التضحية والبذل إنقاذًا لأنفسهم، وحماية لدينهم، وتحقيقًا لخير الإنسانية وسعادتها.
إن الأمم المعاصرة تحتفل بما بذلته في حروبها العالمية، وتتباهى بتضحياتها من أجل الحرية والديموقراطية، وتجعل قتلاها خلال هذه الحروب أبطالا تصنع لهم التماثيل، وتشيد بهم في كل مجال, فإذا نظرنا إلى الجهاد الإسلامي من زاوية هؤلاء الناس مع ربطه بوسائله وأهدافه، وتطبيقاته فإن ذلك يعد برهانًا على ضرورته، وحتمية استمراره لخير الناس مع وضوح الفرق بين الجهاد الإسلامي وهذه الحروب من ناحية أخلاقيات الجهاد ونتائجه.
إن الجهاد الإسلامي في إطار مشروعيته يحتاج إلى كل ما بذل له من تضحية وعطاء، ولو تضاعف الجهد لكان خيرًا وبركة.
ويبقى الجهاد في مشروعيته محافظًا على حقيقته، وغايته على الزمن كله.
ومن حكمة الله أن آيات الجهاد تورده مرتبطًا بسببه وعلته، يقول الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} 1.
ويقول سبحانه: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 2.
ويقول سبحانه: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} 3.
ويقول سبحانه: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} 4.
ويقول سبحانه: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ
__________
1 سورة الحج: 39.
2 سورة البقرة: 190.
3 سورة التوبة: 36.
4 سورة البقرة: 251.(1/636)
وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} 1.
إنه تشريع رباني بسبب أنهم ظلموا!
ولرد عدوان المعتدي ومقاتلة من يقاتل!
ولمعاملة الأعداء بمثل ما يعملون!
ولإنقاذ البشرية من ظلم الطغاة واستبداد المتجبرين وحتى لا تنهدم الحضارات على رءوس أصحابها!
وقد سبق عند الحديث عن مراحل تشريع الجهاد في بيان واضح لهذه القضية.
__________
1 سورة الحج: 40.(1/637)
2- الجهاد يحمي حرية الإنسان:
أظهر الجهاد الإسلامي قيام الإسلام على المبادئ النبيلة، التي تحمي الحقوق، وتصون الكرامة، وتعمل على ضمان حرية الإنسان بصورة مطلقة، وذلك يتضح من خلال بعض الملاحظات في حركة الإسلام بين الناس، وأهمها:
أ- إن الإسلام فكرة قائمة على بعض المعاني التي لا بد من فهمها، قبل الإيمان بها والعمل بمقتضاها، ومن المعلوم أن حركة الأفكار تحتاج إلى الحرية، لتظهر الفكرة قولا يسمع ومعنى يتدبر، واتجاهًا يتحول إلى عمل وسلوك، وبدون الحرية لا تجد الأفكار مجالا تعيش فيه وتتحرك خلاله، وإذا فقد الإنسان الاختيار الحر فإنه يتصرف ويعمل بلا اقتناع أو رضى وهذا شأن يأباه الإسلام ويمنعه.
ب- ومن الحقائق المؤكدة تشريعيًا، وعمليًا، أنه لا إكراه في اعتناق الإسلام.
فكل النصوص الدينية تؤكد أن الإسلام يعتمد على الدليل والبرهان، ويقوم على الرضى والاقتناع، يقول الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} 1, ويقول تعالى: {هُوَ
__________
1 سورة البقرة: 256.(1/637)
اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} 1 ويقول تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} 2 والآيات واضحة الدلالة على أن دين الله تعالى يقوم على الإرادة الحرة والمشيئة الطليقة، ولا حرج فيه أبدًا.
هذا من الناحية التشريعية، أما الناحية العملية التطبيقية فهي تؤكد أن ذلك هو ما حدث في عالم الواقع، ولم يتحدث المؤرخون أو بعضهم أن جماعة من الناس، أو واحدًا من الأفراد دخل في الإسلام قهرًا وجبرًا، وكل ما قام به المجاهدون بعد انتصارهم هو إزالة الطغاة الجاثمين، وصيانة الأموال والأعراض، وتيسير أمر الحياة، وإعلان سيادة الله في الأرض هذا وفقط. مما أدى بالناس إلى التفكير والتدبير، والمقارنة فدخلوا في الإسلام طواعية واختيارًا بعد فهم واقتناع.
إن الناس دخلوا في الإسلام راضين سعداء، ولذلك نراهم يسارعون إلى معرفة لغة الإسلام، وحفظ القرآن الكريم والمحافظة على سنة نبيه الكريم.
ومما يؤكد الحرية في الاقتناع ما رأيناه من إيمان القوة الغالبة المنتصرة على المسلمين المنهزمين كما حدث في إسلام التتار، فلقد دخلوا في الإسلام بعد هزيمة المسلمين بعد معرفتهم بحقيقة الإسلام، وإيمانهم بصدق وصواب ما جاء به.
يقول أرنولد توينبي: إن الإسلام في جوهره دين عقلي بأوسع معاني هذه الكلمة من الوجهتين الاشتقاقية والتاريخية، وهو يعتمد الأسلوب العقلي طريقًا لإقامة العقائد الدينية على أسس من المبادئ المستمدة من العقل والمنطق، والحق أن محمدًا كان متحمسًا لدينه وكان يمتلك غيرة الإيمان، ونار الاقتناع، عرض دعوته على أنها وحي وإلهام وأن لدينه كل العلامات التي تدل على أنه مجموعة من العقائد قامت على أساس المنطق والعقل3.
لقد بقي الإسلام صامدًا في وجه الهجمات الاستعمارية التي استولت على العالم
__________
1 سورة الحج: 78.
2 سورة الكهف: 29.
3 الدعوة إلى الإسلام ص455.(1/638)
كله، لما فيه من خير وصلاح، يؤكد هذا الأمر ما نراه دائمًا من إسلام عديد من الناس وهم بين أقوام غير مسلمين وفي ثنايا قوة تحارب الإسلام، وما ذلك إلا لاقتناعهم التام الذي جعلهم يتركون دين آبائهم، ويهاجرون بعد إسلامهم إلى المسلمين وديار الإسلام ليقوموا بواجب الأمانة التي تحملوها بإسلامهم.
ولا يمكن القول بأن الجزية تمثل إكراهًا ماديًا، يدفع الفقراء إلى الإسلام ليبتعدوا عنها. لا يقال ذلك لأن المسلم يدفع أضعاف هذه الجزية حين يؤدي ما عليه من واجبات دينية مثل دفع الزكاة، وأداء صدقة الفطر، وتحمل مغارم الكفارات العديدة، في الوقت الذي يعفى فيه دافع الجزية من الاشتراك في الجهاد، وعمليات تأمين الأمة، بينما المسلم يقوم بذلك على وجه الوجوب والفرضية.
ج- الجانب الباطني في الإنسان لا يعلمه إلا الله تعالى، وارتباط الإيمان في الإسلام بهذا الجانب تأكيد واضح على ضرورة الحرية للاقتناع والإيمان.
إن النفاق لا يغني من الحق شيئًا، والمنافق خطر على الإسلام أكثر من خطورة الكافر، لأن المنافق عدو خفي، والكافر عدو ظاهر، والعدو الخفي ضرره أكثر، وإيذاؤه أشد.
ويوم أن ظهر المنافقون في المدينة حذر الله منهم وبين للرسول صلى الله عليه وسلم مظاهرهم، ومواطن الخطر من قبلهم فقال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ، اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ، وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} 1.
والآيات واضحة الدلالة على سلوك المنافقين السيئ، فلقد كانوا يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويحدثونه بألسنتهم حديثًا مخالفًا لما في قلوبهم، وينطقون بكلمة الحق مع أنهم لا يقرون بها،
__________
1 سورة المنافقون الآيات: 1-4.(1/639)
فهم كاذبون في إقرارهم، حيث لا ارتباط له بما في قلوبهم, ونراهم يسارعون إلى الأيمان الكاذبة لإبعاد التهمة عنهم، مع أنهم بهذه الأيمان يبالغون في الكذب. ويتصورون أنهم خدعوا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. إن هؤلاء المنافقين يبدون في صورة حسنة، وقلوبهم مملوءة بالسوء. لهم كلام منمق، لكنه السم الزعاف, وهم مدركون لفعلهم ولذلك يعيشون خائفين، يتوقعون انكشاف أمرهم في كل لمحة ولفتة.
{هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} 1.
هذا هو موقف الإسلام من النفاق والمنافقين قديمًا وحديثًا, ولذلك فلا قيمة للإيمان إذا لم ينبع من الباطن القلبي. وذلك شأن لا يتحقق إلا في إطار الحرية, والاختيار الكريم.
د- يتكون الإسلام من أساسيات أخلاقية تعتمد على التسامح والعفو، وحب الخير لسائر الناس مع الالتزام بالصدق والأمانة وضرورة مراعاة حقوق الآخرين، والمحافظة على القيام بالواجب بكل دقة. ودين هذا شأنه لا يتصور منه إهانة الإنسان في عقله، وفي إرادته أو في حياته أو في أي جانب إنساني.
في إطار هذه الملاحظات يعمل الجهاد ويتحرك المجاهدون؛ ولذلك نرى الجهاد يحمي حرية الناس، ويحفظ عقلهم، ودينهم, وأموالهم.
__________
1 سورة المنافقون: 4.
2 سورة محمد: 29.(1/640)
3- الجهاد يصون كرامة الإنسان:
كرم الله الإنسان منذ خلقه، وسخر كل ما في الوجود لخدمته وسعادته، وأرسل إليه رسله وأنبياءه ليستقيموا به على المنهج الرباني السديد, لكن الإنسان ظلم نفسه، وبعد عن ربه فلعب به الهوى، واستحوذ عليه الشيطان، فصار عبدًا لشهواته وغرائزه.
وانتهز أنصار الشر خيبة الناس فتمكنوا منهم وحولوهم إلى قطعان من العبيد، وتحكموا في رقابهم تحكم المالك في غنمه ومواشيه, ولذلك انقسم العالم إلى جزئيات متناثرة تحت سيطرة أفراد مستبدين, وفقد الإنسان إرادته، وضاعت كرامته.
فلما جاء الإسلام وجد هذه الفوضى فكون من المسلمين أمة مجاهدة تنشر العدل، وتصون الأمن، وتحقق كرامة الإنسان.
لقد شرع الله الجهاد، وحدد وسائله وغاياته، وطبقه المسلمون بكل دقة وشدة حتى تحققت في عالم الواقع كرامة إنسانية عاشها كثيرون، كرامة لم يتصورها أحد من الناس.
لقد جاهد المسلمون بعد الهجرة أقل من عشر سنوات قاموا خلالها بأكثر من مائة غزوة وسرية، تحملوا خلالها كثيرًا من الألم والتعب، والشهادة لكنهم حققوا في عالم الحياة أمة عادلة منصفة, وأزاحوا من حياة الناس مظالم الفرس والروم، واستبداد العرب وجاهلية الفوضى والعصبية, وأوجدوا بدل ذلك الإنسان الكريم الذي يعيش لله، ويعمل لله، ويموت لله, وفي ذلك الدلالة على تكريم الجهاد للناس.
إن مقارنة أمينة بين وضعية العالم قبل الإسلام وبين وضعيته تحت سيادة الإسلام تؤكد مدى الخير الذي قدمه الإسلام للناس من كافة النواحي.
لقد نظم الإسلام حياة الناس.
- حدد حق الحاكم ومسئولياته، وواجباته.
- وضح حقوق الناس وصان لهم النفس، والعقل، والعرض، والمال، والاعتقاد.
- أرسى أسس السلوك القويم، وأعلى مكارم الأخلاق.
- بين العقوبات الملائمة للجرائم لصيانة المجتمعات البشرية من الهمجية والعدوان.
- أعلى مقام العلم وجعله حقًا ضروريًا لكل رجل وامرأة.
- دعا إلى السعي والعمل وبذل أقصى الوسع للنجاح ويسر لذلك الطريق.
- أعطى لكل فرد ما يستحقه من جزاء وثواب تبعًا لطاقاته العقلية وإمكاناته العملية.
- حدد حقوق كل من الرجل والمرأة بما يضمن لكليهما الحياة السعيدة المستقرة.
- حقق بين أفراد المجتمع تكافلا كاملا يحقق العدل والمساواة.
ولم يحقق الإسلام هذا في عالم الواقع إلا بجهاد المسلمين وتضحياتهم وتلك هي مسئولياتهم إلى يوم القيامة.(1/641)
4- الجهاد يبرز إيجابية الإنسان المسلم:
أبرز تشريع الجهاد حقيقة الإنسان المسلم، في باطنه، وظاهره، وخلقه.
فهو في باطنه يسلم أمره لله ورسوله، ويؤمن بكل ما يبلغه من الرسول صلى الله عليه وسلم.
وليست الحياة الدنيا في مفهوم المسلم مغنمًا يحرص عليه، وإنما هي مجال يطيع الله فيه، ليغنم رضوان الله وجنته بعد هذه الحياة الدنيا.
إن الجهاد يبرز أعلى درجات الاستسلام والطاعة لله تعالى؛ لأن المجاهد يدفع روحه لله، ويقبل الموت راضيًا به، ليفوز برضوان الله تعالى.
إن سائر العبادات رقي في حياة المسلم، واستمرارية لطهارة الدنيا، وعظمتها والهجرة من مكة إلى المدينة كانت خلاصًا من الضعف، والقلة، والأذى، وانتقالا إلى القوة، والكثرة، والغلبة، والتخلص من عدوان الكفر، وأذى المشركين، فهي رقي دنيوي في طاعة الله تعالى.
إن الجهاد هو بذل للمال، وللنفس، وترك الدنيا، من أجل إعلاء كلمة الله وذلك كان ذروة سنام الإسلام، وقد جعل الله المجاهدين صفوة الخلق، وأكرمهم عنده وجدد الله حياتهم بعد استشهادهم، وضاعف رزقهم، وأحاطهم بالبشر، والسرور، يقول الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ، الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ، الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ(1/642)
النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} 1.
إن التضحية لإحقاق الحق، وإبطال الباطل شهامة وبطولة يقدم عليها العظماء من الناس, وهي مناط إظهار إيجابية المجاهدين في سبيل الله تعالى.
لقد قام المجاهدون بما تعلموه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبدءوا بعدوان، وإنما كانوا يبدءون بعرض الإسلام وشرح أعماله ومراميه، ودفع ما يثار حوله من شبه وافتراء, وكانوا يعرضون الجزية يدفعها من يأبى الإسلام ليكون له العهد والذمة.
ولم يتعد المجاهدون على شيخ كبير أو امرأة أو صغير أو راهب في صومعة أو بيعة. إن الجهاد في الإسلام معلومة غايته، مبينة وسيلته، من خلال تشريعه الصريح، وتطبيقاته في الأمم، التي تمتعت به, وهو في مجمله قوة تؤمن بالله، وتستمد طاقتها من شريعة الله، وتبرز غايتها المعلنة منذ أن جاء الإسلام للناس.
إن تكوين القوى الدولية التابعة للأمم المتحدة تنطلق من هذا المفهوم الذي نرجو له أن يتطابق وسمه مع رسمه وتلتقي فكرته مع واقعه ليكون عونًا للضعفاء، ومساعدة للمحتاجين.
إن المجاهد لا يطلب مجدًا شخصيًا، ولا سلطانًا قوميًا، ولا استعلاء أمميًا, وإنما كل غايته تحقيق العبودية للمعبود، وإعلاء سلطان الله في الأمم كلها.
وبذلك فالمسلم المجاهد إنسان إيجابي يفيد الإنسانية كلها.
__________
1 سورة آل عمران: 169-174.(1/643)
5- الواقعية في تشريع الجهاد:
لم يغب تشريع الجهاد مطلقًا عن مصلحة الناس، ومراعاة واقعهم العملي، حيث رأيناه في مكة لم يكلف المسلمين بجهاد، وإنما أمرهم بالصبر، والعفو لقلة عددهم وضعف أحوالهم، وغلظة أعدائهم، وفي نفس الوقت لم يوجه لومًا لمسلم ينتصر لنفسه ضد بغي وقع عليه، إذا رأى الانتصار ممكنًا، ولا يؤدي إلى ضرر أكبر.
وقد تحدث الوحي عن الجهاد بالإذن فيه، أو بالأمر به، ليعلم أهل مكة ومن يشايعهم أن قضية الإسلام لم تنته بالهجرة إلى المدينة، ولكن الحقيقة أن الهجرة تؤكد أن مرحلة جديدة قد بدأت، وأنها ستكون أقوى من سابقتها، وأن الاستقامة على الحق ضرورة واجبة، والدعوة إلى الله أمر لن يتوقف، وأن قوة المسلمين ستكون في خدمة الدعوة دائمًا، وستبقى في حماية الحركة بالإسلام.
وقد تحقق في عالم الواقع أن أهل مكة وقبائل العرب وغيرهم أدركوا هذا الأمر وتيقنوا أن الإسلام تحميه قوة المسلمين، ويبلغه للعالم رجال يبذلون له كل ما يمكنهم من نفس ومال، وعمل.
حين شرع الله للمسلمين أن يتصدوا للظلم والعدوان عرفهم أن ذلك هو الجهاد. الذي كلفوا به، في إطار نظام متكامل يتضمن الدعوة أولا، ويتمسك بالخلق الحسن في كافة مراحله، ويملأ المجاهد بحب الجهاد، وحب الموت في سبيل الله.
وبإعلان الإسلام للجهاد نظامًا له منهجه، وهدفه، علم العرب جميعًا مدى حب المسلم لدينه، ومدى ربطه سعادة الآخرة بعمل الدنيا، ومدى تمنيه الموت مجاهدًا في سبيل الله تعالى, وهذا أمر يدفع الناس إلى التفكير الجاد في شأن الإسلام، ورجاله، وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أظهر تشريع الجهاد إيجابية الإسلام في معالجة مشاكل الناس، فالمسلم لا يجاهد لكسب مادي، وإنما يجاهد لضمان حرية الإنسان في التفكير، وصيانة عقله من الغوغائية والتسلط، وإزاحة الظلم والاستبداد من عالم الناس، وهذا شأن يجب أن يذكر به الجهاد الإسلامي.
إن العالم الحديث يلزم الأقوياء، والأغنياء بمعاونة الضعفاء، والمحتاجين في إطار مجموعة من النظم، والمواثيق، والمؤسسات الدولية، وذلك شاهد يؤكد عظمة تشريع الجهاد، وسبق الإسلام في تكليف المسلمين بقهر الظلم ودفع البغي، وإزاحة الطواغيت لقد تصدى الإسلام لأناس تألهوا على الناس، واستعبدوا البشر، وحولوا الأحرار إلى قطعان(1/644)
من الأنعام، وأقاموا سدًا يمنع نور الحق من الوصول للأفهام, فلما جاء الإسلام، وظهرت قوة المسلمين، انزاحت القوى المتسلطة، وتبين الرشد من الغي، ودخل الناس في دين الله أفواجًا. إن هذه الإيجابية الإسلامية معروفة مقررة، بشهادة التاريخ، وبشهادة الواقع يقر بها كل منصف آمين.
وقد تعرضت الدعوة الإسلامية في العصر الحديث بادعاء أن جهادها كان ظالمًا قائمًا على الاعتداء والغدر, وهذا افتراء واضح لأن الجهاد الإسلامي لم يكن إلا ردًا لظلم ودفعًا لعدوان، وحماية للدعاة في حياتهم وعملهم.
لقد أدت النتائج الأولى للجهاد إلى تحقيق حرية التفكير لسائر الناس، وصيانة حقوقهم الضرورية المرتبطة بإنسانيتهم، وحمايتهم، وحماية أموالهم في إطار تحديد ما لهم وما عليهم في دولة الإسلام.(1/645)
6- ظهور فقه الإسلام في الجهاد:
أدى تشريع الجهاد في الإسلام إلى ظهور الأحكام التفصيلية لأعمال الجهاد بمختلف مراحله، وأصبح المسلمون مسئولين عن رعاية هذه الأحكام، وتطبيقها في عالم الواقع، ومن هذه الأحكام:
أ- إعداد القوة لحماية البلاد والعباد، والدين، وذلك بتنفيذ قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} 1.
ومن الواضح في الآية أن إعداد القوة، وتجهيز الجيش سبب لتحقيق السلام، وضمان الحقوق؛ لأن أعداء الحق إذا رأوا يقظة صاحب الحق يخافون منه، ويبتعدون عن مصادمته, ومن مسلمات الحضارة الحديثة أن الأمم الجادة تجهز جيشها، وتعده لحماية أمنها وسلامتها، ولذا لم يكن عجبًا وجود وزارات ومؤسسات في كل دولة
__________
1 سورة الأنفال: 60.(1/645)
لإعداد العدة، وتجهيز القوة حماية للمصالح، وصيانة لحقوق المواطنين من أي عدوان يلحق بها، ونشر الأمن لكل خاضع لنظام الدولة وسيادتها.
ولذا كان توجيه المسلمين لإعداد القوة من بدهيات العقل، ومسلمات العمران والتقدم ومن أساسيات ضمان الأمن وتحقيق السلام.
ب- ضرورة التهيئة النفسية، وتقوية الجانب الروحي في الإنسان، لينشأ المسلم شجاعًا قويًا، لا يخاف إلا من الله تعالى، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} 1.
إن الخور والضعف أمام العدو يولد الهزيمة، ويورث الوطن والأمة الذل والهوان، ولذلك كان واجبًا تربية الأمة على التحمل والصبر، والقيام ببعض ما يكرهون في إطار متطلبات الأمة، ونظامها.
ج- تعلم المجاهدون من تطبيقات الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم النظم العسكرية التي بها يتحقق النصر، من حسن التخطيط، وسعة المشاورة، ومعرفة أسرار العدو، ومقابلة الخصم بما يكافئه, مع التوكل على الله، والاستعانة به سبحانه وتعالى.
د- بينت الشريعة الإسلامية أحكام الإسلام قبل القتال عن طريق تنشيط العلاقات الدولية، ومناقشة الخصم في القضايا المثارة، وعرض الإسلام عليه، عسى أن يتحقق السلام وينتشر الأمن في إطار حكيم حسن، بالكلمة الحرة، والقول الأمين ولذلك كان عرض الإسلام على الآخرين أمرًا واجبًا على من يتصدى لهم ويقابلهم.
هـ- تعلم المسلمون من الجهاد، أهمية القيادة، وضرورة طاعة القائد فيما يأمر به لأنه يوجه الجماعة وفق مرئيات لا يدركها جميع المجاهدين ولأن المواقف الصعبة والمصيرية تحتاج إلى الحسم والتنفيذ، ويضيعها التردد؛ ولذلك كانت طاعة الحاكم قضية واجبة في ميدان الحرب، منعًا للهزيمة والفشل.
__________
1 سورة الأنفال: 65.(1/646)
و تعلم المسلمون من الجهاد شروط مهادنة الأعداء، وطرق التعامل معهم قبل القتال، وأثناءه، وبعده وأساسها العزة، والتزام الحق، والقيام بالواجب.
ز- استفاد المسلمون طرق التعامل مع الغنائم، والفيء، والأسرى كما هو مفصل في كتب الفقه على ضوء التعاليم التي نزل الوحي بها.
ح- وأبواب الفقه مليئة بتفصيلات توضح مكانة الشهيد، ومنزلته عند الله، وكيفية دفنه، والصلاة عليه.
ط- تعلم المسلمون أن النصر لا يعني الغرور والاستعلاء وإنما هو عطاء إلهي، وتقدير رباني يحتاج إلى الشكر، ومداومة الطاعة، واستمرارية العمل لدين الله تعالى.
وهكذا ظهر فقه الجهاد من خلال تطبيقاته في المدينة المنورة.(1/647)
المبحث الخامس عشر: وجاء نصر الله
مدخل
...
No pages(1/)
أولا: تتابع مجئ الوفود إلى المدينة
...
أولا: تتابع مجيء الوفود إلى المدينة
تيقن العرب من انتصار الإسلام، وآمنوا بصدقه وأحقيته فأسرعوا إلى الدخول فيه وبدءوا يرسلون وفودًا من قبلهم يمثلونهم لمبايعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعلم الإسلام، وكان العام التاسع هو قمة هذا التحرك الشامل.
