففعلوا، ثم قال:
«من كان عنده بقية من زاد وطعام فلينثره» ودعا لهم، ثم قال لهم: «قربوا أوعيتكم» «2» .
فأخذوا ما شاؤا.
قال ابن إسحاق «3» : ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة- يعنى من الحديبية- أتاه أبو بصير عتبة بن أسيد بن حارثة «4» - وكان ممن حبس بمكة- فكتب فيه أزهر بن عبد عوف والأخنس بن شريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثا رجلا من بنى عامر بن لؤى ومعه مولى لهم، فقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتاب، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بصير، إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ولا يصلح لنا فى ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا» «5» .
فانطلق معهما حتى إذا كان بذى الحليفة جلس إلى جدار وجلس معه صاحباه، فقال أبو بصير. أصارم سيفك هذا يا أخا بنى عامر؟ فقال: نعم. قال أنظر إليه قال: إن شئت فاستله أبو بصير ثم علاه به حتى قتله.
وذكر ابن عقبة أن الرجل هو الذى سل سيفه ثم هزه فقال: لأضربن بسيفى هذا فى الأوس والخزرج يوما إلى الليل، فقال له أبو بصير: وصارم سيفك هذا؟ فقال: نعم.
فقال: ناولنيه أنظر إليه؛ فناوله إياه، فلما قبض عليه ضربه به حتى برد. قال: ويقال: بل تناول أبو بصير سيف الرجل بفيه وهو نائم فقطع إساره ثم ضربه به حتى برد، وطلب الآخر، فجمز مرعوبا مستخفيا حتى دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فيه يطن الحصباء من شدة سعيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه: «لقد رأى هذا ذعرا» . قال ابن
__________
(1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (5/ 354) ، دلائل النبوة للبيهقى (4/ 116) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (5/ 479) ، فتح البارى لابن حجر (8/ 46) .
(2) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (4/ 119) .
(3) انظر السيرة (3/ 296) .
(4) انظر ترجمته فى: الإصابة ترجمة رقم (9633) ، أسد الغابة ترجمة رقم (5734) .
(5) انظر الحديث فى: السنن الكبرى للبيهقى (9/ 227) .(1/474)
إسحاق: فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ويحك مالك؟» «1» قال: قتل صاحبكم صاحبى.
فو الله ما برح حتى طلع أبو بصير متوشحا السيف فقال: يا رسول الله، وفت ذمتك وأدى الله عنك، أسلمتنى بيد القوم وقد امتنعت بدينى أن أفتن فيه أو يعبث بى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويلمه محش حرب «2» لو كان معه رجال» «3» .
ثم خرج أبو بصير حتى نزل العيص من ناحية المروة على ساحل البحر بطريق قريش التى كانوا يأخذوا إلى الشام، وبلغ المسلمين الذين كانوا احتسبوا بمكة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بصير: «ويلمه محش حرب لو كان معه رجال» فخرجوا إلى أبى بصير بالعيص، فاجتمع إليه قريب من سبعين رجلا منهم.
وذكر موسى بن عقبة أن أبا جندل بن سهيل بن عمرو الذى رد على قريش مكرها يوم القضية هو الذى انفلت فى سبعين راكبا أسلموا وهاجروا فلحقوا بأبى بصير وكرهوا الثواء بين أظهر قومهم، فنزلوا مع أبى بصير فى منزل كريه إلى قريش فقطعوا مادتهم من طريق الشام. قال: وكان أبو بصير- زعموا- وهو فى مكانه ذلك يصلى لأصحابه، فلما قدم عليهم أبو جندل كان هو يؤمهم.
واجتمع إلى أبى جندل ناس من غفار وأسلم وجهينه وطوائف من العرب حتى بلغوا ثلاثمائة مقاتل وهم مسلمون، فأقاموا مع أبى جندل وأبى بصير، لا يمر بهم عير لقريش إلا اخذوها وقتلوا أصحابها. وقال فى ذلك أبو جندل فيما ذكره غير ابن عقبة:
أبلغ قريشا عن أبى جندل ... أنا بذى المروة بالساحل
فى معشر تخفق أيمانهم ... بالبيض فيها والقنا الذابل
يأبون أن يبقى لهم رفقة ... من بعد إسلامهم الواصل
أو يجعل الله لهم مخرجا ... والحق لا يغلب بالباطل
فيسلم المرء بإسلامه ... أو يقتل المرء ولم يأتل
__________
(1) انظر الحديث فى: سنن أبو داود (4519) ، السنن الكبرى للبيهقى (4/ 226) .
(2) محش حرب: أى أنه يوقد الحرب ويهيجها ويشعل نارها.
(3) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (3/ 257) ، سنن أبى داود فى كتاب الجهاد باب (167) ، مسند الإمام أحمد (4/ 331) ، السنن الكبرى للبيهقى (9/ 221، 222، 226، 228) ، دلائل النبوة للبيهقى (4/ 107، 673) ، الدر المنثور للسيوطى (6/ 78) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 176) ، مصنف عبد الرزاق (9720) .(1/475)
فأرسلت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب يسألونه ويتضرعون إليه أن يبعث إلى أبى بصير وإلى أبى جندل بن سهيل ومن معهم فيقدموا عليه وقالوا: من خرج منا إليك فأمسكه فى غير حرج، فإن هؤلاء الركب قد فتحوا علينا بابا لا يصلح إقراره.
فلما كان ذلك من أمرهم علم الذين كانوا أشاروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمنع أبا جندل من ابيه بعد القضية أن طاعة رسول الله خير فيما أحبوا وفيما كرهوا، وأن رأيه أفضل من رأيهم ومن رأى من ظن أن له قوة ورأيا، وعلم أن ما خص الله به نبيه من العون والكرامة أفضل.
وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبى جندل وأبى بصير يأمرهم أن يقدموا عليه ويأمر من معهما من المسلمين أن يرجعوا إلى بلادهم وأهليهم ولا يعرضوا لأحد مر بهم من قريش وعيراتها، فقدم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- زعموا- على أبى جندل وأبى بصير وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى يده يقترئه. فدفنه أبو جندل مكانه وجعل عند قبره مسجدا.
وقدم أبو جندل على رسول الله صلى الله عليه وسلم معه أناس من أصحابه ورجع سائرهم إلى أهليهم وأمنت عيرات قريش.
فلم يزل أبو جندل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد ما أدرك من المشاهد بعد ذلك وشهد الفتح، ورجع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل معه بالمدينة حتى توفى صلوات الله عليه وسلامه وقدم أبوه سهيل بن عمرو المدينة أول إمارة عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- فمكث بها أشهر ثم خرج مجاهدا إلى الشام وخرج معه ابنه أبو جندل، فلم يزالا مجاهدين حتى ماتا جميعا هناك، يرحمهما الله.
وهاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى تلك المدة أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط «1» ، فخرج أخواها عمارة والوليد ابنا عقبة حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألانه أن يردها عليهما بالعهد الذى بينه وبين قريش فى الحديبية، فلم يفعل، أبى الله ذلك وأنزل فيه على رسوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَ
__________
(1) انظر ترجمتها فى: الإصابة ترجمة رقم (12231) ، أسد الغابة ترجمة رقم (7585) ، الطبقات الكبرى (8/ 230) ، تهذيب التهذيب (12/ 476) .(1/476)
أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الممتحنة: 9- 10] .
غزوة خيبر
ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من الحديبية مكث بها ذا الحجة منسلخ سنة ست، وبعض المحرم من سنة سبع.
ثم خرج فى بقية منه إلى خيبر غازيا.
وكان الله وعده إياها وهو بالحديبية بقوله عز من قائل: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ [الفتح: 20] يعنى بالمعجل صلح الحديبية، والمغانم الموعود بها فتح خيبر.
فخرج إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم مستنجزا ميعاد ربه وواثقا بكفايته ونصره، ودفع الراية إلى على بن أبى طالب- وكانت بيضاء- فسلك على عصر فبنى له فيها مسجدا، ثم على الصهباء، ثم أقبل بجيشه حتى نزل به بواد يقال له الرجيع فنزل بينهم وبين غطفان ليحول بينهم وبين أن يمدوا أهل خيبر وكانوا لهم مظاهرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر أن غطفان لما سمعت منزله من خيبر جمعوا ثم خرجوا ليظاهروا يهود عليه حتى إذا ساروا منقلة سمعوا خلفهم فى أموالهم وأهليهم حسا ظنوا أن القوم قد خالفوا إليهم، فرجعوا على أعقابهم فأقاموا فى أهليهم وأموالهم وخلوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيبر.
قال أبو معتب بن عمرو: لما أشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيبر قال لأصحابه وأنا فيهم: «قفوا» «1» . ثم قال: «اللهم رب السموات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما أذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها» ثم قال: «أقدموا بسم الله» «2» . قال: وكان يقولها لكل قرية دخلها.
__________
(1) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (1/ 134) .
(2) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (1/ 446، 2/ 100) ، تفسير القرطبى (8/ 175) ، مشكل الآثار للطحاوى (2/ 312، 3/ 215) ، زاد المسير لابن الجوزى (8/ 299) ، الدر المنثور للسيوطى (4/ 224) ، التاريخ الكبير للبخارى (6/ 472) ، المعجم الكبير للطبرانى (8/ 39) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 183) ، دلائل النبوة للبيهقى (4/ 204) .(1/477)
وقال أنس بن مالك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا قوما لم يغر عليهم حتى يصبح، فإن سمع أذانا أمسك وإن لم يسمع أذانا أغار، فنزلنا خيبر ليلا، فبات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا اصبح لم يسمع أذانا فركب وركبنا معه، فركبت خلف أبى طلحة وإن قدمى لتمس قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم واستقبلنا عمال خيبر غادين قد خرجوا بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والجيش قالوا: محمد والخميس معه. فأدبروا هرابا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر، خربت حيبر! إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» «1» .
قال ابن إسحاق «2» : وتدنى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأموال يأخذها مالا مالا ويفتحها حصنا حصنا، فكان أول حصونهم افتتح حصن ناعم، وعنده قتل محمود بن مسلمة، ألقيت عليه رحى منه فقتله، ثم القموص حصن أبى الحقيق، وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم سبايا منهن صفية بنت حيى بن أخطب، وكانت عند كنانة بن الربيع بن أبى الحقيق وبنتى عم لها، فاصطفى صفية لنفسه بعد أن سأله إياها دحية بن خليفة الكلبى، فلما اصطفاها لنفسه أعطاه ابنتى عمها، وكان بلال هو الذى جاء بصفية وبأخرى معها فمر بها على قتلى من قتلى يهود، فلما رأتهم التى مع صفية صاحت وصكت وجهها وحثت التراب على رأسها، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أغربوا عنى هذه الشيطانة» «3» ، وأمر بصفية فحيزت خلفه وألقى عليها رداؤه، فعرف المسلمون أنه قد اصطفاها لنفسه، فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال حين رأى بتلك اليهودية ما رأى: «أنزعت منك الرحمة يا بلال حين تمر بامراتين على قتلى رجالهما؟!» «4» .
وكانت صفية قد رأت فى المنام وهى عروس بكنانة بن الربيع بن أبى الحقيق أن قمرا وقع فى حجرها، فعرضت رؤياها على زوجها فقال: ما هذا إلا أنك تمنين ملك الحجاز محمدا! فلطم وجهها لطمة حضر عينها منها. فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها أثر منه فسألها ما هو فأخبرته الخبر.
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (1/ 104، 159، 2/ 19، 4/ 58، 253) ، صحيح مسلم (1043، 1044) ، سنن النسائى (6/ 132) ، مسند الإمام أحمد (2/ 102، 164، 186، 246، 263) ، السنن الكبرى للبيهقى (2/ 230، 9/ 55، 79، 80، 152) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 215) ، موطأ مالك (469) ، مصنف ابن أبى شيبة (14/ 461) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 1/ 77، 79) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 183، 184، 196) ، دلائل النبوة للبيهقى (4/ 203، 227) .
(2) انظر السيرة (3/ 304) .
(3) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 197) .
(4) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 197) .(1/478)
ولما أعرس بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر أو ببعض الطريق وبات بها فى قبة له، بات أبو أيوب الأنصارى متوشحا السيف يحرسه ويطيف بالقبة حتى أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى مكانه قال: «ما لك يا أبا أيوب؟» قال: يا رسول الله خفت عليك من هذه المرأة، وكانت امرأة قد قتلت أباها وزوجها وقومها وكانت حديثة عهد بكفر فخفتها عليك.
فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظنى» «1» .
وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكنانة بن الربيع- وكان عنده كنز بنى النضير- فساله عنه فجحد أن يكون يعلم مكانه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل من يهود فقال: إنى رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنانة: أرأيت إن وجدناه عندك أقتلك؟ قال: نعم. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخربة فحفرت فأخرج منها بعض كنزهم ثم سأله ما بقى فأبى أن يريه، فأمر به الزبير بن العوام فقال: عذبه حتى تستأصل ما عنده. فكان الزبير يقدح بزند فى صدره حتى أشرف على نفسه ثم دفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى محمد بن مسلمة فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة.
وفشت السبايا من خيبر فى المسلمين وأكل المسلمون لحوم الحمر من حمرها.
قال ابن عقبة: كانت أرضا وخيمة شديدة الجهد، فجهد المسلمون جهدا شديدا وأصابهم مسغبة شديدة فوجدوا أحمرة إنسية ليهود لم يكونوا أدخلوها الحصن فانتحروها، ثم وجدوا فى أنفسهم من ذلك، فذكروها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن أكلها.
قال أبو سليط فيما ذكر ابن إسحاق: أتانا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الحمر الإنسية والقدور تفور بها فكأناها على وجوهها.
وذكر- أيضا- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام- يومئذ- فى الناس فنهاهم عن أمور سماها لهم، قال مكحول: نهاهم- يومئذ- عن أربع: عن إتيان الحبالى من النساء، وعن أكل الحمار الأهلى، وعن أكل كل ذى ناب من السباع، وعن بيع المغانم حتى تقسم.
وحدث جابر بن عبد الله ولم يشهد خيبر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نهى الناس عن أكل لحوم الحمر أذن لهم فى لحوم الخيل.
__________
(1) انظر الحديث فى: كنز العمال للمتقى الهندى (37805) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 212) .(1/479)
وافتتح رويفع بن ثابت قرية من قرى المغرب يقال لها: جربه، فقاك خطيبا فقال: يا أيها الناس، إنى لا أقول لكم إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فينا يوم خيبر، قام فينا فقال: «لا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أ، يصيب امرأة من السبى حتى يستبرئها، ولا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع مغنما حتى يقسم، ولا يحل لامرئ يؤمن يالله واليوم الآخر أن يركب دابة من فىء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس ثوبا من فىء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه» » .
وقال عبادة بن الصامت: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر أن نبيع أو نبتاع تبر الذهب بالذهب العين، وتبر الفضة بالورق العين، وقال: «ابتاعوا تبر الذهب بالورق العين، وتبر الفضة بالذهب العين» .
ولما أصاب المسلمين بخيبر ما أصابهم من الجهد أتى بنو سهم من أسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالوا: يا رسول الله، لقد جهدنا وما بأيدينا من شىء. فلم يجدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا يعطيهم إياه، فقال: «اللهم إنك قد عرفت حالهم وأن ليست بهم قوة وأن ليس بيدى شىء أعطيهم إياه فافتح عليهم أعظم حصونها عنهم غناء وأكثرها طعاما وودكا» «2» . فغدا الناس وفتح الله عليهم حصن الصعب بن معاذ، وما بخيبر كان أكثر طعاما وودكا منه.
ولما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم ما افتتح وحاز من الأموال ما حاز انتهوا إلى حصنيهم «الوطيح» و «السلالم» وكانا آخر حصون أهل خيبر افتتاحا، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضع عشرة ليلة، وخرج مرحب اليهودى من حصنهم قد جمع سلاحه وهو ينادى: من يبارز، ويرتجز:
قد علمت خيبر أنى مرحب ... شاكى السلاح بطل مجرب
أطعن أحيانا وحينا أضرب ... إذا الليوث أقبلت تحرب
إن حماى للحمى لا يقرب
__________
(1) انظر الحديث فى: سنن أبى داود (2158، 2159) ، مسند الإمام أحمد (4/ 108، 6/ 385) ، إرواء الغليل للألبانى (1/ 201) ، شرح السنة للبغوى (9/ 321) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (4/ 30) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 192) ، السنن الكبرى للبيهقى (9/ 124) .
(2) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (4/ 223) .(1/480)
فأجابه كعب بن مالك فقال:
قد علمت خيبر أنى كعب ... مفرج الغمى جرىء صلب
حيث تشب الحرب ثم الحرب ... معى حسام كالعقيق عضب
نطؤكم حتى يذل الصعب ... نعطى الجزاء أو يفاء النهب
بكف ماض ليس فيه عتب
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لهذا؟» قال محمد بن مسلمة: أنا له يا رسول الله، أنا والله الموتور الثائر، قتل أخى بالأمس. قال: «فقم إليه، اللهم أعنه عليه» «1» . فلما دنا أحدهما من صاحبه دخلت بينهما شجرة عمرية من شجر العشر فجعل أحدهما يلوذ بها من صحابه، كلما لاذ بها منه اقتطع صاحبه بسيفه ما دونه منها، حتى برز كل واحد منهما لصاحبه وصارت بينهما كالرجل القائم ما فيها فنن، ثم حمل مرحب على محمد بن مسلمة فاتقاه بدرقته فوقع سيفه فيها فعضت به فأمسكته، وضربه محمد بن مسلمة حتى قتله.
ثم خرج بعد مرحب أخوه ياسر وهو يقول: من يبارز؟ فخرج إليه الزبير بن العوام، فيما ذكر هشام بن عروة- فقالت أمه صفية بنت عبد المطلب: يقتل ابنى يا رسول الله، قال: بل ابنك يقتله إن شاء الله. فخرج الزبير فالتقيا فقتله الزبير.
وحدث سلمة بن عمرو بن الأكوع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر: «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه، ليس بفرار «2» » فدعا على بن أبى طالب- رضى الله عنه- وهو أرمد فتفل فى عينيه ثم قال: «خذ هذه الراية فامض بها حتى يفتح الله عليك» «3» . فخرج وهو يهرول بها هرولة وإنا لخلفه نتبع أثره، حتى ركز رايته فى رضم من حجارة تحت الحصن، فاطلع إليه يهودى من رأس الحصن فقال:
من أنت؟ قال: أنا على بن أبى طالب. قال: اليهودى: علوتم وما أنزل على موسى- أو كما قال- فما رجع حتى فتح الله على يديه.
وقال أبو رافع، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: خرجنا مع على- رضى الله عنه- حين بعثه
__________
(1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 385) ، السنن الكبرى للبيهقى (9/ 131) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 150) ، دلائل النبوة للبيهقى (4/ 215) ، كنز (30122) .
(2) انظر الحديث فى: السنة لابن أبى عاصم (2/ 608) ، الأسماء والصفات للبيهقى (498) .
(3) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (4/ 210) .(1/481)
رسول الله صلى الله عليه وسلم برايته، فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم فضربه رجل من يهود فطرح ترسه من يده، فتناول علىّ بابا كان عند الحصن فترس به عن نفسه، فلم يزل فى يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه ثم ألقاه من يده حين فرغ، فلقد رأيتنى فى نفر معى سبعة أنا ثامنهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه.
وحدث أبو اليسر كعب بن عمرو قال: إنا لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر ذات عشية إذ أقبلت غنم لرجل من يهود تريد حصنهم ونحن محاصروهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رجل يطعمنا من هذه الغنم؟» «1» فقال أبو اليسر: أنا يا رسول الله، قال: «فافعل» . قال:
فخرجت أشتد مثل الظليم، فلما رآنى رسول الله صلى الله عليه وسلم موليا قال: «اللهم أمتعنا به!» «2» قال: فأدركت الغنم وقد دخلت أولاها الحصن فأخذت شاتين من أخراها فاحتضنتهما تحت يدى ثم أقبلت بهما أشتد كأنه ليس معى شىء حتى ألقيتهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فذبحوهما فأكلوهما. فكان أبو اليسر من آخر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم موتا، فكان إذا حدث هذا الحديث بكى ثم قال: أمتعوا بى لعمرى حتى كنت من آخرهم!
وحاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر فى حصنيهم «الوطيح» و «السلالم» حتى إذا أيقنوا بالهلكة سألوه أن يسيرهم وأن يحقن لهم دماءهم ففعل. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حاز الأموال كلها: الشق ونطاة والكتيبة؛ وجميع حصونهم إلا ما كان من ذينك الحصنين، فلما سمع بهم أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه أن يسيرهم وأن يحقن لهم دماءهم ويخلوا له الأموال ففعل.
فلما نزل أهل خيبر على ذلك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعاملهم فى الأموال على النصف، وقالوا: نحن أعلم بها منكم وأعمر لها، فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم، فصالحه أهل فدك على مثل ذلك، فكانت خيبر فيئا بين المسلمين.
وكانت فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب.
فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم شاة مصلية. وقد سألت أى عضو من الشاة أحب إليه؟ فقيل لها: الذراع فأكثرت فيها من السم. ثم سمت سائر الشاة، ثم جاءت بها فلما وضعتها بين يديه تناول الذراع فلاك
__________
(1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 427) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 149) .
(2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 427) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 195) .(1/482)
منها مضغة فلم يسغها ومعه بشر بن البراء بن معرور قد أخذ منها كما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما بشر فأساغها وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلفظها ثم قال: «إن هذا العظم ليخبرنى أنه مسموم» «1» . ثم دعا بها فاعترفت. فقال: «ما حملك على ذلك؟» «2» قالت: بلغت من قومى ما لم يخف عليك فقلت: إن كان ملكا استرحت منه؛ وإن نبيا فسيخبر. فتجاوز عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومات بشر بن البراء من أكلته التى أكل.
وذكر ابن عقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تناول الكتف من تلك الشاة فانتهش منها وتناول بشر عظما فانتهش منه؛ فلما استرط رسول الله صلى الله عليه وسلم لقمته استرط بشر ما فى فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ارفعوا أيديكم فإن كتف هذه الشاة يخبرنى أنى بغيت فيها» . فقال بشر بن البراء: والذى أكرمك لقد وجدت ذلك فى أكلتى التى أكلت فما منعنى أن ألفظها إلا أنى اعظمت أن أنغصك طعامك، فلما أسغت ما فى فيك لم أكن أرغب بنفسى عن نفسك، ورجوت أن لا تكون استرطتها وفيها بغى.
فلم يقم بشر من مكانه حتى عاد لونه مثل الطيلسان وماطله وجعه حتى كان لا يتحول إلا ما حول.
قال جابر بن عبد الله: واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم- يومئذ- على الكاهل، حجمه أبو طيبة مولى بنى بياضة. وبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده ثلاث سنين حتى كان وجعه الذى توفى منه، فدخلت عليه أم بشر، بنت البراء بن معرور تعوده فيما ذكر ابن إسحاق فقال لها: «يا أما بشر: إن هذه لأوان وجدت انقطاع أبهرى من الأكلة التى أكلت مع أخيك بخيبر» «3» .
__________
(1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 211) .
(2) انظر الحديث فى: سنن ابن ماجه (2065) ، السنن الكبرى للبيهقى (7/ 386، 9/ 147) ، مستدرك الحاكم (1/ 483، 3/ 301) ، المعجم الكبير للطبرانى (1/ 227، 11/ 236) ، مجمع الزوائد للهيثمى (8/ 295، 296، 9/ 303، 304) ، مصنف عبد الرزاق (1525، 1526) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (8/ 109) ، الدر المنثور للسيوطى (3/ 353، 6/ 183) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (3302) ، فتح البارى لابن حجر (17/ 497) ، إرواء الغليل للألبانى (7/ 179) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (5/ 100) ، العلل المتناعية لابن الجوزى (1/ 229) .
(3) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 211) .(1/483)
قال: فإن كان المسلمون ليرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات شهيدا مع ما أكرمه الله من النبوة.
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر انصرف إلى وادى القرى فحاصر أهله ليالى ثم انصرف راجعا إلى المدينة.
قال أبو هريرة: لما انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خيبر إلى وادى القرى نزلناها أصلا مع مغرب الشمس، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم غلام أهداه له رفاعة بن زيد الجذامى ثم الضبيبى، فو الله إنه ليضع رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتاه سهم غرب فأصابه فقتله، فقلنا:
هنيئا له الجنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلا والذى نفس محمد بيده، إن شملته- الآن- لتحرق عليه فى النار، كان غلها من فىء المسلمين يوم خيبر» «1» . فسمعها رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه فقال له: يا رسول الله، أصبت شراكين لنعلين لى. فقال:
«يقد لك مثلهما من النار» «2» .
وخرج مسلم فى صحيحه من حديث عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- قال: لما كان يوم خيبر أقبل نفر من صحابة النبى صلى الله عليه وسلم فقالوا: فلان شهيد وفلان شهيد حتى مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلا، إنى رأيته فى النار فى بردة غلها أو عباءة» . ثم قال: «يا بن الخطاب، أذهب فناد فى الناس: إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون» «3» . قال: فخرجت فناديت: ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون.
وشهد خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء من نساء المسلمات، فرضخ لهن عليه السلام من الفىء، ولم يضرب لهن بسهم. حدثت بنت [أبى] الصلت عن امرأة غفارية سمتها قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى نسوة من بنى غفار وهو يسير إلى خيبر: فقلن يا رسول الله، قد أردنا الخروج معك إلى وجهك هذا فنداوى الجرحى ونعين المسلمين بما استطعنا. فقال: «على بركة الله» «4» . قالت: فخرجنا معه، فلما افتتح خيبر رضح لنا من
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح البخارى (8/ 179) ، صحيح مسلم فى كتاب الإيمان باب (48) ، رقم (183) ، السنن الكبرى للبيهقى (9/ 100) ، مستدرك الحاكم (3/ 40) ، التمهيد لابن عبد البر (2/ 3) .
(2) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (3/ 40) .
(3) انظر الحديث فى: صحيح مسلم، الجامع الصحيح (1/ 75) ، كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم الغلول.
(4) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (6/ 380) ، السنن الكبرى للبيهقى (2/ 407) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (8/ 214) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 204) .(1/484)
الفىء وأخذ هذه القلادة التى تزين فى عنقى فأعطانيها وعلقها بيده فى عنقى، فو الله لا تفارقنى أبدا. قالت: فكانت فى عنقها حتى ماتت ثم أوصت أن تدفن معها.
واستشهد بخيبر من المسلمين نحو من عشرين رجلا منهم عامر بن الأكوع عم سلمه ابن عمرو بن الأكوع؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال له فى مسيره إلى خيبر: «انزل يا ابن الأكوع فخذ لنا من هناتك» «1» فنزل يرتجز برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
إنا إذا قوم بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يرحمك الله» «2» . فقال عمر بن الخطاب: وجبت والله يا رسول الله لو أمتعتنا به! فقتل يوم خيبر شهيدا، وكان قتله أن سيفه رجع عليه وهو يقاتل فكلمه كلما شديدا فمات منه، فكان المسلمون قد شكوا فيه وقالوا: إنما قتله سلاحه، حتى سأل ابن أخيه سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأخبره بقول الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه لشهيد» «3» ، وصلى عليه. فصلى عليه المسلمون.
ومنهم الأسود الراعى من أهل خيبر، وكان من حديثه أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصر لبعض حصون خيبر ومعه غنم كان فيها أجيرا لرجل من يهود، فقال: يا رسول الله، أعرض علىّ الإسلام فعرضه عليه فأسلم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحقر أحدا أن يدعوه إلى الإسلام ويعرضه عليه، فلما أسلم قال: يا رسول الله، إنى كنت أجيرا لصاحب هذه الغنم وهى أمانة عندى فكيف أصنع بها؟ قال: «اضرب فى وجوهها فإنها سترجع إلى ربها» - أو كما قال- فقام الأسود فأخذ حفنة من الحصباء فرمى بها فى وجهها وقال: ارجعى إلى صاحبك فو الله لا أصحبك. وخرجت مجتمعة كأن سائقا يسوقها حتى دخلت الحصن، ثم تقدم الأسود إلى ذلك الحصن ليقتل مع المسلمين فأصابه حجر فقتله، وما صلى لله صلاة قط، فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع خلفه وسجى بشملة كانت عليه فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من أصحابه ثم أعرض
__________
(1) انظر الحديث فى: السنن الكبرى للبيهقى (4/ 16) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 148) ، التاريخ الكبير للبخارى (8/ 100) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 465) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (4/ 2/ 37) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 182) .
(2) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 183) .
(3) انظر الحديث فى: السنن الكبرى للبيهقى (4/ 16) .(1/485)
عنه فقالوا: يا رسول الله، لم أعرضت عنه؟ قال: «إن معه- الآن- زوجتيه من الحور العين!» .
وذكر ابن إسحاق «1» عن عبيد بن أبى نجيح أن الشهيد إذا ما أصيب نزلت زوجتاه من الحور العين عليه ينفضان التراب عن وجهه ويقولان: ترب الله وجه من تربك وقتل من قتلك.
قال: ولما افتتحت خيبر كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجاج بن علاط السلمى ثم البهزى فقال: يا رسول الله، إن لى بمكة مالا عند صاحبتى أم شيبة بنت أبى طلحة ومالا متفرقا فى تجار أهل مكة، فأذن لى يا رسول الله فأذن له؛ قال: إنه لا بد لى يا رسول الله من أن أقول. قال: قل.
قال الحجاج: فخرجت حتى إذا قدمت مكة وجدت بثنية البيضاء رجالا من قريش يتسمعون الأخبار ويسألون عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بلغهم أنه سار إلى خيبر وعرفوا أنها قرية الحجاز ريفا ومنعة وجالا، فهم يتحسسون الأخبار ويسألون الركبان، فلما رأونى ولم يكونوا علموا بإسلامى قالوا: الحجاج بن علاط؟ عنده والله الخبر، أخبرنا يا أبا محمد فإنه بلغنا أن القاطع سار إلى خيبر وهى بلد يهود وريف الحجاز. قلت: قد بلغنى ذلك وعندى من الخبر ما يسركم. قال: فالتبطوا بجنبى ناقتى يقولون: إيه يا حجاج؟ قلت: هزم هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط وقتل أصحابه قتلا لم تسمعوا بمثله قط وأسر محمد أسرا، وقالوا: لا نقتله حتى نبعث به إلى مكة فيقتلونه بين أظهرهم بمن كان أصاب من رجالهم. قال: فقاموا وصاحوا بمكة وقالوا: قد جاءكم الخبر وهذا محمد إنما تنظرون أن يقدم به عليكم فيقتل بين أظهركم.
قال: فقلت أعينونى على جمع مالى بمكة على غرمائى فإنى أريد أن أقدم خيبر فأصيب به من أهل محمد وأصحابه قبل أن يسبقنى التجار إلى ما هنالك. فقاموا فجمعوا إلى مالى كأحث جمع سمعت به وجئت صاحبتى فقلت: مالى- وقد كان لى عندها مال موضوع- لعلى ألحق بخيبر فأصيب من فرص البيع قبل أن يسبقنى التجار.
قال: فلما سمع العباس بن عبد المطلب الخبر وجاءه عنى أقبل حتى وقف إلى جنبى وأنا فى خيمة من خيام التجار فقال: يا حجاج، ما هذا الذى جئت به؟ قلت: وهل عندك حفظ لما وضعت عندك؟ قال: نعم. قلت: فاستأخر عنى حتى ألقاك على خلاء
__________
(1) انظر السيرة (3/ 320) .(1/486)
فإنى فى جمع مالى كما ترى فانصرف عنى حتى أفرغ قال: حتى إذا فرغت من جمع كل شىء كان لى بمكة وأجمعت الخروج لقيت العباس فقلت: احفظ على حديثى يا أبا الفضل- فإنى أخشى الطلب- ثلاثا ثم قل ما شئت. قال: أفعل. قلت: فإنى والله لقد تركت ابن أخيك عروسا على بنت ملكهم- يعنى صفية بنت حيى- ولقد افتتح خيبر وانتثل ما فيها وصارت له ولأصحابه. قال: ما تقول يا حجاج؟ قلت: إى والله فاكتم عنى، ولقد أسلمت وما جئت إلا لآحذ مالى فرقا من أن أغلب عليه، فإذا مضت ثلاث فأظهر أمرك فهو والله على ما تحب.
قال: حتى إذا كان اليوم الثالث لبس العباس حلة له وأخذ عصاه ثم خرج حتى أتى الكعبة فطاف بها، فلما رأوه قالوا: يا أبا الفضل هذا والله التجلد لحر المصيبة! قال: كلا والله الذى حلفتم به، لقد افتتح محمد خيبر وترك عروسا على ابنة ملكهم وأحرز أموالهم وما فيها فأصبحت له ولأصحابه. قالوا: من جاءك بهذا الخبر، قال: الذى جاءكم بما جاءكم به، ولقد دخل عليكم مسلما وأخذ ماله فانطلق ليلحق بمحمد وأصحابه فيكون معه. قالوا: يال عباد الله! انفلت عدو الله، أما والله لو علمنا لكان لنا وله شأن. ولم ينشبوا أن جاءهم الخبر بذلك.
وقال كعب بن مالك الأنصارى فى يوم خيبر:
ونحن وردنا خيبرا وفروضه ... بكل فتى عارى الأشاجع مذود
جواد لدى الغايات لا واهن القوى ... جرىء على الأعداء فى كل مشهد
عظيم رماد القدر فى كل شتوة ... ضروب بنصل المشرفى المهند
يرى القتل مدحا إن أصاب شهادة ... من الله يرجوها وفوزا بأحمد
يذود ويحمى عن ذمار محمد ... ويدمع عنه بالسان وباليد
وينصره من كل أمر يريبه ... يجود بنفس دون نفس محمد
وذكر ابن عقبة أن بنى فزارة قدموا على أهل خيبر فى أول أمرهم ليعينوهم، فراسلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يعينوهم وأن يخرجوا عنهم على أن يعطيهم من خيبر شيئا سماه لهم، فأبوا عليه وقالوا: جيراننا وحلفاؤنا. فلما فتح الله خيبر أتاه من كان هناك من بنى فزارة فقالوا: الذى وعدتنا؟ فقال: «لكم ذو الرقيبة» - لجبل من جبال خيبر- قالوا: إذن نقاتلك؛ قال: «موعدكم جنفاء» فلما سمعوا ذلك من رسول الله خرجوا هاربين.(1/487)
قال ابن إسحاق «1» : وكانت المقاسم على أموال خيبر على الشق ونطاة والكتيبة، وكانت الشق ونطاة فى سهمان المسلمين، وكانت الكتيبة خمس الله وسهم النبى صلى الله عليه وسلم وسهم ذوى القربى والمساكين وطعم أزواج النبى صلى الله عليه وسلم وطعم رجال مشوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أهل فدك بالصلح.
وقسمت خيبر على أهل الحديبية من شهد خيبر، ومن غاب عنها، ولم يغب عنها إلا جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام، فقسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم كسهم من حضرها.
وفى هذه الغزوة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمان الخيل والرجال، فجعل للفرس سهمين ولفارسه سهما وللراجل سهما، فجرت المقاسم على ذلك فيما بعد، ويومئذ عرب العربى من الخيل وهجن الهجين.
وذكر ابن عقبة أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر نفر من الأشعريين فيهم أبو عامر الأشعرى، قدموا المدينة مع مهاجرة الحبشة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، فمضوا إليه وفيهم أبان بن سعيد بن العاص والطفيل- يعنى ابن عمرو الدوسى ذا النور- وأبو هريرة ونفر من دوس، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيه الحق أن لا يخيب مسيرهم ولا يبطل سفرهم فشركهم فى مقاسم خيبر وسأل أصحابه ذلك فطابوا به نفسا.
ولم يذكر ابن عقبة جعفر بن أبى طالب فى هؤلاء القادمين على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر من أرض الحبشة وهو أولهم وأفضلهم، وما مثل جعفر يتخطى ذكره، ومن البعيد أن يغيب ذلك عن ابن عقبة، فالله أعلم بعذره.
وقد ذكر ابن إسحاق: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث مرو بن أمية الضمرى إلى النجاشى فيمن كان أقام بأرض الحبشة من أصحابه فحملهم فى سفينتين فقدم بهم عليه وهو بخيبر بعد الحديبية. فذكر جعفرا أولهم وذكر معه ستة عشر رجلا قدموا فى السفينتين صحبته. وذكر ابن هشام عن الشعبى أن جعفرا قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح خيبر فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين عينيه والتزمه وقال: «ما أدرى بأيتهما أنا أسر، أبفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟» «2» .
ولما جرت المقاسم فى أموال خيبر اتسع فيها المسلمون ووجدوا بها مرفقا لم يكونوا
__________
(1) انظر السيرة (3/ 324) .
(2) انظر الحديث فى: مصنف ابن أبى شيبة (12/ 106، 14/ 349) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 1/ 78) ، المعجم الكبير للطبرانى (2/ 107) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 206) .(1/488)
وجدوه قبل، حتى لقال عبد الله بن عمر- رضى الله عنهما- فيما خرج له البخارى فى صحيحه: ما شبعنا حتى فتحنا خيبر.
وأقر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود خيبر فى أموالهم يعملون فيها للمسلمين على النصف مما يخرج منها كما تقدم.
قال ابن إسحاق: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث إلى أهل خيبر عبد الله بن رواحة خارصا بين المسلمين وبين يهود فيخرص عليهم، فإذا قالوا: تعديت علينا. قال: إن شئتم فلكم وإن شئتم فلنا. فتقول يهود: بهذا قامت السموات والأرض!
قال: وإنما خرص عليهم عبد الله عاما واحدا ثم أصيب بمؤته- يرحمه الله- فكان جبار بن صخر أخو بنى سلمة هو الذى يخرص عليهم بعده.
فأقامت يهود على ذلك لا يرى بهم المسلمون بأسا فى معاملتهم حتى عدوا فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن سهل أخى بنى حارثة فقتلوه، فأتهمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون عليه وكتب إليهم أن يدوه أو يأذنوا بحرب. فكتبوا يحلفون بالله ما قتلوه ولا يعلمون له قاتلا، فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده وأقرهم على ما سبق من معاملته إياهم.
فلما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرهم أبو بكر الصديق على مثل ذلك حتى توفى، ثم أقرهم عمر صدرا من إمارته، ثم بلغ عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فى وجعه الذى قبضه الله فيه: «لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان» . ففحص عمر عن ذلك حتى بلغه الثبت، فأرسل إلى يهود فقال: إن الله قد أذن فى جلائكم، قد بلغنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان» «1» فمن كان عنده عهد من رسول الله فليأتنى به أنفذه له، ومن لم يكن عنده عهد من رسول الله فليتجهز للجلاء. فأجلى عمر منهم من لم يكن عنده عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال عبد الله بن عمر: خرجت أنا والزبير والمقداد بن الأسود إلى أموالنا بخيبر نتعاهدها، فلما قدمنا تفرقنا فى أموالنا فعدى على تحت الليل فقرعت يداى من مرفقى، فلما أصبحت استصرخ على صاحباى فأتيانى فأصالحا من يدى؛ ثم قاما بى على عمر فقال: هذا عمل يهود، ثم قام فى الناس خطيبا فقال: أيها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عامل يهود خيبر على أنا نخرجهم إذا شئنا، وقد عدوا على عبد الله بن عمر
__________
(1) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (4/ 121) .(1/489)
ففدعوا يديه كما بلغكم مع عدوتهم على الأنصارى قبله لا نشك أنهم أصحابه ليس لنا هناك عدو غيرهم، فمن كان له مال بخيبر فليلحق به فإنى مخرج يهود. فأخرجهم.
