الرجيم، وذهب لا رده الله إلا إلى النار الجحيم، قتله بعض قبائل اليمن:
وكان ظهوره في الإبتداء في جبل " مسور " بكسر الميم وسكون السين المهملة وفتح الواو وفي آخره راء جبل في حراز في بلاد اليمن مشهور، وحواليه الإسماعيلية الآن متمسكون بمذهب الضلال والغرور، ويشعلون نار الحرب والشرور، ويشتغلون للقرامطة في البلدان ذكره يطول، ولم يزالوا متظاهرين بمذهب الزندقة والضلال، إلى أن ذهب مذهبهم الخبيث وزال، وبقيت الإسماعيلية الباطنية بإعتقاد مذهبهم الخبيث، يتظاهرون عندنا بالتمسك بأحكام الشرع، وعلى تعطيلها في الباطن واستباحة ما حرم الله تعالى يصرون. وكان ظهور مذهب القرامطة إحدى فتنتين عظيمتين في اليمن.
والفتنة الثانية: أن الشريف الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم، لما قام في " صعدة " ومخاليف صنعاء دعا الناس إلى التشيع عند استقراره في صنعاء، وهذه الفتنة أهون من الأولى، وكل أهل اليمن صنفان: إما مفتون بهم، وإما مخالف لهم متمسك بأحكام الشريعة.
وفي السنة المذكورة قتل بمكة الإمام أحمد بن الحسين شيخ الحنفية ببغداد، وقد ناظره مرة داود الظاهري، فقطع داود، ولكنه معتزلي الإعتقاد.
وفيها توفي الحافظ الشهيد أبو الفضل محمد بن أبي الحسين الهروي، قتل بباب الكعبة.
وفيها توفي المنجم المشهور الحاسب صاحب الزيج والأعمال العجيبة والأرصاد المتقنة محمد بن جابر الرقي البتاني " بفتح الموحدة وتشديد المثناة من فوق، وقيل ياء النسبة نون "، وأحد عصره في وقته. توفي في موضع يقال له الحضر، " بفتح الحاء المهملة وسكون الضاد المعجمة وبعدها راء "، وهي مدينة بالقرب من الموصل، وكان صاحبها الساطرون " بالسين والطاء والراء المهملات "، فحاصرها أزدشير أول ملوك الفرس، وأخذ البلد وقتله، وقيل إن الذي قتله سابور " بالسين المهملة والباء الموحدة " ذو الأكتاف، وهو الذي ذكره ابن هشام في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قالوا: والأول أصح، وكان إقامة أزدشير على حصاره أربع سنين، ولم يقدر حتى فتحت له ابنة الملك(2/205)
الساطرون، " بكسر الطاء " وسبب ذلك أنها كانت عادتهم إذا حاضت المرأة أنزلوها إلى الربض وحاضت ابنة الملك المذكور، وكانت في غاية الجمال، فأنزلوها إلى الربض، فأشرفت ذات يوم فأبصرت أزدشير من أجمل الرجال، فهوته، وأرسلت إليه أن يتزوجها وتفتح له الحصن، واشترطت عليه. فألزم لها ما طلبت، ثم اختلفوا في السبب الذي دلته عليه حتى فتح الحصن، فالذي قاله الطبري أنها دلته على طلسم في الحصن، وكان في علمهم أنه لا يفتح حتى تؤخذ حمامة زرقاء، ثم يرسل الحمامة فتنزل على سور الحصن، فيقع الطلسم، فيفتح الحصن، ففعل أزدشير ذلك، واستباح الحصن حينئذ، وخربه وأباد أهله. وسار ببنت الملك، وتزوجها. فبينا هي نائمة على فراشها ليلاً إذ جعلت تتململ لا يأخذها النوم، فقال لها زوجها: أراك لا تنامين؟ قالت: ما نمت على فراش أحسن من هذا الفراش، وأنا أحس شيئاً يؤذيني. فأمر بالفراش فأبدل، فلم تنم أيضاً حتى أصبحت وهي تشتكي جنبها، فنظر إليها فإذا ورقة آس قد لصقت ببعض عكتها، وقد عذبتها، فعجب من ذلك وقال: أهذا الذي أسهرك. قالت: نعم، قال: فما كان أبوك يصنع لك. قالت: كان يفرش لي الديباج، ويلبسني الحرير، ويطعمني المخ والزبد والشهد من أبكار النحل، ويسقيني الخمر الصافي. قال: فكان جزاء أبيك ما صنعت به؟ أنت إلي بذلك أسرع. ثم أمر بها فشدت دوائبها إلى فرسين جامحين، ثم أرسلا فقطعاها. قال بعض المؤرخين: وإنما ذكرت هذه الحكاية لكونها غريبة.
