على معلومات كثيرة كان يلزم أن أطالع عدة كتب حتى أتمكن من الحصول عليها فأبثك أيتها المادام شكري وأعلن امتناني الحقيقي.
قالت المادام: سيبقى أثر هاته الليلة وأثر الاجتماع بك ثانيا في الذهن إلى ما شاء الله. قالت هذه العبارة الأخيرة ثم ودعتني وذهبت في عجلتها.
على أنني وإن كنت لا أعرف ما إذا كانت تحافظ حقيقة على الذكرى كما قالت قد شعرت بتأثير كلماتها في قلبي فإنني لا أزال أهز بذكرى تلك الليلة وأفتكر بمحادثتنا غير أنني لم آخذ منها حتى الآن كتابا, وقد علمت أنها ذهبت للتسوح في البلاد العربية, وسمعت أنها ستضع كتابا في سياحتها, فلا ريب أن هذا الكتاب سيكون مجمعا للحقائق, وهذا متوقف على إتمام السياحة ومتعلق بالتوفيق الإلهي.
المحاورة الثالثة
إن شهر مايس (نوار, أو أيار) بغاية اللطف والنشاط فهو متوسط بين حر الصيف وبرد الشتاء بمعنى أن حره أقل من حر الصيف وبرده أخف من برد الشتاء، ففي مثل هذا الشهر الذي انتشرت به الروائح الزكية وضاعت أرواح الأزهار المتنوعة كنت جالسة صباح يوم منه في إحدى عرف البستان وكانت نوافذ الغرفة مفتوحة يدخل منها ألطف الروائح العطرية التي تشبه المسك أستغفر الله إنني لم أحسن الوصف والتمثيل، فشتان بين تلك الرائحة وبين رائحة المسك التي قد توجب لبعض الناس سروراً ولبعضهم كدراً في حين أن رائحة الورد والقرنفل والياسمين وما ماثل من الأزهار التي كانت منتشرة في أرض الجنينة وفي جدرانها يتضوع منها أريج ينعش الأرواح، ورائحة الأشجار التي كانت قريبة من نوافذ الغرفة وأزهارها الناصعة البياض كل هاته الروائح الزكية كانت تفوق بنشرها على رائحة المسك، ومع هذا فإن رائحة كل فصيلة منها تختلف عن الأخرى فلم يكن ثمة مشابهة بينها الإطلاق، حتى أن رائحة الجنس الواحد منها كانت تختلف باختلاف أشكاله بين الأصفر والأحمر والأبيض، وهكذا يقال عن سائر أنواع الأزهار. وفي ذلك حكمة صمدانية تدق على الأفهام أما البلابل فكانت في صباح اليوم -المذكور- تطرب الجماد بنغماتها الشجية وتغرد تغريداً ترقص له القلوب في الصدور فتردد بأصواتها المطربة ما يمثل حالة العاشق الذي يطارح معشوقه كلمات الحب حتى إذا لم ينل منه جواباً ظهرت في عنقه إشارات الذل والانكسار.
وجملة القول: إن روائح الأزهار المتنوعة، وأصوات البلابل، ومناظر الأشجار المنتشرة في البستان كانت تشترك بلذتها حاستا السمع والنظر.
وعلى مثل ما تقدم وصفه كانت هذه العاجزة جالسة حوالى منفذة يحيط بها اثنتان من صويحباتي لمناولة قهوة البن بالحليب، وكانت إحداهما تدعى ص.. خانم، أما هذه السيدة فإنها تحسن اللغة الإنكليزية وتعرف قليلاً من الفرنسية بمعنى أنها تفهم هذه اللغة ولكن ببطء، وتتكلم ولكن بصعوبة، وتكتب باللغة التركية بدرجة تتمكن بها من التعبير عن فكرها وإفهام مرادها، والسبب في تضلعها في اللغة الإنكليزية زيادة عن اللغة التركية إنما كان منشؤه مربيتها التي كانت إنكليزية المتحد ولأجل ذلك تلقت منذ الصغر عنها اللغة الإنكليزية فأتقنتها كل الإتقان، فكانت أخلاق هاته السيدة قريبة من أخلاق الإنكليز إذ إن للتربية تأثير كلياً في الأخلاق كما لا يخفى، فكانت منزهة عن شوائب الكلفة تحب الصحة(1/405)
وتألف العزلة وتميل إلى الأزياء، ولما كنت على بينة من صفاء نيتها وحسن طويتها وكانت من قلبها ظاهرة للعيان ظهور الشمس في رابعة النهار قلت لها: إنني سأعرض ذكرها في رسالتي، والتمست لها أن تأذن لي في ذلك فلبت طلبي، وأجابت مسؤلي، وصرحت بسذاجة تامة أنها لا مانع من ذلك أصلاً حتى حملني هذا التصريح على أن أسألها عن الطريقة التي تحب بها آتي على ذكرها في هاته الرسالة. فقالت جواباً عن ذلك إنها على يقين من محبتي لها فهي واثقة بأنني لا يمكن أن أذمها أو أعرض في ذكرها بالسوء ثم قالت: وهب أنك هوجتني أو طعنت علي فلا يؤثر ذلك شيء في قلبي لما أنك ستكتمين اسمي ولا تصرحين به بل إن الانتقاد علي أحسبه مفيداً جداً لي لما أنني أضطر على إصلاح الفاسد من صفاتي وأخلاقي.
وأما رفيقتي الثانية فكان اسمها ن ... خانم فكانت تحسن لغتها التركية تكلماً وقراءة وكتابة على أنها كانت تدل بعلمها وتحسب نفسها فوق درجتها، وهذا الوهم قد بعثها على الوقوف عند الحد الذي كانت فيه فلم تتقدم عن تلك الدرجة شيئاً على أنها لم تكن خالية من الذكاء، وكانت أيضاً ميالة إلى مساعدة غيرها، راغبة في فائدة السوي وكانت ودودة راسخة في الصداقة لأحبائها تكره الأزياء إلا أنها كانت تضطر عند الذهاب إلى الولائم وجميعات الأفراح أن تجاري غيرها في الاكتساء بألبسة على آخر طرز، وأما في سائر أوقاتها فكانت تلبس الألبسة التركية وهذه الألبسة التركية هي عبارة عن ثوب بسيط مما يقال له: ثوب الغرفة على أن هذا الثوب إن لم يكن يعرف حقيقة ما إذ كان يصح أن يقال له ثوب تركي إلا أنه يستعمل على هذه الصورة.
وجملة القول أن السيدة "ن" كانت تميل إلى الأزياء التركية في حين إن السيدة (ص ... ) كانت لا تهوى ولا تحب سوى الألبسة الافرنجية.
وكانت السيدة (ص ... ) كثيرة الملل والضجر في ذاك الصباح لأنها قد اضطرت على عمل ثوب جديد للذهاب به إلى أحد الأفراح كلفها 35 ليرة، وحيث أن الزفاف تأخر إلى فصل الشتاء مست الحاجة إلى عمل ثوب آخر إذ أن الثوب الأول لا يصلح للفصل المذكور وفضلاً عن ذلك فإنها لو قصدت أن تلبس ثوب السنة الماضية الذي لم تلبسه أصلاً لامتنع عليها الأمر بسبب ما طرأ على الزي من تغير، وقد صرحت هذه السيدة بضجرها وكدرها من التغيرات المذكورة ومن غلاء الأسعار في قيم الأقمشة وغيرها من صاحبات الأثواب ذاكرة أنها ابتاعت ذراع التخريم بثلاث ليرات، ونظراً لتغير الزي الأول قد أحوجها الأمر إلى طرحه في زاوية الاهمال.
وكانت السيدة (ص ... ) تروي أسباب كدرها على الوجه المذكور غير أن السيدة (ن ... ) التي كانت تكره الأزياء قد أدت بها تلك الرواية إلى الحدة والانتقاد، فصرحت بما أورثها بيان تلك السيدة من التأثر والكدر، ثم عقب ذلك جرت المباحثة الآتي بيانها بين السيدتين فقالت السيدة (ص ... ) : إنني منذ السنة الماضية قد ازددت سمناً بحيث إن مشد الألبسة قد ضاق علي فهل يمكنني أن أجد من جنس القماش من أجل توسيعه، وعلى كل فإنني لو وضعت له قماشاً بسيط اللون لوجب مزجه لا فقط من جهة الصدر بل من سائر أطرافه.
قالت السيدة (ن ... ) : (كلا لا يجب أن تحملي نفسك ثقلة لهذا الأمر) .
قالت "ص" لها: ولماذا؟ قالت: ربما هزلت إلى أن يحل الأجل المضروب فحينئذ ينطبق عليك المشد كما يلزم.(1/406)
قالت لها: إنك تحملينني عناء بهذا الفكر.
فقالت: (كلا إنني لم أقصد ذلك وإنما أنت التي تحملين نفسك عناء فلا أخفي عنك إنني سأدعى إلى ذلك الزفاف ولكنني إذا رأيت أنه سيطول الأجل علي الذهاب إليه فإنني أستغني عن ذلك.
فقال السيدة "ص": كأنما تعنيني بما تقولين أنك لا تحبين أن تكتسي في الأفراح على مقتضى أصول الزي.
قالت: لا، لا أقصد ذلك وإنما متى أردت أن أصنع ثوباً آخذ القماش إلى الخياطة وأطلب منها أن تصنع لي ثوباً من آخر زي، وعند الحاجة أكتسي بهذا الثوب.
قالت: فإذا بطل زي الثوب التي تكونين لم تكتسي به فماذا تصنعين؟.
قالت لها: أنادي الخياطة وأطلب منها أن تحوله إلى الزي الجديد.
قالت: لا أعترض على ذلك وإنما أخبرك أنني أنفقت على هذه الأثواب خمساً وثلاثين ليرة، والنظر إلى التغيير الذي طرأ على كسمه أصبح يحتاج إلى خمس أو ستة أذرع من القماش. آخر ومعلوم أن القماش العاطل لا يصلح أن يضاف على الجيد وأقل ثمن ذراع القماش فهو من نصف ليرة إلى ثلاث ليرات ويلزمه خمسة عشر ذراعا من التخريم فإذا كان الذراع بخمسين غرشا بلغ ثمن الأذرع سبعمائة وخمسين غرشا , وإذا أضيفت إليه أجرة الخياطة وهي ثلاث ليرات كان المجموع ثلاث عشرة ليرة ونصفا, ثم إن الخياطة لا بد أن تضيف إلى ذلك لا أقل من ليرتين بحجة أنها أنفقت على بعض اللوازم الطفيفة فتصبح النفقات خمس عشرة ليرة ونصفا, أليس إن هذه القيمة تكون قد ذهبت جزافا؟ قالت السيدة "ن": إذن ما تقولين عن الخمس والثلاثين ليرة الأولى ألم تذهب جزافا أيضا؟ قالت: لسنا نجول عراة, كما لا يخفى.
قالت السيدة "ن": لا أقول يجب أن نكون عراة الأبدان ولست أتأسف على الدراهم التي تنفق في مشتري الأقمشة وإنما أتأسف على الأموال التي تصرف في سبيل التخاريم وما ماثل ذلك من الزوائد والأطراف, وعلى القيم التي تدفع للخياطة لأنها تكاد توازي نصف الخمس والثلاثين ليرة.
قالت السيدة "ص": ما العمل هل يمكننا أن نلبس القماش كما هو ألست أنت تخيطين أثوابك أيضا ثم تلبسينها؟ قالت لها: لقد أتيت بشيء يمنع ضرر الأزياء في الوقت الحاضر فإنني فصلت ثوبا على الزي التركي من القماش الثقيل لا يضيق ولا يحتاج إلى الإبدال والتغيير, وجعلته بسيطا لا زخرفة فيه, ولا زوائد وقد اقتصدت من إهمال التكاليف وزوائد عدة الأثواب, واشتريت قطعة من الماس البرلنتي بحيث إنني متى رغبت في بيعها لا أخسر من ثمنها شيئا بمثلها وبما ماثلها. قالت السيدة "ص": ستكونين بمعزل عن العالم! قالت لها: أنا لا أقول إنه يجب على الجميع أن يكتسوا بمثل كسوتي ولكن لو اكتسيت بالثوب الذي تغير زيه الأول لعرضت نفسي للهزء والسخرية.
فقلت للسيدة "ص": إن ذلك ليدهش كثيرا ولست بمنفردة فيه بل إن الأوربيات أنفسهم يرينه غريبا(1/407)
أتحسبين متانة أقمشتنا الوطنية ورخص أثمانها قبيحا ونبتاع ذراع القماش الإفرنجي المزركش بالنحاس بليرتين لا تعجبنا أقمشة حلب والشام وبغداد وديار بكر وكلها من الفضة الخالصة لأن ذراعها لا يتجاوز ثمنه الخمسين غرشا إن كون القماش من متاعنا لا يمنع من أن نخيطه على الطرز الإفرنجي أفلا يعجبك هذا القماش الذي ترينه علي فإنه عبارة عن ثوبين طولهما عشرون ذراعا دفعت ثمنها ثمانية مجيديات فيكون ثمن الذراع ثمانية غروش, ولو كان هذا القماش من أقمشة أوروبا الحريرية ما أمكن مشترى الذراع منه بأقل من عشرين غرشا, ولقماشنا مزية أخرى وهي أنه إذا تلوث بشيء فيمكن غسله وكيه وحينئذ يعود إلى حالته الأولى! فقالت السيدة "ص": لا جرم غير أن أقمشتنا كلها على نسق واحد فلا يمكن تغيير أزيائها.
قلت لها: الإنصاف أيتها السيدة لو كان عندنا للأقمشة الوطنية نصف الرغبة في الأقمشة الإفرنجية لترقت أقمشتنا أيما ترق فعلينا في بادئ الأمر أن نسعى في أن تباع أقمشتنا الحاضرة ليمكن إيجاد ألوان أخرى وأن نهتم بها اهتمامنا بالأقمشة الأوروبية إذ لا يحق لنا أن نقول: إننا طلبنا اللون الفلاني من الأقمشة الوطنية فلم نحصل عليه ومعلوم أن في الوقت الحاضر أخذت تنسج في البلاد المحروسة الشاهانية جميع الأقمشة كالأطلس والخز وغير ذلك وهي أكثر مما يلزمنا, وهذه الأقمشة لها محل من القبول في أوروبا فلا أدري لماذا نحن ننفر منها, أتظنين أن الإفرنج يرضون ويسرون بما نفعله وما نسلكه من طرق التقليد لهم؟ كلا, إنهم يعيبون علينا هذا الأمر ولقد يخجلني ما تقول كثيرات من النساء الإفرنجيات عن ميل الأوروبيين إلى أقمشتنا ونفرتنا منها إذ إن هاته الأقمشة ترسل إلى أوروبا على سبيل الهدايا ونحن لا نكتسي بها على الإطلاق نعم إننا مضطرون إلى الاكتساء ببعض الألبسة الإفرنجية ولكن هاته الألبسة هي كناية عن الفانيلات والجوارب والشيت والباتسته فإن بلادنا خالية منها.
قالت السيدة "ن": أليس عندنا من القماش الكتاني ما يعادل الشيت (بصمه) ؟ فقلت لها: كلا, إن الأقمشة الكتانية لا تغني عن الشيت شيئا, فإن الفقير يمكنه أن يشتري ذراع الشيت بستين باره, ثم يخيطه ثوبا فيلبسه ويغسله وهلم جرا. أما الأقمشة الكتانية فإنها قاسية بحيث إذا غسلت ازدادت خشونة عن الأول, انظري إلى هذا الجمع الحاضر فإنك ترين أن الألبسة الليلية التي نكتسي بها في هذا الوقت كلها من الباتستة ولا يمكن أن نظفر لهذه الغاية بأحسن منها, أما أنت فترجحين الأقمشة الكتانية عليها.
قالت السيدة "ن": كلا, إن ألبستي الليلية كلها من الباتستة ولا أكتسي بقماش آخر على الإطلاق.
قلت لها: إذن يجب على الإنسان في بادئ الأمر أن يهتم بنفسه ثم بغيره وأنا لا أقول أنه يجب أن نحرم أنفسنا من المتاع الإفرنجي تماما ولكن أريد أنه يلزمنا أن نروج بضائعنا ولا ننبذها ظهريا.
قالت السيدة "ن": صدقت, فإن الشيت أفاديا كثيرا واستنفد أموالنا أيضا.
قلت لها: أجل إن الشبت والباتستة تتوارد إلى بلادنا من أوروبا بكثرة لأن الحاجة إليها عمومية ولا شك أنه إذا أردنا أن نحسب الأموال التي تخرج من بلادنا بمقابلة هذه الأقمشة نراها كثيرة جدا وموجبة للحيرة والدهشة.(1/408)
قالت السيدة "ص": إذن عزمت أن اشترى بالخمس عشرة ليرة التي سأنفقها على إصلاح ثوبي للسنة الماضية قماشا وطنيا وأخيطه على الزي.
قالت السيدة "ن": ما المانع من أن تخيطيه على الطرز التركي.
قالت لها: أي طرز تعنين؟ أمثل ثوبك الذي تلبسينه الآن -يعني ثوب الغرفة وثوب الصباح- فإن هذا لما أنه يسمى العلوي أيقال عنه إنه طرز تركي؟ قالت السيدة "ن": إن ثوب الغرفة (روب دي شامير) إنما يكتسى به في الغرف بمعنى أنه لا يمكن الظهور به أمام الناس والقصد منه أن يحصل المرء على راحته, وثوب الصباح يكتسى به لكي يكون الإنسان مرتاحا في وقت الصباح أي إنه بعكس ثوب الغرفة أما نحن فإنه يمكننا أن نلبس أيا شئنا منهما قصد الحصول على الراحة في جميع الأوقات.
فقلت لها: إن السيدة "ص": يميل قلبها إلى الأزياء الإفرنجية فتخيطها كما تريد, وأنت أيتها السيدة تميلين إلى الزي التركي وهكذا تفعلين, أما أنا فلأنني لا أكره الطرزين ترينني أخيطها أحيانا على الزي الإفرنجي وأوقاتاً على الطرز التركي حسب ما تميل إليه نفسي, ولقد قلت: إنه بما أننا لم نخرج عن عاداتنا لذلك لا نعرض أنفسنا للهزء, على أنه متى أردنا أن نكتسي على الطرز الإفرنجي ولا شك أن حريتنا في مسائل الكسوة إنما هي نعمة مخصوصة والخلاصة أقول وأرجو أن لا يصعب عليكما مقالي إنني لا أذهب مذهب إحداكما من جهة التمسك بالتقاليد الإفرنجية ما أقيد نفسي فيها تقييدا, ولا أرد بعض الفوائد التي تشاهد في الألبسة الإفرنجية تعصبا للعادات التركية إذ إنه لا ينكر أن الأزياء قد أتت بفائدة أخصها منع جر الأذيال.
قالت السيدة "ن": إن الأزياء تختلف كثيرا فلا تستقر على حال فيبينا تكون على النسق الفلاني إذ انتقلت إلى طرز آخر وبينا تكون ضيقة على الحقوين إذ تنفرج عنهما وبينا يجب أن تكون بسيطة للغاية إذ تتغير تغيرا مطلقا، ثم ترين أيضا أن زي الأذيال قد عاد تكرارا. فقلت لها: نحن، يجب علينا أن نتبع الأزياء التي تعجبنا ونرضاها فالتي نراها غير ملائمة في ذاك الوقت يلزمنا أن ننبذها ظهريا. وفي تلك الأثناء دخلت علينا سيدة مسنة فقالت: آه من فتيات هذا الزمان أرى أنهن لا يزلن مكتسيات بألبسة النوم حتى أنهن لم يسرحن شعورهن أيضا وا أسفاه عليهن من مسكينات إنني لما كنت مثلكن لم أكن أعرف المحل الذي أطؤه.
فقلت لها: ألم تكوني تفتكرين بأي إنسان؟ قالت العجوز: كلا، يا روحي لا أقصد ذلك مما قلت وإنما قصدت فيما ذكرت مجرد المزاح لا غير ولعمري إنني إلى مثل هذه الساعة لم أكن أقف في محل معلوم بل كنت ألبس ثيابي وأطير ركضا.
قالت السيدة "ص": هل لك أن تنبئينا كيف كانت كسوتك في أيام صباك؟ قالت: عند النهوض من الرقاد كنت أقف أمام المرآة فأربط عصابتي - المسماة (حوطوز) - وألبس ثيابي التي كانت مفتوحة تماما على الصدر.
قالت السيدة "ص": هل كان الثوب المفتوح من الصدر موجودا في ذلك الزمان إذن يفهم مما قلت إن هذا الزي كان هو الزي الدارج في العصر السابق.(1/409)
قالت العجوز: لا جرم فإنه كان من جهة مفتوحا على الصدر، ومن جهة ضيقا كثيرا وا أسفاه عليكن أيتها الفتيات إنكن لم ترين شيئا فأين هذا العصر من عصرنا الماضي.
قلت لها: ألم يكن في عصر صباك عجائز لم يكن يستحسن ذوقك؟ قلت: كيف لا؟ فإن عجائز ذلك العصر لم يكن يرضين ذوقنا وزينا.
قلت: ماذا كن يقلن عنه، وكيف كانت كسوتهن؟ قالت العجوز: إن العصابة المسماة (حوطوز) لم تكن عامة وإنما كان للعجائز عصائب مخصوصة بهن يسمينها (قايق حوطوز) وكانت مؤلفة من سبعة أو ثمانية مناديل يعلوها ثلثمائة إبرة.
قالت السيدة "ص": خطابا إلى السيدة "ن": أيتها السيدة الميالة إلى الأزياء التركية إنك ما دمت شديدة الميل إلى هذه الأزياء فعليك بعمل هاته العصابة لأنها تمثل الأكسام التركية كل التمثيل وإلا فاقصري عن التضجر من الألبسة الغربية كأثواب الصباح والغرفة والجاكتا إلخ.
قالت السيدة "ن": إنني أرى راحة في استعمال الأثواب التركية ولأجل ذلك أكتسي بها وما الفائدة من وضع مثل هذه الأحمال على رأسي.
قالت السيدة "ص": إذن أرجوك أن لا تعترضي على كل الناس لأنه قد تبين لك أن الأزياء تتغير من وقت إلى آخر وأن هاته الحال موجودة عندنا أيضا على أن الفرق بين الزمانين أن الألبسة - في الماضي - كانت تتغير مرة في كل أربعين أو خمسين سنة، أما الآن فإنها تتغير في كل ستة شهور.
فقلت: أجل، إن ذلك تأثير السرعة في أزمنتنا، فإن سكان الدنيا الذين يتقلبون أبدا من حال إلى حال لا يمكن أن تبقى ألبستهم على حال واحدة.
قالت: فإذن صار يجب أن نلبس ثيابنا.
قلت: فليأتوا بألبستك إلى هنا.
وبعد أن قلت ذلك جاءوا إليها بالألبسة فأخذت الجارية تلبسها، وبينما كانت تربط رباطات المشد قالت: آه إنني حتى الآن لم أتعود تحمل هذه المشد فإنه يضايقني ويسلب راحتي، فكيف أعمل لا أدري؟ فقلت لها: لا تلبسيه.
قالت: إذ لم يلبس لا يبقى من كسم للأثواب.
فقلت لها: إلبسيه إذا قالت: أنا لم أقل لك إنه يؤثر على معدتي.
فقلت لها: ماذا أقول يا سيدتي فإما أن تلبسيه أو لا.
قالت: الأمران ممتنعان.
قلت لها: إذا وجدت لهما ثالثاً فافعليه.
قالت السيدة "ن": آه يا عزيزتي إن ثوبي الواسع لا يحملني شيئا من هاته الأثقال.
فقالت السيدة "ص": إنه لا يعرف لك كسم لأنه لا ينظر بل يبقى محجوبا.
فقالت لها: أيحسب ذلك عيبا فإنه إذا كان به قصور فلا يشاهد؟ فقلت للسيدة "ص": ألم تقرئي ما كتبه مدحت أفندي بشأن المشد في كتابه المسمى بالمصاحبات الليلة؟(1/410)
قالت: أمان يا عزيزتي ماذا قال بهذا الشأن؟ فقلت لها: ها هو على مقربة منك فخذيه واقرئي.
قالت: أريني المحل المقصود منه.
فأخذت الكتاب ولما عثرت على الفقرة المتعلقة بالمشد دفعته إلى السيدة "ص": فما أعتمت بعد قراءته أن قالت: يا عزيزتي إن لم يضع له قرارا قطعيا فقد استصوب المرين أي أن يلبس وأن لا يلبس.
فقلت لها: إذا تريدين أن يقول أكثر من ذلك، فإنه وافق على قول الحكماء وعلى قول الخياطين فقد قال مدحت أفندي: إذا شاءت المرأة عمرا عزيزا فلتبسه، وإذا أرادت عمرا لذيذا فعليها أن لا تلبسه، وأنت مخيرة بين المرين وبعد أن انتهت الجارية من تلبيس السيدة وتبكيل الأزرار أخذت ملاقط الشعر لتحميها على النار ثم تعود بها لتصلح شعر سيدتها فقالت السيدة "ص": ما هذا الكسل أيتها السيدات أليس في نيتكن أن تلبسن أثوابكن؟ فقلت لها: لا يجب أن تهتمي بهذا الأمر إنني أستطيع أن ألبس ثيابي قبل أن تنتهي من تزيين شعرك.
فقالت مخاطبة إلى جاريتي اذهبي أنت وألبسي سيدتك ثيابها فإنني أراها لا تحب أن تفعل ذلك من نفسها.
فقالت لها الجارية: إن سيدتي تكتسي بيدها ولا تحب أن ألبسها ثيابها.
قالت: أصحيح أنها متعودة على ذلل؟ لعمري إنها لا تعرف راحتها.
فقلت لها: لا يمكن أن أتصور تعبا يزيد عن الاحتياج إلى شخص آخر في أمر اللبس وكثيرا ما كنت ألاقي من العذاب ألوانا عندما كانت تأتي البنات أحيانا إلي ويطلبن مني أن أسمح لهن في مساعدتي بلبس الثياب، وقد قلت لهن مرارا: إنكن إذا كنتن راغبات في راحتي فدعنني وشأني ولا تتعرضن لمساعدتي، ومذ حينئذ أصبحن لا يتعرضن لي بشيء من ذلك.
قالت: كيف تستطيعين أن تعقدي ربط المشد؟ فقلت لها: عندما ألبسه لأول مرة أضيقه من الوراء إلى درجة اللازمة وأتركه معقودا هكذا فلا يبقى إلا ربطه من جهة الصدر وتزريره، فأفعل ذلك بنفسي خصوصا وأنت تعلمين أنني لا أستعمل المشد يوميا إذ لست بميالة إليه كل الميل ومتى استعملته لأشد كثيرا.
قالت: أنت تسرحين شعرك بنفسك أيضاف أما أنا فإنني منذ صغري كانت مربيتي هي التي تسرحه والآن قد تعلمت هذه الفتاة طريقتها فصارت ترتب شعري أحسن ترتيب.
قلت لها: فإذا لم تكن هذه الفتاة ماذا تفعلين؟ قالت لا جرم، إنني حينئذ ألاقي كثيرا من المشقة لأنني ميالة إلى الترتيب التام، وأولئك البنات لا قدرة لهن على هذا العمل. فقالت جاريتي: إن سيدتي تحسن تنظيف وصف الشعر كل الإحسان حتى إننا عندما نكون متهيآت للذهاب إلى فرح ما تأخذ هي في تسريحنا إذ ترى أننا لم نحسن صنعته.
فقالت: لعمري إن ذلك حسن جدا فإن أمكن رتبي لي شعري إلى أن تكون الفتاة قد انتهت من إحماء الملاقط.
فقلت لها: أتحبين أن أرتبه كما كان مرتبا بالأمس؟(1/411)
قالت: نعم. فبادرت في الحال إلى جمع الشعر وتسريحه ثم قلت: قد تم المقصود يا سيدتي.
قالت: يا عجبا ما هذه العجلة.
فقلت: ماذا يهمك الاستعجال ما عليك إلا أن تنظري إذا كان أتى حسب المرغوب أم لا فأخذت السيدة "ص" شعرها بيدها ونظرت إليه مليا ثم قالت: لا جرم انه في غاية الإتقان.
غير أن زينتها لم تكن قد تمت لأنها كانت تنتظر (الكي بالملاقط) وفي تلك الأثناء دخلت جاريتها الملاقط المحماة فخرجت إلى غرفة ثانية لألبس ثيابي وبعد أن لبستها عدت إلى حيث السيدة "ص" فوجدت أن عملية الكي لم تنته.
فقالت: يا عجبا، أراك قد لبست ثيابك وزينت شعرك في هذه الفترة.
قالت السيدة "ن": لقد رأيت هناك رسما فما هذا الزي؟ فقلت لها: وجدته في غرفة صناديق والدتي فهو رسم إحدى المادامات في الزمن القديم.
قالت: ما هذا الفستان أرى أنه لا فرق بينه وبين المضرب (الخيمة) انظري إلى هذه العصبة وأنت أيتها السيدة "ص" تعالي وشاهدي زي ذاك العصر.
فقالت لها: أتقصدين أن أستعجل ليحترق جبيني.
قالت السيدة "ن": إذا كنت لا أصنع مثل هذا الفستان فإنني أقدر (أن) أصنع نظير عصبتها أنت تزينت بالزي الجديد، وأنا أنيا بالقديم أليس كله يحسب زيا فلا فرق بين أن يكون جديدا أو قديما، ثم قالت لي: يا عزيزتي وصديقتي أيوجد عندك قليل من البطانة السوداء وشيء من القصب؟ فقلت لها: بلا كسل، أتشغلين نفسك بهذا الآن؟
قالت: لا جرم إن الزهور الموجودة في البستان هي مرجحة على الزهور المنتشرة في هذا الرسم لكونها طبيعية فإذا لم يكن ثمة مانع أن أجمع شيئا منها. قالت ذلك وخرجت إلى الجنينة ثم عادت بالزهور التي رغبت فيها فصنعت شيئا مماثلا تماما لشكل العصبة المرسومة في الرسم تعصبت بها، وقد اشتهينا أن أحدا يسمع قهقهتنا إذ ذاك.
فقالت السيدة "ص": عجبا، هل كانت هاته العصبة في زمن عصبة القايق الذي أشارت إليه المربية فإن من تأمل شكلها الغريب أدرك أنهما كانتا متعاصرتين.
قلت: يحتمل ذلك.
وفي تلك الأثناء أطلت إحدى الجواري رأسها من الباب قائلة: لقد جاءت السيدة الكبيرة، أما السيدة "ن" فإنها لم تجد فرصة لرفع العصبة عن رأسها، ولذلك دخلت الخزانة الموجودة في الداخل لتعلق الثياب محتجبة عن أعين والدتي التي دخلت علينا وخاطبتنا بما يأتي: لقد ذهب عني أن أخبركن أيتها الفتيات أنه جاءنا أمس خبر يفيد أنه سيأتينا اليوم زائرتان أجنبيتان وأنهن يرجوننا أن نستقلهن بالأزياء التركية.
وفي ذاك الوقت ظهر وجه السيدة "ن" وكشفت العصبة لأن المومى إليها لم تتمكن من إخفاء نفسها ضمن الخزانة فتمسك بالتعليق ولكن لم يجدها ذلك نفعا حيث فتح باب الخزانة وظهرت العصبة التي كانت تحاول(1/412)
إخفاءها، فأخذنا جميعنا بالقهقهة بحيث اضطرت السيدة "ن" أن تهرب إلى خارج الغرفة، ولما سكنت ضوضاة القهقهة سألتنا الوالدة عن أسبا الضحك فأفهمناها حقيقة الواقعة.
فقالت الوالدة: أسرعن بارتداء ملابسكن فإن السعاة قريبة من الرابعة.
فقلت: يا عجبا، ترى في أية ساعة عزمن على المجيء؟ قالت: لقد أنبأن أنهن يحضرن بعد الظهر على أنهن لم يعين ساعة معلومة.
ثم خرجت ولما كانت السيدة "ن" تحب الاكتساء بألبسة تركية لم تكن معرضة للنقلة وقد قضت الضرورة أن أحضر رداء للسيدة "ص" فأحضرت ثوبين من الأثواب التركية أحدهما للسيدة "ص" والآخر لي. وبعد أن ارتدينا بهما وضعت كل منا على رأسها عصبة مزينة بالأزهار المماثلة للون الأثواب مما كنت صنعتها بيدي، ولما مررنا من أمام المرآة رأيت أن زينة السيدة "ص" تفوق زينتنا حسنا وجمالا، وقد اعترفت لها بذلك لأن المشد الذي كانت تلبسه قد زاد بحسن كسمها فظهرت بمظهر لا يكون إلا بمن يستعملن المشدات، وقد تبين لي أن المشد يجعل انتظاما كليا للألبسة التركية أكثر منه للألبسة الإفرنجية، كما أن وضع الزهار في مفرق الشعر مما يزيد الوجه رونقا ولطافة.
فقالت السيدة "ص" إذا كان أعجبك هذا المظهر فعليك أن تفرقي شعرك كشعري وأن تلبسي المشد فقلت لها: نعم، إنني سألبس المشد ولكن فرق الشعر يستغرق وقتاً طويلاً، ولقد آن وقت مناولة الطعام وكما كنا لا نعمل الساعة التي يأتي بها القادمات إلينا أرى من المناسب أن نكون على استعداد لاستقبالهن.
وبعد عشر دقائق كنا جميعا على قدم الاستعداد، فدعونا إلى المائدة وبعد الطعام عدنا إلى غرفتنا.
فقالت السيدة "ص": إن الظلم الذي تلاقيه من زوجها قد سلب راحتها ومنعها من الخروج.
قالت السيدة "ن": من العبث أن يعيشا معا على أنهما إذا افترقا زالت تلك الصعوبة في الحياة وكثرا ما قالت السيدة "ق": إنني لا أريدك فلنفترق، أما هو فقد كان له عن قولها إذن صماء.
قلت: ما هي أسباب عدم راحتها؟ قالت السيدة "ص": إن الرجل سيء الأخلاق وهو لأقل سبب يضربها وهي كثيرا ما قالت له أن يتركها لأنها لم تعد تتحمل معاملته وهو كان يقول لها إنه يموت ولا يتركها.
قالت: فإذا هو يحبها؟ قالت السيدة "ص": ليتها لم تكن هذه المحبة.
قالت السيدة "ن": إن الرجل لا خلاق له فإنه لا فقط يعامل امرأته هذه المعاملة بل هو كذلك مع الخادم والخادمة ولا قبل له على نبذ هذه الأخلاق السيئة ولا على ترك امرأته.
قالت السيدة "ص": إن زوجته لا تقبله فهل تجبر على البقاء معه.
قالت السيدة "ن": أجل إنها في اليوم الماضي كانت تقول: إنه من نفسه لا يريد أن يتركها وإنها ستضطر في آخر المر إلى مراجعة المحكمة.
قالت لها: إن الطلاق إنما هو راجع لإرادة الرجال لا غير فإذا قصدوا أن يطلقوا نساءهم أمكن لهم ذلك(1/413)
بكلمة واحدة، أما المرأة فإذا كانت راغبة في الطلاق تضطر إلى مراجعة المحكمة، ثم قالت لي: وأنت كنت تقولين منذ مدة أن الأمر مشكل عن المسيحيين فإنهم لا يستطيعون أن ينفصلوا عن بعضهم بعد الزواج وإنما يجبر الرجل أو المرأة - أي منها كان سيء الأخلاق - أن يصرف عمره بالنكد والكرب بعد جواز الطلاق وإننا نحن أحسن حالا لوجود الطلاق عندنا فانظري لنا وسيلة للطلاق؟ فقلت لها: كيف ترغبين أن يكون؟ قالت: أرغب أن يكون في الأمر مساواة بين الرجل والمرأة بمعنى أن النساء يكن كالرجال قادرات أن يطلقن رجالهن بنفس السهولة الموجودة عند الرجال.
قالت: ماذا تقصدين بذلك؟ قلت: إن المرأة متى لبست ثوبا أزرق تطلق من زوجها والسلام.
قالت السيدة "ن": أتقولين حقيقة أم أنت راغبة في المزاح؟ قلت لها: إذا كنت ترتابين في قولي اذهبي إلى إنطاكية وتتأكدي ما قلت.
قالت السيدة "ص": وضحي أكثر من ذلك وزيديني معرفة.
قلت: إن المرأة في إنطاكية عند زفافها تأخذ معها ثوبا أزرق ففي أي وقت أرادت ترك زوجها تلبس الثوب الأزرق وحينئذ يعتقد بأنها صارت مطلقة، وهذه الحال معتبرة في عرف البلدة أيضا.
وأما المرأة الفقيرة التيب لا تملك ثوبا أزرق فإنها تستعيره من امرأة أخرى وتلبسه، ومتى انتهت من غرضها تعيده إلى صاحبته.
قالت السيدة "ن": كيف يمكنهم توفيق هذا الأمر على الأحكام الشرعية؟ فقتل: ألم تكن المسألة الشرط موجودة شرعا فالظاهر أنهم حين الزواج يتزوجون بهذا الشرط فيعتقدون مقاولة من مقتضاها أن المرأة تطلق متى لبست ثوبا أزرق.
قالت: الذي اعلمه أن النساء يشترطن على رجالهن المر الذي يرغبنه فإذا فعلوه أصبحن طالقات منهم على أنني ما كنت سمعت بما تقولين الآن؟ فقلت: يفهم من ذلك أن نساء إنطاكية أعقل منا كثيرا فإنهن متى تزوجن يضعن شروطا ويتزوجن بموجبها وليس ذلك منحصرا بنساء إنطاكية فقط وإنما في عشيرة (عنزة) عادة مألوفة وهي أن يربط سجف في المضارب ويبقى مربوطا على الاستمرار فإذا كانت المرأة راغبة في ترك زوجها حلت رباط السجف وفي ذلك إشارة إلى أنها أصبحت طالقة منه ولعشيرة التركمان - المسماة (تحبر لي) - عادة أخرى من هذا القبيل وذلك أن المرأة متى أرسلت سفيرا إلى زوجها تخبره بواسطته أنها نفرت منه فحينئذ تصير طالقة وكل ذلك موقوف على الشرط.
قالت السيدة "ص": لعمري إنهم عند النكاح عندنا لو وضعوا شرطا بثوب وردي أو أفلاطوني لكان ذلك حسنا جدا.
فقلت: لو وضعوا عندنا مثل ذلك من يعلم عدد الرجال الذين كنا نطلقهم فيكل شهر؟ قلت: لأي سبب، أليس عندنا عقل يوازي عقل نساء إنطاكية ونساء العشيرة؟ قلت: إن الأشياء التي تولد عندنا الأسباب كثيرة إذ من المعلوم أن نساء الخارج متى شبعت بطونهن ولبسن(1/414)
ثوبا ما لم تبق لهن حاجة من الحاجات وليس عندهن ما عندنا من ضروب النزهة والترف حتى تأخذن الحدة من أزواجهن إذا منعوهن عن الذهاب إلى الحدائق والمنتديات.
قالت: ما معنى هذا الكلام إن أكثر رجال الخارج والعشائر يتزوجون عدة نساء فهل من سبب يبعث على الحدة والكدر أكثر من هذا السبب؟ فقلت: إنهن يكن مسرورات من الضرائر وهن اللاتي يرغبن في تزويج رجالهن حتى تبلغ أزواجهم أربعا لأنه كلما كثرت الضرائر قلت عنهن الخدمة، فإذا أخذ الرجل على زوجته امرأة ثانية خفت عنها نصف الخدمة فإذا اقترن بثالثة كانت مطالبة بالثلث، وإذا أخذ الرابعة هبطت خدمتها إلى الربع، وهؤلاء النساء المسكينات يرغبن في تخفيض خدمتهن إلى الخمس لو كان ذلك بالإمكان، ولكن الشريعة لا تأذن بأكثر من أربع.
قالت: إن ذلك للعجب لأجل الخدمة يقبلن الضرائر.
قلت: أيتها السيدة أعندك نظيرهن حيوانات وبهائم وجمال ومعاول لنقب الأرض؟ وهل تضطرين إلى تحميلها الأخشاب والأعشاب؟ أذهب عنك كيف نستثقل عقص الشعر وتسريحه وإنا مفتقرات إلى أن نستمد المعونة والمساعدة من الجواري؟ قالت: أنا لا أريد هذه الخدمة التي يتحملنها ولا الضرائر أيضا وإنما يعجبني من عادتهن مسألة الثوب الأزرق قالت السيدة "ن": لننظر فيما إذا كان ذلك حسنا هنا وإلا فإنه كما قالت رفيقتنا إذا لبس النساء ثوبهن أبصرن إلى حالة الرجل غير المتأهل.
قلت: إنني أنقل لكن فقرة تكون مثالا لما نحن بصدده فقد اتفق أن امرأة كانت في أثناء بحثها مع زوجها عن محبتها له تقول دائما: (آه يا سيدي إنني أسأل الله أن يقبض روحي بين يديك فإنني أفضل الموت على الانفصال عنك) . وكان الرجل نبيها واقفا على أسرار العالم. أما المرأة فقد كانت جاهلة بالقراءة والكتابة لا تعلم شيئا من أحوال الدنيا، ففي ذات يوم جاء الرجل إلى بيته وكان مغموما جدا بحيث إنه كان لا يقوى على فتح فيه والتلفظ بكلمة من الكلمات فزوجته حملت ذلك على انحراف في صحته، وأخذت تسأله عن سبب كدره.
أما هو فأجابها إنه لم يكن منحرف الصحة وإنما طرأ عليه حادث عظيم كدره جدا وان هذا الحادث مهم إلى حد أنه لا يقوى على بيانه، وبعد إلحاح كلي من المرأة عقبه سكوت طويل من الرجل قال لها (أخيرا) : آه يا زوجتي المحبوبة أنت تعلمين أنه لحد الآن كان الرجال يطلقون نساءهم ولكن وضعت الآن أصول جديدة من مقتضاها أنه يجوز من الآن فصاعدا للنساء أن يطلقن رجالهن فأنت لا تنكرين علي محبتي لك وتعلمين أنه لما كان عدم الانفصال عنك متعلقا بي دون غيري لم يكن لي أقل هم وكدر من هذا القبيل، أما الآن فإنني أفتكر ماذا يحل بي من القهر والنكد لو قصدت أن تطلقيني) . فأجابته هي قائلة: أقلع عن هذا الفكر ولا تهتم به فأنا لا أتركك ولا أطلقك بالكلية) .
وبعد أن مر على ذلك نصف ساعة طلب الرجل منها شربة ماء فالتفتت إليه قائلة: (عفوا أنا لست بقائمة فقم أنت واشرب) ، فأجابها الرجل بقوله: (يا عزيزتي، هل من العدل أن أقوم أنا وأنت لا تقومين إنني أشتغل من الصبح إلى المساء لأجل القيام بحاجتك رغائبك، والله يعلم ما ألاقي من المتاعب حتى إذا أتيت إلى البيت بعد تلك المشقات ألا يلزم أن أرتاح فيه قليلا) أما هي فأجابته قائلة: (إن رجليك غير مكسورتين، فقم(1/415)
واشرب) . وفي خلال هذه المحاورة بينهما غلبت الحدة على المرأة فقالت له: (لا تزدني فوق طاقتي فإنني أسمعك من فمي ما لا تحب) .
قالت السيدة "ص": إن هاته الأمثلة قد وضعت بقصد المزاح بين الرجال والنساء وإنني أتأسف على كلامك الذي قلته.
فقلت لها: أنا لم أر وما رويتك حقيقة وإنما نقلته من الفكاهة ولكنه مثل ما جرى بالنقل ومع ذلك فإنه لا يسعنا أن ننكر أن النساء هن أقل صبرا وجلدا من الرجال.
قالت: لماذا إنه ليوجد بين النساء من هن أكثر عقلا وأشد صبرا من الرجال، كما ان كثيرا من الرجال هم أدنى معرفة واقل جلدا وأعظم جهلا من النساء.
قلت: نعم، لا أنكر صواب القول ولكن ذلك من قبيل الاستثناء أيتها الصديقة والاعتبار في كل شيء للأكثرية وهكذا تصدر الأحكام حتى إن الأوروبيين الذين يطلقون عنان الحرية لنسائهم لما أنهم يعلمون أن النساء أدنى معرفة من الرجال يسلمون المهر الذي يخصصونه كثمن جهاز لبناتهم إلى الرجال ولا يبقونه بأيدي النساء قالت: وهذا لا أريده بأن أرى أموالي بيد زوجي.
قلت: حيث إن الرجال يستطيعون أن يحسنوا إدارتها جرت العادة عندهم أن يسلموها لهم.
قالت: فإذا خطر للرجل ابتلاع أموال زوجته مع أهوائه واسترسالا إلى إهانتها واحتقار لها؟ قلت: هذا محول علي طالعها.
قالت: كلا، أنا لا أمكنه أن يخونني بواسطة دراهمي.
قلت: ماذا تعملين؟ قالت: إنني أطلقه من تلك الساعة.
قلت: إن الطلاق عندهم لفي غاية الأشكال، والطلاق لأجل بلع أموال المرأة إنما هو في عداد المستحيلات وأما عندنا فلا حاجة أن نتحمل مشقة الطلاق لأجل ذلك لأن أموال المرأة لا تدخل تحت حكم الرجل حتى يتمكن من هضمها.
وحينئذ سمعنا صوتا يشير أن إحدى السفن تتقرب من الشاطئ، فانصرف ذهننا إلى أن الضيوف قادمون عليها، فنهضنا ووقفنا على النافذة المطلة على الساحل، فرأينا في جملة الخارجين منها ثلاث نساء مرتديات بألبسة جميلة.
قالت السيدة "ص": انظري إلى هاته المدام البيضاء وتأملي في حسن ألبستها البسيطة.
قلت: لعلهن من ضيفاتنا.
قالت: ولكن أراهن قد تجاوزن الباب.
قالت السيدة "ن": ربما أنهن يأتين إلينا من باب المنزل انظري الرجل الذي يصحبهن وهذا طبيعي لأنهن لا يحضرن منفردات. قالت السيدة "ص": أنعم ها قد دخلن من باب المنزل ولعمري إنهن جميلات وألبستهن من آخر زي فكيف تحبين أن تدخليني عليهن بألبستي الحاضرة لا جرم أنهن يحسبننا لا ندرك (شيئا) فلا أحب أن أظهر أمامهن بألبسة بسيطة في حين إنهن مكتسيات بألطف كسوة، ولو عرفت أن الأمر سيكون كذلك للبست(1/416)
أحسن الأثواب وأكملها فتفضلي يا عزيزتي بإعطائي ثوبا من الأثواب الإفرنجية الجميلة لأرتديه وأظهر به أمامهن.
قلت لها: يا عزيزتي، هل من الممكن أن تحضر خياطة لتخيط لنا أثوابا موافقة؟ نعم إن ثوبي التركي قد جاء ملائما لك من حيث إنه مفتوح الصدر ولكن مشدي لا يمكن أن يلائم كسمك وأنت تعلمين أنه لو وجد قماش من لونه وأحضرنا خياطة مخصوصة لتخيطه على طريقته موافقا لك من آخر زي للزم لأجل ذلك نهارا كامل، فهل نؤجل مقابلة ضيفاتنا إلى غدا؟ قالت لعمري، إنني أخجل من الظهور أمامهن في حالتي الحاضرة. قالت السيدة "ن": يا عزيزتي، يمكن أن تحتجبي فلا تظهري أمامهن.
قالت: ما شاء الله، كيف يمكن ذلك وأنا راغبة فيا لتفرج عليهن وعلى ألبستهن الجميلة؟ قالت: (أيتها السيدات، إن المدامات القادمات إلينا لو لم يكن عارفات بأن لنا ألبسة إفرنجية ما كن طلبن منا أن نكتسي بألبسة تركية، ومن المعلوم أنه يجب علينا أن نخدم ذوق ورغبة الضيف أكثر من ذوقنا ورغائبنا.
وبينما كنا نهزل ونهذر على هذا الوجه كانت المدامات دخلن إلى القاعة فنهضنا لاستقبالهن وبعد أن حيياهن جلسنا إلى مقربة منهن، وقد تبين لنا من منظرهن أن إحداهن ذات بعل وتبلغ السابعة والعشرين أو الثامنة والعشرين من سني العمر، ممشوقة القوام طويلته، حسنة الكسم، زرقاء العينين، شقراء الشعر، بيضاء البشرة، جميلة الجملة. والثانية: ذات خدر في التاسعة عشر أو العشرين من العمر وكانت هاتان الصبيتان شقيقتين، والشقيقة الثانية معادلة للأولى بحسنها ولطفها ومع أن الجمال واحد لا أكثر غير أن أنواعه متعددة جدا إلى حد أن ما يراه هذا جميلا يراه ذلك بالعكس، بمعنى أن الأميال مختلفة في الناس لا يمكن أن تتفق على وجه واحد، وذلك مما يمنعنا من البحث في أسرار الطبيعة. ألا ترى أن فلانا يستحسن الحاجب الأسود والعين السوداء، وفلانا يميل إلى الشعر الأشقر والعين الزرقاء، وفلانا يقف بين الذوقين فيعجبه الحد الوسط من النوعين والبعض لا يرى جميلا في غير السمينات، والآخر يحسب الجمال في الرفيعات الهزيلات. وكثيرا ما نسمع قول فلان عندما يرى سمن: آه لو كانت أقل سمنا مما هي عليه الآن. وقول الآخر عن الهزيلة: لو كانت أثر سمنا لبلغت أقصى درجات الجمال.
لا جرم أن القول هذه وعدم جمال تلك بالنظر إلى الأمزجة والأذواق ليس من الإنصاف في شيء. نعم، إن كلا من الناس مخير في ميله ورغبته له أن يستحسن ما يستقبحه الآخر وبالعكس، غير أنه لا يناسب أن يقال: هذا جميل، وذلك غير جميل بالنسبة إلى الميال والأذواق لأن الحق سبحانه وتعالى قد برأ أهل الجمال على ألوان وأشكال شتى فإغماض العين عن قدرته وحكمته غير موافق للحقانية.
وقد كانت الصغيرة جميلة الصورة إلا أن جمالها يختلف عن جمال الكبرى ومع أنها أقصر من شقيقتها بأصبعين غير أن هيف قامتها ووجود الأولى أكثر سمنا منها يظهر للعين أنهما متساوين قدا. وهي أن الصغيرة ذات عينين زرقاوين مائلتين إلى الاخضرار وأهدابهما طويلة سوداء، وحاجباها معتدلان في الوضع والرسم متوسطان بين القصر والطول، وشعرهما أسود وشعر رأسها أكلف (كستنائي) وهي بيضاء اللون كشقيقتها غيران الفرق بين بيضاء الاثنتين إن بياض الكبرى مشرب بلون أحمر على حين أن بياض الصغرى كان ناصعا شفافا.
وكان جمال الكبرى لأول نظرة بالعين الناظرة. أما الثانية فكانت على حد قول الشاعر:(1/417)
يزيدك وجهه حسنا ... إذا ما زدته نظرا
والمباينة الموجودة بينهما في الهيئة من حيث إن الأولى: كانت شقراء الجملة، والثانية: سوداء شعر الحاجبين والهدبين زرقاء العنين كستنائية الشعر على كونهما شقيقتين لا تقد غريبة في بابها لأن الأولاد الذين يأتون من آباء شقر وأمهات شقر تكون هيآتهم كهيآت آبائهم وأمهاتهم، وهكذا الذين يكونون من أب أشقر ووالدة سوداء العنين والحاجبين، والشعر وبالعكس فإن بعضهم يشبه الأب والبعض الآخر يشبه الأم كما حصل في هيئة ذات الخدر المختلفة عن هيئة شققتها.
ولما زايلنا ظهر السفينة رفعتا عنهما ثوب الزيارة الذي كنا نظرناه عليهما فتبدت للعين ألبستهما التي كانت مستورة بالثوب المذكور، وكانت جميلة جدا، وكانت ذات الخدر تلبس ثيابا حريرية بيضاء وقماشها بسيط للغاية، والثانية لابسة ثوبا يضرب إلى لون الفضة ظريفا وبسيطا أيضا.
فلنأت الآن على وصف الضيفة الثالثة التي عرفنا أنها ذات خدر أيضا وهي كانت حسنة في وقتها أما الآن فإنها تبلغ نحو الخمسين من سني الحياة ومع أن محياها وجسمها قد أقالهما العمر من عذاب الزي والزينة إلا أنها كانت تحملها هذه المشقة، فقد كانت ألبستها وشعرها الممزوج بياضا في غاية الترتيب ومنتهى الانتظام.
وقد كنا في القاعة مع الضيفان والوالدة وسائر أفراد العائلة فعرفتهن بالوالدة وتبادلن معها رسم السلام بالإشارة وقد فهمنا أن ذات الخدر المسنة تكون خالة الصبيتين الشقيقتين.
وكانت السيدة "ص" تشارك هذه العاجزة في الترجمة باللغة الفرنسية فأخبرتنا الضيفات أنه لم يمر على مجيئهن إلى الأستانة إلا ثلاثة أيام، صرفن اليوم الأول في الراحة من عناء السفر، واليوم الثاني في قبول زيارة أقربائهن وأحبائهن الساكنين في دار السعادة، واليوم في التفرج على أسواق (بك أوغلي) ومخازنها بحيث اتضح لنا من إفادتهن أنهن كن ينظرن إلينا كأنهن من عالم الترك ونسائهم.
وفي خلال ذلك أخذت الشقيات تتكلمان معا باللغة الإنكليزية.
فقلت خطابا للسيدة "ص" إليك لقد تم الأمر فإنهما سيتكلمان باللسان الإنكليزي بمعزل عنا ولذلك يلزم أن لا تجعلي لهما سبيلا يدركان أنك تفهمين اللسان المذكور.
قالت: كلا، لا أتركهما يفهمان ولكن أرى أنهما ينما هما يتكلمان بالإنكليزية فخالتهما ملتزمة جانب الصمت فالظاهر أنها لا تعرف اللسان المذكور.
فقلت لها: ماذا تقولان؟ قالت السيدة "ص": إنهما قالتا إننا نعرف المعاملة الحسنة آه يا عزيزتي أمل أقل لك إنه يجب أن نلبس من آخر زي ثم نظهر أمامهن فلا نشك أنهن سيحسبننا جاهلات لا ندرك شيئا.
وفي خلال ذلك التفتت إلينا ذات البعل قائلة: إننا كنا رجوناكن أن تكتسين ألبسة تركية فهل كان ثمة مانع لو أنكن قبلتن رجاءنا؟ فحينئذ التفتت إلي "ص" قائلة بحيرة واستغراب: (يا عجبا أيوجد أكثر من هذه الألبسة ألبسة تركية؟) . وكادت تصرح عن فكرها وتلفظ هذه الكلمات بالإنكليزية إلا أنها لما كانت على مقربة مني وكان كلامها همسا وقد فطنت إلى الزائرات اجتهدت في تحويل الكلام إلى الفرنسية، ثم مزجته بالتركية فصار كلامها مركبا(1/418)
من ثلاث لغات بحيث لا يمكن لأحد أن يفهمه وعلى ذلك لم يشعر الزائرات بأن أحدا منا يعرف اللسان الإنكليزي، وكان هو المطلوب.
فقلت: إن ألبستنا وأكسامنا هي تركية محضة.
قالت ذات البعل: لا يا عزيزتي ليست هي الأكسام التركية فننا نرغب في مشاهدة الأكسام المذكورة.
قالت السيدة "ص": كيف تكون الألبسة التركية تشيرين إلهيا.
قالت: ألا يوجد أثواب مذهبة؟ قلت إلى (ن خانم) : اذهبي يا صديقتي والبسي ثوبي المقصب الذي أعجبك منذ برهة وتعالي به، ثم التفت إلى ذات البعل وقلت: إن السيدة ستلبس الثوب المذهب وتأتي به على الفور.
قالت ذات البعل: أشكركن كل الشكر ولعمري إنكن عنوان الرقة.
وما مر على ذلك غير برهة قصيرة حتى دخلت (ن خانم) مكتسية بثوبي المذهب غير ان زائراتنا لم يكن مطمئنات تمام الاطمئنان.
قالت ذات البعل: لا ليس مقصدنا هذا وإننا نحن راغبات في الأكسام التركية الصرفة.
قالت ذات الخدر: نعم، الزي التركي ما أجمله.
فقتل: أيمكنكما أن تفهمانا ما هي الأكسام التركية التي ترغبانها وقد أعجبتكما وكيف يكون شكلها.
قالت ذات البعل: إنها جاكيته (نوع ملبوس يصل للحزام فقط) قصيرة مطرزة بالذهب، وقميص رفيع وشروال مقصب.
فقلت لها: ا؟ لآن ترين هذا الزي.
قالت السيدة "ص": ماذا تقولين من أين يمكنك إيجاد هذا الزي والظهور به.
قلت: الآن تنظرين.
وحينئذ نهضت فأحضرت مجموعة الرسوم وقد كنت شاهدت في الطريق امرأة مكتسبة بصدرة مطرزة بالذهب وشروال مقصب فأخذت رسمها وقد فتحت المجموعة وعرضت على الزائرات الرسم المذكور. وقلت: أهذا الزي الذي تطلبينه؟ فأجاب الزائرات الثلاث بصوت واحد: نعم، نعم هذا هو بعينه وكنا نود أن نراكن وأنتن مكتسيات بمثل هذا الزي.
قلت: أين رأيتن النساء اللاتي يلبسن هذه الأزياء؟ قالت ذات البعل: لم نشاهد المكتسيات به عيانا وإنما رأين رسمهن في باريز.
قلت لها: ففي مثل هذه الحال لا يمكنك هنا أيضا أن تشاهدي أكثر من ذلك.
قالت ذات البعل: لماذا لم يبق بين النساء التركيات من يكتسين بهذا الزي؟ فقلت لها: كلا.
قالت ذات الخدر: وا أسفاه إنه لزي جميل للغاية فإذا لا يتسنى لنا أن تشاهد في دار السعادة من ربات هذا الزي.
فقلت لها: لا يمكن أن تشاهدن إلا مثل هذا الرسم.
قالت الخالة: من هي صاحبة هذا الرسم؟ فقلت: لا أدري لقد رأيتها في الطريق فأخذت رسمها.(1/419)
فقالت ذات البعل: كأنما هي من ممثلات الروايات.
فقالت الخالة: لا جرم إنها كما أشرت.
فقلت: إن ممثلات الروايات عندنا جميعهن مسيحيات ففي مثل هذه الحال لا تكون هذه المرأة تركية وهي امرأة مسيحية. قالت ذات البعل: إننا في باريز ننظر إلى مثل هذه الرسوم كأنما هي من رسوم السيدات التركيات وندقق كثيرا في زينتهن ووجوههن فإذا يفهم من ذلك أن الزينة ليست بزينة التركية وذوات هاته الأزياء لسن من السيدات التركيات.
قلت: أجل، فكما أنه يمكن لأي الناس أن يرتسم بالزي الذي يرغب فيه هكذا أيضا بعض النساء المسيحيات يرتسمن بمثل هذه الأزياء غير أنني لا أدري ما هو الزي الذي يلبسنه لأنه على نحو ما تشاهدن في هذا الرسم ترين على رأس صاحبته كفية من صنع البلاد العربية وعلى عاتقها صدرة من صدرات نساء الأرناوط وفي رجليها شروال والكرسي المنزل بالصدف الذي على قرب منها إنما هو من صنع الشام والفنجان الموضوع عليه من متاع الهند والنارجيلة التي في يدها لا أعرف حقيقة من استعمال نساء أية ملة من الملل أما شعرها فإنه مقصوص على الزي الإفرنجي، وقد قص من أسفل على النسق الأوروبي فإذا أمعنت النظرية حققت ذلك.
قالت ذات البعل: لا جرم أنه على الزي الإفرنجي تماما فإذا كان هذا الزي لم يمكن من الأزياء التركية كذلك لم يكن هو زيا منه آخر فليس إلا زيا قد ركب عن عدة أزياء.
ثم جاءوا إلينا بصينية القهوة على العادة التركية وقد وضع الإبريق في السلسة (أو السنبل) أو العازقي باللغة المصرية وهي مغطاة بمنديل فأعجب المسافرات بها كل الإعجاب وساتأذننا في معاينة كل قطعة منها على حدة وقد استحسن غطاء الصينية لنه كان مزركشا بالذهب وسألننا عن المحل الذي يباع به أباريق القهوة الفضية فهديتهن إلى سوق الصاغة، ثم بين لنا رغبتهن في مشترى الأقمشة التركية وطلبن إلينا أن نعرفهن عن الموضع إلي يباع به أحسنها فعرفتهن أن أقمشتنا متنوعة جدا وأوصيتهن أن يشترين من أقمشة بورسة أو الأقمشة العربية، وقد صرفنا في هذا الحديث قسما من الوقت، وبعد ذلك فهمنا أن الشقيقتين هما بنتا تاجر كثير الثروة، وأن أمهما وأباهما في باريز، وأن الأخت الكبيرة متأهلة من خمس سنوات، وأن زوجها أيضا من مسلك والدها، وأن خالتها تسكن مع والديهما، وأن ذات البعل تقيم في بيت زوجها.
قالت السيد "ص" إلى الخالة: لماذا أنت لم تتأهلي؟ قالت: هكذا كان نصيبي.
فقالت لها: أأنت لم ترغبي في الزواج؟ قالت: إن الزواج عندنا لا يخلو من الصعوبة.
فقالت لها: لأي سبب؟ قالت: لمسألة المهر (الدوتة) ؟(1/420)
فقالت: ولكن أليس إن عدم الحصول على زوج بلا مهر إنما هو مخصوص بغير الجميلات فإننا نستمع أن المجيلات يتزوجن بلا مهر.
قالت: نعم، يتفق مثل ذلك ولكن غير الجميلات ذوات المهر كثيرا ما كن سببا في حرمان الجميلات اللاتي لا مهر لهن من الزواج لأنه لا تبقى واحدة منهن بلا زوج على حين إنه ينذر وجود من يقترن بالجميلات الخاليات من المهر.
فقالت لها: ألم تقترن شقيقتك.
قالت ذات البعل: إن والدي أخذ والدتي عن حب ولقد كان يهوى أن يقترن بها ولو لم يكن لها مهر غير أن جدي دفع المهر بإرادته وبعد تأهل والدتي بست أو بسبع سنوات أفلس جدي وكانت خالتي فتاة في ذات الوقت.
قالت السيدة "ص": وبعد ذلك ألم يتفق لها راغب على الإطلاق. قالت الخالة: نعم، تيسر ذلك وليس فقط أنه رغب في الاقتران بي وإنما حصل بيننا حب.
فقالت السيدة "ص": ففي هذه الحالة لم يبق حكم لمسألة المهر ولماذا لم تقترني به؟ قالت لها: إنني أنقل إليك المسألة من أولها فأقول بعد إفلاس والدي كنت قطعت أملي من الزواج على الإطلاق، ثم اتفق لي أن صادفت شابا غنيا بالمال والتهذيب والمعرفة محبا للعمل، موافقا من سائر وجوهه قد اكتسب ثروة بكده واجتهاده، فوقع في قلب كل منا حب الآخر وهو الحب الظاهر الذي يتم به الزواج، ولما كنت خالية من المهر اجتهدت كثيرا أن أتغلب على حبي وانبذه ظهريا إلا أن ما رأيته فيه من الميل القلبي إلى الزواج قد ولد في الجراءة على توطيد الآمال، وتقررت المسألة بيننا قطعيا، كما أن والدي قد قبل بكمال الامتنان حسن نية هذا الشاب الذي سيقبلني على علاني خالية الوفاض من المال وثروته كافية لأن أعيش فيها بكمال الراحة ولهناء، وكنا إلى ذاك الوقت نعرف هذا الرجل أنه ينتسب إلى إحدى العائلات من الإيالات فلما حان الزمن الذي سيتقرر به زواجنا نهائيا اجتمع به والدي اجتماعا طويلا، وتحادثا مليا، وطلب منه إيضاحات عن أحواله وعن عائلته، ففهم حينئذ أنه لا ينتسب إلى عائلة معلومة وإنما هو من الأولاد الطبيعيين (المنبوذين) .
قالت السيدة "ص": وا أسفاه ما أصعب ذلك إذا وجد الحب.
قالت لها: نعم، إنني كنت أحبه ولكن أيبقى موجب بعد ذلك لهذه المحبة إن معرفتي كونه ولدا منبوذا كافية لأن تبعثني على النفرة منه ولا يلزم الحب أكثر من هذا النفور.
قلت لها: وهل أمكن له أن يتناسى ذاك بمثل هذه السهولة؟ قالت: كلا إنه تأسف أسفا لا مزيد عليه، وأصر كثيرا على الفرار بي إلى بلد آخر حيث يقترن بي قائلا لي أنه لا يتركني أن أفتقر إلى أي كان مادامت عائلتي لا تقبله، أما أنا فكيف يمكنني أن أرضاه فإنني إذا لم أفتكر بنفسي فيجب أن أفتكر بأولادي لأنن من حيث وضعتهم في هذا العالم من أب منبوذ (نفل) سأبقى مخجولة أمامهم طول العمر، وعندما افتكرت بأنني سأترك اسم عائلتي للانضمام إلى رجل لا تعرف له عائلة ولا اسم لكي افتخر بالانتساب إليه رددته خائبا وأخبرته إنني لن أقترن به وأنني صممت على أن لا أكلم رجلا، فلست بمكلمته على الإطلاق.(1/421)
قالت السيدة "ص": هل تزوج هذا المنكود الحظ بعد ذلك بسواك؟ قالت: لم اعد أره بعد هاته الحادثة لأنه زايل بايز قاصدا وجهة أخرى، ولا أدري ما الذي جرى به أما أنا فحيث لم يكن عندي مهر (دوته) لم يتقدم لي طالب آخر، وبعد، فأنبئني أنت ألا يوجد عندكم بنات متقدمات في السن بلا زواج.
قالت لها: لو دفع مليون من الدراهم لما وجد واحدة على الإطلاق فإن القبيحات والفقيرات لا يكن قواعد في البيوت.
قالت ذات البعل: إنه يوجد عندكن مسألة لا تخلو من الإشكال ألا وهي أن الرجال يستخدمون النساء كالجواري.
قلت: إن إدارة البيت والإنفاق على الزوجات عندنا إنما هو من وظائف الرجال والنساء مهما كن مثريات فلسن مطالبات بالإنفاق على البيت، أما الرجل المقتدر فإنه يستخدم في يته خادمة وطباخة وإذا لم تتجاوز مقدرته حد الخدمة نفسه فزوجته مروءة تقوم بخدمة البيت وإلا فإن الرجل لا يستطيع أن يجبرها شرعا بذلك، فقد اتفق في أيام خلافة عمر خارجا من حرمه الأصحاب الكرام جاء إلى دار الخلافة متظلما مشتكيا من زوجته فنظر عمر خارجا من حرمه وهو يتكلم بحدة فقال له: (أي شيء حدث يا أمير المؤمنين) فأجابه عمر بقوله: (إن حال النساء معلوم لا يحتاج إلى إيضاح فزوجتي قد سببت لي هذه الحدة. وأنت ما الذي جاء بك إلى هنا. فأجابه: إنني لأشكو إليك زوجتي أما وقد رأيتك على مثل هذه الحال فلا أرى محلا للشكوى) فقال له عمر: صه لا يجب أن نرفع صوتنا فإن نساءنا يقمن بإدارة بيوتنا مع أن ذلك خارج عن وظيفتهن ويرضعن أولادنا ولسن مكلفات به فإذا أظهرنا هذه المسائل ينتج عنها ضرر لنا) . فمن هذه القصة يتضح لك جليا أن النساء غير مطالبات ولا مكلفات شرعا بالخدمة.