أورد ابن سعد في الطبقات تفصيلات عن سائر الوفود التي جاءت للمدينة المنورة سواء قل عدد أفراد الوفد أو كثر، وسواء كان مجيئها في السنة التاسعة أو العاشرة أو قبل التاسعة أو بعد العاشرة, وسواء أعلن الوفد إسلامه أو اتفق على دفع الجزية، ويمكن مراجعة تفصيلات الوفود في كتب السنة، وفي كتب التاريخ ومؤلفات السيرة وغيرها.(1/648)
ومن أهم الوفود1 التي جاءت إلى المدينة ما يلي:
1- وفد أحمس:
قدم قيس بن غربة الأحمسي في مائتين وخمسين رجلا من أحمس فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أنتم"؟.
فقالوا: نحن أحمس الله، وكان يقال لهم ذلك في الجاهلية.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأنتم اليوم لله".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال: "أعط ركب بجيلة وابدأ بالأحمسيين". ففعل.
2- وفد أزد شنوءة:
قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم صرد بن عبد الله الأزدي في وفد من الأزد مكون من بضعة عشر رجلا فنزلوا على فروة بن عمرو، فحباهم وأكرمهم وأقاموا عنده عشرة أيام فأسلموا، وكان صرد أفضلهم، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أسلم من قومه، وأمره أن يجاهد بهم من يليه من أهل الشرك من قبائل اليمن.
3- وقد أزد عمان:
أسلم أهل عمان فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم العلاء بن الحضرمي يعلمهم شرائع الإسلام ويأخذ صدقة أموالهم، فخرج وفدهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم أسد بن بيرح الطاحي، فلما قابلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه أن يبعث معهم رجلا يقيم أمرهم، فقال مخربة العبدي واسمه مدرك بن خوط: ابعثني إليهم فإن لهم عليّ منة، أسروني يوم جنوب فمنوا عليّ، فوجهه صلى الله عليه وسلم معهم إلى عمان.
وقدم سلمة بن عياذ الأزدي في أناس من قومه، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يعبد وما يدعو إليه، فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله لي أن يجمع كلمتنا وألفتنا،
__________
1 تراجع تفصيلات الوفود في المغازي، والطبقات، وزاد المعاد.(1/649)
فدعا رسول الله لهم، فلما رجع سلمة إلى قومه أسلموا وبارك الله فيهم.
4- وفد بني أسد:
قدم عشرة رهط من بني أسد بن خزيمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول سنة تسع، فيهم حضرمي بن عامر، وضرار بن الأزور، ووابصة بن معبد، وقتادة بن القائف، وسلمة بن حبيش، وطليحة بن خويلد، ونقادة بن عبد الله بن خلف، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد مع أصحابه، فسلموا وقال متكلمهم: يا رسول الله! إنا شهدنا ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنك عبده ورسوله فقبل منهم رسول الله، وسر بإسلامهم وأمرهم بدعوة قومهم، وتعليمهم الإسلام وأكرم وفادتهم ثم عادوا إلى ديارهم.
5- وفد أسلم:
قدم عمير بن أفصى في جماعة من أسلم فقالوا: قد آمنا بالله ورسوله، واتبعنا منهاجك فاجعل لنا عندك منزلة تعرف العرب فضيلتها فإنا إخوة الأنصار، ولك علينا الوفاء والنصر في الشدة والرخاء.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسلم سلمها الله، وغفار غفر الله لها".
وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسلم، ومن أسلم من قبائل العرب ممن يسكن السيف والسهل، وفيه ذكر الصدقة والفرائض في المواشي.
وكتب الصحيفة ثابت بن قيس بن شماس، وشهد عليها أبو عبيدة بن الجراح وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
6- وفد أسيد بن أبي أناس:
قال ابن عباس رضي الله عنه: أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دم أسيد بن أبي أناس لما بلغه أنه هجاه، فأتى أسيد الطائف فأقام بها، فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة خرج سارية بن زنيم إلى الطائف.
فقال له أسيد: ما وراءك؟(1/650)
قال سارية: قد أظهر الله تعالى نبيه ونصره على عدوه، فاخرج يابن أخي إليه فإنه لا يقتل من أتاه.
فحمل أسيد امرأته، وخرج وهي حامل تنتظر، وسار نحو مكة فألقت غلامًا عند قرن الثعالب وأتى أسيد أهله فلبس قميصًا واعتم، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسارية بن زنيم قائم بالسيف عند رأسه يحرسه، فأقبل أسيد حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد أهدرت دم أسيد؟
قال: "نعم".
قال: تقبل منه إن جاءك مؤمنًا؟
قال: "نعم".
فوضع يده في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: هذه يدي في يدك، أشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشهد ألا إله إلا الله، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه وألقى يده على صدره.
7- وفد أشجع:
قدمت أشجع على رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الخندق وهم مائة ورأسهم مسعود بن رخيلة فنزلوا شعب سلع، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر لهم بأحمال التمر، فقالوا: يا محمد لا نعلم أحدًا من قومنا أقرب دارًا منك، ولا أقل عددًا، وقد ضقنا بحربك وبحرب قومك فجئنا نوادعك، فوادعهم صلى الله عليه وسلم ثم أسلموا بعد ذلك.
8- وفد الأشعريين:
روى مسلم بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: $"أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وأضعف قلوبًا والإيمان يمان، والحكمة يمانية، السكينة في أهل الغنم، والفخر والخيلاء في الفدَّادين من أهل الوبر قبل مطلع الشمس1.
__________
1 صحيح مسلم كتاب الإيمان باب تفاضل أهل الإيمان ج2 ص30.(1/651)
وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أتاكم أهل اليمن كأنهم السحاب وهم خيار مَن في الأرض".
فقال رجل من الأنصار: إلا نحن يا رسول الله؟ فسكت, ثم قال: إلا نحن يا رسول الله؟
فقال صلى الله عليه وسلم: "إلا أنتم" 1.
قال: ولما لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلموا وبايعوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأشعريون في الناس كصرة فيها مسك".
9- وفد الأشعث بن قيس:
قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الأشعث بن قيس في وفد كندة في ثمانين راكبًا من كندة، فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده وقد رجلوا جممهم وتكحلوا عليهم جبب الحبرة، وقد كففوها بالحرير، فلما دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: $"ألم تسلموا؟ ".
قالوا: بلى.
قال صلى الله عليه وسلم: "فما بال هذا الحرير في أعناقكم"؟.
فشقوه منها، فألقوه.
10- وفد بارق:
قدم وفد بارق على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا وبايعوا، وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا كتاب من محمد رسول الله لبارق لا تجد ثمارهم ولا ترى بلادهم في مربع ولا مصيف إلا بمسألة من بارق، ومن مر بهم من المسلمين في عرك، أو جدب فله ضيافة ثلاثة أيام، وإذا أينعت ثمارهم فلابن السبيل اللقاط يوسع بطنه من غير أن يقتثم". شهد أبو عبيدة بن الجراح، وحذيفة بن اليمان وكتب أبي بن كعب.
__________
1 زاد المعاد ج3 ص619.(1/652)
11- وفد باهلة:
قدم مطرف بن الكاهن الباهلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح وافدًا لقومه، فقال يا رسول الله أسلمنا للإسلام وشهدنا دين الله في سماواته وأنه لا إله غيره، وصدقناك وآمنا بكل ما قلت فاكتب لنا كتابًا فكتب له:
"من محمد رسول الله لمطرف بن الكاهن ولمن سكن بيئة من باهلة، إن من أحيا أرضًا مواتًا فيها مراح الأنعام فهي له، وعليه في كل ثلاثين من البقر فارض، وفي كل أربعين من الغنم عتود، وفي كل خمسين من الإبل مسنة، وليس للمصدق أن يصدقها إلا في مراعيها وهم آمنون بأمان الله".
ثم قدم نهشل بن مالك الوائلي من باهلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وافدًا لقومه، فأسلم وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم للوفد ولمن أسلم من قومهم كتابًا فيه شرائع الإسلام.
وكتبه عثمان بن عفان رضي الله عنه.
12- وفد بني البكاء:
وفد من بني البكاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تسع ثلاثة نفر على رأسهم معاوية بن ثور بن عبادة البكائي، وهو يومئذ ابن مائة سنة، ومعه ابن له يقال له بشر، والفجيع بن عبد الله بن جندح بن البكاء، ومعهم عبد عمرو، وهو الأصم، فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة وضيافة، وأجازهم، ورجعوا إلى قومهم، وقال معاوية للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أتبرك بمسك، وقد كبرت وابني هذا بر بي فامسح وجهه، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه بشر بن معاوية وأعطاه أعنزًا عفرًا وبرك عليهن.
13- وفد بني بكر بن وائل:
قدم وفد بكر بن وائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رجل منهم: هل تعرف قس بن ساعدة؟(1/653)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس هو منكم، هذا رجل من أباد تحنف في الجاهلية فوافى عكاظًا والناس مجتمعون فكلمهم بكلامه الذي حفظ عنه".
وكان في الوفد بشير بن الخصاصية، وعبد الله بن مرثد، وحسان بن حوط.
وقدم معهم عبد الله بن أسود بن شهاب بن عوف عن عمرو بن الحارث بن سدوس وكان ينزل اليمامة فباع ما كان له من مال باليمامة، وهاجر وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بجراب من تمر فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة.
14- وفود بلى:
قدم وفد من بلى في شهر ربيع الأول سنة تسع فأنزلهم صلى الله عليه وسلم في منزل ببني جديلة، ثم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس مع أصحابه في بيته في الغداة فسلموا عليه وتكلموا معه فقال صلى الله عليه وسلم: "يا رويقع".
قال: لبيك.
قال صلى الله عليه وسلم: "من هؤلاء القوم"؟.
قال: قومي.
قال صلى الله عليه وسلم: "مرحبا بك وبقومك".
قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمنا وافدين عليك، مقرين بالإسلام ونحن على من وراءنا من قومنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرًا يهده للإسلام".
قال فتقدم شيخ الوفد أبو الضبيب فقال: يا رسول الله إنا قدمنا عليك لنصدقنك ونشهد أن ما جئت به الحق، ونخلع ما كنا نعبد ويعبد آباؤنا.
فقال رسول الله: "الحمد لله الذي هداكم للإسلام فكل من مات على غير الإسلام فهو في النار" 1.
__________
1 الطبقات الكبرى ج1 ص330.(1/654)
15- وفود تجيب:
قدم وفد تجيب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم ثلاثة عشر رجلا، وساقوا معهم صدقات أموالهم التي فرض الله عز وجل، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وأكرم منزلهم، وقالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم سقنا إليك حق الله في أموالنا.
فقال صلى الله عليه وسلم: "ردوها فاقسموها على فقرائكم".
قالوا: يا رسول الله ما قدمنا عليك إلا بما فضل من فقرائنا.
فقال أبو بكر: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قدم علينا وفد من العرب بمثل ما وفد به هذا الحي من تجيب.
فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الهدى بيد الله عز وجل، فمن أراد الله به خيرًا شرح صدره للإيمان".
وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أشياء فكتب لهم بها، وجعلوا يسألونه عن القرآن والسنن، فازداد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم رغبة، وأمر بلالا أن يحسن ضيافتهم1.
16- وفود بني تغلب:
قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بني تغلب ستة عشر رجلا مسلمين ونصارى عليهم صلب الذهب، فنزلوا دار رملة بنت الحارث، فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم النصارى على أن يقرهم على دينهم، وعلى أن لا يصبغوا أولادهم في النصرانية وأجاز المسلمين منهم بجوائزهم.
17- وفود ثمالة والحدان:
قدم عبد الله بن علس الثمالي، ومسلمة بن هاران الحداني على رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من قومهما بعد فتح مكة، فأسلموا وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومهم، وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا بما فرض عليهم من الصدقة في أموالهم كتبه ثابت بن قيس بن شماس، وشهد فيه سعد بن عبادة، ومحمد بن مسلمة.
__________
1 المستدرك للحاكم ج2 ص61.(1/655)
18- وفود جذام:
وفد رفاعة بن زيد بن عمير بن معبد الجذامي، ثم أحد بني الضبيب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهدنة قبل خيبر، وأهدى له عبدًا وأسلم فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا: "هذا كتاب من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لرفاعة بن زيد، إني بعثته إلى قومه عامة ومن دخل فيهم يدعوهم إلى رسول الله فمن آمن -وفي لفظ- فمن أقبل منهم ففي حزب الله وحزب رسول الله ومن أدبر -وفي لفظ- من أبى فله أمان شهرين". فلما قدم على قومه أجابوه وأسلموا.
19- وفود جرم:
روى ابن سعد عن سعد بن مرة الجرمي عن أبيه قال: وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان منا يقال لأحدهما: الأصقع بن شريح بن صريم بن عمرو بن رياح، والآخر هوذة بن عمرو بن يزيد بن عمرو بن رياح فأسلما، وكتب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا.
20- وفود جرير بن عبد الله البجلي:
بعث إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته فقال: "ما جاء بك"؟.
قلت: جئت لأسلم. فألقى إليّ كساءه وقال: "إذًا أتاكم كريم قوم فأكرموه ".
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أدعوك إلى شهادة ألا إله إلا الله وأني رسول الله وأن تؤمن بالله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وتصلي الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم شهر رمضان، وتنصح لكل مسلم، وتطيع الوالي وإن كان عبدًا حبشيًا".
21- وفود همدان:
قدموا سنة تسع بعد مرجعه صلى الله عليه وسلم من تبوك، فكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا أقطعهم فيه ما سألوه، وأمّر عليهم مالك بن النمط، واستعمله على من أسلم من قومه، وبعث إلى سائرهم خالد بن الوليد يدعوهم إلى الإسلام، فأقام ستة أشهر يدعوهم فلم يجيبوه، ثم بعث علي بن أبي طالب، وأمره أن يقفل خالدًا، فجاء عليّ إلى همدان، وقرأ عليهم كتابًا(1/656)
من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاهم إلى الإسلام فأسلموا جميعًا، وكتب عليّ ببشارة إسلامهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قرأ الكتاب خر ساجدًا، ثم رفع رأسه فقال: "السلام على همدان، السلام على همدان".
22- وفود فزارة:
قدم هذا الوفد سنة تسع بعد مرجعه صلى الله عليه وسلم من تبوك، قدم في بضعة عشر رجلا جاءوا مقرين بالإسلام، وشكوا جدب بلادهم، فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر، فرفع يديه واستسقى وقال: "اللهم اسق بلادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحيي بلدك الميت، اللهم اسقنا غيثًا، مغيثًا، مريحًا، طبقًا، واسعًا، عاجلا، غير آجل، نافعًا غير ضار، اللهم سقيا رحمة، لا سقيا عذاب، ولا هدم ولا غرق، ولا محق، اللهم اسقنا الغيث وانصرنا على الأعداء" 1.
23- وفد نجران:
كانت وفادة أهل نجران2 سنة تسع، وقوام الوفد ستون رجلا، منهم أربعة وعشرون من الأشراف، فيهم ثلاثة كانت إليهم زعامة أهل نجران، أحدهم العاقب، كانت إليه الإمارة والحكومة واسمه عبد المسيح، والثاني السيد، كانت تحت إشرافه الأمور الثقافية والسياسية واسمه الأيهم أو شرحبيل، والثالث الأسقف وكانت إليه الزعامة الدينية، والقيادة الروحانية، واسمه أبو حارثة بن علقمة.
ولما نزل الوفد بالمدينة، ولقي النبي صلى الله عليه وسلم سألهم وسألوه، ثم دعاهم إلى الإسلام، وتلا عليهم القرآن فامتنعوا، وسألوه عما يقول في عيسى عليه السلام، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم يومه ذلك حتى نزل عليه: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ، فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ
__________
1 زاد المعاد ج3 ص653.
2 زاد المعاد ج3 ص629.(1/657)
مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} 1.
وقالوا: إنا نعطيك ما سألتنا، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم الجزية، وصالحهم على ألفي حلة ألف في رجب، وألف في صفر، ومع كل حلة أوقية، وأعطاهم ذمة الله وذمة رسوله، وترك لهم الحرية الكاملة في دينهم، وكتب لهم بذلك كتابًا، وطلبوا منه أن يبعث عليهم رجلا أمينًا فبعث عليهم أمين هذه الأمة أبا عبيدة بن الجراح، ليقبض مال الصلح.
ثم طفق الإسلام يفشو فيهم، فقد ذكروا أن السيد والعاقب أسلما بعدما رجعا إلى نجران، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليهم عليًا، ليأتيه بصدقاتهم وجزيتهم، ومعلوم أن الصدقة إنما تؤخذ من المسلمين.
24- وفد بني حنيفة:
كانت وفادتهم سنة تسع وكانوا سبعة عشر رجلا فيهم مسيلمة الكذاب وهم مسيلمة بن ثمامة بن كبير بن حبيب بن الحارث من بني حنيفة، نزل هذا الوفد في بيت رجل من الأنصار، ثم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا، واختلفت الروايات في مسليمة الكذاب، ويظهر بعد التأمل في جميعها أن مسيلمة صدر منه الاستنكاف والأنفة والاستكبار والطموح إلى الإمارة، وأنه لم يحضر مع سائر الوفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد استئلافه بالإحسان بالقول والفعل أولا، فلما رأى أن ذلك لا يجدي فيه نفعًا تفرس فيه الشر.
25- وفد بني عامر بن صعصعة:
كان فيهم عامر بن الطفيل عدو الله وأربد بن قيس أخو لبيد لأمه وخالد بن جعفر وجبار بن جعفر، وجبار بن أسلم، وكانوا رؤساء القوم، وشياطينهم وكان عامر هو
__________
1 سورة آل عمران: 59-61.(1/658)
الذي غدر بأصحاب بئر معونة، فلما أراد هذا الوفد أن يقدم المدينة تآمر عامر وأربد، واتفقا على الفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلما جاء الوفد جعل عامر يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، ودار أربد خلفه، واخترط سيفه شبرًا ثم حبس الله يده فلم يقدر على سله وعصم الله نبيه ودعا عليهما النبي صلى الله عليه وسلم, فلما رجعا أرسل الله على أربد وجمله صاعقة فأحرقته, وأما عامر فنزل على امرأة سلولية فأصيب بغدة في عنقه فمات وهو يقول: أغذة كغدة البعير وموتًا في بيت السلولية.
وفي صحيح البخاري: أن عامرًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أخيرك بين خصال ثلاث: يكون لك أهل السهل ولي أهل المدر، أو أكون خليفتك من بعدك، أو أغزوك بغطفان بألف أشقر وألف شقراء، فطعن في بيت امرأة، فقال: أغدة كغدة البعير، في بيت امرأة من بني فلان ايتوني بفرسي، فركب فمات على فرسه.
26- وفد طيئ:
قدم هذا الوفد وفيهم زيد الخيل، فلما كلموا النبي صلى الله عليه وسلم، وعرض عليهم الإسلام أسلموا وحسن إسلامهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيد: "ما ذكر لي رجل من العرب بفضل، ثم جاءني إلا رأيته دونما يقال فيه، إلا زيد الخيل فإنه لم يبلغ كل ما فيه". وسماه زيد الخير.
وهكذا:
تتابعت الوفود من كل أنحاء جزيرة العرب، ودخل الجميع في دين الله أفواجًا.
وقد استعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لاستقبال الوفود، والترحيب بهم ورعايتهم وتزويدهم بما يحتاجون إليه في دين الله تعالى.(1/659)
ثانيًا: نظام استقبال الوفود
وضع النبي صلى الله عليه وسلم نظامًا حسنًا في معاملة الوفود يعتمد على النقاط التالية:
1- استقبال الوفود:
عين رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه لاستقبال الوفود حين وصولهم إلى المدينة، وتيسير معاشهم مدة إقامتهم في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2- تهيئة مكان نزول الوفود:
أعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عددًا من دور المدينة لإنزال الوفود بها، ومنها دار رملة بنت الحارث النجارية، وهي دار واسعة، وفيها نخيل وزروع، وقد نزل بها وفد سلامان، ووفد تميم بن عيينة بن حصن، ووفد بني كلاب، ومنها دار المغيرة بن شعبة، ونزل بها الأخلاف من ثقيف، ومنها دار أبي أيوب الأنصاري ونزل بها وفد نجران, ومنها دار يزيد بن أبي سفيان، ونزل بها وفد همدان, ومنها دار بلال، وقد نزل بها ملك أيلة حين قدم مع أهل الشام واليمن.
3- إكرام الوفد:
أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بأن يحسنوا استقبال الوفود، ويكرموا وفادتهم فقاموا بذلك خير قيام، ففي طبقات ابن سعد أن وفد بني حنيفة نزلوا دار رملة فأكلوا مرة خبزًا ولحمًا، ومرة خبزًا ولبنًا، ومرة خبزًا وسمنًا.
وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رحب بوفد تجيب، وأكرمهم، وحباهم، وأمر بلالا أن يحسن ضيافتهم، ووفادتهم.
4- الاستعداد للقاء الوفد:
اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم قبة في المسجد النبوي يستقبل فيها الوفود، وجعل خالد بن سعيد بن العاص لاستقابلهم، وتهيئة لقائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويستأذن لهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم حين يلتقي بالوفد يلبس أحسن ثيابه، ويأمر أصحابه بذلك، فقد لبس صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يوم استقبال وفد كندة حللا يمانية وقد بنى الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم دكة من طين يجلس عليها حين يستقبل الوفود.
5- الاستماع للوفد أولا:
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستقبل الوفد، ويستمع منه أولا، ليعرف موضوعه، ومذهبه وبعد ذلك يرد عليه، أو يكلف أحدًا من أصحابه بالرد.
وكان يجيب على أسئلة الوفد ويعرض عليهم الإسلام، ويقبل منهم الجزية، وكان يسمع للوفد أولا، ثم يرد عليهم.
وأكتفي هنا بإيراد نموذجين:(1/660)
النموذج الأول:
قدم وفد تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكلم خطيبهم فقال "الحمد لله الذي له علينا الفضل والمنُّ، وهو أهله، الذي جعلنا ملوكًا، ووهب لنا أموالا وعظامًا، نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعز أهل المشرق، وأكثره عددًا، وأيسره عدة.
فمن مثلنا في الناس؟
ألسنا برءوس الناس وأولي فضلهم؟
فمن فاخرنا فليعدد مثل ما عددنا، وإنا لو نشاء لأكثرنا الكلام، ولكنا نحيا من الإكثار فيما أعطانا، وإنا نعرف بذلك، أقول هذا لأن تأتوا بمثل قولنا، وأمر أفضل من أمرنا، ثم جلس.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن الشماس، أخي بني الحارث بن الخزرج: $"قم فأجب الرجل في خطبته".
فقام ثابت فقال: الحمد لله الذي السماوات والأرض خلقه، قضى فيهن أمره، ووسع كرسيه علمه، ولم يك شيء قط إلا من فضله.
ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكًا، واصطفى من خير خلقه رسولا، أكرمه نسبًا وأصدقه حديثًا، وأفضله حسبًا، فأنزل عليه كتابًا وائتمنه على خلقه فكان خيرة الله من العالمين.
ثم دعا الناس إلى الإيمان به، فآمن برسول الله المهاجرون من قومه وذوو رحمه أكرم الناس حسبًا، وأحسن الناس وجوهًا، وخير الناس فعالا.
ثم كان أول الخلق إجابة، واستجاب لله حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن، فنحن أنصار الله ووزراء رسوله، نقاتل الناس حتى يؤمنوا بالله، فمن آمن بالله ورسوله منع منا ماله ودمه، ومن كفر جاهدناه في الله أبدًا وكان قتله علينا يسيرًا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي وللمؤمنين والمؤمنات، والسلام عليكم.
قال ابن إسحاق: فلما فرغ ثابت بن الشماس من قوله، قال الأقرع بن حابس وأبي: إن هذا الرجل لمؤتى له لخطيبه أخطب من خطيبنا ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أعلى من أصواتنا.(1/661)
فلما فرغ القوم أسلموا، وجوزهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسن جوائزهم.
النموذج الثاني:
قدم ضمام بن ثعلبة وافدًا عن بني سعد بن بكر، فأقبل حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه فقال: أيكم ابن عبد المطلب.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا ابن عبد المطلب".