ولما أخرج عمر- رضى الله عنه- يهود خيبر ركب فى المهاجرين والأنصار وخرج معه بجبار بن صخر- وكان خارص أهل المدينة وحاسبهم- ويزيد بن ثابت، فهما قسما خيبر على أصحاب السهمان التى كانت عليها، وذلك أن الشق والنطاة اللتين هما سهم المسلمين قسمت فى الأصل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثمانية عشر سهما: نطاة من ذلك خمسة أسهم والشق ثلاثة عشر سهما، ثم قسم كل قسم من هذه الثمانية عشر سهما إلى مائة سهم، لكل رجل سهم ولكل فرس سهمان؛ وكانت عدة الذين قسمت عليهم ألف رجل وأربعمائة رجل ومائتى فرس، فذلك ألف سهم وثمانمائة سهم.
عمرة القضاء «1» وهى غزوة الأمن
قال ابن إسحاق «2» : ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر إلى المدينة أقام بها شهرى ربيع وما بعده إلى شوال، يبعث فيما بين ذلك سراياه.
ثم خرج فى ذى القعدة فى الشهر الذى صده فيه المشركون معتمرا عمرة القضاء مكان عمرته التى صدوه عنها، وخرج معه المسلمون ممن كان صد معه فى عمرته تلك، وهى سنة سبع، فلما سمع به أهل مكة خرجوا عنه.
قال ابن عقبة: وتغيب رجال من أشرافهم خرجوا إلى بوادى مكة كراهية أن ينظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غيظا وحنقا ونفاسة وحسدا.
وتحدثت قريش بينها فيما ذكر ابن إسحاق: أن محمدا وأصحابه فى عسرة وجهد وشدة فصفوا له عند دار الندوة لينظروا إليه وإلى أصحابه.
فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد اضطبع بردائه وأخرج عضده اليمنى ثم قال:
__________
(1) انظر: المغازى للواقدى (2/ 731) ، طبقات ابن سعد (2/ 1/ 87) ، البداية والنهاية (4/ 226) .
(2) انظر السيرة (4/ 5) .(1/490)
«رحم الله امرء أراهم اليوم من نفسه قوة» «1» ثم استلم الركن وخرج يهرول ويهرول أصحابه معه، حتى إذا واراه البيت منهم واستلم الركن اليمانى مشى حتى يستلم الركن الأسود، ثم هرول كذلك ثلاثة أطواف ومشى سائرها فكان ابن عباس يقول: كان الناس يظنون أنها ليست عليهم وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما صنعها لهذا الحى من قريش الذى بلغه عنهم حتى حج حجة الوداع فلزمها فمضت السنة بها.
ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فى تلك العمرة وعبد الله بن رواحة يرتجز بين يديه:
خلوا بنى الكفار عن سبيله ... خلوا فكل الخير فى رسوله
يا رب إنى مؤمن بقيله ... أعرف حق الله فى قبوله
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث بين يديه جعفر بن أبى طالب إلى ميمونة بنت الحارث ابن حزن الهلالية، فخطبها عليه فجعلت أمرها إلى العباس بن عبد المطلب، وكانت تحته أختها أم الفضل بنت الحارث، وقيل: جعلت أمرها إلى أم الفضل، فجعلت أم الفضل أمرها إلى العباس فزوجها العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصدقها عنه أربعمائة درهم.
وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسكه، وأقام بمكة ثلاث ليال، وكان ذلك أجل القضية يوم الحديبية. فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليوم الرابع أتاه سهيل بن عمرو وحويطب عبد العزى. [فى نفر من قريش] ورسول الله صلى الله عليه وسلم فى مجلس الأنصار يتحدث مع سعد بن بن عبادة فصاح حويطب: نناشدك الله والعقد إلا خرجت من أرضنا فقد مضت الثلاث.
فقال سعد: كذبت لا أم لك إنها ليست بأرضك ولا أرض أبيك والله لا يخرج إلا راضيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وضحك: «يا سعد، لا تؤذ قوما زارونا فى رحالنا» . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما عليكم لو تركتمونى فأعرست بين أظهركم وصنعنا لكم طعاما فحضرتموه؟» «2» قالوا: لا حاجة لنا بطعامك فاخرج عنا.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا رافع مولاه فأذن بالرحيل، وخلف أبا رافع على ميمونة حتى أتاه بها بسرف وقد لقيت ومن معها عناء وأذى من سفهاء المشركين وصبيانهم، فبنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرف ثم أدلج فسار حتى قدم المدينة. ثم كان من قضاء الله سبحانه أن ماتت ميمونة بسرف بعد ذلك بحين، فتوفيت حيث بنى بها.
قال موسى بن عقبة: وذكر أن الله- تعالى- أنزل فى تلك العمرة: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ [البقرة: 194] .
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح مسلم (2/ 240، 923) ، مسند الإمام أحمد (1/ 305، 306) .
(2) انظر الحديث فى: الحاكم فى المستدرك (4/ 31) .(1/491)
وذكر ابن هشام أنها يقال لها: «عمرة القصاص» لأنهم صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العمرة فى ذى القعدة فى الشهر الحرام من سنة ست فاقتص منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل مكة فى ذى القعدة فى الشهر الحرام الذى صدوة فيه من سنة سبع.
غزوة مؤتة من أرض الشام «1»
ولما صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمرة القضاء إلى المدينة أقام بها نحوا من ستة أشهر، ثم بعث إلى الشام فى جمادة الأولى من سنة ثمان بعثة الذين أصيبوا بمؤنة، واستعمل عليهم زيد بن حارثة، وقال: «إن أصيب زيد فجعفر بن أبى طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة» .
فتجهز الناس ثم تهيأوا للخروج، وهم ثلاثة الآف، فلما حضر خروجهم ودع الناس أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلموا عليهم، فلما ودع عبد الله بن رواحة بكى فقالو: ما يبكيك يا بن رواحة؟ فقال: والله ما بى حب الدنيا ولا صبابة بكم، ولكنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله ويذكر فيها النار: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا [مريم: 71] فلست أدرى كيف لى بالصدر بعد الورود! فقال المسلمون: صحبكم الله ودفع عنكم وردكم إلينا صالحين. فقال عبد الله بن رواحة:
لكنى أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدى حران مجهزة ... بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
جتى يقال إذا مروا على جدثى ... ما أرشد الله من غاز وقد رشدا
ثم إن القوم تهيأو للخروج فأتى عبد الله بن رواحة رسول الله صلى الله عليه وسلم فودعه ثم قال:
أنت الرسول فمن يحرم نوافله ... والوجه منه فقد أزرى به القدر
فثبت الله ما آتاك من حسن ... فى المرسلين ونصرا كالذى نصروا
إنى تفرست فيك الخير نافلة ... فرأسة خالفت فيك الذى نظروا
يعنى المشركين.
ثم خرج القوم، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يشيعهم، جتى إذا ودعهم وانصرف عنهم
__________
(1) راجع هذه الغزوة فى: المنتظم لابن الجوزى (3/ 318) ، المغازى للواقدى (2/ 755) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (1/ 2/ 92) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 241) .(1/492)
قال عبد الله بن رواحة:
خلف السلام على امرىء ودعته ... فى النخل خير مشيع وخليل
وحدث زيد بن أرقم قال: كنت يتيما لعبد الله بن رواحة فى حجرة، فخرج بى فى سفره ذلك مردفى على حقيبة رحلة، فواله إنه ليسير ليلة إذ سمعته ينشد أبياته هذه:
إذ أدنيتنى وحملت رحلى ... مسيرة أربع بعد الحساء
فشأنك فانعمى وخلاك ذم ... ولا أرجع إلى أهلى ورائى
وجاء المسلمون وغادرونى ... بأرض الشام مشتهى الثواء
وردك كل ذى رحم قريب ... إلى الرحمن منقطع الرجاء
هنالك لا أبالى طلع بعل ... ولا نخل أسافلها وراء
فلما سمعتهن بكيت فخفقنى بالدرة وقال: وما عليك يا لكع أن يرزقنى الله الشهادة وترجع بين شعبتى الرحل؟!
ثم مضى القوم حتى نزلوا معان من أرض الشام فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء فى مائة ألف من الروم وانضم إليهم من لخم وجذام والقين وبهراء وبلى مائة ألف منهم.
فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين ينظرون فى أمرهم وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره بعدد عدونا فإما أن يمدنا بالرجال وإما أن يأمرنا بأمره فنمضى له. فشجع الناس عبد الله بن رواحة فقال: يا قوم، والله إن الذى تكرهون للذى خرجتم تطلبون، الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذى أكرمنا الله به فانطلقوا، فإنما هى إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة، فقال الناس: صدق والله ابن رواحة. فمضى الناس وقال عبد الله فى مجلسهم ذلك:
جلبنا الخيل من أجأ وفرع ... تعر من الحشيش لها العكوم
حذوناها من الصوان سبتا ... أزل كأن صفحته أديم «1»
أقامت ليلتين على معان ... فأعقب بعد فترتها جموم
فرحنا والجياد مسومات ... تنفس فى مناخرها السموم
__________
(1) حذوناها: أى جعلنا لها حذاء، وهو النعل. والصوان: حجارة ملس. والسبت: النعال المصنوعة من الجلد المدبوغ.(1/493)
فلا وأبى مآب لنأتينها ... وإن كانت بها عرب وروم
فعبأنا أعنتها فجاءت ... عوابس والغبار لها بريم
بذى لجب كأن البيض فيه ... إذا برزت قوانسها النجوم
فراضية المعيشة طلقتها ... أسنتها فتنكح أو تئيم
ثم مضى الناس حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها: مشارف. ثم دنا العدو وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها: مؤتة، فالتقى الناس عندها. فتعبى لهم المسلمون فجعلوا على ميمنتهم رجلا من بنى عذرة يقال له: قطبة بن قتادة وعلى ميسرتهم رجلا من الأنصار يقال له: عبابة بن مالك، ويقال: عبادة. ثم التقى الناس فاقتلوا، فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شاط فى رماح القوم، ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى إذا ألحمه القتال اقتحم عن فرس له شقراء. قال أحد بنى مرة بن عوف وكان فى تلك الغزوة: والله لكأنى أنظر إليه حين اقتحم عنها ثم عقرها ثم قاتل القوم حتى قتل وهو يقول:
يا حبذا الجنة واقترابها ... طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها ... على إذ لا قيتها ضرابها
وكان جعفر أول من عقر فى الإسلام فرسه.
ولما قتل جعفر أخذ عبد الله بن رواحة الراية ثم تقدم بها وهو على فرسه فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد ثم قال:
أقسمت يا نفس لتنزلنه ... لتنزلن أو لتكرهنه
إن أجلب الناس وشدوا الرنه ... ما لى أراك تكرهين الجنه
قد طال ما قد كنت مطمئنه ... هل أنت إلا نطفة فى شنه
وقال أيضا:
يا نفس إلا تقتلى تموتى ... هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعطيت ... إن تفعلى فعلهما هديت
يعنى صاحبيه زيدا وجعفرا. ثم نزل فأتاه ابن عم له بعرق من لحم فقال: شد بهذا صلبك فإنك قد لقيت فى أيامك هذه ما لقيت. فأخذه من يده فانتهس منه نهسة ثم سمع الحطمة فى ناحية الناس فقال: وأنت فى الدنيا! ثم ألقاه من يده ثم أخذ سيفه فتقدم فقاتل حتى قتل.(1/494)
ثم أخذ الراية ثابت بن أرقم أخو بنى العجلان فقال: يا معشر المسلمين، اصطلحوا على رجل منكم. قالوا: أنت. قال ما أنا بفاعل، فاصطلح القوم على خالد بن الوليد.
فلما أخذ الراية دافع القوم وخاشى بهم ثم انحاز وانحيز عنه، حتى انصرف بالناس.
ولما أصيب القوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا، ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى قتل شهيدا» ، ثم صمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تغيرت وجوه الأنصار وظنوا أنه قد كان فى عبد الله بن رواحة بعض ما يكرهون، ثم قال: «أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيدا» . ثم قال: «لقد رفعوا إلى الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب، فرأيت فى سرير عبد الله بن رواحة ازورارا عن سريرى صاحبيه فقلت: عم هذا؟ فقيل لى: مضيا وتردد عبد الله بعض التردد ثم مضى» «1» .
وذكر ابن هشام أن جعفرا أخذ اللواء بيمينه فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قتل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة فأثابه الله بذلك جناحين يطير بهما حيث شاء.
ويقال: إن رجلا من الروم ضربه- يومئذ- فقطعه نصفين.
وذكر ابن عقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بالمدينة لما أصيبوا، قبل أن يأتيه نعيهم: «مر على جعفر بن أبى طالب فى الملائكة يطير كما يطيرون له جناحان» . قال: وقدم يعلى ابن منبه على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبر أهل مؤتة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن شئت فأخبرنى وإن شئت أخبرتك» . قال: فأخبرنى يا رسول الله فأخبره صلى الله عليه وسلم خبرهم كله ووصفه له.
فقال: والذى بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفا واحدا لم تذكره، وإن أمرهم لكما ذكرت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله رفع لى الأرض حتى رأيت معتركهم» .
وحدثت أسماء بنت عميس امرأة جعفر قالت: لما أصيب جعفر وأصحابه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ايتينى ببنى جعفر» . وقد كانت غسلتهم ودهنتهم ونظفتهم.
قالت: فأتيته بهم فشمهم وذرفت عيناه، فقلت: يا رسول الله بأبى أنت ما يبكيك؟
أبلغك عن جعفر وأصحابه شىء؟ قال: «نعم، أصيبوا هذا اليوم» . قالت: فقمت أصيح واجتمع إلى النساء. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله فقال: «لا تغفلوا آل جعفر من أن تصنعوا لهم طعاما، فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم» «2» .
__________
(1) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 160) .
(2) انظر الحديث فى: سنن ابن ماجه (1/ 1610) ، سنن الترمذى (3/ 998) ، السنن الكبرى للبيهقى (4/ 61) .(1/495)
وقالت عائشة رضى الله عنها: لما أتى نعى جعفر عرفنا فى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحزن.
ولما انصرف خالد قافلا بالناس ودنوا من المدينة تلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، ولقيهم الصبيان يشتدون ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقبل مع القوم على دابة، فقال: خذوا الصبيان فاحملوهم وأعطونى ابن جعفر. فأتى بعبد الله بن جعفر فأخذه فحمله بين يديه وجعل الناس يحثون على الجيش التراب ويقولون: يا فرار، فررتم فى سبيل الله! فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله» «1» .
وقالت أم سلمة زوج النبى صلى الله عليه وسلم لامرأة سلمة بن هشام بن العامر بن المغيرة: مالى لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: والله ما يستطع أن يخرج، كلما خرج صاح به الناس: يا فرار، فررتم فى سبيل الله! حتى قعد فى بيته فما يخرج.
وقد قال فيما كان من أمر الناس وأمر خالد ومخاشاته بالناس وانصرافه بهم- قيس ابن المسحر اليعمرى يعتذر مما صنع يومئذ وصنع الناس:
وو الله لا تنفك نفسى تلومنى ... على موقفى والخيل قابعة قبل
وقفت بها لا مستجيزا فنافذا ... ولا مانعا من كان حم له القتل «2»
على أننى آسيت نفسى بخالد ... ألا خالد فى القوم ليس له مثل
وجاشت إلى النفس من نحو جعفر ... بمؤتة إذ لا ينفع النابل النبل
وضم إلينا حجزتيهم كليهما ... مهاجرة لا مشركون ولا عزل
فبين قيس فى شعره ما اختلف الناس فيه من ذلك: أن القوم حاجزوا وكرهوا الموت وحقق انحياز خالد بمن معه.
وكان مما بكى به أصحاب مؤتة قول حسان بن ثابت:
تأوبنى ليل بيثرب أعسر ... وهم إذا ما هوم الناس مسهر «3»
لذكرى حبيب هيجت لى عبرة ... سفوحا وأسباب البكاء التذكر
بلى إن فقدان الحبيب بلية ... وكم من كريم يبتلى ثم يصبر
رأيت خيار المؤمنين تواردوا ... شعوب وخلفا بعدهم يتأخر
__________
(1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 253) .
(2) مستجيزا: أى منحازا إلى ناحية.
(3) تأوبنى: أى عاودنى ورجع إلىّ.(1/496)
فلا يبعدن الله قتلى تباعدوا ... جميعا وأسباب المنية تخطر إلى
غداة مضوا بالمؤمنين يقودهم ... الموت ميمون النقيبة أزهر
أغر كضوء البدر من آل هاشم ... أبى إذا سيم الطلامة يجسر
فطاعن حتى مال غير موسد ... بمعترك فيه قنا متكسر
فصار مع المستشهدين ثوابه ... جنان وملتف الحدائق أخضر
وكنا نرى فى جعفر من محمد ... وفاء وأمرا حازما حين يأمر
وما زال فى الإسلام من آل هاشم ... دعائم عز لا يزلن ومفخر
هم جبل الإسلام والناس حولهم ... رضام إلى طود يروق ويقهر
بهاليل منهم جعفر وابن أمه ... علىّ ومنهم أحمد المتخير
وحمزة والعباس منهم ومنهم ... عقيل وماء العود من حيث يعصر
بهم تفرج الأواء فى كل مأزق ... عماس إذا ما ضاق بالناس مصدر
هم أولياء الله أنزل حكمه ... عليهم وفيهم ذا الكتاب المطهر
وقال كعب بن مالك فى ذلك:
نام العيون ودمع عينك يهمل ... سحا كما وكف الطباب المخضل
فى ليلة وردت علىّ همومها ... طورا أحن وتارة أتململ
واعتادنى حزن فبت كأننى ... ببنات نعش والسماك موكل
وكأنما بين الجوانح والحشا ... مما تأوبنى شهاب مدخل
وجدا على النفر الذين تتابعوا ... يوما بمؤتة أسندوا لم ينقلوا
صلى الإله عليهم من فتية ... وسقى عظامهم الغمام المسبل
صبروا بمؤتة للإله نفوسهم ... حذر الردى ومخافة أن ينكلوا
فمضوا أمام المسلمين كأنهم ... فنق عليهن الحديد المرفل
إذ يهتدون بجعفر ولوائه ... قدام أولهم فنعم الأول
حتى تفرجت الصفوف وجعفر ... حيث التقى وعث الصفوف مجدل
فتغير القمر المنير لفقده ... والشمس قد كسفت وكادت تأفل
قوم علا بنيانه من هاشم ... فرعا أشم وسؤددا ما ينقل
قوم بهم عصم الإله عباده ... وعليهم نزل الكتاب المنزل
فضلوا المعاشر عزة وتكرما ... وتغمدت أحلامهم من يجهل
لا يطلقون إلى السفاه جباهم ... ويرى خطيبهم بحق يفصل(1/497)
بيض الوجوه ترى بطون أكفهم ... تندى إذا اعتذر الزمان الممحل
وبهديهم رضى الإله لخلقه ... وبحدهم نصر النبى المرسل
وقال حسان بن ثابت يبكى جعفرا:
ولقد بكيت وعز مهلك جعفر ... حب النبى على البرية كلها
ولقد جزعت وقلت حين نعيت لى ... من للجلاد لدى العقاب وظلها»
بالبيض حين تسل من أغمادها ... ضربا وإنهال الرماح وعلها
بعد ابن فاطمة المبارك جعفر ... خير البرية كلها وأجلها
رزآ وأكرمها جميعا محتدا ... وأعرها متظلما وأذلها
للحق حين ينوب غير تنحل ... كذبا وأنداها يدا وأبلها
بالعرف غير محمد لا مثله ... حى من أحيا البرية كلها
وقال شاعر من المسلمين ممن رجع عن غزوة مؤتة:
كفى حزنا أنى رجعت وجعفر ... وزيد وعبد الله فى رمس أقبر
قضوا نحبهم لما مضوا لسبيلهم ... وخلفت للبوى مع المتغير
واستشهد يوم مؤتة من المسلمين سوى الأمراء الثلاثة- رضى الله عنهم- من قريش ثم من بنى عدى بن كعب: مسعود بن الأسود بن حارثة. ومن بنى مالك بن حسل: وهب بن سعد بن أبى سرح. ومن الأنصار: عباد بن قيس من بنى الحارث بن الخزرج، والحارث بن النعمان بن إساف من بنى غنم بن مالك بن النجار، وسراقة بن عمر بن عطية بن خنساء من بنى مازن بن النجار، وأبو كليب ويقال: أبو كلاب، وجابر ابنا عمرو بن زيد بن عوف بن مبذول وهما لأب وأم. وعمر وعامر ابنا سعد بن الحارث بن عباد من بنى مالك بن أفصى. وهؤلاء الأربعة عن ابن هشام.