قالت ذات البعل: أحسنت وإنني منك سؤالا من عاداتكم أن الأزواج عندما يدخلون على زوجاتهم في غرفتهن ينظرون من داخل باب الغرفة فإذا رأى الزوج أن زوجته وضعت خفها أمام الباب يدخل إلى الداخل حسبان أن ذلك إشارة على السما له بالدخول، وإن لم ينظر الخف فيعود من حيث أتى.
قالت السيدة "ص": باللغة التركية أحسنت أن يكون ذلك من الغلط المأخوذ عن الفرجية الزرقاء قالت ذلك ولم نستطع نحن الاثنتان من ضبط قهقهتنا.
أما السيدة "ن" فلما كانت لم تعلم شيئا عن مسألة الفرجية ولم تكن أحاطت عملا بعبارة الخف التي أشارت إليها الزائرة التفتت إلي قائلة: ما الذي طرأ عليكما؟ فأفهمتها القضية، وحينئذ اشتركت معنا بالضحك، وكان دوي قهقهتنا يملأ فضاء القاعة.
أما الزائرات فقد استغربن منا ذلك وقد لاحظت استغرابهن فقلت: عفوا أيتها الزائرات إننا لم نضحك من كلامكن وإنما قد اتفق أن سبقت بيننا عبارة قبل مجيئكن مشابهة لعبارة صدرت منكن فكان ما كان من داعي الضحك. ثم نقلت لهن مسألة الفرجية الزرقاء وقلت: إنه كما يوجد بعض منا لا يكون لهن علم بأشياء واقعة في بلادنا هذه ألا يستبعد أن تتصل بكن معلومات مغلوطة عن كثير من الأشياء، ولا جرم أنه كلما بعدت المسافة كثر الوهم وزاد الغلط.
قالت ذات الخدر المسموع عندنا: إن النساء التركيات كلهن سمينات يندر بينهن وجود الهزيلات فهل ذلك صحيح؟ قلت لها: عجباً، فما الموجب لذلك يا ترى؟(1/422)
قالت: يقال إن ذلك ناشئ عن احتجابهن وعدم خروجهن إلى الأسواق إلا نادراً على إنني مذ وصلت إلى هذه العاصمة دققت كثيراً بنسائها فرأيت عكس ما سمعت، أي إن السمينات بينكن قليلات جدا كما أنني قد رأيت في الطريق من (بك أوغلي) حتى وصلت إلى الوابور كثير من النساء المستترات، وفي الوابور أيضا يوجد نساء مستترات متحجبات.
فقلت: إن النساء عندنا لا ينحبسن في البيوت وإنما يمكن لهن أن يخرجن إلى الأسواق في أي وقت شئن وأن تشتري ما ترغب.
فقالت ذات البعل: إن النساء التركيات هن أسيرات بأيدي أزواجهن فإننا نسمع أنهن لا يستطعن أن يعملن شيئا بدون إذن رجالهن.
قلت: لا جرم إنه من وظيفة النساء في أية ملة كانت أن يطعن أزواجهن على أن مثل هذه الوظائف هي عند المسيحيين أشد منها عن المسلمين لأن صك النكاح عندكن إنما يحرر مشروطا فيه أن تكون الزوجة في كل حال تابعة لزوجها ومرتبطة به ففي مثل هاته الحال يحق للرجل أن يذهب بزوجته جبرا أي محل شاء.
قالت: لا شك ولا ريب في وجوب ذلك إنه من الأمور الحسنة أن يكونا دائما مجتمعين.
قلت: فما قولك إذن فيما لو كان الزوج من عشاق السياحة وأراد الصعود توا إلى القطب للاكتشاف أو كان ممن يميلون إلى السياحة البحرية وأحب التوغل في أعماق البحر على ظهر جارية تميل مع الأرياح أو كان من المنطاديين (البالونجيين) ورغب في الصعود على طبقات الهواء.
قالت: ألا يحق للرجال عندكم إجبار النساء على الذهاب معهم؟
قلت: يمكن لهم أخذهن إلى الأماكن القريبة غير أنهم إذا كانوا قادرين الأسفار الطويلة الشاسعة فالمرأة ذات الشهامة إنما تذهب مع زوجها طوعا ومروءة لا غير وإذا لم تذهب فلا تجبر وعندكم لا يجوز للمرأة أن تبيع شيئا من ما لها إلا بإذن من الرجل أما نحن فإن المرأة عندنا حرة مستقلة في بيع واستهلاك ما تملكه.
قالت الخالة: كنا سمعنا أن السيدات التركيات يلبسن الألبسة الإفرنجية أكثير من الألبسة التركية، وذلك ما حدانا إلى الرجاء بان تقبلننا وأنتن بالأكسام التركية أحقيق ذلك؟ قلت: أجل، إن أكثرهن على مثل ما وصفت.
ثم التفتت ذات البعل إلى البيانو قائلة: أتعزفين بالبيانو (آلة موسيقية) ؟ فأجبت مشيرة إلى السيدة "ص": إن هذه السيدة تحسن العزف أكثر مني بها لأنها درسته نحو عشر سنوات.
قالت: لا جرم أن الضرب على هذه الآلة لا يمكن بأقل من عشر سنوات.
فقلت لها: يمكن الضرب على البيانو بعشر سنوات على شريطة الاستمرار والتعود بلا انقطاع، ولكن في كم سنة يمكن حفظه تماما.
قالت: أما أنا فقد ابتدأت به منذ السنة السادسة من عمري وها أنا ذا في الثامنة والعشرين وقد مر على زواجي ست سنوات كنت إلى ذلك العهد أي مدة ست عشرة سنة أعزف يوميا بهذه الآلة أربع ساعات وعند ما تأهلت صرت أعزف به يومين في الأسبوع، وحتى الآن لم أتعلم البيانو، أتعلمين ما المراد وما المعنى بعلم البيانو؟(1/423)
قلت: نعم إن علمي به قد حداني إلى صرف النظر عن تعلمه فما أكثر العازفين عدا وأقلهم معرفة تامة به لأن علم البيانو إنما هو علم يراد هـ معرفة الأنغام من أول مرة بحسب أية نوطة كانت وسرعة عزفها والوصل إلى هذا الحد من المعرفة لا يحصل بمدى عشر سنوات، وإن كانت متمادية وها نحن الآن نكلف هذه السيدة أن تضرب على الآلة فتنظرين أنها تحسن الضرب جيدا ولكن ليكن معلومك أن الأنغام التي ستطربنا بها قد كررتها على النوطة عدة مرات حتى أمكن لها الإجادة بها على أن المقصد من البيانو هو غير ذلك وما دام أنه يوجد من يعزف على البيانو في هذا المجلس فالبيانو موجود والنوطة موجودة أيضا، وفي هذا الحال يجب ضرب النغم على البيانو عند النظر إلى النوطة، لن مراجعة الأنغام على النوطة عدة مرات وتكرير العزف بها لا يسمى عزفا ولا يترك في المرء ميلا لسماعها.
أما أنا فإنني عندما بدأت في درس البيانو اشتغلت به أربع سنوات متولية بمزيد الرغبة والاجتهاد، وتعلمت النوطة بسرعة لا مزيد عليها، وقد أخبرني العارفون بالبيانو أن عزفي به كان حسنا وملذا غير أن وصولي إلى الدرجة المقصودة حقق عندي ما جيب من المدة لبلوغ المطلوب فإن تجربتي أرتني أن أستاذي لم يتوفق إلى هذا الأمر فحملت ذلك على عدم كفاءته واستبدلته بأستاذ طائر الشهرة في هذا الفن، وأول عمل بدأت به أنني فتحت أمام نوطة لم يكن له عهد سابق فلم يسحن نغمها إلا عد أن كررها ثلاث مرات فعدلت عن التحري على أستاذ آخر ولكن أخذوا يستغربون عملي ويقولون: إنه لا يمكن الحصول على أستاذ اعرف به فأخبرتهم بمطلوبي فأنبؤني أنه قد يمكن أن يوجد في دار السعادة شخص أو شخصان من الطرز المطلوب وعلمت من نتيجة تحقيقاتي أن مع الاستعداد التام والاستمرار على العزف يوميا أربع أو خمس ساعات يمكن تعلم البيانو خلال خمس عشرة سنة من حياتي على تعلم هذه الآلة تأسفت على التعب الذي نالني في مدة أربع سنوات وضربت صفحا عن درس البيانو، فالآن صرت إذا رأيت نغما أعجبني أفتح النوطة ولا أتمكن من إتقانه إلا بعد أن أكرره لا أقل من خمس عشرة مرة، فهل ذات الخدر تحسن العزف بالبيانو؟ قالت ذات البعل: نعم، تعرف أن تعزف به ولكنها لم تصل بعد إلى درجتي بل يلزمها وقت أيضا.
قلت: تلطفي وأسمعينا قليلا من أنغامك اللطيفة.
فنهضت ذات البعل وجلست إلى البيانو ورفعت غطاءه وبعد أن نظرت إلى العلامة التي في داخله قالت: إنه بيانو بارزي لا جرم أن أحسن أجناسه إنما تصنع في باريز غير أن في بعض الجهات في أوروبا يصنعون منه جنسا حسنا ما أمكن، ولقد نظرت في حوانيت (بك أوغلي) كثيرا من هذه الآلات التي تنتسب إلى عدى أماكن فسألت عما إذا كان يوجد كمن صنع هذه البلاد فأخبروني انه لا يوجد فتعجب ولأجل ذلك أسألك ألا يصنعون عندكم من هذه الآلات.
فقلت لها: كلا، فإن العامل عندنا لم تترق الترقي المطلوب إلى هذا الحد ولقد كانت هذه الأشياء في الأزمنة السالفة ترسل من الشرق إلى أوروبا فانعكس الموضع وأصبحت ترد إلى الشرق من أوروبا. قالت: هل إن البيانو أرسل إلة أوروبا من الشرق؟ قلت: معلوم أن (شارلمان) كان أرسل بعض الهدايا إلى هارون الرشيد وبالمقابلة أهداه هارون الرشيد ساعة (وأرغون) وبعض الأقمشة النفيسة بحيث لما وصلت إلى أوروبا كان لها عند الأهالي وقع أشبه بالأمور السحرية، فكما أن الشرقيين يقلدون الأوروبيين في هذه الأيام هكذا كان (شارلمان) في عصره يقلد الدولة(1/424)
العباسية بعلومها ومعارفها إلا أنه لم يتوفق إلى ذلك، ولا يخفى أن الأرغون الذي يعزف به في كنائس أوروبا في الوقت الحاضر إنما ورد إليها من بغداد في لأزمنة السالفة. أما البيانو فليس إلا فرعا منه.
قالت: يا عجبا أيصنع إلى الآن (أرغون) في بغداد؟ فقلت: كلا، فإنه ليس في بغداد حتى ولا من يعرف ما هو الأرغون.
قالت: إن ثروة البلاد إنما تحصل بترقي مثل هذه الصنائع والمعارف.
قلت: أن العلوم والمعارف والصنائع إنما هي مع المدنية نظير اللازم والملزوم تترقى بنسبة ترقي المدنية.
أما المدنية فهي نظير سائح يطوف العالم مصحوبا بالعلوم والمعارف وسائر أنواع التجملات واللطائف ففي الأزمنة المتوغلة في القدم جالت في مصر وبابل ومرت في طريقها على البلاد اليونانية حتى إذا سقطت هذه البلاد وصارت خرابا سارت إلى الإسكندرية وأشرقت أنوارها في حكومة الملوك البطالسة وزادت أيامها رونقا وبهاء.
ثم ذهبت في أيام الدولة العباسية إلى العراق وألقت عصا التسيار في بغداد مستعيضة بها عن باب، ثم سرت أشعة عمرانها إلى إيران وتركستان، وفي خلال ذلك امتدت من جهة إلى العرب فحلت فيا لأندلس.
ثم وردت على أوروبا فأشرقت فيه إشراقا، وكما أن الحكماء المسلمين أخذوا العلوم الحكيمة عن اليونانية وأضافوا محصول أفكار الحكماء اليونانيين على اختراعاتهم فوصلوا بالعلوم إلى درجة هي من الرفعة والتقدم بمكان عالي هكذا فعل الأوروبيين فإنهم رأوا محصول مساعي العرب حاضرا مهيئا فصرفوا إليه أفكارهم وغاياتهم، ورفعوا بجدهم شأن العوم والمعارف إلى درجة تحير العقول وتسحر الألباب، وفي الوقت الحاضر يوجد سهولة كلية للاستفادة من محصول مساعي الأوروبيين المشاهدة عيانا لأجل انتشار العلوم والصنائع عندنا.
قالت: إذا كان الواقعة هكذا يلزم الاهتمام بأصدقائهم القدماء.
قلت: لا شك أننا راغبون فيهم في حضرة سلطاننا الحالي فإنه منذ جلوه الهمايوني قد تقدمت المعارف والصنائع في بلادنا تقدما خارقا للعادة، ولا نرتاب أنه في وقت قريب نرى المعارف والصنائع إجمالا بحالتي الكمال والإتقان، ولا جرم أن مجيء السواح من أصحاب المعارف نظيركن إنما هو علامة بينة على ما تقدم.
قالت ذات الخدر: إذا حسن لديك أعطنا نوطة يروق لديك نغمتها وشقيقتي تعزف فيها البيانو.
فبيت الطلب وأتيتها بنوطة مخصوصة (بالأوبرا) فأخذتها ذات البعل ولحنتها على البيانو بأحسن تلحين أطربنا وأدهشنا ولعمر الحق إنني إلى هذا العهد ما كنت سمعت بمثل عزفها، وقد كانت كلما جئناها بنوطة تبادر إلى تلحينها في الحال فتحققت من ذلك أنها بلغت في هذا الفن الدرجة المطلوبة، ثم أطربتنا بإيقاع بعض الألحان المحفوظة في ذاكرتها، فجعلتنا حيارى من مهارتها، ثم أخذت الشقيقتان تعزفان على البيانو بوقت واحد أي بأربع أيد مما يقال له بالفرنسية: (كاترمن) فأطربتنا أيما إطراب وشهدنا لذات الخدر أنها من البارعات جدا في هذا الفن.
فقلت لهما: ناشدتكما الله أن تعفيانا من الإيقاع على البيانو بعد هذا الذي سمعناه.
فقالت ذات البعل: إذا حسن أطربينا ببعض الأنغام التركية.
فقلت لها: لا بأس، إننا نلحن بعض الألحان التركية وإذا شئت بآلة تركية.
قالت: أكون ممتنة للغاية.
وبعد أن وقعت والسيدتين "ص" و"ن" كل منا بفصل على البيانو من الأنغام التركية نهضت إحدانا إلى العود.(1/425)
والثانية: للكمنجة، والثالثة: لقانون فوقع على هاته الآلات فحينئذ سألننا ذات البعل وشقيقتها عما إذا كان يمكن إيقاع الألحان الإفرنجية على العود والقانون مثل الكمنجة التي تلحن في الإيقاع وبناء على ذلك ممكن على أن عند الوصول إلى نغمة سريعة تنفرد الكمنجة في الإيقاع وبناء على ذلك أخذنا نلحن بعض القطع الإفرنجية الممكن تلحينها، ثم نهضت إلى البيانو ورفعت عليه بالاشتراك مع السيدة "ن" التي كانت توقع على الكمنجة قطعا إفرنجية على هذه الصورة مرحلة من الوقت وبعد مناولة الطعام أحضرنا للضيفات أثمارا محلية، وجبنا محليا، وزيتونا، ومقددات وغيرها من الأشياء المسماة عندنا قهوة ألتي فاستحسن جبننا كل الاستحسان، وأنبأننا أن مربياتنا مصنوعة على النسق الأوروبي تماما.
وجملة القول: إنهن تناولن منها بكمال الشكر والتقدير فجعلننا ممتنات منهن امتنانا لا مزيد عليه، ثم طفنا بهن في الحديقة وخضنا عباب الحديث المعقود بأهداب الولاء، فلما أزفت الساعة الحادية عشرة موعد مجيء الوابور تناولت كل منهن قبعتها وسترته، وكانت الشقيقتان في خلال الحديث تتكلمان فيا للغة الإنكليزية أحيانا، وكان كلامهما يتعلق بالثناء علينا وبينان امتنانهما منا، فالحمد لله أن كلامهما لم يكن علينا لأن سماع المذمة مواجهة مما لا تصبر عليه النفوس الأبية.
ولما كان احترام الضيف دينا واجبا كان عدم مقابلة احترامهما بالمثل مما يؤثر في قلوبنا كل التأثير، وقد تصورت السيدة "ص" أن تبدي امتنانها للضيفات بلهجة إنكليزية فصحى غير أن تسترها في أثناء الاجتماع منعها عن إيفاء هذا الواجب لعلمها أن التظاهر بمعرفة الإنكليزي بعد التجاهل به لا يكون مشكورا وقد صرفنا ذاك النهار بالسرور والانشراح، فإننا قطعنا قسما منه أي من الصباح إلى الظهر بمنتهى ما يكون من الحبور حتى إذا جاءت السائحات الإفرنجيات صرفنا القسم الباقي على نغمات الألحان فكان ذلك من ألطف الصدف.
أما السيدتان "ص" و"ن" فإنهما بقيتا تلك الليلة عندنا لأنهما من جهة لم يريدا ترك تلك الجمعية، ومن جهة أخرى لم يتيسر لهما وأبور بعد ذهاب الضيفات، فصرنا تلك الليلة كما صرفنا ذاك النهار بغاية ما يمكن من إمرار الوقت بالسرور، وقد كنا في أثناء حديثنا مع الضيفات المومى إليهن بينا لهن أن سنصرف ليلة لطيفة مع رفيقاتنا المذكورات.
ثم قالت السدة "ن": إن طالعنا اليوم فتح الزهور والمسرات، فهل من ساعة أشرف منها. فقلت لها: لا جرم أننا لو قصصنا حوادث هذا النهار على أحد المنجمين لأنبأنا أن طالعنا اليوم في برج الدلو من البروج الهوائية، ولكان أفاض بي بيان أن السعد يتناظر في بيت شرفه مع عطارد وأن السعد الكبر ناظر إليه بعين المودة والولاء وإلى غير ذلك من الاصطلاحات الفلكية لا جرم أن هاته الأشياء إنما هي اتفاق حسن. فنسأل الله أن يحفظنا من الصدف المعكوسة والمنكوسة.
وحقيقة ما يقال: أخيرا أننا صرفنا هذا النهار والحمد لله على أحسن حال من الزهو والسرور. انتهى.
فاطمة بنت الأمير أسعد الخليل
هي بنت الأمير أسعد الخليل أحد أمراء الشيعة القاطنين في جبل عامل من أعمال سورية, وهو من كبراء (عائلة علي صغير) . ولدت سنة 1256 من الهجرة وتوفي والدها وهي صغيرة جداً فتولى تربيتها شقيقها الأمير محمد بيك الأسعد.
فلما بلغت سن التعليم سلمها للمعلمين لتدريس العلوم فتلقت جملة علوم في أقرب وقت, وكانت ذات عقل وفطنة ونباهة وكياسة, فحفظت القرآن الشريف,(1/426)
ودرست النحو والصرف والبيان حتى فاقت نساء عصرها وأهل جلدتها, فذاع صيتها في الآفاق, ولما بلغت الثامنة عشرة من سنيها تقدم إليها الأمير علي بك الأسعد بالخطوبة فأنعم له شقيقها بها.
وكان الأمير المذكور حاكماً على بلاد بشارة ومحل إقامته قلعة تبنين التي هي قاعدة بلاد بشارة وتلك القلعة بناها هيوسنت أومر صاحب طبرية سنة 1107 م وجعلها معقلاً لغزو وصور وما يليها وهي على مرتفع صعب المرتقى في وسط بقعة خصبة وعامرة بين الجبال تكثر فيها الكروم والثمار والغابات, ويسميها الإفرنج "طورون" وكانت حصناً منيعاً مهماً وسمى بها عائلة أصحابها.
وسنة 1551 م أقيم "هونفردي" صاحب"تبنين" عاملاً للملك "بلدوين الثالث" وقد فتح هذه البلاد صلاح الدين الأيوبي سنة 1187 م الموافقة لسنة 583 هجرية, وذلك أنه سير إليها ابن أخيه تقي الدين ففتحها وأخرج الإفرنج منها.
وسنة 594 هـ كانت "تبنين" بيد الملك العادل بن صلاح الدين فرحل إليها الإفرنج وحاصرها وقاتلوا من بها وجدوا في القتال ونقبوا الحصن من جهاتهم, فلما رأى من القلعة ذلك خافوا على أنفسهم وأموالهم ليسلموا القلعة فقال لهم بعض الإفرنج: من يحمي نفسه وكان الملك العادل قد كاتب أخاه الملك العزيز بمصر فسار مجداً حتى وصل إلى عسقلان.
فلما علم الإفرنج ذلك وأن ليس لهم ملك أرسلوا إلى ملك قبرص وزوجوه ملكتهم وكان هذا محباً للسلم فكف عن حصار تبنين, ثم اصطلحوا مع الملك العادل وتعاقبت الملوك والأمراء على تملك تلك القلعة مدة مديدة حتى تملكها أمراء بيت علي صغير المذكورين الذين منهم الأمير علي بك الأسعد, وكانت السيدة فاطمة من تلك العائلة وأنهم كانوا في ذاك الوقت يحافظون على نسبهم الشريف من أن يخلطوا به نسب آخر من عامة الناس ولا يزوجون إلا لبعضهم البعض.
وكان الأمير علي بك الأسعد إذ ذاك كبير تلك العائلة مقاماً ورفعة وهو الحاكم الوحيد على بلاد بشارة من قبل الدولة العلية وكان مشهوراً بالكرم وحسن السياسة ومتصفاً بالعدل في أحكامها, ولما زفت إليه السيدة فاطمة نقلها من "الطيبة" التي هي بلد والدها ومسقط رأسها ومنبت صباها ومهد طفولتها إلى "تبنين" فشق ذلك على شقيقها محمد بك الأسعد وعلى أهلها وأهل بلدتها لأنها محسنة إلى الفقير من أهل البلد ومعنية للمسكين وعائدة للمريض, وكان يحبها كل من في تلك البلدة وكان شقيقها يعتمد عليها في بعض الآراء الإدارية وغيرها على صغر سنها.
ولما نقلت إلى تبنين نالت بحسن آدابها وكمال عقلها ورقة لطفها ونضارة جمالها حظوة عظيمة عند زوجها حتى ملكت زمام الأمور فضلاً عن تملكها فؤاد زوجها، وتقلدت إدارة الأشغال المنزلية، وفازت على كل نسائه وأهل ذاك النادي. فلما رأى منها علي بك ذلك الحزم والعزم الذي يفوق حزم أعاظم الرجال أحب مشاركتها في الأحكام، واعتمد على آرائها السديدة، فتعاطت الأحكام مع زوجها وشاركته بالرأي وحكمت وعدلت في حكمها بين الناس حتى أحبها الكبير والصغير والغني والفقير ولم يغيرها في مركزها الحقيقي ما صارت إليه من الدولة والسلطة عن حبها لفعل الخير والإحسان إلى الفقراء كما كانت تفعل في بيت أبيتها بل جعلت في دارها محلاً مخصوصاً لتربية الأولاد اليتامى وأولاد السبيل، وشهرت بفعل الخير وقصدها المضطرون ولجأ إليها الخائفون.
وكل ذلك لم يبذل لها حجاب بل كانت تتعاطى الأحكام من(1/427)
وراء الحجاب وتنظر في الدعاوى داخل الحجاب، وكان كل من في ديوان الأمير علي بك يعجبون بآرائها وسمو أفكارها لدقائق من الأمور الغامضة من الأحكام الشرعية ولم تزل كذلك إلى سنة 1281 هجرية وكان البيك المومى إليه قد تأخر عليه شيء من الأموال الأميرية لأن كرمه الحاتمي كان يضطره إلى ذلك حيث إنه كان في دولة عظيمة، وكان إذا ركب يركب معه فوق المائتي فارس من حشمه، وذلك خلاف الخدم والسياس والعمال، والطباخين والفراشين، وما يتبع دائرة الحريم من وكلاء وخدم وطباخين وغير ذلك.
وكان في قلعة تبنين محل للضيوف يسع ألفي شخص وفيه من المفروشات والأثاث ما يليق بذلك القصر الفاخر كل غرفة بما يلزم لها الراحة الضيوف وله فراشون مختصون لخدمة الضيوف فقط والطباخون كذلك غير الذين يخدمون المقيمين من العائلة، وكل هؤلاء الأتباع لهم الروات من دائرة الأمير المومى إليه، وكانت تأتي الشعراء والطالبون من كل صوب وهو لا يدر أحداً بدون جائزة ويفد إلهي الزائرون من كل المدن الشهيرة من كبار المتوظفين وغيرهم يمضون عنده فصل الصيف في القلعة لحسن هوائها وطيب مركزها وخصب تربة تلك الأراضي والجبال النضرة. وقد كان له حساد وأعداء من أقرب الناس إليه قد أضمروا له الضغينة وألقوا الدسائس حسداً منهم لما ناله من المجد والرفعة وعملوا على إلقاء القبض عليه ومحاسبته على الأموال الأميرية فحوسب في مدة ثمانية شهور وهو تحت الحجز، وظهر طرفه مبالغ جسيمة.
فقامت السيدة فاطمة في أثناء ذلك بأعباء هذا الحمل الثقيل وتدبرت الأموال المطلوبة من بعلها وقد جمعتها من مالها وأموال عائلتها وباعت حليها وحلي كل امرأة في دائرتها حتى تمكنت من سداد الأموال المطلوبة، وكانت تفعل ذلك بكل حزم يفوق شهامة الرجال وصدر الأمر بخلاصة في أواخر سنة 1281 هجرية.
وبعد ذلك أراد الرجوع إلى وطنه من محل ما كان محجوراً عليه وهي قلعة دمشق الشام، فدخلت سنة 1282 هجرية التي جاء فيها الوباء العام المشهور (بالكوليرة) ، وهنالك قبل انتقاله إلى وطنه أصيب بالكوليرة بدمشق الشام ومكث ثلاثة أيام، وتوفاه الله تعالى.
وكان برفقته أخوها الأمير محمد بك الأسعد فأصيب الأمير أيضاً بهذا الداء ولحق بابن عمه وكانت وفاتهما في أسبوع واحد تاركين لآلهما الحزن الطويل فكانت نكبة عظيمة على السيدة فاطمة -المذكورة- ونكبت تلك العائلة أيضاً بوفاة أميرها فلازمت المترجمة الأحزان والأكدار بسبب فقط بطليها الزوج والأخ في آن واحد وانقطعت إلى (الزريرية) وهي مزرعة من مزارع زوجها فاقتسمت ما يخصها ويخص بناتها الثلاثة لأنها كانت ولدت له جملة أولاد من ذكور وإناث فلم يعش لها إلا هؤلاء الثلاث بنات.
وكان للأمير علي بك أولاد من غيرها ذكور وإناث أيضاً فضمتهم جميعاً بحسن إدارتها إلى بعضهم، وقسمت عليهم الأرض بحسب الفريضة الشرعية بدون أن تجعل للحكومة مدخلاً في ذلك وشرعت في بناء دار لكل من أولادها وأولاد زوجها للسكنى وأرضت الكل بحسن تدبيرها وسداد رأيها وأتمت ذلك البناء على ما أحب الأولاد.
وخصصت من مالها شيئاً مخصوصاً لتربية اليتامى، وفك كرب المكروب، وقسمت وقتها بين سكناها (بالزريرية) و (الطيبة) عند شقيقها الأصغر الأمير خليل بك الأسعد، ولم تزل -حفظها الله- على هذه السجايا الحسنة إلى الآن يضرب بها المثل في تلك الأصقاع.
ولها في الشعر قليل، وأما في النثر فيشهد لها اليراع، وتنطق لها الطروس.(1/428)
فكيهة جارية أحيحة بن الجلاح
كانت أحسن الناس صوتاً في زمانها وأعلمهم في ضروب الغناء وأنواعه وكانت قينات المدينة يأخذن عنها فنون هذا العلم ومن حسن صوتها قد افتتن بها كثير من النساء والشبان، ولها حكاية مع تبع لطيفة نذكرها لحسن موقعها وثبات جأش تلك الجارية وهي: أن تبعاً أبا كرب بن حسان بن سعد الحميري كان سائراً من اليمن يريد المشرق كما كانت التبابعة تفعل قبله، فمر بالمدينة فخلف بها ابنا له ومضى حتى قدم الشام ثم سار من الشام حتى قدم العراق فنزل بالمشقر فقتل ابنه غيلة بالمدينة، فبلغه وهو بالمشقر فكر راجعاً إلى المدينة وهو يقول:
يا ذا المعاهد لا تزال ترود ... رمد بعينك عادها أم عود
منع الرقاد فما أغمض ساعة ... نبط بيثرب آمنون قعود
لا تسقي بيديك إن لم تلقها ... حربا كأن أشاءها مجرود
ثم اقبل حتى دخل المدينة وهو مجمع على خرابها وقطع نخلها واستئصال أهلها وسبي الذرية فنزل بسفح أحد فاحتقر بها بئرا وهي البئر التي يقال لها إلى اليوم بئر الملك، ثم أرسل إلى أشراف أهل المدينة ليأتوا فكان فيمن أرسل إليه زيد بن أمية بن زيد وابن عمه زيد بن ضبيعة بن زيد بن عمرو بن عوف، وابن عمه زيد بن أمية بن زيد، وابن عمه زيد بن عبيد بن زيد -وكانوا يسمون الأزياد، وأحيحة بن الجلاح، فلما جاء رسوله قال الأزياد: إنما أرسل إلينا ليملكنا على أهل يثرب.
فقال أحيحة: والله ما دعاكم لخير. وقال: ليت حظي من أبي كرب أن يرد خبره جبله فذهبت مثلا، فخرجوا إليه وخرج أحيحة ومعه فكيهة جاريته وخباء وخمر، فضرب الخباء وجعل فيه الجارية والخمر.
ثم خرج حتى استأذن على تبع فأذن له وأجلسه معه على زريبة تحته وتحدث معه وسأله عن أمواله بالمدينة، فجعل يخبره عنها، وجعل تبع كلما أخبره عن شيء منها يقول كل ذلك على هذه الزريبة يريد بذلك تبع قتل أحيحة، ففطن أحيحة أنه يريد قتله فخرج من عنده فدخل خباءه فشرب الخمر وقرض أبياتاً وأمر فكيهة أن تغنيه بها، وجعل تبع عليه حرسا والأبيات هي:
يشتاق شوقي على فكيهة لو ... أمست قريبا ممن يطالبها
لتبكني فينه ومزهرها ... ولتبكني قهوة وشاربها
ولتبكي ناقة إذا رحلت ... وغاب في سردح مناكبها
ولتبكني عصبة إذا جمعت ... لم يعلم الناس ما عواقبها
فلم تزل فكيهة تغنيه يومه وعامة ليلته، فلما نام الحرس قال لها: إني ذاهب إلى أهلي فسدي علك الخباء فإذا جاء رسول الملك فقولي هو نائم فإذا أبوا غلا أن يوقظوني فقولي: قد رجع على أهله وأرسلني على الملك برسالة، فإذا ذهبوا بك إليه فقولي له يقول لك أحيحة أغدر بقينة أو دع، ثم انطلق فتحصن في أطمه الضحيان وأرسل تبع من جوف الليل إلى الأزياد فقتلهم على قفارة من قفار تلك الحرة، وأرسل إلى أحيحة ليقتله فخرجت إليهم فكيهة فقالت: هو راقد فانصرفوا وترددوا عليعا مرارا، كل ذلك تقول هو راقد، ثم عاودوا فقالوا: لتوقظنه أو لندخلن عليك.
قالت: فإنه قد رجع على أهله وأرسلني إلى الملك برسالة فذهبوا بها إلى الملك، فلما دخلت عليه سألها عنه فأخبرته خبره وقالت: يقول لك: اغدر يقينه أو دع. فذهبت كلمة أحيحة هذه مثلا فجرد له كثيبة من خيله، ثم أرسلهم في طلبه فوجدوه قد تحصن في أطمه، فحاصروه ثلاثا يقاتلهم(1/429)
إلى تبع فقالوا: تبعثنا على رجل يقاتلنا بالنهار ويضيفنا بالليل فتركه وانصرف.
فريدة مولاة آل الربيع
هي مولدة نشأت بالحجاز، ثم وقعت إلى آل ربيع فعلمت الغناء في دورهم، ثم صارت إلى البرامكة، فلما قتل جعفر بن يحيى ونكبوا هربت وطلبها الرشيد فلم يجدها ثم صارت لى الأمين.
فلما قتل خرجت فتزوجها الهيثم بن مسلم فولدت له ابنه عبد الله، ثم مات عنها فتزوجها السندي بن الجرشي وماتت عنده ولها صنعة جيدة في شعر الوليد بن يزيد:
ويح سلمى لو تراني ... لعناها ما عناني
واقفا في الدار أبكي ... عاشقا حور الغواني
ومن صنعتها أيضا:
ألا أيها الركب النيام ألا هبوا ... نسائلكم هل يقتل الرجل الحب
ألا رب ركب قد وقفت مطيهم ... عليك ولولاك أنت لم يقف الركب
فريدة جارةي الواثق
كانت لعمر بن بانة وهو أهداها إلى الواثق وكانت من الموصوفات المحسنات، وكانت حسنة الوجه حسنة الغناء حادة الفطنة والفهم وتزوجها المتوكل بعد الواثق.
وقال صاحب "الأغاني" عن محمد بن الحارث إنه قال: كانت لي نوبة في خدمة الواثق في كل جمعة إذا حضرت ركبت على الدار فإن نشط إلى الطرب أقمت عنده. وإن لم ينشط انصرفت.
وكان رسمنا أن لا يحضر أحدنا إلا بنوته فإني لفي منزلي في غير يوم نوبتي غذ أرسل الخليفة من هجموا علي وقالوا لي: أجب أمير المؤمنين فقلت: هذا اليوم لم يحضرني امير المؤمنين قط لعلمكم غلطتم.
فقالوا: الله المستعان لا تطول وبادر فقد أمرنا أن لا ندعك تستقر على الأرض، فداخلني فزع شديد وخفت أن يكون ساع قد سعى بي أو بلية حدثت في رأي الخليفة علي، فتقدمت بما أردت وركبت حتى وافيت الدار، فذهبت لأدخل على رسمي من حيث كانت أدخل فمنعت وأخذ بيدي الخدم، فأدخلوني وعدلوا بي إلى طرق لا أعرفها فزاد ذلك في جزعي وغمي.
ثم لم يزل الخدم يسلمونني من خدم على خدم حتى أفضيت إلى دار مفروشة الصحن ملبسة الحيطان بالوشي المنسوج بالذهب، ثم أفضيت غلة رواق أرضه وحيطانه ملبسة بمثل ذلك، وإذا بالواثق في صدره على سرير مرصع بالجواهر وعليه ثياب منسوجة بالذهب وإلى جانبه فريدة جاريته عليها مثل ثيابه وفي جحرها عود، فلما رآني قال: جودت والله يا محمد غلينا إلينا فقبلت الأرض ثم قلت: خيرا يا أمير المؤمنين، قال: خيرا أرى أما تنظر ما نحن فيه أنا طلبت والله ثالثا يؤانسنا فلم أر أحق منك فبحياتي بادر فكل شيئا من الطعام وبادر غلينا فقلت: قد والله يا سيدي أكلت وشربت أيضاً.
قال: فاجلس فجلست. وقال: هاتوا لمحمد رطلا في قدح، فأحضر ذلكن ثم قال لفريدة: غني. فغنت:
أهابك إجلالا وما بك قدرة ... علي ولكن ملء عين حبيبها
وما هجرتك النفس يا ليل أنها ... قلتك ولا إن قل منك نصيبها
فجاءت والله بالسحر وجعل الواثق يجاذبها، وفي خلال ذلك تغني الصوت بعد الصوت، وأغني أنا في خلال(1/430)
غنائها فنزلنا أحسن ما أمر لأحد فإنا لكذلك إذ رفع رجله فضرب صدر فريدة بها ضربة تدحرجت من أعلى السرير إلى الأرض، وتفتت عودها، ومرت تعدو وتصيح، وبقيت أنا كالمنزوع الروح، ولم أشك أن عينه وقعت إلي وقد نظرت إليها، ونظرت إلى فأطرق ساعة إلى الأرض متحيرا، وأطرقت أتوقع ضرب العنق فإني لكذلك إذ قال: يا محمد، فوثبت.
فقال: ويحك، أرأيت أغرب مما تهيأ علينا فقلت: يا سيدي الساعة والله تخرج روحي فعلى من أصابنا بالعين لعنة الله، فما كان سبب الذنب.
قال: لا والله، ولكن فكرت أن جعفرا يقعد هذا المقعد ويقعد معها كما هي قاعدة معي فلم أطق الصبر وخامرني ما أخرجني إلى ما رأيت، فسري عني وقلت: بل يقتل الله جعفراً ويحيا أمير المؤمنين أبداً وقبلت الأرض وقلت: يا سيدي، الله الله ارحمها ومربدها، فقال لبعض الخدم: الوقوف من يجيء بها؟ فلم يكن بأسرع من أن خرجت وفي يدها عودها وعليها غير الثياب التي كانت عليها قبل، فلما رآها جذبها وعانقها فبكت وجعل هو يبكي واندفعت أنا بالبكاء.
فقال: ما ذنبي يا مولاي وبأي شيء استوجبت هذا؟ فأعاد عليها ما قاله لي وهو يبكي وهي تبكي أيضاً.
فقال: سألتك بالله يا أمير المؤمنين غلا ضربت عنقي الساعة وأرحتني من هذا الفكر وأرحت نفسك من الهم بي وجعلت تبكي وهو يبكي.
ثم مسحا أعينهما ورجعت إلى مكانها وأومأ إلى الخدم الوقوف بشيء لا أعرفه، فمضوا أحضروا أكياساً فيها دراهم دنانير ورزما فيها ثياب كثيرة وجاء خادم بدرج ففتحه وأخرج منه عقدا ما رأيت قط مثل جوهره فألبسها إياه: وأحضرت بدرة فيها عشرة آلاف درهم فجعلت بين يدي وخمسة تخوت فيها ثياب وعدنا إلى أمرنا وإلى أحسن مما كنا، فلم نزل كذلك إلى الليلة.
ثم تفرقنا وضرب الدهر ضربه وتقلد المتوكل فو الله إنني لفي منزلي بعد توبتي إذ هجم علي رسل الخليفة فما أمهلوني حتى ركبت, وصرت إلى الدار فأدخلت والله والحجرة بعينها وإذا المتوكل في الموضع الذي كان فيه الواثق على السرير وإلى جانبه فريدة, فلما رآني قال: ويحك, أمل ترى ما أنا فيه من هذه أنا منذ غدوة أطالها بأن تغنيني فتأبى ذلك؟ فقلت لها: يا سبحان الله أتخالفين سيدك وسيد البشر بحياتي, غني فعرفت والله أنه تم التفاؤل ثم اندفعت تغني:
مقيم بالمجازة من قنونا ... وأهلك بالأجيفر فالثماد
فلا تبعد فكل فتى سيأتي ... عليه الموت يطرق أو يغادي
ثم ضربت بالعود الأرض ورمت بنفسها عن السرير, ومرت تعدو وهي تصيح: وا سيداه.
فقال لي: ويحك, ما هذا؟ فقلت: لا أدري والله يا سيدي فقال: فما ترى؟ فقلت: أرى أن أنصرف أنا وتحضر هي ومعها غيرها فإن الأمر يؤل إلى ما يريد أمير المؤمنين. قال: فانصرف في حفظ الله. فانصرفت ولم أدر ما كانت القصة.
وقال محمد بن عبد الملك سمعت فريدة تغني:
أخلاي بي شجو وليس بكم شجو ... وكل امرئ مما بصاحبه خلو
أذاب الهوى لحمي وجسمي ومفصلي فلم يبق إلا الروح والجسد النضو
وما من محب نال ممن يحبه ... هوى صادقاً إلا سيدخله زهو
بليت وكان المزح بدء بليتي ... فأحببت جهلاً والبلايا لها بدو
وعلقت من يزهو على تجبرا ... وإني في كل الخصال له كفو
قال: فما سمعت قبله ولا بعده غناء أحسن منه. وقال عمرو بن بانة غنيت أمام الواثق يوماً
قلت خلي فاقبلي معذرتي ... ما كذا يجزي محباً من أحب(1/431)
فقال لي: تقدم إلى الستارة فألقه على فريدة. فألقيته عليها. قالت: هو خلي أو خل كيف هو؟ فعلمت أنها سألتني عن صاحبه لها اسمها خل وكانت ربية معها وأخفت ذلك عن الواثق. وبقيت مدة في دار خلافة الواثق حتى ماتت عنده.
فضل المدينة
كانت حاذقة بالغناء, كاملة الخصال وأصلها لإحدى بنات هارون الرشيد. ونشأت وتعلمت ببغداد ودرجت من هناك إلى المدينة المنورة فازدادت طبقتها في الغناء وأخذ عنها جملة من المغنين, ولها أصوات حسنة مذكورة بالأغاني وبقيت بالمدينة إلى أن ماتت بها.
فضل الشاعرة
كانت فضل جارية مولدة من مولدات البصرة وكانت أمها من مولدات اليمامة بها ولدت ونشأت في دار رجل من عبد القيس وباعها بعد أن أدبها وخرجت واشتريت وأهديت إلى المتوكل, وكانت هي تزعم أن الذي باعها أخوها وأن أباه وطئ أمها فولدتها منه فأدبها وخرجها معترفاً بها وأن بنيه من غير أمها (تواطؤوا) على بيعها وجحدها ولم تكن تعرف بعد أن أعتقت إلا بفضل العبيدية, وكانت حسنة الوجه والجسم والقوام أديبة فصيحة سريعة البديهة مطبوعة في قول الشعر. ولم يكن في نساء زمانها أشعر منها.
قال أحمد بن أبي طاهر: كانت فضل الشاعرة مع رجل من النخاسين بالكرخ يقال له: حسنويه فاشتراها محمد ابن الفرج أخو عمر بن الفرج أخو عمر بن الفرج الراجحي وأهداها إلى المتوكل فكانت تجلس للرجال ويأتيها الشعراء فألقى عليها يوماً أبو دلف القاسم بن عيسى:
قالوا عشقت صغيرة فأجبتهم ... أشهى المطي إلي ما لم يركب
كم بين حبة لؤلؤ مثقوبة ... نظمت وحبة لؤلؤ لم تنقب
فقالت فضل مجيبة له:
إن المطية لا يلذ ركوبها ... ما لم تذلل بالزمام وتركب
والدر ليس بنافع أصحابه ... حتى يؤلف للنظام بمثقب
ولما دخلت على المتوكل يوم أهديت إليه قال لها: أشاعرة أنت؟ قالت: كذا زعم من باعني واشتراني, فضحك وقال: أنشدينا من شعرك, فأنشدته:
استقبل الملك إمام الهدى ... عام ثلاث وثلاثينا
خلافة أفضت إلى جعفر ... وهو ابن سبع بعد عشرينا
إنا لنرجو يا إمام الهدى ... أن تملك الناس ثمانينا
لا قدس الله امراً لم يقل ... عند دعائي لك آمينا
فاستحسن الأبيات وأمر لها بخمسة آلاف درهم وأمر عريب فغنت فيها.
وكان المعتمد بن المتوكل عرضت عليه جاريته وهو صغير في خلافة أبيه فاشتط مولاها في السوم فلم يشترها وخرج بها مولاها إلى ابن الأغلب, فبيعت هناك.
ولما ولي المعتمد الخلافة سأل عن خبرها فقيل له: إنها بيعت وأولدها مولاها الذي اشتراها فقال لفضل: قولي فيها شيئاً. فقالت:(1/432)
علم الجمال تركتني ... في الحب أشهر من علم
ونصبتي يا خيبتي ... غرض المظنة والتهم
فارقتني بعد الدنو ... فصرت عندي كالحلم
لو أن نفسي فارقت ... جسمي لفقدك لم تلم
ما كان ضرك لو وصلت ... فخف عن قلبي الألم
أو لا فطيفي في المنا ... م فلا أقل من اللمم
صلاة المحب حبيبه ... الله يعلمه كرم
وكتب محمد بن العباس اليزيدي يوماً لها هذه الأبيات:
أصبحت فرداً هائم العقل ... إلى غزال حسن الشكل
أخني فؤادي طول عهدي به ... وبعده عني وعن وصلي
منية نفسي في هوى فضل ... أن يجمع الله بها شملي
أهواك يا فضل هوى خالصاً ... فما بقلبي عنك من شغل
فأجابته:
الصبر ينقص والسقام يزيد ... والدار دانية وأنت بعيد
أشكوك أم أشكو إليك فإنه ... لا يستطيع سواهما المجهود
إني أعوذ بحرمتي بك في الهوى ... من أن يطاع لديك في حسود
وكانت تهوى أحد جلسائها في مجلس الخليفة, والخليفة لا يعلم ذلك, فكتب لها خليلها يوماً رقعة وسلمها لها بحيث لا أحد يراهما, فلما فضتها وجدت فيها:
ألا ليت شعري فيك هل تذكرينني ... فذكراك في الدنيا حبيب
وهل لي نصب من فؤادك ثانياً ... كما لك عندي في الفؤاد نصيب
ولست بموصل فأحيا بزورة ... ولا النفس عند اليأس عنك تطيب
فكتبت إليه:
نعم وإلهي إنني بك صبة ... فهل أنت يا من لا عدمت مثيب
لمن أنت منه في الفؤاد مصور ... وفي العين نصب العين حين تغيب
فثق بوداد أنت مظهر مثله ... على أن بي سقماً وأنت طبيب
ومرة اتكأ المتوكل على يدها ويد بنان الشاعر وجعل يمشي في داره وقال لهما أجيزا إلي قول الشاعر:
تعلمت أسباب الرضا خوف عتبها ... وعلمها حبي لها كيف تغضب
فقالت فضل:
تصد وأدنو بالمودة جاهداً ... وتبعد عني بالوصال وأقرب
فقال بنان:
وعندي لها العتبى على كل حالة ... فما منه لي بد ولا عنه مذهب
وألقى أحد أصحاب أحمد بن طاهر عليها يوماً:(1/433)
ومستفتح باب البلاء بنظرة ... تزود منها قلبه حسرة الدهر
فقالت بديهة:
فو الله لا يدرى أندري بما جنت ... على قلبه أو أهلكته وما ندري
وكان علي بن الجهم يوماً عند فضل الشاعرة فلحظها لحظة استرابت بها فقالت:
يا رب رام حسن تعرضه ... يرمي ولا يشعر أني غرضه
فقال مجيباً لها:
أي فتى لحظك لم يمرضه ... وأي عقد محكم لم ينقضه
فضحكت وقالت: خذ في غير هذا الحديث.
وكان بينها وبين سعيد بن حميد الشاعر مراسلات ومواصلات أدبية فحضر مجلسها يوماً ومعه بنان فأقبلت على بنان وتركته, وذهب مغضباً لها وظهر لها في وجهه ذلك فكتبت إليه:
وعيشك لو صرحت باسمك في الهوى ... لا قصرت عن أشياء بالهزل والجد
ولنني أبدي لهذا مودتي ... وذاك وأخلو فيك بالبث والوجد
مخافة أن يغرى قول كاشح ... عدو فيسعى بالوصال إلى الصد
فكتب إليها سعيد:
تنامين عن ليلي وأسهره وحدي ... وأنهى جفوني أن تبثك ما عندي
فإن كنت لا تدرين ما قد فعلته ... بنا فانظري ماذا على قاتل العمد
وجاءها أبو يوسف بن الدقاق الضرير وأبو منصور الباخرزي زائرين فحجبا عن الدخول إليها, ولما رجعا وعلمت بمجيئهما وانصرافهما قبل مقابلتها غمها ذلك فكتبت إليهما تعتذر:
وما كنت أخشى أن تروا لي زلة ... ولكن أمر الله ما عنه مذهب
أعوذ بحسن الصفح منكم وقبلنا ... بصفح وعفو ما تعوذ مذنب
فكتب إليها أبو منصور الباخرزي:
لئن أهديت عتباك لي ولإخوتي ... فمثلك يا فضل الفضائل يعتب
إذا اعتذر الجاني محا العذر ذنبه ... وكل امرئ لا يقيل العذر مذنب
وقال المتوكل يوماً لعلي بن المنجم: كان بيني وبين فضل موعد وقبل مجيئها قد شربت وسكرت فنمت وجاءت فضل للموعد فحركتني بكل ما ينتبه به النائم فلم أنتبه فلما علمت أن لا صلة لها في كتبت رقعة ووضعتها على مخدتي وانصرفت, فلما انتبهت وجدتها فإذا مكتوب فيها:
قد بدا شبهك يا مو ... لاي يحدو بالظلام
قم بنا نقضي لبانا ... ت التزام والتآم
قبل أن تفضحنا عو ... دة أرواح النيام
وكانت فضل تهاجي خنساء جارية هشام المكفوف -وكانت شاعرة- فكان أبو شبل عاصم بن وهب يعاون فضلاً عليها ويهجوها مع فضل, وكان القصيدي والحفصي يعينان خنساء على فضل وأبي شبل على لسان فضل:(1/434)
خنساء طيري بجناحين ... أصبحت معشوقة نذلين
من كان يهوى عاشقاً واحداً ... فأنت تهوين عشيقين
هذا القصيدي وهذا الفتى ل ... حافصي قد زاراك فردين
فضحت من هذا وهذا كما ... ينعم خنزير بحشين
فقالت خنساء تجيبها:
ماذا مقال لك يا فضل بل ... مقال خنزيرين فردين
يكنى أبا الشبل ولو أبصرت ... عيناه شبلا راث كزين
وقالت فضل في خنساء:
إن خنساء لا جعلت فداها ... اشتراها الكسار من مولاها
ولها نكهة يقول محادث ... ها أهذا حديثها أم فساها
وقالت خنساء في فضل وأبي شبل:
تقول له فضل إذا ما تخوفت ... ركوب قبيح الذل في طلب الوصل
حرام فتى لم يلق في الحب ذلة ... فقلت لها لا بل حرام أو شبل
وقالت خنساء تهجو أبا شبل لمساعدته فضل عليها:
ما ينقضي فكري وطول تعجبي ... من نعجة تكنى أبا الشبل
لعب الفحول بسفلها وعجانها ... فتمردت كتمرد الفحل
لما اكتنيت بما اكتنيت به ... وتسمت النقصان بالفضل
كادت بنا الدنيا تميد ضحى ... ونرى السماء تذوب كالمهل
ولما وصلت هذه الأبيات إلى أبي شبل غضب منها ولم يجب عليها وقال يهجو مولاها هشاماً:
نعم مأوى العذاب بيت هشام ... حين يرمي اللثام باغي اللثام
من أراد السرور عند حبيب ... لينال السرور تحت الظلام
فهشام نهاره ودجى الل ... يل سواء نفسي فداء هشام
ذاك حر دواته ليس تخلو أبداً من تخرق الأقلام
وزارت فضل سعيد بن حميد ليلة على موعد بينهما, فلما حصلت عنده جاءتها جاريتها مبادرة تعلمها أن رسول الخليفة قد جاء يطلبها, فقامت مبادرة, فمضت فلما كان من غد كتب إليها ابن حميد:
ضن الزمان بها فلما نلتها ... ورد الفراق فكان أقبح وارد
والدمع ينطق للضمير مصدقاً ... قول المقر مكذباً للجاحد
وقال لها عبيد بن محمد صبيحة قتل المنتصر والمعتز ماذا نزل بكم البارحة؟ فقالت:
أن الزمان بذحل كان يطلبنا ... ما كان أغفلنا عنه وأسهانا
مالي وللدهر قد أصبحت همته ... مالي وللدهر ما للدهر لا كانا
وخرجت فيحة جارية المتوكل إلى سيدها يوم نيروز وبيدها كأس بلور بشراب صاف فقال لها: ما هذا فديتك؟ قالت: هديتي لك في هذا اليوم عرفك الله بركته, فأخذها من يدها ونظر إليها فإذا مكتوب على خدها(1/435)
نقطة جعفر بالمسك فشرب الكأس وقبل خدها وكانت فضل الشاعرة واقفة على رأسه فقالت:
وكاتبة بالمسك في الخد جعفراً ... بنفسي سواد المسك من حيث أثرا
لئن أثرت بالمسك سطراً بخدها ... لقد أودعت قلبي من الحزن أسطرا
فيا من مناها في السريرة جعفر ... سقى الله من سقيا ثناياك جعفرا
ثم قالت أيضاً:
سلافة كالقمر الباهر ... في قدح كالكوكب الزاهر
يديرها خشف كبدر الدجى ... فوق قضيب أهيف ناضر
على فتى أروع من هاشم ... مثل الحسام المرهف الباتر
فلما سمع المتوكل هذه الأبيت طرب طرباً شديداً وأمر فغنى بها وأنعم على فضل إنعاماً زائداً وكتبت فضل إلى سعيد بن حميد يوماً.
تبث هواك في بدني وروحي ... فألف فيهما طمع بياس
فأجابها سعيد في وقتها:
كفانا الله شر الياس إني ... لبغض الياس أبغض كل آس
قال ابن أبي المدور الوراق: كنت يوماً عند سعيد بن حميد وكان قد ابتدأ ما بينه وبين فضل يتشعب وقد بلغ ميلها إلى بنان المغني وهو بين المصدق والمكذب بذلك, فأقبل على صديق له فقال: قد أصبحت والله من أمر فضل في غرور أخادع نفسي بتكذيب العيان, وأمنتها ما قد حيل دونه, والله إن إرسالي بعدها قد لاح من تغيرها لذلك وإن عدولي في أمرها مشبه بالعجز وإن تصبري لمن دواعي التلف ولله در محمد بن أمية حيث يقول:
يا ليت شعري ما يكون جوابي ... أما الرسول فقد مضى بكتابي
وتعجلت نفسي الظنون وأشعرت ... طمع الحريص وخيفة المرتاب
وتروعني حركات كل محرك ... والباب يقرعه وليس ببابي
كم نحو باب الدار لي من وثبة ... أرجو الرسول بمطمع كذاب
والويل لي من بعد هذا كله ... إن كان ما أخشاه رد جوابي
قال ابن المنجم: غضب بنان المغني على فضل الشاعرة في أمر أنكره عليها فاعتذرت إليه فلم يقبل معذرتها فأنشدت في ذلك مصبرة نفسها.
يا فضل صبراً إنها ميتة ... يجرعها الكاذب والصادق
ظن بنان أنني خفته ... روحي إذا من بدني طالق
وقال المتوكل لعلي بن الجهم: قل بيتاً وطالب فضل الشاعرة بأن تجيزه. فقال علي: أجيزي يا فضل:
لاذبها يشتكي إليها ... فلم يجد عندها ملاذا
فأطرقت هنيهة ثم قالت:
فلم يزل ضارعاً إليها ... تهطل أجفانه رذاذا
فعاتبوه فزاد عشقاً ... فمات وجداً فكان ماذا(1/436)
فطرب المتوكل وقال: أحسنت وحياتي وأمر لها بمائتي دينار وأمر عريب فغنت بها وكتب سعيد بن حميد إلى فضل رقعة قال في آخرها:
تظنون أني قد تبدلت بعدكم ... بديلاً وبعض الظن إثم ومنكر
إذا كان قلبي في يديك رهينة فكيف بلا قلب أصافي وأهجر
قال إسحاق بن مسافر: كنت يوماً عند سعيد بن حميد إذ دخلت عليه فضل على غفلة فوثب إليها وسلم عليها وسألها أن تقيم عنده فقالت: قد جاءني وحياتك رسول من القصر فليس يمكنني الجلوس وكرهت أن أقيم ببابك ولا أراك فقال: سعيد من وقته على البديهة.
قربت ولا نرجو اللقاء ولا نرى ... لنا حيلة يدنيك منا احتيالها
فأصبحت كالشمس المنيرة ضوءها ... قريب ولكن أين منا منالها
وظاعنة ضنت بها غربة النوى ... علينا ولكن قد يلتم خيالها
تقربها الآمال ثم تعوقها ... مماطلة الدنيا بها واعتلالها
ولكنها أمنية فلعلها ... يجود بها صرف النوى وانتقالها
وتغاضب سعيد بن حميد وفضل أياماً ثم كتب إليها:
تعالي نجدد عهد الرضا ... ونصفح في الحب عما مضى
ونجري على سنة العاشقين ... ونضمن عني وعنك الرضا
ويبذل هذا لهذا هواه ... ويصير في حبه للقضا
ونخضع ذلً خضوع العبيد ... لمولى عزيز إذا أعرضا
فإني مذلج هذا العتاب ... كأني أبطنت جمر الغضى
فسارت إليه وصالحته.
وكان سعيد بن حميد صديقاً لأبي العباس بن ثوابة فدعاه يوماً وجاءه رسول فضل يسأله المصير إليها, فمضى معه وتأخر عند أبي العباس, فكتب إليه رقعة يعاتبه معاتبة فيها بعض الغلظة فكتب إليها سعيد:
أقلل عتابك فالبقاء قليل ... والدهر يعدل تارة ويميل
لم أبك من زمن ذممت صروفه ... إلا بكيت عليه حين يزول
ولكل نائبة ألمت مدة ... ولكل حال أقبلت تحويل
والمنتمون إلى الإخاء جماعة ... إن حصلوا أفناهم التحصيل
ولعل إحداث الليالي والردى ... يوماً ستصدع بيننا وتحول
فلئن سبقت لتبكين بحسرة ... وليكثرن على منك عويل
ولتفجعن بمخلص لك وامق ... حبل الوفاء بحبله موصول
وحضر يوماً في منزل بعض إخوانه فوجد عندهم فضل, فأقام معهم عامة يومهم, وآخر النهار غضبت منهم على النبيذ, ثم انصرفوا وهم على ذلك وبعد أيام اجتمع سعيد مع إخوانه المذكورين وتصادف مجيء فضل على غير موعد, فدخلت عليهم وسلمت عليهم سواه فقالوا لها: أتهجرين أبا عثمان؟ فقالت: أجب أن تسألوه أن لا يكلمني. فقال سعيد:(1/437)
اليوم أيقنت أن الهجر متلفة ... وأن صاحبه منه على خطر
كرب الحياة لمن أمسى على شرف ... من الميتة بين الخوف والحذر
يلوم عينيه أحياناً بذنبهما ... ويحمل الذنب أحياناً على القدر
تنأون عنه وينأى قلبه معكم ... فقلبه أبداً منه على سفر
فوثبت إليه وقبلت رأسه وقالت: لا أهجرك والله أبداً ما حييت. وبعد ذلك بمدة غضبت عليه فكتب إليها:
يا أيها الظالم ما لي ولك ... أهكذا تهجر من واصلك
لا تصرف الرحمة عن أهلها ... قد يعطف المولى على من ملك
ظلمت نفساً فيك علقتها ... فدار بالظلم على الفلك
تبارك الله فما أعلم الله ... بما ألقى وما أغفلك
فراجعت وصله وسارت إليه جواباً لرقتها: وكان سعيد يوماً في مجلس الحسن بن مخلد إذ جاءه غلام برقعة فضل, فقرأها وضحك فقال الحسن بن مخلد: بحياتي عليك أقرأتها فدفعها إليه فقرأها وإذا هي تشكو فيها شدة شوقها إلى سعيد فضحك وقال: قد وحياتي ملحت فأجب فكتب إليها:
يا واصف الشوق عندي من شواهده ... قلب يهيم وعين دمعها يكف
والنفس شاهدة بالود عارفة ... وأنفس الناس بالأهواء تأتلف
فكن على ثقة مني وبينة ... أني على ثقة من كل ما تصف
فلما وصل إليها الجواب طاب قلبها وسارت إليه وأقامت عنده عامة النهار وكرت راجعة. ولما تعشقت بنان ابن عمر المغني وعدلت عن سعيد أسف عليها وأظهر تجلداً ثم قال فيها:
قالوا تعزى وقد بانوا فقلت لهم ... بأن العزاء على آثار من بانا
وكيف يملك سلوانا لحبهم ... من لم يطق للهوى سراً وكتمانا
كانت عزائم صبري أستعين بها ... صارت علي بحمد الله أعوانا
لا خير في الحب لا تبدي شواكله ... ولا ترى منه في العينين عنوانا
قال محمد بن السري: إنه توجه إلى سعيد بن حميد في حاجة له فوجده في منزل الحسن بن مخلد فقصده وإذا برسول فضل ناوله رقعة منها وفيها الأبيات التي أرسلتها إلى محمد بن العباس اليزيدي وأولها: الصبر ينقص والسقام تزيد وفي آخرها أنا يا أبا عثمان في حال التلف ولم تعدني ولا سألت عن خبري فأخذ بيد ابن السري ومضيا إليها فسألها عن خبرها فقالت: هو ذا أموت وتستريح مني. فانشأ يقول:
لا مت قبلي بل أحيا وأنت معاً ... ولا أعيش إلى يوم تموتينا
لكن نعيش بما نهوى ونأمله ... ويرغم الله فينا أنف واشينا
حتى إذا قدر الرحمن ميتتنا ... وحان من أمرنا ما ليس يعدونا
متنا جميعاً كغصني بانة ذبلاً ... من بعدما نضراً واستوسقا حينا(1/438)
ثم السلام علينا في مضاجعنا ... حتى نعود إلى ميزان منشينا
وبلغها حينما كانت مائلة إلى بنان أن سعيداً عشق جارية من جواري القيان فكتبت إليه:
يا عالي السن سيئ الأدب ... شبت وأنت الغلام في الطرب
ويحك إن القيان كالشوك ال ... منصوب بين الغرور والعطب
لا يتصدين للفقير ولا ... يطلبن إلا معادن الذهب
بينا تشكي هواك إذ عدلت ... عن زفرات الشكوى إلى الطلب
تلحظ هذا وذا وذاك وذي ... لحظ محب وفعل مكتئب
وافتصد سعيد بن حميد يوماً فقالت فضل لعريب: وهل لك أن نذهب فنزور سعيداً؟ قالت لها: فلا مانع من ذلك وأرسلت إليه قبل زيارتها هدايا منها ألف جدي وجمل وألف دجاجة فائقة, وألف طبق ريحان وفاكهة ومع ذلك طيب كثير وشراب وتحف حسان فكتب إليها سعيد: وإن سروري لا يتم إلا بحضورك فجاءته في آخر النهار وجلست معه على الشراب وغنتهم عريب بما لزم.
فبينما هم كذلك وإذا بالغلام يستأذن لبنان فإذن له فدخل إليهم وإذا هو شاب طرير حسن الوجه حسن الغناء نظيف الثياب شكل فذهب بفضل كل مذهب, فأقبلت عليه بحديثها ونظرها فتنمر سعيد واستطير غضباً وتبين بنان القصة فانصرف وأقبل عليها سعيد يعذلها ويؤنبها ساعة, ثم أمسك فقالت منشدة:
يا من أطلت تفرسي ... في وجهه وتنفسي
أفديك من متدلل ... يزهو بقتل الأنفس
هبني أسأت وما أسأ ... ت بلى أقول أنا المسي
أحلفتني أن لا أسا ... رق نظرة في مجلسي
فنظرت نظرة مخطئ ... أتبعتها بتفرس
ونسيت أني قد حلفت ... فما عقوبة من نسي
فقام سعيد وقبل رأسها وقال: لا عقوبة عليه بل نحتمل هفوته ونتجافى عن إساءته, وغنت عريب في هذا الشعر وشربوا عليه بقية يومهم, ثم افترقوا وأثر بنان في قلبها وعلقت به ثم لم تزل حتى واصلته وقطعت سعيداً.
وكان إبراهيم بن المهدي يقول: إن فضل كانت من أحسن خلق الله خطاً وأفصحهم كلاماً, وأبلغهم في مخاطبة, وأثبتهم في محاورة فقال يوماً لسعيد بن حميد: أظنك يا أبا عثمان تكتب لفضل رقاعها وتجيدها وتخرجها فقد أخذت نحوك في الكلام وسلكت سبيلك فقال له وهو يضحك: ما أخيب ظنك ليتها تسلم مني لآخذ كلامها ورسائلها, والله يا أخي لو أخذ أفاضل الكتاب وما ماثلهم عنها لما استغنوا عن ذلك, انتهى.
فضة النوبية
هي جارية السيدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت من النساء العاقلات الصادقات وقد اشتهرت بالفضيلة. وقيل" عن أبي العباس في قوله تعالى: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) [الإنسان: 7-8] قال: مرض الحسن والحسين فعادهما جدهما صلى الله عليه وسلم وعادهما عامة العرب فقالوا: يا أبا الحسن, لو نذرت على ولدك نذراً.
فقال علي:(1/439)
إن برءا مما بهما صمت لله -عز وجل- ثلاثة أيام شكراً. وقالت فاطمة: كذلك, وقالت جاريتهما فضة النوبية: إن برأ سيداي صمت لله -عز وجل- شكراً, فلبس الغلامان العافية وليس عند آل محمد قليل ولا كثير, فانطلق علي إلى شمعون الخبيري فاستقرض منه ثلاثة آصع من شعير فجاء بها فوضعها فقامت فاطمة إلى صاع فطحنته واختبزته, وصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه إذ أتاهم مسكين فوقف على الباب فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد, مسكين من أولاد المسمين أطعموني أطعمكم الله -عز وجل- على موائد الجنة فسمعه علي فأمرهم بإعطائه الطعام ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا إلا الماء.
فلما كان اليوم الثاني قامت فاطمة إلى الصاع وخبزته وصلى علي مع النبي صلى الله عليه وسلم ووضع الطعام بين يديه إذ أتاهم يتيم فوقف بالباب وقال: السلام عليكم أهل بيت محمد يتيم بالباب من أولاد المهاجرين استشهد والدي أطعموني فأعطوه الطعام فمكثوا يومين ولم يذوقوا إلا الماء.
فلما كان اليوم الثالث قامت فاطمة إلى الصاع الباقي فطحنته وأختبزته وصلى علي مع النبي صلى الله عليه وسلم ووضع الطعام بين يديه إذ أتاهم أسير فوقف بالباب وقال: السلام عليكم أهل بيت النبوة تأسروننا وتشدوننا ولا تطعموننا, أطعموني فإني أسير, فأعطوه الطعام ومكثوا ثلاثة أيام ولياليها لم يذوقوا إلا الماء فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى ما بهم من الجوع فأنزل الله تعالى: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً) [الإنسان: 1] إلى قوله (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً) [الانسان: 9] .
ومن ذلك يعلم أن المترجمة ساوت نفسها بسيدتها فاطمة الزهراء, فنالت بذلك فخراً لم ينله غيرها من نساء العرب وبقيت بخدمة هذا البيت حتى توفاها الله رضي الله عنها.
فطنت بنت أحمد باشا والي طرابزون
ولدت في طرابزونه سنة 1258 هجرية وتربت في بيت أبيها أحسن تربية إلى أن ترعرعت قابلة للتعليم, فقدمها والدها إلى مكتب حافظ أفندي أحد معلمي القراءة بتلك المدينة فصار يعلمها مبادئ القراءة التركية والفارسية والقرآن الشريف.