قال: أمحمد؟
قال: "نعم".
قال: يابن عبد المطلب، إني سائلك ومغلظ عليك في المسألة، فلا تجدن بها عليّ في نفسك.
قال: "لا أجد في نفسي، فسل عما بدا لك".
قال: أنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك، آلله بعثك لنا رسولا؟
قال: "اللهم نعم".
قال: فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك، آلله أمرك أن تأمرنا أن نعبده وحده لا نشرك به شيئًا، وأن نخلع هذه الأنداد التي كان آباؤنا يعبدون معه؟
قال: "اللهم نعم".
قال: فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك، آلله أمرك أن نصلي هذه الصلوات الخمس؟
قال: "اللهم نعم".
قال: ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة، الزكاة، والصيام، والحج، وشرائع الإسلام كلها، ينشده عند كل فريضة منهما كما ينشده في التي قبلها حتى إذا فرغ قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله وسأؤدي هذه الفرائض، وأجتنب ما نهيتني عنه، ثم لا أزيد ولا أنقص، ثم انصرف إلى بعيره، راجعًا(1/662)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن صدق ذو العقيصتين دخل الجنة".
إن المواجهة الصادقة بين الوفود ورسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما كانت تحقق الثمار المطلوبة، وبها انتشر الإسلام في كل الجزيرة العربية.
6- الإهداء للوفد:
يروي البخاري بسنده عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى عند موته بثلاث منها إجازة الوفد بمثل ما كان يجيزهم.
وقد أعطي النبي صلى الله عليه وسلم قروة بن عمرو الجذامي اثني عشر أوقية من الفضة، وأعطى كل واحد من وفد تميم ذلك، وفعل ذلك مع كل من وفد عليه.
وسر هذا الإهداء أنه يولد الحب، ويعظم الإخلاص ويبرز حسن المعاملة.
7- توديع الوفود:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يحسن توديع الوفود كما يحسن استقبالهم، وكان يوصيهم بالدعوة، ويبعث معهم من يعلمهم القرآن إن احتاجوا إليه.
وهكذا وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم سياسة حسنة في التعامل مع رجال الوفود التي قدمت إليه في المدينة المنورة لأن كل وفد يمثل قبيلته وجماعته، فتقدير الوفد وتكريمه يعد تكريمًا للقبيلة كلها.
وأيضا فإن تأليف القلوب، والتعامل الكريم، وإبراز حسن الخلق من أساسيات التحرك بالدعوة بل هو الدعوة بعينها.
ويجب على المسلمين أن يهتموا بهذا الجانب الحيوي، وبخاصة أن العالم المعاصر تشابكت مصالحه، وكثرت اللقاءات فيه، وساعدت المخترعات الحديثة في تواصل الناس، وترابط المصالح، وبذلك تلتقي الدعوة مع الفطرة، ومع التقدم الحضاري الإنساني.(1/663)
ثالثًا: حج أبي بكر رضي الله عنه وإعلان نهاية الوثنية في الجزيرة العربية:
اقترب موسم الحج في العام التاسع الهجري فكره رسول الله أن يخرج للحج مع المشركين وبخاصة أنه صلى الله عليه وسلم عقد معهم عقد أمان يوم تبوك.
إن اشتراك رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المشركين في حج البيت يؤدي إلى ضرار بالمسلمين وشعائرهم؛ لأن المشركين يعارضون بتلبيتهم تلبية المسلمين فإن قال المسلمون: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك قال المشركون: إلا شريكا هو لك، كما أنهم يطوفون بالبيت عرايا، ويرفعون أصواتهم بالشرك حيث يعتقدون ذلك وليس هناك ما يمنعهم من حج بيت الله.
وفي ذلك إفساد لروحانية الحج، ومضيعة لآثاره، كما إن اشتراك الرسول معهم في حجهم وبدعهم يعد إقرارًا لهم فيما يفعلون.
لكل ذلك كره رسول الله أن يحج معهم، واستعمل على الحج أبا بكر الصديق رضي الله عنه ليؤكد ثبات حق المسلمين في الحج وليتعلم المسلمون الحج عمليًا لأهمية العمل في إتقان أداء النسك.
خرج أبو بكر رضي الله عنه في ثلاثمائة رجل وعشرين بدنة قلدها صلى الله عليه وسلم النعال وأشعرها بيده صلى الله عليه وسلم في الجانب الأيمن، واستعمل عليها ناجية بن جندب الأسلمي، وساق أبو بكر رضي الله عنه خمس بدنات، وحج عامئذ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فأهدى بدنا، وأهل أبو بكر رضي الله عنه من ذي الحليفة.
وسار حتى إذا كان بالعرج في السحر، سمع رغاء القصواء، فإذا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه عليها فقال له أبو بكر: قد استعملك رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحج؟!
قال عليّ: لا ولكن بعثني أقرأ سورة براءة على الناس، فأنبذ إلى كل ذي عهد عهده1 وكانت عادة العرب أن القوم منهم إذا عاهد سيدهم عهدًا مع غيره لا ينقضه
__________
1 المغازي ج3 ص1077، البداية والنهاية ج5 ص37.(1/664)
إلا هو أو أقرب الناس إليه من عصبته النسبية.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إلى أبي بكر رضي الله عنه أن يخالف المشركين, فيقف يوم عرفة بعرفة ولا يقف بجمع "مزدلفة" ولا يدفع من عرفة حتى تغرب الشمس، ويدفع من جمع قبل طلوع الشمس، فخرج أبو بكر رضي الله عنه حتى أتى مكة وهو مفرد بالحج، فخطب قبل التروية بيوم بعد الظهر، وطاف يوم التروية حين زاغت الشمس بالبيت سبعًا ثم ركب راحلته من باب بني شيبة، وصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح بمنى، ولم يركب حتى طلعت الشمس على ثبير1، فانتهى إلى نمرة2، فنزل في قبة من شعر فقال فيها، وركب راحلته لما زاغت الشمس، فخطب ببطن عرفة، ثم أناخ فصلى الظهر والعصر بأذان وإقامتين، ثم ركب راحلته فوقف بالهضاب من عرفة، فلما أفطر الصائم دفع يسير العنق حتى نزل بجمع قريبًا من النار التي على قزح3 فلما طلع الفجر صلى الفجر ثم وقف فلما أسفر دفع وجعل يقول في وقوفه: "يا أيها الناس، أسفروا". ثم دفع قبل الشمس، وكان يسير بهدوء حتى انتهى إلى "محسر"4 فأوضع راحلته لتسرع، فلما جاز وادي محسر عاد إلى مسيره الأول، حتى رمى الجمرة راكبًا بسبع حصيات، ثم رجع إلى المنحر فنحر، ثم حلق.
وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم النحر عند الجمرة براءة، ونبذ إلى كل ذي عهد عهده وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان".
وخطب أبو بكر رضي الله عنه يوم النحر بعد الظهر على راحلته، وأقام يرمي الجمار ماشيًا ذاهبًا وجاثيًا فلما رمى يوم الصدر هو "اليوم الرابع"، وجاوز العقبة ركب، وصلى بالأبطح الظهر والعصر وصلى بمكة المغرب والعشاء، ثم خرج من ليلته قافلا إلى المدينة5 ولما علم العرب جميعًا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبرأ من الشرك والمشركين، ونقض العهود التي عاهدهم عليها, وأعطاهم مهلة أربعة أشهر ليستريحوا في الأرض آمنين، ويختاروا لأنفسهم ما يريدون.
لما حدث ذلك أقبل على الإسلام من كان مترددًا, فأسلم مشركو مكة, وأقبلت وفود معان، وغسان من الشمال، وغامد، ونجران من الجنوب وهكذا جاءت الوفود من الأماكن النائية لتعلن تمام إسلام الجزيرة كلها ودخول أبنائها في دين الله تعالى.
__________
1 ثبير مرتفع عال بمنى.
2 نمرة واد بجوار عرفة وهو ليس منها.
3 قزح المرتفع الذي يقف عليه الإمام عند المزدلفة.
4 محسر واد صغير يقع بين المزدلفة ومنى يستحب الإسراع حين المشي فيه.
5 المغازي ج3 ص1078.(1/665)
رابعًا: حجة الوداع وتحديد المعالم الكبرى في الإسلام
ثم كانت حجة الوداع، ويقال لها: حجة الإسلام، وحجة البلاغ، وحجة التمام، وقد أجمع صلى الله عليه وسلم الخروج في ذي القعدة سنة عشر من مهاجره وقد أسلمت جزيرة العرب ومن شاء الله من أهل اليمن، فصلى الظهر بمسجد المدينة أربعًا، وأذن في الناس بالحج، فقدم المدينة بشر كثير يريدون أن يأتموا برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعملوا بعمله، وسار من المدينة متدهنًا مترجلا يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة، ومعه أزواجه، وأهل بيته، وعامة المهاجرين، فلما انتهى إليه اجتماع أصحابه والهدى دخل مسجد ذي الحليفة فصلى العصر ركعتين1، ثم خرج فدعا بالهدى فأشعره في الجانب الأيمن بيده ووجهه إلى القبلة، وقلده نعلين نعلين ثم ركب ناقته، فلما استوى بالبيداء أحرم2.
وساق مائة بدنة وأمر ناجية بن جندب أن يشعر ما فضل من البدن، واستعمله على الهدي، وكان مع ناجية بن جندب فتيان من أسلم، وكانوا يسوقونها سوقًا ويتبعون بها الرعي، وعليها الجلال، فقال ناجية بن جندب: يا رسول الله! أرأيت ما عطب منها كيف أصنع به؟ قال صلى الله عليه وسلم: تنحره وتلقى قلائده في دمه، ثم تضرب به صفحته اليمنى، ثم لا تأكل منه ولا أحد من أهل رفقتك.
وأمر من كان معه هدى أن يهل كما أهل، وسار وبين يديه وخلفه وعن يمينه وشماله أمم لا يحصون كثرة: كلهم قد قدموا ليأتموا به صلى الله عليه وسلم ويقال: كان معه تسعون ألفًا، ويقال: مائة وأربعة عشر ألفًا، ويقال: أكثر من ذلك.
__________
1 صحيح البخاري كتاب الحج باب ما يلبس المحرم.
2 صحيح مسلم كتاب الحج باب تقليد الهدي.(1/666)
ومر صلى الله عليه وسلم برجل يسوق بدنة، فقال: "اركبها، ويلك"!.
قال: إنها بدنة.
قال: "اركبها". وكان يأمر المشاة أن يركبوا على بدنهم.
وطيبته عائشة رضي الله عنها لإحرامه بيدها، وأحرمت وتطيبت، فلما كانوا بالقاحة سال من الصفرة على وجهها، فقال: ما أحسن لونك الآن يا شقيراء.
وكان يصلي بين مكة والمدينة ركعتين أمثالا لا يخاف إلا الله، فلما قدم مكة صلى بهم ركعتين ثم سلم وقال: "أتموا صلاتكم يا أهل مكة فإنا سفر".
وأصبح صلى الله عليه وسلم يوم الأحد بيلملم1، ثم راح فتعشى بشرف السيالة2 وصلى المغرب والعشاء، ثم صلى الصبح بعرق الظبية, بين الروحاء والسيالة، وهو دون الروحاء، ثم نزل الروحاء، فإذا بحمار عقير فقال: دعوه حتى يأتي صاحبه، فأهداه له صلى الله عليه وسلم، فأمر به أبا بكر رضي الله عنه فقسمه بين الصحابة، وقال: "صيد البر لكم حلال إلا ما صدتم أو صيد لكم". ثم راح من الروحاء فصلى العصر بالمنصرف، وصلى المغرب والعشاء بالمتعشى وتعشى به، وصلى الصبح بالأثاية، وأصبح يوم الثلاثاء بالعرج.
ولما انتهى إلى الثنيتين بات بينهما بين كداء وكدى ثم أصبح فاغتسل ودخلها نهار الاثنين من ذي الحجة من أعلاها حتى انتهى إلى باب بني شيبة، فلما رأى البيت رفع يديه، فوقع زمام راحلته فأخذه بشماله، ثم قال حين رأى البيت: "اللهم زد هذا البيت تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا ومهابة، وزد من عظمه ممن حجه واعتمره تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا ومهابة وبرًا" 3.
ولما دخل المسجد بدأ بالطواف قبل الصلاة.
وطاف راكبًا على راحلته، فلما انتهى إلى الركن استلمه وهو مضطبع بردائه، وقال: "بسم الله والله أكبر". ثم رمل ثلاثة من الحجر إلى الحجر، وكان يأمر من استلم الركن أن يقول: "بسم الله والله أكبر إيمانًا بالله، وتصديقًا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم". وقال
__________
1 يلملم على مسيرة يومين من مكة عند الطائف، وهو ميقات أهل اليمن.
2 السيالة موضع بين مكة والمدينة.
3 زاد المعاد ج2 ص224.(1/667)
فيما بين الركن اليماني والأسود {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} 1.
ولم يستلم من الأركان إلا اليماني والأسود ومشى أربعة أشواط على مهل.
ثم انتهى خلف المقام فصلى ركعتين يقرأ فيهما {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} 2 و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 3 ثم عاد إلى الركن فاستلمه.
وقال لعمر رضي الله عنه: "إنك رجل قوي، إن وجدت الركن خاليًا فاستلمه، وإلا فلا تزاحم عليه فتؤذي".
وقال لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: "كيف صنعت بالركن يا أبا محمد "؟
فقال: استلمت وتركت.
قال: "أصبت".
ثم خرج إلى الصفا من باب بني مخزوم، وقال: "أبدأ بما بدأ الله به". وسعى على راحلته فصعد على الصفا فكبر سبع تكبيرات، وقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده". ثم دعا بين ذلك، ونزل إلى المروة، فلما انصبت قدماه في الوادي رمل وقال في المشي: "أيها الناس! إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا، وسعى حتى انكشف إزاره عن فخذه". وقال في الوادي: "رب اغفر وارحم، وأنت الأعز الأكرم". فلما انتهى إلى المروة فعل عليها مثل ما فعل على الصفا، فبدأ بالصفا وختم بالمروة.
وأقام بمكة يوم الثلاثاء والأربعاء والخميس، وكان يوم التروية يوم الجمعة، فخطب قبل التروية بيوم بعد الظهر بمكة، وقام يوم التروية بين الركن والمقام، فوعظ الناس وقال: "من استطاع أن يصلي الظهر بمنى فليفعل". فصلى في حجته هذه صلاة أربعة أيام, وهو مقيم بمكة حتى خرج إلى منى.
__________
1 سورة البقرة: 201.
2 سورة الكافرون: 1.
3 سورة الإخلاص: 1.(1/668)
وركب حين زاغت الشمس في يوم التروية، بعد أن طاف بالبيت فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح بمنى.
ثم أصبح فسار إلى عرفة، ولم يركب من منى حتى رأى الشمس قد طلعت، ثم ركب إلى عرفة، ونزل بنمرة، وقد ضرب له بها قبة من شعر، ويقال: إنما قال إلى فيء صخرة، وميمونة رضي الله عنها تتبع ظلها حتى راح، وأزواجه في قباب خز فلما كان حين زاغت الشمس أمر براحلته القصواء، فرحلت برحل رث وقطيفة لا تساوي أربعة دراهم، فلما توجه قال: "اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة". ثم أتى بطن عرنة، وكانت قريش لا تشك أنه لا يتجاوز المزدلفة يقف بها، فقال نوفل بن معاوية الديلمي وهو يسير إلى جنبه: يا رسول الله ظن قومك أنك تقف بجمع.
فقال صلى الله عليه وسلم: "لقد كنت أقف بعرفة قبل النبوة خلافًا لهم".
وكانت قريش كلها تقف بجمع إلا شيبة بن ربيعة من بينهم فإنه كان يقف بعرفة.
وخطب صلى الله عليه وسلم حين زاغت الشمس، ببطن عرنة على ناقته فلما كان آخر خطبته أذن بلال وسكت صلى الله عليه وسلم من كلامه، فلما فرغ بلال من أذانه تكلم بكلمات، وأناخ راحلته، وأقام بلال فصلى عليه السلام الظهر، ثم أقام العصر جمع بينهما بأذان وإقامتين، ثم ركب، وهو يشير بيده إلى الناس: "ارتفعوا إلى عرفة". وكان من خطبته بعرفة قبل الصلاتين:
"أيها الناس إني والله ما أدري لعلي لا ألقاكم بمكاني هذا، بعد يومكم هذا، رحم الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، واعلموا أن أموالكم ودماءكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا، واعلموا أن الصدور لا تغل على ثلاث: إخلاص العمل لله، ومناصحة أهل الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من وراءهم، ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، وأول دماء الجاهلية أضع دم إياس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب كان مسترضعًا في بني سعد بن بكر فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع كله، وأول ربا أضعه ربا العباس بن(1/669)
عبد المطلب، اتقوا الله في النساء إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، وإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاضربوهن ضربًا غير مبرح، فإن انتهين فلهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن عضتم به: كتاب الله وأنتم مسئولون عني، فما أنتم قائلون؟ ".
قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، ثم قال بإصبعه السبابة يشير إلى السماء يرفعها ويكبها ثلاثًا: "اللهم اشهد".
ووقف على راحلته حتى غربت الشمس يدعو ونزل عليه وهو واقف بعرفة قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1.
ومال إلى شعب الأذاخر، عن يسار الطريق بين المأزمتين فقضى حاجته، ولم يصل حتى نزل قريبًا من الدار التي على قزح، وصلى المغرب والعشاء بالمزدلفة بأذان واحد لهما، وبإقامتين، لكل صلاة منهما إقامة، ولم يسبح بينهما، ولا آثر واحدة منهما، فلما كان في السحر أذن لمن استأذنه من أهل الضعف من الذرية والنساء في التقدم من جمع قبل حطمة الناس وحبس نساءه حتى دفعن بدفعه حين أصبح، فرمى الذين تقدموا الجمرة قبل الفجر أو مع الفجر.
ولما برق الفجر صلى عليه السلام الصبح، ثم ركب راحلته ووقف على قزح.
وأردف الفضل بن العباس من مزدلفة إلى منى، وقال: "هذا الموقف وكل المزدلفة موقف". وحمل حصى العقبة من المزدلفة، وأوضع في وادي محسر ولم يقطع التلبية حتى رمى الجمرة ورمى جمرة العقبة يوم النحر على ناقته، بلا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك.
ولما انتهى إلى المنحر قال: "هذا المنحر، وكل منى منحر، وكل فجاج مكة طريق ومنحر". ثم نحر بيده ثلاثًا وستين بدنة بالحربة، ثم أعطى رجلا فنحر ما بقي.
ولما فرغ من نحر الهدي دعا الحلاق فحلق.
__________
1 سورة المائدة: 3.(1/670)
وخطب في حجته صلى الله عليه وسلم ثلاث خطب: الأولى قبل التروية بيوم بعد الظهر بمكة، والثانية يوم عرفة بعرفة بعد الظهر على راحلته القصواء، والثالثة يوم النحر بعد الصلاة، وكانت خطبة يوم النحر أطولها وأهمها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم وضح فيها المعالم الكبرى في الإسلام وهو يودع أصحابه عند الموقف العظيم، وهذا نص خطبة النحر كما ذكرها ابن هشام والمقريزي وغيرها.
"أيها الناس! اسمعوا من قولي واعقلوه، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا أيها الناس! أي شهر هذا"؟ فسكتوا.
فقال: "هذا شهر حرام".
وأي بلد هذا؟ فسكتوا، فقال: "بلد حرام".
وأي يوم هذا؟ فسكتوا فقال: "يوم حرام".
ثم قال: "إن الله حرم دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، حرمة شهركم هذا، في بلدكم هذا، في يومكم هذا إلى أن تلقوا ربكم، ألا هل بلغت"؟. قالوا: نعم.
قال: "اللهم اشهد! ".
ثم قال: "إنكم سوف تلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا هل بلغت"؟ قال الناس: نعم!
قال: "اللهم اشهد! ألا ومن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، ألا وإن كل ربا في الجاهلية موضوع، وإن كل دم في الجاهلية موضوع، ولكن لكم رءوس أموالكم لا تظلِمون ولا تظلَمون، قضى الله أنه لا ربا، وإن ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله، وأول دمائكم أضع دم إياس بن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعًا في بني سعد بن ليث فقتلته هذيل، ألا هل بلغت"؟.
الوا: اللهم نعم!
قال: اللهم اشهد! فليبلغ الشاهد الغائب، ألا إن كل مسلم محرم على كل مسلم، ولا يحل مال امرئ مسلم إلا ما أعطي عن طيب نفس".(1/671)
فقال عمرو بن يثربي: يا رسول الله! أرأيت إن لقيت غنم ابن عمي اجتزر منها شاة؟ فقال: "إن لقيتها نعجة تحمل شفرة وأزنادًا بخبت الجميش فلا تهجها".
ثم قال: "أيها الناس! {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} 1.
يحرمون ما أحل الله، ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله منها أربعة حرم: ثلاثة متوالية: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب الذي يدعى شهر مضر: الذي جاء بين جمادى الآخرة وشعبان، والشهر تسعة وعشرون وثلاثون، ألا هل بلغت"؟.
فقال الناس: نعم.
فقال: "اللهم اشهد".
ثم قال: أيها الناس إن للنساء عليكم حقًا، وإن لكم عليهن حقًا: فعليهن ألا يوطئن فرشكم أحدًا ولا يدخلن بيوتكم أحدًا تكرهونه إلا بإذنكم، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع، وأن تضربوهن ضربًا غير مبرح، فإن انتهين وأطعنكم فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وإنما النساء عندكم عوان، لا يملكن لأنفسهن شيئًا، وإنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيرًا، ألا هل بلغت؟ ".
قال الناس: نعم!
قال: "اللهم اشهد. أيها الناس! إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه، ولكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرونه من أعمالكم، إن المسلم أخو المسلم، وإنما المسلمون إخوة، ولا يحل لامرئ مسلم دم أخيه ولا ماله إلا بطيب نفس منه، وإنما أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم، وحسابهم على الله، ولا تظلموا أنفسكم، ولا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض، إني قد
__________
1 سورة التوبة: 37.(1/672)
تركت فيكم ما لا تضلون به: كتاب الله، ألا هل بلغت"؟.
قال الناس: نعم.
قال: "اللهم اشهد" 1.
وقد تضمنت الخطبة القضايا التالية:
1- بيان ما لمكة وأشهر الحج ويوم النحر من حرمة تدعو المسلم إلى المحافظة عليها.
2- تحريم العدوان على المسلم وضرورة المحافظة على كيانه الإنساني الكامل، وأن حرمة الإنسان لا تقل عند الله عن حرمة مكان الحج وزمنه ويومه.
3- توضيح إطار المسئولية الدينية التي يلتزم الإنسان بها في صدق وأمانة وإخلاص بعيدًا عن المحسوبية، والعنصرية والمحاباة.
4- ضرورة الفضل التام بين ما كان في الجاهلية وما جاء به الإسلام، فلا استمرار لعادة ولا تقدير لحكم سابق إن خالفه الإسلام أو هدمه.
5- الزمان ثابت لا يتغير وهو يدور مع الأيام والشهور ولا يصح تغييره للهوى والعبث.
6- بيان أن المرأة صنو الرجل في المسئولية والجزاء، ولهن حقوقهن في إطار خلقتهن وعلى الرجل أن يحترم في المرأة إنسانيتها، وأن يتقي الله تعالى وهو يعاملها.
7- على المسلمين أن يعلموا أن عدوهم الأكبر هو إبليس اللعين، وهم مكلفون بمقاومته والحذر من ألاعيبه.
8- وكان صلى الله عليه وسلم يشهد الناس عن كل قضية يذكرها لهم ويبرئ ذمته أمام ربه ويناديه: "اللهم فاشهد".
9- حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسئولية للمسلمين، وأشهد الله على أنه أدى الأمانة، وبلغ الرسالة.
وبذلك وضح للمسلمين أهم ما يحتاجون إليه من توجيهات ودروس.