غزوة الفتح
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بعثه إلى مؤتة جمادى الآخرة ورجبا.
ثم عدت بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة على خزاعة، ولم يزالوا قبل ذلك متعادين، وكان الذى هاج ما بينهم أن حليفا للأسود بن رزن الديلى خرج تاجرا، فلما توسط أرض خزاعة عدوا عليه فقتلوه وأخذوا ماله، فعدت بنو بكر على رجل من خزاعة
__________
(1) العقاب: اسم لراية الرسول صلى الله عليه وسلم.(1/498)
فقتلوه، فعدت خزاعة قبيل الإسلام على بنى الأسود بن رزن سلمى وكلثوم وذؤيب وهم منحر بنى كنانة وأشرافهم كانوا فى الجاهلية يودون ديتين ديتين لفضلهم فى قومهم، فقتلتهم خزاعة بعرفة عند أنصاب الحرم ثم حجز بينهم الإسلام وتشاغل الناس به.
فلما كان صلح الحديبية دخلت خزاعة فى عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخلت بنو بكر فى عقد قريش. فلما كانت الهدنة اغتنمتها بنو الديل فخرجوا حتى بيتوا خزاعة على الوتير «1»
- ماء لهم- فأصابوا منهم رجلا وتحاجزوا واقتتلوا ورفدت قريش بنى بكر بالسلاح وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفيا.
فلما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد والميثاق بما استحلوا منهم وكانوا فى عقده وعهده، خرج عمرو بن سالم الخزاعى الكعبى حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فوقف عليه وهو جالس فى المسجد بين ظهرى الناس فقال:
يا رب إنى ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا
قد كنتم ولدا وكنا والدا ... ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصرا أعتدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا ... أبيض مثل البدر يسمو صعدا
إن سيم خسفا وجهه تربدا ... فى فيلق كالبحر يجرى مزبدا
إن قريشا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وجعلوا لى فى كداء رصدا ... وزعموا أن لست أدعو أحدا
وهم أذل وأقل عددا ... هم بيتونا بالوتير هجدا
وقتلونا ركعا وسجدا
يقول: قتلنا وقد أسلمنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نصرت يا عمرو بن سالم» ، ثم عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم عنان من السماء فقال: «إن هذه السحابة لتستهل بنصر بنى كعب» «2» . ثم خرج بديل بن ورقاء فى نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأخبروه بما أصيب منهم
__________
(1) الوتير: اسم ماء بأسفل مكة لخزاعة.
(2) انظر الحديث فى: «دلائل النبوة للبيهقى (5/ 6، 7) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 163، 164) .(1/499)
ومظاهرة قريش بنى بكر عليهم ثم انصرفوا راجعين إلى مكة.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس: «كأنكم بأبى سفيان قد جاءكم ليشد العقد وليزيد فى المدة» «1» .
ومضى بديل بن ورقاء فى أصحابه حتى لقوا أبا سفيان بعسفان قد بعثته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشد العقد ويزيد فى المدة وقد رهبوا الذى صنعوا، فلما لقى أبو سفيان بديلا قال: من أين أقبلت يا بديل؟ وظن أنه قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: سيرت فى خزاعة فى هذا الساحل وفى بطن هذا الوادى. قال: أو ما جئت محمدا؟ قال: لا. فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان: لئن كان بديل جاء المدينة لقد علف بها النوى. فأتى مبرك راحلته فأخذ من بعرها ففته فرأى فيه النوى فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمدا.
ثم خرج أبو سفيان حتى قدم المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه فقال: يا بنية، ما أدرى أرغبت بى عن هذا الفراش أم رغبت به عنى؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل نجس مشرك، فلم أحب أن تجلس عليه. قال: والله يا بنية لقد أصابك بعدى شر!
ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه فلم يرد عليه شيئا، ثم ذهب إلى أبى بكر فكلمه أن يكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما أنا بفاعل. ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه فقال: أنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فو الله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به. ثم خرج حتى دخل على علىّ بن أبى طالب وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندها حسن بن على غلام يدب بين يديها فقال: يا على، إنك أمس القوم بى رحما وإنى قد جئت فى حاجة فلا أرجعن كما جئت فاشفع لى، قال: ويحك يا أبا سفيان، والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكمله فيه. فالتفت إلى فاطمة فقال: يا بنت محمد، هل لك أن تأمرى بنيك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر.
قالت: والله ما بلغ بنى ذلك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال:
يا أبا حسن، إنى أرى الأمور قد اشتدت على فانصحنى. قال: والله ما أعلم شيئا يغنى عنك شيئا ولكنك سيد بنى كنانة فقم فأجر بين الناس ثم ألحق بأرضك، قال: أو ترى ذلك مغنيا عنى شيئا؟ قال: لا والله ما أظنه ولكننى لا اجد لك غير ذلك. فقام أبو
__________
(1) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 281) .(1/500)
سفيان فقال: أيها الناس، إنى قد أجرت بين الناس. ثم ركب بعيره فانطلق. فلما قدم على قريش قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمدا فكلمته فو الله ما رد على شيئا ثم جئت ابن أبى قحافة فلم أجد فيه خيرا. ثم جئت ابن الخطاب فوجدته أدنى العدو. ويقال:
أعدى العدو، ثم أتيت عليا فوجدته ألين القوم، وقد أشار على بشىء صنعته فو الله ما أدرى هل يغنى شيئا أم لا؟ قالوا: وبم أمرك؟ قال: أمرنى أن أجير بين الناس ففعلت.
قالوا: فهل أجاز ذلك محمد؟ قال: لا. قالوا: ويلك! والله ما زاد الرجل على أن لعب بك فما يغنى عنك ما قلت. قال: لا والله ما وجدت غير ذلك.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالجهاز وأمر أهله أن يجهزوه، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة وهى تحرك بعض جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أى بنية أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجهزوه؟ قالت: نعم فتجهز. قال: فأين ترينه يريد؟ قالت: لا والله ما أدرى.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة وأمرهم بالجد والتهيؤ، وقال:
«اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها فى بلادها» «1» ؛ فتجهز الناس.
وكتب حاطب بن أبى بلتعة عند ذلك كتابا إلى قريش يخبرهم بالذى أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر فى السير إليهم ثم أعطاه امرأة وجعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا. فجعلته فى رأسها ثم فتلت عليه قرونها ثم خرجت به. وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب فبعث على بن أبى طالب والزبير بن العوام فقال: أدركا امرأة كتب معها حاطب إلى قريش يحذرهم ما أجمعنا له فى أمرهم. فخرجا حتى أدركاها فاستنزلاها والتمسا فى رحلها فلم يجدا شيئا، فقال لها على: أحلف بالله ما كذب رسول الله ولا كذبنا ولتخرجن هذا الكتاب أو لنكشفنك. فلما رأت الجد منه استخرجت الكتاب من قرون رأسها فدفعته إليه. فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبا فقال: «يا حاطب، ما حملك على هذا؟» قال: يا رسول الله، أما والله إنى لمؤمن بالله وبرسوله ما غيرت ولا بدلت، ولكنى كنت امرء ليس لى فى القوم من أصل ولا عشيرة، وكان لى بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليه؛ فقال عمر: يا رسول الله دعنى فلأضرب عنقه فإن الرجل نافق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» «2» .
__________
(1) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 164) . البداية والنهاية لابن كثير (4/ 2883) .
(2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (1/ 79، 80، 105) ، سنن الترمذى (5/ 3305) ، صحيح البخارى فى كتاب الجهاد والسير (6/ 3007) .(1/501)
فأنزل الله فى حاطب: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ الآيات كلها إلى قوله: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة: 1- 4] إلى آخر القصة.
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره حتى نزل بمر الظهران فى عشرة آلاف من المسلمين، وقيل فى اثنى عشر ألفا، فسبعت سليم وقيل: ألفت وألفت مزينة، وفى كل القبائل عدد وإسلام. وأوعب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرون والأنصار فلم يتخلف عنه منهم أحد.
وقد كان ابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وابن عمته عبد الله بن أبى أمية بن المغيرة لقياه بنيق العقاب فيما بين مكة والمدينة، فالتمسا الدخول عليه وكلمته أم سلمة فيهما وهى أخت عبد الله منهما فقالت: يا رسول الله، ابن عمك وابن عمتك وصهرك. قال: «لا حاجة لى بهما، أما ابن عمى فهتك عرضى وأما ابن عمتى وصهرى فهو الذى قال لى بمكة ما قال» . فلما خرج الخبر إليهما بذلك قال أبو سفيان- ومعه بنى له- والله ليأذنن لى أو لآخذن بيد بنى هذا ثم لنذهبن فى الأرض حتى نموت عطشا وجوعا. فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لهما ثم أذن لهما، فدخلا عليه فأسلما، وأنشده أبو سفيان:
لعمرك إنى يوم أحمل راية ... لتغلب خيل اللات خيل محمد
لكالمدلج الحيران أظلم ليله ... فهذا أوانى حين أهدى وأهتدى
هدانى هاد غير نفسى وقادنى ... مع الله من طردت كل مطرد
فزعموا أنه لما أنشده هذا البيت ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى صدره وقال: «أنت طردتنى كل مطرد» «1» .
وعميت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش، فلا يأتيهم خبر عنه ولا يدرون ما هو فاعل.
وخرج فى تلك الليالى أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يتحسسون الأخبار. وكان العباس بن عبد المطلب قد لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق مهاجرا بعياله، وكان قبل ذلك مقيما بمكة على سقايته ورسول الله صلى الله عليه وسلم عنه راض.
__________
(1) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 165- 167) ، مستدرك الحاكم (3/ 43، 44) .(1/502)
قال العباس: فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران قلت: واصباح قريش والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر.
فجلست على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء فخرجت عليها حتى جئت الأراك فقلت:
لعلى أجد بعض الحطابة أو صاحب لبن أو ذا حاجة يأتى مكة فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوا إليه فيستأمنوه. فو الله إنى لأسير عليها والتمس ما خرجت له إذ سمعت كلام أبى سفيان وبديل بن ورقاء وهما يتراجعان وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيرانا قط ولا عسكرا. قال: يقول بديل: هذه والله خزاعة حمستها الحرب، فيقول أبو سفيان: خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها. قال: فعرفت صوته فقلت: يا أبا حنظلة، فعرف صوتى فقال: أبو الفضل؟ قلت: نعم. قال: مالك فداك أبى وأمى؟! قلت: ويحك يا أبا سفيان، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الناس واصباح قريش والله. قال: فما الحيلة فداك أبى وأمى؟ قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك فاركب فى عجز هذه البغلة حتى آتى بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمنه لك. فركب خلفى ورجع صاحباه، فجئت به كلما مر بنار من نيران المسلمين قالوا: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عليها قالوا: عم رسول الله على بغلته. حتى مررت بنار عمر ابن الخطاب فقال: من هذا؟ وقام إلى، فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال: أبو سفيان عدو الله! الحمد لله الذى أمكن منك بغير عقد ولا عهد. ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وركضت البغلة فسبقته بما تسبق الدابة البطيئة الرجل البطىء فاقتحمت عن البغلة فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل عليه عمر فقال: يا رسول الله هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد فدعنى فلأضرب عنقه. قلت: يا رسول الله، إنى قد أجرته؛ ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت برأسه فقلت: والله لا يناجيه الليلة رجل دونى. فلما أكثر عمر فى شأنه قلت: مهلا يا عمر، فو الله لو كان من رجال بنى عدى بن كعب ما قلت هذا، ولكنك قد عرفت أنه من رجال بنى عبد مناف. فقال: مهلا يا عباس، فو الله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلى من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بى إلا أنى عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذهب به يا عباس إلى رحلك فإذا أصبحت فائتنى به» ؛ فذهبت به إلى رحلى فبات عندى، فلما أصبحت غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال: «ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟» قال:
بأبى أنت وأمى ما أحلمك وأكرمك وأوصلك والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى شيئا بعد. قال: «ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنى رسول(1/503)
الله؟» قال: بأبى أنت وأمى ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، أما والله هذه فإن فى نفسى منها شيئا حتى الآن. قال له العباس: ويحك، أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك. قال: فشهد شهادة الحق وأسلم.
قال العباس: قلت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئا.
قال: «نعم، من دخل دار أبى سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن» .
فلما ذهب لينصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عباس، احبسه بمضيق الوادى عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها» . قال: فخرجت فحبسته حيث أمرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحبسه «1» . فمرت القبائل على راياتها كلما مرت قبيلة قال: يا عباس من هذه؟
فأقول: سليم. فيقول: مالى ولسليم. ثم تمر القبيلة فيقول: من هؤلاء؟ فأقول: مزينة.
فيقول: مالى ولمزينة. حتى نفذت القبائل ما تمر قبيلة إلا سألنى عنها فإذا أخبرته بهم قال: مالى ولبنى فلان. حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كتيبته الخضراء فيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد قال: سبحان الله، يا عباس من هؤلاء؟
قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المهاجرين والأنصار. قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة! والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما. قلت يا أبا سفيان إنها النبوة. قال: فنعم إذن. قلت: النجاء إلى قومك. حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبى سفيان فهو آمن. فقامت إليه هند بنت عتبة فأخذت بشاربه فقالت: اقتلوا الحميت الدسم الأحمس قبح من طليعة قوم. قال: ويحكم، لا تغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم مالا قبل لكم به، فمن دخل دار أبى سفيان فهو آمن. قالوا: قاتلك الله، وما تغنى عنا دارك؟
قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد.
ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذى طوى وقف على راحلته معتجرا بشقة برد حبرة حمراء، وإنه ليضع رأسه تواضعا لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح حتى إن عثنونه ليكاد يمس وسط الرحل.
ولما وقف هناك قال أبو قحافة- وقد كف بصره- لابنة له من أصغر ولده: أى بنية
__________
(1) سبق تخريجه.(1/504)
اظهرى بى على أبى قبيس. فأشرفت به عليه، فقال: أى بنية ماذا ترين؟ قالت: أرى سوادا مجتمعا قال: تلك الخيل. قالت: وأرى رجلا يسعى بين يدى السواد مقبلا ومدبرا. قال: أى بنية ذلك الوازع الذى يأمر الخيل ويتقدم إليها. ثم قالت: قد والله انتشر السواد. فقال: قد والله إذن دفعت الخيل فأسرعى بى إلى بيتى. فانحطت به، وتلقاه الخيل قبل أن يصل إلى بيته وفى عنق الجارية طوق من ورق فيلقاها رجل فيقتطعه من عنقها.
قالت: فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ودخل المسجد أتاه أبو بكر بأبيه يقوده، فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال: «هلا تركت الشيخ فى بيته حتى أكون أنا آتيه فيه!» فقال أبو بكر: يا رسول الله، هو أحق أن يمشى إليك من أن تمشى إليه. قال: فأجلسه بين يديه ثم مسح صدره ثم قال له: «أسلم» . فاسلم. ورآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأن رأسه ثغامة فقال: «غيروا هذا من شعره» «1» . ثم قام أبو بكر فأخذ بيد أخته فقال: أنشد الله والإسلام طوق أختى. فلم يجبه أحد، فقال: أى أخية احتسبى طوقك فو الله إن الأمانة اليوم فى الناس لقليل!
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرق جيشه من ذى طوى الزبير بن العوام أن يدخل فى بعض الناس من كدى، وكان على المجنبة اليسرى، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل فى بعض الناس من كدا، فذكروا أن سعدا حين وجه داخلا قال: «اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة» .
فسمعها رجل من المهاجرين، قيل: هو عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- فقال: يا رسول الله اسمع ما قال سعد، ما نأمن أن تكون له فى قريش صولة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلى بن أبى طالب: «أدركه فخذ الراية فكن أنت تدخل بها» «2» . ويقال: إنه أمر الزبير بذلك وجعله مكان سعد على الأنصار مع المهاجرين. فسار الزبير بالناس حتى وقف بالحجون وغرز بها راية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذكر غير ابن إسحاق أن ضرار بن الخطاب قال- يومئذ- شعرا استعطف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش حين سمع قول سعد، وهو من أجود شعر قاله:
يا نبى الهدى إليك لحاجى قريش ولات حين لجاء
__________
(1) ذكره الحاكم فى المستدرك (3/ 46، 47) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 173، 174) .
(2) انظر الحديث فى: الإصابة لابن حجر (5/ 254) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 169) .(1/505)
حين ضاقت عليهم سعة الأر ... ض وعاداهم إله السماء
والتقت حلقتا البطان على القو ... م ونودوا بالصيلم الصلعاء
إن سعدا يريد قاصمة الظه ... ر بأهل الحجون والبطحاء
خزرجى لو يستطيع من الغي ... ظ رمانا بالنسر والعواء
فانهينه فإنه الأسد الأس ... ود والليث والغ فى الدماء
فلئن أقحم اللواء ونادى ... يا حماة اللواء أهل اللواء
لتكونن بالبطاح قريش ... فقعة القاع فى أكف الإماء
فحينئذ انتزع رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية من سعد بن عبادة فيما ذكروا. والله أعلم.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد- وكان على المجنبة اليمنى- فدخل من الليط أسفل مكة، فلقيته بنو بكر فقاتلوه فقتل منهم قريب من عشرين رجلا ومن هذيل ثلاثة أو أربعة، وانهزموا وقتلوا بالحزورة حتى بلغ قتلهم باب المسجد، وهرب فضضهم حتى دخلوا الدور، وارتفعت طائفة منهم على الجبال واتبعهم المسلمون بالسيوف.
وأقبل أبو عبيدة بن الجراح بالصف من المسلمين ينصب لمكة بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذاخر فى المهاجرين الأولين حتى نزل بأعلى مكة وضربت هناك قبته. ولما علا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثنية كداء نظر إلى البارقة على الجبل مع فضض المشركين فقال: ما هذا وقد نهيت عن القتال؟ فقال المهاجرون: نظن أن خالدا قوتل وبدىء بالقتال فلم يكن بد من أن يقاتل من قاتله، وما كان يا رسول الله ليعصيك ولا ليخالف أمرك. فهبط رسول الله صلى الله عليه وسلم من الثنية فأجاز على الحجون.
واندفع الزبير بن العوام بمن معه حتى وقف بباب الكعبة.
وجرح رجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إلى أمرائه من المسلمين حين أمرهم أن يدخلوا مكة أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم، إلا أنه قد عهد فى نفر سماهم أمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة منهم: عبد الله بن سعد بن أبى سرح، وكان قد أسلم وكتب الوحى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ارتد مشركا ففر يومئذ إلى عثمان بن عفان وكان أخاه من الرضاعة فغيبه حتى أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن اطمأن الناس فاستأمن له. فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صمت طويلا ثم قال: «نعم» . فلما انصرف عنه عثمان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن(1/506)
حوله من أصحابه: «لقد صمت ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه» . فقال رجل من الأنصار: فهلا أو مأت إلى يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن النبى لا يقتل بالإشارة» «1» . وفى رواية: «إن النبى لا ينبغى أن تكون له خائنة أعين» .
