الذي تلقاه باليمن معروف، وتصديقه بملة سؤدده الذي تفرد بالوحي لنظم شارده وقسم متبدده بعرق الجبين مألوف، حتى لقد أصبح للفضل كعبة لم يفترض حجتها على من استطاع إليها السبيل، ويقتصر بقصدها على ذي القدرة دون المعتر وابن السبيل، فإن لكل منهم حظًا يستمده، ونصيبًا يستفيد به ويستعده فللعظماء الشرف الضخم من معينه، وللعلماء اقتناء الفضل من فطينه، وللفقراء توقيع الأمان من نوائب الدهر وغض جفونه، وفرضوا من مناسكه للنهجة الشريعة السلام والتبجيل، وللكف البسيطة الإستلام والتقبيل.
ثم قال بعد كلام مشتمل على ألفاظ فضيلة ومعان جميلة: وقد كان المملوك فارق ذلك الجناب الشريف، وانفصل عن مقر العز اللباب، والفضل المنيف، أراد استعتاب الدهر الكالح، واستدبار صلف الزمن الغشوم والجامح، اعتذار أبان في الحركة بركة، والاغتراب داعية الاكتساب، والمقام على الاقتراب ذلك واستقام وحبس البيت، في المحافل سكيت:
فودعت من أهلي وفي القلب ما به ... وسرت عن الأوطان في طلب اليسر
سأكسب مالا أو أموت ببلدة ... يقل بها فيض الدموع على قبري
فامتطأ غارب الأمل إلى الغربة، وركب ركب التطواف مع كل صحبه، قاطع الأغوار والأنجاد، حتى بلغ السد، أو كاد، فلم يرفق به زمان حزون ولا مكان حرون، فلكأنه في جفن الدهر قذى، وفي حلقه شجى، تدافعه آمال الأمنية حتى أسلمته إلى ربقة المنية.
لا يستقر بأرض أو يسير إلى أخرى ... لشخص قريب عزمه نأى
يومًا يخروى ويومًا بالعقيق ... ويومًا بالعذيب ويومًا بالخليصاء
وتارة يتنحى نخلاً، وأدية ... شعب الحزون حيناً قصر تيماء(4/50)
والمملوك مع ذلك يدافع الأيام ويزخيها، ويعلل المعيشة ويرجيها متلفعاً بالقناعة والعفاف، مشتملاً بالنزاهة والكفاف، غير راضي بذلك الشمل، ولكن مادة أقول لايطل قد ألزم نفسه أن يستعمل طرفًا طماحًا، وأن يركب طرفًا جماحًا، وأن يلحف بيض طمع جناحًا، وأن يستقدح زهدًا وارياً وشاحًا.
وأدبني الزمان فلا أبالي ... هجرت فلا أزار ولا أزور
ولست بسائل ما عشت يومًا ... أسار الجندام ركب الأمير
ولقد ندب المملوك أيام الشباب بهذه الأبيات، وما أقل عنا الباكي عد في الرفات.
تنكر لي مذ شبت دهري وأصبحت ... معارفه عندي من النكرات
إذا ذكرتها النفس حنت صبابة ... وجاد شؤون العين بالعبرات
إلى أن أتى دهر يحسن ما مضى ... ويوسعني تذكاره حسرات
قلت: وهذا البيت الأخير يشفي من منهل القائل الذي بهذا المعنى يشير.
رب دهر بكيت منه ... فلما صرت في غيره بكيت عليه
وهذا ما اقتصرت عليه من رسالته الطويلة الجليلة الفائقة الجميلة المؤذنة له بتمام البلاغة والفضيلة، وهو نحو من ربعها، وهو لعمري فيما يستحقه من النعوت. من نفيس الجواهر كاسمه ياقوت، توفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان بظاهر مدينة حلب، وكان قد وقف كتبه، ولما تميز سمى نفسه يعقوب.
وفيها توفي الملك المسعود ابن الملك الكامل بمكة المشرفة، وكان قد سيره جده الملك العادل إلى اليمن، فملكها وبلاد الحجاز مضافة إليها، ولما حضرته الوفاة وصى أنه إذا مات لا يجهز بشيء من ماله، يسلم إلى الشيخ الصديق يجهزه عنده بما يرى، وكان من كبار الصالحين من أكراد بلد إربل مجاورًا بمكة، ولما مات الملك المسعود تولى تجهيزه وكفنه في إزار، كان قد أحرم فيه بالحج والعمرة سنين عديدة، وجهزه تجهيز الفقراء(4/51)
كان قد أوصى أن لا يبنى على قبره. بل يدفن بين القبور، ويكتب على قبره: هذا قبر الفقير إلى رحمة الله تعالى يوسف بن محمد بن أبي بكر بن أيوب، ففعل ذلك، ثم إن عتيقه الصارم المسعودي الذي تولى القاهرة بنى عليه قبة، ولما بلغ الملك الكامل فعل الشيخ صديق، كتب إليه بشكره ويسأله أن يذكر له حوائجه ليقضيها، فلم يرد عليه جوابًا، وقال: ما أستحق شكراً إنما جهزت فقيراً.
سنة سبع وعشرين وست مائة
فيها حاصر جلال الدين والخوارزمية خلاط، وكان قد حاصرها من قبل أربع مرات هذه خامسها، ففتح له بعض الأمراء بشدة القحط على أهلها، وحلف لهم جلال الدين وغدر، وعمل أصحابه بها كما يعمل التتار من القتل، ثم رفعوا السيف، وشرعوا في المصادرة والتعذيب، وخاف أهل الشام وغيره من الخوارزمية، وعرفوا أنهم إن ملكوا أهلكوا أو لكل قبح فتكوا، فاصطلح الأشرف وصاحب الروم علاء الدين، واتفقوا على حرب جلال الدين، وساروا والتقوه في رمضان، فكسروه والحمد لله، واستباحوا عسكره، وهرب جلال الدين بأسوأ حال، فوصل إلى خلاط في سبعة أنفس، وقد تمزق جيشه، وقتلت أبطاله، فأخذ حرمه، وما خف حمله وهرب إلى أذربيجان، ثم أرسل إلى الملك الأشرف في الصلح وذل وأمنت خلاط وشرعوا في إصلاحها.
وفي السنة المذكورة توفي زين الأمناء أبو البركات الحسن بن محمد الدمشقي الشافعي المعروف بابن عساكر، وكان صالحًا خيرًا، حسن السمت. روي عن أبي العشائر وطائفه، وتفقه على جمال الأئمة علي بن الناسح، وولي نظر الخزانة والأوقاف، ثم تزهد. وفيها توفي عبد السلام بن عبد الرحمن الصوفي البغدادي، سمع أبا الوقت وجماعة كثيرة وفيها توفي أبو محمد عبد السلام بن عبد الرحمن ابن الشيخ العارف بالله معدن الحكم والمعارف أبي الحكم بن برجان اللخمي المغربي، ثم الإشبيلي حامل لواء اللغة بالأندلس.
سنةثمان وعشرين وست مائة
. لما علمت التتار بضعف جلال الدين خوازرم شاه، بادروا لقتاله، فلم يقدم على لقائهم، فملكوا مراغه، وعاثوا ويدعوا وفرهوا إلى آمد، وتفرق جنده، فبيته التتار ليلة، فنجا بنفسه، وطمع الأكراد والفلاحون وكل واحد في جنده وتخطفوهم، وانتقم الله منهم(4/52)
وسارت التتار إلى ديار بكر في طلب جلال الدين، ووصلوا إلى ماردين يسبون ويقتلون. وفيها توفي الملك الأمجد مجد الدين أبو المظفر بهرام شاه صاحب بعلبك، تملكها بعد والده خمسين سنة، وكان جوادًا كريمًا شاعرًا محسنًا قتله، مملوك له بدمشق.
وفيها توفي المهذب شيخ الطب عبد الرحيم بن علي بن حامد الدمشقي واقف المدرسة التي بالصاغة العتيقة على الأطباء، أخذ عن الموفق بن المطران والرضي الرحبي، وأخذ الأدب عن الكندي، وأنتهت إليه معرفة الطب، وصنف فيه التصانيف، وحظي عند الملوك، وفي آخر عمره عرض عليه طرف خرس حتى لا يكاد يفهم كلامه، واجتهد في علاج نفسه، فما أفاد بل ولد له أمراضًا، وما زال يسعل إلى أن مات.
وفيها توفي الإمام النحوي أبو الحسين يحيى بن عبد المعطي بن عبد النور الزواوي الفقيه الحنفي صاحب الألفية، أقرأ العربية مدة بدمشق ثم بمصر.
وروى عن القاسم ابن عساكر، وتوفي بمصر، وكان أحد أئمة عصره في النحو واللغة، واشتغل عليه خلق كثير، وانتفعوا به، وصنف تصانيف مفيدة، وكان انتقاله من دمشق إلى مصر. بسبب أن الملك الكامل رغبه في ذلك، وقرر له على التصدر بجامع العتيق لإقراء الأدب رزقًا، ولم يزل على ذلك إلى أن توفي بها، فدفن على شفير الخندق، قرب تربة الإمام الشافعي، وقبره هنالك ظاهر.
والزواوي نسبة إلى زواوة، وهي قبيلة كبيرة بظاهر بجاية من أعمال أفريقية ذات بطون وأفخاذ وفيها توفي الشيخ الجليل العارف الواعظ المنطق بالحكم، ومحاسن المواعظ أبو زكريا يحيى بن معاذ الرازي أحد شيوخ الرسالة المشهورة، وأرباب المحاسن المشكورة، مدحه الأستاذ أبو القاسم القشيري، وقال: نسيج. وحده في وقته له لسان في الرجا خصوصًا، وكلام في المعرفة، خرج إلى بلخ وأقام بها مدة، ورجع إلى نيسابورا ومات بها. ومن كلامه كيف يكون زاهدًا من لا ورع له؟ تورع عما ليس لك، ثم أزهد فيما لك،(4/53)
وكان يقول: الجوع للمريدين رياضة، وللتائبين تجربة، وللزهاد سياسة، وللعارفين مكرمة، والوحدة جليس الصديقين، والفوت أشد من الموت، لأن الفوت انقطاع عن الحق، والموت انقطاع عن الخلق. والزهد ثلاثة أشياء القلة، والخلوة والجوع، وذكره الخطيب في تاريخ بغداد فقال: قدم بغداد واجتمع إليه بها مشائخ الصوفية والنساك، ونصبوا منصبه، وأقعدوه عليها، وقعدوا بين يديه يتحاورون، وكان له اشارات وعبارات حسنة.
ومن كلامه أحسن الأشياء الكلام الحسن حسن، وأحسن من الكلام معناه، وأحسن من معناه استعماله، وأحسن من استعماله ثوابه، وأحسن من ثوابه رضا من يعمل له.
ودخل على علوي ببلخ زائراً له ومسلمًا عليه، فقال له العلوي: أيده الله الأستاذ ماتقول فينا أهل البيت؟ قال: ما أقول في طين عجن بماء الوحي، وغرس بماء الرسالة، فهل يفوح منهما إلا مسك الهدى وعنبر التقى؟ فحشا العلوي فاه بالدر.
ومن كلامه ما بعد طريق إلى صديق، ولا استوحش من سلك فيه إلى حبيب في طريق وقال: من لم ينظر في الدقيق من الورع لم يصل إلى الجليل من العطاء، وقال: ليكن حظ المؤمن منك ثلاث خصال: إن لم تنفعه، فلا تضره، وإن لم تمدحه، فلا تذمه، وإن لم تسره، فلا تغمه، وقال: عمل كالسراب؟ وقلب من التقوى خراب، وذنوب بعدد الرمال والتراب، ثم تطمع في الكواعب الأتراب، هيهات! أنت سكران بغير شراب، ما أكملك لو بادرت أملك، ما أجلك، ولو بادرت أجلك، وله في هذا الباب كلام مليح النظام.
سنة تسع وعشرين وست مائة
فيها توفي السلطان جلال الدين خوارزم شاه ابن السلطان علاء الدين، كان يضرب به المثل في الشجاعة والإقدام، كثير الجولان في البلاد ما بين الهند إلى ما وراء النهر، إلى العراق، إلى فارس، إلى كرمان، إلى أرمينية، وأذربيجان وغير ذلك، وافتتح المدن، وسفك الدماء، وظلم وعسف وغدر، قالوا: ومع ذلك كان صحيح الإسلام، وكان ربما قرأ في المصحف، وبكى وآل أمره إلى أن تفرق عنه جيشه، حتى يقال: إنه سار في نفر يسير فبيته كردي في منزله، وطعنه بحربة وقتله بها.
وفيها توفي الحافظ أبو موسى عبد الله ابن الحافظ عبد الغني المقدسي رحمه الله.
وفيها توفي العلامة المتقن الموفق عبد اللطيف بن يوسف البغدادي الشافعي النحوي اللغوي الطبيب الفيلسوف، وصاحب التصانيف الكثيرة، كان أحد الأذكياء البارعين في اللغة(4/54)
والأدب والطب.
وفيها توفي الشيخ الجليل ذو العطاء الجزيل، والأحوال السنيات، والجدو المجاهدات عمر بن عبد الملك الدينوري نزيل قاسيون.
وفيها توفي الحافظ الرحال محمد بن عبد الغني، المعروف بابن نقطة الحنبلي كان من أهل الحديث المكثرين من سماعه وكتابته، والراحلين في تحصيله. لقي المشايخ وأخذ عنهم، واستفاد منهم، وكتب الكثير، وعلق التعاليق النافعة، وذيل على الإكمال كتاب الأمير ابن مأكولا ما أقصر فيه، وجاء في مجلدين. وله كتاب آخر لطيف في الأنساب وكتاب التقييد المعروفة رواة السنن والمسانيد، وذكره أبو البركات ابن المستوفي في تاريخه، فأثنى عليه، وقال: أنشد لأبي علي محمد بن الحسين بن أبي الشبل أحد شعراء العراق المجيدين.
لا تظهرن لعادل ولغادر حاليك في الضراء والسراء
فلرحمة المتوجعين مرارة ... في القلب مثل شماتة الأعداء
سنة ثلاثين وست مائة
وفيها حاصر الملك الكامل آمد وأخذ من صاحبها المسعود بن المودود ابن الملك الصالح الأتابكي، وكان ممدود فاسقًا يأخذ الحرام غصبًا، وسلم الملك الكامل آمد إلى والده الصالح نجم الدين أيوب.
وفيها جاء صاحب الروم، وحاصر حران والرقة، واستولى على الجزيرة، وفعل الروم مع إسلامهم ما يفعلون مع كفرهم. وفيها توفي القاضي بهاء الدين إبراهيم بن شاكر التنوخي الشافعي الكاتب البليغ، والدتقي الدين إسماعيل روى بالإجازة عن شهدة، وولي قضاء المعرة في صباه خمس سنين فقال:
وليت الحكم خمسًاهن خمس ... لعمري، والصبا في عنفوان
فلم تضع الأعادي قدر شأني ... ولا قالوا فلان قد رشاني
قلت: وقد أحسن في صنعة هذين البيتين، وقوله: هن خمس هو بضم الخاء أي(4/55)
خمس عشر مشير إلى أن عمره في ذلك الوقت خمس وعشرون سنة، وقوله: قد رشاني في الأول منهما أضاف قدر إلى شأني، وهو منصوب بتضع، والثاني مركب من قد مع رشاني من الرشوة، والكل مفهوم وإنما أوضحته لمن لا يفهم وعنفوان الشيء أوله.
وفيها توفي إدريس ابن السلطان يعقوب بن يوسف، بايعوه بالأندلس، ثم جاء إلى مراكش وملكها، وعظم سلطانه، وكان بطلاً شجاعاً ذا هيبة شديدة، وسفك للدماء، قطع ذكر ابن تومرت بالخطبة.
وفيها توفي الملك العزيز عثمان ابن العادل أخو المعظم لأبويه، اتفق موته بالناعمة، وهو بستان له في عاشر شهر رمضان.
وفيها توفي الإمام الحافظ ابن الأثير أبو الحسن علي بن محمد الجزري صاحب التاريخ، ومعرفة الصحابة، وغير ذلك، كان صدرًا معظمًا، كثير الفضائل، كان بيته مجمع الفضل لأهل الموصل، وحافظًا للتواريخ، وخبيراً بأنساب العرب وأخبارهم وأيامهم ووقائعهم، صنف في التاريخ كتابًا كبيرًا، واختصر كتاب الأنساب لابن السمعاني، واستدرك عليه في مواضع ونبه على أغلاط، وزاد شيئًا أهملها، وهو مفيد جيدًا في ثلاث مجلدات، والأصل في ثمان.
قال ابن خلكان: والموجود اليوم في أيدي الناس هو هذا المختصر وله كتاب أخبار الصحابة في ست مجلدات كبار، وكان قد تنقل في بلدان كثيرة سمع بها من الشيوخ منها الموصل، وبغداد، والشام، والقدس، والجزري نسبة إلى جزبرة ابن عمر رجل من أهل برقعيد من أعمال الموصل، وهو عبد العزيز بن عمر.
وفيها توفي الحافظ الرحال ابن الحاجب عمر بن محمد الدمشقي رحمه الله، خرج لنفسه معجمًا في بضع وستين جزءًا. وفيها توفي مظفر الدين صاحب إربل أبو سعيد تركما ني.
وفيها توفي أبو المحاسن محمد بن نصر الشاعر الملقب بشرف الدين المعروف بابن عنين، قال ابن خلكان: كان خاتمة الشعراء: لم يأت بعده مثله، ولا كان في أواخر عصره من يقاس به، ولم يكن شعره مع جودته مقصوراً على أسلوب، بل تفنن فيه، وكان غزير المادة من الأدب مطلعًا على معظم أشعار العرب، قال: وبلغني أنه كان يستحضر كتاب الجمهرة في اللغة لابن دريد، وكان مولعًا بالهجاء، وله قصيدة طويلة جمع فيها خلقًا من رؤساء دمشق، سماها مقراض الإعراض. وكان السلطان صلاح الدين، قد نفاه من دمشق بسبب وقوعه في الناس، فلما خرج منها قال:(4/56)
فعلام أبعدتم أخا ثقة ... لم يحترم ذنبًا ولا سرقا؟
أنفوا المؤذن من بلادكم ... إن كان ينفى كل من صدقا
وطاف بلاد من الشام والعراق والجزيرة وأذربيجان وخراسان وغزنة وخوارزم وما وراء النهر، ثم دخل الهند واليمن وملكها يومئذ سيف الإسلام أخو صلاح الدين، وأقام بها مدة، ثم رجع إلى طريق الحجاز والديار المصرية، وعاد إلى دمشق، وكان يتردد منها إلى البلاد، ويعود إليها، قال: ولقد رأيته بمدينة إربل، وقد وصل إليها رسولاً عن الملك المعظم شرف الدين عيسى ابن الملك صاحب دمشق، وأقام بها قليلاً، ثم سافر وكتب من بلاد الهند إلى أخيه بدمشق هذين البيتين، والثاني منهما لأبي العلاء المعري، استعمله مضمنًا، وكان أحق به وهما:
سامحت كتبك في العطيفة عالمًا ... إن الصحيفة لم تجد من حامل
وعذرت طيفك في الخفاء لأنه ... يسري ويصبح دوننا بمراحل
قال ابن خلكان: لله دره، فما أحسن من وقع له هذا التضمين، ولما مات السلطان صلاح الدين وملك الملك العادل دمشق كان غائبًا منفيًا عنها، فسار متوجها إليها، وكتب إلى الملك قصيدة يصفه فيها ويستأذنه في الدخول، ويذكر ما قاساه في الغربة، وأحسن في كل الاحسان في المعاني اللطائف، واستعطفه أبلغ الاستعطاف أولها.
ماذا على طيف الأحبة لو سرى ... وعليهم لو ساعدوني بالكرى
ولما فرغ من وصفها قال مشيراً إلى نفيه منها:
فارقتها لاعن رضًا وهجرتها ... ل اعن قلىً، ورحلت لا متحيرًا
أسعى لرزق في البلاد مشتت ... ومن العجائب أن يكون مقترا
وأصون وجه مدائحي متقنعًا ... واكف ذيل مطامعي مقترا(4/57)
ومنها يشكو الغربة، وما قاساه فيها:
أشكو إليك نوىً تمادى عمرها ... حتى حسبت اليوم منها أشهرا
إلا عيشتي يصفو ولا رسم الهوى ... يعفو، ولا جفني يصافحه الكري
أضحي عن الأخرى المرتع ممحلاً ... وأبيت عن ورد النمير منفرا
ومن العجائب أن يقبل ظلكم ... كل الورى، ونبذت وحدي بالعرا
قوله: النمير قال في ديوان الأدب: هو الماء الجاري الزاكي في الماشية عذبا كان أو غير عذب، وهو بفتح النون وكسر الميم وسكون المثناة من تحت في آخره راء.
قال ابن خلكان: هذه القصيدة من أحسن الشعر. قال: فهي عندي خير من قصيدة ابن عمار الأندلسي، وهي على وزنها التي أولها أدب الزجاجة، فالنسيم قد انبرى، فلما وقف عليها الملك الأعدل أذن في الدخول إلى دمشق، فلما دخلها، قال:
هجوت الأكابر في جلق ... ورعت الوضيع بسب الرفيع
أخرجت منها، ولكنني ... رجعت على رغم أنف الجميع
ويعني بجلق بكسر الجيم واللام وتشديدها وبعدها قاف اسم مكان في الشام، وربما قيل: إنه لقب لدمشق، والله أعلم، قال: وكان له في عمل الألغاز وحلها اليد الطولى، ولم يكن له غرض في جمع شعره وتدوينه، وقد جمع له بعض أهل دمشق ديوانًا صغيراً لا يبلغ عشر نظمه، وفيه أشياء ليست له، وكان من أطرف الناس، وله بيت عجيب من قصيدة يذكر بها أسفاره وتوجهه إلى جهة الشرق وهو:
أشقق قلب الشرق حتى كأنني ... أفتش عن سودائه عن سنا الفجر
قال: وقد رأيته في المنام ينشد أبياتا. وأعجبني منها بيت، فرددته في النوم واستيقظت، وقد علق بخاطري وهو:
البيت لا يحسن إنشاده ... إلا إذا أحسن من شاده
وهذا البيت غير موجود في شعره، وكان وافر الحرمة عند الملوك، وتولى الوزارة بدمشق في آخر دولة الملك المعظم، وانفصل منها لما تملكها الملك الأشرف وأقام في بيته، ولم يباشر بعدها خدمة.
. وكانت ولادته بدمشق يوم الاثنين، ووفاته فيها يوم الاثنين، وعاش نحواً من ثمانين(4/58)
سنة إحدى وثلاثين وست مائة
فيها سار الملك الكامل. بجيوش عظيمة ليأخذ الروم وقدم بين يديه جيشًا فهزمهم صاحب الروم، وأسر صاحب حماة، ومقدم الجيش صواب الخادم فرد الكامل. وفيها تسلطن بدر الدين لؤلؤ بالموصل.
وفيها تكامل بناء المستنصرية ببغداد على المذاهب الأربعة. قال بعضهم ولا نظير لها في الدنيا فيما أعلم قلت لو تمت بعد نيف وسبع مائة وستين مدرسة السلطان حسن ابن السلطان ملك الناصر محمد بن قلاوان في الديار المصرية ما كان مثلها من الدنيا لا المستنصرية، ولا غيرها، فيما شاع عن الجم الغفير، والعلم عند الله العليم الخبير.
وفيها توفي الإمام العلامة الفقيه الأصولي أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد الملقب سيف الدين الأسدي الثعلبي الحنبلي، ثم الشافعي صاحب التصانيف البديعة النازلة في المنزلة الرفيعة المفيدة النافعة الصادرة عن القريحة البارعة، كان في أول اشتغاله حنبلي المذهب، ثم انتقل إلى مذهب الإمام الشافعي، وصحب الشيخ أبا القاسم بن فضلان، واشتغل عليه في الخلاف وتميز فيه، وحفظ طريقة الخلاف الشريف، وزوائد طريقة أسعد الميهني، ثم انتقل إلى الشام، واشتغل بفنون المعقول، وحفظ منه الكثير ومهر فيه، ولم يكن في زمانه أحفظ منه لهذه العلوم العقلية، ثم انتقل إلى الديار المصرية، وتولى الإعادة بالمدرسة المجاورة لضريح الإمام الشافعي في القرافة الصغرى، وتصدر الجامع الظافري بالقاهرة مدة، واشتهر بها فضله، واشتغل عليه الناس وانتفعوا به.
قال ابن خلكان: ثم حسده جماعة من فقهاء البلاد وتعصبوا عليه ونسبوه في العقيدة إلى الفساد، وانحلال الطوية، والتعطيل ومذهب الفلاسفة والحكماء، أولى الكفر والتضليل، وكتبوا محضرًا يتضمن ذلك، ووضعوا فيه خطوطهم بما يستباح به الدم، قال: وبلغني عن رجل منهم فيه عقل ومعرفة أنه لما رأى التحامل عليه وإفراط التعصب كتب في المحضر، وقد حمل إليه ليكتب فيه مثل ما كتبوا، فكتب:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا فضله ... فالقوم أعداء له وخصوم
والله أعلم، وكتبه فلان ابن فلان، ولما رأى سيف الدين تعليهم عليه، وما اعتقدوه في حقه ترك البلاد وخرج منها مستخفيًا، وتوصل إلى الشام، واستوطن مدينة حماة.(4/59)
وصنف في أصول الفقه، والدين والمنطق، والحكمة، والخلاف، فكل تصانيفه مفيدة، فمن ذلك كتاب أبكار الأفكار في علم الكلام، واختصره في كتاب مناهج القرائح ورموز الكنوز، وله دقائق الحقائق، وكتاب الألباب، ومنتهى السؤل في علم الأصول، وله طريقة في الخلاف، ومختصر في الخلاف أيضًا، وشرح جدل الشريف، وغير ذلك وجملة تصانيفه مقدار عشرين تصنيفًا، وانتقل إلى دمشق، ودرس بالمدينة العزيزية، وأقام بها زمانًا، ثم عزل عنها بسبب، وأقام بطالاً في بيته، وتوفي على تلك الحال، ودفن بسفح جبل قاسيون، وعمره ثمانون سنة، والآمدي بالهمزة الممدودة والميم المكسورة وبعدها دال مهملة، نسبة إلى آمد وهي مدينة كبيرة في بلاد بكر مجاورة لبلاد الروم.
وفيها توفي الإمام أبو عبد الله القرطبي محمد بن عمر المقري المالكي، كان متفننًا في عدة علوم كالفقه والقراءات والعربية والتفسير زاهداً صالحًا، سمع من عبد المنعم بن الفراوي، وطائفة، وقرأ القراءات على الإمام الشاطبي وتوفي بالمدينة.
وفيها توفي الشيخ القدوة عبد الله بن يونس الأرموني صاحب الزاوية بجبل قاسيون، صالحًا متواضعًا مطرحًا للتكليف يمشي وحده، ويشتري الحاجة، وله أحوال مجاهدات، وقدم في الفقر.
وفيها توفي قاضي القضاة ابن فضلان أبو عبد الله محمد بن يحيى البغدادي الشافعي، ودرس المستنصرية تفقه على والده العلامة أبي القاسم، وبرع في المذهب والأصول والخلاف والنظر، ولاه الناصر، وعزله الظاهر بعد شهرين من خلافته.
سنة اثنتين وثلاثين وست مائة
فيها ضربت ببغداد دراهم، وفرقت في البلد، وتعاملوا بها وإنما كانوا يتعاملون بقراضة الذهب والقيراط والحبة، ونحو ذلك.
وفيها توفي الملك الزاهد داود بن صلاح الدين وصواب الخادم شمس الدين العادلي مقدم جيش الكامل، وكان يضرب به المثل في الشجاعة، وكان له من جملة المماليك مائة خادم فيهم جماعة أمراء.
وفيها توفي الشيخ العارف عمر بن علي، الحموي الأصل، المصري المولد، والدار والوفاة، شرف الدين المعروف بابن الفارض صاحب الديوان المشتمل على اللطائف،(4/60)
والسلوك، والمحبة، والمعارف، والشوق، والوصل، وغير ذلك من الاصلاحات في العلوم الحقيقة المعروفة في كتب المشائخ الصوفية، بلغني أنه دخل في أيام بدايته مدرسة في ديار مصر، فوجد فيها شيخاً بقالاً يتوضأ من بركة فيها بغير ترتيب، فقال له: يا شيخ أنت في هذا السن وفي هذا البلد، وما تعرف تتوضأ؟ فقال له: يا عمر أنت ما يفتح عليك بمصر، فجاء إليه وجلس بين يديه وقال له: يا سيدي، ففي أقي مكان يفتح علي. فقال: في مكة، فقال يا سيدي، وابن مكة مني، فقال: هذه مكة، وأشار بيده نحوها، وكشف له عنها، فأمره الشيخ الذهاب إليها في ذلك الوقت، فوصل إليها في الحال، وأقام بها اثنتي عشرة سنة، ففتح عليه، ونظم فيها ديوانه المشهور، ثم بعد المدة المذكورة سمع الشيخ المذكور ويقول له: يا عمر تعال أحضر موتي، فجاء إليه، فقال له الشيخ: خذ هذا الدينار، فجهز لي به ثم احملني، فضعني في هذا المكان، وانتظر ما يكون من أمري، وأشار إلى مكان في القرافة تحت الفارض، وهو الموضع الذي دفن فيه ابن الفارض، قال: فكشف لي عن ذلك المكان، فحملته ووضعت فيه، فنزل رجل من الهوى، فصلينا عليه، ثم وقفنا ننتظر ما يكون من أمره، فإذا الجو قد امتلأ بطيور خضر، فجاء طائر كبير، فابتلعه، ثم طار، قال: فتعجبت من ذلك، فقال لي ذلك الرجل: لا تعجب من هذا فإن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر ترعى في الجنة، كما جاء في الحديث أولئك شهداء السيوف، وأما شهداء المحبة، فأجسادهم أرواح رضي الله عن الجميع.
قلت: وإلى هذا المعنى أشرت في هذه الأبيات من قصيدتي الموسومة بلباب اللب في مدح شهيد الحب حيث قلت:
قتيل الهوى في مذهب الحب والفقر ... بلا عوض حاشاه من طلب الأجر
سوى روية المحبوب في حالة اللقا ... إذا ما قيتل السيف عوض في الحشر
فشتان ما بين المقامين في العلى ... وبين شهيد الحب والسيف في القدر
فما طالب المولى له طال شوقه ... وفي حبه قد مات خال عن الصبر
كطالب مطعوم الجنان وشربها ... وملبوسها والخيل والحور والقصر
إذا كنت حظي والأيام حظوظهم ... أياديك ما نالوا نعيمي، ولا فخر
كفى شرفًا موت المحب صبابة ... لمولى وفضلاً جل قدراً عن الحصر
ويكفيك خمس من فضائله بها ... بلوغ المنى عيشًا ومجدًا على الدهر
قتيل جمال قد ودوه بروية ... ووصل وقرب والتنادم والسرر
تميز عن غير بهذي وغيرها ... وشاركه فيما له نال من أجر
لئن كان روح من شهيد سيوفهم ... بجنات خلد جوف طير بها خضر(4/61)
فروح شهيد الحب أيضًا وجسمه ... باجوافها قد نعما ليس في القبر
كذاك روينا عن رجال له رأوا ... بأبصارهم جوف القرافة من مصر
وممن رأى ذاك الإمام الذي جلا ... لنا من مليحات المعارف من بكر
ونحو أخمارًا كاشفًا عن محاسن ... بها هام كم صب وكم حام من فكر
بحور معانيها جلا در نظمه ... سقى مشربًا بالشعر لم يسق في شعر
غريم الهوى حلف الغرام ابن فارض ... لدي عارض قد شاهد السابق الذكر
ومن المشهور أنه وقع للشيخ شهاب الدين السهروردي رضي الله عنه قبض في بعض حجابة، فخطر بقلبه. ترى هل ذكرت في هذا الموسم؟ فسمع قائلاً يقول له من فوره في سوق الغزل، فأتى إليه الشيخ ابن الفارض المذكور، فأنشده قبل أن الشيخ شهاب الدين استنشده من قريضه، فأنشده قصيدة مفتتحها:
ما بين معترك الأحداق والمهج ... أنا القتيل بلا ذنب ولا حرج
ثم استمر في إنشادها إلى أن قال:
أهلا بما لم أكن أهلا لموقعه ... قول المبشر بعد اليأس بالفرج
لك البشارة فاخلع ما عليك فقد ... ذكرت ثم على ما فيك من عوج
فقام الشيخ شهاب الدين، فتواجدوا من عنده من شيوخ الوقت الحاضرين، وكان المجلس عامراً بشيوخ أجلاء، وسادة أولياء، فخلع عليه هو والحاضرون قيل: أربع مائة خلعة، ومن نظمه الفائق المعري كل عاشق:
فإن شئت أن تحيي سعيدًا فمت به ... شهيدًا وإلا، فالغرام له أهل
فمن لم يمت في حبه لم يعش به ... ودون اجتناء النخل ما جنت النخل
وما أحسن قوله:
نصحتك علمًا بالهوى والذي أرى ... مخالفتي، فاختر لنفسك ما يحلو
بعد قوله:
هو الحب فاسلم بالحشا ما الهوى سهل
وأما قول ابن خلكان في ترجمته: وله ديوان شعر لطيف، وأسلوبه فيه ظريف ينحو منحى طريقة الفقراء، فلم يوفه بعض ما يليق بمشربه وذوقه وارتياحه وشوقه لكنه قد أحسن(4/62)
في مخالفته للطاعنين فيه، لم ينزله بالمنزلة اللائقة به فى قوله وسمعت أنه كان رجلاً صالحاً كثير الخير، على قدم التجرد حسن الصجة، محمود العشيرة، وأنه ترنم يوماً في خلوته بقول الحريري صاحب المقامات:
من ذا الذي ما ساء قط ... ومن له الحسنى فقط
فسمع قائلا يقول لا يرى شخصه:
محمد الهادي الذي ... عليه جبريل هبط
وكان يقول: علمت في النوم بيتين، وهما:
وحياة أشواقي إليك ... وحرمة الصبر الجميل
لا أبصرت عيني وسواك ... ولا صبوت إلى خليل
قلت: ولقد أحسن في وصفه راح المحبة في ديوانه المذكور، ومن ذلك وصفه لها في هذا البيت المشهور:
هنيئًا لأهل الدهر كم سكروا بها ... وما شربوا منها، ولكنهم هموا
على نفسه، فليبك من ضاع عمره ... وليس له منها نصيب ولا سهم
توفي رحمه الله تعالى في جمادى الأولى، ودفن في العارض بسفح جبل المعظم والفارض بالفاء والراء وبين الألف والضاد المعجمة راء، وهو الذي يكتب الفروض للنساء على الرجال.
وفيها توفي الشيخ الجليل، السيد الحفيل، أستاذ زمانة، وفريد أوانه، مطلع الأنوار، ومنبع الأسرار، دليل الطريقة، وترجمان الحقيقة، أستاذ الشيوخ الأكابر، الجامع بين علمي الباطن والظاهر، قدوة العارفين، وعمدة السالكين، العالم الرباني شهاب الدين أبو حفص عمر بن محمد التيمي البكري الصوفي السهروردي مصنف كتاب العوارف، المشتمل على مكنونات المعارف، ومصؤنات المحاسن، واللطائف، وغير ذلك من التصانيف الحسنة الجامعة، من بلاغة الملاحة، وبراعة الفصاحة، وحلاوة العبارة، المشتملة على درر المعارف، ويواقيت الحكم، وطلاوة الإشارة، المحتوية على حياة القلوب وشفائها مر السقم وعقيدته معروفة مشهورة، موصوفة مشكورة، رويتها عن غير واحد من شيوخنا بسندهم العالي الذي بينهم وبين مصنفه، وأخذ صنفها مكة المشرفة، وكان إذا أشكل عليه شيء منها يرجع فيه إلى الله سبحانه وتعالى، ويستخيره حول بيته، وبتضرع إليه في التوفيق(4/63)
لإصابة الحق والتحقيق، وقد ذكرت بعض عقيدته في كتاب المحاسن، والمرهم، وكان فقيهاً شافعي المذهب، كثير الاجتهاد في العبادة والرياضة، وتخرج عليه خلق كثير من الصوفية في المجاهدة والخلوة، ولم يكن في آخر عمره مثله، صحب عمه الشيخ الإمام أبا النجيب، وعنه أخذ التصوف والوعظ.
وذكر بعضهم أنه صحب أيضاً قطب الأولياء، وقدوة الأصفياء الشيخ عبد القادر الجبيلي رضي الله عنهما، ثم انحدر إلى البصرة إلى الشيخ أبي محمد بن عبد، ورأى غيره من الشيوخ، وحصل طرفًا صالحًا الفقه والخلاف، وقرأ الأدب، وعقد مجلس الوعظ سنين، وكان شيخ الشيوخ ببغداد، وكان له مجلس وعظ، عليه قبول كثير وله نفس مبارك. وذكر بعضهم أنه أنشد يومًا على الكرسي.
لا تسقني وحدي فما عودتني ... أني أشح بها على جلاسي
أنت الكريم وهل يليق تكرمًا ... أن تمنع الندماء دون الكاس
فتواجد الناس لذلك، وقطعت شعور كثيرة، وتاب جمع كثير.
قال ابن خلكان: ورأيت جماعة ممن حضروا مجلسه وقعدوا في خلوته، وكانوا يحكون غرائب مما يطرأ عليهم فيها من الأحوال الخارقة، قال: وكان قد وصل إلى إربل رسولاً من جهة الديوان العزيز، وعقد بها مجلس الوعظ، ولم يتفق لي رؤيته لصغر السن. وكان كثير الحج، وكان أرباب الطريق من مشائخ عصره يكتبون إليه من البلاد صورة فتاوى يسألونه عن شيء من أحوالهم.
سمعت أن بعضهم كتب إليه يا سيدي إن تركت العمل أخلدت إلى البطالة، وإن عملت داخلني العجب، فأيتهما أولى؟ فكتب جوابه: اعمل واستغفر الله من العجب. وقال ابن نقطة: كان شيخ العراق في وقته صاحب مجاهدة وإيثار وطريقة حميدة، ومروة تامة، وأوراد على كبر سنه.
وقال ابن النجار: كان شيخ وقته في علم الحقيقة، وانتهت إليه الرياسة في تربية المريدين، ودعا الخلق إلى الله تعالى، قرأ الفقه والخلاف والعربية، وسمع الحديث، ثم انقطع ولازم بيته، ودوام الصوم والذكر والعبادة إلى أن ظهر وعلا شأنه، وتكلم على الناس، وعقد مجلس الوعظ في مدرسة عمه على دجلة، فحضر عنده خلق عظيم، وظهر له قبول(4/64)
من الخاص والعام، واشتهر اسمه، وقصد من الأقطار، وظهرت بركات أنفاسه في توبة العصاة، ورأى من الجاه والحرمة عند الملوك ما لم يره أحد.
وقال غيره: نشأ في حجر عمه أبي النجيب عبد القاهر، وأخذ عنه التصوف، والوعظ وعلم الحديث، والفقه، وصحب أيضًا الشيخ عبد القادر، والشيخ أبا محمد بن عبد البصري كما تقدم، وسمع الحديث أيضًا من أبي زرعة وآخرين، وسماهم، وروى عنه جماعة ذكر منهم الحافظ ابن النجار وغيره، وبعث رسولاً إلى عدة جهات، يعني نفده الخليفة في عصره، ولم يخلف بعده مثله على ما نقل غير واحد.
قلت: ويؤيد ذلك ما ذكرت في مناقب الشيخ عبد القادر أنه قال له: أنت آخر المشهورين بالعراق، ففتح عليه بعلوم المعارف والأنوار الزاهرة، ووردت عليه الأحوال وحصلت له المواهب الوافرة، وفاق الأقران بعلو شأنه، وصار شيخ زمانه بلا منازع. قلت: وإليه يرجع بعض شيوخنا في لبس الخرقة، وبعضهم يرجع إلى الشيخ عبد القادر، وبيني وبينه اثنتان في كتابه العوارف كما تقدمت الاشارة في سند شيوخنا، وكذا في لبس الخرقة، ورأيته في المنام كأنه أعطاني سجادة في ليلة كنت فيها قريبًا من قبر سيدنا عم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أسفل جبل أحد المبارك المعظم، وله كلام نفيس فاخر مسطور عنه في الدفاتر ذكرت شيئًا منه في الشاش المعلم، قدس الله روحه. وفيها توفي الشيخ الجليل غانم بن علي المقدسي النابلسي أحد عباد الله الأصفياء والسادة الأولياء.
وفيها توفي قاضي القضاة ابن شداد أبو العز يوسف بن رافع الأسدي، الحلبي الشافعي، قرأ القراءات والعربية، وسمع الحديث، وبرع في الفقه والعلوم ساد أهل زمانه، ونال رياسة الدين والدنيا، وصنف التصانيف منها كتاب سماه ملجأ الحكام عن التباس الأحكام، ومنها دلائل الأحكام، وكتاب الموجز الباهر في الفروع، وكتاب سيرة صلاح الدين، ودخل دمشق بعد رجوعه من الحج، فاستدعى به السلطان صلاح الدين وقابله بالإكرام التام، وسأله عن مشائخ العلم والعمل، وقر أعليه جزءاً من الإذكار، كان قد جمعه، ثم ولاه قضاء العسكر والحكم بالقدس الشريف، وعرض عليه الملك الظاهر الحكم بحلب، فامتنع، ثم قبل بعد ذلك.
قال ابن خلكان: كان بين والدي، رحمة الله عليه، وبين القاضي أبي المحاسن(4/65)
المذكور ومؤانسة كثيرة، وصحبة صحيح المودة، فجئت إليه أنا وأخي، وكتب إلى سلطان بلدنا الملك المعظم كتابًا بليغًا في حقنا. يقول فيه: أنت تعلم ما يلزم من أمر هذين الولدين، فإنهما ولدا أخي، وولدا أخيك، ولا حاجة مع هذا إلى تأكيد وصية، وأطال القول في ذلك، فتفضل القاضي أبو المحاسن، وتلقانا بالقبول والإكرام، وعمل ما يليق لمثله، وأنزلنا في منزلة، ورتب لنا على الوظائف وألحقنا بالكبار مع صغر السن، والابتداء في الاشتغال، وكان أبو المحاسن المذكور بيده حل الأمور وعقدها، ليس لأحد معه كلام في الدولة، وكان للفقهاء في أيامه حرمة تامة.
ومما حكي عنه أنه قال: كان في المدرسة النظامية ببغداد أربعة أو خمسة من الفقهاء المشتغلين، فاتفقوا على استعمال حب البلاذر لأجل سرعة الحفظ والفهم، فاجتمعوا ببعض الأطباء، وسألوه عن مقدار ما يستعمل الإنسان منه، وكيف يستعمله، ثم اشتروا المقدار الذي قال لهم الطبيب الجاهل، فشربوه في موضع خارج المدينة، فحصل لهم الجنون، فتفرقوا وتشتتوا، ولم يعلم ما جرى عليهم، وبعد أيام جاء إلى المدرسة، وأحد منهم، وهو عريان ليس عليه شيء يستر عورته، وعلى رأسه عمامة كبيرة لها عذبة طويلة قد ألقاها وراءه، فوصلت إلى كعبه، وكان طويلاً، وهو ساكت عليه السكينة والوقار لا يتكلم بشيء، ولا يعبث بشيء، فقام إليه بعض الفقهاء، وسأله عن الحال، فأخبره باستعمال حب البلاذر، وقال: فأما أصحابي، فإنهم جنوا، وما سلم منهم إلا أنا وحدي، فصار يظهر العقل العظيم والسكون، والحاضرون يضحكون منه، وهو لا يشعر بهم، ويعتقد أنه سالم مما أصاب أصحابه، وهو على تلك الحال لا يفكر فيهم ولا يلتفت إليهم.
وفيها توفي أبو سليمان داود الملقب بالملك الزاهر ابن الملك العادل صلاح الدين يوسف بن أيوب، كان صاحب قلعة البيرة التي على شاطىء الفرات، وكان يحب العلماء وأهل الفضل، ويقصدونه من البلاد، وكان الثاني عشر من أولاد صلاح الدين، وكانت ولادته سنة ثلاث وسبعين وخمس مائة، فلما توفي توجه ابن أخيه الملك العزيز ابن الملك الظاهر إلى القلعة المذكورة وملكها والبيرة بكسر الموحدة وسكون المثناة من تحت وفتح الراء، وفي آخرها هاء، وهي قلعة من ثغور الروم على الفرات بقرب سميساط.
سنة ثلاث وثلاثين وست مائة
فيها أخذت الفرنج قرطبة واستباحوها، وجاءت فرقة من التتار، فكسرهم عسكر(4/66)
إربل، فما بالوا وساقوا إلى بلاد الموصل، فقتلوا أو سبوا، فاهتم المستنصر بالله وأنفق الأموال، فرجعوا.
وفيها غزا الكامل الفرات، واستعاد حران، وخرب قلعة الرها، وهرب منه نواب صاحب الروم، ثم كر إلى الشام خوفًا من التتار، فإنهم وصلوا إلى سنجار، ثم حسده صاحب الروم، ونازل حران، وتعب أهلها بين الملكين.
وفيها توفي الحافظ العلامة اللغوي أبو الخطاب عمر بن الحسن الكلبي الداني الأندلسي المعروف بابن دحية، سمع الحديث، وجال في مدن الأندلس، وحج ودخل العراق، وسمع مسند أحمد، وبأصبهان معجم الطبراني، وبنيسابور صحيح مسلم بعلو بعد أن كان قد حدث به في المغرب بالإسناد الأندلسي النازل، وكان يقول: إنه حفظه كله، وضعفه جماعة، وله تصانيف غرائب.
قلت: وتنقصه الذهبي، فقال: وقد أنفق على الملك الكامل، وجعله شيخ دار الحديث بالقاهرة، وقاضي القضاة بالقاهرة.
ومدحه ابن خلكان فقال: كان من أعيان العلماء، ومشاهير الفضلاء متقنًا لعلم الحديث وما يتعلق به، عارفًا بالنحو واللغة وأيام العرب وأشعارها، فانظر ما بين هذين الوصفين من المضادة ممن يذم السامع عقيدته، وممن يحمد اعتقاده مع كمال فضيلة المادح في العلوم، وتصويب العارف بانتقاده.
وفيها توفي نصر بن عبد الرزاق ابن الشيخ عبد القادر الجبلي، سمع من شهدة وطبقتها، ودرس وأفتى وناظر، وولي القضاء سنة ثلاث وعشرين، ثم عزل بعد أشهر، وكان لطيفاً ظريفًا، متين الديانة، كثير التواضع، متجربًا في القضاء، قوي النفس في الحق مع عدم التكلف والمحابات.
وفيها توفيت الشيخة الصالحة الصوفية زهرة بنت محمد بن أحمد بن حاضر، روت عن يحيى بن ثابت وغيره.(4/67)
سنة أربع وثلاثين وست مائة
وفيها نزلت التتار على إربل وحاصروها، وأخذوها بالسيف حتى حافت المدينة بالقتلى، وغصب القلعة بعد أن لم يبق بعد أخذها شيء من الموانع، وترحلت الملاعين. وفيها توفي الملك المحسن أحمد ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، سمع الحديث، وكتب الكثير، وكان متواضعًا متزهدًا كثير الإفضال على المحدثين، قال الذهبي وفيه تشييع قليل.
وفيها توفي الحافظ أبو الربيع الكلاعي سليمان بن موسى البلبيسي صاحب التصانيف، وبقية أعلام الأثر، توفي بالأندلس قال الأبار: وكان قد فاق أهل زمانه، وتقدم على أقرانه، عارفاً بالجرح والتعديل، ذاكراً للمواليد والوفيات، لا نظير له في الاتقان والضبط مع الأدب والبلاغة، وكان فرداًفي إنشاء الرسائل، مجيداًفي النظم، خطيباًمفوهاً مدركًا حسن السرد والمساق مع الإشارة اللائقة، متكلمًا عن الملوك في مجالسهم مبينًا لما يريدونه على المنابر والمحافل، ولي الخطابة، وله تصانيف في عدة فنون استشهد مقبلاً غير مدبر في ذي الحجة. وفيها توفي الناصح بن نجم بن عبد الوهاب الشيرازي الأنصاري الواعظ المفتي، انتهت إليه رياسة المذهب بعد الشيخ الموفق، وله خطب ومقامات وتاريخ الوعاظ.
وفيها توفي صاحب الروم السلطان علاء الدين السلجوقي، كان ملكًا جليلاً شهمًا شجاعًا، وافر العقل، متسع الممالك، تزوج بابنة الملك الكامل وامتدت أيامه.
وفيها توفي الملك العزيز غياث الدين محمد ابن الملك الظاهر غازي ابن صلاح الدين صاحب حلب، وسبط الملك العادل، ولوه السلطنة بعد أبيه وعمره أربع سنين لأجل والدته، وهي كانت من الأتابك، فنسوس الأمور.
وفيها توفي أبو الحسن محمد بن أحمد البغدادي المحدث المؤرخ سمع من ابن الزاغوني وطائفة، وأخذ الوعظ من ابن الجوزي، وهو أول شيخ ولد مشيخة المستنصرية، وآخر من حدث بالبخاري سماعًا من أبي الوقت وضعفه ابن النجار.
سنة خمس وثلاثين وست مائة
وفيها غرمت طائفة كثيرة من الخوارزمية، وكانوا قد خدموا مع الصالح أيوب ابن(4/68)
الملك الكامل على القبض عليه، فهرب إلى سنجار، فنهبوا خزائنه، فسار إليه لؤلؤ صاحب الموصل وحاصره، فحلق الصالح لحية وزيره، وقاضي بلده بدر الدين السنجاري طوعًا ودلاه من السور ليلاً، فذهب واجتمع بالخوارزمية، وشرط بهم كلما أرادوا، فساقوا من حران، وبيتوا لؤلؤاً، فنجا بنفسه على فرس النوبة، وانتهبوا عسكره واستغنوا.
وفيها توفي الملك الأشرف صاحب دمشق موسى ابن الملك العادل،، وتسلطن بعده أخوه الصالح إسماعيل فسار الملك، وقدم دمشق فأخذها بعد محاصرة وشدة، وذهب الصالح إسماعيل إلى بعلبك.
ولما دخل الملك الكامل دمشق، ونزل في قلعتها المعروفة بقن القلندرية والحيدرية وتمرض ومات بعد شهرين، فتملك بعده بدمشق ابن أخيه الملك الجواد وبمصر ابنه العادل وملك ملك الأشرف نصيبين وسنجار، ومعظم بلاد الجزيرة وغيرها، وأول شيء تملك من البلاد مدينة الرحا، ثم حران.
ولما توفي أخوه الملك الأوحد صاحب خلاط ونواحيها، أخذ الملك الأشرف مملكته مضافًا إلى مملكته، فاتسع ملكه، وبسط العدل على الناس، وأحسن إليه احساناً لم يعهدوه ممن قبله، وعظم وقعته في قلوب الناس، وبعد صيته، وكان قد ملك نصيبين، وأخذ سنجار، ومعظم بلاد الجزيرة.
ولما أخذت الفرنج دمياط في سنة عشر وست مائة، وتوجهت جماعة من ملوك الشام إلى الديار المصرية لاتحاد الملك الكامل، وتأخر عنه الملك الأشرف لمنافرة كانت بينهما، فجاءه أخوه الملك المعظم وأرضاه، ولم يزل يلاطفه حتى استصحبه معه، فانتصر المسلمون على الفرنج، وانتزعوا دمياط من أيديهم عقب وصوله إليها، وكانوا يرون ذلك بسبب يمن عزته.
ولما مات الملك المعظم، وتولى ولده الملك الناصر، قصده عمه الملك الكامل من الديار المصرية ليأخذ دمشق، فاستنجد عمه الملك، فحصل الاتفاق على تسليم دمشق إلى الملك الأشرف، ويكون للملك الكامل الناصر الكرك والشويك ونابلس ونيسان، وتلك النواحي، وينزل الملك الأشرف عن حران، والرحا، وسروج والرقة، ورأس عين، وتسلمها إلى الملك الكامل، فأقام الملك الأشرف بدمشق.
ثم جرت أمور يطول ذكرها، ووقعت وحشة بين الكامل والأشرف، ووافقت الملوك بأسرها الملك الأشرف، وتعاهد هو، وصاحب الروم، وصاحب حلب، وصاحب حماة.(4/69)
وصاحب حمص وأصحاب المشرق على الخروج على الملك الكامل، ولم يبق مع الملك الكامل سوى ابن أخيه الملك الناصر صاحب الكرك، فإنه توجه إلى خدمته بالديار المصرية، فلما اتفقوا وعزموا على الخروج على الملك الكامل مرض الملك الأشرف مرضاً شديداً، وتوفي بدمشق، ودفن بقلعتها، ثم نقل إلى القرية التي أنشئت له بالكلاسة في الجانب وتوفي بدمشق، ودفن بقلعتها، ثم نقل إلى القرية التي أنشئت له بالكلاسة في الجانب الشمالي من جامع دمشق، وكانت ولادته سنة ثمان وسبعين وخمس مائة، وكان سلطاناً كريماً حليماً، واسع الصدر، كريم الأخلاق كثير العطاء لا يوجد في خزانته شيء من المال مع اتساع مملكته، ولا يزال عليه الديون للتجار وغيرهم، وطرب ليلة في مجلس أنسه على بعض الملاهي، فقال لصاحب الملاهي، تمن علي، فقال: تمنيت مدينة خلاط، فأعطاه إياها، فتوجه لقبضها من النائب، فعوضه عنها النائب جملة كثيرة من المال، وله غرائب كثيرة، وكن يميل إلى أهل الخير والصلاح، ويحسن الاعتقاد فيهم، وبنى بدمشق دار حديث، وفوض تدريسها إلى الشيخ أبي عمرو بن صلاح، وله مآثر حسنة كثيرة وقد مدحه أعيان شعراء عصره، وخلدوا مدائحه في دواوينهم، وكان محبوباً إلى الناس، مسعوداً مؤيداً في الحروب، لقي أرسلان شاه صاحب الموصل، وكان من الملوك المشاهير، وتواقعاً، فكسره الملك الأشرف، واتسعت مملكته حين توفي أخوه الملك الأوحد، فأخذ مملكته، وبسط العدل على الناس، وأحسن إليهم إحساناً لم يعهده ممن كان قبله، وعظم وقعته في قلوب الناس، وبعد صيته وجرت له مع صاحب الروم وابن عمه الملك الأفضل وقائع مشهورة.
وفيها توفي أبو المحاسن يوسف بن إسماعيل المعروف بالشفا، كان أديباً فاضلاً متفنناً بعلم العروض والقوافي شاعراً، يقع له في النظم معان بديعة في البيتين والثلاثة، وله ديوان شعر كبير يدخل في أربع مجلدات.
قال ابن خلكان: وكان حسن المحاورة مليح الإيراد مع السكون جميل التأني.
وأنشدته يوماً في أثناء مناشدته لي قول شرف الدين أبي المحاسن المعروب بابن عنين:
مال ابن سارة دونه لعفاته ... خرط القتادة أو مثال الفرقد
كان لزوم الجمع يمنع صرفه ... في راحة مثل المنادى المفرد(4/70)
فقال: هذا ليس يجيد، فقلت: ولم؟ قال: ليس من شرط المنادي المفرد أن يكون مضموماً، فقد يكون المنادي مفرداً ولا يكون مضموماً بأن يكون نكرة معين كما تقول: يا رجلاً، ولكن أنا أعمل شيئاً في هذا. قال: ثم اجتمعنا بعد ذلك في الجامع، فقال: قد عملت في ذلك المعنى بيتاً فاسمعه، ثم أنشأ يقول:
لنا خليل له خلال ... تعرب عن أصله الأخس
أضحت له مثل حيث كف ... وددت لو أنها كأمس
قلت: يعني أن كفه مضمومة مثل حيث مضمومة بالبناء لأجل بخله فليتها مكسورة العظم كأمس المكسور بالبناء، والنظم الأول قد بالغ في وصفه بالبخل لتشبيهه وصول العفاة إلى ماله بخرط القتاد في الصعوبة، وكمثال الفرقد في البعد، والعفاة الطلاب جمع عاف، وشبه ماله في البيت الثاني في عدم صرفه إلى غيره بصيغة منتهى الجموع في عدم صرفه في لأعراب كمساجد ودراهم، وشبه راحته في كونها مضمومة لا يبسطها للبذل بالمنادى المفرد المبني على الضم مصل يا زيد ويا رجل لرجل بعينه.
واعترض عليه صاحب النظم الثاني بكون المفرد قد لا يكون مضموماً مثل قول لأعمى: يا رجلاً خذ بيدي لرجل لا بعينه، ثم اعترض ابن خلكان على المعترض بما سيأتي ذكره.
قال ابن خلكان: فقلت له وهذا أيضاً فيه كلام، فقال: وما هو؟ فقلت: حيث فيها لغات آخر، فمن العرب من بناها على الضم، ومنهم من بناها على الفتح، ومنهم من بناها على الكسر، وفيها لغات أخر غير هذه وأما أمس فمنهم من بناها على الكسر، ومنهم من يقول: إنها اسم معرب لكنه لا ينصرف، وأنشدوا على هذه اللغة.
لقد رأيت عجبًا مذ أمسا ... عجائزاًمثل السعالى خمسا
قلت: هذا إذا كانت أمس نكرة، فإن كانت معرفة أعربت قولاً واحدًا قال فسكت. وفيها توفي الملك الكامل أبو المعالي محمد ابن الملك العادل، كان سلطاناًمعظمًا، جليل القدر، محترماً، جميل الذكر، مكرمًا للعلماء، متمسكاًبالسنة، حسن(4/71)
الاعتقاد، معاشر الأرباب الفضائل، حازماً في أموره لا يضع الشيء إلآ في محله من غير إسراف ولا اقتتار، وكان يبيت عنده كل ليلة جمعة جماعة من الفضلاء ويشاركهم في مباحثات، ويسألهم عن المواضع المشكلات من كل فن، وهو معهم كواحد منهم وبنى بالقاهرة دار حديث، ورتب لها وقفًا جيدًا، وكان قد بنى على ضريح الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قبة عظيمة، ودفن أمه عنده، وأجرى إليها من ماء النيل، ومدده بعيد، وغرم على ذلك جملة عظيمة.
ولما مات أخوه الملك المعظم عيسى الملقب بشرف الدين صاحب الشام وأقام ولده الملك الناصر صلاح الدين داود مقامه، خرج الملك الكامل من الديار المصرية قاصدًا أخذ دمشق منه، وجاء أخوه الملك الأشرف مظفر الدين موسى، فاجتمعا على أخذ دمشق وقد تقدم ذكر ذلك وأنه دفعها إلى أخيه الملك الأشرف، وأخذ عوضها من بلد المشرق عدة بلدان تقدم ذكرها وتقدم أيضاً أنه لما مات الملك الأشرف جعل ولي عهده أخاه الملك الصالح إسماعيل فقصده الملك الكامل، وانتزع منه دمشق بعد مصالحة جرت بينهما.
ولما ملك الملك الكامل البلاد الشرقية، واستخلف بها ولده الملك الصالح أبا المظفر أيوب، واستخلف ولده الأصغر الملك العادل بالديار المصرية، وكان قد سير الملك العادل الملك المسعود إلى اليمن، وكان أكبر أولاد الملك الكامل، وقد تقدم ذلك وأنه ملك الحجاز مضافة إلى اليمن.
ولما وصل الخطيب إلى ذكر الكامل قال: صاحب مكة وعبيدها، واليمن وزبيدها، ومصر وصعيدها، والشام وصناديدها، والجزيرة ووليدها، سلطان القبلتين، ورب العا متين، وخادم الحرمين الشريفين، أبو المعالي محمد الملك الكامل ناصر الدين خليل أمير المؤمنين. قال ابن خلكان: ولد رأيته بدمشق في سنة ثلاث وثلاثين وست مائة عند رجوعه من بلاد الشرق، وفي خدمته يومئذ بضعة عشر ملكاًمنهم أخوه الملك الأشرف. ولم يزل في علوشأنه وعظم سلطانه إلى أن مرض بعد أخذ دمشق، ولم يزل مريضًا إلى أن توفي يوم الأربعاء بعد العصر، ودفن في القلعة بمدينة دمشق يوم الخميس الثاني والعشرين من رجب السنة المذكورة.
قال: وكانوا قد أخفوا موته إلى وقت صلاة الجمعة، فلما دنت الصلاة قام بعض الدعاة على العرش الذي بين يدي المنبر، فترحم علىالملك الكامل، ودعا لولده الملك العادل ابن الملك الكامل صاحب مصر، فضج الناس ضجة واحدة، وكانوا قد أحسوا(4/72)
وترتب ابن أخيه الملك الجواد مظفر الدين يونس في ثياب السلطنة بدمشق عن الملك العادل ابن الملك الكامل صاحب مصر، باتفاق الأمراء الذين كانوا حاضرين ذلك، ثم بنى له تربة مجاورة للجامع، ولها شباك إلى الجامع، ونقل إليها، وكان عمره نحواًمن أربعين سنة وأقام ولده الملك العادل في المملكة إلى سنة سبع وثلاثين، ثم قبض عليه أمراء دولته، وطلبوا أخاه الملك الصالح أيوب، فجاءهم ومعه الملك الناصر صاحب الكرك، ودخلا القاهرة، وأدخل الملك العادل في محفة، وحوله جماعة كثيرة من الأجناد يحفظونه، وحمله إلى القلعة، واعتقله بها وسط العدل في الرعية، وأحسن إلى الناس، وأخرج الصدقات، وأصلح ما تهدم من المساجد، وأقام في المملكة إلى أن توفي في سنة سبع وأربعين وست مائة، وكان قد أخذ دمشق من عمه الملك الصالح، وأبقى عليه بعلبك، فلما توفي أخفي موته مقدار ثلاثة أشهر، والخطبة باسمه إلى أن وصل ولده الملك المعظم من بلاد الشام، فعند ذلك أظهروا موته، وخطب لولده المذكور، وبنى له تربة بالقاهرة إلى جنب مدرسته، ونقل إليها سنة ثمان وأربعين وأمه جارية مولدة سمراء اسمها ورد الندى، وتوفي العادل في الاعتقال سنة خمس وأربعين وست مائة، وكان له ولد يقال له: الملك المغيث نقله الملك المعظم إلى الشويك، ثم بعد الملك المعظم استولى على الكرك والشويك وتلك النواحي، ولم يزل مالكها إلى زمن الملك الظاهر، فراسله وبذل له عن تسليم البلد أعواضًاكثيرة، وحلف له حتى إذا نزل إليه. إلى منزله في الغور قبض عليه، وجهزه إلى قلعة الجبل بمصر، واعتقله بها، وكان آخر العهد به، وكان للمغيث ولد يلقب بالقرين صغير السن، فنصبه الملك الظاهر أميرًا، ولم يزل في خدمته إلى أن فتح انطاكية، ثم قبض عليه، واعتقله في القلعة المذكورة، وكان الملك الظاهر يبالغ في تحصيل قلعة الكرك، ويملؤها بالذخائر والأموال، ولما جرى على ولده السعيد ما جرى، وتوجه إلى الكرك نفعته تلك الذخائر، وكانت عوناً له على زمانه، ولما. توفي الملك السعيد ابن الملك الظاهر ملكها بعده أخوه الملك المسعود باتفاق من كان بها من مماليك أبيه ومن أمرائه، وقال ابن خلكان: وهو الآن متملكها ومقيم بها.
سنة ست وثلاثين وست مائة
وفيها ضعفت سلطنة الملك الجواد بدمشق بعد أن محق الخزائن، وكاتب الملك الصالح أيوب بن الكامل، وقابضه فأعطاه دمشق بسنجار، وأعانه، وكانت صفقة خاسرة، فبادر الصالح، وتسلم دمشق من الجواد لأن المصريين. ألحوا على الجواد في أن ينزل عن(4/73)
دمشق ويعطي الاسكندرية، ثم ركب الملك الصالح في المدرسة، وحمل الجواد الغاشية بين يديه، ثم أكل يديه ندما وسافر وتوجه الصالح نحو الغور، وطلب عمه إسماعيل من بعلبك ليتفقا، فدبر إسماعيل أمره، واستعان بالمجاهد صاحب حمص، وهجم دمشق فأخذها، فسمعت الأمراء، فتوجهت إليه، وبقي الصالح في طائفة، فأخذه عسكر الناصر صاحب الكرك، واعتقله عنده.
وفيها توفي الشيخ العارف الصالح أبو العباس أحمد بن علي القسطلاني الفقيه المالكي الملقب بزاهد مصر، تلميذ الشيخ الكبير العارف بالله الشيهر أبي عبد الله القرشي، سمع الحديث، وتفقه ودرس بمصر، وأفتى وصحب الشيخ المذكور، وكان القاري في مواعيده، وتزوج بعد موته زوجته السيدة الجليلة الصالحة أم ولده الشيخ قطب الدين الإمام المحدث، ثم جاور أبو العباس المذكور بمكة وتوفي بها وقبره معروف يزار في الشعب الأيسر.
قلت: وبلغني أنهم احتاجوا في المدينة الشريفة إلى الاستسقاء، وهو بها مجاور، فاتفق رأيهم أن يستسقي أهل المدينة يومًا المجاورون يوماً، وبدأ أهل المدينة بالاستسقاء، فلم يسقوا، فعمل هو طعاماً كثيرًا للضعفاء والمساكين، واستسقى مع المجاورين، فسقوا، وله مؤلف جمع فيه كلام شيخه أبي عبد الله القرشي، وكلام بعض شيوخه، وبعض كراماته. وفيها توفي الحافظ الجوال محدث الشام ومفيده أبو عبد الله محمد بن يوسف الإشبيلي، الملقب بالزكي، سمع بالحجاز ومصر والشام والعراق وأصبهان وخراسان والجزيرة، فأكثر وتوفي في رمضان بحماة رحمه الله.
سنة سبع وثلائين وست مائة
قد تقدم أن إسماعيل هجم دمشق فملكها، وتسلم القلعة من الغد، واعتقل الصالح أيوب بالكرك أشهرًا وطلبه أخوه العادل من الناصر داؤد، وبذل فيه مائة ألف دينار، وكذا طلبه الصالح إسماعيل، فامتنع الناصر، ثم اتفق معه وحلفه، وسار به إلى الديار المصرية، فمالت إليه الكاملية، وقبضوا على العادل، وتملك الصالح أيوب ورجع الناصر.
وفيها توفي الحافظ المقرىء الحاذق أبو عبد الله محمد بن سعيد المعروف بابن الدبيثي الواسطي الشافعي، سمع الحديث، وقرأ القراءات، وكان إمامًا متفننًا واسع العلم، غريز الحفظ وفيها توفي الحافظ المقرىء الحاذق أبو عبد الله محمد بن أبي المعالي سعيد الفقيه(4/74)
الشافعي المؤرخ الواسطي، المعروف بابن الدبيثي بضم الدال المهملة، وفتح الموحدة وسكون المثناة من تحت، وبعدها مثلثة نسبة إلىدبيثا قرية من نواحي واسط، سمع الحديث كثيراً، وعلق تعاليق مفيدة، وكانت له محفوظات حسنة، يوردها ويستعملها في محاوراته وكان في الحديث وأسماء رجاله والتاريخ من الحفاظ المشهورين والنبلاء المذكورين وصنف كتابًاجعله ذيلاً على كتاب تاريخ الحافظ أبي سعيد ابن السمعاني المذيل علىتاريخ بغدادللخطيب، وذكر فيه ما أغفله السمعاني في ثلاث مجلدات وما أقصر فيه، وصنف تاريخاًللواسط، وغير ذلك وأنشد لنفسه:
خبرت بني الأيام طراً، فلم أجد ... صديقًا صدوقًا مسعداً في النوائب
وأصفيتهم مني الوداد، فقابلوا ... صفاء وداثي بالفداوالشوائب
وما اخترت منهم صاحبًاوارتضيته ... فأحمدته في فعله والعواقب
قلت: وهن الأبيات أخذت من أبيات الإمام الشافعي المذكورة في ترجمته وفيها توفي أبو البركات المبارك بن أبي الفتح أحمد بن المبارك، الملقب بابن المستوفي اللخمي الإربلي، كان رئيسًا جليل القمر كثير التواضع واسع الكرم، لم يصل إلى إربل أحدمن الفضلاءإلا وبادر إلى زيارته وحمل إليه ما يليق بحاله، وتقرب إلى قلبه بكل طريق وخصوصًاأرباب الأدب، فقد كانت سوقهم لديه نافقة وكان جم الفضائل عارفا بعدة فنون منها الحديث وعلومه وأسماء رجاله، وجميع ما يتعلق به، وكان إمامًا فيه، وكان ماهراًفي فنون الأدب من النحو واللغة والعروض والقوافي وعلم المعاني وأشعار العرب وأخبارها وأيامها ووقائعها وأمثالها، وكان بارعاًفي علم الديوان وضبطه وحسابه، وضبط قوانينه علىالأوضاع المعتبرة عندهم، وجمع لإربل تاريخاًفي أربع مجلدات، وله كتاب النظام في شرح شعر المتنبي وأبي تمام في عشر مجلدات، وكتاب إثبات المحصل في نسبة أبيات المفصل في مجلدين تكلم فيه على الأبيات التي استشهد بها الزمخشري في المفصل وكتاب سر الصنعة وكتاب سماه أبا حماش جمع فيه أدباً كثيرًا ونوادر وغيرها. وديوان شعر أجاد فيه، ومن شعره بيتان فضل فيهما البياض على السمرة، وهما:
لا تخدعنك سمرة غزاره ... ما الحسن إلا للبياض وجنسه
فالرمح يقتل بعضه من غيره ... والسيف يقتل كله من نفسه
قلت: ولي أبيات في تفصيل لون البياض على غيره منها قولي:(4/75)
إذا الغانيات البيض يومًاتفاخرت ... بألوانها، فاحكم فأنت خبير
فأبيضهاسلطانها، ثم أصفر ... لسلطانها يتلو علاه وزير
وإن رام تقليد الإمارة أهلها ... فأسمرها الميمون ذاك أمير
وأحمرها جندلها قل وسايس ... لها أسود دون الجميع حقير
فإن قيل: لم فضلت للبيض رافعًا ... ولم قلت ماللبيض قط نظير؟
فقل ذا لأن الحور بيض لها كسا ... بأحسن ألوان الجمال قدير
وأيضًافلون البيض باهج حسنة ... يحاكيه بدر في السماء منير
رجعنا إلى ذكر ابن المستوفي، وأرسل إلى شاعر وصل إلى إربل دنياراً مثلوماً مع إنسان يقال له: الكمال، فتوهم الشاعر أن الملك قد فرض قطعة من الدينار، فقصد استعلام الحال من أبي البركات المذكور، فكتب إليه:
ياأيها المولى الوزير ومن به ... في الجود حقًا يضرب الأمثال
أرسلت بدر التم عند كماله ... حسنًا فوافى العبد، وهو هلال
ما غاله النقصان إلا أنه ... بلغ الكمال، كذلك الآجال
فأعجبه هذا المعنى وحسن الاتفاق، فأجاز الشاعر، وأحسن إليه. وكان مستوفي الديوان، وهي منزلة عليه في تلك البلاد تتلو الوزارة، ثم تولى الوزارة بعد ذلك، وشكرت سيرته فيها، ولم يزل عليها إلى أن مات السلطان مظفر الدين، فقعد في بيته في تلك البلاد والناس يلازمون خدمته، وكان عنده من الكتب النفيسة شيء كثير، ثم توفي بالموصل.
قال ابن خلكان: وهو من بيت كبير، وأبوه تولى الاستيفاء بإربل، وعمه أبو الحسن، كان فاضلاً، وهو الذي نقل نصيحة الملوك تصنيف الإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي من اللغة الفارسية إلى اللغة العربية، فإن الغزالي لم يضعها إلا بالفارسية، وذلك مشهور بين الناس، ولما توفي رثاه يوسف بن القيس الإربلي بقوله:
أبو البركات لو درت المنايا ... بأنك فرد عصرك لم تصبكا
كفى الإسلام رزأ فقد شخص ... عليه بأعين الثقلين يبكى
وفيها توفي أبو الفتح نصر الله بن أبي الكرم، الملقب ضياء الدين محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيباني، المعروف بابن الأثير الجزري، العلامة الكاتب البليغ صاحب المثل السائر، انتهت إليه رياسة الإنشاء أتترسل، وكان مولده بجزيرة ابن عمر، ونشأ بها، وانتقل(4/76)
مع والده إلى الموصل، وبها اشتغل، وحصل العلوم، وحفظ كتاب الله الكريم، وكثيراً من الأحاديث النبوية، وطرفًا صالحًا من النحو واللغة وعلم البيان، وشيئًا كثيرًا من الأشعار وكان من جملة محفوظاته شعر أبي تمام والبحتري والمتنبي، قال: حفظت هذه الدواوين الثلاثة، وكنت أكرر عليها بالدرس مدة سنين، حتى تمكنت من صوغ المعاني، وصار الإدمان لي خلقًا وطبعاً وقد كنت حفظت من الأشعار القديمة والمحدثة ما لا أحصي، ثم اقتصرت عليه على أشعار الثلاثة المذكورين.
قال ابن خلكان: ولما كملت له الأدوات قصد جناب الملك الناصر صلاح الدين وكان يومئذ شاباً، فاستوزره ولده الملك الأفضل، وحسنت حاله عنده.
ولما توفي السلطان صلاح الدين، واستقل ولده المذكور بمملكة دمشق، اشتغل ابن الأثير بالوزارة وردت إليه أمور الناس، وصار الاعتماد في جميع الأحوال عليه، ولما أخذت دمشق من الملك الأفضل، وكان ابن الأثير قد أساء العشيرة مع أهلها، فهموا بقتله، فأخرجه الحاجب محاسن مستخفيًا في صندوق مقفل عليه، ثم صار إليه، وصحبه إلى مصر لما استدعي لنيابة أخيه الملك المنصور.
ولما أخذ الملك العادل الديار المصرية، خرج ابن الأثير منها مستترًا وله في كيفية خروجه رسالة طويلة، شرح فيها حاله، ولما استقر الملك الأفضل غاب عن مخدومه الملك الأفضل، ثم بعد ذلك اتصل بخدمة أخيه الملك الظاهر صاحب حلب، فلم يطل مقامه عنده، وخرج مغاضبًا، وعاد إلى الموصل، فلم يستقم حاله، فورد إربل، فلم يستقم حاله فسافر إلى سنجار، ثم عاد إلى الموصل، واتخذها دار إقامته إلى أن توفي، وله من التصانيف الدالة على غزارة فضله، كتابه المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، وهو في مجلدين، جمع فيه فأوعب، ولم يترك شيئًا يتعلق بفن الكتابة إلا ذكره، وكتاب الوشي المرقوم في حل المنظوم، وهو مع وجازته في غاية الحسن والإفادة وكتاب المعاني المخترعة في صناعة الإنشاء، وهو أيضاً نهاية في بابه، وله مجموع أخبار فيه شعر أبي تمام والبحتري وديك الجن والمتنبي في مجلد واحد كبير، وحفظه مفيد.
قال ابن المستوفي: نقلت من خطه، في آخر هذا الكتاب ما مثاله:.
تمتع به علقًا نفيسًا فإنه ... اختيار بصير بالأمور حكيم
أطاعته أنواع البلاغة فاعتدى ... إلى الشعر من نهج إليه قويم
وله ديوان شعر ترسل في عدة مجلدات، والمختار منه في مجلد واحد.(4/77)
قال: وذكر ابن خلكان له رسالة كتبها إلى محذومة بليغة البلاغة إلا أن في بعض ألفاظها ما بالغ فيه بما لا ينبغي أن يقال: وكم من قول أدى إلى تكفير صاحب المقال، ومن جلة ألفاظه، ما يملأ الوادي بمائة، ومايملأالنادي بنعمائه، فإنه وإن أراد المطر الذي نزل، فقد احتقر فيض الله عز وجل، وقد نظمت أبياتًا ردوا تبكيتا لقائل من قال هذا القول الآتي أو ما يجري مجراه نعوذ بالله من الخروج إلى ما لا يرضاه، وهو هذا:
فنوال كفك بدرة در ... ونوال الغمام قطرة ماء
وكذا قول بديع الزمان:
وكاد يحكيك صوب الغيث منسكبًا ... لو كان طلق المحيا يمطر الذهبا
والدهرلو لم يخن، والشمس لونطقت ... والليث لو لم يصدو البحر لو عذبا
قال ابن خلكان: ولابن الأثير المذكور، كل معنى مليح في الترسل، وكان يعارض القاضي الفاضل في رسائله، فإذا أنشأ رسالة أنشأ مثلها، وكانت بينهما مكاتبات، ومجاوبات، ولم يكن له في النظم شيء حسن، ومن رسائله قوله في صفة نيل مصر وعذب رضائه يضاهي حتى النحل واحمر صفيحة فعلمت أنه قتل المحل، وهو معنى بديع غريب نهاية في الحسن، لم أقف لغيره على أسلوبه ثم إني وجدت هذا المعنى لبعض العرب، وقد أخذه ضياء الدين منه، وهو قوله:
لله قلب ما يزول يروعه ... برق الغمامة منجدًا ومغورا
ما احمر في الليل البهيم صفيحة ... متجردًا إلا وقد قتل الكرى
وقتل بالقاف، والمثناة من فوق قال: وكأن هو، وأخوه مجد الدين أبو السعادات المبارك، وأبو الحسن علي الملقب عز الدين، كلهم نجباء رؤساء لكل واحد منهم تصانيف نافعة.