__________
1 إمتاع الأسماع ج1 ص510 إلى 532, سيرة النبي لابن هشام ج2 ص603، 604.(1/673)
خامسًا: آخر بعوث النبي صلى الله عليه وسلم بعث أسامة
كبر على الرومان أن ينضم أتباعهم السابقون من عرب الشمال إلى ركب الإسلام واتباع محمد صلى الله عليه وسلم فأخذوا في اضطهاد من يعلن إسلامه، وقتلوا والي "معان" بعد دخوله في الإسلام وانضمامه إلى المسلمين، فكان لا بد من تلقين الرومان درسًا يعلمون به أن محمدًا لن يترك أتباعه، ويدركون أن عاقبة عدوانهم ستنقلب عليهم, وأن مصلحتهم في تجنب معاداة المسلمين، وعدم الاستهانة بهم وبدينهم فأخذ صلى الله عليه وسلم في أوائل العام الحادي عشر بتجهيز جيش ضخم وأمر عليه الصحابي "أسامة بن زيد" رضي الله عنه ولم يبلغ بعد الثامنة عشرة، وجعل في الجيش كبار الصحابة, وأمر صلى الله عليه وسلم أسامة أن يطأ أرض الروم ولا يتعمق في المسير لتحقيق هدف واضح يؤدي إلى إرهاب الروم، ويمنعهم من العدوان على المسلمين والتعدي على بلادهم, وقد تم تجهيز الجيش، واستعد للرحيل، وشاءت إرادة الله تعالى أن تكون حركته في أول عهد أبي بكر رضي الله عنه بعدما لقي رسول الله ربه في هذه الأثناء.
ولعل من أوضح دروس هذا البعث تولية أسامة إمارة الجيش ليكون درسًا للشباب الإسلامي ليعلموا دورهم في بناء الأمة، وتيقنوا من أهميتهم في المحافظة على قوتها, وقد انضم كبار الصحابة إلى جيش أسامة طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وحبًا في الجهاد، وإبقاء لضرورة طاعة أمر الله ورسوله على الزمن كله، وتقديم النص الصريح على أي اجتهاد عقلي مهما كانت دقته ووضوحه.
وسيأتي تفصيل بعث أسامة حين نتناول بالدراسة تاريخ الدعوة في عهد أبي بكر رضي الله عنه.(1/674)
المبحث السادس عشر: انتقال الرسول إلى الله تعالى
أسلمت الجزيرة كلها، وأخذ الفرس والروم في تفهم الإسلام والتعامل معه وتأكدت حقائق الدين بكل جوانبه، فتمت مصادره، وتحددت معالمه، ونزل كل ما يحتاجه الإسلام من وحي الله تعالى ولذلك نزل قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} 1.
وقوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} 2.
وقد فهم كثير من الصحابة أن هاتين الآيتين فيهما نعي رسول الله3 وإخبار بقرب انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى؛ لأن الرسالة هي غاية مجيء محمد صلى الله عليه وسلم إلى الدنيا، فإذا ما كملت الرسالة وتم الدين ونزل ما رضيه الله للناس لم يعد هناك داع لبقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحياة بين الناس.
وقد أعد الله الأمة لتقبل رحيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدارس جبريل عليه السلام محمدا صلى الله عليه وسلم بالقرآن في رمضان الأخير مرتين، وكان يدارسه قبل ذلك في كل رمضان مرة واحدة.
وعلم النبي أصحابه على إدارة شئون الحياة، والمحافظة على الإسلام، والحركة بالدعوة عن طريق قيادة السرايا، وإدارة شئون المدينة، وإقامة الصلاة، والدعوة إلى الإسلام فرادى وجماعات، في إطار تعاليم الله الثابتة، ومنهجه الذي يحرص المسلمون على تطبيقه، وصيانته من كل عبث، والدفاع عنه ضد كل معتد أثيم.
وبكل هذا أدى الرسول وظيفته، وأتم الغاية التي خلق لها، ووصل إلى النهاية.
وجاء وقت الرحيل، فاعتكف صلى الله عليه وسلم في رمضان من العام العاشر عشرين يومًا وكان يعتكف قبل ذلك عشرًا، وجاءه جبريل فدارسه القرآن مرتين، وكان يدارسه
__________
1 سورة المائدة: 3.
2 سورة النصر.
3 صحيح البخاري كتاب المغازي باب مرض رسول الله ج7 ص93.(1/675)
قبل ذلك مرة واحدة، وقال لأصحابه في حجة الوداع: "إني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا". وكرر ذلك.
يقول ابن مسعود: نعى إلينا نبينا وحبيبنا نفسه قبل موته بشهر، حين دنا الفراق جمعنا في بيت عائشة رضي الله عنها، فنظر إلينا فشدد ودمعت عيناه وقال: "مرحبًا بكم، حياكم الله، رحمكم الله، آواكم الله، حفظكم الله، رفعكم الله، وفقكم الله، سلمكم الله، قبلكم الله، أوصيكم بتقوى الله، وأوصي الله بكم، وأستخلفه عليكم، وأؤديكم إليه، إني لكم منه نذير وبشير ألا تعلو على الله في عباده، وبلاده فإنه قال لي ولكم {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} " 1.
قلنا: فمتى أجلك؟
فقال صلى الله عليه وسلم: "دنا الفراق والمنقلب إلى الله وسدرة المنتهى والرفيق الأعلى وجنة المأوى". فقلنا: من يغسلك؟
فقال: "أهلي".
قلنا: فيم نكفنك؟
قال: "في ثيابي أو في بياض".
قلنا: فمن يصلي عليك؟
قال: "مهلا، غفر الله لكم، وجزاكم عن نبيكم خيرًا". فبكينا وبكى، ثم قال: "ضعوني على سريري على شفير قبري، ثم اخرجوا عني ساعة ليصلي عليّ جبرائيل وإسرافيل وميكائيل وملك الموت مع الملائكة، ثم ادخلوا عليّ فوجًا فوجًا فصلوا عليّ ولا تؤذوني بتزكية ولا رنة، أقرئوا أنفسكم مني السلام، ومن غاب من أصحابي فأقرئوه مني السلام، ومن تابعكم على ديني فأقرئوه السلام" 2.
وفي أوائل صفر من العام الحادي عشر للهجرة خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبل أحد
__________
1 سورة القصص: 83.
2 الكامل في التاريخ ج2 ص319.(1/676)
ليودع الأموات كالأحياء، ثم خطب في أصحابه وقال: "إني بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني أنظر إليكم من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوها" 1.
وفي ليلة من ليالي صفر من نفس العام خرج إلى البقيع وخاطب الموتى قائلا: "السلام عليكم يا أهل المقابر ليهن عليكم ما أصبحتم فيه بما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى 2 ... وإنا بكم للاحقون". ولما رجع صلى الله عليه وسلم من البقيع وجد عائشة تشكو ألمًا وتقول: وارأساه.
فقال صلى الله عليه وسلم: "بل أنا والله يا عائشة وارأساه، وما ضرك لو مت قبلي فقمت إليك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك".
قالت رضي الله عنها: والله لكأني بك لو فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك.
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونام به وجعه وهو يدور على نسائه، حتى اشتد عليه المرض وهو في بيت ميمونة3.
وفي يوم الاثنين التاسع والعشرين من صفر بدأ مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الأخير الذي استمر أربعة عشر يومًا.
ولما ثقل المرض برسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ يسأل: "أين أنا غدًا؟ أين أنا غدًا"؟ 4.
يستعجل يوم عائشة رضي الله عنها ففهم الصحابة، وفهمت أمهات المؤمنين مراد النبي صلى الله عليه وسلم بسؤاله فأذن له أن يستمر عند عائشة مدة مرضه, فانتقل صلى الله عليه وسلم إلى بيت عائشة يمشي بين الفضل بن العباس وعلي بن أبي طالب وذلك بعد مرضه بسبعة أيام5.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم خرج يومًا بين العباس وعلي حتى جلس على المنبر فحمد الله تعالى ثم قال:
__________
1 صحيح البخاري، كتاب المغازي باب غزوة أحد ج6 ص286.
2 الكامل ج2 ص318.
3 الكامل لابن الأثير ج2 ص318.
4 صحيح البخاري كتاب المغازي باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ج7 ص102.
5 صحيح البخاري كتاب المغازي باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ج7 ص98.(1/677)
"أيها الناس إنه قد دنا مني حقوق من بين أظهركم، فمن كنت جلدت له ظهرًا فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضًا فهذا عرضي فليستقد منه، ومن أخذت له مالا فهذا مالي فليأخذ منه ولا يخشى الشحناء من قبلي فإنها ليست من شأني، ألا وإن أحبكم إليّ مني حقًا إن كان له أو حللني فلقيت ربي وأنا طيب النفس". ثم نزل فصلى الظهر ثم رجع إلى المنبر فعاد لمقالته الأولى، فادعى عليه رجل بثلاثة دراهم، فأعطاه عوضها، ثم قال: "أيها الناس من كان عنده شيء فليؤده ولا يقل فضوح الدنيا، ألا وإن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة". ثم صلى على أصحاب أحد واستغفر لهم، ثم قال: "إن عبدًا خيره الله بين الدنيا وبين ما عندنا فاختار ما عنده"1.
وفي يوم الأربعاء قبل وفاته بخمسة أيام قال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس".
فقالت عائشة يا رسول الله: إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء فمر عمر فليصل بالناس، ففعلت حفصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مه إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس" 2.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه خفة فخرج بين العباس وعلي لصلاة الظهر وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن لا تتأخر وقال لهما: "أجلساني إلى جنبه". فأجلساه إلى جنب أبي بكر الأيسر، فكان أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر3.
وعن عائشة وابن عباس رضي الله عنهما أنه لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم المرض طفق يطرح خميصة على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها، فقال صلى الله عليه وسلم وهو كذلك: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". يحذر ما صنعوا.
وقال صلى الله عليه وسلم: "قاتل الله قومًا اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". يحرم ذلك على أمته.
__________
1 الكامل ج2 ص319.
2 سيرة النبي ج2 ص652.
3 سيرة النبي ج2 ص653.(1/678)
تقول عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا1.
وعن ابن عباس أن علي بن أبي طالب خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي مات فيه فسأله الناس: يا أبا حسن كيف أصبح رسول الله؟
فقال: أصبح بحمد الله بارئًا.
فأخذ العباس بن عبد المطلب بيد علي وقال له: يا علي أنت والله بعد ثلاث عبد العصا، وإني والله لأرى رسول الله يتوفى من وجعه هذا، إني لأعرف بني عبد المطلب عند الموت اذهب بنا إلى رسول الله فلنسألنه فيمن هذا الأمر بعده؟ إن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا علمناه فأوصى بنا.
فقال علي: إنا لئن سألناها رسول الله فمنعناها لا يعطيناها الناس من بعده، وإني والله لا أسألها رسول الله2.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة: "ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم" 3.
يقول ابن إسحاق: فكان المسلمون يرون أن رسول الله مات شهيدًا، مع ما أكرمه الله به من النبوة.
تقول عائشة رضي الله عنها: لدنا "رسول الله" صلى الله عليه وسلم في مرضه، فجعل يشير إلينا أن لا تلدوني، فقلنا: يقول ذلك كراهية المريض للدواء، فلما أفاق قال: "ألم أنهكم أن تلدوني"؟.
قلنا: فهمناه كراهية المريض للدواء.
فقال صلى الله عليه وسلم: "لا يبقى أحد في البيت إلا لد قصاصًا وأنا أنظر، فلدوا جميعًا إلا العباس فإنه لم يشهد معهم".
وزاد ألم المرض برسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم الخميس قبل وفاته بأربعة أيام.
يقول ابن عباس رضي الله عنه: يوم الخميس وما يوم الخميس، اشتد برسول الله وجعه فقال:
__________
1 صحيح البخاري كتاب المغازي باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ج7 ص99.
2 صحيح البخاري كتاب المغازي باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ج7 ص100.
3 صحيح البخاري كتاب المغازي باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ج7 ص93.(1/679)
ائتوني أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدًا، فتنازعوا، ولا ينبغي عند نبي تنازع.
فقال عمر: إن رسول الله قد غلبه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب كتابًا لا تضلوا بعده، ومنهم من يقول: غير ذلك.
فلما أكثروا اللغو والاختلاف قال صلى الله عليه وسلم: "قوموا عني". فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب ذلك الكتاب وذلك لاختلافهم ولغطهم1.
ويجب أن يكون واضحًا أن ما أراد رسول الله كتابه كان أمرًا عاديًا لأنه لو كان من واجبات الشريعة لكتبه صلى الله عليه وسلم بلا تأثر بكلام عمر أو بكلام غيره لسابق حسمه في أمور الدين، وأيضا فقد سبق ذلك إعلان تمام الدين وكماله.
وحكمة الله في عدم كتابة أمر في هذا الوقت واضحة منعًا لمن يقول: إن المريض قد يختلف عليه عقله إذا اشتد مرضه.
فإذا ما تصورنا أنه صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يعهد لأبي بكر رضي الله عنه في الكتاب الذي كان يريده كما رجح البعض فإنه دليل على ثانوية الأمر، وحتى يبقى هذا الشأن شورى بين المسلمين لم يغيره صلى الله عليه وسلم كلام عمر ولا غيره.
وكان صلى الله عليه وسلم قد قال لعائشة في مرضه هذا: "لقد هممت أن أبعث إلى أبيك وأخيك فأكتب كتابًا وأعهد عهدًا لئلا يتمنى متمن أو يقول قائل: أنا أولى ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر". فلم يكن والله أعلم الكتاب الذي أراد أن يكتب إلا في استخلاف أبي بكر.
وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى نفس على نفسه بالمعوذات، ومسح عنه بيده، فلما اشتكى وجعه الذي مات فيه طفقت أنفس عنه بالمعوذات التي كان ينفس، وأمسح بيد النبي صلى الله عليه وسلم عنه لبركتها.
ولما كان يوم الاثنين والناس في صلاة الفجر وأبو بكر يصلي لهم لم يفاجئهم إلا رسول الله يكشف ستر حجرة عائشة، فنظر إليهم وهم صفوف في الصلاة، ثم تبسم
__________
1 صحيح البخاري كتاب المغازي باب مرض النبي ج7 ص94.(1/680)
يضحك سرورًا باستقامة أمر الناس وإخلاصهم مع الدين لله وهو ليس معهم، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة، وهم الناس أن يفتنوا في صلاتهم فرحًا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليهم بيده رسول الله أن أتموا صلاتكم ثم دخل الحجرة وأرخى الستر1، وانصرف الناس وهم يرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أفاق من وجعه فرجع أبو بكر إلى أهله بالسنح حيث كان مسكنه.
ومع هذا التصور الذي شعر به المسلمون بعد صلاة الفجر كانت هي الصلاة الأخيرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث توفي صباح يوم الاثنين وهو عند عائشة رضي الله عنها.
تقول عائشة: إن من نعم الله عليّ أن رسول الله توفي في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري، وأن الله جمع بين ريقي وريقه، ودخل عليّ عبد الرحمن وبيده سواك وأنا مسندة رسول الله إلى صدري فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فتناوله فاشتد عليه، وقلت: ألينه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فلينته بأمره فاستن به وهو مستند إلى صدري، وبين يديه ركوة فيها ماء فجعل يدخل يده في الماء فيمسح بها وجهه ويقول: "لا إله إلا الله، إن للموت سكرات" 2.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه لن يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يحيا أو يخير". فلما اشتكى وحضره القبض ورأسه على فخذ عائشة غشي عليه، فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت ثم قال: "اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين اللهم الرفيق الأعلى". فكان آخر كلمة تكلم بها: "اللهم الرفيق الأعلى" 3.
فلما رأت عائشة رضي الله عنها شدة الموت التي لحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: فلا أكره شدة الموت لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم4.
ولم يترك النبي صلى الله عليه وسلم مالا، وخرج من الدنيا وهو مدين, يقول عمرو بن الحارث: ما ترك
__________
1 صحيح البخاي كتاب المغازي باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ج7 ص101.
2 صحيح البخاري كتاب المغازي باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ج7 ص96.
3 صحيح البخاري كتاب المغازي باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ج7 ص99.
4 صحيح البخاري كتاب المغازي باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ج7 ص105.(1/681)
النبي صلى الله عليه وسلم دينارًا ولا درهمًا ولا عبدًا ولا أمة إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها، وسلاحه وأرضًا جعلها لابن السبيل صدقة.
وعن عائشة: توفي رسول الله ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعًا من شعير1. وعن أنس بن مالك قال: لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه، فقالت فاطمة: واكرب أباه. فقال لها صلى الله عليه وسلم: "ليس على أبيك كرب بعد اليوم". فلما مات قالت: يا أبتاه أجاب ربا دعاه، يا أبتاه مَنْ جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه.
فلما دفن قالت فاطمة: يا أنس أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله التراب2.
وعن عائشة قالت: دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة في شكواه التي قبض فيها فسارها فبكت، ثم دعاها فسارها فضحكت، فسألناها عن ذلك فقالت: سارني أنه يقبض في وجعه، الذي توفي فيه فبكيت، ثم سارني فأخبرني أني أول أهل بيته يتبعه فضحكت3.
وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم صباح يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة إحدى عشرة مثل الوقت الذي دخل فيه المدينة4 ومثل اليوم الذي ولد فيه.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مر أبو بكر والعباس بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون فقال: ما يبكيكم؟
فقالوا: ذكرنا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم منا.
فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد عصب على رأسه حاضية برد فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي وعيني، وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم" 5.
وعن ابن عباس قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ملحفة منعطفًا بها على منكبيه، وعليه عصابة دسماء حتى جلس على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد أيها
__________
1 صحيح البخاري كتاب المغازي باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ج7 ص106.
2 صحيح البخاري كتاب المغازي باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ج7 ص95.
3 صحيح البخاري كتاب المغازي باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ج7 ص95.
4 سيرة النبي ج2 ص655.
5 صحيح البخاري كتاب المناقب باب قول النبي: اقبلوا من محسنهم ج6 ص154.(1/682)
الناس فإن الناس يكثرون وتقل الأنصار حتى يكونوا كالملح للطعام، فمن ولي منكم أمرًا يضر فيه أحدًا أو ينفعه، فليقبل من محسنهم وليتجاوز عن مسيئهم" 1.
وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وأبو بكر بالسنح، حيث كان مسكنه بالعالية، فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله، ولكنه ذهب لملاقاة ربه، كما ذهب موسى عليه السلام لملاقاة ربه أربعين يومًا وسيرجع والله ما كان في نفسي إلا ذلك وليبعثه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم.
فجاء أبو بكر على فرس من منزله بالسنح حتى نزل فدخل المسجد، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة، فتيمم رسول الله وهو مغشى بثوب حبرة، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه وقبله وبكى ثم قال: بأبي أنت وأمي طبت حيًا وميتًا والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبدًا.
ثم خرج وعمر يكلم الناس فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فقال له أبو بكر: أيها الحالف على رسلك, فأقبل إليه الناس وتركوا عمر، فحمد أبو بكر الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فمن كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُون} 2, وقال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} 3.
فأخذ الناس يبكون وقد تيقنوا موت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ابن عباس: والله لكأني بالناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها.
وقال عمر: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي وحتى هويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، وعلمت أن رسول الله قد مات4.
__________
1 صحيح البخاري كتاب المناقب باب قول النبي: اقبلوا من محسنهم ج6 ص155.
2 سورة الزمر: 30.
3 سورة آل عمران: 144.
4 صحيح البخاري كتاب المغازي باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ج7 ص104.(1/683)
ولما عرفوا أنه صلى الله عليه وسلم مات دهش الناس وطاشت عقولهم، فمنهم من خبل، ومنهم من أصمت، ولم يكن أثبت وأحزم من أبي بكر والعباس1.
وقد قضى المسلمون بقية يوم الاثنين ويوم الثلاثاء في اختيار خليفة رسول الله بعد وفاته وبعد مشاورات تمت بيعة أبي بكر في سقيفة بني ساعدة، ووقى الله المسلمين شر الفتنة.
ولما فرغ الناس من بيعة أبي بكر، وجمعهم الله على خليفة واحد، وصرف عنهم كيد الشيطان أقبلوا على تجهيز نبيهم.
يروي ابن إسحاق بسنده أن علي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، وقثم بن العباس، وشقران مولى رسول الله، وأسامة بن زيد هم الذين تولوا غسله، وأن أوس بن خولى -وكان بدريًا- دخل معهم، وحضر غسل رسول الله، وأسنده إلى صدره، وكان العباس والفضل وقثم يقبلونه معه، وكان أسامة بن زيد وشقران هما اللذان يصبان الماء عليه، وعليّ يغسله بعدما أسنده إلى صدره، وعليه قميصه يدلكه به من ورائه لا يفضي بيده إلى رسول الله، وعليّ يقول: بأبي أنت وأمي ما أطيبك حيًا وميتًا، ولم ير من رسول الله ما يرى من الميت2.
حدثني يحيى بن عبادة بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة قالت: لما أرادوا غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا فيه فقالوا: والله ما ندري أنجرد رسول الله من ثيابه؟
فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا ذقنه في صدره، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو أن غسلوا النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه، فقاموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسلوه وعليه قميصه، يصبون الماء فوق القميص، ويدلكون والقميص دون أيديهم، فلما فرغوا من غسله كفنوه في ثلاثة أثواب صحاريين وبرد وحبرة أدرج فيها إدراجًا.
وحدثني حسين بن عبد الله عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم تساءلوا عن طريقة الحفر هل يحفرون كحفر أهل مكة أو كحفر أهل المدينة؟ وكان أبو عبيدة بن الجراح يضرح كحفر أهل مكة وكان أبو طلحة زيد بن سهيل
__________
1 مختصر السيرة ص460 إلى 465.
2 صحيح البخاري كتاب المغازي باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ج7 ص103.(1/684)
هو الذي كان يحفر لأهل المدينة وكان يلحد.
فدعا العباس رجلين فقال لأحدهما: اذهب إلى أبي عبيدة، وللآخر اذهب إلى أبي طلحة ثم دعا الله قائلا: اللهم خر لرسول الله، فوجد صاحب أبي طلحة أبا طلحة فجاء به فلحد لرسول الله.
فلما فرغ الصحابة من جهاز رسول الله يوم الثلاثاء وضع سريره في بيته، وقد اختلف المسلمون في دفنه فقال قائل: ندفنه في مسجده.
وقال قائل: بل ندفنه مع أصحابه.
فقال أبو بكر: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض". فرفع فراش رسول الله الذي توفي عليه فحفر له تحته.
ثم دخل الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالا يصلون عليه عشرًا عشرًا، حتى إذا فرغ الرجال دخل النساء، حتى إذا فرغ النساء دخل الصبيان، ولم يؤم الناس على رسول الله أحد وقاموا بدفنه صلى الله عليه وسلم والنساء عنه بعيد تقول عائشة رضي الله عنها: ما علمنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل من ليلة الأربعاء.
وكان الذين نزلوا في قبره علي بن أبي طالب والفضل وقثم بن العباس، وشقران مولاه وأوس بن خولى، وجعلوا تحته صلى الله عليه وسلم قطيفة كان يلبسها ويفترشها، وكان آخر الناس عهدًا به قثم بن عباس.
وبعد مدة ذهب أبو بكر وعمر لزيارة أم أيمن رضي الله عنها كما كان رسول الله يفعل فلما رأتهما بكت، فقالا لها: ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسوله.
قالت: والله ما أبكي أن لا أكون أعلم ما عند الله خير لرسوله، ولكني أبكي لأن الوحي انقطع من السماء, فهيجتهما على البكاء فأخذا يبكيان1.
وهكذا..
انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى وترك من ورائه أمته تحمل الأمانة، وتقدر المسئولية, وتعلم عن يقين أن الله تعالى سيحاسبها بميزان الوحي الذي تركه صلى الله عليه وسلم في
__________
1 صحيح مسلم كتاب الفضائل باب فضائل أم أيمن ج16 ص9، 10.(1/685)
الناس، ليكون شاهدًا فيهم. انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله بعد أن ترك الإسلام كله، وصار كل شيء بينا حكمه، معروفة جنباته. حيث لا عذر بعد ذلك لناقض، أو كسول, ولا أهمية لعداوة أو نفاق.