وفيها توفي مضر بن أحمد الخبزارزي. كان أمياً، وكان يخبز خبز الأرز وينشد الأشعار المقصودة على الغزل، والناس يزدحمون عليه، ويتطرفون باستماع شعره، ويتعجبون من حاله وأمره، وذكره جماعة من كبار المؤرخين، وأوردوا له عدة مقاطع من شعره، فمن ذلك قوله:
خليلي هل أبصرتما أوسمعتما ... بكرم من مولى يمشي إلى عبد
أتي زائراً من غير وعد وقال لي ... أجلك عن تعليق قلبك بالوعد
فما زال نجم الوصل بيني وبينه ... تدور بأفلاك السعادة والسعد
وحكى الخالد بأن الشاعر المشهور في كتاب الهدايا والتحف الخبزارزي المذكور، أهدى إلى والي البصرة فصاً وكتب معه:
أهديت ما لو أن أضعافه ... مطرح عندك ما بانا
كمثل بلقيس التي لم يبن ... إهداؤها عند سليمانا
هذا امتحان لك إن ترضه ... بان لنا أنك ترضانا(2/206)
والشيء بالشيء يذكره. وفي الكتاب المذكور نادرة لطيفة ظريفة، وفي ذكرها إتحاف وإظراف لسامعها، وهي أن اللبادي الشاعر خرج من بعض مدن أذربيجان يريد أخرى وتحته مهر له راتع، وكانت السنة مجدبة، فضمه الطريق وغلاماً حدثاً على حمار له، قال فحادثته فرأيته أديباً راوية للشعر، خفيف الروح، حاضر الجواب، جيد الحجة. فسرنا بقية يومنا، فأمسينا إلى خان على ظهر الطريق، وطلبت من صاحبه شيئاً تأكله، فامتنع أن يكون عنده شيء، فرفقت به إلى أن جاءني برغيفين، فأخذت واحداً، ودفعت إلى الغلام الآخر. وكان غمي على المهر أن يبيت بغير علف أعظم من غمي على نفسي، فسألت صاحب الخان عن الشعير فقال: ما أقدر منه على حبة واحدة، فقلت: فاطلب، وجعلت له جعلاً على ذلك، فمضى وجاءني بعد زمن طويل وقال: وجدت مكوكين عند رجل، وحلف بالطلاق أنه لا ينقصهما عن مائة درهم، فقلت: ما بعد يمين الطلاق كلام، فدفعت إلى خمسين درهماً، فجاءني بمكوك، فعلفته على دابتي، وجعلت أحادث الفتى، وحماره واقف بغير علف، فأطرق ملياً ثم قال: اسمع أيدك الله أبياتاً حضرت الساعة، فقلت: هاتها فأنشد:
يا سيدي، شعري نفاية شعركا ... فلذاك نظمي لا يقوم بنثركا
وقد انبسطت إليك في إنشاد ما ... هو في الحقيقة قطرة من بحركا
آنستني وبررتني وقريتني ... وجعلت أمري من مقدم أمركا
وأريد أذكر حاجة إن تقضها ... لك عند مدحك ما حييت وشكركا
أنا في ضيافتك العشية ها هنا ... فاجعل حماري في ضيافة مهركا
فضحكت واعتذرت إليه من إغفال أمر حماره، وابتعت المكوك الآخر بخمسين درهماً، ودفعته إليه.