وفيها توفي أبو الحسن علي بن أحمد التجيبي المرسي، كان متفننًا عارفًا بالنحو، والعلوم، والكلام، والمنطق سكن حماة قال الذهبي: وله تفسير عجيب.
سنة ثمان وثلاثين وست مائة
فيها سلم الملك الصالح إسماعيل قلعة السقيف للفرنج، لغرض في نفسه، فمقته(4/78)
المسلمون، وأنكر عليه الإمام عز الدين بن عبد السلام، وأبو عمر ابن الحاجب، فسجنهما وعزل ابن عبد السلام من خطابة دمشق، وفيها ولي القضاء الرفيع الجيلي.
وفيها توفي محيي الدين ابن العربي أبو بكر محمد بن علي الطائي الحاتمي المرسي الصوفي نزيل دمشق صاحب التصانيف قلت: هذه ترجمة الذهبي، ثم زاد قال: قدوة القائلين بوحدة الوجود ولد سنة ستين وخمس مائة، روىعن ابن بشكوال وطائفة، وتنقل إلى البلاد، وسكن الروم مدة ثم قال: وقد اتهم بأمر عظيم.
قلت: فترجمته هذه وكلامه فيها إشارة إلى ما يعتقد فيه كثير من الفقهاء من الطعن العظيم والقدح وبضد ذلك مدح طائفة من الصوفية له، وقليل من الفقهاء، فحموه تفخيماً عظيماً، ومدحوا كلامه مدحاً كريمًا، ووصفوه بعلو المقامات، وأخبروا عنه ما يطول ذكره من الكرامات، وله أشعار لطيفة غريبة، وأخبار ونوادر طريفة عجيبة، وأعظم ما يطعن الطاعنون فيه بسبب كتابه الموسوم بفصوص الحكم وبلغني أن الإمام العلامة ابن الزملكاني شرح كتابه المذكور، ووجهه توجيهًا نفى عنه ما يظن من المحظور، ويخشى من الوقوع في المحذور.
وأخبرني بعض العلماء الصالحين ممن له ذوق، وفهم حميدان كلام ابن العربي المذكور له تأويل بيعد، وقد قيل: إنه اجتمع هو والإمام شهاب الدين السهروردي، ونظر كل واحد إلى صاحبه، وافترقا من غير كلام، فسئل عن الشيخ شهاب الدين، فقال: مملوسنة من قرنه إلى قدمه، وسئل عنه شهاب الدين فقال: بحر الحقائق قلت: وقد ذكرت له في بعض كتبي أن كل من اختلف في تكفيره، فمذهبي فيه التوقف، ووكول أمره إلى الله تعالى.
سنة تسع وثلاثين وست مائة
وفيها توفي الإمام النحوي أحمد بن الحسين المعروف بابن الخباز الإربلي، ثم الموصلي الضرير صاحب التصانيف الأدبية.
وفيها توفي القاضي العلامة الملقب عماد الدين المكنى أبو المعالي عبد الرحمن بن مقبل الواسطي الشافعي وفيها توفي الإمام العلامة أبو الفتح الملقب بالكمال موسى بن(4/79)
يونس الموصلي الشافعي أحد الأعلام ولد سنة احدى وخمسين بالموصل، وتفقه على والده، وببغداد على معيد النظامية السديد السلماسي وبرع عليه في علم الأصول والخلاف، وقرأ النحو على ابن سعدون القرطبي، والكمال الأنباري، وأكب على الاشتغال بالعقليات، حتى بلغ فيها الغايات، وكان يتوقد ذكاء، ويموج بالحلوم حتى قيل: إنه كان يتفنن في العلوم فنونًا كثيرة اشتهر ذكره، وطار خبره ودخلت الطلبة إليه من الأقطار، وتفرد باتقان علم الرياضي، قيل: ولم يكن له في وقته نظير هذا ما ذكره الذهبي.
وقال غيره: كان الشيخ الإمام أبو عمرو بن الصلاح يبالغ في الثناء عليه، ويعظمه، فقيل له يومًا: من شيخه؟ فقال: هذا الرجل خلفه الله عالماً لا يقال على من اشتغل، وهو أكبر من هذا، وله عدة تصانيف.
وقال ابن خلكان: وكان الفقهاء يقولون: إنه يدري أربعة وعشرين فنًا دراية متقنة، فمن ذلك علم المذهب، وكان فيه أوحد زمانه، وكان جماعة من الحنفية يشتغلون عليه في مذهبهم، ويحل لهم مسائل الجامع الكبير أحسن حل مع ما هو عليه من الأشكال المشهور وكان يتقن فني الخلاف العراقي والبخاري، وأصول الفقه وأصول الدين.
ولما وصلت كتب الإمام فخر الدين الرازي إلى الموصل، وكان بها إذ ذاك جماعة من الفضلاء لم يفهم أحد منهم اصطلاحه فيها سواه، وكان يدري فن الحكمة والمنطق، والطبيعي، والإلهي وكذلك الطب، ويعرف فنون الرياضة من اقليدس، والهيئة، والمخروطات والمتوسطات، والمجسطي، وأنواع الحساب المفتوح منه والجبر والمقابلة والارثماطيقي بالمثناة من فوق قبل الألف، ومن تحت قبل القاف، وطريق الخطاءين، والموسيقى بكسر القاف والمساحة، معرفة لا يشاركه فيها أحد إلا في ظواهرها دون دقائقها والوقوف على حقائقها، واستخرج في علم الأوفاق طرفا لم يهتد إليها أحد، وكان يبحث في العربية، والتصريف بحثاً تاماً حتى إنه كان يقرئ مستوفي كتاب سيبويه، والإيضاح وتكملته للفارسي، ومفصل الزمخشري، وكان له في التفسير، والحديث، وأسماء الرجال وما يتعلق به يد جيدة، وكان يحفظ من التواريخ وأيام العرب ووقائعهم، والأشعار والمحاضرات شيئًا كثيرًا. وكان أهل الذمة يقرؤون عليه التوراة والإنجيل، ويشرح هذين الكتابين لهم شرحًا يعترفون أنهم لا يجدون من يوضحها لهم مثله.
قلت: هكذا ذكر عنه ومثل هذا معلوم أنه حرام وباطل، وذلك لوجوه أحدها إقراء كتب منسوخة ومبدلة باطل حكمها لا تصح، العمل بها والثاني مؤانسة لأعداء الله، ومجانسة(4/80)
لهم مع وجوب مقاطعتهم، والبغض لهم، والثالث إغراؤه لهم على الاشتغال، والعمل بما فيها، وقد نص أئمتنا على أنها تتلف قال: وكان في كل فن من الفنون المذكورات كأنه لم يعرف سواه لقوته فيه. قال: وبالجملة فإن مجموع ما كان يعلمه من العلوم لم يسمع من أحد ممن تقدمه أنه كان قد جمعه حتى حكي عن أثير الدين ابن الأبهري صاحب التعليقة في الخلاف والزيج والتصانيف المشهورة أنه قال: ما دخل إلى بغداد مثله.
قال ابن خلكان: وكان قد اشتغل عليه حينئذ بشيء من الخلاف، فقلت له: يا سيدي كيف تقول كذا؟ قال: يا ولدي ما دخل إلى بغداد مثل أبي حامد الغزالي، وما بينه وبينه نسبة وأقسم على ذلك. قال: وكان الأثير على جلالة قدره في العلوم يأخذ الكتاب، ويجلس بين يديه، ويقرأ عليه والناس إذ ذاك يشتغلون في تصانيف الأثير، قال: ولقد شاهدت هذا بعيني انتهى.
قلت: هيهات أن يلحق بحجة الإسلام، وعلم العلماء الأعلام، والذي باهى به نبينا موسى وعيسى عليه وعليهما أفضل الصلاة والسلام، والذي إقحام الفرق عنده أيسر من شرب الماء من الموحدين والملحدين والحكماء.
إمام الهدى المنبني على الفضل منشدا ... سبوقًا على المهر الأغر المحجل
غزلت لهم غزلاً دقيقًا، فلم أجد ... لغزلي نساجًا، فكسرت مغزلي
سنة أربعين وست مائة
فيها توفي صاحب المغرب الرشيد أبو محمد ابن المأمون صاحب مراكش والمستنصر بالله أبو جعفر منصور بن الظاهر بأمر الله محمد العباسي، كان محمود السيرة، فلما توفي بويع ولده المعتصم بالله.
وفيها توفيت جمال النساء بنت أحمد بن أبي سعيد الغراف بالغين المعجمة والراء والفاء البغدادية، سمعت من غير واحد من الشيوخ.
سنة إحدى وأربعين وست مائة
فيها حكمت التتار على بلد الروم، وألزم صاحبها ابن أخيه علاء الدين بأن يحمل لهم كل يوم ألف دينار، ومملوكاً وجاريةً وفرساً، وكلب صيد.
وفيها توفي السلطان ابن محمود البعلبكي صاحب الأحوال والكرامات، أحد أصحاب الشيخ عبد الله اليونينى بالمثناة من تحت مكررة قبل الواو، وبين النونين وياء للنسبة. وفيها توفيت أم الفضل كريمة بنت عبد الوهاب القرشية الزبيرية مسندة الشام، روت(4/81)
كثيراً عن جماعة، وأجاز لها خلق كثير منهم أبو الوقت السجزي وغيره.
وفيها توفيت أمة الحكيم عائشة بنت محمد الواعظة البغدادية، كانت صالحة تعظ النساء.
وفيها توفي الجواد الذي تسلطن بدمشق بعد الملك الكامل، وكان جوادًا من أمرائه.
سنة اثنتين وأربعين وست مائة
فيها طلب الملك الصالح أيوب الخوارزمية، وطلبهم من الجزيرة فعدوا الفرات، وندبهم لمحاصرة عمه إسماعيل بدمشق، واستنجد إسماعيل بالفرنج، وبصاحب حمص، فساقت الخوارزمية، واجتمعت بعسكر مصرفي غرة، وجاءتهم الخلع والنفقات والثياب، وبعث الناصر داؤد عسكره من الكرك نجدة لإسماعيل، ثم وقع المصاف بقرب عسقلان، فانتصر المصريون والخورزمية على الشاميين والفرنج، واستحر القتل في الفرنج، وأسرت ملوكهم، وخاف إسماعيل، وحصن دمشق واستعد.
وفيها توفي أبو البركات محمد بن الحسن الأنصاري الحموي، المعروف بالنفيس، سمع بمكة من عبد المنعم الغوراني.
وفيها توفي شيخ الشيوخ عبد الله، ويقال له: أيضًا عبد السلام الجويني الصوفي، المعروف بتاج الدين ابن حمويه، سمع من شهدة رضي الله عنها، والحافظ أبي القاسم ابن عساكر.
وفيها توفي حاطب بن عبد الكريم الحارثي، عاش خمسًا وتسعين سنة وروى عن الحافظ ابن عساكر المذكور.
سنة ثلاث وأربعين وست مائة
فيها وقيل: قبلها حاصرت الخوارزمية دمشق، وعليهم الصاحب معين الدين، واشتد الخطب، وأحرقت الحواصل، ورمى بالمجانيق من الفريقين، وبعث الدمشقيون بالصالح إسماعيل في ولايته، وضاقوا من القحط والخوف والوباء ما لا يعبر عنه، وأدام الحصار خمسة أشهر إلى أن أضعف إسماعيل وفارق دمشق، وتسفهما الصاحب معين الدين، فغضب الخوارزمية من الصالح ونهبوا داريا، وترحلوا أو أرسلوا الصالح إلى بعلبك، وصاروا معه، وردوا، فحاصروا دمشق، وتلك الأيام كان الغلاء المفرط، حتى بلغت(4/82)
الغرارة بدمشق بألف وست مائة درهم، وأكلت الجيف، وتفاقم الأمر مع الخمور، والفواحش.
وفيها توفي أبو البقاء موفق الدين بن يعيش بن علي الموصلي الأصل الحلبي المولد والمنشأ النحوي قرأ النحو على أبي السخاء الحلبي، وأبي العباس المغربي التبريزي وسمع الحديث على أبي الفضل عبد الله بن أحمد الخطيب الطوسي بالموصل، وعلي بن السويد التكريتي، ويحلب على أبي الفرج يحيى بن محمود الثقفي، والقاضي أبي الحسين الطوسي وغيرهم، وكان فاضلاً ماهرًا في النحو والتصريف، واجتمع في دمشق بالشيخ تاج الدين أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي الإمام المشهور، وسأله عن مواضع مشكلة في العربية وعن إعراب ما ذكره الحريري في المقامات العاشرة المعروفة بالرحبية، وهو قوله في آخرها: وحتى إذ لألأ الأفق ذنب السرحان وآن ابتلاج الفجر وحان فأستبهم جواب هذا المكان على الكندي: هل الأفق وذنب السرحان مرفوعان أو منصوبان، أو الأفق مرفوع وذنب السرحان منصوب، أو على العكس؟ وقال له: قد علمت قصدك، وأنك أردت إعلامي بمكانك من هذا العلم، وكتب له بخطه بمدحه والثناء عليه، ووصف تقدمه في الفن الأ د بي.
قال ابن خلكان: وهف! المسألة يجوز الأمور الأربعة فيها، والمختار منها نصب الأفق ورفع ذنب السرحان، قلت: يعني ابن خلكان أن الأفق مفعول، وفعله لألأ، وفاعله ذنب وأما السرحان مخفوض بالإضافة إليه، والمراد بذنب السرحان الفجر الأول الكاذب، فإنه مشبه به في طوله في السماء بخلاف الفجر الصادق، فإنه مشبه بجناحي الطائر لانتشاره يميناً وشمالاً، وهو الذي أشار إليه من الإعراب من كونه المختار، هو الذي ظهر لي وبادر إليه فهمي أول وقوفي على هذه المسألة قبل الوقوف على السؤال، وما يحتمله من الأقوال. قال ابن خلكان: ولما دخلت إلى حلب لأجل الاشتغال بالعلم الشريف، كان الشيخ موفق الدين شيخ الجماعة، وذلك في سنة ست وعشرين وست مائة، وهي مشحونة بالعلماء والمشتغلين، ولم يكن فيهم مثل الشيخ موفق الدين المذكور، فشرعت عليه في قراءة اللمع لابن جني مع سماعي اقراءه الجماعة كانوا قد تنبهوا وتميزوا، وكان حسن التفهيم لطيف الكلام طويل الروح على المبتدىء والمنتهي، وكان خفيف الروح لطيف الشمائل كثير المجون، مع سكينة ووقار. ولقد سأله يوما وأنا حاضر بعض الفقهاء عن قول ذي الرمة:(4/83)
أيا ظبية الوعساء بين خلاخل ... وبين النقاء أنت أم أم سالم
وكان السائل يقرأ عليه في باب النداء، فقال: أي شيء في المرأة الحسناء يشبه الظبية؟ بعد أن كان قد شرح الشيخ موفق الدين ذلك، وأوضح وجه التشبيه مع شدة محبة الشاعر وولهه لأم سالم المذكورة، وعظم وجده بها على عادة الشعراء في تشبيههم بالظباء، والمهاء المستحسنات من النساء، وأوضح ذلك ايضاحاً يفهمه البليد، فلما لم يستحسن السائل المذكور الجواب، ولم يتلقه بالقبول، ولم يضعه في مركز الصواب بل قال: أي شيء في المرأة الحسناء يشبه الظبي؟ قال له الشيخ على وجه الإنبساط: لشبهها في ذنبها أو قرونها، فضحك الحاضرون، فحجل السائل ولم يعد إلى مجلسه قلت: وقد شرح مجنون ليلى وجه الشبه في قوله.
فعيناك عيناها وجيدك جيدها ... ولكن عظم الساق منك دقيق
مخاطبًا للظبية لها ولها كثير من الشواهد وفي ذلك قلت في بعض القصائد:
لها جيد ريم شبه إبريق فضة ... وعين المهاترمي بها داني الردى
إذا مارست لم تخط قط مقاتلاً ... ولاقودًا يعطي ولا قتلها يدا
وفيها توفي الحافظ القدوة أبو العباس أحمد بن عيسى بن الموفق المقدسي الصالحي.
وفيها توفي العلامة المفتي أبو العباس أحمد بن محمد ابن الحافظ عبد الغني المقدسي.
وفيها توفي القاضي الأشرف أبو العباس أحمد ابن القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني، ثم المصري.
وفيها توفيت الصاحبة ربيعة خاتون أخت صلاح الدين والعادل، ودفنت بمدرستها بالجبل.
وفيها توفي المنتجب ابن أبي العز ابن رشيد الهمداني نزيل دمشق، قرأ القراءات على غير واحد من الشيوخ، وصنف شرحًا كبيرًا للشاطبية وشرحًا لمفصل الزمخشري وتصدر للإقراء.
وفيها توفي شيخ الإسلام تقي الدين أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الكردي(4/84)
الشهرزوري المعروف بابن الصلاح كان أحد فضلاء عصره في التفسير والحديث والفقه، وأسماء الرجال، وما يتعلق بعلم الحديث، ونقل اللغة، وكانت له مشاركة في فنون عديدة. قال ابن خلكان: وهو أحد أشياخي الذين انتفعت بهم. قال: كانت فتاواه مسددة قال: بلغني أنه درس جميع كتاب المهذب قبل أن يطلع شاربه، قرأ على والده الصلاح، وكان من جلة مشائخ الأكراد المشار إليهم، ثم نقل والده إلى الموصل واشتغل بها مدة، وتولى فيها الإعادة عند الشيخ العلامة عماد الدين أبي حامد بن يونس، وأقام قليلاً، ثم سافر إلى خراسان وأقام بها زمانًا وحصل علم الحديث هناك، ثم رجع إلى الشام، وتولى بالتدريس المدرسة الناصرية المنسوبة إلى صلاح الدين بالقدس، وأقام بها مدة، واشتغل الناس عليه وانتفعوا به، ثم انتقل إلى دمشق وتولى تدريس الرواحية التي أنشأها الزكي أبو القاسم هبة الله ابن عبد الواحد بن رواحة الحموي، ولما بنى الملك الأشرف ابن الملك العادل دار الحديث بدمشق فوض تدريسها إليه. اشتغل الناس عليه بالحديث فيها ثلاث عشر سنة، وتولى تدريس مدرسة ست الشام زمرد خاتون ابنة أيوب، وهي شقيقة شمس الدولة، وهي التي بنت المدرسة الأخرى ظاهر دمشق، وبها قبرها وقبر أخيها المذكور، وزوجها ناصر الدين صاحب حمص، وكان ابن الصلاح يقوم بوظائف الجهات الثلاث من غير إخلال بشيء منها إلا لعذر ضروري لا بد منه، وكان من العلم والدين على قدم حسن.
قال ابن خلكان: وأقمت عنده بدمشق ملازم الاشتغال مدة سنة وصنف في علوم الحديث كتاباً نافعًا مبسوطاً، وكذلك في مناسك الحج جمع فيه أشياء حسنة يحتاج إليها وله اشكالات على كتاب الوسيط في الفقه، وله طبقات الشافعية اختصره الشيخ محيي الدين النواوي، واستدرك عليه جماعة، ومن مشاهير شيوخه الفخر ابن عساكر، وزير الأمناء، ومؤيد الطوسي، وابن سكينة وطبرزد وزينب الشعرية وغيرهم، وممن تفقه عليه وروى عنه الشيخ شهاب الدين أبو أسامة، والإمام تقي الدين ابن رزين قاضي الديار المصرية، والعلامة شمس الدين ابن خلكان قاضي البلاد الشامية، والكمال ارسلان والكمال إسحاق الشيرازي شيخ النواوي، وآخرون إلى أن توفي، فشهد جنازته جم غفير وعدد كثير في الجامع، وحمل على الرؤوس انتهى، وجمع بعض أصحابه فتاواه في مجلد فلم يزل أمره جاريًا على سداد وصلاح حال واجتهاد في الاشتغال بما ذكرنا وبالنحو إلى أن توفي بدمشق في ربيع الآخر من السنة المذكور، ودفن في مقابر الصوفية خارج باب االنصر ومولده سنة سبع وسبعين وخمس مائة.
وذكر غيره أنه بعد اقامته بالموصل دخل بغداد وطاف البلاد، وسمع من خلق كثير(4/85)
وجم غفير ببغداد، وهمدان، ونيسابور، ومرو، وحران، وغير ذلك، ودخل الشام مرتين، قال: وكان إمامأ بارعاً حجة متبحرًا في العلوم الدينية بصيرًا بالمذهب وأصوله وفروعه، له يد طولى في العربية والحديث، والتفسير مع عبادة، وتهجد، وورع، ونسك، وتعبد، وملازمة للخير على طريقة السلف في الاعتقاد، وله آراء رشيدة، وفتاوى سديدة، ماعدا فتياه الثانية في استحباب صلاة الرغائب، وله اشكالات على الوسيط ومؤاخذات حسنة، وفوائد جمة، وتعاليق حسنة، وعلوم الحديث الذي اقتنصه من علوم الحديث للحاكم وزاد عليه.
وفيها توفي الإمام العلامة علم الدين أبو الحسن علي بن محمد السخاوي الهمداني المقرىء، أتقن علم القراءات على الإمام المقرىء المحقق أبي محمد القاسم الشاطبي المشهور بمصر، ثم انتقل إلى دمشق، وتقدم بها على علماء فنونه، وكان للناس فيه اعتقاد عظيم، وشرح المفصل للزمخشري في أربع مجلدات، وشرح الشاطبية للإمام المذكور، وكان قد قرأها عليه، وله خطب وأشعار، وكان متعينًا في وقته.
قال ابن خلكان: ورأيته بدمشق والناس يزدحمون عليه في الجامع لأجل القراءة، ولا يصح لواحد منهم نوبة إلا بعد زمان، ورأيته مرارًا ما يركب بهيمة وهو يصعد إلى جبل الصالحين، وحوله اثنان أو ثلاثة، وكل واحد يقرأ وظيفته في موضع غير موضع الآخر، والكل في دفعة واحدة، وهو يرد على الجميع. ولم يزل مواظبًا على وظيفته إلى أن توفي بدمشق في السنة المذكورة، وقد نيف على التسعين ولما حضرته الوفاة أنشد لنفسه:
قالوا: غدًا يأتي ديار الحمى ... وينزل الركب بمغناهم
وكل من كان مطيعًا لهم ... أصبح مسروراً بلقياهم
قلت: فلي ذنبي فماحيلتي ... بأي وجه أتلقاهم
قالوا: أليس العفو من شأنهم ... لا سيما ممن يرجاهم
وفيها توفي الحافظ الكبير محب الدين أبو عبد الله محمد بن محمود بن الحسن البغدادي المعروف بابن النجار صاحب تاريخ بغداد ولد سنة ثمان وسبعين وخمس مائة، ورحل إلى أصفهان، وخرسان، والشام، ومصر، وسمع من جماعة، وكتب شيئًا كثيرًا، وكان ثقة متقناً واسع الحفظ تام المعرفة.
وفيها توفي المنتجب بن أبي العز بن رشيد أهمداني المقرئ نزيل دمشق، قرأ(4/86)
القراءات، وصنف شرحاً كبيرًا للشاطبية، وشرحًا لمفصل الزمخشري.
سنة أربع وأربعين وست مائة
لما اتفق الصالح إسماعيل مع الخوارزمية استمال الصالح أيوب صاحب حمص وأفسده على إسماعيل، ثم كتب إلى عسكر حلب يحثهم على حرب الخوارزمية، وأنهم قد خربوا الشام، فبادر نائب حلب شمس الدين لؤلؤ، واجتمع معه صاحب حمص بالغرب والتركمان بعسكر دمشق، وأقبل الملك الصالح إسماعيل معه الخوارزمية وعسكر الكرك وصاحب صرخد، فالتقى الجمعان على بحيرة حمص، فتقل مقدم الخوارزمية، وانهزم الصالح ثم تسارت الخوارزمية إلى التلقي، واتفق معهم الناصر داؤد، فجهز الصالح صاحب مصر جيشاً، فكسروا الخوارزمية، وساقوا فنازلوا الكرك، وتسلموا بعلبك، وبصري وأخذوا أولاد إسماعيل إلى القاهرة، والتجأ إلى حلب، وانقضت دولته، وصفت الشام لنجم الدين أيوب، فقدمها ودخل دمشق ثم مر إلى بعلبك، ومر إلى صرخد وأخذها وأخذ الصينية الملك السعيد بن العزيز، وهو ابن عمه، ثم مر ببصرى وبالقدس فأمر بعمارة سورها وبصرف مغلها في سورها.
وفيها توفي الملك المنصور ابن المجاهد أسد الدين صاحب حمص وأن صاحبها واحد الموصوفين بالشجاعة والاقدام، مرض ببستان الملك الأشرف بدمشق ومات، فنقل إلى حمص، ودفن عند أبيه، وكان عازمًا على أخذ دمشق، ففجأه الموت، وقام بعده بحمص ابنه الملك الأشرف موسى.
وفيها توفي إسماعيل بن علي الكوراني، وكان زاهدًا عابدًا قانتًا صادقاً أمارًا بالمعوف نهاءًا عن المنكر ذا غلظة على الملوك ونصيحة لهم.
سنة خمس وأربعين وست مائة
فيها أخذ المسلمون عسقلان، وأخذوا طبرية قبلها بأيام، وفيها أخذ الملك الصالح نجم الدين الصينية من الملك السعيد، وعوضه أموالاً، وجهز مائة فارس بمصر، وفيها نازل عسكر حلب مدينة حمص، وأخذوها بعد أشهر.(4/87)
وفيها توفي الكاشغري إبراهيم بن عثمان الزركشي ببغداد، سمع من جماعة ورحل إليه الطلبة من الآفاق والجهات، وكان اخرمن بقي بينه وبين الإمام مالك خمسة أنفس ثقات، وتولى مشيخة المستنصرية.
وفيها توفي الشيخ أبو محمد بن أبي الحسن بن منصور الدمشقي الصوفي ولد بقرية تستر من حوران، ونشأ بدمشق، وتعلم بها نسج العتابي، ثم تصرف وعظم أمره، وكثر أتباعه، وأقبل على سماعات الصوفية، وبالغ فيما يتعاطونه من ذلك، فمن يحسن به الظن يقول: هو صادق صاحب حال. أو تمكين ووصال ومن يسيء به الظن يرميه بالزندقة الضلال.
قلت: هذا معنى ما أشار إليه الذهبي، وميله فيه إلى ما ذكرت من الوصف الأخير كما هو مذهب أكثر الفقهاء الطعن في كثير من المشائخ، فإنه قال: ومن خيرأمره نسبه إلى الفضل والكمال، ومن قبح أمره رماه بالكفر والضلال، ثم قال: وهو أحد من لا يقطع عليه بجنة ولا نار، فإنا لا نعلم بما ختم له. لكنه توفي في يوم شريف يوم الجمعة قبل العصر السادس والعشرين من شهر رمضان، وقد نيف على التسعين. مات فجأة انتهى كلامه، وفيه من التشكك ما فيه من تغليب التكفير، وأما عدم القطع المذكور، فليس يخرج منه أحد سوى الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، ومن شهد له بذلك، ولم يزل الفقراء يذكرون عن الشيخ المذكور عجائب من الكرامات والتجريبات.
وفيها توفي أبو علي عمر بن محمد الأزدي الأندلسي الاشبيلي النحوي أحد من انتهت إليه معرفة العربية في زمانه، وكان بحراً لا يجارى وحبرًا لا يبارى تصدر لإقراء النحو نحواً من ستين عاماً، وصنف التصانيف سمع من جماعة من الشيوخ وأجاز له السلفي، وأخذ النحو عن غير واحد من النحاة.
قال ابن خلكان: ولقد رأيت جماعة من أصحابه كلهم فضلاء، وكلهم يقول: ما تقاصر الشيخ أبو علي المذكور عن الشيخ أبي علي الفارسي، قالوا: وفيه مع هذه الفضيلة غفلة وصورة بله في الصورة الظاهرة، حتى قالوا: إنه كان يومًا على جانب نهر وبيده كراريس، فوقعت منه كراسة في الماء وبعدت عنه، فلم يصل يده إليها فأخذ كراسةأخرى وجذبها فتلفت أخرىبالماء، وكان له مثل هذه الأشياء.(4/88)
وشرح المقدمة الجزولية كبيرًا وصغيرًا. وله كتاب في النحو سماه التوطئة بالجملة على ما يقال: كان خاتمة أئمة النحو.
وفيها توفي الملك المظفر غازي ابن الملك العادل صاحب فارقين وخلاط وغير ذلك، وكان فارساً شجاعًا شهمًا مهيبًا، وملكًا جوادًا تملك بعده ابنه الشهيد الملك الكامل ناصر الدين.
سنة ست وأربعين وست مائة
فيها توفي الإمام العلامة الفقيه المالكي الأصولي النحوي المقرىء المعروف بابن الحاجب أبو عمرو عثمان بن عمرو الكردي الأسناوي بفتح الهمزة وسكون السين المهملة وقبل الألف نون، ثم المصري صاحب التصانيف المجادة المشتملة على التحقيق والإفادة. كان والده حاجباً للأمير عز الدين الصلاحي، واشتغل هو في صغره بالقران الكريم، ثم بالفقه على مذهب الإمام مالك، ثم بالعربية والقراءات وبرع في علومه، وأتقنها غاية الإتقان، ثم انتقل إلى دمشق، ودرس بجامعها في زاوية المالكية، واكب الخلق على الاشتغال عليه وتبحر في العلوم. قيل: وكان الغالب عليه علم العربية، وصنف مختصرًا في مذهبه، ومقدمة وجيزة في النحو، وأخرى مثلها في التصريف وشرح المقدمتين، وصنف في أصول الفقه.
قال ابن خلكان: وكل تصانيفه في نهاية الحسن والإفادة، وخالف النحاة في مواضع، وأورد عليهم اشكالات والزامات يبعد الاجابة عنها، قال: وكان من أحسن خلق الله ذهنًا، ثم عاد إلى القاهرة، وأقام بها والناس ملازمون للاشتغال عليه، قال: وجاءني مرارًا بسبب أداء شهادات، وسألته عن مواضع في العربية مشكلة، فأجاب عنها أبلغ اجابة بسكون كثير وتثبت تام، ومن جملة ما سألته عنه مسألة اعتراض الشرط على الشرط في قولهم: إن أكلت إن شربت لم يتعين تقديم الشرب على الأكل بسبب وقوع الطلاق حتى لو أكلت ثم شربت لم تطلق؟ وسألته عن بيت المتنبي عن قوله:
لقد تصبرت حتى لات مصطبر ... فالآن أقحم حتى لات مقتحم
ما السبب الموجب لخفض مصطبر ومقتحم، ولات ليست من أدوات الجر. فأطال الكلام فيهما، وأحسن الجواب عنهما، قال: ولولا التطويل لذكرت ما قاله، ثم انتقل إلى الاسكندرية للإقامة، فلم تطل مدته هناك، وتوفي بها ودفن خارج باب البحر بتربة الشيخ(4/89)
الصالح ابن أبي شامة، وكان مولده في سنة تسعين وخمس مائة بأسنا رحمه الله انتهى كلام ابن خلكان.
قلت: وبلغني أنه كان محباً للإمام شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام ومصاحبًا له، وأنه لما حبسه السلطان كما تقدم بسبب إنكاره عليه. دخل ابن الحاجب المذكور معه الحبس لموافقته ومراعاة صحبته، ولعل انتقاله إلى مصر كان بسبب انتقال الإمام عز الدين المذكور، والله أعلم، ولكن قد تقدم أن الملك الصالح حبس هذين الإمامين المذكورين معاً لإنكارهما عليه.
وفيها توفي أن البيطار الطبيب البارع عبد الله بن أحمد المالقي صاحب كتاب الأدوية المفردة انتهت إليه المعرفة بتحيق النبات وصفاته ومنافعه وأماكنه، وله خدمة عند الكامل، ثم ابنه الصالح توفي بدمشق.
وفيها توفي ابن صاحب المغرب المعتضد، ويقال أيضًا: السعيد أبو الحسن علي بن المأمون ادريس ولي الأمر بعد أخيه عبد الواحد، وقتل على ظهر جواده، وهو محاصر حصنًا بتلمسان، وولي بعده المرتضى، فامتدت دولته عشرين عامًا.
وفيها توفي الوزير أبو الحسين علي بن يوسف الشيباني وزير حلب، وصاحب التصانيف والتواريخ جمع من الكتب على اختلاف أنواعها ما لا يوصف، وكانت تساوي نحوًا من أربعين ألف دينار.
سنة سبع وأربعين وست مائة
فيها عمل الأمجد حصناً على أبيه، وراح إلى مصر، وسلم الكرخ أبي الصالح، ونازلت الفرنج دمياط برًا وبحراً، وكان بها فخر الدين ابن الشيخ وعسكره، فهربوا وملكها الفرنج بلا ضربة ولا طعنة، وكان السلطان على المنصورة، فغضب على أهلها كيف سيبوها، حتى أنه شنق ستين نفسا من أعيان أهلها، وقامت قيامته على العسكر بحيث أنهم خافوا منه، وهموا به، فقال فخر الدين: أمهلوه. فهو على شفا، فمات ليلة نصف من شعبان بالمنصورة، وكتم موته أياماً ثم أن مملوكه قطايا بالقاف والطاء المهملة وبين الألفين مثناة من تحت ساق على البريد إلى أن عبر الفرات، وساق إلى أن بلغ إلى الملك المعظم. ولد الصالح، فجاء معه حتى قدم به دمشق، فدخلها في دست السلطنة وجرت للمصريين(4/90)
مع الفرنج فصول وحروب إلى أن اتفقت وقعة المنصورة وذلك أن الفرنج حملوا ووصلوا إلى دهليز السلطان، فركب مقدم الجيش فخر الدين ابن الشيخ، وقاتلها إلى أن قتل، وانهزم المسلمون، ثم كروا على الفرنج، ونزل النصر ولله الحمد، فقتل من الفرنج مقتلة عظيمة، ثم قدم الملك المعظم بعد أيام.
وفيها توفي الملك الصالح ابن الملك الكامل ابن الملك العادل، كما تقدم، وكان وافر الحرمة، عظيم الهيبة، طاهر الذيل، حليفاً للملك ظاهر الجبروت.
وفيها توفي الأمير نائب السلطنة.
وفيها توفي فخر الدين كما تقدم.
وفيها توفي أبو الفضل يوسف ابن شيخ الشيوخ صدر الدين محمد بن عمر الجويني، ولد بدمشق، وسمع من غير واحد طعن يوم المنصورة، ووقع ضربتان في وجهه، فسقط، وكان رئيساً محتشماً سيداً معظمًا ذا عقل ورأي ودهاء وشجاعة وكرم سجنه السلطان سنة أربعين، وقاسى شديدًا، وبقي في الحبس ثلاث سنين ثم أخرجه، وأنعم عليه، وقدمه على الجيش.
سنة ثمان وأربعين وست مائة
استهلت والفرنج على المنصورة والمسلمون بإزائهم مستظهرين لانقطاع الميرة عن الفرنج، ووقوع المرض في خيلهم، وعزم ملكهم على السير في الليل إلى دمياط، ففهم المسلمون ذلك، وكان الفرنج قد عملوا جسرًا من صنوبر على النيل، ونسوا قطعه، فعبر عليها المسلمون وأحدقوا بهم، فتحصنوا بقربة يمينة أبي عبد الله، وأخذ أسطول المسلمين أسطولهم أجمع، وقتل منهم خلق، وطلب ملكهم الطواسي رشيد سيف الدين الضمري فأتوا وكلمهم في الأمان على نفسه وعلى من معه، فعقدا له الأمان، وانهزم جل الفرنج، فحمل عليهم المسلمون، ووضعوا فيهم السيف، وغنم الناس مالاً لا ينحصر، وركب ملك الفرن! في حراقة والمراكب الإسلامية محدقة به تخفق بالكووسات والطبول، وفي البر الشرقي الجيش سائر تحت ألوية النصر، وفي البر الغربي العربان والعوام، وكانت ساعة عجيبة. واعتقل ملك الفرنج بالمنصورة، وكانت الأسرى نيفا وعشرين ألفا فيهم ملوك وكبار الدولة وكانت القتلى سبعة آلاف، واستشهد من المسلمين نحو مائة أنفس، وخلع الملك المعظم على الكبار من الفرنج خمسين خلعة، فامتنع الكلب ملكهم من لبسها، وقال: أنا مملكتي بقدر مملكة صاحب مصر كيف ألبس خلعته؟ ثم بدت من الملك المعظم خفة وطيش(4/91)
أمور خرج عليه بسببها مماليك أبيه، فقتلوه وقدموا على عسكر عز الدين التركماني الصالحي، وساقوا إلى القاهرة بعد أن استردوا دمياط، وذلك أن حسام الدين بن أبي علي أطلق ملك الفرنج على أن يسلم دمياط وعلى بذل خمس مائة ألف دينار للمسلمين، فركب بغلة، وساق معه الجيش إلى دمياط، فما وصلوا إلا وأوابل المسلمين قد ركبوا أسوارها، فاصفر لون ملك الفرنج، فقال حسام الدين: هذه دمياط قد ملكناها، والرأي أن لا يطلق هذا لأنه قد اطلع على عوزتنا، فقال عز الدين التركماني: لا أرى الغدر فأطلقه.
وأما دمشق، فقصدها الملك الناصر صاحب حلب، واستولى عليها ثم بعد أشهر قصد الديار المصرية ليتملكها، فالتقى هو والمصريون بالعباسية، فانهزم المصريون، ودخل أوائل الشاميين القاهرة، وخطب بها الناصر فالتف على عز الدين والفارس قطايا نحو ثلاث مائة من الصالحية، وهربوا نحو الشام، فصادفوا فرقة من الشاميين، فحملوه عليهم وهزموهم وأسروا نائب الملك الناصر، وهو شمس الدين لؤلؤ، فذبحوه وحملوا على طبل الناصر، وكسروه ونهبوا خزائنه، وساقوا إلى غرة، ودخلت الناصرية الصالحية بأعلام الناصر منكسة، وبالأسارى، وهم ولد السلطان الكبير صلاح الدين ولذلك الأشرف موسى ابن صاحب حمص، والملك الصالح إسماعيل ابن العادل وطائفة، وقتل عدة أمراء.
وفيها توفي الملك الصالح عماد الدين أبوالحسن إسماعيل ابن العادل، كان من جملة أسارى الصالحية المذكورين، فأخذوه في الليل وأعدموه.
وفيها توفي الملك المعظم غياث الدين ابن الصالح، وتوفي أبوه، فحلف له الأمراء وتعدوا وراءه، وجرى من كسر الفرنج ما جرى، ثم صدرت منه أمور ضربه بسببها مملوك بسيف فتلقاه بيده، ثم هرب إلى برج خشب، فرموه بالسفط، فرمى بنفسه وهرب إلى النيل فأتلفوه، وبقي ملقى على الأرض ثلاثة أيام حتى انتفخ، ثم واروه، وخطب بعده على منابر الإسلام ليتخبر الدرام خليل خطبة والده وزوجته وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكرها.
سنة تسع وأربعين وست مائة
أقامت عساكر الشام على غرة نحوًا من سنتين خوفًا من المصريين، وترددت الرسل بين الناصر والمعز.
وفيها تملك المغيث ابن الملك العادل ابن الكامل الكرك والشويك سلمها إليه متوليها الطواشي صواب.
وفيها توفي العلامة أبو الحسن علي بن هبة الله اللخمي المصري الشافعي المقرىء(4/92)
الخطيب، المعروف بابن الحميري سمع بدمشق من الحافظ ابن عساكر، وببغداد من شهدة وجماعة، وقرأ القراءات على أبي الحسن البطايحي، وقرأ كتاب المهذب على القاضي أبي سعد بن أبي عصرون، والقاضي أبو سعد علي القاضي أبي علي الفارقي عن مؤلفه الشيخ الإمام أبي إسحاق، وسمع بالاسكندرية من السلفي، وتفرد من زمانه، ورحل إليه الطلبة، ودرس وأفتى، وانتهت إليه مشيخة العلم بالديار المصرية والأمير الصاحب جمال الدين ابن مطروح أبو الحسن يحيى بن عيسى المقرىء اتصل بخدمة السلطان الملك الصالح ابن الملك الكامل ابن الملك العادل ابن أيوب، فلما اتسع ملكه ولاه نائبًا عنه، ولم يزل يقرب منه ويحظى عنده إلى أن ملك دمشق، فرتب لها نوابًا، وصار ابن مطروح في صورة وزيرها، ثم سيره مع عسكر وجهه إلى حمص لاستنقادها من ثواب الملك الناصر الملك العزيز، ثم بلغه أن الفرنج اجتمعوا بجزيرة قبرص على عزم الديار المصرية، فسير إلى العسكر المذكور يعودون لحفظ الديار المصرية، فعادوا وابن مطروح في خدمة الملك الصالح، والملك الصالح متغير عليه الأمور نقمها عليه، فواظب على الخدمة مع الإعراض عنه، ولما مات الملك الصالح وصل ابن مطروح إلى مصر، وأقام بها في داره، ولم يزل ابن مطروح مطروحًا من الولايات إلى أن مات، هذه نبذة مختصرة من أحواله على الإجمال وكانت أوقاته جميلة، وحالاته حميدة، جمع بين الفضل والمروءة والأخلاق الرضية، وله ديوان شعر من جملته قوله في بعض قصائده:
يا صاحبي ولي بجرعاء الحمى ... قلب أسير ماله من فادي
سلبته مني يوم باتوا مقلة ... مكحولة أجفانها بسواد
وله بيتان ضمنهما بيت المتنبي، وأحسن فيهما، وهما:
إذا ما سقاني ريقه، وهو باسم ... تذكرت ما بين العذيب وبارق
ويذكرني من قده ومدامعي ... مجرى عوالينا ومجرى السوابق
وهذا البيت للمتنبي في قصيدة له بديعة، وهو:
تذكرت ما بين العذيب وبارق ... مجرى عوالينا ومجرى السوابق
قال ابن خلكان: وبلغني أنه كتب رقعة يتضمن شفاعته في قضاء شغل بعض أصحابه إلى بعض الرؤساء، وكتب فيهم لولا المشقة فلما وقف عليها ذلك الرئيس قضى شغله وفهم قصده، وهو قول المتنبي:(4/93)
لولا المشقة ساد الناس كلهم ... الجود يفقر والإقدام قتال
هذا من لطيف الإشارات.
سنة خمسين وست مائة
فيها توفي الكمال إسحاق بن أحمد المعري الشافعي المفتي تلميذ ابن الصلاح، كان إماماً بارعًا زاهدًا عابدًا توفي بالروحانية.
وفيها توفي العلامة أبو الفضائل رضي الدين الحسن بن محمد الصغاني العدوي العمري الهندي اللغوي نزيل بغداد، كان إليه المنتهى في معرفة اللغة، له مصنفات كبار في ذلك، وله تبصرة في الفقه والحديث مع الدين والأمانة.
وفيها توفي سعد الدين بن حمويه محمد بن المؤيد الجويني الصوفي، كان صاحب أحوال ورياضات، وله أصحاب ومريدون وكلام، سكن سفح قاسيون مدة، ثم رجع إلى خراسان، فتوفي هناك.
سنة إحدى وخمسين وست مائة
وفيها توفي شيخ الشيوخ السيد الجليل العارف بالله أبو الغيث ابن جميل اليمني ذو المقامات العلية والأحوال السنية، والأنفاس الصادقة، والكرامات الخارقة، والفتح العظيم، والفضل الجسيم منبع الأسرار، ومطلع الأنوار شيخ الزمان والمشار إليه من بين الأقران صاحب المظهر الباهر العظيم الشأن الذي أشرت إليه فيما تضمنه هذان البيتان.
أيا سيدكم ساد بالفضل سيدًا ... بكل زمان ثم كل مكان
إذا أهل أرض، فاخروا بشيوخهم ... أبو الغيث فينا فخر كل يمان
كان قدس الله روحه عبدا يقطع الطريق فبيناه وكامن للقافلة، فسمع هاتفًا يقول: ياصاحب العين عليك أعين، فوقع منه ذلك موقعا أزعجه عما كان عليه، وأقبل به إلى الإقبال على الله والإنابة إليه، وصحب في بدايته الشيخ الكبير الولي الشهير المعروف بابن أفلح اليمني حتى زكت نفسه، وتنور قلبه، وظهر عليه صدق الإدارة وسيماء السعادة، وبدت منه بعض الكرامات في الأوقات. من ذلك أنه خرج يحتطب في وقت، ومعه حمار يحمل عليه حطب، فبينا هو يجمع الحطب في بعض البراري وثب الأسد على حماره، فافترسه، فلما جاء بالحطب ليحمله وجده قد مات، وقال للأسد: تقتل حماري على أي شيء أحمل(4/94)
حطبي، وعزة المعبود ما أحمله إلا على ظهرك، فجمع الحطب، وحمله عليه وهو هين لين مطيع، وساقه إلى أن وصل به إلى طرف البلد، ثم حط عنه الحطب، وقال له: اذهب ومن ذلك أيضا أن زوجة شيخه المذكور طلبت شري عطر من السوق، فذهب ليشتري لها، فكلم بعض العطارين في ذلك، فقال العطار: ما عندي شيء فقال له أبو الغيث: ما عندك شيء؟ فانعدم في الحال جميع ما في دكان العطار، فجاء إلى الشيخ يشكو إليه ما جرى على حوائجه من أبي الغيث، فاستدعى به الشيخ وخاصمه بسبب اظهار ما ظهر له من الكرامة، وقال له: سيفان لا يصلحان في غمد واحد، اذهب عني، فدار له أبو الغيث وتضرع والتزم به فأبى أن يصحبه، فذهب يلتمس من يصحب من الشيوخ لينتفع به، فكل من التمس منه يقول: اكتفيت ما تحتاج إلى شيخ حتى جاء إلى الشيخ الكبير العارف بالله الخبير السيد المبجل المعروف بعلي الأهدل، فالتمس منه الصحبة، فأنعم له بذلك.
قال أبو الغيث فلما صحبته كأني قطرة وقعت في بحر، وقال أيضاً: كنت عند ابن أفلح لؤلؤة بهما، فثقبها الأهدل، وعلقها في عنقي قلت: كأنه يشير إلى أن محاسن أحواله المشكورة كانت عند ابن أفلح مستورة، فلما صحب الأهدل أظهر محاسنه التي يجليها عليه لكل من يجتليها.
ومن كراماته أيضا أن الفقراء قالوا له: نشتهي اللحم، فقال: في اليوم الفلاني إن شاء
الله تعالى تكلون اللحم، وكان يوم سوق يجتمع فيه القوافل، فلما جاء ذلك اليوم جاء الخبر أن قطاع الطريق الحرامية نهبوا القافلة، فلما كان بعد ساعة جاء واحد من القطاع يثور إلى الشيخ، فقال الشيخ للفقراء: اذبحوه واطبخوه وخلوا رأسه على حاله، ثم جاء آخر أيضاً منهم يحمل حب، فقال لهم الشيخ: اطحنوه واخبزوه، ففعلوا جميع ذلك، ثم فتوا العيش وأدموه، فقال الشيخ للفقراء: كلوا، فدعا الفقراء الفقهاء إلى الأكل معهم، فامتنعوا، فقال الشيخ للفقراء: كلوا الفقهاء ما يكلون الحرام، فأكلوا حتى فرغوا، وإذا بإنسان قد جاء إلى الشيخ وقال: يا سيدي نذرت للفقراء بثور، فأخذه الحرامية، فقال له الشيخ: تعرف رأس ثورك إذا رأيته. قال: نعم أعرفه، فأمر الشيخ بإحضار ذلك الرأس، فأحضروه فلما رآه ذلك الإنسان قال: هذا رأس ثوري بعينه، ثم جاء إنسان آخر، وقال: يا سيدي نذرت للفقراء حمل حب، فنهب مني، فقال له الشيخ: قد وصل إلى الفقراء متاعهم، فلما رأى الفقهاء ذلك ندموا على ترك موافقة الفقراء، وبقوا يضربون يدا على يد وله أيضا رضي الله تعالى عنه ما يطول ذكره بل لا يستطاع حصره من الكرامات الظاهرات والآيات الباهرات.
وله كلام عظيم في الحقيقة والتربية في سلوك الطريقة جمع بعضه في كتاب مستقل، من ذلك قوله: يجب على من نزلت به أخلاط أول ما يبدأ استخراج القيء بريشه خوف(4/95)
الفوت، ويغتسل بعد ذلك من ماء عين الندامة بقصد العزلة في كهف جبل الانقطاع أيسًا من الأنس بما دون الله تعالى، ويشرب من ماء شحوم حنظل الصبر، ويستنشق بدهن أشجار الحزن، ويطعم من صحيح غذاء التوكل، ثم يكتحل بقشر عود الغرام، ولا ينام بعد ذلك حتى ينظر أنوار أثمار أشجار التوفيق، ثم يجلس على بساط قدم الصدق والتصديق منتظرا لما يرد من عجائب إبريز التحقيق، وصحيح حلول الفقر والعجز والافتقار الذي أنعم به تعالى به النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ونعم الرقيق، فحينئذ يبرأ العليل، ويرجع إلى ما كان عليه خلقه أول مرة، فيكون حياته لله، وموته لله لا لنفسه بذلك جرى قلم الحكيم القديم المتفضل بالتأبيد في محل الحضرة على المنهج العبدي، والقانون الفقري الذي وجب أن لا يكون الفقر أزلاً وأبداً لنفسه، وجرى الآن لسان الفقر لوجوب ترك التدبير لصحة الإرادة، وتلقي ما يرد لصحة الرضاء، والتزام ما لا يلزم حبا لله وشوقا إليه كما قد وجب على من يعيده فإذا التزم ما لا يلزم صفات الحق للحق وأوصله إلى علم أنه يصل به، فيكون الحق أوصله لا هو وصل، وبعد وجود ما يجب أيضًا على المريد اتيانه علمًا ورسمًا يظهر علوم أزلية يتعلق بصفة القديم المتفضل القدوس لا يعرف العالم بها إن الله تعالى يعصى أو يتعدى أحد مراده، والله بكل شيء عليم.
قلت وآخر كلامه هذا يشبه قوله أيضأ: كل خيال نقاب لوجه الأمر العزيزي، والأمر العزيزي نقاب لجلال الله، وجمال سبحات وجه الله الكريم فرضًا لأن لايبرز من ذلك الجلال ذرة، فلا يبقى أحد من الثقلين، ولا من سواهما يعرف لله تعالى طاعة ول اعصيانًا قلت: وقد أشرت إلى ما يظهر من معناه، والله أعلم في ترجمة الشيخ عبد القادر في سنة اثنتين وستين وخمس مائة.
وقال أيضاً: أن الحس والمحسوس حجاب عن الله تعالى فإذا ظهر سلطان حب الله تعالى بنور حياة القلب بالله أحرق حراريق الهوى بنار سلطانه الذي لا يقدر أحد أن ينفيه.
وقال أيضًا: إذا طلعت شمس من أفق قبلة الغيب إلى الأفق الأعلى أخذ كل من في الأفق الأدنى نصيبه من شعاعها، وليس كل مدرك بالحسن هو هي، فأما إذا طلعت من كل مكان، وانتفت روية التعاقب عنا يقينًا لم يبق ليل ولا نهار، ولم يبق كفر، ولم يبق اسلام، ووجب حينئذ ظهور الشيء الذي حالت بيننا وبين الأحوال، وكثرت المقالات، والأفعال كما يحول السحاب يقيناً، فإذا لم يبق حائل ظهر الشيء الذي لا يشبه شيئًا وغبناعنا، وصرنا كالنجوم عند طلوع الشمس لا غياب بشرط الفناء ولا حضور شرط البقاء، فإن كنت هاهنا رأيت ما رأينا وإن لم تر شيئا فكن حجراً صماً يدق بك النوى.
وقال أيضاً: إذا اختلط ماء الأمطار بماء البحر، كان منه الدر واللؤلؤ والياقوت الأحمر(4/96)
قطعًا قلت: ويحتمل أنه يعني إذا اختلط ماء أمطار غيث الفضل المنهمل من سحاب الجود عند مشاهدة الجمال، وشرب كؤوس الوصل بماء بحر توحيد القلوب المنورة الطيبة الزكية المطهرة، يكون من ذلك المطرد والمعارف ولؤلؤ العلوم، وياقوت الحكم الأحمر، ويحتمل إذا اختلط ماء أمطار العلوم الباطنة بماء بحر العلوم الظاهرة في ظروف القلوب الطاهرة.
وقال: إن عبيد الهوى حلالا ًوحرامًا عبيد لمن تملك الهوى يقينًا في صحيح الفقر قطعاً قلت: ومما يناسب قوله لجماعة من الفقهاء، أتوا إلى زيارته: مرحبا ًبعبيد عبدي، فرجعوا عنه منكرين ذلك أشد الإنكار، فصادفوا شيخ الطريقين وإمام الفريقين إسماعيل بن محمد الحضرمي المشهور، فذكروا له ذلك، فضحك وقال: صدق أنتم عبيد الهوى والهوى عبده وقال أيضًا: أفي وقت لا يحكم الهوى على المريد وصل إلى الله تعالى بالله تعالى وأي وقت يحكم الهوى على المريد يقينًا فصل عن الله تعالى بعلة، والعياذ بالله العظيم، ولا شك أن الله تعالى خلق كل دابة ماء مهين معلول بعلة وأما ما خلق الله تعالى مما ليس منا أحد يعرفه أول مرة، فهو من نور جلال جمال وجه الله الكثير الحمد لله رب العالمين.
اعلة.
وقال: إن لهيب نار قلوب المخلصين بالحق تحرق الشياطين وأتباعهم يقيناً كمثل ما تحرق النار الحطب قولاً واحدًا.
وقال: أما بعد، فإنا نظرنا فيما يفسد عقول المريدين، فإذا هو من روية ثواب العمل، وفساد القلوب من حب الدنيا البتة والحرص والطمع واتباع الهوى وفساد الأرواح، من حب البقاء وطول الأمل، فلهذا يجب على المريد الزهد في نفسه لأنها هي محل العلل، ومنزل الغفلة عن الله تعالى، فإذا أراد المريد صلاح قلبه، وصفاء لبه قتل نفسه بسيف الصدق، وطرحها في قبر الانقطاع، ودفنها بترك التدبير، وتلقى ما يرد عليه من القضاء بالرضاء والتسليم والأنس بخيرة الله، والسكون إلى حكمة الله وبالله التوفيق.
وقال أيضًا لما كاتبه الملك المنصور سلطان اليمن في وصفه الكيمياء متهمًا له بمعرفتها ومطالبًا له بتعليمها إذا طرح الإيمان والتوحيد واليقين والتوكل والرضاء في بوطة حب الله تعالى، وسخن بنار الشوق والتوحيد صار منه أكسير يستحيل الكون بطبعه ربوبية صرفاً الحمد لله رب العالمين.
اعبودية والسلام.(4/97)
وقال أيضاً في جواب كتاب أتاه من الشريف الإمام أحمد بن الحسين أيام خرج، وقد دعاه إلى البيعة له: ورد كتاب السيد ففهمنا مضمونه، ولعمري إن هذا سلكه الأولون، وأقبل عليه الأكثرون غير أنا نفر مذ سمعنا قوله تعالى له دعوة الحق لم يبق لإجابة الخلق فينا متسع، وليس لأحد منا أن يشهر سيفه على غير نفسه، ولا أن يفرط في يومه بعد أمسه، فليعلم السيد فراغنا لمارام فيعذر المولى والسلام قلت: وله من الكلام في الحقائق الغامضات الدقائق ما لا يفهمه إلا الخواص من الخلائق من العطايا، ومن المواهب الجسيم ما لا ينال إلا من فيض فضل الله العظيم، وكنت قد رأيته في المنام هو والسيد المشكور إسماعيل بن محمد الحضرمي المشهور في ليلة واحدة، وقال لي أحدهما وأظنه الشيخ أبا الغيث: إنا ما فتح علي إلا بعد الخمسين فقلت له: يا سيدي هذه بداية الفتح أم نهايته؟ فقال لي: يا ولدي إذا جاء فضل الله جاء دفعة واحدة، ففهمت أنه يعني بذلك الجذبة من جذبات الحق يفنى العبد عن نفسه وعن الخلق، وإليه وإلى شيخه المذكورين أشرت في غزل هذين البيتين من قصيدة في مدح شيوخ اليمن:
يبيت عطاء عيطبول خريدة ... غياثية في سابقات المحامل
سقت تلك نهلا ًحورة أفلحية ... وعل احرود من ملاح إلا هادل
خليلي في حب الملاح تغزلاً ... بسلمى، ومن في ربعها من حلائل
وزور أملاح الحي من كل حورة ... يمانية يمنًا وحسنا كوامل
وعوجًا على أحبانا بعواجه ... وبلا ربها بالدموع الهواطل
وقلت: فيها بالتصريح بعد كناية الغزل والتلويح:
ملوك البرايا ليس يشقى جليسهم ... لهم بيض رايات العلى في المحافل
كساداتنا منهم شموس عواجة ... إلى الحكمي السامي انتساب الأفاضل
ومثل أبي الغيث المقدم في العلى ... كبحر بعيد الغور نأي السواحل
وشيخه ذي المجد النجيب ابن أفلح ... وأهد لهم صدر الكبار الأماثل
قلت: وقد أنخت رواحل الأخبار عنه بساحة الاختصار في منازل هذا المقدار.
وفي السنة المذكورة توفي الملك الصالح صلاح الدين ابن الملك الطاهر غازي ابن. الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب.
وفيها توفي الإمام العلامة كمال الدين عبد الواحد ابن خطيب زملكان عبد الكريم بن(4/98)
خلف الأنصاري السماكي الشافعي، المعروف بابن الزملكاني صاحب علم المعاني والبيان، كان ذكيًا سريًا ذا فنون، ولي قضاء صرخد، ودرس ببعلبك، وتوفي بدمشق وله نظم رائق. وفيها توفي الشيخ محمد ابن الشيخ الكبير عبد الله الجويني.
وفيها توفي صاحب الشيخ عبد الله المذكور الشيخ عثمان البعلبكي صاحب أحوال وكرامات ورياضات ومجاهدات.
سنة اثنتين وخمسين وست مائة
فيها تسلطن الملك المعز عز الدين.
وفيها توفي الأمير فارس الدين الزكي الصالحي أقطاي، كان موصوفًا بالشجاعة والكرم اشتراه الصالح بألف دينار، فلما اتصلت السلطنة إلى الملك المعز بالغ أقطايا في الإدلال والتبختر، وبقي يركب ركبة ملك، وتزوج بابنة صاحب الحماة، وقال للمعز: أريد أن أعمل العرس في قلعة الجبل، فادخلها إلي، وكان يدخل الخزائن ويتصرف في الأموال، وأنفق المعز وزوجته شجر الدر عليه ورتبا من قتله، وغلقت أبواب القلعة، فركب مماليكه، وكانوا سبع مائة، وأحاطوا بالقلعة فألقى إليهم رأسه، فهربوا وتفرقوا.
وفيها توفي مجد الدين أبو البركات عبد السلام بن عبد الله الحراني الحنبلي.
وفيها توفي الكمال محمد بن طلحة النصيبي المفتي الشافعي، وكان رئيساً محتشماً بارعاً في الفقه والخلاف، ولي الوزارة، ثم زهد وجمع نفسه، توفي بحلب في شهر رجب، وقد جاوز السبعين، وله دائرة الحروف، قلت: وابن طلحة المذكور لعله الذي روى السيد الجليل المقدار الشيخ المذكور، عبد الغفار صاحب الزاوية في مدينة قوص قال أخبرني الرضي ابن الأصمع، قال: طلعت جبل لبنان فوجدت فقيراً، فقال لي: رأيت البارحة في المنام قائلاً يقول.
لله درك يا بن طلحة ما جدا ... ترك الوزارة عامداً فتسلطنا
لا تعجبوا من زاهد في زهده ... في درهم لما أصاب المعدنا
قال: فلما أصبحت ذهبت إلى الشيخ ابن طلحة، فوجدت السلطان الملك الأشرف على بابه، وهو يطلب الأذن عليه، فقعدت حتى خرج السلطان، فدخلت عليه، فعرفته بما قال الفقير، فقال: إن صدقت رؤياه فأنا أموت إلى أحد عشر يومًا وكان كذلك. قلت: وقد(4/99)
يتعجب من تعبيره ذلك لموته، وتأجيله بالأيام المذكورة والظاهر، والله أعلم. أنه أخذ ذلك من حروف بعض كلمات النظم المذكور، وأظنها، والله أعلم، قوله: أصاب المعدن فإنها أحد عشر حرفاً، وذلك مناسب من جهة المعنى، فإن المعدن الذي هو الغني المطلق والملك المحقق ما تلقونه من السعادة الكبرى، والنعمة العظمى بعد الموت.
وفي السنة المذكورة توفي السديد المكي الدمشقي العدل آخر أصحاب الحافظ أبي القاسم بن عساكر.
سنة ثلاث وخمسين وست مائة
وفيها توفي الشهاب القوصي أبو المحامد إسماعيل بن حامد الأنصاري الشافعي.
روى عن جماعة، وخرج لنفسه معجمًا في أربع مجلدات كبار.
قال الذهبي: وفيه غلط كثير، وكان أديبًا إخباريًا فصيحًا مفوها ًبصيرًا بالفقه.
وفيها توفي الإمام المفتي المعمر ضياء الذين الكلبي الشافعي وفيها توفي، النظام البلخي محمد بن محمد الحنفي نزيل حلب، كان فقيهًا مفسراً بصيرًا بالمذهب.
وفيها توفي أبو الحجاج يوسف بن محمد الأنصاري أحد فضلاء الأندلس وحفاظها المتقنين، كان أديباً عارفاً فاضلاً، مطلعاً على أقسام كلام العالم من النظم والنثر، وراوياً لوقائعها وحروبها وأيامها.
قال ابن خلكان: بلغني أنه كان يحفظ كتاب الحماسة تأليف أبي تمام الطائي، والأشعار الستة وديوان أبي تمام المذكور، وديوان المتنبي وديوان أبي العلاء المعري، وسقط الزند إلى غير ذلك من أشعار الجاهلية والإسلام، وجمع للأمير أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد صاحب افريقية، كتابا سماه كتاب الأعلام بالحروب الواقعة في صدر الإسلام، وابتدأ فيه بمقتل أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه، وختمه بخروج الوليد بن طريف على هارون الرشيد ببلاد الجزيرة الفراتية، وقد تقدم ذكر تلك الواقعة، ومقتل الوليد فيها. قال ابن خلكان: ورأيت هذا الكتاب المجموع، فطالعته، وهو في مجلدين، أجاد في تصنيفه وكلامه فيه كلام عارف بهذا الفن، قال: ورأيت له أيضاً كتاب الحماسة في مجلدين، وقد قرأت النسخة عليه وعليها خطه، وذكر فيه ولوعه الأدب، ومحبته لكلام العرب، وحملها له على جمع استحسنه من أشعارهم جاهليها ومخضرميها وإسلاميها(4/100)
ومولدها فلم أجد أقرب تبويب، ولا أحسن ترتيب، مما بويه، ورتبه أبو تمام حبيب بن أوس في كتابه المعروف بكتاب الحماسة، وحسن الإقتداء به والتوخي لمذهبه، لتقدمه في هذه الصناعة، وانفراده منها في أوفر حظ، وأنفس بضاعة، فاتبعت في ذلك مذهبه، ونزعت منزعه، وقرنت الشعر بما يجانسه، ووصلته بما يناسبه، ونقحت ذلك، واخترته على قدر استطاعتي، وبلوغ جهدي وطاقتي.
ومما نقل في كتابه المذكور قول العباس بن الأحنف المشهور:
تحمل عظيم الذنب ممن تحبه ... وإن كنت مظلومًا فقل: أنا ظالم
فإنك إن لم تغفر الذنب في الهوى ... يفارقك من تهوى وأنفك راغم
وقول الوافرالدمشقي هكذا. وقال ابن خلكان: وظني أنها لأبي فراس ابن حمدان:
بالله ربكما عوجا على سكني ... وعاتباه لعل العتب يعطفه
وعرضا لي وقولا في حديثكما ... ما بال عبدك بالهجران تتلفه
فإن تبسم قولاً في ملاطفة ... ما ضر لو بوصال منك تسعفه
وإن بدا لكما من سيدي غضب ... فغالطاه، وقولا: ليس نعرفه
وقول المجنون:
تعلقت ليلى وهي عني صغيرة ... ولم يبد للأتراب من ثديها عجم
صغيرين ندعى البهم بالبيت أننا ... إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم
البهم الصغار من أولاد الضأن، الواحد بهمة، بفتح الموحدة وسكون الهاء. وما تقدم في ترجمة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ومما ينسب إليه أنه قال حين كف بصره:
إن يأخذ الله من عيني نورهما ... ففي لساني وقلبي منهما نور
قلبي ذكي وذهني غير في دخل ... وفي فمي صارم كالسيف مطرور
سنة أربع وخمسين وست مائة
فيها كان ظهور النار بظاهر المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وكانت(4/101)
من آيات الله العظام قيل: ولم يكن لها حر على عظمها وشدة ضوئها وهي التي أضاءت لها أعناق الإبل ببصرى، فظهرت بظهورها معجزة والآية العظمى التي أخبر بها صلى الله عليه وآله وسلم، بقوله في الحديث الصحيح: " لا تقوم الساعة حتى يظهر نار بالحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى " وكان نساء المدينة يغزلن على ضوءها بالليل على سطح البيوت، وبقيت أيامًا، وظن أهل المدينة أنها القيامة، وضجوا إلى الله، وتواتر أمر هذه الآية، وكان ظهورها في جمادى الآخرة من واد يقال له: وادي أحيليين بالحاء المهملة والياء المثناة من تحت المكررة ثلاث مرات، وضم الهمزة في أوله في الحرة الشرقية تدب دبيب النمل إلى جهة الشمال، وتأكل ما أتت عليه من أحجار أو جبال، ولا تأكل الشجر حتى أن بعض غلمان الشريف منيف بن سبحة صاحب المدينة الشريفة يومئذ أرسله الشريف المذكور مع آخر ليختبرا هل يقدر أحد على القرب منها لكون الناس هابوها لعظمها؟ فذهبا إليها وقربا منها، فلم يجد لها حراً فأدخل الغلام المذكور سهماً له فيها، فأكلت النصل دون العود، ثم قلبه فيها وأدخله من جهة الريش، فأكلت الريش حسب.
وذكر بعض الناس أن علة عدم أكلها للشجري كونه صلى الله عليه وآله وسلم حرم شجر المدينة، وهذا الذي ذكره إنما يصح لو كان السهم المذكور متخذاً من شجر حرم المدينة الشريفة، ولكن ما عهد أن السهام تتخذ من الحرم المذكور.
قلت: والذي ظهر، والله أعلم، أن هذه النار لما كانت آية في آيات الله العظام جاءت خارقة للعادة، مخالفة في تأثيرها للنار المعتادة، فإن النارالمعهود منها أكل الخشب دون الحجر، فجاءت هذه العكس من تلك تأكل الحجر دون الخشب، وهذا أبلغ في الغزو أقوى في الأثر، والله أعلم، فكانت تثير كل ما مرت عليه حتى يصير سداً لا مسلك فيه لإنسان، ولا عابة حتى أنها سدت وادي الشطاه مسد عظيم بالحجر المبسوك بالنار، حتى قال بعض المؤرخين في معرض التعظيم له: ولا كسد ذي؟؟؟ القرنين طولاً وعرضاً وارتفاعاً.
قلت: وهذا تساهل منه في مبالغة لا ينبغي أن يتساهل بمثلها، فإن الله تعالى قد أخبر أن ياجوج. وماجوج مع كثرتهم. وقوتهم ما استطاعوا له صعوداً ولا نقبا، وانقطع بسبب ذلك سيل وادي الشطاه، وانحبس عون السد المذكور، وكان يجتمع الماء خلفه حتى يصير بحرًاله مد البصر عرضاًوطولاً، كأنه نيل مصر عند زيادته، ثم انخرق هذا السد من تحته في سنة تسعين وست مائة لتكاثر الماء خلفه، فجرى في الوادي المذكور سنة كاملة يملأ ما بين جنبي الوادي، وهذا الخرق المذكور ينقص ما ذكروا من تشبيهه بسدذي القرنين، ثم انخرق(4/102)
مرة أخرى في العشر الأول بعد السبع مائة، فجرى سنة كاملة، وأزيد، ثم انخرق في سنة أربع وثلاثين وسبع مائة، وكان ذلك بعد توتر أمطار عظيمة في الحجاز في تلك السنة، وكثر الماء وعلا من جانبي السد، ومن دونه مما يلي الجبل وغيره، فجاء سيل طام لا يوصف ومجراه ملاصق لقبة حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه، وقيل: جبل عنيين بفتح العين المهملة وكسر النون بين المثناة من تحت الساكنين، وفي آخره نون.
قلت: ولعله الجبل الن! ي أمر صلى الله عليه واله وسلم الرماة أن يقفوا عليه، وحفر السيل المذكور الدور، وأخر قتلى الجبل المذكور، وبقيت القبة والجبل المذكور أن في وسط السيل وتمادت مدة جريه قريباًمن سنة.
قلت: وهذاالسيل المذكور قد شاهدته، وأقمت عنده أيامًا وليالي، وكشف عن عين قديمة قبل الوادي، فجددهاالأمرودي صاحب المدينة الشريفة.
وفي السنة المذكورة أول ليلة من رمضان ليلة الجمعة احترق المسجد الشريف النبوي بعد صلاة التراويح على يد فراش في الحرم الشريف عرف بأبي بكر المراغي لسقوط ذبالةيده في المساق عن غير اختيار منه، حتى احترق هو أيضاً، واحترق جميع سقف المسجد الشريف، حتى لم يبق إلاالسواري قائمة، وحيطان المسجدالشريف، والحائط الذي بناه عمر بن عبد العزيز حول حائط الحجرة الشريفة المجعول على خمسةأركان لئلا يصل إلى الضريح الطاهر الشريف، ووقع ما ذكرنامن الحريق بعدأن عجزعن إطفائه كل فريق.
ثم سقف المستعصم في سنة خمس من ذلك الحجرة الشريفة، وما حولها إلى الحائط القبلي، وإلى الحائط الشرقي إلى بات جبرائيل عليه السلام المعروف قديمًا بباب عثمان، ومن جهة المغرب إلى المنبر الشريف، ثم قتل الخليفة المستعصم في أول السنة السادسة، فوصلت الآلات من مصر من صاحبها يومئذ الملك المنصورعلى ابن الملك المعز الصالحي، ووصل أيضًامن صاحب اليمن يومئذ الملك المظفر يوسف بن عمر بن علي بن رسول الآت وأخشاب، فعملوا إلى باب السلام المعروف قديمًابباب مروان، ثم عزل صاحب مصر، وتولى مكانه مملوك أبيه الملك المظفر سيف الدين قطر سنة ثمان وخمسين، فكان العمل في تلك السنة من باب السلام إلى باب الرحمة المعروف قديماًبباب عاتكة ابنة عبد الله بن زيد بن حارثة، كانت لها دار مقابل الباب، فنسب إليها ومن باب جبرائيل إلى باب النساء المعروف قديمًا بباب ريطة ابنة أبي العباس السفاح، وتولى مصر اخرتلك السنة(4/103)
الملك الظاهر ركن الدين الصالحي، فعمل في أيامه باقي المسجدالشريف، ولما احترق المنبر المذكور أرسل الملك المظفر صاحب اليمن في سنةست وخمسين بمنبر عمله، فوضع موضع منبر النبي صلى الله عليهوآله وسلم، ولم يزل إلى سنة ست وستين وست مائة يخطب عليه وزبنتاه من الصندل فأرسل الملك الظاهر هذا المنبر الموجود اليوم، فقلع منبر صاحب اليمن، وحمل إلى حامل الحرم، وهو باق إلى اليوم، ونصب هذا مكانه وطوله أربعة أذرع، ومن رأسه إلى عينيه سبعة أذرع يزيدقليلاً، وعدد درجاته سبع بالمقعد، وبين المنبر ومصلى رسول الله صلى الله عليهوآله وسلم أربع عشرة فراعاًوشبر، وبين القبر الشريف المحفوف بالنور، وبين المنبرالمشرف المذكورثلاثة وخمسون فراعًا، وبين المصلىالمبارك المذكور، وبين آخر مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القديم المشكور على ما ذكره الحافظ أبو الحسن رزين بن معاويةبن عمران العبدري الأندلسي في كتابه في ذكردارالهجرة، فإنه ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زاد في مسجده زيادتين، الزيادة الأخيرة بلغت فيها مساحته منها مائة ذراع، وجعل عرضه كطوله في الإتساع قلت: هذا ما اقتصرت عليه تنبيهًا على ما يحتاج إليه.
وفي سنة أربع وخمسين التي وقع في الحريق المذكور، وظهور النار المذكورة، وكان غرق بغداد بزيادة دجلة زيادة ما سمع بمثلها، وغرق خلق كثير، ووقع شيء كثير من الدور على أهلها، وأشرف الناس على الهلاك، وغرقت المراكب في أزقة بغداد، وركب الخليفة في مركب، وابتهل الخلق إلى الله تعالى بالدعاء.
وفيها ملكت التتار سائر الروم بالسيف.
وفيهاتوفي شيخ الطريق العارف بالله ذوالتحقيق عبد الله بن محمد الرازي الصوفي، سمع الكثير من جماعة، وصحب الشيخ نجم الدين الكبري، وهومن شيوخ الدمياطي.
وفيها توفي الشيخ الكبير الشأن أوالجد والاجتهاد والأحوال عيسى بن أحمد الجويني صاحب الشيخ عبد الله بن أحمد، المتقدم ذكره، كان صوامًا قوامًا متبتلاً قانتًا، منقطع القرين، حسن العيش في مطعمه وملبسه يقال له: سلاب الأحوال بجدة فيه مع ذلك.
وفيها توفي الكمال أبو البركات المبارك بن حمدان الموصلي مؤلف عقود الجمان في شعراء الزمان.
وفيها توفي العلامة الواعظ المؤرخ شمس الدين أبو المظفر يوسف التركي ثم البغدادي المعروف بابن الجوزي سبط الشيخ جمال الدين أبي الفرج بن الجوزي، أسمعه جده منه(4/104)
ومن جماعه وقدم دمشق سنةبضع وست مائة، فوعظ بهاوحصل له القبول العظيم للطف شمائله وعذوبةوعظه، وله تفسيرفي تسعةوعشرين مجلدًا، وشرح الجامع الكبير، وجمع مجلداًفي مناقب أبي حنيفةرضي الله عنه، ودرس وأفتى، وكان في شبيبته حنبليًا، ولم يزل وافر الحرمة عند الملوك،
سنةخمس وخمسين وست مائة
وفيها قتل صاحب مصر الملك المعزالتركماني، وكان ذاعقل ودين، ثم أقاموابعده ابنه الملك المنصورسلطانًا، وكان قتل الملك المعزفي الحمام. قتله أم خليل الآتي ذكرهاغيرة لماخطب ابنة صاحب الموصل فقتلوها.
وفيهاتوفيت أم خليل المذكورة شجرةالدر كانت بارعة الحسن ذات عقل ودهاء، وأحبها الملك، الصالح، ولما توفي أخفت موته، وكانت تعلم بخطها علامته، ونالت من سعادة الدنيا أعلى الرتب بحيث أنه خطب لهاعلىالمنابر، وملكوهاعليهم أياماً، فلم يتم ذلك، وتملك المعزالمذكور، فتزوج بها، وكانت ربما تحكم، وكانت تركية ذات شهامةوإقدام وجرأة، وآل أمرهاإلىأن قتلت تحت قلعةمصرمصلوبة، ثم دفنت بتربتها.
وفيهاتوفي العلامة القدوة نجم الدين أبوعبد الله محمدبن عبد الله بن، محمدبن أبي الشافعي الفرضي سمع من جماعةوبرع في المذهب ودرس بالنظامية، ثم ترسل عن الخلافة غيرمرة، وبنىبدمشق مدرسة كبيرةوولىفي آخرعمره قضاء العراق خمسة عشر يوماً، ثم مات، وكان متواضعًادمث الأخلاق سريًامحتشمًا.