ومنهم: عبد الله بن خطل- رجل من بنى تيم بن غالب- كان مسلما فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا وكان معه رجل مسلم يخدمه فأمره أن يصنع له طعاما ونام، فاستيقظ ولم يصنع له شيئا فعدا عليه فقتله ثم ارتد مشركا، وكانت له قينتان تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بقتلهما معه، فقتلت إحداهما وهربت الأخرى حتى استؤمن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنها.
وقيل- يومئذ- لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة؛ فقال:
«اقتلوه» . فقتله سعيد بن حريث المخزومى وأبو برزة الأسلمى اشتركا فى دمه.
ومنهم: الحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبد بن قصى وكان ممن يؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، ولما حمل العباس بن عبد المطلب فاطمة وأم كلثوم بنتى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة يريد بهما المدينة نخس بهما الحويرث هذا فرمى بهما إلى الأرض، فقتله يوم الفتح على بن أبى طالب.
ومنهم: مقيس بن صبابة الليثى، وكان أخوه هشام بن صبابة قد قتله رجل من الأنصار خطأ فقدم مقيس بعد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة مظهرا الإسلام حتى إذا وجد غرة من قاتل أخيه عدا عليه فقتله ثم لحق بقريش مشركا. وقد تقدم ذكر ذلك فلأجله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله، فقتله نميلة بن عبد الله- رجل من قومه- فقالت أخت مقيس فى ذلك:
لعمرى لقد أخزى نميلة رهطه ... وفجع أضياف الشتاء بمقيس
فلله عينا من رأى مثل مقيس ... إذا النفساء أصبحت لم تخرس
ومنهم سارة مولاة لبنى عبد المطلب ولعكرمة بن أبى جهل، وكانت تؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فاستؤمن لها فأمنها وبقيت حتى أوطأها رجل من الناس فرسا فى زمان عمر بن الخطاب بالأبطح فقتلها.
وكان صفوان بن أمية وعكرمة بن أبى جهل وسهيل بن عمرو قد جمعوا أناسا بالخندمة ليقاتلوا، فيهم حماس بن قيس بن خالد أخو بنى بكر، وكان قد أعر سلاحا
__________
(1) انظر الحديث فى: سنن أبو داود (3/ 2683) . سنن النسائى (7/ 4078) .(1/507)
وأصلح منها فقالت له امرأته: لماذا تعد ما أرى؟ قال: لمحمد واصحابه. قالت: والله ما أراه يقوم لمحمد شىء! قال: والله إنى لأرجو أن أخدمك بعضهم! ثم قال:
إن يقبلوا اليوم فما لى عله ... هذا سلاح كامل وأله
وذو غرارين سريع السله «1»
ثم شهد الخندمة، فلما لقيهم المسلمون من أصحاب خالد بن الوليد ناوشوهم شيئا من قتال، فقتل كرز بن جابر وخنيس بن خالد كانا فى خيل خالد فشذا عنه وسلكا طريقا غير طريقه فقاتلا جميعا وأصيب سلمة بن الميلاء الجهنى من خيل خالد، وأصيب من المشركين ناس ثم انهزموا فخرج حماس منهزما حتى دخل بيته وقال لامرأته: أغلقى على بابى.
قالت: فأين ما كنت تقول؟ فقال:
إنك لو شهدت يوم الخندمه ... إذ فر صفوان وفر عكرمه
واستقبلتهم بالسيوف المسلمه ... يقطعن كل ساعد وجمجمه
ضربا فلا يسمع إلا غمغمه ... لهم نهيت خلفنا وهمهمه
لم تنطقى فى اللوم أدنى كلمه «2»
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد بن الوليد: «لم قاتلت وقد نهيتك عن القتال؟» قال: هم بدأونا ووضعوا فينا السلاح وأشعرونا النبل، وقد كففت يدى ما استطعت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قضاء الله خير» .
وفر- يومئذ- صفوان بن أمية عامدا للبحر وعكرمة بن أبى جهل عامدا لليمن، فأقبل عمير بن وهب بن خلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبى الله، إن صفوان بن أمية سيد قومه وقد خرج هاربا منك ليقذف نفسه فى البحر فأمنه صلى الله عليك فإنك قد أمنت الأحمر والأسود. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أدرك ابن عمك فهو آمن» . قال: يا رسول الله، فأعطنى آية يعرف بها أمانك. فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمامته التى دخل فيها مكة. فخرج بها عمير حتى أدركه بجدة وهو يريد أن يركب البحر فقال: يا صفوان فداك أبى وأمى! الله الله فى نفسك أن تهلكها فهذا أمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جئتك به قال: ويلك اغرب عنى فلا تكلمنى.
__________
(1) ذو غرارين: أى بها سيفا، والغرار: الحد.
(2) النهيب: نوع من صياح الأسد. والهمهمة: صوت فى الصدر.(1/508)
قال: أى صفوان فداك أبى وأمى! أفضل الناس وأبر الناس وأحلم الناس وخير الناس ابن عمك، عزه عزك وشرفه شرفك وملكه ملكك.
قال: إنى أخافه على نفسى. قال: هو أحلم من ذلك وأكرم. فرجع معه حتى وقف به على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صفوان: إن هذا يزعم أنك أمنتنى. قال: «صدق» . قال:
فاجعلنى فيه بالخيار شهرين. قال: «أنت بالخيار أربعة أشهر» «1» .
وأقبلت أم حكيم بنت الحارث بن هشام وكانت تحت عكرمة بن أبى جهل وهى مسلمة- يومئذ- فقالت: يا رسول الله، آمن زوجى وائذن لى فى طلبه. فأذن لها وأمنه فأدركته ببعض تهامة وقيل: باليمن فأقبل معها وأسلم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وثب إليه فرحا وما عليه رداء.
وكانت فاختة بنت الوليد تحت صفوان بن أمية، وكانت أسلمت أيضا، فلما أسلم عكرمة وصفوان أقر رسول الله صلى الله عليه وسلم كل واحدة منهما عند زوجها على النكاح الأول.
وقالت أم هانىء بنت أبى طالب وكانت عند هبيرة بن أبى وهب المخزومى: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة فر إلى رجلان من أحمائى من بنى مخزوم فدخل على أخى على بن أبى طالب فقال: والله لأقتلنهما، فأغلقت عليهما بيتى ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأعلى مكة فوجدته يغتسل من جفنة إن فيها لأثر العجين وفاطمة ابنته تستره بثوبه، فلما اغتسل أخذ ثوبه فتوشح به ثم صلى ثمانى ركعات من الضحى ثم انصرف إلى فقال: «مرحبا وأهلا يا أم هانىء، ما جاء بك؟» فأخبرته خبر الرجلين وخبر على فقال: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء وأمنا من أمنت فلا يقتلهما» «2» .
قال ابن هشام: هما الحارث بن هشام وزهير بن أبى أمية بن المغيرة.
ولما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة واطمأن الناس خرج حتى جاء البيت فطاف به سبعا على راحلته ليستلم الركن بمحجن فى يده، فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له فدخلها فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده، ثم طرحها، ثم وقف على باب الكعبة فقال:
«لا إله إلا الله، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة
__________
(1) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (5/ 97) ، موطأ مالك (2/ 543، 544/ 44) .
(2) انظر الحديث فى: صحيح مسلم فى كتاب المسافرين (1/ 498/ 82) ، سنن أبى داود (3/ 2763) ، سنن الترمذى (4/ 1579) .(1/509)
أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمى هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج، ألا وقتيل الخطأ شبه العمد السوط والعصا ففيه الدية مغلظة مائة من الإبل أربعون منها فى بطونها أولادها، يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس لآدم وآدم من تراب» . ثم تلا هذه الآية: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات: 13] .
ثم قال: «يا معشر قريش، ما ترون أنى فاعل فيكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم. ثم قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء» «1» .
ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المسجد فقام إليه على بن أبى طالب- رضى الله عنه- ومفتاح الكعبة فى يديه، فقال: يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أين عثمان بن طلحة» ؟ فدعى له فقال: «هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء» . وقال لعلى فيما حكى ابن هشام: «إنما أعطيكم ما ترزأون لا ما ترزأون» «2» .
وذكر ابن عقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قضى طوافه نزل فأخرجت الراحلة فركع ركعتين ثم انصرف إلى زمزم فاطلع فيها وقال: «لولا أن يغلب بنو عبد المطلب على سقياتهم لنزعت منها بيدى» . ثم انصرف إلى ناحية المسجد قريبا من مقام إبراهيم- وكان المقام لاصقا بالكعبة- فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسجل من ماء فشرب وتوضأ والمسلمون يبتدرون وضوءه يصبونه على وجوههم والمشركون ينظرون إليهم ويعجبون ويقولون: ما راينا ملكا قط بلغ هذا ولا سمعنا به!
وذكر ابن هشام- أيضا- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل البيت يوم الفتح فرأى فيه صور الملائكة وغيرهم، فرأى إبراهيم مصورا فى يده الأزلام يستقسم بها، فقال: «قاتلهم الله! جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام؟! ما شأن إبراهيم والأزلام» ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» [آل عمران: 67] ثم أمر بتلك الصور كلها فطمست «3» .
__________
(1) انظر الحديث فى: فتح البارى لابن حجر (7/ 612) ، السنن الكبرى للبيهقى (9/ 118) .
(2) انظر الحديث فى: مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 177) .
(3) انظر الحديث فى: سنن أبو داود (2/ 2027) ، سنن البيهقى (5/ 158) ، المطالب العالية لابن حجر (4/ 4364) .(1/510)
وعن ابن عباس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح على راحلته فطاف عليها وحول البيت أصنام مشددة بالرصاص فجعل النبى يشير بقضيب فى يده إلى الأصنام وهو يقول: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [الإسراء: 81] فما أشار إلى صنم منها فى وجهه إلا وقع لقفاه ولا أشار إلى قفاه إلا وقع لوجهه، حتى ما بقى صنم إلا وقع. فقال تميم بن أسد الخزاعى:
وفى الأصنام معتبر وعلم ... لمن يرجو الثواب أو العقابا
وأراد فضالة بن عمير بن الملوح الليثى قتل النبى صلى الله عليه وسلم وهو بالبيت عام الفتح، فلما دنا منه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضالة؟» قال: نعم فضالة يا رسول الله قال: «ماذا كنت تحدث نفسك؟» فقال: لا شىء، كنت أذكر الله. فضحك النبى صلى الله عليه وسلم ثم قال: «استغفر الله» ، ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه. فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدرى حتى ما من خلق الله شىء أحب إلى منه. قال فضالة: فرجعت إلى أهلى فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها فقالت: هلم إلى الحديث: فقلت لا. وانبعث فضالة يقول:
قالت هلم إلى الحديث فقلت لا ... يأبى عليك الله والإسلام
لو ما رأيت محمد وقبيله ... بالفتح يوم تكسر الأصنام
لرأيت دين الله أضحى بينا ... والشرك يغشى وجهه الإظلام
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة عام الفتح بلالا أن يؤذن، وكان دخل معه، وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة فقال عتاب:
لقد أكرم الله أسيدا أن لا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه. فقال الحارث: أما والله لو أعلم أنه محق لا تبعته. وقال أبو سفيان: لا أقول شيئا، لو تكلمت لأخبرته عنى هذه الحصباء! فخرج عليهم النبى صلى الله عليه وسلم فقال: «قد علمت الذى قلتم» «1» ثم ذكر ذلك لهم، فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك.
وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة على الصفا يدعو وقد أحدقت به الأنصار، فقالوا فيما بينهم: أترون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها.
فلما فرغ من دعائه قال: ماذا قلتم؟ قالوا: لا شىء يا رسول الله. فلم يزل بهم حتى
__________
(1) انظر الحديث فى: تفسير ابن كثير (3/ 132) .(1/511)
أخبروه فقال: «معاذ الله! المحيا محياكم والممات مماتكم» «1» .
وعدت خزاعة الغد من يوم الفتح على رجل من هذيل يقال له: ابن الأثوع فقتلوه وهو مشرك برجل من أسلم يقال له: أحمر بأسا وكان رجلا شجاعا وكان إذا نام غط غطيطا منكرا لا يخفى مكانه فكان يبيت فى حيه معتنزا، فإذا بيت الحى صرخوا: يا أحمر. فيثور مثل الأسد لا يقوم لسبيله شى. فأقبل غزى من هذيل يريدون حاضره، حتى إذا دنوا من الحاضر قال ابن الأثوع الهذلى: لا تعجلوا حتى أنظر فإذا كان فى الحاضر أحمر فلا سبيل إليهم فإن له غطيطا لا يخفى. فاستمع فلما سمع غطيطه مشى إليه حتى وضع السيف فى صدره ثم تحامل عليه حتى قتله. ثم أغاروا على الحاضر فصرخوا: يا أحمر ولا أحمر لهم! فلما كان الغد من يوم الفتح أتى ابن الأثوع الهذلى حتى دخل مكة ينظر ويسأل عن أمر الناس وهو على شركه فرأته خزاعة فعرفوه فأحاطوا به وهو إلى جنب جدار من جدر مكة يقولون: أنت قاتل أحمر؟ قال: نعم أنا قاتل أحمر فمه. إذ أقبل خراش بن أمية مشتملا على السيف فقال: هكذا عن الرجل.
قال بعض من حضرهم: وو الله ما نظن إلا أنه يريد أن يفرج الناس عنه، فلما تفرجوا حمل عليه فطعنه بالسيف فى بطنه، فو الله لكأنى أنظر إليه وحشوته تسيل من بطنه وإن عينيه لترنقان فى رأسه وهو يقول: أقد فعلتموها يا معشر خزاعة! حتى انجعف فوقع.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه ما صنع خراش بن أمية: «إن خراشا لقتال» . يعيبه بذلك.
وقام صلى الله عليه وسلم فى الناس خطيبا فقال: «يا أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهى حرام من حرام الله إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما ولا يعضد فيها شجرا، لم تحلل لأحد كان قبلى ولا تحل لأحد يكون بعدى، ولم تحل لى إلا هذه الساعة غضبا على أهلها؛ ألا ثم قد رجعت كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فمن قال لكم: إن رسول الله قد قاتل.
فقولوا: إن الله قد أحلها لرسوله ولم يحلها لكم. يا معشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل فقد كثر القتل أن يقع لقد قتلتم قتيلا لأدينه؛ فمن قتل بعد مقامى هذا فهم بخير النظرين إن شاؤا فدم قاتله وإن شاؤا فعقله» «2» .
ثم ودى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذى قتلت خزاعة.
__________
(1) انظر الحديث فى: سنن الدار قطنى (3/ 232/ 59، 60) ، مسند الإمام أحمد (2/ 538) .
(2) انظر الحديث فى: صحيح مسلم (2/ 987، 988، 446) ، سنن الترمذى (3/ 809) .(1/512)
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد فتحها خمس عشرة ليلة يقصر الصلاة. وكان فتحها لعشر ليال بقين من رمضان سنة ثمان.
وكان مما قيل من الشعر فى فتح مكة قول حسان بن ثابت، وذكر ابن هشام أنه قالها قبل الفتح:
عفت ذات الأصابع فالجواء ... إلى عذراء منزلها خلاء «1»
ديار من بنى الحسحاس قفر ... تعفيها الروماس والسماء «2»
وكانت لا يزال بها أنيس ... خلال مروجها نعم وشاء
فدع هذا ولكن من لطيف ... يؤرقنى إذا ذهب العشاء
لشعثاء التى قد تيمته ... فليس لقلبه منه شفاء
كأن سيئة من بيت رأس ... يكون مزاجها عسل وماء
إذا ما الأشربات ذكرن يوما ... فهن لطيب الراح الفداء
نوليها الملامة إن ألمنا ... إذا ما كان مغث أو لحاء
ونشربها فتتركنا ملوكا ... وأسدا ما ينهنهنا اللقاء
عدمنا خيلنا إن لم تروها ... تثير النقع موعدها كداء
ينازعن الأعنة مصغيات ... على أكتافها الأسل الظماء «3»
تظل جيادنا متمطرات ... يلطمهن بالخمر النساء
فإما تعرضوا عنا اعتمرنا ... وكان الفتح وانكشف الغطاء
وإلا فاصبروا لجلاد يوم ... يغر الله فيه من يشاء
وجبريل رسول الله فينا ... وروح القدس ليس له كفاء
وقال الله قد أرسلت عبدا ... يقول الحق إن نفع البلاء
شهدت به فقوموا صدقوه ... فقلتم لا نقوم ولا نشاء
وقال الله قد يسرت جندا ... هم الأنصار عرضتها اللقاء
لنا فى كل يوم من معد ... سباب أو قتال أو هجاء
فنحكم بالقوافى من هجانا ... ونضرب حين تختلط الدماء
__________
(1) عفت: أى درست وتغيرت.
(2) الحسحاس: الرجل الجواد الذى يطرد الجوع بسخائه. والروامس: الرياح التى تثير التراب فترمى به الآثار.
(3) مصغيات: أى مستمعات. والأسل: أى الرماح.(1/513)
ألا أبلغ أبا سفيان عنى ... مغلغلة فقد برح الخفاء
هجوت محمدا وأجبت عنه ... وعند الله فى ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بكفء ... فشر كما لخير كما الفداء
هجوت مباركا برا حنيفا ... أمين الله شيمته الوفاء
أمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء
فإن أبى ووالده وعرضى ... لعرض محمد منكم وقاء
لسانى صارم لا عيب فيه ... وبحرى لا تكدره الدلاء
وقول ابن هشام: إن حسان قال هذا الشعر قبل الفتح ظاهر فى غير ما شىء من مقتضياته، ومن ذلك: مقاولته لأبى سفيان وهو ابن الحارث بن عبد المطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد أسلم قبل الفتح فى طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة كما تقدم.
وكذلك ذكر ابن عقبة أن حسان قاله فى مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة نظر إلى النساء يلطمن الخيل بالخمر فالتفت إلى أبى بكر فتبسم لقول حسان فى ذلك: يلطمهن بالخمر النساء.
وقال أنس بن زنيم الديلى يعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مما قال فيهم عمرو بن سالم الخزاعى:
وأنت الذى تهدى معد بأمره ... بل الله يهديهم وقال لك اشهد
وما حملت من ناقة فوق رحلها ... أبر وأوفى ذمة من محمد
أحث على خير وأسبغ نائلا ... إذ راح كالسيف الصقيل المهند
وأكسى لبرد الخال قبل ابتذاله ... وأعطى لرأس السابق المتجرد
تعلم رسول الله أنك مدركى ... وأن وعيدا منك كالأخذ باليد
تعلم رسول الله أنك قادر ... على كل صرم متهمين ومنجد
تعلم بأن الركب ركب عويمر ... هم الكاذبون المخلفون كل موعد
ونبوا رسول الله أنى هجوته ... فلا حملت سوطى إلى إذن يدى
سوى أننى قد قلت ويلم فتية ... أصيبوا بنحس لائط وبأسعد
ذويب وكلثوم وسلمى تتابعوا ... جميعا فإن لا تدمع العين أكمد
أصابهم من لم يكن لدمائهم ... كفاء فعزت عبرتى وتبلدى
وقال بجير بن زهير بن أبى سلمى فى يوم الفتح:(1/514)
نفى أهل الحبلق كل فج ... مزينة غدوة وبنو خفاف
ضربناهم بمكة يوم فتح الن ... بى الخير بالبيض الخفاف
صبحناهم بسلع من سليم ... وألف من بنى عثمان واف
نطا أكتافهم ضربا وطعنا ... ورشقا بالمريشة اللطاف «1»
ترى بين الصفوف لها حفيفا ... كما انصاع الفواق من الرصاف
فرحنا والجياد تجول فيهم ... بأرماح مقومة الثقاف
فأبنا غانمين بما اشتهينا ... وآبوا نادمين على الخلاف
وأعطينا رسول الله منا ... مواثقنا على حسن التصافى
وقد سمعوا مقالتنا فهموا ... غداة الروع منا بانصراف
وقال عباس بن مرداس السلمى فى فتح مكة:
منا بمكة يوم فتح محمد ... ألف تسيل به البطاح مسوم «2»
نصروا الرسول وشاهدوا أيامه ... وشعارهم يوم اللقاء مقدم
فى منزل ثبتت به أقدامهم ... ضنك كأن الهام فيه الحنتم
جرت سنابكها بنجد قبلها ... حتى استعاد لها الحجاز الأدهم
الله مكنه له وأذله ... حكم السيوف لنا وجد مزحم
وقال نجيد بن عمران الخزاعى:
وقد أنشأ الله السحاب بنصرنا ... ركام صحاب الهيدب المتراكب
وهجرتنا فى أرضنا عندنا بها ... كتاب أتى من خير ممل وكاتب
ومن أجلنا حلت بمكة حرمة ... لندرك ثأرا بالسيوف القواضب
ولما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة بعث السرايا فيما حولها يدعو إلى الله، ولم يأمرهم بقتال.