فلما تعلمت تلك المبادئ انتقل والدها إلى الروملي الشرقية فأحضر لها المعلمين للخط وتدريس باقي العلوم حتى تعلمت كافة ما تحتاج إليه من التهذيب والتأديب ومالت نفسها إلى العروض وبحوره وبرعت فيه أيضاً حتى صارت نادرة زمانها, ولها ديوان شعر باللغة التركية ومثله بالفارسية, ولما أتمت علومها وبرعت في كل ما ألقى إليها وآن أوان زواجها زوجها والدها من أحد الأدباء الأفاضل, فعاشت معه عيشة حسنة, وولدت له أولاداً وبنات, وتوفي عنها وهي في زهرة شبابها وبعد وفاته بمدة خطبها محمد علي بك أفندي كاتب أول نظارة البحرية في الأستانة وهي معه لغاية الآن في عيشة راضية. ولها مؤلفات عقلية وحكمية باللغة التركية وأشعار غزلية وغيرها منها:
سرنكون ايتدى فلك اسابني بيمانه سن ... ?ونكه دلشادا يلمزنا شادا ولان مستانه سن
عزم سوى مكيده الوير مدى جكدم اياق ... باشنه جالسون همان أول بيوفاد مخانه سن
عيش ونوش وصحبتي ذكمزانك هيج بر?وله ... نيلرم ظل سراب آسابو مهما نخانه سن
جرعه نوش باده ألطافي أو لمقدر محال ... بند كان ترك ايتمسونمي مجلس شاهانه سن(1/440)
وادئ الام وغمده قالدم أي ساقئ دهر ... محرم ايتدى يا رزيرا مجلسه بيكانه سن
شمعه سوزانه حاجت قالمدى جونكه يتر ... آتش كورنده يا قدى عاقبت بروانه سن
برتوجام جمم داراايله فخر ايلسون ... بعدازين يادا يتمسون (فطنت) كبى ديوانه سن
ومنها:
ايلسون تأثير دردك جانه الله عشقنه ... كيرمسون غمنخانمه بيكانه الله عشقنه
كيم بيلوردرداهلنك حالن ينه يارى بيلور ... قيل ترحم ديده كريانه الله عشقنه
بزم جانام اوزاق بوسوزش حسرت ايله ... كل سنكله يانه يم بروانه الله عشقنه
زخم فرقت بك بتوردى قالمدى بنده مجال ... سويليك بوحالمي جانانه الله عشقنه
دل خراب اباد عشقكدرا نوتمه رحم ايدوب ... فطنتنى كل ايلمه ديوانه الله عشقنه
ومنها:
ايتمه رغبت دشمن بدكاره الله عشقنه ... ويرمه فرصت أو يله هرمكاره الله عشقنه
أولمسون محرم رقيب أسراره الله عشقنه ... سن إيدرسك راضيم ازاره الله عشقنه
قيل مروت ويرمه يوزاغياره
قابلادي مرآت قلبم غم ورنج ملال ... بسترغمده ياتوب دردكله أولدم بي مكجال
حسرت ديدارك ايمه ايلدى بك خسته حال ... أويله زارا ولدى تئم كلسه أجل بولمق محال
بن شهيد غمزه كم برجاره الله عشقنه
أي طبيب جان ودل رحم ايله بوبيماركه ... منتظر دوكوز كوز اولمش زخمله يتماركه
بارى بركون مظهر ايله مهر لطف اشاركه ... دست لطفكله دواقيل خسته نا?اركه
مرهم كافور استرياره الله عشقنه
هي نه سحرا يتدك بكا أول جشم جادولرايله ايلدك علقم بر يشأن زلف شبولر ايله
شأنه وش صد جاك سينه م فكركيسولرايله ... تازه ياره ايلمه مج كان وابر ولرايله
بند زخمى اجمدك بيماره الله عشقنه
قالمدى دلده تحمل غيرى درد فرقته ... ايله محرم سويكم بركره بزم وصلته
صون لب جانبخشكي بومبتلاى محنته ... لعل نابك ايله جان ويرتا أميد صحته
صوك نفسده برمددنا جاره الله عشقنه
سروقدك صورتى آيرلمز أصلا ديده دن ... رخلرك كيتمز خيالى خاطر رنجيده دن
نونها لم قاجمه لطف ايت عاشق غم ديده دن ... صاقلامه كل رويني بوبلبل شوريده دن
عرض ديدارايله أي مهباره الله عشقنه
غمزه دنكم تاب ميدن كاه خون الود أولور ... لحظه ده ببك عاشق اشفته دل نابود اولور
نظره خمشك دخى احساندن معدوداولور ... هرنكاهك آفت جان دل ينه خشنوداولور
نه بلايه دوشمش اول آواره الله عشقنه
زنك غمدان صاف ايله سوديكم ايينه كى ... قيل جراغ بزم وصلك عاجزبى كينه كى(1/441)
شويله دلسوزا يلدى بونبذه ديرينه كى ... سينه سينه يا ندى سينه م كورميلدن سينه كى
مرحمت قيل (فطنت) غمخواره الله عشقنه ومنها:
هريرده سنك سايه صفت همدمك أولسه م ... قلب ايله لرساكى بنى مد غمك أولسه م
بيله مم كيمه درميل نهنى درونك ... كيرسه م يوركك ايجنه هب محرمك اولسه م
غرق ايلر ايدم قطره ناجيز وجودم ... كلبزك جمالكده سنك شبنمك أولسه م
فكتوريا ملكة الإنكليز وإمبراطورة الهند
كانت ولادة "قكتوريا" في الرابع والعشرين من شهر أيار (مايو) أحد شهور سنة 1819م وأبوها دوق كنت ابن الملك جورج الثالث ملك الإنكليز, وأمها الأميرة "فكتوريا ماري لويز" أخت "ليوبولد" ملك بلجيكا توفي أبوها "دوق كنت" في أوائل سنة1820م وعمرها ثمانية أشهر فقط وكان من الرجال العظام المشهورين بالفضائل والفواضل الساعين في ترقية شأن الأمة السابقين إلى عمل الخير والإحسان فإنه كان مشتركاً في أكثر من ستين جمعية خيرية, فقامت أمها على تربيتها واهتمت بأمرها فوق ما ينظر من الوالدات ولا سيما إذا كن أميرات فإن أولاد الملوك والأشراف قلما ينالهم من الاعتناء الوالدي ما ينال غيرهم من أولاد العامة, ولكن "فكتوريا" نالت من ذلك الحظ الأوفر لا سيما لأنها كانت وحيدة لأمها, فانقطعت إلى تربيتها منتظرة أن يسلم لها زمام الملك يوماً ما وتناط بها مهام السلطنة.
ولما صار "لفكتوريا" خمس سنوات من العمر عين لها البارلمنت (أي مجلس الشورى الإنكليزي) ستة آلاف ليرة في السنة لتنفق على تعليمها وتهذيبها فأكبت على الدرس حتى إذا صار لها من العمر إحدى عشرة سنة فقط كانت تتكلم بالفرنسوية والجرمانية جيداً, وتقرأ اللاتينية والطليانية.
وبرعت في الموسيقى والتصوير وظهر منها ميل شديد إلى العلوم الرياضية, ولم يقتصر في تربيتها على تهذيب عقلها وتوسيع معارفها بل صرفت إلى ترويض جسمها, لأن العقل السليم لا يكون في الجسم السقيم, فمرنت على ركوب الخيل, وقطع البحار ونحو ذلك من الأعمال التي تقوي البنية وتجيد الصحة وتزيد الشجاعة وتنزع الخوف وبغير ذلك لم يكن ممكناً لامرأة أن تحكم على مئات الملايين وتتولى أمورهم أكثر من خمسين سنة متوالية على اختلاف أجناسهم, وبلدانهم, وأغراضهم وحياتها عرضة للخطر من الخارجين عليهم من أهل البغي والمجانين.
وسنة 1830 م رقي عمها الملك وليم الرابع إلى سدة الملك, ولم يمن له أولاد أحياء من زوجته الشرعية فعنيت "فكتوريا" وارثة له قبل أن تبلغ أشدها, وجعل راتبها السنوي ستة عشر ألف جنيه ولكن لم تزل مكبة على الدرس والتجول في البلاد لتقرن معارفها التاريخية والجغرافيا بالمشاهدة وتطلع على أحوال البلاد من حيث الزراعة والصناعة, ولما بلغت سن الرشد عند الإنكليز وهو السنة الثامنة عشرة. وذلك سنة 1837 م جرى لها احتفال عظيم في البلاد, وفي تلك السنة توفي عمها الملك وكانت وفاته في العشرين من شهر حزيران (يونيو) فجاءها رؤساء المملكة وكانت نائمة فأيقظوها من نومها وأخبروها بوفاة عمها, وبأن الملك صار إليها فأبدت من الحزم والنباهة ما أدهشهم.
وفي اليوم التالي نودي بها ملكة بريطانيا العظمى وإرلند في قصر سنت جمس وللحال شرعت تحمل مهام مملكتها الواسعة وتهتم في شؤونها حتى خيف على صحتها من الاعتلال, وأشار عليها الأطباء أن تنقطع مدة عن الأشغال.(1/442)
وفي العشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) فتحت البرلمنت أول مرة وعين راتبها السنوي فيه 385 ألف ليرة وكان وزيرها الأعظم اللورد "ملبرن", وكان رجلاً جليلاً محنكاً في السياسة, إلا أنها علمت أنه لا يدوم لها وأنه لا بد لها من أن تهتم بسياسة مملكتها بنفسها, فكانت تطلب منه أن يشرح لها كل قضية من القضايا السياسية ولم تكن تمضي ورقة ما لم تفهم مؤداها جيداً.
وفي الثامن والعشرين من حزيران (يونيو) سنة 1838 م توجت في دير وستمنستر ووزعت أوراق على المدعوين بقدر ما يسع المكان ولكن أتى جم غفير من كل أنحاء البلاد لمشاهدة تتويجها فصارت ورقة الدخول تباع بخمسين جنيه لشدة ما في نفوس رعاياها من التشوق إلى مشاهدتها, وكان التاج الذي توجت به مرصعاً بالحجارة الكريمة وثمنه (112760 ليرة إنكليزية) , وبلغت نفقات تتويجها 69421 ليرة, وهذا المبلغ قليل في جانب المبلغ الذي أنفق على تتويج عمها فإنه بلغ 238 ألف ليرة وأما تاجها فإنه صاغه لها أبرع الصناع الموجودين في تلك السنة, وهو معجزة هذا الزمان وفيه يقال: ليس في الإمكان أبدع مما كان قد صيغ من الذهب على شكل بديع ورصع بألفين وسبعمائة وثلاثة وثمانين حجراً من الماس بألطف ترصيع , وفي مقدمته ياقوتة كبيرة حمراء تضيء كالمشكاة في الليلة الليلاء قيل: إنها أهديت من الملك قشتيلة بالأندلس إلى الأمير الأسود أحد ملوك الإنكليز سنة 1367 ميلادية, وفي ذلك التاج ياقوتة زرقاء على غاية من الرونق والبهاء.
وكانت قد رأت أميراً جرمانياً في صغرها اسمه البرنس"ألبرت" ابن دوق "كويرج", والظاهر أنها أحبته من ذلك الحين, فلما استوت على عرش المملكة أرادات أن تتبع سنة الله في خلقه, فكاشفت مجلس الشورى بأنها عازمة أن تتزوج بهذا الأمير, فصوب المجلس رأيها وعين ثلاثين ألف ليرة راتباً سنوياً, ولكنه اختلف في نسبته إليها وفيمن منهما يكون له التقدم ففضت الملكة هذا المشكل بقولها: إن مقامه يكون بعد مقامها بالنسبة إلى المملكة, فاقترنت به في العاشر من شباط (فبراير) سنة 1840 م وكان لاقترانهما احتفال عظيم في البلاد كلها.
وفي الحادي والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1840 م ولدت ابنته وهي التي صارت زوجة ولي عهد جرمانيا, وفي السنة التالية ولدت ولي عهدها برنس "أوف ويلس" فعم الفرح والحبور في البلاد كلها, وقدروا النفقات التي أنفقت احتفالاً بعماده بمائتي ألف ليرة وفي السنة التالية أي سنة 1842 م زارت اسكتلندا فاحتفل الشعب الاسكتلندي بها وبزوجها احتفالاً عظيماً, ثم زارتها مراراً كثيرة وكانت أحوال المملكة في اضطراب بسبب مرض البطاطا وما رتب عليه من الضيق في "إرلند" فصرفت عنايتها وعناية مجلسها إلى تخليص رعاياها من هذا الضيق والاقتصاص من المجرمين الذين يكثر عددهم في كل بلاد اشتد الضيق فيها فوقعت في مخاطر كثيرة بسبب ذلك كما سيجيء.
وسنة 1852 م توفي القائد العظيم دوق "ولنتنون" الذي قهر بونابرت في واقعة "وطرلو" فحزنت عليه الملكة حزناً شديداً وكتبت تقول إنها فقدت فخر إنكلتر ومجدها ورأسها وأعظم من قام فيها وهذا شأن كل ملك عظيم بقدر رجاله قدرهم ولا يبخس الناس أشياءهم.
ثم انتشبت حرب القرم وكان الشعب الإنكليزي يرى من واجباته مساعدة الدولة العلية ضد هجمات الروس, فظن أن رأي البرنس "ألبرت" زوج الملكة مخالف لرأيه في ذلك, فاتهمه بالخيانة والتشيع للروس(1/443)
وكثرت القلاقل والإشاعات فأشاع بعضهم أن ألقي القبض عليه وأودع السجن, وألقي القبض على المكلة أيضاً لتشيعها له, ولكن البرنس أعرب عن آرائه السياسية في البرلمنت فهدأت أفكار الناس وزال اضطرابهم.
وفي الشهر التالي استعرضت الملكة الجيوش الذاهبة إلى القرم وزارت العمارة البحرية قبل سفرها إلى البلطيك, وهتمت بحوادث هذه الحرب أشد اهتمام وفي نيسان (أبريل) سنة1855 م زارهما الإمبراطور نابليون وزوجته فردت لهما الزيارة في شهر آب (أوغسطس) مع زوجها.
ثم جاءتها سنة1861 م بأشد المصائب فتوفيت أمها في السادس عشر من آذار (مارس) وتوفي زوجها في الرابع عشر من (ديسمبر) وله من العمر اثنتان وأربعون سنة, فحزنت عليهما حزناً مفرطاً, ولم تعد ترى في المحافل العمومية, إلا نادراً حتى لما احتفل بزواج ابنها ولي العهد لم تمض إلا إلى الكنيسة.
وسنة 1867 م زارها جلالة السلطان عبد العزيز خان وملكة بروسيا وإمبراطورة فرنسا وداهمتها مصيبتان أخيريان. الأولى: وفاة ابنتها الأميرة "ليس" سنة 1868 م. والثانية وفاة ابنها دوق"الني" سنة 1884 م. وأما الملوك بمعزل عن المصائب والنوائب ولا ينجيهم منها حصن ولا معقل.
وقد مر الآن على هذه الملكة السعيدة زيادة عن خمسين سنة وهي مستولية على سدة الملك ولم يملك أحد غيرها من ملوك الإنكليز خمسين سنة فأكثر إلا ثلاثة وهم: الملك هنري الثالث الذي ملك من سنة 1216 م إلى سنة 1272 م, والملك إدوارد الثالث الذي ملك من سنة 1327 م إلى سنة 1377 م, والملك جورج الثالث الذي ملك من سنة 1760 م إلى سنة 1820 م.
وقد ارتقى الشعب الإنكليزي مدة ملكها ارتقاء لا مثيل له وامتدت السلطنة الإنكليزية في الأقطار المسكونة حتى يقال: إن الشمس لا تغرب عنها كلها في الأربع والعشرين ساعة.
وحدث في السلطنة الإنكليزية حوادث كثيرة تستحق الذكر غير ما ذكر.
منها: تخفيض أجرة البوسطة وتعديل شريعة المساكن واسكتلندا وإرلندا حتى صاروا ينتفعون نفعاً حقيقياً من مساعدة الحكومة, وصارت المساعدة تصل إلى الذين يحتاجونها حقيقة.
ومنها: إلغاء شرائع الحبوب وكانت هذه الشرائع تمنع إدخال الحبوب إلى إنكلترا إلا عند الغلاء الشديد بما تفرضه عليها من المكس الفاحش في أوقات الرخص فإذا كان ثمن الكوارتر (نحو 200 أقة) من القمح 62 شلناً أخذت الحكومة مكساً عليه 24 شلناً وثلثي الشلن وكلما قل الثمن شلناً زاد المكس شلناً, وإذا زاد الثمن عن ذلك قل المكس كثيراً فإذا بلغ الثمن 69 شلناً صار المكس 15 شلناً وثلثين وإذا بلغ الثمن 73 شلناً صار المكس شلناً, فإذا اشترى أحد قمحاً حينما كان ثمن الكوارتر 18 شلناً, ثم رخص القمح فصار القمح ثمن الكوارتر 69 شلناً بلغت خسارته في كل كوارتر 18 شلناً وثلثي الشلن لأنه يلتزم حينئذٍ أن يدفع عليه مكساً 15 شلناً وثلثين بدلاً من دفع شلن واحد.
ومنها: انتقال أملاك تركية الهند الشرقية إلى الحكومة الإنكليزية وبالتالي استيلاء الحكومة على كل بلاد الهند وجعلها قسماً من السلطنة الإنكليزية مع أن أهاليها يبلغون مائتي مليون وأهالي بريطانيا وإرلندا لا يبلغون الآن 35 مليون.
ومنها: إباحة دخول البرلمنت لليهود ووضع نظام التعليم الجديد ولم يكن في بلاد الإنكليز نظام عام للتعليم حتى سنة 1870 م. وما بعدها فأقرت الحكومة ترتيب المدارس على نظام ثابت وساعدتها بالأموال الوفيرة ففتحت أبواب المعرفة لكل ولد من أولاد الأمة.(1/444)
زمنها: اكتشاف الذهب في أستراليا وكولمبيا ومد التلغراف بين إنكلترا وأمريكا, وبينها وبين كل ولايتها واتساع نطاق الزراعة والصناعة والتجارة باتساع نطاق المعارف والاكتشافات العلمية وتكاثر السكك الحديدة والسفن التجارية.
وفي الجملة تقول: إن الشعب الإنكليزي بلغ أوج مجده في مدة هذه الملكة وتمتع بما يتبعه الناس من الحرية الشخصية حتى إن الحقوق التي طلبها الفيلسوف "جون ستورت" في كتابه المعنون بالحرية لم يبق لها داع لأن الجميع تمتعوا بها وبأكثر منها.
ونودي بالملكة "فكتوريا" إمبراطورة الهند سنة 1876 م, وقد ولد لها تسعة أولاد أربعة بنين وخمس بنات وهذه أسماؤهم مع ذكر رواتبهم السنوية: ليرة عدد الأسماء 8000 40000 65000 10000 25000 6000 6000 25000 6000 6000 385000 45000 1 2 3 4 5 6 7 8 9 البرنسيس "فكتوريا أرليد" زوجة ولي عهد بروسيا البرنس "ألبرت" برنس أوف ويلس دخل دوقية كورنول لزوجة البرنس المذكور البرنس "ألسن" وقد توفيت "ألغرد" دوق أدبنرج البرنسيس "هيلانة" البرنسيس " لويزا" البرنس " أرتر" دوق "كونوت" البرنس "لبوبلد" دوق "اليني" فقد توفي وجعل لزوجته في السنة الأميرة "بياثرس" راتب الملكة السنوي دخل دوقية لنكستر والملكة "فكتوريا" مشهورة في حسن تدينها وشدة اهتمامها بتربية أولادها على مبادئ الديانة والتقوى, وفي اهتمامها بالفقراء والمساكين والمحتاجين من رعاياها فتنفق عليهم من مالها وتشتغل بيدها أحزمة وأكيسة وترسلها لهم, وتهتم أيضاً في شأن العلوم والمعارف شديد الاهتمام, وتثيب المشتغلين فيها, وتقطع لهم الوراتب السنوية جزاء لخدمتهم فالأستاذ "هكسلي" مثلاً له راتب سنوي قدره 300 ليرة, والدكتور "مري" له 270 ليرة في السنة, "ومتبو أرتلد" له 250 ليرة, و" ألفردولس" 200 ليرة.
ومع فضل هذه الملكة العظيمة وشدة تعلق شعبها بها وحبهم لها لم يصف لها كأس الحياة من المعتدين الطالبين قتلها, فقد صدق من قال: إن المناصب محفوفة بالمتاعب, فبعد زواجها بأربعة أشهر كانت ذاهبة في مركبة مفتوحة مع زوجها فدنا منها شاب اسمه "أكسفرد" وأطلق عليها طبنجة مرتين ولكنه لم يصبها بمكروه فحكم عليه بالموت, ثم وجد فيه اختلال في عقله فأبدل الحكم بوضعه في بيمارستان المجانين مدى الحياة.
وسنة 1842 م حاول واحد آخر قتلها وأطلق عليها طبنجة فحكم عليه بالموت, ولكنها خففت الحكم وحكمت(1/445)
عليه بالنفي المؤبد وبعد أسابيع قليلة حاول واحد آخر أن يطلق عليها طبنجة, فحكم عليه بالسجن.
وسنة 1849 م حاول رجل إرلندي قتلها ورماها بالرصاص فلم يلحق بها ضرراً فحكم عليه بالنفي سبع سنوات.
وفي السنة التالية هجم عليها أحد الجنود وضربها بالعصا على وجهها فحكم عليه بالنفي سبع سنوات.
وسنة 1872 م أطلق عليها شاب طبنجة محاولاً قتلها فلم يصبها ولدى النظر في أمره وجد مجنوناً فأودع البيمارستان. وفي تلك السنة أرسل بعضهم رسالة إلى السير "هنري بولسونبي" يتهدد به المكلة بالقتل فهذه حياة الملوك وهذا هو خلها وخمرها.
وللملكة فكتوريا مؤلفان شهيران الأول في تاريخ حياة زوجها ألفة الجنرال "غراي" بإرشادها. والثاني: تاريخ حياتها معه من سنة 1841 م إلى سنة 1861 م وأتبعته بكتاب آخر من نوعه نشرته في أواخر سنة 1883 م وهو يمتد من سنة 1862 م إلى سنة 1882 م.
أما زوجها البرنس "ألبرت" فهو ابن دوق "سكس كوبرج كوثا" وهي ولاية في سكسونيا ولد في السادس والعشرين من شهر آب (أغسطس) سنة 1819 م ودرس العلوم العالية في مدرسة بون الجامعة, وبعد أن تخرج في العلوم السياسية تعلق بالكيمياء والتاريخ الطبيعي والتصوير والموسيقى ويقال: إنه نظم رواية من نوع الأوبرا مثلت في لندن بعدئذٍ. وكان بديع المنظر ماهراً بالفروسية.
ولما اقترنت به الملكة "فكتوريا" على ما تقدم كان في الحادية والعشرين من عمره فمنح الإعانة الإنكليزية وأعطيت له قيادة ألاي من الفرسان ورقي إلى رتبة قليد مرشال, ثم وجهت إليه ألقاب ورتب كثيرة لأن الشعب الإنكليزي رأى منه رجلاً حازماً ساعياً في خير الأمة من غير أن يعرض نفسه للمسائل السياسية التي تعرض لمقاومة حزب من حزبي المملكة والملكة وجدته زوجاً أميناً محباً. أما السبيل الذي اختاره للسعي في خير الأمة من غير أن يعرض نفسه لمقاومة أهل السياسة فهو تنشيط العلوم والفنون فجعل رئيساً لمدرسة كمبرج الجامعة لكثير من المجامع العلمية, ولما كان رئيساً للمجمع العلمي البريطاني سنة 1859 م أعرب عن رأيه من جهة العلم معتمداً على إحسان المحسنين بل يخاطب الدولة كما يخاطب الابن أمه واثقاً بحنوها ورغبتها في نجاحه, وستجد الدولة في العلم عنصراً من عناصر قوتها ونجاحها وبسعيه فتح المعرض العام ببلاد الإنكليز سنة 1851 م ولكن لم يفسح الله له في الأجل فوافته المنية وله من العمر اثنتان وأربعون سنة.
فكتوريا ودهول
إن هذه السيدة من بنات أمريكا الجديرين بالذكر والمدح وممن يفتخر بهن في الاجتهاد والتقدم لأنها ربيت مع أختها "تنيس كلفن" في بلاد أمريكا تربية حسنة ومن عهد نشأتهما ربيت معهما ملكة التقدم وحب التظاهر ومناظرة الرجال بالأعمال اليدوية والمضاريب التجارية, ومن شدة رغبتها في التقدم قام بفكرهما أن يسويا بين الرجال والنساء في الحقوق والمعاملات, فأخذتا على عهدتهما من بدء نشأتهما نشر هذه الأفكار والبرهنة على كفاءة النساء في إدارة الأعمال المالية وغيرها مما لم يقم بأدائه إلى الآن سوى الرجال, وبالفعل فإنهما قد أسستا بيتاً مالياً كتبتا عليه عنوانهما, فتعجب من ذلك أصحاب المضاربات (البنوكة) وتضاعف اندهاشهم لما سمعوا بعد تأسيس المحل المذكور بعدة أسابيع أن صاحبتيه(1/446)
اكتسبتا عدة ملايين من الريالات وقد أعقب ذلك وقوع أرباب البنوكة ذوي اللحى والشوارب في وهدة الإفلاس.
وقد رسم بعض المصورين هاتين البنتين وعلى رأس كل منهما تاج رمزاً على القوة والتسلط وأطلقت الجرائد ألسنتها بالثناء الجميل والشكر الجزيل على مهارتهما وتغالت في ذلك حتى إن جريدة تلغراف نيويورك نشرت في صدر أحد أعدادها صورة تمثل البنتين راكبتين على عجلة يجرها رؤساء أكبر البيوت المالية فقامت جريدة نيويورك "هرالد" تصوب نحوهما سهام الانتقاد والتعزير وقالت: إن الشرائع الأمريكية وعادتها الأهلية تمنع النساء من السير في المناهج السياسية والدخول في ميادين الأعمال الاجتماعية مهما بلغت بهن درجة العلم والمعرفة. ولما اتصل بهما هذا الكلام لم تعبآ به بل أخذتا في اتباع طريقهما الأول وحثتا السير فيه, وانتهى الأمر بهما إلى أن أسستا جريدة أسبوعية بلغ عدد مشتركيها في زمن يسير (50000) نفس.
ولما كانت القوانين الأميركية تخول لجميع أبناء الوطن الذين بلغوا رشدهم الحق في إعطاء أصواتهم بشرط أن يدفعوا ما عليهم من العوائد والرسوم التي اقتضتها نظامات الحكومة, وكانت السيدة "ودهول" من بنات الوطن اللاتي توفر فيهن شروط بلوغ الرشد ولكنها لم تدفع ما استحق عليها من العوائد والرسوم فقد عرضت على هيئة الحكومة أن تعطي لها الإذن بالدخول في مصاف الهيئة الاجتماعية, وشفت عن استعدادها لدفع الرسوم المطلوبة, ثم أخذت تبرهن بعبارات فصيحة وقياسات صحيحة على وجوب مساواة النساء بالرجال في الحقوق الوطنية وتحزب لمذهبها جم غفير من الناس وخمسمائة عضو من مجلس النواب نائبين عن ست وعشرين مقاطعة.
وقد أخذ نجاح الأختين يتدرج في مدارك الزيادة والنمو حتى إنهما عولتا على نشر مبدئهما الحميد ألا وهو تحسين أحوال المرأة في العائلة وكانتا في كل أقوالهما وكتاباتهما توجهان سهام الانتقاد والتبكيت على كيفية تعليم الفتيات وقالتا: إنها مشحونة بقواعد طويلة مملة ومبادئ تميل بهن إلى اتخاذ التملق والخلق الذميم آلة لنوال مآربهن, وذكرتا غير مرة أن البنت تتعلم لتكون في المستقبل امرأة صالحة ووالدة مربية لا لتزويقها وتهيئتها لأن تكون داعية لاستلفات أنظار الشبان وأن أهلها وذوي قرابتها ومعلماتها يخفون عنها أنها لتكون في يوم من الأيام ربة بيتها ومديرة شؤون عائلة ستكون هي قوام نظامها, وركن سعادتها ودعامة عزها وشوكتها. ثم إنهم فوق ذلك لا يذكرونها بواجبها إذا صار بينها وبين الزواج زمن يسير.
وبالجملة فكانت جميع هذه الأقوال باعثة على قيام الجميع ضد هاتين الأختين فاتهموهما بنشر المبادئ الفاسدة والعبث بصفة النساء الطاهرات الذيل وقد تغالوا في اتهامهما فنسبوهما إلى بث المبادئ العاطلة في العادات السليمة والأخلاق الحالية. وبناء عليه صاروا يغلوا في غياهب السجن ورغماً عن كون المحكمة قد برأتهما وأطلقت سراحهما فإن الناس استمروا يسومونهما الحيف والخسف وقالت إحدى الجرائد الأمريكية في ذلك ما نصه: كانت إذا احتاجت "فكتوريا ودهول" أن تستأجر حجرة لتبيت فيها وكانت أجرة هذه الحجرة 2000 ريال لا يسمح لها بسكناها بأقل من 3000 ريال, وإذا نزلت بإحدى الفنادق كانت تدفع عشرة أمثال ما يدفعه غيرها وكثيراً ما قضيت الليالي خارج المنازل لعدم قبول أحد أن يضيفها في منزله.
ولما وصلت إلى هذا الحد حالتهما ورأتا عدم طيب المقام بارحتا أمريكا قاصدتين مدينة "لوندره" حيث(1/447)
كرمت مثواهما إحدى النساء الإنكليزيات ولم يذهب سعيهما في بلاد أمريكا هباء منثوراً فإنه لا يرى الإنسان في الولايات المتحدة بالقارة المذكورة محلاً من المحلات إلا وجدت المرأة فيه بجانب الرجل تؤدي الأعمال كما يؤديها هو, وتحقق من أن حقوقها صارت مرعية فهي لا تمنع من اكتساب ما يقوم بمعاشها ومعاش آويها من أي عمل رضيت به فهذه هي النساء, وهذا هو الفخر إذ أن امرأة تعجز عن أعمالها الرجال في بلاد مثل أمريكا.
قيدر ابنة مينوس الكريني
هي حليلة "ثيزى" ملك أثينا هامت أثناء تغيب زوجها بابنه "أبيوليت" المولد من زوجته الأولى "أثيوبا" ملكة الأمازون, وكان جميلاً فتاناً, ولما تمادى بها الوجد والألم وابتلاها الكتمان بالسقم باحت بما تجده من حر الجوى وبرحاء الهوى إلى أمينة سرها "أوتون", أما "أبيوليت" فكان مفتوناً بحب "أديسيا" سجينة أبيه ذات النسب الملكي التي كانت أيضاً كلفت به دون أن يعلم كل بماله في قلب الآخر فكانوا يمثلون سلسلة عشاق ومعاشيق, ولكن تحت طي الستر والخفاء مخافة الافتضاح إذا قدر الجفاء.
جننا بليلى وهي جنت بغيرنا ... وأخرى بنا مجنونة لا نريدها
فلما أرجف بموت "ثيزى" زينت "أوتون" ل "فيدر" مطارحة "أبيوليت" أحاديث الوجد وأطماعه [في إرث] العرش بالنيابة عن ابنها الطفل الذي كانت الأمة تتردد في الاختيار بينه وبين "أديسيا" تلك التي استبشرت بالفكاك من الأسير حال, إيقافها "أبيوليت" على دخيلة الأمر بعد إذ كانت يئست من الخلاص, وتلا عليها لسان الحال ذوقي عذاب ربك لات حين مناص, فعالنتاه كلتاهما بحديث وجد مقيم معقد بلسان أغن ينشد:
أرى في فؤادي لوعة الحب لا تهدا ... أهذا الذي سماه أهل الهوى وجدا
قال "أديسيا" عقدي وداد وولاء ورمى "فيدر" بسهمي نفرة وجفاء, ولم يمض إلا مثل حسوة طائر, أو لهنة مسافر حتى قيل: عاد "ثيزى" حياً فسقط في يدي "فيدر" وقالت: ويلاه, لقد جئت شياً فرياً, ثم عضت بنانها الخضيب بثنايا الندامة وفوقت إلى قيمتها "أوتون" نبال التقريع والملامة, ولكن كان قد سبق السيف العذل, فلجأت إلى الغدر والختل حتى إذا حل زوجها الصرح قابلته بوجه باسر, ودمع ماطر, وخرطوم كمخلب كاسر وقالت بصوت يقصف كالهذيم: ما جزاء من أراد بأهلك سوء إلا أن يسجن أو عذاب أليم إن "أبيوليت" رماني لاقتناص عن قوس احتياله بحربات نافذات كادت تفري عرضاً وفرو تثلم سد المأرب.
وفب رواية إن ذلك كان بلسان "أوتون" ليتم الدست على "ثيزى" المغبون فانطلقت عليه زخارفها وجهر في مجاهل مخارفها, فنشبت برجله الحبالة, ولم يدر أن عرسه أروغ من ثعالة, ففار على ابنه غيظاً كما يفور المرجل ولعنه وهو يحرق عليه الأرم قائلاً: امض إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم, ثم توسل إلى مبعود البحر نبتون أن يهلك ابنه الخؤن, فمضى "أبيوليت" في رهط من حاشيته أسيفاً حزيناً قاصداً مدينة "مسينة"
وكان أوعز إلى "أريسيا" أن تلحق به ليشهد المعبودات على اقترانهما وليقطعا غابر العمر في حجر بعضهما فبينما هو سائر على شاطئ البحر إذا بالأمواج علت كالشواهق, ثم هوت متكسرة كأنما رميت بجلاهق, فبان من تحتها تنين أقشر هائل المنظر أجش الصوت تنوب أنيابه عن ملك الموت, ففر القوم هلعاً متوارين عن الأبصار إلا "أبيوليت" فإنه قابله بقلب من فولاذ, وصدر كأنه تيار, ورمى فؤاده بحربة هي للأرواح أحرق(1/448)
أخبار, وللأعمار أقطع بتار فإنهار عند أرجل الخيل كالنخلة السحوق متشحطاً بدمه, كادماً الصخر بفمه, فنفرت الخيل وأي نفار, وشردت المركبة متسلقة بين الصخور في القفار, حتى تكسرت العواجل وسقط على الصحصحان, وكانت قد علقت رجله بالعنان, فجعلت تجره الخيل مذعورة تتلاطم مدهوشة حتى تمزقت لحمانه بفعل الأشواك والصخور, وتفجرت ينابيع دمه منسابة في تلك الشعاب والوعور, ولم يدركه أصحابه إلا والجريص في ثغره والحشرجة في صدره, فأوصاهم أن يبلغوا أباه ما كان وأنه بريء من افتراء دليلة المكر والبهتان, وأن يتوسلوا إليه عنه بأن يتخذ حبيبته "أديسيا" بدلاً منه عزاء لمصابه, وشهداً يحلى جام صابه, وبعد موته بدقائق أقبلت "أديسيا" بخطو دونه إهماج السوابق, وانقضاض الصواعق, فلما رأت محبوبها في تلك الحالة صعقت بصوت دوى له الجو وانطرحت إلى جانبه لا تفرق ولا تعي, ولما ثاب إليها حلمها عاد الجميع أدراجاً, واتخذوا تواً إلى المليك منهاجاً, فقصوا عليه ذلك النبأ الفاجع, وكان قبل ذلك أن "أونون" -أم البدائع- ألقت بنفسها إلى البحر كمداً لما جرى عن يدها من الفظائع, ولما كاد صبح الحقيقة أن يلوح شربت "فيدر" سماً ناقعاً, وقابلت "ثيزى" كاسرة طرفاً دامعاً, وأنبأته ثمت بوصمتها بما صيرته على هامة من الويل بداعية تلبيتها نداء شهوتها, وكان السم قد استحكم في دورة دمائها, فتحرقت مفردات أحشائها وسقطت أمامه جثة بلا روح, فقامت عليه القيامة, وعاد على نفسه بالتوبيخ والملامة وقطع مع "أديسيا" التي اصطفاها ابنة وخليلة عيشاً ينغصه ذكرى "من يزرع العجلة يحصد الندامة".
فيروز خونده
بنت السلطان علاء الدين ملك دهلي في بلاد الهند كانت فريدة الزمان حسناً وبهاء, وعقلاً وذكاء, ذات أدب وفصاحة, وكياسة وملاحة, محبة للمكرمات تفعل الخير مع كل من تراه مستحقاً.
شاركت أخاها السلطان شهاب الدين في صعاب الأمور, وسلم لها زمام الأحكام حتى إنها بأصالة رأيها ضبطت المملكة أحسن مما كانت عليه في مدة أبيها, وكان أخوها لا يقطع أمراً إلا برأيها, ومن شدة محبته لها لم يرض أن يزوجها خارجاً عن مملكته وزوجها لشخص غريب اسمه الأمير "غدا" ابن الأمير هبة الله بن مهني أمير عرب الشام بقصد أن يقيم عنده كما قاله ابن بطوطة في "رحلته": قال: إنه لما جاء الأمير غدا" ابن الأمير هبة الله سائحاً في بلاد الهند مر على "دهي" فأكرمه السلطان شهاب الدين إكراماً زائداً وأحب أن يأخذه ضيفه من محبته للعرب, فزوجه أخته المذكورة وعمل له فرحاً عظيماً وكيفيته أن عين للقيام بشأن الوليمة ونفقاتها الملك فتح الله المعروف "بشونويس" وعين ابن بطوطة لملازمة الأمير "غدا" والكون معه في تلك الأيام, فأتي الملك فتح الله بالصيونات فظللل بها فسحات القصر الأحمر وضرب في كل واحد منهما قبة ضخمة جداً, وفرش ذلك بالفرش الحسان وأتى شمس الدين التبريزي أمير المطربين ومعه الرجال المغنون والنساء المغنيات والرواقص وكلهن مماليك السلطان وأحضر الطباخين والخبازين والشوايين والحلوانيين والثريدارية والتبول وذبحت الأنعام والطيور, وأقاموا يطعمون الناس خمسة عشر يوماً ويحضر الأمراء الكبار والأعزاء ليلاً ونهاراً.
فلما كان قبل ليلة الزفاف بليليتين جاء الخواتين من دار السلطان ليلاً إلى هذا القصر فزينه وفرشنه بأحسن الفرش واستحضر الأمير سيف الدين لكونه عربياً غربياً لا أقران له, وحففن به وأجلسنه على مرتبة معينة له, وكان السلطان قد(1/449)
أمر أن تكون ربيبة أم أخيه مبارك خان مقام أم الأمير "غدا" وأن تكون امرأة أخرى من الخواتين مقام أخته وأخرى مقام عمته, وأخرى مقام خالته حتى يكون كأنه بين أهله.
ولما أجلسنه على المرتبة جعلن له الحناء في يديه ورجليه وأقام باقيهن على رأسه يغنين ويرقصن, وانصرفن إلى قصر الزفاف وأقام هو مع خواص أصحابه وعين السلطان جماعة من الأمراء يكونون من جهته وجماعة يكونون من جهة الزوجة وعادتهم أن تقف التي من جهة الزوجة على باب الموضع الذي تكون به جلوتها على زوجها ويأتي الزوج بجماعته فلا يدخلون إلى إن غلبوا أصحاب الزوجة أو يعطونهم الآلف من الدنانير إن لم يقدروا عليهم.
ولما كان بعد المغرب أتى إليه بخلعة حرير زرقاء مزركشة مرصعة قد غلبت الجواهر عليها فلا يظهر لونها مما عليها من الجوهر وبشاشية مثل ذلك, ثم ركب الأمير سيف الدين في أصحابه وعبيده وفي يد كل واحد منهم عصاً قد أعدها وصنعوا شبيه إكليل من الياسمين والنسرين والزيتون وله زخرف يغطي وجه المتكلل به وصدره وأثوابه وأعطوه إلى الأمير ليجعله على رأسه فأبى من ذلك وكان من عرب البادية لا عهد له بأمور الملك والحضر, فحاوله ابن بطوطة وحلف عليه حتى جعله على رأسه وأتى باب الحرم وعليه جماعة الزوجة فحمل من ثياب وبلغ ذلك السلطان فأعجبه فعله ودخل إلى القصر.
وقد جعلت العروس فوق منبر عال مزين بالديباج مرصع بالجوهر ملآن بالنساء والمطربات قد أحضرن أنواع الآلات المطربة وكلهن وقوف على قدم إجلالاً له وتعظيماً, فدخل بفرسه حتى قرب من المنبر فنزل وخدم عند أول درجة منه, وقامت العروس قائمة حتى صعد فأعطته التنبول بيدها فأخذه وجلس تحت الدرجة التي وقفت بها ونثرت دانانير الذهب على رؤوس الحاضرين من أصحابه ونقطها النساء والمغنيات تغنين حينئد والأطبال, والأبواق, والأنفار تضرب خارج الباب.
ثم قام الأمير وأخذ بيد زوجته ونزل وهي تتبعه فركب فرسه يطأ بها الفرش والبسط, ونثرت الدنانير عليه وعلى أصحابه وجعلت العروس في محفة وحملها العبيد على أعناقهم إلى قصره والخواتين بين يديها راكبات وغيرهن من النساء ماشيات وإذا مروا بدار أمير أو كبير خرج إليهم ونثر عليهم الدنانير والدراهم على قد رهمته حتى أوصلوها إلى قصره, ولما كان بالغد بعثت العروس إلى جميع أصحاب زوجها الثياب والدنانير والدراهم وأعطى السلطان لكل واحد منهم فرساً مسرجاً ملجماً, وبدرة دراهم من ألف دينار إلى مائتي دينار وأعطى الملك فتح الله للخواتين ثياب الحرير المنوعة والبدر, وكذلك لأهل الطرب وعادتهم ببلاد الهند أن لا يعطي أحد شيئاً لأهل الطرب إنما يعطيهم صاحب العروس, وأطعم الناس جميعاً ذلك اليوم وانقضى العرس وأمر السلطان أن يعطي الأمير "غدا" بلاد المالوة والجزأت وكيناية وسهر والة.
وجعل فتح الله المذكور نائباً عنه عليها وعظمه تعظيماً شديداً, وكان الأمير جافياً فلم يقدر ذلك حق قدره وغلب عليه جفاء البادية فأداه ذلك إلى النكبة به بعد عشرين ليلة من زفافه وذلك من تعديه على زوجته واحتقاره لها ولأهلها ورجال مملكتها, فحقدوا عليه وأخرجوه من بينهم طريداً فريداً بدون زاد ولا راحلة وبقيت المترجمة في منزل أخيها معززة مكرمة لا ينقصها شيء سوى ما فاتها من محبة زوجها وهكذا الزمان لا يصفو لأحد.
حرف القاف
[قتيلة بنت النضر بن الحارث]
قتيلة بنت النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن مناف بن عبد الدارين قصي القرشية العبدرية.(1/450)
كان أبوها طبيب العرب وحارب النضر في يوم بدر مع قريش فأسر, ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله فقتل.
قال التبريزي: كان النبي صلى الله عليه وسلم تأذى به فقتله صبراً, وكان من جملة أذاه أنه كان يقرأ الكتب في أخبار العجم على العرب ويقول: إن محمداً يأتيكم بأخبار ثمود وعاد, وأنا منبئكم بأخبار الأكاسرة والقياصرة يريد بذلك القدح بنبوته.
وقال ابن عباس في قول الله تعالى: (ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا) [لقمان: 6] إنها نزلت في النضر بن الحارث وكان يشتري كتب الأعجام من فارس والروم وكتب أهل الحيرة فيحدث بها أهل مكة, وإذا سمع القرآن أعرض عنه واستهزأ به, فلما أسر يوم بدر أمر النبي علياً أن يضرب عنقه وعنق عقبة بن أبي معيط صبراً فقتلا فقالت فتيلة ترثي أباها.
وفي بعض الروايات أنها أتت محمداً فأنشدت الأبيات الآتية فرق لها النبي وبكى وقال لها: لو جئتني من قبل لعفوت عنه, ثم قال: لا تقتل قريش صبراً بعد هذا والأبيات رواها كثيرون وشرحها شارح الحماسة وهي:
يا رابكاً إن الأثيل مظنة ... من صبح خامسة وأنت موفق
أبلغ به ميتاًً فإن تحية ... ما أن تزال بها النجائب تعنق
مني إليه وعبرة مسفوحة ... جادنت لمانحها وأخرى تحنق
فليسمعن النضر إن ناديته ... إن كان يسمع ميت أو ينطق
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تشقق
قسراً يقاد إلى المنية معتباً ... رسف المقيد وهو عان موثق
أمحمد أو لست صنو نجيبة ... في قومها والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت وربما ... من الفتى وهو المغيظ المحنق
لو كنت قابل فدية لفديته ... بأعز ما يغلو لديك وينفق
فالنضر أقرب من تركت قرابة ... وأحقهم إن كان عتق يعتق
وبعدما انتهت من قصيدتها وقال لها النبي ما قال. قالت تمدحه بقصيدة مطولة -عثرنا منها على هذا البيت-:
الواهب الألف لا يبغي به بدلاً ... إلا الإله ومعروفاً بما اصطنعا
وهذه القصيدة لعمري إنها من القصائد التي يحق الافتخار بها لأنها صادرة من ذات قناع, وقد علمت قوة قائلتها من انسجام هذا البيت الذي ذكر منها لأنه في غاية الرقة والانسجام.
وتزوجت قتيلة بعبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر بن عبد شمس فولدت له علياً والوليد ومحمداً وأم الحكم وقد أسلمت بعد قتل أبيها وصارت من الصحابيات المروي عنهن الحديث توفيت في خلافة عمر بن الخطاب.
قلم الصالحية جارية صالح بن عبد الوهاب
كانت جارية صفراء, حلوة حسنة الغناء والضرب, حاذقة. قد أخذت عن إبراهيم وعن ابنه إسحاق ويحيى الملكي, وزبير بن دحمان. وكانت لصالح بن عبد الوهاب, واشتراها الواثق, وكان الواثق قد جمع أرباب الغناء فغنى أحدهم بين يديه لحناً لقلم في شعر محمد بن كناس وهو:
في انقباض وحشمة فإذا ... صادفت أهل الوفاء والكرم(1/451)
أرسلت نفسي على سجيتها ... وقلت ما قلت غير محتشم
فسأل لمن الصنعة فيه فقيل: لقلم الصالحية جارية صالح بن عبد الوهاب فبعث إلى محمد بن عبد الملك الزيات فأحضره فقال: ويلك, من هو صالح بن عبد الوهاب هذا؟ فأخبره به قال: ابعث له فأشخصه هو وجاريته فقدما على الواثق فدخلت قلم فأمرها بالجلوس والغناء فغنت, فاستسحن غناءها, وأمر بابتباعها فقال صالح: أبيعها بمائة ألف دينار وولاية مصر؟ فغضب الواثق من ذلك وردها عليه, ثم غنى بعده زرنب الكبير في مجلس الواثق صوتاً لقلم وهو:
أبت دار الأحبة أن تبينا ... أجدك ما رأيت لها معنياً
تقطع نفسه من حب ليلى ... نفوساً ما أثبن ولا جزينا
فسأل لمن الغناء فقيل: لقلم جارية صالح. فبعث إلى ابن الزيات أن أشخص صالحاً ومعه قلم, فلما أشخصها دخلت على الواثق فأمرها أن تغنيه هذا الصوت فغنته فقال لها: الصنعة فيه لك. قالت: نعم يا أمير المؤمنين. قال: بارك الله فيك. وبعث إلى صالح فأحضر فقال: أما إذا وقعت الرغبة فيها من أمير المؤمنين فما يجوز أن أملك شيئاً له فيه رغبة, وقد أهديتها إلى أمير المؤمنين فإن من حقها على إذا تناهيت في قضائه أن أصيرها ملكه فبارك الله له فيها فقال له الواثق: قد قبلتها.
وأمر ابن الزيات أن يدفع له خمسة آلاف دينار وسماها احتياطاً فلم يعطه لن الزيات المال ومطله به فوجه صالح إلى قلم من أعلمها ذلك فغنت الواثق وقد اصطبح صوتاً فقال لها: بارك الله فيك وفيمن رباك فقالت: يا سيدي, وما نفع من رباني مني إلا التعب والغرم علي والخروج مني صفراً قال: أولم آمر له بخمسة آلاف دينار قالت: بلى.
ولكن ابن الزيات لم يعطه شيئاً فدعا بخادم من خاصة الخدم ووقع إلى ابن الزيات بحمل خمسة آلاف دينار إليه وخمسة آلاف أخرى معها قال صالح: فصرت مع الخادم إليه بكتاب فقربني.
وقال: أما الخمسة آلاف الأول فخذها فقد حضرت والخمسة الآلاف الأخرى أنا أدفعها إليك بعد جمعة, فقمت, ثم تناساني كأنه لم يعرفني وكتبت إليه كتاباً أقتضيه فبعث إلي اكتب لي قبضاً بها (أي وصلاً) وخذها بعد جمعة فكرهت أن أكتب قبضاً بها فلا يحصل لي شيء فاستترت منه في منزل صديق لي, فلما بلغه استتاري خاف أن أشكوه إلى الواثق فبعث إلي بالمال وأخذ كتابي بالقبض, وابتعت بالمال ضيعة, وتعلقت بها وجعلتها معاشي.
قمر جارية إبراهيم بن حجاج اللخمي صاحب إشبيلية
كانت من أهل الفصاحة والبيان والمعرفة بصنعة الألحان وجلبت إليه من بغداد, وجمعت أدباً وظرفاً ورواية وحفظاً مع فهم بارع, وجمال رائع, وكانت تقول الشعر بفضل أدبها ولها في مولاها تمدحه:
ما في المغارب من كريم نرتجي ... إلا حليف الجود إبراهيم
إني حللت لديه منزل نعمة ... كل المنازل ما عداه ذميم
ومن قولها تشوقاً إلى بغداد:
آها على بغدادها وعراقها ... وظبائها والسحر في أحداقها
ومحالها عند الفرات بأوجه ... تبدو أهلتها على أطواقها
متبخترات في النعيم كأنما ... خلق الهوى العذري من أخلاقها(1/452)
نفسي الفداء لها فأي محاسن ... في الدهر تشرق من سني أشراقها
ومن حسن صوتها وجمالها وتهذيبها حظيت عند مولاها وبقيت عنده في عز وإقبال إلى أن ماتت فأسف عليها أسفاً شديداً.
حرف الكاف
كاترينا هنريات دوبلذاك دوانتزغ
مركيزة "فرنل" حليلة "هنري الرابع" ملك فرنسا ولدت في أرليان سنة 1579 للميلاد. توفيت في باريس 24 شباط سنة 1633 م. وهي ابنة "فرنسوا دوبلذاك دوانتزاغ" من زوجته الثانية "ماري توشيت" التي كانت قبل أن تزوجها عشيقة "شارل التاسع" ملك فرنسا.
أما "كاترينا" فكانت بديعة المعاني غاية في الجمال والدلال والذكاء فتنة للناس ذكرها رجال الدولة ل "هنري الرابع" بعد موت عشيقته غبرياله دواستري فهام بها قبل أن يراها ولما التقيا ألقته في شرك الغرام فلم يجد عنها بعد ذلك سلوى وكانت برشاقتها ورقتها تزيده شغفاً بها فأعطاها 500 ألف فرنك وعاهدها خطاً على أن يتزوجها إذا ولدت له ولداً ذكراً, فلما نمى الخبر إلى وزيره "سلي" استشاط غيظاً, ومزق المعاهدة. أما "هنري" فكتبها ثانية وقدمها لها في تشرين الأول سنة 1599 م.
وسنة 1600 م أسقطت فتزوج الملك "بماري دومديشي" وبعد تزوجه بها لقي كاترينا فأوسعته شتائم ولم يتمكن من إخماد غضبها إلا بجعلها "مركيزة لفرنل" وطلب إليها أن تتقرب إلى الملكة وتؤانسها وألح عليها بذلك فأجابته إلى طلبه ورضيت أن تقيم في اللوفر وولدت هناك عدة أولاد وكانت فيه سبباً لتنغيص عيشه وعيش الملكة وجرى لها مع "سلي" مناقشات شديدة, فكان يذكر لها أمولاً تغيظها, وكانت تطلب إلى الملك أن يفصله فلم يجب طلبها.
أما "ماري دومديشي" فكانت تلح على "هنري الرابع" باسترجاع معاهدة الزواج التي عقدها معها وهي تمانع في ذلك أشد الممانعة, وتريها لكل من يرغب في الاطلاع عليها غير أن تمنعها أوقع بينها وبين هنري خصاماً, فطلبت إليه أن يسمح لها بالذهاب إلى إنكليرا مع أولادها فسمح لها بذلك بشرط أن ترد عليه المعاهدة, ولكنها لم تسلمها إلا بعد أن قبضت 100 ألف فرنك, وعدلت عن السفر إلى إنكلترا فبقيت في فرنسا وواطأت جماعة على خلع الملك من جملتهم أبوها والكونت "دواوفرن" أخوها لأمها.
فلما كشفت المؤامرة حكم عليها بالموت وذلك في شباط سنة 1605 م غير أنه كان لم يزل لجمالها سطوة على الملك فاسترضته عنها فبدل قصاصها هذا بالسجن وأطلق سبيلها أيضاً ولم يلبث أن قربها ثانية فصار لها عنده من المنزل والحب والإكرام ما كان لها أولاً, ولم تزل هذه حالها إلى أن قرب الملك غيرها فهجرها فتركت البلاط الملكي وصرفت أيامها الأخيرة في فرنل وباريس, ولما استنطقت ابنة "كومان" رفيقة الملكة "مرغريتا" بعد أن قتل هنري الرابع اتهمت "كاترينا" بالاشتراك في قتله غير أنه لما كان قد حكم على الابنة المذكورة بالسجن مدة حياتها بطولها لأنها شهدت شهادة زور في غير تلك المسألة لم يتمكن المؤرخون من الاستناد إلى ما اتهمت به المركيزة. ومن جملة الأولاد الذين ولدتهم "كاترينا" "لهنري الرابع" "غبرياليه أنجليك" التي تزوجت دوق "أبرتون". وتوفيت سنة 1627 م.
"وغستون هنري دوفرنل" ولد سنة 1601 م وسمي أسقفاً لمتس. قيل: لبس ثوب الغسيسية غير أنه لم يتم لبسه بل جعل دوقاً ثم بيرام وتزوج بنت الكانشيليا زسفير, وتوفي سنة 1682 م ومن أراد الوقوف على تفاصيل هذه الحوادث فعليه بمطالعة الكتاب الذي ألفه "دولسبكور" وترجمته عنوان عشق هنري الرابع, وقد طبع في باريس سنة 1863 م.(1/453)
كاترينا دوماتوفنادشكوف
أميرة روسيا ولدت في سنة 1764 م. توفيت ب "فرر" موسكو سنة 1810 م كانت ثالثة بنت للكونت (رومان قودونثروق) تربت تربية علمية عند عمها الوزير الأول وكانت منذ نعومة أظفارها ميالة إلى الأفكار الحرة وحب الاستقلال, دخلت البلاط وهي صغيرة أخت ولية العهد كارترينا الثانية وتزوجت في سنة م بالبرنس "وسكوف" فأقامت معه مدة في موسكو, ثم رجعت إلى البلاط وكانت أختها أليصابات قد صارت نديمة الإمبراطور بطرس الثالث الجديد, فحملتها الغيرة من أختها وكرهتها لارتباك البلاط وأعمال رجاله على الاشتراك عندما بلغت الثامنة عشرة من السن في مؤامرة أدارتها وخلعت الإمبراطور "بطرس الثالث" وقتلته, وولت امرأته الألمانية الإمبراطورة.
وليس من المحقق أن ما استخدمت من الوسائل لتقوية تلك المؤامرة كان موافقاً للناموس فعند قتله لبست ثوب رجل وامتطت جواداً وقادت فرقة من العساكر ولم تكن المكافأة التي حصلت عليها من الإمبراطورة كافية ورفضت أن تجعلها قائدة للحرس الإمبراطوري وآل ميلها إلى الاستقلال وخشونة طبعها إلى حرمانها من رضا الإمبراطورة, فاعتزلت عن البلاط وأكبت على الدرس والمطالعة ومعاشرة العلماء وبعد وفاة زوجها ساحت في غربي أوروبا.
وسنة 1782 م عهدت إليها الإمبراطورة رياسة الأكاديمية العلمية وسنة 1784 م عينتها لرياسة الأكاديمية الروسية الجديدة ولها من الكتابات النثرية والشعرية شيء كثير وبعد وفاة الإمبراطورة كاترينا سنة 1796 م أمرها الإمبراطور "بولس" أن تنزل في قرية صغيرة من ولاية نفضودود فتوسطوا أمرها فعفا عنها وخرجت من المنفى وصرفت باقي أيامها في أملاك لها بقرب موسكو.
كاترينا إمبراطورة الروسيا الأولى
ولدت كاترينا في شمالي ولاية لبغونيا سنة 1682 م وسميت "مرثا", وأبوها من مدبرين الأخانسر في الجيش الأسوجي واسمه يوحنا راب, وتوفي قبل ولادتها بزمن قصير فربتها أمها ثلاث سنوات بالحزن والفاقة الشديدة وتوفيت وتركتها عالة على الناس فشفق عليها رجل من أهالي قريتها وعالها مدة ثم أتى بها كاهن لوتري إلى بيته في مدينة "مرينبرج" خادمة لأولاده ويقال: إنها بقيت في بيته إلى أن توفي وإنها كانت تلتقط من أولاده مبادئ العلوم التي كانوا يتعلمونها في المدارس ولكن كل ما يروى عنها في حداثتها أقاصيص لا يركن إليها والذي يذكره المؤرخون أنها تزوجت في "مرينبرج" بجندي أسوجي سنة 1701 م وأنه في السنة التالية فتح الروسيون مدينة "مرينبرج" وقتلوا زوجها وأخذوها أسيرة فضمها الجنرال "بوراليه".
ثم اتصلت بالأميرة فشيكوف ورآها عندها الإمبراطور بطرس الأكبر فراعه جمالها, ولطف حديثها فقربها منه وكان قد طلق زوجته لمخالفتها له في المبدأ والرأي فعمد كاترينا في كنيسة الروم وسماها باسم كاترينا الكسيونا وأشهر زواجه بها سنة 1712 م وكان قد تزوج بها سراً قبل ذلك, ويقال: إن الداعي لإشهار زواجه بها أنه لما فتح الحرب على الدولة العثمانية سنة 1711 م رأى أنه لا صبر له على فراقها لحبه لها ولمشاركتها له في الرأي واجتهادها في مرضاته وإعجابها بأعماله ومآثره, فسافر بها علناً إلى ميدان القتال كملكة محفوفة بالمجد والجلال وكانت تركب معه وتعرض نفسها للمتاعب والأخطار وتتلطف بالجنود العثمانيةحتى أيقن بالوبال ويقال:(1/454)
إنه دخل خيمته حينئذٍ وأمر حرسه أن لا أحد يدخل عليه, فجاءت كاترينا ودخلت عليه بالرغم عن أمره.
فلما رآها لم يتضرر من دخولها لاحتياجه إلى سديد رأيها فأشارت عليه أنه يصالح العثمانيين ويرد لهم البلاد التي أخذها منهم وقالت: إنها تتكفل بإرضاء بلطجي محمد قائد الجيش العثماني فسر منها وفوض إليها تدبير الأمر, فاختارت ضابطاً حكيماً وأرسلته إلى عسكر العثمانيين بهدية سنية من الجواهر الغراء والنقود فعقدت شروط الصلح وأمضاها الفريقان, وقد ارتاب كثيرون من المتأخرين في صحة هذا الخبر وقالوا: إنه لا صحة لما يروى من مداخلة كاترينا في عقد الصلح ومهما يكن من الأمر فلا شبهة في أن الإمبراطور نفسه كان يحسب لها فضلاً في نجاته من الجنود العثمانية هو وجنوده وبعد ثلاث سنوات, ولدت له ابنة ففرح بها فرحاً عظيماً وصنع رتبة القديسة كاترينا إكراماً لزوجته, وجعل لها عيداً كل سنة تذكاراً لها, واتفق أنه تغلب قبيل ذلك على الأسطول الأسوجي, وأسر أميره فأتى بالأسرى في هذا العيد ودخل بهم مدينة بطرس برج باحتفال عظيم.
ثم سافر في ممالك أوروبا لينظر في سياستها ويسبر غور رجالها وأخذ زوجته معه فولدت في أثناء الطريق ولداً لم يعش إلا يوماً واحداً, وكان هو قد سبقها قليلاً فأسرعت إليه وهي نفساء لكي لا يمل من انتظارها, وهذا دليل على أن رفاهية البلاط الكلوكي لم تغير من طباعها ولا أضعفت من همتها, وكانت تتفقد معه الأماكن التي زارها في سياحته الأولى حينما زار أوروبا لكي يتعلم صنائع أهاليها وفنونهم وسنة 1723 م ألبسها التاج وأوصى لها بالملك من بعده ويقال: إنه سار معها إلى الكنيسة ماشياً بصفة قائد لفرقة جددها سماها "شفاليية" الإمبراطورة ووضع التاج على رأسها بيده وأمر بأن يقرأ الإعلان الآتي الذي أنشأه قبل ذلك وهو من حضرة الإمبراطور المتولى على جميع الدولة الروسية إلى جميع فئات القسيسين والضباط الملكيين والعسكريين والأهليين عموماً الموصوفين بالأمانة لا يخفى على كل منهم العادة المستمرة الجارية في الممالك المسيحية التي بمقتضاها يتوج الملوك زوجاتهم كما هو جار الآن.
وكما فعل الملوك المسيحيون الشرقيون في الأزمان الغابرة كالقيصر "بازلند" الذي توج زوجته "زنوبيا" القيصر "بوستنياتوس" الذي توج زوجته "لويسينا" والقيصر "هرقل" توج زوجته "مرتينا", والإمبراطور "ليون" الفيلسوف الذي توج زوجته "ماريا", وكذا جماعة غيرهم من القياصرة قد وضعوا التاج الإمبراطوري على رؤوس نسائهم نسائهم ولا محل لذكرهم هنا جميعهم.
ومن المعلوم أننا طالما خاطرنا بأنفسنا واقتحمنا الشدائد والأهوال مدة الحرب الأخيرة التي مكثت إحدى وعشرين سنة متوالية لحفظ وطننا وقد أنهيت هذه الحروب بعون الله بالشرف الكامل, وبالصلح الذي لم يسبق أنه وقع مثله لدولة روسيا ولم تحز قط من الفخار ما حازته بهذه الحروب, وحيث إن زوجتنا الإمبراطورة كاترينا قد ساعدتنا على الخلاص من ربقة هذه الأخطار في عدة وقائع ولاسيما التي حصلت بينا وبين الجنود العثمانية على نهر بروت حيث تضعضع حال جيوشنا وآل أمرها إلى 22 ألف مقاتل وكانت العساكر العثمانية 270 ألف وأظهرت في تلك الأزمنة غيرة عظيمة وشجاعة فائقة كما هو معلوم عند جيوشنا فبالنظر إلى ذلك وبمقتصى التصرف والنفوذ الموهوب لنا من الله تعالى يتم تتويجها في فصل الشتاء من هذه السنة بمدينة موسكو وقد أعلنا ذلك قبلاً لرعايانا المحبين الأمناء ومحبتنا الإمبراطورة لا تزال لهم بدون نقص ولا تغيير.
ثم ساء ظن الإمبراطور في أواخر سنة 1724 م وهي السنة التي توجها فيها وأمر بقتل الرجل الذي(1/455)
اتهمها به والأرجح أن تهمته لها كانت باطلة ولم تطل حياته بعد ذلك لأنه توفي بداية سنة 1725 م فأخفت هي ورجال بلاطها خبر موته إلى أن يستتب لها الأمر من بعده وقد اتهمها البعض بأنها دست له السم وهذا أيضاً لا دليل على صحة ولا سيما لأنها لم تكن على يقين من وصول الأمر إليها وتضاربت الآراء بعد وفاته فيمن يخلفه, ولكن تحزب لها الأمير "تشكوف" وغيره من أهالي ولما قال ذلك انكسرت شوكة أضدادها وأقر الجميع على مبايعتها فاستقرت على عرش روسيا في خطة زوجها لأنها سلمت تدبير أمور المملكة إلى "فشكوف" الحكيم.
ومن الأعمال العظيمة التي عملتها أنها أبطلت مجلس الأعيان وألغت ألقاب المجمع المقدس وقيدت خدمة الدين ضمن دائرة ضمن دائرة الكتب المقدسة, وعضدت مجلس المعارف, وعينت لأعضائه المرتبات الطائلة, وأناطت أشغال الدولة بمجلس شوراها السري ولكنها لم تخيم حياتها بالخير كما بدأتها إذ يقال: إنها مالت إلى المكر في أواخر أيامها, وعاشت عيشة أسرعت بها إلى القبر فتوفيت في السابع عشر من شهر أيار (مايو) سنة 1727 م ولا مشاحة في أنها كانت امرأة عظيمة وقت نفسها من الذل, وتسلطت على قلب ملك من أعظم ملوك عصرها ولم تقنع نفسها الكبيرة بأنها صارت زوجة شرعية لهذا الملك العظيم بل رفعتها همتها إلى عرش روسيا فصارت عالية على أسراف الروس العريقين في النسب وأحسنت السياسة فيهم وأبقت لها بينهم ذكراً مجيداً.
كاترينا الثانية إمبراطورة روسيا وهي ابنة دوق أنهلت زرسبت
هذه الملكة كانت أديبة عاقلة عالمة بضروب السياسة تبوأت الملك في سنة 1762 م وتوفيت سنة 1796 م فكانت مدة ملكها أربعاً وثلاثين سنة. وفي أيامها اكتسبت روسيا نفوذاً أولياً قاطعاً في السياسة الأوروباوية, واعترف بأنها من دول أوروبا العظمى, وأدركت منافع السلم الخارجي بتوجيه خواطرها واجتهادها إلى تقدم إمبراطوريتها, وبعد استوائها على عرشها محفوفاً بجمهور من رجال السياسة والحرب المشهورين بالحذق أكثر من اشتهارهم بالسجايا.
ومنهم "غالستن" "وروميانتزف" و"بانيزه" و"أورلوف" و"ستلينكوف" و"سوفادوف" و"تشرنتشيف", و"بونمكين" وكانت لها اليد الطولى بتقسيم بولونيا في سنة 1772 م.
وسنة 1793 م واستولت على نحو ثلثيها وفي أثر حروب كثيرة ضمت إلى روسيا القرم وأزوق وغيرها ومساحة ما ضم إلى إمبراطوريتها أيام ملكها نحو مائتين وخمسة وعشرين ألف ميل مربع ومنها كورلندا وأما أعمالها الأيلة إلى تقدم البلاد الداخلي فلم تكن أعمالها الحربية أعظم منها فإن نحو خمسين ألفاً من الغرباء المجدين استوطنوا أراضي روسيا الزراعية الجنوبية وأنشأت عدة بيوت للتعليم والإحسانات إلى المعوزين وأكسبت التجارة البرية والبحرية والصناعة نجاحاً عظيماً ورواجاً كثيراً, وأصلحت إدارة الإمبراطورية حق الإصلاح.
وسنة 1766 م عقدت جمعية من وكلاء الولايات لوضع قانون ونظام جديد وكانت درجة تعليم النساء في أول ملكها منحطة جداً فأفرغت هذه وسعها في سبيل ترقية قواهن العقلية وإعلاء درجتهن في الهيئة الاجتماعية, ومن الوسائل التي استعملتها إنشاؤها مدرسة إكليريكية للبنات في بطرس برج من(1/456)
قوانينها أن الابنة متى دخلتها لا تتمكن من تركها إلا لمضي سبع سنوات لاعتقادها أن هذه المدة تعتبر كافية لكمال التهذيب, وكانت المدرسة المذكورة مقسومة إلى قسمين القسم الأول لأجل تربية بنات الشرفاء, والثاني للدرجة الوسطى من الشعب. وكان عدد البنات اللواتي تلقين التربية فيها 500.