وفيهاتوفي الإمام العلامةشرف الدين أبوعبد الله محمدبن أبي الفضل السلمي الأندلسي المحدث المفسر النحوي، رحل إلى أقصى خراسان،. وسمع الكثير، ورأى الكبار، وكان جماعةلفنون العلم ذكياًثاقب الذهن صاحب تصانيف كثيرةمع زهد وورع وفقر وتعفف
سنةست وخمسين وست مائة
فيها دخلت التتار بغداد، ووضعواالسيف، واستمرالقتل والسبي نيفًاوثلاثين يومًا
فقل من نجا، فيقال: إن في القتلىبلغواألف ألف وثمان مائةوكسراً، وسبب دخولهم أن الملك المؤيد ابن العلقمي كاتبهم وحرضهم على قصدبغدادلأجل ما جرى علىاخوانه الرافضةمن النهب والخزي، وظن النفيس أن الأمروأنه يبقى خليفةعلويًا، وكان(4/105)
يكاتبهم سرآ، ولا يسهل لهم الأمر، ولا يدع المكاتبات تصل إلى الخليفة ممن يرفع إليه الأعلام، فخاف فأشار الوزير ابن العلقمي على المعتصم بالله أني أخرج إليهم في تقرير الصلح، فخرج الخبيث، وتوثق لنفسه بالأمان، ورجع، فقال للخليفة: إن الملك قد رغب في أن يزوج ابنته بابنك الأمير أبي بكر، وأن يكون الطاعة له كما كان أجدادك مع الملوك السلجوقية، ثم ترحل، فخرج إليه المعتصم في أعيان الدولة، ثم استدعى الوزير العلماء والرؤساء ليحضروا العقد بزعمه وكيده، فخرجوا، فضربت رقاب الجميع، وصار كذلك يخرج طائفة بعد طائفة، فتضرب أعناقهم حتى بقيت الرعية بلا راع، وقتل من أهل الدولة وغيرهم ما قتل من العدد المذكور.
وفيها توفي أبو الفضل زهير بن محمدالمهلبي الكاتب، كان من فضلاء عصره، وأحسنهم نظمًا ونثراًوخطًا، ومن أكثرهم مروءة، وكان قد اتصل بخدمة السلطان الملك الصالح ابن أيوب ابن الملك الكامل في خدمته إلى البلاد الشرقية، وأقام بها إلى ملك الملوك الصالح دمشق، فانتقل إليها في خدمته. قال ابن خلكان: وكنت أسمع به، حتى اجتمعت به قرابته فوق ما سمعت عنه من مكارم الأخلاق وكثرة الرياضة ودماثة السجايا، وكان الاجتماع في القاهرة لما رجع الملك الصالح إلى الديار المصرية، وكان لا يتوسط عنده إلاًبخير، فنفع خلقًاكثيرًابحسن وساطته، وجميل سفارته. وله شعر.
قال ابن خلكان: وكل شعره لطيف، وذكر شيئًامنه في تاريخه، ولكن للاختصار والتخفيف لم أكتب شيئًامنه، ولا أعجبني ولا قوي عزمي الضعيف.
وفيها توفي أبو العباس القرطبي أحمد بن عمر الأنصاري المالكي المحدث نزيل اسكندرية، كان من كبار الأئمة، سمع بالعرب من جماعة، واختصر للصحيحين وصنف كتاب المفهم في شرح مختصرصحيح مسلم.
وفيها توفي الحافظ أبو علي الحسن بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد ببغداد هذا الاسم الشريف خمس مرات ابن عمروك التيمي البكري النيسابوري، ثم الدمشقي الصوفي، سمع بمكة، ودمشق، وخراسان، وأصفهان، وكتب الكثير، وجمع، وصنف، وشرع في مسودة ذيل على تاريخ ابن عساكر، وولي مشيخة الشيوخ، وحسبة دمشق، وعظم شأنه في دولة المعظم، ثم تضعضع شأنه وابتلى بالفالج في آخر عمره، ثم تحول إلى مصر، فتوفي بها.
وفيها توفي الشرف الإربل العلامة الحسين بن إبراهيم الهمداني الشافعي اللغوي سمع(4/106)
من طائفة، وحفظ خطب ابن نباتة، وديوان المتنبي ومقامات الحريري.
وفيها توفي الملك الناصر داود ابن المعظم ابن العادل صاحب الكرك صلاح الدين، أجاز له المؤيد الطوسي، وسمع ببغداد، وكان حنفيًا فاضلاً مناظرًا ذكيًا بصيرًا بالأدب بديع النظم ملك دمشق بعد أبيه، ثم أخذها منه عمه الأشرف فتحول إلى مدينة الكرك، فملكهااحدى وعشرين سنة، ثم عمل عليه ابنه وسلمها إلى صاحب مصر الملك الصالح، وزالت مملكته، وكان جوادًا ممدحًا.
وفيها توفي المعتصم بالله عبد الملك بن المستنصر بالله العباسي أخو الخلفاء، العراقيين، وكانت دولتهم خمس مائة سنة، وأربعًاوعشرين سنة، وكان حليمًاكريمًاسليم الباطن، قليل الرأي، حسن الديانة، مبغضًاللبدعة، سمع وأجيز له، ثم رزق الشهادة في دخول التتار بغداد على ما تقدم. لما ظفر به ملكهم أمر به وبولده أبي بكر، فرفساحتىماتا، وبقي الوقت بلا خليفة ثلاث سنين.
وفيها توفي الحافظ الكبير زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المنذري الشامي ثم المصري الشافعي صاحب التصانيف، وله معجم كبير مروي، ولي مشيخة الكامليةمدة، وانقطع بها مدة نحوًامن عشرين سنة مكبًاعلى العلم والإفادة، وكان ثبتًاحجة، متبرعاًمتبحرًا في فنون الحديث، عارفًابالفقه والنحو مع الزهد والورع والصفات الحميدة.
وفيها توفي الشيخ الكبير العارف بالله الخبير الفقيه الإمام، علم العلماء بالله الأعلام معدن الأسرار وبحر العلوم الجمةالمودع درر المعارف. وجواهر الحكمة الممنوع رفيع المقامات والأحوال السنية، المشهور بعظيم الكرامات والمناقب العلية. المعترف له بكثر العلوم. المشهود له بالقطبية جامع الفضائل والمفاخر والمحاسن، وعلوم الشريعة والحقيقة الظواهر والبواطن، الني نافت علومه على مائة علم وعشرة، ولم يدخل في الطريقة حتىكان بعد للمناظرة الناشر على الكون جلة كمال محاسن الطريقة، والناثر على الوجود يواقيت معارف أسرار الحقيقة المشرقات شموس معارفه غياهب الظلم الناطق لسان حاله بالعبر ولسان مقاله بالحكم. صاحب الفتح الجليل، والمنهج الجزيل والمنصب العالي، أستاذالعارفين، ودليل السالكين أبو الحسن الشاذلي علي بن عبد الله بن عبد الجبار الشريف الحسيب النسيب الحسني قئس الله تعالى روحه، وسقي بماء الرحمة ضريحه، وما نسبة القطرة من ماء البحر الزاخر، عند تعدادماجرىمن الفضائل والمفاخر.(4/107)
وقال الشيخ الامام العارف بالله تاج الدين بن عطاء الله: قيل للشيخ أبي الحسن من هو شيخك يا سيدي؟ في. فقال: كنت أنتسب إلىالشيخ عبد السلام بن مشيش. بالشين المعجمة المكررة وبينهمامثناةمن تحت، وفتح الميم في أوله، ثم قال: وأناالآن لاأنتسب لأحد بل أعوم في عشرة أبحر. خمسة من الأدميين النبي صلىالله عليه وآله وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وخمسة من الروحانيين جبرائيل وميكايل، وعزرائيل، وإسرافيل، والروح وقال تلميذه الشيخ الكبيرإمام العارفين، ودليل السالكين مظهر الأنوار ومقرالأسرار السامي إلىالجناب القدوسي عالي المقامات، وعالي الكرامات أبو العباس المرسي رضي الله تعالى عنه: جلت في ملكوت الله، فرأيت أبا مدين متعلقًا بساق العرش، وهورجل أشقر أزرق العينين، فقلت له: ما علومك ومامقامك؟ فقال: أماعلومي، فأحد وسبعون علمًا، وأما مقامي، فرابع الخلفاء، ورأس السبعة الأبدال قلت: فماتقول في شيخي أبي الحسن الشاذلي. فقال: زاد علي بأربعين علمًا، وهو الذي لايحاط به.
ؤقال الشيخ أبو الحسن المذكور: رأيت رسول الله صلىالله عليه وآله وسلم، وهو يقول: " يا علي طهر ثيابك من الدنس تحظ بمددالله في كل نفس " قلت: يارسول الله، وما ثيابي؟ فقال: اعلم أن الله تعالىقدخلع عليك خمس خلع، خلعة المحبة، وخلعة المعرفة وخلعة التوحيد، وخلغة الإيمان، وخلعة الإسلام، ومن أحب الله هان، عليه كل شيء، ومن عرف الله صغر في عينه كل شيء، ومن وحد الله لم يشرك به شيئاً، ومن آمن بالله آمن من كل شيء، ومن أسلم لله لم يعصه، وإن عصاه اعتذرإليه، وإن اعتذرإليه قبل عذره، ففهمت عند ذلك معنى. قوله عز وجل: وثيابك فطهر. انتهىكل هذا مما رواه الشيخ تاج الدين بن عطاءالله المذكورفي مناقبه.
وذكره الشيخ المشكورالعارف الشهورصفي الدين بن أبي منصورفي رسالته، وأثنى عليه الثناء العظيم، وذكره الشيخ الإمام السيد الجليل شيخ الحديث في زمانه قطب الدين ابن الشيخ الإمام العارف بالله أبي العباس. القشطلاني في مشيخته.
وذكره الشيخ الإمام الكبير الشأن أبوعبد الله النعمان، وشهد له بالقطبية.
وقال الشيخ تاج الدين بن عطاء الله المذكور: أخبرني الشيخ العارف مكين الدين الأسمر، قال: حضرت. المنصورة في خيمةفيهاالشيخ الإمام مفتي الأنام عز الدين بن عبد السلام، والشيخ مجدد الدين علي بن وهب القشيري المدرس، والشيخ. محيي الدين بن سراقة، والشيخ مجد الدين الأخميمي، والشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنهم أجمعين، ورسالة القشيري تقرأ عليهم، وهم يتكلمون، والشيخ أبوالحسن صامت إلى، أن(4/108)
فرغ كلامهم، فقالوا: يا سيدي نريدأن نسمع منك، فقال: أنتم سادات الوقت وكبراؤه، وقد تكلمتم، فقالوا: لا بد أن نسمع منك. قال: فسكت الشيخ ساعة، ثم تكلم بالأسرار العجيبة، والعلوم الجليلة، فقال الشيخ عز الدين وقد خرج من صدر الخيمة، وفارق موضعه: اسمعوا هذا الكلام الغريب القريب العهد من الله تعالى. انتهى.
قلت: اسمع أنت أيها الواقف على هذا الكتاب كلام هذا الإمام الهمام علم العلماء الأعلام، العارف بالله رفيع المقام عز الدين بن عبد السلام وكلام السادة المذكورين الأولياء المشكورين، والعلماء المشهورين في تعظيمهم الشيخ أبا الحسن، ومدحهم له، وثنائهم عليه، واشاراتهم إليه، وكلام الحشوية في إنكارهم عليه وطعنهم فيه.
وقول بعض أهل الشام في تاريخه: الشيخ أبو الحسن الشاذلي علي بن عبد الله بن عبد الجبار المغربي الزاهد، شيخ الطائفة الشاذلية، سكن الاسكندرية، وصحبه بها جماعة، وله عبارات في التصوف مشكلة يوهم ويتكلف له في الاعتذار عنها فهل ترجمته هذه مدح له؟ كلا، بل هي في الحقيقة قدح فيه، وغض من جميل صفاته، وخفض لعلومنزلته، ورفيع درجاته، وانتقاص لعظم شرف جلالة قدره، وانزال ما على الثريا من علا معالي فخره في تخوم ثرى أرض سماء عليا فضله. كم هي عادته في وضع أوصاف الأكابر مثله في الشيوخ الصوفية العارفين بالله أولى النور الزاهر؟ واجلال العلماء الأعلام من الأئمة الأشعرية المحققين أهل الحق الظاهر، ورفع أوصاف الأئمة الحشوية الحامدين على الظواهر، ولا يصح الاعتذار عنه يكون كتابه الذي ذكر في ترجمة الشيخ المذكور مختصر الوجهين. أحدهما أنه قد أطنب فيه بمدح كثيرين، ورفع أوصافهم ممن ذكرت والثاني أنه يمكن مع اختصار الكلام التفخيم في الوصف بذكر بعض المناقب العظام ألا ترى إلى وصفه الشيخ المذكور بقوله: الزاهد وكذلك يفعل في غيره من أكابر الصديقين والمقربين والأئمة الهداة العارفين ينابيع الأسرار ومطالع الأنوار كسيدي أحمد بن الرفاعي وغيره من أئمة العارفين السادة يقتصر في مدح الواحد منهم على الزهد الذي هو مبادىء سلوك أهل الإرادة فهلا أبدل لفظ الزاهد بالعارف، أو الإمام، أو المرشد، أو المربي، أو الرباني أو المقرب، أو الصفوة وما أشبه ذلك، وما المانع من زيادة ألفاظ يسيرة؟ مثل الشيخ العارف بحر المعارف، أو إمام الطريقة ولسان الحقيقة وأستاذالأكابر الجامع بين علمي الباطن والظاهر، أو نحو ذلك من الألفاظ اليسيرة المتضمنة لقطرة من بحر فضائلهم الشهيرة.
وكذلك قوله في عباراته: إنها توهم وإنه يتكلف له في الاعتذار عنها أين قوله هذا من قول الإمام المتفق على الإجلال له، والاعظام وجلالة مناقبه العظام عز الدين بن عبد السلام المتقدم ذكره لما تكلم الشيخ أبو الحسن، وكشف الخمار عن محاسن المعارف والأسرار؟(4/109)
وكذلك أين قوله المذكور، وترجمته المذكورة عنه من قول الشيخ العارف الفقيه الإمام المشكور المشهور صاحب السر المودع، والفتح والمعارف والنوراني سليمان داود الاسكندراني تلميذ الشيخ الكبيرالإمام الشهير العارف بالله الخبير تاج الدين بن عطاء الله المتقدم ذكره في ترجمته عنه؟ حيث قال في ذكر بعض أوصافه: هو السيد الأجل، الكبير القطب، العارف الوارث، المحقق الرباني، صاحب الاشارات العلية، والعبارات السنية، والحقائق القدسية، والأنوار المحمدية والأسرار الربانيه، والهمم العرشية، والمنازلات الحقيقية. الحامل في زمانه لواء العارفين، والمقيم فيه دولة علوم المحققين كهف قلوب السالكين، وقبلة همم المريدين، وزمزم أسرار الواصلين، وجلاء قلوب الغافلين، منشىء معالم الطريقة بعد خفاء اثارها، ومبدىء علوم الحقيقة بعد خبوء أنوارها، ومظهرعوارف المعارف بعد خفائها واستتارها الدال على الله تعالى، وعلى سبيل جنته والداعي علىعلم وبصيرة إلى جنابه وحضرته. أوحد أهل زمانه علماً وحالاً ومعرفةً ومقالاً، الشريف الحبيب النسيب المحمدي العلوي الحسني الفاطمي الصحيح النسبين، والكريم الطرفين، فحل الفحول، إمام السالكين علي الشاذلي الذي يغنيك سمعته عن مديح ممتدح، أو قول منتحل جاء في طريق الله بالأسلوب العجيب، والمنهج الغريب، والمسلك العزيز القريب. قلت: هذا بعض وصفه الذي ذكرت فيه شيئًامن أوصافه اقتصرت عليه رغبة في الاختصار، وفي بعضه كفايةذوي الاستبصار.
ومن كلامه رضي الله تعالى عنه قوله: إذا جالست العلماءفجالسهم بالعلوم المنقولات، والروايات الصحيحة. إماأن تفيدهم، أو تستفيد منهم، وذلك غاية الريح معهم، وإذا جالست العباد والزهاد، فاجلس معهم على بساط الزهد والعبادة، وحل لهم ما استمرروه، وسهل عليهم ما استوعروه، وذوقهم من المعرفة ما لم يذوقوه. وإذا جالست الصديقين، ففارق ما تعلم ولا تنتسب بما تعلم تظفر بالعلم المكنون، وبصائر أجرهاغيرممنون.
وقوله: والمحبة أخذة من الله لقلب عبده عن كل شيء سواه، فترى النفس مائلة إلى طاعته، والعقل متحصناًبمعرفته، والروح مأخوذًا في حضرته،. والسرمعمورًافي مشاهدته والعبد يستزيد فيزاد ويفاتح بما هو أعذب من لذيذ مناجاته، فيكسي حلل التقريب على بساط القربة، ويمس أبكار الحقائق وثيبات العلوم، فمن أجل ذلك قالوا: أولياء الله عرائس، ولا يرى العرائس المجرمون.
وقال: له قائل: قد علمت الحب، فما شراب الحب؟ وما كأس الحب؟ ومن الساقي؟ وما الذوق؟ وما الشرب؟ وما الري وما السكر وما الصحو؟ قال رضي الله تعالى عنه:(4/110)
الشراب هو النور الساطع عن جمال المحبوب، والكأس هو اللطف الموصل ذلك إلى أفواه القلوب، والساقي هو المتولي الخصوص الأكبر والصالحين من عباده، وهو الله العالم بالمقادير ومصالح أحبائه، فمن كشف له عن ذلك الجمال وحظي بشيء منه نفسًاأونفسين. ثم أرخى عليه الحجاب، فهو الذائق المشتاق ومن دام له ذلك ساعة أو ساعتين، فهو الشارب حقًا، ومن توالى عليه الأمر ودام له الشرب حتى امتلأت عروقه ومفاصله من أنوار الله المخزونة، فذلك هو الري، وربماغاب عن المحسوس والمعقول، فلايدري ما يقال ولا ما يقول فذلك هو السكر، وقد يدور عليهم الكاسات، وتختلف لديهم الحالات، ويرعون إلى الذكر والطاعات، ولا يحجبون عن الصفات، مع تزاحم المقدورات، فذلك وقت صحوهم، واتساع نظرهم ومزيد علمهم، فهو نجوم العلم، وقمر التوحيد يهتدون في ليلهم، وبشموس المعارف يستضيئون في نهارهم،) أولئك حزب الله ألاإن حزب الله هم المفلحون (وله من الكرامات من المكاشفات وغيرها ما لا يحتمل ذكره هذا الكتاب من ذلك ما ذكره تلميذ الشيخ أبو العباس المرسي المتقدم ذكره، قال: خرجت من المدينة الشريفة لزيارة قبر عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حمزة رضي الله عنه، فلما كنت في أثناء الطريق تبعني إنسان، فلما وصلنا لقينا باب القبة مغلقًا، ثم انفتح لنا ببركة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فدخلنا فلقينا عنده رجل يدعو، فقلت لرفيقي، هذا من الإبدال، والدعاء في هذه الساعة مستجاب، فدعا إلى الله تعالى أن يرزقه ديناراً وسألت الله أن يعافيني من بلاء الدنيا وعذاب الآخرة، فلما رجعنا وقربنا بالمدينة لقينا إنسانًا، فأعطى رفيقي ديناراً، فلما دخلنا المدينة. وقع نظر الشيخ أبي الحسن علينا، فقال لرفيقي: يا خسيس الهمة صادفت ساعة اجابة، ثم صرفتها إلى دينار هلا كنت مثل أبي العباس سأل الله تعالى أن يعافيه من بلاء الدنيا وعذاب الآخرة وقد فعل له ذلك؟ قلت: هذا معنى ما روي عنه، وإن لم تكن جميع ألفاظها بعينها.
ومن ذلك ما اشتهر أنه لما دفن بحميراًعذب ماؤها بعد أن كان ملحًا، وهي صحراء عيذاب، وتوفي فيها متوجهاًإلى بيت الله الحرام، وقبره هناك مشهور مزور على ممر الأيام، والشيخ أبو الحسن الشاذلي المذكور مبدأ ظهوره بشاذلة على القرب من تونس.
قال الشيخ تاج الدين بن عطاء الله: لم يدخل في طريق القوم، حتى كان يعد للمناظرة، وكان متضلعاً بالعلوم الظاهرة، جامعاً لفنونها عن تفسير وحديث ونحو وأصول وآداب، وكانت له السياحات الكثيرة، ثم جامحه بعد ذلك العطاء الكثير والفضل الغريز، واعترف بعلو منزلته من عاصره من أكابر العلماء والأولياء العارفين بالله تعالى، وهذا ما(4/111)
اقتصرت عليه من ترجمته.
وفي السنة المذكورة توفي الشيخ الجليل صاحب الأحوال والكرامات الشيخ علي المعروف بالخباز أحد مشايخ العراق قتل شهيداً.
وفيها توفي المقرىء العلامةمحمدبن أحمد الموصلي الحنبلي الذي اختصر الشاطبية، كان شابًا فاضلاً صالحًا محققًا، توفي بالموصل وعمره ثلاث وثلاثون سنة.
وفيها توفي الإمام أبوعبد الله محمدبن الحسن المغربي المقرىء صنف شرح شاطبية
قرأ على رجلين قرأ على الشاطبي، وكان فقيهًابارعاً عارفًا متفننًا متين الديانة جليل القدر تصدرللإقراء بحلب مدة.
وفيها توفي الوزيرالرافضي ابن العلقمي المتقدم ذكره محمد بن محمدالملقب مؤيد الدين، ولي وزارة العراق أربع عشرة سنة، وكان ذا حقد وغل على أهل السنة، قرر مع التتاز أمورًا كانت سبب دخولهم بغداد، ثم انعكس حاله وأكل يده ندمًا، وبقي بعد تلك الرتبة الرفيعة في حالة وضيعة، وصاحت امرأة به وهو ماريا ابن العلقمي أهكذا كنت في أيام أمير المؤمنين. وولي مع غيره وزارة التتار على بغداد بطريق الشركة، ئم مرض بعد قليل، ومات غمأ وتعبًا.
وفيها توفي الشيخ الصالح القدوة أبو زكريا يحيى بن يوسف الصرصري، الأصل البغدادي الضرير، وكان إليه المنتهى في معرفة اللغة وحسن الشعر، وديوانه مشهورومدائحه سائرة قيل، إنه قتل بعض التتار بعكازة، ثم استشهد.
وفيها توفي سفير الخلافة محيىالدين يوسف ابن الشيخ أبي الفرج عبد الرحمن المعروف بابن الجوزي، كان أستاذ دار المعتصم، كثير المحافظة، قوي المشاركة في العلوم، وافر الحشمة ضربت عنقه هو وأولاوده.
سنة سبع وخمسين وست مائة
فيها قبض غلمان المعز على ابن أستاذه الملك المنصور، وتسلطن ولقب بالملك المظفر لحاجة الوقت إلى ملك كاف.
وفيها توفي المحدث المعمر أبو العتاس أحمد بن محمد الفارسي نزيل القاهرة، وكان صالحاً عالمًاخيرًا، روى بالإجازة العامة عن أبي الوقت.(4/112)
وفيهاتوفي صاحب الموصل الملك الرحيم بدرالدين لؤلؤالأرمني مملوك نورالدين أرسلان شاه، كان مدير دولة أستاذه، ثم آل أمره إلى أن استقلىبالسلطنة، وكان حازما شجاعًا مدبرًا خبيرًا.
سنة ثمان وخمسين وست مائة
في ثاني صفرمنهانزل ملك التتارعلى حلب، فلم يصبح عليهم الصباح إلاوحفرواعليهم خندقاً عمق قامة، وعرض أربعة أذرع، وبنوا حائطًا ارتفاعه خمسة أذرع، ونصبواعشرين منجنيقاً، وألحوابالرمي، وشرعوافي نقب السور، وفي تاسع صفر ركبوا الأسوار، ووضعوا السيف يومهم، ومن الغد، فقتل أمم وأسرخلق، وبقي القتل والسسبي خمسة أيام، ثم نودي برفع السيف، وأذن مؤذن يوم الجمعةبالجامع، وأقيمت الجمعةبأناس، ثم حاطوا بالقلعة فحاصروها، ووصل الخبر يوم السبت إلى دمشق، فهرب أناس، ثم حملت مفاتيح الحماة إلى الطاغية المذكورة، واسمه هولا، وحاصرت التتار دمشق ورموا برج الطارمه بعشرين منجنيقًا، فتشقق، وطلب أهلها الأمان فلبوهم، وسكنهااليل كنيعًا، وتسلموابعلبك وقلعتها، وأخذوانابلس ونواحيهابالسيف، ثم ظفروا بالملك فأخذوه بالأمان، وصاروابه إلى ملكهم فرعى له محبته وبقي في خدمته أشهراً، ثم قطع العزلة راجعاً، وترك بالشام فرقة من التتار، وتأهب المصريون وشرعوا في المسير، ثارت النصارىبدمشق، ورفعت رؤوسها، ورفعوا الصليب ومروابه، وألزموا الناس القيام له حوانيتهم ووصل جيش الإسلام للملك المظفر، فالتقىالجمعان علىعين جالوت غربي بيسان، ونصرالله دينه الظاهر على سائرالأديان، والحمدلله للطيف المنان، وقتل المصاف مقدم التتار كنيعًا، وطائفة من أمراء المغل، ووقع بدمشق النهب والقتل النصارى، وأحرقت كنيسةمريم، وذلك في أواخر رمضان، وعيدالمسلمون علىعظيم، فلمارجع الملك المظفر بعد شهر إلى مصر أضمر شرًا لبعض أهل الدولة وآل الأمرإلى أن رماه بهادرالمغربي بسهم قضى عليه بقرب قطبة، وتسلطن ركن الدين الملك الظاهر، وكان قد ساق وراءالتتار إلى حلب، وطمع في أخذ حلب، وقال: وقدوعده بهاملك المظفرفلمارجع أضمرله الشر، وخلف الأمراءبدمشق لنائبهاعلم الدين الحلبي(4/113)
ولقب الملك المجاهد، وخطب له بدمشق مع الملك الظاهر، وفي آخر السنة كرت التتار على حلب فأخذوها.
وفيها توفي قاضي القضاة صدرالدين أحمد بن يحيى بن هبة الله الدمشقي الثافعي، والملك المعظم ابن السلطان الكبير صلاح الدين، والملك السعيد حسن بن عبد العزيز، وعثمان ابن العادل صاحب صينيةوبانياس تملك بعد أخيه الملك الظاهر، فأخذ الصينية منه الملك الصالح، وأعطاه أمرة مصر، فلما قتل المعظم بن الصالح ساق إلى غزة، وأخذ ما فيها وأتى الصينية فتملكها، وكان بطلاً شجاعًا قاتل يوم عين جالوت، فلما انهزمت التتار جاء إليه الملك المظفر، فضرب عنقه، والملك المظفر سيف الدين قطر. بالقاف والطاء المهملة والزاي فالمربى، كان بطلاً شجاعًا دينًا مجا هدًا انكسرت التتارعلى يده، واستعاد منهم الشام، وكان أتابك الملك المنصور على ولد أستاذه، فلمارآه لا يغني شيئًاعزله، وقام في السلطنة.
وفيها توفي الشيخ الفقيه الإمام الحافظ محمد بن أحمد الجويني، لبس الخرقة من الشيخ عبد الله البطائحي، عن الشيخ عبد القادر، ورثاه الشيخ عبد الله الجويني، وكان عالمًا زاهدًا خاشعاً قانتًا، عظيم الهيبة، مليح الصورة، حسن السمت والوقار.
وفيها توفي الحافظ العلامة أبوعبد الله محمد بن عبد الله القضاعي الكاتب الأديب، أحد أئمة الحديث، قرأ القراءات، واطلع على الأثر، وبرع في البلاغة والنظم والنثر، وكان ذا جلالة ورياسة. قتله صاحب تونس ظلمًا.
وفيها توفي الملك الكامل ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر غازي ابن الملك العادل، كان عالماً فاضلاً شجاعًا عادلاً محسنًا إلى الرعية ذا عبادة وورع، لم يكن في بيته من يضاهيه حاصرته التتار عشرين شهرًاحتى فني أهل البلد بالوباء والقحط، ثم دخلواوأسروه، فضرب ملكهم عنقه، وطيف برأسه، ثم علق على باب الفراديس بعد أخذ حلب، ثم دفنه المسلمون بمسجد الرأس داخل الباب.
وفيها توفي ابن قوام الشيخ الكبير أبو بكر ابن قوام البالسي، كان زاهداًعابداً قدوة صاحب حال، وكشف وكرامات، وله رواية.
سنةتسع وخمسين وست مائة
في أولها اجتمع خلق من التتار، فأغاروا على حلب، ثم ساقوا إلى حمص لما بلغهم(4/114)
مصرع الملك المظفر، فصادفوا على حمص الأشرف صاحب حمص والمنصورصاحب حماة، وحسام الدين في ألف وأربع مائة والتتار في ستة آلاف، فالتقوهم، وحمل المسلمون حملة صادقة، وكان النصر والحمد لله، ووضعوا السيف في الكفار قتلاًحتىأبادوا أكثرهم وهرب مقدمهم بأسوأ حال، ولم يقتل من المسلمين سوى رجل واحد، ودخل علم الدين الحلبي الملقب بالملك المجاهد قلعة دمشق، فنازله عسكر مصر، فبرز إليهم وقاتلهم، ثم رد فلما كان في الليل هرب، وقصد قلعة بعلبك، فقضى بها فقبض عليه علاء الدين الوزيري، وقيده، ثم حبسه الملك الظاهر مدة طويلة.
وفي رجب منها بويع بمصر المستنصر بالله أحمد بن الظاهرمحمد بن الناصرلدين العباسي الأسود، وفوض الأمور إلى الملك الظاهر، ثم قدما دمشق، فعزل عن القضاءنجم الدين بن سني الدولة، وولي مكانه الإمام العلامة أبو العباس ابن خلكان، ثم سار المستنصر ليأخذ بغداد ويقيم بها، فوقعت بينه وبين التتار الذين في العراق مصاف، فعدم المستنصر في الوقعة.
وفيها توفي الإمام القدوة الحافظ العارف سيف الدين أبو المعالي سعيد بن المظفرالباخرزي صاحب الشيخ نجم الدين الكبري، وكان إمامًافي السنةرأسًافي التصوف. وفيها توفي الملك الظاهر غازي شقيق السلطان الملك الناصر، يوسف وأمهما تركية كان شجاعاًجوادًا، قتل مع أخيه بين يدي الطاغية الكافر ملك التتار.
وفيها توفي ابن سيدالناس الخطيب الحافظ محمدبن أحمد الإشبيلي، وعني بالحديث، فأكثر وحصل الأصول النفيسة، وختم به معرفة الحديث بالمغرب. توفي بتونس في رجب.
وفيهاتوفي الملك الناصرصلاح الدين يوسف بن العزيز بن الظاهرابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين ابن أيوب سلطنوه بعد أبيه، وهو ابن سبع سنين، ودبر المملكةشمس الدين لؤلؤ، والأمر كله راجع إلى جدته الصاحبة صفية ابنة العادل أخت الملك الكامل لأجل هذا سكت عنها، فلما ماتت استقل واشتغل عنه بعمه الملك الصالح، وعمره إذ ذاك نحو أربع عشرة سنة، ثم أخذ عسكره له حمص، ثم سارهو، وتملك دمشق، ودخل بابنةالسلطان علاء الدين صاحب الروم، وكان حكيمًا جوادًا موطأ الأكناف، حسن الأخلاق فيه بعض عدل مع ملابسة الفواحش على ما قيل، وكان للشعراء دولة في أيامه لأنه كان يقول(4/115)
بالشعر، ويجيزعليه، ثم عمل عليه حتى وقع في قبضة التتار، وذهبوابه إلى ملكهم هولا فأكره، فلمابلغه كسرجيشه علىعين جالوت غضب، وتنمروأمربقتله فتذلل له، فأمسك عن قتله، فلما بلغه كسر جيشه مرة أخرى استشاط عدو الله، وأمر بقتله، وقتل أخيه الظاهر، وكان شابًا حسن الشكل، مليح الخلق.
سنة ستين وست مائة
فيها أخذت التتار الموصل بخديعة بعد حصار أشهر، وضعوا السيف في المسلمين تسعة أيام، وأسرواصاحبها الملك الصالح إسماعيل، ثم قتلو، بعد أيام، وقتلوا ولده علاء الملك.
وفيها عدم المستنصر بالله أحمد بن الظاهر بأمر الله العباسي الأسودقدم مصر، وعقدوا له مجلس فائد يؤانسه، ثم بدأ الملك الظاهر بمبايعته، ثم الأعيان على مراتبهم، فلقب بلقب أخيه صاحب بغداد، ثم صلىبالناس يوم الجمعة، وخطب، ثم ألبسه السلطان خلعةبيده وطوقه، وأمر له بكتابة تقليد الأمر، وركب السلطان بتلك الخلعة، وزينت القاهرة، وهو الثامن والثلاثون من خلفاء بني العباس، وكان جسيمًاشجاعًاعالي الهمة، ورتب له السلطان أتابك أستاذ داروحاجب، وكاتب انشاء، وجعل له خزانةومائه فرس، وثلاثين بغلاً، وستين جملاً، وعدة مماليك فلما قدم دمشق وسار إلى العراق استماله الحاكم بأمر الله العباسي، أنزله معه في دهليزه، ثم دخل المستنصرهيت، ثم التقى المسلمون التتار، فانهزم التركمان والعرب، وأحاطت التتار بعسكر المستنصر، فحرقواوساقوا، فنجا طائفةمنهم الحاكم، وقتل المستنصر، وقيل: عدم ولم يعلم ما جرى له، وقيل: قتل ثلاثة من التتار، ثم تكاثروا عليه، واستشهدوا رحمه الله تعالى.
وفيهاتوفي الشيخ الفقيه العلامةالإمام المفتي المدرس القاضي الخطيب سلطان العلماء، وفحل النجباء المقدم في عصره على سائر الأقران، بحر العلوم والمعارف والمعظم في البلدان، ذو التحقيق والاتقان والعرفان والإيقان. المشهود له بمصاحبة العلم والصلاح الجلالة والوجاهة والاحترام الذي أرسل النبي صلىالله عليه وآله وسلم إليه مع الولي الشاذلي بالسلام، مفتي الأنام وشيخ الإسلام، عز الدين عبد العزيزبن عبد السلام أبي القاسم السلمي الدمشقي الشافعي قال أهل الطبقات: سمع من عبد اللطيف بن أبي سعد، والقاسم ابن عساكر وجماعة، وتفقه على الإمام العلامة فخر الدين ابن عساكر، وبرع في،(4/116)
الفقه والأصول والعربية، ودرس وأفتىوصنف المصنفات المفيدة، وأفتىالفتاوى السديدة، وجمع من فنون العلم العجب العجاب من التفسير والحديث، والفقه، والعربية، والأصول، واختلاف المذاهب والعلماء، وأقوال الناس ومأخذهم، حتى قيل: بلغ رتبة الاجتهاد، ورحل إليه الطلبة من سائر البلاد، وعنه أخذ الشيخ الإمام شرف الدين الدمياطي، والقاضي الإمام المفيد تقي الدين بن دقيق العيد وخلق كثير، وبلغ رتبة الاجتهاد، وانتهت إليه معرفةالمذهب مع الزهدوالورع، وقمعة للضلالات والبدع، وقيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك مما عنه اشتهر، قالوا: وكان مع صلابته في الدين، وشدته فيه حسن المحاضرة بالنوادر والأشعار يحضر السماع ويرقص.
قلت: وهذا مما شاع عنه، وكثرشهوده، وبلغ في الاستفاضة والشهرة مبلغاً لايمكن جحوده، وذلك من أقوى الحجج على من ينكر ذلك من الفقهاء على أهل السماع من الفقراء والمشائخ أهل المقامات الرفاع أعني صدور وذلك عن مثل الإمام الكبير الذي سبق أئمة زمانه بدمشق. بل سبق كثيرًامن السابقين المتقدمين على أوانه وأرى نسبة فعله هذامع انكار الفقهاء غالبًا في سائر البلاد كنسبة ذهاب الإمام الكبير المحدث الحافظ أبي القاسم ابن العساكرإلى مذهب الأشعرية في الاعتقاد مع مخالفة طائفة من المحدثين اعتقدوا علىالظواهر، وحادواعن منهج الحق الباهج الظاهر، فكل واحد منهما مع غزير علمه وجلالته وتقدمه على. أقرانه في فنه وإمامته حجة على المشارإليهم من أهل ذلك الفن المخالفين من خلائق منهم لا يحصون على ذلك موافقين من الأئمة الكبار السابقين واللاحقين، كالفقيه الإمام الجليل المحدث أبي الفضل عياض بن موسى اليحصبي، والفقيه الإمام الجليل المحدث محيي الدين النواوي، والفقيه الإمام الجليل المحدث أبي العباس أحمد بن أبي الخير اليمني وغيرهم من المحدثين أولى المناقب الحميدة الموافقين في العقيدة، وكالفقيه الإمام الكبير المتفنن الأستاذ أبي سهل الصعلوكي، والفقيه الإمام السعيد السيد الشهيرالعارف بالله: الخبير الأستاذ أبي القاسم الجنيد، والفقيه الإمام المشكور العارف بالله المشهورمحمدبن حسين البجلي اليمني وغيرهم من الفقهاء أولى النفع والانتفاع الواجدين الداخلين في السماع، ولكن ذلك بشروط عند علماءالباطن ذكرتها في كتاب الموسوم بنشر المحاسن مع موافقتهم أيضاًفي العقيدة المذكورة الصحيحة المشهورة.
قلت: وكان عز الدين المذكوررضي الله تعالى عنه، يصدع بالحق، ويعمل به متشدداً في الدين لاتأخذه في الله لومة لائم، ولايخاف سطوة ملك ولا سلطان، بل يعمل بماأمرالله ورسوله، وما يقتضيه الشرع المطهر، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر كأنه رضي الله تعالىعنه جبل إيمان. يصادم السلطان، كائنًاماكان، بمشافهة الإنكار، تحت عظام(4/117)
الأخطار، فقيل له: في ذلك في وقت فقال: استحضرت عظمة الله، وكان السلطان في عيني أصغرأوقال: أحقرمن كذاوكذاوأنكر رضي الله تعالى عنه صلاة الرغائب، والنصف من شعبان.
قلت: وقع بينه وبين شيخ دارالحديث الإمام أبي عمرو بن الصلاح رحمه الله في ذلك منازعات ومحاربات شديدات، وصنف كل واحد منهما في الرد على الآخر، واستصوب المتشرعون المحققون مذهب الإمام ابن عبد السلام في ذلك، وشهدوا له بالبروز بالحق الصواب في تلك الحروب والضراب، وكأن ظهور ثوابه في ذلك جديرًابماأنشده في عقيدته في الاستشهاد على ظهور الحق:
لقدظهرت فلاتخفىعلى أحد ... إلاعلىأكمه لايعرف القمر
إذ لم يرو في ذلك عن جهة السنة ما يقتضي فعل ذلك، وإن كان قد ظهر لهما شعار في الأمصار، وصلاهماالعلماء الأحبار والأولياء الأخيار، وأدركت ذلك في الحرمين الشريفين حتى تكرر الإنكار في ذلك، واشتهر بين الناس مقال الإمام المؤيد الموفق للذب عن السنة، وتحرير الصواب، الحبر المحدث الخاشع الأواب محيي الدين النواوي رحمة الله عليه في صلاة الرغائب قاتل الله واضعهمامع أنهما إلى هذا الزمن يصليهما أهل اليمن، لعمري إنهما لو فعلا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لاستفاض ذلك، اشتهر كما اشتهر ما هو أخفى من ذلك في الخبر، وإذ لم يرد فعل ذلك، وما تضمنه من شعار كان ذلك بدعة ينبغي فيها الإنكار، وليس الحسن الظن مدخل في احداث شعار لم يكن في الإسلام مع قوله عليه أفضل الصلاة والسلام: " من حدث في أمرنا هنا ما ليس منه، فهورد " وقوله: " كل محدث بدعة، وكل بدعة ضلالة نعم لو صلاهما إنسان وحده مع اعتقاه أنهما ليستا بسنة لم أربذلك بأساً " والله أعلم.
وأما ما احتج به بعض الناس من قوله تعالى: " أرأيت الني ينهى عبدًا إذا صلى " سورة العلق:، فهو احتجاج باطل فإن الآية الكريمة نزلت في قضية أبي جهل، ونهيه للنبي عليه السلام، عن الصلاة ومنعه له بزعمه منها، فمنعه الله عن ذلك المرام بما أراه مايهول من الآيات العظام.
ولما سلم الملك الصالح إسماعيل ابن الملك العادل صفدقلعة في بلاد الشام. ساء ذلك المسلمين، ونال منه الشيخ الإمام عزالدين على المنبر، ولم يدع له في الخطبة(4/118)
وكان خطيبًا بدمشق، فغضب الملك المذكور، وعزله وسجنه، ثم أطلقه، فتوجه إلى الديار المصرية هو والإمام ذوالفهم الثاقب المعروف بابن الحاجب، بعد أن كان معه في الحبس، فتلقاه الملك الصالح نجم الدين أيوب صاحب مصر، وأكرمه وأجله واحترمه، وفوض إليه قضاء مصر، وخطابة الجامع، فقام بذلك أتم قيام، وتمكن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى اتفق أن بعض الأمراء بنىمكانًا على سطح مسجد، فأنكر ذلك، وقيل: هدمه، ثم علم أن ذلك شق على الوزير، فحكم بفسق الوزير وعزل نفسه عن القضاء، فلما بلغ ذلك حاشية الملك شق عليهم، وأشاروا على الملك أن يعزله من الخطابة لئلا يتعرض لسب الملك على المنبر، فعزله، فلزم بيته يشغل الناس ويدرس.
وذكروا أنه لما مرض مرض الموت بعث إليه الملك الظاهر يقول من أولادك يصلح لوظائفك؟ فأرسل إليه، ليس فيهم من يصلح لشيء منها، فأعجب ذلك السلطان منه، ولما مات حضر جنازته بنفسه، والعالم من الخاص والعام.
ومن مصنفاته الجليلة كتاب التفسير الكبير، وكتاب القواعد الكبرى ومختصر النهاية، وكتاب العقيدة، وكتاب شجرة الأخلاق الرضية والأفعال المرضية، ومختصر الرعاية، وكتاب الإمام في أدلة الأحكام وغير ذلك، وكانت له مشاركة يقوم به أحسن قيام، وكانت له يد طولى في تعبير الرؤيا وغير ذلك. دخل بغداد في سنة تسع وتسعين وخمس مائة، واتفق يوم دخوله موت الإمام أبي الفرج ابن الجوزي، فأقام بها أشهراً، ثم عاد إلى دمشق، وولاه الملك الصالح ابن الملك العادل خطابة الجامع الأموي بعد ولايته التدريس بزاوية الغزالي، وهو من الذين قيل فيهم علمهم كثر من تصانيفهم لا من الذين عبارتهم دون درايتهم، ومرتبته في العلوم الظاهرة مع السابقين في الرعيل الأول، وأما في علوم المعارف، والعلم بالله وحضور هيبته، واستيلاء جلالته وعظمته على قلوب أهل ولايته، ومعرفته وغير ذلك مما هو معروف عند أهله.
وقد قسم الناس في المعرفة أقسامًاوعد نفسه رضي الله تعالى عنه من القسم الثالث بعد أن ذكر أن القسم الأول هم الذين تحضرهم المعارف من غير استحضار وتفكر واعتبار ولا تغيب عنهم في سائر الأحوال، والقسم الثاني هم الذين تحضرهم بغير استحضار أيضاً لكن تغيب عنهم في بعض الأحيان. والقسم الثالث هم الذين تحضرهم باستحضار من غيردوام واستمرار، ثم قال: كأمثالنا. هذا معنى كلامه في الأقسام المذكور وإن اختلفت العبارات في بعض الألفاظ. وقد ذكرت في غير هفا الكتاب قضية وقعت له مما يؤيد عظيم فضله وعلومحله وهو ما أخبرني به بعض أهل العلم أن الإمام عز الدين المذكور احتلم في ليلة بارعة فأتى إلى(4/119)
الماء، مؤجده جامداً، فكسره واغتسل، فغشي عليه فسمع يقال له: لأعوضنك بها عزالدنيا والآخرة، وكان مع هذه الجلالة التي حازها، والعلوم التي حواها ينظم الأشعار. السهلة.
قال الشيخ تاج الدين ابن المحب: أنشدني صديقنا سديد الدين أبو محمد الحسن بن الوليد الطبي الفقيه الشافعي قال: أنشدني قاضي القضاة عز الدين أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام لنفسه في قصيدةقوله:
أوجه وجهي نحوهم مستشفعًا ... إليهم بهم منهم إذاالخطب أعياني
فهم كاشفو ضري وكربي وشدتي ... وهم فارجوهمي وغمي وأحزاني
وهم واهبو الأبصار والسمع والنهي ... وهم عالمو سري وجهري وإعلاني
وإن مذنب يومًاأتىمتنضلاً ... ومعتذرًا حنواً عليه بغفران
وإن سائل يومًاأتاهم بفاقة ... ومسكنةجادوا، عليه باحسان
بروح رجائي فيك يبقى حشاشتي ... وخوف معادي منك قد هدأركاني
فأصبحت ما إن لي إليك وسيلة ... سوى فاقتي والذل مني وإذعاني
توفي رحمه الله تعالى بمصر سنة ستين وست مائة، وشيعه، الملك الظاهر، وكان قد ولي قضاءالقضاة، وعزل نفسه رضي الله تعالى عنه، وعمره اثنتان وثمانون سنة.
وفيهاتوفي ابن العديم الصاحب العلامةالمعروف بكمال الدين عمربن أحمدالعقيلي الحلبي من بيت القضاء والحشمة. سمع بدمشق وبغدادوالقدس والنواحي، وأجاز له المؤيدوخلق، وكان قليل المثل عديم النظر فضلاً ونبلاً ورأيًا وحزمًا وذكاءً وبهاءً وكتابةً وبلاغةً، ودرس وأفتى، وصنف وجمع تاريخاًلحلب نحوثلاثين مجلدًا، وولي خمسةمن آبائه علىنسق القضاء، وقد ناب في سلطنة دمشق، وعمل من الناصروتوفي بمصر.
سنة احدى وستين وست مائة
عقد في أولها مجلس عظيم للبيعة. وجلس الحاكم بأمرالله أبوالعباس أحمدابن الأميرابن أبي علي حفيد المسترشد بالله العباسي، فأقبل عليه الملك الظاهرومديده إليه وبايعه بالخلافة، ثم بايعه الأعيان، وقلد حينئذ السلطنة للملك الظاهر.
فلما كان من الغدخطب للناس خطبة حسنةأولها: الحمد لله الذي أقام لآل العباس ركنًاوظهيرًا، ثم كتب بدعوته وإمامته إلى الأقطار، وبقي فى الخلاقةأربعين سنةوأشهرًا. وفيها خرج الظاهرإلىالشام، وتحيل على صاحب الكرك الملك المغيث حتىنزل إليه، وكان آخر العهدبه، وأعطى ولده بمصر مائة فارس، ثم قبض على ثلاثة أنكروا عليه(4/120)
علامة المغيث، وكانوا له نظراء في الجلالةوالرتبة، وهم الرشيدي وأقوس التركي والدمياطي وفيها وصل مقدم التتار في طائفة كثيرةقدأسلموا، وأنعم عليهم الملك الظاهر.
وفيها توفي الفقيه الإمام الجليل سليمان بن خليل العسقلاني الشافعي خطيب الحرم سبط عمر بن عبد العزيز الميانشي قلت: وهو الذي جمع المنسك الكبير المفيد المعروف بين فقهاء مكة بمناسك الفقيه سليمان.
وفيها توفي المقرىء النحوي المتكلم شيخ القراء بالشام أبومحمدالقاسم بن أحمدالمرسي شيخ القراء صاحب الشاطبي، وتزوج ابنته أبو الحسن بن علي بن شجاع الهاشمي العباسي المصري الشافعي.
سنة اثنتين وستين وست مائة
فيها توفي شيخ الشيوخ شرف الدين عبد العزيز بن محمد الأنصاري الدمشقي، ثم الحموي الشافعي، الأديب، كان أبوه قاضي حماة، ويعرف بابن الرفا له محفوظات كثيرة وفضائل شهيرة، وحرمة وجلالة.
وفيهاتوفي الملك المغيث عمر بن عبد العزيز بن الكامل ابن العادل، حبس بعد موت عمه الصالح بالكرك، فلماقتلواابن عمه المعظم أخرجه معتمد الكرك الطواشي، وسلطنه بالكرك كان كريمًامبذراً للأموال، فقل ما عنده حتى سلم الكرك إلى صاحب مصر، ونزل إليه، فخنقه ولذلك خنق عمه وأباه العادل.
وفيها توفي ابن سراقة الإمام محيي الدين أبو بكر محمد الأنصاري الشاطبي شيخ الحديث الكاملية بالقاهرة، سمع من جماعة، وله مؤلفات.
وفيها توفي الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن المنصور ابن المجاهد صاحب حمص، والرحبة.
وفيها توفي القارىء أبو القاسم بن المنصور الاسكندراني، كان صالحًا قانتًا مخلصاً(4/121)
مع الزهد والورع البالغ، كان له بستان يعمله ويتبلغ منه، وله ترجمة منفردة جمعها ناصر الدين بن المنير.
وفيها أو في التي بعدها توفي ناظم الوترية، الفقيه الشافعي، الواعظ أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن الرشيد البغدادي، كان فقيهاً واعظاً عارفاً بالفقه والخلاف. أعاد لأمية بغداد، وقدم مصر والإسكندرية، ووعظ بها، وسمع منه جماعة منهم الإمام العلامة شرف الذين أبو العباس أحمد بن عثمان السخاوي الشافعي إمام الأزهر، والإمام العلامة قاضي القضاة بدر الدين محمد بن إبراهيم بن جماعة، سمع منه قصائده الوتريات، ورافقه في الحج، ودخل الأفريقية، وجال في بلاد المغرب، وكان ظاهر التدين والصلاح.
سنة ثلاث وستين وست مائة
فيها كانت ملحمة عظيمة بالأندلس التقى فيها ملك الفرنج، وأبو عبد الله بن الأحمر سلطان المسلمين، ثم انهزم الملاعين، وأسر ملكهم، ثم أفلت، وحشد وجيش ونازل غرناطة، فخرج إليهم ابن الأحمر، وكسرهم أيضاً، وأسر منهم عشرة آلاف، وقتل مسلمون منهم فوق الأربعين ألفاً، وجمعوا كوماً هائلاً من رؤوس الفرنج، وأذن عليه مسلمون، واستعادوا عدة مداين من الفرنج.
وفيها قدم السلطان، فحاصر قيسارية، وافتتحها عنوة، وغصب القلعة أياماً ثم أخذت مع غيرها بالسيف، ثم رجع فسلطن ولده الملك السعيد المغفور.
وفيها جدد بديار مصر أربعة حكام من المذاهب لأجل توقف تاج الدين ابن بنت الأغر عن تنفيذ كثير من القضايا فتعطلت الأمور، فأشار بهذا جمال الدين أيد غدي العزيزي، فأعجب السلطان، وفعله في آخر السنة، ثم فعل ذلك بدمشق.
وفيها ابتدئ لعمارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ففرغ في أربع سنسن.
وفيها حجب الخليفة الحاكم بقلعة الجبل.
وفيها توفي المعين المقرئ القرشي المحدث المتقن أبو إسحاق إبراهيم بن عمر، كتب فأكثر، وتوفي فجاءة.
وفيها توفي الحافظ ابن السيد محمد بن يوسف الأزدي الغرناطي سمع من جماعة كثيرة وجمع وصنف.(4/122)
وفيها توفي بمكة بدر الدين السنجاري الشافعي قاضي القضاة أبو المحاسن يوسف بن الحسن الزرادي، كان صدراً معظما جواداً ممدحاً، ولي قضاء بعلبك وغيرها، ثم ولاه الملك الصالح عجم الدين أيوب مصر، والوجه القبلي، ثم ولي قضاء القضاة بعد شرف الدين ابن عين الدولة، وباشر الوزارة، وكان له من الخيل والمماليك ما ليس لوزير مثله، ولم يزل في الارتفاع إلى أوائل الدولة الظاهرية، فعزل ولزم بيته.
؟
سنة أربع وستين وست مائة
فيها توفي عز الدين الملك الظاهر، ورتب جيوشه بالسواحل، فأغاروا على بلاد عكا، وصور، وطرابلس، وحصن الأكراد، ثم نزلوا على صفد، فأخذت في أربعين يوماً خديعة، ثم ضربت رقاب مائتين عن فرسانهم، وقد استشهد عليها خلق كثير، وفيها استباح المسلمون داره، وسبي منها ألف نفس، وجعلت كنيستها جامعاً.
وفيها توفي الإمام جمال الدين أحمد بن عبد الله بن شعيب اليمني الصقلي ثم الدمشقي المقرئ الأديب وأيد غدي العزيزي الأمير الكبير جمال الدين. كان جليل القدر شجاعاً مقداماً عاقلاً محتشماً كثير الصدقات، حسن الديانة من جلة الأمراء ومتميزيهم حبسه المعز مدة، ثم أخرجه يوم عين جالوت، وكان الملك الظاهر يحترمه، ويتأدب معه. جهزه في هذه السنة، فأغار على بلادسيس، ثم خرج على صفد، فمرض وتوفي ليلة عرفة بدمشق. وفيها توفي الشيخ أحمد بن سالم المصري النحوي نزيل دمشق، كان فقيراً زاهداً مترحلاً محققاً للعربية.
وفيها توفي ابن صصري بهاء الدين الحسن بن سالم الثعلبي الدمشقي وأخوه شرف الدين عبد الرحمن بن سالم. أولى مناصبهم الكبار، ونظر الديوان وهولاو ابن قاان المغل مقدم التتار، وقائد الكفار إلى عذاب النار الذي أباد البلاد والعباد. بعثه ابن عمه القاان الكبير على جيش المغل، فطوى الممالك، وأخذ حصون الإسماعيلية وأذربيجان والروم والعراق والجزيرة، والشام، وكان ذا سطوة ومهابة، وعقل وغور وحزم ودهاء وخبرة بالحروب، وشجاعة ظاهرة، وكرم مفرط، ومحبة لعلوم الأوائل من غير فهمه لها، وكان يصرع في اليوم مرة ومرتين منذ قتل الشهيد الملك الكامل محمد بن غازي، ومات على كفره في السنة المذكورة، وقيل: في التي قبلها، وخلف تسعة عشر ابناً تملك عليهم ابنه أبغا، وكان القاان قد استناب بهولاو على خراسان ما يفتتحه(4/123)
؟
سنة خمس وستين وست مائة
في أولها كبا الفرس بالملك الظاهر، فانكسرت فخذه، وحدث له منها عرج.
وفيها توفي خطيب القدس كمال الدين أحمد بن نعمة النابلسي؛ كان صالحاً متعبداً متزهداً.
وفيها توفي الشيخ القدوة الكبير إسماعيل الكوراني صاحب صدق وتحقيق وورع دقيق. ملتفت إليه بالإشارة، والقصد بالزيارة.
وفيها توفي الفاضل العلامة المعروف بأبي شامة لشامة كبيرة فوق حاجبه.
عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي الإسكندرية، ثم الدمشقي الشافعي المقرئ النحوي المؤرخ، قرأ القراءات، وأتقنها على السخاوي، وسمع الحديث من جماعة، وأتقن الفقه وبرع فيه وفي النحو، وصنف كتباً جمة، فمن ذلك كتاب " البسملة " في مجلد كبير نصر فيه المذهب وكتاب " الروضتين في الدولتين النووية والصلاحية " واختصر تاريخ دمشق ابن عساكر في خمسة عشر مجلداً ضخاماً، ثم اختصره في خمس مجلدات، وكتاب " شرح الشاطبية "، وهو في غاية الجودة، ونظم مفصل الزمخشري، وكتب عديدة أخرى، وولي مشيخة دار الحديث الأشرفية، وكان متواضعاً خيراً رحمه الله تعالى.
وفيها توفي ابن بنت الأعز قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب بن خلف المصرفي الشافعي. صدر الديار المصرية ورئيسها، كان ذا ذهن ثاقب، وحدس صائب، ونزاهة متثبت في الأحكام، روى عن جعفر الهمداني، وتوفي في السابع والعشرين من رجب.
وفيها توفي ابن القسطلاني الشيخ تاج الدين علي ابن الشيخ الزاهد القدوة أبي العباس أحمد بن علي القيسي المصرفي المالكي المفتي، سمع بمكة من طائفة كثيرة، ودرس بمصر، وولي مشيخة الكاملية إلى أن توفي في سابع شوال، وله سبع وسبعون سنة قلت: هذا الملقب بتاج الدين كما ترى، وليس هو قطب الدين بن القسطلاني، وقد يشتبه ذلك على من ليس عنده علم، فإنهما مشتركان في أوصاف متعددة، وكلاهما ابن القسطلاني، وكلا أبويهما اسمه أحمد وأبو العباس كنيته، وكلاهما زاهد وعالم ومصري ومالكي، وكلا الوالدين عالم ومدرس ومفتي وشيخ الحديث في الكاملية، ولكن قطب الدين متأخر يأتي في سنة ست وثمانين، فهو أجل الرجلين قدراً وأشهرهما ذكراً.(4/124)
وفيها توفي أبو الحسن الدهان علي بن موسى السعدي المصري المقرئ الزاهد، قرأ القراءات، وتصدر بالفاضلية، وكان ذا علم وعمل.
وفيها توفي صاحب المغرب المرتضى أبو حفص عمر بن أبي إبراهيم القيسي المومني، ولي الملك بعد ابن عمه المعتضد، وامتدت أيامه، وكان مستضعفاً دخل ابن عمه أبو دبوس الملقب بالوراث بالله إدريس مراكش، فهرب المرتضى، فظفر به عامل الواثق، وقتله بأمره، وأقام بالواثق ثلاثة أعوام، ثم قامت دولة بني مريق وزالت دولة آل عبد المؤمن.
سنة ست وستين وست مائة
فيها افتتح السلطان بلداناً كثيرة في بلاد الشام، منها حصن الأكراد وأعمال طرابلس وأنطاكية، وأخذها في أربعة أيام وحصر أعني أنطاكية، وحصر من قتل بها، وكانوا أكثر من أربعين ألفاً. وفيها كانت الصعقة العظمى على غوطة يوم ثالث نيسان إثر حفظة السلطان عليها، ثم صالح أهلها على ست مائة ألف درهم فأضر بالناس، وباعوا بساتينهم بالهوان.
وفيها توفي خطيب الجبل إبراهيم ابن الخطيب شرف الدين عبد الله المقدسي، كان فقيهاً إماماً بصيراً بالمذهب صالحاً عابداً مخلصاً منيباً صاحب أحوال وكرامات، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وقول بالحق، سمع من جماعة، وقد جمع ابن الخباز سيرتة في مجلد.
وفيها توفي الحنش النصراني الكاتب، ثم الراهب أقام بمفازة الإسكندرية بجبل حلوان بقرب القاهرة، فقيل: إنه وقع بكنز للحاكم صاحب مصر، فواسى منه الفقراء والمستورين من كل ملة، واشتهر أمره، وشاع ذكره، وأنفق في ثلاث سنين أموالاً عظيمة، فأحضره السلطان، وتلطف به، فأبى عليه أن يعرفه حقيقة أمره، وأخذ يراوغه ويغالطه، فلما أعياه سلط عليه العذاب، فمات وقيل: إن مبلغ ما وصل إلى بيت المال من جهته في المصادرة في مدة سنتين ست مائة ألف دينار ضبط ذلك بقلم الصيارفة الدين كان يصبغ عندهم الذهب، وقد أفتى غير واحد بقتله خوفاً على ضعفاء الإيمان من المسلمين أن يضلهم ويغويهم.
وفيها توفي صاحب الروم السلطان ركن الدين ابن السلطان غياث الدين السلجوقي، كان هو وأبوه مقهورين مع التتار له الاسم، ولهم التصرف، فقتلوه بسبب أنه وشى به، ونم عليه بأنه يكاتب الملك الظاهر، فقتلوه خنقاً، وأظهروا أنه رماه فرسه، ثم أجلسوا في الملك(4/125)
غياث الدين، وعمره عشر سنين.
وفيها توفي الضياء الطوسي الإمام العلامة شارح الحاوي الصغير، والمختصر في الأصول الشيخ ضياء الدين عبد العزيز بن محمد الطوسي، وكان فاضلاً درس في دمشق في التجيبية، ثم توفي بها رحمه الله تعالى.
؟
سنة سبع وستين وست مائة
فيها نزل السلطان على حربة اللصوص، ثم ركب وساق في البريد سراً إلى مصر، فأشرف على ولده السعيد، وكان قد استنابه بمصر، ثم رد إلى الحربة، وكانت الغيبة أحد عشر يوماً أوهم فيها أنه متمرض في المخيم.
وفيها توفي الإمام العلامة مجد الذين طي بن وهب القشيري المالكي شيخ أهل الصعيد ونزيل قوص والد الإمام المشهور المشكور، تقي الدين ابن دقيق العيد، وكان جامعاً لفنون من العلم، موصوفاً بالصلاح والتأله معظماً في النفوس روى عن غير واحد.
سنة ثمان وستين وست مائة
فيها تسلم الملك الظاهر حصون الإسماعيلية، وقرر على زعيمهم حسن بن الشعراني أن يحمل كل سنة مائة ألف وعشرين ألفاً، وولاه على الإسماعيلية وفيها بطلت الخمور بدمشق، وقام في تبطيلها الشيخ خضر شيخ السلطان قياماً كلياً، وكبس دور النصارى واليهود، حتى كتبوا على أنفسهم بعد القسامة أنه لم يبق عندهم منها شيء.
وفيها توفي وقيل: في سنة خمس وستين الفقيه الإمام العلامة البارع المجيد الذي ألين له الفقه كما ألين لداود الحديد الشيخ نجم الدين عبد الغفار القزويني الشافعي أحد الأئمة الأعلام، وفقهاء الإسلام، مصنف الحاوي المشتمل على الأسلوب الغريب، والنظم العجيب المطرب في صنعته كل لبيب الذي قلت فيه القصيدة الموسومة بالحلاب الحالي في مدح الحاوي، وهي:
لله ماذا حوى الحاوي مع الصغر ... من الملاح العوالي الخرد الغرر
ألفاظه ومعانيه جلت وعلت ... أحلى وأغلى من الحلاب والدرر
كم من صغير كبير القدر مشتهر ... وكم كبير صغير غير مشتهر
هو الصغير الكبير القدر كم كتب ... قد فاق من كل مبسوط ومختصر
ما طاعن فيه يقوي أن يعارضه ... لو عاش ما عاش نوح فيه من عمر
ما ينقم الخصم إلا أنه عسر ... وكل عالي المعاني شاع بالعسر(4/126)
هل يستطيع الذي يخفي فضيلته ... يخفي ظهور ضياء الشمس والقمر
حوى نفائس علم الشرع مشتملاً ... لمذهب الشافعي النير الزهر
صدر المذاهب مقداماً وأعدلها ... حكماً وأشهرها في البدو والحضم
تاج الهدى معلماً بالنور مبتسماً ... در الأحاديث والإجماع والسور
بدر الدجى منهج الحق المضيء ضياً ... شمس الضحى مدهبي فخري ومفتخري
وقد نهضت لحاوي الدر منتصراً ... في ذم من ذمه من سائر البشر
قدرت ضرب مثال رائق رشق ... للأخذ بالثأر كاف جاعلي قدر
يقال فرد أتى كرماً به ثمر ... فلم ينل أخذ عنقود من الثمر
فذمه قال: من يبغيك ياتفها ... يا حامض الطعم يا أدنى جنى الشجر
قد قيل لا ينفع البادي قراءته ... والمنتهى لا بما فيه لمفتقر
حتى غلا القائل المذكور مدعياً ... أن لا يباع لذي بدر، ولا حضر
هذا غبي، ولو قد شم رائحة ... للفقه أو ذاق طعم الفقه بالنظر
لما أتى مثل هذا القول مجترياً ... ولا تخطى بهذا المسلك الوعر
فذاك حبي ومحفوظي ومعتمدي ... ومنه أفتى به سمعي به بصري
وفيه عرسي وتدريسي ومورده ... إليه وردي وعنه صادر صدري
كأنه السحر في تحسين صنعته ... والبحر فيما حوى من فاخر الدرر
نعم لعمري يسير من مسائله ... مخالف للصحيح الراجح الشهر
لكنه لا بذا التكدير منفرد ... كل التصانيف لا يصفو عن الكدر
كذا صفات الورى تبدو لعمري في ... أسنا الكمال، ويبدو النقص في أخر
سبحان من بالكمال اختص منفرداً ... منزهاً عن جميع النقص والغبر
حتى إلهي إماماً ذاك صنفه ... للعلم والدين لا للهو والنظر
ذاك النجيب الذي شاعت براعته ... عبد لغفار ذنب الخفائف الحذر
حبر له الفقه في التصنيف لان كما ... لان الحديد لداؤد بلا عكر
وبعد ذا فالأئمة كلهم ... تبع للشافعي هم نجوم، وهو كالقمر
ولي فيه قصيدة أخرى دالية عددها كعدد هذه ثلاثون بيتاً، وقد سلك في صنعته رحمه الله تعالى مسلكاً لم يلحق شاؤه فيه أحد من الفضلاء، ولا قاربه وقد ذكر بضعهم أنه صنف كتاب الحاوي المذكور لولده جلال الدين، وله إجازة من عفيفة الأصبهانية، وكان والده فقيهاً إماماً أيضاً رحمهما الله.
وفيها توفى قاضي القضاة أبو الفضل يحيى ابن قاضي القضاة أبي المعالي محمد ابن(4/127)
قاضي القضاة أبي الحسن أبي قاضي القضاة منتجب الدين القرشي الدمشقي الشافعي، تفقه على الفخر ابن عساكر، وولي قضاء دمشق مرتين، وكان صدراً معظماً معروفاً بالفضائل.
وقال الذهبي: له في ابن العربي عقيدة تجاوز حد الوصف، قال: وكان يفصل علياً على عثمان، ثم نسبه إلى التشيع، وجعل التفضيل المذكور كالعلة لتشيعه.
قلت: وهذا من الذهبي العجب العجاب أما علم أن جماعة من أكابر أئمتنا المحققين ذهبوا إلى تفضيل علي على عثمان. منهم الأئمة الجلة سفيان الثوري، ومحمد بن إسحاق، والحسين بن الفضل، بل هو منسوب إلى أهل الكوفة قاطبة، ولهذا قال الإمام سفيان الثوري لما سئل عن اعتقاده في ذلك: أنا رجل كوفي: وقد أوضحت رجحان الدليل على هذا في كتاب المرهم في الأصول، وأن علياً رضي الله عنه اجتمع فيه من الفضائل في آخر عمره ما لم يكن في أوله، وقد قدمت قصيدة ذكرت فيها التفضيل المذكور، والإشارة إلى فضائل الكل منهم رضي الله تعالى عنهم في ترجمة علي كرم الله وجهه، ولكن لو نسب إلى التشيع بسبب ما ذكر عنه في تاريخه من أنه هو القائل البيتين اللذين ذكرهما في كتابه ونسبهما إليه، كان أنسب إذ في ذلك التصريح أن علياً رضي الله تعالى عنه هو الوصي حيث قال:
أدين بما دان الوصي ولا أرى ... سواه، وإن كانت أمية محتدي
ولو شهدت صفين خيلي لأعذرت ... وساء بني حرب هنالك مشهدي
وأما ما ذكر من اعتقاده ابن العربي، فليس هو مختصاً بذلك دون غيره، فقد قدمت أن الناس في ذلك على ثلاثة مذاهب. بعضهم اعتقده وغلا في تفضيله، وبعضهم كفره وغلا في تكفيره، وبعضهم توقف فيه، ومن جملة الفقهاء الذين اعتقدوه الإمام الكبير الفاضل الشهير ابن الزملكاني، وشرح كتابه " الفصوص " الذي هو أشد كتبه إشكالاً، وقد تقدم أيضاً في ترجمة ابن العربي أنه شرحه، ثم ذكر بعد ذلك أن أبا الفضل المذكور سار إلى خدمة هولاو فكرمه وولاه قضاء الشام، وخلع عليه خلعة سوداء مذهبة، فلما تولى الملك الظاهر أبعده إلى مصر، وألزمه بالمقام بها وبها توفي.
سنه تسع وستين وست مائة
فيها افتتح السلطان حصن الأكراد السيف، ثم نازل حصن عكا، وأخفه بالأمان، فبذل له صاحب طرابلس، وبذله ما أراد، وعانه عشر سنين.
وفيها جاء سيل عرم، فغلقت أبواب دمشق، وطفى الماء، وارتفع وأخذ البيوت(4/128)
والجمال والأموال، وارتفع عند باب الفرح ثمانية أفرع، حتى طلع الماء فوق أسطحة عديدة، وضب الخلق وابتهلوا إلى الله، وأشرف الخلق على التلف ولو ارتفع ذراعاً آخر لغرق نصف دمشق.
وفيها توفي الإمام قاضي حماة شمس الدين إبراهيم بن المسلم بن هبة الله الحموي الشافعي، كان ذا علم ودين، تفقه بالفخر ابن عساكر، وأعاد له، ودرس بالرواحية، لم تحول إلى حماة، ودرس بها وأفتى وصنف.
وفيها توفي إبراهيم بن يوسف الحموي المعروف بابن قرقول بضم القافين وسكون الراء بينهما، وبعد الواو لام صاحب كتاب مطالع الأنوار وصنفه على منوال كتاب " مشارق الأنوار " للقاضي عياض.
كان من الأفاضل، صحب جماعة من علماء الأندلس، توفي يوم الجمعة أول وقت العصر، وكان قد صلى الجمعة في الجامع، فلما حضرته الوفاة تلا سورة الإخلاص، وجعل يكررها بسرعة، ثم تشهد ثلاث مرات، وسقط على وجهه ساجداً فوقع ميتاً، رحمه الله تعالى.
وفيها توفي الشيخ صلاح المقرئ حسن بن عبد الله الأزدي الصقلي، قرأ القراءات على السخاوي، وسمع الكثير، وأجاز له المؤيد الطوسي، وكان ورعاً مخلصاً متقللاً من الدنيا.
وفيها توفي ابن سبعين الشيخ الملقب بقطب الدين عبد الحق بن إبراهيم المرسي المتصوف. قال الذهبي: كان من زهاد الفلاسفة، ومن القائلين بوحدة الوجود له تصانيف وأتباع يقدمهم يوم القيامة، توفي بمكة كهلاً. انتهى كلامه.
قلت: وكذلك سمعت كثيراً من أهل العلم ينسبونه إلى الفلسفة، وعلم السيمياء، ويحكون عن حكايات في ذلك، وأصحابه يعظمونه تعظيماً عظيماً، وكان له جاه كبير عند صاحب عكة، وبسبب ذلك وعداوته وخوف شره ونكايته. خرج الشيخ الإمام قطب الدين القسطلاني من مكة، وأقام بمصر.(4/129)
سنة سبعين وست مائة
فيها توفي أبو الفضائل الكمال سلار بن الحسن الإربلي الشافعي المفتي صاحب ابن صلاح.
وفيها توفي ابن يونس الإمام العلامة تاج الدين عبد الرحيم ابن الفقيه الإمام رضي الدين محمد ابن الإمام العلامة الكبير عماد الدين محمد بن يونس الموصلي الشافعي مصنف التعجيز في اختصار الوجيز، كان من بيت الفقه والعلم بالموصل، وتولى القضاء للجانب الغربي ببغداد.
وفيها توفي ابن صصري القاضي الرئيس، عماد الدين محمد بن سالم ابن الحافظ أبي المواصب الثعلبي الدمشقي، سمع من جماعة، قال الذهبي: كان كامل السؤدد متين الليانة وافر الحرمة.
سنة إحدى وسبعين وست مائة
فيها توفي الحافظ أبو المظفر يوسف بن الحسن المعروف بالشرف ابن النابلسي، سمع وكتب الحديث الكثير، وكان فهماً يقظاً، حسن الحفظ مليح النظم، ولي مشيخة دار الحديث النورية.
وفيها توفي ابن العامل المحدث العامل محمد بن عبد المنعم أحد من له اعتناء بالحديث.
وفيها توفي عبد الهادي بن عبد الكريم القيسي المصري المقرئ الشافعي، قرأ القراءات السبعة، وسمع من جماعة؛ كان صالحاً كثير التلاوة.
؟
سنة اثنتين وسبعين وست مائة
فيها توفي المؤيد ابن القلانسي أبو المعالي أسعد بن المظفر بن أسعد التميمي، حدث بمصر ودمشق.
وفيها توفي الأتابك الأمير الكبير فارس الدين أقطايا الصالحي أمره أستاذ الملك الصالح، ولي نيابة السلطنة للمظفر قطر، فلما قتل قطر قام بع الملك الظاهر وسلطنه في الوقت، وكان من رجال العالم حزماً وعقلاً ورأياً ومهابةً، وناب مدة للملك الظاهر.(4/130)
وفيها توفي ابن مالك إمام العربية العلامة. ترجمان الأدب، وحجة لسان العرب أبو عبد الله محمد بن عبد الله الطائي الجياني الشافعي النحوي اللغوي، صاحب التصانيف، وواحد الزمان في علم اللسان، روى عن السخاوي وغيره، وأخذ النحو عن غير واحد، وتقدم وساد في علم النحو والقراءات، وربا على كثير ممن تقدمه في هذا الشأن مع الدين والصدق، وحسن السمت، وكثرة النوافل، وكمال العقل والوقار، والتودد وانتفع به الطلبة، وله من التصانيف تسهيل الفوايد والكافية الشافية وشرحها والألفية وأشياء كثيرة، وممن روى عنه ولده الإمام الملقب ببدر الدين محمد، والشيخ علاء الدين ابن العطار وجماعة، وتوفي بدمشق في عشر الثمانين.
وفيها توفي النجيب عبد اللطيف بن عبد المنعم أبو الفرج الحراني مسند الديار المصرية.
سنة ثلاث وسبعين وست مائة
فيها توفي الحافظ المحدث وجيه الدين منصور بن سليم الهمداني الاسكندراني، سمع الكثير، وخرج تاريخاً للإسكندرية، وأربعين حديثاً بلدية، ودرس وولي حسبة بلده: وفيها توفي قاضي القضاة شمس الدين عبد الله بن محمد الأوزاعي الحنفي المشار إليه في مذهبه مع الدين والتواضع والصيانة والتعفف.
سنة أربع وسبعين وست مائة
فيها توفي شيخ الأدب محمود بن عايذ التميمي الشاعر المجيد، كان قانعاً زاهداً معمراً وفيها توفي شيخ الشيوخ سعد الدين الخضر ابن شيخ الشيوخ تاج الدين عبد الله ابن شيخ الشيوخ أبي الفتح عمر بن علي ابن القدوة الزاهد محمد بن حموية الحموي، ثم الدمشقي.
وفيها توفي ظهير الدين أبو البنا محمود بن عبد الله الريحاني الشافعي المفتي أحد مشايخ الصوفية، صحب الشيخ شهاب الدين السهروردي، وروى عنه، وعن غيره، وتوفي في رمضان، وله سبع وسبعون سنة.
سنة خمس وسبعين وست مائة
فيها كاتب أمراء الروم الملك الظاهر وقووا عزمه على أخذ الروم، فسار وقطع البلاد،(4/131)
ثم وقع صاحب مقدمته سنقر الأشقر على ثلاثة آلاف من التتار، فهزمهم وأسر منهم، وأشرف الجيش من الجبال، فإذا بالتتار قد بعثوا أحد عشر طلباً والطلب ألف فارس، فلما التقى الجمعان حملت ميسرتهم، فصادموا صناجق السلطان يعني راياته، وعطفوا على ميمنة السلطان، فرد فيها بنفسه، وحمل بها حملة صادقة، فترحلت التتار، وقاتلوا أشد قتال، فأخذتهم السيوف، وأحاطت بهم العساكر المحمدية، حتى قتل أكثرهم، وقتل من أمراء المسلمين جماعة، ثم سار الملك الظاهر يحرق مملكة الروم، ونزل إليه ولاة القلاع، وقدم سنقر الأشقر لتطمئن الرعية، ثم وصل قيصرية الروم، فتلقاه أعيانها وترحلوا، ودخلها وجلس على سرير ملكها، وصلى الجمعة بجامعها، ثم بلغه أن أعداء الله عازمون على طلبه، فرحل عنها، فجرى بعده بالروم خبطة ومحنة عظيمة، فقصدهم أبغا فقال: أنتم باغون علينا، ووضع السيف فيهم، ولم يقبل لهم عذراً، فيقال: إنه قتل من الروم ما يزيد على مائتي ألف فهم مسلمون فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفيها توفي الشيخ أبو المعالي أحمد بن عبد السلام المعروف بابن أبي عصرون التميمي الشافعي صاحب تونس محمد بن يحيى بن عبد الواحد، وكان ملكاً صاحب سياسة، وعلو همة، شديد البأس، جواداً ممدوحاً تزف إليه كل ليلة جارية. تملك تونس بعد أبيه، ثم قتل عميه وجماعة من الخوارج عليه فتمهد له الملك.