ثمان عشرة وثلاث مائة
فيها توفي الحافظ الحجة محمد بن يحيى بن صاعد البغدادي مولى بني هاشم.
قال أبو علي النيسابوري: لم يكن بالعراق في أقران ابن صاعد أحد أجل في الفهم والحفظ من ابن صاعد، وهو فوق أبي بكر بن داود فهماً.
وفيها توفي الحافظ عبد الله بن محمد بن مسلم الأسفرايني المصنف.
وفيها توفي الحافظ أبو عروبة، الحسن بن أبي معشر محمد بن مودود السلمي(2/207)
الحراني، وهو في عشر المائة.
وفيها: وقيل في التي تليها توفي الحسن بن علي بن عوف بن العلاف النهرواني الشاعر المشهور. حدث عن أبي عمرو الدوري المقرىء، وحميد بن مسعدة المصري، ونصر بن علي الجهضمي وغيرهم، وروى عنه جماعة منهم: أبو حفص بن شاهين وغيره، وكان ينادم الإمام المعتضد بالله. وحكى قال: بت ليلة في دار المعتضد مع جماعة من ندمائه، فأتانا خادم ليلاً فقال: أمير المؤمنين يقول: أرقت الله بعد انصرافكم. فقلت:
ولما انتهينا للخيال الذي سرى ... إذ الدار قفر والمزار بعيد
قد أرتج على تمامه، فمن أجازه بما يوافق غرضي أمرت له الجائزة. قال: فأرتج على الجماعة، وكلهم شاعر فاضل، فابتدرت وقلت:
فقلت لعيني عاودي النوم واهجعي ... لعل خيالاً طارقاً سيعود
فرجع الخادم، ثم عاد فقال: أمير المؤمنين يقول: قد أحسنت، وأمر لك بجائزة.
تسع عشرة وثلاث مائة
فيها استوحش مؤنس من المقتدر والوزير، وجعل يمقت على المقتدر، ويتحكم عليه في إبعاد الناس وتقريب غيرهم، ثم خرج بأصحابه إلى الموصل معارضاً، فاستولى الوزير على حواصله، وفرح المقتدر بالوزير، وكتب اسمه على السكة. وكان مؤنس في ثمانمائة، فحارب جيش الموصل، وكانوا ثلاثين ألفاً، فهزمهم وملك الموصل في سنة عشرين. ولم يحج أحد من بغداد، وأخذ الديلمي الدينور، ففتك بأهلها، ووصل إلى بغداد من الهزم، ورفعوا المصاحف على القضيب، واستغاثوا وسبوا المقتدر، وغلقت الأسواق، وخافوا من هجوم القرامطة.
وفيها توفي الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن القرشي محدث دمشق.
وفيها توفي الكعبي شيخ المعتزلة أبو القاسم البلخي.
وفيها توفي السيد الجليل محمد بن الفضل البلخي الواعظ. قيل مات في مجلسه أربعة أنفس.(2/208)
وفيها أو قبلها توفي أبو عبد الله الزبير بن أحمد الزبيري الفقيه الشافعي المازني والزبيري نسبة إلى الزبير بن العوام كان إمام أهل البصرة في عصره ومدرسها، حافظ المذهب، مع حظ من الأدب. قدم بغداد وحدث بها عن جماعة، وروى عنه النقاش صاحب التفسير وآخرون. وكان ثقة صحيح الرواية، وله مصنفات كثيرة منها: " الكافي " في الفقه، و " كتاب رياضة المتعلم "، و " كتاب النية "، و " كتاب الهداية "، وغير ذلك من الكتب، وله في المذهب وجوه كثيرة.