ومن ذلك الحين سنة 1764 م أخذت مدارس الإناث بالازدياد في كل روسيا, وأنشأت لهن الإمبراطورة محلات للرياضات الجسدية في كل أنحاء المملكة وبلغ عددها (سنة 1873 م) 200. وعدد التلميذات 23000. وتجمع دارهم خصوصية من البلديات للقيام بمصاريف المدارس المذكورة التي لم ينحصر نفعها في تربية النساء الروسيات فقط, والآن آل تقليل النفور والبغضاء الناتجة عن التفاوت في حقوق الولادة والمركز والثروة فتدهب التلميذات إلى محل الرياضات الجسدية بدون تمييز النسب والقرابة ويلبسن في ظروف كثيرة ملابس واحدة, وفي المدينة المؤلفة من أجناس مختلفة من الأهالي لا يراعون الجنسية فترى البنات التتريات والبشكيريات مختلطات مع الروسيات في الشرق كاختلاط الروسيات والبولونيات في الغرب, وإذا اعتبرنا الزمان الذي ابتدئ فيه بالاعتناء بتربية النساء فيها تحكم بأنهن قد أظهرن من الذكاء والميل الطبيعي لتلقي العلوم والتربية الحسنة شيئاً كثيراً.
وسنة 1872 م كان في مدرسة "زوريخ" الكلية 63 تلميذاً و 54 منهن من الروسيات ولا يراعون اختلاف الأديان في إدخال التلميذ إلى المدارس فحقوق الطوائف متساوية في هذا الصدد, ويوجد في كل مدرسة كهنة مخصوصون للاهتمام بأمور التلامذة من مذهب واحد لم يكن كافياً لتعين المدرسة لهم مدرساً دينياً فيترك الاعتناء بأمر دينهم إلى والديهم أو أقاربهم, وقد أبطلت الإمبراطورة فيها القصاصات بالقتل أو الضرب ولا يحكمون بالقتل الآن إلا على مرتكبي أكبر الجنايات, ولا تقوى المجالس الجنائية على الحكم به ولكن تحال الدعوى إلى مجالس عالية تشكل في هذه الظروف ولا يزالون في سبيريا يقاصون المجرمين بالضرب وذلك لأجل المحافظة على الترتيب بينهم وذكر في تقرير سنة 1860 م و 1868 م أن معدل عدد المذنبين فيها 534000 من ذنوب مدنية وجنائية وسياسية وعدد الذين حكم عليهم بالقصاصات من المذنبين وحكم على 1211 منهم بالأشغال الشاقة وعلى 2172 مذنباً بالإبعاد إلى سيبيريا, وعلى 2488 بالنفي المؤبد, وعلى 6667 بالسجن في القلاع حيث يشتغلون بالصنائع اليدوية الشاقة, وعلى 13669 مذنباً بالسجن, وعلى 57757 مذنباً بقصاصات خفيفة. وأما جرائم السرقة فكانت 31 في المائة من عدد المذنبين وحوادث القتل 2 في المائة وكان عدد النساء المذنبات في ألأربعة وثمانين ألفاً نحو 18800 وأكثر قليلاً من عشرة في المائة.
وبالجملة فإن نتيجة اجتهاد هذه الملكة جعلت البلاد في تقدم ظاهر حسدتها عليه باقي الدول, وكانت مع ما هي عليه من سمو الأفكار واتساع المدارك لا تألو جهداً من اشتغالها بفن التطريز والتصوير والنقش والحفر بالمعادن والعاج, وذلك لتعلقها في الصناعة وكانت محبة للعلماء مقربة لهم وأخصهم الفلاسفة المشهورون, وكانت مرة أهدت إلى "فولتير" علبة من العاج من صنع يدها فسر "فولتير" لهذه الهدية, وبعد قليل كافأها بأن قدم لها زوجاً من الجربات الحريرية من صنع يده وأرسل لها رسالة يقول فيها.
"إن جلالتك تكرمت بإهداء ما هو من أعمال الرجال ولكنه مصنوع بأيدي النساء فأهديتك ما هو من أعمال النساء ولكنه مصنوع بأيدي الرجال, وإني أرجو قبول هديتي وعساها أن تنال حظاً لديك".(1/457)
ولما وصلت لها هذه الهدية سرت سروراً لا مزيد عليه وأكرمته إكراماً زائداً, وبالجملة فإن هذه الملكة لم يتول تخت روسيا من النساء مثلها.
[كبشة بنت معدي كرب الزبيدي]
كبشة بنت معدي مرب الزبيدي أخت عمرو بن معد يكرب المشهور صاحب الصمصامة.
كانت مشهورة بين نساء زمانها بالحسن والجمال, والذكاء والشجاعة, والإقدام. وكانت تقول الشعر ويغلب على شعرها الحماسة, وطالما كانت تعرض على أخيها عمرو وتفاخره, وكانت تزوجت عبد الله بن منقذ الهلالي وقد ائتلفت معه ائتلافاً شديد وأحبته حباً لا مزيد عليه, ومكثت معه مدة وهما على غاية ما يرام من الراحة والرفاهية حتى كان ذات يوم غزا غزوة في العرب فكان فيها يومه وبلغ الخبر كبشة فشقت عليه الجيوب ولطمت الخدود, ورثته بمرات كثيرة منها قولها:
وأرسل عبد الله إذ حان يومه ... إلى قومه لا تعقلوا لهم دمي
ولا تأخذوا منهم إفالاً وأبكرا ... وأترك في بيت بصعدة مظلم
ودع عنك عمراً إن عمراً مسالم ... وهل بطن عمرو غير شبر لمطعم
فإن أنتم لم تثأروا واتديتم ... فمشوا بآذان النعام المصلم
ولا تشربوا إلا فضول نسائكم ... إذا ارتملت أعقابهن من الدم
كبك خاتون زوجة السلطان أوزبك
قال ابن بطوطة "كبك خاتون (بفتح الكاف الأولى وفتح الباء الموحدة) بنت الأمير نغطى. (بنون وغين معجمة وطاء مهملة مفتوحات وياء مسكنة) , وأبوها كان مبتلى بعلة النقرس". قال: "وقد رأيته في غد دخولنا على الملكة دخلنا على هذه الخاتون فوجدناها على مرتبة تقرأ في المصحف الكريم وبين يديها نحو عشر من النساء القواعد ونحو عشرين من البنات يطرزن ثياباً, فسلمنا عليها وأحسنت في السلام والكلام وقرأ قارؤنا فاستحسنته, وأمرت بالقمز فأحضر, وناولتني القدح بيدها كمثل ما فعلته الملكة, وانصرفنا عنها.
وقد أجزلت لنا العطاء وهكذا عادتها فإنها تكرم كل من تسمع به إنه غريب ولها مآثر حسنة وخيرات واسعة ومبرات على الفقراء والمساكين لم يسبقها عليها أحد من نساء زمانها".
كريمة بنت محمد بن حاتم
جاوزت بمكة المكرمة وروت صحيح البخاري عن الكشميهني وروايتها من أصح روايات البخاري, وروت عن زاهر السرخسي, وكانت تصنف كتبها وتقابل بنسخها وهي في الفهم والنباهة وحدة الذهن بحيث ترحل إليها أفضل العلماء, وكان لها مجلس بمكة المكرمة تجتمع فيه الطلبة والأفاضل من رجال كل علم وهي تلقي على كل نوع مما يطلبه فصيحة المأخذ مفهومة المعنى, وكان أكثر ميلها إلى الحديث حتى بلغت فيه حداً لم يبلغه غيرها ولم تتزوج قط وبلغ عمرها 100 سنة, وتوفيت بمكة المكرمة.
كيلوباتره ملكة مصر
هي من الملوك البطالسة الذين تغلبوا على مصر عقيب دولة الفراعنة اقترنت بأخيها "بطليموس ديوينسيوس"(1/458)
سنة 52 قبل الميلاد وكان في سن الثالثة عشرة وهي في سن السابعة عشرة فراودتها نفسها على الاستئثار بالعرش دونه, فقاومها رجال البلاط وأوصياء زوجها القاصر حتى إذا أعيتها الحيلة عمدت على الاستنصار بأغسطوس قيصر الرومان, فألف ذات بينهما, ولكنها بعد قليل تزوجت بأخيها الثاني ولم يكن قد أتى عليه إحدى عشرة سنة, فنودي به بأمر قيصر ملكاً على مصر.
ثم مات هذا مسموماً بعد زواجه بأربعة أعوام, ولما خلا العرش من ملك بعث أنطنيوس أحد مشتركي دولة الرومان الأربعة, فاستدعى كليوباترة إلى طرسوس حيثما كان ذاهباً إلى محاربة بروتوس الروماني فلبت الدعوة وسارت على أجنحة الرياح حتى بلغت نهر طرسوس, وهنالك اتخذت لها سفينة فاخرة الأثاث أرجوانية السجف والقلاع مزدانة ببديع الأواني ونفائس الجوهر, وأفرغت على قدها الفتان حلة كسروية مدبجة بالدر, وكللت جبينها الوضاح بتاج وهاج, وألبست وصائفها الحور ثياباً خضراً من سندس واستبرق, وتصدرت بينهن كأنها الشمس وكأنهن البدور وهن يضربن بالعيدان والقياثير, ويطلقن البخور والند حتى عبق الشاطئ برياحها, وماج النهر طرباً بنغمات أعوادهن ولألأ محياهن.
فلما لقيها أنطونيوس استطار فؤاده شغفاً وذهب رشده هياماً وكلفاً فما عتم أن عاد معها إلى الإسكندرية, وهنالك زفت عليه حليلة فلم يستطع بعد على فراقها صبراً, فغادر واجباته ومهامه إلى التقادير, وأصبح لا يستفيق من خمرة جبها سكراً.
ولما طار الخبر إلى زوجته الأولى "أوكتافيا" نزغها من شيطان الغيرة نازغ, فأغرت أخاها "أوكتافيوس" أحد الشركاء الأربعة على مخاصمته والانتقام منه. فحشد جيشاً خميساً وقصد به الديار المصرية, فتغلب عليها بعد نزال بشيب لهوله الوليد. ولما حمى الوطيس وأحس "أنطونيوس" بسوء المنقلب سقط في يده ولات حين ندامة, فتناول مدية وطعن بها ثديه فكانت القاضية.
وأما كليوباترة فلما لم تنطل أساليبها على "أوكتافيوس" ولم تقو على اختلابه بما أوتيت من الجمال الباهر واللطف الساحر بفوات عرشها بعد أن أحاطت به جواريها وأترابها, وكانت قد زينت رأسها بالتاج, وأفرغت على جسدها البلوري حلة من نفيس الديباج, ثم زحزحت غلالتها عن نهديها العاجيين وأطلقت حية خبيثة على صفحة صدرها المزري باللجين, فلدغتها لدغة مشوق ملهوف أوردها حياض الحتوف, وكان ذلك سنة 30 قبل المسيح وبموتها قرض الله دولة البطالسة بعد أن حكمت مصر 294 عاماً فسبحانه إذا قضى أمراً فإنه يقول له: كن فيكون.
كانت مدة ملك كليوباترة 22 سنة, وكانت حكيمة متفلسفة مقربة للعلماء معظمة للحكماء, ولها كتب مصنفة في الطب والزينة وغير ذلك من الحكمة مترجمة باسمها منسوبة إليها معروفة عند صنعة الطب. وقال العلامة المسعودي في كتابه المسمى "مروج الذهب ومعادن الجوهر" أن سبب وفاة كليوباترة كانت عند ما جمعت في مجلسها أصناف الرياحين استحضرت حية من الحيات التي تكون بين الحجاز ومصر والشام وهي نوع من الحيات التي تراعي الإنسان حتى إذا تمكنت من النظر إلى عضو من أعضائه قفزت أذرعاً كثيرة كالرمح فلم تخطئ ذلك العضو بعينه حتى تتفل عليه سماً فتأتي على الإنسان ولا يعلم بها لخموده من فوره ويتوهم الناس أنه قد مات حتف أنفه فجاءت بحية وضعتها في إناء بلوري.
ثم لما علمت أن "أغسطس أوكتافيوس" أراد الدخول في قصر ملكها أمرت بعض جواريها ومن أحبت فناءها قبلها, وأن لا يلحقها العذاب بعدها فسمتها بإناء, فخمدت من فورها ثم جلست كليوباترة على سرير ملكها ووضعت تاجها على رأسها وعليها ثيابها وزينة ملكها, وجعلت أنواع الرياحين والزهور والفاكهة والطيب وما يجمع بمصر(1/459)
من عجائب الرياحين وغيرها مبسوطة في مجلسها وأمام سريرها, وعهدت بما احتاجت إليه من أمورها وفرقت حشمها من حولها فاشتغلوا بأنفسهم عن ملكتهم لما قد غشيهم من عدوهم ودخوله عليهم في دار ملكهم, وأدنت يدها من الإناء الزجاج الذي كانت فيه الحية فقربت يدها من فيه فتفلت عليها فجفت مكانها وانسابت الحية وخرجت من الإناء ولم تجد حجراً ولا مذهباَ تذهب فيه لإتقان تلك المجالس بالرخام والمرمر والأصباغ, فدخلت في تلك الرياحين ودخل "أغسطس أوكتافيوس" حتى انتهى إلى المجلس فنظر إليها جالسة والتاج على رأسها فلم يشك في أنها تنطق فدنا منها فتبين أنها ميتة, وأعجب بتلك الرياحين, فمد يده إلى كل نوع منها يلمسه ويتبينه ويعجب خواص من معه به ولم يدر ما سبب موتها, فبينما هو كذلك من تناول تلك الرياحين وشمها إذ قفزت عليه تلك الحية فرمته بسمها فيبس شقه من ساعته, وذهب بصره الأيمن وسمعه, فتعجب من فعلها وقتلها لنفسها واختيارها للموت على الحياة مع الذل.
ثم ما كان من إلقاء الحية بين الرياحين فقال في ذلك شعراً بالرومية يذكر حاله وما نزل به وقصتها, وأقام بعدما نزل به ما ذكرنا يوماً وهلك, ولولا الحية قد أفرغت سمها على الجارية ثم على الملكة لكان "أغسطس أوكتافيوس" قد هلك من ساعته.
وكانت كليوباترة دائماً تحب القصف والخلاعة وتألف الملاهي وطالما تمنت أن يكون لها حبيب تركن إليه وتعول في أمورها عليه. ولها أيام لطيفة, وليال ظريفة, ووقائع حسنة, ونوادر مستحسنة.
كنزة أم شملة بن برد المنقري من ولد قيس
كانت من شاعرات العرب المتقدمات في الأدب, اشتراها برد المنقري وتزوجها فولدت له شملة بن برد, وكان من الشجاعة على جانب عظيم, وطالما اقتحم الحروب وأباد الأقران.
فمن شعرها حينما هجمت عليهم العرب عند غياث ولدها شملة قولها:
إن يك ظني صادقاً وهو صادقي ... بشملة يحبسهم بها محبساً أزلاً
فيا شمل شمر واطلب القوم بالذي ... أصبت ولا تقبل قصاصاً ولا عقلاً
وقالت أيضاً:
لهفي على قومي الذين تجمعوا ... بذي السيد لم يلقوا علياً ولا عمراً
فإن يك ظني صادقاً وهو صادقي ... بشملة بحبسهم بها محبساً وعراً
وقد صدق قولها وبلغ الشعر ولدها فقال: والله لأصدقنها قولها. وقصد القوم فقابلهم وأبلى بهم بلاء حسناً واسترد منهم ما سلبوه من قبيلته. ومن شعرها قولها:
ألا حبذا أهل الملا غير أنه ... إذا ذكرت في فلا حبذا هيا
على وجهه مي مسحة من ملاحة ... وتحت الثياب الخزي لو كان باديا
ألم تر أن الماء يخلف طعمه ... وإن كان لون الماء أبيض صافيا
إذا ما أتاه وارد من ضرورة ... تولى بأضعاف الذي جاء طاميا
كذلك مي في الثياب إذا بدت ... وأثوابها يخفين منها المخازيا
فلو أن غيلان الشفي بدت له ... مجردة يوماً لما قال ذا ليا(1/460)
كقول مضى منه ولكن لرده ... إلى غير مي أولا لأصبح ساليا
كلابة مولاة ثقيف
كانت عند عبد الله بن القاسم الأموي العبلي, وكان يبلغها تشبيب العرجي بالنساء وذكره لهن في شعره وكانت كلابة تكثر أن تقول لشد ما اجترأ العرجي على نساء قريش حين يذكرهن في شعره ولعمري ما لقي أحداً فيه خير ولئن لقيته لأسودن وجهه, فبلغه ذلك عنها.
وكان العلبى نازلاً على ماء لبنى نصر بن معاوية يقال له الضنق على ثلاثة أميال من مكة والعرج أعلاها قليلاً مما يلي الطائف فبلغ العرجي أنه خرج إلى مكة فأتى قصره فأطاف به فخرجت إليه كلابة وكان خلفها في قصره فصاحت به إليك ويلك وجعلت ترميه بالحجارة وتمنعه أن يدنو من القصر فاستسقاها فأبت أن تسقيه.
وقالت: لا يوجد والله أثرك عندي أبداً فيلصق بي منك شر فانصرف. وقال: ستعلمين. وقال هذه الأبيات ليتهمها الناس ويوقع بها أمام سيدها:
حور بهثن رسولاً في ملاطفة ... ثقفا إذا عقل النساءة الوهم
إلى أن أتينا هدأ إذا علقت ... أمراً سنا وافتضحنا إن همو علموا
فجئت أمشي على هول أجشمه ... تجشم المرء هولاً في الهوى كرم
إذا تخوفت من شيء أقول له ... قد جف فامض بشيء قدر القلم
أمشي كما حركت ريح يمانية ... غصناً من البان رطباً طلة الديم
في حلة من طاز أكسوس مثرية ... تعفو بهدابها ما أثرت قدم
خلت سبيلي كما خلت ذا عذر ... إذا رأته عتاق الخيل ينتجم
وهن في مجلس خال وليس له ... عين عليهن أخشاها ولا ندم
حتى جلست إزاء الباب مكتتما ... وطالب الحاج تحت الليل مكتتم
أبدين لي أعيناً نجلا كما نظرت ... أدم هجان أتاها مصعب قطم
قالت كلابة من هذا فقلت لها ... أنا الذي أنت من أعدائه زعموا
أنا امرؤ جد بي حب فأحرمني ... حتى بليت وحتى شفني السقم
لا تكليني إلى قوم لو انهموا ... من بغضنا أطعموا لحمي إذا طعموا
وأنعمي نعمة تجزى بأحسنها ... فطالما نالني من أهلك النعم
ستر المحبين في الدنيا لعلهمو ... أن يحدثوا توبة فيها إذا أثموا
هذي يميني رهن بالوفاء لكم ... فأرضي بها ولأنف الكاشح الرغم
قالت رضيت ولكن جئت في قمر ... هلا تلبثت حتى تدخل الظلم
فبت أسق بأكواب أعل بها ... من بارد طاب منا الطعم والنسم
حتى بدا ساطع للفجر نحسبه ... سنا حريق بليل حين يضطرم
كغرة الفرس المنسوب قد حسرت ... عنه الجلال تلالاً وهو يلتجم
ودعتهن ولا شيء يراجعني ... إلا البيان وإلا الأعين السجم
إذا أردن كلامي عنده اعترضت ... من دونه عبرات فانثنى الكلم
تكاد إذر من نهضاً للقيام معي ... أعجازهن من الإنصاف تنقصم(1/461)
وقد أعطاه العرجي جماعة من المغنين وسألهم أن يغنوا فيه, فصنعوا في أبيات منه عدة ألحان وقال: لا أجد لهذه الأمة شيئاً أبلغ من إيقاعها تحت التهمة عند ابن القاسم ليقطع راتبها من ماله, فلما سمع العبلي بالشعر يغنى به أخرج كلابة واتهمها, ثم أرسل بها بعد زمان على بعير إلى مكة فأحلفها بين الركن والمقام إن العرجي كذب فيما قاله فحلفت سبعين يميناً فرضي عنها وردها فكان بعد ذلك إذا سمع قول العرجي: طالما مسني من أهلها النعم قال: كذب والله ما مسه ذلك قط.
حرف اللام
لبنى بنت الحباب الكعبية
كانت أحسن نساء زمانها وجهاً وأرقهن شمائل, وأعذبهن منطقاً, وألطفهن إشارة. ذات فصاحة وأدب ومعرفة بأشعار العرب وهي صاحبة قيس بن ذريح العذري, رضيع الحسين بن علي بن أبي طالب.
وكانت سبب علاقته بها أنه ذهب لبعض حاجاته فمر ببني كعب. وقد احتدم الحر, فاستقى الماء من خيمة منهم, فبرزت إليه امرأة مديدة القامة بهية الطلعة, عذبة الكلام, سهلة المنطق, فناولته إداوة ماء, فلما صدر قالت له: ألا تبرد الحر عندنا, وقد تمكنت من فؤاده. فقال: نعم, فمهدت له وطاء واستحضرت ما يحتاج إليه وجاء أبوها, فلما وجده رحب به ونحر له جزوراً وأقام عندهم ضياء اليوم
ثم انصرف وهو أشغف الناس بها فجعل يكتم ذلك ألى أن غلب عليه فنطق فيها بالأشعار وشاع ذلك عنه ومر بها ثانياً, فنزل عندهم وشكا إليها حين تخاليا ما نزل به من حبها فوجد عندها أضعاف ذلك, فانصرف وقد علم كل واحد ما عند الآخر, فمضى إلى أبيه, فشكا إليه ذلك فقال له: دع هذه وتزوج بإحدى بنات عمك, فغم منه وجاء إلى أمه فكان منها ما كان من أبيه فتركها وجاء إلى الحسين بن علي بي أبي طالب وأخبره بالقضية, فرثى له والتزم أن يكفيه هذا الشأن فمضى معه إلى أبي لبنى فسأله في ذلك فأجاب فقال: يا ابن رسول الله, لو أرسلت لكفيت بيد أن هذا من أبيه أليق كما هو عند العرب فشكره ومضى إلى أبي قيس حافياً على حر الرمل. فقام ذريح ومرغ وجهه على أقدامه ومشى مع الحسين حتى زوج قيساً بلبنى وأدى الحسين المهر من عنده, ولما تزوجها أقام مدة مديدة على أرفع ما يكون من أحسن الأحوال ومراتب الإقبال وفنون المحبة, ولكن لم تلد لبنى فساء ذلك أبويه فعرضا على قيس أنه يتزوج بمن تجيء بولد, وذلك أحفظ لنفسه وأبقى لماله فامتنع امتناعاً يؤذن باستحالة ذلك وقال: لا أسوءها قط وقام يدافعهما عشر سنين إلى أن أقسم أبوه أن لا يكنه سقف إلا أن يطلق قيس لبنى فكان إذا اشتد الحر يجيؤه فيظله بردائه ويصلي هو بحر الشمس حتى يجيء الفيء فيدخل إلى لبنى فيتعانقان ويتباكيان وهي تقول له: لا تفعل, فتهلك إلى أن قدر الله وطلقها.
فلما أزمعت الرحيل بعد العدة جاء وقد سأل الجارية عن أمرهم فقالت: سل لبنى فأتى إليها فمنعه أهلها وأخبروه أنها ترتحل الليلة أو غدا فسقط مغشياً عليه فلما أفاق أنشد:
وإني لمفن دمع عيني بالبكا ... حذار الذي قد كان أو هو كائن
وقالوا غدا أو بعد ذاك بليلة ... فراق حبيب لم يبن وهو بائن
وما كنت أخشى أن تكون منيتي ... بكفيك إلا أن ما حان حائن
فلما حملت إلى المدينة يئس قيس واشتد شوقه وزاد غرامه وأفضى به الحال إلى مرض ألزمه الوساد واختلال العقل واشتغال البال فلام الناس أباه على سوء فعله فجزع وندم وجعل يتلطف به, فلما أيس منه(1/462)
استشار قومه في دائه, فاتفقت آراهم على أن يأمروه يتصفح أحياء العرب, فلعل أن تقع عينه من تسليه عن حب لبنى, ففعل حتى نزل بحي من فزارة, فرأى جارية قد حسرت عن وجهها برقع خز وهي كالبدر حسناً فسألها عن اسمها فقالت لبنى: فسقط مغشياً عليه, فارتاعت.
وقالت: إن لم تكن قيساً فمجنون ونضحت على وجهه الماء, فلما أفاق استنسبته فإذا هو قيس لبنى, وكان أمرهما اشتهر في العرب وجاء أخوها فأخبرته فركب حتى استرده, وأقسم عليه أن يقيم عنده شهراً فقال له: لقد شققت علي, وأجاب. فكان الفزاري يعجب به ويعرض عليه المصاهرة حتى لامته العرب.
وقالوا: نخشى أن يصير فعلك هذا سنة في العرب. فقال: دعوني ففي مثل هذا فليرعب الكرام, وألح عليه وزوجه بأخته, فلما بلغ لبنى قالت: إنه لغدار وإني طالما خطبت فأبيت والآن أجيب. وكان أبوها قد اشتكى قيساً إلى معاوية وقال: إنه يشبب بابنته فكتب إلى مروان يهدر دمه وأمره أن يزوج ابنته بخالد بن خلدة الغطفاني, ففعل, وأجابت حين علمت بزواج قيس فجعل النساء يغنينها ليلة الزفاف.
لبنى زوجها ... أصبح لا حر يوازيه
له فضل على الناس ... وقد باتت تناجيه
وقيس ميت حقاً ... صريع في بواكيه
فلا يبعده الله ... وبعد النواعيه
ولما بلغ ذلك قيساً اشتد به الغرام فركب حتى أتى محل قومها فقالت له النساء: ما تصنع بهذا وقد رحلت مع زوجها؟ فلم يلتفت حتى أتى محل خبائها فتمرغ به وأنشد:
إلى الله أشكو فقد لبنى كما شكا ... إلى الله فقد الوالدين يتيم
يتيم جفاه الأقربون فجسمه ... نحيل وعهد الوالدين قديم
وحجت لبنى في تلك السنة فاتفق خروج قيس أيضاً فتلاقيا فهبت وأرسلت إليه مع امرأة تستخبر عن حاله وتسلم عليه فأعاد السلام والسؤال وأنشد:
إذا طلعت شمس النهار فسلمي ... فآية تسليمي عليك طلوعها
بعشر تحيات إذا الشمس أشرقت ... وعشر إذا اصفرت وحان رجوعها
ولو أبغلتها جارة قولي اسلمي ... بكت جزعاً وارفض منها دموعها
وحين انقضى الحج مرض مرضاً شديداً فأنهكه فأكثر الناس من عيادته, فجعل يتفكر لبنى وعدم رؤيته لها فأنشد:
ألبنى لقد جلت عليك مصيبتي ... غداة غد إذ حل ما أتوقع
تمنينني نيلاً وتلوينني به ... فنفسي شوقاً كل يوم تقطع
ألومك في شأني وأنت مليمة ... لعمري وأجفى للمحب وأقطع
وأخبرت أني فيك مت بحسرة ... فما فاض من عينيك للوجد مدمع
إذا أنت لم تبكي علي جنازة ... لديك فلا تبكي غداً حين أرفع
فحين بلغتها الأبيات جزعت جزعاً شديداً وخرجت إليه خفية على ميعاد فاعتذرت عن الانقطاع, وأعلمته أنها إنما تترك زيارته خوفاً عليه أن يهلك وإلا فعندها ما عنده ولكنها جلدة وجاء قيس إلى المدينة بناقة من(1/463)
إبله ليبيعها, فاشتراها زوج لبنى وهو لا يعرفه.
ثم قال له: ائتني غداً في دار كثير بن الصلت أقبضك الثمن فجاء وطرق الباب فأدخله وقد صنع له طعاماً وقام لبعض حاجاته فقالت لبنى لخادمتها" سليه ما بال وجهه متغيراً شاحباً فتنفس الصعداء.
ثم قال: هكذا حال من فارق الأحبة. فقالت: استخبريه عن قصته فاستخبرته فشرع يحكي أمره فرفعت الحجاب وقالت: حسبك قد عرفنا حالك فبهت حين عرفها ساعة لا ينطق بلفظ.
ثم خرج لوجهه فاعترضه الرجل وقال: مالك؟ عد لتقبض مالك, وإن شئت زدناك فلم يكلمه ومضى فدخل على لبنى فقالت له: ما هذا إنه لقيس! فحلف أنه لا يعرفه. وأنشد قيس معاتباً لنفسه:
أتبكي على لبنى وأنت تركتها ... وكنت عليها بالملا أنت أقدر
فإن تكن الدنيا بلبنى تقلبت ... فللدهر والدنيا بطون وأظهر
كأني في أرجوحة بين أحبل ... إذا فكرة منها على القلب تخطر
وقصد قيس معاوية فمدحه فرق له وكان قد أهدر دمه فقال له: إن شئت كتبت إلى زوجها بطلاقها فقال: لا, ولكن إئذن لي أن أقيم ببلدها ففعل فنزل حين زال هدر دمه بحيها, وتضافرت مدائحه فيها حتى غنى بها معبد والغريض وأضرابهما, وقد قصد قيس أبن أبي عتيق وكان أكثر أهل زمانه مروءة فجاء ابن أبي عتيق إلى الحسن والحسين وأعلمهما أن له حاجة عند زوج لبنى وطلب أن ينجداه عليه فمضيا معه حتى اجتمعوا به وكلموه في طلب ابي أبي عتيق وهم لم يعلموا الغرض قال: سلوا ما شئتم. فقال ابن أبي عتيق: أهلاً كان أو مالاً؟ قال: نعم. فقال: أريد أن تطلق لبنى ولك ما شئت عندي. فقال: أشهدكم أنها طالق. فاستحيوا منه وعوضه الحسن مائة ألف درهم وقال له: لو علمت الحاجة ما جئت, ونقلت إلى العدة وعاتبت لبنى قيساً على تزويجه الفزارية فحلف لها أن عينيه لم تكتحل برؤيتها ولم يكلمها لفظة واحدة, وأنه لو رآها لم يعرفها وأخبرته أنها كارهة زوجها وأعلمته أنها لم تتزوج به رغبة فيه بل شفقة على قيس حين أهدر دمه ليخلي عنها, وتوفيت لبنى في العدة سنة 33هـ وإن قيساً حين بلغه ذلك خرج حتى وقف على قبرها وأنشد:
ماتت لبينى فموتها موتي ... هل ينفعن حسرة على الفوت
إني سأبكي بكاء مكتئب ... قضى حياة وجداً على ميت
ثم بكى حتى أغمي عليه فحمل ومات بعد ثلاث ودفن إلى جانبها وله فيها أشعار كثيرة منها:
إذا خدرت رجلي تذكرت من لها ... فناديت لبنى باسمها ودعوت
دعوت التي لو أن نفسي تطيعني ... لفارقتها في حبها فقضيت
برت نبلها للصيد لبنى وريشت ... وريشت أخرى مثلها وبريت
فلما رمتني أقصدتني بنبلها ... وأخطأتها بالسهم حين رميت
وفارقت لبنى ضلة فكأنني ... قرنت إلى العيوق ثم هويت
فيا ليت أني مت قبل فراقها ... وهل ينفعن بعد التفرق ليت
فوطن لهلكي منك نفساً فإنني ... كأنك بي قد يا ذريح قضيت
وقال أيضاً:
عيد قيس من حب لبنى ولبنى ... داء قيس والحب صعب شديد
فإذا عادني العوائد يوماً ... قالت العين لا أرى من أريد(1/464)
ليت لبنى تعودني ثم أقضي ... إنها لا تعود فيمن يعود
ويح قيس لقد تضمن منها ... داء خبل فالقلب منه عميد
وقال: وقد سأله الطبيب مذ كم وجدت بهذه المرأة ما وجدت فأنشد:
تعلق روحي روحها قبل خلقنا ... ومن بعدما كنا نظافا وفي المهد
فزاد كما زدنا وأصبح ناميا ... وليس إذا متنا بمنفصم العقد
ولكنه باق على كل حادث ... وزائرنا في ظلمة القبر واللحد
لبانة ابنة ريطة بن علي بن عبد الله طاهر
كانت من أحسن نساء زمانها وأوفرهن عقلاً, وأعظمهن أدباً, فصيحة المنطق عذبة اللسان شاعرة وشعرها مقبول ولها علم بضروب الغناء تزوجها محمد الأمين بن هارون الرشيد فقتل ولم يبن بها فقالت ترثيه:
أبكيك لا للنعيم والإنس ... بل للمعالي والرمح والفرس
أبكي على سيد فجعت به ... أرملني قبل ليلة العرس
يا فارساً بالعراء مطرحاً ... خانته قواده مع الحرس
من للحروب التي تكون بها ... إن أضمرت بارها بلا قبس
من لليتامى إذا هم سبغوا ... وكل عان وكل محتبس
أم من لبر أم من لفائدة ... أم من لذكر الإله في الغلس
ولما قتل الأمير رجعت إلى منزل والدها ولم تتمالك أن تبقى مع السيدة زينب بنت جعفر أم الأمين لأنها تشاءمت منها فخشيت على نفسها من الإهانة والاحتقار.
وبعد أن استتب الأمر إلى المأمون جعل لها إدرارات ورواتب تنفق منها ولم يتركها تذهب إلى حيث شاءت بل جعلها كأنها من حرم دار الخلافة وبقيت على ذلك إلى أن ماتت بآخر خلافته.
لطيفة الحدانية
توفي أبوها وتركها صغيرة فكفلها عمها, وكانت على أرفع ما يكون من مراتب الجمال ومحاسن الأخلاق والخصال, فربيت في بيت عمها حتى بلغت وكان لعمها ولد شاب يدعى واصفاً وكان كامل الحسن والظرف واللطف والعفة فكانت لطيفة تنظر إليه فيعجبها إلى أن تمكن حبه منها.
فمرضت وهي تكتم أمرها وكانت امرأة عمها فطنة مجربة للأمور, فامتحنتها فوجدتها تغيب عن حسها أحياناً فإذا دخل الغلام أفاقت والتمست تأكل, فأخبرت أباه فقال: يا لها نعمة.
ثم زوجه بها فأوقع الله حبها في قلبه فأقاما على أحسن حال مدة وهو يأمرها أن تكون دائماً متزينة مطيبة ويقول لها: لا أحب أن أراك إلا كذا, فلم يزالا على ذلك فضعف الشاب فمات, فوجدت به وجداً شديداً, فكانت بأنواع زينتها كما كانت وتمضي, فتمكث على قبره باكية إلى الغروب. قال الأصمعي: مررت أنا وصاحب لي بالجبانة, فرأيتها على تلك الحالة فقلنا لها: علام ذا الحزن الطويل؟ فأنشأت:
فإن تسألاني فيم حزني فإنني ... رهينة هذا القبر يا فتيان(1/465)
وإني لأستحييه والترب بيننا ... كما كنت أستحييه حين يراني
فعجبا منها ثم انحزنا فجلسنا بحيث لا ترانا لننظر ما تصنع فأنشأت:
يا صاحب القبر يا من كان يؤنسني ... وكان يكثر في الدنيا موالاتي
قد زرت قبرك في حلي وفي حلل ... كأنني لست من أهل المصيبات
لزمت ما كنت تهوى أن تراه وما ... قد كنت تألفه من كل هيآت
فمن رآني رأى عبري مولهة ... مشهورة الزي تبكي بين أموات
ثم انصرفت فتبعناها حتى عرفنا مكانها, فلما جئنا إلى الرشيد قال: حدثني بأعجب ما رأيته. فأخبرته بأمر لطيفة فكتب إلى عامله على البصرة أن يمهرها عشرة آلاف درهم, ففعل ووجه بها إليه, وقد أنهكها السقم, فتوفيت بالمدائن.
قال الأصمعي: فلم يذكرها الرشيد مرة إلا ذرفت عيناه.
لويزا ماري كارولين
"لويزا" كونتة "أليني" زوجة. آخر رجل من عائلة "ستورت". ولدت في "منس" من بلجيكا سنة 1753 م, وتوفيت في فلورنسا سنة 1824 م. وهي ابنة البرنس "غستاقوس أدولغوس". تزوجت سنة 1772 م "بشارل أدورد ستورت" حفيد "جمس الثاني", وكان يدعي بحق الجلوس على تخت ملك بريطانيا, ويعرف بكونت "أليني".
وكان أكبر منها بثلاثين سنة, ويقال: إنه تزوجها أملاً أن يولد له منها وارث شرعي لبيت "ستورت" الذي كان مناظرا لملك إنكلترا إلا أنهما لم يتفقا فإنها كانت جميلة فتينة, مهذبة عاقلة. وكان هو هرماً خشن الطباع سيء الخلق, فعاش في "فلورنسا" وهناك تعرفت ب" الغيارى" الشاعر فحصل لها عنده اعتبار عظيم ويقال: إنه عشقها عشقاً مفرطاً وإنها هي التي حركته إلى تأليف تراجيدياته, ولم تتهم قط بخيانة زوجها إلا أن شدة فظاظته حملتها أخيراً على تركه فالتجأت إلى دير في فلورنسا, ثم انتقلت إلى دير في روميه.
وسنة 1783 م تمكنت من فسخ زواجها بتوسط "غستاقوس الثالث" ملك أسوج "وسعى لها "غستاقوس" _المذكور_ بمرتب عينته لها الحكومة الفرنساوية, غير أنه قطع عنها عند حدوث الثورة. ويقال: إنها بعد نحو سنتين من وفاة زوجها سنة 1788 م تزوجت "الغيارى" سراً وكان لها في فلورنسا سطوة عظيمة جداً في المصالح السياسية ونفوذ بين أكابر رجال الدولة فكان "نابوليون" يخافها وبعد وفاة "الغيارى" _المذكور_ كانت تصرف معظم وقتها في فلورنسا ويقال: إنها جرى لها هنا مع "فرنسوا كرافيه فاقر" وهو مصور فرنسوي علائق ودادية متينة, ولما توفيت دفنت في كنيسة "سنتا كروتشا" في فلورنسا في نفس القبر الذي دفن فيه الغيارى وأقام لها "كانوقا" فوقه قبة جميلة.
ليلى الأخيلية
هي ليلى بنت عبد الله بنت الرحال بن شداد بن كعب بن معاوية, وهو الأخيل من بني عامر بن صعصعة, وهي من النساء المتقدمات في الشعر من شعراء الإسلام وكان توبة بن الحمير بن عقيل الخفاجي يهواها ويقول فيها الشعر, فخطبها إلى أبيها, فأبى أن يزوجه إياها وزوجها في بني الأدلع فجاء يوماً كما يجيء لزيارتها فإذا هي سافرة ولم ير منها إليه بشاشة فعلم أن ذلك الأمر ما كان فرجع إلى راحلته فركبها ومضى وبلغ بني الأدلع أنه أتاها فتبعوه. فقال توبة في ذلك قصيدته المشهورة هي:(1/466)
نأتك بليلى دارها لا تزورها ... وشطت نواها واستمر مريرها
وخفت نواها من جنوب عفيرة ... كما خف من نبل المرامي جفيرها
يقول رجال لا يضيرك نأيها ... بلى كل ما شق النفوس يضيرها
أليس يضر العين أن تكثر البكى ... ويمنع منها نومها وسرورها
لكل لقاء نلتقيه بشاشة ... وإن كان يوماً كل حول نزورها
خليلي روحا راشدين فقد أبت ... ضرية من دون الحبيب وتيرها
يقر بعيني أن أرى العيس تعتلي ... بنا نحو ليلى وهي تجري صقورها
وما لحقت حتى تقلقل عرضها ... وسامح من بعد المرام عسيرها
وأشرف بالأرض اليفاع لعلني ... أرى نار ليلى أو يراني بصيرها
فناديت ليلى والحمول كأنها ... مواقير نخل زعزعتها دبورها
فقالت أرى أن لا تفيدك صحبتي ... لهيبة أعداء تلظى صدورها
فمدت لي الأسباب حتى بلغتها ... برفقي وقد كاد ارتفاقي يغيرها
فلما دخلت الخدر أطت نسوعه ... وأطراف عيدان شديد سيورها
فأرخت لنضاخ الذفار منصة ... وذوي سيرة قد كان قدماً يسيرها
وإني ليشفيني من الشوق أن أرى ... على الشرف النائي المخوف أزورها
وأن أترك العيس الحسير بأرضها ... يطيف بها عقبانها ونسورها
حمامة بطن الواديين ترنمي ... سقاك من الغر الغوادي مطيرها
أبيني لنا لا زال ريشك ناعماً ... ولا زلت في خضراء دان بريرها
وقد تذهب الحاجات يسترها الفتى ... فتخفى وتهوى النفس ما لا يضيرها
وكنت إذا ما زرت ليلى تبرقعت ... فقد رابني منها الغداة سفورها
وقد رابني منها صدود رأيته ... وإعراضها عن حاجتي وقصورها
أترك حياض الموت ليلى وأفنا ... عيون نقيات الحواشي تديرها
ألا يا صفي النفس كيف بقولها ... لو أن طريداً خائفاً يستجرها
تجير وإن شطت بها غربة النوى ... ستنعم ليلى أو يفادى أسيرها
وقالت أراك اليوم أسود شاحباً ... وأنى بياض الوجه حر حرورها
وغيرني أن كنت لما تغيرت ... هو أجر لا أكتنها وأسيرها
إذا كان يوم ذو سموم أسيره ... وتقصر من دون السموم ستورها
وقد زعمت ليلى بأني فاجر ... لنفسي تقاها أو عليها فجورها
فقل لعقيل ما حديث عصابة ... تكنفها الأعداء ناء نصيرها
فإن لا تناهوا يركب اللهو نحوها ... وخفت برجل أو جناح يطيرها
لعلك يا قيساً ترى في مريرة ... معذب ليلى إن رآني أزورها
وأدماء من حر الهجان كأنها ... مهاة صوار غير ما مس كورها(1/467)
من الناعبات المشي نعباً كأنما ... نياط بجذع من أراك جريرها
من العركانيات حرف كأنها ... مريرة كيد شد شداً مغيرها
قطعت بها موماة أرض مخوفة ... مخوف رداها حين يستن مورها
ترى ضعفاء القوم فيها كأنهم ... دعاميص ماء نش عنها غديرها
وقسورة الليل التي بين نصفه ... وبين العشا قد ريب منها أسيرها
أبت كثرة الأعداء أن يتجنبوا ... كلابي حتى يستشار عقورها
وما يشتكي جهلي ولكن غرتي ... تراها بأعدائي لبيثاً طرورها
أمخترمي ريب المنون ولم أزر ... جواري من همدان بيضاً نحورها
تنوء بإعجاز ثقال وأسواق ... خدال وإقدام لطاف خصورها
أظن بها خيراً وأعلم أنها ... ستنفك يوماً أو يفك أسيرها
أرى اليوم يأتي دون ليلى كأنما ... أتت حجة من دونها وشهورها
علي دماء البدن إن كان بعلها ... يرى لي ذنباً غير إني أزورها
وأني إذا ما زرتها قلت يا اسلمي ... ويا بأبي قولي اسلمي ما يضيرها
قيل: وكان توبة إذا أتى ليلى الأخيلية خرجت إليه في برقع فلما شهر أمره شكوه إلى السلطان فأباحهم دمه إن أتاهم, فكمنوا له في الموضع الذي كان يلتقاها فيه, فلما علمت به خرجت سافرة حتى جلست في طريقه فلما رآها سافرة فطن لما أرادت, وعلم أنه قد رصد وأنها أسفرت لذلك تحذره, فركض فرسه, فنجا وذلك قوله: وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت -البيت المتقدم ضمن القصيدة- وقيل أيضاً: إنه كان يكثر زيارتها, فعاتبه أخوها وقومها, فلم يعتب, وشكوه إلى قومه فلم يقلع. فتظلموا منه على السلطان فأهدر دمه إن أتاهم, وعلمت ليلى بذلك وجاءها زوجها -وكان غيوراً- فحلف لئن لم تعلمه بمجيئه ليقتلنها, ولئن أنذرته بذلك ليقتلنها. قالت ليلى: وكنت أعرف الوجه الذي يجيئني منه فرصدوه بموضع ورصدته بآخر, فلما أقبل لم أقدر على كلامه لليمين فسفرت وألقيت البرقع عن رأسي, فلما رأى ذلك أنكره فركب راحلته ومضى, ففاتهم.
وخرج يوماً شخص من بني كلاب, ثم من بني الصحمة يبتغي إبلاً له حتى أوحش وأرمل, ثم أمسى بأرض فنظر إلى بيت براز فأقبل حتى نزل حيث ينزل الضيف فأبصر امرأة وصبياناً يدورون بالخباء, فلم يكلمه أحد, فلما كان بعد هدأة من الليل سمع جرجرة إبل رائحة وسمع فيها صوت رجل حتى جاء بها فأناخها على البيت ثم تقدم فسمع الرجل يناجي المرأة ويقول: ما هذا السواد حذاءك. قالت: راكب أناخ بنا حين غابت الشمس ولم أكلمه.
فقال لها: كذبت ما هو إلا بعض خلانك. ونهض يضربها وهي تناشده. قال الرجل: فسمعته يقول: والله لا أترك ضربك حتى يأتي ضيفك هذا فيغيثك. فلما عيل صبرها قالت: يا صاحب البعير, يا رجل وأخذ الصحمي هراوته ثم أقبل يحضر حتى أتاها وهو يضربها فضربه ثلاث ضربات أو أربعاً, ثم أدركته المرأة فقالت: يا عبد الله ما لك, ولنا نح عنا نفسك.
فانصرف فجلس على راحلته وأدلج ليلته, كلها وقد ظن أنه قتل الرجل وهو لا يدري من الحي بعد حتى أصبح في أخبية من الناس, ورأى غنماً فيها أمة مولدة فسألها عن أشياء حتى بلغ بها الذكر فقال: أخبريني عن أناس وجدتهم بشعب كذا وكذا.
فضحكت وقالت: إنك تسألني عن شيء وأنت به عالم. فقال: وما ذاك لله بلادك فو الله ما أنا به عالم. قالت: ذاك ليلى الأخيلية وهي(1/468)
أحسن الناس وجهاً وزوجها رجل غيور فهو يعزب بها عن الناس فلا يحل بها معهم والله ما يقربها أحد ولا يضيفها فكيف نزلت أنت بها قال: إنما مررت فنظرت إلى الخباء ولم أقربه وكتمها الأمر وتحدث الناس عن رجل نزل بها فضربها زوجها فضربه الرجل ولم يدر من هو, فلما أخبر باسم المرأة وأقر على نفسه تغنى بشعر دل فيه على نفسه فقال:
ألا يا ليلى أخت بني عقيل ... أنا الصحمي إن لم تعرفيني
دعتني دعوة فجزعت عنها ... بصكات رفعت بها يميني
فإن تك غيرة أبريك منها ... وإن تك قد جننت فذا جنوني
وكان الحجاج يقول لليلى الأخيلية: إن شبابك قد ذهب واضمحل أمرك وأمر توبة فأقسم عليك ألا صدقتني هل كانت بينكما ريبة قط؟ أو خاطبك في ذلك قط فقالت: لا والله أيها الأمير إلا أنه قال لي ليلة وقد خلونا كلمة ظننت أنه قد خضع فيها لبعض الأمر فقلت له:
وذي حاجة قلنا له لا تبح بها ... فليس إليها ما حييت سبيل
لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه ... وأنت لأخرى صاحب وخليل
فلا والله ما سمعت منه ريبة بعدها حتى فرق بيننا الموت قال لها الحجاج فما كان منه بعد ذلك قالت: وجه صاحباً له إلى حضرنا. فقال: إذا أتيت الحاضر من بني عبادة بن عقيل فاعل شرفاً ثم اهتف بهذا البيت:
عفا الله عنها هل أبيتن ليلة ... من الدهر لا يسرى إلي خيالها
فلما فعل الرجل ذلك عرفت المعنى فقلت له:
وعنه عفا ربي وأحسن حفظه ... عزيز علينا حاجة لا ينالها
ولم يزل على ذلك حتى فرق بينهما الموت ومات توبة في بعض الغزوات قتله بنو عوف بن عقيل في خبر يطول شرحه. وكان ذلك سنة 85 هجرية و695 مسيحية, فلما بلغ خبر قتله ليلى الأخيلية رثته بمراث كثيرة منها:
نظرت وركن من دنانين دونه ... مفاوز حوضي أي نظرة ناظر
لآنس إن لم يقصر الطرف عنهم ... فلم تقصر الأخبار والطرف قاصري
فوارس أجلى شأوها عن عقيرة ... لعاقرها فيها عقيرة عاقر
فآنست خيلاً بالرقي مغيرة ... سوابقها مثل القطا المتواتر
قتيل بني عوف ويثبر دونه ... قتيل بني عوف قتيل لجابر
توارده أسيافهم فكأنما ... تصادرن عن اقطاع أبيض باتر
من الهند وانيات في كل قطعة ... دم زل عن أثر من السيف ظاهر
أتته المنايا دون زغف حصينة ... وأسمر خطى وخوصاء ضامر
على كل جرداء السراة وسابح ... لهن بشباك الحديد وزافر
عوابس تعد والثعلبية ضمراً ... وهن شواج بالشكيم السواجر
فلا يبعدنك الله توبة إنما ... لقاء المنايا دارعاً مثل حاسر
فإن لا تك القتلى بواء فإنكم ... ستلقون يوماً ورده غير صادر(1/469)
وإن السليل إذ يباري قتيلكم ... كمرجومة من عركها غير طاهر
فإن تكن القتلى بواء فإنكم ... فتى ما قتلتم آل عوف بن عامر
فتى لا تخطاه الرفاق ولا يرى ... لقدر عيالاً دون جار مجاور
ولا تأخذ الكوم الجلاد رماحها ... لتوبة في نحس الشتا الصنابر
إذا ما رأته قائماً بسلاحه ... اتقته الخفاف بالثقال البهازر
قرى سيفه منهن شاسا وضيفه ... سنام البهاديس البساط المشافر
وتوبة أحي من فتاة حيية ... وأجرأ من ليث يخفان خادر
ونعم فتى الدنيا وإن كان فاجراً ... وفوق الفتى إن كان ليس بفاجر
فتى ينهل الحاجات ثم يعلها ... فيطلعها عنه ثنايا المصادر
كأن فتى الفتيان توبة لم ينخ ... قلائص يفحصن الحصى بالكراكر
ولكم يبن إيراد إعتاقاً لفتية ... كرام ويرحل قبلهم في الهواجر
ولم يتجل الصبح عنه وبطنه ... لطيف كطي السب ليس بحاذر
فتى كان للمولى سناء ورفعة ... وللطارق الساري قرى غير ياسر
ولم يدع يوماً للحفاظ وللعدا ... وللحرب ترمي نارها بالشرائر
وللبازل الكوماء يرغو خوارها ... وللخيل تعدو بالكماة المساعر
كأن لم تكن تقطع فلاة ولم تنخ ... قلاص لذي بأومن الأرض غابر
ويصبح بموماة كأن صريفها ... صريف خطاطيف المدى في المحافر
طوت نفعها عنا كلاب وأثرت ... بنا أجهلوها بين غلو وشاعر
وقد كان حقاً أن تقول سراتهم ... لما لأخينا عائشاً غير عاثر
ودوية قفر يحاربها القطا ... تخطيتها بالناعجات الضوامر
فتالله تبني بيتها أم عاصم ... على مثله إحدى الليالي الغوابر
فليس شهاب الحرب توبة بعدها ... بغاز ولا غاد بركب مماقر
وقد كان طلاع النجاد وبين ... اللسان ومدلاج السرى غير فاتر
وقد كان قبل الحادثات إذا انتحى ... وسائق أو مغبوطة لم يغادر
وكنت إذا مولاك خاف ظلامة ... دعاك ولم يعدل سواك بناصر
فإن يك عبد الله آسى ابن أمه ... وآب بأسلاب الكمي المغاور
فكان كذات البو تضرب عنده ... سباعاً وقد ألقيته في الحواجر
فإن تك قد فارقته لك غادرا ... وأنى لحي غدر من في المقابر
فأقسمت أبكي بعد توبة هالكاً ... وأحفل من نالت صروف المقادر
على مثل همام ولابن مطرف ... لتبكي البواكي أو لبشر بن عامر(1/470)
غلامان كان استوردا كل سورة ... من المجد ثم استوثقا في المصادر
ربيعي حياً كانا يفيض نداهما ... على كل مغمور تراه وغامر
كأن سنا باريهما كل شتوة ... سنا البرق يبدو للعيون النواظر
وقالت ترثيه أيضاً:
أيا عين بكي توبة بن الحمير ... بسح كفيض الجدول المتفجر
لتبك عليه من خفاجة نسوة ... بماء شؤن العبرة المتحدر
سمعت بهيجاً أرهقت فذكرنه ... ولا يبعث الأحزان مثل التذكر
كأن فتى الفتيان توبة لم يسر ... بنجد ولم يطلع من المتغور
ولم يرد الماء الدام إذا بدا ... سنا الصبح في بادي الحواشي منور
ولم يغلب الخصم الضحاح ويملأ ال ... جفان سديفاً يوم نكباء صرصر
ولم يعل بالجرد الجياد يقودها ... بسبرة بين الأشمسات قياصر
وصحراء موماة يحاربها القطا ... قطعت على هول الجنان بمنسر
يقودون قباً كالسراحين لاحها ... سراهم وسيراً لراكب المتهجر
فلما بدت أرض العدو سقيتها ... مجاج بقيات المزاد المقبر
ولما أهابوا بالنهاب حويتها ... بخاطي البضيع كرة غير أعسر
يمر ككر الأندري مثابر ... إذا ما ونين مهلب الشد محضر
فألوت عناق طوال وراعها ... صلاصل بيض سابغ وسنور
ألم تر أن العبد يقتل ربه ... فيظهر جد العبد من غير مظهر
قتلتم فتى لا يسقط الروع رمحه ... إذا الخيل جالت في قنا متكسر
فيا توب للهيجا ويا توب للندا ... ويا توب للمستنج المتنور
ألا رب مكروب أجبت ونائل ... بذلت ومعروف لديك ومنكر
وقالت ترثيه:
أقسمت ارثي بعد توبة هالكا ... أحفل لمن دارت عليه الدوائر
لعمرك ما بالموت عار على الفتى ... إذا لم تصبه في الحياة المعاير
وما أحد حي وإن عاش سالما ... بأخلد ممن غيبته المقابر
ومن كان مما يحدث الدهر جازعا ... بلا بد يوماً أن يرى وهو صابر
وليس لذي عيش عن الموت مقصر ... وليس على الأيام والدهر غابر
ولا الحي مما يحدث الدهر معتب ... ولا الميت إن لم يصبر الحي ناشر
وكل شباب أو جديد إلى بلى ... وكل امرئ يوماً إلى الله صائر
وكل قرينى ألفة لتفرق ... شتاتاً وإن ضنا وطال التعاشر
فلا يبعدنك الله حياً وميتا ... أخا الحرب إن دارت عليك الدوائر
ويروى:(1/471)
فلا يبعدنك الله يا توب هالكا ... أخا الحرب إن دارت عليك الدوائر
فآليت لا أنفك أبكيك ما دعت ... على فنن ورقاء أو طار طائر
قتيل بني عوف فيا لهفتا له ... وما كنت إياهم عليه أحاذر
ولكنما أخشى عليه قبيلة ... لها بدروب الروم باد وحاضر
وقالت ترثيه:
كم هاتف بك من باك وباكية ... يا توب للضيف إذ تدعى وللجار
وتوب للخصم إن جاروا وإن عندوا ... وبدلوا الأمر نقصاً بعد إمرار
إن يصدروا الأمر تطلعه موارده ... أو يوردوا الأمر تحلله بإصدار
وقالت ترثيه:
هراقت بنو عوف دماً غير واحد ... له نبأ نجد به سيغور
تداعت له أفناء عوف ولم يكن ... له يوم هضب الرهدتين نصير
وقالت ترثيه:
يا عين بكي بدمع دائم السجم ... وابكي لتوبة عند الروع واليهم
على فتى من بني سعد فجعت به ... ماذا أجن به في الحفرة الرجم
من كل صافية صرف وقافية ... مثل السنان وأمر غير مقتسم
ومصدر حين يعي القوم مصدرهم ... وجفنة عند نحس الكوكب الشئم
وقالت لقابض وتعذي عبد الله أخا توبة:
دعا قابضاً والموت يخفق ظله ... وما قابض إذا لم يجب بنجيب
وآسى عبيد الله ثم ابن أمه ... ولو شاء نجى يوم ذاك حبيبي
وسأل معاوية بن أبي سفيان يوماً ليلى الأخيلية عن توبة بن الحمير فقال: ويحك يا ليلى أكما يقول الناس كان توبة؟ قالت: يا أمير المؤمنين, ليس كل ما يقول الناس حقاً, والناس شجرة بغي يحسدون أهل النعم حيث كانت وعلى من كانت, ولقد كان يا أمير المؤمنين سبط البنان حديد اللسان شجا للأقران, كريم المختبر, عفيف المئزر, جميل المنظر وهو يا أمير المؤمنين كما قلت له. قال: وما قلت له؟ قالت: قلت ولم أتعد الحق وعلمي فيه:
بعيد الثرى لا يبلغ القوم قفزه ... ألد ملد يغلب الحق باطله
إذا حل ركب في ذاره وظله ... ليمنعهم مما تخاف نوازله
حماهم بنصل السيف من كل فادح ... يخافون حتى تموت خصائله
فقال لها معاوية: ويحك, يزعم الناس أنه كان عاهراً خارباً. فقالت من ساعتها ارتجالاً:
معاذ إلهي كان والله سيداً ... جواداً على العلات جماً نوافله
أغر خفاجياً يرى البخل سبة ... تحلب كفاه الندى وأنامله
عفيفاً بعيد الهم صلباً قناته ... جميلاً محياه قليلاً غوائله
وقد علم الجوع الذي بات سارياً ... على الضيف والجيران أنك قاتله(1/472)
وأنك رحب الباع يا توب بالقرى ... إذا ما لئيم القوم ضاقت منازله
يبيت قرير العين من بات جاره ... ويضحى بخير ضيفة ومنازله
فقال لها معاوية: ويحك يا ليلى, لقد جزت بتوبة قدره. فقالت: والله يا أمير المؤمنين لو رأيته وخبرته لعرفت أني مقصرة في نعته وأني لا أبلغ كنه ما هو أهله. فقال لها معاوية: من أي الرجال: كان؟ فقالت:
أتته المنايا حين تم تمامه ... وأقصر عنه كل قرن يصاوله
وكان كليث الغاب يحمي عرينه ... وترضى به أشباله وحلائله
غضوب حليم حين يطلب حلمه ... وسم زعاف لا تصاب مقاتله
فأمر لها بجائزة عظيمة وقال لها: خبريني بأجود ما قلت فيه من الشعر. قالت: يا أمير المؤمنين ما قلت فيه شيئاً إلا والذي فيه من خصال الخير أكثر منه ولقد أجدت حين قلت:
جزى الله خيراً والجزاء بكفه ... فتى من عقيل ساد غير مكلف
فتى كانت الدنيا تهون بأسرها ... عليه ولا ينفك جم التصرف
ينال الذوب بل أسدي الخلايا شبيهة ... بدرياقة من خمر بيسان قرقف
فيا توب ما في العيش خير ولا ندى ... يعد وقد أمسيت في ترب نفنف
وما نلت منك النصف حتى ارتمت بك ال ... منايا بسهم صائب الوقع أعجف
فيا ألف إلف كنت حياً مسلماً ... لا لقاك مثل القسور المتطرف
كما كنت إذ كنت المرجى من الردى ... إذا الخيل جالت بالقنا المتقصف
وكم من لهيف محجر قد أجبته ... بأبيض قطاع الضريبة مرهف
فأنقذته والموت يحرق نابه ... عليه ولم يطعن ولم يتنسف
قيل: وكان الحجاج جالساً إذ استؤذن لليلى فقال الحجاج: وأي ليلى؟ قيل: الأخيلية. قال: أدخلوها. فدخلت امرأة طويلة, دعجاء العينين, حسنة المشية, فسلمت. فرد الحجاج عليها ورحب بها وأمر الغلام فوضع لها وسادة فجلست فقال: ما أقدمك. قالت: السلام على الأمير والقضاء لحقه والتعرض لمعروفه. قال: وكيف خلفت قومك؟ قالت: تركتهم في حال خصب وأمن ودعة. أما الخصب ففي الأموال وأما الأمن فقد أمنهم الله عز وجل بك, وأما الدعة فقد خامرهم من خوفك ما أصلح بينهم. ثم قالت: ألا أنشدك؟ قال: إن شئت. فقالت:
أحجاج لا يفلل سلاحك إنما ال ... منايا بكف الله حيث تراها
إذا هبط الحجاج أرضاً مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذ هز القناة سقاها
سقاها دماء المارقين وعلها ... إذا جمحت يوماً وخيف أذاها
إذا سمع الحجاج صوت كتيبة ... أعد لها قبل النزول قراها
أعد لها مصقولة فارسية ... بأيدي رجال يحسنون غذاها
أحجاج لا تعطي العصاة مناهم ... ولا الله يعطي للعصاة مناها
ولا كل حلاف تقلد بيعة ... فأعظم عهد الله ثم شراها(1/473)
فقال الحجاج ليحيى بن منقذ لله بلادها: ما أشعرها. ثم أقبل على جلسائه فقال لهم: أتدرون من هذه. قالوا: لا والله ما رأينا امرأة أفصح ولا أبلغ منها, ولا أحسن إنشاداً. قال: هذه ليلى صاحبة توبة, ثم قال لها: أي النساء تختارين أن تنزلي عندها؟ قالت: سمهن لي. فسماهن, فاختارت هند بنت أسماء, فدخلت عليها فصبت هند حليها عليها حتى أثقلتها لاختيارها إياها ودخولها عليها دون سواها, ولما كان الصباح قال الحجاج لعبيد بن موهب -حاجبه-: مر لها بخمسمائة درهم واكسها خمسة أثواب أحدها خز, ثم قالت: أصلح الله الأمير قد أضر بنا العريف في الصدقة, وقد خربت بلادنا وانكسرت قلوبنا فأخذ خيار المال فقال الحجاج: اكتبوا إلى صاحب اليمامة بعزل العريف الذي شكته.
وقيل: إن ليلى لما دخلت على الحجاج فلما قالت: (غلام إذا هز القناة سقاها) قال لها: لا تقولي غلام وقولي همام, فأمر لها بمائتين فقالت: زدني. فقال: اجعلوها ثلثمائة. فقال بعض جلسائه: إنها غنم. قالت الأمير أكرم من ذلك, وأعظم قدراً من أن يأمر لي إلا بالإبل. قال: فاستح وأمر لها بثلثمائة بعير وإنما كان أمر لها بغنم لا إبل.
وبينما الحجاج بن يوسف جالس يوماً دخل عليه الآذن فقال: أصلح الله الأمير بالباب امرأة تهدر كما يهدر البعير. قال: أدخلها فلما دخلت استنسبها فانتسبت له فقال: ما أتى بك يا ليلى؟ قالت: إخلاف النجوم وكلب البرد, وشدة الجهد, وكنت لنا بعد الله المرد. قال: فأخبريني عن الأرض. قال: الأرض مقشعرة, والفجاج مغبرة, وذو الغنى مختل, وذو الحد منفل. قال: وما سبب ذلك؟ قالت: أصابتنا سنون مجحفة مظلمة لم تدع لنا فصيلاً ولا ربعاً, ولم تبق عافطة ولا نافطة, فقد أهلكت الرجال ومزقت العيال, وأفسدت الأموال ثم أنشدته الأبيات التي ذكرناها متقدماً. وقال في الخبر, قال الحجاج: هذه التي يقال فيها:
نحن الأخايل لا يزال غلامنا ... حتى يدب على العصا مشهوراً
تبكي الرماح إذا فقدن أكفنا ... جزعاً وتعرفنا الرفاق بحوراً
ثم قال لها: يا ليلى, أنشدينا بعض شعرك في توبة, فأنشدته قولها: لعمرك بالموت عار على الفتى -القصيدة- فقال: الحجاج لحاجبه: اذهب فاقطع لسانه. فدعا لها بالحجام ليقطع لسانها فقالت: ويلك إنما قال لك الأمير: اقطع لسانها بالصلة والعطاء, فارجع إليه واستأذنه, فرجع إليه فاستأمره فاستشاط عليه وهم بقطع لسانه, ثم أمر بها فدخلت عليه فقالت: كاد وعهد الله يقطع مقولي وأنشدته:
حجاج أنت الذي لا فوقه أحد ... إلا الخليفة والمستغفر الصمد
حجاج أنت سنان الحرب إن بهجت ... وأنت للناس في الداجي لنا نقد
ودخل عبد الملك بن مروان على زوجته عاتكة بنت يزيد بن معاوية فرأى عندها امرأة بدوية أنكرها فقال لها: من أنت؟ قالت له: أنا الوالهة الحري ليلة الأخيلية. قال: أنت التي تقولين:
أريقت جفان ابن الخليع فأصبحت ... حياض الندى زلت بهن المراتب
فلهى وعفى بطن قودي وحوله ... كما انقض عرش البئر والورد عاصب
قالت: أنا التي أقول ذلك. قال: فما أبقيت لنا. قالت: الذي أبقاه الله لك. قال: وما ذاك؟ قالت: نسباً قرشياً وعيشاً رخياً وامرأةً مطاعةً قال: أفردته بالكرم. قالت: أفردته بما أفرده الله به.
قالت عاتكة: إنما جاءت تستعين بنا عليك في عين تسقيها وتحميها لها, ولست ليزيد إن شفعتها في شتى من حاجاتها لتقديمها أعرابياً جلفاً على أمير المؤمنين فوثبت ليلى على رجلها واندفعت تقول:(1/474)
ستحملني ورحلي ذات رحل ... عليها بنت آباء كرام
إذا جعلت سواد الشام جيشاً ... وغلق دونها باب اللئام
فليس بعائد أبداً إليهم ... ذوو الحاجات في غلس الظلام
أعاتك لو رأيت غداة بنا ... عزاء النفس عنكم واعتزامي
إذا لعلمت واستيقنت أني ... مشيعة ولم ترعى ذمامي
أأجعل مثل توبة في نداه ... أبا الذبان فوه الدهر دامي
معاذ الله ما عسفت برحلي ... تغد السير للبلد التهامي
أقلت خليفة فسواه أحجى ... بامرته وأولى باللثام
لثام الملك حين تعد بكر ... ذوو الأخطار والخطى الحسام
فقيل لها: أي الكعبين عنيت؟ قالت: ما إخال كعباً ككعبي.