سنة ست وسبعين وست مائة
في أولها قدم السلطان الملك الظاهر، فنزل نحو سفة الأبلق، ثم مرض يوم نصف المحرم، وتوفي بعد ثلاثة عشر يوماً، فأخفي موته، وسار ابنه وهو يوهم أن السلطان مريض إلى أن دخل مصر بالجيش، فأظهر موته، وعمل العزاء، وحلفت الأمراء للملك السعيد، والملك الظاهر هو ركن الدين أبو الفتوح شوس التركي الصالحي النجمي صاحب مصر والشام اشتراه الأمير علاء الدين الصالحي، فقبض الملك الصالح على علاء الدين المذكور، وأخذه، وكان من جملة مماليكه، ثم طلع شجاعاً فارساً إلى أن بهر أمره وبعد صيته، وشهد وقعة المنصورة بدمياط، ثم صار أميراً في الدولة المعزية، وتقلبت به الأحوال إلى أن ولي السلطنة في سابع عشر في القعدة سنة ثمان وخمسين وست مائة، وكان ملكاً سرياً غازياً مجاهداً مؤيداً عظيم الهيبة خليقاً للملك، يضرب بشجاعته المثل له أيام بيض في الإسلام، وفتوحات مشهورة، ومواقف مشهورة، ولولا ظلمه وجبروته في بعض الأحيان لعد من الملوك العادلين، والسلاطين الممدوحين بحسن السيرة المشكورين. انتقل إلى عفو(4/132)
الله ورحمته في الثامن والعشرين من المحرم بقصره بدمشق، وخلف من الأولاد الملك السعيد محمد، والخضر وسلامس، وسبع بنات، ودفن بتربة أنشأها ابنه.
وفي سنة ست وسبعين المذكورة توفي إمام اليمن، وبركة الزمن قدوة الفريقين، وشيخ الطريقين الفقيه الكبير الولي الشهير صاحب الكرامات الباهرة، والبركات الظاهرة، والأنفاس الصالحة، والمواهب المانحة، والهداية والصفا، والعناية والاصطفا أبو الذبيح إسماعيل ابن السيد الجليل الولي الحفيل الحافظ المحدث إمام عصزه وبركة دهره محمد بن إسماعيل المشهور بالحضري، كان من أعلى الفقهاء مرتبة في العلم والصلاح والزهد والكرامات. اشتغل بعلم الفقه على والده المذكور، وتبخر فيه وبرع في معرفة المذهب، وشرح كتاب المهذب، وله كلام في الفقه والتصوف، وفتاوى مجموعة، وبعض تواليف أخرى، منها مختصر صحيح مسلم، وكتاب نفائس العرائس، وسمع الحديث والتفسير وما يدل على ذلك إجازته بخطه الذي وقفت عليه وهو ما صورته.
" بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على النبي وآله وأصحابه وسلم، ثم قال: في أثناء كلامه حصل على المولى الفقيه والولد المحبوب في الله تعالى إبراهيم بن محمد بن سعيد جميع كتاب التنبيه في الفقه بقراءته، وقراءة غيره، وقد أجزت له روايته بروايتي عن والدي رحمه الله بروايته عن الإمام العالم العابد محمد بن كبانة. بضم الكاف وفتح الموحدة قبل الألف، والنون بعدها بروايته عن الإمام العالم يحيى بن عطية بروايته عن الإمام محمد بن عبدويه، عن المصنف، وقد أجزت له روايته عني، وأن يروى عني جميع ما يجوز لي روايته من كتب الحديث والتفسير والفقه، وجميع ما جمعته ولأولاده وإخوته، ولجميع قراباته نفع الله الجميع بذلك، وغفر للجميع، وتاب على الجميع، وكتب إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الحضرمي، وكان ذلك في شهر شوال سنة سبع وستين وست مائة، وصلى الله تعالى على النبي وآله وسلم " انتهى.
وتفقه به جماعة كبار منهم الفقيه القدوة النجيب الولي العارف بالله وافر الحظ والنصيب ذو المحاسن والكرامات العديدة، والفضائل والسيرة الحميدة عبد الله بن أبي بكر الخطيب اليمني المدفون في موزع بفتح الميم والزاي قدس الله روحه، وهو أول من اشتغل عليه، وأخص أصحابه، ومنهم العلامة المفيد الكبير المحصول الماهر في الفقه(4/133)
البارع أحمد المعروف بابن الزنبول. اشتغل عليه مدة طويلة في الفقه، ثم حصل بينهما بعض شيء نفر منه، قلت: ابن الزنبول فانقطع عنه، وكان في خلقه بقور فجاءه الفقيه إسماعيل مع جلالته، وفضله المشهور واسترضاه، فقال له ابن الزنبول: أتحسب أني لا أجد مثلك؟ فبكى إسماعيل، ولبس حلة المحاسن والإنصاف والتواضع والاعتراف والتنزل إلى منزلة الإنصاف، وقال له: بلى يا أحمد تجد مثلي، ولا أجد مثلك، ومنهم الإمام العلامة القاضي جمال الدين أحمد بن علي العامري شارح التنبيه وقاضي المهجم ومنهم الفقيه علي بن أحمد بن سليمان العبسي الجحفي وغيرهم.
قلت: وبلغني أن رجلاً سأله عن مسألة في أفتيا جاء بها إليه بعد أن جاء بها السائل إلى الفقيه الإمام الحفيل الولي الشهير الجليل أحمد بن موسى بن عجيل رضي الله تعالى عنه وعن الجميع، فأجابه الفقيه إسماعيل بجواب مخالف لجواب الفقيه أحمد، فبقي الرجل متحيراً بأي الجوابين يأخذ، فقال إسماعيل، خذ بجوابنا، فدباغنا في الفقه أقوى من دباغهم. قلت: لقد أحسن في هذا المقال باستعارته الدباغ للاشتغال، وبلغني أيضاً أن الفقيهين المذكورين المشهورين كان أحدهما أفقه من الآخر، والآخر أكثر نقلاً منه، وقد جمع عنهما كلام في الفقه في جزء لطيف، وكلاهما كان يحضر مجلس شيخ الشيوخ الأكابر بحر الحقائق المواج الزاخر. صاحب السيف الماضي الصيقل شيخ زمانه أبي الغيث بن جميل قدس الله روحه، ولكن الفقيه إسماعيل أكثر حضوراً وملازمة للشيخ المذكور، وإليه كان ينسب في التصوف حتى بلغني عنه أنه قيل له كلام معناه ما نقول عنك إذا سألنا أفقيه أنت أم صوفي فقال: بل صوفي وشيخي في التصوف الشيخ أبو الغيث بن جميل. وله رضي الله تعالى عنه من الكرامات العظام ما يطول في ذكرها الكلام، وقد ذكرت بعضها في غير هذا الكتاب.
منها وقوف الشمس له حتى بلغ مقصده لما أشار إليها يالوقوف في آخر النهار، وهذه الكرامة مما شاع في بلاد اليمن، وكثر فيها الانتشار.
ومنها أنه شوهدت الكعبة في الليل تطوف بسريره في حال يقظة المشاهد. ومنها أنه نادته سدرة والتمست منه أن يكل هو وأصحابه من ثمرها، ومنها شفاعته في قوم سمعهم يعذبون في المقابر، ومنها أن الملك المظفر صاحب اليمن كان يقول لحجابه: لا تخلوه يدخل علي حتى تستأذنوني خوفاً من أن يراه ملابساً بما ينكر عليه، فما يشعر إلا وقد دخل(4/134)
عليه من حيت لا يراه البواب، ولا يشعر الحجاب، وكاد الجله من العلماء وعيرهم يقبلون قدمه لإشارة اشتهرت عنه في ذلك.
وقد أخبرني الفقيه الإمام القاضي نجم الدين الطبري رحمه الله أنه زاره هو وجده الإمام العلامة محب الدين الطبري، وأنهما قبلا قدمه.
وأخبرني القاضي نجم الدين رحمه الله المذكور أنه نعى بمكة، والسيد المشهور ابن عجيل المذكور يومئذ فيها، فقال: أرجو من الله أن يفديه بمائة فقيه، ثم جاء الخبر أنه حي لم يمت، وكان قد ولاه الملك المظفر قاضياً على قضاة اليمن، ولكن كان هو السلطان ما أمر به السلطان كان، وكان كتب إليه في شقف من خزف: يا يوسف فما تبه إلى سلطان في ذلك، وقال: هب أنك موسى، ولست بموسى وهب أني فرعون، ولست بفرعون، وفي رواية أخرى أرسل من هو خير منك إلى من هو شر مني، وأمر الله تعالى باللطف به، واللين إليه فقال تعالى: " قولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى " " سورة طه: 44 " إما تكتب إلي في ورقة بفلس، وكان إذا كشف له أن الحق في جانب من ترجحت حجة خصمه في ظاهر الشرع يصرفها إلى حاكم آخر. قلت: وهذا حسن جداً، فإنه لا يمكنه أن يحكم بالحكم الباطن، وقد أمر الشوع أن يحكم بالظاهر بخلاف ما يظهر، له بالعلم الباطن، فترك الحكم بهما جميعاً احتياطاً وأدباً مع الشرع، وأرى هذا أحسن وأسلم مما كان يفعله غيره من القضاة من أكابر الأولياء من الحكم مما يكشف له من علم الباطن.
ومنهم السيد الكبير الولي الشهير الشيخ عبد الرحمن النويري رضي الله تعالى عنه، فإنه كان يقول: ما يمكنني إذا قالت لي البقرة: أنا لفلان أحكم بها لخصمه، وكان سبب ولاية إسماعيل المذكور قضاء القضاة أن الملك المظفر استدعى به، وبابن العجيل، وبابن الهرمل، فسار إليه هو وابن الهرمل، ومرا على ابن العجيل، فقال لهما: لو قد عزمتما كان رأيي أن لا تذهبا إليه، ولكن إذ قد عزمتما فلي إليكما حاجة، وهي أن لا تذكر أني عنده، فإن ذكرني، فقولا له: هو في عش في البادية: فإن تركته وإلا سافر إلى بلاد الحبشة، وخلي لك البلاد، فقال له إسماعيل: يا فقيه أحمد إن الله قد استرعانا عليه، كما استرعاه على الرعية، فنحن نأمره وننهاه، فإن قبل منا فهو المطلوب، وإلا كنا قد خرجنا عن العهدة، ثم سافر إليه إلى تعز فلما اجتمعا به استقضى الفقيه إسماعيل، فأقام قاضياً للقضاة مدة، ثم عزل نفسه، وكان مع كبر شأنه وزهده في الدنيا كثير التزوج جداً، حتى قال لبعض ذريته: لا تتزوجوا من نساء زبيد، فإني أخشى أن تقعوا في بعض المحارم لكم.(4/135)
وروي عنه أنه قال: كل شيء قدرت على الزهد فيه إلا المرأة الحسناء، والدابة النفيسة.
وقال: رضي الله تعالى عنه: حصل لي اجتماع بجماعة من المشائخ المتقدمين في حال اليقظة، وكل واحد منهم أفادني فائدة، ومجموع ذلك من لم يفارق تعب ومن نظر إلى نفسه بعين المراءاة عطب، إن وجدت في الحنيا ما يبقى لك وتبقى له، فاعكف عليه من وقف مع العوائق لحظة أو ثقته ما تبقى من السم قاتل وإلا فممرض إنك ميت وإنهم ميتون، فلا يتعلق بهم من لم يكفه لفظه لم ينتفع بالقناطير المقنطرة. والجماعة المذكورون أصحاب سبع الوصايا هم هؤلاء السبعة أبو يزيد، وذو النون، وبشر الحافي، والجنيد، والسري، والشبلي، وأبو أيوب رضي الله تعالى عنهم، ونفع بهم كل واحد منهم جاء بكلمة من الكلمات المذكورات.
ومما وجد بخطه رضي الله تعالى عنه من الخطاب الذي سمعه، فارق الناس أحسن ما كانوا عليه، وتتبع خلوات الفلاح في زاوية الجوع والعطش تجني عند ذلك، وأبغض خراب الاهتمام، وسمعني أطيط رحال المفارقة في بيداء الثقة بي، والتوكل علي وحنين الشوق، وأنين الخوف أفلت أكوانك كلها، ونحن عندك بالفضا وقوف، وانقطع الكلام.
ومما وقع له أيضاً من الخطابات المشهورة عنه: يا إسماعيل إنا مشتاقون إليك فهل أنت مشتاق إلينا؟ أو فما هذا التخلف؟ فقاد: يا رب عوقتني الذنوب، فقال: قد غفرنا لك ولأهل تهامة من أجلك.
وكان رضي الله تعالى عنه في بدايته معتزلاً عن الناس، مختليا بنفسه، قيل: وكان يقتات من النبق أوقات البداية، وكان ابن عجيل مع جلالة قدره يتأدب معه، ويقول: نحن محبون، وهو محبوب، وتلقاه في وقت وسار معه ماشياً وهو راكب، وحجا معاً في سنة واحدة، ومعهما ركب اليمن، فلما قربوا من مكة تلقاهم الشريف أبو تمي، وكان ابن عجيل معروفاً يعرفه الشريف وغيره لكثرة تردده إلى مكة والمدينة، وكان أبو تمي عليه ثياب حرير، فانقض عليه الفقيه إسماعيل كانقضاض البازي على الفريسة، وأخذ بطوقه، وقال: أتلبس هذا الذي لا يلبسه إلا من لا خلاق له في الآخرة؟ أو قال: عند الله فبقي الشريف المذكور مبهوتاً ينظر إلى ابن عجيل، وكان إذ ذاك مستقلاً بولاية مكة، وسلطنتها، فقال له: يا(4/136)
شريف أتدري من هذا؟ هذا الفقيه إسماعيل الأرعن على ربه لو تغير علينا هلكنا جميعاً كلنا.
قلت: وله من الفضائل والمحاسن والمفاخر ما يطول ذكره بل يتعذر حصره، ولا تحتمل بعضه العقول القواصر، وإليه ينتسب بعض شيوخنا رضي الله تعالى عنهم، وإلى ذلك أشرت بقولي في بعض قصائدي.
وذا قول إسماعيل شمس الهدى الولي:
مقر الهدى المشهور شيخ شيوخنا ... إمام الفريقين الحبيب المدلل
هو الحضري المشهور من وقفت له ... يقول: قفي شمس لأبلغ منزلي
إليه الإشارة أيضاً بقولي في أخرى في أثناء التغزل بشيوخ اليمن.
وجود الضحى شمس الضحى حضرمية ... مدللة تزهو بعالي المنازل
وقولي: وجود الضحى هو بفتح الضاد المعجمة، وكسر الحاء المهملة اسم القرية الساكن فيها، وقولي: أيضاً في الغزل: بأخرى في الشيخ أبي الغيث وفيه وفي ابن عجيل:
يبيت ذو عطاء عيطبول ... حرود بحبه جود الزمان
وجود في الضحى أضحت بحسن ... زها تختال فاقت للغواني
كجود للمغاربة اغتراها ... حصان في حيا حسن رزان
وإليه أشرت أيضاً في أخرى بقولي:
هو الحضرمي نجل الولي محمد ... إمام الهدى نجل الإمام الممجد
له كم خطت كم ذللت، ثم عللت ... عنايات فضل ليس تدرك باليد
مدل ومحبوب، وفي كلفة العنا ... عظيم كرامات بجاه وسؤدد
ومن جاهه أومي إلى الشمس أن قفي ... فلم تمش حتى أنزلوه بمقصد
توفي رحمه الله تعالى في قريته المعروفة بالضحى من أعمال تهامة المهجم.
وفي السنة المذكورة توفي الفقيه الإمام شيخ الإسلام مفتي الأنام المحدث المتقن المحقق المدقق النجيب الحبر المفيد القرب البعيد محرر المذهب، ومهذبه وضابطه، ومرتبه أحد العباد الورعين الزهاد العالم العامل المحقق الفاضل الولي الكبير السيد الشهير المحاسن العديدة، والسيرة الحميدة، والتصانيف المفيدة الذي فاق جميع الأقران، وسارت بمحاسنه الركبان، واشتهرت فضائله في سائر البلدان، وشوهدت منه الكرامات، وارتقى في(4/137)
على المقامات ناصر السنة، ومعتمد الفتاوى الشيخ محيي الدين النواوي يحيى بن شرف بن مري بن حسن الشافعي مؤلف الروضة والمنهاج والمناسك، وتهذيب الأسماء واللغات، وشرح صحيح مسلم، وشرح المهذب، وكتاب التبيان، وكتاب الإرشاد، وكتاب اليسير والتقريب، وكتاب رياض الصالحين، وكتاب الأذكار كتاب الأربعين، وكتاب طبقات الفقهاء الشافعية، اختصره من كتاب ابن صلاح، وزاد عليه أسماء نبه عليها، وغير ذلك مما اشتهر في سائر الجهات، وظهر به النفع والبركات.
قال بعض المؤرخين وأهل الطبقات: ولد سنة إحدى وثلاثين وست مائة، في العشر الأوسط من المحرم، وقدم دمشق في سنة تسع وأربعين، وقرأ التنبيه في أربعة أشهر ونصف، وحفظ ربع المهذب في بقية السنة، ومكث قريباً من سنتين لا يضع جنبه على الأرض، وكان يقرأ في اليوم اثني عشر درساً على المشائخ شرحاً وتصحيحاً في المهذب، والوسيط والجمع بين الصحيحين، وصحيح مسلم وأسماء الرجال، " واللمع " لأبي إسحاق في أصول الفقه، " واللمع " لابن جني في النحو وإصلاح المنطق لابن السكيت في التصريف، والمنتخب في أصول الفقه وكتاب آخر في الأصول لم يسموه، وكان له في الوسيط درسان.
حكوا عنه أنه قال: عزمت مرة على الاشتغال بالطب، فاشتريت القانون، فأظلم على قلبي، وبقيت أياماً لا أشتغل بشيء فتفكرت، فإذا هو من القانون، فبعته في الحال. قالوا: وكان لا يدخل الحمام، ولا يكل من فواكه دمشق، ولا يأكل في اليوم والليلة سوى أكلة بعد العشاء، ولا يشرب شربة إلا في وقت السحر، وكان كثير السهر في العبادة والتلاوة والتصيف. صابراً على خشونة العيش والورع الذي لم يبلغنا عن أحد في زمانه ولا قبله، وكان نزوله في المدرسة الرواحية.
قلت: وسمعت من غير وأحد أنه إنما اختار النزول بها على غيرها لحلها إذا هي من بناء بعض التجار. قالوا: وحفظ التنبيه في سنة خمسين وست مائة، وحج مع أبيه سنة إحدى وخمسين، وذكر والده أنه حم من حين خروجه من بلده إلى يوم عرفة، فما تأوه ولا تفجر، ولزم الاشتغال ليلاً ونهاراً حتى فاق الأقران، وتقدم على جميع الطلبة، وحاز قصب السبق في العلم والعمل، ثم أخذ في التصنيف من حدود الستين وست مائة إلى أن مات.
وسمع الكثير من القاضي الرضي بن برهان الدين ابن خالك، وشيخ الشيوخ عبد العزيز الحموي، وجماعة منهم شيخه الكمال، وإسحاق بن أحمد المغربي، وسمع صحيحي(4/138)
البخاري ومسلم، وسنن أبي داؤد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، والدارقطني، وشرح السنة ومسند الإمام الشافعي، والإمام أحمد وأشياء كثيرة، وأخذ علم الحديث عن عز الدين بن خالد، وروى عنه جماعة من أئمة الفقهاء والحفاظ. منهم الإمام علاء الدين بن العطار، والشيخ أبو الحجاج المزرعي والقاضي محي الدين المزرعي، والإمام شمس الدين ابن النقيب، وهو آخر من بقي من أعيان أصحابه وخلق كثير.
قلت: ومنهم الشيخ المبارك الناسك جبرائيل الكردي، وعليه سمعت الأربعين قالوا: وكان الشيخ محيي الدين النواوي متبحراً في العلوم متسعاً في معرفة الحديث والفقه واللغة، وغير ذلك مما قد سارت به الركبان رأساً في الزهد، قدوة في الورع عديم النظير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يواجه الأمراء والملوك بذلك، ويصدع بالحق، ولقد أنكر على الملك الظاهر حتى أغضبه وهم به البطش، فوقاه الله شره، ثم قبل منه وعظمه حتى كان يقول: أنا أفزع منه قالوا: وكان لا يؤبه له بين الناس. قانعاً باليسير، راضياً عن الله، والله عنه راضٍ مقتصد إلى الغاية في ملبسه ومطعمه وأثاثه، ولي مشيخة دار الحديث، وكان لا يتناول من معلومها شيئاً بل يقتنع بالقليل مما يبعث به إليه أبوه.
قلت: ورأيت لابن العطار جزءاً في مناقبه. ذكر فيه أشياء عزيزة من فضائله ومحاسنه وكراماته، واشتغاله بالعلم، واستعماله، وجميل سيرته، وشدة ورعه وزهادته، وغير ذلك مما لم يعرف لأحد من العلماء بعده.
قلت لعمري إنه عديم النظير في زهده وورعه وآدابه، وجميل سيرته، وسائر محاسنه فيمن بعده من العلماء. اللهم إلا أن يكون السيد الجليل ذو المجد الأثيل، والوصف الجميل الفقيه الإمام ذو الآيات العظام زين اليمن، وبركة الزمن من أحمد بن موسى المعروف بابن عجيل الآتي ذكره في سنة تسعين، وقل وعز أن يعرف لهما قبلهما أيضاً نظير في ما اتصفا به من سائر المحاسن مع صغر سنهما، ولا شك أن الإمام محيي الدين النواوي مبارك له في عمره، ولقد بلغني أنه حصلت له نظرة جمالية من نظرات الحق سبحانه بعد موته، فظهرت بركتها على كتبه، فحظيت بقبول العباد والنفع في سائر البلاد، وقد اختلف الناس فيما اختلف فيه هو والإمام الرافعي والفقهاء في بعض الجهات. يرجحون قول الرافعي. وفي بعضها يرجحون قوله، والذي أراه أن كلما اعتضد فيه بحديث يصح الاحتجاج به، فقوله: مقدم لا سيما، وقد صح عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه قال: إذا صح الحديث، فهو مذهبي، وكذلك إن لم يعتضد بحديث لكن تكافأت الأدلة لكونه موافقاً مؤيداً مباركاً مسدداً. وإن ترجحه الأدلة في أحد الطرفين، فالراجح من الحكم ما رجحه دليله، والله أعلم.
وذكروا أن ترك كله لفواكه دمشق إنما هو ورع لما في بساتينها من الشبه في ضمانها،(4/139)
والحيلة فيه صرح هو رضي الله عنه بذلك، ومن المشهور أنه كان يقتدي ببعض المشائخ من الصوفية، وهو الشيخ الشهير العارف بالله الخبير الولي الكبير ياسين المزين، ويتأدب معه، ويجالسه ويقبل إشارته.
وأخبرني بعض العلماء الشاميين أنه أشار عليه قبل موته بقليل يرد ما عنده من الكتب المستعارة، وزيارة أهله في بلده، ففعل ذلك، ثم توفي عندهم في الرابع والعشرين من رجب سنة ست وسبعين وست مائة، وفي لحيته شعرات بيض.
قلت: واعتقاد هذا السيد الكبير المتضلع من علوم المشائخ الصوفية، وصحبتهم ومحبتهم على العموم من أقوى الحجج الظاهرة على المنكرين عليهم من الخصوم، ومن كل طاعن فيهم محروم، وقد صرح في كتابه الأذكار المشتمل على الفضائل الجمة يكون الصوفية من صفوة هذه الأمة، وقد رأيت له مناماً يدل على عظم شأنه، ودوام ذكره لله، وحضوره وعمارة أوقاته، وشدة هيبته، وتعظيم وعلى تعالى ووعيده، وحياته بعد موته، وكلمني ودعا لي، وغير ذلك مما لا تضبطه العبارة مما تميز به عن العلماء والعبادة.
وقد أشرت إلى شيء من ذلك في كتاب الإرشاد قدس الله روحه، ونور ضريحه ودعاءه الذي دعا لي هو هذا، وفقك الله وزادك فضلاً أو قال: من فضله وثبتك بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
وممن دعا لي أيضاً من الأولياء بعد وفاته شيخ شيخنا السيد الجليل المقدار الذي جمع من المحاسن ما لا يدخل تحت الإنحصار أبو الخطاب عمر بن علي المعروف بابن الصفار رحمه الله تعالى، وهذا دعاؤه: أصلحك الله صلاحاً لا فساد له، أو لا فساد معه في منام رأيته. أسأل الله الكريم أن يتقبل ذلك منهما، وأن يرزقنا بركتهما آمين آمين. رجعنا إلى ذكر الشيخ محيي الدين، ولقد بلغني أنه كان تجري دموعه على خده في الليل ثم ينشد.
لئن كان هذا الدمع يجري صبابة ... على غير ليلى، فهو لا شك ضائع
ورثاه غير واحد من الشعراء بمراثي حسنة رحمه الله تعالى، ونفعنا ببركته.
وفي السنة المذكورة توفي السلطان الملك الظاهر كما تقدم.
وفيها توفي الجريدلة الظاهري نائب سلطنة مولاه، وكان نبيلاً عالي الهمة، وافر العقل محبباً إلى الناس منطوياً على دين ومروءة ومحبة للعلماء والصلحاء، ونظر في العلم والتواريخ رقاه أستاذه إلى أعلى المراتب، واعتمد عليه في مهماته.
قيل إن شمس الدين الفارقاني الذي ولي نيابة السلطنة، سقاه السم باتفاق مع أم(4/140)
الملك السعيد، فأخذه قولنج عظيم بقي به أياماً، ثم توفي بمصر.
وفيها توفي الشيخ خضر بن أبي بكر المهراني العدوي شيخ الملك الظاهر؛ كان له حال وكشف قيل: مع سفه فيه، ومردكه ومزاح. تغير عليه للسلطان بعد شدة خضوعه له، وانقياده لإرادته، وعقد له مجلساً، وأحضر من خافقه، ونسب إليه أموراً فظيعة، وأشاروا فيها بقتله، والله أعلم. بصحة ذلك، فقال للسلطان: إن بيني وبينك في الموت شيئاً يسيراً، فوجم لها السلطان، وحبسه في سنة إحدى وسبعين إلى أن توفي في سادس محرم السنة المذكورة، وتوفي السلطان المذكور في الثامن والعشرين عن المحرم كما تقدم.
وفيها توفي الزكي بن الحسن المعروف بالبيلقاني أبو أحمد الشافعي الفقيه البارع المناظر؛ كان متقدماً في الأصولين، وغيرهما من المعقولات. أخذ عن الإمام فخر الذين الرازي، وسمع من المؤيد الطوسي، وكان صاحب ثروة وتجارة، وعمر دهراً، وسكن اليمن، وتوفي بعدن قلت: وقد رأيت بعض فريته بها ناظراً للسلطان، له عند أهل الدنيا صورة وكبرشان كذا قال بعض المؤرخين.
وقال بعض أهل الطبقات البيلقاني أبو المعالي الفقيه الشافعي الأصولي العلامة الشهير الأوحد شمس الدين. تفقه بجماعة منهم الإمام فخر الأنام محمد بن أبي بكر التوقاني. قرأ عليه كتاب الوجيز بقراءته على شيخه الإمام نور الدين محمد بن محمد التوقاني بقراءته على شيخه الإمام العلامة الشهيد أبي سعيد محمد بن يحيى النيسابوري بقراءته له على شيخه، ومصنفه الإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي، وتفنن في العلوم بالعلامة قطب الدين إبراهيم بن علي الأندلسي المعروف بالمصري، وعاش خمساً وتسعين سنة، وتفقه به جماعة، وانتفعوا به ورووا عنه.
قلت: وبلغني فيما أظن أن بركه الزمن، وزين اليمن الإمام العلامة عالي المقامات، وعظيم الكرامات أبا الفدا إسماعيل ابن الشيخ الإمام علي المقام محمد بن إسماعيل الحضرمي قرأ على البيلقاني المذكور، والله أعلم.
سنة سبع وسبعين وست مائة
فيها قدم الملك السعيد، وعمرت القباب، ودخل القلعة، فأسقط ما وضعه أبوه على الأمراء، فسر الناس ودعوا له.(4/141)
وفيها توفي الفارقاني شمس الدين أقسنقر الظاهري أستاذ دار الملك الظاهر. جعله الملك السعيد نائبه، فلم ترض خاصة السعيد بذلك، ووثبوا على الفارقاني واعتقلوه، ولم يقدر السعيد على مخالفتهم، فقيل: إنهم خنقوه، وكان وسيماً جسيماً شجاعاً نبيلاً ذا خبرة ورأي، ومهابة ووقار، وفيه ديانة وايثار.
وفيها توفي الأديب البارع نجم الدين محمد بن نوار الشيباني الدمشقي الفقير صاحب الحريري، المعروف بابن إسرائيل، كان روح المشاهد، وريحانة المجامع فقيراً ظريفاً نظيفاً لطيفاً مليح النظم، رائق المعاني، وبعض الفقهاء ينكر عليه، ويقول: في بعض نظمه التصريح، وفي بعضه التلويح بالإلحاد.
وفيها توفي شيخ الحنفية قاضي القضاة أبو الفضل سليمان بن أبي العز الأذرعي أحد من انتهت إليه رياسة المذهب في زمانه.
وفيها توفي ابن حباء الوزير الأوحد الشهير علي بن محمد المصري الكاتب الملقب بهاء الدين أحد رجال الدهر حزماً ورأياً وجلالة ونبلاً وقياماً بأعباء الأمور مع الدين والفقه، والسيرة الحميدة، والمحاسن العديدة، والثروة الكثيرة، والفتوة الشهيرة ابتلى بفقد ولديه الصدر بن فخر الدين، ومحي الدين، فصبر وتجلد، وله من المناقب والمفاخر حظ وافر كثير.
سنة ثمان وسبعين وست مائة
فيها اختلف خواص الملك السعيد عليه، وخرج بعضهم عن الطاعة، وتابعه نحو أربع مائة من الظاهرية، فعسكر بالقطيفة ينتظر الجيش الذين ساروا للإغارة على بلاد " سيس " مع الأمير سيف الدين قلاوون، فقدموا ونزل الكل في بعض المنازل، وراسلوا الملك السعيد، ثم اجتمع مقدم الخارجين عن الطاعة سيف الدين قلاوون، وغيره من كبار الجيش، وأفسد نياتهم، واستمروا كلهم إلى مصر، فسار وراءهم، وبعث خزاينه إلى الكرك، ثم دخل قلعة القاهرة بعد مناوشة وحروب، قتل جماعة، ثم حاصروه بالقلعة حتى ذل لهم، وخلع نفسه من السلطنة، وقنع بالكرك، ورتبوا في السلطنة أخاه سلامش بالسين المهملة في أوله والمعجمة في آخره، وعمره سبع سنين، وجعلوا أتابك سيف الدين قلاوون، وجعل نيابة دمشق لسنقر الأشقر، ثم ترتب في السلطنة الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي في الحادي والعشرين من رجب من غير نزاع ولا قتال، ولا اختلف عليه اثنان، وحلف له(4/142)
أمراء الشام، وسئل من الوسط سلامش، وفي أواخر ذي الحجة. ركب سنقر بعد العصر من الدار المسماة عندهم دار السعادة، وهجم القلعة، فملكها، وحلفوا له وأعلنوا بالبشائر والأفراح في الحال، ولقبوه بالسلطان الملك الكامل شمس الدين سنقر الصالحي، وقبض على نائب القلعة حسام الدين لاجين وغيره ممن لم يحلف له من الأمراء.
وفيها توفي شيخ الشيوخ شرف الدين عبد الله ابن شيخ الشيوخ تاج الدين(4/143)
عبد الله بن عمر الجويني.
وفيها توفي الشيخ نجم الدين ابن الحكيم عبد الله بن محمد الحموي الصوفي، كان زاوية بحماة، وفيه أخلاق حميمة، وتواضع وخدمة للفقراء. صحب الشيخ إسماعيل الكوراني، وتوفي بدمشق اتفاقاً، فدفن بمقابر الصوفية.
وفيها توفي الشيخ عبد السلام بن أحمد ابن الشيخ القدوة غانم بن علي المرسي الواعظ أحد المبرزين في الوعظ، والنظم والنثر.
وفيها توفي السلطان الملك السعيد ناصر الدين أبو المعالي محمد ابن الملك الظاهر، وكان كريماً حسن الطباع فيه عدل ولين وإحسان ومحبة للخير خلوه من الأمر كما تقدم مات بقلعة كرك، ثم نقل بعد سنة ونصف إلى تربة والده، وتملك بعد الكرك أخو خضر.
سنة تسع وسبعين وست مائة
فيها تحارب المصريون والشاميون، وقاتل سنقر الأشقر بنفسه قتالاً ظهرت في شجاعته. لكن خامر عليه كثر عسكره وخذلوه، وبقي في طائفة قليلة، فانصرف ولم يتبعه أحد، ونزل المصريون في خيام الشاميين، وحكم مقدم مهنا بدمشق، وسار سنقر إلى الرحبة، وجاء تقليد دمشق لحسام الدين لاجين المنصوري وجعل للسفح من السلطان عمن قام مع سنقر، ثم توجه هو إلى سواحل الشام، فاستولى على بلدان كثيرة، ثم بعد أيام وصلت التتار إلى حلب، فماتوا ووضعوا السيف، ورموا النار في المدارس، وأحرقوا منبر الجامع، وأقاموا يومين، ثم ساقوا المواشي والغنائم.
وفي آخر السنة سار السلطان إلى الشام غازياً فنزل قريباً من عكا، فخضع له أهلها، وراسلوه في الهدنة، وجاء إلى خدمته عيسى بن مهنا، وصفح عنه وكرمه.(4/144)
وفيها توفي محمد بن داود البعلبكي الحنبلي وفيها توفي الفقيه المعمر أبو بكر بن هلال الحنفي رحمهما الله تعالى.
وفيها توفي أبو القاسم بن الحسين الحلبي الرافضي، الفقيه المتكلم شيخ الشيعة، وعالمهم. سكن حلب مدة، وصفع بها لكونه سب الصحابة.
سنة ثمانين وست مائة
فيها قبض السلطان على جماعة من الأمراء، فهرب السعدي والهاروني إلى عند سنقر، ودخل السلطان دمشق، وبعث عسكراً حاصروا شيراز، وأخذوها فرضي سنقر، وصالح السلطان، فأطلق له عدة بلدان منها أنطاكية وغيرها.
وفي رجب كانت وقعة حمص. أقبل سلطان التتار يطوي البلاد بجيوشه من ناحية حلب، وسار السلطان بجيوشه، فالتقوا شمالي تربة خالد بن وليد، وكان ملك التتار في مائة ألف، والمسلمون في خمسين ألفاً أو دونها، فحملت التتار، واستظهروا واضطربت ميمنة المسلمين، ثم انكسرت الميسرة مع طرف القلب، وثبت السلطان بحلقته، واستمرت الحرب من أول النهار إلى اصفرار الشمس، وحملت الأبطال بين يدي السلطان عدة حملات، وتبين يومئذٍ فوارس الإسلام الذين لم يخلفهم الوقت مثل سنقر، والوزيري السعدي، وأزدمر حسام الدين لاجين، وعلم الدويداري وغيرهم قال: واستغاث الخلق والأطفال، وتضرعوا إلى الله تعالى، فنزل المدد من الله تعالى والنصر وفتح الله، فانكسر أعداء الله، وأصيب ملكهم بطعنة يقال أنها من يد الشهيد أزدمر، وطلع من جهة الشرق عيسى بن مهنا، فاستحكمت هزيمتهم، وركب المسلمون أقفيتهم والحمد لله.
وفيها توفي الشيخ المفسر العلامة المقرئ المحقق الزاهد القدوة موفق الدين أبو العباس يوسف بن حنين الشيباني الموصلي الكواشي. ولد بكواشة قلعة من نواحي الموصل، واشتغل حتى برع في القراءات والتفسير والعربية، وكان منقطع القرين ورعاً وزهداً وصلاحاً وتبتلاً، وله كشف وكرامات.
وفيها توفي الزاهد القدرة الشافي أبو الحسين علي بن أحمد الجوزي. صاحب حال وكشف وعبادة وتبتل.
وفيها توفي ابن بنت الأعز قاضي القضاة صدر الدين عمر ابن قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب العلائي الشافعي المصري، ولي قضاء الديار المصريه نحو سنه، ثم عزل وتوفي يوم عاشوراء.
وفيها توفي ابن سني الدولة قاضي القضاة أحمد ابن قاضي القضاة يحيى الدمشقي الشافعي، ولي القضاء، ثم عزل بعد سنة بابن خلكان، ثم سكن مصر وصودر، ثم وقضاء حلب، وكان يعد من كبار الفقهاء العارفين بالمذهب مع الهيبة والتحري.
وفيها توفي شيخ الإسلام قاضي القضاة المعروف بابن رزين تقي الدين أبو عبد محمد بن الحسين العامري الحموي الشافعي، ولد سنة ثلاث وست مائة، واشتغل من الصغر، وحفظ التنبيه والوسيط والمفصل والمستصفى للغزالي وغير ذلك، وبرع في الفقه والعربية والأصول، وشارك في المنطق والكلام والحديث وفنون من العلوم وأفتى، وله ثمان عشر سنة، أخذ الفقه عن ابن الصلاح، والقراءات عن السخاوي، وكان يفتي بدمشق في أيام ابن الصلاح، ويؤم بدار الحديث، ثم ولي الوكالة في أيام الناصر مع تدريس الشامية، ثم تحول إلى مصر، واشتغل ودرس بالظاهرية، ثم ولي قضاء القضاة، فلم يأخذ عليه رزقاً وتديناً وورعاًً، وتفقه به عدة أئمة، وانتفعوا بعلمه وهديه وشيمه وورعه، وتوفي في ثالث رجب.
وفيها توفي الحافظ أبو حامد المعروف بابن الصابوني محمد بن علي شيخ دار الحديث النورية حصل الأصول، وجمع وصنف.
وفيها توفي الشاعر المشهور يوسف بن لؤلؤ من كبار شعراء الدولة الناصرية.
سنة إحدى وثمانين وست مائة
وفيها توفي قاضي القضاة شمس الدين أبو العباس أحمد بن محمد الإربلي الشافعي المعروف بابن خلكان صاحب التاريخ، ولد سنة ثمان وست مائة، وسمع البخاري من مكرم، وأجاز له المؤيد الطوسي وجماعة، وتفقه بالموصل على الكمال بن يونس، وبالشام على ابن شداد، ولقي كبار العلماء، وبرع في الفضائل والآداب، وسكن مصر مدة، وناب في القضاء، ثم ولي قضاء الشام عشر سنين معزولاً به عز الدين ابن الصائغ، وعزل بعز الدين المذكور، فأقام سبع سنين معزولاً بمصر، ثم رد إلى قضاء الشام، وعزل به ابن الصباغ وتلقاه يوم دخوله نائب السلطنة، وأعيان البلد، وكان يوماً مشهوداً قل أن رأى قاضٍ مثله. وكان عالماً بارعاً عارفاً بالمذهب وفنونه. شديد الفتاوى جيد القريحة. وقوراً رئيساً، حسن المذاكرة، حلو المحاضرة، بصيراً بالشعر، جميل الأخلاق سرياً ذكياً إخبارياً عارفاً بأيام(4/145)
الناس. له كتاب وفيات الأعيان، وهو من أحسن ما صنف في هذا الفن.
قلت: ومن طالع تاريخه المذكور، طلع على كثرة فضائل مصنفه، وما رأيته يتتبع في تاريخه إلا الفضلاء، ويطنب في تعديد فضائلهم من العلماء خصوصاً علماء الأدب والشعراء، وأعيان أولى الولايات، وكبراء الدولة من الملوك والوزراء والأمراء، ومن له شهرة وصيت في الورى. لكنه لم يذكر فيه أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولا من التابعين رحمة الله عليهم، إلا جماعة يسيرة تدعو حاجة كثيرة من الناس إلى معرفة أحوالهم. كذا قال في خطبته قال: وكذلك الخلفاء لم أذكر أحداً منهم اكتفاء بالمصنفات الكثيرة في هذا الباب.
قلت: كأنه يعني بالخلفاء المذكورين الخلفاء الأربعة رضي الله تعالى عنهم، وما كان حاجة إلى ذكرهم، فإنه قد ذكر أنه لم يذكر أحداً من الصحابة، وكان حقهم أن يذكرهم قبل التابعين. بل قبل الصحابة، وكلامه هذا يوهم أنه لم يذكر أحداً من الخلفاء الذين هم الملوك من بني العباس وغيرهم، ولي كذلك بل قد ذكرهم، فليفهم ذلك فإنه موهم.
رجعنا إلى تمام كلامه قال: لكن ذكرت جماعة من الأفاضل الذين شاهدتهم، ونقلت عنهم، أو كانوا في زمني، ولم أرهم ليطلع على حالهم من يأتي من بعدي.
قلت: وكلامه هذا أيضاً ليس بصائب، فانه يوهم أنه لم ينقل إلا عن الذين عاصرهم، وليس بصحيح، فإنه لم يقتصر على ذلك بل هو كما ذكر في خطبته قبل هذا قال: ولم أقصر هذا المختصر على طائفة مخصوصة مثل العلماء والملوك والأمراء والوزراء والشعراء، بل كل من كان له شهرة بين الناس، ويقع السؤال عنه قال: وذكرت من محاسن كل شخص ما يليق به من مكرمه، أو نادرة شعر أو رسالة ليتفقه متأمله، ولا يراه مقصوراً على أسلوب واحد، فيمله والدواعي إنما تنبعث لتصفح الكتاب إن كان دً.
وذكر أنه كان ترتيبه لتاريخه المذكور في شهور سنة أربع وخمسين وست مائة بالقاهرة المحروسة. ثم قال في آخره: نجز الكتاب بحمد الله وعونه في يوم الاثنين من جمادى الآخرة سنة اثنتين وسبعين وست مائة بالقاهرة المحروسة، ثم قال: يقول الفقير إلى الله تعالى أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر ابن خلكان مؤلف هذا الكتاب: إنني كنت قد شرعت في هذا الكتاب في التاريخ المذكور في أوله على الصورة التي شرحتها هناك مع استغراق الأوقات في فصل القضايا الشرعية والأحكام الدينية بالقاهرة المحروسة، فلما انتهيت فيه إلى آخر ترجمة يحيى بن خالد حصلت لي حركة إلى الشام المحروس في خدمة(4/146)
الركاب الشريف العالي المولوي السلطان المؤيدي المنصوري الغياثي المالكي الظاهري بيبرس قسيم أمير المؤمنين حمد الله تعالى سلطانه، وشيد بدوام دولته قواعد الملك، وثبت أركانه، فدخلنا دمشق سابع ذي القعدة من سنة تسع وخمسين وست مائة، وقلدني الأحكام بالبلاد الشامية يوم الخميس ثامن ذي الحجة من السنة المذكورة، فتراكمت الأشغال، وكثرت الموانع الصارفة عن إتمام هذا الكتاب، فاقتصرت على ما كان قد أثبته من ذلك، وختمت الكتاب، واعتذرت في آخره بهذه الشواغل عن إكماله، وقلت: إن قدر الله تعالى مهلة في الأجل، وتسهيلاً في العمل استأنفت كتاباً يكون جامعاً لجميع ما تدعو الحاجة إليه، ثم حصل الانفصال عن الشام والرجوع إلى الديار المصرية، وكانت مدة المقام بدمشق المحروسة عشر سنين لا تزيد ولا تنقص، فلما وصلت إلى القاهرة صادفت بها كتباً كنت أوثر الوقوف عليها، وما كنت أتفرغ لها، فلما صرت أفرغ من حجام ساباط بعد أن كنت أشغل من ذات النحيين كما يقال في هذين المثلين. طالعت تلك الكتب وأخذت منها حاجتي، ثم تصديت لإتمام هذا الكتاب حتى كمل على هذه الصورة، وأنا على عزم الشروع في الكتاب الذي وعدت به إن قدر الله عز وجل ذلك، والله تعالى يعين عليه، ويسهل الطريق المؤدية إليه. فمن وقف على هذا الكتاب من أهل العلم، ورأى فيه شيئاً من الخلل، فلا يعجل بالمؤاخذة، فإني توخيت فيه الصحة حسب ما ظهر لي مع أنه كما يقال: أبى الله أن يصح إلا كتابه. لكن هذا جهد المقل، وبذل الاستطاعة، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولا يكلف الإنسان ما لا تصل قدرته إليه، وفوق كل في علم عليم، فالله يستر عيوبنا بكرمه الضافي، ولا يكدر علينا ما منحنا به من مشرع إعطائه النمير الصافي. إن شاء الله تعالى. انتهى كلامه مع حذفي لألفاظ يسيرة منه كقوله السلطان الماجدي المرابطي الشاعري المنعمي المحسني مما يطنب فيه من مدح أهل الدنيا من الملوك وغيرهم، وألفاظ أخرى لا تدعو الحاجة إلى استيعابها ذكراً، وغفرانك اللهم غفراً، ثم عزل القاضي شمس الدين المذكور بابن الصباغ ثانياً واستمر معزولاً وبيده المدرسة الأمينية والنجيبية إلى أن توفي في شهر رجب في السنة المذكورة، وشيعه خلق كثير.
وقد روى عنه قاضي القضاة نجم الدين ابن صصري وبه تخرج الشيخ أبو الحجاج المزي، ومؤرخ الشام الحافظ علم الدين البرزالي وخلق، ومن شعر القاضي شمس الدين ابن خلكان:
أي ليل على المحب أطاله ... سائق الظعن يوم زم رحاله(4/147)
يزجر العيس طاوياً يقطع المهمه ... عسفاً سهوله ورماله
يسأل الربع عن ظباء المصلى ... ما على الربع لو أجاب سؤاله
هذه سنة المحبين يبكون ... على كل منزل لا محاله
مع أبيات أخرى منها.
يا عريب الحمى اعذروني فإني ... ما تجنبت أرضكم عن ملاله
فصلونا إن شئتم، أو فصدوا ... لا عدمناكم على كل حاله
وفي السنة المذكورة توفي الشيخ عبد الله بن أبي بكر الخريبي، بقية شيوخ العراق. كان صاحب أحوال وكرامات، وله أصحاب وأتباع، تفقه وسمع الحديث قال الذهبي: كان شيخنا شمس الدين الدباهي يحكى عنه عجائب كرامات.
وفيها توفي الشيخ الإمام زين الدين عبد السلام بن علي المالكي القاضي المقري شيخ المقرئين، برع في الفقه وعلوم القران والزهد والإخلاص، وقرأ القراءات على السخاوي، وولي مشيخة الإقراء بتربة أم الصالح اثنتين وعشرين سنة، وقرأ عليه خلق كثير، وولي القضاء تسعة أعوام، ثم عزل نفسه يوم موت رفيقه شمس الدين بن عطار، واستمر على التدريس والإقراء، وتوفي في رجب رحمه الله تعالى.
وفيها هلك طاغية التتار والمغل، كان نصرانياً خرج يوم المصاف على حمص، وحصل له ألم وغم بالكسرة، واعتراه فيما قبل صرع متدارك كما اعترى أباه هولاكو، وهلك في أوائل المحرم إلى لعنة الله تعالى.
سنة اثنتين وثمانين وست مائة
فيها توفي الشهاب ابن تيمية أبو حامد عبد الحليم بن عبد السلام الحزاني الحنبلي، تفقه على والده، ثم انتقل ورحل في صغره، فسمع بحلب من جماعة، وصار شيخ حران وحاكمها وخطيبها بحد موت والده، ثم انتقل بآله وأصحابه إلى بلاد الشام.
وفيها توفي الشيخ الإمام شمس الدين عبد الرحمن ابن القدوة الزاهد محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي الحنبلي تفقه على عمه الموفق، وبحث عليه المقنع وعرضه،(4/148)
وصنف له شرحاً في عشر مجلدات، قيل: وكان منقطع القرين عديم النظير علماً وفضلاً وجلالة، وقد جمع المحدث نجم اللين إسماعيل بن الخباز له سيرة في مائة وخمسين جزءاً لكن ثلاثة أرباعها لا تعلق له بترجمته الأعلى سبيل الاستطراد.
وفيها توفي العماد الموصلي أبو الحسن بن يعقوب المقرئ الشافعي، انتهت إليه رياسة الإقراء، وكان فصيحاً مفوهاً فقيهاً مناظراً. كرر على الوجيز للغزالي.
وفيها توفي الرشيد الصدر الأوحد المحيي ابن القلانسي أبو الفضل يحيى بن علي التميمي الدمشقي المقدسي.
وفيها توفي المفتي شمس الدين أحمد الشافعي، مدرس الشامية، ولي نيابة القضاء عن ابن الصائغ، وكان بارعاً في المذهب. متين الديانة خيراً ورعاً رحمه الله.
سنة ثلاث وثمانين وست مائة
في شعبان كانت الزيادة الهائلة بدمشق بالليل هكذا هو الزيادة في الأصل الذي وقفت عليه من الذهبي، وما يظهر لي معنى صحيح، ولعله الزلزلة، والله أعلم، فخربت البيوت وانطمت الأنهار.
وفيها توفي ابن المنير الإمام العلامة ناصر الدين أحمد بن محمد الجذامي الاسكندراني المالكي قاضي الإسكندرية وفاضلها في الفقه والأصول والعربية والبلاغة، وصنف التصانيف.
وفيها توفي ابن البارزي قاضى القضاة، وابن قاضيها، وأبو قاضيها نجم الدين عبد الرحيم بن إبراهيم بن هبة الله الجهني، الشافعي، كان بصيراً في الفقه والأصول والكلام والأدب، وله شعر بديع، وديانة متينة، وصدق وتواضع، توفي بتبوك في ذي القعدة، فحمل إلى المدينة الشريفة.
وفيها توفي عيسى بن مهنا ملك العرب بالشام، ورئيس أهل الفضل؛ كانت له المنزلة العالية عند السلطان، وصيت شائع في البلدان قلت: ومن صيته الشهير والتفخيم له والتعظيم ما وقع له من بعض قومه في بعض الأيام، وفلك أتي كنت يوماً ماراً إلى القرافة، فلما بلغت تحت قلعة السلطان، رأيت جماعة كثيرين مجتمعين على شيء،(4/149)
فاستشرفت نفسي إلا الإطلاع على ذلك الشيء، فإذا هو رباب يسمعها عرب مهنا من واحد منهم، فلما دنوت منهم أنكرت، فقلت له: اسكت فما سكت به صاحب الرباب، وعرفت أنه لا يلتفت إلى قولي لكوني فقيراً حقيراً لا أعرف في ذلك المكان، وهم وفد عزيز كريم على السلطان، فهولت عليه بالصياح في قولي له اسكت مع تكرير هذه الكلمة حتى أوهمته أن لي شوكة فرفع رأسه إلي وسكت، فقلت له: أما علمت أن هذا الفعل حرام، فقال: من حرمه، فقلت: الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: إلا على آل عيسى، فعجبت من قوله، وشدة جهله، وعرفت أن ما لعلته طباً شافياً، ولا طبيباً مداوياً، فذهبت وخليتهم، توفي عيسى المذكور في الربيع الأول، وقام بعده ولده الأمير حسام الدين مهنا صاحب تدمر.
وفيها توفي ابن الصائغ قاضي القضاة أبو المفاخر محمد بن عبد القادر الأنصاري الدمشقي الشافعي، كان عارفاً بالمذهب بارعاً في الأصول والمناظرة، درس بالشامية مشاركة مع شمس الدين المقدسي، ثم ولي وكالة بيت المال، ثم ولي قضاء الشام، وعزل به ابن خلكان، وظهر منه نهضة وشهامة وقيام في الحق بكل ممكن مع زعارة وفظاظة وإهمال بجانب أكابر من أهل زمانه، فقاموا عليه ناهضين لخفض شأنه، متعرضين له مقابلين بالبغضاء ساعين فيه حتى عزل عن القضاء بالذي عزل به ابن خلكان، وأنشد لسان حال الزمان: أيها الإنسان كما تدين تدان، وذلك في سنة سبع وسبعين، ثم أعيد إلى منصبه في سنة ثمانين، ثم أنهم قاموا له أيضاً وعرضوه بجمر الغضا. نعوذ بالله من سوء القضا فامتحن في سنة اثنتين وثمانين، وأركبوه متن الأخطار، وأخرجوا عليه محضراً بنحو مائة ألف دينار، ولم يزل يلقى منهم شدة وبلاء إلى أن خلصه الله تعالى، وولوا مكانه القاضي بهاء الدين ابن الزكي، وانقطع هو بمنزله بعد ما تمت فصول على ما حكي في ربيع الآخر، وابن خلكان في سنة إحدى كما تقدم بتقدير في الحكمة البالغة، والحكم المحكم.
وفيها توفي الملك المنصور صاحب حماة ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر تقي الدين محمود بن المنصور محمد بن عمر ابن شاهنشاه بن أيوب، تملك بعد أبيه سنة اثنتين وأربعين، وعمره عشر سنين رعاية لأمه الصاحبة بنت الكامل، وكان مذموماً في ديانته على ما قيل الله تعالى يسامحه.
وفيها توفي السيد الإمام الكبير الشأن، القدوة المشكور الشيخ أبو عبد الله محمد بن موسى بن النعمان التلمساني قدم شاباً فسمع بها من محمد بن عمار(4/150)
والصفراوي، كان عارفاً بمذهب مالك راسخ القدم في العبادة والنسك سالكاً في محاسن المسالك، قال الذهبي: كان أشعرياً منحرفاً على الحنابلة، هذه عبارة فيها من الغض له ما فيها كما عرف من عادته من التنقيص من أئمة منهج الحق وسادته، وكانت وفاته في رمضان، ودفن بالقرافة، وشيعه أمم قدس الله روحه، قلت: وله مناقب مشهور ومشكورة.
سنة أربع وثمانين وست مائة
فيها توفي النسفي الإمام العلامة برهان الدين محمد بن محمد بن محمد الحنفي المتكلم صاحب التصانيف في الخلاف يتخرج به خلق، وطالت حياته. كان مولده في ست ست مائة.
وفيها توفيت ست الغرب أم الخير بنت يحيى الدمشقية الكندية، سمعت من مولاهم التاج الكندي، وحضرت سماع الغيلانيات على ابن طبرزد.
وفيها توفي الصائن مقرئ بلاد الروم المجود الضرير أبو عبد الله محمد البصري، قرأ القراءة، وكان بصيراً بمذهب الشافعي خيراً صالحاً.
وفيها توفي شبل الدولة الطواشي الأمير أبو المسك كافور الصوابي الصالحي خزندار قلعة دمشق، روى عن جماعة، وكان محباً للحديث عاقلاً ديناً.
وفيها توفي ابن شداد الرئيس المنشئ البليغ محمد بن إبراهيم الأنصاري، الحلبي الذي جمع السيرة للملك الظاهر، وجمع تاريخاً لحلب.
وفيها توفي الحراني الأمير ناصر الدين محمد ابن الافتخار، والي دمشق ومشيد الأوقاف، كان من عقلاء الرجال والبهائم مع الفضيلة والديانة والمروءة، الكاملة النافذة في الدولة استعفى من الولاية، فأعفي، ثم أكره على نيابة حمص، فلم تطل مدته بها، وتوفي فنقل إلى دمشق.
وفيها توفي الشيخ الجليل شرف الدين محمد بن الحسن الإخميمي، نزيل سفح قاسيون، كان صاحب توجه وتعبد وزهد، وللناس فيه عقيدة عظيمة.(4/151)
سنة خمس وثمانين وست مائة
فيها أخذت الكرك من الملك مسعود خضر ابن الملك الظاهر، ونزل منها وسار إلى مصر.
وفيها توفي الشريشي العلامة جمال الدين محمد بن أحمد البكري الموامكي الأندلسي الفقيه المالكي الأصولي المفسر كان بارعاً في ذلك مهذباً محققاً للعربية، عارفاً بالكلام والنظر، جيد المشاركة في العلوم، ذا زهد وتعبد وجلالة.
وفيها توفي ابن الزكي قاضي القضاة محيي الدين أبو المعالي محمد ابن قاضي القضاة زكي الدين علي ابن قاضي القضاة منتجب الدين محمد بن يحيى القرشي الدمشقي الشافعي.
سنة ست وثمانين وست مائة
فيها توفي ابن عساكر ذو المجد والمفاخر الإمام الزاهد المحدث الماهر أمين الدين أبو اليمن. عبد الصمد بن عبد الوهاب بن زين الأمناء الدمشقي. المجاور بمكة روى عن جده، وعن الشيخ الموفق وطائفة، وكان صالحاً خيراً قوي المشاركة في العلم بديع النظم، طيف الشمائل، صاحب توجه وصدق جاونى أربعين سنة، وتوفي وقد نيف على السبعين، قلت: ومن نظمه وقد دعاه الوزير ذو المحاسن والغرائب الحسناء الموصوف المعروف بابن حنا إلى التدريس لما بلغه من فضله وجميل وصفه الأسنى قصيدة من جملتها هذه الأبيات:
يا من دعاني إلى أبوابه كرماً ... إني إلى باب بيت الله أدعوكا
ومن حداني إلى تدريس مدرسة ... إني إلى السعي والتطواف أحدوكا
أبيت لله جاراً لا ألوذ بما ... شيء سواه، وهذا القدر يكفيكا
وأنثني طائفاً من حول كعبته ... أرى ملوك الدنا عندي مماليكا
وفيها توفي قطب الدين ابن القسطلاني الكبير المحدث الشهير محمد بن أحمد بن علي المكي ثم المصري، ولد سنة أربع عشرة وست مائة، وسمع من شيخ عصره عارف بالله(4/152)
إمام الطريقة، ولسان الحقيقة شهاب الدين السهروردي، ومن الإمام المحدث أبي الحسن علي بن البنا وجماعه، وتفقه وأفتى، ثم رحل سنة تسع، وسمع ببغداد ومصر والشام والجزيرة حتى بلغني أن له ألف شيخ، وكان ممن جمع بين العلم والعمل والورع وخوف الله عز وجل، وولي مشيخة دار الحديث الكاملية بالقاهرة بعد قدومه إلى الديار المصرية بعد أن طلب من مكة المشرفة على ما ذكر بعض من له بالتواريخ معرفة، وأبوه الشيخ أبو العباس القسطلاني المتقدم ذكره، المعروف بزاهد مصر، تلميذ الشيخ الكبير الولي الشهير أبي عبد الله القرشي، وأمه المرأة الولية الصالحة زوجة الشيخ القرشي المذكور. تزوجها أبوه بعد وفاة الشيخ بإشارة من الشيخ بعد موته، فولدت له ولداً مباركاً، كان مكاشفاً من صغره، ثم توفي فلما حضرته الوفاة حزنوا عليه، فقال لهم: لا تحزنوا، فسوف يأتي بعدي لكم ولد عالم صالح يكون من صفته كذا وكذا، فولدت أمه بعده الشيخ الإمام قطب الدين المذكور ذا المحاسن، والفضل المشهور.
وفيها توفي البدر بن مالك أبو عبد الله حمد ابن العلامة جمال الدين محمد بن عبد الله بن مالك الطائي المجياني، ثم الدمشقي، شيخ العربية وإمام أهل اللسان، وقدوة أرباب المعاني والبيان. قال الذهبي: كان ولده الملقب بدر الدين المذكور ذكياً عارفاً بالمنطق والأصول والنظر، لكنه كان لعاباً معاشراً توفي بالقولنج في ثامن المحرم، ولم يتكهل.
قلت: هكذا ذكر الذهبي، وهو خلاف ما رأيت من ترجمته في شرح الألفية، فإنه مكتوب فيه شرح الخلاصة في النحو للشيخ الإمام العالم العامل الورع الزاهد حجة العرب لسان الأدب قدوة البلغاء والفصحاء بدر الدين محمد ابن الإمام العالم حجة العرب أبي عبد الله بن مالك الطائي، هكذا رأيت في الشرح المذكور، والله أعلم به بجمع الأمور، وعلى الجملة فقط أخطأ أحد المترجمين إذ لا يمكن الجمع بين وصفين متناقضين، فإن كان كما ذكره القادح، فكان حق المادح أن يمدحه بما فيه من العلم دون ما ذكر من كونه عاملاً ورعاً زاهداً، وإن كان كما ذكره المادح، فالذام الواصف له بالوصف المذكور مرتكب إثماً عظيماً، فإن مدحه فيه يبقى على تعاقب الدهور، لكن الذهبي معروف بمعرفة علم التاريخ، وأحوال أوصاف الناس الظاهرة، ولكن كان ينبغي على تقدير صحة قوله أن يعرض بذمه، ووصفه القبيح، ولا يصرح به هذا التصريح.
سنة سبع وثمانين وست مائة
فيها توفي الإمام المحدث الفقيه أبو إسحاق إبراهيم بن عبد العزيز الرعيني الأندلسي المالكي، سمع من جماعة، وسكن دمشق، وقرأ الفقه، وتقدم في الحديث مع الزهد،(4/153)
والعبادة والإيثار، والصفات الحميدة، والحرمة والجلالة ناب في القضاء، ثم ولي مشيخة دار الحديث الظاهرية.
وفيها توفي الشيخ إبراهيم بن معصار أبو إسحاق الجعبري الزاهد الواعظ المذكور، روى عن السخاوي، وسكن القاهرة، وكان لكلامه وقع في القلوب لصدقه وإخلاصه، وصدعه بالحق.
قلت: هذه ترجمه الذهبي بحروفها، وهي ناقصة في حقه قاصرة، بلى غاضة من قدره ومناقبه الفاخرة، فإنه الشيخ الكبير الولي الشهير العارف بالله. الخبير ذو المقامات العلية، والأحوال السنية، والأنفاس الصادقة، والكرامات الخارقة، والآيات الباهرة، والمناقب الزاهرة، واللسان البارع، والمقال الصادع، والنور الساطع، والسيف القاطع سيرته مشكورة، وكراماته مشهورة، وله بدايات هائلة ونهايات طائلة.
ومن كراماته أنه جاء قبل موته إلى موضع قبره، ثم قال: يا قبير قد جاءك زبير، ومكث هنالك ليس به علة ولا مرض، ثم توفي عن قريب، ووصل إلى المنى بلقاء الله تعالى عز وجل والفرض.
وحضر يوماً ميعاده الشيخ العارف ذو المعارف واللطائف أبو محمد المرجاني مستخفياً. فقال في أثناء كلامه: جاءكم المرجاني، وكان بعض الأمراء قد ترك ولازم مجالسته مده من الزمان، فقطعوا خيره من الديوان، فقال له الأمير المذكور: إيش ترى في هذا اسكت عنهم في هذا الأمر أم أتكلم. فقال له الشيخ: لا ما تسكت، ثم استدعى الشيخ بورقة، وكتب فيها، أيتها الكلاب الزويرية اتركن من اللحم على العظم بقية تأكلها الكلاب البلدية، ثم أرسل بها إلى أهل الدولة، وكان السلطان هو الملك الظاهر، فوقف عليها كبراء الدولة، ثم أوقفوا عليها السلطان المذكور، فغضب وهم للسطوة، فقيل له: إن هذا الشيخ من صفته كيت وكيت، فسكت وأعادوا لذلك الأمير خيره هذا معنى القضية، وإن اختلف بعض الألفاظ، وكان مذهبه المحو الكلي، وإظهار الإفلاس والعدم، وهو القائل في معارضة قول الشيخ عبد القادر رضي الله تعالى عنه:
أنا بلبل الأفراح املأ دوحها ... طرباً وفي العلياء باز أشهب
وهذا البيت من جملة أبيات كثيرة قدمتها في ترجمة الشيخ عبد القادر رضي الله عنه فقال الشيخ المذكور في معارضة البيت المذكور:
أنا صرد المرحاض أملأ بيره ... نتناً وفي البيداء كلب أجرب(4/154)
ودخل عليه يوماً بعض أصحابه، فقال له: يا سيدي سمعت بيتين من منشد فأعجباني.
فقال له: ما هما فقال:
وقائلة أنفقت عمرك مسرفاً ... على مسرف في تيهه ودلاله
فقلت لها: كفي عن اللوم أنني ... شغلت به عن هجره ووصاله
فقال له الشيخ: ما هذا مقامك ولا مقام شيخك فأطرق التلميذ، ثم رفع رأسه، وقال له يا سيدي وقع لي بيتان غيرهما فقال: قلهما. فقال:
وقائلة طال انتسابك دائماً ... إليه فهل يوم خطرت بباله
فقلت لها: ما كنت أهلاً لهجره ... فما تعتريني شبهة في وصاله
ومما روينا له ما أنشدنا عنه ولده السيد الجليل الشيخ ناصر الدين:
أحن إلى لمع السراب بأرضكم ... فكيف إلى ربع به مجمع السرب
فوا أسفي دون السراب وإنني ... أخاف بأن يقضي على ظمأي نحبي
ومذبان ذاك الركب عني لم أزل ... أعفر من الخد في أثر الترب
قلت: فهذا ما اقتصرت عليه في ترجمته، وهو قدر حقير في وصف جلالته مخل، فذكر محاسنه يحتاج إلى تصنيف مستقل.
وفيها توفي السيد الجليل الولي المشكور المشهور بالأسرار والكرامات والإكرام الشيخ ياسين المغربي الحجام، كان من أولى أنفاس الصادقة والأحوال والكشوفات الخارقة، متستراً بالحجامة عن ظهور الولاية والكرامة، وكان جراحاً على باب الجابية، وكان السيد الجليل الشيخ الإمام محيي الدين النواوي رحمة الله تعالى يزوره، ويتبرك به ويتلمذ له، ويقبل إشاراته، ويمثل ما أمره به.
ومن جملة إشاراته المباركة أنه أمر الشيخ محيي الدين رحمه الله تعالى أن يرد الكتب المستعارة إلى أهلها، وأن يعود إلى بلاده ويزور أهله، ففعل ذلك، ثم توفي عند أهله رحمه الله تعالى قلت: ومثل هذا السيد الذي كان الشيخ الإمام العالي المقام الممدوح بين الأنام محيي الدين النواوي يتبرك به ويتلمذ له ويتأدب معه ينبغي أن يفخم ويعظم ويبجل ويكرم، وأما قول الذهبي: والحاج ياسين المغربي الحجام الأسود، كان جراحاً، وكان النواوي يزور ويتلمذ له بغير لائق بقدرهما.(4/155)
وكانت وفاة الشيخ ياسين المذكور في شهر ربيع الأول، وقد قارب الثمانين نفعنا الله به، وبجميع الصالحين آمين.
وفيها توفي ابن النفيس العلامة علاء الدين علي بن أبي الحزام القرشي الدمشقي شيخ الطب بالديار المصرية، وصاحب التصانيف، وأحد من انتهت إليه معرفة الطب مع الذكاء المفرط، والذهن الخارق، والمشاركة في الفقه والأصول والحديث والعربية والمنطق.
سنة ثمان وثمانين وست مائة
في ربيع الأول منها نزل السلطان الملك المنصور مدينة طرابلس، ودام الحصار والقتال، ورمى بالمجانيق والكبار، وحفر النقوب ليلاً ونهاراً إلى أن افتتحها بالسيف في رابع ربيع الآخر، وغنم المسلمون أموالاً لا تحد ولا توصف، وكان سورها منيعاً قليل المثل، وهي من أحسن المدائن وأطيبها، فأخربها وتركها خاوية على عروشها، ثم أنشأوا مدينة على ميل من شرقيها، وجاءت ردية الهوا والمزاج على ما ذكر بعضهم.
وفيها يوم عرفة توفي الشيخ العماد أحمد بن العماد إبراهيم المقدسي الصالحي، سمع من جماعة، واشتغل وتفقه، ثم تفقر وتجرد وصار له أتباع ومريدون طعن فيهم الذهبي، والله أعلم.
وفيها توفي العلم ابن الصاحب أبو العباس أحمد بن يوسف المصري اشتغل ودرس وتميز، ثم تفقر وتجرد وغض منه الذهبي أيضاً، ثم قال: ونوادره مشهورة، وروائده حلوة، وله أولاد رؤساء.
وفيها توفيت زينب بنت مكي الحراني ابن علي ابن الكامل، الشيخة المعمرة العابدة أم أحمد، سمعت من حنبل، وابن طبرزد، وست الكتبة وطائفة، وازدحم عليها الطلبة، وعاشت أربعاً وستين سنة.
وفيها توفي الفخر البعلبكي المفتي عبد الرحمن بن يوسف، سمع من القزويني وابن الزبيدي، وجماعة، وتفقه بدمشق على النقي بن العز وغيره، وعرض كتاب علوم الحديث على مؤلفه الشيخ الإمام ابن الصلاح، وأخذ الأصول عن السيف الآمدي، وتخرج به(4/156)
جماعة، وكان من العلماء الصالحين العاملين.
وفيها توفي شمس الدين الأصفهاني الأصولي المتكلم العلامة أبو عبد الله محمد بن محمود نزيل مصر. صاحب التصانيف، له كتاب القواعد في العلوم الأربعة الأصلين والخلاف والمنطق وكتاب غاية المطلب في المنطق، وله يد طولى، في العربية. درس في مشهد الشافعي، ومشهد الحسين، وتخرج والمصريون، وتوفي في رجب منيفاً على السبعين.
سنة تسع وثمانين وست مائة
فيها توفي السلطان الملك المنصور سيف الدين أبو المعالي، وفيها توفي أبو الفتوح قلاوون التركي الصالحي النجمي، كان من أكابر الأمراء زمن الظاهر، وتملك في رجب سنة ثمان وسبعين، وكسر التتار على الحمص، وغزا الفرنج غير مرة، وتوفي في سادس ذي القعدة بالمخيم بظاهر القاهرة، وقد عزم على الغزاة، ثم دفن بتربته بين القصرين.
وفيها توفي خطيب دمشق عبد الكافي بن عبد الملك الدمشقي الشافعي المفتي، سمع من ابن صباح، وابن الزبيدي وجماعة، وناب في القضاء مدة، وكان ديناً حسن السمت للناس فيه عقيدة كبيرة.
وفيها توفي الرشيد الفارقي أبو حفص عمر بن إسماعيل بن مسعود الشافعي الأديب. سمع من الفخر، وابن الزبيدي وغيرهما، وكان أديباً بارعاً منشئاً بليغاً شاعراً مفلقاً لغوياً محققاً. درس بالناصرية مدة، ثم بالظاهرية، وتصدر للإفادة، وخنق في بيته بالظاهرية، وأخذ ماله ودرس بعده علاء الدين ابن بنت الأغر.
سنة تسعين وست مائة
دخلت والسلطان هو الملك الأشرف ابن المنصور، وقد فوض الوزارة إلى شمس الدين بن سعلوس، ونيابة الملك إلى بدر الدين بيدراً، فسار بالجيوش إلى الشام، ونزل إلى عكا في رابع ربيع الآخر، وجد المسلمون في حصارها، واجتمع عليها أمم لا يحصون، فلما استحكمت النقوب، وتهيأت أسباب الفتح أخذ أهلها في الهزيمة في البحر، فافتتحت بالسيف بكرة الجمعة سابع عشر جمادى الأولى، وصير المسلمون سماءها أرضاً، وطولها عرضاً، وأخذ المسلمون بعد يومين مدينة صور بلا قتال لكون أهلها هربوا في البحر لما علموا بأخذ عكا، وسلمها الرعية بالأمان، وأخربت أيضاً، ثم افتتح الشجاعي صيدا في(4/157)
رجب وأخربت، ثم افتتح بيروت بعد أيام وهدمها، فلما رأى أهل حصن عثليث بالمثلثة بعد العين المهملة مكررة في آخره خلو الساحل من عباد الصليب. أحرقوا حواصلهم، فهربوا في البحر، فهدمه المسلمون، وكذلك فعل بأهل طرسوس، فتسلمها الطباخي، ولم يبق للنصارى بأرض الشام معقل ولا متحصن.
وفيها توفي عن اثنتين وثمانين سنة الإمام الجليل السيد الجليل ذو المجد الأثيل بركة الزمن، وفقيه اليمن المعروف، بابن عجيل الولي الكبير العارف بالله الشهير ذو السيرة الحميدة، والمناقب العديدة، والبركات الظاهرة، والكرامات الباهرة أبو العباس أحمد بن موسى بن علي بن عمر الذوالي بالذال المعجمة؛ كان أبوه عالماً بأصول الفقه وفروعه، وانتهت إليه رياسة الفقه والفتوى، حتى كان يقول شيخه الكرماني في إجازته علامة اليمن، وأعجوبة الزمن، وكان عمه محمد فقيها في الفرائض والحساب، وكان عمه وشيخه إبراهيم عالماً بالحديث والعربية والفقه وأصوله، وكان أبوه موسى المذكور يصحب الشيخ والفقيه، وكان إذا زارهما يقولان له أو أحدهما: أرحب يا أبا أحمد، ويبشرانه أنه يولد له ولد يكون له شأن عظيم.
قلت: وبلغني أن الشيخ الحكمي قال له: يكون أحمد شمس زمانه لا كشموسنا، وبلغني أيضاً أنهما أتيا يوم السابع عن ولادة الفقيه أحمد المذكور، وأسرا إليه كلاماً في أذنه لم يدر الحاضرون ما هو، حتى سئل الفقيه أحمد عنه بعدما كبر. ما هو؟ فقال: أوصياني بذريتهما، وكان رضي الله تعالى عنه قد نشأ نشوءاً عجيباً، وظهرت فيه النجابة، ولاح عليه الفلاح، واستفاض في الناس أنه ما لعب ولا صبا، ولم يعرف له سوى الورع والزهد والعبادة، والاشتغال بالعلم، والاستفادة والإفادة. اشتغل على عمه إبراهيم ولازمه اثنتي عشرة سنة يقرأ فيها الفنون التي قد أتقنها مع خلو البال، والاعتزال لا يبطل الاشتغال في يوم جمعة ولا غيره، فبرع في العلوم خصوصاً الفقه، وله شيوخ غير عمه أخذ عنهم في مكة وهم جماعة.
منهم الإمام محمد بن يوسف بن مسدي بفتح الميم وسكون السين وكسر الدال المهملتين المهلبي، والإمام سليمان بن خليل العسقلاني، والإمام إسحاق بن أبي بكر طبري وفي اليمن الفقيه الإمام محمد بن إبراهيم الفشلي، كل هؤلاء المذكورين خطوطهم في كتبه مسطورة.
وأخذ عنه خلائق منهم الفقيه العلامة السيد الكبير الولي الشهير ذو المناقب الجليلة، المواهب الجزيلة، والكرامات الباهرة، والمحاسن الزاهرة أبو الحسن علي بن إبراهيم البجلي اليمني الساكن في شجينة بضم الشين المعجمة، وفتح الجيم، والنون وبينهما مثناة(4/158)
من تحت ساكنه قرية من تهامة اليمن، كان يحج بقوافل اليمن بعد شيخه ابن عجيل المذكور أدركته وحججت معه، ولعلي المذكور كرامات يطول ذكرها، وفضائل يجل قدرها.
قيل خرج من تحت يده نيف وثمانون مدرساً، وكان فقه كتاب المهذب على ذهنه، وله ولد اسمه إبراهيم أعني التلميذ المذكور، كان في العلم والصلاح والكرامات بمكان رفيع وفضل وسيع.
ومن كراماته ما بلغني أنه زار مع أبيه مساجد الفتح غربي المدينة الشريفة، فنبحهم كلب هناك، فالتفت إليه إبراهيم المذكور، فتفل في وجهه، فمات الكلب، فغضب عليه أبوه لإظهاره مثل هذه الكرامة العظيمة من غير ضرورة دعت إلى ذلك.
ومن كرامات والده الفقيه علي المذكور الداعية إليها الضرورة أن بعض الناس أودع امرأة وديعة، فماتت الامرأة، ولم يعلم بها أحد أين تركت الوديعة، فجاء صاحب الوديعة، فطلبها، فلم يجد من يعلمه بها، فجاؤوا إلى الفقيه علي المذكور، وذكروا له الحال، فقال: أروني قبرها، فذهبوا به إلى القبر، فوقف عليه ساعة واحدة، ثم سأل هل في بيتها شجرة حناء. قيل: نعم قال: احفروا تحت الشجرة، فالوديعة هناك.