انتقل رسول الله إلى ربه بذاته، وترك في أمته الوحي كله، وعرفهم أنه ترك لهم ما فيه كل الفلاح والهدى, يقول صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا كتاب الله وسنتي" 1.
انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه بعد أن وضح لأمته طريقة الحياة بعزة، وكرامة، وأخلاق وبعد أن وضع أيديهم على الحقائق التالية:
1- الإنسان متميز عن سائر المخلوقات بحقوق تناسبه ولا بد من المحافظة عليها، والوفاء بواجباتها بالمنهج الذي عاشه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته.
2- القوة المادية أساس حماية العزة والكرامة, والضعفاء لا ينالون إلا الهوان, والذل وضياع الحقوق.
3- الإسلام أمانة في عنق كل مسلم, ومصادره وتعاليمه واضحة بينة, ولا عذر لمسلم في البعد عن الإسلام بصورة كلية أو جزئية, ولا عذر للأمة إن قصرت في واجبات الإسلام.
4- سينتقل الجميع إلى الله, وسيحاسبون على كل ما قدموا ولن ينفع إلا الصدق، والإيمان، والعمل الصالح، وستجزى كل نفس بما عملت, وما ربك بظلام للعبيد.
__________
1 فيض القدير ج3 ص240.(1/686)
الفصل الثالث: ركائز الدعوة المستفادة من المرحلة المدنية
مدخل
...
الفصل الثالث: ركائز الدعوة المستفادة من المرحلة المدنية
تمهيد:
سيرة النبي صلى الله عليه وسلم زاد وفير للإنسانية كلها، وللمسلمين على الخصوص.
فهو صلى الله عليه وسلم صورة شاملة للإسلام، يجمع كل حقائقه، ويوضح كافة جوانبه، جعله الله تعالى منبع العلوم والمعارف، وخصه بنزول الوحي والتنزيل، ووكله بجبريل عليه السلام يلقي إليه القرآن، ويوحي إليه بالأحاديث, وكل باحث عن شيء في الإسلام فمرجعه رسول الله، ومصدره ما أوحي إليه صلى الله عليه وسلم.
وهو صلى الله عليه وسلم تطبيق عملي للوحي المنزل، وتجسيد بشري لتعاليم الله تعالى، فعمله حجة، وسلوكه طريق، ومعاشه وحياته أسوة للناس أجمعين.
ولم يكن اهتمام علماء المسلمين بالسيرة النبوية إلا إبرازًا لمناط الأسوة والقدوة نظريًا وعمليًا، ولتبقى بين العالمين منارة هدى، ومصدر إشعاع وخير.
وحين أعانني الله تعالى على كتابة السيرة النبوية حاولت أن ألم بأحداثها جميعًا لتكون صفحة واضحة أمام من يطلع عليها لدرجة تغنيه عن أمهات الكتب، والمصادر القديمة للسيرة النبوية مع الإشارة إلى ما يستفاد من أحداثها واضعًا الحدث في صورته الناطقة بدوره في تحقيق الخير وصيانة الحقوق، وحاولت بعد ذلك أن أكتب بعض الركائز المفيدة للدعاة المعاصرين، ولكافة المسلمين، حتى لا تنقطع الأمة المسلمة عن ماضيها، وبذلك تعيش الحاضر بروح الماضي، وتعيد الماضي في صورة العصر الحديث.
وليعلم الجميع أنه لا جديد عن الدعوة إلى الله تعالى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل ما جاء بعد عصره صلى الله عليه وسلم فهو مستمد منه وراجع إليه.
وكل مسلم يبتعد عن رسول الله فهو بعيد عن الحق والصواب.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك للناس الإسلام حقيقة كاملة خالية من العوج والاضطراب وترك أمته تطبق الإسلام وتتلزم به, وعرفهم أن الفوز والفلاح في اتباع وحي الله تعالى، والالتزام الدقيق بالإسلام.
وقد أوجب الله تعالى الدعوة إلى دينه سبحانه وتعالى وكلف الأمة الإسلامة بأن تبلغ الإسلام للناس بالكيفية التي دعا بها رسول الله وصحابته رضوان الله عليهم أجمعين.
وفي هذا الفصل أورد أهم الركائز المستفادة من سيرة رسول الله في المدينة المنورة وذلك في المباحث التالية:(1/689)
المبحث الأول: ضرورة بناء الأمة الإسلامية [قاعدة الدعوة]
مدخل
...
المبحث الأول: ضرورة بناء الأمة الإسلامية "قاعدة الدعوة"
الإسلام دين الله تعالى أنزله للناس ليسعدوا به، وكلف المسلمين أن يقوموا بالدعوة إليه وأداء الأمانة التي حملهم الله بها.
وقضية الدعوة ليست أمرًا سهلا لأنها تتعامل مع عديد من الناس اختلفت عقائدهم، وتباينت اتجاهاتهم، وتعارضت أمانيهم وخياراتهم, ولذلك فهي مسألة صعبة تحتاج إلى الإعداد والاستعداد.
ففي الكتاب الثاني من هذه السلسلة بينت نظرة الإسلام للإنسان واهتمامه به وتوضيح أركان الإسلام وغاياته من خلال الركائز المستفادة من السيرة في مكة.
وهنا أحاول بيان ما يستفاد من المرحلة المدنية.
بينت المرحلة المدنية أهمية اعتماد الدعاة في حركتهم على قاعدة صلبة، وقوة يقظة, وقد تمثل ذلك في نشوء دولة الإسلام في المدينة المنورة بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم, لقد قامت الدعوة في مكة على جهود فردية، وتضحيات نفر قليل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط عداوات أهل مكة، ومباشرتهم الأذى والاضطهاد لكل من أسلم؛ ولذلك مضت مدة طويلة أسلم فيها عدد قليل عاشوا خلالها حالة من الخوف والاضطهاد.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحاول إيجاد القاعدة القوية لانطلاق الإسلام فعرض نفسه على القبائل وعلى أهل الطائف ليعيش معهم ويؤمنوا بالإسلام، ويحمونه بما يحمون به أنفسهم وأهليهم فلم يستجيبوا له, فلما استجاب له أهل المدينة وبايعوه عند العقبة هاجر وأصحابه إليهم، وأسس دولة الإسلام في المدينة، وبذلك بدأت حركة الدعوة ولها قوة وتأثير.(1/690)
إن بناء قاعدة الانطلاق عملية أساسية لنجاح أي عمل يحتاج هذه القاعدة وإلا لصار الجهد هباء لا يفيد، ومن المعلوم أن الإنسان الذي يتمتع بالخلق الكريم قادر على تعليم غيره الخلق والسلوك أما غيره فلا يمكنه ذلك لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
والشخص القوي يهابه الضعاف أما الضعيف فلا قيمة له بين الناس.
والأمة القوية تقود غيرها إلى حيث تريد, هكذا في كل زمان، في عالم الإنسان كما هي في عالم الحيوان.
وقد اهتم الإسلام في بناء قاعدته الصلبة في المدينة المنورة حيث أقامها على عدة أسس تضامنت وتكاملت حتى أنتجت قاعدة الدعوة، ومنطلقها المتين، وأهم ما فعله الإسلام في الناس إيجاد خير أمة للناس وفق مراحل ومواصفات معينة.(1/691)
أولا: إيجاد الأمة القوية
متميزة بمجموعة من الخصائص ليحافظ على قواها، ويبعدها عن التشرذم والتفكك، والانهيار.
إن تنظيم الأمة يحتاج إلى الاستفادة بكل الإمكانات المتاحة، ووضعها في صورتها الإيجابية المنتجة لتحمي الجهد، والوقت، والطاقات.
إن مجموعة من الناس مهما بلغ عددها لا يمكنها أن تقوم بما تقوم به الجماعة، ولا تتمكن من أداء دور الأمة مع الإسلام أو مع أي هدف آخر.
ودور الأمة مع الإسلام عظيم ومهم حدده الله تعالى بقوله سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} 1 وبقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} 2.
__________
1 سورة البقرة: 143.
2 سورة آل عمران: 110.(1/691)
لقد اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة بتنظيم الأمة فآخى بين رعاياها، وجعل الأخوة حقيقة مستمرة على الزمن كله لتكوين القاعدة الصلبة المطلوبة.
إن أخوة المؤمنين لم تكن من أجل الاشتراك في نشاط ما وترك ما عداه، أو التوحيد في الولاء لفرد وفقط, وإنما كانت الأخوة في الله، وتحت وشيجة العقيدة, إنها ليست علاقات الدم، ولا علاقات الأرض، ولا علاقات الجنس، ولا علاقات التاريخ، ولا علاقات اللغة، ولا علاقات الاقتصاد، ليست هي القرابة، وليست هي الوطنية، وليست هي القومية، وليست هي المصالح الاقتصادية.
إنما هي علاقة العقيدة الإيمانية التي تجمع بين الراعي والرعية في اتجاه واحد, وتأخذ روابطها من الإسلام وتجعل كل فرد مسئولا عن حقوق هذه الأخوة أمام الله تعالى، وأمام الناس أجمعين في إيثار خال من الأنانية، وفي خلق بعيد عن الفوضى والظلم.
ولهذا وصف الله سبحانه وتعالى هذا الجيل الأول الذي طبق الأخوة الإيمانية بكل تجرد وصدق بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ، وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 1.
يروي الإمام أحمد عن أنس وصفًا لآثار هذه المؤاخاة على لسان المهاجرين أنفسهم حيث قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أحسن بذلا من كثير من هؤلاء، لقد كفونا المؤنة، وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله، قال صلى الله عليه وسلم: "لا ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم" 2.
وهكذا آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أعضاء هذا التجمع الوليد.. أي أنه حول هؤلاء الأفراد المفككين إلى مجتمع متكافل، تكون رابطة العقيدة فيه مقدمة على رابطة الدم والنسب،
__________
1 سورة الأنفال: 74-75.
2 مسند أحمد.(1/692)
ويقوم الولاء لقيادته الجديدة مقام الولاء للقيادة الجاهلية القبلية، ويصبح الولاء فيه للإسلام وحده، وبهذا تتحقق سائر العلاقات وتنمو تحت مظلة رابطة العقيدة والإيمان.
ولقد تحقق الغرض من هذا الإجراء الفذ، وبقي أثره محركًا في حياة الصحابة حتى الوفاة فهذا بلال رضي الله عنه كان يقول في عهد عمر عن أخوته مع أبي رويحة: لا أفارقه أبدًا للأخوة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقدها بينه وبيني.
إن وجود الأمة الإسلامية القوية هي أكبر سند لحركة الدعوة؛ لأن المسلمين بعد تحقيقها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عالم الواقع لم يتعرضوا لعدوان، ولم يمنعهم الهمج والأراذل من الحركة والانطلاق.
وليس من تنظيم الجماعة المؤمنة تشتت الأفراد في اتجاهات مادية متعددة متعارضة لأن هذا في الحقيقة تفريق للأمة، وتضييع لجهودها, وذلك التشتت يظهر كثيرًا حينما يعمل الأفراد لعدة غايات متعارضة.
لقد نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهجرة سائر المؤمنين إلى المدينة لتحقيق هذه القاعدة الواحدة القوية، ولذلك يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 1.
والآية واضحة في وجوب الهجرة والتجمع في المدينة لأن المسلمين لو عاشوا أفرادًا حيث هم لتكالبت عليهم الأفاعي، وقضى عليهم الطغاة, ولذلك كانت هجرتهم إلى رسول الله لتكوين أمة مسلمة تعيش الإسلام، وتقدم نموذجًا عمليًا لتعاليمه أمام الناس.
وعمل ثانيًا على صبغ الأمة بالصبغة الإسلامية العملية؛ لأن الإسلام لا تهمه أمة فارغة القلب والضمير لأنها تكون حينئذ ضعفًا ووهنا لا يسمن ولا يغني من جوع.
__________
1 سورة الأنفال: 72.(1/693)
ثانيا: التزام الأمة بالإسلام
...
وعمل ثانيًا على صبغ الأمة بالصبغة الإسلامية العملية؛ لأن الإسلام لا تهمه أمة فارغة القلب والضمير لأنها تكون حينئذ ضعفًا ووهنا لا يسمن ولا يغني من جوع.
ولا تهمه أمة تعلن الإسلام ولا تعمل به، وترفع الشعار ولا تشعر به، وتدعي الدين وهي تناقضه بسلوكها وعملها.
وحتى تصير الأمة سندًا لحماية الحق، ونصر الدين كان لا بد لها أن تقيم بنيانها على تقوى من الله تعالى، ولعل ذلك هو ما قصده رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبدأ نشاطه في المدينة ببناء مسجده الشريف ليكون مكانًا للتربية والتعليم, وجامعة يتلقى فيها المسلمون تعاليم الإسلام وتوجيهاته، ومنتدى تتآلف فيه العناصر القبلية المختلفة التي طالما نافرت بينها النزعات الجاهلية وحروبها، وقاعدة لإدارة جميع شئون الدولة، ومركزًا لبعث الحملات والسرايا العسكرية، وبرلمانًا لعقد المجالس الاستشارية والتنفيذية، وكان مع هذا كله دارًا يسكن فيه عدد كبير من فقراء المهاجرين الذين لم يكن لهم دار ولا مال ولا أهل ولا بنون.
لقد تحولت المدينة إلى مستقر آمن للدعوة، ومنطلق رئيس للحركة بالإسلام ولهذا رأينا تماسك المهاجرين والأنصار وتآخيهم تحت لواء الله تعالى في صورة متكاملة متوازنة وكان هذا التكامل شاملا لكل جوانب حياة أهل المدينة ولن أتحدث عن كل صور هذا التكافل ولكني أشير إلى بعض تلك الصور فقط وأهمها:
التكافل في بيت النبوة: فبيت النبوة هو مقر قيادة الأمة، فحينما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب الأنصاري وظل في منزله قرابة السبعة الأشهر، كان لا بد من توفير الطعام الذي يحتاجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ينزل عليه من الناس، ولهذا تسابق الأنصار إلى بيت أبي أيوب يأتون بالطعام, جعلوا لأنفسهم نظام التناوب، فكل مرة مجموعة منهم، وما كانت من ليلة إلا وعلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلاثة والأربعة يحملون الطعام، يتناوبون، وكان يدعو النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فيأكلون معه، فيحضر عشاءه الخمسة إلى الستة إلى العشرة.
التكافل في استقبال الأنصار للمهاجرين: لقد كانت المؤاخاة هي أبرز ما في الصورة فعبد الرحمن بن عوف كان أخا لسعد بن الربيع الأنصاري فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك دلني على السوق(1/694)
وتقدمت الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: اقسم بيننا وبين إخواننا المهاجرين النخيل وطلبوا منه أن يجعل الأموال قطائع فيما بينهم, ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفض هذا وجعل على المهاجرين أن يعملوا في أرض إخوانهم الأنصار وأن يكون لهم جزء من الثمرة.
التكافل في تشريع الزكاة: فرغم أن التوجيه القرآني للمؤمنين لم ينقطع عن مخاطبة المؤمنين في العهد المكي للمسارعة إلى الصدقة بشكل عام، وذلك لتربية النفوس الدافعة، وسد عوز النفوس المحتاجة إلا أن مشروعية الزكاة بأنصبة محددة لم تشرع إلا في العهد المدني، وابتدأ فرض زكاة الفطر أولا، وصار هذا ملحقًا بمشروعية صيام شهر رمضان، فصارت زكاة الفطر تخرج عن الصغير والكبير، والحر والعبد، والذكر والأنثى، ثم جاءت بعد ذلك زكاة الأموال بأنصبتها المفروضة.
التكافل في صلاة الجمعة: إن أول جمعة جمعت كانت بالمدينة المنورة، سواء أقامها المسلمون قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بأمره أو أقامها بعد قدومه المدينة مباشرة لأن المقصود بالجمعة إظهار شعار الإسلام، واجتماع المؤمنين كلهم، وموعظتهم، وكانت أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول جمعة أقامها في المدينة كانت في بني سالم بن عمرو بن عوف في طريقه من قباء إلى قلب المدينة وبما أن الجمعة هي لاجتماع المؤمنين وموعظتهم فإن هذا يفسر لنا سر تجمع المسلمين في المدينة يوم الجمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما كانوا يتفرقون بقية الأسبوع فيصلي بعضهم في مسجد الرسول، والبعض الآخر يصلي في مساجد متفرقة بلغ عددها تسعة مساجد، فإذا ما جاء يوم الجمعة تجمعوا في مسجد واحد حول قائد الأمة ليتأكد من قوة المسلمين، ويشرف على حضورهم وتربيتهم وإعدادهم.
التكافل في صوم شهر رمضان: حيث لم يتم هذا التشريع في العام الأول من الهجرة وإنما في العام الثاني، وفيه حصلت غزوة بدر الكبرى "يوم الفرقان".
إن فرض الصيام شهرًا كاملا كل عام يعد عبادة شرعها الله عز وجل، وحدد الغاية منها في القرآن الكريم بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 1 لأن المقصود من الصيام حبس النفس عن
__________
1 سورة البقرة: 183.(1/695)
الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية، لتسعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها, ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين، ومن ثم فإن التقوى هي ثمرة الصيام.
ولا شك أن تأخر هذا الفرض إلى السنة الثانية للهجرة كان له سبب وغاية ترجع إلى استقرار الإسلام، وتوطين النفس لتحمل هذا النوع من العبادة، ومع هذا رغم أنه فرض من أول وهلة، إلا أن الفرد المسلم كان مخيرًا بين الصيام والإطعام، ثم حسم بعد ذلك وجعل الإطعام لمن لا يطيق.
التكافل في مشروعية العيدين: العيد هو اليوم الذي يعتاد الناس فيه الاجتماع لتبادل الأشواق وإعلان الأفراح، وكان العرب يعتادون أيامًا عدة تقوم إما على الوثنية أو العصبية، فشرع الله للمسلمين عيدين يرتبطان بعبادة، فعيد الفطر الذي شرع بعد الانتهاء من غزوة بدر يبدأ بنهاية عبادة صيام شهر رمضان، وزكاة الفطر ويستهل يومه بصلاة العيد.
وعيد الأضحى يبدأ بنهاية عبادة الحج، ويستهل يومه أيضًا بالصلاة والأضحية التي تحمل في طياتها صورة من صور التكافل الاجتماعي وقد شرع في العام الثاني للهجرة وفيه ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم وضحى الموسرون من المسلمين معه وهذا الموقف له دلالة عملية، ودلالة مرحلية واقعية، حيث تلاحظ التدرج الواقعي في المجتمع المسلم دون اعتساف أو تعجل، بل كل شيء في أوانه، وحينما تهيأ له الظروف والأجواء، وهنا نلاحظ أن المسلمين لم تعمهم الفرحة إلا بعد أن استقر أمرهم، وقامت دولتهم أما قبل ذلك فلا عيد ولا فرحة.(1/696)
ثالثا: صيانة ثوابت الأمة
وعمل الإسلام ثالثًا على صيانة ثوابت الأمة لأن الأمة الإسلامية تعيش في إطار منهج تحددت معالمه، وفصلت حقائقه.
وأعداء الإسلام يعملون لهدم ثوابت المنهج، والإساءة إليه، وتشويه صورته ليتمكنوا من هدم كل ما تمثله الأمة من قيم وحياة ولذلك وجب حماية الإسلام مما يوجه إليه وذلك بحماية أمته.
إن منهج الله تعالى ينطلق من تعاليم الله، يقول الله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} 1.
ومن ثم وجب استمرار هذه الصبغة ليبقى المنهج على حقيقته التي جاء بها ووجب حينئذ منع أي دخيل يسيء للمنهج ولا يتوافق معه، وبذلك يعيش المجتمع بخصائصه الربانية.
لقد شرع الله الأذان للصلاة أسلوبًا وحيدًا للمسلمين ووجههم إلى الكعبة ليستقلوا بقبلتهم.
وميزهم بمعالم واضحة في حياتهم ومعايشهم, وبذلك برزت الأمة بخصائصها التي يحددها الله تعالى بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} 2.
وقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} 3.
ويقول تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} 4.
__________
1 سورة البقرة: 138.
2 سورة آل عمران: 110.
3 سورة الفتح: 29.
4 سورة الفتح: 18.(1/697)
ويقول تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1.
ويقول تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} 2.
وتستمر آيات القرآن تترى في وصف الجماعة المؤمنة الأولى التي كونها القرآن الكريم وكونتها السنة معه حتى كانت، وبحق، خير أمة ظهرت على الأرض.
وإن المرء ليتساءل عن سر تفوق هذا النموذج البشري وعن أسباب عجز المسلمين المعاصرين من أن يكونوا مثلهم مع استمرار القرآن وحفظه، وبقاء السنة وتدوينها.
إن الأمة الإسلامية التي كونها رسول الله صلى الله عليه وسلم صورة مثالية رائدة تعاملت مع الواقع وتكونت من الناس، وتعاملت مع فطرة البشر مما يجعلها نموذجًا قابلا للتكوين في كل عصر ومصر لو حاول الناس تتبع خطاها، وسلوك الطريق الذي مرت فيه.
إن عوامل تأسيس الجماعة الأولى موجود حتى الآن، ولذلك نحتاج إلى معرفة الأسباب التي ساعدتهم على التكوين والتنشئة ولم تساعد سواهم أملا في الاحتذاء بهم والسير على طريقتهم.
يبدو والله أعلم أن أسباب استفادتهم تعود إلى ما يلي:
أ- إنهم حينما دخلوا في الإسلام تيقنوا الواقع وعلموا أن الإسلام بيعة منهم لربهم وهم طرف فيها، وعليهم بالإسلام أن يصدقوا الله فيما بايعوه به.
__________
1 سورة الأنفال: 72.
2 سورة الأحزاب: 23.(1/698)
ب- إنهم استقبلوا الوحي الكريم المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يليق به من تعظيم وتقديس فاهتموا به، ولم يوازنوا بينه وبين غيره ليتبينوا صدقه، وأحقيته، وإنما استقلوه موقنين بأنه الحق، وهو الخير وهو المصلحة ويكفي أنه من عند الله.
ج- إنهم أيقنوا حين إيمانهم أن الوحي نزل للتطبيق والعمل به، ولم ينزل لمجرد المعرفة والثقافة ومن هنا اقتصروا على التدرج في حفظه فكانوا يفهمون ويحفظون عشر آيات ولم يغادروها إلا بعد العمل بها، وتطبيق ما جاء فيها ولذلك كان أبو بكر يقوم المسلم بمقدار حفظه للقرآن لأن هذا يدل على مدى عمله وسلوكه.
د- إنهم بعد مجيء وحي الله التزموا به وتركوا ما عداه من ثقافات الأمم الأخرى ونظمها وأهملوا بصورة كلية كل ما كان في حياتهم الجاهلية، وهذا الموقف يصور النقلة العجيبة التي أحدثوها في واقعهم، ولقد كانوا يفعلون كل ما يأمرهم به الوحي مكتفين بالسؤال عنه: آلله أمر بهذا؟
فإذا علموا أنه من الله، فلا شيء معه وأهملوا حينئذ كل ما عداه.
لقد خلت الحياة الإسلامية الأولى من أي دخيل يعارضه الإسلام، مع أن نظمًا وآدابًا فارسية ورومانية وغيرها كانت قبل الإسلام ملء الزمان طولا وعرضًا، وكان العالم كله معجبًا بهم، ومقدرًا لهم يقلدهم، ويتبعهم.
نعم لم يلتفت المسلمون إلى ما يأتيهم من قبل الشرق أو الغرب، أو من هنا أو من هناك، لأن وحي الله يكفيهم وهم به أقوياء.
هـ- إنهم شعروا بعزة الإسلام، وبقدرة الله، وتيقنوا أن الله اختارهم بالإيمان لإنقاذ البشرية من عبادة البشر، والخضوع لغير الله تعالى، وجاهدوا لإزالة الطواغيت من على ظهر الأرض تكريمًا للإنسانية كلها.
وهذا التيقن يفسر لنا سر تضحياتهم بالنفس والنفيس حين ساحوا في الأرض مجاهدين في سبيل الله يبغون نشر دينه، وإحقاق الحق، وإقرار الأمن والسلام.