وقيل: إن ليلى الأخيلية دخلت على عبد الملك بن مروان وقد أسنت وعجزت فقال لها: ما أرى توبة فيك حين هويك؟ قالت: ما رآه الناس فيك حين ولوك. فضحك عبد اللمك حتى بدت له سن سوداء كان يخفيها. وكانت دخلت على مروان بن الحكم يوماً فقال لها: ويحك يا ليلى بالغت في نعت توبة! فقالت: أصلح الله الأمير والله ما قلت إلا حقاً, ولقد قصرت وما رأيت رجلاً قط كان أربط منه على الموت جأشاً, ولا أقل إيحاشاً يحتدم حين يرى الحرب ويحمى الوطيس بالضرب, فكان وعهد الله كما قلت:
فتى لم يزل يزداد خيراً لمذنب ... على أن علاه الشيب فوق المسائح
تراه إذا ما الموت حل بورده ... ضروباً على أقرانه بالصفائح
شجاع لدى الهيجاء بيت مشابح ... إذا انحار عن أقرانه كل سائح
فعاش حميداً لا ذميماً فعاله ... وصولاً لقرباه يرى غير كالح
فقال لها مروان: كيف يكون توبة على ما تقولين وقد كان خارباً والخارب سارق الإبل خاصة فقالت: والله ما كان خارباً, ولا للموت هائباً, ولكنه فتى له جاهلية ولو طال عمره وأنسأه لا رعوى قلبه ولقضى في حب الله نحبه وأقصر عن لهوه ولكنه كما قال عمه مسلم بن الوليد:
فلله قوم غادروا ابن حمير ... قتيلاً صريعاً للسيوف البواتر
لقد غادروا جزماً وعزماً ونائلاً ... وصبراً على اليوم العبوس القماطر
إذا هاب ورد الموت كل غضنفر ... عظيم الحوايا ليته غير حاضر
مضى قدماً حتى تلاقي بورده ... وجاد بسيب في السنين القواشر
فقال لها مروان: يا ليلى, أعوذ بالله من درك الشقاء, وسوء القضاء, وشماتة الأعداء. فو الله لقد مات توبة وإن كان لمن فتيان العرب وأشدائهم ولكنه أدركه الشقاء. فهلك على أحوال الجاهلية. وكان بينها وبين الجعدي مهاجاة وذلك أن رجلاً من قشير يقال له: ابن الحيا وهي أمه واسمه سوار بن أوفى بن سبرة هجاه وسب أخواله من أزد في أمر كان بين قشير وبين بني جعده وهم بأصبهان فأجابه النابغة بقصيدته التي يقال لها الفاضحة (سميت بذلك لأنه ذكر فيها مساوئ قشير وعقيل وكل ما كانوا يسبون به وفخر بمآثر قومه وبما كان من بطون بني عامر سوى هذين الحيين من قشير وعقيل) فقال:(1/475)
جهلت علي ابن الحيا وظلمتني ... وجمعت قولاً جاء بيتاً مضللا
وقال أيضاً في هذه القصة التي أولها:
أما ترى ظلل الأيام قد حسرت ... عني وشمرت ذيلاً كان ذيالا
وهي طويلة يقول فيها:
ويوم مكة إذا ما جدتم نفرا ... جاموا على عقد الأحساب أزوالا
عند النجاشي إذ تعطون أيديكم ... مقرنين ولا ترجون إرسالا
إذ تستحقون عند الخذل أن لكم ... من آل جعدة أعماماً وأخوالا
لو تستطيعون أن تلقوا جلودكم ... وتجعلوا جلد عبد الله سربالا
يعني عبد الله بن جعدة بن كعب:
إذا تسربلتم فيه لينجيكم ... مما تقول ابن ذي الجدين إن قالا
حتى وهبتم لعبد الله صاحبه ... والقول فيكم بإذن الله ما قالا
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيباً بماء فعادا بعد أبوالا
يعني بهذا البيت أن ابن الحيا فخر عليه بأنهم سقوا رجلاً من جعدة أدركوه في سفر وقد جهد عطشاً لبناً وماء فعاش فلما ذكر النابغة ذلك وفخر بما له وغض مما لهم دخلت ليلى الأخيلية بينهما فقالت:
وما كنت لو فارقت جل عشيرة ... لأذكر قعبي خازر قد تثملا
فلما بلغ النابغة قولها قال:
ألا حييا ليلى وقولا لها هلا ... فقد ركبت أمراً أغر محجلا
وقد أكلت بقلاً وخيماً نباته ... وقد شربت من آخر الصيف إبلا
دعي عنك تهجاء الرجال وأقبلي ... على أدلعي يملأ إستك فيشلا
وكيف أهاجي شاعرً رمحه إسته ... خضيب البنان لا يزال مكحلا
فردت عليه ليلى فقالت:
أنابغ لم تنبغ ولم تك أولاً ... وكنت صنياً بين صدين مجهلا
أنابغ إن تنبغ بلؤمك لا تجد ... للؤمك إلا وسط جعدة مجعلا
تعيرني داء بأمك مثله ... وأي نجيب لا يقال له هلا
فغلبته فلما أتى بني جعدة قولها هذا اجتمع ناس منهم فقالوا: والله لنأتين صاحب المدينة وأمير المؤمنين فليأخذن لنا بحقنا من هذه الخبيثة فإنها قد شتمت أعراضنا وافترت علينا فتهيؤا لذلك وبلغها أنهم يريدون أن يتسعدوا عليها فقالت:
أتاني من الأنباء أن عشيرة ... بشوران يزجون المطي المذللا
يروح ويغدو وفدهم بصحيفة ... ليستجلدوا لي ساء ذلك معملا
وأخبر بعض الرواة قال: بينما معاوية يسير يوماً إذ رأى راكباً فقال لبعض شرطه: ائتني به وإياك أن تروعه. فأتاه, فقال: أجب أمير المؤمنين. فقال: إياه أردت. فلما دنا الراكب حدر لثامه فإذا هي ليلى الأخيلية, ثم أنشأت تقول:(1/476)
معاوي لم أكد آتيك تهوي ... برحلي رادة الأصلاب ناب
قريح الظهر يفرح أن يراها ... إذا وضعت وليتها الغراب
تجوب الأرض نحوك ما تأنى ... إذا ما الأكم قنعها السراب
فقال: ما حاجتك؟ فقالت: ليس لمثلي أن يطلب إلى مثلك حاجة فأعطاها خمسين من الأبل ثم قال: أخبريني عن مضر فقالت: فاخر بمضر, وحارب بقيس, وكاثر بتميم, وناظر بأسد. ومن جيد أشعارها ما مدحت به آل مطرف قولها:
يا أيها السدم الملوي رأسه ... ليقود من أهل الحجاز بريما
أتريد عمر وبن الخليع ودونه ... كعب إذا لوجدته مرؤما
إن الخليع ورهطه في عامر ... كالقلب ألبس جؤجؤاً وحزيما
لا تغزون الدهر آل مطرف ... وأسنة رزق تخال نجوما
قوم رباط الخيل وسط بيوتهم ... وأسنة زرق تخال نجزما
ومخرق عنه القميص تخاله ... وسط البيوت من الحياء سقيما
حتى إذا رفع اللواء رأيته ... تحت اللواء على الخميس زعيما
وذكر الأصمعي: أن ليلى حينما كانت عند الحجاج أمر لها بعشر آلاف درهم وقال لها: هل لك من حاجة؟ قالت: نعم أصلح الله الأمير تحملني إلى ابن عمي قتيبة بن مسلم. وهو على خراسان يومئذٍ فحملها إليه فأجازها وأقبلت راجعة تريد البادية فلما كانت بالري ماتت, فقبرت هناك. هكذا ذكر الأصمعي.
وقيل: إنها حينما كانت عند الحجاج فقال لها: هل لك من حاجة؟ قالت: نعم, تدفع إلى النابغة أحكم فيه بما أرى. فلما سمع النابغة بذلك هرب إلى الشأم فتبعته, ثم استأذنت عبد الملك فيه فأذن لها ولم تزل في طلبه حتى توفيت بقومس بلدة من أعمال بغداد على جانب الفرات. وقيل: بحلوان والمدى بينهما قريب.
وفي رواية أخرى أن ليلى الأخيلية أقبلت من سفرة فمرت بقبر توبة ومعها زوجها وهي في هودج لها فقالت: والله لا أبرح حتى أسلم على توبة فجعل زوجها يمنعها من ذلك وتأبى إلا أن تلم به, فلما كثر ذلك منها تركها فصعدت أكمة عليها توبة فقالت: السلام عليك يا توبة, ثم حولت وجهها على القوم فقالت: ما عرفت له كذباً قط قبل هذا قالوا: كيف؟ قالت: أليس القائل:
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت ... علي ودوني تربة وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أو زقى ... إليها صدى من جانب القبر صائح
وأغبط من ليلى بما لا أناله ... ألا كل ما قرت به العين صالح
فما باله لم يسلم علي كما قال: وكانت إلى جانب القبر بومة كامنة, فلما رأت الهودج واضطرابه فزعت وطارت في وجه الجمل فنفر, فرمى ليلى على رأسها فماتت من وقتها ودفنت إلى جانبه وهذا هو الصحيح من خبر وفاتها.
ليلى العامرية بنت مهدي بن سعد
صاحبة قيس بن الملوح بن مزاحم الشهير بالمجنون, ولم يكن مجنوناً إلا من العشق بدليل قوله:(1/477)
يسمونني المجنون حين يرونني ... نعم بي من ليلى الغداة جنون
وكان سبب عشقه لها أنه مر على ناقة وعليه حلتان من حلل الملوك بزمرة من قومه وعندها نسوة يتحدثن فأعجبهن, فاستنزلته للمنادمة فنزل وعقر لهن ناقته, وأقام معهن بياض اليوم. وكانت ليلى مع من حضر وحين وقعت عينه عليها لم يصرف عنها طرفاً, وشاغلته فلم يشتغل, فلما نحر الناقة جاءت لتمسك معه اللحم فجعل يحز بالمدية في كفه وهو شاخص فيها حتى أعرق كفه فجذبتها من يده ولم يدر ثم قال لها: أتاكلين الشواء؟ قالت: نعم, فطرح من اللحم شيئاً على الغضي وأقبل يحادثها. فقالت له انظر إلى اللحم هل استوى أم لا؟ فمد يده إلى الجمر وجعل يقلب بها اللحم فاحترقت ولم يشعر, فلما علمت ما داخله صرفت عن ذلك, ثم شدت يده دبهدب قناعها, ثم ذهب وقد تحكم عشقها من قلبه وقد استدعته بعد هذا المجلس للمحادثة وقد داخلها الحب فقالت له: هل لك في محادثة من لا يصرفه عنك صارف؟ قال: ومن لي بذلك؟ فقالت له: اجلس. فجلس وجعلا يتحادثان حتى مضى الوقت ولم يزالا على ذلك حتى حجبها أبوها عنه وزوجها من غيره -كما هو مشهور في قصتها- ومن رقيق شعر ليلى:
لم يكن المجنون في حالة ... إلا وقد كنت كما كانا
لكنه باح بسر الهوى ... وإنني قد ذبت كتمانا
وقال له رجل من قومه: إني قاصد حي ليلى فهل عندك شيء تقوله لها؟ قال نعم, أنشدها إذا وقفت بحيث تسمعك هذه الأبيات:
الله أعلم أن النفس قد هلكت ... باليأس منك ولكني أمنيها
منيتك النفس حتى قد أضر بها ... وأبصرت خلفاً مما أمنها
وساعة منك ألهوها ولو قصرت ... أشهى إلي من الدنيا وما فيها
قال الرجل: قضيت حتى وقفت بخيامها فلما أمكنتني الفرصة أنشدت بحيث تسمع الأبيات فبكت حتى غشى عليها, ثم قالت: أبلغه عني السلام وأنشدت:
نفسي فداؤك لو نفسي ملكت إذا ... ما كان غيرك يجزيها ويرضيها
صبراً على ما قضاه الله فيك على ... مرارة في اصطباري عنك أخفيها
وقال رباح بن عامر: دخلت من نجد أريد الشام فأصابني مطر عظيم, فقصدت خيمة رفعت لي فإذا بامرأة فسألتها التظليل, فأشارت إلى ناحية, فدخلت ثم قالت للعبيد: سلوه من أين الرجل؟ فقلت: من نجد. فتنفست الصعداء ثم قالت: نزلت بمن فيها؟ قلت: ببني الحريش فرفعت ستارة كانت بيننا وإذا بامرأة كأنها القمر ثم قالت: أتعرف رجلاً فيهم يقال له: قيس ويلقب بالمجنون؟ قلت: إي والله سرت مع أبيه حتى أوقفني عليه وهو مع الوحش لا يعقل إلا أن ذكرت له ليلى, فبكت حتى أغمي عليها فقلت: مما تبكين ولم أقل إلا خيراً. فقالت: أنا والله ليلى المشؤمة عليه غير المساعدة له ثم أنشدت:
ألا ليت شعري والخطوب كثيرة ... متى رحل قيس مستقل فراجع
بنفسي من لا يستقل برحله ... ومن هو إن لم يحفظ الله ضائع
وكان آخر مجلس للمجنون من ليلى أنه لما اختلط عقله وتوحش جاءت أمه إليها فأخبرتها وسألتها أن تزوره فعساها أن تخفف ما به فقالت: أما نهاراً فلا خيفةً من أهلي وسآتيه ليلاً, فلما جن الليل جاءت فسلمت عليه ثم قالت:(1/478)
أخبرت أنك من أجلي جننت وقد ... فارقت أهلك لم تعقل ولم تفق
فرفع رأسه إليها وأنشد:
قالت جننت على رأسي فقلت لها ... الحب أعظم مما بالمجانين
الحب ليس يفيق الدهر صاحبه ... وإنما يصرع المجنون في الحين
لو تعلمين إذا ما غبت ما سقمي ... وكيف تسهر عيني لم تلوميني
وقد امتحنته يوماً لتنظر ما عنده من المحبة لها فدعت شخصاً بحضرته فسارته ثم نظرته قد تغير حتى كاد ينفطر فأنشدت:
كلانا مظهر للناس بغضاً ... وكل عند صاحبه مكين
تبلغينا العيون بما أردنا ... وفي القلبين ثم هوى دفين
وأسرار اللواحظ ليس تخفى ... وقد تغري بذي الخطأ الظنون
وكيف يفوت هذا الناس شيء ... وما في الناس تظهره العيون
فسر بذلك حتى كاد أن يذهب عقله فانصرف وهو يقول:
أظن هواها تاركي بمضلة ... من الأرض لا مال لدي ول أهل
ولا أحد أقضي إليه وصيتي ... ولا صاحب إلا المطية والرحل
محاجها حب الألى كن قبلها ... وحلت مكاناً لم يكن حل من قبل
ليلى بنت طريف
وقيل: الفارعة. وقيل: فاطمة, والأول أشهر. أخت الوليد بن طريف الشيباني الخارجي الذي خلع ربقة الطاعة في خلافة الرشيد, فأرسل إليه يزيد بن مزيد بن زائدة الشيباني, فظهر عليه وقتله سنة 179 هجرية (795) ميلادية. وكانت أخته من شواعر العرب تجيد الشعر, وكانت من الفروسية على جانب عظيم. ولما قتل أخوها صبحت القوم وعلى جسدها الدرع ولامة الحرب, وجعلت تحمل على الناس. ومن شجاعتها وفروسيتها قال القوم: إن الوليد قد قتل وليست هذه إلا أخته ليلى لأنها تشابهه بالفروسية وبالتحقيق عرفت أنها ليلى. وكان يزيد بن مزيد قريباً للوليد بن طريف لكونهما جميعاً من شيبان فقال يزيد: اتركوها ثم خرج إليها وضرب بالرمح قطاة فرسها, وقال: أعزبي, عزب الله عليك قد فضحت العشيرة فاستحت وانصرفت. ورثت أخاها بمراث كثيرة لم يبق منها إلا القليل, وكانت تسلك سبيل الخنساء في مراثيها لأخيها صخر. ومن جملة ما أنشدت فيه قولها:
بتل نباتي رسم قبر كأنه ... على جبل فوق الجبال منيف
تضمن مجداً عد ملياً وسوددا ... وهمة مقدام ورأي حصيف
أيا شجر الخابور مالك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف
فتى لا يريد العز إلا من التقى ... ولا المال إلا من قنا وسيوف
ولا الذخر إلا كل جرداء صلدم ... معاودة للكربين بألوف
فقدناه فقدان الربيع فليتنا ... فديناه من ساداتنا بألوف(1/479)
كأنك لم تشهد هناك ولم تكن ... مقاماً على الأعداء غير مخيف
ولم تستلم يوماً لورد كريهة ... من الشرد في غضراء ذات رفيف
ولم تسع يوم الحرب والحرب لاقح ... وسمر القنا ينكرنها بأنوف
حليف الندى ما عاش يرضي به الندى فإن مات لا يرضى الندى بحليف
خفيف على ظهر الجواد إذا عدا ... وليس على أعدائه بخفيف
وما زال حتى أزهق الموت نفسه ... شجا لعدو أو نجا لضعيف
ألا يا لقومي للحمام وللبلى ... وللأرض همت بعده برجوف
ألا يا لقومي للنوائب والردى ... ودهر ملح بالكرام عنيف
وللبدر ما بين الكواكب إذ هوى ... وللشمس إذ ما أزمعت بكسوف
ولليث كل الليث إذ يحملونه ... إلى حفرة ملحودة وسقيف
ألا قاتل الله الجثا حيث أدمرت ... فتى كان للمعروف غير عيوف
فإن يك أرداه يزيد بن مزيد ... فرب زحوف لفها بزحوف
عليك سلام الله وقفاً فإنني ... أرى الموت وقاعاً بكل شريف
وقولها فيه أيضاً:
ذكرت الوليد وأيامه ... إذ الأرض من شخصه بلقع
فأقبلت أطلبه في السماء ... كما يبتغي أنفه الأجدع
أضاعك قومك فيطلبوا ... إفادة مثل الذي ضيعوا
لو أن السيوف التي حدها يصيبك تعلم ما تصنع
نبت عنك أو جعلت هيبة ... وخوفاً لصولك ولا تقطع
حرف الميم
ماء السماء
هي ماوية بنت عوف بن جشم. وقيل: بنت ربيعة التغلي. ملكة العراق التي من سلالتها النعمان وباقي الملوك المناذرة. لقبت بماء السماء لأنها كانت في عصرها آية الجمال, وعنوان المجد والجلال, وكانت المنادرة تفتخر بها وجميع عرب العراق تحلف بحياتها, وكانت مآثرها ومفاخرها على العرب لا يوصف لها حد ولا يدرك لها عد, وكانت مكرمة عند الأكاسرة ونسائهم, وطالما قدمت نساء الآكاسرة الهدايا النفيسة والأكاليل والجواهر اللطيفة, وحق لمثلها أن تفتخر على نساء العرب والعجم بما جاء لها من الأولاد النجباء الذين دانت لهم البلاد وخدمتهم العباد مدة من الزمان حتى أذلوا جبابرة العرب والعجم فسبحان الحي الذي لا يموت.
ماريا أدجورت بنت أدورد الثالث ملك إنكلترا
ولدت في برك شير سنة 1767 م وتوفيت في أدجورت تون من إيرلاندة سنة 1849 م أخذت العلم عن(1/480)
أبيها وكانت من البشاشة على جانب عظيم ومحبوبة عند الجميع, وكان لها من الأمل والرغبة الذين لا بد منهما لنمو القوى العقلية نمواً تاماً ما حملها على مداومة اجتهادها في سبيل المطالعة والدرس, وكانت مولعة بالروايات فأتحفت قومها بروايات كثيرة النفع مفيدة, وكانت كل رواياتها أدبية مؤثرة فاكتسبت رضا العموم ومديحهم وقد طبعت كتاباً في 14 مجلداً في لندن سنة 1825 م ثم طبعته ثانية في 18 مجلداً سنة 1832 م, وفي 9 مجلدات سنة 1848 م, وفي 10 مجلدات سنة 1856 م وكرر طبعه في الولايات المتحدة الأمريكانية.
ماجدة القرشية
ذكر في طبقات الشعراني أنها كانت من المتعبدات الصالحات الزاهدات القائمات الليل الصائمات النهار. وكانت -رضي الله عنها- تقول ما حركة تسمع ولا قدم توضع إلا ظننت أني أموت في أثرها. وكانت تقول: يا لها من عقول ما أنقصها سكان دار أوذنوا بالنقلة وهم حيارى يركضون في المهلة كأن المراد غيرهم والتأذين ليس لهم ولا عنى بالأمر سواهم, وكانت تقول لم ينل المطيعون ما نالوا من حلول الجنة ورضا الرحمن إلا بتعب الأبدان.
ماريا تريزيا ابنة كارلوس الرابع إمبراطور النمسا
ولدت سنة 1717 م وتزوجت بدوق توسكا سنة 1726 م, ولما توفي والدها سنة 1740 م ورثت الملك عنه واشترك زوجها فيه وقد قامت بعبء هذا المنصب الخطير والبلاد تئن تحت وطأة الدين المتثاقل والخسائر الفاحشة التي لحقتها بسبب الحروب مع روسيا وسكرينا وغيرها من دول أوروبا, وزادت مهاجمات هذه الدول مع وفاة والدها واستولى كل منها على مقاطعة من النمسا بدعوى انقطاع المذكورة من عائلة أبيها, فاستولى "فريدريك الكبير" ملك "بروسيا" على "سيسيليا" وهي أخصب مقاطعات المملكة النمساوية وأغناها, واستولت إسبانيا ونابولي على أملاكها في إيطاليا فقطعت أوصال مملكتها وتركتها اسماً بلا مسمى, غير أن ذلك لم يوهن عزم الملكة "ماريا تريزيا" التي فاقت الرجال حكمة ودراية فجمعت الأموال وحشدت الجنود, ودافعت عن بلادها دفاع اليأس, فانكسرت والتجأت إلى رعاياها المجريين فأنجدوها عن طيبة خاطر.
قيل: إنها جمعتهم في قصرها ودخلت عليهم حاملة ابنها ولي العهد وكان طفلاً وأخذت تخاطبهم باللاتينية وتحثهم على الدفاع والذود عن الوطن وكان جمالها مفرطاً وكلامها عذباً, وفصاحتها تأخذ بمجامع القلوب فسحر المجرمون بها ورقوا لدموعها وجردوا سيوفهم, وعاهدوها على الدفاع إلى الموت. وبمساعدة المجريين تمكنت من عقد هدنة "أكس لاشابل" سنة 1748 م بعد حرب سبع سنوات وخسارة كثير من أملاكها, غير أنها تمكنت بذلك من أن سمت زوجها إمبراطور, واضطرت بقية الدول إلى الاعتراف به, ثم صرفت همتها إلى ترقية العلوم والصناعة والزراعة والتجارة, فزادت المكاسب وتحسنت الأحوال, وانتشلت البلاد من ضيقتها المالية, وكانت تسوس البلاد بمساعدة زوجها ووزيرها "كونتز" المشهور ثم تجدد الحرب بينها وبين "فريدريك الكبير" ملك "بروسيا", ودامت سبع سنوات فضعفت البلاد وخسرت ما كانت قد كسبته في زمن السلم, ثم عقب هذه الحرب سلم طويل فعادت إلى ترقية العلوم والصنائع وأدخلت إلى بلادها إصلاحات شتى.
سنة 1763 م توفي زوجها فأشركت ابنها يوسف معها في الملك, واشترك مع روسيا وبروسيا في اقتسام بولاندا, افنا لها من ذلك الثلث وأضافت إلى ذلك "غالينسيا" و"لودوميريا", وأخذت من(1/481)
الدولة العالية بوكونيا, وتوفيت سنة 1780 م بعد أن ملكت أربعين سنة أظهرت في خلالها من الشجاعة والحزم والعزم والحكمة في السياسة, وتدبير الرعية, وترقية المعارف والصنائع ما فاقت به على الرجال ووصلت به النمسا في أيامها إلى أوج مجدها, وتوفيت عن ثلاثة بنين وست بنات. وخلفها قي الملك ابنها المذكور آنفاً باسم يوسف الثاني.
ماريا متشل الفلكية الأميركية
ماريا متشل ابنة رجل أمريكي من طائفة الكواكر, ولدت سنة 1818 م وكان أبوها مولعاً بعلم الهيئة والحسابات الفلكية, فتعلمت منه الحساب, وكان لها ميل شديد إلى العلوم الرياضية, فبرعت فيها مع أنها كانت تقوم بخدمة البيت من غسل الصحاف وما أشبه ذلك, ولم يحاول أبوها صرفها عن ميلها الطبيعي بل قواه فيها بتعليمه إياها العلوم الرياضية كلها حتى سلك الأبحر كما علم بنيه الذكور.
وكانت تقول: إن المرأة تستطيع أن تتعلم سبع لغات وهي تعمل بيديها في الخياطة والتطريز, وكان أبوها مستخدماً في اللجنة التي تسمح الشواطئ البحرية فاستعان بها على أعماله الحسابية, ومن ثم تعرفت بكثيرين من مشاهير علماء العصر وكان هؤلاء العلماء يزورونها ويحاورونها في المباحث العلمية, ولم يكن أبوها في بسطة من العيش, فعزمت على أن تساعده على السعي لعائلته, فجعلت مديرة لأحد المكاتب العمومية, وبقيت في هذا المنصب عشرين سنة منقطعة إلى الدرس في منتخبات الكتب, وكثيراً ما كانت تصنع الجوارب بيديها والكتاب مفتوح أمامها وهي تطالع فيه -هذا في النهار- وأما في الليل فكانت ترصد الكواكب في أفلاكها.
وسنة 1847 م اكتشفت نجماً جديداً من ذوات الأذناب اكتشفته بالتلسكوب, وحسبت ميلة وصعوده المستقيم بالتدقيق, فكتب أبوها إلى مدير مرصد "كمبردج" يعلمه بذلك فلم يمض على هذا الاكتشاف إلا أسابيع قليلة حتى اشتهر اسمها في محافل العلماء وأذاعته الجرائد العلمية, ومنحها ملك الدانميرك نيشاناً ذهبياً.
ولما اكتشفت هذا الاكتشاف الفلكي كان لها في المكتبة عشر سنوات فأقامت فيها عشر سنوات أخرى عاكفة على الدرس ورصد الأفلاك والمساعدة في تأليف الزيح (النتيجة أو التقويم) الأميركي السنوي ومكاتبة الجرائد العلمية.
وسنة 1857 م أتت أوروبا قصد مشاهدة مراصدها الفلكية والتعرف بعلمائها المشهورين, فرحب بها العلماء وأكرموا مثواها لأن شهرتها كانت تتقدمها حيثما ذهبت ولم تلبث في أوروبا إلا سنة واحدة, ثم عادت إلى أمريكا واستمرت على تأليف الزيج للحكومة إلى أن أنشأ مسيو "قاسار" مدرسة جامعة للبنات ومرصداً فلكياً فيها فجعلت مديرة لهذا المرصد وأستاذة لعلم الهيئة في المدرسة المذكورة وهي الآن عضو في مجمع العلوم الأميركي. وفي جمعية الفنون والعلوم ولها تأليفان الواحد في أقمار زحل والثاني في أقمار المشتري, ورصود معتبرة في النيازك, وعبور الزهرة.
وقد بلغت فوق السبعين من عمرها وكلل الشيب رأسها ولكنها لم تزل تراقب الأفلاك وتعلم بنات نوعها مراقبتها ومشاركة الرجال في أسمى المطالب العلمية.
ماريا مورغان الأميركية
ولدت في جنوب إرلندا سنة 1828 م من أبوين من ذوي المقامات الرفيعة, وربيت على ظهور الصافنات الجياد منذ نعومة أظافرها, فلم تناهز العاشرة حتى صارت تسابق الفرسان وتكسب الرهان, ثم توفي أبوها(1/482)
فانتقلت أملاكه كلها إلى بكره بحسب شريعة البلاد, فاضطرت أن تسعى لنفسها في طلب رزقها وكان لها أخت أصغر منها تعلمت فن التصوير وأرادت أن تتقنه في مدينة رومية -أم المصورين ومرضعتهم- فذهبتا إليها سوية, وتعرفت هناك "بهربت هوسمر" النحات الأميركي وكان نزيلاً في رومية, وعنده كثير من جياد الخيل, فجعلت تركبها وتروضها حتى ذاع صيتها في بلاد إيطاليا. ولما مضى عليها سنتان في رومية قصدت مدينة فلورنسا, وكانت كرسي ملوك إيطاليا فدعاها الملك "فكتور عمانوئيل" إليه ورحب بها وأجلسها بجانبه وجعل يحدثها بأمر الخيل فرآها من أعرف الناس بها فأقامها مديرة على الاصطبلات الملكية وبقيت في هذا المنصب العالي سنين كثيرة, وكانت تذهب إلى إنكلترا وإيرلندا من وقت إلى آخر لتبتاع له الجياد, وأهداها نجماً من الماس وساعة من الذهب عليها اسمه بحجارة الماس لما رآه فيها من الهمة والاجتهاد.
وسنة 1869 م قصدت الولايات المتحدة الأميركية ومعها مكاتيب التوصية من سفير الولايات المتحدة في إيطاليا إلى رجل من أخصائه فوجدت أن الرجل مات فجأة قبل وصولها فسقط في يدها ولم تعلم ماذا تعمل وعرض عليها مدير جريدة التمس التي تطبع في مدينة نيويورك أن تنشئ له ما يكتب في جريدته عن الخيول وأخبارها فترددت في قبول ذلك, ولما لم تجد عملاً آخر يقوم بمعيشتها قبلته, وجعلت تتردد على أسواق الخيل وميادينها وتكتب فيها الفصول الضافية وتصدت لها بقية الجرائد في أول الأمر وسلقتها بألسنة حداد ولكنها عادت فأثنت عليها بما هي أهله لما رأت من بلاغة إنشائها وسمو مدراكها, ولين عريكتها, وواسع خبرتها وأقامت في هذا المنصب أكثر من عشرين سنة, وكانت تكاتب كثيراً من الجرائد العلمية والأدبية واشتهرت ببلاغة الإنشاء وقوة الحجة وكانت ثقة قومها في معرفة الخيول وزارت أوروبا مراراً عديدة وأختها المصورة برفقتها ومنذ عهد غير بعد أخذت تبني داراً كبيرة وكانت تدفع نفقات البناء من المال الذي أحرزته بقلمها وأختها تعتني بنقش الدار وتزويقها ولكن عاجلتها المنية قبل أن تكسنها وهي في الرابعة والستين من عمرها وقد كتبت على جبين الدهر: (لبس دون الرجال النساء) .
ماري جان غومرد دوفويريني
"كونتس باري" خليلة "لويس الخامس عشر" ولدت في فوكولور من "شمانيا" سنة 1746 م وقتلت في باريس سنة 1793 م كانت بنت خياطة واستخدمت في مخزن بباريس تباع فيه ملابس الرأس, وكانت ذات جمال بارع سلبت فيه قلوب كثيرين من باريس, ومن ضمن من تعلقوا بها الكونت جان دوباري فأوغر إلى بعض خدمه أن يصفها للملك ويذكر له محاسنها ودلالها محاولاً بذلك بلوغ المناصب العالية وجمع ثروة وافرة.
فلما نمى خبرها إلى لويس الخامس عشر زوجها بأخي الكونت -المذكور- ثم فتح لها أبواب البلاط الملكي فكانت تدخله كالخواتين الكريمات وسرى حبها في عروق الملك, فتمكن فيها ولم يعتره فتور مدة حياته بطولها أما ما أنفق عليها من خزينة فرنسا فبلغ أكثر من خمسة وثلاثين مليون فرنك أمدت بجانب منها أقرباءها وأصدقاءها, وتصدقت بجانب آخر على الفقراء كفارة عن إثمها, وكانت تتداخل في مصالح الدولة فحصل لها أهمية كبرى, وهي التي حملت الملك على نفي دوق "سوازول" كبير وزرائه لأنه كان أشد أعدائها وبعثته أيضاً على فض المجلس العالي الذي التأم سنة 1771 م وإبعاد أعضائه غير أن للزمان نكبات فلم يسلم منها من سلك مسلك الغرور.
فلما توفي الملك نفاها "لويس السادس عشر" من بلاطه غير أنه(1/483)
سمح لها بالرجوع إلى جناح القصر الملكي الذي بني لها في "لوسيانة" قرب "فرساليا", فأقامت فيه مع دوق برتياله عشيقها وكانت عيشتهما عيشة تنعم.
وسنة 1792 م سافرت إلى إنكلترا ولما رجعت منه ألقي عليها القبض سنة 1793 م بدعوى اختلاسها الأموال ومؤامرتها على الجمهورية, ولبسها ثوب احلداد في "لوندرة" على العائلة الملكية, فحكم عليها بالقتل, وكانت قد تشددت مدة المحاكمة غير أن عزيمتها خارت في طريقتها إلى دكة الدم واستمرت إلى آخر دقيقة من حياتها تسأل العفو بكلام يدعو إلى الشفقة فلم يغن عنها ذلك شيأ وكانت ساعدت بعض الشعراء وقربتهم واقتبست منهم بعض معارف, واستعانت بها على مقاصدها. وبالجملة كانت بارة بالفقراء والمساكين.
ماري أنتوانت ابنة دوق توسكا من مارياتريزيا
ولدت سنة 1755 م, وتزوجت وهي في السادسة عشرة من عمرها بولي عهد فرنسا "لويس السادس عشر" وكانت حينئذٍ على غاية البساطة وصفاء النية, محبة للمزح, أنيسة العشرة بعيدة التأنف والرسوم المرعية في قصور الملوك وسمي زوجها ملكاً على فرنسا سنة 1774 م, وكان ذلك بدأة أتعابها فكرهها الشعب الفرنساوي واتهمها بدسائس عديدة لم يقدر أن يثبت واحدة منها, وكانت هفواتها العظيمة حب الفخفخة والولائم والمسرات, وقصورها عن إدراك ويلات البلاد ومصائبها.
قيل: إنها رأت الفقراء يتضورون جوعاً فقالت: إني أحزن لفقرهم فإذا لم يكن لهم خبز يأكلونه فليأكلوا كعكاً وكان الفرنساويون يزدادون بغضاً لها وعداوةً, واتهموها بسرقة أموال البلاد وإنفاقها على ما لا فائدة منح وهجم جمهور من رعاعهم على قصر فرساليا بقصد قتلها, وطلبوا أن تخرج إليهم فخرجت بشجاعة وثياب يندرو جودهما في مثل تلك الأحوال, وأمسكت بيدها ولي العهد ابنها الطفل فلم يجسر أحد أن يرميها بشيء مخافة أن يصيبه.
وكان ذلك سبب نجاتها ثم أرادت مصالحة الأمة فزارت بعض المعامل وأظهرت سرورها من تقدم الصناعة فيها, وبينت اهتمامها بأحوال الشعب غير أن الخرق كان اتسع على الراقع فازداد الفرنساويون بغضاً وكرهاً لها, ولما رأت متهم ذلك صممت على الهرب من البلاد هي وزوجها فمانعها زوجها حاسباً أن هربه في تلك الأحوال ضرب من الخيانة لبلاده.
وكان شريف النفس أبيها, محباً للأمة لا يشوبه إلا ضعف الهمة. وفي أحد الأيام هجم البعض عليه وأوقفوا مركبته فساءه ذلك وحسبه تعدياً شخصياً, فهرب مع عائلته في 20 يونيه سنة 1791 م ولسوء حظه أمسك في فاران وأرجع أسيراً إلى باريس, وراد هياج الشعب ضد الملكة واتهموها بدسيسة مع النمسا, وقويت حجة فرنسا وبعد عراك طويل ومعاناة أخطار شتى أظهرت أثناءها شجاعة غريبة وقوة نادرة, وعزماً وحزماً تقصر عنهما الرجال حكم عليها المجلس بالقتل في 15 أكتوبر سنة 1793 م وأنفذ الحكم في اليوم الثاني وذلك بعد ما قتل زوجها بثمانية أشهر. وهكذا انتهت حياة هذه الملكة الفريدة التي فاقت الرجال عزيمة وثباتاً, وقاسمتهم الأتعاب والمشاق.
ماري ستوارث ابنة يعقوب الخامس دوق سكوتلانده
هي شهيرة عصرها جمالاً ونجابة, وزينة العالم الغربي علماً ومهابة. ولدت سنة 1542 م من زوجته "ماري دي لورين" التي ماتت بعد ولادتها بثمانية أيام.
وفي سنة 1558 م تزوج بها "روفان" الذي تولى تخت(1/484)
فرنسا باسم فرنسيس الثاني, ثم مات عنها بعد سنة ونصف فعادت إلى بلادها حزينة, وهناك ودعت فرنسا بأبيات هي غاية في الرشاقة واللطف تعريبها ما يأتي. "وداعا يا فرنسا الأنيقة يا بلادي التي رشحت صباي والتي فيها مشتهاي, وداعاً يا أمي الغراء في مملكة العز والصفاء إن الفلك الذي فصلني عنك لم يفصل سوى شطري, وأما الشطر الآخر وهو ملك سأتركه في مغناك ذريعة لذكراك".
وكان تغاليها في الاستمساك بالمذهب اللاتيني الذي كان استبدله قومها بمذهب لوثير جعلها بغيضة لدى الأهليين, فرأت أن تتزلف إليهم بزواجها بابن عمها "هنري" الذي لم يكن له من مزية سوى بسطة في جسمه ومسحة في جمال وجهه, فزفت عليه سنة 1565 م وكان لئيماً غيوراً فاتهمها بحب كاتم أسرارها "داود بيز يوالا يتالي" الذي كان جميلاً فتاناً وموسيقياً شهيراً, فهجم عليه ليلة من باب خفي في قصرها, ولما رآه يعزف أمامها اشتعل حسداً وغيرة, فقتله غيلة عند الباب الخارجي.
وفي سنة 1567 م هلك "هنري" بكيفية تجلب الشك في أمر موته, فاتهمت به, وعقيب ثلاثة أشهر تزوجت بلا تدبر في العواقب بالكونت بوتويل الذي قيل عنه إنه المجهز بأمرها على زوجها, فهاج فعلها هذا القوم فاتهموها بالخيانة والفاحشة, وزجوها في معقل "لوس ليفان" وساموها جحد مذهبها علناً فأبت ولبثت سجينة حيثما تمخضت عن ولدها "جمس الأول" الذي وحد مملكتي "سكوتلاندا" والإنكليز, ثم حاولت الفرار فتدلت من شرافة عالية ونجت بنوع عجيب, وكتبت إذ بئست من الملك مستجيرة بابنة عمها الملكة "اليصابات", وذلك سنة 1578 م, فاستقدمتها بأمان ولما رأت ما أوتيت من محاسن الذات والصفات أضمرت لها شراً وحسداً.
ثم افترت عليها أموراً منها أنها قتلت زوجها فأودعتها سجناً ضيقاً مكثت فيه 18 عاماً اتخذت في خلالها وسائل جمة للخلاص فلم تفلح, ومن تلا نبأ سجنها وما لقيت فيه من الضر والنكد لا يكاد يملك عبراته حزناً ووجداً, ولو كان فؤاده حجراً صلداً, ولم يكف "أليصابات" ذلك حتى اتهمتها ظلماً ولؤماً بأنها عاونت فريقاً من أهل مذهبها على إهلاكها, فخفرت ذمتها وحكمت عليها بالموت.
ثم أمرت الأمير "بيل" وكان من أشد الناس عداوة لماري بأن يزورها في السجن وينذرها بوشك القتل, فسار مع فريق من الأمراء وأبلغها الرسالة بلسان أمر من الصبر وفؤاد أقصى من الصخر, فأجابته متجلدة: إني لست من رعية ابنة عمي فكيف تأمر بقتلي وإذا كان رضاها بموتي فأهلاً به إلا أن نفساً لا تسمح لجسم بأن يتحمل ضربة جلاد فهو إذن غير جدير بنعيم الملك الجواد. ثم دعت قسيسها وكانوا قد حالوا بينهما فقال لها بعض النبلاء: لو فوضت أسقفاً لوتيريا لكان أقرب للتقوى. فأبت وكان أمير "كنت" متحمساً في البروتستانية فقال: إن حياتك لدينا موت وموتك حياة لنا.
ولما انصرفوا أمرت بالطعام وتناولت قليلاً منه على عادتها وحانت منها لفتة فرأت خدامها يبكون. فقالت لهم: كفوا يا أخوتي وافرحوا بانطلاقي من هذا العالم عالم الشقاء, ثم شربت بعد العشاء على أسمائهم رجالاً ونساء فشربوا معها ركعاً وقد مزجوا شرابهم من عيونهم بماء والتمسوا عفوها فعفت عنهم واستعفتهم عنها ثم كتبت وصيتها ووزعت بينهم حلاها وألبستها, وكتبت إلى ملك فرنسا رسائل وصاة في حق جميع حاشيتها ثم تودعت من النوم بالغرار, وأحيت سائر ليلها بالتهجد والاستغفار.
ولما ألقت الغزالة لعابها جاء أمر في طلابها وكان النهار صاحياً, ووجه السماء ضاحكاً ضاحياً, فلبست أبهى ثيابها وأسدلت عليها رداء من كتان, وخرجت على الفور وسجتها في بنانها, وعلى محياها الصبيح الوقور سمات الخفر والتجلد وكان المجد والإجلال يسيران في خدمتها.
ولما بلغت مقتلها استقبلها الأعيان والأمراء وبينهم خادمها(1/485)
"ملفن" يشرق بالبكاء فقالت له: رويدك يا "ملفن" وكفاك نحيباً فإنك عما قليل ترى ماري معتوقة من قيد أحزنها فقل لأهل سكوتلاندة إني أموت كاتوليكية حافظة لفرنسا وسكوتلانده عهدي. إلهي اغفر لمن ظمئ إلى دمي كما تظمأ الإبل إلى الماء. إلهي إنك تعلم سرائري وخفايا ضمائري فبرئني عند ابني اليتيم أو ألهمه أن حياتي لم تدنس حرمته, ولم تشن مملكته. إلهي وفقه إلى أن ينهج مع ملكة الإنكليز منهج صدق ووداد إنك لغفور سميع جواد.
ثم ذرفت مدامعها ككريات من الماس تقذف من لجين وتدحرج على صفحتي لجين, وودعت خادمها الوداع الأخير فاندفع في البكاء حتى تولاه الإغماء, ثم التفتت بجلالها إلى الأمراء ورغبت إليهم أن يساعدوا خدمتها على إحراز مالهم من وصيتها, وأن يمكنوهم من القيام حولها ساعة قتلها فتجافي أمير "كنت" عن مطلبها الثاني لوساوس شيطانية فقالت له: لا تخف دركاً من هذه النعاج الوديعة الوريقة التي لا مأرب لها إلا التملي مني بهذا الوداع الأليم, وعندي أن حبيبتي لا تمنعني ذلك كيف لا وأنا ملكة أيضاً وابنة ملك, وزوجة ملك, وأقرب الناس إليها والله يعلم أنني أقول ذلك بقلب سليم وضمير مستقيم, فلبوها حينئذٍ وسار أمامها الأمراء وخادمها الخاص وراءها رافع رداءها حتى إذا بلغوا المذبح استوت على أريكة سوداء فتلى أمر قتلها فسمعته بإصغاء.
ثم حاول الأسافقة أن يميلوا بها عن مذهبها, فأجابتهم: إني أموت على ما ولدت. فطلب الأمراء أن يشتركوا معها في الصلاة والدعاء فقالت: لكم دينكم ولي دين.
ثم جثت وأخذت تصلي باللاتينية فتابعها خدمتها, ولما فرغت كررت الاستغفار عن الملكة والدعاء لابنها فتقدم الجلاد مستسمحاً فأجابته مسامحة, ثم نزع عنها خدامها رداءها الأعلى باكيات نائحات فقابلتهن بالصبر وكف العبرات, ثم غطت وجهها بقناع أسود واستوت على الخشبة قائلة: إلهي استودعتك روحي واستقبلت الموت.
بعزمة بعثتها همة زحل ... من دونها بمكان الأرض من زحل
فتقدم الجلاد وقطع هامتها فهتف الأسقف: هكذا لتهلك أعداؤنا. ثم حنطت جثتها ودفنت باحتفال في كنيسة "بيتير بورغ" وصنع لها في باريس مأتم حافل, وكان لها من العمر يوم قتلها أربع وأربعون سنة وشهران, وما زال رسمها محفوظاً فوق سريرها في "أيدنبورغ" قاعدة سكوتلاندة ولها رسم آخر في محبسها الأول محفوظاً مع تاج الملك والسيف والصولجان, ووسام وخاتم ياقوتي فصه أكبر من البندقية, وقد ألف مشاهير الكتبة بحياة "ماري" وبراءتها روايات كثيرة شعراً ونثراً تركوها بهدها للناس أمثولة وذكرى.
إذا خان الأمير وكاتباه ... وقاضي الأرض داهن في القضاء
فويل ثم ويل ثم ويل ... لقاضي الأرض من قاضي السماء
وكتبت إلى "أليصابات" وهي في سجنها تقول من "ماري ستوارث" إلى "أليصابات" ملكة إنكلترا لقد برح الخفاء أيتها السيدة وظهرت عقبة من يتكل على عدلك في حفظ الذمام وكرم الأخلاق وقد تبين لي أن المستجير بك عند البلاء كالمستجير بالنار من الرمضاء. فعلام لا تقابلنني ولأي ذنب تلقينني في السجن وقد كنت آمل أن أرتع عندك في القصور المنيعة, ولماذا لم أر منك إلا الضغينة والبغضاء عوضاً عن المودة والولاء. وهل السجون والقبور لمثل "ماري ستوارث" حتى يحكم عليها مجلسك بها. وعلى أي ذنب بنوا حكمهم ووافقتيهم عليه يا ترى أساءك مني أن معتقدي يخالف معتقدك وإني لست لبنة كنيستك؟ أو تعدين هذا ذنباً سياسياً حتى انقضت علي من أجله منتقمة متشفية على حين سلمت نفسي إليك, وألقيت أمري بين يديك وقلت: خذوها فغلوها. آه لقد قضى أهل المروءة فواحر قلباه.
وآخر ما أقوله أيتها السيدة: إنك إذا كنت لا تنظرين في سوء(1/486)
حالي وشدة مصابي فتنازلي وانظري بعض النظر في مقامي واعلمي أن في "ماري ستوارث" خلفاً وأي خلف لعرش "اسكتلانده" إنما أنا عالمة أنك تقصدين التنكيل بي, وأعلم السبب الداعي إلى ذلك ولكنني لا أخاف تنكيلاً, ولا أرهب وعيداً ولا تهديداً فإن "أليصابات" لم تعرف بعد أي عظيمة ضمها صدر "ماري ستوارث" فسأتحمل الظلم بنفس راضية دون أن أفوه ببنت شفة مكتفية بأن لي رباً ينصف المظلوم من الظالم وهو الذي يشيد الممالك ويقوضها, ويرفع الملوك ويخفضها, فليهنأ لك الملك يا "أليصابات" ولتقر عينك به وقد خلا لك الجو فاملكي واسرحي وامرحي, ولكنني أذكرك في الختام أن لا تحكمي بغير العدل والإنسانية والسلام.
فأجابتها أليصابات بما يأتي: إنني لا أقابلك أيتها السيدة حتى يبيض فوداك وتصفر خداك من سجون إنكلترا وأنت لا تتركينها ساعتئذٍ إلا لتمثلي رواية محزنة يكون لك فيها الدور الأول والسلام.
ماري دوارليان
وهي ابنة الملك "لويس فيلب الثاني". ولدت في بالرمو سنة 1813 م وتزوجت سنة 1837 م بألكسندر دوق دوود تمبرغ, وتوفيت سنة 1839 كانت مغرمة بالفنون المستظرفة ولاسيما صناعة الحفر ومن محفوراتها تمثال جان دارك حفرته, ولها من العمر20 سنة, وهو الآن في قاعة التحف في "فرسالياه" وقد حفرت تماثيل أخرى وصورت صوراً كثيرة ظريفة جداً.
مادام بلانشار
كانت من اللواتي اشتهرن بفن البالون أي المركبة الهوائية وكان زوجها "بلانشار" قد سقط ثروته وخسر كل ما كان قد جمعه فأمسى فقيراً حتى إنه قال لها وهو على فراش الموت: إنه لا يرى لها فرجاً بعد موته إلا بأن تقتل نفسها شنقاً أو غرقاً.
ولكنها صممت على المسير في السبيل الذي كان زوجها يسير فيه وبناء على ذلك شرعت في الصعود في الهواء وغير ذلك, فصعدت مراراً كثيرة ونجحت كل النجاح, وأتقنت العمل وتشجعت حتى إنها كانت تعرض نفسها لأخطار كثيرة, وكانت هذه المخاطرات واسطة لتشديد رغبة القوم في التفرج على أعمالها وبالنتيجة كانت تزيد مداخيلها المالية وكثيراً ما كانت تصادف من المخاطر ما كان يكاد يأتيها بالهلاك, وصعدت مرة فأملت منها عنان مركبتها فسقطت بها إلى مكان موحل يغرق من سقط فيه فتعلقت المركبة في الأشجار.
وكانت تندفع من مكان إلى مكان بشدة مخيفة حتى ظن القوم الذين كانوا يتفرجون عليها أنها تهلك إذا لم يبادر أهل القرى المجاورة لتخليصها, أما عدد صعودها في الهواء صعوداً عمومياً فكان بين الخمسين والستين مرة, وكانت في كل مرة تعمل أعمالاً تختلف عن التي عملتها في غيرها.
وفي سنة 1819 م للميلاد صممت على أن تقيم وهي طائرة في المركبة أعمالاً نارية كالتي يقيمونها في الأفراح والأعياد والولائم, وكانت تربط الأسهم النارية في المركبة بحيث تقدر أن تشعلها بقضيب طويل في رأسه نار مشتعلة, وكانت تشعلها وتقطع الرباط فتقع مشتعلة إلى أسفل فيراها المتفرجون, هذا ومعلوم أن من أغرب الأعمال التي عملها بشر هذا العمل الذي كانت تتجاسر أن تعمله امرأة لأنها كانت تصعد إلى الهواء وتبعد عن الأرض ألوفاً من الأقدام بواسطة مادة قابلة جداً للاحتراق, وموضوعة في ظرف رقيق قابل(1/487)
للاحتراق أيضاً وتأخذ في إشعال البارود وغيره من المواد السريعة الاشتعال بقضيب طويل مشتعل.
وكان البعض ينظرون إلى ذلك بعين الخوف لأنهم كانوا يعلمون أن شرارة واحدة من القضيب المشتعل الرأس أو من المواد التي كانت تحرقها كافية لحرق تلك المركبة الكبيرة إذا وصلت على الهيدروجين الذي كان يرفعها, وهكذا حدث فإن النار اشتعلت فاشتعل أسفل المركبة فأخذت تسقط بسرعة, ثم احترقت الحبال التي كانت تربط مجلس المركبة وسقط فسقطت ما دام "بلانشار" على سطح من سطوح بيوت المدينة ومنها على الأرض فماتت حالاً.
المتجردة هند زوجة المنذر بن ماء السماء
كانت من أعظم نساء العرب جمالاً فلما مات عنها أخذها ولده النعمان فكان يجلسها مع نديميه النابغة والمنخل, فشغفت بالمنخل وامتزجا حباً فأمر النعمان يوماً النابغة أن يصفها فقال:
وإذا طعنت طعنت في مستهدف ... رابي المجسة بالعبير مقرمد
وإذا نزعت نزعت عن مستحصف ... نزع الحزور بالرشاء المحصد
فقال المنخل: إن هذا وصف معاين وحرض النعمان على قتله فهرب وكان عفيفاً فلما خرج النعمان إلى الصيد رجع بغتة فوجد المتجردة مع المنخل وقد ألبسته أحد خلخاليها, وشدت رجله إلى رجليها فقتله وللمنخل فيها أبيات منها:
إن كنت عاذلني فسيرى ... نحو العراق ولا تحوري
ولقد دخلت على القتا ... ة الخدر في اليوم المطير
والكاعب الحسناء تر ... فل في الدمقس وفي الحرير
فدفعتها فتدافعت ... مثل القطاة إلى الغدير
فلثمتها فتنفست ... كتنفس الظبي البهير
فرثت وقالت هل بحبك ... يا منخل من فتور
ما شف جسمي غير حبك ... فاهتدى عني وسيري
وأحبها وتحبني ... ويحب ناقتها بعيري
ولقد شربت من المدا ... مة بالصغير وبالكبير
فإذا سكرت فإنني ... رب الخورنق والسدير
وإذا صحوت فأنني ... رب الشويهة والبعير
يا هند هل من ناهل ... يا هند للعاني الأسير
متيم الهشامية
كانت متيم صفراء مولدة من مولدات البصرة وبها نشأت وتأدبت وغنت وأخذت عن إسحاق وعن أبيه من قبله, وعن طبقتهما من المغنين, وكانت من تخريج بذل المغنية وتعليمها لها وعلى ما أخذت عنها تعتمد فاشتراها علي بن هشام بعد ذلك فما ازدرت أحداً ممن كان يغشاه من المغنين, وكانت من أحسن الناس وجهاً(1/488)
وغناء وأدباً وكانت تقول شعراً مستحسناً من مثلها, وحظيت عند علي بن هشام حظوة شديدة وتقدمت عنده على جواريه أجمع, وهي أم أولاده كلهم, فولدت له صفية -وتكنى أم العباس- ثم ولدت محمداً ويعرف بأبي عبد الله, ثم ولدت بعده ابناً يقال له: هارون ويعرف بأبي جعفر, سماه المأمون وكناه, بهذا الاسم والكنية قال: ولما توفي علي بن هشام عتقت.
وكان المأمون يبعث إليها فتجيبه فتغنيه, فلما خرج المعتصم على "سر من رأى" أرسل إليها فاستخلصها وأنزلها داخل الجوسق في دار كانت تسمى الدمشقي وأقطعها غيرها وكانت تستأذن المعتصم في الدخول إلى بغداد على ولدها فتزورهم, ثم ضم غليها قلم وهي جارية لعلي بن هشام.
قال الحسن بن إبراهيم بن رياح: سألت عبد الله بن العباس الربيعي من أحسن من أدركت صنعة. قال إسحاق قلت: ثم من؟ قال: علوية. قلت: ثم من؟ قال: متيم. قلت: ثم من؟ قال: أنا, فعجبت من تقديمه متيم على نفسه, فقال: الحق أحق أن يتبع.
وكانت متيم جالسة بين يدي المعتصم ذات يوم ببغداد وإبراهيم بن المهدي حاضر فغنت متيم:
لزينب طيف تعتريني طوارقه ... هدوا إذا ما النجم لاحت لواحقه
فأشار غليها إبراهيم أن تعيده فقالت ميتم للمعتصم: يا سيدي, إبراهيم يستعيدني الصوت وكأني أراه يريد أن يأخذه. فقال: لا تعيديه.
فلما كان بعد أيام كان إبراهيم حاضراً مجلس المعتصم ومتيم غائبة, فانصرف إبراهيم بعد حين على منزله ومتيم في منزلها بالميدان وطريقه عليها وهي في منظرة لها مشرفة على الطريق فسمعها تغني هذا الصوت, فضرب باب المنظرة بمقرعة.
وقال: قد أخذناه بلا حمدك, وكان المأمون سأل علي بن هشام أن يهبها له وكان بغنائها معجباً, فدفعه عن ذلك ولم يكن له منها ولد وقتئذٍ فلما ألح المأمون في طلبها حرص على أن تعلق منه حتى حملت ويئس المأمون منها فيقال: إن ذلك كان سبباً لغضبه عليه حتى قتله.
وقال علي بن محمد الهشامي: إنه أهدى على علي بن هشام برذون أشهب قرطاسي وكان في النهاية من الحسن والفراهة وكان علي به معجباً وكان إسحاق يرغب فيه رغبة شديدة وعرض لعلي يطلبه مراراً فلم يرض أن يعطيه له فسار إسحاق إلى علي يوماً يعقب صنعة متيم في هذا الصوت.
فلا زلن حسرى ظلعاً كم حملنها ... إلى بلد ناء قليل إلا صادق
فاستعاده إسحاق واستحسنه ثم قال له: بكم تشتري مني هذا الصوت؟ فقال علي بن هشام: جاريتي تصنع هذا الصوت وأشتريه منك! قال: قد أخذته الساعة وأدعيه, فقول من يصدق قولي أو قولك فاختر الآن مني خلة من اثنتين إما أن تهبني البرذون وتحملني عليه وأما أن أبيت فأدعي والله هذا الصوت لي وقد أخذته قال: علي يؤخذ قولك ويترك قولي لا والله ما أظن هذا ولا اراه يا غلام قدم هذا البرذون إلى منزل أبي محمد بسرجه ولجامه لا بارك الله لك فيه.
وكلم ابن هشام متيم يوماً في كلام فأجابته جواباً لم يرضه, فدفع يده في صدرها فغضبت ونهضت فتناقلت عن الخروج غليه فكتب إليها:
فليت يدي بانت غداة مددتها ... إليك ولم ترجع بكف وساعد
فإن يرجع الرحمن ما كان بيننا ... فلست إلى يوم التنادي بعائد
فصنعت له لحناً وخرجت غليه وصالحته وغنته الصوت. وعتبت عليه مرة فتمادى عتبها وترضاها فلم ترض فقال الدلال: يدعو إلى الملال, ورب هجر دعا إلى صبر, وإنما سمي القلب قلباً لتقلبه, ولقد صدق(1/489)
العباس بن الأحنف حيث يقول:
ما أراني إلا سأهجر من لي ... س يراني أقوى على الهجران
قد حدا بي على الجفاء وفائي ... ما أضر الوفاء بالإنسان
فخرجت إليه من وقتها وقال الهشامي: كانت متيم تحبني حباً شديداً محبة الأخت لأخيها, وكانت تعرف أني أحب النبق, فبينما أنا جالس في داري في ليلة من الليالي في وقت السحر إذا أنا ببابي يدق فقيل: من هذا؟ فقالوا: خادم متيم يريد أن يدخل إليك. فقلت: يدخل, فدخل ومعه صينية فيها نبق, فقال لي: إن متيم تقرئك السلام وتقول لك: كنت عند أمير المؤمنين المعتصم بالله فجاءه نبق من أحسن ما يكون فأمر أن يوضع في صينية ويقدموها إلى متيم ففعلوا فأمرتني أن آتي بها إليك ودفعت إلي كمية من النقود حتى أدفعها إلى الحراس ليخرجوني بها وها هي عند المعتصم.
ووفدت على علي بن هشام جدته من خراسان فقالت له يوماً: اعرض علي جواريك. فعرضهن عليها ثم جلس على الشراب وغنت متيم وأطالت جدته الجلوس, فلم ينبسط ابن هشام إليهن كما كان يفعل فقال هذين البيتين:
أيبقى على هذا وأنت قريبة ... وقد منع الزوار بعض التكلم
سلام عليكم لا سلام مودع ... ولكن سلام من حبيب متيم
وكتبها في رقعة ورمى بها إلى متيم فأخذتها ونهضت إلى الصلاة ثم عادت وقد صنعت فيه لحناً فغنت فقالت: شاهك وهي جدة ابن هشام وما أرانا ألا قد ثقلنا عليكم اليوم وأمرت الجواري فحملن محفتها وأمرت بجوائز للجواري وساوت بينهن وأمرت لمتيم بمائة ألف درهم.
ومرت متيم في نسوة وهي مستخفية بقصر علي بن هشام بعد قتله, فلما رأت بابه مغلقاً لا أنيس عليه وقد علاه التراب والغبرة وطرحت في أفنيته المزابل وقفت وقالت:
يا منزلاً لم تبل أطلاله ... حاشى لأطلالك أن تبلى
لم أبك أطلالك لكنني ... أبكيت عيني فيك وإذ ولى
قد كان لي فيك هوى مدة ... غيبه الترب وما هلا
فصرت أبكي جاهداً فقده ... عند ادكاري حيثما حلا
فالعيش أولى ما بكاه الفتى ... لا بد للمحزون أن يسلى
ثم سقطت من قامتها وجعل النسوة يناشدنها ويقلن: الله الله في نفسك فإنك لا تؤاخذين الآن فبعد كل جهد حملت تتهادى بين امرأتين حتى تجاوزت الموضع.
وقالت متيم: بعث إلي المعتصم بعد قدومه بغداد فذهبت غليه فأمرني بالغناء فغنيت:
هل مسعد لبكاء ... بعبرة أو دماء
وذا لفقد خليل ... لسادة نجباء
فقال: أعد لي عن هذا البيت إلى غيره فغنيته غيره عن معناه فدمعت عيناه وقال: غني غير هذا فغنيته.
أولئك قومي بعد عز ومنعة ... تفانوا وإلا تذرف العين أكمد
فبكى وقال: ويحك لا تغني في هذا المعنى شيئاً فغنيت:(1/490)
لا تأمن الموت في حل وفي حرم ... إن المنيات تفني كل إنسان
واسلك طريقك هو لا غير مكترث ... فسوف يأتيك ما يجني لك الجاني
فقال: والله لولا أني أعلم أنك غنيت بما في قلبك لصاحبك وإنك لم تنذريني لمثلت بك ولكن خذوا بيدها فأخرجوها فأخرجت.
ولما مات علي هشام جاء النوائح فطرح بعض من حضر من مغنياته عليهن نوحاً من نوح متيم, وكان حسناً جيداً فأبطأ نوح النوائح التي جئن لحسنه وجودته, وكانت زين حاضرة فاستحسنته جداً وقالت: رضي الله عنك يا متيم كنت علماً في السرور, وأنت علم في المصائب.
وماتت متيم هي وإبراهيم بن المهدي وبذل في آن واحد, وكانت للمعتصم جارية ذات مجون فقالت: يا سيدي, أظن أن في الجنة عرساً فطلبوا هؤلاء إليه فنهاها المعتصم عن هذا القول وأنكره, فلما كان بعد أيام وقع حريق في حجرة هذه القائلة فاحترق كل ما تملكه وسمع المعتصم الجلبة فقال: ما هذا؟ فأخبر عنه, فدعا بها فقال: ما قصتك؟ فبكت وقالت: يا سيدي احترق كل ما أملكه. فقال: لا تجزعي فإن هذا لم يحترق وإنما استعاره أصحاب ذلك العرس.
مرغريتا الفرنساوية ملكة إنكلترا
هي "مرغريتا أف أنجو" زوجة "هنري السادس" كانت من النساء العاقلات العالمات بضروب السياسة والأحكام, تربت تربية مجد وشرف.
ولما اقترن بها "هنري السادس" استحوذت على قلبه وملكت الشعب الإنكليزي بحسن سياستها وتدبيرها ملكاً لم يسبق لغيرها من الملكات قبلها وكانت ظالمة عاتية على المذنبين لديها.
وكان زوجها حليماً قليل الهمة سليم الطباع لا يلاقي الحوادث بقوة ونشاط حتى نشأ من سبب ضعفه وعدم اقتدار "مرغريتا" بمفردها على تدبير المملكة رجوع عائلة "بورك" على ما كانت تدعيه سابقاً من حقوق التملك, وكان كبار حزب "لنكستر" وهم: الكردينال "بوفورت", ودوق "دولدفورد", ودوق "دوغلوستر" الذين دبروا الملك لما كان "هنري السادس" قاصراً قد توفوا عن آخرهم فقام "رتشرد" دوق "بورك" وهو والد "إدوارد الرابع" وأخذ يظهر بكل رفق ودقة حقه في الملك فعضده في ذلك أرل "ورويك" وارل " سلزيري".
وكان من أعيان إنكلترا الأقوياء فجرد السيف لمقاتلة "سمرست" آخر الأشراف الكبار من عائلة "لنكستر" فانتصر في "سنت البنس" سنة 1455 م, وكان ذلك الانتصار بداية الحرب بين حزب "وردة لنكستر الحمراء" وحزب "وردة بورك البيضاء" وتقلبت الأحوال على "رتشرد" فكان ينجح مرة, ثم يصادف فشلاً مرة أخرى إلى أن كسرته الملكة "مرغريتا" وذبحته في "ويكفيلد" سنة 1460 م فتقلد ابنه "إدوارد" رياسة جيش موات من سكان حدود "ولس" ومن سكان الجبال وهزم عساكر جرارة تحت قيادة ارل "بميروك" وارل "أرمند" بالقرب من "هردفرد".
ثم سار إلى الجهة الجنوبية وأتي لنجدته ارل "ورويك" الذي انكسر في برنت فسار إلى لندن فدخلها من دون ممانعة, واستمال إليه الناس بحداثة سنه وجراءته وجماله, وأقره المجلس العالي على تخت الملك في 4 آذار (مارس) سنة 1461 م, فصار للمملكة ملكان وجيشان ملكيان مختلفان في البلاد, واستعد الفريقان للقتال كل الاستعداد واجتمع في "توتون" بالقرب من "بورك" 100 ألف مقاتل من الإنكليز من كلا الفريقين واصطفوا للقتال وقر الرأي على أنه لا يعفى عن أسرى الحرب. وانتدأت الموقعة في 29 آذار (مارس) سنة 1461 م(1/491)
والمظنون أنها أشد موقعة جرت في إنكلترا فإنها دامت أكثر من يوم وقتل فيها 30 ألف رجل, وانكسر حزب "لنكستر" الذي كانت قائدته الملكة "مرغريتا" انكساراً تاماً, وثبت الملك "لإدورد الرابع" فسافرت "مرغريتا" إلى فرنسا, وطلبت مساعدة ملك الفرنسويين.
وفي سنة 1464 م رجعت إلى "اسكوتسيا" بخمسمائة مقاتل من الفرنسويين, واجتمع إليها قوم من الاسكوتسيين فأضرمت نار الحرب وجرى لها مع اللورد "مونتا كيوت" الجنرال الإنكليزي موقعة بالقرب من "هكسام" فدارت عليها الدائرة وأسر الملك هنري زوجها وكثيرون من الرؤساء والقواد, وأما هي فهربت إلى فرنسا أيضاً وذبح إدوارد أعداءه ذبحاً ذريعاً في أوائل الانتصار.
ثم عمد إلى الحلم والرفق بالرعية, وانتهز فرصة غياب "مرغريتا" فأطلق لنفسه العنان, وتزوج سراً بامرأة اسمها "إليزابيت" أرملة السارجون "غراي" وابنة "رتشرد دوفيل" وهو البارون "ريفرس" وكان قد قابلها في بيت أبيها وهو في العيد في غابة غرفتون وفي شهر أيلول (سبتمبر) أعلن جهاراً أنها زوجته وملكة إنكلترا, ووجه إلى أبيها لقب أرل فساء هذا الاقتران أرل "ورويك" العاتي المتكبر لأن "إدوارد" كان يود أن يقترن بالبرنسيس بونه دوساقوا عهد إليه مخابرتها بذلك واستمالتها إليه فنجح في مخابرته فكان من "إدوارد" ماتقدم فكبر الأمر على الأرل واستعظمه واتحد مع شقيق "إدوارد" -وهودوق كلارنس- وجاهر بالعصيان سنة 1469 م.
فظهرت في الحال نتيجة اتحاده مع أشراف البلاد وأكابرها غير المرتضين بتصرفات "إدوارد" وامتدت الثورات في كل جهات البلاد وجند "روبين" من رد سذال في كونيتة بورك 60 ألف مقاتل وشهر الحرب فسار إليه "إدوارد" وكان "ورويك" قد ذهب إلى فرنسا فاستمال إليه لويس الحادي عشر وصالح "مرغريتا" عدوته القديمة, ورجع إلى إنكلترا بعساكر قليلة, فنزل في "درتموت" ولم يمض إلا أيام قلائل حتى صار عنده 60 ألف مقاتل ونيف لأن الشعب كان يحبه كثيراً فتقدم إلى الشمال, وكان تقدمة سبباً لانحلال عزائم الجنود الملكية فهرب إدوارد إلى هولاندة سنة 1470 م, وأخرج خصمة من القصر الذي كان محبوساً فيه, فسمع الناس في أزقة لندن وشوارعها تضج مرة أخرى بذكر اسمه والتأم المجلس العالي بأمر الملك الجديد فحكم فيه على "إدوارد" بأنه غاصب وصادف المتحزبون له إهانة واحتقاراً نقضت كل الأعمال التي جرت في أيامه وكانت سطوة "مرغريتا" في الشعب الإنكليزي نافذة, وأحزابها كثيرون, وكلما أرادت الثورة تجد من يساعدها وآلت على نفسها أن لا تدع إنكلترا في راحة ما دامت على قيد الحياة, ولذلك صارت تلقي الدسائس والفتن, وكلما سمعت بثورة كانت أول من بادر إليها إلا أن دوق برغنديا كان يساعد "إدوارد" سراً فجمع "إدوارد" جيشاً من الفلمنك في مدة قصيرة, وسار بهم إلى "رافنسبور" وتقدم إلى داخلية البلاد متظاهراً أنه لم يأت إنكلترا إلا للحصول على الأملاك التي ورثها من آبائه.