وكان رضي الله عنه يحج ويزور في شبابه على رجليه سنيناً كثيرة، وقدم في بعضها المدينة الشريفة وابن عجيل فيها، فخرج للقائه بأمر النبي عليه السلام له بذلك، فوجده عند المصلى سابع سبعة وقربته علي ظهره في قصة طويلة هذا مختصرها، وكانت له أيام زاهرة، وبركات ظاهرة، وإليه أشرت بقولي في ذكر شجينة قريته:
وكم شجن قد حل بي من شجينة ... بحسن مليحات حوتها فواضل
وممن أخذ عن ابن عجيل أيضاً الفقيه الإمام العالم العلامة أبو الحسن علي بن أحمد، المعروف بابن الصريدح، كان فقيهاً فاضلاً صالحاً مفيداً منتفعاً به. مررت عليه عند زيارتي لقبر ابن عجيل المذكور، وكان قويباً منه، فوجدته يدرس جماعة من الطلبة، فألقيت عليهم ثلاث مسائل، فوقفوا عن جوابها، ثم استمررت في سفري إلى مكة، ثم إلى المدينة، ثم بعد سنين كثيرة قدم حاجاً بعض طلبته، وهو الفقيه الفاضل الصالح العالم العامل أبو بكر، المعروف بدعسين بفتح الدال والسين، وسكون العين بينهما مهملات، وسكون المثناة من تحت قيل: النون، وهو لا يعرفني ولا أعرفه، فقال: قدم علينا شاب، وسألنا عن ثلاث مسائل، فلم نعرف جوابها، وفتشنا الكتب، فوجدنا جواب واحدة منها، وواحدة وجدنا فيها وجهين، وواحدة لم نجد لها جواباً، فضحكت عند ذلك، فعرف حيئذٍ أني كنت ذلك السائل، وابن الصريدح المذكور من بني الصريدح.(4/159)
ومنهم الفقيه عبد الله بن أحمد الصريدح. تفقه على جد ابن عجيل المذكور علي بن عمر بن عجيل رحمهم تعالى.
وممن أخذ عن ابن عجيل أيضاً الفقيه الإمام العلامة ذو الفهم الثاقب، والعلو والمناقب الفاضل البارع النجيب، قاضي القضاة رضي الدين الأديب اليمني اللخمي.
ومنهم الفقيه الأجل العالم البارع المتفنن أبو الحسن علي بن عبد الله الجبرتي المشهور بالفرضي البارع في علم الفرائض، كثير من الناس يسمونه الزيلعي ومنهم ولد ابن عجيل المذكور الفقيه القدوة الصالح إبراهيم بن أحمد، وقد أدركته، وزرته، ووجدته يقرئ بنية له صغيرة.
وممن روى عن ابن عجيل المذكور شيخنا الرواية إمام الحديث في زمانه رضي الدين إبراهيم بن محمد الطبري إمام المقام الشريف بمكة يروي عنه كتاب " المصابيح " في الحديث وهو يرويه عن عمه بسنده المثبت في الطباق، وكان يشير إلى شيخنا المذكور إذا طلب منه الدعاء بعض أهل مكة، ويقول: عندكم إبراهيم، وكان كثير التردد إلى الحج والزيارة.
وله كرامات عديدة، وسيرة حميدة، وزهد وورع دقيق، واتقان للعلوم، وتحقيق وقدر كبير، وصيت شهير صارت بفضله الركبان إلى شاسع البلدان، ولعله كان يزيد على الشيخ الإمام رفيع المقام محيي الدين النواوي في ورعه وأدبه، وزهده، وتقشفه، فمعيشته كانت من الذرة الحمراء، والقطيب والمخيض من اللبن على تعاقب الدهور، وطول الزمن.
وقد قال بعضهم في مثل أحمد بن موسى: في الأولياء كيحيى بن زكرياء في الأنبياء.
كأنه أشار إلى ما ورد ما منا إلا من عصي أو هم بمعصية إلا يحيى بن زكرياء، وكان رضي الله تعالى عنه فيه من المحاسن والآداب ما يحتاج ذكره إلى تصنيف كتاب.
ونقتصر من ذكر كراماته الكثيرة على واحدة منها شهيرة، وهي أنه جاءه بعض الناس يلتمس بركته، وفي يده سلعة، فقال له: يا سيدي هذه السلعة درت بها على الصالحين ليدعوا لي في ذهابها، فلم تذهب، وأنت إن لم تدع لي وتذهب بدعائك وإلا ما بقيت أحسن ظني بأحد من الصالحين، فقال له: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قرأ عليها، وقال: اربط عليها بخرقة، ولا تفتحها حتى تصل إلى بلادك، ففعل ما أمر به، ثم سافر إلى أن بلغ بعض الطريق، وحضر وقت الغداء، ومعه رفقة، فقالوا: تعالوا نتغذى في هذه القرية، فاشتروا خبزاً ولبناً، وفتوه وعادة أهل اليمن يكلون الخبز واللبن إذا كان مفتوتاً بالكف، ففتح الخرقة(4/160)
وأكل بكفه ناسياً لما أوصاه به من ترك فتحها إلى بلاده، فلما فرغ من الأكل ذكر ما أوصاه به، ونظر إلى يده، فإذا السلعة التي كانت فيها قد ذهبت، ولم يزل رضي الله تعالى عنه مع ما هو متصف به من مشاهدات الأنوار والإطلاع على الأسرار يشغل الطلبة بالعلوم بالليل والنهار، حتى بمقامات الحريري على ما بلغني، وأصله من عرب يقال لهم: المعازبة بالعين المهملة قبل الألف، وبعدها زاي وموحدة قبل الهاء يسكنون قريباً من زبيد، وإلى انتسابه إليهم، وحسن سيرته وأدبه أشرت بقولي في بعض قصائدي عند الغزل لشيوخ اليمن وعادتي أجمعه مع الفقيه الإمام الولي الكبير الرفيع المقام إسماعيل بن محمد الحضرمي المتقدم ذكره في سنة ست وسبعين، حيث قلت مشيرا أيضاً إلى مسكن الحضرمي ودلاله وحلاله:
وجود في الضحى أضحت بحسن ... زها تختال فاقت للغواني
كجود للمعازبة اعتراها ... حصان في حيا حسن رزان
وكم من جوهر صادفته في ... حقير من جناد صدف صان
وفي أخرى تشتمل على ذكر مائة شيخ من أكابر الأولياء المشهورين الأفراد في اليمن وغيره من أقطاب البلاد. تنيف على ثلاث مائة بيت في التعداد. قلت: أيضاً مشيراً إليهما:
أنا راسماً مجد المعالم والعلى ... وصار أهدى للحائر المتردد
وليان كل كم له من كرامة ... عليان كل في مقام مشيد
خليلان كل صادق في وداده ... جليلان كل في ردا المجد مرتد
ذوا مجد أكرام الولاية معلماً ... بنور الهدى يزهو به كل مسعد
هما الحضرمي نجل الولي محمد ... إمام الهدى نجل الإمام الممجد
له خطب كم ذللت ثم عللت ... عنايات فضل ليس تدرك باليد
مدل ومجوب وفي كلفة العنا ... عظيم كرامات وجاه وسؤدد
ومن جاهه أومى إلى الشمس أن قفي ... فلم تمشي حتى أنزلوه بمقصد
ونجل عجيل كم مواهب عجلت ... له وسعادات ومجد مجدد
نحلي حلا يزهو الوجود بحسنها ... ويرفل في ثوب الجمال المنجد
كان حلاه حلة الشمس معلم ... بهاها على كم الزمان بعسجد
مشى سيرة محمودة لا يسيرها ... سوى كل صديق بحفظ مؤيد
عظيم كرامات عزيز وجودها ... بها شهرة كانت لذكر معدد
هو القمر الثاني البهي ليت نظرة ... إلى بحر حسن في الدجى متهجد
وفي أخرى أيضاً موسومة بباهية المحيا في مدح الشيوخ الأصفياء، والرد على بعض(4/161)
المنكرين الأغبياء بمعرفة الأصول والعربية، وطريق السالكين الأولياء أشرت إليهما في غزلها بقولي:
وجود الضحى شمس الضحى حضرمية ... مدللة تزهو بعالي المنازل
وذات إليها الحسنا عجيليه زهت ... بها سارت الركبان من كل راحل
وأشرت إليهما أيضاً، وإلى الشيخ الكبير اليمني الأصل والبلاد أبي العباس أحمد المعروف بالصياد فيها عند ذكر أسمائهم بالتصريح بعد الكناية بالغزل والتلويح فقلت:
وأكرم بإسماعيل شيخ شيوخنا ... هو الحضري المشهور زين المحافل
ورين الزمان ابن العجيل شهيرهم ... وصيادهم سامي العلا والفضائل
ومن محاسن أدب السيد المذكور ابن عجيل المشهور المذكور احترازه في جوابه المشكور وقد سئل عن سماع الصوفية أن أبحه، فلست من أهله، وإن أنكره، فقد سمعه من هو خير مني، وقد نقلت هذا الجواب في بعض كتبي، فلما قرئ ذلك الكتاب على ابن ابنه الفقيه العالم في الفضائل والمكارم أبي العباس أحمد بن أبي بكر في الحرم الشريف، ووقف على جواب جده المذكور. قال: هكذا هو عندنا مسطور، فزادني ذلك طمأنينة في العلم والتحقيق، وقد اقتصرت في ترجمته على هذه النبذة اليسيرة، وبالله التوفيق.
وفيها توفي السويدي الحكيم العلامة شيخ الأطباء أبو اسحاق إبراهيم بن محمد بن طرخان الأنصاري الدمشقي، سمع من طائفة، وأخذ الأدب عن ابن معطي، والطب عن المهذب، وبرع فيه، وصنف وفاق على الأقران، وكتب الكثير بخطه المليح، ونظر في التعليقات، وألف كتاب الباهر في الجواهر والتذكرة في الطب وعاش تسعين سنة.
وفيها توفي سلامش بالمهملة في أوله والمعجمة في آخره الملك العادل ابن الملك الظاهر بيبرس الصالحي الذي سلطنوه عند خلع الملك السعيد، ثم نزعوه بعد ثلاثة أشهر، فبقي خاملاً بمصر، فلما تسلطن الأشرف أخذه وأخاه الملك خضراً وأهلهم وجهزهم إلى بلاد الأسكري، فمات بها.
وفيها توفي التلمساني سليمان بن علي الأديب الشاعر الملقب بعفيف الدين.(4/162)
قال الذهبي: أحد زنادقة الصوفية، وقد قيل له مرة: أنت نصيري قال: النصيري بعض مني.
قال: وأما شعره، ففي الذروة العليا من حيث البلاغة والبيان لا من حيث الإلحاد.
قلت: وهذا أيضاً مع ما تقدم يدل على سوء عقيدة الذهبي في الصوفية، أما كان يكفيه إن كان كما ذكر زنديقاً أن يقول: أحد الزنادقة، ولا يضيف إلى الصوفية الصفوة أهل الصدق والتصديق، والحق والتحقيق كل فاجر زنديق. وهل كل من كان متصفاً بالوصف المذكور أو غيره من وصف غير مشكور ينسب إلى الصوفية أهل الصفا والنور؟ وكأنه ما يصدق متى يصادف رخصة يتخذها فرصة في الطعن في الساعة الأحباب العارفين أولى الألباب، وليت هذا إذ حزم التوفيق في حسن الظن، ومشابهة الولي الإمام محي الدين النواوي الجليل المقدار، حيث ذكر في كتابه الحفيل الموسوم بالإذكار، إن الصوفية من صفوة هذه الأمة نعوذ بالله من حرمان التوفيق والعصمة، فلم يكن لهم معتقداً أمسك عنهم، ولم يكن فيهم منتقداً لكنه سارع إلى القدح فيهم ترا، والطعن فيهم مرة بعد أخرى، كأنه قد شرب من ما جيرانه المعروف بالوخم الطاعنين في الصوفية أولى الأحوال السنية، ومحاسن الأوصاف والشيم، والجد والاجتهاد وعوالي العزائم والهمم، ورفض ما سوى الله، والإقبال على الله في الفضل والجود والكرم، وما أحسن التوفيق للسكوت فيما لا يدريه الإنسان، كما تقدم من جواب السيد الجليل الكبير الشأن، ابن العجيل لما سئل عن السماع حيث تورع فبم الجواب، ولم ينسبه إلى الزيغ والابتداع، وكيف وضع نفسه عن مشابهة من سمعه مع رخصه الله به ورفعه، فقال: إن أبحه، فلست من أهله، وإن أنكره، فقد سمعه من هوي مني.
قلت: وقد نص الشيوخ العارفون بالله من الصوفية أولى المقامات العلية إن الفرق الخارجة عن سنن الهدى ليسوا من الصوفية، وإن ادعوا ذلك، ولبسوا في الرسوم والزخارف، وممن نص على ذلك شيخ عصره الإمام شهاب الدين في العوارف.
وفيها توفي الإمام فقيه الشام، وشيخ الإسلام المشهور بالفضل والخير والاتباع أبو محمد عبد الرحمن بن إبراهيم الفزاري الشافعي المعروف ابن صباغ تاج الدين الملقب بالفركاح لحنف في رجليه العلامة شيخ المذهب على الإطلاق في زمانه والد الشيخ الإمام(4/163)
العلامة برهان الدين، سمع من طائفة منهم ابن الزبيدي، وتفقه على الإمامينابن عبد السلام، وابن الصلاح، واشتغل وأفتى، وكان مع فرط ذكائه، وتوقد ذهنه ملازماً للاشتغال، مقدماً في المناظرة، متبحراً في الفقه وأصوله، وانتهت إليه رياسة المذهب - رحمه الله تعالى - له عبارات حسنة جزلة فصيحة، وخطابة بليغة، له الفوائد الجمة والفنون المهمة، والمصنفات البديعة، محبباً إلى الناس لعفته، ودينه، وفضله، وعقله، وعلمه، ورياسته، وتواضعه، وكرمه، ونصحه للمسلمين، ومن مصنفاته كتاب الإقليد في درر التقليد علقه على أبواب التنبيه من نظر فيه علم محل الرجل من العلم، وكان - رحمه الله تعالى - لطيف الطبع يميل إلى استماع السماع، ويحضره ويرخص فيه، وله اختيارات في المذهب مشى على أكثرها ولده، وله فضائل كثيرة، ومحاسن عديدة، وشعر جيد، وخرج له الحافظ علم الدين البرزالي مشيخة على مائة شيخ في عشرة أجزاء، فسمعها عليه جماعة من الأعيان، منهم الشيخ العلامة ابنه برهان الدين، والشيخ الإمام العلامة تقي الدين ابن تيمية، والحافظ أبو الحجاج المزي، وقاضي القضاة نجم الدين ابن صصري، والشيخ علاء الدين ابن العطار وغيرهم. وتخرج به جماعة كثيرون، وخلائق لا يحصون، وكانت فنونه في العلوم الشرعية، وتأسف الناس على فراقه.
قلت: وبلغني أن ولده الشيخ برهان الدين كان يرخص في السماع أيضاً بشروط كوالده، وإن والده ما حضره إلا بعد أن رأى كرامة من بعض المشائخ الصوفية.
وفيها توفي ابن الزملكاني الإمام المفتي علاء الدين أبو الحسن ابن العلامة البارع كمال الدين عبد الواحد بن عبد الكريم الأنصاري الدمشقي الشافعي.
سنة إحدى وتسعين وست مائة
في جمادى الأولى منها قدم السلطان الملك الأشرف في دمشق، وقد فرغ الشجاعي من بناء الطارمية، والرواق، وقاعة الذهب، والقبة الزرقاء بقلعة دمشق، فرغ جميع ذلك في سبعة أشهر، قيل: وجاء في غاية الحسن، ثم سار السلطان ونازل قلعة الروم في جمادى الأخرى، فنصب عليها المجانيق، وجد في حصارها، وفتحت بعد خمسة وعشرين يوماً، وأهلها نصارى من تحت طاعة التتار، فلما رأوا أن التتار لا ينجدونهم ذلوا، وما أحسن ما قال الشهاب محمود في كتاب الفتح: فسطا جيش الإسلام يوم السبت على أهل الأحد، فبارك الله للأمة في سبتها وخميسها.(4/164)
وفيها توفي أبو حفص عمر بن مكي بن عبد الصمد الشافعي الأصولي المتكلم، خطيب دمشق، وولي بعده الخطابة الشيخ عز الدين الفاروثي.
سنة اثنتين وتسعين وست مائة
فيها أسلم صاحب شيس قلعة بهنسا للسلطان صفوا لم يلق ضرباً ولا طعناً فضربت البشائر في رجب.
وفيها توفي الإمام أعلم العلماء الأعلام ذو التصانيف المفيدة المحققة، والمباحث الحميدة المدققة قاضي القضاة ناصر الدين عبد الله ابن الشيخ الإمام قاضي القضاة إمام الدين عمر ابن العلامة قاضي القضاة فخر الدين محمد ابن الإمام صدر الدين علي القدوة الشافعي البيضاوي، تفقه بأبيه، وتفقه والده بالعلامة مجير الدين محمود بن أبي المبارك البغدادي الشافعي، وتفقه مجير الدين بالإمام معين الدين أبي سعيد منصور بن عمر البغدادي وتفقه هو بالإمام زين الدين حجة الإسلام أبي حامد الغزالي رحمهم الله تعالى.
قلت: ونسبة الغزالي في الفقه إلى الشافعي معروفة، وكذلك نسبته ونسبة أخيه الشيخ الإمام الغزالي في التصوف معروفتان، وقد ذكرت شيوخ الخرقة في كتاب نشر الريحان في فضل المتحابين في الله الاخوان، وللقاضي ناصر الدين المذكور مصنفات عديدة، ومؤلفات مفيدة، منها الغاية القصوى في الفقه على مذهب الشافعي، وله شرح المصابيح وتفسير القرآن والمنهاج في أصول الفقه، والطوالع في أصول الدين، وكذلك المصباح، وله المطالع في المنطق وغير ذلك مما شاع في البلدان، وسارت به الركبان، وتخرج به أئمة كبار - رحمه الله تعالى رحمة الأبرار -.
وفيها توفي القاضي جمال الدين أبو إسحاق إبراهيم بن داود بن ظافر العسقلاني ثم الدمشقي المقرئ صاحب السخاوي، ولي مشيخة الإقراء بتربة أم الصالح مدة، وسمع من ابن الزبيدي جماعة، وكتب الكثير.
وفيها توفي الشيخ الجليل القدوة إبراهيم ابن الشيخ القدوة عبد الله الأرموي روى عن الشيخ الموفق وغيره. توفي في المحرم، وحضره ملك الأمراء والقضاة، وحمل على الرؤوس، وكان صالحا قانتاً لله، منيباً عليه سيماء السعادة، متصفاً بالزهد والعبادة، معدوداً من الأولياء السادة.(4/165)
وفيها توفي ابن الواسطي العلامة الزاهد القدوة مسند الوقت أبو اسحاق إبراهيم بن علي الصالحي، سمع وتفقه وأتقن، ودرس بالمدرسة الصالحية، وكان فقيهاً زاهداً، عابداً، مخلصاً. صاحب جد وصدق، وقول بالحق، وهيبة في النفوس.
وفيها توفي الشيخ الكبير السيد الشهير صاحب القلب المستنير، العارف بالله الخبير الذي شاع فضله واشتهر، المعروف بالمكين الأسمر عبد الله بن منصور الإسكندراني شيخ القراء بالإسكندرية.
قلت: وممن أثنى عليه بالنور والاطلاع شيخ زمانه أبو الحسن الشيخ الشاذلي الذي اشتهر فضله وشاع، وكذلك الشيخ الإمام علي المقام تاج الدين ابن عطاء الله الشاذلي، وقال: كنت أنا وهو معتكفين في العشر الأواخر من رمضان، فلما كانت ليلة ست وعشرين قال: أرى الملائكة في تهيئة وتعبية كما تهيأ أهل العرس قبله بليلة، فلما كانت ليلة سبع وعشرين، وهي ليلة جمعة قال: رأيت الملائكة تنزل من السماء، ومعها أطباق من نور، فلما كانت ليلة ثماني وعشرين قال: رأيت هذه الليلة كالمتغيظة، وهي تقول: هب إن لليلية القمر حقا أمالي حق يرعى. أو كما قال انتهى كلامه.
قلت: لعل تغيظها على الناس من أجل تركهم إحياءها، واهتمامهم بليلة القدر دونها كونها جارة لها، وحق الجار أن يكرم بشيء مما أكرم به جاره.
وأما أطباق النور المذكور، فلعلها هدية إلى من أحيى ليلة القدر. المذكورة، ومن أناله الله تعالى شيئاً من بركتها والخيرات المقسومة فيها، والله أعلم.
سنة ثلاث وتسعين وست مائة
في سابع المحرم منها قتل السلطان ببروجه في الصيد، ثم قتل نائبه بيدراً وخلفوا للسلطان الملك الناصر محمد بن المنصور، وهو ابن تسع سنين، وجعل نائبه كتبغا، وبسط العذاب على الوزير ابن سلغوس حتى مات وأخذت أمواله ثم قتل الشجاعي.
وفيها توفي الملك الأشرف صلاح الدين خليل ابن الملك المنصور سيف الدين قلاوون ولي السلطنة بعد والده في ذي القعدة سنة تسع وثمانين، وقتله في المحرم بيدراً(4/166)
ولاجين وجماعة، وتسلطن بيدراً، ولقب بالملك القاهر فأقبل كتبغا والجاشكير، وحملوا على بيدراً فقتلوه.
وفيها توفي قاضي القضاة شهاب الدين ابن قاضي القضاة شمس الدين أحمد الخليل بن سعادة بن جعفر الشافعي روى عن ابن المقير وطائفة، وكان من أعلم أهل زمانه وأكثرهم تفنناً، وأحسنهم تصنيفاً، وأحلاهم مجالسة، ولي القضاء بحلب مدة، ثم ولي قضاء الشام هكذا قال بعضهم، ولم يقل قضاء دمشق، وتوفي في العشر الأخير من شهر رمضان.
وفيها توفي الملك الحافظ غياث الدين محمد ابن شاهنشاه، وصاحب بعلبك الملك الأمجد، روى صحيح مسلم، ونسخ الكثير بخطه.
وفيها توفي الدمياطي شمس الدين محمد بن عبد العزيز المقرئ أخذ القراءة من الصخاوي، وتصدر واحتيج إلى علو روايته، وقرأ عليه جماعة.
وفيها توفي الوزير سلغوس المدعو بالوزير الكامل، مدبر الممالك شمس الدين محمد بن عثمان التنوخي الدمشقي التاجر الكاتب ولي حسبة دمشق، فاستصغره الناس عليها، فلم ينشب أن ولي الوزارة، ودخل دمشق في موكب عظيم لم يعهد مثله. مات بعد أن أنتن جسده من شدة الضرب، وقطع منه اللحم الميت نسأل الله الكريم العافية.
سنة أربع وتسعين وست مائة
في المحرم تسلطن الملك العادل كتبغا المنصوري، وزينت مصر والشام، وله نحو من خمسين سنة يومئذ سبي يوم وقعت حمص من التتار.
وفيها توفي الفاروثي الإمام العالم الواعظ المقرئ المفسر الخطيب عز الدين أبى العباس أحمد بن إبراهيم الواسطي الشافعي الصوفي شيخ العراق، كان إماماً متفنناً متضلعاً من العلوم والآداب، حسن التربية للمريدين، لبر الخرقة من الشيخ العارف أستاذ زمانه شهاب الدين السهروري، وسمع منه ومن جماعة، وأسمع الكثير في الحرمين والعراق ودمشق، وجاور مدة، وعليه قرأ كتاب الحاوي الصغير شيخنا الفقيه الإمام العلامة(4/167)
نجم الدين قاضي الحرم الشريف وشيخه ومدرسه محمد بن محمد الطبري، والفاروثي يرويه عن مصنفه الشيخ عبد الغفار القزويني، ثم قدم بعد المجاورة إلى الشام في سنة إحدى وتسعين، فولي بها مشيخة دار الحديث الظاهرية، وإعادة الناصرية، وتدريس النجيبية، ثم ولي خطابة البلد بعد زين الدين بن المرجل، وكان خطيباً بليغاً، فإذا نزل وصلى ربما خرج بالخلعة السوداء وشيع الجنائز، وزار بعض أصحابه من الأكابر، وهو لابسها، وكان إماماً بارعاً فاضلاً فقيهاً مقرياً، حسن الاعتقاد، جيد الديانة، ظريفاً حلو المجالسة، لطيف الشكل، صغير العمامة يرتدي برداء، وكان كثير الاشتغال والعبادات، وعنده كتب كثيرة جداً نحو من ألفي مجلد أو أكثر، ذا كرم وسعة صدر ووجاهة عند الكبراء والأمراء، واتفق أنه عزل بعد سنة بالخطيب الموفق، فسافر مع الحجاج، ودخل العراق، وتوفي بواسط وقد نيف على الثمانين - رحمه الله تعالى -.
وفيها توفي المحب الطبري شيخ الحرم الإمام العلامة الحافظ الرواية ذو التصانيف الكثيرة، والفضائل الشهيرة أبو العباس أحمد بن عبد الله بن محمد بن أبي بكر المكي الشافعي، ولد سنة خمس عشرة وست مائة، وسمع من ابن المقري، وابن الحميري وجماعة، وصنف كتباً عديدة في الحديث، وله في الفقه مبسوطات ومختصرات، ومن المبسوطات كتاب في الأحكام في عدة مجلدات أجاد فيه وأفاد وأكثر وأطنب، وجمع الصحيح والحسن، ولكن ربما أورد فيه الأحاديث الضعيفة، ولم يبين ضعفها، وكان فقيهاً بارعاً محدثاً حافظاً درس وأفتى وأسمع، وروى، وكان محدث الحجاز في زمانه، وشيخ الشافعية هنالك.
وتوفي قبله بأيام ولده النجيب الفاضل جمال الدين محمد قاضي مكة مؤلف كتاب التشويق إلى البيت العتيق، ومن تصانيف محب الدين شرح كبير مبسوط للتنبيه جيد إلا أنه ربما يختار الوجوه الضعيفة، وله مختصرات للتنبيه وغير ذلك، وكتاب " القرى " بكسر القاف، ومختصر السيرة وغير ذلك لكنها لم تشتهر ولم تنتشر في البلدان إلا كتاب " الأحكام " المذكور فإنه في البلدان مشهور، وكان له جاه عظيم؟ وحظ كريم عند الملك المظفر صاحب اليمن، وكان مشغولاً بالعلم مستفيداً ومفيداً، وعنه أخذ خلائق من الفضلاء من أكابر المحدثين والفقهاء، وكان له صحبة من الشيخ الكبير العارف بالله الخبير ذي المناقب والكرامات السنية، والأحوال والمقامات العلية أبي العباس أحمد المورقي الغربي المدفون في الطائف قدس الله روحه، وله معه حكايات عجيبة، منها أنه لما قدم الملك(4/168)
المظفر صاحب اليمن طلب منه قرابته وأصحابه أن يشفع لهم عنده وطمعوا أن يحصل لهم منه نفع، وكان عادة السلطان المذكور أن يطلب محب الدين في كل وقت، فلما قدم مكة لم يطلبه، ولم يجتمع به سوى عند قدومه فحصل لمحب الدين من ذلك قبض، ولم يزل كذلك إلى أن فرغ من أعمال الحج، ثم لقيه الشيخ أبو العباس المذكور، فسأله عن حاله، فأخبره إنما هو غير منشرح بسبب عدم ما كان يرتجي من النفع على يديه، واشتغال السلطان عنه، فقال له الشيخ أبو العباس عند ذلك: أنا الذي شغلته عنك خشية أن يشغلك عن أعمال الحج، ولكن الآن أطلقه حتى يلتفت إليك، ويطلبك كما كان. فعند ذلك أرسل السلطان يطلبه، وقضى له ما أراد من حوائجه وحوائج من تعلق به من الناس.
وفيها توفي ابن المقدسي خطيب دمشق ومفتيها، وشيخ الشافعية بها الإمام العلامة شرف الدين أبو العباس أحمد بن نعمة الشافعي، سمع من السخاوي وابن الصلاح، وتفقه على ابن عبد السلام، وبرع في الفقه والأصول والعربية، وناب في الحكم مدة، ودرس بالشامية والغزالية، وكتب الخط المنسوب الفائق، وألف كتاباً في الأصول، وكان كيساً متواضعاً متنسكاً، ثاقب الذهن، مفرط الذكاء، طويل النفس في المناظرة. توفي في رمضان - رحمه الله تعالى -.
وفيها توفي صاحب اليمن الملك المظفر ابن الملك المنصور عمر. توفي في رجب، وبقي في السلطنة نيفاً وأربعين سنة، وملك أبوه قبله نيفاً وعشرين سنة، وكان الملك المظفر المذكور له بعض مشاركة في بعض العلوم، وكان كيساً ظريفاً يحب مجالسة العلماء، ويعتقد الصالحين، وجاء إلى شيخ اليمن، وبركة الزمن، والبحر الزاخر الذي يغرق فيه كل ماهر السيد الجليل أبي الغيث بن جميل - قدس الله روحه - ونعله في حلقه، فقال الشيخ: ما تطلب؟ الملك قال: وليتك.
وكان أبوه قد قتل خادم الشيخ أبي الغيث، فلما بلغه قتل خادمه قال: مالي ولمحراسه أنا أنزل عن أمشباب، وأترك أمزرع، فقتل عند ذلك الملك المنصور، واستعار في ذلك استعارة حسنة، وهي أنه جعل الخلق كالزرع، وهو كالحارس له، والمشباب بكسر الميم، وسكون الشين المعجمة، وتكرير الموحدة قبل الألف وبعدها. خشبات تنصب في وسط الزرع، ويجعل عليها عريش يقعد الحارس عليه، فإذا نزل عنه ضاع الزرع يترك الحراسة، فنزل به التلف من سارق، أو آكل بهائم، أو صيد، أو وحش مبذلاً لام التعريف بالميم كما هي لغة بعض اليمانيين، وكما هو مشهور في كتب النحويين بل في كتب المحدثين أعني قولهم: يرمي ورائي بأمسهم وأمسلمة.
وما روي من قوله عليه السلام: " ليس من أمير مصيام في أمسفر، مجيبا لقول السائل(4/169)
أمن أمير أمصيام في أمسفر "، سمع الملك المظفر المذكور على الشيخ محب الدين الطبري المذكور، وكان لمحب الدين تردد إلى اليمن، واجتماع كثير معه في اليمن، وفي مكة لما حج أعني الملك المظفر، وكان في صحبته إلى الحج خمس مائة فارس، أخبرني بذلك من حج معه من أهل الخير والصلاح، وكان محبباً إلى الناس.
وله حكايات ظريفة منها: أنه كتب إليه بعض الناس كتاباً على وجه المزح والكياسة.
قال فيه: قال الله تعالى: " إنما المؤمنون إخوة " " الحجرات: 10 "، وأخوك بالباب يطلب نصيبه من بيت المال، فرد عليه الجواب، وأرسل إليه بدرهم، فقال في جوابه: إخواني المؤمنون كثير في الدنيا، ولو قسمت عليهم بيت المال ما حصل لكل واحد منهم درهم.
ومنها أنه أرسل إليه إنسان، وهو يقول: أنا كاتب أحسن الخط الظريف، والكشط اللطيف، أو كما قال، فقال في جوابه: ما ذكرته من حسن كشطك يدلى على كثرة غلطك.
ومنها أن جماعة من الديوان، وأهل الدولة أرادوا أن يجتمعوا في عدن على اللعب والشراب، وملأوا أزياراً كثيرة خمراً، فأراقها الشيخ الكبير الولي الشهير الوافر الفضل، والنصيب عبد الله بن أبي بكر الخطيب المدفون في موزع، شيخ شيوخنا. - قدس الله روحه - فغضب أمير عدن وغيره من أهل الدولة، ولم يقدروا على الانتقام من الشيخ المذكور، فكتبوا إلى الملك المظفر بذلك، فرد عليهم الجواب، وهو يقول فيه: هذا لا يفعله إلا أحد رجلين، إما صالح، وإما مجنون، وكلاهما ما لنا معه كلام.
وفيها توفي الشيخ الكبير الولي الشهير ذو البركات الشهيرة، والكرامات الكثيرة، والهمة العالية، والمحاسن الباهية أبو الرجال بن مري. توفي يوم عاشوراء منيفاً على الثمانين، كان صاحب كشف وأحوال له موقع في النفوس وإجلال.
وفيها توفي الإمام مظفر الدين أحمد بن علي، المعروف بابن الساعاتي شيخ الحنفية.
كان ممن يضرب به المثل في الذكاء، والفصاحة، وحسن الخط، وله مصنفات في الفقه وأصوله، وفي الأدب مجادة مفيدة، وكان مدرساً لطائفة الحنفية بالمستنصرية في بغداد.
سنة خمس وتسعين وست مائة
استهلت وأهل الديار المصرية في قحط شديد، ووباء مفرط، حتى أكلوا الجيف، وأما الموت، فيقال: أنه أخرج في يوم واحد ألف وخمس مائة جنازة، وكانوا يحفرون الحفائر الكبار، ويدفنون فيها الجماعة الكثيرة، وبلغ الخبز كل رطل، وثلث بالمصرية بدرهم، وبلغ(4/170)
في دمشق كل عشرة أواق بدرهم في جمادى الآخرة، وارتفع فيه الوباء والقحط عن مصر ونزل الأردن إلى خمسة وثلاثين.
وفيها قدم الشام شيخ الشيوخ صدر الدين إبراهيم ابن الشيخ سعد الدين بن حمم الجويني، فسمع الحديث، روى عن أصحاب المؤيد الطوسي، وأخبر أن ملك التتار غازان ابن أرغون أسلم على يده بواسطة نائبه بوروز بالراء بين الواوين، والزاي في آخره، كان يوماً مشهوراً.
وفيها توفيت بنت علي الواسطي أم محمد الزاهدة العابدة الصالحة، روت عن الشيخ الموفق، وقد قاربت التسعين.
وفيها توفي ابن رزين الإمام صدر الدين قاضي القضاة.
وفيها توفي ابن بنت الأعز قاضي الديار المصرية تقي الدين عبد الرحيم ابن قاض القضاة تاج الدين عبد الوهاب الشافعي، وولي بعده الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد.
سنة ست وتسعين وست مائة
فيها توجه الملك العادل إلى مصر، فلما بلغ بعض الطريق، وثب حسام الدين لاجين على اثنين من أمرائه كانا جناحيه، فقتلهما، فخاف العادل، وركب سراً، وهرب في أربعة مماليك، وساق إلى دمشق، فلم ينفعه ذلك، وزال ملكه، وخضع المصريون لحسام الدين ولم يختلف عليه اثنان، ولقب بالملك المنصور، وأخذ العادل، فأسكن بقلعة صرخد، وقنع بها غير مختار.
وفيها توفي محي الدين يحيى بن محمد بن عبد الصمد الزيداني مدرس مدرسة جدة.
سنة سبع وتسعين وست مائة
فيها توفي مسند العراق عبد الرحمن بن عبد اللطيف البغدادي المقرئ شيخ المستنصرية.
وفيها توفيت عائشة بنت المجد عيسى ابن الشيخ موفق الدين المقدسي، كانت مباركة صالحة عابدة، روت عن جدها، وابن راجح.
وفيها توفي الإمام العلامة شمس الدين محمد بن أبي بكر الفارسي الشافعي الأصولي المتكلم، توفي في رمضان في مرة، وهو من أبناء السبعين، درس مدة بالغزالية، ثم تركها.(4/171)
سنة ثمان وتسعين وست مائة
فيها قتل الملك المنصور صاحب مصر والشام حسام الدين لاجين المنصوري السيفي هجم عليه سبعة أنفس، وهو يلعب بعد العشاء بالشطرنج ما عنده إلا قاضي القضاة حسام الدين الحنفي، والأمير عبد الله ويزيد البدوي، وإمامة ابن العسال، قال القاضي حسام الدين الحنفي: رفعت رأسي، فإذا سبعة أسياف تنزل عليه، ثم قبضوا على نائبه، فذبحوه من الغد، ونودي للملك الناصر، وأحضروه من الكرك، فاستناب في المملكة سلار، ثم ركب بخلعة الخليفة وتقليده، وكانت سلطنة لاجين بسنتين، وكان فيه دين وعدل.
وفيها توفي صاحب حماة الملك المظفر تقي الدين محمود ابن الملك الممنصور آخر ملوك حماة.
وفيها توفي الملك الأوحد يوسف بن الناصر صاحب الكرك ابن المعظم توفي بالقدس، - وسمع وروى عنه الديماطي في معجمه.
وفيها توفي ابن النحاس العلامة حجة العرب أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الحلبي، شيخ العربية بالديار المصرية.
سنة تسع وتسعين وست مائة
في أوائلها قصد التتار للشام، فوصل السلطان الملك الناصر إلى دمشق، وانحفل الناس من كل وجه، وهجموا على وجوههم، وسار الجيش، وتضرع الخلق إلى الله تعالى، والتقى الجمعان بين حمص وسلمية، فاستظهر المسلمون، وقتل من التتار نحو عشرة آلاف وثبت ملكهم غازان، ثم حصل تخاذل، وولت الميمنة بعد العصر، وقاتلت الحاصكية أشد قتال إلى الغروب، وكان السلطان آخر من انصرف بحاشيته نحو بعلبك، وتفرق الجيش، وقد ذهبت أمتعتهم ونهبت أموالهم، ولكن قل من قتل منهم، وجاء الخبر إلى دمشق من غد، فحار الناس وأبلسوا وأخذوا يتسلون بإسلام التتار، ويرجون اللطف، فتجمع أكابر البلد، وساروا إلى خدمة غازان، فرأى لهم ذلك، وفرح بهم، وقال: نحن قد بعثنا - بالأمان قبل أن تأتون.
ثم انتشرت جيوش التتار بالشام طولاً وعرضاً، وذهب للناس من الأهل والمال والمواشي ما لا يحصى، وحمى الله دمشق من النهب والسبي والقتل، ولكن صودروا(4/172)
مصادرة عظيمة، ونهب ما حول القلعة لأجل حصارها، وثبت متوليها علم الدين ثباتاً كلياً لا مزيد عليه، حتى هابه التتار، ودام الحصار أياما عديدة، وأخذت الدواب جميعها، واشتد العذاب، في المصادرة مع الغلاء والجوع وأنواع الهم والفزع، لكنهم بالنسبة إلى ما جرى بجبل الصالحية من السبي والقتل أحسن حالاً، فقيل: إن الذي وصل إلى ديوان غازان من البلد ثلاثة آلاف ألف وست مائة سوى ما أخذ في الرسيم والبرطيل ولبس المسوح، وكان إذا ألزم التاجر بألف درهم ألزمه عليها فوق المائين ترسيماً يأخذه التتار، ثم أعان الله، فرحل غازان في ثاني عشر جمادى الأولى، وكان قدومه ومحاربته في أواخر ربيع الأول، ثم ترحل بقية التتار بعد ترحله بعشرة أيام، ودخلت جيوش المسلمين القاهرة في غاية الضعف، ففتحت بيوت المال، وأنفق عليهم نفقة لم يسمع بمثلها، ومدة انقطاع خطبة الناصر من خوف التتار مائة يوم.
وفيها توفي من شيوخ الحديث بدمشق والجبل أكثر من مائة نفس، وقتل بالجبل، ومات برداً وجوعاً نحو أربع مائة نفس، وأسر نحو أربعة آلاف منهم سبعون من قرية الشيخ أبي عمرو.
وفيها توفي الإمام المحدث الحافظ أحمد بن فرج الإشبيلي، تفقه على الإمام عز الدين بن عبد السلام، وحدث عن ابن عبد الدائم وطبقته، وكان ذا ورع وعبادة وصدق له حلقة اشتغال لجامع دمشق.
وفيها توفي العلامة نجم الدين أحمد بن مكي، كان أحد أذكياء الرجال وفضلائهم في الفقه، والأصول، والطب، والفلسفة، والعربية، والمناظرة.
وفيها توفيت خديجة بنت يوسف، وخديجة بنت المفتي محمد بن محمود أم محمد، روت عن ابن الزبيدي، وتكنى أمة العز روت عن طائفة، وقرأت غير مقدمة في النحو، وجودت الخط على جماعة، وحجت وتوفيت في رجب، وكانت عالمة فاضلة - رحمها الله تعالى -.
وفيها توفيت صفية بنت عبد الرحمن بن عمرو الفرا المنادي، روت في الخامسة عن الشيخ الموفق، وعدمت بالجبل.
وفيها توفي ابن الزكي قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز ابن قاضي القضاة محيي(4/173)
الدين بن محمد القرشي درس في العزيزية، وقد ولي نظر الجامع وغير ذلك، ومات كهلاً. وفيها توفي إمام الدين قاضي القضاة أبو القاسم عمر بن عبد الرحمن القزويني الشافعي كان مجموع الفضائل، تام الشكل توفي بالقاهرة.
وفيها توفي ابن غانم الإمام شمس الدين محمد بن سليمان المقدسي الشافعي المواقع، سبط الشيخ غانم، وفيها حمل الأمير سيف الدين نائب السلطنة بطرابلس مرات، وقتل جماعة، ثم قتل، وكان ذا دين وخبرة وشجاعة.
وفيها توفيت هدية بنت عبد الحميد المقدسية الصالحية، روت الصحيح عن ابن الزبيدي، وتوفيت بالجبل.
وفيها توفي أبو محمد المرجاني الشيخ الكبير، الولي الشهير، القدوة العارف معدن الأسرار؛ والمعارف والمواهب واللطائف، علم الوعاظ، المعلم المنطق بالمعارف والحكم عبد الله بن محمد المرجاني المغربي أحد المشائخ الإسلام، وأكابر الصوفية السادات الكرام. توفي بتونس كان مفتوحاً عليه في العلوم الربانية والأسرار الإلهية.
ومما بلغني عنه أنه قيل له: قال فلان: رأيت عمود نور ممتداً من السماء إلى فم الشيخ أبي محمد المرجاني في حال كلامه، فلما سكت ارتفع ذلك العمود، فتبسم الشيخ، وقال: ما عرف يعثر بل لما ارتفع العمود سكت.
قلت يعني رضي الله تعالى عنه أنه كان يتكلم بالأسرار عن مدد من الأنوار، فلما انقطع المدد بالنور الممدود انقع النطق بالكلام المحمود.
ومما بلغني من كراماته أنه حضر مجلسه بعض المنكرين بنية الاعتراض عليه في كلامه، وكان ذلك الشخص المنكر أعور، فقال الشيخ أبو محمد المذكور في أثناء كلامه: قبل أن يضيء النهار الله أكبر، حتى العوران جاؤوا للاعتراض والإنكار، أو كما قال من الكلام الصادر عن النور في وقت الظلام، وكان من عادته أنه لا يقوم من مجلسه حتى يرتفع النهار، فبقي ذلك الأعور في حياء وخجل وحزن ووجل خوفاً من أن يقوم ويخرج، فيعلم الحاضرون أنه المراد، ويقعد فيعرف إذا طلع النهار أنه المنكر السيئ الاعتقاد، فبينا هو متحير بين هاتين الفضيحتين إذ أطفأ الشيخ القنديل، وانقض المجلس، ولم يعلم الأعور من صاحب العينين الصحيحتين، وكان قصر المجلس في ذلك الوقت على خلاف العادة ستراً(4/174)
منه، وفتوة على جاري عادة الصفوة السادة، وإليه الإشارة في البيت العاشر من هذه الأبيات من قصيدتي المشتملة على ذكر مائة من كبار الشيوخ السادات، وعلى نيف وثلاث مائة من الأبيات، وأول العشرة المذكورات قولي في أثنائها:
وكم قد حبا حالي حباها جنيدهم ... فسرى السري جند الجنيد المسود
وكم رفعت لابن الرفاعي من علا ... له في نواحي الأرض كم من ممجد
وأعلت مقام الدين للعارف الفتى ... أبي مدين بدربه القوم يقتدي
وكم شم منها الشاذلي ذكي شذى ... ففي متهم الأتباع فاح ومنجد
فارسي لدى المرسى مراكب سيرها ... فلم تمش في التصريف غير مقلدي
بها الأصبهاني صار نجم سمائها ... وبدر هداها سيفها غوث مجحد
وحلى الفتى ياقوت ياقوت نحرها ... بعقد على جيد السلوك منضد
ولابن عطا أعطت لواء ولاية ... وترياق داء للضلالة مبعد
فداوى به داود حتى الفتى شفي ... فصار شفاء المعضل المتمرد
ومرجانياً من حلى مرجان بحرها ... حلت برد أحسن اللطائف مرتد
جنيدية موروثة عن معارف ... زها حسنها في الدهر يجلو لمفرد
وما نال إلا واحد بعد واحد ... حلا حسنها الغالي فطوبى لمسعد
وله رضي الله تعالى عنه من المواهب، والمناقب، والمحاسن الغراب، ما يحتاج في ذكره إلى تصنيف كتاب.
وأما قول الذهبي في ترجمته: وأبو محمد عبد الله المرجاني الواعظ المذكور أحد مشائخ الإسلام علماً وعملاً مقتصراً على هذه الألفاظ من غير زيادة، فغض من قدره كما هو عادته في مشائخ الصوفية السادة الصفوة أولى الأسرار والأنوار الذين في حقهم التفخيم والتنويه بعظم الجلالة والمقدار.
سنة سبع مائة
فيها حصلت أراجيف بالتتار، وجاء غازان بجيشه للفرات،. وقصد حلب، فتشوشت الخواطر، وهج الخلق على وجوههم في الوحل والأمطار، وأكريت المحارة إلى مصر بخمس مائة درهم، وبيع اللحم بتسعة دراهم، وبقي الخوف أياماً، ثم رجع غازان لما ناله من المشاق بكثرة الثلوج والأمطار كل هذا في أوائل السنة.
وفي شعبان لبست اليهود والنصارى بمصر والشام العمائم الصفر والزرق والحمر، ومنعوا من ركوب الخيل بالسروج، وسائر الشروط العمرية.(4/175)
وفيها توفي أبو العلاء محمود بن أبي بكر البخاري الصوفي الحافظ، كان إماماً في الفرائض، مصنفاً فيها له حلقة اشتغال، وسمع الكثير بخراسان والعراق والشام ومصر، وكتب الكثير، ووقف أجزاءه، وراح مع التتار قيل: من خوف الغلا، فأقام بماردين أشهراً، وأدركه أجله بها.
وفيها توفي الشيخ إسماعيل بن إبراهيم الصالحي شيخ البكرية، له أصحاب وفيه خير، وله سيرة محمودة.
وفيها توفيت أم الخير زينب بنت قاضي القضاة محيي الدين يحيى بن محمد الزكي القرشي الدمشقي، روت عن ابن المقير وجماعة.
سنة إحدى وسبع مائة
وفيها توفي أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد العباسي، ودفن عند السيدة نفيسة رضي الله عنها، وكانت خلافته أربعين سنة وأشهراً، وعهد بالخلافة إلى ولده المستكفي بالله أمير المؤمنين، وقوي بتقليده بعد عزاء والده، وخطب له على المنابر.
وفيها توفي المحدث الإمام أبو الحسين علي بن محمد التونسي ببعلبك شهيداً من جروح في دماغه من مجنون وثب عليه بسكين.
وفيها خنق شيخ الحنفية العلامة ركن الدين عبد الله بن محمد السمرقندي مدرس الظاهرية، وألقي في بركتها، وأخذ ماله، ثم ظهر أن قاتله هو قيم الظاهرية، فشنق على ظاهرها.
وفيها وقعت جراد لم يسمع بمثله إلى دمشق تركت غالب الغوطة غصناً مجردة، وأيبست أشجاراً خارجة عن الانحصار.
سنة اثنتين وسبع مائة
فيها طرق قازان الشام، فالتقى تركه، وترك الإسلام بعرض، ونصر الله المسلمين، وقتل في التتار خلق كثير، وأسر مقدمان، وكان العدو نحو أربعة آلاف، والمسلمون في ألف وخمس مائة فارس، وتأخر جند الأطراف إلى حمص، ثم جهز قازان جيوشه مع نائبه خطلوشاه، فساروا إلى مرج دمشق، وتأخر المسلمون، وبات أهل دمشق في بكاء، واستغاثة(4/176)
بالله، وخطب شديد، وقدم السلطان، وانضمت إليه جيوشه والحفال، وكان المصاف علم سفحت، فهزم العدو الميمنة، واستشهد رأس الميمنة الحسام أستاذ دار في جماعة أمراء وثبت السلطان كعوائده، ونزل النصر، وشرع التتار في الهزيمة، فتبعهم المسلمون قتلاً وأسراً، ومزقوا كل ممزق، وتخطفهم الناس إلى الفرات، وسلم شطرهم في ضعف شديد وجوع، وحفاء، ووقوف جبل، ثم دخل السلطان والخليفة راكبين، والحمد لله، ومن الشهداء الفقيه إبراهيم بن عبدان، والأمير صلاح الدين ابن الكامل، والأمير علاء الدير الحاكي، والأمير حسام الدين قرمان وغيرهم.
وفي ذي القعدة تزلزلت مصر، وتساقطت الدور، ومات بالإسكندرية تحت الردم نحو المائتين، وكانت آية.
وافتتحت جزيرة أرواد، وأسر من الفرنج نحو خمس مائة.
وفيها توفي عبد الحميد بن أحمد بن حولان البنا.
ومات في القاهرة شيخها وقاضيها شيخ الإسلام تقي الدين أبو الفتح محمد بن علي بن وهب ابن دقيق العيد القشيري الشافعي، صاحب كتاب " الإلمام "، وكتاب " الإمام ". " شرح العمدة " عن سبع وسبعين سنة. يروي عن ابن الحميري وغيره، وكان رأساً في العلم والعمل عديم النظير أجل علماء وقته، وأكبرهم قدراً، وأكثرهم ديناً وعلماً وورعاً واجتهاداً في تحصيل العلم ونشره، والمداومة عليه في ليله ونهاره مع كبر سنه، وشغله بالحكم. ولد بمدينة ينبع من أرض الحجاز في شعبان سنة خمس وعشرين وست مائة، ونشأ بديار مصر، واشتغل أولاً بمذهب مالك، ودرس فيه بمدينة قوص، ثم اختار مذهب الإمام الشافعي، ومال إليه، فاشتغل به وتبحر فيه حتى بلغ فيه الغاية دارية ورواية، وحفظاً، واستدلالاً، وتقليداً، واستقلالاً حتى قيل إنه آخر المجتهدين، وبرع في علوم كثيرة لا سيما في علم الحديث. فاق فيه على أقرانه، وبرز على أهل زمانه، ورحل إليه الطلبة من الآفاق، ووقع على علمه وزهده وورعه الاتفاق - رحمه الله تعالى -، وكان له اعتقاد حسن في المشائخ، وأهل الصلاح حتى بلغني أنه كان يزور بعض المشائخ، فإذا بلغ إلى بابه نزل عن البغلة، ونزع الطيلسان والعمامة، ودخل عليه بطاقية على رأسه، وإنه شكا إلى بعض الفقراء من أرباب القلوب، وسوسة يجدها في الصلاة، فقال له: أفٍ لقلب يكون فيه غير الله فقال ابن دقيق: العيد، وقد ذكر هذا الفقير المذكور هو عندي خير من ألف فقيه.
ومن المشهور أنه ركبته ديون كثيرة، ولم يجد لها وفاء، فرحل إلى الشيخ الكبير ذي(4/177)
الكرامات والمجد والمفاخر، العارف بالله الشهير ابن عبد الظاهر - قدس الله روحه - فلما وصل إليه سلم عليه، فقدم له الشيخ مأكولاً، ومن جملته سميط. وكان من عادته لا يأكل السميط لأنه شوي وفيه أثر الدم، فلما وضع بين يديه قال له تلميذ له: يا سيدي هذا سميط، فقال له: ليس هذا موضع ذاك، يعني الموضع الذي ننكره ونترك أكله فيه. يريد أن هذا موضع موافقة الشيخ في كل ما يفعله واحترامه وإجلاله، فأكل من ذلك، فلما فرغ من الأكل إذا بالفقراء قد قدموا آلة السماع، وكان من عادته لا يحضر السماع، فقال له تلميذه: يا سيدي أراهم قد قدموا آلة السماع، فقال له: اسكت ما هذا موضع ذاك بل هذا موضع ما قدمنا ذكره من الاحترام والتسليم، فسمعالفقراء وهو حاضر ساكت، فلما انقضى سماعهم. قال الشيخ منشداً البيت المشهور للمتنبي:
وفي النفس حاجات، وفيك فطانة ... سكوتي بيان عندها وخطاب
فقال له الشيخ رضي الله تعالى عنه: انقضت الحاجة، فخرج من عنده، ورجع إلى القاهرة، فوجد ديونه قد قضيت، وردت الدفاتر التي كتب فيها الدين، وذلك أن الوزير الكبير الشهير ذو المكارم الشهير المعروف بابن حناء سأل عنه، فقالوا: فصد الشيخ ابن عبد الظاهر لدين عليه، فاستدعى بأرباب الديون، فأعطاهم ديونهم، وأخذ منهم الأوراق المكتوبة بذلك.
قلت: وقد جعله بعضهم مجدد الدين الأمة على رأس المائة السابعة، وقد قدمت ذكر الأئمة المجدد بهم دين الأمة على رأس المائين الست قبله، فيما تقدم من هذا التاريخ، وفي كتاب المرهم، والشاش المعلم وغير ذلك من كتبي.
وفي السنة المذكورة أخذ من دمشق قاضيها ابن جماعة، وتولى مكانه ابن صصري.
وفيها توفي المسند بدر الدين الحسن بن علي بن الجلال الدمشقي. حدث عن جماعة منهم مكرم، وابن الشيرازي، وابن المقير، وكريمة وغيرهم، وتفرد بالرواية رحمه الله تعالى.
وفيها توفي كمال الدين ابن عطار، وفيها توفي متولي حماة الملك العادل كتبغا. تسلطن بمصر عامين وخلع.
وفيها توفي المقرئ شمس الدين محمد بن قيماز، قرأ على السخاوي بالسبع، وسمع من ابن صباغ، وابن الزبيدي وكان خيراً متواضعاً.(4/178)
وفيها توفي مسند العرب الإمام الأديب أبو محمد عبد الله بن محمد بن هارون الطائي القرطبي عن مائة عام، سمع الموطأ وكامل المبرد في سنة عشرين، وعمر دهراً.
؟
سنة ثلاث وسبع مائة
فيها توفي القدوة الزاهد العلامة بركة الوقت الشيخ إبراهيم بن أحمد الرقي الحنبلي، كان من أولياء الله تعالى، ومن كبار المذكورين، وله تصانيف محركة إلى الله حدث عن عبد الصمد بن أبي الحسن، وله نظم كثير، وخبرة بالطب، ومشاركات في العلوم.
وفيها توفيت المعمرة أم أحمد ست أهل بيت علوان البعلبكية بدمشق مكثرة عن البهاء عبد الرحمن صالحة خيرة.
وفيها توفي مفيد الطلبة نجم الدين إسماعيل بن إبراهيم المعروف بابن الخباز.
وفيها توفي المفتي شيخ دار الحديث، وخطيب البلد زين الدين عبد الله بن مروان الفارقي روى عن السخاوي، وكريمة وابن رواحة، وابن خليل.
سنة أربع وسبع مائة
فيها تكلم ابن النقيب وغيره في فتاوى لابن العطار فيها تخبيط، وسموا إلى القضاة فحار ابن العطار، وأرعب وبادر إلى الحاكم ابن الحريري، فأسلم بدعوى صورت، فحقن دمه، ثم ندم ولامه أصحابه، وبلغ النائب، فغضب من الفتن، واعتقل ابن النقيب أربع ليالٍ فأنكروا.
وفيها توفي المحدث المشهور ومفيد دمشق أبو الحسن علي بن مسعود بن نفيس الموصلي، ثم الحلبي بدمشق.
وفيها مات بالمدينة الشريفة النبوية صاحبها حمار بن سبخة الحسيني.
وفيها توفي الضياء عيسى بن أبي محمد شيخ المغارة.(4/179)
وفيها توفي المعمر ركن الدين أحمد بن عبد المنعم بن أبي الغنائم الطاووسي، كبير الصوفية بدمشق.
وفيها توفي شيخ البطائحة تاج الدين ابن الرفاعي بقرية أم عبيدة عن سن كبيرة، وشهرة كثيرة.
وفيها توفي الشيخ أبو عبد الله محمد بن يوسف الإربلي، ثم الدمشقي كبير الراهبين.
وفيها توفي بالإسكندرية شيخها الإمام المحدث تاج الدين علي بن أحمد الحسيني العراقي.
وفيه توفي بمصر عالمها المعلم العراقي عبد الكريم بن علي الأنصاري المصري الشافعي المفسر.
سنة خمس وسبع مائة
فيها وقعت فتنة شيخ الحنابلة ابن تيمية، وسؤالهم عن عقيدته، وعقدوا له ثلاث مجالس، وقرنت عقيدته الملقبة بالواسطية وضايقوه، وثارت غوغاء الفقهاء له وعليه، ثم إنه طلب على البريد إلى مصر، وأقيمت عليه دعوى عند قاضي المالكية، فاستخصمه ابن تيمية المذكور، وقاموا، فسجن هو وأخوه بضعة عشر يوماً، ثم أخرج، ثم حبس بحبس الحاكم، ثم أبعد إلى الإسكندرية، فلما تمكن السلطان سنة تسع طلبه، فاحترمه وصالح بينه وبين الحاكم، وكان الذي ادعى به عليه بمصر أنه يقول: إن الرحمن على العرش استوى حقيقة، يتكلم بحرف وصوت، ثم نودي بدمشق وغيرها من كان على عقيدة ابن تيمية حل ماله ودمه.
وفيها جاء تقليد بالخطابة للشيخ برهان الدين بعد عمه، وباشر وخطب، ثم ترك واختار بقاءه بالنادرية بعد أن صلى خمسة أيام.
وفيها مات بحلب قاضيها وخطيبها العلامة شمس الدين محمد بن محمد بن بهرام الدمشقي الشافعي، وهو الذي عزل بزين الدين ابن قاضي الخليل من الحكم، وكان مشهورا بدري المذهب.
وفيها مات بمصر المعمر أبو عبد الله محمد بن عبد المنعم بن شهاب.
وفيها مات بالإسكندرية الإمام المعمر شرف الدين يحيى بن أحمد بن عبد العزيز الصواف الجذامي المالكي، عن ست وتسعين سنة، سمع منه قاضي القضاة السبكي وجماعة(4/180)
يروي عن ابن العماد والصفراوي، وتلا عليه بالسبع.
وفيها توفي بدمشق خطيبها الإمام الكبير شرف الدين أحمد بن إبراهيم بن سماع الفزاري الشافعي، شهده ملك الأمراء والأعيان تلا بالسبع، وأحكم العربية، وقرأ الحديث، وكان فصيحاً، عديم اللحن، طيب الصوت، روى عن السخاوي والعز النسابة، والتاج القرطبي، وأقرأ زماناً مع الكيس والتواضع والتصوف.
وفيها مات حافظ الوقت العلامة شرف الدين عبد المؤمن بن خلف الدمياطي الشافعي سمع من ابن المقير، وابن رواحة، وإبراهيم بن الخير، وابن مختار وغيرهم ممن في طبقتهم، وصنف التصانيف المهذبة قيل: ولم يخلف في معناه مثله - رحمه الله تعالى -.
وفيها توفيت المعمرة زينب بنت سليمان بن رحمة الأشعري بمصر، عن بضع وثمانين سنة، سمعت ابن الزبيدى، والشيخين أحمد بن عبد الواحد البخاري، وعلي بن حجاج وجماعة، وتفردت بأشياء.
وفيها توفي صاحب بلاد المغرب أبو يعقوب يوسف ابن السلطان يعقوب بن عبد الحق المريني.
سنه ست وسبع مائة
فيها قدم عن الشرق براق العجمي في جمع نحو المائة، وفي رؤوسهم قرون لتأييده، ولحاهم دون الشوارب محلقة، وعليهم أجراس، فدخلوا في هيئة محزون بشهامة، فنزلوا بالمتسع، ثم زاروا القدس، وشيخهم من أبناء الأربعين فيه إقدام، وقوة نفس، وصولة، فما مكنوا من المضي إلى مصر، وكان يدق له نوبة، ونفذ إليهم الكبار غنماً ودراهم.
وفيها توفى الإمام العلامة ضياء الدين أبو محمد عبد العزيز بن محمد الطوسي شارح الحاوي الصغير، والمختصر في الأصول، وكان عالماً فاضلاً. درس وأعاد في عدة(4/181)
مدارس في دمشق، ومات بها - رحمه الله تعالى -.
وفيها مات ببغداد الإمام العلامة المتفنن نصير الدين عبد الله بن عمر الفاروقي الشيرازي الشافعي مدرس المستنصرية. قدم دمشق، وظهرت فضائله في العقليات.
سنة سبع وسبع مائة
قال الذهبي فيها عقد مجلس بالقصر، فاستتيب النجم ابن خلكان من العبارات القبيحة، ودعا ومبيحة الدم، وادعاء نبوة، فاختلف فيه الأمراء، ومال إلى الرفق به الشيخ برهان الدين فتاب.
وفيها مات بمكة في آخر العام الشيخ الكبير محمد بن أحمد بن أبي بكر الحراني القزاز، وكان كثير التلاوة، شهير الزهادة، وروى عن عبد الله ابن التجار وجماعة، وتفرد بالرواية، قال الذهبي: وكتبنا عنه.
وفيها مات بمصر رئيسها الصاحب تاج الدين محمد ابن الصاحب فخر الدين محمد بن الوزير بهاء الدين علي بن محمد بن حنا، حدث عن سبط السلفي، وكان محتشماً وسيماً شاعراً متمولاً من رجال الكمال.
وفيها مات بمكة شيخها الإمام القدوة الكبير العارف بالله، الشهير ذو المقامات العلية، والكرامات السنية، والأحوال الخارقة، والأنوار البارقة، والأنفاش الصادقة أبو عبد الله محمد بن حجاج بن إبراهيم الحضري الإشبيلي، المعروف بابن المطرف الأندلسي في رمضان عن نيف وتسعين سنة، وكان يطوف في اليوم والليلة خمسين أسبوعاً، وحمل نعشه صاحب مكة حميضة.
قلت: ومن كراماته العظيمة ما أخبرني به بعض أصحاب الشيخ الكبير أبي محمد اليشكري المغربي الذي لما مات قال الشيخ الكبير نجم الدين الأصبهاني: مات الفقير من الحجاز أنه لما عزم الشيخ أبو محمد المذكور على السفر من مكة لزيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء إلى الشيخ أبي عبد الله ابن مطرف المذكور مودعاً فقيل له: عزمت، قال: نعم قال: بلغني أن لفقير ما فيه ماء، وستلقون شدة، ثم تغاثون، قال الراوي فسافرت مع رابع أربعة، فلما بلغنا الفقير وجدناه كما ذكر يعني فقيراً من الماء.
وذكر أنهم قدموا إلى طرف البرامين، واشتد عليهم الحر، ولم يكن معهم من الماء إلا شيء يسير، فذهب أحدهم ليشرب، فقال له الشيخ أبو محمد: إن شربته مت، ولكن بل حلقك. قال: ثم قاسينا شدة من شدة الحر، وشدة العطش، ولم نجد ظلاً نستظل له، فقال(4/182)
له الشيخ أبو محمد: ما قال لكم الشيخ أبو عبد الله ابن مطرف، قلنا: قال: ستلقون شدة فقال: وهل شدة أشد مما نحن فيه؟ ثم قال، وما كان آخر كلامه. قلنا: قال: ثم تغاثون فقال: أبشروا بالغوث وإذا بسحابة بدت لنا من بعض الآفاق، ولم تزل ترتفع حتى استوت فوق رؤوسنا، ثم صبت علينا حتى سال ما حولنا، فشربنا، ثم توضأنا، واغتسلنا، واستقينا، ثم مشينا خطوات فلم نجد للمطر شيئاً من الأثر قلت: وهذه الآية من أعظم العبر هذا معنى ما ذكر، وإن لم يكن لفظه بعينه هذا المتسطر.
وفي السنة المذكورة مات ببغداد مسندها الإمام رشيد الدين محمد بن أبي القاسم المقرئ، شيخ المستنصرية، روى عن جماعة، وتفرد وشارك في الفضائل واشتهر.
وفيها مات بتبريز عالمها شمس الدين عبد الكافي العبيدي، شيخ الشافعية، وقد أحسن، وخلف كتباً تساوي ستين ألفاً.
وفيها توفي بدمشق مسندها شهاب الدين محمد بن عبد العزيز بن مشرف بن بيان الأنصاري شيخ الزاوية، بالدار الأشرفية عن ثمان وثمانين سنة، حدث عن ابن الزبيدي والناصح، وابن صباغ وغيرهم، وتفرد واشتهر.
سنة ثمان وسبع مائة
فيها أطلقت حماة لنائبها فيحق، فسار السلطان إلى الكرك ليحج، فدخلها، وبعث نائبها جمال الدين إلى مصر، وزهد في ملكه لحجر عليها فيها، ولوح بعزل نفسه بيبرس الجاشنكير، وتسلطن، ولقب بالمظفر، وأقر على نيابته الملك سلار، وحلف له أمر النواحي، وجاء كتاب الناصر من الكرك. أنه لم يول أحداً، وقد اختار الانقطاع، أو العزلة بالكرك، وإن له عليهم بيعة بالطاعة، وقد أمرهم بالطاعة لمن يتولى، وبشرط الاتفاق وما فيه تصريح بعزل نفسه.
وفيها توفي الشيخ الكبير القدوة عثمان الحانوني، وكانمن الصعيد، وطلع النائب والقضاة إلى جنازته، وكان ذا كشف وتوجه وجذ برك الخبز سنين.
وفيها توفي رئيس الطب بمصر العلم ابن أبي خليفة، قيل: تركته ثلاث مائة ألف دينار.
وفيها ماتت المعمرة أم عبد الله فاطمة بنت سليمان بن عبد الكريم الأنصاري عن قريب التسعين بدمشق، لها إجازة من جماعة، وسمعت المسلم المازني، وكريمة، وابن(4/183)
رواحة، وكانت صالحة روت الكثير، ولم تتزوج.
ومات في رجب الملك المسعود نجم الدين خضر بن الطاهر في أول الكهولة وفي فجاءة.
وفيها مات بمكة شيخ الحرم ظهير الدين محمد بن عبد الله بن منعة البغدادي عن بضع وسبعين سنة. جاور أربعين سنة، وحدث عن الشرف المرسي توفي بناحية اليمن " بالمهجم ".
وفيها توفي الحافظ مفيد مصر شمس الدين محمد بن عبد الرحمن بن شامة الطائي.
وفيها توفي بدمشق مسند الشام أبو جعفر محمد بن علي السلمي العباسي الدمشقي، كان متزهداً، حج مراراً وجاور، تفرد عن أبي القاسم بن صصري، والبهاء عبد الرحمن، ورحل إليه، توفي عن أربع وتسعين سنة.
وفيها ماتت بحماة الجليلة أم عمر خديجة بنت عمر بن أحمد في عشر التسعين. روت عن الركن إبراهيم الحنفي.
وفيها مات بغرناطة عالمها الحافظ المقرئ النحوي، ذو العلوم أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي.
سنة تسع وسبع مائة
فيها بعث بابن تيمية مع مقدم الإسكندرية، فاعتقل ببرج، ومن أراد دخل عليه، وأبطلت الخمور والفواحش من السواحل.
وفي وسط السنة سار أمراء، وهموا بقتل السلطان المظفر بيبرس فتجوز، فساقوا على حمينة إلى العريش، ثم دخلوا الكرك وحركوا همة السلطان، وكان رأسهم ثقبة المنصوري، وهم فوق المائة، فسار السلطان قاصداً دمشق، وأرسل الأفرام، فتوقف، وقال: كيف هذا وقد حلفنا للمظفر؟ ثم خذل وفر إلى السقيفة، ثم دخل السلطان إلى قصر الميدان، فأتاه مسرعاً نائب حلب قراسنقر، ونائب حماة فيحق، ونائب الساحل استعدو، والتقت إليه جميع عسكر الشام، ثم سار بهم بعد أيام في أهبه عظيمة نحو مصر، فبرز المظفر في جيوشه،(4/184)
فحام عليه جماعة من الأمراء، فخارت قوته، فانهزم نحو المغرب، ودخل السلطان إلى مقر ملكه يوم الفطر بلا ضربة ولا طعنة، ثم أمسك عدة أمراء عتاة، وخذل المظفر، فجاء إلى خدمة السلطان، فوبخه، ثم خنقه، وأباد جماعة من رؤوس الشر، وتمكن وهرب نائبه سلار نحو تبوك، ثم خدع، فجاء برجله إلى أجله، فأميت جوعاً، وأخذ من أمواله ما يضيق عنه الوصف من الجواهر، والعين، والملابس، والزركش، والخيل المسومة ما قيمته أزيد من ثلاثة آلاف ألف دينار قل: اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء، وتنتزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء، وتذل من تشاء. بيدك الخير إنك على كل شيء قدير، وأظهر خربنده بمملكته الرفض، وغير الخطبة، وشمخت الشيعة، وجرت فتن كبار.
وفيها توفي الشيخ الكبير العارف بالله الخبير إمام الفريقين، وموضح الطريقين، ودليل الطريقة، ولسان الحقيقة ركن الشريعة المظفرة الرفيعة تاج الدين بن عطاء الله الشاذلي الإسكندري، صاحب أبي العباس المرسي. كان فقيهاً عالماً ينكر على الصوفية، ثم جذبته العناية إلى إتباع طريقتهم الرضية، فصحب شيخ الشيوخ أبا العباس المرسي، وانتفع به وفتح له على يديه بعد أن كان من المنكرين عليه، وسيرته معه، وما جرى له هجراً ووصلاً وقولاً وفعلاً مذكورة في كتابه الموسوم بالطائف المنن في مناقب أبي العباس المرسي وشيخه أبي الحسن الشاذلي.
وله عدة تصانيف مشتملة على أسرار ومعارف وحكم ولطائف نثراً ونظماً كلها في غاية من الجودة، ومن نظمه:
وكنت قديماً أطلب الوصل منهم ... فلما أتاني الحلم وارتفع الجهل
تبينت أن العبد لا طلب له ... فإن قربوا فضل وإن بعدوا عدل
وإن أظهروا لم يظهروا غير وصفهم ... وإن ستروا فالستر من أجلهم يحلو
وله في شيخة أبي العباس عدة قصائد، وما أحسن قوله في بعضها:
فكم قلوب قد أميتت بالهوى ... أحيى بها من بعدما أحياها
وكان شيخه المذكور يكثر من استنشاده هذا البيت مرة بعد أخرى، ومن أراد الاطلاع على فضائله وفضائل شيخه، وشيخ شيخه، وما لهم من المناقب، فليطالع كتبه، واشتملت عليه من المواهب.
وقد اقتصرت من ترجمته على هذه الألفاظ تاركاً عن بحره الذاخر الذي لا يخاض، ولم أقتصر على قول الذهبي في ترجمته الخافض من رفيع مرتبته. أعني قوله: وفيها مات بمصر الشيخ العارف المذكور تاج الدين أحمد بن محمد بن عطاء الله الإسكندرني صاحب(4/185)
أبي العباس المرسي. انتهى كلامه.
وقد قدمت في ترجمة أبي الحسن الشاذلي ما فيه كفاية من التنويه بمرتبته العلية، والرد على من غض من جلالة قدره من الطائفة الحشوية لسوء اعتقادهم بمشائخ الصوفية.
وفي السنة المذكورة. مات بمكة مسندها المعمر الصالح أبو العباس أحمد بن أبي طالب الحمامي البغدادي الزاسكي، المجاور عن بضع وثمانين سنة.
وفيها ماتت بحلب المعمرة شهدة بنت الصاحب كمال الدين عمر بن العديم العقيلي، ولدت يوم عاشوراء لها حضور وإجازة من جماعة من الشيوخ، وكانت تكتب وتحفظ أشياء، وتتزهد وتتعبد، وذكر الذهبي أنه ممن سمع منها.
وفيها مات بدمشق المقرئ المعمر أبو إسحاق إبراهيم بن أبي الحسن بن صدقة المخرمي.
سنة عشر وسبع مائة
دخلت وسلطان الوقت الملك الناصر محمد، ونائبه يكتمر أمير جندار والوزير فخر الدين عمر الخليلي، وناب بدمشق قراسنقر.
وفيها عزل ابن جماعة من القضاء نيابة جمال الدين الزرعي، لكونه امتنع يوم عقد المجلس لسلطنة المظفر قراها له السلطان، ثم بعد عام أعيد ابن جماعة إلى المنصب، ثم جاء كتاب بعزل ابن الوكيل.
وولي بدمشق الشهاب الكاشغري الشريف، وفي نيسان نزل مطر أحمر، وماتت ببغداد ست الملوك فاطمة بنت علي بن علي.
وفيها توفي قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن إبراهيم السروجي الحنفي وعزل وطلب من دمشق ابن الحريري، فولي مكانه، وتوفي السروجي بعده بأيام في ربيع الآخر، وله ثلاث وسبعون سنة.
صنف التصانيف، واشتهر وهلك جوعاً كما استفاض نائب الممالك سيف الدين سلار المغلي، وقد بلغ من الجاه والعز والمال ما لا مزيد عليه تمكن أحد عشر سنة، وكان من(4/186)
اقطاعه نحواً من أربعين طبلخاناة، وكان عاقلاً ذا هيبة، قليل الظلم.
وفيها مات بحماه الأمير الكبير سيف الدين قجق المنصوري أحد الشجعان الأبطال، وكان تركياً، ثام الشكل، محبباً إلى الرعية، ويقال: سقي السم.
ومات في رمضان المسند العالم كمال الدين إسحاق بن أبي بكر بن إبراهيم الأسدي الحلبي ابن النحاس الحنفي، عن بضع وسبعين سنة أو ثمان، سمع ابن يعيش، وابن قميرة، وابن رواحة.
وفيها مات بتبريز عالم العجم العلامة قطب الدين محمد بن مسعود بن مصلح الشيرازي، عن ست وسبعين سنة، وله تصانيف، وتلامذة، وذكاء باهر، ومزاح ظاهر. وفيها توفي الإمام العلامة حامل لواء الشافعية في عصره نجم الدين أحمد بن محمد، المعروف بابن الرفعة، أحد الأئمة الجلة علماً وفقهاً ورياسة شرح التنبيه شرحاً حفيلاً لم يسبق على التنبيه نظيره جاء فيه بالغرائب المفيدة لكل طالب بل لكل عالم في فهم ثاقب، وكذلك شرح الوسيط، وأودعه علوماً جمة، ونقلاً كثيراً، ومناقشات حسنة بديعة، وهو شرح بسيط جداً، ولم يكمل.
سمع الحديث من غير واحد، وحدث بشيء يسير من تصنيفه في أمر الكنائس وتخريبها، وولي حسبة الديار المصرية، ودرس بالمغربية بها، وكان مولده في سنة خمس وأربعين وست مائة، وكان في عرف بعض الفقهاء قد وقع الاصطلاح على تلقيبه بالفقيه حتى صار علماً عليه إذا أشير إليه قلت: وكذلك صار هذا اللفظ في بعض بلاد اليمن علماً على شمس الدين، والفقيه الكبير الولي الشهير أحمد بن موسى، المعروف بابن عجيل.
وفيها توفي العالم المتفنن الشيخ علي بن أسمح اليعقوبي، كان له عدة محفوظات منها مصابيح البغوي، والمفصل، والمقامات، وركب البغلة، ثم تزهد وهاجر إلى دمشق، وائتذر بدلق وميزر صغير أسود، وتردد إلى المدارس، وأقرأ العربية.
وفيها توفي الإمام العلامة القاضي بدر الدين، المعروف بابن رزين عبد اللطيف بن(4/187)
محمد الحموي، ثم المصري الشافعي ابن شيخ الشافعية. قاضي القضاة تقي الدين كان إماماً متقناً، عارفاً بالمذهب درس وأفتى وأعاد لأبيه، وولي قضاء العسكر، ودرس بالظاهرية وغيرها، وخطب بجامع الأزهر، وحدث عن جماعة.
سنة إحدى عشرة وسبع مائة
فيها عزل عن دمشق نائبها قراسنقر المنصوري، وأعيد إلى القضاء ابن جماعة، وجعل الزرعي قاضي العسكر.
وفيها مات في الثغر الإمام الناظم الزاهد العابد أبو حفص عمر بن عبد البصير السهمي القرشي عن ست وتسعين سنة، حدث بدمشق عن ابن المقير، وابن الحميري، وحج مرات. وفيها مات بدمشق المسند الفاضل فخر الدين بن إسماعيل بن نصر الله بن تاج الأمنا أحمد ابن عساكر، وحدث عن جماعة، وتبعه الكبراء وشيوخه نحو التسعين، وكان مكثراً، وفيه خفة مع تدين، وتذاكر بأشياء.
وفيها ماتت الصالحة المسندة أم محمد فاطمة بنت الشيخ إبراهيم بن محمود بن جوهر البطائحي، روت الصحيح عن ابن الزبيدي مرات، وسمعت صحيح مسلم من غيره، وكانت صالحة متعبدة.
وفيها توفي الإمام القدوة الشيخ شمس الدين محمد بن أحمد الدماهي الصوفي الحنبلي، وكان ذا تأله، وصدق وعلم.