تلك أهم الأسباب التي ساعدت الأمة الإسلامية على الاستفادة بوحي الله تعالى تركت بذلك درسًا في الناس لمن يشاء أن يستقيم، ويسعد في الدنيا وفي الآخرة.(1/699)
إن البناء الدقيق لأمة الإسلام استغرق من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتًا طويلا، وجهدًا شاقًا, ولكنه صلى الله عليه وسلم أتمه على أحسن حال, وقد تعرض صلى الله عليه وسلم خلال مرحلة البناء لمحاولة القتل، وحوصرت المدينة، وهاجمه سفهاء القبائل، واستعان صلى الله عليه وسلم بالصبر والتحمل والجهاد حتى أتم ما عمل له، ولم ينتقل إلى ربه سبحانه وتعالى إلا وقد تكونت الأمة الفتية، وانتشر الإسلام في الجزيرة العربية كلها، وتحققت حرية الدعاة، وأصبحت دعوة الإسلام محل تقدير واحترام، تسمع وتناقش، وتعيش واقع الحياة، وتتعامل مع الجميع في حسن وأمان.
وحين نرى حال المسلمين اليوم، وننظر في أمر الدعوة نلمس ضرورة وجود الأمة المؤمنة لمساندة الدعاة وتدعيم حركتهم بالعمل والسلوك.
إن الناس في العالم المعاصر ينظرون إلى المسلمين ويتأملون أحوالهم، ويتصورون أنهم صناعة الإسلام ونتائجه بمجرد تسميتهم بالمسلمين! وليس الأمر كذلك لأن المسلمين من فترة طويلة لا يعيشون الإسلام حقيقة، ولا يطبقون تعاليم الله على الوجه الصحيح.
وحين نبحث عن أهم الركائز المستفادة في سيرة رسول الله في المدينة فإني أرى أن أهم الركائز هو وجود الأمة المسلمة التي تحرك الدعاة، وتوجه حركتهم إلى الناس.
إن الأمم اليوم تتعامل فيما بينها بواسطة السفراء والمبعوثين الذين يمثلون الدول والحكومات ولذلك صار لهم دور، وعاشوا آمنين لأن من ورائهم دولهم.
إن الدنيا تتحرك كلها إذا أسيء لفرد من دولة أوروبية أو غيرها لأن من ورائها دولته, ويا حبذا لو تمتع الدعاة برعاية دولهم، ويا حبذا لو كانت الدول إسلامية قلبًا وقالبًا على قلب رجل واحد لتكون الأمة المرجوة، تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر في صدق وشفافية.
إن العالم المعاصر يقر للدول العظمى بحقها في توجيه الدول الصغيرة، وتغيير مساراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وفق رؤيتها. بدعوى تحقيق تقدم ضاري وإنساني لهذه الدول، برغم ما في كل هذا من رغبة الاستعلاء والسيطرة والاستغلال.(1/700)
إن هذا الواقع يعطي لصاحب الحق أن ينشر ما يتمتع به من الحق والخير للآخرين. وحين يكون القوي صاحب رسالة سامية يريد إفادة الناس بها متجردًا من أي غاية ذاتية، وبعيدًا عن أي مصلحة شخصية. حين يكون الأمر كذلك يرحب به الجميع.
إن الأمة الإسلامية ضرورة لنجاح الدعوة، وقاعدة لا بد منها لمساندة الحركة بالإسلام، وإيصاله إلى كل إنسان في الوجود.
وحين نؤمن بهذه الضرورة لا بد أن يتعاون الأفراد ويعمل الجميع لإيجاد هذه الأمة بالخصائص التي لا بد أن تنشط هذه الأمة في الأخذ بأسباب القوة المادية التي لا بد منها في عالم لا يعترف إلا بحقوق الأقوياء، ولا يهاب إلا القادرين.
إن القيم النبيلة تتحول في لسان الضعفاء إلى مظاهرة صوتية تحتج وتصيح بلا مجيب وتستغيث بلا مغيث, وربما عدها الأقوياء جماعة من المجانين.
وأول قوة الأمة يبدأ بتقوية الأفراد والجماعات الصغيرة، وهؤلاء مسئولون عن أنفسهم، فليقوي الفرد نفسه بالطاعة، والصدق، والعمل، والتجرد من الهوى, والتوجه في كل نشاطه لله، وعلى الأفراد أن لا يعبئوا بالمعوقات الطارئة، ولا ينتظروا أجرًا من مخلوق لأنهم يعملون لله، وينتظرون الأجر منه سبحانه وتعالى, وما عنده سبحانه لا يضيع أبدًا, وهو سبحانه لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.(1/701)
المبحث الثاني: الاهتمام بمعرفة الواقع العالمي
هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، وأسس دولة الإسلام في المدينة، وأخذ في دعوة الناس إلى الله تعالى حسب مقتضيات كل مرحلة.
وكان صلى الله عليه وسلم يعلم واقع العالم كله، ويدرك اتجاهات الأفراد، وكان الله معه يعينه على الحق، ويعرفه به إن سها عنه، أو لم يدركه.
لقد كان يعرف ما عليه الفرس والروم، ويعرف ما بينهما من حروب وأحقاد، ويعلم أن الروم أهل كتاب، وأن الفرس عبدة أوثان وأصنام، وكان الله معه يخبره بأهم ما عندهما يقول الله تعالى: {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} 1.
ووقف صلى الله عليه وسلم على كافة أحوال اليهود والمنافقين وسائر القبائل وهو في مكة قبل الهجرة، وبعد استقراره في المدينة بعد الهجرة, وكان يتعامل مع كل بما يكافئه, ويدعوهم بالأسلوب الذي يناسبهم, فإن رأى منهم غدرًا حذرهم وتعامل معهم بنفس توجيههم.
لقد كان صلى الله عليه وسلم يحدث أهل الكتاب عن رسلهم وكتبهم، ويحدث القرشي عن الخالق والمخلوق, ويحادث أهل الزرع والتجارة كل ما هو فيه، وبما يتلاءم مع حياته وفكره وتلك قضية مهمة لا بد منها لنجاح الدعوة إلى الله تعالى.
لقد عاش المسلمون وسط الناس بعيونهم، وبمن آمن منهم، ولذلك كانوا على خبر دقيق بواقع الناس.
إن معرفة الواقع المعاصر ضروري للدعوة ليتحرك الدعاة وفق خطة عملية متكاملة ناتجة من تخطيط سليم.
إن التخطيط السليم بحث وعلم بالواقع، وتحديد للعمل والمنهج، ومتابعة
__________
1 سورة الروم: 1-5.(1/702)
للأعمال والنتائج.
وهذا ما لا بد منه للدعوة إلى الله تعالى في العصر الحديث.
لا يكفي تكليف الدعاة بالعمل في إقليم ما، وتركهم لشأنهم، مع أنهم لا يعرفون شيئًا عن طبيعة الإقليم، ولا عن سكانه، ولا عن الاتجاهات السائدة فيه.
لا يكفي ذلك، بل لا بد من معرفة الدعاة للبيئة التي سيدعون فيها معرفة شاملة لكافة النواحي "أناسًا، وطبعًا، وخلقًا، وتدينًا، وثقافة، وتحضرًا ... إلخ".
وهذه أمور تقوم على البحث المتعمق، والدراسة المسبقة.
وبناء على البحث والدراسة توضع الخطة الملائمة لإبراز أولويات الدعوة والوسائل المستخدمة، والأسلوب المناسب, والكيفية المثلى لكافة الظروف التي تهم الدعوة والدعاة.
إن التمهيد لعملية الدعوة بتوضيح الجوانب المشار إليها ضرورة في عصر يعتمد على التخطيط في سائر الأعمال، وهي ضرورة يؤكدها الإسلام ويؤيدها.
فقط خطط النبي صلى الله عليه وسلم لغزواته جميعًا، ففي غزوة بدر عرض الأمر على الأنصار، وعلى المهاجرين وأخذ موقع الغزوة برأي أصحابه.
وفي غزوة أحد أخذ الرأي، وشاور الصحابة، وحدد لكل مجموعة مكانها.
وهكذا في كل خطواته صلى الله عليه وسلم.
إن الرسائل النبوية أرسلت بعد معرفة من أرسلت إليهم، لتتناسب مع فكرهم، وواقعهم، فإن كانت الرسالة مرسلة إلى أحد من أهل الكتاب فإنها تشير إلى الإيمان بعيسى كجزء من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، نقرأ ذلك في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ملك الحبشة، وفيها يقول صلى الله عليه وسلم: "بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة، أسلم فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس، السلام المؤمن، المهيمن، وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله، وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة، الحصينة، فحملت بعيسى، خلقه الله من روحه ونفخه، كما خلق آدم بيده". ويقول صلى الله عليه وسلم لعظيم الروم بمصر: "أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين،(1/703)
فإن توليت فإنما عليك إثمك وإثم الإريسيين معك". والإريسيون هم المزارعون.
فنجده صلى الله عليه سولم يحدثهم بحديث الخبير بهم، يحدثهم عن مريم، وعن عيسى عليه السلام كما يحدث المقوقس عن المزارعين بمصر.
ونلحظ أن رسائله صلى الله عليه وسلم قد صيغت بلغة، ولهجة من أرسلت إليهم، فهذه رسالته إلى نهد قبيلة باليمن، يقول فيها صلى الله عليه وسلم: "اللهم بارك لهم في محضها، ومخضها، ومذقها وابعث راعيها في الدثر، وافجر له الصمد، وبارك له في المال والولد"1.
بل إن رسائله صلى الله عليه وسلم كانت تناسب طبائع الناس، ومنزلتهم، وتنوعهم.
ألا يدل ذلك على أهمية فهم الواقع وضرورة العلم بالناس الذين توجه إليهم الدعوة؟
وقد دلت التجارب المعاصرة على أهمية التمهيد لحركة الدعوة بمعرفة الواقع على ما هو فيه بكل صدق وتجرد؛ لأن الدعاة إذا جهلوا الواقع حين يقومون بالدعوة يصطدمون بالمستمعين بادئ ذي بدء، ولهذا أثره السيئ، كما أن عدم معرفة الواقع يؤدي إلى عدم الاستعداد له، الأمر الذي يضع الدعاة في غربة فكرية ونفسية مع من يتوجهون إليهم، ولا يمكن القول بأن دراسة الواقع، ومعرفة متطلبات الدعوة مسئولية من يكلفون بالدعوة، ويباشرونها لأن ذلك فوق مقدورهم، وأكبر من طاقتهم.
لو كان مجال الدعوة إقليمًا واحدًا لأوجبنا على الدعاة "أفرادًا" أن يبدءوا عملهم بالبحث والدراسة، ولا يباشرون الدعوة إلا بعد فهم الواقع، والإحاطة الكاملة بأحوال المدعوين.
لو كان المجال إقليمًا واحدًا لقلنا ذلك، لكنه العالم كله وحينئذ لا يستطيع التعريف به إلا هيئات ضخمة، قادرة على توظيف العلماء، وتوجيه الطاقات، والقيام بالدراسات والبحوث النظرية والميدانية وبذل ما تحتاجه من تضحيات، ومن الممكن الاستفادة بالأبحاث العملية العديدة التي تقدم من طلاب الدراسات العليا في كليات الدعوة والدراسات الإسلامية العديدة وبخاصة تلك الأبحاث القائمة على الدراسة الميدانية، ويمكن تأسيس المعاهد البحثية لتحقيق هذه الغاية.
__________
1 انظر كتب النبي صلى الله عليه وسلم ص518-525 من الكتاب.(1/704)
لقد بذلت محاولات في العالم الإسلامي في هذا الطريق لكنها لم تكمل.
لقد حاولت جامعة الأزهر في أوائل الستينات من القرن العشرين تأسيس معهد بحثي عرف بـ"معهد الدراسات الآسيوية والأفريقية" تكون الدراسة فيه بلغات القارتين، ويقبل طلبته من خريج الكليات الإسلامية من جامعة الأزهر للتخصص في دراسة السكان، وبخاصة في النواحي التي تحتاجها الدعوة، على أن تكون الدراسة في السنة الأولى عامة، وفي السنة الثانية ينقسم الطلبة إلى مجموعات كل مجموعة تختص بدراسة إقليم ما للإحاطة بواقعه، واكتشاف أنحج الطرق للتوجيه إليه، والتلاؤم معه على أن تكون الدراسة، في الفصل الثاني من السنة الثانية ميدانية في الإقليم الذي يتخصص له الطالب، وبعد الانتهاء من دراسة السنة الثانية يقوم الطالب بإعداد بحث للماجستير في دعوة الإقليم التي عاش معه مدة الدراسة على أن يعمل للدعوة في الإقليم الذي أتقن لغته ودرس أحواله، وعايشه خلال المرحلة الميدانية.
ويجوز إتمام البحث العلمي خلال العمل بالإقليم ليستمر إشراف الأزهر على الطالب وعمله.
وكان المقترح أن يحصل الطالب خلال دراسته على درجة معيد بالجامعة، إلا أن الاقتراح بعد أن اجتاز خطوات عديدة توقف.
كما قررت رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة تأسيس "المعهد العالي للدعوة الإسلامية" ليقبل طلابًا من العالم الإسلامي للحصول على درجة الماجستير في الدعوة وتخريجهم دعاة إلى الإسلام ليقوموا بالدعوة في بلدهم تحت إشراف الرابطة.
وفكرة المعهد حسنة إلا أن التطبيق العملي للفكرة شابه قصور في المنهج، وفي قلة عدد الطلاب، وعدم إخلاصهم للهدف الذي قبلوا بسببه في المعهد، وعدم خبرة القائمين على التدريس، وأخيرًا تقلص المعهد ولم تبق منه إلا صورته فقط.
إن هذه المحاولات لو قامت بها هيئات كبرى تدعمه، وعلى خطوات مدروسة معد لها فقد يكتب لها النجاح.
وحتى يتم ذلك نقول للدعاة: ابدءوا عملكم بدراسة الواقع الاجتماعي للبيئة التي تقومون بدعوة أهلها، واستفيدوا بالنظريات العلمية في مجال الخدمة الاجتماعية.(1/705)
والدراسات التربوية والنفسية والاجتماعية.
إن الجميع يعلم أن الدعوة إلى الله تعالى يجب أن تكون بالحكمة الدقيقة، والإحسان الخلقي في الموعظة والجدل.
وبمعرفة الواقع بكل جوانبه يتمكن الدعاة من استعمال الحكمة لمن تناسبه، ويأتون بالموعظة عند أهلها، ويكون الجدل لمن لا يفيده إلا الحوار، والنقاش، ويتوجهون بالدعوة في وقت مناسب وظروف مفيدة ولغة يفهمها من توجه لهم الدعوة.
وبذلك تتلاءم دعوتهم مع المدعوين.
إن علم الداعية بالواقع الاجتماعي يمكنه من مخاطبة محدثه بقول لائق مقبول، حدث أن المقوقس حين استلم الرسالة من حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه قال له: ما يمنع محمدًا إن كان نبيًا أن يدعو على من خالفه، وأخرجه من بلده؟
فرد عليه حاطب على الفور: وما منع عيسى وقد أخذه قومه ليقتلوه أن يدعو الله عليهم ليهلكهم؟
فقال المقوقس: أحسنت، حكيم جاء من عند حكيم.
فنجد حاطبًا يقنع المقوقس لأنه ارتبط في حديثه بالواقع الذي يعرفه، والحقيقة التي يعيشها المقوقس، واللغة التي يفهمها.
إن العالم اليوم مليء بالدعوات العقائدية المختلفة، والكل يحاول معارضة الإسلام ببث الشبه، ونشر الدعايات المضللة الظالمة.
وأغلب الشبه دونها المستشرقون، وكتبها المبشرون، وتحدث عنها العلمانيون ويثيرها اليوم المتنورون والإحاطة بها أمر ميسور.
ومن الممكن تناول هذه الشبه بالتحليل والرد عليها بطريقة علمية هادئة لتفنيدها وإثبات الحق في كل مسألة منها بمختلف وسائل الدعوة والتوجيه مثل المؤلفات العلمية والمحاضرات والنشرات، والدروس، والخطب، والحوار, وهكذا.
ويمكن الاستفادة بمؤلفات العلماء وأبحاث الدارسين الإسلاميين، وتوجيههم نحو(1/706)
هذا المجال الهام.
إن المستشرقين بذلوا جهودًا ضخمة وأخرجوا مؤلفات عديدة بمساندة المراكز العلمية التالية:
1- كراسي اللغات الشرقية التي أنشئت في سائر الجامعات الأوربية وتضم أعدادًا غفيرة من الأساتذة، والمحاضرين، والمعيدين ولهم رصيد ضخم من الدراسات المختلفة.
2- المكتبات الشرقية وهي تضم المؤلفات والمخطوطات باللغات المختلفة، وقد تنوعت هذه المكتبات، فمنها ما هو تابع للحكومات، ومنها ما هو تابع للجامعات ومنها ما هو تابع للعلماء، ولجميع هذه المكتبات فهارس شاملة وإصدارات هذه المكتبات مستمرة وغزيرة.
3- الجمعيات الآسيوية والشرقية وهي نواد للعلماء المهتمين بالعلوم الشرقية، وتصدر المجالات الدورية وتنشر مؤلفات الأعضاء ولهذه النوادي مسميات عديدة، وهي تنتشر بين الأغنياء والخاصة من الناس في كل بلاد العالم الإسلامي.
وللمبشرين أيضًا مؤسساتهم الضخمة فالكنيسة لها دعاتها، وبابا الفاتكيان رئيس دولة مستقلة تشرف على الكنائس وتوجه المبشرين.
إن الكنائس المسيحية بمختلف مذاهبها تقوم بالتبشير بالنصرانية، وتحاول دائمًا الاستفادة بالسلبيات التي تجدها بين الناس كالفقر، والجهل، والمرض، والتخلف، ولها نشاطها في مجال الإعلام والاتصال والتعليم، والطب وغيرها.
وللكنائس نظامها في اختيار كوادرها، وتدريبهم، والإشراف عليهم بصورة مستمرة.
وقد قامت الدول المسيحية بتوجيه من رجال الكنيسة بتأسيس مدارس في البلاد الإسلامية وغيرها لنشر ثقافة وفكر دول التأسيس، وفيها ما فيها من بعد عن الإسلام وثقافته.
هذه المؤسسات الضخمة للمستشرقين والمبشرين وتلك التي تقوم بها الكنيسة(1/707)
تحتاج إلى جهد يكافئها، ليقف الدعاة المسلمون أقوياء بدينهم الحق، وبالتدعيم الذي يساندهم.
لقد تكلم المستشرقون في كل جزئية إسلامية، والواجب أن تكون الردود شاملة وقوية، وبخاصة أن وسائل الاتصال لم تترك صغيرة ولا كبيرة إلا وبثتها في العالم كله.
وللمسلمين من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم عبرة وتوجيه؛ لأن الثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يترك سؤالا لمعترض إلا وأجابه، ولم يشاهد أمرًا إلا وشرح حقيقته لأصحابه، ولم ينزل عليه وحي إلا وبلغه للناس على وجه مفهوم، وإقناع تام, ولم يترك مسألة على خفائها، ولم يدع مدخلا للشيطان إلا وسده، ونصح أمته بما يجب عليهم.
لقد بث النبي صلى الله عليه وسلم عيونه في كل مكان، ولذلك كان يفاجئ أعداءه إذا عملوا على العدوان على المسلمين، وكان يرسل الدعاة الفاهمين إلى أي مكان يحتاج إليه.
وهذا الشأن يدعو الأمة إلى ضرورة العلم والعمل، وأهمية التخطيط والتحرك مستفيدين بمستجدات العصر، ومخترعات العقول، في إطار المشروعية الدينية.(1/708)
المبحث الثالث: أهمية التطابق بين المسلم والإسلام
مدخل
...
المبحث الثالث: أهمية التطابق بين المسلم والإسلام
من القضايا ذات التأثير الكبير في حركة الدعوة إلى الله تعالى وجود الإسلام في حياة الناس أفرادًا وجماعات لأن الإنسان يرى أول ما يرى في الغير عمله، ويسارع في تصوره والحكم عليه بعد ذلك, ويربط دائمًا بين العمل وبين شخصية القائم به.
إن الإنسان دائمًا تحركه نفسه، وتوجهه قناعته، وتتحكم فيه عقيدته وديانته.
ومن هنا كانت دلالة العمل على المنطق الفكري لصاحبه.
إن الجاد في الكسب والربح هو التاجر الذي يقوم بالبيع والشراء.
والمثقف الحر يعشق حرية الناس، ويعمل على نشرها وتحقيقها لغيره.
وحين نرى إنسانًا يصلي في المسجد فهو مسلم.
والمتخصص في الحرب والدفاع جندي يعيش بين المدفع والصاروخ.
إن دلالة العمل على فكر صاحبه، وثقافته حقيقة ثابتة وفي الإطار الإسلامي يجب أن يتاطبق عمل المسلم مع توجيهات دينه، وتعاليم ربه ليكون مسلمًا.
إن الإسلام جاء للتطبيق والله تعالى يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} 1.
ويقول تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} 2.
ويقول سبحانه: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} 3 ولقد برزت الأمة الإسلامية في عصرها الأول بصورتها الواجبة حيث كان الجميع صورة صادقة للإسلام، لدرجة أن من تأمل عملهم ومعاشهم وجد دينهم، ورأى أثره على الناس أمنًا، ونشاطًا، وتعاونًا، وإخلاصًا، ومن علم دينهم وقف على حياتهم ومعاشهم
__________
1 سورة النساء: 64.
2 سورة النور: 52.
3 سورة النور: 54.(1/709)
عاش المسلمون الأُول الإسلام بكافة جوانبه، وبذلك تأسلم المجتمع كله، وصار الإسلام مجسدًا في الحياة.
عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الناس يربيهم بالإسلام، ويطمئن على خلوصهم لله، وصدقهم في الطاعة، فهم بشر يعتريهم ما يعتري سائر البشر، ولذلك كانت ضرورة الاستمرار في التربية ليسكن الإيمان قلوبهم، ويكونوا عونًا لرسول الله في الالتزام والتطبيق، لقد استمر رسول الله يربيهم بالوحي حتى وصلوا إلى الذروة، وأصبحوا مثلا عاليًا للصناعة الربانية.
لقد نشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين على أسس راسخة، ومن أهم جوانب التنشئة الإسلامية للأمة ما يلي:(1/710)
1- نشر العدل:
العدل فضيلة تضمن لصاحب الحق حقه بعيدًا عن الظلم والعدوان، وينظر الإسلام إلى العدل نظرة شاملة تعم التشريع كله وبذلك تتضمن كافة العلاقات، والمعاملات الإنسانية سواء أكانت بين المسلمين بعضهم مع بعض، أو كانت بين المسلمين وغيرهم يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} 1.
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} 2.
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
__________
1 سورة النساء: 58.
2 سورة المائدة: 8.(1/710)
وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 1.
وكما يأمر الإسلام بالعدل نراه ينهى عن الظلم تأكيدًا للعدل، وقد كتب الله على الظالمين لعنته وسخطه بقوله تعالى: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} 2.
وقوله تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} 3.
وقوله عز وجل: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} 4.
ولقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالعدل والاستقامة فقال له: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 5.
وقد أظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم العدل وأمر به ومارسه في حياته كلها، ولعل قمة العدل أن يعفو صلى الله عليه وسلم عمن أساء إليه.
ترى هذا في العفو العام الذي أطلقه صلى الله عليه وسلم لكل من تصدى له بالعداء من قريش فأعلنها: "اذهبوا فأنتم الطلقاء". وهكذا بلا كلمة عتاب, ولا موقف عقاب، فهو فضل منه صلى الله عليه وسلم.
ونرى هذا في إعلان براءة رسول الله صلى الله عليه وسلم مما فعله خالد بن الوليد يوم أن قتل أسرى بني جذيمة لاجتهاد اجتهده.
ونرى هذا في إعلانه يوم حنين، رغم ما فعله المشركون بالمسلمين، فلقد أمر المسلمين ألا يقتلوا امرأة ولا وليدًا.
ونرى هذا في عدم دعائه على ثقيف رغم محاصرتهم في الطائف فترة طويلة فلم يزد على أن يقول: "اللهم اهد ثقيفًا".
ونرى أثر العدل في إطفاء نار العصبية متمثلا في أكثر من موضع.