عشرين وثلاث مائة
فيها تجهز مؤنس والعساكر إلى بغداد، فأشار الأمراء على المقتدر بالإنفاق على العساكر، فعزم على التوجه إلى واسط في الماء ليستخدم منها ومن البصرة والأهواز، فقال له محمد بن ياقوت: اتق الله ولا تسلم بغداد بلا حرب. فلما أصبحوا ركب في موكبه وعليه البردة وبيده القضيب، والقراء والمصاحف حوله، والوزير خلفه فسبق بغداد إلى الشماسية، وأقبل مؤنس في جيشه، وشرع القتال، فوقف المقتدر على تل، ثم جاء إليه ابن ياقوت وأبو العلا بن حمدان، فقال له: تقدم، وهم يستدرجونه حتى صار في وسط المصاف في طائفة قليلة، فانكشف أصحابه، وأسر منهم جماعة، وأبلى ابن ياقوت وهارون بن غريب بلاء حسناً، وكان معظم جيش مؤنس خادم البريد، فعطف جماعة من البريد على المقتدر، فضربه رجل من خلفه ضربة فسقط إلى الأرض، وقيل رماه بحربة وجز رأسه بالسيف، ورفع على رمح، ثم سلب ما عليه، وبقي مهتوك العورة حتى ستر بالحشيش، ثم حفر له حفرة، فضمته وعفى أثره، وكانت خلافته خمساً وعشرين سنة إلا بضعة عشر يوماً. وكان مسرفاً مبذراً، ناقص الرأي، يمحق الذخائر، حتى أنه أعطى بعض جواريه الدرة اليتيمة، وزنها ثلاثة مثاقيل، يقال أنه ضيع من الذهب ثمانين ألف دينار.
وفي أيامه اضمحلت دولة الخلافة العباسية وضعفت. قالوا: وكان جيد العقل والرأي، لكنه يؤثر اللعب والشهوات، غير ناهض بأعباء الخلافة. وكانت أمه وخالته والقهرمانة يدخلن في الأمور الكبار والولايات والحل والعقد.
ولما حمل رأس المقتدر إلى مؤنس بكى وندم وقال: قتلتموه، والله لتقتلن كلنا. فأظهروا أن قتله كان عن غير قصد، ثم بايعوا القاهر بالله الذي قد بايعوه في سنة سبع عشرة،(2/209)
فصادر بعض أصحاب المقتدر، وعذب أمه وهي مريضة ثم ماتت وهي معلقه بحبل. وبالغ في الظلم، فمقته القلوب. وكان ابن مقلة قد نفي إلى الأهواز، فاستحضره واستوزره.
وفيها توفي الحافظ محدث الشام، أبو الحسن محمد بن عمر.
وفيها أو قبلها أو بعدها توفي القاضي الحافظ محمد بن يحيى المدني، قاضي عدن، نزيل مكة. كان من جملة الحفاظ وأكابر العلماء، سمع منه الإمامان الحافظان: مسلم بن الحجاج النيسابوري، وأبو عيسى محمد بن سورة الترمذي. أخذ عن سفيان بن عيينة الهلالي، وعبد العزيز المراوردي، ووكيع بن الجراح، وأبي معاوية وغيرهم، وروى عنه الترمذي أنه قال: حججت ستين حجة ماشياً على قدمي.
وفيها توفي أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر الفربري، صاحب البخاري.
وفيها توفي قاضي القضاة محمد بن يوسف الأزدي مولاهم، وكان من خيار القضاة حلماً وعقلًا وصلابة وذكاء وإصابة.
وفيها توفي الفقيه الإمام الكبير الشأن المشهور بأبي علي بن خيران الشافعي المذهب. عرض عليه القضاء ببغداد في خلافة المقتدر، فامتنع وختم على بيته، وضيق عليه عدة أيام ليقبل، فلم يقبل. وكان يعاتب ابن شريح على توليته ويقول: هذا الأمر لم يكن فينا، وإنما كان في أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله تعالى وعوتب الوزير علي بن عيسى على تضييقه فقال: إنما قصدت ذلك ليقال: كان في زماننا من وكل بداره لتقليد القضاء فلم يقبل.