وفيها توفي الإمام العارف القدوة عماد الدين أحمد ابن شيخ الحرامية إبراهيم بن عبد الرحمن الواسطي، صاحب التواليف في التصوف عن أربع وخمسين سنة، وكان من سادات السالكين، وله مشاركة في العلوم، وعبارة عذبة، ونظم جيد.
وفيها توفي الشيخ القدوة العارف بالبركة شعبان بن أبي بكر الإربلي، شيخ مقصورة الحلبيين عن سبع وثمانين سنة، وكانت جنازته مشهودة، وكان خيراً متواضعاً، وافر الحرمة.(4/188)
وفيها توفي القاضي المنشئ جمال الدين محمد بن مكرم الأنصاري الرويفعي يروي عن مرتضى، وابن المقير، ويوسف بن المحبلي، وابن الطفيل. وحدث بدمشق واختصر تاريخ ابن عساكر، وله نظم ونثر قيل: وفيه شائبة تشيع.
وفيها توفي العلامة شيخ الأدباء رشيد الدين رشيد بني كامل الرقي، الشافعي، درس وأفتى، وبرع في الأدب، وحدث عن ابن مسلمة، وابن علان.
وفيها توفي قاضي الحنابلة بمصر سعد الدين مسعود بن أحمد الحارثي حدث وكتب وصنف ودرس، وكان ديناً هيناً، وافر الجلالة، فصيحاً ذكياً. حكم سنين، وكان من أئمة الحديث ومفتياً.
وفيها خر من فوق المنبر يوم الجمعة في هذه الحدود خطيب غرناطة، العلامة محمد عبد الله بن أبي حمزة المرسي، ومات فجاءة عن نيف وثمانين سنة - رحمه تعالى -.
سنة اثنتي عشرة وسبع مائة
فيها قطع خير الأمير مهنا لكونه ساق إليه جماعة من النواب والأمراء، فأجارهم ومسك خلائق من الأمراء وحبسوا، وحدث أحداث كثيرة من عزل وتولية.
وفيها حج السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، قلت: ورأيته يطوف بالكعبة، وعليه ثياب أحرام من صوف، وهو يعرج في مشيته، وحوله جماعة من الأمراء، وبأيدي كثير منهم الطير من أمامه، ومن خلفه وجوانبه، فلما فرغ من طوافه ركع خلف المقام، ثم دخل الحجر، فصلى فيه، ثم جاءه قاضي مكة نجم الدين الطبري، ثم جاءه شيخنا إمام الصلاة والحديث فيها رضي الدين إبراهيم بن محمد الطبري، الشافعي، ولا أدري هل أتيا إليه باستدعاء منه أم بغير استدعاء، وكان دخوله مكة بعد دخول الركب المصري. ساق في أيام يسيرة، وحج وانصرف راجعاً قبل الركب.
وفي تلك السنة كان أول حجي عقب بلوغي، ثم رجعت إلى اليمن وعدت إلى مكة سنة ثمان عشرة، ثم أقمت بها، وسمعت الحديث، وازددت من الاشتغال بأنواع من العلوم على جماعة من العلماء، وتأهلت فأولدت من بنات أكابر الحرمين وأئمتهم وقضاتهم.(4/189)
وفي السنة المذكورة مات شيخ بعلبك الإمام الفقيه الزاهد القدوة بركة الوقت أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد الحنبلي كفا ذكره الذهبي، ومدحه قال: وكان قليل المثل خيراً منوراً أماراً بالمعروف نهاء عن الفكر، وذكر أنه حدث عن جماعة سماهم.
وفيها توفي صاحب ماردين المنصور نجم الدين غازي ابن المظفر.
وفيها توفي الملك المظفر شهاب الدين غازي ابن الناصر داود بن المعظم ابن العادل حدث عن الصبر البكري، وخطيب برداً، وكان عاقلاً ديناً.
وفيها توفيت ست الأجناس بنت عبد الوهاب بن عتيق المصرية عن اثنتين وثمانين سنة، روت عن جماعة، وتفردت بأشياء.
سنة ثلاث عشرة وسبع مائة
وفيها وصل السلطان إلى دمشق من الحج حادي عشر المحرم لابساً عباءة وعمامة مدورة، وصلى جمعتين بالمقصورة.
وفي ربيع الآخر منها مات بمكة المحدث الحافظ فخر الدين أبو عمرو عثمان بن محمد بن محمد بن عثمان التوزري المجاور، سمع السبط، وابن الحميري وعدة، وقرأ ما لا يوصف كثرة، وكان قد تلا بالسبع، قلت: ورأيته في السنة التي قبلها يحدث في المسجد الحرام، وحضرت في بعض مجالسه، وسمعت شيئاً من الأحاديث المقروءة عليه.
سنة أربع عشرة وسبع مائة
فيها توفي بمصر العلامة المعمر شيخ الحنفية رشيد الدين إسماعيل بن عثمان بن المعلم القرشي الدمشقي، عن إحدى وسبعين سنة، وسمع من ابن الزبيدي والسخاوي وجماعة، وتفرد وتلا بالسبع على السخاوي، وأفتى ودرس، ثم انجفل إلى القاهرة سنة سبع مائة، ومات قبله ابنه المفتي تقي الدين قبل موته بسنة أو أكثر.
قال الذهبي: ومات بدمشق الشيخ سليمان التركماني المولد، وكان يجلس بسقاية باب البريد، وعليه عباءة نجسة ووسخ ونتن، وهو ساكت قليل الحديث، له كشف وحال من(4/190)
نوع أخبار الكهنة، هكذا قال الذهبي على عادته في اعتقاده في الفقراء المجربين، قال: وللناس فيه اعتقاد زائد، وكان شيخنا إبراهيم مع جلالته يخضع له، ويجلس عنده قلت: يكفي في مدحه ما ذكره عن شيخه المذكور، وذكر أنه كان يأكل في رمضان ولا يصلي.
قلت: ومثل هذا قد شوهد من كثير من المجربين، ومن الجائز أنهم يصلون في أوقات لا يشاهدون فيها، وأنه لا يدخل إلى بطونهم، ولا إلى حلوقهم ما يرى الناس، إنهم يأكلونه بل يمضغون ذلك تجريباً وتستراً، أو غير ذلك من الأحوال المحتملة لفعل الصلاة في وقتها وترك الأكل في رمضان، فللقوم أحوال يحتجبون بها.
وقد ذكرت في كتاب روض الرياحين وغيره ما يؤيد هذا عن قضيب البان، والشيخ ريحان، وغيرهما من المجربين أولى الاصطفاء والعرفان.
وفيها ماتت العاملة الفقيهة الزاهدة القانتة سيدة نساء زمانها، الواعظة أم زينب فاطمة بنت عياش البغدادية الشيخة في ذي الحجة بمصر. عن نيف وثمانين سنة، وشيعها خلائق انتفع بها خلق من النساء، وكانت وافرة العلم، فائقة قانعة باليسير، حريصة على النفع والتذكير، ذات إخلاص وخشية، وأمر بالمعروف انصلح بها نساء دمشق، ثم نساء مصر، وكان لها قبول زائد، ووقع في النفوس. قال الذهبي: زرتها مرة.
وفيها مات بالثغر جمال الدين العدل بن عطية اللخمي المتفرد بكرامات الأولياء عن مظفر الفوي بضم الفاء وتشديد الواو من أبناء الثمانين، قلت: يعني أنه تفرد برواية المذكورة عن الشيخ المذكور.
سنة خمس عشرة وسبع مائة
في أولها سار نائب دمشق بجيوش الشام إلى ملطية، فافتتحها، وسبيت ذراري النساء، وعمد من المسلمات، وعم النهب، وأحرقوا في نواحيها، وفارقوها بعد ثلاث وقتل بملطية عدة من النصارى، ودرس بالأتابكية قاضي القضاة، ابن صصري، وبالظاهرية ابن الزملكاني، وقتل أحمد الرويس الأقناعي، لاستحلاله المحارم، وتعرضه للنبوة، وقوله: أتاني النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحدثني.
وفيها مات سلطان الهند علاء الدين محمود، أو في السنة الماضية، وتسلطن بعده نائبه غياث الدين.
وفيها مات بالموصل السيد ركن الدين الحسن بن محمد العلوي الحسيني، وكان صاحب التصانيف، وكان لا يحفظ القرآن، ولا بعضه، ومع هذا كانت(4/191)
جامكيته، في الشهر ألفاً وست مائة درهم.
؟
سنة ست عشرة وسبع مائة
فيها ولي قضاء الحنابلة بدمشق شمس الدين ابن سلم بفتح السين واللام وتشديدها.
وفيها مات العلامة نجم الدين سليمان بن عبد القوي الحنبلي النسفي الشاعر، صاحب شرح الروضة، كان على بدعته، كثير العلم، عاقلاً، متديناً، مات، ببلد الخليل كهلاً.
وفيها ماتت مسندة الوقت، ست الوزراء، بنت عمر بن أسعد التنوخية، في شعبان، فجاءة عن اثنتين وتسعين سنة. روت عن أبيها القاضي شمس الدين وابن الزبيدي، وحدثت بالصحيح، ومسند الشافعي بدمشق، ومصر مرات، وكانت على خير.
وفيها مات سلطان التتار غياث الدين خربنده، ابن أرغون، هلك بمراغة في آخر رمضان، ولم يتكهل، وكانت دولته ثلاث عشرة سنة، وتملك ابنه بعده أبو سعيد.
وفيها توفي المعمر المقرئ السيد صدر الدين أبو الفداء إسماعيل بن يوسف بن مكتوم القيسي الدمشقي، سمع جماعة منهم مكرم، وابن الشيرازي، والسخاوي، وقرأ عليه بثلاث روايات، وكان فقيهاً مقرياً وتفرد بأجزاء.
وفيها ماتت بحماة أم أحمد فاطمة بنت النفيس محمد بن الحسين بن رواحة. روت أجزاءاً عن عمها بطرابلس، ومصر. قال الذهبي: سمعنا منها.
وفيها توفي الشيخ العلامة ذو الفنون صدر الدين محمد ابن الوكيل خطيب دمشق.
وفيها توفي زين الدين عمر بن مكي بن المرحل الشافعي بمصر، عن إحدى وخمسين سنة، وأشهر، ولد بدمياط، ونشأ بدمشق، وسمع من ابن غيلان والقاسم الإربلي، وأفتى عن اثنتين وعشرين، وحفظ المقامات في خمسين يوماً، وتخرج به الأصحاب، وكان أحد الأذكياء النجاب، وله نظم رائق ومزاح عفا الله عنه.(4/192)
وفيها مات بسبتة عالمها النحوي ذو العلوم أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد الغافقي، الإشبيلي، سمع التفسير، وبحث كتاب سيبويه، وتلا بالسبع، له تصانيف وجلالة وتلامذة.
وفيها توفي الإمام العلامة المدرس المفتي الشافعي. أحمد بن أحمد بن مهدي المدلجي الكناني المعروف بعز الدين النسائي، كان من أورع أهل زمانه درس وأفتى بالمدرسة الفاضلية بالقاهرة، واشتغل للطلبة، وانتفعوا به، وتوفي بمكة - رحمه الله تعالى - في ذي القعدة، ودفن بالمعلى.
سنة سبع عشرة وسبع مائة
فيها حدثت الزياة العظمى ببعلبك، فغرق في البلد مائة وبضع وأربعون نسمة، وجرف السيل سورها الحجارة مساحة أربعين ذراعاً، ثم تزلزل بعد مكانه مسيرة خمس مائة ذراع، وكان ذلك آية بينة، وتهدم من البيوت والحوانيت نحو ست مائة موضع.
وفيها قدم السلطان إلى غزة، وإلى الكرك، ثم رجع.
وفيها ظهر جبلي، وادعى أنه المهدي بجبلة، وثار معه خلق من النصيرية والجهلة، وبلغوا ثلاثة آلاف، فقال: أنا محمد المصطفى، ومرة قال: أنا علي وتارة قال: أنا محمد بن الحسن المنتظر، فزعم أن الناس كفرة، وأن دين النصيرية هو الحق. وأن الناصر صاحب مصر قد مات، وعاثوا في السواحل، واستباحوا جبلة، ورفعوا أصواتهم يقولون: لا إله إلا علي، ولا حجاب إلا محمد، ولا باب إلا سلمان. ولعنوا الشيخين، وخربوا المساجد، وكانوا يحضرون المسلم إلى طاغيتهم، ويقولون: اسجد لإلهك، فسار إليهم عسكر طرابلس، وقتل الطاغية وجماعة ومزقوا.
وفيها مات المحدث الإمام الشيخ علي بن محمد الحسيني الصوفي في المحرم عن سبع وأربعين سنة، روى عن الفخر علي، وتاج الدين الفزاري. كان تقياً ديناً مؤثراً، كثير المحاسن.
وفيها مات بدمشق قاضي المالكية المعمر جمال الدين محمد بن سليمان(4/193)
الزواوي وبقي قاضيها ثلاثين سنة.
سنة ثمان عشرة وسبع مائة
فيها كان القحط المفرط بالجزيرة، وديار بكر كلت الميتة، وبيعت الأولاد، ومات بعض الناس من الجوع، وجرى ما لا يعبر عنه، وكان أهل بغداد في قحط أيضاً دون ذلك.
وجاءت بأرض طرابلس زوبعة أهلكت جماعة، وحملت الجمال في الجو، وأمسك السلطان جماعة أمراء.
وفيها مات بزاويته الإمام القدوة، بركة الوقت، الشيخ محمد بن عمر ابن الشيخ الكبير أبي بكر بن قوام النابلسي عن سبع وستين سنة، روى عن إسحاق ابن طبرزد، وكان محمود الطريقة، متين الديانة.
وفيها مات بدمشق الإمام الكبير أبو الوليد محمد بن أبي القاسم القرطبي إمام محراب المالكية.
وفيها مات مسند الوقت الصالح أبو بكر بن المنذر بن زين الدين أحمد بن عبد الدائم المقدسي.
وفيها مات العلامة المفتي كمال الدين أحمد ابن الشيخ جمال الدين محمد بن أحمد الشريشي.
وفيها مات شيخ القراء والنحاة مجد الدين أبو بكر محمد بن قاسم المرسي التونسي الشافعي، تخرج به الفضلاء، وكان ديناً صيناً ذكياً، قال الذهبي: حدثنا عن الفخر علي.
وفيها ماتت بالصالحية زينب بنت عبد الله بن الرضي، عن نيف وثمانين سنة. روت عن الحافظ الضياء، وتفردت بأجزاء.
وفيها مات العلامة قاضي المالكية بدمشق فخر الدين أحمد بن سلامة القضاعي. وكان حميد السيرة بصيراً بالعلم محتشماً.
سنة تسع عشرة وسبع مائة
فيها حج السلطان الملك الناصر من مصر، وفيها كانت الملحمة العظمى بالأندلس(4/194)
بظاهر غرناطة، فقتل فيها من الفرنج أزيد من ستين ألفاً، ولم يقتل من عرف من عسكر المسلمين سوى ثلاثة عشر نفساً، والحمد لله على نصر دين الإسلام، وعلى سائر أفضاله والأنعام.
وفيها مات مسند الوقت الشرف عيسى بن عبد الرحمن الصالحي المعظم.
وفيها مات بمالقة شيخها العلامة أبو عبد الله محمد بن يحيى القرطبي، عن ثلاث وتسعين سنة، تفرد بالسماع عن الكبار.
سنة عشرين وسبع مائة
فيها حج مع السلطان الأمير عماد الدين الأتوني سلطنة السلطان بحماة، ولقب بالملك المؤيد، وقتل بمصر إسماعيل المقرئ على الزندقة، وسب الأنبياء، وقتل بدمشق عبد الله الرومي الأزرق مملوك الناجي ادعى النبوة وأصر وعمل عقد السلطان على أخت إزبك التي قدمت في البحر، وخلع على الكريم وابن جماعة، وكاتب السر وغيرهم، وغضب السلطان على آل فضل، وأحيط على أقطاعهم بعد أن أعطاهم قناطير من الذهب بحيث أنه أعطاهم في عام أول ألف ألف، وخمس مائة ألف درهم، وغزا الجيش بلاد سيس لكن غرق في نهر خان منهم خلق كثير، وحبس بقلعة دمشق ابن تيمية لإفتائه في الطلاق مخالفاً لجماهير أهل السنة، وأمسك نائب غزة الحاوي، وجاء بالسلطانية برد كبار، ووزنت منه واحدة ثمانية عشر درهماً، فاستغاث الخلق وبكوا فأبطلت الفاحشة والخمور أجمع بمهمة عليشاه الوزير، وزوج من العواهر خمسة آلاف في نهار واحد، وشقق ألوف من الظروف، وابتنى الجامع الكبير الكريمي بالضبات، وسيق إليه مال كثير، وحج الرحبيون منهم القاضي فخر الدين المصري، وجماعة من العلماء، ووجوه الناس.
وفيها مات المعمر المقرئ الرحلة أبو علي الحسن بن عمر بن عيسى الكردي.
وفيها قتل صاحب مكة حميضة بن أبي نمي الحسني وكان قد نزع عن طاعة السلطان الملك الناصر، وتولى أخوه عطيفة، فقتله جندي التقى به بالبرية غيلة، وهو نائم، ثم قتله السلطان لغدره.
قلت: ويقال: إن ذلك من تحت مكيدة السلطان جاء إليه الجندي في صورة هارب من السلطان.(4/195)
ورأيت قبيل قتله في المنام. كان القمر في السماء قد احترق بالنار، وأظن أني رأيته سقط إلى الأرض، وكان قبل ذلك بأيام قد جاء بجيش يريد أخذ مكة وقتل جماعة فيها من الفقهاء، والمجاورين على ما قيل، وقد كان مخرجاً منها.
ومن جملة المذكورين، القاضي الجليل الإمام الحفيل نجم الدين الطبري، جاءني، وهو خائف يقول: أين أذهب، وعندي بنات. يعني لا أستطيع الذهاب عنهن، فرأيت في المنام، في ضحى ثاني ذلك اليوم الذي قال فيه: ذلك المقال كأني شاهدت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقبلت قدمه الشريفة، وقلت: يا رسول الله نجم الدين، فتبسم صلى الله عليه وآله وسلم، وقال لي: " ما يصيبه شر " فقلت له: أهل مكة، فانقبض عليه السلام، ولم يجبني بجواب، فأعدت عليه ذلك، فلم يجبني، ثم أعدت عليه ثالثاً فقال: " ما عليهم إلا خير " يقول ذلك بغير بشاشة منه، ثم أقبل بالجيش عقب هذا المنام إلى أن بلغ بطن مر، فخرج إليه أخوته عطيفة، وعطاف، وآخر من أخوته مع عسكر ضعيف، فنصرهم الله عليه، وكسروه، فانهزم ولم يكن قبل ذلك يكسر، بل كانت العربان تهابه هيبة عظيمة، وكانت له سطوة، وإقبال، وسعادة عاجلة، وكان يقول: كان لأبي نمي خمس فضائل، الشجاعة، والكرم، والحلم والشعر، والسعادة، قال: فورثت هذه الخمس، خمسة من أولاده، فالشجاعة لعطيفة، والكرم لأبي الغيث، والحلم لرميثة، والشعر لسليمة، والسعادة لي حتى لو قصدت جبلاً لدهكته، ثم قتل بعد كسرته المذكورة، بعد أيام يسيرة.
سنة إحدى وعشرين وسبع مائة
فيها أطلق ابن تيمية بعد الحبس بخمسة أشهر، وأقبلت الحرامية في جمع كثير، فنهبوا في بغداد علانية سوق الثلاثاء، فانتدب لهم عسكر، فقتلوا فيهم مقتلة نحو المائة، وأسروا جماعة.
ووقع الحريق الكثير بالقاهرة، ودام أياماً، وذهبت الأموال، ثم ظهر فاعلوه، وهم جماعة من النصارى، يعملون قوارير ينقدح ما فيها، ويحرق، فقتل جماعة وكان أمراً مزعجاً قيل: فعلوه، لإخراب كنيسة لهم، وأخرب ببغداد مواضع الفاحشة، وارتفعت الخمور، وأخربت كنيسة اليهود وحج تائب دمشق، وفي صحبته خطيب البلد القاضي جلال الدين القزويني، وجماعة من العلماء والأكابر.
وفيها مات شيخ الشيعة، وفاضلهم الشمس محمد بن أبي بكر بن أبي القاسم(4/196)
الهمداني، ثم الدمشقي.
وفيها مات بالفيوم خطيبها الرئيس، الأكمل، المحتشم، مجد الدين أحمد بن المعين الهمداني النويري المالكي، صهر الوزير ابن حنا، وكان يضرب به المثل في المكارم، والسؤدد.
وفيها توفي بمكة الشيخ الكبير العالم بالله الشهير، بدر المعارف، ومعدن الكرامات، واللطائف، ذو المواهب السنية، والمقامات العلية، وأنفاس الصادقة، والأحوال الخارقة شيخ عصره، وعلم دهره، نجم الدين عبد الله بن محمد بن محمد الأصبهاني الشافعي، تلميذ الشيخ الكبير أبي العباس المرسي الشاذلي عن ثمان وسبعين سنة. جاور بمكة سنين كثيرة، ومناقبه كثيرة باهرة، وآياته شهيرة ظاهرة، وأيامه منيرة زاهرة، ولو ذهبت أعدد ما اشتهر عنه من الفضائل المشتملة، على العجب العجاب، لخرجت بذلك عن الاختصار المقصود بهذا الكتاب، ولكني أذكر شيئاً لطيفاً تلويحاً بفضله، وتعريفاً، فمن ذلك أنه رأى في صغره كأنه خلع عليه إحدى عشر علماً فعرض ذلك على عمه وكان من الأكابر، أولى البصائر، فقال: يتبعك أحد عشر ولياً.
وقال له: الفقيه الإمام العارف بالله رفيع المقام علي بن إبراهيم اليمني البجلي، في بعض حجاته، تركت ولدي مريضاً لعلك تراه في بعض أحوالك، فتخبرني كيف هو فرمق الشيخ نجم الدين في الحال قال: ها هو قد تعافى، وهو الآن لستاك على سرير، وكتبه حوله، ومن صفته وخلقته كذا وكذا، وما كان رآه قبل ذلك، وطلع يوماً في جنازة بعض الأولياء، فلما جلس الملقن عند قبره يلقنه. ضحك الشيخ نجم الدين، فسأله تلميذ له عن ضحكه إذ لم يكن الضحك له عادة فزجره، ثم أخبره بعد ذلك أنه سمع صاحب القبر يقول ألا تعجبون من ميت يلقن حياً؟ وكان الملقن من كبار الفقهاء أكره أن أسميه.
ومن كراماته أيضاً أني رأيته في منامي يكلم شيخاً من المجاورين الصالحين سراً مقبلاً عليه في وقت كنت مضروراً فيه لحاجة، فلما انتبهت من منامي أردت أن أبشر ذلك الشيخ بإقباله عليه، وإذا به قد جاءني، وقضى لي تلك الحاجة التي تعسرت علي، ففهمت أنه ما كان يكلمه إلا من شأني، وكنت قد أدركته في حجتي الأولى، وهو صحيح الجسم يعتمر في الجمعة مرتين، ويطوف بالبيت أسابيع كثيرة أظنها سبعة بعد الصبح، وأسبوعا بعد المغرب(4/197)
وأسبوعاً بعد العشاء. سمعته يقرأ فيه: " سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله " " الإسراء: ا " سورة بني إسرائيل، وأسبوعاً قبل الفجر، وسمعت شيئاً من كلامه خلف المقام، وأحرمت بالعمرة معه في وقت، وأدركته في الحجة الثانية، وهو متخلف في بيت لوجع في رجله، وكان ذا صورة جميلة، ولحية طويلة، وهيبة عظيمة، وكان قد اشتغل بعلوم كثيرة، وحصل منها محصولاً طائلاً، وكان كتابه في الفقه الوجيز، وقيل له: هل تزوجت امرأة قط؟ فقال: ولا كلت طعاما طبخته امرأة.
وقال له شيخ في بلاد العجم: ستلقى القطب في الديار المصرية، فخرج في طلبه، فمر في طريقه بحرامية، فأمسكوه وكتفوه، وظنوه جاسوساً وقال بعضهم: نقتله قال: فبت مكتوفاً، فنظمت أبياتاً ضمنتها قول امرء القيس من ذلك:
وقد أوطيت نعلي كل أرض ... وقد أتعبت نفسي باغتراب
وقد طوفت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
قال: فما استتمت الإنشاد حتى انقض علي شيخ كانقضاض البازي على الفريسة، وحل أكتافي، وقال: قم يا عبد الله، فأنا مطلوبك، فذهبت حتى وصلت إلى الديار المصرية، فما عرفت من مطلوبي، ولا أين هو، فلما كان ذات يوم قيل: قدم الشيخ أبو العباس المرسي، فقال الفقراء: اذهبوا بنا نسلم عليه، فلما رأيته تحققت أنه الشيخ الذي حل كتافي، ثم قال: في أثناء كلام له: الحقني يا عبد الله، فما جئت إلا بسببك، ثم خرج من المجلس، والحاضرون لا يدرون من يعني، فتبعته وصحبته إلى أن توفي.
ووقع له عجائب يطول ذكرها، ثم توجه بعد وفاته للحج فمر في طريقه على قبر شيخ شيخه شيخ زمانه أبي الحسن الشاذلي، فكلمه من قبره وقال له: اذهب إلى مكة، وانحبس بها.
قلت: وأخبرني بعض الشيوخ الكبار، وهو ذو الكرامات الشهيرة الخارجة عن الانحصار الذي بإرشاده الضال يهتدي الشيخ محمد المرشدي أن الشيخ نجم الدين لما سافر للحج لم يطعم شيئاً حتى بلغ قبر شيخ شيخه أبي الحسن المذكور الذي هو فيه مقبور، ولما بلغ طرف الحرم الشريف سمع هاتفاً يقول له: قدمت إلى خير بلد، وشر أهل، أو نحو ذلك من الكلام، ثم لم يزل بمكة ذا جد واجتهاد مواصلة بين الأوراد. مكثراً من الطواف والاعتماد. مشاراً إليه بالأنوار والأسرار، ويجتمع به من ورد من الشيوخ الكبار إلى أن توفى، فدفن قريباً من قبر السيد الجليل الذي بجواره بلوغ الأغراض أبي علي الفضيل بن(4/198)
عياض - قدس الله روحهما - ولم ير في الظاهر خارجاً من مكة إلى مكان أبعد من عرفة، وأما في الباطن، فالعلم بذلك راجع إلى علماء الباطن.
قد أخبرني بعض الأولياء، وهو الشيخ محمد البغدادي الذي كان ساكناً في بلاد مراغة، قال: لما رجعت من زيارة النبي عليه السلام متوجهاً إلى مكة. أفكرت في الشيخ نجم الدين المذكور، وعتبت عليه في قلبي في كونه لا يقصد المدينة الشريفة ويزور، قال: ثم رفعت رأسي، فإذا به في الهوى ماراً إلى جهة المدينة، وناداني: يا محمد كذا وكذا، وذكر كلاماً نسيته.
وبلغني أنه قال له بعض أصحابه: يا سيدي الناس ينكرون عليك ترك زيارة النبي عليه السلام، فقال: لا ينكر ذلك إلا أحد رجلين، إما مشرع، وإما محقق. فأما المشرع. فقل له: هل يجوز للعبد أن يسافر بغير إذن سيده؟ وأما المحقق فقل له: من هو معك في كل حين حاضر هل لطلبه تسافر. وقال الشيخ عبد الملك ابن الشيخ الكبير العارف بالله الشهير أبو محمد المرجاني المغربي - قدس روحه - استأذنت الشيخ نجم الدين في زيارة قبر النبي عليه السلام فقال: مالك طريق إلى ذلك في هذا الوقت، قال: فخالفته وسافرت مع جماعة، فلما صرنا بين الروضة والهمة مشينا ليلتنا فغوينا، فأصبحنا حيث أوينا، ثم مشينا فغوينا كذلك ثلاثة أيام، فعرفت أن سبب غوايتنا مخالفتي للشيخ نجم الدين، فقلت للجماعة: سافروا فما السبب المعوق لكم إلا أنا، ثم رجعت إلى مكة، وسافروا فلما كان بعد مدة استأذنت الشيخ نجم الدين في السفر، فقال لي: سافر، فتسهلت لي الطريق، وارتفع التعويق. هذا يعني كلامه وإن اختلفت العبارة، فلما وصل المدينة الشريفة وجد بعض المجاورين قد توفي، وأوصى له بثياب، فلبسها.
قلت: وقد اقتصرت في ترجمة الشيخ نجم الدين الأصبهاني على هذه النبذة من فضائله، وهذه القطرة من بحر لا يوصل إلى ساحله.
وأما ترجمة الذهبي فغاضة من قدره بل طامسة لنور بدره، حيث يقول في ترجمته: بهذه الألفاظ بعينها، ومات بمكة في جمادى الآخرة العارف الكبير نجم الدين عبد الله بن محمد الأصبهاني الشافعي تلميذ الشيخ أبي العباس المرسي عن ثمان وسبعين سنة. جاور بمكة مدة، وما زار النبي عليه السلام فيها، وانتقد عليه الشيخ علي الزاهد رحمهما الله تعالى.
هذه جميع ترجمته المقصرة في وصفه المنسوب إليه، المنكرة في ترك الزيارة عليه، وقد قدمت التنبيه على أعظم من هذا التمويه في إنكاره على شيخ شيخه أبي الحسن الشاذلي(4/199)
في ترجمته، وإنزاله إلى الحضيض النازل من رفيع مرتبته، فطالع ما تقدم في ترجمته المذكورة ترى العجب العجاب، فتوفق إن شاء الله تعالى في الاعتقاد للصواب.
وفي السنة المذكورة توفي صاحب اليمن شيخ القراءات، ومعدن البركات مقرئ حرم الله تعالى، ومحقق قراءة كتاب الله عز وجل. الشيخ الكبير السيد الشهير أبو محمد عبد الله لمعروف بالدلاوي - رضي الله تعالى عنه - ونفع به. كان من ذوي الكرامات العديدات، والمناقب الحميدات.
يقال: إنه ممن سمع رد السلام من سيد الأنام عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام، ورأيته يطوف في ضحى كل يوم أسبوعاً بعد فراغ الطلبة من القراءة عليه، وكان قد انحنى انحناء كثيراً، فإذا جاء إلى الحجر الأسود زال ذلك الإنحناء وقبله، وكان يعد ذلك من كراماته.
ومنها أنه كان عنده طفل غابت أمه عنه، فبكى فدر ثديه باللبن، فأرضع ذلك الطفل حتى سكت، وله كرامات أخرى كثيرة شهيرة.
وفي السنة المذكورة توفي صاحب اليمن الملك المؤيد عزيز الدين داود ابن الملك المظفر يوسف بن عمر، وكانت دولته بضعاً وعشرين سنة. قال بعض المؤرخين: وكان عالماً فاضلاً سائساً شجاعاً، وعنده كتب عظيمة نحو مائة ألف مجلد، وكان يحفظ التنبيه وغير ذلك. انتهى.
قلت: وأبوه الملك المظفر، وابنه الملك المجاهد كلاهما في العلوم أكثر من مشاركة فرعاً وأصلاً، وأذكى قريحة، وأشهر فضلاً، وأحسن ملحاً، وأظرف وأحلى من ذلك أنه كتب بعض الناس إلى الملك المظفر، قال الله عز وجل: " إنما المؤمنون أخوة " " الحجرات: 10 " وأنا أخوك فلان أطلب منك نصيبي من بيت مال المسلمين، فأرسل إليه الملك المظفر بدرهم، وقال للرسول قل له: " إذا فرقنا بيت مال المسلمين عليهم لم يحصل لك أكثر من هذا أو قال: لعله لا يحصل لك هذا.
وله أربعون حديثاً خرجها منتقاة عوالي رويناها عن شيخنا رضي الدين الطبري يحق روايته لها عن الإمام محب الدين الطبري بروايته لها عن الملك المظفر المذكور.
وأما الملك المجاهد، فله أشياء بديعة نظماً ونثراً، وديوان شعره، ومعرفة بعلم الفلك، والنجوم، والرمل، وبعض العلوم الشرعية من الفقه وغيره.
وفيها مات بمصر المحدث الرحال تقي الدين محمد بن عبد المجيد الهمداني(4/200)
المصري، الصوفي، عن نيفٍ وسبعين سنة، سمع من جماعة منهم المري، وابن الخير. كذا ذكره الذهبي.
وفيها مات حافظ المغرب الإمام العلامة أبو عبد الله بن رشيد الفهري بفاس.
سنة اثنتين وعشرين وسبع مائة
وفيها توفي شيخنا المحدث الإمام العلامة الراوية صاحب الأسانيد العالية، بركة الوقت، فريد العصر بقية المحدثين الصالحين رضي الدين إبراهيم بن محمد الطبري المالكي إمام المقام في الحرم الشريف، ذو الأوصاف الرضية، والمنصب المنيف، سمع رضي الله تعالى عنه ما يطول عقه من الكتب والأجزاء في الحديث والتفسير، والفقه، والسير، واللغة، والتصوف وغير ذلك من خلائق من الأئمة الكبار، وأجاز له أيضاً خلائق من جلة يطول عدهم، ويعلو مجدهم، وكل ذلك مثبت بخطه في بيت محفوظ في كتبه، وتفرد في آخر عمره خصوصاً برواية صحيح البخاري، واعترف له الجلة بالجلالة، حتى قال له محدث القدس المتفرد في وقته صلاح الدين العلاني رحمه الله: لي من الشيوخ قريب من ألف ما فيهم مثل شيخك، يعني رضي الدين المذكور.
وبلغني أن إمام اليمن، وبركة الزمن، الفقيه الكبير الولي الشهير، السيد الجليل ذا المناقب الزاهرة، والكرامات الباهرة أحمد بن موسى بن عجيل سأله بعض أهل مكة الدعاء، فقال: عندكم إبراهيم.
وله نظم جيد، وتواليف منها كتاب " الجنة في مختصر شرح السنة " للإمام البغوي، وغير ذلك، وكان رضي الله تعالى عنه مع اتساعه في رواية الحديث له معرفة بالفقه والعربية وغيرهما. وكانت قراءتي عليه في أول سنة إحدى وعشرين إلى أن اشتد مرض موته في شهر صفر من سنة اثنتين وعشرين وقال لي: يا ولدي لقد حصلت علي في هذه السنة ما لم أحصله في سنين كثيرة ومن مقروءاتي عليه صحيح البخاري، ومسلم، وسنن أبي داؤد والترمذي، والنسائي، والدرامي، وابن حبان، ومسند الإمام الشافعي، والشمائل للترمذي وعوارف المعارف للسهروردي، والسيرة لابن هشام، وعلوم الحديث لابن الصلاح، ومنسكه، وخلاصة السيرة، وصفة القراء، والمجالس الملكية، والعوالي من مسموعات الفراوي، والأربعين من سباعياته، والأنباء المنبئة عن فضل المدينة، والأربعون المختارة في(4/201)
صفات الحج والزيارة لابن مسدي، والسداسيات للحافظ السلفي، وخماسيات ابن النقور، وجزء من حديث ابن عرفة، ومقاصد الصوم لابن عبد السلام، والأربعون من أربعين كتاباً للهروي، وفضائل شهر شعبان لابن أبي الصيف، وسداسيات الميانسي، وكتاب أعلام الهدى، وعقيدة أرباب التقى للشيخ شهاب الدين السهروردي، ومسلسلات الديباجي، وتساعيات شيخنا رضي الدين المذكور، وكتاب محاسبة النفس لابن أبي الدنيا، وإجارة المجهول والمعموم للحافظ الخطيب، وثمانون للآجري، وأربعون للملك المظفر صاحب اليمن، والأربعون للنواوي، والأربعون الثقفيات، وغير ذلك. وقد أفردت لمعظم ذلك، أشياء كثيرة مثبتاً في أوراق عديدة، وأضفت ذلك مجازاتي منه ومقروءاتي على غيره، مالي من تصنيف وتأليف نظماً ونثراً في جزء كتبته وقرأه علي ناس كثيرون، وكان آخر ما قرأته على شيخنا المذكور الملخص للمغافري توفي وقراءتي في أثنائه رحمه الله تعالى ورحم سائر مشائخنا، وقد ذكرت كثرهم في الجزء المذكور.
وجل اعتمادي منهم على ثلاثة شيوخ مشهورين بالعلم والصلاح بل بالولايات، والكرامات، وعوالي المناقب، والمكانات. أحدهم الشيخ رضي الدين المذكور، والثاني شيخنا وبركتنا الإمام الفريد ذو الوصف الحميد زين عدن وبركة اليمن مفيد الطلاب، وحليف المحراب، الخاشع الأواب، العالم العامل، الزاهد العابد المفضال جمال الدين محمد بن أحمد المعروف بالنضال الذهبي اليمني الشافعي رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ورفع في الجنان قدره وأعلاه، وهو أول من انتفعت به.
والثالث شيخنا، وبركتنا، وسيدنا، وقدرتنا الشيخ الكبير العارف بالله الشهير الخبير، ذو المقامات العلية، والكرامات السنية، والمواهب الجزيلة، والأوصاف الجميلة مطلع الأنوار، وخزانة الأسرار أبو الحسن علي بن عبد الله اليمني الشافعي الصوفي مذهباً المعروف بالطواشي نسباً - قدس الله روحه - ونور ضريحه، وقد ذكرت إلى من نسب في لبس الخرقة من الشيوخ في كتاب نشر الريحان في فضل المتحابين في الله من الأخوان، وذكرت هنالك شيئاً من كراماته العظيمة، وفضائله الكريمة، وكلا هذين الشيخين اليمنيين المذكورين توفيا في سنة ثمان وأربعين وسبع مائة، وصلينا عليهما في يوم واحد في المدينة الشريفة، وليس هذا موضع ذكر مناقبهما - رحمة الله تعالى عليهما - وسيأتي ذكرهما إن شاء الله تعالى في السنة المذكورة.
وفيها ماتت بالقدس المعمرة الراحلة أم محمد زينب بنت أحمد بن عمر بن أبي بكر بن سكر المقدسي في ذي الحجة عن أربع وتسعين سنة، وسمعت من غير واحد، وتفردت بالأجزاء الثقفيات.(4/202)
سنة ثلاث وعشرين وسبع مائة
فيها توفي الفقيه الإمام المدرس المفيد الشافعي، كان من أعيان الأئمة الشافعية، وخيار الفقهاء وكبارهم، درس وأعاد في مدارس، وانتفع به خلق كثير، وصنف في الفقه روايد التعجيز على التنبيه، وثاب في الحكم عن قاضي القضاة الزرعي، ثم عن قاضي القضاة بدر الدين، وتولى وكالة بيت المال، ولم يزل على ذلك إلى أن ليلة الجمعة رابع عشر ذي الحجة من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.
وفيها أمسك الكريم السلماني وكيل السلطان الملك الناصر، وزالت سعادته التي كانت يضرب به المثل.
وفيها مات بدمشق في ربيع الأول قاضي دمشق، ذو الفضائل ورئيسها الكامل نجم الدين أبو العباس أحمد بن محمد المعروف بابن صصري، الثعلبي، الشافعي، سمع من جماعة، وأفتى ودرس، وله النظم والترسل والخط المنسوب، والمروس الطويلة، والفصاحة وحسن العبارة، والمكارم مع دين، وحسن سريرة ولي القضاء إحدى وعشرين سنة.
وفيها مات مسند الشام بهاء الدين القاسم ابن المظفر ابن تاج الأمناء ابن عساكر.
وفيها مات بالمزة ليلة عرفة، مسند الوقت شمس الدين أبو نصر محمد بن محمد بن محمد بن هبة الله ابن الشيرازي، الدمشقي، سمع من جماعه، وله مشيخة وعوال، وكان ساكناً وقوراً منقبضاً عن الناس.
سنة أربع وعشرين وسبع مائة
فيها كان الغلاء بالشام، وبلغت الغرارة أزيد من مائتي درهم أياماً، ثم جلب القمح من مصر بإلزام السلطان لأمرائه، فنزل إلى مائة وعشرين درهماً، ثم بقي أشهراً، ونزل السعر بعد شدة، وأسقط مكس الأقوات بالشام بكتاب سلطاني، وكان على الغرارة ثلاثة ونصف.(4/203)
قلت هذا الغلاء المذكور في الشام هو عندنا في الحجاز رخص، ولقد بلغ ثمن الغرارة الشامية في مكة وقت كتابتي لذكر هذا الغلاء المذكور في هذا التاريخ فوق ألف وثلاث مائة درهم.
وفيها قدم حاجاً ملك التكرور موسى بن أبي بكر بن أبي الأسود في ألوف من عسكره للحج، فنزل سعر الذهب درهمين، ودخل إلى السلطان، فسلم ولم يجلس، ثم أركب حصاناً. وأهدى هو إلى السلطان أربعين ألف مثقال وإلى نائبه عشرة آلاف، وهو شاب عاقل، حسن الشكل، راغب في العلم، مالكي المذهب.
قلت: ومن عقله أني رأيته في منزله في الشباك المشرف على الكعبة بحي رباط الحوري، وهو يسكن أصحابه التالدة عند هيجان فتنة ثارت بينهم وبين الترك، وقد شهروا فيها السيوف في المسجد الحرام، وهو مشرف عليهم، فيشير عليهم بالرجوع عن القتال.
شديد الغضب عليهم في تلك الفتنة من رجحان عقله إذ لا ملجأ له، ولا ناصر في غير وطنه وأهله، وإن ضاق الفضاء بخيله ورجله.
وفيها مات بمصر المفتي الإمام الجليل القدر بين الأنام، الزاهد نور الدين علي بن يعقوب البكري الشافعي كهلاً، وهو الذي أذى ابن تيميه، وأقدم على الإنكار الغليظ الباهر على السلطان الملك الناصر، وتسلم من بطشه وفتكه القاهر، ولم يزد على الأمر بإبعاده، وإخرإجه من بلاده وقيل: إنه أمر بقطع لسانه، فتلجلج وظهر الخوف في جنانه، فقال السلطان لو ثبت لكان عندي عظيم الشأن.
وفيها مات مخنوقاً، الصاحب الكبير، كريم الدين عبد الكريم بن هبة الله القبطي السلماني بأسوان، وكان قد نفي إلى الشويك، ثم إلى القدس، ثم إلى الأسوان، ثم سبق سراً، وكان هو الكل وإليه الحل والعقد بلغ. من الرتبة ما لا مزيد عليه، وجمع أموالاً عظيمة، فأعاد أكثرها إلى السلطان. وكان عاقلاً ذا هيبة وسماحة، فمرض مرة، فزينت مصر لعافيته، وكان يعظم الدينين، ولم يرو ايثاره.
وفيها مات في ذي الحجة بدمشق، المفتي الزاهد، علاء الدين علي بن إبراهيم بن(4/204)
العطار الشافعي، يلفت بمختصر النووي، سمع من غير واحد، وأصابه فالج أزيد من عشرين سنة، وله فضائل وتأله واتباع، وكان شيخ النورية.
قلت: هكذا ذكر الذهبي، ولم يذكر ما قد عرف واشتهر وشاع، وتقرر عنه أنه من أصحاب الشيخ معتمد الفتاوى محمد محيي الدين النووي، وروى عنه بعض كتبه جامع جزء من مناقبه.
وفيها توفي الشيخ صفي الدين محمد بن عبد الرحيم، الفقيه الإمام العلاء الأصولي الشافعي نزيل دمشق، درس بالظاهرية، وتفقه بجده لأمه، وأخذ عن سراج الدين الأرموي العقليات، وسمع من الفخر علي، وصنف وأفتى ودرس، وكان فيه دين وتعبد ودرس في الجامع، وتخرج به أئمة وفضلاء.
سنة خمس وعشرين وسبع مائة
في جمادى الأولى كاد غرق بغداد المهول حتى بقيت كالسفينة، وساوى الماء الأسود، وغرق الأمم من الفلاحين، وعظمت الاستغاثة بالله، ودام خمس ليال، وعملت سكور فوق الأسوار، ولولا ذلك لغرق جميع البلد، وليس الخبر كالعيان، وقيل: تهد بالجانب الغربي نحو خمس آلاف بيت.
ومن الآيات أن مقبرة الإمام أحمد بن حنبل غرقت سوى البيت الذي فيه ضريحه، فإن الماء دخل في الدهليز علو ذراع، ووقف بإذن الله، وبقيت البواري عليها غبار حول القبر، صح هذا، وجر السيل أخشاباً كباراً وحيات غريبة الشكل صعد بعضها في النخل، وله نضب الماء نبت على الأرض شكل بطيخ كعظيم القثاء.
وفيها سار من مصر نحو ألفي فارس نجدة للمجاهد صاحب اليمن على من كان قد استولى على الملك من قرابته، وممن خالف عليه ابن عمه الملك الظاهر، وهو محصور في حسن تعز برمي بالمنجنيق، فيصيب ما حوله من الجدران، ورجع العسكر المذكور، وقد موتت خيلهم، ولم يقضوا حاجة لعسر جبال اليمن، وتحصن أهلها في الحصون العالية، ولكن لما أراد الله تأييد الملك المجاهد خرج من الحصن في نفر يسير، وانتصر، وسار إلى(4/205)
عدن، وأخذها بمساعدة يافع إذ كانوا هم الذين رتبوا في حصونها وجبالها يحرسونها، ولم يزل ذا نجدة وشجاعة يقاتل قدام الجيش، وملكه يزيد ويعلوا إلى أن لزموا أمر مصر في حجته، وساعدهم الشريف عجلان صاحب مكة، وانخذل عسكره، ولم يزل مخذولاً بعد ذلك، وملكه يضعف وينزل إلى أن لم يبق له من ملك اليمن شيء يعتد به، وكان قد عاهد الله بعدما لزم أنه يعدل، فلما تخلص من المحن، ورجع إلى اليمن لم يف بذلك، وانعطف بل زاد ظلمه، ولم يزل الظلم يقوى، والملك يضعف إلى أن تلاشى، وذهب بالكلية، ونسأل الله العفو والعافية من كل بلية.
وفيها ضرب بمصر الشهاب بن مري اليمني، وسجن لنهيه عن الاستغاثة والتوصل بأحد غير الله، ومقت لذلك، ثم فر إلى أرض الجزيرة، فأقام هناك سنين، ورجع ملك التكرور موسى، فخلع عليه السلطان خلعة الملك، وعمامة مدورة، وجبة سوداء، وسيفاً مذهباً.
وفيها مات بمصر الإمام شيخ القراء تقي الدين محمد بن أحمد بن عبد الخالق المصري الشافعي الخطيب ابن الصائغ عن ثمان وثمانين سنة، تلا بالسبع على الكمالين الضريري، وابن فارس، واشتهر وأخذ عنه خلق، ورحل إليه، وكان ذا دين وخير وفضيلة، ومشاركات قوية.
وفيها مات شيخ الحديث بالمنصررية نور الدين علي بن جابر الهاشمي اليمني الشافعي، حدث عن الزكي البيلقاني، وعرض عليه الوجيز للغزالي، وله مشاركات وشهرة. وفيها مات بالكرك قاضيها العلامة الورع عز الدين محمد بن أحمد بن إبراهيم ابن الأميوطي الشافعي، حكم بالكرك نحواً من ثلاثين سنة، وتفقه به الطلبة، وحدث عن قطب الدين القسطلاني وغيره، وهو والد شرف الدين قاضي بلبيس، ثم قاضي مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وخطيبها وإمامها.
وفيها مات بدمشق الإمام شيخ الإسلام، بقية الفقهاء الزهاد، خطيب العقبية صدر الدين سليمان بن هلال الهاشمي الجعفري الحوراني الشافعي، عن ثلاث وثمانين سنة، تفقه بالشيخين محي الدين، وتاج الدين، وناب عن ابن صصري، وبينه وبين جعفر الطيار ثلاثة عشر أباً، وكان متزهداً في ثوبه، وعمامته الصغيرة، ومأكله. وفيه تواضع، وترك(4/206)
للرياسة والتصنع، وفراغ عن الرعونات، وسماحة ومروءة، ورفق وسعة الخلق، وحمل على الرؤوس، وكان لا يدخل حماماً، حدث عن أبي اليسر، والمقداد، وكان عارفاً بالفقه، وله حكايات في مشيه إلى شاهد يؤدي عنده، وإلى خصم فقير، وربما نزل في طريق داريا عن حمار له فحمل عليه حزمة حطب لمسكينة رحمه الله تعالى.
وفيها مات الإمام العلامة ذو الفهم الثاقب، والنظر الصائب، قاضي القضاة، الفقي الشافعي، اليمني أبو بكر بن أحمد بن عمر المعروف بابن الأديب، كان نجيباً بارعاً رأيته في عدن قاضياً فيها، ثم سكن تعز، وجعله السلطان قاضياً للقضاة، وكان عارفاً بالفقه والأصلين. تفقه على إمام الزمن، وبركة اليمن، الفقيه الكبير، الولي الشهير أحمد بن موسى بن عجيل، وعلى الفقيه الإمام العلامة البارع أبي العباس أحمد بن رنبول، بفتح الراء وسكون النون وضم الموحدة اليمنيين وغيرهما، وصار تلميذه الفقيه العلامة نائبه، وقاضي القضاة بعده سلالة البركة، والنور حسن بن أبي السرور اليمني. وكان يقرأ عليه في بعض الفنون، وفي بعضها على القاضي الإمام العلامة شيخنا شرف الدين قاضي عدن، ومفتيها، ومدرسها، ومقريها، وأنا حينئذٍ أكتب القرآن في اللوح نتسابق في الوقت لأجل القراءة على شيخنا المذكور.
سنة ست وعشرين وسبع مائة
فيها توفي سراج الدين عمر بن أحمد بن خضر الأنصاري الخزرجي، الشافعي المفتي، خطيب المدينة الشريفة وقاضيها، ولد سنة ست وثلاثين، ونشأ بالقاهرة، وتفقه بها على الشيخ سديد الدين، وعلى نصير الدين ابن الطباخ، وعلى الشيخ فخر الدين بن طلحة، وسمع الرشيد العطار، وحضر دروس. الإمام عز الدين بن عبد السلام، ودروس قاضي القضاة تقي الدين بن رزين، وله إجازة من المنفري والمرسي والقسطلاني قدم المدينة الشريفة سنة إحدى وثمانين وست مائة، وأقام بها أربعين عاماً قاضياً وخطيباً، ثم تعلل، وسار إلى مصر ليتداوى، فأدركه الموت بالسويس.
وفيها مات ببعلبك شيخها الصدر الكبير قطب الدين موسى ابن الفقيه الشيخ محمد البوسي، صاحب تاريخ سمع وأخبر عن جماعة.
وفيها ماتت المعمرة أمة الرحمن ست الفقهاء بنت الشيخ تقي الدين إبراهيم الواسطي بالصالحية عن ثلاث وتسعين سنة، سمعت وأخبرت عن جمع كثير، وكانت مباركة صالحة، وهي والدة فاطمة بنت الدباسي.(4/207)
وفيها مات بالحلة ابن المطهر الشيعي حسن، صاحب التصانيف عن ثمانين سنة وأزيد.
وفيها مات الشيخ الكبير حماد القطاني بالعقيبة، وكان يقرأ القرآن، ويحكي عجائب عن الفقراء، ويحضر السماع ويصيح، وله وقع في القلوب. عاش ستاً وتسعين سنة.
وفيها مات بالمدينة الشريفة الإمام الزاهد التقي قاضي الحنابلة شمس الدين محمد بن مسلم الصالحي، وكان من القضاة العدل، بصيراً بمذهبه، عارفاً بالعربية، كبير القدر، ولي القضاء إحدى عشر سنة، وحج ثلاثاً، وفي الرابعة أدركه أجله.
سنة سبع وعشرين وسبع مائة
فيها حاصر ودي بن حمار المدينة جمعة، وأحرق بابها ودخلها، وقتلوا القاضي هاشم بن علي، وعبدة الله بن الفايد علي بن يحيى، ودخل قوصون نائبه السلطان الملك الناصر.
وفيها كاتبه الإسكندرية، ووخم أهلها أميرها، وإحراقهم الباب، وإخراجهم المسجونين، وبعث السلطان إليهم أربعة أمراء، وأمر بإخرابها وأهانوا أهلها، وصادروهم حتى افتقر خلق كثير، ووسطوا ثلاثين نفساً.
وفيها طلب قاضي حلب ابن الزملكاني إلى مصر ليتولى قضاء دمشق بعد أن عرض قضاء دمشق على أبي اليسر ابن الصائغ، فجاءه الشريف، فصمم وامتنع وبكى، فأعفى تكرماً.
وفيها توفي القدوة الزاهد عبد الله بن عبد الحليم بن تيمية الحراني، أخو الإمام الكبير تقي الدين بن تيمية.
وفيها مات الملك الكامل محمد ابن السعيد عبد الملك بن الصالح إسماعيل ابن العادل.
وفيها مات في بلبيس قاضي حلب الملقب بفخر المجتهدين كمال الدين محمد بن علي بن عبد الواحد الأنصاري، الدمشقي، الشافعي، كان سيال الذهن أفتى وصنف وتخرج به الأصحاب، وطلب ليشافهه السلطان لقضاء دمشق، فأدركه الأجل.(4/208)
سنة ثمان وعشرين وسبع مائة
فيها قدم صاحب الروم ابن حوبان بعسكر إلى السلطان الملك الناصر، ووصل الماء إلى القدس بعد عمل الضياع، ستة أشهر.
وفيها مات ببغداد مفتيها وشيخها جمال الدين عبد الله بن محمد العاقولي الواسطي.
وفيها توفي الإمام الواعظ مسند العراق شيخ المستنصرية عفيف الدين عبد الله بن محمد بن الحسن البغدادي.
وفيها مات بقلعة دمشق الشيخ الحافظ الكبير تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن تيمية معتقلاً، ومنع قبل وفاته بخمسة أشهر من الدواة الورق، ومولده في عاشر ربيع الأول يوم الاثنين سنة إحدى وستين وست مائة بحران، سمع من جماعة وبرع في حفظ الحديث والأصلين، وكان يتوقد ذكاء، ومصنفاته قيل: أكثر من مائتي مجلد، وله مسائل غريبة أنكر عليه فيها، وحبس بسببها مباينة لمذهب أهل السنة.
ومن أقبحها نهيه عن زيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام، وطعنه في مشائخ الصوفية العارفين، كحجة الإسلام أبي حامد الغزالي، والأستاذ الإمام أبي القاسم القشيري، والشيخ ابن العريف، والشيخ أبي الحسن الشاذلي، وخلائق من أولياء الله الكبار الصفوة الأخيار وكذلك ما قد عرف من مذهبه كمسألة الطلاق وغيرها، وكذلك عقيدته في الجهة، وما نقل عنه فيها من الأقوال الباطلة، وغير ذلك مما هو معروف في مذهبه ولقد رأيت مناماً طويلاً في وقت مبارك يتعلق بعضه بعقيدته، ويدل على خطابه فيها، وقد قدمت ذكره في سنة ثمان وخمسين مائة في ترجمة صاحب البيان، فمن أراد أن يطلع على ذلك، فليطالع هناك، فهو من المنامات التي تنشرح بها الصدور، ويطمئن به قلب من رآه، وينفتح لقبول الهدى والنور.
وفيها قتل نائب المشرق حوبان بهراة، ونقل تابوته، فدفن بالبقيع من المدينة الشريفة، ولم يدفن في مدرسته منعهم السلطان من دفنه فيها.
وفيها توفي أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الواحد المعروف بابن نبهان الخزرجي الشافعي.
وفيها توفي الإمام العلامة الأوحد مفتي الشام شيخ الشافعية قاضي القضاة كمال الدين أبو المعالي، سمع من أبي الغنائم وجماعة من الكبار، وكان فصيحاً مفوهاً مسرعاً. له خبرة(4/209)
بالمتون، ومعرفة بالمذهب وأصوله والعربية ذكياً فطناً مدركاً فقيه النفس له اليد البيضاء في النظم والنثر، تفقه بتاج الدين، وأفتى وهو ابن نيف وعشرين سنة، فكان يضرب بذكائه ومناظرته المثل.
سنة تسع وعشرين وسبع مائة
فيها توفي مدرس البادرائية، ومفتي المسلمين. شيخ الإسلام برهان الدين إبراهيم ابن الإمام شيخ الشافعية تاج الدين عبد الرحمن ابن إمام الرواحية إبراهيم بن سباع بن فركاح الفزاري المصري الأصل وشيعه الخلق يوم الجمعة عند قبر أبيه بالباب الصغير، وله سبعون سنة، حضر على الزين خالد، وسمع من ابن عبد الكريم، وابن أبي اليسر وعدة، وله مشيخة يحدث بالصحيحين، وأعاد لوالده، وخلفه في تدريس البادرانية، وفي حلقته بالجامع، وتخرج له أئمة، وعلق على التنبيه شرحاً كبيراً، وكان رأساً في المذهب عارفاً بالأصول والنحو والمنطق مع الورع والتقوى والتعفف والكرم، وامتنع من القضاء، وباشر خطابة البلد أياماً، ثم ترك، وكان له وقع في القلوب وود.
قلت واجتمعت به عند مسجد الخيف، ورأيت له في المنام رؤيا حسنة فيها بشرى، وكان - رحمه الله تعالى - في حلقة جده، ولقد سأله بعض الناس وأنا عنده حاضر فيمن قال: أحرمت لله بحجة وعمرة مفردة ما حكمه؟ وكان السائل عامياً قد صدر عنه ذلك، فقال: ما قال من العلماء بهذا اللفظ أحد، فقلت له: فإذا كان قد وقع هذا اللفظ من صاحبه. كيف يكون الحكم؟ وما الجواب في ذلك؟ فانزعج انزعاجاً شديداً، ولم يجب في ذلك بشيء، والذي أراه أنا إذا سئلنا عن مثل ذلك أن نقول: يحتمل أن يكون محرماً بالحج والعمرة معاً، فيكون قوله مفردة لفظاً باطلاً ليس له معنى لحصول قصد الحج والعمرة معاً منه، وتعقيبه ذلك بلفظ يناقضه لا يعتبر لأنهما إذا وقعا لا يرتفعان.
ويحتمل أنه قصد الإحرام بحجة مفردة، فسبق لفظه إلى قوله: وعمرة مدخلاً لفظ العمرة بسبق لسانه من غير قصد بين الحجة، ووصفها بالإفراد، فيكون محرماً بالحج فقط، وإذا احتمل حكمنا بالأحوط، وهو صحة الإحرام بالمتيقن فقط. أعني الداخل في التقديرين معاً، وهو الحج، فينبغي له أن يحرم بالعمرة بعد الفراغ من أعمال الحج، ولا يجوز أن يحرم بها قبل ذلك لأنه لا يجوز إدخال العمرة على الحج هذا الذي ظهر لي في ذلك في حال الإملاء، والله أعلم.(4/210)
وفيها مات بدمشق قاضي القضاة شيخ الشيوخ علاء الدين علي بن إسماعيل بن يوسف التبريزي المعروف بالقونوي الفقيه الشافعي الأصولي الإمام العلامة، سمع من جماعة كثيرة، واشتغل بالعلوم في بلده على جماعة، وحفظ وفهم، ثم قدم دمشق في سنة ثلاث وتسعين وست مائة، وأخذ في الاشتغال والتحصيل أيضاً على الشيخ نجم الدين مكي والشيخ شمس الدين الآبجي، وتصدر للاشتغال بجامعها، وولي تدريس الإقبالية، ثم قدم القاهرة، وولي بها المدرسة الشريفية، ومشيخة الشيوخ بالخلفاء المعروف بسعيد السعداء، ومشيخة الميعاد بجامع ابن طولون، وتصدر للفتوى والاشتغال ونفع الطلبة، واشتهر صيته وعلا ذكره، وارتفع محله لفضيلته وعلومه وديانته ورياسته وكثرة تلامذته، وانتفع به خلق كثير، وتخرج به أئمة.
ثم إن الملك الناصر اختاره لقضاء القضاة بالديار الشامية فطلبه عنده وعرض عليه الولاية، فامتنع من ذلك فكرر عليه القول، والآن معه الحديث، وتلطف به حتى قبل الولاية وأضاف إليه مع قضاء القضاة مشيخة الشيوخ أيضاً، فتوجه إلى دمشق متولياً ذلك مع تدريس المدرسة العادلية والغزالية، فنظر في ذلك، وأحسن النظر، وتصدى للاشتغال بالعلوم من القيام بوظائفه، وكان للطلبة به نفع، وأقام بدمشق سنين مضبوط الأمر، محفوظ الباب، نزهاً عفيفاً، إلى أن أدركه الأجل بها عن بضع وسبعين سنة لأن مولده سنة ثمان وستين وست مائة، وله من المصنفات شرح الحاوي الصغير في الفقه في أربع مجلدات، ومختصر منهاج الحليمي، وكتاب شرح التعرف لمذهب التصوف وله شيء في الأصول، وحواشي، ونكت، وتعاليق رحمه الله تعالى.
قلت: ولم أر في شروح الحاوي أحسن من شرحه جامعاً بين الاقتصاد والتحقيق، وحسن المباحث والقواعد، مشعراً بالتحلي بحليتي العلم والتدقيق.
سنة ثلاثين وسبع مائة
فيها قدم على قضاء دمشق علم الدين الأخنائي، فاستناب مدرس الشامية ابن المرحل، وفيها نقل من طرابلس إلى قضاء حلب الشيخ شمس الدين ابن النقيب رحمه الله.
وفيها مات مسند الدنيا المعمر شهاب الدين أحمد بن أبي طالب بن نعمة الصالحي الحجازي المعروف بابن شحنة، وحدث يوم موته، وله مائة وبضع سنين، سمع ابن الزبيدي، وابن اللتي، وأجاز له ابن روزبه والقطيعي وعدة، ونزل الناس بموته درجة.(4/211)
وفيها مات بمكة قاضيها ومفتيها، ومدرسها وشيخ حرمها الصدر الكبير الفقيه العالم الشهير الإمام نجم الدين محمد ابن الإمام العالم القاضي جمال الدين ابن الشيخ الإمام الفقيه، المحدث العلامة محب الدين أحمد بن عبد الله الطبري. سمع من جماعة، وتفقه على جده الإمام محب الدين المذكور، وكان فقيهاً نجيباً بارعاً أديباً حليماً كريماً حسن الاعتقاد في الفقراء والعباد بحسن الأخلاق متصفاً متواضعاً، وفي البحث منصفاً.
ولقد كان مع جلالة قدره، وعلو محله، وجمعه المناصب الكثير، والمناقب الكبيرة، والمحاسن الشهيرة يقول في أثناء قراءتي عليه " كتاب الحاوي " الصغير الحرم الكثير العلم: لقد استفدت معك أكثر مما استفدت معي، ويقول لي: لقد قرأت هذا الكتاب مراراً ما فهمته مثل هذه المرة.
ولما فرغت من قراءته قال في جماعة حاضرين: اشهدوا علي إنه شيخي فيه، وجاءني إلى مكاني في ابتداء قراءته لأقرأه عليه كل ذلك من التواضع، وحسن الاعتقاد، والمحبة في الله والود، وكان قد قرأ الكتاب المذكور، وشرحه على الشيخ الإمام الكبير عز الدين الفاروقي بحق روايته له عن مصنفه الشيخ الإمام عبد الغفار القزويني، وكان القاضي نجم الدين المذكور محفوظه كتاب المحرر للإمام أبي القاسم الرافعي، ولكنه كان معجباً بالحاوي، ويقول: لو جاءنا الحاوي قبل أن أحفظ المحر لم أشتغل بالمحرر.
وله نظم حسن، وقد قدمت في ترجمته الشريف حميضة في سنة عشرين وسبع مائة أني سألت النبي عليه السلام في المنام السلامة له، فتبسم عليه السلام، وقال: " ما يصيبه شر "، وكان له رحمه الله عليه نصيب وافر من الصالحين، وبلغني أنه قال لبعض الكبار منهم: أريد أن أصحبك مع التخليط، فقال: اصحبني على أي حال كنت، وكانت والدته من الصالحات، وكان قد تمرض في شبابه، فافتجعت عليه فجعاً شديداً، فمر بها شيخ لا تعرفه، فقال لها: لا تخافي عليه ما يموت حتى يكون سنه سني سبعين سنة، فلما مرض مرض موته كان يرجو العافية، فدخل عليه صهره إمام المقام أحمد ابن شيخنا رضي الدين، فقال له: ما عليك شر إن شاء الله تعالى قد بشرت والدتك إنك تعيش سبعين سنة، وكان مرضه ذلك بعد كمال السبعين، ولكنه كان غافلاً من ذكر ما جرى لوالدته مع الشيخ المذكور، وكان الإمام أحمد جاهلاً بكونه قد بلغ السبعين، فلما قال له ذلك صاح القاضي نجم الدين، وأيقن بالموت، فمات في ذلك المرض.
وفيها توفي المعمر زين الدين أيوب بن نعمة النابلسي، ثم الدمشقي الكحال: حدث عن جماعة وتفرد بمصر ودمشق، ونيف على التسعين.(4/212)
سنة إحدى وثلاثين وسبع مائة
فيها وصل إلى بلاد حلب نهر الساجور وبعد غرامة كثيرة، وحفر زمن طويل في جريانه.
وفيها مات ببلاد المغرب السلطان أبو سعيد عثمان ابن السلطان يعقوب بن عبد الحق المديني، وكانت دولته اثنتين وعشرين سنة، وتملك بعده ابنه السلطان الفقيه الإمام أبو الحسن.
وفيها مات الأمير الكبير نائب السلطان أرغون.
وفيها توفي أقضى القضاة جمال الدين أحمد بن محمد بن القلانسي التميمي الشافعي قاضي العسكر، ووكيل بيت المال، ومدرس الأمينية والظاهرية، وكان عالماً محتشماً، مليح الشكل، لين الكلمة. حدث عن ابن البخاري.
سنة اثنتين وثلاثين وسبع مائة
فيها جاء بحمص سيل، فغرق خلق منهم في حمام النائب بظاهرها نحو المائتين من نساء وأولاد.
وفي ربيع الآخر تسلطن الملك الأفضل علي بن المؤيد إسماعيل الحموي، وركب بالقاهرة بالغاشية والعصائب، ثم كان عرس محمد ابن السلطان علي بنت الأمير الكبير بكتم. قيل: جهزت بألف ألف دينار، ؤاختلفوا للعرس بما لا يوصف، وأقيمت بالشامية جمعة.
وفيها مات صاحب حماة الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل بن الأفضل علي الأيوبي الحموي، صاحب التاريخ، وناظم الحاوي، وله كتاب تقويم البلدان وفضائل وفلسفة.
وفيها مات الولي الكبير الشيخ العارف بالله الشهير ياقوت الحبشي الشاذلي صاحب الأوصاف الحميدة، والكرامات العديدة، والأحوال السنية، والمقامات العلية، والأنفاس الصادقة، والأنوار البارقة تلميذ شيخ الشيوخ صاحب النور القدسي أبي العباس المرسي.
وفيها مات الشيخ قطب الدين السنباطي محمد بن عبد الصمد بن عبد القادر الأنصاري المصري، الفقيه الإمام الشافعي، وكان من أعيان الشافعية، وخيار الفقهاء وكبارهم. حسن الهيئة، بهي المنظر، قليل التكلف، كثير التواضع، حسن الأخلاق، محباً للطلبة. درس(4/213)
بالفاضلية، وأعاد بالصالحية والناصرية، وتصدر للاشتغال، وانتفع به خلق كثير، وصنف في الفقه زوائد التعجيز على التنبيه، وناب في الحكم عن قاضي القضاة جمال الدين الذرعي مدة، ثم عن قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة، وتولى وكالة بيت المال مستمراً على ذلك إلى موته.
وفيها مات صدر الأكابر والرياسة والمفاخر، فخر الدين محمد بن فضل الله كاتب المماليك، ناظر الجيش المصري، وله جلالة وشهرة وأوقاف وثروة، وأحيط على حواصله.
قلت: ولقد رأيته في المسجد الحرام يمشي معه القاضي الرئيس الكبير قاضي مكة نجم الدين الطبري، وهو يدور على أهل الخير والصلاح من المجاورين، ويفرق عليهم الدنانير، فلما رآني نجم الدين المذكور مال به إلى عندي.
وبلغني أنه حج مع السلطان الملك الناصر في بعض حجاته، وكان قريباً منه، فلما مر بوادي بني سالم السلطان بدا له جبل ورقان، فقال: يا فخر من في رأس هذا الجبل؟ قال: غلمان مولانا. قال: ليس النازلون في هذا الجبل لي بغلمان. يعني أن من كان ساكناً في هذا الجبل المنيع العالي، فليس لي في طاعة، ولا بي مبال، وفي هذا المعنى خطر لي هذان البيتان:
إذا ما كنت في حصن ... علا في رأس ورقان
فإني لا أبالي ... بوالٍ أو بسلطان
وهذا الجبل المذكور يؤتى منه بالعسل الفائق المشكور، وأخبرني من له به خبرة أن فيه أشجاراً ونباتاً وأزهاراً كثيرة يطول في ذكر أسمائها التعداد، ولا يوجد في غيره من البلاد.
وفيها توفي الشيخ الجليل الإمام العلامة المقرئ شيخ القراء برهان الدين إبراهيم بن عمر الجعبري الشافعي، صاحب الفضائل الحميدة، والمباحث المفيدة، والتصانيف العديدة، وجملتها نيف على مائة تصنيف، ومن نظمه:
وإن فسح الله الكريم بمدتي ... وأدركت عمراً ليس في أصله ضعف
سأنشر للطلاب علماً كعادتي ... عزيز المعاني فيه من حسنه لطف(4/214)
وإن صادفتني يا صاحبي منيتيفصبر جميل فالصبور له الوصف
إلهي فحقق لي رجائي تكرماً ... فشأنك فينا الصفح والعفو واللطف
وله أيضاً في عدة مؤلفاته وتاريخ مولده، وطلب المغفرة من ربه عز وجل:
أيا سائلي عن عدما قد جمعته ... من الكتب في أثناء عمري من العلم
أصخ لي فقد عرفت ذاك بنيف ... على مائة ما بين نثر إلى نظم
ومن عجب زادت على العمر تسعة ... وعشر وما أدري متى منتهى يومي
فخذ منه ما يختار واسمح بنشره ... على طالبيه داعياً لي على رقمي
وخذ مولدي في أربعين مقرباً ... وست مئات أو مئين على الرسم
وكان وجودي في الوجود جميعه ... كطيف خيال زار في نوم ذي حلم
إلهي فاختم لي بخير وكفر من ... ذنوبي عسى ألقاك رب بلا إثم
بحق القرآن والنبي محمد ... تقبل دعائي رب شفعه في جرمي
فأنت غني عن عذابي وإنني ... فقير إلى رحماك يا واسع الحلم
وتوفي رحمه الله تعالى وله اثنتان وتسعون سنة. أجاز له ابن خليل، وعرض التعجير على مؤلفه وتلا على الوجوهي وغيره، ورحل القراء إليه رحمه الله تعالى.
وفيها توفي القاضي شمس الدين المعروف بابن القماح الحسن بن محمد بن عبد الرحمن السخاوي الشافعي، الفقيه العلامة النحوي، اللغوي البارع، الفاضل المتفنن ابن الإمام جمال الدين ابن الإمام تقي الدين، تولى القضاء، وكان فاضلاً عالماً ذكياً فقيهاً نبيلاً حافظاً لمقامات الحريري، وديوان المتنبي، وغير ذلك، وكان فيه مكارم، وحسن أخلاق.
ومما روي عنه أنه قال: أنشدني شيخنا زين الدين ابن الرعاد النحوي لما توفي القاضي كمال الدين النسائي، وولي بعده القاضي كمال الدين بن عيسى القليوبي بالعربية هذين البيتين، وكتب بهما إلى عيسى المذكور:
نقل الناس، وهو نقل غريب ... إن بعد الكمال يحدث نقص
وأتانا بعد الكمال كمال ... وأتانا بعد الأعم الأخص
وتوفي رحمه الله تعالى ليلة الجمعة الثامن من شهر شوال.
سنة ثلاث وثلاثين وسبع مائة
فيها توفي شيخ الإسلام الإمام بدر الدين محمد بن إبراهيم ابن جماعة الكناني الحموي(4/215)
الشافعي قاضي القضاة، المفتي العلامة، ذو الفنون والمناقب والرياسة والمناصب، عن أربع وتسعين سنة وشهر.
ولد بحماة سنة تسع وثلاثين وست مائة، وسمع سنة خمسين من شيخ الشيوخ الأنصاري، وبمصر من الرضي بن البرهان، وللرشيد العطار وعدة، وبدمشق من أبي اليسر وطائفة، وأجاز له خلائق، وحدث وتفرد في وقته، وكان قوي المشاركة في فنون الحديث، عارفاً بالتفسير والفقه وأصوله، ذكياً يقظاً مناظراً متفنناً مفسراً خطيباً مفوهاً ورعاً صيتاً، تام الشكل، وافر العقل، حسن الهدى، متين الديانة، ذا تعبد وأوراد، وحج اعتمار، وحسن اعتقاد في الأصول، والصالحين من العباد.
وله تصانيف سائرة، وأربعون تساعية درس وأفتى واشتغل، ثم نقل إلى خطابة القدس، ثم طلبه الوزير ابن سلغوس، فولاه قضاء مصر، وارتفع شأنه، ثم بعث على قضاء الشام، ثم ولي خطابة دمشق، وروى الكثير، ثم طلب لقضاء مصر بعد ابن دقيق العيد، وامتدت أيامه، وحمدت أحكامه، وكثرت أمواله، وحسنت أعماله، وترك الأخذ على القضاء عفة، وكان يخطب من إنشائه، ويتثبت في قضائه. ولي مناصب كباراً، وكان قد صرفه السلطان بالماضي جمال الدين الزرعي نحو السنة، ثم أعاده السلطان إلى منصبه، ثم شاخ، ونقل سمعه، ثم أضر وعزل، وأقبل على شأنه، وعلى أستاذه، وتفرد وصنف في علوم الحديث والأحكام وغير ذلك، وله وقع في القلوب، وجلالة في الصدور، وكان والده من كبار الصالحين.
قلت: هكذا ترجم عنه بعض المتأخرين بهذه الترجمة، وهو جدير بها ما خلا ألفاظاً يسيرة أدخلتها فيها، وكان حسن الاعتقاد في الصوفية، وبلغني أنه سئل عن ذلك، فقال كلاماً معناه أن سبب ذلك أنه كان إذا مر في صغره على فقير في بلاد الشام يقول: مرحباً بقاضي الديار المصرية، وكان من أمره ما كان من السيرة الرضية. رحمه الله تعالى.
وفيها توفي مفتي المسلمين الإمام الأجل شهاب الدين أحمد بن يحيى بن جميل الشافعي، مدرس البادرائية، سمع من الفخر علي، وابن الزين، والفاروثي. وتفقه على شرف الدين ابن المقدسي، وابن الوكيل، وابن النقيب، ولي تدريس الصلاحية في القدس مدة، واشتغل وأفتى، وبرع في الفقه، وولي مشيخة الظاهرية، ثم نقل إلى تدريس البادرائية، وله محاسن وفضائل ومكارم، وفيه خير وتعبد، وحج غير مرة.(4/216)
قلت: وحصل بيني وبينه اجتماع في حجة في المدرسة الشهابية من المدينة الشريفة لأنه نزل فيها، وكنت قبله نازلاً بها، ثم سألته عن مسألة خطرت لي، وهي أني قلت له: في الذكر الوارد في كفارة المجلس. لا يخلون إما أن يكون الشخص صادقاً في قوله، وأتوب إليك، أو كاذباً، فإن كان صادقاً، فالمغفرة تحصل بمجرد التوبة، ولا تفتقر إلى الذكر المذكور من قوله: سبحانك اللهم، وبحمدك إلى آخره، وإن كان كاذباً فكيف تحصل له مغفرة مع إخباره بتوبة هو كاذب فيها مصرفي نفسه على معاصيها؟ فأجابني بجواب في الحال ليس بشاف في هذا السؤال ليس هو الآن لي على بال.
وفيها مات في بدر الولي الكبير المشغول بالله الشهير، الشيخ علي بن الحسن الواسطي الشافعي محرماً متوجهاً إلى الحج، وكان ذا همة عالية حج مراراً كثيرة واعتمر على ما روى بعضهم أكثر من ألف عمرة، وتلا أزيد من أربعة آلاف ختمة، فطاف مرات في كل ليلة سبعين أسبوعاً ورأيته يسرع في طوافة مثل ما يرمل المحرم أو أسرع، وبلغني أن بعض الناس كان ينكر عليه في إسراعه ذلك، فرأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فذكر له ذلك المنكر عليه، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قل له " إن قدر يزيد على ذلك الإسراع، فليفعل " والذي فهمت منه أنه كان في عدوه ذلك واجد، أو يدل عليه أني رأيته يطوف في شدة الحر، فسألته عن ذلك، فقال: ما أجد حراً، ولعمري إن كل صادق واجد لا ينبغي أن يعترض عليه فيما يفعله، ولهذا رأيت غيره من بعض الصالحين يطوف في حال وجده، وهو يعدو، فنهاه بعض الفقهاء، فلم يلتفت إليه، فأمر بإمساكه، فسلط الله على ذلك الفقيه من أمسكه من ظلمة السلطنة، وضربه على القرب من فعله ذلك، وكان الشيخ علي الواسطي المذكور، شديد المجاهدة، يغتسل لكل فريضة في البرد الشديد وغيره.