وكان يوصي رجاله بأن يصرخوا قائلين: فليعش الملك هنري إلى أن وردت إليه نجدات كافية لمقاتلة أعدائه فجاهر بالعدوان, والتقت العساكر في برنت في 14 نيسان (أبريل) سنة 1471 م فدارت الدائرة على اللنكستريين, وقتل "ورويك" فاستولى "إدوارد" على لندن مرة ثانية, وقبض على "هنري" أيضاً وأرجعه إلى الحبس. وفي تلك الأثناء خرجت "مرغريتا" من فرنسا وأتت إنكلترا مع ولدها "إدوارد" وكان له من العمر 18 سنة, فنزلت في "ويموت" بجيش فرنسوي في نفس النهار الذي جرت فيه موقعة برنت وحدث بينها وبين دوق "سر مرنت" قتال في "تيوكسبري" في 4 أيار (مارس) سنة 1471 م, فانكسرت جنودها وقتل ابنها, وأسرت هي. فبقيت في الأسر خمسة سنين إلى أن افتداها ملك فرنسا. أما زوجها الملك "هنري"(1/492)
فمات في الحبس بعد تلك المعركة بأسابيع قليلة.
وفي سنة 1474 م تواطأ كل من "إدوارد" ودوق "برغنديا" على قسمة فرنسا إلى قسمين" أحدهما يشتمل على الولايات الشمالية والشرقية تستولي عليه "برغنديا" والآخر تستولي عليه إنكلترا, فعبر "إدوارد" في مضيق "كاني" بجيش إنكليزي إلا أن دوق برغنديا لم يف بعهده فأرسل لإدوارد تحريراً يعتذر فيه عن قصوره.
ولما علمت "مرغريتا" بذلك سعت بكونها عقدت معاهدة ما بين "إدوارد" و"لويس" ملك فرنسا آلت إلى نفع "إدوارد" فإنه تقرر فيها أن لويس يدفع لإدوارد ولكل من كبار رجاله مرتبات سنوية وافرة, وجرت هذه المعاهدة من دون قتال, ثم إن "مرغريتا" أوقعت خلافاً شديداً بين "إدوارد" وأخيه "كلارنس" لأن "إدوارد" منع " كلارنس" بمداخلته من التزوج بابنة دوق "برغنديا" وكانت وارثة الملك بعد أبيها وذات ثروة وافرة وبعد ذلك بمدة وجيزة قتل اثنان من أصحاب "كلارنس" لتهمات كاذبة كان جملتها أنهما ساحران فأخذ كلارنس في تبرئتهما فقتله سراً في شهر شباط (فبراير) سنة 1478 م بدعوى أنه طعن الحكومة وانهمك "إدوارد" في آخر حياته في اللذات والملاهي وأهمل مصالح المملكة وبقيت بعده "مرغريتا" مدة من الزمن حتى ماتت في فرنسا وهي قريرة العين بأخذ ثارها من "إدوارد" حيث نكدت عليه كل حياته وتوفيت بعده بمدة طويلة.
مرغريتا دي فالوا
هي شقيقة فرنسيس الأول ملك فرنسا ومن أشهر النساء الكاتبات اللواتي نبغن في عهده ولدت في "أنكولبم" سنة 1492 م وتزوجت "بشرل دي فالوا" دوق الأنسون سنة 1509 م, ثم توفي زوجها سنة 1527 م فحزنت عليه حزناً شديداً, وزاد حزنها بما كان وقتئذٍ من أسر أخيها وما ألم بصحته من الاعتلال فسارت إلة مدريد وخاطبت الإمبراطور "شرلكان" ووزراءه في أمره فاضطروا على معاملته بالإكرام لما رأوه فيها من الحزم وعند رجوع فرنسيس الأول فرنسا بقي حافظاً لأخته ذكراً جميلاً وعقد زواجها سنة 1527 م على "هنري دالبريت" ملك نافار فرزقت منه دالبريت والدة "هنري الرابع" وكانت "مرغريتا دي قالوا" مجاهرة بالمحاماة عن البروتستانت فرفقت الشكوى عليها إلى أخيها وحرضت إحدى الجرائد الكاتوليكية أن يبتدأ بعقوبتها إذا رغب في استعمال الهرتقات من مملكته, فتصامم الملك عن استماع ذلك وقال: إن أختي لا تعتقد إلا ما أعتقده ولا يمكن أن تدين بدين يضر بمملكتي, وقد اشتهرت هذه الكاتبة بطيبة القلب ومكارم الأخلاق وحب الفقراء فكانت تحسن بالأموال الطائلة على المستشفيات في "لانسون ومورتاني" وبنت مكاناً للقطاء أطلق عليه اسم الأولاد الحمر, واتصف بجميع المناقب حتى سماها بعض شعراء عصرها بالنعمة الرابعة وعروس الشعر العاشرة.
ومن الأمور المقررة التي لا يختلف فيها اثنان أن أشغال هذه الملكة بالمركز الأعلى في مراتب الآداب بين بنات عصرها وإحرازها قصب السبق على جميع كتاب القرن السادس عشر وجمعها بين حدة الذكاء وقوة التصور, ودقة النقد, وشدة الاطلاع. فكأنما هي روض زاهر بالمعارف لا يفوتها شيء من متفرقات الفوائد, وقد نبغت في الشعر والنثر والسياسة واللاهوت, واليونانية والعبرانية, ودرست الموسيقى والهندسة وأتقنتهما وكانت غيورة على العلم تجل شأن العلماء وتحب معاشرتهم, فلا يكاد يخلو اجتماع لها منهم, وقد امتازت بسهولة الكتابة نثراً ونظماً.
ومن أشهر مؤلفاتها كتاب اسمه "الهتباتيرون" وهو مجموع حكايات حكمية على نسق " كليلة ودمنة" اتخذه "لافونتين" نموذجاً جرى عليه في تأليف حكاياته الشهيرة(1/493)
وانتقى منه المواضيع الأدبية التي بنى عليها كتاباته ويقال: إن "مرغريتا" كتبت القسم الأكبر من هذا الكتاب في هودجها أثناء تجوالها وأسفارها, وكانت تكتب بسهولة وبلا مراجعة كأنها تكتب إنشاء يملى عليها وقد جاء في مقدمة هذا الكتاب أنه حدثت أمطار وزوابع عظيمة في جبال "ألبيرتيبس" وكان الناس يتقاطرون في كل سنة إلى جهة هنالك ذات ينابيع مفيدة للاستحمام بها والشرب منها طلباً للصحة والعافية فاضطروا أن يهجروها على إثر هذه الزوابع وتراكضوا أفواجاً هرباً من الموت المفاجىء, فسقط بعضهم في النهر فحملتهم المياه الطاغية وأغرقتهم, وهرب آخرون على الغابات فافترستهم الوحوش الكاسرة وانهزم فريق منهم إلى بعض القرى التي بعثوا إليها اللصوص وقطاع الطريق, فسلبوهم أشياءهم, وأوقعوا بهم.
أما العقلاء منهم (فلجؤوا) إلى "دير سيدة سيراس" ومكثوا هاك ينتظرون الفرج, وكان قد بوششر ببناء جسر يقطعون عليه النهر, فلما طال أمر بنائه عقدوا العزم على أن يقص كل منهم قصته على رفقائه في كل يوم حتى لا يشعروا بطول المدة التي يقضونها بالانتظار, وهذا الكتاب مجموع القصص المذكور وفيها من الوقائع الأدبية والنكات اللذيذة المفيدة ما يرتاح إليه الخواطر, وقد ألحقت كل قصة من هذه القصص بتأملات لا تقل أهميتها عن بقية المؤلف من حيث إصابة المرمى, وحسن الوضع.
أما منظومات هذه الملكة فنذكر منها المجموعة التي طبعت سنة 1547 م وهي تتألف من روايات وأسرار وهزليات, ثم منظومة أخرى اسمها انتصار الحمل ورثاء سجين, وكلها من خيار الأشعار النفيسة, وكانت مولعة بالصنائع والفنون الجميلة فشيدت قصر "ليو", وضمت إليه الجنات البديعة, ثم توفيت في "قصر أودوس" في "التارب" سنة 1549 م.
وفي سنة 1550 م كتبت "ملوت سنت مارت" سيرة حياتها وصدرتها بصورت مواعظ في اللاتينية والفرنساوية بعبارة فصيحة جداً, فانتشرت بين الناس وأحرزت شهرة عظيمة ولا تزال إلى يومنا هذا موضوع أحاديث الأدباء وقد نصب لها تمثال في جنة ليكسيمبرج إظهاراً لفضلها وإقراراً بما كان لها من عظمة الشأن بين آل الأدب والعرفان.
مريم ابنة عمران
ابن ساهم بن أمود بن منشا بن حزقيا بن أحرنق بن يوثان بن عزازيا بن أنصيا بن ناوس بن نوثا بن بارض بن نهناساط بن رادم بن ايبا بن رجعم بن سليمان بن داود عليهما السلام.
كان زكريا بن يوحنا وعمران بن ساهم متزوجين بأختين إحدهما: عند زكريا وهي "أليصابات" بنت فاقود أم يحيى. والأخرى: عند عمران وهي حنة بنت فاقود أم مريم وكان قد أمسك عن حنة الولد حتى أيست وعجزت, وكانوا أهل بيت بمكان فبينما هي في ظل شجرة إذ نظرت طائراً يطعم فرخاً فتحركت عند ذلك شهوتها للولد, ودعت الله تعالى أن يهب لها ولداً وقد نذرت على نفسها إن رزقها الله بولد تتصدق به على البيت المقدس, فيكون من خدمته, ورهبانه, فتقبل الله دعاءها وحملت بمريم فحررت ما في بطنها.
ولكن لم تعلم ما هو فقالت: رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً عن الدنيا وأشغالها خالصاً لك وخادماً لبيتك المقدس.
فقال لها زوجها: ويحك, ماذا صنعت إن كان في بطنك أنثى لا تصلح لذلك فوقعا جميعاً في وهم من ذلك وفي حالة توفي زوجها عمران.
فلما أتمت مدة حملها وضعت جارية فقالت: (ربي إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى) (آل عمران: 36) في خدمة بيتك المقدس (وإني سميتها مريم) (آل عمران: 36) وكانت مريم أجمل النساء وأفضلهن(1/494)
وأحسنهن, وأنبتها الله نباتاً حسناً. وكانت أخذتها أمها ولفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار كما نذرت على نفسها وقالت لهم: دونكم هذه النذيرة. فتنافس فيها الأحبار وكل منهم أراد أخذها وقال لهم زكريا -وكان أكبرهم-: أنا أحق بها منكم لأن عندي خالتها.
فقالت له الأحبار: لا نفعل ذلك ولا نسلمها إليك ولكن نقترع عليها ومن خرج سهمه أخذها فاقترعوا فطلعت من سهم زكريا, فأخذها وكفلها وضمها إلى خالتها أم يحيى واسترضعت منها حتى بلغت مبالغ النساء وبنى لها محراباً في المسجد وجعل بابه مرتفعاً لا يرتقى إليها إلا بسلم فلا يصعد إليها غيره, وكان يأتيها بطعامها وشرابها في كل يوم وكان إذا خرج من عندها أغلق بابها فإذا دخل عليها وجد عندها رزقاً -أي فاكهة- فيقول لها: من أين أتى لك هذا؟ فتقول: هو من عند الله.
فلما ضعف زكريا عن حملها خرج إلى قومه وقال لهم: إني كبرت وضعفت عن حمل ابنة عمران فأيكم يكفلها بعدي ويقوم بأداء خدمتها كما كنت أفعل بها. فقالوا: لقد جهدنا وأصابنا من الجهد ما ترى فلم نجد من يحملها فتقارعوا عليها بالسهام فخرجت سهم رجل صالح نجار يقال له: يوسف بن يعقوب بن ناثان وكان ابن عمها فتكفل بها وحملها فقالت له مريم: يا يوسف, أحسن الظن بالله سيرزقنا من حيث لا نحتسب فجعل يوسف يرزقه الله برزق حسن ويأتي كل يوم لها بما بصلحها من كسبه فيدخل 'ليها زكريا فيرى عندها فضلاً من الرزق فتقول له: هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب.
فلما بلغت من العمر خمس عشرة سنة وهي إذ ذاك في خدمة البيت المقدس, وكان اعتراهم يوم شديد الحر نفد فيه ماؤها فأخذت قلتها وانطلقت إلى العين التي فيها الماء لتملأها منها.
فلما أن أتت إلى العين وجدت عندها جبريل قد مثله الله بشراً سوياً فقال لها: يا مريم, إن الله بعثني إليك لأهب لك غلاماً زكياً. قالت: أعوذ بالرحمن منك إنك كنت تقياً. قال لها: إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً. قالت: (أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً) (مريم: 20) قال: (كذلك قال ربك هو على هينٌ) (مريم: 21) . فلما قال لها ذلك استسلمت لقضاء الله فنفخ في جيب درعها وكانت وضعته إليه.
فلما انصرفت عنها لبست درعها فحملت بعيسى بإذن الله, ثم ملأت قلتها وانصرفت إلى مسجدها, فلما ظهر عليها حملها كان أول من أنكر عليها ذلك ابن عمها يوسف النجار واستعظم ذلك الأمر ولم يدر ماذا يصنع, وكلما أراد أن يتهمها ذكر صلاحها وعبادتها وبراءتها وأنها لم تغب عنه ساعة واحدة وإذ أراد أن يبرئها رأى الذي ظهر بها من الحمل فلما اشتد ذلك عليه وأعياه الأمر كلمها وقال لها: إنه قد وقع في نفسي من أمرك شيء وقد حرصت على أن أكتمه فغلبني ذلك ورأيت أن الكلام فيه أشفى لصدري. فقالت له: قل قولاً جميلاً.
قال لها: أخبريني يا مريم هل نبت زرع من غير بذر. قالت: نعم. قال: هل نبتت شجرة من غير غيث. قالت: نعم. قال: فهل يكون ولد من غير ذكر.
قالت: نعم, ألم تعلم أن الله عز وجل أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر, والبذر يكون من الزرع الذي أنبته من غير بذر ألم تعلم أن الله عز وجل أنبت الشجر من غير غيث وبالقدرة جعل الغيث حياة الشجر بعدما خلق كل واحد منهما على حدته. أو تقول: إن الله لا يقدر أن ينبت شجراً حتى استعان بالماء, ولولا ذلك لم يقدر على إنباته فقال لها يوسف: نعم, إن الله قادر على كل شيء وقادر على أن يقول للشيء كن فيكون. فقالت له مريم: أمل تعلم أن الله خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى؟ قال: بلى.
فلما قالت له ذلك وقع في نفسه أن الذي بها من أمر الله وأنه لا يسعه أن يسألها عنه وذلك لما رأى من كتمانها لذلك, ثم تولى خدمة المسجد وكفاها كل عمل كانت تعمل فيه لما رأى من رقة جسمها واصفرار لونها وضعف قوتها. فلما أثقلت مريم ودنا نفاسها خرجت من المسجد على(1/495)
بيت خالتها لتلد فيه. فلما دخلت عليها قامت أم يحيى واستقبلتها وأدخلتها ثم قالت لها: يا إلى مريم, شعرت أني حاملة وأنك أنت أيضاً حاملة مثلي فإني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك.
ولما أقامت في بيت خالتها أوحى الله إليها إنك إن ولدت بجهة قومك قتلوك أنت وولدك فاخرجي من عندهم. فأخذها يوسف النجار ابن عمها وخرج بها هارباً وقد حملها على حمار حتى أتى قريباً من أرض مصر أدركها النفاس فألجأها إلى أصل نخلة وكان ذلك في زمن الشتاء, وكانت هذه النخلة يابسة ليس لها سعف ولا كراسيف وهي في موضع يقال له بيت لحم. قال: فلما اشتد الأمر بمريم تضرعت على ربها و (قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً) (مريم: 23) , فنوديت أن لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا (وهزي غليك بجذع النخلة تسقط عليك رطباً جنياً) (مريم: 25) .
فلما ولدت ونزل الغلام من بطنها ناداها وكلمها بإذن الله تعالى. وقد أجرى الله لها نهراً من ماء عذب بارد ولما يسر الله لها أسباب ولادتها رجعت به إلى قومها وكانت قد غابت عنهم أربعين يوماً فكلمها عيسى في الطريق فقال: يا أماه أبشري فإني عبد الله, فلما دخلت على أهلها ومعها الصبي بكوا وحزنوا وقالوا: (يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً يا أخت هرون ما كان أبوك امرأ سوءٍ وما كنت أمك بغياً) (مريم: 28) فمن أين لك هذا الولد فأشارت لهم مريم إلى الصبي أن كلموه. فغضبوا وقالوا: (كيف نكلم من كان في المهد صبياً) (مريم: 29) فقال عند ذلك الصبي وهو ابن أربعين يوماً (إني عبد الله ءاتني الكتب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أين ما كنت وأوصاني بالصلوة والزكوة مادمت حياً وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً) (مريم: 30-33) .
فلما شاع خبره بين قومه أراد "هيردوس" ملكهم أن يهم بقتله فأخدهما يوسف النجار وهرب إلى مصر, فأقامت مريم بمصر اثنتي عشرة سنة تغزل الكتان وتلتقط السنبل في أثر الحاصادين إلى أن بلغها أن "هيردوس" الملك قد مات فرجعت هي وابن عمها يوسف النجار إلى أن أتوا إلى جبل يقال له: الناصرة فسكنوا فيه إلى أن بلغ ولدها من العمر ثلاثين سنة, ثم خرجوا إلى قومهم وقيل: إن وفاتها قبل رفع ولدها عيسى -عليه السلام- بست سنين.
مدام نكر
هي ابنة رجل فقير الحال من خدمة الدين اشتهرت في حداثتها بجمالها وآدابها ورآها المؤرخ "كين" الإنكليزي الشهير, وكان سائحاً في أوروبا فراعه جمالها وذكاؤها, ووقعت منه موقعاً عظيماً, وعزم على الاقتران بها, ثم رجع إلى بلاده وكاشف أباه بذلك, فلم يسلم له, بل تهدده بطرده من بيته وحرمانه من ميراثه إن فعل فوقع "كين" بين عصيان الهوى وعقوق الوالدين, فاختار أصغرهما -وهو الأول- وبقيت محبة هذه الفتاة في فؤاده ثم استحالت مع الأيام إلى الإكرام والاعتبار. وبعد قليل مات أبوها ولم يخلف مالاً تعيش به, فأقلعت إلى مدينة "جنيفا" تعلم وتعيش من أجرة التعليم, وهناك رآها المسيو "نكر", وكان كاتباً في أحد البنوك, فأحبها وعزم على أن يقترن بها حينما تنصلح أموره.
ولم يمض عليه سنون كثيرة حتى صار من كبار الأغنياء, فتزوج بها سنة 1764 م, واتخذها معينة له ومشيرة وأحبها حباً مفرطاً وهي كانت أهلاً لمحبته واعتباره لأنها جعلت غرضها من الحياة إرضاءه, ودخلت باريس وعمرها 25 سنة وهي غير معتادة على المعيشة في المدن الكبيرة ولا متربية تربية تؤهلها للدخول بين أهل الجاه والمجد وكان بباريس حينئذٍ أشهر فلاسفة فرنسا وكتابها فسولت لها نفسها أن تجعل لزوجها مقاماً بين علمائها مثل مقامه بين أغنيائها, ففتحت بيتها لهؤلاء الفلاسفة وجعلته نادياً لهم, وكانت ترحب بهم وتجول معهم في الحديث وتحاول أن تقتادهم إل(1/496)
ى التدين والتقوى.
وكان زوجها يعتمد عليها في مقابلة زواره وضيوفه وكان إذا دعا بعضهم إلى بيته يقول لهم: هلم نتمتع بحديث مدام "نكر". واعتزل الأشغال التجارية كلها وأناط بزوجته تدير منزله وأمواله فكانت تحل وتربط وتبيع وتشتري.
وقد بينت ابنتها مدام دوستايل الكاتبة الشهيرة سبب ذلك بقولها: لما رأى أبي أن أمي فقيرة لا مال معها ورآها شاعرة بذلك خاف أن تستصغر نفسها, فسلمها كل أمواله وخول لها التصرف المطلق فيها لكي تشعر من نفسها أن المال لها فتنفذ تخلص من صغر النفس.
وذهب "كين" المؤرخ المتقدم ذكره على باريس فدعاه زوجها إلى بيته وأحسن ضيافته وترحبت هي به وأخبرته أن دخل زوجها السنوي لا يقل عن عشرين ألف دينار, ثم عين المسيو "نكر" وزيراً لمالية فرنسا ومديراً لها, فأصلح شؤون المالية, واهتم بإصلاح السجون والمستشفيات, وكان الفضل الأول في ذلك لزوجته لأنها كانت تتعهد السجون بنفسها وتتفقد كل أحوالها وتدبر الطرق المناسبة لإصلاحها, وأنشأت بيمارستاناً بباريس, فسمي باسمها إلى هذا اليوم.
وأقام زوجها في هذا المنصب الرفيع خمس سنوات وكانت هي المدبرة لأموره لصعوبتها, وأقر زوجها بفضلها وكان زوجها يفتخر بها ويعدد فضائلها فلامه البعض على ذلك لكنهم أخطأوا في لومهم خطأً بيناً لأنه إذا حق الحق للإنسان أن يفتخر بآبائه وجدوده وبعلمه وآدابه كما فعل عمرو بن كلثوم والسموأل بن عادياء وأبو العلاء المعري في قصائدهم الفخرية حق له أيضاً أن يفتخر بآل بيته ولاسيما بزوجته إذا كانت ممن يفتخر بها كمدام "نكر" هذه التي كانت مرشدة لزوجها ومدبرة لأموره وزهرة فضل عرفها في بيته ولكن المناصب محفوفة بالمتاعب ومن رقي العلى استهدف لوقع أسهم الردى فلم يمض على المسيو "نكر" خمس سنوات في هذا المنصب حتى كثر حساده وخيف عليه من عدوانهم فعزم على الاستعفاء وحثته عليه زوجته حتى استعفى وتنحى عن الأشغال السياسية فأسف محبو فرنسا على استعفائه ولامها البعض منهم لأنها حثته على الاستعفاء ولكن عذرها واضح وحجتها دامغة ألا وهي أنها خافت عليه من العدوان وما تنفع المناصب والحياة في خطر وإلى ذلك لم أتأمل في عواقبه فاضطررت في الآخر أن أرغبه في تركه وقد أسفت فرنسا كلها على استعفائه, ونحن أيضاً آسفون جداً لاضطرارنا على ترك هذا المنصب ولاسيما لأننا نخاف أن لا تجرى أموره في مجراها بعد أن تركناه. أما مسيو "نكر" فلم يترك الاشتغال بعد تركه للمنصب -المذكور- بل أكب على تأليف كتاب جاء من أبدع الكتب فبيع منه في أسبوع واحد ثمانون ألف نسخة وألفت مدام "نكر" كتاباً في الطلاق أودعته آيات البلاغة, وطبعته سنة 1794 م.
وتوفيت في تلك السنة بعد أن أصابها مرض عصبي مؤلم فحزن عليها زوجها حزناً مفرطاً. وأورى ضريحها بالعبرات وحق له الحزن والبكاء عليها لأنها رفعت لواء عزه وأنارت سبل حياته بذكاء عقلها وسمو آدابها.
مريم مكاريوس
ولدت مريم نمر مكاريوس في ربيع سنة 1860 م في حاصبيا مدينة من مدن سوريا قبل حدوث المذبحة الشهيرة فيها ببضعة عشر يوماً وتيتمت من أبيها بتلك المذبحة التي شابت لهولها الولدان, فحملتها أمها مع أخيها إلى مدينة صيدا بعدما فرت بهم إلى قرية مجدل شمس بقرب جبل الشيخ, ثم أتت على مدينة بيروت وهي تغذيها بألبان الحزن وتغسل وجنتيها بدموع الحسرات وقامت عليها وعلى أخويها تربيهم بما اشتهر عنها من(1/497)
الحكمة والذكاء إلى أن بلغوا سن التمييز فأدخلتهم في إحدى مدارس القدس الشريفة ليتعلموا بها العلم الذي لم يكن لأمهم حظ منه لأنها ولدت وربيت في عصر كان تعليم البنات محظوراً فيه بحجة أنه غير لازم لهن ويخشى منه عليهن كذا ظن أهل ذلك العصر وهو ظن أقبح من إثم, فلم تلبث المترجمة في القدس إلا زماناً يسيراً حتى اختارت لها أمها مدرسة من أحسن مدارس بيروت أدخلتها ولم ترض أن تخرج منها قبل أن تتم دروسها كلها وتأخذ شهادتها فدرست من اللغة العربية وفنونها الصرف والنحو والبيان ومن الإنكليزية كذلك ومن العلوم التاريخية والجغرافية والحساب والفلسفة الطبيعية والهيئة وغير ذلك وتمرنت على الأعمال اليدوية من خياطة وتطريز ونحوهما, ونالت الشهادة المدرسية سنة 1877 م وكانت وهي في المدرسة مشهورة بإخلاص النية وسلامة الطوية وذكاء العقل وشدة الحياء.
وبعد خروجها من المدرسة بقليل اقترن بها شاهين مكاريوس, فأنشأت له بيتاً زينته بلطفها ودبرته بحكمتها وفتحت أبوابه للأصدقاء الأدباء من رجال ونساء, فكانوا على مائدتها كأنهم في ناد من النوادي العلمية والمحافل الأدبية وهي تطربهم بعذب كلامها وتكرهم بخمرة معانيه ورزقها الله ثلاثة أولاد ذكرين وأنثى, فربتهم أحسن تربية وعلمت كبيرهم مبادئ العربية والإنكليزية, وكانت عازمة أن تعلم أخاه وأخته متى بلغوا سن التمييز, ولكن أدركتها المنية قبل تحقيق المنى فخسر أطفالها خسارة لا تعوض.
وفي غرة سنة 1880 م اتفقت مع البعض من صديقاتها وعقدت جمعية أدبية سمتها "باكورة سورية", وانضم إليهن عدد من السيدات المهذبات, فكن يتناوبن الخطب والمناظرات.
ومن خطبها خطبة تاريخية انتقادية في الخنساء الشاعرة العربية الشهيرة جمعت فيها ما تفرق في كتب الأدب وشفعته بانتقاد مكين يدل على توقد ذهنها ودقة نظرها, وقد أدرجها "المقتطف" في سنته التاسعة.
ولها أيضاً مقالة عنونها حرارة الماء أدرجت في السنة الثانية منه ونبذ أخرى ورسائل ومناظرة عنوانها "بنات سوريا" مع البيكباشي الدكتور سليم موصلي. ومناظرة عنوانها "دفاع النساء عن النساء" مع الدكتور شبلي أفندي شميل مؤلف الشفاء سنذكرها في هذه الترجمة لأنها لا يزال صداها يدوي في الأذان حتى الآن وقد كان هذان الدكتوران طبيبيها الخاصين حتى ساعة موتها, وقد بذلا كل الجهد والعناية حفظاً لحياتها الثمينة, فأعياها الداء العياء.
ولها في اللطائف مقالة رنانة في حيات زنوبة ملكة تدمر ورسائل شتى لم تطبع. وقالت مرة في مطالعة النساء للقصص والكتب الفكاهية ما نصه: "نحن نميل طبعاً إلى قراءة سير الناس ولذلك نرى أكثر نساء العالم تقتبس معارفهن وفوائدهن من قراءة الكتب التي من هذا الباب ولا يخفى عليكن أن المرأة الصداقة لا تقصد بمطالعة الروايات وسير الناس مجرد تسلية الخاطر وإشغال المخيلة بما يهيج الأطفال ويسلي الأولاد الصغار, ولكنها تقصد أولاً تحصيل الفوائد اللازمة لها في حياتها مثل معرفة الأخلاق واختلاف الأحوال, وصروف الزمان والتصرف في النوائب, وفضل ممارسة الفضيلة, ووخامة مرتع الرذيلة, واعتبار العواطف الشريفة, والافتداء بالذين فاقوا في حسن صفاتهم وكرم أخلاقهم وفازوا بجميل صبرهم وأفادوا بحسن تربيتهم واهتمامهم بجبر القلوب الكسيرة, وتشجيع النفوس الصغيرة, وإصلاح شؤون هذه الفضائل وأمثالها تقصدها المرأة الحكيمة أولاً في مطالعة الروايات والسير, وتقصد الفكاهة والتسلية ثانياً وإني طالما وددت لو كان لنا نحن بنات اللغة العربية ما لغيرنا من الروايات التي إذا قرأناها لم تعل وجوهنا حمرة الخجل. ومن السير التي نجد فيها ما يوسع العقول ويهذب الأخلاق ويلطف العواطف, ويكمل الأدب ويعلم أحوال(1/498)
العالم ويكشف لنا خبايا الطبع البشري فلم أنل المنى إلا في قليل مما وقفت عليه ولم أزل أضطر إلى مطالعة كتب الإفرنج لتحصيل ما أشتهيه من هذا القبيل مع أننا في زمان تتبارى فيه أقلام الكتاب ويتباهى فيه أولوا النباهة والذكاء.
وقالت أيضاً منتقدة إغفال ذكر الأمهات من تراجم البنين والبنات ما نصه: "ولم يذكر لنا المؤرخون عن اسم أم الخنساء ولم يكلفوا النفس أي كلمة عن التي قاست الأهوال وأحيت الليالي حرصاً على حياة بنتها وحباً لتربيتها فأين الإنصاف من ذلك وفضل البنت من فضل أمها وقد قال الفيلسوف: إن الباري إذا شاء أن يخلق في أرض فيلاً عظيماً خلق فيلة عظيمة تلده. وما أدرانا أن الخنساء لولا فضل أمها لم يكن فيها فضل تشتهر به ولولا حسن تربية أمها لها نبغت بما نبغت نعم إنها ولدت من نسل امرئ القيس أشعر شعراء العرب, والأقرب إلى العقل أن تكون قريحته قد اتصلت إليها بحكم الوراثة ولكنها اتصفت أيضاً بصفات أدبية أسمى من صفاتها العقلية ومن المعلوم أن امرأ القيس لم يفق في آدابه ولو فاق الشعراء في شعره فالمتأمل في سيرة الخنساء يجد مندوحة لإسناد الفضل إلى أمها وإن يكن على سبيل الزعم والتخمين ولو تنازل المؤرخون إلى ذكر أم الخنساء وصفاتها لظهر الحق وانتفت الظنون وكفى بذلك فائدة إن يكن في ذكر الأم غيرها.
وقالت أيضاً منتقدة "سكوت" الكتاب في السير والتراجم عما يحدث للإنسان في صباه من الحوادث والنوادر ونحوها: "وقد ضربوا صفحاً أيضاً عما جرى للخنساء في صباها ولم يشيروا إلى أيام حداثتها والحال أن الإنسان لا يتكمل الفائدة ولا اللذة في مطالعة سير غيره إلا متى اطلع على أحوالهم فعرف نقائصهم وفضلهم, وحسناتهم وسيآتهم وما فاقوا فيه وقصروا عنه وكيف طرأت عليهم التجارب والمصاعب فتخلصوا منها وتغلبوا عليها وكيف توسعت قواهم العقلية واستقامت قواهم الأدبية, ونمت أبدانهم واشتدت قواهم الجسدية وما كانت نوادرهم ومزاياهم وسائر خصائصهم وهذه الأمور كلها تظهر في زمان الطفولية والصبا أحسن ظهور, ولذلك يجد القارئ معظم اللذة والطلاوة إن لم نقل معظم الفائدة أيضا في معرفة أحوال الشخص في طفوليته وحداثته".
وقد عرفت المترجمة في ردها على الدكتور شبلي شميل بقولها: إن الزوجة الفاضلة هي المعزية الحزين المفرجة الكروب الصابرة على مضض العيش ونغص الحياة الراضية بمشاركة الرجل في سرائه وضرائه المحافظة على ولائه الطالبة ستره الناسية نفسها في خدمته الباذلة حياتها في مسرته, وتربية عائلته الممتازة بالوراعة والعفاف والطهارة وهذه الأوصاف قد كانت دأبها في حياتها وقد استكملتها واحدة فواحدة كما يعلم ذلك أصدقاؤها ومعارفها وأما أنا فلم يسعدني الحظ برؤيتها وبالاقتباس من أنوار معارفها.
وفي سنة 1881 م أنشأ بعض المحسنات الأميركانيات والوطنيات جمعية لتعلم النساء البائسات والتصدق عليهن فشاركتهن في هذا العمل المبرور وجعلت بيتها داراً لتلك الجمعية فكن يجتمعن فيه كل أسبوع يتعلمن ويأخذون ما يتصدق به عليهن من كسا ونقود.
وفي أواخر سنة 1885 م انتقلت المترجمة مع زوجها إلى الديار المصرية, ولما استقر بها القرار عكفت على المطالعة والدرس استعداداً لعمل حميد كانت ناوية أن تشرع فيه خدمة لبنات عصرها لو فسح في أجلها ولكن باغتها على غرة مرض له "باشلس" يدخل الأبدان مع الهواء وينشب في الرئتين أظفاره, وهو المنية بعينها ولا دافع له من دواء ولا رقية:
أمر رب العباد يقضي بما شاء ... تعالى عن الخلائق سرمد
فأرجعت مريضة إلى بر الشام في صيف تلك السنة نزلت في قرية من أطيب قرى لبنان هواء وماء فأقامت(1/499)
هناك على ربى لبنان تصارع الداء بجودة الهواء إلى أن دخل فصل الشتاء فقال الأطباء: قد أزف الرحيل ومصر لمن كان مثلها خير دواء, فرجعت إلى مصر ومضت إلى حلوان وعادت على القاهرة وامتحنت كل علاج قديم وحديث أشاربه الأطباء, وكلهم من صفوة المعارف وأخلص الأصدقاء لها ولكن ماذا ينفع الدواء والداء عياء.
ولم يذهب المرض الطويل والألم الشديد بشيء من بشاشة وجهها ولا من طلاوة حديثها ولا من حصافة رأيها فكانت تبش بوجه العواد مهما كانت آلامها قوية وتسامرهم وتطايبهم وترتئي الآراء السديدة وتقص الأحاديث المفيدة, وهي عارفة بسير مرضها وبأن الشفاء فيه نادر, ولما قطعت الرجاء من الحياة كاشفت ذويها فأرادوا أن يقووا آمالها فقالت: إليكم عن المحال فقد أزف الرحيل وستحضرني الوفاة هذه الليلة ونادت زوجها وأخاها وكل واحد من أصدقائها باسمه وتكلمت معهم كلاماً يلين له الجماد, ويفتت الأكباد, ثم أغمضت جفنيها وأسلمت الروح في الساعة الأولى من يوم 22 آذار (مارس) سنة 1306 هـ في غرة فصل الربيع وهي في غرة ربيع الحياة.
ومن آثارها رسالة بعثت بها إلى جمعية السيدات اللواتي نلن الشهادة المدرسية في مدرسة البنات السورية في بيروت وذلك في شهر نيسان (أبريل) سنة 1887 م وهي:
"إلى حضرة الرئيسة المحترمة والأعضاء المكرمات بعد التحية أقول: إني لو خيرت لاخترت الحضور بينكن والتمتع بمجالستكن, واجتناء لذيذ أحاديثكن على المكاتبة وتبادل الأشواق بالحبر والقرطاس, ولكن هذا نصيبنا فقد قسم لنا أن نترك الوطن العزيز وأن نفارق صاحبات حبيبات, وداراً ضمتنا جميعاً فقضينا فيها أوقات أنس من أظرف الأوقات, وتعلقت قلوبنا بها فصارت تحن إليها وتتحسر عليها ألا وهي المدرسة التي أنتن مجتمعات فيها الآن والتي تغذينا منها بألبان المعارف والعلوم. لا ريب عندي أن كلاً منكن تذكر الآن تلك الأيام التي كنا نجتمع فيها معاً كالأخوات, بنات العائلة الواحدة, مشمولات بنظر اللواتي كن يسهرن علينا سهر الأمهات على البنات ونحن نرتع في نعيم الطهر والصبا نملأ منه صافي كأس الحياة لا هم لنا إلا العلوم ولا غم إلا عدم حفظ الدروس. أما الآن فقد تبدلت تلك الأحوال وتشتت عملنا في كل الجهات حتى صار يصعب علينا الاجتماع جميعاً في محل واحد ومكان كما هو مقتضى جمعيتنا هذه وقد وصلت دعوتكن إلي وأنا بعيدة عنكن غير قادرة على الاجتماع معكن وقد قيل: إن الطاعة خير من الذبيحة فلذلك رأيت أن أكتب إليكن ببضع ما شاهدته بعد اجتماعنا الأخير إجابة لطلبكن في الدعوة راجية منكن المعذرة على إشغال وقتكن بمطالعته لقلة ما تضمن من الفوائد فأقول: فارقت بيروت في 4 تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1885 م مع رفيقتي الصادقة الوداد السيدة ياقوت صروف قاصدين القاهرة محل إقامتنا الآن فمررنا بمدن رأيت فيها جماعة من بنات مدرستنا اللواتي سبقننا إلى هذه البلاد, ثم ركبنا القطار وسرنا أسرع من الطير في تلك المركبات العجيبة التي أزالت عناء الأسفار وقربت ما بعد من الديار فقطعنا في نحو ساعات ما يقطع عندنا في أسبوع من الزمان, ولما دخلنا القاهرة وجدناها مدينة كبيرة متسعة الأزقة والشوارع تختلف عن بيروت اختلافاً عظيماً, ولكن لم تطل إقامتي فيها حتى صرت أشعر بالوحشة العظيمة لجبال لبنان التي حوت بيروت في كنفها والبحر المتوسط المنبسط أمامها كالبساط الأزرق في رواق أجمل القصور, هذا ومن يسمع عن القاهرة أو يقرأ كلام الكتاب فيها يتوهم أنها هي الفسطا المدينة(1/500)
القديمة الشهيرة والحال أن تلك لم يبق منها إلا أطلال بالية وبيوت قليلة خربة أو متداعية وكلها في جهة تعرف بمصر العتيقة في هذه الأيام.
وأما المدينة ففي 30 درجة من العرض الشمالي و 28 درجة من الطول الغربي في وسط سهل فسيح, قد اختلطت فيه رمال البادية بالطين الذي جرفه نهر النيل إلى مصر من قلب أفريقا ويحاذيها من ناحية الشرق الجبل المقطم وهو كبعض التلال المنبسطة في ربى لبنان أو أوطأ منها, ومن ناحية الغرب نهر النيل ملاصقاً للبيوت التي على أطرافها ولغزارة مائه واتساعه العظيم يسمونه هنا بحراً وقد صدقوا فلو جمعت أنهار سوريا كلها معاً لما ساوت جانباً منه.
والمدينة مؤلفة اليوم من بيوت قديمة وبيوت جديدة فالقديمة مبنية ومرتبة على الاصطلاح الشرقي والشوارع بنيها ضيقة والأزقة يغلب أن تكون قذرة والهواء غير نقي لانحصاره والمباني غير جميلة ولكنها لا تخلو من محاسن كثيرة يلذ بها ذو الذوق السليم كمنجورها المعروف بالمشربية فإنه بديع الجمال ويزيده طول عهده حسناً وجمالاً لأن طول الزمان كبعد المكان يكسو الشيء أثواباً من الجمال والجديدة مبنية على الطراز الغربي الجديد ولا حاجة لوصفه وأحقر المباني القديمة أكواخ الفلاحين وهي صغيرة قذرة في جميع أنحاء القاهرة فيرى الإنسان في الأرض الواحدة قصوراً فخيمة ومباني رشيقة, وزخارف تسبي العقول وتبهر الأبصار بجانبها تلك الأكواخ الحقيرة البناء القذرة الظاهر النتنة الداخل المعروفة عند المصريين بالعشش فكأني بمصر قد جمعت أبدع الصناعة الأوروبية مع أحقر الصناعة الأفريقية في رقعة صغيرة من الأرض.
وكانت القاهرة قديماً محاطة بسور لا تزال آثاره ظاهرة في بعض الجهات إلى الآن. ويقال: عن الرياح كانت تسفي عليها رمال الصحراء قديماً حتى تغشيها بها كما يغشى الضباب جوانب الأنهار, ولذلك كثر رمد العينين فيها وتلفت عيون الجانب الكبير من أهاليها ولكن لما حكم محمد علي باشا وإبراهيم الذي تغلب على سورية وحكم عليها زماناً ولا يزال اسمه أشهر من نار على علم عندنا في بلاد مصر عمرها إلى درجة سامية في التمدن فأنشأ المدارس والمعامل وبنى المستشفيات, وفتح الطرقات, وغرس الأشجار وجعل القاهرة ثانية القسطنطينية في الاتساع, وبنى جامعة المعدود من أشهر جوامعها العديدة على مقربة من الجبل وكله مبني من المرمر اللامع الذي يكاد يكشف عما تحته ومزين بالنقوش والكتابات البديعة, وفيه الثريات الكبيرة والطنافس النفيسة التي لم تر عيني أعظم منها ولا أبدع صفة, ولما توفي إلى رحمة ربه دفن فيه, وأحيطت الحجرة التي دفن فيها بمشبك من النحاس الأصفر المتقن الصنعة البديع الشكل والجامع يطل على المدينة, وقد وقفت بجانبه فرأيت أمامي معظم القاهرة مقطعة بالشوارع تقطيعا هندسيا, وقد رفعت فيه قباب الجوامع على ما سواها من المباني وعلت المآذن مئات كأنها شجر غاب في سهل أو سواري السفن في البحر.
ويلي المدنية غرباً نهر النيل جارياً بين حقول الزرع وغياض الشجر, وغابات النخيل كأنه سيف صقيل مسلول على بساط أخضر وثير ويلي حواشيه الخضراء رمال الصحراء والأهرام الناطحة عنان السماء, وهذا المنظر من المناظر التي تستحق أيدي أبدع المصورات وتعرضها قرة للعيون ونزهة للنفوس, وبجانب هذا الجامع قلعة عظيمة كانت تسك فيها النقود ويعرف مكان سكها بالضر بخانة, والقلعة اليوم في قبضة الجنود الإنكليزية التي دخلت البلاد مصر بعد النازلة العربية.
وفي القاهرة جوامع عديدة بعضها موصوف بجمال داخله رونق ولكن أشهرها في الاسم يكاد يكون أدناها في البناء أريد به الجامع الأزهر الذي سمعتن به كثيراً فهو جامع للتدريس وفيه من الطلبة ما ينيف من عشرة آلاف طالب على ما يقال فهو أكثر مدارس(1/501)
الأرض طلبة وأقدمها عهداً فيما يظن ومنه يخرج أشهر علماء العربية والفقه والأدب من المسلمين والذي اعتنى كثيراً بتحسين القاهرة وهندستها وترتيبها إسماعيل باشا والد سمو الخديوي الحالي.
قيل: إنه كان معلقا خارطة باريس في غرفته الخاصة حيث يقع عينه عليها في دخوله وخروجه, وكان باذلا جهده في تخطيط القاهرة بحسبها, فمد الطرق الواسعة فيها من طرف إلى طرف حتى صارت المركبات تخترقها في أكثر جهاتها وغرس الشجر على جانبيها, ونور أشهر شوارعها بنور الغاز, وشيد فيها المباني الضخمة من قصور ونحوها وأشهرها مرسح للتمثيل يسمونه "الأوبرا" بالاسم الفرنساوي قد أنفقت عليه أموال كثيرة جدا حتى صار الناس لا يستكثرون فيها أعظم المبالغات.
وددت لو أن قلمي العجز يستطيع وصف محاسن هذه "الأوبرا" فكنت أوفيها حقها أما الآن وأنا على ما أنا عليه من العجز والقصور, فأكتفي بوصف وجيز لها ففي وسط قاعة التمثيل ثريا -أي نجفة- تنار بالغاز لها أنابيب من الصيني على هيئة الشمع فيتوهم الناظر إليها أنها شمع وقد صنع بعضها أكبر من بعض حتى كأنه ذاب مشتعلا وبعضها كأنه الشمع الذائب يقطر عن جوانبه وقد عبث النسيم باللهيب فأصاب حافة الشمعة فإذا بها إلى غير ذلك مما قلد فيه الشمع تمام التقليد, وحجم هذه الثريا معتدل الاتساع.
وفي وسط القاعة أمام مرسح الملعب نحو ثمنمائة كرسي مشدودة بالمخمل العنابي وحولها أربع طبقات مستديرة بعضها فوق بعض وقد قسمت كل طبقة إلى أربعين غرفة في كل غرفة خمس كراسي ومقعد مشدود بالمخمل العنابي اللون وجدرانها مدهونة بمثل ذلك اللون, وعلى بابها ستار من لونها وقد علقت مرآة كبيرة على جدار منها وفرشت أرضها بالطنافس وكل غرفة معدة لخمسة أشخاص, وأما سقف القاعة فمرسوم فيه صور أشهر الممثلين والموسيقيين وللخديوي غرفة خاصة ولحرمه غرفة خاصة مقابلها وكلتاهما على غاية الإحكام والهندام, وفيها من الفرش والوشي والتطريز ما يدهش الأنظار.
هذا عدا ما فيها من قاعات الجلوس ومخازن الملابس والآلات وسائر المعادن وملابس للممثلين من المنسوجات المختلفة الألوان والأشكال من حرير وقطن وكتان, ومن يجول في مخازن الأوبرا يحسب أنه يجول في أسواق مدينة قد حوت مخازنها ما لا يوصف بخط القلم على القرطاس.
ومن مشاهد القاهرة أيضا الجسر الكبير على نهر النيل تمر عليه المركبات لاتساعه ويمشي على رصيفين بجانب طريق المركبات ولطوله لا تقطعه المركبات في أقل من ثلاث دقائق أو أربع وكله من الحديد المفروش بالبلاط وهو يفتح ويقفل في ساعة معنية من اليوم لمرور السفن بالجسور التي نقرأ وصفها في كتب الإفرنج.
ومن مشاهد القاهرة مدارسها العلمية وأشهرها مدرسة قصر العيني حيث يعلم فيها الطب والجراحة, وهناك صف من النساء يتمرن على التمريض ويدرسن علم الولادة وبعض فروع الطب ويمتحن جهارا كبقية التلامذة من الشبان ومدرسة المهند سخانة وتدرس فيها العلوم العالية ولاسيما الرياضيات وصناعة الهندسة والمدارس في مصر كثيرة أعظمها وأشهرها للحكومة ولكن أكثرها تعلم بالأجرة.
ومن المشاهد العلمية أيضا المرصد الفلكي والمعمل الكيماوي والمكتبة الخديوية ولعلها أحسن مكتبة في الشرق وخصوصا في كتبها العربية.
وأعظم مشاهد القاهرة اعتبارا معرض الآثار المصرية المعروفة هنا بالأنتيكخانة ففيه من الآثار المصرية ما يعز وجوده في غيره من معارض الدنيا من تماثيل وصور ونقوش, وكتابات وآنية وأجسام محنطة قد حنط بعضها من قبل أيام موسى الكليم, ولا يزال على رونقه(1/502)
الأصلي حتى إن الكفن ما عليه من الألوان كالزنجاري والأصفر والأحمر لا تزال على ما كانت عليه من البهاء منذ آلاف من السنين مع أن ألوان هذا الزمان لا تقيم بل تحول وبهاؤها يزول.
وهذه الآثار يمتد زمانها من أيام الفراعنة إلى الإسكندر فالبطالسة فالرومانيين فالأقباط بعدهم, وبينها كثير من جثث ملوك المصريين وعيالهم محنطة من قبل أيام الخليل إبراهيم, ولا تزال شعورها على رؤوسها ولفائفها وأكفانها باقية عليها غير بالية وشاهدت هناك شيئا كثيرا من الجواهر والحلي القديمة المصنوعة كحلي هذه الأيام من أقراط وخواتم وأساور وعقود مرصعة بالحجارة الكريمة ترصيعا متقنا.
ومن الغريب أن بين الأساور ما هو على شكل الحية وعيناه حجران كريمان كأساور هذه الأيام وشاهدت أيضا أسلحة كثيرة الأنواع مختلفة الأشكال ومرايا مصنوعة من المعادن الصقيلة وأحذية ذات سيور وقمحاً وحمصاً وفولاً وعدساً وبيضاً وإجاصاً ودوماً وهو كبير يشبه السفرجل في هيئته وكتانا من أحسن أنواع البوص, وأمراسا ومكانس.
وأدوات البناء من الخشب والنحاس المعروف بالبرنز ولم أر أبين تلك التحف أثرا للحديد حتى مسامير التوابيت وغيرها كلها من الخشب أو النحاس إذ الحديد كان لا يزال مجهول الاستعمال في تلك الأيام على ما أظن.
وهناك تماثيل لأكثر الملوك القدماء منها من المرمر أو الحجر الصلد أو النحاس, وأبدع ما في صنعتها بوضع العيون التي رأيتها وهي متخذة من الحجارة الكريمة ولإتقان صناعتها في الشكل واللون واللمعان لا تمتاز عن عيون الأحياء إلا بالجهد وهي أفضل كثيرا من العيون التي يصنعها أبناء هذا الزمان ومن أغرب التماثيل التي رأيتها هناك تمثال من الجميز قد أمسك بيده عصا أظنها من العرعر والمظنون أنه صنع قبل أيام النبي موسى وأنه من أقدم مصنوعات البشر, ومع ذلك فكأنه تمثال رجل من المصريين في هذه الأيام.
ويسمى عندهم سيخ البلد, وكل من دخل هذا المعرض علم بعض العلم عن عبادة المصريين واعتبارهم لجثث موتاهم مما يرى فيه من تماثيل الآلهة التي على صورة التمساح والسلحفاة والقرد والنسور والضفدع والخنفساء وغيرها من تماثيل الحيوانات مما يرى من الجثث المحنطة الملفوفة لفا محكما بلفائف الكتان المتناهي في الرقة, وهي موضوعة في توابيت من الخشب.
وهذه التوابيت ترسم على ظواهرها صور موتى وتغطى ظواهرها وبواطنها بكتابات بالخط المصري القديم المعروف بالهيروغليف ويوضع فيها من الجثث المحنطة والمآكل المحنطة المجففة مثل الأرز والبيض واللحم والأثمار ونحوها وكانت عادتهم أن يضعوا التابوت المتضمن الجثة ضمن تابوت آخر وهذا ضمن آخر وهكذا حتى يبلغ عدد التوابيت أربعة أو أكثر أحيانا.
ثم يضعونها داخل تابوت من الحجر الأصم, وقد رأيت تابوتا لإحدى الملكات قد صنع كله من الكتان المرصوص طاقا على طاق.
ثم عولج بنوع من الطلاء حتى صار كالخشب سمكا وصلابة والغالب أن كل أثر من هذه الآثار يكون مقرونا بكتابة هيروغليفية تبين ماهيته وما حالته, وقد رافقنا داخل المعرض رجل مصري يقرأ هذا الخط ويترجمه لنا كما نقرأ نحن كتب الإفرنج ونترجمها.
وفي القاهرة منتزهات مختلفة عظيمة الإتقان فيها تصدع الموسيقى وتسمع آلات الطرب في كثير من الأحيان بعضها في وسط المدينة وبعضها خارجها كمنتزه شبرا وهو قديم العهد والعباسية والأزبكية والجزيرة وقد فضلت الجزيرة على ما سواها لأنها قريبة الشبه من بقاع كثيرة في سوريا ولبنان والمفاوز بنظرة واحدة وهي تبعد نحو ميل عن وسط المدينة والطريق إليها واسعة نظيفة محاطة بالأشجار الملتفة على الجانبين ترش بالماء يوميا كجميع طرق المدينة فيتلبد ترابها ولا يثور غبارها تحت الحوافر والعجلات والأقدام, وتظهر من خلالها(1/503)
المروج المختلفة الألوان, والنيل ينساب في وسط انسياب الأفعوان, وهي تؤدي إلى قصر فخيم بناه إسماعيل باشا الخديوي السابق في وسط حديقة غناء كثيرة الأشجار لطيفة الأزهار, واسعة الطرق, عديدة التماثيل وجلب إليها الأنواع العديدة من الوحش والطير حتى أشبهت معارض الحيوانات في أوروبا, ولم يبق بها إلا القليل في هذه الأيام والمنتزه العمومي قرب هذا القصر مركزه يعرف بالجبلايه ولعل المراد بها تصغير الجبل وهي تقليد الجبل الطبيعي, قد صنعت حجارتها من الحصى والرمل يمر الصاعد إلى قمتها في مغارة واسعة كثيفة الظل رطبة الهواء يتسلسل الماء من نواحيها, ويتدفق من بعض الثقوب التي فيها, ويقطر من سقفها خيوط مدلاة قد رسب الكلس عليها وكستها الطبيعة فأشبهت الرواسب الكلسية التي تتدلى من سقوف بعض الكهوف السورية, وفي جوانبها حياض كالنقر من الصخور قد سدت بالزجاج السميك كأنه ماء قد جمد فكون جدارا من الجليد, وفي أرضها الحجارة كأنها أنفذت من سقف المغارة وجوانبها وتدحرجت في أرضها على ممر السنين وتوالي الحوادث والأيام, ثم يرقى على درج ملتف وكأنه طبيعي لم تمسه يد البشر حتى يصل إلى قمتها فيجد هناك في طريقه بقعة كانت مزروعة بالأعشاب والأزهار والأشجار ويرى حوله منظرا فسيحا من غياض الصنوبر (من شجر الفتنة ولعلها كتبت الصنوبر سهوا) والسنط وسهول القمح, والحبوب والنيل ينسحب بينها كأسلاك الفضة وصحارى الرمال إلى غير ذلك مما يشرح الصدر ويطيل العمر.
وأخبت أنه يوجد ما هو أجمل من هذه الجبلاية في قصر يسمى قصر الجيزة, ولكني لم أره -ويوجد جبلاية أصغر منها في المنتزه الكبير في وسط المدينة المعروفة بجنينة الأزبكية- وهي جنينة مساحتها لا تقل عن مساحة إحدى قرى لبنان المتوسطة في الاتساع في وسطها بحيرة متسعة تسير فيها القوارب الصغار والكبار ودائر البحيرة الأشجار الكبيرة والأزهار النضيرة, والأراضي الخضراء, والحدائق الغناء, وفيها مرسح للتمثيل ومبان للطعام وقباب تضرب الموسيقى العسكرية فيها يومياً وأبوابها مفتوحة لعموم الناس, ومخازن القاهرة الكبرى بيد الإفرنج من الأجانب, وأكثر جهاتها المطروقة من الخاصة والعامة مزدحمة بالقهاوي والحانات والخمارات ولم يترك الأوروبيون المتعاطون الأسباب في القاهرة واسطة إلا أجروها لاجتذاب الأهالي إلى الإسارف واللهو والطرب, ولذلك ترى العامة من الأهلية يتهافتون على ما به خرابهم وبوارهم تهافت الفراش على لهب النار, ولم نسمع حتى الآن بجمعية علمية أو أدبية للأهالي تذكرنا جمعيات بيروت أو اجتمعات مفيدة للشبان والشابات كالاجتماعات التي عندنا إلا أننا منذ مدة حضرنا افتتاح جمعية علمية أدبية في دار المرسلين الأمريكيين كان فيها نحو مائة وخمسين نفسا حاضرين واجتماعاتها أسبوعية وقد تزايد عدد الحضور جلسة فجلسة حتى صار يبلغ خمسمائة في هذه الأيام, وقد ضاقت القاعة دونهم فالأمل أن هذه الجمعية تثبت وتنمو وتكون سببا لقيام غيرها من الجمعيات العلمية الأدبية حتى ينتشر التهذيب الصحيح بين الشبان والأهالي الذين أوتوا حظا وافرا من اللطف الطبيعي ولين العريكة وسهولة الانقياد. والله أسأل أن يقدرنا على قضاء خدمة نافعة لبنات هذه البلاد. انتهى.
ومن كلامها مقالة أدرجت في السنة الأولى من جرنال اللطائف تحت عنوان تربية الأولاد وهي خطبة الأخلاق من أدب ولده صغيرا سر به كبيرا وهما قولان جديران بالمراعاة, وحريان بكل اعتبار لأنهما صادران من أعقل الناس وأحكمهم متعلقان بأهم ما في العالم من الأعطية والكنوز فإن الأولاد هم عماد الهيئة(1/504)
الاجتماعية منهم يقوم الأفاضل ومنهم يقوم العلماء وولاة الأمور, ومنهم تتألف القبائل والأمم والشعوب فهم أساس الهيئة الاجتماعية وبهم يتم انتظامها وتمدنها وارتقاؤها في مراتب الكمال.
ولما كانت تربيتهم أقوى الوسائط لعقولهم المهذبة لأخلاقهم المقومة لاعوجاجهم وكانت هذه التربية متوقفة على الوالدين خصوصا وغيرهم عموما كانت واجبات الوالدين نحو أولادهم من أعظم الواجبات والوديعة التي أمنهم الباري تعالى عليها أجل الودائع, ولذلك لا يسع الوالدين الحنونين إلا الاهتمام بتربية أولادهم والبحث عما يجعلها قويمة المنهاج, شافية العلاج.
وهذا ما قصدت الكلام فيه بوجه الاختصار فأقول: إن التربية ليست علما بقواعد وأصول كسائر العلوم يتعلمه الإنسان من بطون الصحف ولكنها نوع من السياسة يراعى فيها الإنسان أحوال الأولاد والزمان والمكان مع أنها لا تخلو من (مبادئ) عمومية يصح الجري عليها في كل حال لكن أكثرها يتوقف على حكمة المربي وفطنته وغيرته وحسن أخلاقه, ويمكنني أن أقول بالإجمال: إن التربية يلزم لتمامها شروط بعضها يتعلق بالمربي وبعضها بالمربى فمن أعظم الشروط اللازمة في المربي أن يكون هو نفسه مرب حسن الطوية, مهذب الأخلاق والأقوال حميد السيرة, صافي السريرة وإلا ذهبت مساعيه عبثا, وربما زادت أضرارها على منافها لأن المربى يميل بالطبع على الاقتداء بمربية في كل شيء وتقليده قولا وفعلا حتى كأنه صورة خلقته أو صدى صوته, فإذا لم يجر المربي على حسب تربيته للمربى كذبت أقواله وأفعاله وأبطلت أمياله ومساعيه.
يحكى أن السرطان أراد يوما أن يقوم خطوات ابنه فقال له: ما لك يا بني تمشي مجانبا ولا تقوم خطواتك؟ قال: رأيتك يا أبي تمشي كذلك قبلي فاقتديت بك وحسبي أن أشبهك ولقد أصاب قول من قال: "ومن يشابه أبه فما ظلم". ويلزم المربي أيضا مع ذلك أن يكون حكيما متأنيا مالكا طبعه خبيرا بمواقع الأقوال ونتائج الأفعال فيجعل كلامه مع المربى على قدر حكيما متأنيا مالكا طبعه خبيرا بموقع الأقوال ونتائج الأفعال فيجعل كلامه مع المربى على قدر الحاجة اللازمة لتقويم أوده وتهذيب أخلاقه ويقصر أفعاله على ما يؤثر في نفس الطفل أحسن تأثير يحثه على الخير وينهاه عن المنكر. وأما الشروط اللازمة في المربي فسأتكلم عليها في أواخر هذه المقالة.
قلت: إن التربية تتوقف خصوصا على الوالدين وعموما على غيرهم ومعلوم أن معظم تربية الوالدين يتوقف على الأمهات لا على الآباء لوجودهن غالب الأحيان مع أولادهن أيام الطفولية, ولكون الاهتمام بهم من أخص واجباتهن وبما أن كثيرات منا نحن الحاضرات ههنا أمهات أولاد يقصدن تربية أولادهن أحسن تربية ويتقدن غيرة على تحسين طباعهم وتهذيب أخلاقهم فقد رأيت أن أبدي بعض ما عندي في هذا الشأن لعله يقع موقع القبول عند إحدى السامعات, فيفيد أو اسمع عنه ملاحظات من إحداهن فأستفيد فأتقدم في الكلام بناء على أن الشروط اللازمة متكملة في المربيات السامعات لعلمي أنهن من اللواتي ربين أحسن تربية ولكن يعوزنا الاختبار والانتفاع بأثمار التجارب.(1/505)
أرى أن الوالدة لا تقدر أن تربي ولدها على ما تريد إلا بعد ما تستولي على عقله وعواطفه, وتعرف طباعه. والذي يدلني على ذلك هو أن التربية لا تنمي في نفس الطفل ما ليس له أثر ولا وجود فيها بل ما هو موجود قد أودعه الباري تعالى فيها, ولا تقتصر على إنماء هذا الموجود بل تقدم النامي وتهذبه وتقويه وتشدده فمثل الوالدة في تربية ولدها مثل الغارس في تربية غرسه ألا ترين كيف يمهد له الأرض ويسويها ويسمدها ويرويها حتى يتأصل فيها كلما نما وطال يقومه إذا رآه معوجا ويقضبه ويهذبه حتى يقوى ويعلو ويتحسن منظره. هكذا تفعل الأم في ولدها بالتربية تنظر إلى جسده وتقويه بالطعام والرياضة والإتقان من الآفات وتنظر على عواطفه وقواه العقلية والأدبية فتوسعها وتقويها وتقوم اعوجاجها وتهذبها فإن لم تكن هذه بيدها وطوع أمرها فكيف تقدر عليها ولكن تكون خاضعة لها وطوع إرادتها.
يجب على الوالدة أن تنبه على تربية ولدها وهو طفل صغير ضعيف الإرادة وتتعهده منذ ذلك الحين تارة بالأمر والنهي كالسلطان المطلق وطورا بالحب والرفق كالصديق الحبيب حتى تكون مهيبة عنده مسموعة الكلمة ومحبوبة منه ومقبولة الأوامر, وهذا غاية عظمة الملوك والحكام, ومنتهى ما يبلغون إليه في سياستهم مع الرعية. وهو أن يكونوا مهيبين محبوبين مسموعي الكلمة معزوزي الجانب.
إذا راقبت الأم ولدها وجدت أنه لا يبلغ من العمر نصف سنة حتى تظهر عليه علامات الفهم وتبدو منه أفعال الإرادة فيغضب ويرضى ويبكي وقت الغيظ, ويتبسم وقت الرضا. وحينئذ يجب على الأم أن تتخذ ما عندها من الحكمة لتطبع إرادتها على لوح نفسه وتغرس محبتها في أعماق فؤاده وتنفذ كلمتها في أمرها ونهيها له متدرجة من الأمور الصغيرة إلى المبادئ الكلية على توالي الأيام فمتى صار يطلب شيئا لا يناسب إعطاؤه إياه تمنعه عنه ولا تطاوعه, ولو بكى وصرخ صراخا شديدا, حتى يرسخ في ذهنه أن البكاء والصراخ لا ينيلانه المطلوب إذا لم ترد الوالدة ذلك, ولو بكى وصرخ صراخا شديدا, حتى يرسخ في ذهنه أن البكاء والصراخ لا ينيلانه المطلوب إذا لم ترد الوالدة ذلك, وأن الطاعة خير من العناد. وإذا أصر الطفل على مسك ما لا يخصه بعدما منعته والدته من ذلك مرارا فلا تخفيه من أمامه خوفا من بكائه بل ترده عنه بكل لطف وحزم وتفهمه بقدر الطاقة أن ذلك الشيء لا يخصه, وأنه يجب أن يطيع والدته ويخضع إرادته لإرادتها ولا تزال تعلمه بمثل هذين المثلين حتى تتأصل الطاعة لوالدته في نفسه وتنمو فيه مع نماء قوى عقله ولكن ليس بالغضب والعنف بل بالرفق واللين واللطف.
ومن خطأ الوالدين والوالدات في التربية أنهم يحبون البشاشة في وجه الولد والملاطفة في معاملته تؤل إلى استخفافه بكلامهم وتمرده عليهم, فلذلك تراهم لا يكلمونه إلا زجرا ولا ينظرون غليه إلا شزرا, وإذا ارتكب أقل ذنب أو سعوه ضربا وتعنيفا, وإذا ضحك أو لعب في حضرتهم وبخوه وانتهروه كأنه قد جنى ذنبا زاعمين أن ذلك كله يزيد سطوتهم عليه ويمكن الطاعة في نفسهم لهم. وهذا صحيح ولكن إلى حد معين لأن هذه المعاملة تمكن سلطة الوالدين على أولادهم, ولكنها تكون ثقيلة عليهم مكروهة عندهم يترقبون الفرص لمخالفتها ويتحايلون للتخلص منها, ولذلك كثيرا ما تكون نتيجتها فيهم تربية الخوف والخيانة والبغض(1/506)
والكراهة في نفوسهم ويتلو ذلك المكر والرياء أو العصيان والتمرد كما لا يخفى إذا القسوة والعنف في المتسلط يجعلانه مهيبا ولكن مكروها ومطاعا, ولكن مستثقلا والنفوس الأبية لا تذل إلا إلى حين ولا تصبر على الضيم إلا ريثما تجدبا بالدفعة.
فيجب على الوالدين والوالدات خصوصا أن يعاملوا أولادهم في التربية بالرفق وأن يقابلوهم بوجوه باشة إلا حيث لا تقبل البشاشة وأن يكون كلامهم في الإنذار والتوبيخ مقرونا بالتأني والهدو حتى يفهم الولد مؤداه ويقبله عن اقتناع لا عن خوف ورعدة كما يكون إذا أدبته أمه عن غضب وحنق إطفاء لنار غيظها والحزم والهدو والتأني في تربية الطفل وتأديبه تلقى لمربيته هيبة في فؤاده ليس فوقها هيبة فتبقى مقرونة بالطاعة له طول أيامه, ولاسيما لأنها تكون ممزوجة في نفسه بالحب والمودة.
والخلاصة أنه يجب على الأم أن تجعل لها في نفس ولدها طاعة مؤسسة على الحب تدوم إلى طويل لا طاعة مؤسسة على الخوف تدوم إلى قصير وكما يطلب من الوالدة أن تكون حاكمة متسلطة عل عقل ولدها وعواطفه يطلب منها أن تكون بمنزلة الصديق والرفيق له تخصص جانبا من وقتها لملاعبتها بالملاعب المختلفة وتسليه تارة بقص القصص المفيدة عليه وطورا بتعليمه ما ينير ذهنه وحثه على ما يميل إليه من طبعه حتى تتعلق نفسه بها تعلقا شديدا, ويفضل مجالستها واستماع أقوالها على مجالسة كل واحد سواها فيكتسب منها في أثناء ذلك ما تريد أن تلقيه في ذهنه من الأفكار والمبادئ, وينمو على ما تحب أن ينمو عليه وههنا مندوحة واسعة للكلام على الأتعاب التي يجب على الوالدة أن تهبها لأولادها حتى تدفع عنهم الملل والضجر, وما ينشأ عنهما من المساوئ الكثيرة التي تفسد التربية والأخلاق. وههنا محل الكلام على تدبير ما يلزم لتحسين ذوق الولد وتعويده على حسب ما هو جميل واعتبار ما هو نافع ومفيد وتربيته على مراقبة الأمور, وملاحظة ما حواليه من الكائنات وعجائب طبائعها, وغرائب أفعالها. وههنا محل الكلام أيضا على ترويضه وتقوية جسده ولكني لا أتعرض لشيء من ذلك كله لئلا يضيق المقام واعتمادا على ما هو شائع منه في كتبنا وجرائدنا.
وصدق الوالدة مع ولدها في كل مواعيدها أمر لا بد منه في التربية وكذبها عليه يربيه على الكذب لا محالة والدعاء عليه يحط قيمتها في عينه ويفسد آدابه. وتكثير الأوامر عليه والطلبات منه تلقيه في الحيرة والارتباك فيصير يطلب الابتعاد عنها ولا يصدق أن يتيسر له الفرار من وجهها حتى يغافلها ويسرع إلى أصدقائه وملاعبه.
قال بعض الحكماء: الصدق أهم ما يجب إتباعه في تربية الصغار وتهذيبهم, فمن كذب على ولده كذبة علمه الكذب.
وقال أيضا: إن تهذيب الولد يبتدئ بنظرة أمه والتفات أبيه وتبسم أخته أو أخيها أو أخيه.