__________
1 سورة النحل: 90.
2 سورة هود: 18.
3 سورة غافر: 52.
4 سورة الأعراف: 44.
5 سورة هود: 112.(1/711)
رأيناه بعد الفتح حينما استغلت خزاعة قربها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلت رجلا من هذيل لثأر بينهم في الجاهلية فقال صلى الله عليه وسلم وهو في حالة من الغضب الشديد لهذا الفعل: "وإن أعتى الناس على الله عز وجل ثلاثة: رجل قتل في مكة، ورجل قتل غير قاتله، ورجل طالب بثأر في الجاهلية، وإني والله لأدي هذا الرجل الذي قتلتم". فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيناه في حجة الوداع وهو صلى الله عليه وسلم يضع تحت قدمه كل عصبيات الجاهلية وأولها عصبية بني هاشم.
ونرى العدل في إقامة شرع الله على القريب والبعيد على حد سواء، فقد سرقت امرأة من بني مخزوم وتحركت قريش لستر هذه المرأة ومنع إقامة الحد عليها مخافة العار فكلموا أسامة بن زيد بن حارثة لمكانته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب صلى الله عليه وسلم وقال لأسامة: "أتشفع في حد من حدود الله". ثم قام وخطب فقال: "أيها الناس إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".
وبما أن العدل من مبادئ الإسلام العظمى ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو أول العاملين بها، كان الله تعالى يصوبه إذا أخطأ في حكم أخذ فيه بظاهر دعوة الناس، ونضرب مثلا على هذا وهو تبرئة اليهودي الذي اتهم بالسرقة بدون وجه حق, وبما أن رسول الله لا يعلم الغيب فقد وافق المدعين على قولهم، فأنزل الله من عنده التقويم والحكم العدل فقال سبحانه وتعالى يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا، وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا، وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} 1.
__________
1 سورة النساء: 105-107.(1/712)
2- تحقيق القيم النبيلة:
إن غرس القيم من أساسيات التكوين والتنشئة لأنها مرتبطة بالنفس الإنسانية مع ما فيها من تنوع ونزوع إلى الشهوة والهوى.
وكان القرآن الكريم يربي المجتمع المسلم ويحاول وضعه في إطاره الإيماني الصحيح.
إن القمة التي كان المنهج القرآني ينقل خطى هذه الأمة لتبليغها هي قمة التجرد لله، والخلوص لدينه، وقمة المفاضلة على أساس العقيدة مع كل أواصر القربى وكل لذائذ الحياة وهي قمة النبل، والخلق، والحياة.
وقد اهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرس القيم عند أصحابه قبل الحاجة إليها لأن وجود الدواء حين وجود الداء أنجع فقد خاف المسلمون من الفقر نتيجة فتح مكة ونتيجة منع المشركين من المجيء إلى مكة بعد البراءة منهم، وأن المواسم التجارية ستقطع فنبههم القرآن الكريم ورباهم على أن الرزق بيد الله الخالق لا بيد خلقه يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 1 وقد ساعدهم يقينهم بقدرة الله وعلمه وحكمته على طرد ما اعتراهم من خوف قبل نزول الآية.
ولما أعجب المسلمون بكثرتهم في غزوة حنين حينما صاروا أثني عشر ألف رجل، وقالوا معجبين بكثرتهم: لن نغلب اليوم من قلة، وذلك نسيان لقيمة الإيمان والإخلاص لله فكان أن انهزموا يقول الله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ، ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2 فعادوا إلى إيمانهم، وتابوا عن تصوراتهم فنصرهم الله تعالى.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن ليتخلى عن الله ناصره وكافله، فهو يعلم المسلمين أنه عبد
__________
1 سورة التوبة: 28.
2 سورة التوبة: 28-27.(1/713)
من عبيد الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولا يستمد قوته إلا من الله، ومع هذا يثبت ولا يفر، ويصمد ولا يتخاذل، فكان يدعو ربه بدعائه الخاشع قائلا: "اللهم بك أحاول وبك أصاول، وبك أقاتل".
وهكذا يكون الموقف سببًا لتقويم الانحراف الذي يظهر في وسط المجتمع.
ولما أحب المسلمون القعود عن الخروج إلى تبوك، أحبوا القعود في وقت يطلب فيه السكون والدعة، فالثمار قد حان قطافها، والأشجار الوارفة تمد المستظلين بها بنسماتها الساحرة كل هذا كان يدعو للقعود، ولا يدعو إلى الأسفار المرهقة، وقطع الصحاري والفيافي الحارقة المهلكة، ومع هذا يعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين الخروج رغم كل ذلك، فيجتمع له في حدود ثلاثين ألف مقاتل، ليكون أكبر جيش يقوده رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحينما نشاهد الذين تخلفوا عن هذا الجيش لأنهم إما جماعة حبسهم العذر فلم يجدوا ما يحملهم، وإما منافق قد كشف عن نفاقه أو قدم عذره فقبل، أو مسلم صادق لم يقدم عذرًا فتوجهوا إلى الله تائبين فتاب عليهم ونزل قول الله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ، وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} 1.
__________
1 سورة التوبة: 117-118.(1/714)
3- تعود الصبر والتحمل:
من أهم خصائص المسلم الصبر الذي هو زاد الطريق في الدعوة، إنه طريق طويل شاق، حافل بالعقبات والأشواك، مفروش بالصد والرد، وبالإيذاء والابتلاء.
والصبر أنواع كثيرة:
الصبر على شهوات النفس ورغائبها وأطماعها ومطامحها، وضعفها ونقصها.
والصبر على شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصورهم، وانحراف طباعهم وأثرتهم وغرورهم.
والصبر على جرأة الباطل، ووقاحة الطغيان وتصعير الغرور والخيلاء.
والصبر على قلة الناصر وضعف المعين، وطول الطريق، ووساوس الشيطان في ساعة الكرب والضيق.
ولا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نبي هذه الأمة هو أول من يمثل هذا الصبر بمعانيه هذه كلها، وكل خطوة من خطواته تمثل هذا الصبر تمثيلا صادقًا.
لقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبر كله في هذه المرحلة التي كون فيها الأمة فهناك صبر على جفاء الأعراب وطمعهم في الأموال، وحرصهم على المكاسب، فكان يعاملهم على قدر عقولهم فكان بهم رحيمًا، ولهم مربيًا ومصلحًا وقد عنفهم الله سبحانه على جفائهم في قوله: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 1.
ومع هذا حاول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرتفع بهم ويخرجهم من طباعهم هذه إلا أنهم ما استفادوا كثيرًا من هذه المواقف.
وهناك الصبر على إيذاء النفوس الملتوية حيث قال أحد المنافقين عند تقسيم غنائم يوم حنين: والله إن هذه القسمة ما عدل فيها، وما أريد فيها وجه الله، فلم يزد صلى الله عليه وسلم أن تغير وجهه وقال: "فمن يعدل إن لم يعدل رسول الله يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر".
وهناك الصبر في ميدان المعركة أمام استعلاء الباطل، فقد تراجع المسلمون في أحد وحنين، ولم يتراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بموقفه هذا استطاع أن يجمع المسلمين مرة أخرى ويحقق لهم النصر.
وهناك صبر مع المسلمين الذين تراجعوا في المعركة فلم يعنف، ولم يعاقب أحدا ممن فر عنه حتى حينما طالبه بعض المسلمين بأن يقتل الفارين لم يستجب لهذا المطلب لأنه صلى الله عليه وسلم كان يربي أمة، وينشئ جماعة ولذلك اكتفى بما يبني، وبما يفيد, وليس هو العقوبة في هذا التوقيت من الزمان.
__________
1 سورة التوبة: 97-98.(1/715)
4- تحقيق التكافل بين الناس:
وعلى الرغم من أن الإنفاق والعطاء معلم بارز في الشخصية المسلمة؛ لأنه يتكرر كثيرًا في القرآن الكريم كله وهو يدعو إلى الإنفاق، ويجعله جزءًا من المتطلبات التي لا تنفك عن المسلم، ويجعل الزكاة -وهي العطاء الواجب- ركنًا من أركان الإسلام، فلا إسلام إلا به.
على الرغم من هذا كله فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمرن الأمة المسلمة باختبارات عديدة لتعميق هذه القيمة العالية، قيمة الإنفاق والعطاء دون مقابل عاجل حيث جعلها إقراضًا لله يوفيه لصاحبه يوم القيامة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ في أكثر أوقاته من البخل، ويطلب من المسلمين أن يجعلوا هذا التعوذ في وردهم الصباحي والمسائي.
وكان حينما تأتيه أموال الغنائم ينفق يمينًا وشمالا، إنفاق من لا يخشى الفقر، ويرى المسلمون منه هذا السلوك.
وكان يعطى للناس، يتألف به قلوبهم، فيجذبهم إلى الإسلام من خلال عطائه، حتى أن أحدهم يكون مبغضًا للإسلام ولرسول الله قبل العطاء، فما أن يجد السخاء يجري بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تنتفخ كوة من قلبه على الإيمان، فيقبل إقبالا صادقًا ويحسن إسلامه.
ومع هذا فهو صلى الله عليه وسلم يترك أقوامًا ولا يعطيهم، يكلهم إلى إيمانهم وتقواهم؛ لأنه يريد أن يربي هذه النفوس على الارتفاع عن هذه المظاهر المادية الزائلة فقال صلى الله عليه وسلم: "فوالله إني لأعطي الرجل، وأدع أحب إلي من الذي أعطي، ولكني أعطي أقوامًا لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكل أقوامًا إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير".
وبعد حنين، وبعد أن قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم بين المسلمين، جاءته هوازن مسلمة، فأراد أن يرجع إليهم ما أخذ منهم من الغنائم التي قد وزعها بين المسلمين،(1/716)
وفي الوقت ذاته أراد أن يغرس في نفوس المسلمين التخلي عن منحهم الدنيوية بطواعية ليربي فيهم حب العطاء والسخاء، فبدأ صلى الله عليه وسلم بنفسه وبأهله، فقال وهو يخطب في الناس: "أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم". فتسارع القوم من المهاجرين والأنصار يتنازلون عن رغبة صادقة بما هو لهم ... إلخ.
فكان عمله صلى الله عليه وسلم هذا مثالا للتربية العملية التي جعلت الناس يتسابقون إلى العطاء دون تعلق بعرض من الدنيا زائل، ومن لم يستجب من الأعراب استوهبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على عوض سيعوضهم به.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتتبع مآرب النفس الإنسانية ويقودها إلى الخير، فلما بلغه رغبة بعض الأنصار أن يكون لهم مثل ما أخذه المؤلفة قلوبهم من العطاء بعد الغنائم، لم يستجب لهذه الرغبة وإنما عمل على تطهير نفوس الأنصار من هذه العلائق، فجمعهم وخطب فيهم، وبعد أن استثار فيهم كوامن نفوسهم قال لهم: "إن قريشًا حديث عهد بجاهلية ومصيبة، وإني أردت أن أجبرهم وأتألفهم أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله إلى بيوتكم، لو سلكت الناس شعبًا وسلك الأنصار شعبًا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار".
ولقد وجدنا أثر هذه التربية في وسط المسلمين في مواقف عديدة، ويكفي هنا أن نشير إلى ما حصل قبل غزوة تبوك لأنه يمثل ظاهرة حسنة هي ظاهرة الإنفاق والعطاء التي لم تكن مفروضة على الناس من قبل وإنما كان حثًّا للجميع أن يقدموا بين يدي رسول الله ما تجود به أنفسهم لتجهيز الجيش الخارج لملاقاة الروم في تبوك وقد اكتملت جوانب الظاهرة هذه بأن الذين تقدموا للإنفاق ليسوا الأغنياء فقط الذين دفعوا ما جهز به الجيش، وإنما أقبل الفقراء والنساء فدفعوا ما يمتلكون حتى أن الواحد منهم كان يأتي بنصف صاع من طعام، فهذا ما يمتلكه فيدفعه إلى جسم هذا العطاء الضخم، ومن ليس لديه أي شيء ينفقه يقوم من الليل باكيًا ثم يقول: اللهم إنك قد أمرت بالجهاد، ورغبت فيه، ثم لم تجعل ما أتقوى به مع رسولك، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها مال أو جسد أو عرض وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريق الوحي بهذه الصدقة، فأعلم صاحبها بأنها قد قبلت(1/717)
في الزكاة المتقبلة.
وهكذا تجهز جيش بأكمله بالجهود الفردية التي تحولت إلى بحر زاخر من العطاء إن هذا الجهد المبذول أخرج خير أمة في عالم الناس ولذلك انتصر الإسلام بهم، ووصلت الدعوة معهم إلى كل مكان وصلوا إليه.
إن التطابق بين الإسلام والمسلمين في العصر الأول جعل المسلمين جميعًا دعاة، الأمر الذي أدى إلى انتشار الإسلام في العالم كله برؤية الصورة الإسلامية خلال حركة الفتوح؛ لأن الإسلام كان ظاهرًا مع الجنود، والتجار، والقراء، بكل ما فيه من سمو وخلق.
إن التطابق بين الإسلام وعمل المسلمين يساعد على تنشئة الأجيال المسلمة؛ لأن الطفل المسلم يرى الإسلام من أبويه كما يراه في الطريق وفي المدرسة ومع الزملاء ومع كل من يختلط بهم، وبهذا يفهم المسلم الإسلام ويطبقه ويؤدي هذا التطابق إلى وحدة الأمة لأن كل فرد فيها يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
ويؤدي هذا التطابق إلى جمال الإسلام في كل تعاليمه لأن الالتزام العام بالإسلام يصبغ المجتمع به، الأمر الذي يجعل الناس متآلفين معه راضين به، سعداء بتطبيقه.
ويؤدي هذا التطابق إلى إعلام الآخرين بحقيقة الإسلام من خلال التطبيق, وحين ينطلق الدعاة إلى هؤلاء الآخرين يجدون الأرض ممهدة للدعوة، والقلوب مستعدة للاستجابة والإيمان.
إن التناقض بين الاعتقاد والسلوك لا يقره الإسلام ولا يرضى به المسلم، ولذلك يعاتب الله المؤمنين إذا حدث هذا الانفصام في حياتهم يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} 1 إن هذا الانفصام سبب يؤدي إلى الضياع والهلاك وقد حدث ذلك في الأمم السابقة يقول الله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ
__________
1 سورة الصف: 2-3.(1/718)
دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} 1.
وحين ننظر إلى العالم الإسلامي اليوم من زاوية التطابق بين الإسلام وعمل الناس ندرك أسباب تخلف الأمة وأسباب انصراف الناس عن الإسلام، ونعرف سبب العجز عن توجيه الدعوة إلى الآخرين بصورة حسنة مقبولة.
إن التنافر الحاصل بين تعاليم الإسلام وبين سلوك الناس يسيء إلى الناس أولا لأنهم يتحركون بلا هوية، ويعيشون بلا فكر، ولا أصول, ولذلك تراهم يشكلون حياتهم من عادات الآخرين وسلوكهم، بعيدًا عن دينهم، مكتفين بالمظهر الفارغ فلا هم جزء من الآخرين، ولا هم جزء مفيد في جماعة المسلمين. ويسيء ثانيًا إلى الدعوة لأن الآخرين سيقولون: لو كان الإسلام خيرًا لفعله أصحابه، ولو كان صوابًا لتمسك به بنوه, بل رأيناهم يتهمون الإسلام ويقولون: إن تخلف المسلمين نتيجة مباشرة لتعاليم دينهم, وهي تهمة باطلة لغياب تطبيق الإسلام عن حياة المسلمين.
إن التناقض بين الإسلام وعمل المسلمين يؤدي بالمسلمين إلى التخلف لأنهم بإعلان أنهم مسلمون ولا إسلام فيهم خاصموا غير المسلمين باتخاذهم نهجًا وطريقًا خاصًا بهم، وبتركهم الإسلام صاروا زبدًا أجوف لا يسمن ولا يغني من جوع وبخاصة في عالم تعددت فيه الثقافات والحضارات.
إن العالم اللمعاصر يتميز بتعدد التكتلات، وتنوع التوجيهات وكل منها يتفاعل مع غيره، فلديه ما يعطيه، وعنده قابلية الاستفادة من غيره في إطار ثقافته وتوجهه.
وهذا التفاعل ضرورة لمسيرة الحياة, ولا بد لها من فكر نبيل تسنده قوة عادلة ولا بد له من واقع يعطي ويأخذ، ويفيد ويستفيد.
والمرء يتساءل بكل تجرد ماذا عند المسلمين اليوم ليجذب الآخرين إليهم؟
لقد فرط المسلمون في كنوزهم، وأهملوا روح السبق والتنافس، وظهروا بأفكار ليست هي واقعهم وحياتهم, وبذلك أساءوا إلى نبل الأفكار, ووضعهم الناس
__________
1 سورة المائدة: 78-79.(1/719)
في مؤخرة الصفوف، وتصوروهم جزءًا من عالم الظلام.
لقد بنى النبي صلى الله عليه وسلم أمة، وأنشأ قوة، وأوجد للمسلمين حياة بعد هوان، وأعماله وتوجيهاته صلى الله عليه وسلم دروس واضحة في هذا الطريق لمن يريد.
لو أردنا للدعوة أن تنجح، وأردنا لأنفسنا أن نتقدم فالطريق واضح، وهو ضرورة التزام المسلم بإسلامه بصورة مطلقة، وعودة الأمة إلى الله عودة جميلة حميدة وحينئذ سوف يفرح المؤمنون بنصر الله، والله على كل شيء قدير.(1/720)
المبحث الرابع: ضرورة الفصل التام بين الإسلام وغيره
نشأت الأمة الإسلامية وسط عالم مليء بالمذاهب والعقائد، والاتجاهات المختلفة وكان تميزها عن كل ما عداها أمرًا ظاهرًا بارزًا.
وحرص النبي صلى الله عليه وسلم على استقلالية الأمة بوحي الله تعالى، ولم يدخل في نظام الأمة شيئًا من عند غيرها، وفصل كل ما هو إسلامي عن غيره.
والحكمة في هذا أن الأخذ من الغير لا يصح إلا حين الحاجة إليه، وحين يكون متلائمًا مع ثوابت الأمة وقيمها, فلقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم من الفرس فكرة حفر الخندق وأخذ من سياسات الفرس والروم فبعث الرسل، واستقبل الوفود، وأرسل الكتب أما في الجوانب التي تسيء لدين الله تعالى فهو صلى الله عليه وسلم منها بريء.
لقد حاولها أهل مكة ورفضها صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} 1.
فلو داهنهم صلى الله عليه وسلم بأن عبد إلههم يومًا، وعبدوا معه إلهه يومًا لضل وغوى، وبعد عن دين الله بالكلية، ولكنه صلى الله عليه وسلم أبى ذلك ورفضه بأمر من الله تعالى.
إن الكفر صور شتى، وحيل الكافرين عديدة وهم يعملون على القضاء على الإسلام والمسلمين، وقد يئسوا من كفر المسلمين صراحة، ولذلك خططوا لإبعاد المسلمين عن دينهم جزءًا جزءًا لإفراغ الإسلام من محتواه، وبذلك يتحول دين الله إلى جسد ميت لا روح فيه ولا حراك.
إن الإسلام عقيدة وشريعة وخلق، يكمل بعضها بعضًا، وتتعاون جميعًا في تقديم الحقيقة الثابتة للإسلام؛ لأن التفريط في جزء منها يعد تفريطًا في الإسلام كله.
إن العقيدة تعني امتلاء الباطن بحب الله، والخشوع له، والتوجه الكلي نحو الخالق في كل همسة ولمسة، وفي كل فكرة وخاطرة، ومع كل اتجاه وسلوك، وبذلك يعيش المسلم مؤمنًا بقدر الله مستسلمًا لأوامره، متوكلا عليه، راضيًا بما يراه الله له لأنه يوقن بأن ما قدره الله سوف يكون.
__________
1 سورة القلم: 9.(1/721)
والشريعة تعني الامتثال المطلق لتعاليم الله تعالى، المنظمة لكل حركة في الوجود وقصر نية التوجه في الفكر والقول والعمل لله تعالى.
والخلق هو مجموعة القيم التي تزين الإنسان ظاهرا وباطًنا، وتملأ الوجود بالخير والجمال.
إن الإسلام بهذا المعنى كاف للناس ظاهرًا وباطنًا، وفكرًا وعملا، نشاطًا وخلقًا.
إن الإقرار بالتوحيد لا بد معه من الاعتقاد بأن الله وحده هو خالق هذا الكون وهو المتصرف فيه، وهو الذي يتقدم إليه العباد بالشعائر التعبدية، ويتقربون إليه سبحانه بنشاط الحياة كله.
إن الله هو الذي أنزل لعباده الشرائع، وهم يخضعون لحكمه في شأن حياتهم كلها.
وأيما فرد شهد أن لا إله إلا الله وفرط في لوازمها وتبعاتها ففي شهادته خلل كائنًا ما كان اسمه ولقبه ونسبه.
وفي الأرض اليوم أقوام من الناس أسماؤهم أسماء المسلمين، وهم من سلالات المسلمين، وديارهم يسكنها المسلمون ولكنهم لا يدينون لله على الوجه الصحيح ويعيشون الإسلام ثقافة ومظهرًا، ويتركونه حقيقة وعملا، وهذا أشق ما تواجهه حركة الدعوة مع هؤلاء الناس، لأنهم يعدون معها وهم في الحقيقة عبء عليها.
أشق ما تعانيه الدعوة هو الغبش والغموض واللبس الذي أحاط بمدلول لا إله إلا الله، ولوازم الإسلام في جانب، وبمدلول الشرك وبمدلول الجاهلية في الجانب الآخر.
أشق ما تعانيه هذه الدعوة هو عدم استبانة طريق المسلمين الصالحين، وطريق العصاة المجرمين، واختلاط الشارات والعناوين، والتباس الأسماء والصفات، والتيه الذي لا تحدد فيه مفارق الطريق.
ويعرف أعداء الدعوة هذه الثغرة، فيعكفون عليها توسيعًا وتمييعًا وتلبيسًا وتخليطًا حتى يصبح الجهر بكلمة الفصل تهمة، ويصبح الحكم في أمر الإسلام والكفر مسألة المرجع فيها لعرف الناس واصطلاحهم، لا إلى قول الله ولا إلى قول رسول الله.
يجب أن يهتم الدعاة إلى الله باستبانة سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين.
ويجب ألا تأخذ أصحاب الدعوة إلى الله في كلمة الحق والفصل هوادة ولا مداهنة(1/722)
وألا تأخذهم فيها خشية ولا خوف، ما داموا مع الحق بأدلته وبراهينه، ومع الصدق بوضوحه وأعماله، ومع الله بقرآنه وسنته.
ولهذا ...
يبقى الإسلام نظامًا فريدًا في إصلاح الحياة والأحياء، وأي تغيير فيه يفسده بمقدار ما داخله من تغيير.
إن أي تغيير يجربه الإنسان في أمر ما يكون مفيدًا حين يكون في أمر ثبت فساده أو ظهر قصوره، أو بان تخلفه, والإسلام بعيد عن كل ذلك ولهذا كان أي تغيير فيه عبث لا يجوز.
وأعداء الإسلام من الجن والإنس ينشطون لإيجاد التغيير الضار الذي يفسد الإنسان ويبعده عن دين الله بحيل شتى، وطرق عديدة.
يعمل أعداء الإسلام على إشغال باطن الإنسان وفكره بأمور تافهة لا تفيد شيئًا كالحرص المادي، وتزيين الشهوات، والاهتمام بما لا فائدة فيه من فوازير ومسابقات وأعياد، ولقاءات.
ويزينون أمام المسلمين ما يلهيهم عن طاعة الله كزخرفة الشهوات، وتيسير الفحش، ونشر ألوان الهوى، وإشعال الغرائز، مع التوقف عن إيجاد حلولها الشرعية. وينشر الأعداء الخلق السيئ، ويبرزون القيم النبيلة في أثواب بالية لصرف الجادين عنها.
ويصل الأمر بالمسلمين إلى جلب الحلول لمشاكل حياتهم من عند غير المسلمين والرضا بغير ما أنزل الله.
وبذلك يبتعد المسلم عن دينه شيئًا فشيئًا، وتصعب عودته إلى الله تعالى وهذا الأمر يحتاج للتصدي له توقيًا منه، وعلاجًا لخطورته.