وكان قد بلغني أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اليقظة، فسألته عن ذلك، فأقر به، وكان أول اجتماعي به في الليل في شهر رمضان في المسجد الحرام، فقال: " أجدني أحبك " وأطعمني كسرة من بقية عشائه، والناس يصلون التراويح، فقال لي: " ما تصلي بنا " فقلت له: تقدم بنا تصلي مع الجماعة، فذكر لي كلاماً معناه أنه ما يجد الجماع قلبه في مخالطة الناس، وكان في ذلك الوقت ثلاثة رجال واسطيون كلهم ملاح، مع تفاوت طريقتهم في أوصاف الصلاح.
أحدهم الشيخ علي المذكور، وكانت طريقته الانفراد والبعد من الناس كلاهم كأنه أسد، وكان مهنا ملك العرب يحبه ويعظمه، ويقسم برأسه على ما سمعت.(4/217)
والثاني الشيخ عز الدين الواسطي، وكانت طريقته القرب من كل أحد مطلقاً، حتى لو جاءه صغير فصب به حيث شاء، وكان سليم الصدر لا يدري ما عليه الناس، حتى أنه دخل العسكر المدينة مع الشريف روى، فلما رآهم قال: ما هؤلاء. وكانوا قد حاصروا المدينة أياماً كثيرة، وما عنده شعور بذلك، وهو في ذلك الوقت إمام الناس في مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان إذا عرف الإنسان في يومه أنكره من الغد، وكان أكثر مجاورته في المدينة الشريفة، وكان الصلاح ظاهراً عليه، وهو آخر من ألبسني الخرقة بينه وبين الشيخ شهاب الدين السهروردي، وإلباسها واحد، كان يعظم الكعبة المشرفة إذا ذكرها، ويقول قال لله تعالى: " وطهر بيتي " الحج: 26.
والثالث من الواسطيين المذكورين ابن الشيخ أحمد الواسطي، كان مجاوراً بمكة، كانت طريقته متوسطة بين طريقتي المذكورين، يتقرب من الفقراء، ويتباعد من أهل الدنيا، وكان صاحب جد واجتهاد، وكان أيضاً كثير المودة لي حتى أخبرني الشيخ إبراهيم المقرئ - رحمة الله على الجميع عنه أنه قال: ما لي في الحرم صديق إلا فلان فلي والحمد لله من الثلاثة كلهم نصيب. بل من غيرهم من الصالحين أيضاً فقد قال لي الولي الكبير، الوافر النصيب، ذو الأحوال السنية، والهمة العلية الشيخ خالد بن شبيب: رأيت الأولياء كلهم يحبونك داعين مستبشرين.
وكان رضي الله تعالى عنه يجتمع برجال الغيب في البراري كثيراً، وله معهم حكايات عجيبة ليس هذا موضع ذكرها، وكان يبلغني السلام عنهم والإشارة بما أفعله، وما يكون في بعض الأحيان، والحمد لله الجواد المنان.
وفيها ماتت بدمشق المعمرة المسندة أم محمد أسماء بنت محمد بن سالم، سمعت من مكي بن غيلان، وتفردت وحجت مراراً، وتصدقت.
سنة أربع وثلاثين وسبع مائة
قال الذهبي: جاء بطيبة سيل عظيم أخذ الجمال، وعشرين فرساً، خرب أماكن.
هكذا قال في تاريخه، وقد رأيت سيلاً عظيماً يجري في وادي قناة، واستمر ذلك ستة أشهراً وأكثر، وكان قد طلع في قبة حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه أذرعاً، ودار بجبل الرماة من جهة القبة المذكورة المكرمة، ومن جهة المدينة الشريفة المعظمة، وأقمت أياماً وليالي كثيرة أتوضأ منه مع الولي المجرد الشيخ المودود ذي الأحوال الباهرة، والكرامات الظاهرة عبد الرحمن الحبشي.
وفي السنة المذكورة توفي الحافظ العلامة المتفنن فتح الدين أبو الفتح محمد بن(4/218)
محمد ابن سيد الناس روى عن جماعة، ورحل وحدث وجمع وصنف، وله النظم والنثر، ومعرفة الرجال، وبراعة الحفظ والخط.
وفيها توفي قاضي القضاة الإمام العلامة أبو إسحاق إبراهيم بن الحسن بن عبد الرفيع الربعي التونسي، عن تسع وتسعين سنة وأشهر، روى عن جماعة.
سنة خمس وثلاثين وسبع مائة
فيها توفي ملك العرب حسام الدين مهنا ابن الملك عيسى بن مهنا الطائي، وأقاموا عليه المأتم، ولبسوا السواد كان فيه خير وتعبد.
وفيها ماتت المعمرة زينب بنت الخطيب يحيى ابن الشيخ عز الدين بن عبد السلام السلمية، عن سبع وثمانين سنة، روت عن جماعة وحدثت بالكثير وتفردت.
وفيها مات الحافظ قطب الدين عبد الكريم بن عبد النور الحلبي تلا بالسبع عن إسماعيل المليحي، وسمع من جماعة وصنف وخرج وأفاد مع الصيانة، والديانة، والأمانة، والتواضع، والعلم، ولزوم الاشتغال والتأليف حج مرات، وعمل تاريخاً كبيراً لمصر بيض بعضه، وشرح السيرة لعبد الغني في مجلدين، وعمل أربعين تساعيات، وأربعين متباينات، وأربعين بلديات، وعمل معظم شرح البخاري في عدة مجلدات.
سنة ست وثلاثين وسبع مائة
فيها توفي بدمشق الرحالة أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن محمد بن ممدود البغدادي الصوفي، عن اثنتين وتسعين سنة، سمع وأجازه جماعة وتفرد.
وفيها ماتت عائشة بنت محمد بن مسلم الحرانية عن تسعين سنة، روت حضوراً وسماعاً عن جماعة وتفردت.
وفيها توفي السلطان الذي ملك بعد أبي سعيد ضربت عنقه صبراً يوم الفطر، وكانت دولته نصف سنة.(4/219)
وفيها مات الوزير المعظم غياث الدين محمد بن فضل الله الهمداني، وكان وزيراً عادلاً عالماً محباً في العلم والخير وأهلهما. متصفاً بالإنصاف، له مآثر وصدقات ومعروف.
وفيها توفي الصاحب الأمجد عماد الدين إسماعيل بن محمد ابن الصاحب فتح الدين ابن القيسراني، وكان منشياً بليغاً رئيساً ديناً صيتاً نزهاً، روى عن غير واحد.
سنة سبع ثلاثين وسبع مائة
فيها توفي الشيخ الكبير الولي الشهير، ذو العجائب العظيمة، والكرامات الكريمة، والهمم العالية، والشمائل الرضية، والمكاشفات الجلية، والآيات الباهرة، والأنوار الزاهرة أبو عبد الله محمد بن عبد الله ابن المجد المرشدي في رمضان بقرية مرشد كهلان. كان له عجائب تحير العقول، وغرائب ذكرها يطول. كان لو اجتمع عنده أكثر عسكر في الورى لعجل إليه في الحال ما أحب من القرى يخرج ذلك من خزانة له صغيرة ليس فيها شيء يرى شاهد منه تلك الكرامات الباهرات خلائق لا يحصون.
قلت: حكي لي ذلك من الثقات، وسمعت ذلك عنه من خلائق أدركتهم أخياراً وفضلاء أعياناً، بل رأيت ذلك منه مشاهدة عياناً، وذلك أني لما وردت عليه زائراً، ولم أكن رأيته قبل ذلك دخلت زاويته، فلم أجده فيها، ثم بعد ساعة يسيرة جاءني، فتسالمنا وقال لي: ما أراها إلا غزالية، ثم أخذ بيدي، وأدخلني خلوة له، فكان يحدثني فيها ساعة، ثم يخرج ويتلقى من يزوره ساعة، وكنت صائماً، فلم يقرب لي طعاماً إلى أن كان بعد صلاة المغرب، وإذا به قد مد عندي سماطاً يكفي جماعة كثيرة من الأضياف، من الأطعمة ما يكثر عده من الأنواع والأصناف، وكان في نفسي شهوة طعام مخصوص ما كنت ذقته في جميع عمري أحضره في ذلك السماط، ثم أذن لي في تناول الطعام، فأكلت منه ما اشتهيت، وإذا به قد جاءني، واستأذنني في إدخال جماعة مخصوصين علي ليطعموا معي كأنهم التمسوا ذلك، وهم الفقيه الإمام شرف الدين ابن الصاحب، وأولاده من نسل الوزير الشهير المعروف بابن حنا، وإذا بهم قد أظهروا لي من حسن الاعتقاد، ما يقل مثله في المعتقدين من العباد حتى أخذوا الماء الذي غسلت به يلي فشربوه، ثم لما أصبحت عزمت على السفر هاربا من لقاء من يأتيه من سائر البلدان لما قد اعتادوا عنده ليلة النصف من شعبان، فمنعني(4/220)
عن السمر، وقال: تخرج معنا إلى كوم قرح مكان يجتمع فيه عنده خلائق لا يحصون! غ الليلة المذكورة، ويطعمهم جميعا من الأطعمة الطيبة المشكورة، فكرهت الإقامة الاجتماع بالخلق، واعتذرت إليه في ذلك، فقال: إذا كان لا بد من السفر، فأقم عندنا إلى العشاء فوافقته في ذلك، ثم حدثتني نفسي حينئذٍ، وقالت لي: إذا أقمت تصوم أو تفطر، فنازعتني في الإفطار، فقال لي: في الحال تصالحها، ثم قال لخادم عنده: هات الطعام، فتباطأ قليلاً فشد الشيخ وسطه وجاءني بمائدة عليها الطعام، فأكلت، ثم قال لي: هل لك في مجلس علم؟ اذهب إلى الموضع الفلاني، فذهبت إلى ذلك الموضع، فمكثت فيه يسيراً، وإذ بفتوى قد جاءت من بعض القرى، وحضر عندي حينئذٍ جماعة من الفقهاء، منهم ابن الصاحب المذكور وغيره فقالوا لي: اكتب عليها، فقلت لهم: أنا تركت ذلك في موضع إقامتي، فكيف أكتب ذلك في بلاد الغربة. فقالوا: لا بد من ذلك، فقلت: إن كان ولا بد. فليحضر صاحبها، فأذكر له ما عندي في ذلك من الجواب، ولا حاجة إلى رقم ذلك في كتاب، فجاء صاحبها، فذكرت له ما ظهر لي من الجواب، ثم وقالوا لي: تقيم عندنا مدة حتى نشتغل عليك في كتاب الحاوي، فاعتذرت من ذلك، وعجبت من إشارة الشيخ فيما وقع من البحث في العلم هنالك، وشاهدت منه هذه الكرامات المذكورات. أعني الطعام الذي اشتهيته، ومصالحة النفس في الفطر، والبحث في العلم.
وأما قوله: ما أراها إلا غزالية، فاسأل الله الكريم أن يمن علي بما كان عليه الإمام أبو حامد الغزالي من السيرة الحميدة في العلوم، والأعمال الصالحات والانعزال عن الخلق، والأنس في الخلوات.
وأخبرني أنه صحب سبعين من الشيوخ. ذكر منهم الشيخ الكبير العارف بالله أبو العباس المرسي، والولي الكبير الفقيه الإمام أحمد بن موسى بن عجيل، وكان قد حفظ القرآن عليه، وقرأ كتاب التنبيه، ثم انقطع في زاوية، ومع هذا، فالناس مختلفون فيه فأكثر الناس يعتقدونه لكثرة ما سمعوا ورأوا من كراماته في مد السماطات العظيمة من غير وجود لأسبابها في الظاهر، والمكاشفات الكثيرة، والتكلم على الباطن، ولا خادم يخدمه، ولا معاون حتى قيل: إنه أطعم في ثلاث ليال متوالية ما قيمته ألف دينار، ولم يزل يتوارد عليه الأمراء والوزراء، وأبناء الدنيا، وأهل المناصب الكبار.
ومع ذلك يقريهم في الحال بما يدهش عقولهم من الأطعمة التي ليس للسلطان على إحضارها في الحال اقتدار، بعض الناس لا يعتقدونه، ويحمل ما يسمعه منه على تأويلات باطلة كما نقل عن ابن تيمية أنه قال: هو مخدوم لما اشتهر عنده، واستفاض كثرة خوارقه للموائد لم يمكنه جحدها، فحملها على هذا الظن الكاذب، والتأويل الفاسد فيه، فإن الجان(4/221)
ليس له اطلاع على بواطن العباد، وما يخطر في بواطنهم، نعوذ بالله من سوء الاعتقاد ومنهم من تشكك فيه.
وبلغني عن الشيخ الكبير الولي الشهير الشيخ عبد الهادي المغربي أنه لما ذكر عنده قال: لا أشك أنه حصل له نصيب من أحوال الفقراء إلا أن الفقراء لا يرضون بشهرة هذه الكرامات التي تظهر منه.
وكذلك بلغني عن سيد الكبير الولي الشهير الشيخ حسين الحاكي أنه قال: لو كنت يظهر على يدي مثل هذا الذي يظهر على يديه لدخلت في سرب تحت الأرض.
وكذلك بلغني عن السيد الجليل الإمام الحفيل، الشيخ خليفة الشاذلي الإسكندراني أنه لما ذكر عنده قال كلاماً معناه ترى متى يتفرغ هذا الرجل لذكر الله لشغل أوقاته بمن يأتيه من الأمراء والوزراء وغيرهم من أهل الدنيا.
قال الراوي: فلما سمعنا منه هذا الكلام أتينا الشيخ محمداً نزوره، فقال لنا: قولوا للفقيه خليفة، والله ما شغلوني عن الله طرفة عين، أو قال: والله لو شغلوني عن الله طرفة عين ما سلمت عليهم، أو قال: ما قرأتهم السلام، أو كما قال من الكلام.
قلت: والذي أراه أنه لا ينبغي أن ينكر عليه شيء مما ينسب، فإنه إن كان يتعاطى ذلك بإذن فليس علي من إقامة الحق في مقام. وصرفه فيه تصريف الحكام لأحد معه كلام، ولا اعتراض ولا ملام، ولا يصح أن يكون صدور ذلك منه بغير إذن، فإن الأولياء لا يتعاطون الأشياء بهوى نفوسهم إذ لو فعلوا ذلك ما كانوا أولياء الله، وما كانت تواتيهم الأشياء، ولو أتاهم شيء في وقت بغير ولاية بل بكهانة، أو سحراً وغواية، لظهر ذلك عليهم، وافتضحوا في العواقب، والمرشدي المذكور لم يزل مستوراً مشكوراً، فظهر، والله أعلم. أن ذلك من تخصيص المواهب.
وفيها توفي الملك المعمر أسد الدين عبد القادر بن عبد العزيز بن السلطان الملك المعظم، روى السيرة، وأجزاء عن خطيب بردى، وتفرد وكان ممتعاً بحواسه، مليح الشكل، ما تزوج ولا يسرى.
وفيها قتل صاحب تلمسان أبو تاشفين عبد الرحمن بن موسى، وكان سني السيرة. قتل أباه، وكان قتله له رحمة للمسلمين لما انطوى عليه من خبث السريرة، وكان بطلاً شجاعاً تملك نيفاً وعشرين سنة. حاصره سلطان المغرب أبو الحسن المريني(4/222)
مدة، ثم برز عبد الرحمن ليكبس المريني، فلم يتم له ذلك، فطال عليه الحصار حتى دخلت البلد عليه عنوة، فقاتل على حصانه، حتى قتل في رمضان كهلاً.
سنة ثمان وثلاثين وسبع مائة
فيها توفي الصالح المسند أبو بكر بن محمد بن الرضي الصالحي القطان، عن تسع وثمانين سنة، سمع حضوراً من خطيب برداً، وعبد الحميد بن عبد الهادي، وسمع عبد الله بن الخشوعي، وابن خليل ابن البرهان، وتفرد، وأكثروا عنه كان له إجازة السبط وجماعة.
وفيها مات في حماة قاضيها صاحب السيرة السديدة، والمحاسن الحميدة، والفضائل العديدة، والتصانيف المفيدة شرف الدين هبة الله ابن القاضي نجم الدين عبد الرحيم القاضي شمس الدين إبراهيم ابن البارزي الجهني الشافعي عن ثلاث وتسعين سنة، روى عن جده وغيره، وله إجازة من جماعة منهم الكمال الضرير، وكان إماماً قدوة مصنفاً، صاحب فنون، وإكباب على العلم والصلاح، وتواضع حسن، وصحة ذهن تخرج الأصحاب، وانتفع به وأفاد. قال الذهبي: وبلغ رتبة الاجتهاد.
قلت: وكتب إلي في آخر عمره يستشيرني في المجاورة في الحرم الشريف إلى الموت، ثم أدركته المنية على القرب.
ومن تصانيفه شرح الحاوي في مجلدين، وكتاب آخر في حل الحاوي، وكتاب المغني جمع فيه مسائل التنبيه، وزيادات وغير ذلك، وله مسألة تفرد بها أعني ما أفتى به من جواز السفر للحائض قبل طواف الإفاضة مع نحر بدنة كمذهب الحنفية.
قلت: ولقد عجبت من ذهابه إلى الفتوى مع جلالة قدره، ورسوخه في العلم، وقد صح عن سيد الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام أنه قال في زوجته صفية رضي الله تعالى عنها: أحابستنا هي يعني عن السفر حتى تطهر لما قيل له أنها حاضت، فإذا كانت حبيب الرحمن المنسوخ بدينه الأديان ينجس عن السفر بسبب حيض امرأته قبل طوف الإفاضة، كيف يطلق غيره من آحاد الناس هذا خارجاً عن الكتاب والسنة والإجماع والقياس. وهذا أقول لا طعناً في جلالة شرف الدين، وعلمه المعتبر، بل تحذيراً من فعل ذلك، فالجواد قد يعثر، وكان رضي الله تعالى عنه حسن الاعتقاد في الصوفية والزهاد العباد من سائر العباد ذا أصل أصيل ومجد أثيل، ووصف جميل يقر له بالفضل كل فضيل.(4/223)
وقد بلغني أن الشيخ الإمام محيي الدين النووي رحمه الله تعالى مدحه، وقال: ما في البلاد أفقه من هذا الشاب، أو نحو ذلك لما رآه، وبلغني أيضاً أن الشيخ محيي الدين المذكور كان يعرض عليه ما يكتبه في كتاب الروضة، حال اختصاره كتاب الإمام أبي القاسم الرافعي، أعني " العزيز " في شرح " الوجيز " للإمام أبي حامد الغزالي قدس الله تعالى أرواح الجميع.
وفي السنة المذكورة توفي قاضي القضاة جمال الدين بن حملة بن يوسف بن إبراهيم الأنصاري، تميز وباحث وأخذ الفقه عن عز الدين الفاروثي، وابن النقيب، وابن الوكيل، وابن الزملكاني، وقرأ النحو، وصار من أعيان الفقهاء، وولي قضاء دمشق وحكم فحمد، وكان ماضي الحكم، ذا هيبة وصولة وشدة وطأة، علي المرتبة، وجرت له أمور، وأوذي، وعزل فالله تعالى يوجره، ثم أعطي تدريس الشامية، وكان شديد البأس على ابن تيمية والمبتدعين، وكان متين الديانة، حسن المعتقد.
وفيها توفي العلامة زين الدين بن المرحل محمد بن عبد الله ابن خطيب دمشق عمر بن مكي القرشي العثماني العبدي الأموي الشافعي تفقه بمصر والشام على عمه الشيخ صدر الدين ابن الوكيل، وعلى الشيخ كمال الدين بن السريشي، وكمال الدين ابن الزملكاني، وتولى هو والشيخ العلامة شمس الدين بن اللبان التدريس في يوم واحد يوم توفي الشيخ صدر الدين المذكور في أواخر سنة ست عشرة وسبع مائة. درس في المجدية فأخذها شمس الدين المذكور، وانتقل هو إلى مشهد الحسين، فدرس فيه سبع سنين، ثم انتقل إلى الشام، ودرس في الشامية الكبرى والعذراوية، ومكث فيها مدرساً ثلاث عشرة سنة، وناب في الحكم عن ابن الأخناي بدمشق، وكان رحمه الله تعالى إماماً عالماً عاملاً بارعاً نظاراً ذكياً وفياً ورعاً زاهداً، لم ير بالشام مثله، ولا مثل عبارته مع طلاقة الوجه، وحسن المحيا رحمه الله تعالى وله مصنفات جليلة، منها كتاب الفوائد في الفرق بين المسائل، ومنها كتاب النظائر، ومنها مختصر الروضة، ومنها في أصول الفقه كتاب التلخيص، وكتاب المخلص، وكتاب الخلاصة، ولم يصنف مثلها فاقت على أصول ابن الحاجب وغيره كذا ذكر بعض أهل الطبقات من الشاميين.
وفيها وقيل: في التي بعدها مات بمصر شيخ الشافعية زين الدين عمر بن أبي الحزم الدمشقي ابن الكنتاني أبو حفص العلامة كبير الشافعية أوحد الأصوليين. تفقه وناظر، ونشأ بدمشق، ثم تحول إلى القاهرة، وكان تام الشكل، حسن الهيئة، جيد الذهن، كثير العلم،(4/224)
إماماً في المذهب، مائلاً إلى الحجة. خطب ودرس واشتهر اسمه، وسمع جزء الأنصاري، وامتنع من الرواية، وكان يوهن بعض المسائل لضعف دليلها، ويلقي دروساً مفيدة متقنة يدهش من يسمعها ويزجر من يعارضه، وكان متصوفاً متديناًً، مليح البزة، حسن الشكل، لا يخضع لقاضٍ ولا أمير، ولا تأهل قط. درس بالمنصورية وغيرها. تفقه على البرهان المراغي، فقرأ عليه التحصيل في الأصول وحفظه، وسمع من جماعة، وعين للقضاء لكن في خلقه زعارة وعنده قوة نفس، وقلة إنصاف، وله أخبار في نفوره وزعارته.
قلت: هكذا نقلوا عنه، وأخبرني بعض الفقهاء المصريين أنه كان يقرر المسألة حتى لا يخلي لأحد معه كلاماً، فإن جاء أحد يتكلم. فال: إيش تريد تفسر، ومن زعارته ما حكى لي بعض الفقهاء الفضلاء المصريين بعد أن جرى لي معه قضية، وهي أنه جاءني يطلب مني إعارة نسخة كتاب الحاوي، وكانت عندي عارية للقاضي نجم الدين الطبري، وذكر أنه أذن له في أخذها مني، فامتنعت من دفعها إليه، فخرج من عندي مغتاظاً، فلقي بعض الفقهاء المكيين، فشكا عليه ذلك، وقال: جئته، فلم يقم لي وامتنع من دفع الكتاب إلي فهون عليه ذلك، وكنت قد قلت له: لو جاء صاحبه ما أعطيته إياه، وقال له: إنه يدل على القاضي يعني له عند القاضي منزلة ومودة، فلما كان بعد ذلك بأيام جاءني وأنا في المسجد الحرام، وعندي جماعة يشرحون على الكتاب المذكور، فقال لي: أحب منك أن تعيرني الكتاب أنت، فأنا أعتقد أنك ما تحتاج إليه، فقلت له عند ذلك بعدما أنعمت له به: ما أنت إلا صبرت على جفائي بجلافة خلقي، فتبسم عند ذلك، وقال ما معناه المدح لي، وبقي ما ذكرت من الخلق المذكور، ثم بعد ذلك شرع يحكي حكاية جرت له مع الشيخ زين الدين المذكور، وقال: جئت مع والحي إليه، فلما قربنا من الباب قال لي والدي: لا تدخل معي بل قف قليلاً، ثم ادخل قال: فلما دخل والدي، فسلم سمعته يقول له البعيد: حمار قال: ثم وقفت قليلاً، ودخلت فقال لي: إيش أنت، فقلت: يا سيدي جحش ولد ذلك الحمار، فضحك هو، ومن عنده قلت: وبلغني أنه كان يستحضر.
سنة تسع وثلاثين وسبع مائة
هلك في شهر رجب منها ستون نفساً بالزلزلة في طرابلس الشام.
وفي الشهر المذكور قدم الإمام العلامة تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي متولياً قضاء القضاة في البلاد الشامية، وفرح العالم به لدينه وعفته وعلومه الباهرة، وأوصافه الجميلة.
وفيها توفي الإمام العلامة بدمشق، قاضي القضاة جلال الدين محمد بن عبد الرحمن(4/225)
القزويني الشافعي عن ثلاث وسبعين سنة، ذو الفنون، جامع المعقول والمنقول ابن قاضي القضاة سعد الدين ابن قاضي القضاة إمام الدين. أخذ المعقول عن الشيخ شمس الدين الألجي وغيره، وسمع من الفاروثي وطائفة، ثم ولي خطابة البلد مدة، ثم طلبه السلطان الملك الناصر، وشافهه بقضاء دمشق، ووصله بذهب كثير، فحكم مع الخطابة، ثم طلب سنة سبع وعشرين، فولاه قضاء الممالك، وعظم شأنه، وبلغ من الرتبة والعز ما لم يصل إليه غيره، وكان فصيحاً حلو العبارة يعرف العربي والعجمي والتركي، مليح الصورة، موطأ الأكناف، سمحاً جواداً حليماً. جم الفضائل، كثير التحمل. ثم نقل في سنة ثمان وثلاثين إلى قضاء الشام، فتعلل وحصل له طرف من الفالج، ثم حضره الأجل، وله من التصانيف المفيدة الكتابان المشهوران في علم المعاني والبيان.
وفيها توفي الإمام العلامة، الصالح الخاشع، جامع المحاسن العديدة، والسيرة الحميمة الورع المتواضع الخاضع أبو البشر محمد بن محمد الأنصاري الدمشقي، المعروف بابن الصائغ، ولد سنة ست وسبعين وست مائة، وسمع كثيراً من أبيه، وابن شيبان، والفخر علي وعدة وحدث بصحيح البخاري، وحفظ التنبيه، ولازم حلقة الشيخ برهان الدين، وولوه قضاء القضاة فاستعفى، وصمم على الامتناع، فاحترمه الناس وأحبوه لتواضعه ودينه وتعبده. حج غير مرة، وأعطي خطابة بيت المقدس مدة مديدة، ثم تركها.
وكان مقتصداً في لباسه وأموره، كبير القدر حصل في صغره، ودرس وهو أمرد، وزار بيت المقدس عند قرب أجله فتعلل، ثم انتقل إلى دمشق، وفيها انتقل إلى الله تعالى، وكان حسن الاعتقاد، بمن سمع به من أهل الخير، كثير الوداد، ولقد بلغني أنه لما وقف على بعض كتبي، وأظنه كتاب الإرشاد، وضعه على عينه حسن ظن منه. نفعه الله ونفع به، وكذا عادة أهل الخير في حسن الظن ومن ذلك أني لما حكيت للسيد الجليل الزاهد الواعظ المقرئ الشيخ أبي عبد الله المغربي، المعروف بالقصري حكاية الشيخ المشهور، المقرئ المشكور محمد بن زاكي التميمي مع بعض المبتدعين لما قرأ عليه، واجتمع له التحقيق، وحسن الصوت قال له أصحابه: ما أحسن هذا لو كان شيخك منا، فقال: وما على من ذلك أخذت العسيلة، وتركت الظرف، فلما بلغ ابن زاكي ذلك، قال للطلبة: نحب أن ترجع إلينا(4/226)
عسيلتنا، فأنسى ذلك الشخص جميع ما كان يحفظ، وكان قد قرأ السبع، فعرف من أين أتى، واستغفر الله تعالى، وتاب ودخل في مذهب الشيخ ابن الزاكي، وكان شافعياً، وصار يتعلم كما يتعلم المبتدئ إلى أن بلغ خمس روايات، ثم توفي.
وهذه الحكاية مستفيضة في بلاد اليمن، فلما حكيتها للشيخ أبي عبد الله القصري المذكور قال لي: إن كنت قرأت على هذا الشيخ قرأت عليك نقول ذلك من باب حسن الظن كما ذكرت، ولمناسبة أهل الخير والصلاح في حسن الظن ذكرت هذه الحكاية هنا مع كونها دخيلة، وكان - رحمه الله تعالى - يسألني عن مذهب الإمام الشافعي، ويقول: أنا ما أتقيد بمذهب مالك بل آخذ بما رجح فيه الدليل، وكان يسمع بقراءتي سنن أبي داود على شيخنا الإمام رضي الدين الطبري، فلما فرغت قراءة الكتاب، قال: اكتب لي الإجازة، فكتبت وذكرت فيها بعض أوصافه على سبيل المدح، فأخذ القلم، وضرب على ذلك سوى المقرئ الواعظ، فإنه لم يضرب على لفظهما، وقال: صحيح وذلك من شدة ورعه وزهده أعني ضربه على ما نسبت إليه رحمه الله تعالى.
وفيها توفي شيخ بلاد الجزيرة الإمام القدوة شمس الدين محمد المنتسب إلى شيخ الشيوخ، في المجد والمفاخر الذي خضعت لقدمه رقاب الأكابر، الشيخ أبي محمد محيي الدين عبد القادر الجيلي، جده الرابع، أعاد الله من بركاته علينا، وعلى المسلمين، وكان شمس الدين المذكور عالماً صالحاً وقوراً وافر الجلالة، روى عن الفخر علي بدمشق، وحج مرتين.
وفيها توفي صاحب التاريخ الكبير محمد بن إبراهيم ابن الجرزي الدمشقي عن إحدى وثمانين سنة.
وفيها مات بخليص محرماً في ذي الحجة الإمام الحافظ محدث الشام علم الدين القاسم بن محمد بن البرزالي الشافعي، صاحب التاريخ، والمعجم الكبير عن أربع وسبعين سنة وأشهر.(4/227)
قلت: وعليه أمنت الشاميون في الصلاة عليه في خليص بإشارة بعضهم، وكان روى عن خلق كثير، وقرأ وكتب، وتعب وأفاد مع الصدق والتواضع والإتقان، وكثرة المحاسن، ووقف جميع كتبه، وأوصى بثلثه، وحج خمس مرات رحمه الله.
سنة أربعين وسبع مائة
في صفر منها هبت بجبل طرابلس ريح فيها سموم وعواصف على جبل عكا وسقط نجم اتصل نوره بالأرض برعد عظيم، وعلقت منه نار في أراضي الجون أحرقت أشجاراً، ويبست أثماراً، وأحرقت منازل، وكان ذلك آية عظيمة ونزلت من السماء نار بقرية الفيحة على قبة خشب أحرقتها وأحرقت ثلاثة بيوت. كل هذا صح واشتهر.
وفيها توفي بمصر الإمام العلامة الصالح المشهور، الخاشع المشكور أبو بكر بن إسماعيل بن عبد العزيز مجد الدين السنكلومي من سنكلوم بالسين المهملة، والنون والكاف، واللام والواو، ثم الميم بلدة من أعمال الشرقية، وبعضهم يقول: السنكلوني بالنون قبل باء النسبة، الفقيه الشافعي، المفيد الورع. قدم القاهرة قريب بلوغه، أو بعد البلوغ، فأخذ الفقه عن الشيخ محيي الدين عبد الرحيم النشائي الفقيه، وكان أكثر اشتغاله واستفادته عليه، ثم اشتغل أيضاً على الإمام العلامة عز الدين بن عمر بن أحمد بن المدلجي وغيرهما، وكثر عن عز الدين المذكور، فأخذ عنه الفقه والنحو، وشيئاً من الأصول، وقرأ عليه الكافية لابن مالك في النحو، وقرأ الفصول لابن معطي على أبي البقاء خطيب القدس، وأخذ أصول الفقه، وشيئاً من علم البيان عن الشيخ علم الدين العراقي، وصنف عدة كتب في الفقه منها انتخابه لكافية النبيه، وشرح التنبيه للإمام نجم الدين بن الرفعة ست مجلدات، وسماه " تحفة النبيه في شرح التنبيه " في أربع مجلدات.
قلت وهذا الكتاب المذكور منتفع به مشكور متداول بين أهل العلم مشهور.
ومنها اللمح العارضة فيما وقع بين الرافعي والنووي من المعارضة في مجلد واحد.
ومنها شرح منهاج النووي في الفقه، ومنها شرح مختصر التبريزي في الفقه أيضاً، وابتدأ في شرح التعجيز مختصر الوجيز لابن يونس، وسماه الواضح الوجيز في شرح مختصر الوجيز، وبلغ نحواً من النصف، وسمع الحديث عن جماعة منهم الحافظ الدمياطي،(4/228)
وحدث بالقاهرة، وولي مشيخة الرباط الركني، ثم الخانقاه، ثم التدريس بالقبة من الخانقاه، والإعادة في الفاضلية والقطبية والظاهرية وغيرها من المدارس، وكان كريم النفس، حسن الأخلاق، كثير التواضع، طارحاً للتكلف يحمل عيش عياله بنفسه إلى الفرن، كثير الاشتغال للطلبة، متصدياً لاشتغالهم وإفادتهم في أكثر أوقاته قلت: وبلغني أن له بعض كرامات، وذكر أن عمره ينيف على الستين رحمه الله تعالى.
وفيها توفيت مسندة الشام أم محمد زينب بنت الكمال أحمد بن عبد الرحيم المقدسية المرأة الصالحة العذراء، عن أربع وتسعين سنة، روت عن جماعة سماعاً وإجازة، وتكاثروا عليها، وتفردت وروت كتباً كباراً.
قلت: وإلى هاهنا انتهى تاريخ الذهبي، وكذلك انتهى في نيف وستين وست مائة تاريخ ابن خلكان، ومنهما انتقيت تاريخي هذا وها أنا أذكر بعض من توفي من الأعيان في عشر سنين أخرى التقطتهم مما ذكره بعض المتأخرين.
سنة إحدى وأربعين وسبع مائة
وفيها توفي الإمام العلامة الأوحد شمس الدين أحمد بن يحيى بن محمد القرشي البكري السهروردي الشافعي الكاتب، سمع الحديث، وأخذ الإجازة من جماعة، وشارك في طرف من العلوم، وبرع في اللغة والأدب، وفاق في صناعة الخط، وحسن الكتابة، وتقدم في صناعة الموسيقى، وصار شيخ الكتاب، ورئيس أهل الآداب، حسن الأخلاق، جميل الأعراق، كثير الحياء والإطراق، سديد المقال، مليح الفعال، كريم الطباع، كثير الإطلاع، معمور الأوقات في الاشتغال والأشغال، صاحب رأي وفصاحة، وشرف نفس وبلاغة.
سنة اثنتين وأربعين وسبع مائة
فيها توفي الشيخ شهاب الدين أحمد بن منصور الدمياطي المعروف بابن الحباس الصوفي الأديب الشاعر، ومن شعره:
زاد وجدي فلست أملك صبراً ... أعظم الله لي في الصبر أجرا
راسل الوجد مهجتي فدموعي ... أرسلت رسلها على الخد تترى
صنت سر الهوى، فنم بي الدمع ... فلولا الدموع لم أبد سرا(4/229)
يا عذولي دع الملام فإني ... أرى موتي على الصبابة أحرى
لا تلمني على الغر أم، ولكن ... خذ من الوجد والصبابة حذراً
مع أبيات أخرى منها قوله:
يا عزيز الجمال رفقاً بقلب ... إن فيه ليوسف الحسن مصرا
سنة ثلاث وأربعين وسبع مائة
فيها توفي الإمام العلامة قاضي القضاة عبد الله بن محمد العبيدلي الفرغاني الحنفي البارع العلامة المناظر. يضرب بذكائه ومناظراته المثل. كان إماماً بارعاً متفنناً خرج به الأصحاب بعرف المذهبين الحنفي والشافعي أقرأهما، وصنف فيهما.
وأما الأصول والمعقول، فتفرد فيهما بالإمامة، وله تصانيف منها شرح الغاية في الفقه في مذهب الشافعي، وشرح الطوالع وشرح المصباح، وشرح المنهاج للبيضاوي وغير ذلك من التصانيف، والأمالي، والتعاليق، وولي تبيز وأعمالها إلى أن توفي، وكان الأستاذين في وقته.
سنة أربع وأربعين وسبع مائة
فيها توفي الإمام العلامة تقي الدين أبو الفتح محمد بن عبد اللطيف الأنصاري الشافعي السبكي المصري. نزيل دمشق برع في الفقه والأصلين، وصار علامة زمانه، ورئيس أقرانه مع حسن أخلاق، وكثرة تواضع، وديانة حسنة، وسمع بمصر والشام كثيراً، وله شعر رائق، ونثر فائق، وكتابة جيدة، وذهن ثاقب، وقريحة حسنة، وحسن قراءة الحديث، ودرس وأفتى وصنف.
سنة خمس وأربعين وسبع مائة
فيها توفي الإمام العلامة المفتي الشافعي القاضي شمس الدين محمد بن أبي بكر المعروف بابن النقيب، بقية الشافعية بالديار الشامية، ولي القضاء بمدينة حلب وغيرها،(4/230)
ودرس بالشامية البرانية، وانتفع به المسلمون وأسند وعمر.
؟
سنة ست وأربعين وسبع مائة
فيها توفي العلامة الهمام أحد أئمة الأعلام، المقتدي بهم شيوخ الإسلام، المفيدين للطلبة، المفتين للأنام، البارعين في المعقول والمنقول، الجامعين لفنون العلم، الكثيم المحصول فخر الدين أبو المكارم أحمد بن حسن نزيل تبريز الفقيه الشافعي، صاحب المصنفات البديعة، والمؤلفات المفيدة.
منها الحواشي على الكشاف في عشر مجلدات، وشرح المنهاج للبيضاوي في أصول فقه الشافعية، وشرح البزدوي وشرح الهداية للحنفية، وشرح التصريف لابن الحاجب.
سنة سبع وأربعين وسبع مائة
فيها توفي الفقيه القدوة المدرس المفتي، شرف الدين أبو عبد الله محمد ابن الصاحب، الفقيه الزاهد زين الدين أحمد ابن الصاحب، الفقيه فخر الدين بن الصاحب الكبير الشهير الوزير في المحاسن المشكورة، والمكارم المشهورة، بهاء الدين علي ابن محمد المعروف بابن حنا. توفي شرف الدين المذكور ليلة الجمعة ثامن شهر رمضان من السنة المذكورة، وكان مع فضله في العلم صاحب محاسن. متواضعاً حسن الاعتقاد في أهل الخير، حريصاً على لقاء الصالحين ومجالستهم، وقد قدمت في ترجمة الشيخ محمد المرشدي سنة سبع وثلاثين اجتماعه هو وأولاده بي في زاويته، وما صدر منه من حسن الاعتقاد والتواضع والوداد، وكتابتهم عني قصيدتي الموسومة " بالحلاب الحالي في مدح الحاوي " والتماسهم مني الإقامة عندهم، وإقراء الكتاب المذكور لهم، وأن أكتب خطي في بعض الفتاوى، فأجبت لفظاً، واعتذرت عن الخط والإقامة، وما عاينت من الشيخ محمد في ذلك من الكرامة.
سنة ثمان وأربعين وسبع مائة
فيها توفي السيدان الجليلان الإمامان الحفيلان، بركتا الزمن، وزينا اليمن أحدهما شيخنا وسيدنا وبركتنا الشيخ الفقيه الإمام مفتي المسلمين، رفيع المقام، العالم العامل، الورع الزاهد، العابد ذو المحاسن والمحامد والمواهب الجزيلة، والمنزلة الجليلة، والأوصاف الجميلة، والدرجة الرفيعة العلية، والشمائل الحسنة الرضية. المدرس المفيد ذو(4/231)
الفضل العديد، والكرامات الكثيرة، والمناقب الشهيرة جمال الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد الذهيبي بضم الذال المعجمة والموحدة بين المثناتين من تحت مجموع المحاسن المفضال المشهور بالبصال. صحب الشيخ الكبير الولي الشهير، صاحب السيرة الحميدة، والكرامات العديدة. مطلع الأنوار، منبع الأسرار الشيخ عمر المعروف بابن الصفار في مدينة عدن. وانتفع به، وحصل له نصيب وافر، وسكن في قلبه مذ صحبه، وأقرأ، وهذا الشيخ عمر المذكور رأيته في حياته، ودعا لي بعد وفاته في المنام بعد أن سألته، وقلت له: يا سيدي أما مت أنت؟ فقال: العجب أن يقال أني مت.
قلت: وهذا يؤيد ما ذكره بعض مشائخ الصوفية في قوله: الصوفي لا يموت، ثم دعا إلي الشيخ عمر المذكور المشكور في المنام المذكور بعد أن مسح على صدري، وقال: أصلحك الله صلاحاً لا فساد له نسأل الله الكريم أن يحقق ذلك.
وقد قدمت في ترجمة الشيخ محيي الدين النواوي أنه دعا لي في المنام أيضاً، فقال: وفقك الله، وزادك فضلاً، وثبتك بالقول الثابت في الحياة الدنيا، وفي الآخرة. اللهم اقبل ذلك لي، ولسائر أحبائي، والمحبين آمين.
وجالس ذا الأنفاس الصادقة، والكرامات الخارقة، والمواهب السنية، والمقامات العلية شيخنا المشكور الولي المشهور مسعود الجاوي أحد كبار أصحاب الشيخ الفقيه، في المناقب الشهيرة، والكرامات الكبيرة، صاحب موزع المتقدم ذكره في ترجمة الفقيه الإمام في الكرامات العظام العلي المقام محمد بن إسماعيل الحضرمي.
وانتفع الشيخ مسعود المذكور وهو والشيخ عمر بن الصفار بابن الخطيب المذكور انتفاعاً عظيماً، ونالا منه منالاً كريماً، والشيخ مسعود هو أول من ألبسني الخرقة. جاءني وأنا منعزل في مكان، وقال لي: وقع الليلة إشارة أني ألبسك الخرقة وألبسنيها، وكان يجتمع هو وشيخنا جمال اللين المذكور، ونحن وجماعة من أصحابهما معهما في أوقات مباركات في عدن، وفي ساحل البحر في بعض الساعات أعني ساحل ضراس بضم الضاد المعجمة، وفي آخره سين مهملة، وقبل الألف راء الذي خلف ساحل حقات، وحقات بضم الحاء المهملة وتشد يد القاف، وفي آخره مثناة من فوق.
وتفقه شيخنا جمال الدين المذكور بالفقيه الفاضل، في المحاسن، والفضائل، والتصوف، والصلاح، والأوصاف الجميلات الملاح، شيخنا في الفرائض في الذوق والوجدان، عبد الرحمن، المعروف بابن سفيان، من ذرية الشيخ الكبير، العارف بالله الشهير، ذي المقامات العالة، والكرامات الغالية، والمناقب الجميلة، والمواهب الجزيلة،(4/232)
الفقيه سفيان الحضرمي اليمني قرأ شيخنا جمال الدين المذكور على ابن سفيان المذكور كتاب التنبيه، وحقق وبحث ودقق، ثم جمع شيخنا جمال الدين المذكور كتاباً ينتفع به الفقيه بعضه. يتعلق بشرح النبيه، ذا فوائد عديدة، ونكت مفيدة، رأيته يطالعه وقت ما كنت إليه أتردد ولا يظهره في ذلك الوقت لأحد، وفاق في معرفته شيخه وغيره من الفقهاء النجباء، والفضلاء الأدباء، ودرس وكل من طلبته به انتفع، وعرض عليه قضاء عدن، فامتنع، وكان له صوت في قراءة القرآن يهيج من الخليين الأشجان، وألفاظ تعجب من وعاها، وتطرب من رآها، وعبارة تلين القلب القاسي، وخلوات ترغب في مجالسته الناسي، وزهد يسلي من الدنيا كل حريص، ويغلي به في الآخرة كل رخيص، قرأت عليه القرآن الكريم، وصليت به في رمضان إماماً خمس سنين، وقرأت عليه كتاب التنبيه فأولم عند ذلك وليمة كبيرة، وذبح كبشين، وأطعم جماعة كثيرة، وهو أول من انتفعت به، ورأيت بركته من الشيوخ الذين صحبتهم قدس الله أرواحهم، ونور ضريحهم، ورضي عنهم.
والثاني من للشيخين المذكورين شيخنا، وقدوتنا، وسيدنا، وبركتنا الشيخ الكبير، العارف بالله الخبير، خزانة الأسرار، ومطلع الأنوار، الفقيه الناسك، المجذوب السالك، ذو السيرة الجميلة، والمناقب الجليلة، والمحاسن الغالية والمقامات العالية، والأحوال الباهرة، والمكاشفات الظاهرة، والكرامات الخارقة، والأنفاس الصادقة، والمعارف والعلوم الملدتيات، والآداب والأخلاق الرضيات، والتربية في سلوك الطريقة، والجمع بين الشريعة والحقيقة، ذو التخصيص والتمكين، أبو الحسن نور الدين، علي بن عبد الله اليمني الطواشي، نسباً، الشافعي الصوفي مذهباً، قدس الله روحه ونور ضريحه اشتغل رضي الله تعالى عنه بفنون من العلوم حتى في علم الطب، وأكثر اشتغاله بالفقه، وكان الغالب عليه التنسك، وحب الخلوات والانعزال عن المخالطات، وكان يسافر مع أبيه وأخوته، فإذا دخلوا السوق للتجارات، دخل المسجد للعبادات، ملازماً للتلاوة والإذكار وزيارة الأولياء الأخيار، حتى حصل له من بعضهم تعليم الاسم الأعظم، الذي من عرفه يقرب ويكرم، وحصل له مع السلوك جذبة من جذبات الحق، وهيبة جلالية حتى هابته الملوك ذو أحوال عظيمة، وظهور كرامات كريمة، وأفاض عليه الحق من فيض فضله، وملأ قلبه من أنوار. قدسه، وهذبه، وزكاه، وطهره من صفات نفسه، وملأ قلبه وقالبه من أنوار قدسه، وهذبه وزكاه وقربه وأدناه، وبالحياة الطيبة أحياه، وكشف له حجاب الجمال والجلال، وأطلعه على مكنون المعارف والأسرار، وغير ذلك مما لا يعرفه الأعارف بالله مجذوب سالك هو بمكان من المقام العالي، والحال الخطير، والناس يبصرونه ضعيف الجسم متواضعاً في زي فقير، ويحسبونه من جملة الفقراء المشاركين، ولا يدرون ما عنده من جليل الولاية، وعلو المنزلة والتمكين، وفي هذا قلت:(4/233)
يرون جسماً براه الحب بالتلف ... وليس يدرون دراً داخل الصدف
حاكى شيوخاً أجلا سادة سلفوا ... أكرم بمن في المعالي لاحق السلف
كنت أعهده رضي الله تعالى عنه منذ سنين عديدة يأتي للحج والزيارة متحلياً بحلية حميدة، وكثيراً ما يأتي لذلك، ويسافر وفلاح الصلاح عليه قد لاح وهو ظاهر، وربما أتاني في بعض الأوقات تفضلاً منه في مكة شرفها الله تعالى يقال: عندما يأتي للحج، وهو حينئذ من الصالحين، ثم جاءه بعد ذلك نصيب وافر مما أشار إليه الحق سبحانه بقوله تعالى " أتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً " وبقوله عز وجل: " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم " وبقوله تعالى " يجتبي إليه من يشاء " وغير ذلك، ثم لزم منزله، وصار لا يحدث شيئاً من الحركات ألا بأمر وإشارات كل هذا، وما عندي علم حتى سافرت إلى اليمن السفرة الأولى، فتلقاني إلى الساحل في جمع كثير من فقرائه وجيرانه، وإذا الرجل غير الرجل، والوصف غير الوصف ظاهره قد كسي بملابس الأنوار، وباطنه خزانة المعرف والأسرار، يفوح فيه طيب الوصف بالغدو والآصال. ويصدق فيه قول الذي قال:
إلا إن وادي الجزع أضحى ترابه ... من المس كافوراً وأعواده رندا
وما ذاك إلا أن هنداً عشية ... تمشت وجرت في وجوانبه بردا
وفي انتقاله من حالة البعد والعنا إلى حالة القرب والهنا قلت:
عهدتكم قدماً على غير حالة ... بها اليوم أنتم ساده وملوك
أتاكم من الرحمن جذب عناية ... فهان عليكم للوصول سلوك
وفي مشيه إلى عندي قلت مستعير البيت الثاني:
لقد حق لي يا هند أنشد في الهوى ... ولاق بحالي حين جاء سيدي عندي
خليلي هل أبصرتما أو سمعتما ... بأكرم من مولى تمشى إلى عبد
ثم سافرت السفرة الأخيرة، فرأيت ما أدهش عقلي، وحير فكري من الأحوال والمعارف والأسرار والمكاشفات، والأنوار والكرامات، وغير ذلك مما شاهدته منه في حال خلوته في أوقات كثيرة عند ورود أحوال عظيمة تجري على لسانه فيها من عجائب الغيوب ما يحيي القلوب، وفي ذلك قلت على جهة النيابة على لسان حاله:
وما قلت قولاً غير أني أعرتها ... لساني فأومت للهوى يتكلم
فأسرارها منها علمت، وعندما ... سكرت جليسي سرها منه يعلم(4/234)
أعني يعلم الجليس السر المودع في القول الجاري على لسان الغائب بواسطة الهوى المشار إليه بالكلام، فالضمير في منه يعود إلى الهوى، والمعنى أن الله تعالى يجري على لسانه كلاماً في حال غيبته بما يريده الله تعالى يسمعه الجليس ليس باختيار من الشخص المذكور.
ومن ذلك قول أبي القاسم الجنيد رضي الله تعالى عنه لما سئل أن يملي كلامه: لو كنت أجريه كنت أمليه، وأما في حال الصحو، فهو في نهاية المحو ينكر ذلك، ولا يظهر منه شيئاً أصلاً لا قولاً ولا فعلاً ولا علماً ولا حالاً. متحقق بقول القائل:
ومستخبر عن سر ليلى رددته ... فأصبح في ليلى بغير يقين
يقولون أخبرنا فأنت أمينها ... وما أنا إن أخبرتهم بأمين
اللهم ألا مجالس تكلم معي فيها في حال الصحو، فكشف الخمار عن وجه كثير من مليحات المعارف والأسرار، ولكن نادر، وأطال البسط معي في ثلاثة مجالس. المجلس الأول مجلس إيناس وتأليف، والمجلس الثاني مجلس تأديب وتخويف، والمجلس الثالث مجلس تبشير وتعريف على ما سبق به القضاء من التقدير والتصريف، وهذا المجلس الثالث هو الذي أشرت إليه في القصيدة بقولي:
ولا سيما يوماً أغر مباركاً ... به اليمن والبشرى بتبليغ منيتي
ولعل أكثر الناس أو كثيراً منهم له معه مجالسة كثيرة، ولا يظهر لهم منه صغيرة ولا كبيرة، ويعرض عليه أشياء كثيرة قبل أوقاتها. من ذلك قولي في قصيدة مدحته بها:
وطفت ببيت الرب قلب مطهر ... من الجس من كل الصفات الدنية
ومفتتح القصيدة المذكورة قولي:
تخلفت يوم البين عنه بجثتي ... وراحوا بقلبي يوم بانوا أحبتي
وناديت والركب اليماني راحل ... وعندي مقيم في الحشا حر لوعتي
خليلي سيرا بلغا لي تحيتي ... إلى عند سكان الربوع البهية
إذا جئتما حلي ابن يعقوب بمنا ... قليلاً إلى حيث العادات حلت
وبثا غرامي في الربوع وقبلا ... رباه وصبا دمعة بعد دمعة
ومنها عند ذكر شيخنا المذكور:
له أسفرت بيض الغلى عن محاسن ... وقالت له: بشراك بشرى برويتي
فمديت طرفي كي أراها فأسبلت ... خمار الهادوني، فمت بحسرتي(4/235)
فإن أسعدت يوماً برفع خمارها ... على الوجه أحيتني بأول نظرة
سقى الله أياماً خلوت بسيد ... بها هل تراها سامحات بعودة
فكنا بها في طيب جمع بها الهنا ... وعيش صفا من قبل تكدير فرقة
ولا سيما يوماً أغر مباركاً ... به اليمن والبشرى بتبليغ منيتي
فشاهدت من أحواله وعلومه وأنواره ... ما تحته كل تحفة
وألبسني عن أمر مولاه خرقة ... كسيت بها فخراً لأمر بيقظة
مولى من الموالي أجل ولاية ... يسل عليها سيف سطوة عزة
به كل جبار من الخلق خاضع ... إلى عزة يأتي مطيعاً بذلة
له في معالي المجد منزل سؤدد ... به طربت بيض المعالي وغنت
مع أبيات أخرى في بعضها استعارات، يطرق إليها إنكار من بعض من لا يفهم معاني الاستعارات والمجاز والإشارات، والعجب أن المنكرين هم من أهل السنة مع استحسان إمام الزيدية العلامة الفاضل يحيى بن حمزة للقصيدة المذكورة، فيما أخبرني به بعض حملة كتاب الله من المخبرين المباركين. قال: رأيته في حراز من بلاد اليمن، وقد أتي غازياً الإسماعيلية في جيش كثير قال: فلما - علم أني قاصد الحج: قال: لعلك تأتيني، أو قال: عسى أن تأتيني بشيء من كلام فلان، فقد وقفت له على قصيدتين أعجبتاني إحداهما في مدح شيخه قلت: والعجب كل العجب ممن ينكر ما تضمنته من ذكر الاستعارات، وعلو المقامات مما يستحسنه المخالفون المنكرون للمقامات، فنسأل الله الكريم الوهاب القادر أن يعافينا من عمي البصائر قد وعمني شيخنا المذكور بالجائزة للقصيدة المذكورة، وقال: هي تأتيك، ولو بعد حين، فلا تيئس منها، وإن طال الزمان، ونزل من مقامه العالي في التواضع وغيره، وأنزلني منزلة ليست لي بمكان، وفي ذلك قلت:
وأهلني المولى لما لست أهله ... وأنزلني منه الندا فوق منزلي
وأنزلته في مدحتي دون منزل ... له في العلى في كل ناد ومحفل
قلت: ومن تواضعه المذكور أني رجعت ذات يوم من صلاة الجمعة في حلى، فوافيته خارج القرية يريد الرجوع إلى منزله، وقد أتى بمركوب يركب عليه لحدوث ضعف فيه مع ضعف مزاجه، وضعفه برياضته وعلاجه، فلما راني قال: اركب فامتنعت من ذلك، فألح علي حتى ركبت، وصار هو يمشي بعدي.
ومن ذلك أيضاً أنه حصل لي تأديب في وقت هو فيه غائب لحال ورد عليه، فلما أفاق قال لي: قد يؤدب الفاضل على يد المفضول. يعني أنه حصل لموسى عليه السلام أدب على يد الخضر عليه السلام.(4/236)
وله من المحاسن والسيرة الرضية، والكرامات والمناقب العلية، والتواضع والآداب. ما يضيق عن ذكره كتاب، فالله تعالى يزيده من فضله، ويجزل له الأجر والثواب، وينفعنا والمسلمين به وبالصالحين آمين.
وقد ذكرت في بعض كتبي شيئاً من كراماته المشتملة على بشاراته لي بما أرجو حصوله من فضل الله الكريم، وها أنا أذكر هنا بعض ذلك.
ذكر شيء من كرامات شيخنا نور الدين قدس الله روحه على وجه الاختصار.
فمنها ما أخبرني بعض أصحابه وأولاده، واستفاض في جهته وبلاده أنه قال لأمراء زمانه الطاغين في مكانه: إن لم تنتهوا عن كذا وكذا من المظالم والمعاصي جاءتكم النار، فقيل له في ذلك الحال: متى تجيء النار؟ قال: ليلة الجمعة، فلما كان سحر ليلة الجمعة طلع مؤذن الجامع المنارة ليذكر، فرأى ناراً مقبلة في الجو مثل المنارة تدنو منهم قليلاً قليلاً، فصاح ألا جاءكم ما أوعدكم به الشيخ علي، فخرج الأميران في ذلك الوقت قاصدين الشيخ، وكان خارج البلد نازلاً في بيت وحده، وأظهر له التوبة، وبكيا وتضرعا ومرغا خدودهما على الرماد بين يديه، وإذا بالنار قد انقسمت نصفين، فذهب أحدهما في جهة، والنصف الآخر في جهة راجعين عن البلد، والحمد لله الرحمن الجواد.
ومنها ما سمعته أيضاً غير مرة من غير واحد من تلامذته، واشتهر شهرة عظيمة في بلدته أن إنساناً يقال له: ثابت من بعض البلدان البعيدة ممن أعرفه، وأقام عندنا بمكة أشهراً عديدة، ثم سافر إلى بلاد حلي ابن يعقوب يحبسه العوام من الصالحين المنال. عندهم المطلوب، فأقام زماناً طويلاً في القرية، فلما كان يوم الجمعة من جميع ذلك الزمان جاء شيخنا المذكور إلى الجامع ليصلي الجمعة، وإذا بثابت المذكور جالس في طريقه، فلما مر عليه الشيخ أطلق ثابت لسانه فيه وسبه، وهم بعض من هو مع الشيخ بالبطش فيه، فقال الشيخ: دعوه معه ما يكفيه، فاشتغل في الحال ناراً فأخذ من حضر ماء، فجعلوا يصبونه على تلك النار لكي تنطفئ، فأحرقت ما شاء الله من جسمه ولحيته، والحمد لله على نعمه وإكرامه لأهل طاعته.
ومنها ما أخبرني بعض الصالحين ممن أعرفه وأعتقده، أن بعض ذرية الفقيه الكبير الولي الشهير، السيد الجليل، أحمد بن موسى بن عجيل - قدس الله روحه - أتى بقافلة اليمن، فلما وصل بلاد الشيخ أرسل بعض الفقهاء من أصحابه إلى الشيخ يسأله عن الأصلح في سفر البر أو البحر خوفاً من العربان القطاع أولي الفساد والأطماع، فلما أتاه الرسول وجد الشيخ مقبوضاً، فلما لم ير عنده شيئاً من البسط والإيناس. قال في نفسه: ليت الفقيه فلاناً(4/237)
استشار فلاناً رجلاً صالحاً في القافلة سماه. خطر له ذلك قبل أن يبلغ الرسالة، ولا ذكرها بعد ذلك، فلما خطر له هذا الخاطر قال له الشيخ في الوقت الحاضر: قل للفقيه إن شاء مسافر براً أو بحراً، فما عليهم إلا السلامة، واعلم أن المشهورين في بركة المستورين.
ومنها ما أخبرني بعض شيوخ اليمن المشهورين بالصلاح، والاتصاف بالأوصاف الملاح، في شهر رمضان المبارك في الحرم الشريف، وهو متوجه للإحرام بالعمرة. أنه رأى شيخاً المذكور بعد صلاة الصبح منصرفاً من حول الكعبة إلى جهة بلاده، وأنه مر عليه، وتبسم في وجهه، وأشار مع السلام بإصبعه إليه، وذكر أنه كان يتعبد معه في بعض السواحل في أيام البداية، وأنه كان يأتي إلى شيخنا كل ليلة ثلاثة أنفس أحدهم الخضر فيتحدثون معه ما شاء الله تعالى من الليل، وأنه كان يتنحى عنهم في ذلك الاجتماع، ويقول لشيخنا: ما جاؤوا إلا إليك اللهم أنفعنا بعبادك الصالحين بحرمتهم عليك.
ومنها ما أخبرني بعض الفقهاء المتقنين المباركين المتنسكين أنه أذن له شيخنا المذكور في الخلوة، فدخل فيها، وكان في بعض الأوقات يتصور له بعض الشياطين يوسوس عليه يراه بعينه ظاهراً، فشكا ذلك إلى الشيخ، فقال له: إذا رأيت شيئاً من ذلك ناد باسمي، قال: فلما كان فات ليلة تصور لي الشيطان، فقلت: يا سيدي الشيخ علي فما تم مقالتي إلا والشيخ واقف بباب الخلوة مع بعد منزله عن ذلك المكان، فسبحان الكريم المنان الذي طوى لهم المكان والزمان، وأطلعهم على ما شاء من الغيب حتى شاهدوه بالعيان.
ومنها أنا لما بلغنا في سفر البحر إلى مرسى حلي قال لي أصحابي: تنزل إلى الساحل. قلت: لا، فنزلوا وبقيت في المركب وحدي، ونويت أني إذا بلغت اليمن لزيارة جماعة من الصالحين، ورجعت زرت الشيخ نور الدين المذكور في حلي، فلما كان ضحوة اليوم الثاني من نزول أصحابي حدث عندي داعٍ إلى النزول إلى الساحل، وإذا بزورق، وهو المعروف بالسنبوق في اصطلاح بعض الناس فيه بعض البحارين جاء إلى بعض المراكب المرساة لقضاء حاجة، فأشرت إليه أن يدنو مني، فأتاني، فركبت معه في الزورق إلى الساحل، فلما صرت في البر تمشيت فيه قليلاً، وإذا بالشيخ علي المذكور مقبلاً إلي في جمع كثير ركبان ورجالة من أصحابه وجيرانه، فسلم علي، وألبسني الخرقة، فعلمت أن الداعي الذي أزعجني إلى النزول في ذلك الوقت بعد أن لم يكن لي فيه نية إنما هو بخاطر الشيخ إذ كان الاجتماع الذي وقع بيننا مقدوراً له النزول سبب، والحمد لله على ذلك السبب الذي قدر لي به أني أصحب، وعلى جميع ما أنعم ووهب.
ومنها أني خرجت في بعض الأيام إلى خارج البلد، واخترت موضعاً بعيداً عن الناس، فخلوت فيه تحت شجرة خفية بين أشجار البرية بحيث لا يهتدي مكاني أحد، فما شعرت إلا(4/238)
والشيخ معي، فجلس معي قليلاً، فسررت بذلك سروراً كثيراً، وحسبت أنه يطيل الجلوس عندي فأتملأ به، واسأله عن كل ما أريد، فورد عليه حال، فقام بعد أن ظهر فيه مبادي السكر، فحصل في باطني عند ذلك تألم واحتراق لعدم حصول ما أملت، فقلت له: عند ذلك ما كان لي بمجيئك حاجة، فقال: ولم قلت؟ لأني فرحت بمجيئك، ثم تألمت بقيامك، فأتى إلي ووضع إصبعه على قلبي، وقال: هذا موضع الألم، فسكن ذلك الألم، وبردت تلك الحرقة كما تبرد النار إذا صبت عليها الماء، وازددت عند ذلك في اعتقاد فضله علماً، والحمد لله على المعرفة لهم والصحبة، وعلى ما خلق بيننا وبينهم من المحبة.
ومن هذا الإسكار الذي يفارق به الأغيار، ولا يرضى فيه إلا بمجالسة الملك القهار أني مررت بجنبه في بعض الأحيان، وهو جالس على بعض الكثبان، فناداني إليه، فجلست معه قليلاً، وهو منشرح منبسط معي، ثم ورد عليه وارد أخرجه عن ذلك الحال إلى حال آخر ظهر عليه في مبادي السكر، فقبض نفسه فيه، وتنمر ونظر إلي نظرة النشاوي في سكرهم، وقال: من جالس الملوك لم يرض مجالسة غيرهم، فقمت عنه هارباً، ورجعت في طريقي التي كنت فيها ذاهباً، وكان هذا ضحوة النهار، ثم رجعت من وجهي الذي توجهت فيه بعد العصر، فإذا به قد تغير عن ذلك الأسلوب، ورجع إلى الأسلوب الانبساط المحبوب، وقد أتى بمركوب يركبه فأقسم علي أن أركب ذلك المركوب، فركبته، ومشى هو مع جلالته وضعفه، وتباين ما بين طرفي نهاره في هيبته ولطفه متحققاً بقول قائلهم:
إذا كنا به تهنا دلالاً ... على كل الموالي والعبيد
ولكنا إذا عدنا إلينا ... يعطل دلنا ذل اليهود
ومنها أني حكيت له مرة أني قصدت في أيام الحج رجلاً من الصالحين في منى، فطلبته في منزله، فلم أجده، فطلعت بعض جبال منى، وانعزلت بعيداً من الناس تحت بعض الأحجار، فبينا أنا كذلك، لماذا بذلك الرجل الصالح الذي كنت أطلبه معي، فوقف عندي ما شاء الله، فلما حكيت لشيخنا المذكور هذه الحكاية تعجيباً له بذلك في ظني قال لي: عسى كان اجتماعكم في المكان الفلاني، وأشار إلى ذلك المكان بعينه مع عدم تميزه عن غيره تميزاً يهتدي به إليه، فلما سمعت منه ذلك تعجبت، وقلت له: الفرسان يمرون علينا، ولا يسلمون، فقال: يسلمون بالقلوب، ثم جمعت بينه وبين الصالح المذكور، وهو الولي الحبيب خالد بن صالح بن شبيب في المسجد الحرام ليلاً، فحصل للشيخ خالد بذلك سرور، فلما افترقا قال لي الشيخ علي: هذا من غزة، ولم يكن لهما قبل ذلك اجتماع بل بمعرفة القلوب والكشف والاطلاع رضي الله تعالى عنهم، ونفعنا بهم.
ومنها أنه خطر لي في وقت خلوة من أفضل هو أو شخص آخر،(4/239)
فقال لي: عند خطور هذا الخاطر، ما الفرق بين الرسول والنبي؟ فأردت أن أذكر ما بينهما من الفرق بحسب ما يخطر لي من العبارة، فسبقني وعبر في الفرق بينهما بعبارة حسنة مشتملة على ألفاظ وجيزة جامعة، ومعانٍ حسنة، حاصلها أن الرسول هو الذي يوحي إليه، ويرسل إلى الخلق، ويؤيد بالمعجزات التي تدل على الحق، والنبي غير متصف بهذه الصفات، وكذلك الأولياء منهم من يؤمر بإرشاد المريدين، ويؤيد بالكرامات والبراهين. ومنهم من له فضل في نفسه، وليس له شيء من هذه المذكورات، ففهمت من ذلك أن الفرق بينه وبين ذلك الشخص نسبته نسبة الفرق بين الرسول والنبي على حسب ما بين النبوة والولاية من التفاوت، فهو في أعلى درجات الولاية كما أن الرسول في أعلى درجات النبوة، وذلك الشخص في أسفل درجات الولاية، كما أن النبي في أسفل درجات النبوة، ومفهوم كلامه أنه أفضل من ذلك الشخص، فقلت له في ذلك الحال: هل يتصور أن يصير النبي رسولاً. ومرادي أن ذلك الشخص، هل يصير في مرتبة التربية والتأييد بالكرامة، وإرشاد السالك؟ فأشار إلي أنه قد يتصور ذلك، نسأل الله الكريم من فضله العظيم لنا ولأحبابنا والمحبين.
ومنها أنه قال لي بعض الأولياء الكبار ممن له بكثرة الكرامات في بلاد اليمن اشتهار: سلم لي على الشيخ علي يعني شيخنا المذكور، وذلك عقيب صحبتي للشيخ، وكنت في ذلك الوقت زائراً عشرة من الأولياء، فلم يذكر لي أحد منهم بالسلام ولا غيره غير الشيخ علي، فقال: يأخذ كل واحد منكما عن صاحبه تأخذ عنه نوراً، ويأخذ عنك علماً، فقلت في نفسي متعجباً: كيف يأخذ عني العلم، وهو ممن يفيد العلم وغيره. وأما أخذي عنه النور، فهو أهل لذلك، وأنا مفتقر إليه، فاسأل الله تعالى أن يحقق ذلك، وكان هذا الكلام سراً بيني وبينه لم يطلع عليه أحد غير الله.
فلما قدمت على سيدي الشيخ أخرج لي كتاباً من كتب الإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي، وقال: ما تقول في هذه المسألة؟ وأشار إلى كلام فيه لأبي حامد، فقلت: سبحان الله مثلك يسأل مثلي: فقال لي: إيش قال الشيخ فلان؟ مشيراً إلى ما ذكرت من قول ذلك الشيخ، ويأخذ عنك علماً، فلما قال لي ذلك تعجبت، وعلمت أن الرجل صاحب تمكين في الاطلاع على القلوب، وما شاء الله من علم الغيوب، وقوة التصرف النافذ فيما شاء الله من الوجود، بمن الملك المنان ذي الكرم والجود.
ومن قوة تصرفه أن بعض أصحابه كان قد منعه من الأسفار مع رغبته فيها، فقال صاحبه المذكور لشيخ من شيوخ اليمن الكبار: أشتهي منك، ومن فلان شيخ آخر من الكبار أيضاً أن تكفياني أمر الشيخ علي في منعه لي من السفر، وتضمنا لي ذلك، فقال له: لا والله(4/240)
يا فلان لا أقدر وأنا وفلان على منع الشيخ علي مما أراد، فإن جنده سفهاء يعني أنه صاحب حال قوي، وتصرف نافذ لا يستطيع رده، ولو اجتمعنا على ذلك. كما أن الجند السفهاء يستطيع أحد مدافعتهم وردهم عما طلبوا.
رجعنا إلى ما كنا فيه من ذكر المسألة، فأخذت الكتاب، ونظرت فيه فإذا هي على غير ظاهر ألفاظها، فقال لي: تقول. قلت: نعم، وإذا به قد ورد عليه وارد غيبه عن الإحساس من واردات الأحوال التي ترد عليه في كثير من الأوقات، وعلى غيره من أرباب القلوب والرجال، فخفق برأسه في حجري، وكان جالساً إلى جنبي، فمكث قليلاً، ثم أفاق منشرحاً. فقال لي: وفقك الله، فعرفت أنه قد حصل له إطلاع في تلك الغيبة على أن ما ذكرت له من الجواب هو عين الصواب، والحمد لله على ذلك، وعلى جميع الأئمة، وأسأله أن يتقبل ما ذكرت من دعائه، وأن يغفر لنا جميع الذنوب، ويبلغنا من الخيرات كل مطلوب بجاه نبيه المصطفى المكرم صلى الله عليه وآله وسلم، فهذه عشر من كراماته الكبيرة يدل بعضها على فضله عنده من له بصيرة.
وأما ما له من الإشارات التي في ضمنها لي بشارات.
فمنها قوله رضي الله تعالى عنه لي: إني أرجو لك في آخر العمر بعد قولي له أرى فلاناً يبشرني، وأنت ما تبشرني.
ومنها قوله لي: لا تيئس من الجائزة فهي تأتيك، وإن طال الزمان يعني على القصيدة التي ذكرته فيها.
ومنها قوله لي: يا ما يخرج الله من هذا الصدر من الحكم مشيراً إلى صدري.
ومنها قوله لي: ما ظنك بعبد بن أشرف المولى عليهما أيردهما خائبين؟ وذلك بعد خلوتي معه في مجلس مبارك، ورد عليه فيه وارد شريف، فأضحكه بشراء بعدما أحزنه تخويفه وأبكاه.
ومنها قوله لي لما قدمت عليه زائراً: رأيتك منصرفاً من عندي، وعليك ثوب أبيض.
ومنها قوله لي: أشتهي لك سيفاً تضرب به، وفي قوله هذا إشارتان إحداهما أن ذلك الضرب كون فيه محقاً، والمضربون مبطلين، ولو لم يكن كذاك لما جاز أن يحب إلي السيف المذكور، والثانية أن تكون لي أعداء كثيرون، نسأل الله أن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين حرباً لأعدائه المعتدين، وسلما لأوليائه المهتدين آمين اللهم آمين.
ومنها قوله لي بعد ورود حال عليه مقامك عالٍ حقق الله تعالى ذلك بمنه وكرمه.(4/241)
ومنها قوله في حال سكره لواردة تواردت عليه الأحوال. في مسجد الخيف خاليا عن الخلق، وسائر الأشغال، في ساعة أؤمل من الله الكريم أن أنال فضلها إما جاء سيل الفضل غسل الأوساخ كلها، فنسأل الله الكريم أن يحقق لما ما ذكر من الغسل بسيل الفضل، وأن يحيي بغيث رحمته ما بقلوبنا من موات المحل، وإلى قوله المذكور أشرت في بعض القصائد حيث أقول:
أؤمل من ذي الفضل ما هو أهله ... وإن لم أكن أهلاً لما منه أطلب
عسى سيل فضل منه يغسل كل ما ... بأوساخه كم قد تلطخ مذنب
كما قال نور الدين شيخي وسيدي ... وقد مال من حال به الراح يشرب
إذا جاء سيل الفضل يغسل كل ما ... يلاقي من الأوساخ في الحال يذهب
إلهي بجاه المصطفى سيد الورى ... وملجأهم من كل ما منه يهرب
وتاج العلي بدر الهدى معدن الندى ... طراز جمال الكون أبهج مذهب
أنلني منائي منك يا غاية المنى ... لا ضحى ولي شغل بحبك مذهب
وحقق أرجائي يا جواعاً ومنعماً ... كريماً تعالى للرجال تخيب
ومنها ما في مكاتبته لي من دعوات صالحات، ووصف بصفات جميلات، أسأل الله الكريم المنان المالك، أن يحقق بمنه جميع ذلك، وهذه صورة ما ذكرت من مكاتبة شيخنا العارف بالله القدوة الدليل، مرشد السالكن السيد الجليل، ولفظه بحروفه، والله على ما نقول وكيل.
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه أستعين، الفقير إلى عفو ربه، وإحسانه، خويدم الفقراء علي بن عبد الله سلام الله ورحمته وبركاته. وتحياته على المولى الشيخ الفقيه العالم، العامل الورع الزاهد عبد الله بن أسعد اليافعي زاده الله حكماً وعلماً ومعرفة وفهماً، ورفع في العلم لدرجته، وأظهر على الخصم حجته، ونشر أعلام ولايته، وكلأه بحسن كلايته، وجعله موفقاً للصواب، في كل سؤال وجواب، وتصنيف للكتاب، وجعله داعياً إليه، ودالاً للسالكين عليه، ثم أوصله به إليه، وبعد فقد ورد الكتاب الكريم، والخبر المبارك المحتوى على الدر النظيم، فنظر فيه المملوك، واستحسنه غاية الإستحسان، وأعجبه ما أودع فيه من الفوائد الإيضاح والبيان، وما طرزه به من الحكم والمعارف، ما يشهد له بصحته كل عارف، فزاده الله من كل فضيلة، وأحله لديه المنزلة الرفيعة الجليلة لكن لو أخلي الكتاب عن ذكر المملوك، وأطلق بعد ذكر المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ذكر أرباب السلوك لكان يتنم حسنه وجماله، ويبقى عليه(4/242)
رونقه وكماله، ولكن كان ذلك في الكتاب مسطوراً، وكان أمر الله قدراً مقدوراً، جزى الله المولى عن المملوك. وعن الإسلام والمسلمين خيراً، ودفع به عنهم في الدين ضيراً، وختم للجميع بخير، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
وعنها قوله لي في مسجد الخيف في بعض ليالي التشريق: حصلت لي إشارة قصيدتك الفلانية، وقد أمرت ولدي أبا بكر أن يحفظها، وذلك أني رأيت كأني أقرأها في صلاة الصبح يوم الجمعة. قلت: في ذلك إشارة إلى ما اشتملت عليه من تحقيق التوحيد، وصحة العقائد، وغير ذلك مما تضمنته من جمل المقاصد ومدح جمال الوجود سيد ولد آدم صلى الله عليه وآله وسلم وهذه عشر أيضاً من البشارات، المشتملات على الإشارات، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وتنزل البركات، أعني إشارات شيخنا المذكور لي.
وأما ما بشرني به غيره من المشائخ والإخوان مما وقع لهم في اليقظة، أو في المنام، من جهة النبي عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام، ومن جهة الأولياء الكرام، فليس هاهنا موضع لذلك الكلام، فلنثن العنان، ولنعد إلى ما نحن بصدده من البيان، لأوصاف شيخنا الجميلات الحسان، وما من علينا بصحبته الحنان المنان.
وله رضي الله عنه تصنيف في الحقيقة محاه، لغرض قبل أن نقف عليه ونراه ليله خشية إني لا يفهم الناس معناه، وله نظم رائق، ونثر فائق، فمن نظمه رضي الله تعالى عنه قوله:
أسفي من هجر سكان الحمى ... تركوني من هواهم في عمي
كلما قدمت يوماً قدماً ... نحوهم أخرت عنهم قدماً
صرت مما فاتني من وصلهم ... أقرع السن عليهم ندماً
ليتهم إذ هجروا لم يتلفوا ... بالضنا صبا معنى مغرماً
فعسى الدهر يوصل منهم ... يسعف الصب ويشفى السقما
قد جعلت الدمع مني شافعاً ... ورجائي وإنكساري سلما
ومن نثره رحمه الله تعالى قوله: ينبغي للفقير الصادق أن يكون كثير الفضائل، الشمائل، ما في يده لا يرد عنه سائل، ولا يخيب منه آمل، أخلاقه ألطف من نسيم السحر، وأوصافه كالمسك إذا فاح وانتشر، طلق الوجه عند لقاء الأخوان، بسام الثغر عند وجود الحدثان، قلبه من الغش والحسد مكنوس، قد طهر ونقى من آفات النفوس، حرفته في الزهادة، وحانوته فيها العبادة، إذا جن عليه الليل فهو قائم، وإذا أصبح النار فهو كثير التلاوة للقرآن، بدمع منحدر كالجمان، دائم الفكرة متواصل الأحزان.