وكان ممن بعث خالد بن الوليد، وأمره أن يسير بأسفل تهامة داعيا ولم يبعثه مقاتلا، ومعه قبائل من العرب، فوطئوا بنى جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة. فلما رآه القوم أخذوا السلاح، فقال خالد: ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا. فقال رجل منها يقال له جحدم: ويلكم يا بنى جذيمة إنه خالد! والله ما بعد وضع السلاح إلا الإسار، وما بعد الإسار إلا ضرب الأعناق، والله لا أضع سلاحى أبدا. فأخذه رجال من قومه
__________
(1) رشقا: أى الرمى السريع. والمريشة: أى السهام التى لها ريش.
(2) البطاح: جمع بطحاء، وهى الأرض السهلة المتسعة. مسوم: أى مرسل.(1/515)
فقالوا: يا جحدم، أتريد أن تسفك دماءنا؟ إن الناس قد أسلموا ووضعت الحرب وأمن الناس، فلم يزالوا به حتى نزعوا سلاحه ووضع القوم السلاح لقول خالد.
فلما وضعوه أمر بهم خالد عند ذلك فكتفوا ثم عرضهم على السيف فقتل من قتل منهم. وقال لهم جحدم حين وضعوا سلاحه ورأى ما يصنع بهم: يا بنى جذيمة ضاع الضرب! قد كنت حذرتكم ما وقعتم فيه.
فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يديه إلى السماء ثم قال: «اللهم إنى أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد» «1» . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل انفلت منهم فأتاه بالخبر:
«هل أنكر عليه أحد؟» فقال: نعم، قد أنكر عليه رجل أبيض ربعة فنهمه خالد فسكت عنه، وأنكر عليه رجل أحمر مضطرب فرجعه فاشتدت مراجعتهما. فقال عمر بن الخطاب: أما الأول يا رسول الله فابنى عبد الله، وأما الآخر فسالم مولى أبى حذيفة.
وذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت كأنى لقمت لقمة من حيس فالتذذت طعمها فاعترض فى حلقى منها شىء حين ابتعلتها فأدخل على يده فنزعه» . فقال أبو بكر: هذه سرية من سراياك تبعثها فيأتيك منها بعض ما تحب ويكون فى بعضها اعتراض فتبعث عليا فيسهله «2» .
ثم لما كان من خالد فى بنى جذيمة ما كان دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب فقال: «يا على اخرج إلى هؤلاء القوم فانظر فى أمرهم واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك» . فخرج على حتى جاءهم ومعه مال قد بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم فودى لهم الدماء وما أصيب من الأموال حتى إنه ليدى لهم ميلغة الكلب، حتى إذا لم يبق شىء من دم ولا مال إلا وداه بقيت معه بقية من المال فقال لهم على حين فرغ منه: هل بقى دم أو مال لم يود لكم؟ قالوا: لا؛ قال: فإنى أعطيكم هذه البقية من هذا المال احتياطا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما لا يعلم ولا تعلمون.
ففعل ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فقال: «أصبت وأحسنت» .
ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبل القبلة قائما شاهرا يديه حتى إنه ليرى ما تحت منكبيه يقول: «اللهم إنى أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد» «3» ، ثلاث مرات.
__________
(1) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (2/ 6382) ، السنن الكبرى للبيهقى (9/ 115) .
(2) ذكره ابن حجر فى فتح البارى (7/ 655) .
(3) انظر الحديث فى: فتح البارى لابن حجر (7/ 655) .(1/516)
وقد قال بعض من يعذر خالدا: إنه قال: ما قاتلت حتى أمرنى بذلك عبد الله بن حذافة السهمى وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن تقاتلهم لامتناعهم من الإسلام.
وحدث ابن أبى حدرد الأسلمى قال: كنت يومئذ فى خيل خالد بن الوليد فقال لى فتى من بنى جذيمة وهو فى سنى وقد جمعت يداه إلى عنقه برمة ونسوة مجتمعات غير بعيد منه: يا فتى. قلت: ما تشاء؟ قال: هل أنت آخذ بهذه الرمة فقائدى إلى هؤلاء النسوة حتى أقضى إليهن حاجة ثم تردنى بعد فتصنعوا بى بعد ما بدا لكم؟ قال قلت:
والله ليسير ما طلبت. فأخذت برمته فقدته بها أو قفته عليهن فقال: اسلمى حبيش على نفد العيش:
أريتك إذ طالبتكم فوجدتكم ... بحلية أو ألفيتكم بالخوانق
ألم يك أهلا أن ينول عاشق ... تكلف إدلاج السرى والودائق
فلا ذنب لى قد قلت إذا أهلنا معا ... أثيبى بود قبل إحدى الصفائق
أثيبى بود قبل أن تشحط النوى ... وينأى الأمير بالحبيب المفارق
فقالت: وأنت فحييت سبعا وعشرا وترا وثمانيا تترى. قال: ثم انصرفت به فضربت عنقه. فحدث من حضرها أنها قامت إليه حين ضربت عنقه فما زالت تقبله حتى ماتت عنده.
وخرج النسائى هذه القصة فى مصنفة فى باب «قتل الأسارى» من حديث ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم بعث سرية فغنموا وفيهم وفيهم رجل قال: إنى لست منهم، عشقت امرأة فلحقتها فدعونى أنظر إليها نظرة ثم اصنعوا بى ما بدا لكم. قال: فإذا امرأة طويلة أدماء فقال: اسلمى حبيش قبل نفد العيش وذكر بعض الشعر المتقدم وبعده: قالت: نعم فديتك. قال: فقدموه فضربوا عنقه فجاءت المرأة فوقفت عليه فشهقت شهقة أو شهقتين ثم ماتت، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبروه الخبر فقال صلى الله عليه وسلم: «أما كان فيكم رجل رحيم» .
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى العزى وكانت بنخلة، وكان بيتا تعظمه قريش وكنانة ومضر كلها، وكان سدنتها وحجابها بنى شيبان من بنى سليم حلفاء بن هاشم، فلما سمع صاحبها السلمى بسير خالد إليها علق عليها سيفه وأسند فى الجبل الذى هو فيه وهو يقول:
أيا عز شدى شدة لا شوى لها ... على خالد ألقى القناع وشمرى(1/517)
أيا عز إن لم تقتلى المرء خالدا ... فبوئى بإثم عاجل أو تنصرى
فلما انتهى إليها خالد هدمها. ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
غزوة حنين «1»
ولما سمعت «2» هوازن برسول الله صلى الله عليه وسلم وما فتح الله عليه من مكة، جمعها مالك بن عوف النضرى، فاجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلها، واجتمعت نضر وجشم كلها، وسعد بن بكر وناس من بنى هلال وهم قليل، ولم يشهدها من قيس عيلان إلا هؤلاء.
وفى بنى جشم دريد بن الصمة شيخ كبير ليس فيه شىء إلا التيمن برأيه ومعرفته بالحرب، وجماع أمر الناس إلى مالك بن عوف.
فلما أجمع السير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حط مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، فلما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس وفيهم دريد بن الصمة فى شجار «3» له يقاد به، فلما نزل قال: «فى أى واد أنتم؟» قالوا: بأوطاس. قال: «نعم مجال الخيل لا حزن ضرس»
ولا سهل دهس «5» ، ما لى أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير ويعار الشاء؟» قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس أمولهم ونساءهم وأبناءهم. قال: «أين مالك؟» فدعى له فقال: «يا مالك، إنك أصبحت رئيس قومك، وإن هذا يوم له ما بعده، ما لى أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء؟» قال: سقت مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، أردت أن أجعل خلف كل رجل منهم أهله وماله ليقاتل عنهم قال: فانقض به، وقال: «راعى ضأن والله! وهل يرد المنهزم شىء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت فى أهلك ومالك» .
ثم قال: «ما فعلت كعب وكلاب؟» قالوا: لم يشهدها منهم أحد. قال: «غاب
__________
(1) راجع هذه الغزوة فى: المنتظم لابن الجوزى (3/ 331- 341) ، مغازى الواقدى (3/ 885) ، طبقات ابن سعد (2/ 1/ 108) ، تاريخ الطبرى (3/ 71) ، الكامل (2/ 135) ، البداية والنهاية (4/ 322) .
(2) انظر: السيرة (4/ 71) .
(3) شجار: شبه الهودج إلا أنه مكشوف من أعلى.
(4) الحزن: المرتفع من الأرض. الضرس: الذى فيه حجارة محددة.
(5) سهل دهس: هو كل لين سهل لا يبلغ أن يكون رملا وليس بتراب ولا طين..(1/518)
الحد «1» والجد لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب وكلاب، ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كعب وكلاب، فمن شهدها منكم؟» قالوا: عمرو بن عامر وعوف بن عامر. قال: «ذانك الجذعان «2» لا ينفعان ولا يضران! يا مالك، إنك لم تصنع بتقديم بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئا، ارفعهم إلى ممتنع بلادهم وعلياء قومهم ثم الق الصّبّاء «3» على متون الخيل فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك ألفاك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك» .
قال: والله لا أفعل، إنك قد كبرت وكبر عقلك والله لتطيعننى يا معشر هوازن أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهرى، وكره أن يكون لدريد فيها ذكر أو أرى، قالوا: أطعناك.
فقال دريد ابن الصمة: هذا يوم لم أشهده ولم يفتنى:
يا ليتنى فيها جذع ... أخب فيها وأضع «4»
ثم قال مالك للناس: إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم، ثم شدوا شدة رجل واحد.
وبعث مالك بن عوف عيونا من رجاله، فأتوه وقد تفرقت أوصالهم فقال: ويلكم ما شأنكم؟ قالوا: رأينا رجالا بيضا على خيل بلق والله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى، فو الله ما رده ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد.
ولما سمع بهم نبى الله صلى الله عليه وسلم بعث إليهم عبد الله بن أبى حدرد الأسلمى وأمره أن يدخل فى الناس، ويقيم فيهم حتى يعلم علمهم، ثم يأتيه بخبرهم، فانطلق ابن أبى حدرد فدخل فيهم حتى سمع وعلم ما قد أجمعوا عليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمع من مالك وأمر هوزان ما هم له ثم أقبل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر «5» .
__________
(1) غاب الحد: أى غابت الشجاعة والحدة.
(2) الجذعان: يريد أنهما ضعيفان بمنزلة الجذع فى سنه.
(3) الصباء: مفردها صابىء وكانوا يسمون المسلمون صباء.
(4) يا ليتنى فيها جذع: يتمنى أن يكون فى هذه الحرب شابا لم تحطمه الأيام. وأخب: من الخبب، وهو ضرب من السير.
(5) ذكر فى السيرة (4/ 73) زيادة فى هذا الموضع فقال: « ... فأخبره الخبر، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب، فأخبره الخبر فقال عمر: كذب ابن أبى حدرد، فقال ابن أبى حدرد: إن-(1/519)
فلما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى هوازن ذكر له أن عند صفوان بن أمية أدراعا وسلاحا فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك فقال: «يا أبا أمية، أعرنا سلاحك هذا نلقى فيها عدونا غدا» ، فقال صفوان: أغصبا يا محمد؟ فقال: «بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك» ، قال: ليس بهذا بأس. فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله أن يكفيهم حملها ففعل «1» .
ثم خرج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامدا لحنين معه ألفان من أهل مكة وعشرة آلاف من أصحابه الذين فتح الله بهم مكة، فكانوا اثنى عشر ألفا.
وذكر «2» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين فصل من مكة إلى حنين ورأى كثرة من معه من جنود الله: «لن نغلب اليوم من قلة» «3» . وزعم بعض الناس أن رجلا من بنى بكرة قالها.
واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد بن أبى العيص بن أمية بن عبد شمس «4» على مكة أميرا على من تخلف عنه من الناس. ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهه يريد لقاء هوازن.
قال ابن عقبة: وكان أهل حنين يظنون حين دنا منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعنى فى توجهه إلى مكة أنه بادىء بهم، وصنع الله لرسوله ما هو أحسن من ذلك، فتح له مكة فأقر بها عينه وكبت بها عدوه.
__________
- كذبتنى فربما كذبت بالحق يا عمر، فقد كذبت من هو خير منى، فقال عمر: يا رسول الله، ألا تسمع ما يقول ابن أبى حدرد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد كانت ضالا فهداك الله يا عمر» . هكذا وردت هذه الزيادة فى السيرة. وانظر هذه الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 324) ، دلائل النبوة للبيهقى (5/ 121) .
(1) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (3/ 48، 49) ، السلسلة الصحيحة للألبانى (631) ، السنن الكبرى للبيهقى (6/ 89) .
(2) انظر: السيرة (4/ 77) .
(3) انظر الحديث فى: مستدرك الحاكم (1/ 443) ، سنن أبى داود (3/ 2611) ، سنن الترمذى (4/ 1555) .
(4) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1775) ، الإصابة الترجمة رقم (5407) ، أسد الغابة الترجمة رقم (3538) ، الثقات (3/ 304) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 370) ، تقريب التهذيب (2/ 3) خلاصة تذهيب (2/ 208) ، شذرات الذهب (1/ 56) ، العبر (1/ 16) ، تهذيب الكمال (2/ 900) ، مشاهير علماء الأمصار (155) .(1/520)
فلما خرج صلى الله عليه وسلم إلى حنين خرج معه أهل مكة ركبانا ومشاة، حتى خرج معه النساء يمشين على غير دين نظارا ينظرون ويرجون الغنائم، ولا يكرهون أن تكون الصدمة برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وحدث «1» أبو واقد الليثى قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حديثوا عهد بالجاهلية، وكانت لكفار قريش ومن سواهم من العرب شجرة خضراء عظيمة يقال لها: ذات أنواط. يأتونها كل سنة فيعلقون عليها أسلحتهم ويذبحون عندها ويعكفون عليها يوما، قال: فرأينا ونحن نسير معه سدرة خضراء عظيمة فتنادينا من جنبات الطريق: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر! قلتم والذى نفس محمد بيده كما قال قوم موسى: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ، قالَ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف: 138] فإنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم» «2» .
وحدث «3» جابر بن عبد الله قال: لما استقبلنا وادى حنين انحدرنا فى واد من أودية تهامة أجوف حطوط إنما ننحدر فيه انحدارا قال: وذلك فى عمامة الصبح، وكان القوم قد سبقونا إلى الوادى فكمنوا لنا فى شعابه وأحنائه ومضايقه، قد أجمعوا وتهيأوا، فو الله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدوا علينا شدة رجل واحد، وانشمر الناس راجعين لا يلوى أحد على أحد.
وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين ثم قال: «أيها الناس هلم إلى أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله» قال: فلا شىء! حملت الإبل بعضها على بعض وانطلق الناس، إلا أنه قد بقى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته، وفيمن ثبت معه من المهاجرين: أبو بكر وعمرو ومن أهل بيته على بن أبى طالب والعباس وأبو سفيان بن الحارث وابنه والفضل بن عباس وربيعة بن الحارث وأسامة بن زيد وأيمن بن عبيد وهو ابن أم أيمن قتل يومئذ «4» .
قال «5» : ورجل من هوازن على جمل له أحمر بيده راية سوداء فى رأس رمح طويل
__________
(1) انظر: السيرة (4/ 75) .
(2) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (5/ 218) ، سنن الترمذى (4/ 2180) .
(3) انظر: السيرة (4/ 75) .
(4) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 376) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 179) .
(5) انظر: السيرة (4/ 76) .(1/521)
أمام هوازن وهم خلفه، إذا أدرك طعن برمحه وإذا فاته الناس رفع رمحه لمن وراءه فاتبعوه، فبينا ذلك الرجل يصنع ما يصنع إذا أهوى له على بن أبى طالب ورجل من الأنصار يريدانه قال: فيأتى على من خلفه فضرب عرقوبى الجمل فوقع على عجزه ووثب الأنصارى على الرجل فضربه ضربة أطن قدمه بنصف ساقه فانجعف عن رحله.
قال ابن إسحاق «1» : فلما انهزم الناس ورأى من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جفاة أهل مكة الهزيمة تكلم رجال منهم بما فى أنفسهم من الضغن فقال أحدهم: لا تنتهى هزيمتهم دون البحر. وإن الأزلام لمعه فى كنانته. وصرخ آخر منهم: ألا بطل السحر اليوم! فقال له صفوان بن أمية وهو يومئذ مشرك فى المدة التى جعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
اسكت فض الله فاك! فو الله لأن يربنى رجل من قريش أحب إلىّ من أن يربنى رجل من هوازن.
وقال شيبة بن عثمان بن أبى طلحة أخو بنى عبد الدار، وكان أبوه قتل يوم أحد، قلت: اليوم أدرك ثأرى، اليوم أقتل محمدا. قال: فأردت برسول الله لأقتله فأقبل شىء حتى تغشى فؤادى فلم أطق ذلك وعلمت أنى ممنوع منه «2» .
وذكر ابن أبى خيثمة حديث شيبة هذا، قال: لما رأيت النبى صلى الله عليه وسلم يوم حنين أعرى ذكرت أبى وعمى قتلهما حمزة، قلت: اليوم أدرك ثأرى فى محمد، فجئته عن يمينه فإذا أنا العباس قائما عليه درع بيضاء، قلت: عمه لن يخذله، فجئته عن يساره فإذا أنا بأبى سفيان بن الحارث، قلت: ابن عمه لن يخله، فجئته من خلفه فدنوت ودنوت حتى لم يبق إلا أن أسور سورة بالسيف فرفع إلى شواظ من نار كأنه البرق فنكصت على عقبى القهقرى، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا شيبة ادنه» . فدنوت فوضع يده على صدرى فاستخرج الله الشيطان من قلبى فرفعت إليه بصرى فلهو أحب إلى من سمعى وبصرى، فقال لى: «يا شيبة قاتل الكفار» «3» . فقاتلت معه صلى الله عليه وسلم.
وحدث «4» العباس بن عبد المطلب قال: إنى لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذ بحكمة بغلته البيضاء قد شجرتها بها وكنت امرء جسيما شديد الصوت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين رأى ما رأى من أمر الناس: «أين أيها الناس؟» فلم أر الناس يلوون على شىء، فقال: «يا
__________
(1) انظر: السيرة (4/ 76- 77) .
(2) انظر: السيرة (4/ 77) .
(3) انظر الحديث فى: البداية والنهاية (4/ 333) ، الدر المنثور للسيوطى (3/ 226) .
(4) انظر: السيرة (4/ 78) .(1/522)
عباس اصرخ: يا معشر الأنصار، يا معشر أصحاب السمرة» . قال: فأجابوا: لبيك لبيك.