ولا يصح التصدي إلا بالبراءة التامة من كل ما يتعارض مع الإسلام، وتفصيل الإسلام تفصيلا يؤدي إلى تميز الخبيث من الطيب، وليظهر الصالح، ويعرف الفاسد ولتستبين سبيل المجرمين.
إن أخطر ما وقع فيه المسلمون المعاصرون هو اشتراك الإسلام وغيره في حياتهم حتى تم تشويه كل ثوابتهم, فهو ينادون بالعفة ويتمسكون بالاختلاط، يدعون إلى(1/723)
العبادة والنساء عاريات سافرات، تملأ المادة قلوبهم ويزعمون الإخلاص لله. إن المسلمين بذلك مشتتون مذبذبون فلا هم أخلصوا لله، ولا هم كانوا مع أعدائه وهذا في دين الله لا يفيد.
إن كل نظام له إيجابياته وسلبياته، ولا يصح أن ننسب إيجابيات نظام لغيره، ولا نكلف نظامًا بعلاج سلبيات غيره، وفي حالة التشتت الإسلامي هذه نرى عجبًا؛ لأننا لا يمكننا أن ننسب السلبيات للإسلام وغيره يفعلها!
ولا يصح أن نطالب الإسلام بالعلاج وغيره فاعل المرض!
ومنطق العقل والنقل تجعل الفاعل مسئولا عن فعله، والجريمة يحملها المجرم فـ {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة} 1 ومعاقبة البريء ظلم لا يرضاه عقل أو دين.
ومن هنا ...
وجب على المسلمين أن يمحصوا حياتهم، ويجعلوها خالصة لمنهج الله، وحينئذ تثمر حياتهم دولة الإسلام بمالها، وما عليها وتتحمل كل ما يجد فيها من سلبيات، وتسعد بما يتحقق لها من إيجابيات.
لقد وقع في دولة الإسلام الأولى بعض الأخطاء من أفراد عصوا الله في حياتهم فأقيم عليهم الحد، واقتص منهم، وأخذت الدية وفق منهج الدولة المسلمة، ولكن حين ننظر في العقوبات التي طبقت كما وكيفًا ونقارنها بحياة الناس نشاهد ندرتها وقلتها مما يجعلها طرفًا في إثبات إيجابية النظام الإسلامي ورفعته.
إن المسلم مطالب حين يلتزم الإسلام بتحقيق ذاته، والاعتزاز بما التزم به، والتمسك بكل ما يؤمر به، والابتعاد عن كل ما ينهى عنه، وبذلك تبرز إيجابية الإسلام في حياة الفرد وفي نشاط الجماعة, الأمر الذي يؤدي إلى مساهمة هذه الإيجابية في حركة الدعوة إلى الإسلام.
وقد التزم المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل ما جاءهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وساروا على نمطه بكل دقة، فكانوا خير الدعاة، وخير ما ظهر في أفق الحياة.
__________
1 سورة المدثر: 38.(1/724)
إن الدعوة إلى الله تعالى تحتاج إلى الأمة المسلمة الصادقة التي تساند الدعاة، وتؤكد مقالتها بعملها، وتشهد على صدقهم بنشاطها، وإيجابياتها.
لقد حدد رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيل أمته تمييزًا كاملا، جعلها بعيدة كل البعد عن سبيل المجرمين، وأخذ القرآن الكريم يوضح هذا التمايز ويفصله، وبذلك يعرف الإيمان ويتضح الخير لأن الشيء بضده يتميز، وأيضًا فإن هذا التوضيح يعد دعوة في حد ذاته لأنه يبرز ما في الإسلام من خير وإصلاح، ويشير إلى ما عند معارضيه من فساد وضرر.(1/725)
الخاتمة:
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد ...
فلقد أوشك الأمل على التحقيق واقتربت بفضل الله تعالى من إصدار هذا الكتاب الذي يختم تاريخ الدعوة والسيرة النبوية في العهد المدني، وينتهي بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتقاله إلى الرفيق الأعلى سبحانه وتعالى.
وقد رجعت إلى العديد من المؤلفات القديمة والحديثة في السيرة النبوية فوجدتها جميعًا تعود إلى المصادر الأساسية وهي القرآن الكريم، وكتب السنة، وسيرة ابن إسحاق والمغازي للواقدي، والطبقات الكبرى لابن سعد، وزاد المعاد لابن القيم، والشفا للقاضي عياض، فالتزمت بهذا المسلك فهو خير وأجدى.
وأملي أن يقوم المسلمون بواجبهم إزاء السيرة النبوية؛ لأن السيرة في الحقيقة تقديم الإسلام في صورته التطبيقية وهو يتعامل مع الفطرة، ويراعي الواقع، ويلتقي مع الإنسان ويرتقي به.
إن الأمم العظيمة تكرم رجالها الذين قدموا للأجيال خدمات وفوائد, وليس هناك في الأمم من يماثل رسول الله فلقد قدم للإنسانية كلها دينًا يحقق سعادة الناس وينشر الأمن والسلام.
ولسوف يجد العلماء في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير زاد في أبحاثهم ودراساتهم، كل في مجاله, ولذا وجب على العلماء المسلمين أن يعودوا إلى السيرة يأخذون منها الزاد والدليل، ويعرفون الدواء لكل داء.
لقد عاش صلى الله عليه وسلم أبا حنونًا، وزوجًا رحيمًا، وأخًا صالحًا, وإنسانًا مخلصًا، وقائدًا أمينًا, وإمامًا هاديًا، وناصحًا صادقًا، ورسولا يستقبل الإسلام ويبلغه للناس. إلى آخر المجالات التي يمكن لإنسان أن يقوم بها أو يكلف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهو صلى الله عليه وسلم في كل ما قام به كان مثالا عاليًا، وقدوة رائدة لكل من يريد التقدم والفلاح.(1/726)
والأمل أن يهتم كل مسلم بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأخذ منها مناط الأسوة التي يحتاج إليها حيث نشاطه وعمله.
ولسوف يشعر المسلمون بالعزة يوم أن يعيشوا الإسلام كما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وكما عاشه المسلمون الأوائل.
وقد كان لعلماء العصر الحديث فضل أن قدموا النبي صلى الله عليه وسلم في لقطات متخصصة فمنهم من كتب الجانب النفسي ومنهم من كتب في الطب النبوي, ومنهم من كتب في القيادة المحمدية, وهكذا حتى أصبح أمر الاستفادة من السيرة سهلا لمن يريده, وأصبح عملا جميلا لمن يبحث عن السعادة والرضى.
ولا يصح مطلقًا أن نعيش السيرة فكرًا ثقافيًا نعجب به، ونعرفه، ولا نطبقه لأن ذلك إهمال للواجب، وإساءة لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإضاعة لحضارة إسلامية عظيمة قائمة على العلم والعمل، ومعتمدة على الفكر والسلوك, ولعل ما فيه المسلمين اليوم يؤكد المحاذير التي أشرت إليها، فلقد صاروا في مؤخرة العالم وغدوا عالة عليه من ساعة إهمالهم لتطبيقات السيرة، وابتعادهم عن العمل بالإسلام.
والأمر في هذا الشأن بدهي كله لأن المسلم حين يبتعد عن الإسلام يعمل بلا هوية، ولا يعرف لنفسه غاية، وتتكاثر أمامه الطرق, وحينئذ يتحرك بعشوائية، ويرضى بأي غاية، ويضل بين المسالك والسبل, الأمر الذي يسهل لأعداء الإسلام وأعداء الله اللعب به، وإضعافه، وإبعاده عن الغايات الإسلامية العظيمة.
إن محاولتي في الكتابة عن السيرة ليست ترفًا، وليست تقليدًا, وإنما هو أمل أرجو من ورائه إحياء الروح الإسلامية في الإنسان ليتحرك نحو الله، ملتزمًا بمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تخرج الأمة من التيه، وتنقذ نفسها من المستنقع الذي وضعت نفسها فيه, وتبدأ من جديد حياة المجد والكرامة التي جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لتحقيقها في عالم الحياة.
إن الإنسان المسلم مسئول عن إسلامه وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوف يجد كل نفسه أمام سؤال لا بد منه فلا تنفع فيه الحيل، ولا يصح معه الكذب أو السكوت، وهذا(1/727)
السؤال هو:
من هو الرجل الذي بعث فيكم؟
وماذا تقول فيه؟
وهل كنت تابعًا له أم معارضًا له؟
وهل عشت الإسلام عملا أم طرحته وراءك؟
وبعد السؤال يكون الجزاء، وهو إما إلى الجنة وإما إلى النار.
لم ينتفع الإنسان في هذا الوقت إلا بعمله: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ، ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ، تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ، أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} 1.
الأمر خطير، والمسئولية عظيمة، والطريق معروف، وهو ما حاولت أن أبرز شيئًا منه فيما كتبت، وحذرت من مغبة الكسل، والإهمال.
أسأل الله تعالى أن يفتح القلوب والعقول، وييسر العمل والتطبيق، ويحقق الفوز والفلاح, وأن يجعل عملي هذا خالصًا متقبلا لأستفيد به في {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} 2.
والحمد لله رب العالمين
المؤلف
__________
1 سورة عبس: 34-42.
2 سورة الشعراء: 88-89.(1/728)
فهرس الموضوعات:
الصفحة الموضوع
7 المقدمة
التمهيد: "التعريف بالمدينة المنورة"19 1- أسماء المدينة المنورة
26 2- جغرافية المدينة المنورة
27 3- أهمية موقع المدينة
29 4- خلو المدينة من الوباء
31 5- وسطية المدينة
32 6- تميز المدينة عن غيرها من المدن
33 7- سكان المدينة
39 8- شجاعة أبناء المدينة
43 9- تآلف أبناء المدينة
45 10- حب أهل المدينة للإسلام
الفصل الأول: السيرة النبوية من الهجرة حتى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم
53 تمهيد
55 المبحث الأول: الهجرة النبوية
55 تمهيد
57 النقطة الأولى: تحديد موطن الهجرة
59 النقطة الثانية: أهمية الهجرة
65 النقطة الثالثة: تنظيم الهجرة
66 أولا: تآمر القرشيين على رسول الله
69 ثانيًا: التخطيط للهجرة
69 1- الإعداد المسبق
70 2- مبيت علي رضي الله عنه
72 3- الوصول للغار
73 4- البقاء في الغار
75 5- في الطريق للمدينة
78 ثالثًا: عناية الله بنبيه في الهجرة
78 1- رد سراقة(1/729)
الصفحة الموضوع
79 2- شاة أم معبد
80 3- إسلام أبي بريدة
81 4- تأمين الزاد
82 5- التبشير بالعودة إلى مكة
83 رابعًا: الوصول للمدينة
88 النقطة الرابعة: وقفات مع الهجرة
88 1- دقة الطاعة
89 2- حسن التصرف
89 3- تحمل الأذى
90 4- التضحية بالمال
90 5- كيد قريش بالمهاجرين
91 6- الاستيلاء على الدور
المبحث الثاني: الاستقرار في المدينة
93 أولا: الترحيب بمقدم النبي صلى الله عليه وسلم
97 ثانيًا: تأمين سكن النبي صلى الله عليه وسلم
102 ثالثًا: هجرة آل النبي صلى الله عليه وسلم
104 رابعًا: إقامة المسجد النبوي
المبحث الثالث: تنظيم الحياة الاجتماعية في المدينة
110 1- تنظيم الإخاء بين المسلمين
119 2- وضع الميثاق العام لسكان المدينة
المبحث الرابع: الحياة الأسرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة
124 أولا: التعريف بأمهات المؤمنين
124 الزوجة الأولى: خديجة بنت خويلد
125 الزوجة الثانية: سودة بنت زمعة
125 الزوجة الثالثة: عائشة بنت أبي بكر
126 الزوجة الرابعة: حفصة بنت عمر
127 الزوجة الخامسة: زينب بنت خزيمة
127 الزوجة السادسة: أم سلمة
129 الزوجة السابعة: زينب بنت جحش
131 الزوجة الثامنة: جويرية بنت الحارث
131 الزوجة التاسعة: أم حبيبة
132 الزوجة العاشرة: صفية بنت حيي(1/730)
الصفحة الموضوع
134 الزوجة الحادية عشر: ميمونة بنت الحارث
135 سرايا النبي صلى الله عليه وسلم
136 ثانيًا: الزوجات المختلف فيهن
137 ثالثًا: من خطبهن النبي ولم يتزوجهن
138 المبحث الخامس: رد ما يقال عن تعدد زوجاته صلى الله عليه وسلم
144 المبحث السادس: الحكم العامة في تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم
155 المبحث السابع: حسن عشرة النبي صلى الله عليه وسلم لزوجاته
169 المبحث الثامن: أبناء النبي صلى الله عليه وسلم
169 الأول: القاسم رضي الله عنه
169 الثانية: زينب رضي الله عنها
172 الثالثة: رقية رضي الله عنها
173 الرابعة: أم كلثوم رضي الله عنها
173 الخامسة: فاطمة رضي الله عنها
177 السادس: عبد الله رضي الله عنه
178 السابع: إبراهيم رضي الله عنه
180 المبحث التاسع: الحياة الشخصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم
180 أولا: أكله صلى الله عليه وسلم
184 ثانيًا: شربه صلى الله عليه وسلم
184 ثالثًا: نومه صلى الله عليه وسلم
188 رابعًا: سماحته صلى الله عليه وسلم
195 المبحث العاشر: قيامه صلى الله عليه وسلم بمهام الرسالة
الفصل الثاني: حركة الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة في المدينة المنورة
201 تمهيد
204 المبحث الأول: بناء المجتمع الإسلامي
205 أولا: دين كامل
209 ثانيًا: قيادة أمينة
214 ثالثًا: مؤمنون صادقون
220 رابعًا: التفاعل التام بين المسلمين والإسلام
223 المبحث الثاني: تشريع الجهاد وحركة الدعوة
225 أولا: تعريف الجهاد(1/731)
الصفحة الموضوع
229 ثانيًا: مراحل تشريع الجهاد
230 المرحلة الأولى: مرحلة التحمل والصبر
232 المرحلة الثانية: مرحلة الإذن بالقتال
235 المرحلة الثالثة: مرحلة القتال المقيد
237 المرحلة الرابعة: مرحلة الأمر العام بالقتال
239 المبحث الثالث: السرايا والغزوات قبل بدر
242 أولا: أسباب وقوع السرايا والغزوات
244 ثانيًا: السرايا والغزوات قبل بدر
245 1- سرية سيف البحر
245 2- سرية رابغ
246 3- غزوة الخرار
246 4- غزوة ودان
246 5- غزوة بواط
247 6- غزوة سفوان
247 7- غزوة ذي العشيرة
248 8- غزوة نخلة
250 ثالثًا: السرايا وحركة الدعوة
252 المبحث الرابع: غزوة بدر الكبرى
253 أولا: أسباب الغزوة
255 ثانيًا: موقف الفريقين قبل المعركة
256 أ- موقف المسلمين
265 ب- موقف القرشيين
ثالثًا: أحداث المعركة 271
رابعًا: نتائج المعركة 280
خامسًا: قريش والهزيمة 284
سادسًا: المسلمون في إطار انتصار بدر 286
286 1- الاختلاف حول الغنائم
288 2- الاختلاف في مصير الأسرى
291 3- الابتهاج بنصر الله
293 4- تشريع زكاة وعيد الفطر
293 سابعًا: بدر في رحاب القرآن الكريم
293 1- حديث ما قبل المعركة(1/732)
الصفحة الموضوع
295 2- الحديث عن المعركة
296 3- حديث ما بعد المعركة
296 4- توجيهات قرآنية تربوية
المبحث الخامس: أحداث ما بين بدر وأحد
302 أولا: محاولة قريش قتل النبي
304 ثانيًا: غزوة بني سليم
305 ثالثًا: غزوة السويق
306 رابعًا: غزوة غطفان
307 خامسًا: غزوة بحران
308 سادسًا: سرية زيد بن حارثة
309 سابعًا: غزوة بني قينقاع
313 ثامنًا: قتل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط
314 تاسعًا: قتل كعب بن الأشرف
316 عاشرًا: أهم أحداث المجتمع الإسلامي
317 حادي عشر: حركة الدعوة بين بدر وأحد
320 المبحث السادس: غزوة أحد
321 أولا: أسباب الغزوة
322 ثانيًا: موقف أطراف معركة أحد
322 1- موقف المشركين
329 2- موقف المسلمين
337 ثالثًا: أحداث المعركة
337 المرحلة الأولى: انتصار المسلمين
342 المرحلة الثانية: هزيمة المسلمين
345 المرحلة الثالثة: الصمود الإسلامي
361 رابعًا: نتائج المعركة
368 خامسًا: الآيات الربانية الخارقة في أحد
371 سادسًا: أحد في رحاب القرآن الكريم
380 سابعًا: أحد وحركة الدعوة
390 المبحث السابع: أحداث ما بين أحد والأحزاب
392 أولا: غزوة حمراء الأسد
396 ثانيًا: سرية أبي سلمة رضي الله عنه
398 ثالثًا: بعث عبد الله بن أنيس رضي الله عنه(1/733)
399 رابعًا: بعث الرجيع
401 خامسًا: سرية عمرو بن أمية لقتل أبي سفيان
403 سادسًا: وقعة بئر معونة
407 سابعًا: غزوة بني النضير
412 ثامنًا: غزوة نجد
413 تاسعًا: غزوة بدر الثانية
415 عاشرًا: غزوة دومة الجندل
416 حادي عشر: أهم الأحداث الاجتماعية بين أحد والأحزاب
418 ثاني عشر: حركة الدعوة بين أحد والأحزاب
421 المبحث الثامن: غزوة الأحزاب
424 أولا: وقت الغزوة
425 ثانيًا: تجمع الأحزاب
429 ثالثًا: استعداد المسلمين للأحزاب
432 رابعًا: سير القتال
443 خامسًا: الآيات الربانية الخارقة في يوم الخندق
445 سادسًا: حركة الدعوة خلال أيام الخندق
449 سابعًا: الأحزاب في رحاب القرآن الكريم
453 المبحث التاسع: أحداث ما بين الأحزاب والحديبية
456 أولا: غزوة بني قريظة
465 ثانيًا: قتل ابن أبي الحقيق
467 ثالثًا: سرية محمد بن مسلمة
468 رابعًا: غزوة بني لحيان
469 خامسًا: غزوة الغابة
470 سادسًا: سرية عكاشة بن محصن إلى الغمر
470 سابعًا: السرايا إلى ذي القصة
471 ثامنًا: سرية زيد بن حارثة رضي الله عنه
473 تاسعًا: غزوة بني المصطلق
477 عاشرًا: السرايا بعد غزوة بني المصطلق
478 حادي عشر: حركة الدعوة خلال المرحلة ما بين الأحزاب والحديبية
483 المبحث العاشر: غزوة الحديبية
484 أولا: أسباب الغزوة(1/734)
484 ثانيًا: التحرك للعمرة
486 ثالثًا: المفاوضات مع قريش
491 رابعًا: الصلح
492 خامسًا: موقف المسلمين من الصلح
497 سادسًا: موقف المسلمين بعد توقيع الصلح
500 سابعًا: عدم رد المؤمنات المهاجرات
501 ثامنًا: فراق الكافرات
502 تاسعًا: أهم ما في الحديبية من حكم
506 المبحث الحادي عشر: الأحداث بين صلح الحديبية وفتح مكة
507 أولا: هدوء جبهة قريش وظهور مفرزة أبي بصير
511 ثانيًا: العمل في المحيط العام وإرسال الرسائل
515 1- كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي
516 2- كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس
517 3- كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى فارس
517 4- كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر الروم
520 5- كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوى
521 6- كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هوذة صاحب اليمامة
521 7- كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحارث صاحب دمشق
521 8- كتاب النبي النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملك عمان وأخيه
522 9- الدعاة حملة الرسائل
528 ثالثًا: القضاء على إرهاب اليهود في خيبر وما حولها
529 1- حصون خيبر
530 2- تحرك المسلمين نحو خيبر
534 3- اقتحام الحصون
538 4- نهاية غزوة خيبر
539 5- في أعقاب خيبر
543 6- تطهير الجبهة الشمالية من أتباع خيبر
544 رابعًا: مواجهة القبائل المتمردة
545 1- غزوة ذات الرقاع
547 2- سرية غالب إلى بني الملوح
547 3- سرية عمر بن الخطاب إلى تربة
547 4- سرية بشير بن سعد إلى بني مرة(1/735)
الصفحة الموضوع
548 5- سرية غالب بن عبد الله إلى الميفعة
548 6- سرية عبد الله بن رواحة إلى ضواحي خيبر
549 7- سرية بشير بن سعد إلى يمن وجبار
549 8- سرية أبي حدرد إلى الغابة
549 9- سرية أبي بكر إلى بني هلال
550 10- سرية غالب بن عبد الله إلى بني مرة
551 خامسًا: تطبيق بنود صلح الحديبية وأداء العمرة
551 1- عمرة القضاء
556 2- سرية ابن أبي العوجاء
556 3- سرية غالب بن عبد الله
556 4- سرية ذات أطلح
557 5- سرية ذات عرق
557 6- سرية شجاع بن وهب إلى السبى
557 7- سرية قطبة بن عامر إلى خثعم
558 سادسًا: بدء مواجهة الرومان والقبائل التابعة لها
558 1- سرية مؤتة
563 2- غزوة ذات السلاسل
564 3- سرية الخبط
567 4- سرية أبي قتادة إلى خضرة
567 سابعًا: حركة الدعوة في مرحلة ما بين الحديبية وفتح مكة
570 المبحث الثاني عشر: فتح مكة
571 أولا: فتح مكة
571 1- سبب فتح مكة
573 2- محاولة أبي سفيان تجديد الصلح
575 3- استعداد المسلمين لفتح مكة
578 4- الجيش الإسلامي يتحرك نحو مكة
584 5- مكة تحت القيادة الإسلامية
592 ثانيًا: تطهير مكة وما حولها من الأصنام
596 ثالثًا: غزوة حنين
596 1- استعداد المشركين للحرب
597 2- استعداد المسلمين للقتال
598 3- القتال(1/736)
الصفحة الموضوع
4- تعقب الفارين 600
5- غزو الطائف 601
6- توزيع الغنائم 602
7- العودة إلى المدينة 607
المبحث الثالث عشر: الاستقرار العام في الجزيرة ومواجهة غير العرب
608 أولا: بعث عمال الصدقات
610 ثانيًا: إرسال الدعاة
613 ثالثًا: تسيير السرايا للخارجين على النظام
618 رابعًا: غزوة تبوك
618 1- استعداد المسلمين للغزوة
624 2- نتائج الغزوة
626 3- موقف المنافقين بعد الغزوة
630 4- الثلاثة الذين تخلفوا
634 المبحث الرابع عشر: السرايا والغزوات في الميزان
634 1- الجهاد ضرورة عامة
637 2- الجهاد يحمي حرية الإنسان
640 3- الجهاد يصون كرامة الإنسان
642 4- الجهاد يبرز إيجابية الإنسان
643 5- الواقعية في تشريع الجهاد
645 6- ظهور فقه الإسلام في الجهاد
648 المبحث الخامس: وجاء نصر الله
648 أولا: تتابع مجيء الوفود إلى المدينة
659 ثانيًا: نظام استقبال الوفود
664 ثالثًا: حج أبي بكر وإعلان نهاية الوثنية
666 رابعًا: حجة الوداع
674 خامسًا: آخر بعوث النبي صلى الله عليه وسلم بعث أسامة
675 المبحث السادس عشر: انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى
الفصل الثالث: ركائز الدعوة المستفادة من المرحلة المدنية
689 تمهيد(1/737)
690 المبحث الأول: ضرورة بناء قاعدة
691 1- إيجاد الأمة القوية
693 2- التزام الأمة بالإسلام
696 3- صيانة ثوابت الأمة
702 المبحث الثاني: "الاهتمام بمعرفة الواقع العالمي"
709 المبحث الثالث: "أهمية التطابق التام بين المسلم والإسلام"
721 المبحث الرابع: ضرورة الفصل بين الإسلام وغيره
726 الخاتمة
729 الفهرس
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين(1/738)