ومنه أيضاً: يا هذا لو أخذت كبريت الإخلاص وطبخته بماء الصدق، ثم أطفأته(4/243)
فتسق الصبر، ثم دهن لوز الزهد، ثم دهن بيض القناعة، ثم سحقته على صلابة التقوى بقهر طاعة الموالي، ثم ألقيت منه جزءاً على مائة جزء من نحاس نحو سك صار ذاهباً منفى، والله الموفق.
وأما ما ذكرته في لبس الخرقة المذكورة في القصيدة من اكتساء الفخر، فهو من أجل إنه أمر بذلك في اليقظة في حال حال ورد عليه على ساحل البحر، وهو قولي في القصيدة:
وألبسني عن أمر مولاه خرقة ... كسيت بها فخر الأمر بيقظة
وقد ألبسني إياها جماعة أيضاً من القوم بعضهم بإشارة أيضاً، ولكن ربما وقعت له في اليقظة، وربما وقعت في النوم، ولم أشاهد في أحد منهم من حسن سلوك الطريقة، والجمع بين الشريعة والحقيقة، والجد والاجتهاد، وعلو الهمة، ومواصلة الأوراد، والحرص على متابعة السنة والتورع، والمبالغة في المحو والأدب والتواضع، وكثرة المعارف والمكاشفات، والمحاسن والكرامات، ما شاهدته في الشيخ المذكور، وفى ذلك أنشد وأقول:
وكم عاذل في حب سلمى ومدحها ... يقولون قد أكثرت في الشعر وصفها
يلومونني يا أم عمر وما دروا ... بما أبصرت عيني من الحسن والبها
وأهوى سوا هارب خود خريدة ... ولكن ما شاهدت في الحسن مثلها
والجماعة المذكورون في إلباسهم لي الخرقة، بعضهم أدرك الشيخ أبا الغيث، وبعضهم ينتسب إلى الشيخ محمد بن أبي بكر الحكمي للنسبة من بعض ذريته وبعضهم ينتسب إلى الشيخين الإمامين الحضرميين أعني الفقيه إسماعيل، والشيخ أبا عباد، وبعضهم هو الشيخ محمد بن عمر النهاري، وبعضهم قال لي: هذه يدي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إني أصحب بها عنه، فاصحب بها أنت عني. كل هؤلاء المذكورين يمانيون، ومهم من ينتسب إلى الشيخ أبي مدين شيخ بلاد المغرب رضي الله تعالى عنه، ومنهم من ينتسب إلى الشيخ شهاب الدين السهروردي رضي الله تعالى عنه وعنهم.
وأما شيوخي من جهة العلم، فقد تقدم ذكر بعضهم، وقد ذكرت طريق الخرقة وشروطها وإنها خرقتان خرقة بركة واحترام، وخرقة تحكم والتزام، في كتاب " نشر الريحان في فضل المتحابين في الله من الأخوان "، وذكرت أن غالب شيوخ اليمن يرجعون في لبسها إلى شيخ الشيوخ في المجد والفاخر، الذي خضعت لقدمه رقاب الأكابر، الشيخ محيي الدين أبي محمد عبد القادر الجيلاني قدس الله روحه، ونور ضريحه، وإلى ذلك أشرت في بعض القصيدات بقول هذه الأبيات:(4/244)
وفي منهج الأشياخ إلباس خرقة ... لهم سنة أصل روى ذلك عن أصل
ولبس اليمانيين يرجع غالباً ... إلى سيد سام فخاراً على الكل
إمام الورى قطب الملا قائل على ... رقاب جميع الأولياء قدمي أعلى
فطأطأ له كل بشرق ومغرب ... رقاباً سوى فرد فعوقب بالعزل
الأبيات المقدمات في ترجمته في سنة إحدى وستين وخمس مائه.
وفي شيخي المذكورين رفيعي القدر والمحل، قلت هذه الأبيات مفتتحاً لها بالمرثية والغزل:
دعا ذكر هامي دمع طرف مسهد ... بتذكار أطلال لمى ومعهد
وبثاغر أما من حشى مودع الشجى ... غريم الجوى من لوعة الحب موقد
لفرقة أحباب لنا قطعت بهم ... مطايا المنايا فدفداً بعد فدد
فأمسوا بدار لد نأت لا يزورها ... سوى راكب حدباً إلى قعر ملحد
به روضة خضر البر موحد ... وموقدة جمر الطاغ وملحد
ترى ساكنيه تحت أطباق مظلم ... قد استنزلوا عن كل قصر مشيد
وكثرة غلمان وعز ورفعة ... إلى ذي هوان في التراب الموسد
مقيمين حتى يرحل الركب كلهم ... لدار نعيم أو عذاب مؤيد
وقد فارقوا للأهل والمال والهنا ... وجاه وعيش والحبيب المودد
وقد لبسوا ثوب البلا بعد لبسهم ... لثوب البقا الزاهي الجمال المحدد
ترى الدود في تلك الخدد ومقلة ... تسيل على الخد الأسل المورد
وقد زال عنها ما زهاها وزانها ... وما طال فيها من تغزل منشد
تغزل ولكن لا بإفك وباطل ... وأنشد ولا تسمع ملام مفند
حمامة أيك في الحمى غردت ضحى ... مطوقه ورقاء مخضوبة اليد
وريم طويل الجيد أدعج أهيف ... أغن كحيل الطرف من غير إثمد
فتلك شجاني في الصبا طيب نغمها ... وحسن الحل لكن حمامة مسجد
أحلت هوى لما شدت وترنمت ... فؤاد خلي البال غير معود
فيا طيب عصر فيه طاب سماعها ... لدى عدن يا ليته لي بمسعد
تريع لوصال بواو معوضاً ... موحدة كم قد سبت ذا بعد
فأنشد حالي عندها متمثلاً ... بمصراع صب في المحبة مبتدي
وما كنت أعري قبل حبك ما الهوى ... كما لم من الغير الملاحة أشهد
وهذي سباني في الكهولة حسنها ... وبهجتها لكن غزالة معبد(4/245)
ترعت فيا في حي حلي وكم لها ... ترو بذاك الحي من عذاب مورد
تريع غواشي الملك للغين مبدلاً ... عن الطلبهاكم من فؤاد مقيد
تصيد ولا تصطاد في شرك الهوى ... فأعجب بمصطاد لها متصيد
شروداً بقلب الصب في فلواتها ... بوارد حال للغزال مشرد
ويا حبذا يوماً على الصب عطفه ... به بعد صد من وصال مودد
ويوماً به منها افتتاح زيارة ... وصحبتها من غير تقديم موعد
ويوماً على الهجران منها بشارة ... بتحصيل ما مول لقلب مبرد
فهاتان مع حبي حساناً سواهما ... ملاح الحلي كم فائق الحسن أغيد
هما سبياني في قديم وحادث ... بما لوراه عاذلي ومفندي
لبادر في عذري وخلع عذاره ... بحبهما مثلي ولم يتردد
إلى كم أوري غيره وتسترا ... ولوح الهوى كم فيه عهد مؤكد
خليلي ما ريم عدت وحمامة ... شدت ما به موهت ليس بمقصد
ولكن أكنى عن مليحي حماهما ... وعصرهما بدري دياج لمهتد
جمال الهدى البصال شيخي وسيدي ... إمام الأنام الزاهد المتعبد
مليح الحلي زاهي المحاسن ذي العلى ... وساني الورى نغماً كدر منضد
ونور الهدى بحر المعارف والندى ... خزانة أسرار وسيف مهند
دليل طريق السالكين إلى العلى ... على حضرة يحظى بها كل مسعد
علي بن عبد الله ذي السعد والعطا ... إمامي وأستاذي وشيخي وسيدي
مسقى بكأس الحب في قدس حضرة ... مداماً بها من سكرها كم معربد
قلت: وقد اقتصرت في هذه الأبيات الأحد والأربعين من قصيدة لي ثلاث مائة، وبضع عشر بيتاً ذكرت فيها مائة من أجلاء الشيوخ الأكابر، العارفين بالله أولي الأبصار والبصائر، والمقامات العاليات والمفاخر، صدرتهم بشيخي المذكورين البدرين، وأودعتها ديواني الموسوم بكتاب الدرر في مدح سيد البشر، ومدح الأولياء الغرر، وفي الوعظ والعبر، وعلوم فضلها اشتهر، وسميتها بلبل الإطراب، وحلاوة الحلاب، في ذكر الفراق والمدح للأولياء الأحباب، وترجى لقائهم في دار النعيم والثواب بفضل الله الكريم الوهاب.
سنه تسع وأربعين وسبع مائة منال
فيها توفي الإمام العلامة، البارع المتفنن، المفيد القرشي المصري الشافعي المدرس المفتي شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان المعروف بابن عدلان، سمع الحديث من جماعة منهم الحافظ أبو محمد الدمياطي، وأبو الحسن ابن الصواف الشاطبي وغيرهما،(4/246)
وتفقه على جماعة أيضاً، وعرض المفصل على حجة للعرب بهاء الدين ابن النحاس، وأخذ عنه النحو، وكان له منه حظ عظيم، وانتفع به انتفاعاً كلياً، وأخذ أصول الفقه عن العلامة شرف الدين الشافعي الفاسي الشهير بالكركي، وناب في الحكم عن قاضي القضاة تقي الدين ابن دقيق العبد القشيري بالقاهرة ومصر مدة، وتولى التدريس في عدة مدارس وتولى الإعادة بالمدرسة الصالحية والناصرية، والميعاد العلاي في جامع الأزهر، ونفذ رسولاً من سلطان الديار المصرية إلى اليمن بعد السبع مائة، وهو إمام مشار إليه في الفتيا والفقه في الديار المصرية حلو العبارة، كثير التودد للطلبة، مكرم لهم وولي قضاء العساكر للمنصورة بالديار المصرية، ومات أقرانه وعمر، وبقي طرفة في البلاد، ومولده سنة إحدى وستين وست مائة رحمه الله تعالى.
وفيها توفي الإمام البارع المتفنن العلامة، الفقيه النحوي، الأصولي اللغوي، المنطقي المدرس، المصنف المفيد شمس الدين الأصبهاني، حفظ كتباً عديدة، وصنف تصانيف مفيدة، ودرس في بلاده، وفي تبريز، وفي الشام، وفي مصر واشتغل عليه العلماء المعقولات، واستفادوا خصوصاً في أصول الفقه، ومن محفوظاته بعد الكتاب العزيز كتاب السامي في الأسامي، وهو كتاب كبير الحجم في اللغة، وأدوات الميداني، والمصادر الثلاثة المجردة للزورني، والكافية في النحو، وبحثها على والده وغيره من الفضلاء، ثم حفظ الغابة القصوى في الفقه، والمنهاج في الأصول كلاهما من مصنفات العلامة القاضي ناصر الدين البيضاوي، وبحثهما على والده وغيره، وبحث الحاصل على والده أيضاً مؤلفات تاج الدين الأرموي، ثم قرأ الرسالة الشمسية في المنطق مع شرحها على أخيه الأوحد إمام الدين، وقرأ المطالع في المنطق أيضاً وحفظه، ثم قرأ الطوالع في أصول الدين من مؤلفات القاضي ناصر الدين المذكور، ثم حفظ الحاوي في الفقه، وبحثه على والده، وبحث أصول النسفي في الخلاف، وبحث كتاباً في علم الهيئة للجغمني، والتذكرة وإقليدس والكليات في الطب، ثم درس، وكان يلقي من الدروس ما بين السبعين والثمانين، يشتغل من الصبح إلى العشاء، ثم شرع في التصانيف، فمنها شرح المختصر لابن الحاجب، وعلقه عنه جماعة كثيرة من الفضلاء أولي النظر، واشتهر في البلاد وانتشر، وفرغ منه في سنة، وشرح المطالع، وصنف ناظرة العين في المنطق في يوم واحد، وشرح التجريد في أصول الدين، وعروض الساوي، وشرح الحاجبية، وسمع البخاري عن ابن الشحنة، وسمع خلائق في دمشق، ودرس في الرواحية، ثم سافر إلى الديار المصرية، ودرس في المعزية، ونزل في خانقاه سعيد السعداء، وولي مشيخة الخانقاه السيفية، وكانت اقامته بدمشق سبع سنين، وألف كتاباً في المنطق، وكتاباً مختصراً في أصول الدين مع شرحه، وشرح البيضاوي على طريق الإملاء، وبديع ابن الساعاتي الحنفي في أصول الفقه، وشرح الطوالع،(4/247)
وأصول النسفي وألف كتاباً في الفقه في مذهبي الإمامين الشافعي، وأبي حنيفة رحمهما الله تعالى، وحج مرتين.
قلت: وذكر لي الشيخ جمال الدين الحويراي شيخ خانقاه، سعيد السعداء رحمه الله تعالى أن شمس الدين المذكور يحب الاجتماع بي مستدعياً بذلك إسعافاً مني بالإذن، فلم يصادف مني في ذلك الوقت انشراحاً للاجتماع، وقلت له: العلماء كثير، وأنا اليوم في طلب الاجتماع بالفقراء في الخرابات، فلما لم يجد مني إنعاماًً بذلك سكت عني، وبلغني أن شمس الدين المذكور كان أول قدومه الشام يحضر حلقة الشيخ برهان الدين، ويسمع بحثه، وهو ساكت كأنه ما يعرف شيئاً من العلوم، والجماعة ما يعرفون أنه من أهل العلم مدة من الزمان حتى نبههم بعض الناس عليه، فالتمسوا منه أن يبحث، فامتنع من الكلام حتى ألحوا عليه، فبحث حينئذ معهم، وظهرت لهم فضيلته، فاشتغلوا عليه حينئذ في العلوم، وهذا الذي فعله حسن عزيز جداً لا يكاد يصدر من الفقهاء مثله أعني سكوته موهماً عدم معرفته بالعلوم، وحسن اعتقاده في الشيخ برهان الدين رحمه الله تعالى على الجميع.
وفي السنة المذكورة توفي الإمام العلامة البارع الفقيه، المفتي الشافعي الأصولي النحوي، الخطيب المصقع الوحيد الفريد، الصوفي المتكلم، لسان الحقيقة، ودليل الطريقة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد المعروف بابن اللبان المصري المنزل ذو الإفادة الدمشقي المنشأ والولادة، ولد سنة تسع وسبعين وست مائة، وعاش سبعين سنة.
وأخذ الفقه عن جمال الدين السريشي، ونجم الدين ابن الرفعة، وكمال الدين ابن الزملكاني، وصدر الدين ابن الوكيل وأذنوا له جميعاً بالفتيا، وأخذ العربية عن شمس الدين أبي الفتح، وقرأ الشاطبية في القراءات على والده شهاب الدين، وسمع الحديث عن جماعة منهم ناصر الدين ابن الفراس، والخطيب شرف الدين الفزاري وغيرهما، وصحب الشيخ الكبير الولي الشهير أبا الدر ياقوت الشاذلي، وبورك في صحبته، وفتح عليه في كلامه، وسرعة عبارته.
وله مصنفات جليلة منها كتاب إزالة الشبهات عن الآيات والأحاديث المتشابهات. ومنها ترتيب الأم للإمام الشافعي على مسائل الروضة واختصرها في أربع مجلدات، ومنها مختصر الروضة والرافعي واستدرك عليهما.
ومنها ألفية في النحو ضمنها كثيراً من فوائد التسهيل والمعرب. قبل لم يصنف مثلها(4/248)
في العربية، ووضع لها شرحاً بين فيه مجملها، وفتح مقفلها، وله ديوان خطب جمعة وفي كل جمعة يضيف خطبه يخطب بها، وله في علم الحديث مصنف مفيد جمع فيه كتب ابن الصلاح والنووي، وتوفي وهو يصنف تفسير القرآن جاءت سورة البقرة في مجلدين منه قيل: لو كمل لم يوجد في التفاسير مثله لأنه كان رحمه الله نهاية في علوم القرآن، وفي الأصلين والجدل، وإمامته في الفقه مشهورة، وبراعته في العلوم مذكورة، وله نظم رائق، وشعر فائق.
سنة خمسين وسبع مائة
فيها توفي الإمام العلامة، المدرس المفتي نجم الدين عبد الرحمن بن يوسف الأصفهاني الشافعي نزيل الحرم الشريف مولده سنة سبع وسبعين وست مائة، وفيها توفي آخر أيام التشريق في منى، ودفن بالمعلى سمع الحديث على جماعة، وتفقه وقرأ الأصول والعربية والفرائض والجبر والمقابلة، وقرأ القراءات السبعة، وله مصنفات منها مختصر الروضة في مجلدين اشتهر كثير من البلاد، وكان رحمه الله حسن الأخلاق، سليم الباطن، مشهوراً بالصلاح، وكثرة المحاسن، حسن الاعتقاد رآني في وقت، وقال لي: كنت إذا رأيتك في المنام في بلادي، وأنا مريض تعافيت، وقال لي لما وقف على بعض كتبي هذا الكتاب ما يجيء تصنيفه إلا بعلوم كثيرة، ثم قال لي: ينبغي لك أن تصنف كتاباً في الرد على المبتدعين، فلما وضعت كتابي الموسوم بمرهم العلل المعضلة في الرد على فئة المعتزلة بالبراهين القاطعة المفصلة، وذكر عقيدة أهل السنة المفصلة والفرق الاثنتين والسبعين، والمخالفين المبتدعين ذكرت بعد ذلك أنه كان رحمه الله قد حرضني على ذلك، نسأل الله تعالى حسن الخاتمة، والسلامة من المهالك.
ولما وضعت كتاب نشر المحاسن في العقيدة وغيرها، ولقبته بكفاية المعتقد ونكاية المنتقد في فضل سلوك الطريقة، والجمع بين الشريعة والحقيقة، ووقف عليه، وطالعه الفقيه الإمام مفتي الأنام البارع العلامة فخر الدين المصري، قال لي: لقد انتفعت بهذا الكتاب بعد أن سمع على أشياء رحمه الله تعالى من كتاب الإرشاد، نسأل الله تعالى الكريم التوفيق، وسلوك طريق الرشاد، والعفو والعافية، والفوز يوم المعاد، مع سائر الأحباب والمحبين آمين.
تنبيه
اعلم أيها الواقف على هذا الكتاب أني إنما لم أذكر تاريخ موت أحد من أعيان متأخري شيوخ اليمن الصالحين، وعلمائه العاملين مع كثرتهم سوى ستة مضى ذكرهم إلا(4/249)
لأني لم أظفر بتاريخ يكون لهم جامعاً لا واقفاً عليه ولا سامعاً.
وأما المتقدمون منهم فقد سمعت بتاريخ الإمام ابن سمرة اليمني، ولم أزل حريصاً على روايته، حتى وقفت عليه، فوجدته قد تتبعهم منذ زمن الصحابة إلى زمانه، فذكر من هاجر من أعيان أهل اليمن، ومن روى منهم الحديث، ومن بعثه النبي صلى الله عليه واله وسلم إلى اليمن من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، إما قاضياً وإما عاملاً، وقد تعرضت لذكر شيء من ذلك فيما مضى.
ثم ذكر من فقهاء التابعين إلى عصره من أهل اليمن مئيناً عديدة في تاريخه المذكور الموسوم بطبقات فقهاء اليمن، وعيون من أخبار رؤساء الزمن، وذكر أنه اجتمع عند واحد منهم من الطلاب أكثر من مائتي طالب في صنعاء، وهو الإمام زيد بن عبد الله اليفاعي أحد شيوخ صاحب البيان، أخذ عنه كثير ممن رحل إليه من البلدان، وكل ذلك قد قدمت ذكره في هذا التاريخ، وهؤلاء الذين ذكرهم كلهم من الفقهاء، ولم يتعرض لذكر الشيوخ من الصوفية العارفين، وقد أخلي كتابه عن كبار الشيوخ المذكورين، وعمن لم يطلع عليه من الفقهاء النائيين، وعن جميع المتأخرين، ولم أذكر أنا من الذين ذكرهم إلا أفراداً من أعيان أعيانهم مثل هؤلاء الأئمة طاوس، ووهب بن منبه، وعمرو بن دينار، والشيخ عبد الرزاق وآخرين ممن بعدهم، منهم الإمام ابن عبدويه، والإمام زيد اليفاعي، والإمام يحيى بن أبي الخير العمراني وغيرهم، وإنما لم أذكر تاريخ المتأخرين إلا لأنه لا يدل لمن تصدى لعلم من معرفة مواده، وحصول استمداده من مواد التاريخ، وتقدم فيه كتاب يعتمد، ومنه في المولد والوفاة والأنساب والأوصاف يستمد، ولعمري أنه قد كثر في اليمن من السادة الذين جل قدرهم، وشاع ذكرهم، ولم ينتدب لتاريخهم من أظله عصرهم، ولا من تأخر زمانه عنهم حتى اتبعه سالكاً في ذلك الأثر، ومقلداً له في ما ثبت عنده من الخبر، فذلك هو الذي منعني مما ذكرت، وحال بيني وبين ما أردت، بعد ما التمس مني ذلك غير واحد من أهل العلم والصلاح، وله عقيدة حسنة في الأولياء أولي الأوصاف الملاح، فاعتذرت بسبب ذلك إذ لا يكون التصنيف محموداً، إلا إذا كان جميع ما يتعلق به موجوداً، وذلك الذي منعني أيضاً من إكمال شرح قصيدتي الموسومة تباهية المحيا في مدح شيوخ اليمن الأصفيا التي مفتتحها:
نسيم الصباهي يحمل الرسائل ... ونشر الأحبا في الضحى والأصائل
فإني لما بلغت فيه إلى ذكر الشيوخ أولى الأوصاف المشكورة ثنيت العنان في أثناء الميدان من أجل العلة المذكورة، ولم أذكر فيه سوى أربعين شيخاً من السادة الأكابر أولى المقامات العالية، والكرامات الغالية، وشرف الفضائل والمفاخر ممن ذكر فضائلهم يطول،(4/250)
وكراماتهم تحير المقول، وسيأتي ذكرهم مع غيرهم إن شاء الله تعالى، ولا مطمع في حصرهم، ولا عشر معشار العشر في ذكرهم، فإن شيوخ اليمن عصائب لا يحصيهم كاتب ولا حاصب كما بلغني عن صفوة زمانه الجميل المناقب، وبركة أوانه، ذي المحاسن والمواهب، علم الأعلام، وقدوة الأولياء الكرام، سامي المجد الأثيل أحمد بن موسى المعروف بابن عجيل نفعنا الله تعالى ببركته إنه قيل له: يا سيدي أرى الأولياء في سائر البلدان يذكرون في الكتب، فيقال: فلان البلخي، وفلان البغدادي، وفلان الشامي وفلان المصري، ولا يذكر أهل اليمن، فقال: إنما لم يذكروا لكثرتهم، فإنهم عصائب، وكذلك منعني عام الاطلاع من ذكر تاريخ موت ناس كثير من أولي الفضل، والوصف الحسن ممن أدركت، وممن لم أدرك من غير أهل اليمن.
ذكر جماعةمن مشاهيراليمن
من كبار قدماء اليمن وأوليائهم ورؤسائهم وعلمائهم مجموعين، وإن كان قد مضى ذكرهم متفرقين.
فمنهم السادة الأجلاء، والنخبة الأصفياء أبو موسى الأشعري الصحابي رضي الله تعالى عنه، وأويس القرني وأبو مسلم الخولاني، وطؤس، وعمرو بن دينار، ووهب بن منبه، والإمام الحافظ عبد الرزاق الصنعاني، والإمام الشعبي رحمهم الله تعالى أصله من اليمن، وذو الكلاع الحميري والأشعث بن قيس الكندي، وعمرو بن معد يكرب، ومن بعد هؤلاء الجلة الكبار خلائق ليس لعددهم انحصار، وإلى ذلك أشرت بقولي في بعض الأشعار:
عصائب لا يحصى مدى الدهر عدها ... ومن ذاك يحصي للحصى والجنادل
فكم في التهايم والجبال وفي القرى ... من اليمن الميمون كم في السواحل
ذكر أول من أظهر مذهب الإمام الشافعي في اليمن من الفقهاء الجلة.
فمنهم الإمام العلامة موسى بن عمر ابن المعافري.
ومنهم الفقيه الإمام عبد الله بن علي المرادي، سمع من أبي زيد المروزي في ذمار بفتح الذال المعجمة، وفي آخره راء، ورحل إلى مكة، وسمع بها في سنة ثلاث وخمسين وثلاث مائة.
ومنهم الفقيه الإمام زيد بن عبد الله اليفاعي، والشيخ الإمام الجليل محمد بن عبدويه، المدفون في جزيرة كمران، وممن نشر المذهب المذكور أيضاً بنو عقامة في زبيد، وممن(4/251)
نشره أيضاً الإمام العلامة صاحب البيان يحيى بن أبي الخير في جبال اليمن، وقد تقدم ذكر جميع هؤلاء في مواضع متفرقة من هذا الكتاب.
ذكر آفات عظيمة ذات فتن واقعة في بلاد اليمن مما تقدم ذكره متفرقاً في مواضع ليسهل معرفته مجموعاً على السامع.
فمنها فتنة القرامطة واستيلائهم على معظم بلاد اليمن، ومدنه كصنعاء وزبيد، عدن، وتعز، وأبين وغيرها ممن قهر ولاتها؟ وقتل حماتها على يد داعيهم في الزندقة والطغيان علي بن الفضيل الخبيث الشيطان.
ومنها فتنة الشريف الهادي ودعوته.
ومنها ظهور ابن الصالحي، وما كان عليه من ضد اسمه من الإفساد للبلاد والعباد في الظلم والاعتقاد، ودعوته إلى مذهب العبيديين الباطنية أولى الزندقة الإلحاد.
ومنها ظهور بني مهدي، وما كانوا عليه من ضد الهداية في كثرة الغرابة عن عبد النبي، وأخاه قبله، وقتلهما الرجال، ونهبهما لأموال وتخريب الديار، وتحريق الأشجار، وكانت دولة بني مهدي تنيف على خمسة عشر سنة حتى زالت على يد شمس الدولة بن أيوب أخ السلطان صلاح الدين حسين، ولي بلاد اليمن، فدخلها بالبأس الشديد، فقتل عبد النبي، وصلبه في زبيد، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك.
وتقدم أيضاً خروج الإمام أحمد بن الحسين في جبال اليمن بدعوته إلى أتباعه، وكتابه إلى الشيخ أبي الغيث بن جميل قدس الله تعالى روحه وجوابه له في ترجمته في سنة إحدى وخمسين وست مائة.
ذكر بعض الأكابر والأعيان والسادات من شيوخ اليمن المجهول موت بعضهم في أي زمن أولى المحاسن والمناقب العديدات، الذين ذكرتهم في بعض القصيدات، وهي قصيدتي الموسومة ببلبل الإطراب، وحلاوة الحلاب في ذكر الفراق والمدح للأولياء الأحباب، وترجي لقائهم في دار الثواب، بفضل الله الكريم الوهاب، وهي مشتملة على مائة شيخ من أعيان الشيوخ الأكابر، منهم اليمانيون ثلاثة وستون بعضهم مذكور في القصيدة المتقدم ذكرها. أعني باهية المحيا في مدح شيوخ اليمن الأصفياء، والباقون من بلاد شتى.
وقد تقدم ذكر جماعة منهم في هذا التاريخ، وها أنا أشير إلى مجموعهم في القصيدة المذكورة على حسب ترتيبهم فيها من غير ذكر فضائلهم وكراماتهم وأحوالهم، وما لهم من المناقب العديدة، والمحاسن الحميدة، وقد تقدم غزل القصيدة المذكورة في تاريخ شيخي(4/252)
المذكورين في سنة ثمان وأربعين، وسبع مائة، ثم عقبت ذلك بقولي:
خليلي ما ريم عدت، وحمامة ... شدت ما به موهت ليس بمقصد
ولكن أكنى عن مليحي حماهما ... وعصرهما بدري دياج لمهتد
جمال الهدى البصال شيخي وسيدي ... إمام الأنام الزاهد المتعبد
مليح الحلي زاهي المحاسن والعلى ... وسابي الورى نغماً كدر منضد
ونور الهدى بحر المعارف والندى ... خزانة أسرار، وسيف مهند
دليل طريق السالكين إلى البلا ... على حضرة يحظى بها كل مسعد
علي بن عبد الله ذي السعد والعطا ... إمامي وأستاذي وشيخي وسيدي
مسقى بكأس الحب في قدس حضرة ... مداما بها من سكرها كم معربد
وكم نصبت أحبولة لاصطيادهم ... فصاد لصياد حوى الفضل أحمد
له جليت بيض المعارف والعلى ... بعالي مقام في الثريا شيد
وجيء بخلعات الولاية واللوى ... ومركوب خيل في رواية مسند
فأضحى الفتى مستوفياً عند كشفه ... غيوب ذوي الإنكار وقت التجرد
فامسوا بعلم الولاية والعلا ... له قد أقر، وليس ذاك بمجحد
وصاحبه ألفان أو هم ثلاثة ... وآياته عدت لحصر معدد
وللحكمي قد حكمت في تصرف ... يولي ويعزل كل طاغ ومفسد
ووله ملكاً نافذاً فيه حكمه ... صريحاً على الإطلاق لا بمقيد
كذاك روينا من كبار وسادة ... وكم مكرمات كم كرامات مسعد
فأمسى له ينقاد من كان منكراً ... أديباً بقلب خاضع متعبد
وللبجلي إذ حكمت حكميهم ... سقاه هنا كأس عليه مردد
فأمسى إماماً للفريقين دالاً ... لكل الطريقين اقتداء بمرشد
له أنقذ الرحمن إذ كان منكراً ... على شيخه من قبل حتى به هدي
وبحر المعارف شيخه كان أمياً ... فسبحان منان لفضل معود
وأكرم ببدر رجاء من بدر داجر ... من البجلي من نسله متولد
له وارث سراً فأكرم بوارث ... وارث وموروث، وفرع ومحتد
علي بن إبراهيم زين زمانه ... مصاحب شيخ رب سعد مجدد
له الأصفهاني الكبير ملقب ... بنور اليمن أكرم به من ممجد
ومن نوره إبراهيم بدر كلاهما ... مع الجد فالمولود نور المولد
فيا حسن أيام رأيتهما بها ... إليها يحن المغرم الشجي الصدي
ويا شجنابي كامناً من شجينة ... ثوى بحوى بين الجوانح موقد(4/253)
ويا بركات قد حوتها عواجة ... آوى تربها كم سيد بعد سيد
فآهاً على رؤيا كرام ترحلوا ... وآهاً على سامي فخر مجدد
ومستتر فيها الهنار معلل ... براح معلى فوق رب مسود
عظيم كرامات كريم مناقب ... همام لدى نعي إمام لمبتدي
ولما أغاثت من قطيعة هجرها ... أبا الغيث أمسى غرث دهر لمجهد
وشمساً على مر الزمان منيرة ... بها يهتدي نهج الهدى كل مهتد
له بركات باقيات ومذهب ... زها مذهب في نهج قفر بمسجد
باهدلهم عالي المعالي معلل ... فأمسى كعقد جيد حسناً مقلد
وفي كأس ينبوع الفلاح ابن أفلح ... جميل المساعي منهل عندما هدي
فتى أسد للأسد حامل حزمة ... على ظهر ليث، وهو يحطب مبتدي
له نظمت بل قدمته أكابر ... كبحر خضم ذاخر عذب مورد
وكم حيرت حيرى علوم معارف ... وشرع هما بدراً دياج لمفتدي
أيا راسماً مدد المعالم والعلى ... وصار أهدى للحائر المتردد
وليان كل كم له من كرامة ... عليان كل في مقام مشيد
جليلان كل صادق في وداوده ... خليلان كل في رد المجب مرتدي
ردا مجداً كرام الولاية مثلما ... بنور الهدى وأنه كل مسعد
هما الحضرمي نجل الولي محمد ... إمام الهدى نجل الإمام الممجد
له كم خطت كم دللت ثم عللت ... عنايات فضل لبس تدرك ليد
مدل ومحبوب وفي كلفة العنا ... عظيم كرامات، وجاه وسؤدد
ومن جاهه أومى إلى الشمس أن قفى ... فلم تمش حتى أنزلوه بمقصد
ونجل عجيل كم مواهب عجلت ... له وسعادات ومجد مجدد
تحلي حلي بزهو الوجود بحسنها ... ويرفل في ثوب الجمال المنجد
كان حلاه حلة الحسن مثلما ... بهاها على كم الزمان بمسجد
مشى سيرة محمودة لا يسيرها ... سوى كل صديق يحفظ مؤيد
عظيم كرامات عزيز وجودها ... لها شهرة نالت لذكر معدد
هو القمر الثاني البهي ليت نظرة ... إلى بدر حسن في الدجى متهجد
وكم طبت لابن الخطيب وكم أتى ... به كشف طب في البلاد مشدد
مسقى حميا حضرة حضرمية ... وكم قد سقاها من ولي مسدد
إمام لأهل العلم بدر لسالك ... غريم غرام ناسك زين معبد
عزيز نظير زاهد متورع ... له سيرة حسناً وحلية مرشد(4/254)
على مقامات سني معارف ... شهير كرامات، كثير تعبد
مراد ومحمول بلطف عناية ... له مشرب صافي الهنا مورد
وللزيليين الشهيرين شهرة ... بفضل علي، والفتى عذب الليث أحمد
فذاك إلى سعدن الجرد والندى ... وذو مكرمات فوق عد معدد
وهذا مسقي الراح بدر طريقة ... شهر كرامات، ومجد وسؤدد
كذاك النهاريات كم نورت، وهل ... فتى غير بالنور النهاري مهتد
وكم غانم منها عذ نجل يغنم ... هدى سالك ضرغام غلب لمعتد
وكم قد زكى منها ابن زاكي فأثمرت ... قرائه نفعاً لمن فيه معتدي
وكم فاز بي حسن وإحسانها فتى ... يكنى أبا حسان للخير قد هدي
وكم سلمت من مرهف لابن سالم ... ومن ضر به كم من عدو مقدد
وقد قلدت لابن الكميت كميها ... بحربته حرب بها كم مدد
وكم أصرت منصورهم بجيوشها ... وبيض وبيض والحصان الممرد
وكم فاز إقبال بإقبالها وكم ... شفت بابن أحوص عين أحوص أرمد
وكم أذنت لابن المؤذن بالصبا ... غريم الغرام المسجن المتوجد
وكم فرجت كرباً بيمن مفرج ... كما بالدماميني المسمى المسود
ومهد هدى في ربع مهدي هدية ... ليوسف حتى صار نور المهتدي
ولابن كبريت تحلت وكبرت ... وكبر نعت مع كل وصف له ردي
وكم صفحت بابن الصفح وأصلحت ... به من فساد في البلاد ومفسد
وكم ما بجت ذبا وما حججت هدى ... عن ابن الحجاج لوش وحسد
وكم قد هدى بدر الدجى ماطر الندى ... بذي مطر بن نجل عيسى الممجد
وكم فاز مروزق برزق أتى له ... من الغيب من هادي العطيات مرغد
وكم حفر الحفار حتى أساسها ... بدا، فسقى من فوق أصل ممهد
وكم غربت لابن الغريب غرائب ... وأغرى الغرام الهائم الظامي الصدى
وكم لابن علوان على الدهر من علا ... فتى برد أمجد المعارف مرتدي
ولي على الأيام بعلو بمنصب ... إلى فرع علياء المفاخر مصعد
وأعداؤه تهوي مناصبهم إلى ... ثرى أرضهم من متهميها ومنجد
فما زال في جيش من النصر مسعد ... له تحت رايات العناية منجد
إلى أن لهم أمسى ملاذاً وملجأ ... وحصناً لدى طن وهجو منشد
وكم أسعدت في ذي عقيب بوصلها ... لجل سعيد حبذا وصل مسعد(4/255)
إمام لعلم ظاهر، ثم باطن ... ولي كبير فضله غير مجحد
فتى عارف ما ليس بدريه غير من ... سقى بكؤوس الحب من كل سيد
أتى بجواب مشرح الصدر عندما ... أبى بكر قدم بأنس متحمد
سماعاً الأصحاب التصوف والصفا ... رجال الوفا أهل الجوى والتوجد
سقوا مشرباً ما ذاقه الغير منهل ... لهم في على نهج العلى عذب مورد
وعنهم شروط في السماء ذكرتها ... بنشر المحاسن من حلي كل جيد
وكم سر من أسرار عرفاً بها أبو ... سرور كيف بالمسن محدد
مسن له حداحد من الذي ... يحد به أحد بذلك وأحدد
وكم جوهر غال حملت جواهراً ... شهادة طير للولاية مشهد
فسر أبي حمران أكرم بعارف ... لمن أسمه كالجوهر المتوقد
فاعجب بأمي عتيق وسوقي ... به دون عز مسعد بن مسعد
ولا عجب في حكم حكمة حاكم ... حكيم مقرب من يشاء ومبعد
بحق سما فوق السماك ابن باطل ... بأصحاب منهاج المبشر مقتد
كذاك علي بن قيدا رأوا تقي ... لمرتبة تعلو على فوق فرقد
وبالسعد سعد فائز عن عناية ... وذلك حداد به كم عمي هدي
وفي فاضل كم من فضائل أودعت ... ومراثي من مرشد بعد مرشد
وريحانهم ريحانها سمحت وكم ... تنفس مع التجويف، والظاهر الردي
وفي عودها الجاوي الذكي الرطب جمرت ... بجاويهم مسعود فضل معود
وفي عمركم عمر قلب منور ... وتعمير وقت بالتقى والتعبد
وحسن اجتماع كان في مسجد العطا ... لأخوان صدق كم بذلك مسعد
بعصريه يمن السعادات مقبل ... وعيش صفا من غير نغص منكد
وكم بأبي الخطاب خطب، وفي وكم ... ظهور اعوجاج بالعواجي مسدد
وكم بالذهبي أذهبت من مصائب ... وعلياؤه قدمت بالذكر مبتدي
وسفيان لما أن سقته سلافها ... له قلدت حيفاً سطا رق معتد
حسام لذي ظلم ربيع لمجدب ... شفاء لضر بدر داج لمهتد
وللعائدي كم عودت من وصالها ... وأسرارها أكرم بذا من معود
وفي البركاني الليث نسل مبارك ... بدت بركات تلك لا بمولد
تربي بلا شيخ مرب كبقلة ... لدى رملة تسقى بماء التفرد
بهذا مجيب حين ناقشه فتى ... مربي بشيخ بعد طول تعبد(4/256)
وموسى اجتلى لما سما للعلى سما ... لبيض المعالي والمعارف خرد
وأمسى ببخل المرعب من كان منكراً ... من الضد وإلا عدا محباً ومفند
وممن كذا كان الولي محمد ... دليل الطريق العارف السيد الهدى
ثوى مرشداً في ذي السفال لسالك ... طريق الهدى أكرم هناك بمرشد
وغنت لنجل جعد جعد ذوائب ... وبيض مفان كم بها من مسود
وفدته في الهيجا لدى أخذناه ... يرمي به تمريق قرن ممجد
ورقت أبا عيسى الفتى الليث قرنه ... لدى ضربة رجلي فتى منه مقعد
فيا عجباً من رقها وعتاقها ... لضدين حقاً لاتفاق التودد
رمى ذاك ذا في أسهم مرقت وذا ... لرجليه رام بالحسام المهند
ولا قود في ذا ولا أرش واجب ... ولا إثم لاحق بدنيا ولا غد
ومع ذاك كل منهما كان قاصداً ... إلى قرنه لا عن خطا بل تعمد
ولا صائب لو قيل لا بد واحد ... مع العمد في هذاك والعلم معند
فما قط في حكم الولاية قاطع ... سلاح ذوي العدوان بل سيف مهند
على مثل سيف من طريق استقامة ... إلى الله بالله استقام فتى هدي
فهل من جواب أيها الساعة فلا ... أفيدوا وإلا فاسألوا للتفود
كذا سالم سامي العلى سلمت له ... لواء الولاء في الرباط بمسجد
فأمسى به بدر أمضينا كسارى ... على النار ذانو ربه الركب يهتدي
مائة علم مع مقام ولاية ... وبعد عن الدنيا وكثر تعبد
ومن بعده أيضاً بدور منيرة ... هناك أقاموا سيداً بعد سيد
وأدركت منهم سيداً لي مؤاخياً ... كسيف به من هيبة كم مشرد
وأعني أبا الخطاب كرم بماجد ... وإلى حسيب الجانبين مسود
فتى طرفاه معلمان كلاهما ... أصيل كلا الأصلين مولى ممجد
أصلة دين ذي علا وولاية ... لها في ذرى العلياء منزل سؤدد
وكرم بضرغامين بدري دجنة ... وبحري علوم من ركوع وسجد
كرامات كلٍ منهما عظمت علي ... وأعني أبا عباد مولى ومعبد
كبيرا بن مشهورين نسلي أكابر ... رؤوس الملا من كل فحلو مولده
سلام على الغر الكرام أولى العلى ... غياث البرايا مرشدي كل مقتد(4/257)
قلت: فهؤلاء الثلاثة والستون المذكورون في القصيدة المذكورة لهم كرامات، يطول ذكرها، بل يتعذر حصرها. وها أنا أشير إلى شيء يسير من غرائب ما اشتهر من كرامات بعضهم من غير التزام ترتيبهم المتقدم.
فمنهم في عدن الشيخ الكبير جوهر، وكان عبداً عتيقاً أمياً متسبباً في السوق، يحضر عند الفقراء محبة لهم وحسن اعتقاد فيهم فحضرت وفاة الشيخ، الجليل، العارف بالله، الحفيل في النور، والبرهان المكنى أبا حمران، قالوا له: يا سيدي من يكون الشيخ بعدك؟ قال: الذي يقع على رأسه الطائر الأخضر في اليوم الثالث من موتي هو الشيخ، فلما كان اليوم الثالث اجتمع الخلق من الفقهاء والفقراء، والعوام في مسجده، وقعدوا ينتظرون ما يكون من الوعد الكريم. الواقع بتقدير العزيز العليم. وفيهم المصدق بذلك والمكذب، والمتشكك، وإذا بالطائر الموصوف قد طار ووقع في طاقة المسجد فعند ذلك تشرف للمشيخة كبار أصحاب الشيخ والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، فطار ذلك الطائر، ووقع على رأس جوهر المذكور، فقام إليه الفقراء ليزفوه، ويضعوه في منصب المشيخة، فبكى وقال أين أنا من هذا وأنا لا أصلح به بل جاهل لا أعرف الطريق فقالوا له: ما أقامك الحق في هذا إلا ويعلمك، ويوليك التوكيل فقال: وإن كان لا بد فامهلوني ثلاثة أيام لتبرأ ذمتي برد الحقوق التي علي للناس، والتخلص منهم، فأمهلوه، ثم بعد الثلاث جلس في مرتبة المشيخة، فكان كاسمه جوهراً معهما موقراً، فقدم بعض المشائخ إلى بعض البلاد التي بقرب عدن، فزاره المشائخ، ولم يزره الشيخ جوهر المذكور، فكتب إليه ذلك الشيخ كتاباً يشتمه فيه ويحتقره، فلما صلى الشيخ جوهر الصبح قال لأصحابه قبل أن يأتيه الكتاب: لا يخرج منكم أحد من المسجد، فقعدوا ينتظرون ما يحدث، لماذا بالرسول قد دخل ومعه الكتاب، فدفعه إلى الشيخ جوهر، فناوله الشيخ بعض الفقراء، وقال له: اقرأه علينا فلما فتحه وجد فيه ما يستحيي أن يذكره، فسكت، فقال له الشيخ: لم لا تقرأ فكره أن يقرأه، فقال له الشيخ: اقرأ هو فيك أو في، فقرأ، وكلما ذكر طعنا قال الشيخ: صدق إنما كما يقول، وهو يبكي، فلما فرغ من القراءة قال الشيخ: كتب جوابه، فقال: يا سيدي ما كتب. قال: كتب:
إذا سعدوا أحبابنا وشقينا ... صبرنا على حكم القضا ورضينا
ثم ناوله الرسول، فرجع به إلى الشيخ فلما وقف على هذا الجواب المذكور استغفر الله تعالى، وتاب وتهيأ للاجتماع معه والأمور، ورحل من بلاده إلى الشيخ جوهر، فلما اجتمع به كشف رأسه، واستغفروا لي ذلك أشرت بهذا البيت:
وقد طار أخضر طائر كان شاهداً ... بتقديم نصب عن إشارة كامل(4/258)
ومنهم شيخه الشيخ الكبير أبو حمران المذكور، ومنهم شيخنا وبركتنا، الشيخ الكبير مسعود الجاوي، وهو أول من ألبسني الخرقة بإشارة وقعت له، وكان ممن لقي شيخ زمانه الفقيه الإمام إسماعيل بن محمد الحضرمي، وحضرنا معه عند قبر بعض الصالحين، ففهمت منه أنه كلمه من قبره.
ومنهم في الحج بفتح اللام، وسكون الحاء المهملة والجيم، الشيخ الكبير الولي الشهير سفيان الحصري بفتح الحاء والصاد المهملتين، وإليه أشرت بقولي: وسفيانهم سيف القضاضنغم الوغا مشيراً إلى وقائع وقعت له في ضمنها كرامات له، وكثرت وشاعت واشتهرت.
منها قتله لليهودي الذي ولاه السلطان، ويمشي في خدمته تحت ركابه المسلمون أينما كان، وعجز الأمير وعسكر عند قتله عن الوصول إلى قاتله سفيان المذكور بسوء، وعن دخولهم إلى المسجد عليه فضلاً عن ايصالهم سوءاً إليه، وقد أوضحت هذه القضية، وكفيتها في كتاب روض الرياحين وغيره، وحنفتها هنا لطولها، وكان بالعلم مشتغلاً فقيل له في حال حال ورد عليه: إذا أردتنا فاترك القولين والوجهين.
وذكره الشيخ صفي الدين في رسالته، وأثنى عليه، وكان قد قتل بعضهم بالحال الشديد، وبعضهم بالضرب بالحديد، واليه أشرت بقولي في بعض القصائد:
وكم قد سقت سر سلافها ... فهام وخلي للأقارب والخل
وكم سطوة أولى الولاة من البلا ... يحد بحال أو حديد وكم قتل
ولم تغنهم أجنادهم عند قتله ... ومن ذلك ذبح لليهودي الذي ولي
ويمشي أولو الإسلام تحت ركابه ... له مجلس مع ذاك من فوقه علي
فحا بعد فبح للتقرب مسجداً ... فصلي وبالنيران قربانه مصلي
فأرسل إذ ذاك الأمير جماعة ... ليأتوا به سحباً على الرأس لا للرجل
فلم يدر أن الملك ملك غريمه ... له لا نجي لو جاء بالخل والرجل
فرامت دخول المسجد الرسل نحوه ... فلم يقدروا من بعد حرص على الدخل
فما راكباً في موكب وهو جاهل ... بموكب عز ليس يجمع بالطبل
وحامل رايات العلى من جماعة ... ليوث العلى لا يخلط لجد بالهزل
فرام به كبلاً وقتلاً بزعمه ... فما استطاع دخل الباب فضلاً عن الكبل
فكاتب سلطاناً، فقال، سلامة ... رضينا فقد من قبل ذا سامني عزلي
رجال إذا ما قام لله واحد ... بحرب البرايا فهو عال على الكل(4/259)
ومنهم في مسجد الرباط الشيخ العلي المقام، الحبر الإمام، ذو الفضائل والمكارم، المعروف بالفقيه سالم من أصحاب الشيخ فقيه أهل عواجة، إليه أشرت بقولي:
وتاج المعالي سالم في رباطهم ... جزيل العطا مع ساعة وأفاضل
أعني جماعة من السادة معه في المسجد المذكور على ساحل على البحر.
وله ولد من السادات الكبار العارفين بالله، مطالع الأنوار، لما ولد رأى بعض أصحاب والده في الليل عمود نور متصلاً من بيته إلى السماء، فمنا من البيت لينظر ما سبب ذلك، ولم يكن لعلم بولادته، فسمع قائلاً يقول: يهنيكم الولد المبارك أما السر فسر أبيه، وأما السيرة فسيرة جده.
ومما وقع لوالد المذكور محمد بن سالم بن غرائب الآيات، وعجائب الكرامات في ضمن الفعل الذي هو في الظاهر مستقبح، وفي الباطن مستملح، وذلك ما شاع في بلادهم عند الفقراء المباركين.
وأخبرني به غير واحد من الصالحين أنه جاء إنسان من العرب إلى الشيخ الفقيه محمد بن سالم المذكور، وذكر له أنه كان له زوجة جميلة يحبها، فوقع بينه وبينها مخاصمة ومغاضبة وطلقها، وبانت منه بدون الثلاث، ثم ندم ندماً شديداً، وطلب أن ترجع إليه بنكاح جديد فامتنع أهلها، وكانوا من عرب تلك البلاد، فدخل عليهم، وألح في ذلك، فلم يقبلوا، ثم كلمه أن يرسل إليهم ويستحضرهم عنده، ويتكلم معهم، ويشفع له في أن يزوجوها منه فقال: يكون خيراً إن شاء الله تعالى، فطمع في قضاء حاجته لعلمه أنهم لا يخالفون الشيخ المذكور، فلما كان بعد يومين أو ثلاثة أبصر مملوكه زوجته تمشي بين بيوت المكان الذي الشيخ نازل فيه، ففرح بذلك فرحاً شديداً ظناً منه أنها جاءت مع سيدتها وأوليائها باستحضار الشيخ لهم بسببه، فسألها ما جاء بك إلى هنا. فذكرت له أنها جاءت مع سيدتها، وأن الشيخ المذكور تزوجها، فلما سمع منها ذلك طار عقله، وازداد كرباً على كرب، ثم قصد الشيخ الكبير الولي الشهير أحمد بن الجعد قدس الله روحه - إلى القرية التي هو فيها فشكا إليه ذلك، فاستعظم الشيخ أحمد ما وقع من الشيخ محمد واستقبحه، واشتد إنكاره عليه فيه، فجمع جمعاً كثيراً من الفقراء، وقصده مطالباً له بالإنصاف، وهو تلميذ والده سالم المذكور، فلما وصل إلى موضعه أقام أياماً في المسجد هو ومن معه من الفقراء، والشيخ محمد يصلي بالناس فيه، ويخرج لا يكلم بعضهم بعضاً، ثم فاتحه الشيخ محمد بالكلام، وقال له: ارفع رأسك، وانظر في اللوح المحفوظ تبصر فيه أولادي فلاناً وفلاناً وفلانة وعددهم وأسماهم من المرأة المذكورة فرفع الشيخ أحمد رأسه، فرأى ذلك،(4/260)
فقام واستغفر الله عز وجل، وقام منصفاً بعدما جاء مطالباً مستنصفاً رضي الله تعالى الجميع، ونفعنا بهم.
ومنهم الشيخ الكبير المشهور أحمد بن الجعد المذكور في تلك الناحية سكن الطرية بالطاء المهملة، والراء والمثناة من تحت مشددة، قرية معروفة هنالك وهو القائل في قصيدة:
كافل للأنام بالشد مني ... من رآني، ومن رأى من آني
وقال في أخرى:
قد كان ذلك في الزجاجة باقياً ... وأنا الوحيد شربت ذاك الباقي
ومنهم في حضرموت الشيوخ الكبار المذكورون أولو الأنوار والأسرار المكنون عباد، وأبا معبد، وأبا عيسى.
من عجائب الآيات، وغرائب الكرامات، ما وقع بين الشيخين العارفين، السيفين القاطعين أعني أبا عيسى، واسمه سعيد وأحمد بن أبي الجعد المذكورين، وذلك أنه الشيخ أحمد المذكور في جمع من أصحابه على الشيح سعيد في وقت جاؤوا إلى زيارة بعض القبور الشريفة في حضرموت، فوافقه الشيخ سعيد وأصحابه على الزيارة ومشوا، فلما بلغوا بعض الطريق بد للشيخ سعيد أن يرجع في هذا الوقت، ويزور في وقت آخر، فرجع وأصحابه إلى موضعهم، واستمر الشيخ أحمد على عزمه حتى انتهى إلى مقصده، فزار ورجع، والشيخ سعيد مكث أياماً، ثم خرج هو وأصحابه إلى الزيارة المذكورة، فالتقى الشيخان وأصحابهما في الطريق، فقال الشيخ أحمد للشيخ سعيد: توجه عليك حق الفقراء في رجوعك، فقال: لا ما توجه علي حق، فقال له الشيخ أحمد بلى قد توجه عليك الحق، فقم وانصف، فقام الشيخ سعيد، وقال: من أقامنا أقعدناه، فقال الشيخ أحمد: ومن أقعدنا ابتليناه، وأصاب كل واحد منهما ما قاله صاحبه، فصار الشيخ أحمد مقعداً إلى أن لقي تعالى، وصار الشيخ سعيد مبتلى في جسمه ببلاء قطع جسمه حتى لقي الله تعالى رضي تعالى عنهما.
وهذه لعمري أحوال تكمل في جنب بعضها السيوف القماطية، وإنما يقطع الحالان معاً إذا كان صاحباهما متكافيين أو قريباً من التكافي فإن لم يكونا كذلك قطع القوي منهما الضعيف، وقد يقطع السابق دون المسبوق فيما يظهر، والله أعلم.
وإلى ما جرى لهما في هذه القضية مع ما لكل واحد منهما من الفضائل العديدة أشرت(4/261)
بقولي في قصيدة:
وعنت لنحل الجعد جعد ذوائب ... وبيض معال كم بها من مسود
وفدته في الهيجا لدي أخذ ثأره ... ويرمي به تمزيق قرن ممجد
ورقت أبا عيسى الفتى الليث قربه ... لدى ضربه رجلي فتى منه مقعد
فيا عجباً من رقها وعتاقها ... لضدين حقاً لاتفاق التودد
رمى ذاك هذا في أسهم مزقت وذا ... لرجليه رام بالحسام المهند
ولا قود في ذا ولا أرش واجب ... ولا إثم لاحق بدنيا ولا غد
ومع ذاك كل منهما كان قاصداً ... إلى قرنه لا عن خطابل تعمد
ولا صائب لو قيل لا بد واحد ... مع العمد في هذاك والعلم معتد
فما قط في حكم الولاية قاطع ... سلاح ذوي العدوان بل سيف مهند
على مثل سيف من طريق استقامة ... إلى الله بالله استقام فتى هدي
فهل من جواب أيها السادة الملا ... أفيدوا هالا فاسألوا للنفود
والجواب في ذلك، والله أعلم أنه يحتمل وجهين.
أحدهما أن يكون المولى تبارك وتعالى أذن لكل واحد منهما أن يؤدب الآخر بإشارة مفهومة عند ذوي الأحوال والمقامات العوالي ابتلاء منه بعد كما لو أمر بعض المخلوقين كل واحد من عبدين له أن يؤدب الآخر، كما جرى لبني إسرائيل في قتل بعضهم بعضاً حين أمروا بذلك.
والثاني أن يكون كل واحد منهما مفوضاً في الحكم، مصرفاً في المملكة كما ذلك واقع لكثير منهم مشهور عنهم يولي كل منهما، ويعزل ويقطع ويصل غادي اجتهاد كل واحد منهما أن صاحبه مخطئ يستحق التأديب، وأنه فيما فعله فيه مصيب هذا ما ظهر لي من الجواب، والله أعلم بالصواب، وإلى ذلك أشرت في بعض القصائد بقولي:
رماه وضراب ببيض حد يدها ... من الصدق والإخلاص في القول والفعل
كمثل الفتى ابن الجعد بالثأر أخذ ... يرمي فتى منهم له ضارب الرجل
فذا مقعد بالسيف في طول دهره ... وذاك جميع الدهر يشكو من النبل
وإليهما أيضاً أشرت في قصيدتي الأخرى، وهي باهية المحيا المتقدم ذكرها.
وكرم بضرغامين قدما تضارباً ... بسيفين كل منهما غيرنا كل
حميد الثنا ابن الجعد أعني وماجداً ... يكنى أبا عيسى وليس بخامل(4/262)
ومن غرائب كرامات ابن الجعد المذكور أيضاً، وكرامات شيخه الشيخ سالم المتقدم ذكره أنه استأذنه في زيارة الكثيب الأبيض، وهو كثيب يزوره أهل تلك البلاد وما حولها من البلدان في كل سنة في وقت معلوم في رجب، وكان استئذان ابن الجعد لشيخه في زيارته في غير الوقت المذكور، فلم يأذن له، وقال: أخشى أن تسيء الأدب هنالك، ويقال في ذلك المكان قبور بعض الصالحين، فخالف أبي الجعد شيخه، ومشى إلى الكثيب المذكور، فبات عليه، ورأى بعض الصالحين فيه يصلي، فلم يكلمه حتى صلى الصبح، فصلى معه مقتدياً به، فلما سلما مكث كل واحد منهما في مكانه، ثم رنق ذلك الشيخ، فانتظره ابن الجعد للسلام عليه، حتى ارتفعت الشمس، فلم يرفع رأسه، وهو لا يرى إلا دلقه، فمد يده، وحرك الدلق، فلم يجد فيه أحداً فلبسه ونزل به إلى أسفل الكثيب راجعاً إلى مكان شيخه، فوجد ديناراً، ثم صار في أول كل يوم يجد ديناراً ينفق ذلك على الفقراء أين ما كان، فبقي على ذلك سنة، ثم قال له شيخه: سافر للحج ورد الوديعة إلى صاحبها يعني بها ذلك الدلق، وقال له: ما قلت لك أني أخاف عليك أن تسيء الأدب في زيارة الكثيب، فخرج إلى الحج، فلما كان يوم الوقوف بعرفة ظهر له صاحب الدلق، وقال: هات الأمانة مع بقاء أجر ما تجده كل يوم عليك إلى أن ترجع إلى بلادك، فلم يزل يجد كل يوم ديناراً ينفقه على الفقراء إلى أن رجع إلى بلاده.
ومن كرامات الحضرميين الآخرين أعني أبا عباد، وأبا معبد أن الأول منهما أعني أبا عباد رأى بعضهم نهراً يجري من عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى زاويته في بلاد حضرموت، وفسر ذلك بأنه مدد منه صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ظاهر من حاله، فإنه ما زال من زمانه إلى الآن زاويته عامرة بتلاوة القرآن والإذكار والرزق عليهم من فضل الله تعالى مدراراً.
ومن كرامات الثاني أعني أبا معبد أنه كان ينزل في البرية، فيتفجر أنهاراً، فينتقل إليها الناس، ويغرسون فيها، ويزرعون، فإذا بهجت بالبساتين، واختلط أبناء الدنيا بالمساكين، وسارت بالخضرة والزينة زاهرة. انتقل إلى برية مجدبة دامرة، فإذا سكنها صار هو وأصحابه يسبحون الله تعالى ويذكرون، فانفجرت فيها بقدرة الله تعالى عز وجل العيون، ثم كذلك إذا صارت كما تقدم يهرب منها إلى محل المحل والعدم، وكانت الدنيا تطلبه، وهو يهرب منها، ثم استقر بعد حيث شاء الله تعالى، ولم يمل عنها.(4/263)
ومنهم في الحصى بفتح الحاء وكسر الصاد المهملتين، الشيخ الكبير الولي الشهير المعروف بالرعب بكسر الراء، وسكون العين المهملة، وبموحدة وهو الذي قطع بعض الرافضة لسانه لمدحه أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، فرأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام رد لسانه إلى موضعه، فانتبه وقد عاد لسانه إليه صحيحاً في قصة يطول ذكرها، وقعت للشيخ عمر المذكور وذلك في اليمن والحجاز مستفيض مشهور.
ومما روى لولده موسى أنه بنى مسجداً، فلما أخذ الصناع في تسقيفه قصر بعض الخشب عن بلوغ الجدار، فلما رأى ذلك قال لهم: اقعدوا تغدوا، فلما فرغوا من الغداء رجعوا إلى التسقيف، فوجدوا تلك الخشبة قد طالت، ووصلت إلى موضعها من الجدار. ومنهم في خنفر بالخاء المعجمة والنون والفاء والراء، الشيخ المشهور الولي المشكور محمد بن مبارك البركاني.
ومما بلغني من كراماته أنه سافر جماعة من أصحابه مع قافلة، فنهبت تلك القافلة، فنهب أصحابه، معهم، فرجعوا إليه، فقال: ما خبركم؟ فقالوا: نهبنا قال: فما عرفوكم. قالوا: بلى، ولكن أنتم يا فقراء نتبارك بكم، فقال: أنا ابن مبارك كم من يظن أنه أخذنا، ونحن أخذناه، ثم رنت ساعة، وإذا بالحرامية قد جاؤوا، وردوا متاع الفقراء.
ومنهم في موزع بفتح الميم والزاي، وسكون الواو في آخره عين مهملة، الفقيه الكبير الولي الشهير، وافر العطاء والنصيب عبد الله بن أبي بكر الخطيب المشار إليه في بعض قصائدي بقولي أحسن الله أحوالي مشيراً إلى العناية:
وكم خطبت لابن الخطيب وخاطبت ... وكم كشفت خطباً وأولته من فضل؟
وولته ملكاً نافذاً فيه حكمه ... وبالحلة الحسنا الرضية قد حلي
شيخ شخينا الشيخ مسعود الجاوي، وغيره من الشيوخ.
ومن غرائب كرامات الشيخ عبد الله ابن الخطيب المذكور أنه كان في شبابه مجاوراً في المدينة الشريفة، وكان إذا حصلت له فاقة يذهب إلى السوق، ويقترض من إنسان يبيع الهريسة ما يسد به، فاقته، فإذا اجتمع له عليه دين يقول له ذلك المهرس: قد جاءني رسولك بالدراهم التي عليك، ولم يزل هكذا يقترض، ويقضي الله تعالى عنه على يد شخص من رجال الغيب ذكر الشيخ المذكور أن ذلك الشخص هو الخضر عليه السلام، وعلى سائر(4/264)
المصطفين الكرام.
ومنهم في جبال اليمن الشيخ الكبير الشأن أحمد بن علوان القائل:
جزت الصفوف إلى الحروف إلى الهجا ... حتى انتهيت مراتب الإبداع
لا باسم ليلى أستعين على السرى ... كلا ولا لبني ترد شراعي
ومن كراماته أن ذرية الفقهاء الذين كانوا ينكرون عليه صاروا يلوذون عند النوائب بقبره، ويستجيرون من خوف السلطان به، وإلى ذلك، وبعض مناقبه الحميدة أشرت في القصيدة:
وكم لابن علوان على الدهر من علا ... فتى برداً مجد المعارف مرتدي
ولي على الأيام يعلو بمنصب ... إلى فوق علياء المفاخر مصعد
وأعداؤه تهوى مناصبهم إلى ... ترى أرضهم من متهميها ومنجد
فما زال في جيش من النصر مسعد ... له تحت رايات العناية منجد
إلى أن لهم أمسى ملاذ أو ملجأ ... وحصناً لذي طعن وللهجو منشد
ومنهم في زبيد الشيح الكبير العارف، ذو الكرامات والمعارف، المشهور بالولاية، والكرامات الخارجات عن حصر التعداد أبو العباس أحمد بن أبي الخير المعروف بالصياد وإليه الإشارة بقولي: وصيادهم سامي العلا والفضائل، وأشرت إليه أيضاً في غزل القصيدة المذكورة. بقولي مشيراً إلى محاسنه وتقدم زمانه:
كحسناء زهت قدماً بعالي جمالها ... سبت كم فتى صادت بنصب حبائل
وكان أمياً، فحصل له من فضل الله تعالى ما اعترف به العلماء، وتأدب له به الأولياء، وهو من قدماء شيوخ اليمن. أدرك زمن ولاية الحبشة بها.
ومن عجائب كراماته أنه كان في وقت في مسجد الفازة على ساحل زبيد، وعنده شخص من تلامذته، فدخل عليه بعض الناس، وقال له: هذا تلميذك يا صياد، فسكت، فقال لصاحبه: هذا شيخك. قال: نعم، فقال: إن كان لك تلميذاً يا صياد، فمره فليمش على الماء، وليأتنا بحجر من الجبل الفلاني، وهو في موضع تصل إليه السفن في نصف يوم، فغضب الصياد، وقال لتلميذه: اذهب، فامش على البحر مسرعاً وآتنا بحجر من الجبل المذكور، فذهب المريد إلى البحر، ومشى عليه مسرعاً كأنه يجري على الأرض، فلحقه المنكر جارياً على الساحل، وسأله أن يرجع، فلم يرجع، فاستغفر الله تعالى إلى الشيخ، وسأله وتضرع إليه طالباً العفو، ورجوع التلميذ فناداه الشيخ أن أرجع فرجع.(4/265)
ومنهم في التريبة بضم المثناة من فوق، وفتح الراء والموحدة بينهما مثناة من تحت ساكنة، الشيخ الكبير الولي الشهير، ذو المقامات الفاضلة، والكرامات الهائلة، الشيخ عيسى المعروف بالهتار بكسر الهاء وقبل الألف مثناة من فوق وبعدها راء.
ومن كراماته العظيمة انقلاب الخمر سمناً في قصة طويلة مختصرها أنه تابت على يده بعض المعروفات بالفساد، فزوجها من بعض الفقراء، وقال: اعملوا الوليمة عصيدة، ولا تشتروا لها أدماً، ففعلوا ذلك، وأحضروها، فذهب إنسان إلى أمير كان رفيقاً لتلك المرأة، فأعلمه بتوبتها وزواجها وحديث الوليمة، فما هان عليه، وما قدر يفعل شيئاً غير أنه أراد مكراً ليفضح به الفقراء، ويستهزأ بهم، وهو أنه أعطاه قارورتين مملوءتين خمراً، وقال: اذهب به إلى الشيخ، وقل له: يسرني ما بلغني عنكم، وسمعت أن الوليمة ما لها آدام، فخذوا هذا تأدموا به، فلما جاء رسوله بهما وجد الشيخ عيسى قاعداً منتظراً ما يأتي، فقال له: أبطأت يا بارد، ثم تناول أحدهما فصب ما فيها على العصيدة، ثم كذلك الأخرى، ثم قال: للرسول: اجلس وكل، فجلس وأكل، فذاق سمناً لم يذق مثله، فتحير عقله. ثم رجع إلى الأمير، فأخبره بذلك، فجاء وكل معهم، ورأى من انقلاب الخمر ما أدهش عقله، فتاب أيضاً.
ومنهم في ذوال بفتح الذال المعجمة، السيد الجليل العلي المقام، الفقيه العلامة زين الزمن، وبركة اليمن، ذو المناقب والمجد الأثيل أحمد بن موسى المعروف بابن عجيل، وإليه أشرت بقولي: وزينهم ابن العجيل شهيرهم، وأشرت إليه أيضاً في الغزل بقولي:
وكم في ذوال من ملاح ذوائب ... إذا بت قلوباً للنفوس الذوابل
كذات البها الحسنا عجيلة زهت ... بها سارت الركبان من كل راحل
ومن عظيم كراماته، وحميد سيرته ما تقدم في ترجمته: ومنهم في عواجة السيدان الكبيران، الوليان الشهيران، مطلعا الأنوار، وخزانتا الأسرار، ذو الفضائل العظمات، والكرامات الكريمات، الشيخ محمد بن أبي بكر الحكمي، والشيخ الفقيه محمد بن الحسين البجلي.
ومن غرائب الكرامات المذكورات عنهما أنه أتى بدوي إلى البجلي منهما، فقال له:(4/266)
إنه سرق لي ثور، فخاطرك سعى في رجوعه إلي فقال له: أتريد أن يرجع ثورك قال: نعم قال: اذهب إلى المكان الفلاني نجد فيه شيخاً فألزمه، فعنده ثورك، فذهب إلى المكان الذي ذكر، فوجد فيه الشيخ الحكمي، فقال له: يا شيخ رد علي ثوري، فقال: من قال لك هذا محمد بن حسين؟ قال: رد علي ثوري، وخل عنك هفا الكلام، قال: وما صفة ثورك؟ قال: تسرق ثوري وما تعرف صفته: فضحك الشيخ، وقال له: اذهب إلى الشعب الفلاني في الجبل الفلاني تجد ثورك مربوطاً في شجرة، فحله وخذه، فذهب إلى الشعب المذكور، فوجد الثور مربوطاً كما ذكر فحله، وذهب به مسروراً، وجاء السارق، فلم يجده، فرجع محزوناً ومحسوراً، ورجع كل من الشيخين الدالين له مأجوراً ومبروراً.
ومنهم في شجينة بضم الشين المعجمة وفتح الجيم وسكون المثناة من تحت، وفتح النون الإمام الوليان الشهيران علي بن إبراهيم، وابنه إبراهيم الساكنان في شجينة، وفي عواجة مقبوران.
ومما حدثت من كرامات علي المذكور أن بعض الناس أودع عند امرأة وديعة سافر، فهلكت المرأة، ولم يعلم أين تركت الوديعة، فجاء صاحبها يطلبها، فلم يجد من يعلمه بمكانها، فذكر ذلك للفقيه علي المذكور، فقال: أرني قبرها، فلما وقف عليه خلابه ساعة، ثم استدعى بابن الهالكة، وقال له: هل في بيتكم شجرة حناء؟ قال: نعم، قال احفروا تحت أصلها، فالوديعة هنالك، فحفروا فوجدوها كما ذكر.
ومن كرامات ابنه ما أخبرني بعض أهل العلم أنه زار مع أبيه مساجد الفتح غربي المدينة الشريفة، فنبحهم كلب، فبصق عليه الابن المذكور، فمات الكلب، والتفت إليه أبوه، ولامه على ذلك.
ومنهم في الضحى بفتح الضاد المعجمة، وكسر الحاء المهملة الإمام الكبير الولي الشهير إسماعيل ابن السيد الجليل، الفقيه المحدث، الولي الوجيه محمد بن إسماعيل الحضرمي، وقد تقدم ذكر شيء من كراماته في ترجمته، وإليه الإشارة بقولي في غزل أخرى:
وخود في الضحى أضحت بحسن ... زها تختال فاقت للغواني
ومنهم في بيت عطا بحر الحقائق الذي سارت بفضله الركبان في المغارب والمشارق، الشيخ الجليل أبو الغيث بن جميل، وقد تقدم ذكر شيء من كريم مناقبه، وعظيم مواهبه وإليه الإشارة بقولي:
بيبت عطار عيطبول خربدة ... بجانبه في سابقات المحامل(4/267)
ومنهم في حلي ابن يعقوب شيخنا وبركتنا، الشيخ الكبير، صاحب القلب المنير نور الدين علي المعروف بالطواشي، وقد تقدم ذكر شيء من فضائله وكراماته ومحاسنه وبركاته، واليه الإشارة بقولي:
سقى الله أياماً خلت بعدما حلت ... ومرت فمرت بعد ذاك التواصل
وأيام وصل واجتماع به الهنا ... وعيش صفا لي بالحبيب المواصل
يحيى به حلي ابن يعقوب زاهراً ... لسلمى به باهي خيام منازل
فهؤلاء نيف وعشرون من بين الجمع الغفير أشرت من كراماتهم إلى شيء يسير في هذا التاريخ الذي على الخمسين بعد السبع مائة انتهاؤه، والحمد لله الذي بحمده وبذكره ختم الكلام وابتداؤه، وأفضل صلواته على أشرف المرسلين المختوم به أنبياؤه، وعلى آله السادة الكرام وأصحابه الذين هم نجوم الهدى الباهج بهاؤه، وسقم عليه وعليهم أجمعين، وعلى جميع النبيين والمرسلين، وآل كل والملائكة المقربين، وسائر عباد الله المخلصين.
تناهى تاريخي الذي انتقيت معظمه من تاريخ الذهبي وابن خلكان حاذفاًً التطويل الممل للإنسان وما يكره ذكره للمتدين، وهو الخلاعة والمجون المستقبحان، فجاء متوسطاً بين الاختصار والإطناب، كما أشرت إليه في خطبة الكتاب، ونسأل الله الكريم، بالآيات والذكر الحكيم، وبرسوله عليه أفضل الصلاة والتسليم، أن تجمع بيننا وبين أحبابنا في جنات النعيم، إنه الجواد المنان. ذو الفضل العظيم. آمين آمين آمين يا رب العالمين.
تم الكتاب الموسوم بمرآة الجنان وعبرة اليقظان في حوادث الزمان، وتقلب أحوال الإنسان، وتاريخ موت بعض المشهورين الأعيان، للإمام اليافعي - قدس الله تعالى أسراره - والحمد لله الذي بتيسيره نجاح الأمور وبنوره انشراح الصدور، وبتقديره تقلب الدهور.
وسبحانك اللهم رباً مقدساً ... لك الدهر كل الكائنات تسبح
بحمدك أشهد لا إله سواك قط ... تعاليت بل أنت الإله المسبح
وغفرانك اللهم تب ومجالسي ... فكفر كما جاء الحديث المصحح
عن الصادق المختار صل مسلماً ... على روحه ما غرد المترنح
ولله ربي الحمد قبلاً وآخراً ... به يختم القول الحميد ويفتح
من نظم المصنف، الشيخ العارف بالله، عفيف الدين عبد الله بن أسعد اليافعي نفع الله تعالى به آمين.(4/268)
بسم الله الرحمن الرحيم
يا خير داعٍ دعا في خيرة الأمم
يا سيد العرب العرباء قاطبة
إني بجاهك أدعو الله متثقاً
بصاحبيك أبي بكر وصاحبه
بحق صهريك عثمان وحيدرة
أئمة الحق يالله أربعة
بحق سبطيك من قد شاع فضلهما
بطلحة بزبير بابن عوفهم
بابن زيد بعباس بحمزتهم
بجعفر ببنية بل بباقرهم
بالكاظمي بالرضا بالقاطمي فلهم
واستشفع الله بالهادي وعترته
بآدم ثم شيث ثم نوحهم
بحق عيسى بيحيى بل بوراثهم
بفتية الكهف بالكهف الذي نزلوا
بمريم ابنة عمران بآسية
بعائش ثم أزواج النبي ومن
واذكر نفيسة واستشفع برابعة
ببيت لحم ببيت القدس بل بقبا
بمكة بل ببطحاها بغار حرا
بالحجر بالحجر الأسود ثم بمن
بموقف الناس يوم الحج بل بهم
بليلة القدر مع شهر الصيام
وبالضحى مع تزاويح فضلهما
بحق صبح وظهر ثم عصرهما
بحق عرش وأملاك ثمانية
بجبريل وميكال وثالثهم
بحق فرقان الذكر الحكيم وبالسبع
بنافع بأبي عمر وبحمزتهم(4/269)
بحق فضل الكسائي بابن عامرهم
بالشافعي بنعمان لمالكهم
بالتابعين فلا تمهل أويس فما
بحق قطب وإبدال هم أملي
بالترمذي بأبي داؤد بالنسائي
بالبيهقي بأصحاب الحديث معاً
بابن دينار بالبصري بفرقدهم
أبي يزيد بمعروف بعتبتهم
وبالسرى ببشر بابن أدهمهم
بحق نساجهم والخشبي وبا
بحق سهل بسهل بابن خضرويه
بحق ذي النون بالدقاق إن لهم
بابن أسباط بل شاه وشيعته
ذاك الذي اعتاض في العليا بدايته
واذكر أبا الغيث والصياد أحمدهم
بابن العجيل بإسماعيل بالبجلي
بجوهر بهتار بابن يضمهم
وبالمريدين بالأشياخ في يمن
فإن في الجيلي منهم عبد قادرهم
ابن الرسول الذي ناداه مرسله
في ليلة قد رقى حجبا وارتفعا
بذي عقيب وما فيها وفي جند
بالزيلعي بفيروز بأحمدهم
بابن المسن بسفيان بسالمهم
بحرمة العارف ابن الرعب زاهدهم
وبابنه الشيخ موسى، ثم أخوته
بواد عمد بسادات بها، وبمن
بني أبا حفص الأخيار، ثم بني
واهتف بيوسف مهما كنت منتظراً
وحضرموت بها قوم بفضلهم(4/270)
بنو أبا علوي والكرام بنوا
وعصبة في نواخي الشحر بل يبني
وفي ظفار رجال يستغاث بهم
بحق شيخي وأشياخ له. فهم
بذي سفال حماها الله من بلد
حوائجي أقضها وأقض الديون ولا
واغفر ذنوبي، وإن جلت كبائرها
وعافني وأعف للوالدين كذا
وأسبل الشتر يا ربي علي إذا
ومن نكير ومن قبر ومنكره
يسر حسابي وإن جزت الصراط فلا
إذا فتحت لأبواب الجنان خذوا
واغفر لأهلي وأولادي وما ولدوا
وواسع الفضل للجيران إن لهم
جيران بيتي وجيراني بمقبرتي
بمن ذكرت، وبالماحي وعترته
وأصل الله موصول الصلاة له
وأوصل الله أزكاها وأفضلها(4/271)