قال: فيذهب الرجل ليثنى بعيره، فلا يقدر على ذلك، فيأخذ درعه، فيقذفها فى عنقه، ويأخذ سيفه وترسه ويقتحم عن بعيره ويخلى سبيله فيؤم الصوت حتى ينتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة استقبلوا الناس فاقتتلوا، فكانت الدعوى أول ما كانت للأنصار ثم خلصت آخرا للخزرج، وكانوا صبرا عند الحرب، فأشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ركائبه فنظر إلى مجتلد القوم فقال: «الآن حمى الوطيس» «1» .
قال جابر بن عبد الله فى حديثه: واجتلد الناس، فو الله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى مكتفين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم!.
قال: والتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبى سفيان بن الحارث وكان حسن الإسلام وممن صبر يومئذ معه وهو آخذ بثغر بغلته فقال: «من هذا؟» قال: أنا ابن أمك يا رسول الله «2» .
وذكر ابن عقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما غشيه القتال يومئذ قام فى الركابين وهو على البغلة. ويقولون: نزل. فرفع يديه إلى الله يدعوه يقول: «اللهم إنى أنشدك ما وعدتنى، اللهم لا ينبغى لهم أن يظهروا علينا» . ونادى أصحابه فذمرهم: «يا أصحاب البيعة يوم الحديبية، يا أصحاب سورة البقرة، يا أنصار الله وأنصار رسوله، يا بنى الخزرج» . وقبض قبضة من الحصباء فحصب بها وجوه المشركين ونواحيهم كلها. وقال: «شاهت الوجوه» «3» .
فهزم الله أعداءه من كل ناحية حصبهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتبعهم المسلمون يقتلونهم وغنمهم الله نساءهم وذراريهم وشاههم وإبلهم، وفر مالك بن عوف حتى دخل حصن الطائف فى ناس من أشراف قومه.
__________
(1) ذكره الإمام أحمد فى مسنده (1775) ، مسلم فى صحيحه (3/ 1398، 1399/ 76) .
(2) لم أقف على تخريجه فيما بين يدى من مصادر، وقصة أبى سفيان بن الحارث أنه كان أخذ بزمام ناقة النبى صلى الله عليه وسلم أخرجها البخارى فى صحيحه كتاب المغازى (7/ 4315) من طريق أبى إسحاق قال: سمعت البراء بن عازب ... وفيه: «فيفهم هوزان بالنبل والنبى صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بلجامها والنبى صلى الله عليه وسلم يقول: «أنا النبى لا كذب أنا ابن عبد المطلب» .
(3) انظر الحديث فى: البداية والنهاية (4/ 330) ، المعجم الكبير للطبرانى (10/ 188) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 82، 8/ 619) ، دلائل النبوة للبيهقى (5/ 131) ، فتح البارى لابن حجر (7/ 619) .(1/523)
وأسلم عند ذلك ناس كثير من أهل مكة وغيرهم حين رأوا نصر الله ورسوله وإعزاز دينه.
وحدث «1» جبير بن مطعم قال: لقد رأيت قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون مثل البجاد الأسود أقبل من السماء حتى سقط بيننا وبين القوم، فنظرت فإذا نمل أسود مثبوت قد ملأ الوادى ولم أشك أنها الملائكة، فلم تكن إلا هزيمة القوم «2» .
والتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ فرأى أم سليم بنت ملحان، وكانت مع زوجها أبى طلحة وهى حازمة وسطها ببرد لها وإنها لحامل بعبد الله بن أبى طلحة، ومعها جمل أبى طلحة قد خشيت أن يعزها فأدنت رأسه منها فأدخلت يدها فى خزامته مع الحظام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أم سليم؟» قالت: نعم، بأبى أنت وأمى يا رسول الله، اقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك كما تقتل الذين يقاتلونك فإنهم أهل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو يكفى الله يا أم سليم؟» . وقال لها أبو طلحة: ما هذا الخنجر يا أم سليم؟ لخنجر رآه عندها. قالت: خنجر اتخذته إن دنا منى أحد من المشركين بعجته به. فقال أبو طلحة:
ألا تسمع يا رسول الله ما تقول أم سليم! «3» .
وحدث «4» أنس: أن أبا طلحة استلب وحده يوم حنين عشرين رجلا «5» .
وقال أبو قتادة رأيت يوم حنين رجلين يقتتلان: مسلما ومشركا، فإذا رجل من المشركين يريد أن يعين صاحبه المشرك على المسلم فأتيته فضربت يده فقطعتها واعتنقنى بيده الأخرى، فو الله ما أرسلنى حتى وجدت ريح الدم.
ويروى: ريح الموت. فلولا أن الدم نزفه لقتلنى، فسقط فضربته فقتلته وأجهضنى عنه القتال. فلما وضعت الحرب أوزارها وفرغنا من القوم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قتل قتيلا فله سلبه. فقلت: يا رسول الله والله لقد قتلت قتيلا ذا سلب فأجهضنى عنه القتال
__________
(1) انظر: السيرة (4/ 81- 82) .
(2) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (5/ 146) ، تاريخ الطبرى (2/ 169) ، تفسير ابن كثير (4/ 72) .
(3) انظر الحديث فى: صحيح مسلم كتاب الجهاد باب غزوة النساء مع الرجال (3/ 1442، 1443) ، سنن أبو داود (2718) ، مسند الإمام أحمد (3/ 108، 109، 190، 279، 286) .
(4) انظر: السيرة (4/ 81) .
(5) انظر الحديث فى: سنن الدارمى (2/ 2484) ، مسند الإمام أحمد (3/ 114، 123، 190، 279) ، مستدرك الحاكم (3/ 353) ، ابن حبان (7/ 4818) .(1/524)
فما أدرى من استلبه. فقال رجل من أهل مكة: صدق يا رسول الله فأرضه عنى من سلبه. فقال أبو بكر: لا والله لا ترضيه منه تعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن دين الله تقاسمه سلبه! اردد عليه سلب قتيله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق اردد عليه سلبه.
قال أبو قتادة: فأخذته منه فبعته فاشتريت بثمنه مخرفا، فإنه لأول مال اعتقدته «1» .
ولما انهزمت هوازن استحر القتل من ثقيف فى بنى مالك، فقتل منهم سبعون رجلا تحت رايتهم، فيهم عثمان بن عبد الله بن ربيعة ومعه كانت راية بنى مالك.
وكانت قبله مع ذى الخمار، فلما قتل أخذها عثمان فقاتل بها حتى قتل، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله قال: «أبعده الله، فإنه كان يبغض قريشا» «2» .
وكانت راية الأحلاف مع قارب بن الأسود، فلما انهزم الناس هرب هو وقومه من الأحلاف فلم يقتل منهم غير رجلين يقال لأحدهما وهب وللآخر الجلاح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه قتل الجلاح: «قتل اليوم سيد شباب ثقيف، إلا ما كان من ابن هنيدة» «3» . يعنى الحارث بن أويس.
ولما انهزم المشركون أتوا الطائف ومعهم مالك بن عوف وعسكر بعضهم بأوطاس وتوجه بعضهم نحو نخلة، وتبعت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلك فى نخلة من الناس ولم تتبع من سلك الثنايا، فأدرك ربيعة بن رفيع وكان يقال له: ابن الدغنة، وهى أمه غلبت على اسمه أدرك دريد بن الصمة فأخذ بخطام جمله وهو يظن أنه امرأة، وذلك أنه كان فى شجار له، فأناخ به فإذا شيخ كبير وإذا هو دريد ولا يعرفه الغلام، فقال له دريد:
ماذا تريد بى؟ قال: أقتلك. قال: ومن أنت؟ قال: انا ربيعة بن رفيع السلمى. ثم ضربه بسيفه فلم يغن شيئا فقال: بئس ما سلحتك أمك! خذ سيفى هذا من مؤخر الرحل ثم اضرب به وارفع عن العظام واخفض عن الدماغ، فإنى كذلك كنت أضرب الرجال، ثم إذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصمة فرب والله يوم قد منعت فيه نساءك.
فزعم بنو سليم أن ربيعة قال: لما ضربته فوقع تكشف فإذا عجانه وبطون فخذيه مثل القرطاس من ركوب الخيل أعراء. فلما رجع ربيعة إلى أمه أخبرها بقتله إياه فقالت: أما
__________
(1) انظر الحديث فى: صحيح مسلم (3/ 1370، 1371، 41) ، مسند الإمام أحمد (5/ 306) .
(2) انظر الحديث فى: مصنف عبد الرزاق (11/ 19904) .
(3) انظر الحديث فى: البداية والنهاية لابن كثير (4/ 335) .(1/525)
والله لقد أعتق أمهات لك ثلاثا «1» . وقالت عميرة بنت دريد ترثى أباها:
قالوا قتلنا دريدا قلت قد صدقوا ... فظل دمعى على السربال ينحدر
لولا الذى قهر الأقوام كلهم ... رأت سليم وكعب كيف يأتمر «2»
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فى آثار من توجه قبل أوطاس أبا عامر الأشعرى «3» فأدرك بعض المنهزمة فناوشوه القتال، فرمى بسهم فقتل، فأخذ الراية أبو موسى الأشعرى «4» ففتح الله عليه وهزمهم الله، ويزعمون أن سلمة بن دريد هو الذى رمى أبا عامر.
وذكر ابن هشام «5» عمن يثق به أن أبا عامر الأشعرى لقى يوم أوطاس عشرة أخوة من المشركين، فحمل عليه أحدهم فحمل عليه أبو عامر وهو يدعوه إلى الإسلام ويقول: اللهم اشهد عليه، فقتله أبو عامر، ثم حمل عليه آخر، فحمل عليه أبو عامر، وهو يدعوه إلى الإسلام ويقول: اللهم اشهد عليه، فقتله أبو عامر، ثم جعلوا يحملون عليه رجلا بعد رجل، ويحمل أبو عامر ويقول ذلك، حتى قتل تسعة وبقى العاشر، فحمل على أبى عامر وحمل عليه أبو عامر، وهو يدعوه إلى الإسلام ويقول: اللهم اشهد عليه. فقال الرجل: اللهم لا تشهد على، فكف عنه أبو عامر فأفلت ثم أسلم بعد فحسن إسلامه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رآه قال: «هذا شريد أبى عامر» «6» ورمى أبا عامر يومئذ- فيما ذكر ابن هشام- خوان من بنى جشم بن معاوية فأصاب أحدهما قلبه والأخر ركبته فقاتلاه، وولى الناس أبو موسى الأشعرى فحمل عليهما فقتلهما.
وذكر ابن إسحاق «7» أن القتل استحر فى بنى نصر بن رئاب، فزعموا أن عبد الله
__________
(1) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (5/ 145) ، تاريخ الطبرى (2/ 170) ، الأصفهانى كتاب الأغانى (9/ 15، 16) .
(2) ذكر فى السيرة بعد هذان البيتان بيت آخر هو:
إذن لصحبهم غبا وظاهرة ... حيث استقرت نواهم جحفل دفر
انظر: السيرة (4/ 87) .
(3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (3092) ، الإصابة الترجمة رقم (10185) ، أسد الغابة الترجمة (6043) .
(4) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (3226) ، الإصابة الترجمة رقم (10588) ، أسد الغابة الترجمة رقم (6294) .
(5) انظر: السيرة (4/ 89- 90) .
(6) انظر الحديث فى: فتح البارى لابن حجر (7/ 639) ، البداية والنهاية لابن كثير (4/ 338) .
(7) انظر: السيرة (4/ 87- 88) .(1/526)
ابن قيس الذى يقال له: ابن العوراء، وهو أحد بنى وهب بن رئاب، قال: يا رسول الله، هلكت بنو رئاب. فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم اجبر مصيبتهم» «1» .
وخرج مالك بن عوف عند الهزيمة فوقف فى فوارس من قومه على ثنية من الطريق وقال لأصحابه: قفوا حتى يمضى ضعفاؤكم وتلحق اخراكم. فوقف هنالك حتى مضى من كان لحق بهم منهزمة الناس.
قال ابن هشام «2» : وبلغنى أن خيلا طلعت ومالك وأصحابه على الثنية فقال لأصحابه: ماذا ترون؟ قالوا: نرى قوما واضعى رماحهم بين آذان خيلهم طويلة بوادهم.
فقال: هؤلاء بنو سليم ولا بأس عليكم منهم، فلما أقبلوا سلكوا بطن الوادى، ثم طلعت خيل اخرى تتبعها فقال لأصحابه: ماذا ترون، قالوا: نرى أقواما عارضى أرماحهم أغفالا «3» على خيلهم. قال: هؤلاء الأوس والخزرج ولا بأس عليكم منهم، فلما انتهوا إلى أصل الثنية سلكوا طريق بنى سليم ثم اطلع فارس فقال لأصحابه: ماذا ترون؟ قالوا:
نرى فارسا طويل الباد واضعا رمحه على عاتقه عاصبا رأسه بملاءة حمراء. فقال: هذا الزبير بن العوام وأحلف باللات ليخالطنكم فاثبتوا له. فلما انتهى الزبير إلى أصل الثنية أبصر القوم فصمد لهم فلم يزل يطاعنهم حتى أزاحهم عنها.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: «إن قدرتم على بجاد، رجل من بنى سعد بن بكر، فلا يفلتنكم» ، وكان قد أحدث حدثا، فلما ظفر به المسلمون ساقوه وأهله، وساقوا معه الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، فعنفوا عليها فى السياق فقالت للمسلمين: تعلموا والله أنى لأخت صاحبكم من الرضاعة. فلم يصدقوها حتى أتوا بها النبى صلى الله عليه وسلم فلما انتهوا بها إليه قالت: يا رسول الله إنى أختك. قال: وما علامة ذلك؟ قالت عضة عضة عضضتنيها فى ظهرى وأنا متوركتك، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم العلامة فبسط لها رداءه فأجلسها عليه وخيرها، فقال: إذا أحببت فعندى محبة مكرمة وإن أحببت أن أمتعك وترجعى إلى قومك فعلت، قالت: بل تمتعنى وتردنى إلى قومى. فمتعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وردها إلى قومها. فزعمت بنو سعد أنه أعطاها غلاما له يقال له: مكحول، وجارية، فزوجت أحدهما الآخر فلم يزل فيهم من نسلهما بقية «4» .
__________
(1) انظر الحديث فى: الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 152) ، الإصابة لابن حجر (4/ 121) .
(2) انظر: السيرة (4/ 88- 89) .
(3) أغفالا: جمع غفل، وهو الذى لا علامة له، يريد أنهم لم يتخذوا لأنفسهم علامة يعرفون بها.
(4) انظر الحديث فى: تاريخ الطبرى (2/ 171) ، الإصابة لابن حجر (8/ 123) ، الاستيعاب لابن-(1/527)
وأنزل الله تبارك وتعالى فى يوم حنين لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ [التوبة: 25، 26] .
واستشهد من المسلمين يوم حنين من قريش ثم من بنى هاشم: أيمن بن عبيد «1» مولاهم. ومن بنى أسد بن عبد العزى يزيد بن زمعة بن الأسود بن المطلب «2» ، جمح به فرس يقال له الجناح فقتل.
ومن الأنصار: سراقة بن الحارث العجلانى «3» . ومن الأشعريين أبو عامر الأشعرى.
ثم جمعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا حنين وأموالها فأمر بها إلى الجعرانة فحبست بها حتى أدركها هنالك منصرفه عن الطائف على ما يذكر بعد إن شاء الله تعالى.
وقال عباس بن مرداس السلمى «4» فى يوم حنين «5» :
عفا مجدل من أهله فمتالع ... فمطلا أريك قد خلافا لمصانع
ديار لنا يا جمل إذ جل عيشنا ... رخى وصرف الدهر للحى جامع
حبيبة ألوت بها غربة النوى ... لبين فهل ماض من العيش راجع
فإن تبتغى الكفار غير ملومة ... فإنى وزير للنبى وتابع
دعانا إليه خير وفد علمتم ... خزيمة والمرار منهم وواسع
__________
- عبد البر الترجمة رقم (1870، 4003) ، أسد الغابة لابن الأثير (7/ 166، 167) .
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (131) ، الإصابة الترجمة رقم (394) ، أسد الغابة الترجمة رقم (353) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 41) ، معرفة الصحابة (2/ 372) .
(2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2800) ، الإصابة الترجمة رقم (9280) ، أسد الغابة الترجمة رقم (5552) .
(3) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (916) ، الإصابة الترجمة رقم (3113) ، أسد الغابة الترجمة رقم (1948) .
(4) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1387) ، الإصابة الترجمة رقم (4529) ، أسد الغابة الترجمة رقم (2801) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 295) ، تاريخ جرجان (281) ، تقريب التهذيب (1/ 399) ، تهذيب التهذيب (5/ 130) ، خلاصة تذهيب (2/ 37) ، تهذيب الكمال (2/ 660) ، الأعلام (3/ 267) .
(5) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 95- 96) .(1/528)
فجئنا بألف من سليم عليهم ... لبوس لهم من نسج داود رائع
نبايعه بالأخشبين وإنما ... يد الله بين الأخشبين نبايع
فجسنا مع المهدى مكة عنوة ... بأسيافنا والنقع كاب وساطع
علانية والخيل يغشى متونها ... حميم وآن من دم الجوف ناقع
ويوم حنين حين سارت هوازن ... إلينا وضاقت بالنفوس الأضالع
صبرنا مع الضحاك لا يستفزنا ... قراع الأعادى منهم والوقائع
أمام رسول الله يخفق فوقنا ... لواء كخدروف السحابة لامع
عشية ضحاك بن سفيان معتص ... بسيف رسول الله والموت كانع
نذود أخانا عن أخينا ولو نرى ... مصالا لكنا الأقربين نتابع
ولكن دين الله دين محمد ... رضينا به فيه الهدى والشرائع
أقام به بعد الضلالة أمرنا ... وليس لأمر حمه الله دافع
وقال عباس أيضا «1» :
تقطع باقى وصل أم مؤمل ... بعاقبة واستبدلت نية خلفا
وقد حلفت بالله لا تقطع النوى ... فما صدقت فيه ولا برت الحلفا
خفافية بطن العقيق مصيفها ... وتحتل فى البادين وجرة فالعرفا «2»
فإن تتبع الكفار أم مؤمل ... فقد زودت قلبى على نأيها شغفا
وسوف ينبيها الخبير بأننا ... أبينا ولم نطلب سوى ربنا حلفا
وإنا مع الهادى النبى محمد ... وفينا ولم نستوفها معشر ألفا
بفتيان صدق من سليم أعزة ... أطاعوا فما يعصون من أمره حرفا
خفاف وذكوان وعوف تخالهم ... مصاعب زافت فى طروقتها كلفا
كأن النسيج الشهب والبيض ملبس ... أسودا تلاقت فى مراصدها غضفا «3»
بنا عز دين الله غير تنحل ... وزدنا على الحى الذى معه ضعفا
بمكة إذ جئنا كأن لواءنا ... عقاب أرادت بعد تحليقها خطفا
على شخص الأبصار تحسب بينها ... إذا هى جالت فى مواردها عزفا
__________
(1) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 96- 97) .
(2) خفافية: منسوبة إلى بنى خفاف وهم حى من سليم. مصيفها: المكان الذى تقيم فيه فى الصيف.