ومن أغلاط التربية عندنا أنه إذا قامت الأم لتأديب ولدها فكثيرا ما يعارضها الأب ويحمى من التأديب كأن أمه عدو له تقصد الانتقام منه وإذا قام الأب لتأديب ولده عارضته الأم وكل ذلك مما يمنع فوائد التربية عن الولد ويحمله على الظن بأنها صادرة عن الغضب والانتقام لا عن حب الواجب وحسن(1/507)
المقصد ومن أغلاطنا في التربية أيضا إننا لا نتحرى تعويد الأولاد على الاعتماد على أنفسهم والاستقلال عن سواهم بل إذا رأينا في ولدنا ميلا إلى شيء من ذلك أمتناه إجابة لدواعي الخوف والشفقة التي في غير محلها فإذا رأت الأم ابنها يميل إلى حز الخشب والنجارة بسكين أخذت السكين من يده خوفا من أن يجرح إصبعه جرحا طفيفا ولا يخطر لها أن توصي أباه ليبتاع له عدة صغيرة للنجارة ليتعود بها على عمل أعمال كثيرة تنفعه في أيامه وتبعد عنه الضجر والسآمة, والحال أن أكثر مخترعي الإفرنج يربون على حب الاختراع بأمور كهذه وهم أولاد صغار وإذا رأت الأم ولدها يركض في الشمس وراء الفراش والجنادب صاحت وولولت خوفا عليه من حر الشمس وكان الأولى بها أن تشتري له كتابا ذا صور وتربيه على مراقبة المخلوقات الطبيعية. قيل: إن لبنيوس المعدود من أعظم علماء النبات كان في صغره يحب الأزهار, فزرع له أبوه أرضا وقسمها على وفق ذوقه, فكان يتفقدها ويعتني بها, ولما شب ولع بدراسة علم النبات حتى طار صيته في الآفاق ويجب الحذر في التربية من أضعاف عزيمة الولد وإرادته فإن والدات كثيرات يذللن الولد حتى لا تبقى له إرادة فإذا شب كان ضعيفا, وكانت تربيته أعظم مصيبة عليه وكثيرون ينكرون فوائد التربية ويقولون: إن وجودها وعدمها سيان ويستشهدون على ذلك بقولهم: إن فلانا ربي في صغره أحسن تربية فكان أحسن الأولاد وكان يقدر له أعظم النجاح, فلما كبر أتى المنكرات ولم يجن إلا ثمار الذل والفشل, والآخر ربي في صغره أردأ تربية, ولما كبر فاق فضلا ونبلا وكرم أخلاق وخالف ظن الناس فيه.
أقول إن إنكار هؤلاء الناس لمنافع التربية مبني على وهم فاسد, وهو أن التربية إنماء الموجود وتحسينه كما مر في بدء الكلام, ولا توجد ما ليس موجودا فقد يخص البارئ بمواهب أناسا دون آخرين حتى إنهم مع قلة التربية يفوقون سواهم ممن ربي تربية حسنة, ولكن لو تساوت مواهب الفريقين لفاق المربي بالأخلاق ولذلك اشترط في المربى أن يكون قابلا للتربية من طبعه وقليل من لا يقبلها ومهما قوي في الفطرة حسك الشرور وغلطت أصول المساوئ والآثام, فإنها تضعف حتى تضجر وتزول بحسن التربية وجميل الاعتناء". اه.
ومن كلامها المقالة التي أدرجت في جريدة المقتطف العلمية ردا على الدكتور شبلي شميل ونصها بحروفها: "إن حضرة الفاضل الدكتور شبلي يعد من جملة الذين إذا أطعموا أشبعوا, وإذا ضربوا أوجعوا. فمقالته التي عنوانها "الرجل والمرأة وهل يتساويان" (المندرجة في الجزأين السادس والسابع من مقتطف هذه السنة) قد حوت من الشواهد والحقائق ما يشبع عقول القارئين ومن التحامل على المرأة والإجحاف بحقها ما يوجع نفوس القارئات وليس لنا وجه لدفع قوله بأنه خصم ذو غرض أو رجل قليل المعارف لا يعبأ بقوله لأنه قال: وأعاد القول مرارا إنه ليس قصده حط شأن المرأة بل تقرير الحق الواقع والذي نعهده فيه من الصدق في القول والإخلاص في القصد يكذبنا إن سميناه خصما أو نسبنا إليه الغرض وأقواله وكتاباته تشهد له بسعة الاطلاع وغزارة المعارف, فلا نصدق إذا حططنا في علمه ومعارفه ومع ذلك فلا ريب أنه لم ينصف في حكمه على المرأة ولم يعدل في ذكر مناقبها وأخلاقها, وما ذلك في حكمي إلا عن سهو إذ الإنسان عرضة للسهو(1/508)
والنسيان. والظاهر أن اعتقاده في المرأة منقول أصلا عن ألسنة العامة, فلما تحرك في أقوال العلماء وغاص على أداتهم لم يلتقط منها إلا ما أيد ذلك الاعتقاد المتداولة خلفا عن سلف, وأغفل ما يؤيد خلافه وكم من مرة زل العلماء وضل الفقهاء من تأثير الأوهام المتوارثة والأغلاط السائرة, ولولا ذلك لكان من المحال أن يرضى حضرة الدكتور الفاضل بما في خطبته من الانحراف والإجحاف كما سنرى.
أولا: إن القسم الأول من المقالة المذكورة مقصور على إثبات أن الذكور من الحيوانات العالية أشد من الإناث وأن الرجل أضخم من المرأة جثة وأكبر جمجمة وأثخن عظما, وأقسى عضلا, وأنضر سحنة. ودمه أثقل نبضانا وأغلظ قوما وجسده أكثر فسادا وانحلالا إذ يفرز من الحامض الكربونيك أكثر مما تفرز هي وغير ذلك مما يدل على أن الرجل أشد من المرأة. وما لبث أن جعل هذه الأوصاف دليلا على الشدة حتى انتقل إلى جعلها امتيازا يمتاز بها الرجل ولم يؤيد هذا الامتياز بأن حضرة الدكتور يذكر مقابله امتياز المرأة على الرجل بالجمال واعتدال القوام ولطف التركيب والغضاضة والبضاضة ونحوها من الأوصاف التي تميزها عليه كما هو مسلم به إجماعا أيضا لأنه إن كانت ضخامة الجسم والقوة الوحشية تعدان امتيازا للرجل من وجه فلطف القد وحسن الخلق يعدان امتيازا للمرأة من أوجه, والإنصاف يقتضي ذكرهما عند ذكر غيرهما. لكن حضرة الدكتور أغفلهما تمام الإغفال.
ثم إنه ذكر تقوس القدم في الرجل وانبساطها في المرأة دليلا على ارتقائه في الخلق أكثر منها وكذلك يزرر ثيابه عن اليمين وهي تزررها عن اليسار وكذلك بطء نموه وسرعة نموها إلى غير ذلك من الأدلة التي لم يسلم بصحة مدلولها واحد حتى ينفيها آحاد وترك الأمر والإنصاف يقتضي ذكر الأمر المقرر قبل الشواهد التي لم تثبت صحتها ولا صحة ما يشتهد عليه بها.
ثانيا: إن فحوى القسم الثاني من مقالة حضرة الدكتور هي إثبات أن الرجل أعظم عقلا وإدراكا من المرأة. وقد عدد فيه القوى العقلية التي زعم أن الرجال يفوقون فيها النساء ولم يذكر للنساء قوة يفقن فيها والذي أعلم أن كل الباحثين (حتى الذين بحثوا قديما عما إذا كان للمرأة نفس) لم ينكروا أن المرأة تفوق الرجل في بعض القوى العاقلة مثل الإدراك عن طريق الحواس المعروف بالشعور وسلامة البداهة والذوق العقلي, ثم إن حضرته يبني حكمه بصغر عقل المرأة عن عقل الرجل بكون دماغه أثقل من دماغها.
ولما كان لا يحق لي الاعتراض في معرض مثل هذا فحسبي أن أسأل جنابه هل يعتبر ثقل الدماغ دليلا قاطعا على كبر العقل لأن الذي نعلمه (وهو مأخوذ عن أحدث مناقشة للعلماء في هذا الشأن) إن كبر العقل بمعزل عن ثقل الدماغ فقد يكون الإنسان من أعقل أهل زمانه ودماغه خفيف جدا أو متوسط في الثقل وقد يكون من أصغر الناس عقلا ودماغه ثقيل جدا, ولذلك لا تقنع عقولنا القاصرة بأن ثقل الدماغ دليل كبر العقل حتى يتبين لنا ذلك بالبرهان القاطع.
ثالثا: إن معظم الإحجاف كان في كلام حضرة الدكتور عن آداب المرأة وفضائلها. وهنا لا أخشى أن أخالف(1/509)
حضرته تمام إذا المحقق المشهور أن الفضائل نصيب المرأة فهي المعزية الحزين المفرجة الكروب الصابرة على مضض العيش ونغص الحياة الراضية بمشاركة الرجل في سرائه وضرائه المحافظة على ولائه الطالبة لمسرته الناسية نفسها في خدمته الباذلة حياتها لمسرته وتربية عائلته الممتازة بالوراعة والعفاف والطهارة إلى غير ذلك مما يعد منه ولا يقدر فحسبي ما ذكرت".
مريم بنت يعقوب الأنصاري
سكنت إشبيلية وأصلها على ما قيل من شلب, وكانت صدر نبهائها وأدبائها, وممن لهن قدر منجبيها ونجبائها, سردت البديع أحسن سرد, وافترست المعاني كالأسد الورد, وأبرزت درر المحاسن من صدفها, وحازت من أفخر الإجادة وشرفها, ومدحت ملوكا طوقتهم من مدائحها قلائد, وزرفت إليهم من معانيها خرائد, وجلتها عليهم كواعب بالألباب لواعب, فأسالت العوارف, وما تقلص لها من الحظوة ظل وارف وقد أثبت المقرى ما يعترف بحقها, ويعرف به مقدار سبقها, وكانت تعلم النساء الأدب وتحتشم لدينها وفضلها وعمرت عمرا طويلا واشتهرت بأشبيلية بعد الأربعمائة وذكرها الحميدي وأنشد لها جوابها لما بعث المهدي لها بدنانير وكتب إليها:
ما لي بشكر الذي أوليت من قبل ... لو أنني حزت نطق اللسن في الحلل
يا فذة الظرف في هذا الزمان ويا ... وحيدة العصر في الإخلاص والعمل
أشبهت مريماً العذراء في ورع ... وفقت خنساء في الأشعار والمثل
ونص الجواب منها:
من ذا يجاريك في قول وفي عمل ... وقد بدرت إلى فضل ولم تسل
ما لي بشكر الذي نظمت في عنقي ... من اللآلئ وما أوليت من قبل
حليتني بحلي أصبحت زاهية ... بها على كل أنثى من حلي عطل
لله أخلاقك الغر التي سقيت ... ماء الفرات فرقت رقة الغزل
أشبهت مروان من غارت بدائعه ... وأنجدت وغدت من أحسن المثل
من كان والده العضب المهند لم ... يلد من النسل غير البيض والأسل
ومن شعرها وقد كبرت:
وما يرتجى من بنت سبعين حجة ... وسبع كنسيج العنكبوت المهلهل
تدب دبيب الطفل تسعى على العصا ... وتمشي بها مشي الأسير المكبل
مريم صوفيا إمبراطورة الروسية(1/510)
هي ابنة ملك الدانيمرك وشقيقة إمبراطورة "استوريا" والبرنسيس قرينة الدوق "أوف وليس" ولي عهد إنكلترا, أميرة نساء هذا الزمان وأديبتهن في هذا العصر والأوان, ربيت في بيت أبيها بهيئة بسيطة لا تعلو عن حالة المتوسطات بالغنى والثروة من نساء العالم, وقد طرحت كل كبرياء وتشامخ من صبوتها ولم تزل على ذلك حتى الآن وهي في مقام تنحي أمامها أعناق نحو مائة مليون من البشر وقد زادها الله عزا وكمالا بالمواهب الطبيعية فإنها على جانب كبير من اللطف والرقة ودماثه الأخلاق, ولين العريكة. وعلى جانب أعظم من غزارة العقل وحدة الذهن وصدق التصور وحسن البديهة. وقد استودع الله في هيكلها اللطيف من القوة والشجاعة ما يعزو وجوده في خير أشداء الرجال.
ومن شريف طباعها أنها شديدة الحب لجلالة الإمبراطور -قرينها- ميالة إلى عمل الحسنات, منشطة للمعارف, لا تحب التدخل في شؤون السياسة كثيرا, نزوعة إلى العمل, شديدة الكره للكسل والكسالى, مولعة بمطالعة الكتب المفيدة, تخيط أكثر ثيابها بيدها _الأمر الذي يكشف عن ضعة في نفسها الكريمة- لا تحب الإسراف والتبذير تقوم بنفسها مع مساعدة إحدى الفاضلات بتعليم بنيها الثلاثة وابنتها ولشدة ميلها للدروس والمطالعة, أصبحت تتكلم بعدد من اللغات وبالإجمال أن شريف خلالها تقوم واعظا ونذيرا في نساء العالم قاطبة يرد المتكبرات إلى الضعة واللين والواهنات القوى إلى النشاط والإقدام والمسرفات على الاقتصاد والمبتعدات عن عمل البر والإحسان إلى حبه والعمل به.
مزروعة بنت عملوق الحميرية
كاننت من فصحاء زمانها ومن اللواتي كن في فتوح الشام حضرت الحروب مع خالد بن الوليد بالشام ومصر وشهدت حرب النسوة في قوعة سحور مع خولة بنت الأزور, ولها شعر في رثاء ولدها وهو مأسور في وقعة أنطاكية وهو:
أيا ولدي قد زاد قلبي تلهبا ... وقد أحرقت منى الخدود الدوامع
وقد أضرمت نار المصيبة شعلة ... وقد حميت مني الحشا والأضالع
وأسأل عنك الركب كي يخبروني ... بمالك كيما تستكن المدامع
فلم يك فيهم مخبر عنك صادقا ... ولا منهم من قال إنك راجع
فيا ولدي مذ غبت كدرت عيشتي ... فقلبي مصدوع وطرفي دامع
وفكري مقسوم وعقلي موله ... ودمعي مسفوح وداري بلاقع
فإن كنت حيا صمت لله حجة ... وإن تكن الأخرى فما العبد صانع
فقالت لها: ولمن معها سليمى بنت سعد بن زيد بن عمرو بن نفيل -وكانت من الزاهدات العابدات: أبهذا أمركن الله؟ أمركن بالصبر ووعدكن على ذلك الأجر! أما سمعتن ما قال الله سبحانه وتعالى: (الذين إذا أصبتهم مصيبة(1/511)
قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوت من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) (البقرة: 156-157) فاصبرن تؤجرن. فقالت لها مزروعة: إن كلامك هو الحق وأتيت بالصدق ثم سكتن عن البكاء.
مسكة جارية الناصر محمد بن قلاوون
قد نشأت في داره وصارت قهرمانة منزله, يقتدى برأيها في عمل الأعراس السلطانية والمهمات الجليلة التي تعمل في الأعياد والمواسم, وترتيب شؤون الحريم السلطاني, وتربية أولاد السلطان, وطال عمرها وصار لها من الأموال الكثيرة والسعادات العظيمة ما يجل وصفه, وصنعت برا ومعروفا كبيرا, واشتهرت وبعد صيتها وانتشر, وتقدمت عند السلطان وكانت مسموعة الكلمة عنده وعند حرمه, وذلك لحسن خدمتها وصنعتها وصيانتها لمنزله وقد صنعت مصانع كثيرة مثل مساجد وتكايا ومدارس غير ذلك جميعها تهدم.
ومن مآثرها الجامع الذي أنشأته بخط الحنفي بمصر قال فيه صاحب خطط مصر الجديدة التوفيقية إن سوق مسكة قرب جامع الشيخ صالح أبي حديد بخط الحنفي له بابان منقوش بأعلى أحدهما بالرخام: "بسم الله الرحمن الرحيم أمرت بإنشاء هذا المسجد المبارك الفقيرة إلى الله تعالى الحاجة إلى بيت الله الزائرة إلى قبر رسوله الله صلى الله عليه وسلم الست الرفيعة مسكة سنة ست وأربعين وسبعمائة". ومنقوش بدائرة من الخارج بالحجر سورة يس وبه مكتوب عليه (إنما يعمر مسجد الله) (التوبة: 18) الآية.
وكان الفراغ من الجامع المبارك في شهور سنة ست وأربعين وسبعمائة إلى غير ذلك من الأوصاف الحميدة.
ولما توفيت الست "مسكة" دفنت فيه وقبرها ظاهر للآن وإنما الجامع معطل وغير مقام الشعائر لتخربه حالة وجود أحكار له في ديوان الأوقاف المصرية.
مفضلة الفزارية بنت عرفجة الفزاري
كانت تحت محمد بن عوف الطائي, وكانت بديعة الجمال, فصيحة المقال, عالمة بضروب الشعر وشعرها فيه بلاغة تستحسن. ومن قولها في زوجها محمد المذكور حين قتل في بعض غزواته:
ألا لا أرى لما تلبد بالثرى ... ولا ميتا حتى ذكرت محمدا
حرام على عيني بعد محمد ... طوال الليالي لا تمسان إثمدا
فكم من فتى موته لو تجردت ... له الحرب لم يفن الحمار المقيدا
وأحمر يدعو الله كل عشية ... ليبعده لا بل هو الآن أبعدا
ألم تر يا ما كان أحلى محمدا ... وأجمله إن راح في القوم أو غدا
ترى منكبيه ينفضان قميصه ... كنفض الرديني الرداء المنضدا(1/512)
منفوسة بنت زيد بن أبي الغوار رضي الله تعالى عنها
كانت إذا مات ولدها تضع رأسه على حجرها وتقول: والله لتقدمك أمامي خير عندي من تأخرك بعدي ولصبري عليك أولى من جزعي عليك, ولئن كان فراقك حسرة, فإن في توقع أجرك لخيره. ثم تنشد قول عمرو بن معد يكرب رضي الله عنه:
وإنا لقوم لا تفيض دموعنا ... على هالك منا وإن قصم الظهر
مهجة القرطبية صاحبة ولادة
كانت من أجمل النساء في زمانها وأخفهن, وعلقت بها ولادة ولازمت تأديبها, وكانت من أخف الناس روحا ووقع بينها وبين ولادة ما اقتضى أن تهجوها. ومن شعرها في ولادة حينما كانتا مصطلحتين.
لئن قد حمى عن ثغرها كل حائم ... فما زال يحمى عن مطالبه الثغر
فذلك تحميه القواضب والقنا ... وهذا حماه ممن لواحظها السحر
ولها أشعار كثيرة لم نشأ جمعها واقتصر منها على هذا المقدار.
مي ابنة طلابة بن قيس بن عاصم الغساني
كان جدها قيس من أجلاء ملوك العرب وأفاضلهم حتى ضربت به الأمثال لجلاله وسماحته, وحسن جواره ودماثته, وكانت مي قصيرة, عذبة الكلام, بليغة غزالة العينين زجاء الحاجبين مر عليها غيلان بن معدي الكناني المعروف بذي الرمة, وكان غيسانيا مليحا, وشاعرا فصيحا, فأدركه الظمأ فمال إلى سرداقعلا عروضه وأطنابه, وامتدت أوتاده وأسبابه, وإذا بمي تمشط رأسها وقد أسبلت شعرها كأنه عثاكيل النخل ووجهها يشف من خلاله فقال غيلان: هل من إداوة تنفي الأوام. وتشفي من السقام, فأسرعت إلى ماء شيب باللبن وسقته, ثم رحبت به وأنزلته فجلس يأكل مما هيأت, وعيونها تروي له عن الأيام ما خبأت فما انصرف آخر النهار إلا وفي قلبه لاعج وأوار, كأنهما مارج من نار, فعطف يعاودها على طول الشقة وفرط المشقة, وينشد:
وكنت إذا ما جئت ميا أزورها ... أرى اورض تطوى لي ويدنو بعيدها
من الخفرات البيض ود جليسها ... إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها
وحدث يوما عقبة الفزاري فقال: ما معناه: أتاني يوما ذو الرمة. فقال: إن في مية خلوفا فهل لك أن تسعدني في الزيارة؟ فقلت: لبيك, ثم سرنا حتى إذا أتينا الربع نظرت النساء إلى غيلان فعرفنه فجئن يتهادين وبينهن مي حتى جلسن لائذات به فقال حسناء منهن: أسمعنا يا ذا الرمة ما قلت: فالتقت إلي وقال لي: أنشدها ما رويت(1/513)
عني فاندفعت أقول قصيدته التي أولها:
وقفت على ربع لمية ناقتي ... فما زلت أبكي عنده وأخاطبه
ولما بلغت قوله:
نظرت إلى أظعان مي كأنها ... ذرى النخل أو أثل تميل ذوائبه
فأسلبت العيان والقلب كاتم ... بمغرورق نمت عليه سواكبه
بكى وامق حال الفراق ولم تحل ... حوائلها أسراره ومعاتبه
هو الألف قد حان الفراق ولم تحل ... محاولها أسراره ومقانبه
قالت الحسناء: لكن اليوم فلتحل, ثم مضت في الإنشاد, حتى انتهت إلى قوله:
وقد حلفت بالله مية ما الذي ... أحدثها إلا الذي أنا كاذبه
إذا فرماني الله من حيث لا أرى ... ولا زال في أرض عدو أحاربه
قالت مي: ويحك يا ذا الرمة خف عواقب الله! ثم ما زلت في الإنشاد حتى بلغت قوله:
إذا رحت من حب لمي سوارح ... على القلب أمته جميعا عوازبه
قالت الحسناء: قتلته يا مي قتلك الله! فقالت مي: ما أصحه وهنيئا له, فأصعد ذو الرمة زفرة كاد حرها يحرق عارضيه أما أنا فداومت إنشادي حتى أنتهيت على قوله:
إذا راجعتك القول مية أوبدا ... لك الوجه منها أو نضى الدرع سالبه
فيالك من خد أسيل ومنطق ... رخيم ومرحوق تعلل شاربه
فقالت الحسناء باسمة: قدر وجع الآن القول وبدا الوجه فمن لنا بأن ينضى الدرع سالبه فضحكت مي ثم قالت الحسناء: إن لهذين شأنا ففرجوا عنهما. فقمت مع من قام وجلست بحيث أرهما فتعاتبا طويلا ولم يبرح غيلان من مكانه ولم يسمع حديثهما سوى قولها: كذبت والله ولا أدري بم كذبته. ثم جاءني ومعه نافجة طيب أهدته إياها فقال: شأنك وهده. ثم قال: وهذي قلادة أعطتنيها فو الله لأقلدنها بعيرا. ثم عقدها في سيفه كالحمائل وانصرفنا, ثم وقفنا على أطلال مي فأنشد:
ألا يا سلمى يا دار مي على البلي ... ولا زال منهلا يجر عائك القطر
وإن لم تكوني غير شام بقفرة ... تجر بها الأذيال صيفية كدر
وانضمت عيناه بالعبرة وقال: إني جلد صبور وإن كان مني ما ترى, ثم انصرفنا وكان آخر العهد به فو الله ما رأيت أشد منه صبابة ولا أحسن صبرا. ومن لطائف أشعاره قوله:
إذا هبت الأرياح من نحو جانب ... به آل مي زاد قلبي هبوبها
هوى تذرف العينان منه وإنما ... هوى كل نفس أين حل حبيبها(1/514)
مية بنت ضرار الضبية
كانت ذات أدب وفصاحة وحماسة ولها شعر موزون ورثاء مستحسن في أخيها قبيصة وكان قتل في إحدى الغزوات. زمنه قولها:
لا تبعدن وكل شيء ذاهب ... زين المجالس والندى قبيصا
يطوي إذا ما الشيخ أبهم فضله ... بطنا من الزاد الخبيث خميصا
مية بنت عتبة
كانت صاحبة حسن وجمال في زمانها وكان أبوها أميرا في قومه مطاعا في عشيرته, وكانت هي لعلو منزلة أبيها مسموعة الكلمة أيضا, وكان رأيها حسنا يستشيرونها في أمورهم. وكان لها معرفة بمعاني الشعر. ولما مات أبوها رثته بأبيات منها ما عثرنا عليه وهو:
تروحنا من اللعباء عصرا ... وأعجلنا إلا لاهة أن تؤبا
على مثل ابن مية فانعياه ... يشق نواعم البشر الجيوبا
وكان أبي عتيبة شمريا ... ولا تلقاه يدخر النصيبا
ضروبا باليدين إذا اشمعلت ... عوان الحرب لا روعا هيوبا
مريم نحاس نوفل
هي ابنة جبرائيل نصر الله نحاس. ولدت في بيروت في 6 كانون الثاني سنة 1856 م (يناير) , وتهذبت في المدارس الإنكليزية السورية مدة ثمان سنوات بين خارجية وداخلية, فتعلمت اللغتين العربية والإنكليزية مع التاريخ والجغرافيا والحساب والبيانو, وجميع أشغال الإبرة واليد.
وفي 14 تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1872 م اقترنت بنسيم أفندي نوفل, في المركز الصيفي في جبل لبنان إذ كان والدها وقرينها -المذكورين- من متوظفي الحكومة اللبنانية.
وفي خلال سنة 1873 م شرعت بتأليف كتاب عام لأحياء ذكر بنات جنسها اللطيف, وسمته بكتاب "معرض الحسناء في تراجم مشاهير النساء", وهو يتضمن تراجم شهيرات النساء من الأموات والأحياء مرتبا على نسق القواميس الإفرنجية, وقد أعلنت في أكثر الجرائد عن هذا المشروع المبتكر وصرفت باقي عزيمتها على الاشتغال به باذلة في سبيله كل ما أحرزته من الحلي والمجوهرات حتى لا يقال: إن للرجال العلم والأدب, وللنساء الجمال والذهب. وريثما أصبح القسم الأول منه على وشك النهاية رفعته إلى من اشتهرت بين بنات جنسها, مؤسسة المدرسة السيوفية في مصر القاهرة التي كان فيها نحو الثلثمائة تلميذة يغتذين من أبان معارفها وآدابها, حضرة الأميرة جشم آفت هانم أفندي ثالت حرم سمو إسماعيل باشا الخديوي السابق(1/515)
فأفاضت عليها من نعم القبول ما حمل مقدمته إلى نشر جميل الشكر والامتنان في جريدة الأهرام الغراء ذاكرة ما وعدت به الأميرة من المكارم والأحسان.
وفي حزيران (يوليو) سنة 1879 م طبع بأمر دولتها مثال للكتاب يتضمن المقدمة وترجمة حياة الأميرة -المشار إليها- وتراجم بعض النساء الشهيرات, وقد وزع في كثير من البلدان العربية غير أن سفر الجناب الخديوي السابق مع آل بيته الكرام إلى نابولي في تلك السنة أوقف السعي بإتمام القسم الثاني من تراجم الأحياء, ومن ثم فإن الحوادث الغريبة التي أضاعت قسما من المعدات والصور التي حضرت لتزيين الكتاب اضطرت المؤلفة أن تصبر على مضض الأيام وفي صدرها حزازات من حكم الزمان, ومن كساد بضائع الآداب في البلاد الشرقية.
وهذه الأسباب والمسببات التي قضت بتأجير هذا الكتاب إلى حين من الزمن ما برحت تتردد مع الأيام في فكر المؤلفة حتى توفاها الله في صباح يوم الإثنين من شهر نيسان (إبريل) سنة 1888 م بعد أن أوصت بإتمام مشروعها الذي قضت بين محابرة ودفاتره مدة العمر.
وقد رثاها حضرة الشاعر الأديب إلياس أفندي نوفل بقصيدة رنانة فمن جملة ما قال فيها عن وصف الفقيدة:
كانت لها التقوى كأبهى حلة ... وصنيع أيديها أجل خضابها
وجمال عنوان أسر جمالها ... وبياض باطنها كلون ثيابها
وردت سماحة وجهها عن قلبها ... وبدت معافها بطيء كتابها
حرف النون
نائلة بنت الفرافصة بن الأخوض
ابن عمرو. وقيل: ابن عفر بن ثعلبة بن الحارث بن حصن بن ضمضم بن علي بن جناب الكلبية زوجة عثمان بن عفان, وكان سبب زواجه بها أن سعيد بن العاص تزوج هند بنت الفرافصة, فبلغ ذلك عثمان, فكتب إليه: "أما بعد, فإنه قد بلغني أنك تزوجت امرأة من كلب فاكتب إلي بنسبها وجمالها".
فكتب إليه: "أما بعد, فإن نسبها أنها بنت الفرافصة بن الأخوص, وجمالها أنها بيضاء مديدة.
فكتب: "إن كانت لها أخت فزوجنيها" فبعث سعيد إلى الفرافصة يخطب ابنته على عثمان, فأمر ابنه ضبا أن يزوجها إياه, وكان ضب مسلما, وكان الفرافصة نصرانيا, فلما أرادوا حملها إليه قال لها أبوها: يا بنية, إنك تقدمين على نساء قريش هن أقدر على الطيب منك فاحفظي عني خصلتين فتكحلي وتطيبي بالماء حتى يكون ريحك شن ريح أصابه مطر, فلما حملت كرهت الغربة وحزنت لفراق أهلها فأنشدت تقول:
ألست يا ضب بالله إنني ... مصاحبة نحو المدينة أركبا
إذا قطعوا حزنا تحث ركابهم ... كما زعزعت ريح يراعا مثقبا(1/516)
لقد كان في أبناء حصن بن ضمضم ... لك الويل ما يغني الخباء المطنيا
فلما قدمت على عثمان قعد على سريره ووضع لها سريرا حياله فجلست عليه فوضع عثمان قلنسوته فبدا الصلع فقال: يا ابنة الفرافصة, لا يهولنك ما ترين من صلعي فإن وراءه ما تحبين, فسكتت, فقال: إما أن تقومي إلي وإما أن أقوم إليك. فقالت: أما ما ذكرت من الصلع فإني من نساء أحب بعولتهن إليهن السادة الصلع. وإما قولك: إما أن تقومي إلي وإما أن أقوم إليك فو الله ما تجشمته من جنبات السماوة أبعد مما بيني وبينك بل أقوم إليك. فقامت فجلست إلى جانبه فمسح رأسها ودعا لها بالبركة, ثم قال لها: اطرحي عنك رداءك. فطرحته, ثم قال لها: اطرحي خمارك. فطرحته, ثم قال لها: انزعي درعك. فنزعته, ثم قال لها: حلي إزارك. فقالت: ذاك إليك. فحل إزارها فكانت من أحظى نسائه عنده.
وروى عن أبي الجراح مولى أم حبيبة أنه قال: كنت مع عثمان في الدار فما شعرت إلا وقد خرج محمد بن أبي بكر ونائلة تقول: هم في الصلح. وإذا بالناس قد دخلوا من الخوخة ونزلوا برأس الحبال من سور الدار ومعهم السيوف فرميت بنفسي وجلست عليه, وسمعت صياحهم, فنشرت نائلة بنت الفرافصة شعرها فقال لها عثمان: خذي خمارك. فلعمري لدخولهم علي أعظم من حرمة شعرك, وأهوى رجل إليه بالسيف فاتقته بيدها فقطع إصبعين من أصابعها, ثم قتلوه وخرجوا يكبرون, ولما قتل عثمان قالت نائلة:
ألا إن خير الناس بعد ثلاثة ... قتيل الذي جاء من مصر
ومالي لا أبكي وتبكي قرابتي ... وقد غيبت عنا فضول أبي عمرو
وكتبت نائلة إلى معاوية بن أبي سفيان وبعثت بقميص عثمان مع النعمان بن بشير وهذه صورة ما كتبت من نائلة بنت الفرافصة إلى معاوية بن أبي سفيان. أما بعد, فإني أذكركم بالله الذي أنعم عليكم وعلمكم الإسلام وهداكم من الضلالة, وأنقذكم منم الكفر, ونصركم على عدوكم, وأسبغ عليكم نعمه, أنشدكم بالله وأذكركم حقه وحق خليفته الذي لم تنصروه وبعزمة الله عليكم فإنه قال: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله) (الحجرات: 9) , وأن أمير المؤمنين بغى عليه ولو لم يكن له عليكم حق إلا حق الولاية ثم أتى لحق على كل مسلم يرجو أيام الله أن ينصره لقدمه في الإسلام وحسن بلائه, وأنه أجاب داعي الله وصدق رسوله والله أعلم, إنه إذا انتخبه فأعطاه شرف الدنيا والآخرة وإني أقص عليكم خبره لأني كنت شاهدة أمره كله حتى قضى الله عليه.
إن أهل المدينة حصروه في داره يحرسونه ليلهم ونهارهم قياما على أبوابه بسلاحهم يمنعونه كل شيء قدروا عليه حتى منعوه الماء, يحضرون فيقولون له: الإفك, فمكث هو ومن معه خمسين ليلة وأهل مصر قد أسندوا أمرهم إلى محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر, وكان علي مع الحضريين ممن أهل المدينة ولم يقاتل مع أمير المؤمنين ولم ينصره ولم يأمر بالعدل الذي أمر الله تبارك وتعالى به فظلت تقاتل خزاعة وسعد بن بكر, وهذيل, وطوائف من مزينة(1/517)
وجهينة وأنباط يثرب, ولا أرى سائرهم ولكني سميت لكم الذين كانوا أشد الناس عليه في أول أمره وآخره.
ثم إنه رمي بالنبل والحجارة فنهاهم علي وأمرهم أن يردوا عليهم نبلهم فردوها إليهم فلم يزدهم ذلك على القتال إلا جراءة, وفي الأمر إلا غراء, ثم أحرقوا باب الدار فجاءهم ثلاثة نفر من أصحابه فقالوا: إن في المسجد أناسا يريدون أن يأخذوا أمر الناس بالعدل فاخرج إلى المسجد حتى يأتوك.
فانطلق فجلس فيه ساعة وأسلحة القوم مظلة عليه من كل ناحية, وما أرى أحدا يعادل فدخل الدار وقد كان نفر من قريش على عامتهم السلاح, فلبس درعه وقال لأصحابه: لولا أنتم ما لبست درعاً فوثب عليه القوم فكلمهم الزبير وأخذ عليهم ميثاقاً في صحيفة, وبعث بها إلى عثمان: إن عليكم عهد الله وميثاقة أن لا تضروه بشيء فكلموا وتحرجوا فوضع السلاح فلم يكن إلا وضعه حتى دخل عليه القوم يقدمهم ابن أبي بكر حتى أخذوا بلحيته وذبحوه ودعوه باللقب فقال: أنا عبد الله خليفته فضربوه على رأسه ثلاث ضربات وطعنوه في صدره ثلاث طعنات وضربوه على مقدم الجبين فوق الأنف ضربة أسرعت في العظم فسقطت عليه وقد أثخنوه وبه حياة وهم يريدون قطع رأسه ليذهبوا بها فأتتني بنت شيبة بن ربيعة, فألقت نفسها معي عليه فتواطؤنا وطأ شديدا, وعرينا من ثيابنا, وحرمة أمير المؤمنين أعظم, فقتلوه -رحمة الله عليه- في بيته وعلى فراشه, وقد أرسلت غليكم بثوبه وعليه دمه, وإنه والله لئن كان سلم من قتله لم يسلم من خذله فانظروا أين أنتم من الله -عز وجل- فإنا نشتكي ما مسنا إليه ونستنصر وليه وصالح عباده ورحمة الله على عثمان, ولعن من قتله وصرعهم في الدنيا مصارع الخزي والمذلة, وشفي منهم الصدور, فحلف رجال من أهل الشام أن لا يطؤا النساء حتى يقتلوا قتلته أو تذهب أرواحهم فكانت هذه الرسالة بسببها واقعة صفين.
ناجية بنت ضمضم المري
هي أخت هرم بن ضمضم كانت من شاعرات العرب الذين يحضرون الوقائع ويحرضون على القتال ولها أشعار قالتها في أختها هرم -المذكور- حين قتله ورد بن حابس العبسي في حرب داحس:
يا لهف قلبي لهفة المفجوع ... أن لا أرى هرما على مودوع
من أجل سيدنا ومصرع جنبه ... علق الفؤاد بحنظل مجدوع
وقالت فيه أيضا:
دعته المنايا دعوة فأجابها ... وجاور لحدا خارجا في الغماغم
عيشة راحوا يحملون سريره ... تعاوره أصحابه في التزاحم
فإن يك غالته المنايا ورببها ... فقد كان معطاء كثير التراحم
ولها أيضا:
الواهب المائة التلا ... دلنا ويكفينا العظيمة(1/518)
والدافع الخصم الألد ... إذا تفوضح في الخصومة
بلسان لقمان بن عا ... د وفصل خطبته الحكيمة
ألجمتهم بعد التجا ... ذب والتدافع في الحكومة
نزهون الغرناطية
جوهرة لم يسمح الدهر, وفريدة فاقت على نساء العصر, فما الآداب إلا نقطة من بحرها الرائق, وما الجمال إلا من نور وجهها الشارق. لها ناد لم يؤمه إلا الأفاضل, ومجلس لم يجتمع فيه إلا كل عاقل, وكانت لطيفة المسامرة, حسنة المحاضرة, حافظة لأشعار العرب وأمثالها, ولم يكن بغرناطة إذ ذاك أحد من أمثالها, وهي من أهل المائة الخامسة ذكرها الحجازي في "المسهب" ووصفها بخفة الروح والانطباع الزائد والحلاوة وحفظ الشعر والمعرفة بضرب الأمثال, مع جمال فائق وحسن رائق, وكان الوزير أبو بكر بن سعيد أولع الناس بمحاضرتها ومذاكرتها ومراسلتها فكتب لها مرة:
يا من له ألف خل ... من عاشق وصديق
أراك خليت للنا ... س منزلا في الطريق
فأجابته:
حللت أبا بكر محلا منعته ... سواك وهل غير الحبيب له صدري
وإن كان لي كم من حبيب فإنما ... يقدم أهل الحق حب أبي بكر
ولما قال فيها المخزومي:
على وجه نزهون من الحسن مسحة ... وتحت الثياب العار لو كان باديا
قواصد نزهون توارك غيرها ... ومن قصد البحر استقل السواقيا
قالت:
إن كان ما قلت حقا ... من بعد عهد كريم
وصرت أقبح شيء ... في صورة المخزوم
فصار ذكري ذميما ... يعزى على كل لوم
وقال لها بعض الثقلاء ما على من أكل معك خمسمائة سوط فقالت:
وذي شقوة لما رآني له ... تمنيه أن يصلي معي جاحم الضرب
فقلت له كلها هنيئا فإنما ... خلقت إلى لبس المطارف والشرب
وقد اجتمعت مرة مع ابن قزمان في دار الوزير أبي بكر فقالت له عقب ارتجال بديع -وكان يلبس جبة صفراء-: أحسنت يا بقرة بني إسرائيل إلا أنك لا تسر الناظرين. فقال لها: إن لم أسر الناظرين فأنا أسر السامعين, وإنما(1/519)
يطلب سرور الناظرين منك يا فاعلة يا صانعة. وتمكن السكر من ابن قزمان وآل الأمر إلى أن تدافعوا معه حتى رموه في البركة, فما خرج إلا وهو قد شرب كثيرا من الماء ثيابه تهطل.
فقال: اسمع يا وزير, وقال له أبياتاً, أضربنا عنها لعدم اللزوم وخروجها عن حد الآداب, فأمر له بما يليق من الثياب وأجزل له الصلة وكانت تقرأ على أبي بكر المخزومي الأعمى, فدخل عليها أبو بكر الكندي فقال يخاطب المخزومي: لو كنت تبصر من تجالسه فأفحم وأطال الفكر فما وجد شيئا فقالت نزهون: لغدوت أخرس من جلالته البدر يطلع من أزرته والغصن يمرح في غلالته ومن شعرها:
لله در الليالي ما أحيسنها ... وما أحيسن منها ليلة الأحد
لو كنت حاضرنا فيها وقد غفلت ... عين الرقيب فلم تنظر إلى أحد
نعمى جارية ظريف بن نعيم
كانت أدبية ظريفة ذات جمال زاهر, ولطف باهر. وكان سيدها شغف بها شديدا, فلما كان يوم وهو جالس في داره إذا بشرطة الحجاج دخلت عليه فأخذوه حتى أدخلوه عليه فقال: علي بالجارية. فقال أصلح الله الأمير إنها روحي فلا تكن سبب هلاكي, فأمر بالقبض عليه وأرسل من جاء بالجارية, فلما رآها علم أنها لا تبقى له إن عرف الخليفة بأمرها فوجه بها إلى الشام من ليلتها إلى عبد الملك وحبس الشاب, فلما زال عقله أطلقه وأخذ ماله وتوجه الشاب إلى دمشق فأقام بها مدة متنغص الحياة, فأراد أن يحتال على الاجتماع بالجارية فلم يمكن فوقع في رقعة أن رأى أمير المؤمنين أن يأمر جاريته نعمى أن تغني لي ثلاثة أصوات اقترحتها, ثم يفعل ما يشاء أن يفعل, فلما قرأ القصة اشتد غضبه, ثم عاوده الحلم, فلما انصرف أحضر الشاب والجارية وقال: مرها بما شئت. فقال لها: غني قول قيس بن ذريح:
لقد كنت حسب النفس لو دام وصلنا ... ولكنما الدنيا متاع غرور
سأبكي على نفسي بعين غزيرة ... بكاء حزين في الوثاق أسير
وكنا جميعا قبل أن يظهر النوى ... بأنعم حالي غبطة وسرور
فما برح الواشون حتى بدت لنا ... بطون الهوى مقلوبة بظهور
فغنت فمزق أثوابه, ثم قال لها غني قول جميل:
فيا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... كليلتنا حتى نرى ساطع الفجر
تجود علينا بالحديث وتارة ... تجود علينا بالرضاب من الثغر
فليت إلهي قد قضى ذاك مرة ... ويعلم ربي عند ذلك ما شكري
ولو سألت مني حياتي بذلتها ... وجدت بها أن كان ذلك من أمري(1/520)
فغنت فغشي عليه ثم أفاق فقال: غني قول المجنون:
عرضت على نفسي العزاء فقيل لي ... من الآن فايأس لا أعزك من صبر
إذا بان من تهوى وأصبح نائيا ... فلا شيء أجدى من حلولك في القبر
فلما غنت قام فألقى نفسه من شاهق فمات. فقال عبد الملك: لقد عجل على نفسه, أيظن أني أخرجت جارية وأعود فيها خذها يا غلام فأعطها لورثته. أو فتصدقوا بها عليه, فلما نزلوا بها نظرت إلى حفيرة معدة للسيل فجذبت يدها من الغلام وهي تقول:
من مات عشقا فليمت هكذا ... لا خير في عشق بلا موت
وأقلت نفسها في الحفيرة فماتت.
السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي الطالب
قال المقريزي: إن أمها أم ولد تزوجها إسحاق بن جعفر الصادق بن محمد الباقر فولدت له ولدين: القاسم وأم كلثوم ولم يعقبا وبعده تزوجت بالحسن بن زيد فولدت له نفيسة, وكانت نفيسة من الصلاح والزهد على الحد الذي لا مزيد عليه فيقال: إنها حجت ثلاثين حجة وكانت كثيرة البكاء تديم قيام الليل وصيام النهار فقيل لها: ألا ترفقين بنفسك؟ فقالت: كيف أرفق بنفسي وأمامي عقبة لا يقطعها إلا الفائزون, وكانت تحفظ القرآن وتفسيره, وكانت لا تأكل إلا في كل ثلاث ليال أكلة واحدة وذكر أن الإمام الشافعي -رضي الله عنه- زارها من وراء الحجاب وقال لها: ادعي لي وكان (ب) صحبته عبد الله بن عبد الحكم وماتت -رضي الله عنها- بعد موت الإمام الشافعي بأربع سنين. وقيل: إنها كانت فيمن صلى على الإمام الشافعي -رضي الله عنه- وقد توفيت في شهر رمضان سنة ثمان ومائتين للهجرة ودفنت في منزلها المعروف بخط درب السباع بمصر ويقال: إنها حفرت قبرها هذا وقرأت فيه مائة وسبعين ختمة وإنها لما احتضرت خرجت من الدنيا وقد انتهت في حزبها إلى قوله تعالى: (قل لمن ما في السموات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة) (الأنعام: 12) ففاضت نفسها مع قوله تعالى: (الرحمة) (الأنعام: 12) , وكان سبب دخولها إلى مصر كما قال ابن خلكان: إنها دخلت مصر مع زوجها إسحاق بن جعفر وقيل: مع أبيها الحسن, وإنها لما استقر بها المقام ودخل الشافعي إلى مصر حضر إليها وسمع عليها الحديث وكان للمصريين فيها اعتقاد عظيم وهو إلى الآن باق كما كان, ولما توفي الإمام الشافعي أدخلت جنازته إليها وصلت عليه في دارها. ولما ماتت عزم زوجها على حملها إلى المدينة فسأله المصريون بقاءها عندهم ودفنت في الموضع المعروف بها الآن.
وقال الشيخ محمد الصبان في كتابه إسعاف الراغبين إن السيدة نفيسة -رضي الله عنها- ولدت بمكة سنة خمس وأربعين ومائة ونشأت بالمدينة في العبادة والزهد وكانت ذات مال ولما ورد الشافعي إلى مصر كانت(1/521)
تحسن إليه وربما صلى بها في رمضان. ولما قدمت مصر كانت بها بنت عمها السيدة سكينة ولها بها الشهرة التامة فخلعت عليها الشهرة, فصار للسيدة نفيسة القبول التام بين الخاص والعام, وماتت وهي صائمة فألزموها الفطر فقالت: وا عجباه لي منذ ثلاثين سنة أسأل الله تعالى أن ألقاه وأنا صائمة أأفطر الآن هذا لا يكون؟! ثم قرأت سورة الأنعام. فلما وصلت إلى قوله تعالى: (لهم دار السلم عند ربهم) (الأنعام: 127) ماتت ودفنت بمدفنها المشهور الآن.
وقال السخاوي في كتاب المزارات إن سبب قدوم السيدة نفيسة إلى مصر أنها حجت ثلاثين حجة, وفي الحجة الأخيرة توجهت مع زوجها إلى بيت المقدس, فزارت قبر الخليل إبراهيم, وأتت مع زوجها مصر في رمضان سنة ثلاث وتسعين ومائة وكان لقدومها إلى مصر أمر عظيم تلقاها الرجال والنساء من العريش, ونزلت أولا عند كبير التجار بمصر وهو جمال الديم عبد الله بن الجصاص وكان من أصحاب المعروف والبر, فأقامت عنده شهورا يأتي إليها الناس من سائر الآفاق للتبرك, ثم تحولت إلى مكانها المدفونة به وهبه لها أمير مصر السري بن الحكم وسبب ذلك أن بنتا يهودية زمنة تركتها أمها عندها وذهبت إلى الحمام فقدر الله شفاءها على يد السيدة -رضي الله عنها- وعند ذلك أسلمت البنت وأبواها وجماعة من الجيران يبلغ عددهم نحو السبعين نفرا, ولما شاع ذلك لم يبق أحد في مصر, إلا قصد زيارتها وكثر الناس على بابها فطلبت الرحيل إلى بلاد الحجاز فشق على أهل مصر ذلك وسألوها الإقامة فأبت, فركب إليها السري بن الحكم وسألها الإقامة فقالت: إني امرأة ضعيفة وقد شغلوني عن عبادة ربي ومكاني قد ضاق بهذا الجمع الكثيف. فقال لها السري: أما ضيق المكان فإن لي دارا واسعة بدرب السباع فأشهد الله أني قد وهبتها لك وأسألك أن تقبليها مني, وأما الجموع الوافرة فقرري معهم أن يكون ذلك يومين في كل أسبوع وباقي أيامك في خدمة مولاك فجعلت لهم السبت ويوم الأربعاء إلى أن توفيت. وقد أقبل على زيارتها في الحياة وبعد الممات خلق كثير لا يحصون من العلماء والخلفاء والأولياء وغيرهم وقيل: إن الحنفي كان يقول عند زيارتها السلام والتحية والإكرام من العلي الرحمن على نفيسة الطاهرة المطهرة سلالة البررة وابنة علم العشرة الإمام حيدرة السلام عليك يا ابنة الحسن المسموم أخي الإمام الحسين سيد الشهداء المظلوم السلام عليك يا ابنة فاطمة الزهراء وسلالة خديجة الكبرى -رضي الله تبارك وتعالى عنك وعن جدك وأبيك- وحشرنا في زمرة والديك وزائريك. اللهم بما كان بينك وبين جدها ليلة المعراج اجعل لنا من همنا الذي نزل بنا انفراج, واقض حوائجنا في الدنيا والآخرة يا رب العالمين.
وكان بعض زائريها يقول عند مشهدها:
يا رب إني مؤمن بمحمد ... وبآل بيت محمد بتوال
فبحقهم كن شافعا لي منقذا ... من فتنة الدنيا وشر مآل(1/522)
وكان بعضهم يقول أيضاً:
يا بني الزهراء والنور الذي ... ظن موسى أنه نار قبس
لا أوالي قط من عاداكم ... أنهم آخر سطر في عبس
وبعد وفاتها صارت أرباب الدولة تبني ضريحها الشريف تبركا بمقامها المنيف, فمنهم ذات الحجاب المنيع والقدر الرفيع, والدة السلطان الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب أنشأت رباطا بجوارها والملك الناصر محمد بن قلاوون أمر بإنشاء جامع بخطبة وشيد بناءه, ولما توفي الخليفة أمير المؤمنين أبو العباس أحمد بن العباس المعروف بالأسمر في سنة إحدى وسبعمائة أمر السلطان الناصر أن يدفن بالمشهد النفيسي فدفن هناك وأقيمت عليه قبة.
ومن النوادر التي حصلت في مشهد السيدة نفيسة كما قال الجبرتي في تاريخه والأمير علي باشا مبارك في خططه أنه في سنة ثلاث وسبعين ومائة وألف اجتمع الخدام في المشهد النفيسي بواسطة كبيرهم الشيخ وأظهروا عنزا صغيرا وزعموا أن جماعة أسرى من بلاد النصارى توسلوا بالسيدة نفيسة وأحضروا ذلك العنز لذبحه في الليلة التي يجتمعون فيها للذكر والدعاء ويتوسلون في خلاصهم من الأسر, فاطلع عليهم الكافر فزجرهم وسبهم ومنعهم من ذبح العنز فرأى في المنام رؤيا هائلة فاعتقهم وأعطاهم دراهم وصرفهم مكرمين فحضروا إلى مصر ومعهم العنز فذهبوا بها إلى المشهد النفيسي وكثرت فيه الخرافات وتقاويل الناس فمن قائل: إنهم أصبحوا وجدوها عند المقام. ومن قائل: فوق المنارة. ومن قائل: سمعناها تتكلم. ومنهم من يقول: السيدة أوصت عليها وأن الشيخ سمع كلامها من القبر, ثم بعد هذه الشهرة أبرزها الناس وجعلها بجانبه وجعل يقول من الخرافات التي يستجلب بها قلوب الناس ويجمع بها الدنيا وتسامع الناس بذلك وأقبلوا من كل فج رجالا ونساء لزيارتها, وأتوا للشيخ بالنذور والهدايا, وعرفهم أنها لا تأكل إلا قلب اللوز والفستق, ولا تشرب إلا ماء الورد والسكر المكرر, فأتوه من كل جانب بالقناطير من ذلك وعلموا للعنز القلائد والأطواق الذهبية, وافتتنوا بها وشاع ذلك الخبر عند الوزراء والأمراء وأكابر النساء فجعلن يرسلن كل على قدر مقامه من النذور, وازدحمن على زيارتها فأرسل الأمير عبد الرحمن كتخدا إلى الشيخ عبد اللطيف يتلمس منه الحضور إليه بالعنز ليتبرك بها هو وحريمه فركب الشيخ بغلته والعنز في حجره, وصحبته الطبول والبيارق والجم الغفير من الناس حتى دخلوا إلى بيت ذلك الأمير علىتلك الحالة, وصعد بها إلى المجلس وعنده كثير من الأمراء فتملس بها وأمر بإدخالها إلى الحريم للبركة, وكان قد أوصى بذبحها وطبخها, فلما ذبحوها وطبخوها أخرجوها مع الغداء فأكلوا منها وصار الشيخ يأكل والأمير يقول: كل يا شيخ من هذا التيس السمين. فيقول: والله إنه طيب ونفيس, وهو لا يعلم أنه عنزه وهم يتغامزون ويضحكون, فلما أكلوا وشربوا القهوة طلب الشيخ العنز فعرفه الأمير أن الذي كان بين يديه وأكل منه هو العنز, فبهت الشيخ عند ذلك ثم بكته الأمير ووبخه وأمر أن يوضع جلد العنز على عمامته, وأن يذهب به كما جاء بموكبه وبين يديه الطبول والأشائر ووكل به من(1/523)
أوصله إلى محله على الصورة المذكورة وفي ذلك يقول الأديب الكامل والشاعر الناثر عبد الله بن سلامة الأدكاوي:
ببنت رسول الله طيبة الثنا ... نفيسة لذ تظفر بما شئت من عز
ورم من جداها كل خير فإنها ... لطلابها يا صاح أنفع من كنز
ومن أعجب الأشياء تيس أراد أن ... يضل الورى في حبها منه بالعنز
فعاجلها من نور الله قلبه ... بذبح وأضحى الشيخ من أجلها مخزي
نصرة إيلياس غريب
ولدت نصرة غريب بطرابلس الشام عام 1862 م من عائلة غريب وأمها من فاضلات النساء, فورثت منها طيب الأخلاق وصفاء النية ورقة الجانب وكانت وحيدتها فاعتنت بتربيتها وأرضعتها لبان العلوم في أحسن مدارس طرابلس فتمكنت منها المناقب الحسنة بالقدوة والتربية وهذه القوى الثلاث أي الوراثة والقدرة مصدر الأخلاق ودعامتها, فقلما يطيب فرع أصله خبيث, وقلما يخبث فرع أصله طيب.
ولما بلغت السابعة عشرة اقترنت بجناب الوجيه "عزتلو ادوار بيك إيلياس" وسكنا في مدينة الإسكندرية مدة ثم انتقلا إلى مصر القاهرة واشتهرت بين معارفها وسيداتها بالذكاء وصفاء النية, وعزة النفس, وحب الإنسانية. وقيل: إنها كانت تتصدق على الأرامل والمحتاجين الصدقات الكثيرة مع ما كانت عليه من الاقتصاد في النفقات الابتعاد عن الإسراف في المعيشة.
وكانت تعين زوجها في جميع أشغاله وفي تدبير بيتها, ولها الرأي الصائب والقول السديد كما شهد هو نفسه ولما جاءت إلى القاهرة ورأت أن ليس فيها عند الطائفة الأرثوذكسية جمعية خيرية أخذت تحث وجهاء هذه الطائفة على إنشاء جمعية مثل جمعية الإسكندرية لمساعدة المساكين.
وكانت تحب جريدة المقتطف العلمية وتطالعها وتذاكر في بعض مواضيعها, وتلتذ بالمذاكرة العلمية فتصغي إليها بكليتها كمن يفهم دقائق الأمور وكانت كثيرة المالعة دقيقة الانتقاد, وإذا أعجبها كتاب أشارت على صديقاتها بمطالعته وإذا رأت في كتاب ما لا ستحسن ذمته ولامت واضعيه.
وكانت اجتمعت مع مريم مكاريوس وأخريات من الفاضلات يتذاكرن في حالة المرأة الشرقية ووددن أن يعم تعليم البنات وتهذيبهن على أسلوب يصرفهن عن الاكتفاء بقشور التمدن الأوربي ويرغبهن باقتباس الفضائل السامية التي ترفع شأن المرأة وتؤهلها لتربية النوع الإنساني.
ولما كانت على هذه الصفات الحسنة لم تكن طويلة العمر مديدة الحياة حتى كانت تنفع بنات جنسها ولكن اختطفتها المنية وهي في ريعان الشباب فتوفيت مأسوفا عليها من الجميع.(1/524)
نوار بنت أعين بن صعصعة
ابن ناجية بن عقال المجاشعي كانت أحسن نساء زمانها وجها وأجملهن خلقا, وأفصحهن منطقا. وكانت ذات أدب زائد, ومعرفة تامة بالأوابد, مكرمة عند قومها مسموعة الكلمة فيهم تزوج بها الفرزدق -الشاعر المشهور- رغما عنها. قيل: إن سبب زواجها به أنه كان خطبها رجل من بني عبد الله بن دارم فرضيت به وكان الفرزدق وليها وهو ابن عمها, فأرسلت إليه أن زوجني من هذا الرجل. فقال لها: لا أفعل إلا أن تشهدي بأنك قد رضيت بمن أزوجك به ففعلت.
فلما توثق منها قال: أرسلي إلى القوم أن يأتوا, فجاء بنو عبد الله بن دارم فلما اجتمعوا في مسجد بني مجاشع وجاء الفرزدق فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: قد علمتم أن النوار قد ولتني أمرها وأشهدكم أني قد زوجتها نفسي على مائة ناقة حمراء سوداء الحدق فنفرت من ذلك وأرادت الشخوص إلى عبد الله بن الزبير حين أعياها أهل البصرة أن لا يطلقوها من الفرزدق حتى يشهد لها الشهود, وأعياها الشهود أن يشهدوا لها اتقاء الفرزدق وابن الزبير يومئذ أمير الحجاز والعراق يدعي له بالخلافة فلم تجد من يحملها إليه, وأتت فتية من بني عدي بن عبد مناة ويقال لهم: بنو أم النسير فسألتهم برحم تجمعهم وكانت بينها وبينهم قرابة فأقسمت عليهم ليحملنها, فحملوها فبلغ ذلك الفرزدق فاستنهض عدة من أهل البصرة فأنهضوه وأوقروا له عدة من الإبل وأعين بنفقة فتبع النوار. وقال:
لولا أن يقول بنو عدي ... ألم تك أم حنظلة النوار
أتتكم يا بني ملكان عني ... قواف لا تقسمها البحار
وقال فيهم أيضا:
لعمري لقد أردي النوار وساقها ... إلى اليوم أحلام خفاف عقولها
أطاعت بني أم النسير فأصبحت ... على قتب يعلو الفلاة دليلها
وقد سخطت مني النوار الذي ارتضى ... به قلبها الأزواج خاب رحيلها
وإن امرأ أمسى يخبب زوجتي ... كساع إلى أسد الشرى يستبيلها
ومن دون أبواب الأسود بسالة ... وبسطة أيد يمنع الضيم طولها
وإن أمير المؤمنين لعالم ... بتأويل ما أوصى العباد رسولها
فدونكها يا ابن الزبير فإنها ... مولعة يوهى الحجارة قيلها
وما جادل الأقوام من ذي خصومة ... كورها مشنوء إليها حليلها
فأدركها وقد قدمت مكة فاستجارت بخولة بنت منظور بن زبان الفزاري وكانت عند عبد الله بن الزبير, فلما قدم الفرزدق إلى مكة اشرأب الناس غليه ونزل على بني عبد الله بن الزبير فاستنشدوه واستحدثوه فكان مما أنشدهم قوله:(1/525)
أمسيت قد نزلت بحمزة حاجتي ... إن المنوه باسمه الموثوق
بأبي عمارة من وطئ الحصى ... وجرت له في الصالحين عروق
بين الحواري الأغر وهاشم ... ثم الخليفة بعد والصديق
وقال أيضا:
يا حمز هل لك في ذي حاجة عرضت أنصاره بمكان غير ممطور
فأنت أحرى قريش أن تكون لها ... وأنت بين أبي بكر ومنظور
بين الحوراي والصديق في شعب ... صبتين في طلب الإسلام والخير
ثم شفعوه إلى أبيهم فجعل يقبل شفاعتهم في الظاهر حتى إذا جاء إلى خولة قلبته عن رأيه فمال إلى النوار فقال الفرزدق في ذلك:
أما بنوه فلم تقبل شفاعتهم ... وشفعت بنت منظور بن زبانا
ليس الشفيع الذي يأتيك مؤتزرا ... مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا
فبلغ ذلك ابن الزبير فدعا بالنوار فقال: إن شئت فرقت بينكما أقتله فلا يهجونا أبدا, وإن شئت سيرته إلى بلاد العدو فيقتل فقالت: لا أريد واحدة منهما. فقال لها: إنه ابن عمك وهو فيك راغب فأزوجك إياه, فقالت -وقد فضلت عذابها على هلاكه-: نعم قد رضيت. فدعا بالفرزدق.
وقال له: جئني بصداق النوار وإلا فرقت بينكما فقال الفرزدق: أنا في بلاد غربة فكيف أصنع وأنك تحكم علي لتثب عليها وتصطفيها لنفسك, وكان ابن الزبير حديدا. فقال لها: هل أنت وقومك إلا جالية العرب. ثم أمر فأقيم الفرزدق من مجلسه وأقبل على من حضر فقال: إن بني تميم كانوا وثبوا على البيت قبل الإسلام بمائة وخمسين سنة فاستلبوه فأجمعت العرب بما انتهكت منه ما لم ينتهكه أحد قط فأجلتها من أرض تهامة, ثم حتم على الفرزدق إن لم يحضر صداقها ليقتلنه شر قتله فبلغ ذلك الفرزدق فقال: إن ابن الزبير يعيرنا بالجلاء ثم قال:
فإن تغضب قريش ولتغضبي ... فإن الأرض توعبها تميم
هم عدد النجوم وكل حي ... سواهم لا تعد لهم نجوم
ولولا بيت مكة ما ثويتم ... بما صبح المنابت والأروم
بها كثر العديد وطاب منكم ... وغيركم أخيذ الريش هيم
فهلا عن تعلل من غدرتم ... بخونته وعذبه الحميم
فعبد الله مهلا عن أذاتي ... فإني لا الضعيف ولا السؤم
ولكني صفاة لم تدنس ... تزل الطير عنها والعصوم
أنا ابن العاقر الخور الصفايا ... يضنوا حين فتحت العلوم
فبلغ هذا الشعر ابن الزبير فأسره في نفسه وخرج يوما للصلاة فرأى الفرزدق في طريقه فعمد إلى عنقه(1/526)
فكاد يدقها.
وقال له: لا بد أن تنفذ حكمي فتركه لا يعي ما يفعل, فقيل له: عليك بسلم بن زياد فإنه محبوس في السجن يطالبه ابن الزبير بمال فذهب إليه وقص عليه قصته.
فقال له: كم صداقها؟ قال: أربعة آلاف دينار فأمر له بها وبألفين للنفقة فقال الفرزدق في ذلك:
دعي مغلق الأبواب دون فعالهم ... ولكن تمشي بي هبلت إلى سلم
إلى من يرى المعروف سهلا سبيله ... ويفعل أفعال الرجال التي تمني
ولما ذهب إلى ابن الزبير ونقده المال سلمها له ومالها معها فقال الفرزدق: خرجنا ونحن متناغضان فعدنا ومحن متحابان وأنشد يقول لها:
هلمي لابن عمك لا تكوني ... كمختار على الفرس الحمارا
فجاء بها إلى البصرة فقال جرير:
ألا لا تلم عرس الفرزدق جامحا ... فلو رضيت رمح استه لاستقرت
فقال الفرزدق مجيبا له:
وأمك لو لاقيتها بي مرة ... وجاءت بها جرف إستها لاستقرت
وقيل: إنها لما كرهت الفرزدق حين زوجها نفسه لجأت إلى بني قيس بن عاصم فقال فيها:
بني عاصم لا تجنبوها فإنكم ... ملاجئ للسوءات دسم العمائم
بني عاصم لو كان حيا أبوكم ... للام بنيه اليوم قيس بن عاصم
فبلغهم ذلك الشعر وقالوا له: والله لئن زدت على هذين البيتين لنقتلنك غيلة: وكانت النوادر دائما تتخاصم معه وتغضب منه وتنفر عنه ومكثت معه زمانا طويلا, وهي في نكد وعدم راحة.
وكانت عندما تغضب منه تقول: ويحك أنت تعلم إنك إنما تزوجتني ضغطة وخدعة علي ولم تزل في كل ذلك على مضض حتى حلفت اليمين الموثق, ثم حنثت بها وتجنبت فراشه فتزوج عليها امرأة يقال لها: جهيمة من بني النمر بن قاسط حلفاء لجرير بن عباد بن ضبيعة فجعل يأتي النوار وبه ردغ وعليه الأثر فقالت له النوار: هل تزوجها إلا هدادية؟ -تعني حيا من بني أزد بن عمان- فقال الفرزدق:
تريك نجوم الله والشمس حية ... كرام بنات الحارث بن عباد
أبوها الذي قاد النعامة بعدما ... أبت وائل في الحرب غير تمادي
نساء أبوهن الأغر ولم تكن ... من الأزد في جاراتها وهداد
ولم يك في الحي الغموض محلها ... ولا في العمانيين رهط زياد
عدلت بها مثل النوار فأصبحت ... وقد رضيت بالنصف بعد بعاد
ولم تزل النوار بالفرزدق ترفق به وتستعطفه حتى أجابها إلى طلاقها وأخذ عليها أن لا تفارقه ولا تبرح من منزله ولا تتزوج غيره بعده ولا تمنعه من مالها ما كانت تبذله له.
وأخذت عليه أن يشهد الحسن(1/527)
البصري على طلاقها فأجابها لذلك واستصحب معه رواية أبي شفقل وراوية أخرى وصحبت النوار رجالا كثيرة كانوا يلوذون بالسواري خوفا من الفرزدق أن يراهم, فساروا جميعا حتى أتوا الحسن البصري.
فقال له الفرزدق: يا أبا سعيد, اشهد أن النوار طالق ثلاثا. فقال الحسن: قد شهدنا فلما انصرفوا.
قال الفرزدق لأبي شفقل: قد ندمت. فقال له: والله إني لأظن أن دمك يترقرق, أتدري من أشهدت! -يعني بذلك الحسن البصري- والله لئن رجعت لترجمن بالأحجار ومضى وهو يقول:
ندمت ندامة الكسعي لما ... غدت مني مطلقة نوار
ولو أني ملكت يدي وقلبي ... لكان علي للقدر الخيار
وكانت جنتي فخرجت منها ... كآدم حين أخرجه الضرار
وكنت كفاقئ عينيه عمدا ... فأصبح ما يضيء له النهار
وقيل: إن النوار أوصت الفرزدق قبل موتها أن يصلي عليها الحسن البصري فأخبره الفرزدق في ذلك.
فقال له: إن كانت وفاتها قبلنا فأخبرني بها فكان كذلك, وقد توفيت وأخرجت وجاء الحسن البصري وسبقهما الناس, فانتظروهما. فأقبلا والناس منتظرون, فقال الحسن: ما للناس؟ فقال الفرزدق: ينتظرون خير الناس وشر الناس. فقال الحسن: لست بخير الناس ولا شرها, ثم صلوا عليها ودفنوها.
وقال له الحسن: ما أعددت لهذا المضجع؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ سبعين سنة, ثم نظر إلى قبر النوار وأنشد:
لقد خاب من أولاد آدم من مشى ... إلى النار مغلول القلادة أزرقا
أخاف وراء القبر إن لم يعافني ... أشد من القبر التهابا وأضيقا
إذا جاءني يوم القيامة قائد ... عنيف وسواق يقود الفرزدق
نيكتورسيس
هي ملكة فرعونية من ملوك مصر وهي من ملوك الدولة السادسة المصرية, كانت أكثر نساء عصرها لطفا وجمالا, وأشهر بنات مصرها فضلا وكمالا, وأغزر علماء زمانها عقلا ودهاء, وأوفر الناس حزما وذكاء قيل: إن المصريين أشربوا حبها وفتنوا بها, فأدخلوها بعد الممات في مصاف المعبودات.