(3) غضفا: الغضف: جمع أغضف وهو المسترخى الأذنين.(1/529)
غداة وطئنا المشركين ولم نجد ... لأمر رسول الله عدلا ولا صرفا
بمعترك لا يسمع القوم وسطه ... لنا [زجمة] «4» إلا التذامر والنقفا
ببيض تطير الهام عن مستقرها ... وتقطف أعناق الكماة بها قطفا
فكاين تركنا من قتيل ملحب ... وأرملة تدعو على بعلها لهفا
رضا الله ننوى لا رضا الناس نبتغى ... ولله ما يبدو جميعا وما يخفى
وقال عباس أيضا «1» :
ما بال عينك فيها عائر سهر ... مثل الحماطة أغضى فوقها الشفر
عين تأوبها من شجوها أرق ... فالماء يغمرها طورا وينحدر
كأنه نظم در عند ناظمه ... تقطع السلك منه فهو منتثر
ما بعد منزل من ترجو مودته ... ومن أتى دونه الصمان فالحفر
دع ما تقدم من عهد الشباب فقد ... ولى الشباب وزار الشيب والزعر
واذكر بلاء سليم فى مواطنها ... وفى سليم لأهل الفخر مفتخر
قوم هم نصروا الرحمن واتبعوا ... دين الرسول وأمر الناس مشتجر
الضاربون جنود الشرك ضاحية ... ببطن مكة والأرواح تبتدر
حتى رفعنا وقتلاهم كأنهم ... نخل بظاهرة البطحاء منقعر
ونحن يوم حنين كان مشهدنا ... للدين عزا وعند الله مدخر
إذ نركب الموت مخضرا بطائنه ... والخيل ينجاب عنها ساطع كدر
تحت اللوامع والضحاك يقدمنا ... كما مشى الليث فى غاباته الخدر
فى مأزق من مجر الحرب كلكلها ... تكاد تأفل منه الشمس والقمر
وقد صبرنا بأوطاس أسنتنا ... لله ننصر من شئنا وننتصر
حتى تأوب أقوام منازلهم ... لولا المليك ولولا نحن ما صدروا
فما ترى معشرا قلوا ولا كثروا ... إلا قد أصبح منا فيهم أثر
وقال عباس بن مرداس أيضا رضى الله عنه «2» :
يا أيها الرجل الذى تهوى به ... وجناء مجمرة المناسم عرمس
__________
(4) ما بين المعقوفتين ورد فى الأصل: «رحمة» ، والتصحيح من السيرة. وزجمة: تقول ما زجم فلان أى ما نطق بكلمة.
(1) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 97- 98) .
(2) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 98- 99) .(1/530)
إما أتيت على النبى فقل له ... حقا عليك إذا اطمأن المجلس
يا خير من ركب المطى ومن مشى ... فوق التراب إذا تعد الأنفس
إنا وفينا بالذى عاهدتنا ... والخيل تقدع بالكماة وتضرس
إذ سال من أفناء بهثة كلها ... جمع تظل به المخارم ترجس
حتى صبحنا أهل مكة فيلقا ... شهباء يقدمها الهمام الأشوس
من كل أغلب من سليم فوقه ... بيضاء محكمة الدخال وقونس
وعلى حنين قد وفى من جمعنا ... ألف أمد به الرسول عرندس
كانوا أمام المؤمنين دريئة ... والشمس يومئذ عليها أشمس
نمضى ويحرسنا الإله بحفظه ... والله ليس بضائع من يحرس
ولقد حبسنا بالمناقب محبسا ... رضى الإله بهم فنعم المحبس
وغداة أوطاس شددنا شدة ... كفت العدو وقيل منها يحبس
ندعو هوازن بالإخاءة بيننا ... ثدى تمد به هوازن أيبس
حتى تركنا جمعهم وكأنه ... عير تعاقبه السباع مفرس
وقال عباس بن مرداس أيضا «1» :
نصرنا رسول الله من غضب له ... بألف كمى لا تعد حواسره
حملنا له فى عامل الرمح راية ... يذود بها فى حومة الموت ناصره
ونحن خضبناها دما فهو لونها ... غداة حنين يوم صفوان شاجره
وكنا على الإسلام ميمنة له ... وكان لنا عقد اللواء وشاهره
وكنا له يوم الجنود بطانة ... يشاورنا فى أمره ونشاوره
دعانا فسمانا الشعار مقدما ... وكنا له عونا على من يناكره
جزى الله خيرا من نبى محمدا ... وأيده بالنصر والله ناصره
غزوة الطائف «2»
ولما قدم فل الطائف أغلقوا عليهم أبواب مدينتها، وصنعوا الصنائع للقتال، ولم
__________
(1) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 99) .
(2) راجع هذه الغزوة فى: المنتظم لابن الجوزى (3/ 341) ، مغازى الواقدى (3/ 922) ، طبقات ابن سعد (2/ 1/ 114) ، تاريخ الطبرى (3/ 82) .(1/531)
يشهد حنينا ولا الطائف عروة بن مسعود «1» ولا غيلان بن سلمة «2» ، كانا بجرش يتعلمان صنعة الدبابات والمجانيق والضبور.
ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف حين فرغ من حنين، فقال كعب بن مالك حين أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إليها «3» :
قضينا من تهامة كل ريب ... وخيبر ثم أجممنا السيوفا
نخيرها ولو نطقت لقالت ... قواطعهن دوسا أو ثقيفا
فلست لحاضن إن لم تروها ... بساحة دار كم منا ألوفا
وننتزع العروش ببطن وج ... وتصبح دوركم منكم خلوفا
ويأتيكم لنا سرعان خيل ... يغادر خلفه جمعا كثيفا
إذا نزلوا بساحتكم سمعتم ... لها مما أناخ بها رجيفا
بأيديهم قواضب مرهفات ... يزرن المصطلين بها الحتوفا
كأمثال العقائق أخلصتها ... قيون الهند لم تضرب كتيفا
تخال جدية الأبطال فيها ... غداة الروع جاديا مدوفا
أجدهم أليس لهم نصيح ... من الأقوام كان بنا عريفا
يخبرهم بأنا قد جمعنا ... عتاق الخيل والنجب الطروفا
وأنا قد أتيناهم بزحف ... يحيط بسور حصنهم صفوفا
رئيسهم النبى وكان صلبا ... نقى القلب مصطبرا عزوفا
رشيد الأمر ذا حكم وعلم ... وحلم لم يكن نزقا خفيفا
نطيع نبينا ونطيع ربا ... هو الرحمن كان بنا رؤفا
فإن تلقوا إلينا السلم نقبل ... ونجعلكم لنا عضدا وريفا
وإن تأبوا نجاهدكم ونصبر ... ولا يك أمرنا رعشا ضعيفا
نجالد ما بقينا أو تنيبوا ... إلى الإسلام إذعانا مضيفا
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (1823) ، الإصابة الترجمة رقم (5542) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 380) ، الأعلام (4/ 227) ، الثقات (3/ 313) ، التحفة اللطيفة (3/ 187) ، تبصير المنتبه (4/ 1495) ، العبر (1/ 10) .
(2) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2090) ، الإصابة الترجمة رقم (6940) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4190) .
(3) انظر الأبيات فى: السيرة (4/ 106- 108) .(1/532)
نجاهد لا نبالى ما لقينا ... أأهلكنا التلاد أم الطريفا
وكم من معشر ألبوا علينا ... صميم الجذم منهم والحليفا
أتونا لا يرون لهم كفاء ... فجدعنا المسامع والأنوفا
بكل مهند لين صقيل ... نسوقهم بها سوقا عنيفا
لأمر الله والإسلام حتى ... يقوم الدين معتدلا حنيفا
وتنسى اللات والعزى وود ... ونسلبها القلائد والشنوفا
فأمسوا قد أقروا واطمأنوا ... ومن لا يمتنع يقبل خسوفا
وسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم على نخلة اليمانية، وانتهى إلى بحرة الرغاة «1» فابتنى بها مسجدا فصلى فيه وأقاد فيها يومئذ بدم رجل من هذيل قتله رجل من بنى ليث فقتله به، وهو أول دم أقيد به فى الإسلام، وأمر فى طريقه بحصن مالك بن عوف فهدم.
ثم سلك فى طريق فسأل عن اسمها فقيل له: الضيقة. فقال: «بل هى اليسرى» . ثم خرج منها حتى نزل تحت سدرة يقال لها: الصادرة قريبا من مال رجل من ثقيف، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إما أن تخرج، وإما أن نخرب عليك حائطك» ، فأبى أن يخرج فأمر بإخرابه.
ثم مضى حتى نزل قريبا من الطائف، فضرب به عسكره، فقتل ناس من أصحابه بالنبل، وذلك أن العسكر اقترب من حائط الطائف، فكانت النبل تنالهم، ولم يقدر المسلمون على أن يدخلوا حائطهم، أغلقوه دونهم.
فلما أصيب أولئك النفر من أصحابه بالنبل وضع عسكره عند مسجده الذى بالطائف اليوم فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة، وقيل «2» : بضع عشرة ليلة ومعه امرأتان من نسائه، إحداهما أم سلمة، فضرب لهما قبتين، ثم صلى بينهما، فلما أسلمت ثقيف بنى عمرو بن أمية بن وهب بن معتب بن مالك على مصلاة ذلك مسجدا، وكانت فيه سارية فيما يزعمون لا تطلع الشمس عليها يوما من الدهر إلا سمع لها نقيض، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاتلهم قتالا شديدا، وتراموا بالنبل «3» .
ورماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنجنيق فيما ذكر ابن هشام، قال: وهو أول من رمى به فى الإسلام إذ ذاك «4» .
__________
(1) بحرة الرغاء: هو موضع من أعمال الطائف قرب ليّة. انظر: معجم البلدان (1/ 346) .
(2) هذا من كلام ابن هشام، قال: ويقال: سبع عشرة ليلة. انظر: السيرة (4/ 109) .
(3) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (4/ 346) ، الطبرى فى تاريخه (2/ 172) .
(4) انظر: السيرة (4/ 110) ، وذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (4/ 348) .(1/533)
حتى إذا كان يوم الشدخة عند جدار الطائف دخل نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت دبابة ثم رجعوا بها إلى جدار الطائف ليحرقوه، فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار، فخرجوا من تحتها فرمتهم بالنبل فقتلوا منهم رجالا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع أعتاب ثقيف فوقع الناس فيها يقطعون، وتقدم أبو سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة إلى الطائف فناديا ثقيفا أن آمنونا حتى نكلمكم فآمنوهما. فدعوا نساء من نساء قريش وبنى كنانة منهن ابنة أبى سفيان ليخرجن إليهما وهما يخافان عليهن السباء فأبين، فلما أبين قال لهما الأسود بن مسعوديا أبا سفيان ويا مغيرة ألا أدلكما على خير مما جئتما له؟ إن مال بنى الأسود حيث علمتما، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نازلا بينه وبين الطائف بواد يقال له العقيق، إنه ليس بالطائف مال أبعد رشاء وأشد مؤنة ولا أبعد عمارة من مال بنى الأسود، وإن محمدا إن قطعه لم يعمر أبدا، فكلماه فليأخذه لنفسه او ليدعه لله وللرحم، فإن بيننا وبينه من القرابة ما لا يجهل.
فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تركه لهم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر لأبى بكر الصديق رضى الله عنه وهو محاصر ثقيفا: «يا أبا بكر، إنى رأيت إنى أهديت إلى قعبة مملوءة زبدا، فنقرها ديك، [فهراق] «1» ما فيها» . فقال: ما أظن أن تدرك منهم يومك هذا ما تريد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأنا لا أرى ذلك» «2» .
ثم إن خويلة بنت حكيم السلمية «3» ، امرأة عثمان بن مظعون قالت: يا رسول الله أعطنى إن فتح الله عليك الطائف حلى بادية بنت غيلان، أو حلى الفارعة ابنة عقيل.
وكانتا من أحلى نساء ثقيف. فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: «وإن كان لم يؤذن فى ثقيف يا خويلة؟» فخرجت خويلة، فذكرت ذلك لعمر بن الخطاب رضى الله عنه، فدخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما حديث حدثتنيه خويلة، زعمت أنك قلته؟ قال: «قد قلته» . قال: أو ما أذن فيهم يا رسول الله؟ قال: «لا» . قال: أفلا أؤذن بالرحيل؟ قال: «بلى» ، فأذن عمر بالرحيل «4» .
__________
(1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وما أوردناه من السيرة.
(2) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (4/ 350) .
(3) انظر ترجمتها فى: الاستيعاب الترجمة رقم (3355) ، الإصابة الترجمة رقم (11119) ، أسد الغابة الترجمة رقم (6888) ، تجريد أسماء الصحابة (2/ 264) ، خلاصة تذهيب تهذيب الكمال (3/ 380) .
(4) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (5/ 168- 169) ، ابن كثير فى البداية والنهاية (4/ 350) .(1/534)
فلما استقل الناس نادى سعيد بن عبيد: ألا إن الحى مقيم. يقول عيينة بن حصن «1» :
أجل، والله مجدة كراما! فقال له رجل من المسلمين: قاتلك الله يا عيينة؟ أتمدح المشركين بالامتناع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جئت تنصره؟ قال: إنى والله ما جئت لأقاتل ثقيفا معكم، ولكنى أردت أن يفتح محمد الطائف فأصيب من ثقيف جارية أتطئها لها تلد لى رجلا فإن ثقيفا قوم مناكير.
ونزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى إقامته عليهم عبيد لهم فأسلموا فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أسلم أهل الطائف تكلم نفر منهم فى أولئك العبيد «2» ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لا، أولئك عتقاء الله» «3» .
واستشهد بالطائف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر رجلا، سبعة من قريش وأربعة من الأنصار ورجل من بنى ليث «4» .
ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطائف حتى نزل الجعرانة وإليها كان قدم سبى هوازن وأموالهم «5» ، وقال له رجل من أصحابه يوم ظعن عن ثقيف: يا رسول الله، ادع عليهم فقال: «اللهم اهد ثقيفا وائت بهم» «6» .
ثم أتاه وفد هوازن بالجعرانة، وقد أسلموا، وكان معه من سبيهم ستة آلاف من الذرارى والنساء ومن الإبل والشاء ما لا يدرى ما عدته، فقالوا: يا رسول الله إنا أهل وعشيرة وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك فامنن علينا من الله عليك، وقام رجل منهم من سعد بن بكر يقال له: زهير، يكنى بأبى صرد، فقال: يا رسول الله، إنما فى الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللائى كن يكفلنك، ولو أنا ملحنا للحارث بن
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (2078) ، الإصابة الترجمة رقم (6166) ، أسد الغابة الترجمة رقم (4166) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 432) ، الاستبصار (94، 95) ، العبر (12، 13) ، الثقات (3/ 312) .
(2) ذكر ابن إسحاق فى السيرة (4/ 112) ، إنه كان ممن تكلم فيهم الحارث بن كلدة.
(3) انظر الحديث فى: تاريخ الطبرى (4/ 348) ، دلائل النبوة للبيهقى (5/ 159) .
(4) قد سمهم ابن إسحاق فى السيرة (4/ 113- 114) .
(5) راجع أمر أموال هوازن وسباياها فى: تاريخ الطبرى (2/ 173) ، الكامل فى التاريخ (2/ 268) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 152، 153) ، عيون الأثر لابن سيد الناس (2/ 193) .
(6) انظر الحديث فى: مسند الإمام أحمد (3/ 343) ، سنن الترمذى (5/ 3942) .(1/535)
أبى شمر أو للنعمان بن المنذر، ثم نزلا منا بمثل ما نزلت به رجونا عطفه، وعائدته علينا، وأنت خير المكفولين. ثم أنشأ يقول:
امنن علينا رسول الله فى كرم ... فإنك المرء نرجوه وننتظر
امنن على بيضة قد عاقها قدر ... مفرق شملها فى دهرها غير
أبقت لنا الحرب هتافا على حزن ... على قلوبهم الغماء والغمر
إن لم تداركهم نعماء تنشرها ... يا أرجح الناس حلما حين يحتبر
امنن على نسوة قد كنت ترضعها ... إذ فوك تملأه من محضها الدرر
إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها ... وإذ يزينك ما تأتى وما تذر
لا تجعلنا كمن شالت نعامته ... واستبق منه فإنا معشر زهر
إنا لنشكر للنعمى وقد كفرت ... وعندنا بعد هذا اليوم مدخر
فألبس العفو من قد كنت ترضعه ... من أمهاتك إن العفو يشتهر
إنا نؤمل عفوا منك تلبسه ... هذى البرية أن تعفو وتنصر
فاعف عفا الله عما أنت راهبه ... يوم القيامة إذ يهدى لك الظفر
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم» ؟ فقالوا: يا رسول الله، خيرتنا بين أموالنا وأحسابنا، بل ترد إلينا نساءنا وأبناءنا فهو أحب إلينا. فقال لهم:
«أما ما كان لى ولبنى عبد المطلب فهو لكم وإذا أنا صليت الظهر بالناس فقوموا فقولوا:
إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله فى أبنائنا ونسائنا.
فسأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم» .
فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر قاموا فتكلموا بالذى أمرهم به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما ما كان لى ولبنى عبد المطلب فهو لكم» ، فقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالت الأنصار: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال الأقرع بن حابس «1» : أما أنا وبنو تميم فلا. وقال عيينة بن حصن: أما أنا وبنو فزارة فلا.
وقال عباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا. فقالت بنو سليم: بلى ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عباس: وهنتمونى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما من تمسك منكم
__________
(1) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (69) ، الإصابة الترجمة رقم (231) ، أسد الغابة الترجمة رقم (208) ، تجريد أسماء الصحابة (1/ 26) ، الوافى بالوفيات (9/ 307) ، تهذيب تاريخ دمشق (3/ 89) ، تنقيح المقال (1034) ، الثقات (3/ 18) ، الجامع فى الرجال (281) ، التحفة اللطيفة (1/ 337) ، جامع الرواة (1/ 107) .(1/536)
بحقه من هذا السبى فله بكل إنسان ست فرائض من أول شىء أصيبه، فردوا إلى الناس أبناءهم ونساءهم» «1» .
وكان عيينة بن حصن أخذ عجوزا من عجائزهم وقال حين أخذها: أرى عجوزا، إنى لأحسب أن لها فى الحى نسبا وعسى أن يعظم فداؤها. فلما رد رسول الله صلى الله عليه وسلم السبايا بست فرائض أبى أن يردها، فقال له زهير أبو صرد: خذها عنك فو الله ما فوها ببارد، ولا ثديها بناهد، ولا بطنها بوالد، ولا زوجها بواجد، ولا ردها بماكد، فردها بست فرائض حين قال له زهير ما قال «2» .
وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد هوازن: «ما فعل مالك بن عوف؟» فقالوا: هو بالطائف مع ثقيف. فقال لهم: «أخبروا مالكا أنه إن أتانى مسلما رددت عليه أهله وماله وأعطيته مائة من الإبل» . فأتى مالك بذلك فخاف ثقيفا أن يعلموا بما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحسبوه، فأمر براحلته فهيئت له، وأمر بفرس له فأتى به بالطائف، فخرج ليلا على فرسه حتى أتى راحلته حيث أمر بها أن تحبس فركبها فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركه بالجعرانة أو بمكة، فرد عليه أهله وماله وأعطاه مائة من الإبل وأسلم فحسن إسلامه «3» .
وقال:
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... فى الناس كلهم بمثل محمد
أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى ... ومتى تشأ يخبرك عما فى غد
وأذا الكتيبة عردت أنيابها ... بالسمهرى وضرب كل مهند
فكأنه ليث على أشباله ... وسط الهباءة خادر فى مرصد
فاستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أسلم من قومه فكان يقاتل بهم ثقيفا لا يخرج لهم سرح إلا أغار عليه حتى ضيق عليهم فقال أبو محجن بن حبيب الثقفى «4» :
__________
(1) انظر الحديث فى: سنن أبى داود كتاب الجهاد (2694) ، السنن الكبرى للبيهقى (6/ 336، 337) ، مسند الإمام أحمد (2/ 184، 218) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 187، 188) .
(2) انظر: السيرة (4/ 119) ، وذكر هناك زيادة بعد هذا وهى: « ... فزعموا أن عيينة لقيه الأقرع بن حابس، فشكا إليه ذلك، فقال: إنك والله ما أخذتها ببيضاء غريرة، ولا نصفا وثيرة» . قلت: ذكره البيهقى فى دلائل النبوة (5/ 193) ، الهيثمى فى المجمع (6/ 188) .
(3) انظر الحديث فى: دلائل النبوة للبيهقى (5/ 198) ، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 189) .
(4) انظر ترجمته فى: الاستيعاب الترجمة رقم (3193) ، الإصابة الترجمة رقم (10507) ، أسد الغابة الترجمة رقم (6228) ، تجريد أسماء الصحابة (2/ 200) .(1/537)