ومما ذكر عن دهائها أن فريقا من رجال الدولة وثبوا على أخيها وقتلوه إذ كان ملكا قبلها وكان ذلك منهم بغيا وظلما ولما خلفته على العرش دعت الباغين لمأدبة أعدتها لهم في قصر عظيم جميل قائم على أخدود بجوار نهر النيل ولما مدت الأسمطة وابتدأوا بالطعام وآلات الطرب عازفة تبدد بألحانها كتائب الأشجان, وتغنيهم بأغاريد تغنيهم عن ارتشاف سلافة ألحان, أمرت إذ ذاك بماء نهر النيل فنساب عليهم حتى أغرقهم عن آخرهم وكانوا زهاء الخمسين فلقوا كنودهم الذميم, وأملت عليهم إن كيد عظيم:
وما من يد إلا يد الله فوقها ... وما ظالم إلا سيبلى بأظلم(1/528)
حرف الهاء
هاجر زوجة إبراهيم الخليل عليه السلام
كانت جارية مصرية ذات هيئة جميلة قد وهبها فرعون ملك مصر لسارة زوجة إبراهيم -عليه السلام- حينما كانت عنده وقد وهبتها سارة لإبراهيم -عليه السلام- وقالت له: إني أراها امرأة وضيئة فخذها لعل الله تعالى يرزقك منها ولدا فتزوجها إبراهيم وقد رزقه الله منها إسماعيل -عليه السلام- وذهب بهما إلى مكة لسبب أن إسحاق بن سارة اقتتل مع إسماعيل ذات يوم كما تفعل الصبيان فغضبت سارة على هاجر وقالت: لا تساكنيني في بلد وأمرت إبراهيم بعزلهما عنها وقد أوحى الله إليه أن يأتي بهما مكة ففعل وأنزلهما موضع الحجر وأمرهما أن تتخذ عريشا ثم قال: (ربنا) (إبراهيم: 37) (إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلوة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) (إبراهيم: 37) ثم انصرف فاتبعته هاجر فقالت: إلى من تكلنا؟ فجعل لا يرد عليها شيئاً فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم, قالت: إذا لا يضيعنا. ثم انصرف راجعاً إلى الشام وكان مع هاجر قربة فيها ماء فنفد الماء فعطشت وعطش الصبي, فنظرت إلى الجبال التي أدنى من الأرض فصعدت إلى الصفا وتسمعت لعلها تسمع صوتا أو ترى أنيسا فلم تسمع شيئا ولم تر أحدا, ثم إنها سمعت أصوات سباع الوادي نحو إسماعيل فأقبلت إليه بسرعة لتؤنسه, ثم إنها سمعت صوتا نحو المروة فسعت وما تدري السعي كالإنسان المجهد فهي أول من سعى بين الصفا والمروة. ثم صعدت المروة فسمعت صوتا كالإنسان الذي يكذب سمعه منه حتى استيقنت وجعلت تدعو اسمع اييل -يعني يا الله- قد أسمعتني صوتا فأغثني فقد هلكت ومن معي فإذا هي بجبريل -عليه السلام- فقال لها: من أنت؟ فقالت: سرية إبراهيم -عليه السلام- تركني ههنا. قال: وإلى من وكلكما؟ قالت: وكلنا إلى الله تعالى. قال: فقد وكلكما إلى كاف ثم جاء بهما وقد نفد طعامهما وشرابهما حتى انتهى بهما إلى موضع "زمزم" فضرب بقدمه ففارت عين (فلذلك يقال: لزمزم ركضة جبريل عليه السلام) .
فلما نبع الماء أخذت هاجر قربة لها وجعلت تسقى فيها تدخره فقال لها جبريل -عليه السلام-: إنها روى. وجعلت أم إسماعيل تجعلها بئرا بحيث لا يخرج منها الماء إلى خارجها خوفا من نفادها. فقال لها جبريل: لا تخافي الظمأ على أهل هذه البلدة فإنها عين لشرب ضيفان الله تعالى. وقال لها: أما إن أبا هذا الغلام سيجيء فيبنيان لله تعالى بيتا هذا موضعه. قالوا: ومرت رفقة من "جرهم" تريد الشأم فرأوا الطير على الجبل فقالوا: إن هذا الطير لحائم على ماء فأشرفوا فإذا هم سكان مكة حتى شب إسماعيل وماتت هاجر قبل سيدتها سارة ودفنت في الحجز.
هجيمة أم الدرداء
كانت فقيهة عاقلة جليلة. وهي أم بلال بن أبي الدرداء. قيل: خطبها معاوية بعد أن توفي زوجها, فلم تجب وروى(1/529)
عنها جماعة من التابعين الكبار, وكانت تقيم ببيت المقدس ستة أشهر.
وبدمشق ستة أشهر, وكانت تجلس للصلاة في صفوف الرجال, وكانت تحب مجالس العلماء. وكانت تقول: "أفضل العلم المعرفة". وتقول: "تعلموا الحكمة صغارا تعلموا بها كبارا".
وكانت لا تفتر عن الصلاة ملازمة للعبادة. وكانت معظمة عند بني أمية, وتوفيت بعد أبي الدرداء بدمشق ودفنت بباب الصغير.
هزيلة الجديسية
كانت بنو طسم بن لوز بن أزهر بن سام بن نوح وبنو جديس بن عامر بن أزهر بن سام بن نوح ساكنين في موضع اليمامة, وكان اسمها حينئذ "جوا", وكانت من أخصب البلاد وأكثرها خيرا وكان ملكهم أيام ملوك الطوائف عمليقا, وكان ظالما وقد تمادى في الظلم وإن هزيلة هذه طلقها زوجها وأراد أخذ ولدها منها فخاصمته إلى عمليق وقالت: أيها الملك, حملته تسعا ووضعته دفعا وأرضعته شفعا حتى إذا تمت أوصاله ودنا فصاله أراد أن يأخذه مني كرها.
ويتركني بعده ورها. فقال زوجها: أيها الملك, أعطيت مهرها كاملا ولم أصب منها طائلا إلا وليدا خاملا فافعل ما أنت فاعل. فأمر الملك بالغلام فصار في غلمانه وأن تباع المرأة فيعطى زوجها خمس ثمنها ويباع الرجل وتعطى المرأة عشر ثمن زوجها فقالت: هزيلة:
أتينا أخا طسم ليحكم بيننا ... فأنفذ حكما في هزيلة طالما
لعمري لقد حكمت لا متورعا ... ولا كنت فيمن يبرم الحكم عالما
ندمت ولم أندم وأني بعترتي ... وأصبح بعلي في الحكومة نادما
فلما سمع عمليق قولها أمر أن لا تزوج بكر من جديس وتهدى إلى زوجها حتى يفترعها, فلقوا من ذلك بلاء وجهدا وذلا ولم يزل يفعل ذلك حتى تزوجت الشموس وهي عفيرة بنت عفار وقيل: يعفر, وقيل عبار أخت الأسود, فلما أراد حملها إلى زوجها انطلقوا بها إلى عمليق لينالها قبله ومعها الفتيان, فلما دخلت عليه افترعها وخلى سبيلها فخرجت إلى قومها تعتثر في دمائها وقد شقت درعها من قبل ومن دبر والدم يبين وهي في أقبح منظر تقول:
لا أحد أذل من جديس ... أهكذا يفعل بالعروس
يرضى بذا يا قوم بعل حر ... أهدى وقد أعطى وسيق المهر
وقالت أيضا لتحريض قومها:
أيجمل ما يؤتى إلى فتيانكم ... وأنتم رجال فيكم عدد, النمل
وتصبح تمشي في الدماء عفيرة ... جهارا وزفت بالنساء إلى بعل
ولو أننا كنا رجالا وكنتم ... نساء لكنا لا نقر لذا الفعل
فموتوا كراما أو أميتوا عدوكم ... وذبو النار الحرب بالحطب الجزل(1/530)
وإلا فخلوا بطنها وتحملوا ... إلى بلد قفر وموتوا من الهزل
فللبين خير من مقام على الأذى ... وللموت خير من مقام على الذل
وإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه ... فكونوا نساء لا تغيب عن الكحل
ودونكم طيب النساء فإنما ... خلقتم لأثواب العروس وللغسل
فبعدا وسحقا للذي ليس دافعا ... ويختال يمشي بيننا مشية الفحل
فلما سمع أخوها الأسود قولها: وكان سيدا مطاعا. قال لقومه: يا معشر جديس, إن هؤلاء القوم ليسوا بأعز منكم في داركم لا يملك صاحبهم علينا وعليهم ولولا عجزنا لما كان له فضل علينا ولو امتنعنا لانتصفنا منه فأطيعوني فيما آمركم فإنه عز الدهر وقد حمى جديس لما سمعوا من قولها فقالوا: نطيعك ولكن القوم أكثر منا! قال: فإني أصنع للملك طعاما وأدعوه وأهله إليه فإذا جاءوا يرفلون في الحلل أخذنا سيوفنا وقتلناهم. فقالوا: افعل فصنع وجعله التلد ودفن وهو وقومه سيوفهم في الرمل, ودعا الملك وقومه فجاءوا يرفلون في حللهم, فلما أخذوا مجالسهم ومدوا أيديهم يأكلون أخذت جديس سيوفهم وقتلوهم وقتلوا ملكهم وقتلوا بعد ذلك السفلة منهم وقد نجى الله هذه القبيلة بسبب تلك الفتاة.
هند أم سلمة
بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم المخزومية وأمها عائلة بنت عامر بن ربيعة كانت امرأة لأبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد وهاجر بها إلى أرض الحبشة في الهجرتين, فولدت له هناك زينب ثم ولدت سلمة ودرة وعمر قيل: إنها لما هاجرت إلى المدينة.
قالت: حينما أجمع أبو سلمة الخروج رحل بعيرا له وحملني وحمل معي ابني سلمة, ثم خرج يقود بعيره, فلما رآه رجال بني المغيرة قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها أرأيت صاحبتنا هذه علام تترك تسير بها في البلاد ونزعوا خطام البعير من يده وأخذوني وغضبت عند ذلك بنو عبد الأسد رهط أبي سلمة وأهووا إلى سلمة, وقالوا: والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا فتجاذبوا ابني سلمة حتى خلعوا يده وانطلق به بنو عبد الأسد وحبسني بنو المغيرة عندهم وانطلق زوجي أبو سلمة حتى لحق بالمدينة وبذلك فرقوا بيني وبين زوجي وولدي, فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح فما أزال أبكي حتى أمسي سنة أو قريبها حتى مر بي رجل من بني عمي من بني المغيرة فرأى ما بي فرحمني فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة لزوجها؟ فرقتم بينها وبينه وبين ابنها! فقالوا لي: الحقي بزوجك إن شئت.
ولما علم بنو عبد الأسد بذلك ردوا علي ابني فرحلت بعيري ووضعت ابني في حجري, ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة وما معي أحد من خلق الله تعالى فقلت: أتبلغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي إذ كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة أخا بني عبد الدار فقال: أين ابنة بني أمية؟ فقلت: أريد زوجي بالمدينة فقال: هل معك أحد؟ فقلت: لا والله, وابني هذا. فقال: والله ما لك من منزل.
فأخذ بخطام البعيرة فانطلق معي(1/531)
يقودني فو الله ما صبحت رجلا من العرب كان أكرم منه إذا بلغ المنزل أناخ بي ثم تنحى إلى شجرة فاضطجع تحتها فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله, ثم تأجر عني وقال: اركبي فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه فقادني حتى ننزل, فلم يزل يصنع ذلك حتى قدم بي إلى المدينة, فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال: زوجك في هذه القرية وكان أبو سلمة نازلا بها فدخلتها على بركة الله تعالى ثم انصرف راجعا إلى مكة.
وكانت تقول: ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب بيت أبي سلمة وما رأيت صاحبا قط كان أكرم من عثمان بن طلحة وهي أول ظعينة هاجرت إلى المدينة وقيل: إنه لما انقضت عدتها بعث أبو بكر إليها يخطبها عليه فلم تزوجه, فبعث إليها النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب يخطبها عليه فقالت: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أني امرأة غيرى وأني امرأة مصبية وليس أحد من أوليائي شاهدا. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: "ارجع إليها فقل لها: أما قولك إني امرأة مصبية فستكفين صبيانك وأما قولك ليس أحد من أوليائي شاهدا فليس أحد من أوليائك شاهدا أو عاثبا يكره ذلك. وقولك: إنك امرأة غيرى فسندعو الله يصرف عنك الغيرة". فلما بلغها ذلك قالت لابنها عمر: قم فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجه.
وحكي عنها أنها قال: في بيتي نزلت: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (الأحزاب: 33) وكانت من أجمل النساء وشهدت غزوة خيبر وتوفيت بعد قتل الحسين أي سنة 61 للهجرة وقيل: بل توفيت سنة 59 (هـ) وسند الرأي الأول ما يروى من أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أم سلمة ترابا من تربة الحسين حمله إليه جبريل فقال لها: إذا صار هذا التراب دما فقد قتل الحسين, فحفظته في قارورة عندها, فلما قتل الحسين صار التراب دما, فأعلمت الناس بقتله.
وقد روت عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلثمائة حديث وثمانية وعشرين حديثا, وقد عاشت أربعا وثمانين سنة وصلى عليها أبو هريرة ودفنت بالبقيع من أرض الحجاز.
هند بنت النعمان بن بشير
كانت أحسن نساء زمانها خلقا وخلقا, وأدبا ولطفا, وفصاحة. ولها إلمام بالنثر والنظم فوصف للحجاج حسنها فخطبها وبذل لها مالا جزيلا, وتزوج بها وشرط لها عليه بعد الصداق مائتي ألف درهم, وأقام بها بالمعرة مدة طويلة, ثم إنه رحل بها إلى العراق فأقامت معه ما شاء الله ودخل عليها في بعض الأيام, فسمعها تقول وهي واقفة على المرآة:
وما هند إلا مهرة عربية ... سلالة أفراس تجللها بغل
فإن ولدت أنثى فلله درها ... وإن ولدت بغلا فجاء به البغل
فانصرف راجعا ولم تكن علمت به وأراد طلاقها فانفذ إليها عبد الله بن طاهر وأنفذ لها معه مائتي ألف درهم وهي التي كانت لها عليه وقال: يا ابن طاهر طلقها بلكلمتين ولا تزد عليهما فدخل عبد الله بن طاهر(1/532)
فقال لها: يقول لك أبو محمد الحجاج كنت فبنت وهذه المائتا ألف درهم التي كانت لك قبله.
فقالت: اعلم يا ابن طاهر أنا كنا فما حمدنا, وبنا فما ندمنا وهذه المائتا ألف درهم هي لك بشارة بخلاصي من كلب ثقيف, ثم بعد ذلك بلغ عبد الملك بن مروان خبرها ووصف له جمالها فأرسل إليها يخطبها لنفسه فكتبت إليه تقول: بعد الثناء عليه اعلم يا أمير المؤمنين إني لا أجري العقد إلا بشرط فإن قلت: ما الشرط أقول أن يقود الحجاج محملي من المعرة إلى بلدك الذي أنت فيه ويكون ماشيا حافيا بحليته التي كان فيها أولا, فلما قرأ كتابها ضحك ضحكا شديدا.
وأرسل إلى الحجاج بذلك فأجاب ولم يخالف وامتثل الأمر وأرسل إلى هند يأمرها بالتجهيز وسار الحجاج في موكبه حتى وصل المعرة بلد هند فركبت هند في محمل وركب حولها جواريها وخدمها فترجل الحجاج ومشى حافيا, وأخذ بزمام البعير يقوده ويسير بها فأخذت هند تهزأ عليه وتضحك مع الهيفاء دايتها, ثم إنها قالت لدايتها اكشفي لي ستارة المحمل لنشم رائحة النسيم فكشفتها فوقع وجهها في وجهه فضحكت عليه, وأنشدت:
وما نبالي إذا أرواحنا سلمت ... بما فقدناه من مال ومن نشب
فالمال مكتسب والعز مرتجع ... إذا النفوس وقاها الله من عطب
فلما سمع ذلك منها الحجاج قال مجيبا لها:
فإن تضحكي يا هند يا رب ليلة ... تركتك فيها تسهرين نواحا
ولم تزل تلعب وتضحك على أن قربت من بلد الخليفة فرمت من يدها دينارا على الأرض.
وقال: يا جمال, سقط منا درهم فرده إلينا فنظر الحجاج إلى الأرض فلم ير إلا دينارا.
فقال: إنما هو دينار. فقالت: بل درهم. فقال: بل دينار. فقالت: الحمد لله إذ سقط منا درهم فعوضنا الله دينارا فخجل وسكت ولم يرد جوابا, ودخلت على عبد الملك بن مروان فأعجب بها وبجمالها وسفه رأي الحجاج بتخليه عنها ونالت عنده حظوة زائدة.
هند جارية محمد بن عبد الله بن مسلم الشاطبي
كانت أديبة شاعرة كتب إليها أبو عامر بن سعيد يدعوها للحضور عنده بعودها وكانت تحسن ضرب العود بهذين البيتين:
يا هند هل لك في زيارة فتية ... نبذوا المحارم غير شرب السلسل
سمعوا البلابل قد شدت فتذكروا ... نغمات عودك في الثقيل الأول
فكتبت إليه في ظهر رقعته تقول:
يا سيدا حاز العلا عن سادة ... شم الأنوف من الطراز الأول
حسبي من الإسراع نحوك أنني ... كنت الجواب مع الرسول المقبل
سارت إليه كما ودعته وأتموا ليلة قلما يسمح بمثلها الدهر حتى عاجلهم نور الفجر فتفرقوا وكل منهما يسخط(1/533)
على يوم الفراق ويتمنى أن يكون بعدها التلاق.
هند بنت النعمان
ابن المنذر بن امرئ القيس بن النعمان بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة بن عرو بن الحارث بن مسعود بن مالك بن غنم بن نمارة بن لخم.
كانت هند من أجمل نساء أهلها وزمانها وأمها مارية الكندية وكان يهواها عدي بن زيد بن حماد بن زيد بن أيوب الشاعر العبادي ولها يقول:
علق الأحشاء من هند علق ... مستسر فيه نصب وأرق
وهي قصيدة طويلة وفيها أيضا يقول:
من لقلب مدنف أو معتمد ... قد عصى كل نصوح ومعد
وهي طويلة أيضا وفيها يقول:
يا خليلي يسرا التعسيرا ... ثم روحا فهجرا تهجيرا
واعرجا بي على ديار لهند ... ليس إن عجتما المطي كثيرا
وقد تزوجها وكان سبب عشقه لها أنها خرجت في خميس الفصح تتقرب في البيعة, ولها حينئذ إحدى عشرة سنة, وذلك في ملك المنذر وقد قدم عدي حينئذ بهديته من كسرى إلى المنذر والنعمان يومئذ فتى شاب, فاتفق دخولها البيعة, وقد دخلها عدي ليتقرب.
وكانت مديدة القامة, عبلة الجسم, معتدلة القوام فرآها عدي وهي غافلة فلم تنتبه له حتى تأملها وقد كان جواريها رأين عديا وهو مقبل فلم يقلن لها وذلك كي يراها عدي وإنما فعلن هذا من أجل أمة لهند يقال لها مارية قد كانت أحبت عديا فلم تدر كيف تأتي له.
فلما رأت هند عديا ينظر إليها شق عليها ذلك وسبت جواريها ونالت بعضهن بضرب فوقعت هند في نفس عدي فلبث حولا لا يخبر بذلك أحدا.
فلما كان بعد حول وظنت مارية أن هندا قد أضربت عما جرى وصفت لها بيعة رومية ووصفت لها من فيها من الرواهب ومن يأتيها من جواري الحيرة وحسن بنائها وسرجها وقالت لها: سلي أمك الإذن لك في إتيانها فسألتها ذلك فأذنت لها وبادرت مارية إلى عدي فأخبرته الخبر فبادر فلبس قباء كان أهداه له فرخان "شاه مرد", وكان مذهبا لم ير مثله حسنا.
وكان عدي حسن الوجه مديد القامة حلو العينين حسن المبسم نقي الثغر وأخذ معه جماعة من فتيان الحيرة فدخل البيعة, فلما رأته مارية قالت لهند: انظري إلى هذا الفتى فهو والله أحسن من كل ما ترين من البرج وغيرها قالت: ومن هو؟ قالت: عدي بن زيد. قالت: أتخافين أن يعرفني إن دنوت منه لأراه من قريب؟ قالت: ومن أين يعرفك وما رآك قط فلا تخافي من حيث يعرفك؟ فدنت هند منه وهو يمازح الفتيان الذين معه وقد برع عليهم بجماله وحسن كلامه وفصاحته وما عليه من الثياب فذهلت لما رأته, وصارت تنظر إليه, وعرفت مارية ما بها وتبينته في وجهها(1/534)
فقالت لها: كلميه, فكلمته وانصرفت وقد تبعته نفسها وهويته, وانصرف هو بمثل حالها, فلما كان الغد تعرضت له مارية.
فلما رآها هش لها وكان قبل ذلك لا يكلمها وقال لها: ما غدا بك؟ قالت: حاجة إليك. قال: اذكريها فو الله لا تسأليني شيئا إلا أعطيتك إياه فعرفته أنها تهواه وأن حاجتها الخلوة به على أن تحتال له في هند وعاهدته على ذلك فأجاب طلبها, ثم أتت هندا فقالت: أما تشتهين أن تري عديا؟ قالت: وكيف لي به؟ قالت: أعده مكان كذا وكذا في ظهر القصر وتشرفين عليه. قالت: أفعل, فواعدته إلى ذلك المكان. فأتاه وأشرفت هند عليه فكادت أن تموت وقالت: إن لم تدخليه إلي هلكت. فبادرت مارية إلى النعمان فأخبرته خبرها وصدقته الخبر وذكرت أنها قد شغفت به وسبب ذلك رؤيتها إياه في يوم الفصح, وأنه لم يزوجها به افتضحت في أمره وماتت فقال لها: ويلك, وكيف أبدؤه بذلك؟ فقالت: هو أرغب من أن تبدأه أنت, وأنا أحتال في ذلك من حيث لا يعلم أنك عرفت أمره, وأتت عديا فأخبرته الخبر وقالت: ادعه فإذا أخذ الشراب منه فاخطب إليه هندا فإنه غير رادك.
قال: أخشى أن يغضبه ذلك فيكون سبب العداوة بيننا. قالت: ما قلت لك هذا حتى فرغت منه معه. فصنع عدي طعاما واحتفل فيه, ثم أتى النعمان بعد الفصح بثلاثة أيام وذلك في يوم الاثنين فسأله أن يتغدى عنده هو وأصحابه ففعل, فلما أخذ منه الشراب خطبها إلى النعمان فأجابه وزوجه وضمها إليه بعد ثلاثة أيام فكانت معه حتى قتله النعمان فترهبت وحبست نفسها في الدير المعروف بدير هند في ظاهر الحيرة حتى ماتت.
وكانت وفاتها بعد الإسلام بزمان طويل في ولاية المغيرة بن شعبة على الكوفة وخطبها المغيرة، وقد مر بدير هند فنزل ودخل عليها بعد أن استأذن عليها، فأذنت له وبسطت له مسحا، فجلس عليه ثم قالت له: ما جاء بك؟ قال: جئتك خاطباً قالت: والصليب لو علمت أن في خصلة من جمال أو شباب رغبتك في لأجبتك، ولكنك أردت أن تقول في المواسم ملكت مملكة النعمان بن المنذر ونكحت ابنته فبحق معبودك أما هذا أردت. قال إي والله. قالت: فلا سبيل إليه. قال لها: إذا سألتك عن أمور هل أنت مجيبة لي عنها؟. قالت: نعم، قل. فقال: أخبريني ما كان أبوك يقول في هذا الحي من ثقيف.
قالت: ينسبهم من أياد وقد افتخر عنده رجلان من ثقيف أحدهما من بني سالم والآخر من بني يسار، فسألهما عن أنسابهما، فانتسب أحدهما إلى هوزان والآخر إلى أياد. فقال أبي: ما لحي معه على أياد فضل. فخرجا وأبي يقول:
إن ثقيفا لم تكن هوازنا ... ولم تناسب عامر أو مازنا
إلا حديثا أثبت المحاسنا فقال المغيرة: أما نحن، فمن هوازن وأبوك أعلم، ثم قال: أخبريني أي العرب كان أحب إلى أبيك، قالت: أطوعهم له قال: ومن أولئك؟ قالت: بكر بن وائل. قال: فأين بنو تميم؟ قالت: مستفتهم في طاعة. قال فقيس. قالت: ما اقتربوا إليه بما يحب إلا استعقبوه بما يكره. قال: فكيف أطاع فارس؟ قالت: كانت طاعتهم إياه فيما يهوى فاكتفى المغيرة بذلك، ثم قام وانصرف، وقال فيها:(1/535)
أدركت ما منيت نفسي خاليا ... لله درك يا ابنة النعمان
فلقد رددت على المغيرة ذهنه ... إن الملوك نقية الأذهان
يا هند حسبك قد صدقت فأمسكي ... فالصدق خير مقالة الإنسان
هند بنت أثاثة
كان أبوها من أمراء العرب المشهورين بالشجاعة والفروسية والكرم وكانت هي من ذوات الشهامة والمروءة والحكم، أديبة فاضلة، كاملة عاقلة، لها معرفة بالشعر والعروض ومما قالته رثاء في أبيها حين قتل هذه الأبيات:
لقد ضمت العفراء مجداً وسوددا ... وحلماً أصيلاً وافرا للب والعقل
عبيدة فابكيه لأضياف غربة ... وأرملة تهوي لأشعث كالجذل
وبكيه للأقوام في كل شتوة ... إذا احمر آفاق السماء من المحل
وبكيه للأيتام والريح زفزف ... وتشيب قدر طالما أزبدت تغلي
فإن تصبح النيران قد مات ضوءها ... فقد كان يذكيهن بالحطب الجزل
لطارق الليل أو لملتمس القرى ... مستنبح أضحى على رسل
هند بنت زيد بنت مخرمة الأنصارية
كانت أحسن نساء زمانها جمالا, وأوفرهن عقلا وكمالا, وأفصحهن منطقا ومقالا, لها مقالات بليغة وأشعار بديعة، وكانت مع ما هي عليه من التنعم ثبتة الجنان قوية البنية جريئة على الحروب حضرت جملة وقائع مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لأنها كانت من شيعته، وكانت لها غيرة شديدة على علي وأصحابه، وكان كل من قتل ترثيه بمراث جيدة وتحرض القوم على اتباع خطة علي وطالما أراد معاوية أن يوقع بها ولم يتيسر له ذلك.
ولما قتل معاوية حجر بن عدي بن حاتم الطائي أقامت له مآتم ورثته بقصائد طويلة وأشعار غزيرة منها قولها:
ترفع أيها القمر المنير ... تبصر هل ترى حجرا يسير
يسير إلى معاوية بن حرب ... ليقتله كما زعم الأمير
تجبرت الجبائر بعد حجر ... وطاب لها الخورنق والسدير
وأصبحت البلاد لها محولا ... كأن لم يحييها مزن مطير
ألا يا حجر حجر بني عدي ... تلقتك السلامة والسرور
أخاف عليك وما أردى عدياً ... وشيخاً في دمشق له زئير(1/536)
يرى قتل الخيار عليه حقاً ... له من شر أمته وزير
ألا يا ليت حجراً مات موتاً ... ولم ينحر كما نحر البعير
فإن يهلك فكل زعيم قوم ... من الدنيا إلى هلك يصير
ومنها قولها:
دموع عيني ديمة تقطر ... تبكي على حجر ولا تفتر
لو كانت القوس على أسرة ... ما حمل السيف له الأعور
ومنها قولها:
لقد مات بالبيضاء من جانب الحمى ... فتى كان زيناً للكواكب والشهب
يلوذ به الجاني مخافة ما جنى ... كما لاذت العصماء بالشاهق الصعب
تظل بنات العم والخال حوله ... صوادي لا يرون بالبارد العزب
وماتت في خلافة معاوية بعدما وفدت عليه وأكرمها إكراماً زائداً.
هند بن عتبة بن ربيعة بن عبد
شمس بن عبد مناف القرشية
كانت تحت الفاكهة بن المغيرة المخزومي وتزوجت بعده بأبي سفيان ابن حرب وهي أم معاوية.
أسلمت في الفتح بعد إسلام زوجها أبي سفيان وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على نكاحها وكان بينهما في الإسلام ليلة واحدة وكانت امرأة نفس وأنفة ورأي وعقل.
وشهدت أحداً كافرة، وكانت تحرض النسا على القتال وترتجز:
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
مشي القطا البارق
والمسك في المفارق ... والدر في المخانق
إن تقبلوا نعانق
ونفرش النمارق ... وتدبروا نفارق
فراق غير وامق
وتقول أيضاً:
ويها بني عبد الدار ... ويها حماة الأدبار
ضرباً بكل بتار
وكان أبو الدجانة الأنصاري أخذ سيفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهجم على المشركين وألي بلاء حسناً حتى وصل على هند وهي ترتجز وخلفها النساء يضربن الدفوف خلف فالرجال، فأراد أن يعلوها بالسيف ثم امتنع خشية العار.
ثم أنه لما قتل حمزة مثلت به وشقت به واستخرجت كبده فلاكتها، فلم تطق إساغتها، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فدعى عليها وأصابه حزن شديد على ذلك.
ولما بويع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من ضمن كلامه للنساء -وهند معهن-: "تبايعنني على أن لا تشركن بالله شيئاً".
قالت هند: إنك والله لتأخذ علينا م لا تأخذه على الرجال فسنأتيكه. وقال: "ولا تسرقن".
قالت: والله إني كنت لأصيب من مال(1/537)
أبي سفيان الهنة والهنة فقال أبو سفيان -وكان حاضراً: أما ما مضى فأنت منه في حل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أهند؟ " قالت: أنا هند، فاعف عما سلف عفا الله عنك. قال: "ولا تزنين". قالت: وهل تزني الحرة؟ قال: "ولا تقتلن أولادكن" قالت: ربيناهم صغاراً وقتلتهم يوم بدر كبار فأت وهم أعلم. فضحك عمر بن الخطاب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن" قال: والله إن إتيان البهتان لقبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق. قال: "ولا تعصينني في معروف". قالت: ما جلسنا هذا المجلس ونحن نريد أن نعصيك. فقال النبي لعمر: "بايعهن واستغفر لهن" فبايعهن ثم قالت هند للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان لا يعطيها من الطعام ما يكفيها وولدها. فقال: "خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك وولدك". وبعد ذلك شهدت اليرموك مع زوجها وتوفيت في خلافة عمر سنة ثلاث عشرة للهجرة.
وكانت شاعرة أديبة فصيحة. ولها أشعار كثيرة منها ما قالته في أبيها عتبة حين قتل يوم بدر:
أعينني جود بدمع سرب ... على خير خندف إذ ينقلب
تداعى له رهطة غدوة ... بنو هاشم وبنو المطلب
يذوقونه حد أسيافهم ... يفلونه بعد ما قد عطب
يجرون منه عفير التراب ... على وجهه عارياً قد صلب
وكان لنا جبلاً راسياً ... جميل المراح كثير العشب
وأما بري فلم أعنه ... فأوتى من خير ما يحتسب
وقالت أيضاً:
يريب علينا دهنا فيسوءنا ... ويأبى فما نأت بشيء نغالبه
أبعد قتيل من لؤي بن غالب ... يراع امرؤ إن مات أو مات صاحبه
ألا رب يوم قد رزئت مرزأ ... تروح وتغدو بالجزيل مواهبه
فأبلغ أبا سفيان عني مألكاً ... فإن ألقه يوماً فسوف أعاتبه
فقد كان حرب يسعر الحرب إنه ... لكل امرئ في الناس مولى يطالبه
وقالت أيضاً:
لله عينا من رأى ... هلكا كهلك رجاليه
يا رب باك لي غدا ... في النائبات وباكيه
كم غادروا يوم القلي ... ب غداة تلك الداعيه
من كل غيث في السني ... ن إذا الكواكب خاويه
قد كنت أحذر ما أرى ... فاليوم حق خداريه
قد كنت أحذر ما أرى ... فأنا الغداة مراميه(1/538)
يا رب قائلة غداً ... يا ويح أم معاويه
وقالت أيضاً:
يا عين بكي عتبة ... شيخاً شديد الرقبه
يطعم يوم المسغبة ... يدفع يوم الغلبه
إني عليه حربه ... ملهوفة مستلبه
ليهبطن يثربه ... بغارة منشعبه
فيه الخيول مقربة ... كل سواء سلهبه
هند بنت خالد بن نافلة
كانت أشعر نساء زمنها وأحسنهن أدباً، وأكملهن رأياً، وأجملهن وجهاً. قيل: إنها لما قتل ابن أخيها خالد بن حبيب بن خالد ندبته واتبعتها نساء العرب حتى لم ير امرأة من قبيلتها إلا وكانت باكية ورثته بقصائد وأبيات منها قالته يوم مأتمه:
أمسى بواكيك مللن البكى ... وشر عهد الناس عهد النسا
فابن حبيب فأبكيا خالداً ... لجفنة ملأى وزق روى
وبان حبيب فابكيا خالداً ... لطعنة يقصر عنها الأسى
إن تبكيا لا تبكيا هيناً ... وما بما مسكما من خفا
إذ تخرج الكعاب من خدرها ... يومك لا تذكر فيه الحيا
وقالت ترثي أباها خالداً:
أأميم هيهات الصبا ذهب الصبا ... وأطار عني الحلم جهل غراب
أين الأولى بالأمس كانوا جيرة ... لأخذت صرف الموت عن أحبابي
ما حيلتي إلا البكاء عليهم ... إن البكاء سلاح كل مصاب
هند بنت كعب بن عمرو بن ليث الهندي
زوجة عبد الله بن عجلان يتصل نسبها مع نسبه كانت ذات حسن وجمال، وقد واعتدال، وبهاء وكمال.
وسبب زواجها إلى عبد الله بن عجلان أنه خرج يوماً إلى شعب من نجد ينشد ضالة فشارف ماء يقال له: نهر غسان وكانت بنات العرب تقصده فتخلع ثيابها وتغتسل فيه، فلما علا ربوة تشرف على النهر المذكور رآهن على تلك الحالة فمكث ينظر إليهن مستخفياً، فصعدن حتى بقيت هند.
وكانت طويلة الشعر، فأخذت(1/539)
تمشطه وتسبله على بدنها وهو يتأمل شفوف بياض جسمها في خلال سواد الشعر.
ونهض ليركب راحلته فلم يقدر وقعد ساعة. وكان يقال عنه قبل ذلك أن العرب كانت تصف له ثلاثة رواحل قائمة فيحلقها ويركب الرابعة، فعند ذلك داخله من الحب ما أعجزه وعطل حركاته فأنشد فوراً:
لقد كنت ذا باس شديد وهمة ... إذا شئت لمساً للثريا لمستها
أتتني سهام من لحاظ فارشقت ... بقلبي ولو أسطيع رداً رددتها
ثم عاد وقد تمكن الهوى منه فأخبر صديقاً له فقال: اكتم ما بك، واخطبها إلى أبيها فإنه يزوجكما وإن أشهرت عشقها حرمتها.
ففعل وخطبها فأجيب وتزوج بها وأقاما على أحسن حال، وأنعم بال لا يزداد فيها إلا غراماً فمضى عليهما ثمان سنين ولم تحمل.
وكان أبوه ذا ثروة وليس له غيره، فأقسم عليه أن يتزوج غيرها ليولد له ولد لحفظ النسب والمال.
فعرض عليها ذلك، فأبت أن تكون مع أخرى فعاود أباه فأمره بطلاقها، فأبى فألح عليه وهو لم يجب إلى أن بلغه يوماً أن عبد الله قد تمكن السكر منه، فعدها فرصة وأرسل إليه يدعوه وقد جلس مع أكابر الحي فمنعته هند، وقالت: والله لا يدعوك لخير وما أظنه إلا عرف أنك سكران فيريد أن يعرض عليك الطلاق ولئن فعلت لتموتن وأظن أنك فاعل. فأبى عبد الله إلا الخروج، فجاذبته ويدها مخلقة بالزعفران فأثرت في ثوبه، فلما جلس مع أبيه وقد عرف أكابر العرب حاله فأقبلوا يعنفونه ويتناوشونه من كل مكان حتى استحى فطلقها، فلما سمعت بذلك احتجبت عنه فوجد وجداً كاد أن يقضي معه وأنشد:
طلقت هنداً طائعاً ... فندمت بعد فارقها
فالعين تذرف دمعها ... كالدر من آماقها
متحلباً فوق الردا ... فتجول في رقراقها
خود رداح طفلة ... ما الفحش من أخلاقها
ولق ألذ حديثها ... فأسر عند عناقها
إن كنت ساقية ببز ... ل الأدم أوبحقاقها
فاسقي بني نهد إذا ... شربوا خيار زقاقها
فالخيل تعلم كيف تل ... حقها غداة لحاقها
بأسنة زرق صبح ... نا القوم حد رقاقها
حتى ترى قصد القنا ... والبيض في أعناقها
فلما رجعت هند إلى أبيها خطبها رجل من بني نمير فزوجها أبوها منه، فبنى بها عندهم وأخرجها إلى بلده فلم يزل عبد الله بن عجلان دنفاً سقيماً يقول فيها الشعر ويبكيها حتى مات أسفاً عليها، وعرضوا عليه بناته الحي جميعا، فلمي قبل واحدة منهن.
وقيل: إن بني عامر الذي تزوجت هند منهم كان بينهم وبين نهد مغاورات(1/540)
فجمعت بنو عامر لبني نهد جميعاً فقالت هند لغلام يتيم فقير من بني عامر: لك خمس عشرة ناقة فتنذرهم قبل أن يأتيهم بنو عامر.
فقال: أفعل: فحملته على ناقة لزوجها ناجية وزودته تمراً ووطباً من لبن، فركب وجد في السير ففنى اللبن، فأتاهم والحي خلوف من غزو دميرة، لنزل بهم وقد يبس لسانه، فلما كلموه ولم يقدر أن يجيبهم وأومأ على لسانه، فأمر خراش بن عبد الله بلبن وسمن فاستحسى وساقه إياه، فابتل لسانه وتكلم وقال لهم: أتيتكم وأنا رسول هند إليكم تنذركم.
فاجتمع بنو نهد واستعدت ووافتهم بنو عامر لحوقهم على الخيل فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزمت بنو عامر فقال عبد الله بن عجلان في ذلك:
أعاود عيني نصبها وغرورها ... أهم عناها أم قذاها يعورها
أم الدار أمست قد تعفت كأنها ... زبور يمان رقشته سطورها
ذكرت بها هنداً وأترابها الأولى ... بها يكذب الواشي ويعصي أميرها
فما معول تبكي لفقد أليفها ... إذا ذكرته لا يكف زفيرها
بأغزر مني عبرة إذ رأيتها ... يحث بها قبل الصباح بعيرها
ألم يأت هنداً كيفما صنع قومها ... بنو عامر إذ جاء يسعى نذيرها
فقالوا لنا إنا نحب لقاءكم ... بصم القنا اللائي الدمار ثميرها
فلا غرو أن الخيل تخبط في القنا ... تمطر من تحت العوالي ذكورها
وأربابها صرعي ببرقة أخرم ... يجررهم ضبعانها ونسورها
فأبلغ أبا الحجاج عني رسالة ... مغلغلة لا يفلتنك بسورها
فأنت منعت السلم يوم لقيتنا ... بكفيك تسدي غبة وتثيرها
فذوقوا على ما كان من فرط إحنة ... حلائبنا إذ غاب عنا نصيرها
فلما اشتد ما بعبد الله بن العجلان من السقم خرج سراً من أبيه مخاطراً بنفسه حتى أتى أرض بني عامر لا يرهب ما بينهم من الشر والثارات حتى نزل ببني نمير وقصد خباء هند، فلما قارب دارها وهي جالسة على حوض وزوجها يسقي إبلاً له وتعارفا شد كل منهما على صاحبه ودنا منه حتى اعتنقا وسقطا إلى الأرض فجاء زوجها فوجدهما ميتين.
وقيل: إنه أراد المضي إلى بلادهم فمنعه أبوه وخوفه الثارات وقال: نجتمع معهم في الشهر الحرام بعكاظ أو بمكة، ولم يزل يدافعه بذلك حتى جاء الوقت فحج وحج أبوه معه فنظر إلى زوج هند وهو يطوف بالبيت واثر كفها في ثوبه بخلوق فرجع إلى أبيه في منزله وأخبره بما رأى، ثم سقط على وجهه فمات وقيل: إنه خرج في الجاهلية فقال:
ألا إن هنداً أصبحت منك محرماً ... وأصبحت من أدنى حموتها حما
وأصبحت كالمغمود جفن سلاحه ... يقلب بالكفين قوساً وأسهما
ثم مد بها صوته فمات والقول الأول على هذا أصح، وله أشعار كثيرة فيها منها قوله:
ألا بلغا هنداً سلامي فإن نأت ... فقلبي مذ شطت بها الدار مدنف
ولم أر هنداً بعد موقف ساعة ... بأنعم في أهل الديار تطوف
أتت بين أتراب تمايس إذ مشت ... دبيب القطا أو هن منهن أقطف
يباكرن مرات جلياً وتارة ... زكياً وبالأيدي مذاب ومسوف
أشارت إلينا من خظاة ذراعها ... سراة الضحى مني على الحي موقف
وقالت تباعد يا ابن عمي فإنني ... منيت بذي صول يغار ويعنف
وقال أيضاً:
خليلي زورا قبل شط النوى هنداً ... ولا تأمنا من دار ذي لطف بعدا
ولا تعجلا لم يدر صاحب حاجة ... أغياً يلاقي في التعجل أم رشدا
ومرا عليها بارك الله فيكما ... وإن لم تكن هند لوجهكما قصدا
وقولا لها ليس الضلال أجازنا ... ولكننا جزنا لنلقاكم عمدا
هيلانة لويزا أليصابات
قرينة فردينند وابنة البرنس فريدريك لويس دومكلبرغ شورين ولدت في لددغسلت 24 كانون الثاني (يناير) سنة 1814م، وتوفيت في ريتشمند من إنكلترا في 18 أيا مايو سنة 1858م. كانت ذات أخلاق خسنة وذوق سليم مهذبة لطيفة بروستانتية اعتنت بعد وفاة زوجها بتهذيب وليدها "لويس فليب ألبرت" كونت باريس "ووروير فيليب لويس أوجين" و"زينند" دوق "شرتر"، ولما تنحى "لويس فيليب" عن تخت الملك في 24 شباط سنة 1848م وجعل مكانه حفيده كونت باريس قرر نظاماً لوكالة الملك حرمت بموجبه حقها في الوكالة.
ولما عرض النظام المذكور على مجلس الأمة سارت بولديها إلى مجلس النواب محفوفة بمخاطر جسيمة، وكان مجلس النواب قد عزم على تعيينها وكيلة إلا أن الناس اجتمعوا إليه ونادوا بالجمهورية، فقرت بولديها وصهرها دوق "وتيموز" إلى أوتيل "ريزانقاليد"، ثم هربت بهم من هناك إلى بلجيكا وأقامت في "ايسناخ" عند خالها "غراندوق ويمار"، ولما خاب أملها بنجاح "نابليون الثالث" من تولية ابنها تخت فرنسا أخذ اليأس منها كل مأخذ واعتلت صحتها وذهبت إلى انكلترا لزيارة عائلة زوجها، وتوفيت هناك.
هيلانة أم قسطنطين المظفر
وزوجة قسطس صاحب شرطة "دقليطانوس" وهو آخر من عبد الصنم من ملوك الروم، وقسطنطين هو الذي انتقل من رومية إلى بيزنطية فعمر سورها وسماها قسطنطينية وجمع الأساقفة، ووضع شرائع النصرانية وسارت أم هيلانة، وأخرجت من بيت المقدس خشبة الصليب وبنت عدة كنائس منها قمامة وكنيسة حمص وكنيسة الرها.
والحاصل أن هذه الملكة كانت أنموذج دهرها، وفاكهة عصرها. مهدت الملك لولدها، ثم ملكت أولاده الثلاثة بعده. وكانت هيلانة من أهل قرى مدينة الرها قد تنصرت على أيدي أسقف الرها، وتعلمت الكتب، فلما مر بقريتها قسطس رآها فأعجبته فتزوج بها وحملها إلى بيزطية مدينته فولدت فه قسطنطين وكان جميلاً، فأنذر "دقليطانوس" منجموه بأن هذا الغلام -قسطنطين- سيملك الروم وييدل دينهم فأراد قتله ففر منه إلى مدينة الرها، وتعلم بها الحكم اليونانية حتى مات "دقطيانوس" فعاد إلى بزنطية فسلمها إليه أبوه قسطس ومات، فقام بأمرها بعد أبيه.
هيئة بنت اوس بن حارثة بن لام الطائي
حليلة الحارث بن عون بن أبي حارثة. كان سيداً من سادات العرب خطبها من أبيها، فأجابه بعد امتناع وكان عنده ثلاث بنات فدخل على زوجته فقال لها: ادعي لي فلانة أكبر بناته. فأتت فقال لها: أي بنية هذا الحارث بن عون سيد من سادات العرب جاءني خاطباً، وقد أردت أن أزوجك منه فما تقولين؟ قالت: لا تفعل. قال: ولم؟ قالت: لا، في خلقي رداءة، وفي لساني حدة ولست بابنة عمه فيراعي رحمي، ولا هو بجار لك في البلد فيستحي منك، ولا آمن أن يرى مني ما يكره فيطلقني فيكون علي بذلك سبة.
قال لها: قومي بارك الله فيك. ثم دعا ابنته الأخرى فقال لها مثل قوله لأختها فأجابته مثل جوابها. فقال لها: قومي بارك الله فيك.
ثم دعا بالثالثة وكانت أصغرهن سناً فقال مثل ما قال لأختيها. فقالت: أنت وذلك. فقال لها: إني عرضت ذلك على أختيك فأبياه ولم يذكر لها مقالتهما فقالت له: والله أنا الجميلة وجهاً، الرقيقة خلقاً، الحسنة رأياً فإن طلقني فلا أخلف الله عليه. فقال لها: بارك الله فيك، ثم خرج إليه فقال: زوجتك يا حارث بابنتي هنيئة. قال: قبلت نكاحها. وأمر أمها أن تهيئها له، وتصلح شأنها.
ثم أمر ببيت فضربه له وأنزله إياه ثم بعثها إليه، فلما دخلت عليه ودنا منها، قالت: أعند أبي وإخوتي هذا والله لا يكون، ثم أمر بالرحيل فرحل بها، فلما كان بالطريق قرب منها فقالت: أتفعل بي كما يفعل بالأمة السبية الأخيذة لا والله حتى تنحر الجزر وتفخر وتدعو العرب، وتعمل ما يعمل مثلك لمثلي قال: صدقت والله إني لأرى همة وعقلاً.
فلما ورد إلى بلاده أحضر الإبل والغنم ونحر وأولم ثم دخل عليها يريدها فقال لها: قد أحضرت من المال ما تريدين. قالت: والله لقد ذكرت من الشرف بما ليس فيك. قال: ولم ذاك؟ قالت: أتستفرغ لنكاح النساء والعرب يقتل بعضها بعضاً، وكان ذلك في أيام حرب قيس وذبيان قال: فماذا تقولين؟ قالت: اخرج إلى القوم فاصلح بينهم ثم ارجع إلى أهلك فلن يفوتك ما تريد. فقال: والله إني لأرى عقلاً ورأياً سديداً.
قال ابن سنان: فخرج إلينا لاحارث، فقال: اخرج بنا عبد أن أخبرنا بواقعة الحال فخرجنا حتى أتينا القوم فمشينا بينهم بالصلح فأصطلحوا على أن يحسبوا القتلى.
ثم تؤخذ الديت، فحملنا عنهم الديات فكانت ثلاثة آلاف بعير فانصرفنا بأجمل ذكر، ثم دخل عليها.
فقالت له: أما الآن فنعم، فأقامت معه في ألذ عيش وأطيبه، وولدت له بنين وبنات. هكذا فلتكن النساء، فقد أصلحت بين قبيلتين عجز عن إصلاحهما فحول الرجال.
هيلانة بنت ملك إسبارتا
هي على ما ذكر "أوميروس" الشاعر اليوناني بنت بعض ملوك "إسبارتا" كانت أشهر نساء عصرها حسناً وأكثرهن رقة وظرفاً فزوجها أبوها "بميلاس" ملك "لاكونيا" و"مسينيا" فأتي إسبارتا عقب ذلك "باريس بن بريام" ملك "تروادة".
وكان ذلك في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، فأكرن "منيلاس" وفادته، وأنزله في بلاطه فما كان من باريس إلا أن استهوى هيلانة وفر هارباً بها عبد أن سلب قسماً من مال بعلها فكان ذلك سبب حرب "تروادة" الشهيرة التي دامت فيما قيل عشر سنين وانتهت بخراب تروادة وقتل باريس.
هيفاء بنت صبيح القضاعية
كانت فصيحة اللسان ثبتة الجنان لها معرفة بالشعر وعروضه وتزوجت نوفل بن سمير بن عمر التغلبي، ومكثت عنده حتى قتل في بعض الغزوات وقد شقت عليه الجيوب وخمشت الخدود ورثته بجملة أبيات وقصائد منها:
أبكي وأبكي بأسفار وأظلام ... على فتى تغلبي الأصل ضرغام
لهفي عليه وما لهفي بنافعه ... إلا تكافح فرسان وأقوام
قل للحجيب لحاك الله من رجل ... حملت عار جميع الناس من سام
أيقتل ابنك بعلي يا ابن فاطمة ... ويشرب الماء ذا أضغات أحرم
والله لا زلت أبكيه وأندبه ... حتى تزوك أخوالي وأعمامي
بكل أسمر لدن الكعب معتدل ... وكل أبيض صافي الحد ققام
وقالت أيضاً في أبيها:
لم يبد فحشاً ولم يهدد لمعظمه ... ولك مكرمة تلقي يساميها
والمستشار لأمر القوم يحزبهم ... إذا الهنات أهم القوم وما فيها
لا يرهب الجار منه غدوة أبداً وإن ألمت أمور فهو كافيها
حرف الواو
وجيهة بنت أوس الضبية
كانت من النساء المشهورات بالأدب الموصوفات بحفظ أشعار العرب، ذات جمال بارع ومنطق عذب(/)
تهوى إلهيا الأفئدة والقلوب ولها الطولى في نظم الغزل والنسيب فمن ذلك قولها:
وعاذلة تغدو علي تلومني ... على الشوق لم تمح الصبابة من قلبي
فما لي إن أحببت أرض عشيرتي ... وأبغضت طرفاء القصية من ذنب
فلو أن ريحاً بلغت وهي مرسل ... حفي لنا خبت الجنوب على النقب
فإني إذا هبت شمالاً سألتها ... هل ازداد صداح النميرة من قرب
وهيبة بنت عبد العزى بن عبد قيس
كانت من شاعرات العرب اللاتي لهن علم بالأدب، وكانت متزوجة بشخص من قومها يسمى زيد بن مية، وكان جاراً للزبرقان بن بدر فشد عليه رجل يقال له هزال بن بني عوف بن كعب بن سعد بن عبد مناة فقتله بجوار الزبرقان فقالت امرأته ترثيه وتوبخ الزبرقان على تركه ثأره:
متى ترد وأعكاظ توافقوها ... بأسماع مجادعها قصار
أجيران ابن مية خبروني ... أعين لابن مية أو ضمار
تجلل خزيها عوف بن كعب ... فليس لخلعها منه اعتذار
فإنكم وما تخفون منها ... كذات الشيب ليس لها خمار
فلما سمع الزبرقان ذلك الشعر منها حلف ليقتلنه وبعد ذلك سعت العرب بينهما صلحاً فاصطلحا، وفدى ابن مية بمال وتزوج هزال بخليدة أخت البزرقان وانصرف الأمر.
ولادة بنت المستكفي بالله
ولادة بنت المستكفي الله محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الناصر ليدن الله الاموي. كانت واحدة زمانها المشار إليها في أوانها، حسنة المحاورة، مشكورة المذاكرة، مشهورة الصيانة والعفاف. أديبة شاعرة جزلة القول حسنة الشعر، وكانت تناضل الشعراء وتجادل الأدباء، وتفوق البرعاء، وعمرت عمراً طويلاً، ولم تتزوج قط.
وكانت نهاية في الأدب والظرف حضور شاهد، وحرارة آبد، وحكم منظر ومخبر، وحلاوة مورد ومصدر. وكان مجلسها بقرطبة منتدى لأحرار المصر، وفناؤها معلباً لجياد النظم والنثر، ويعشو أهل الأدب إلى ضوء غرتها، ويتهالك أفراد الشعراء والكتاب على حلاوة عشرتها، وعلى سهولة حجابها، وكثرة منتابها، تخلط ذلك بعلو نصاب وكرم أنساب وطهارة أثواب على أ، ها أوجدت للقول فيها السبيل بقلة مبالاتها ومجاهرتها بلذاتها.
وقيل: إنها بالغرب كعلية ابنة المهدي العباسي بالشرق إلا أن ولادة تزيد بمزية الحسن الفائق وأما الأدب والشعر والنوادر وخفة الروح فلم تكن تقصر عنها، وكان لها صنعة في الغناء ولها نوادر كثيرة مع الأدباء والشعراء.
ومن أخبارها مع أبي الوليد بن زيدون(1/545)
-كما قاله الفتح بن خاقان في "القلائد"-: أن ابن زيدون كان يكلف بولادة ويهيم ويستضيء بنور محياها في الليل البهيم. وكانت من الأدب والظرف وتتميم السمع والطرف بحيث تختلس القلوب والألباب، وتعيد الشيب إلى أخلاق الشباب.
فلما حل بذلك الضرب وانحل عقدة صبره بيد الكرب فر إلى الزهراء ليتوارى في نواحيها، ويتسلى برؤية موافيها، فوافاها والربيع قد خلع عليها برده، ونشر سوسنه وورده وأترع جداولها، وأنطق بلابلها، فارتاح ارتياح حميد لوادي القرى، وزاح من روضتها يانع وريحة طيبة الثرى، فتشوق إلى لقاء ولادة وحن، وخاف تلك النوائب والمحن، فكتب إليها يصف فرط قلقه وضيق أمده إليها وطلقه، ويعلمها أنه ما سلا عنها بخمر ولا خبا ما في ضلوعه من ملتهب الجمر، ويعاتبها على إغفال تعهده، ويصف حسن محضره بها ومشهده:
إني ذكرتك بالزهراء مشتاقاً ... والأفق طلق ووجه الأرض قد راقا
وللنسيم اعتلال في أصائله ... كأنما رق لي فاعتل إشفاقا
والروض عن مائي الفضي مبتسم ... كما حللت عن اللبات أطواقا
يوم كأيام لذات الهنا انصرفت ... بتنا لها حين نام الدهر سراقا
نلهو بما يستميل العين من زهر ... جال الندى فيه حتى مال أعناقا
كأنه أعين إذا عاينت أرقى ... بكت لما بي فجال الدمع رقراقا
ورد تألق في ضاحي منابته ... فازداد منه الضحى في العين إشراقا
سر بنافحة نيلوفر عبق ... وسنان نبه منه الصبح أحداقا
كل يهيج لنا ذكرى تسوقنا ... إليك لم يعد عنها الصدر أن ضاقا
لو كان في المنى في جمعنا بكم ... لكان من أكرم الأيام أخلاقا
لا سكن الله قلباً عن تذكركم ... فلم يطر بجناح الشوق خفاقا
لو شاء حملي نسيم الريح حين هفا ... وافاكم بفتى أضناه ما لاقى
يا علقي الأخطر الأسنى الحبيب إلى ... نفسي إذا ما اقتنى الأحباب أعلاقا
كان التجاري بمحض الود من زمن ... ميدان أنس جرينا فيه أطلاقا
فالآن أحمد ما كنا لعهدكم ... سلوتم وبقينا نحن عشاقا
وكانت ولادة معجبة بنفسها مفتخرة على بنات جنسها حتى من زيادة إعجابها كتبت الذهب على الطراز الأيمن من عصابتها:
أنا والله أصلح للمعالي ... وأمشي مشيتي وأتيه تيها
وكتبت على الطراز الأيسر:
وأمكن عاشقي من صحن خدي ... وأعطى قبلتي من يشتهيها(1/546)
وكانت قد طالت مدة مقابلتها مع لبن زيدون فهاج بها الشوق والغرام, وتضاعف عندها الوجد والهيام وذلك بعد ما دلت عليه إدلالها وتسربلت من التمنع أعظم سربالها فكتبت إليه قائلة:
ترقب إذا جن الظلام زيارتي ... فإني رأيت الليل أكتم للسر
وبي منك ما لو كان بالشمس لم تلح ... وبالبدر لم يطلع وبالنجم لم يسر
فلما وصلت رقعتها إلى ابن زيدون أعلمها أنه لها بالانتظار, وفي فؤاده بتأجج لهيب نار ولا يطفئها إلا اللقاء وأعد لها مجلسا نضرا أوجد فيه من جميع الأزهار واللطائف, ومن كل فاكهة زوجين ولما آن الوقت المعين للحضور أقبلت ترفل بالدمقس وبالحرير كأنها من الحور العين فتقابلا وتصافحا ودار بينهما العتاب وقضيا مجلسهما يتعاطيان أكؤس الآداب إلى أن آن أوان الانصراف مالت غليه مودعة بانعطاف:
ودع الصبر محب ودعك ... ذائع من سره ما استودعك
يقرع السن علي أن لم يكن ... زاد في تلك الخطا إذ شيعك
يا أخا البدر سناء وسنى ... حفظ الله زمانا أطلعك
إن يطل بعدك ليلي فلكم ... بت أشكو قصر الليل معك
وانصرفت على أمل اللقاء ومكثت زمانا لم تحصل مقابلتهما لدواع سياسية أخرت لبن زيدون عن التمكن من الاجتماع به فكتبت إليه:
ألا هل لنا من بعد هذا التفرق ... سبيل فيشكو كل صب بما لقي
وقد كنت أوقات التزاور في الشتا ... أبيت على جمر من الشوق محرق
فكيف وقد أمسيت في حال قطعه ... لقد عجل المقدور ما كنت أتقى
تمر الليالي لا أرى البين ينقضي ... ولا الصبر من رق التشوق معتقي
سقى الله أرضا قد غدت لك منزلا ... بكل سكوب هاطل الوبل مغدق
وكتبت بعد الشعر في أثناء الكتابة وكنت ربما حثثني على أن أنبهك على ما أجد فيه عليك نقدا وإني عليك قولك: سقى الله أرضا قد غدت لك منزلا فإن ذا الرمة قد انتقد عليه قوله مع تقديم الدعاء بالسلامة:
ألا يا اسلمى يا درامي على البلي ... ولا زال منهلا بجرعائك القطر
إذ هو أشبه بالدعاء على المحبوب من الدعاء له وأما المستحسن فقول الآخر:
فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمة تهمي
فأجابها متشكرا لها على انتقادها وعلم أنها مصيبة بهذا الانتقاد وفي آخر رقعته قال:
لحى الله يوما فيه بملتقي ... محياك من أجل النوى المتفرق(1/547)
وكيف يطيب العيش دون مسرة ... وأي سرور للكئيب المؤرق
وكانت لها جارية سوداء بديعة المعنى فظهر لولادة أن ابن زيدون مال إليها فكتبت إليه:
لو كنت تنصف في الهوى ما بيننا ... لم تهو جاريتي ولن تتخير
وتركت غصنا مثمرا بجماله ... وجنحت للغصن الذي لم يثمر
ولقد علمت بأنني بدر السما ... لكن ولعت لشقوتي بالمشتري
فخجل من ذلك وأرسل إليها يتنصل ويستسمحها فلم تسامحه, واستحكمت النفرة بينهما وكانت لقبته بالمسدس فقالت فيه مرة:
ولقبت المسدس وهو نعت ... تفارقك الحياة ولا يفارقك
فلوطي ومأبون وزان ... وديوث وقرنان وسارق
وقالت فيه أيضا:
إن ابن زيدون على فضله ... يغتابني ظلما ولا ذنب لي
يلحظني شزرا إذا جئته ... كأنني جئت لأخصي علي
وكان ابن عبدوس الوزير يهواها وهي تأبى مسامرته ودائما تتهكم عليه ومن تهكماتها مرت يوما به, وهو جالس أمام داره وبجانبه بركة تتولد عن كثرة الأمطار وربما اتحدت بشيء من الأقذار, وقد نشر أبو عامر الوزير كميه ونظر في عطفيه وحشد أعوانه إليه فقالت له:
أنت الخصيب وهذه مصر ... فتدفقا فكلاكما بحر
فتركته لا يحير حرفا ولا يرد طرفا: وبسبب تعلق ابن عبدوس بولادة أرسل ابن زيدون إليه بالرسالة المشهورة -التي شرحها غير واحد من أدباء الشرق كالجمال بن نباتة والصفدي وغيرهما- وفيها من التلميحات والتحذيرات ما لا مزيد عليه, وأرسل ابن زيدون لابن عبدوس أيضا رسالة لاشتراكه معه في هواها يقول في آخرها:
أثرت هزبر الثرى إذ ربض ... ونبهته إذ هدا فاغتمض
وما زلت تبسط مسترسلا ... إليه يد البغي لما انقبض
وإن سكون الشجاع النهو ... ش ليس بمانعه أن يعض
عمدت لشعري ولم تتئد ... تعارض جوهره بالعرض
أضاقت أساليب هذا القري ... ض أم قد عفار سمه فانقرض
لعمري فوقت سهم النضال ... وأرسلته لو أصبحت الغرض
ومنها:
وغرك من عهد ولادة ... سراب تراءى وبرق ومض(1/548)
هي المايعز على قابض ... ويمنع زبدته من مخض
ومن كلام ابن زيدون فيها قصيدته المشهورة التي منها:
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا ... شوقا إليكم ولا جفت مآقينا
تكادحين تناجيكم ضمائرنا ... يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
وأخبارها مع ابن زيدون كثيرة: وكان لها مداعبات مع الأدباء ومنهم الأصبحي المشهور فقالت تهجوه يوما:
يا أصبحي اهنأفكم نعمة ... جاءتك من ذي العرش رب المنن
قد نلت بإست ابنك ما لم ينل ... بفرج بوران أبوها الحسن
وحكاية بوران مفصلة بترجمتها. ولولادة حكايات غير ما ذكر في جملة كتب متفرقة لم يمكن الحصول عليها لعزة وجودها وماتت لليلتين خلتا من صفر سنة ثمانين. وقيل: أربعة وثمانين وأربعمائة رحمها الله تعالى.
حرف اللام ألف
لانيلسون المغنية الأسوجية
هي من أشهر مغنيات الإفرنج ولدت هذه الفتاة من أبوين فقيرين من الفلاحين في أسوج ولكنها اشتهرت شهرة عظيمة فأحرزت قصب السبق والتقدم على أقرانها ونالت الحظوة عند الملوك والعظماء فلم يبق أحد من رؤساء الحكومات إلا أتحفها بوسام أو شيء من علامات الشرف بحيث لو أرادت أن تتزين بكل ما عندها من النياشين لما وسعها صدرها وتزوجت الكنت دي ميراندا وعند ذهابها أخيرا إلى بلادها أسوج ونوج مع المسيو سترا كوف احتفل مواطنوها باستقبالها احتفالا عظيما, وأطلق لها مائة مدفع ومدفع إجلالا لشأنها, ولما سافرت سنة 1870 م إلى أميركا بلغ مدخولها اليومي ثلاثين ألف فرنك جمعت في الشهور الستة الأول من إقامتها هناك ما ينيف عن ستة ملايين فرنك أو ثلثمائة ألف ليرة فليتأمل.
لادي رسل ابنة توماروتسلي وزير مالية إنكلترا
ولدت سنة 1636 م وتزوجت بأمير إرلندي اسمه اللورد فوغان سنة 1653 م, فتوفي عنها بعد أربع سنوات, ثم اقترن بها الشريف وليم رسل فأحبها وأحبيته حبا مفرطا, وكان رسل شهما مقداما نافذ الكلمة. فاستعان به بعض أهل الثورة الخارجين على الملك فمالأهم على قصدهم, ثم كشف الأمر فقبض عليه وألقي في السجن وهي تجهل السبب الذي سجن لأجله, ولما قيد إلى المحكمة وقفت بجانبه, وسمعت الحكم الذي صدر عليه بالموت, وعادت معه إلى السجن مظهرة الجلد الشديد لكي لا تكسر قلبه, وجعلت تشدد عزائمه وتذاكره في الوسائط التي يمكن استخدامها لتخفيف قصاصه ولتأجيله وكان يعلم أن السعي في ذلك(1/549)
يذهب سدى ولكنه تركها تسعى لأنه قال في نفسه لو تركتني إلى التقادير بدون أن تستعمل كل الوسائط الممكنة لنجاتي لما وجدت إلى الصبر عني سبيلا, فانتجعت كل روض وألقت دلوها في كل حوض, ولكنها عادت "بخفي حنين" لأنها لم تجد للقضاء مردا وجعلت تشدد عزائم زوجها وكان لسان حالها يقول:
جانب السلطان واحذر بطشه ... لا تعاند من إذا قال فعل
ثم ودعته الوداع الأخير فودعها وهو يقول: إنني أودع الحياة طيب النفس قرير العين لأنني تركت أولادا لا يفقدون شيئا بفقدي وزوجة عفيفة فاضلة فيها الكفاية لأن تدبر أمورها وأمور أولادها على أتم المراد قد وعدتني أنها تقيني بنفسها من أجل أولادها, وهذا حسبي ولما قضى عليه أرسل الملك يخبرها أنه غير قاصد أن ينتفع بموت زوجها فيبقى لها لأولادها كل مقتنياته فرأت أن حبها لأولادها يدعو إلى شكره ولو مكرهة فأرسلت إليه كتابا تشكره به وكانت من فريدات عصرها في الكتابة والإنشاء.
ثم انتقلت بأولادها إلى الريف وأطلقت العنان للزفرات والعبرات التي كانت قد حجبتها مخافة شماتة الأعداء, وكتبت في ذلك الحين إلى أحد القسوس الفضلاء تقول له: أنت تعرفنا تماما فلا تلمني على الحزن ولو أفرط نعم أن كثيرات أصبن بما أصبت ولكن أين فقيدهن من فقيدي حتى يتجدد حزنهن كما يتجدد حزني, وكتبت بعد ذلك تقول: اللهم ارني مقاصد عنايتك فيما ابتليتني به لكي لا أسقط تحت قتل كأبتي إني أستحق هذا القصاص ولا أشكو منه ولكن قلبي جزين وقد عزت السلوى لأن رفيق الحياة وقسيم أفراحي وأحزاني ليس معي أواه أن نفسي تتوق إلى مسامرته ومساكنته ومواكلته, قد صارت الحياة علي حملا ثقيلا, ولكن لا بد من الصبر على مضض الأيام والترفع فوق أفراح الدهر وأحزانه.
ثم دالت تلك الدولة وصار الملك إلى الملك الذي كان زوجها من حزبه فغمر حماها وابنها بالأنعام تعويضا لهما عما فقداه بفقد زوجها ولكن ابنها لم يعش طويلا حتى يتمتع بهذا الإنعام لأن الجدري وافاه وهو في الثلاثين من عمره, وقصف غصن شبابه وعاشت بعد ذلك سنين كثيرة وماتت عن سبع وثمانين من العمر.
وقد اجتمع في هذه المرأة الفاضلة لطف النساء وصبرهن وفطنتهن وهمة الرجال وحكمتهم وإقدامهم, وعاشت وماتت طاهرة السيرة والسريرة. ولها رسائل كثيرة تحلها محلاً رفيعاً بين مشاهير الكتبة. انتهى.(1/550)