وفيها توفي أمير المؤمنين المقتدر بالله، أبو الفضل جعفر بن المعتضد بالله بن الموفق بن المتوكل بن المعتصم العباسي، كما تقدم ذكر قتله، وكان عمره ثمانياً وثلاثين سنة.
وفيها توفي أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد البرمكي على خلاف فيه يأتي مع بعض أوصافه في سنة أربع وعشرين.(2/210)
إحدى وعشرين وثلاث مائة
فيها بدت من القاهر شهامة وإقدام، فتحيل حتى قبض على مؤنس الخادم وجماعة، ثم أمر بذبحهم، ثم طيف برؤوسهم ببغداد، فاستقامت له بغداد، وأطلقت أرزاق الجند وعظمت هيبة القاهر في النفوس، ثم أمر بتحريم القينات والخمر، وقبض على المغنن ونفى المخنثين، وكسر آلات الطرب، إلا أنه قيل: كان لا يكاد يصبر من السكر، ويسمع القينات.
وفيها توفي أبو جعفر، أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي الأزدي الفقيه الحنفي المصري. برع في الفقه والحديث، وصنف التصانيف المفيدة. قال الشيخ أبو إسحاق: انتهت إليه رئاسة الحنفية بمصر، وقال غيره: كان شافعي المذهب، يقرأ على المزني، فقال له يوماً: والله لا جاء منك شيء، فغضب أبو جعفر من ذلك. وانتقل إلى جعفر بن عمران الحنفي، واشتغل عليه، فلما صنف مختصره قال: رحم الله أبا إبراهيم يعني المزني لو كان حياً لكفر عن يمينه.
وذكر أبو علي الخليلي في كتاب الإرشاد في ترجمة المزني: إن الطحاوي المذكور كان ابن أخت المزني، وأن محمد بن أحمد الشروطي قال: قلت للطحاوي: لم خالفت خالك، واخترت مذهب أبي حنيفة. فقال: لأني كنت أرى خالي يديم النظر في كتب أبي حنيفة، فلذلك انتقلت إليه. وصنف كتباً مفيدة، منها: " أحكام القرآن "، و " اختلا العلماء "، و " معاني الآثار "، و " الشروط " وله " تاريخ " كبير، وغير ذلك. ونسبته إلى " طحا " وهي قرية بصعيد مصر، وإلى الأزد وهي قبيلة كبيرة مشهورة من قبائل اليمن.
وفيها توفي أبو هاشم الجبائي شيخ المعتزلة، وابن شيخهم، وكان له ولد عامي لا يعرف شيئاً،، فدخل يوماً على الصاحب بن عباد، فظنه عالماً، فكرمه ورفع مرتبته، سأله عن مسألة فقال: لا أدري نصف العلم، فقال الصاحب: صدقت يا ولدي، لأن أباك تقدم بالنصف الآخر. " والجبائي " بضم الجيم وتشديد الموحدة، نسبة إلى جبا، قرية من(2/211)
قرى البصرة، وقيل كورة ذات قراء.
وفيها توفي الإمام الحافظ اللغوي العلامة أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي البصري، صاحب التصانيف، عاش ثمانياً وتسعين سنة. قال بعضهم: ما رأيت أحفظ من ابن دريد، ما رأيته قرىء عليه ديوان إلا وهو يسابق في قراءته. وقال الدارقطني: تكلموا فيه، وتصانيفه بضع عشرة منها: " كتاب الجمهرة "، وهو من الكتب المعتبرة في اللغة. و " كتاب غريب القرآن " ولم يكمله، و " كتاب الوشاح " صغير مفيد، وله نظم رائق جداً. وقد قال بعضهم: ابن دريد أعلم بالشعر، وأشعر العلماء. ومن مليح شعره قوله:
عن الوجلت الخدور شعاعها ... للشمس عند طلوعها لم تشرق
غصن على دعص تأود فوقه ... قمر تألف تحت ليل مطبق
لو قيل للحسن احتكم لم يعدها ... أو قيل خاطب غيرها لم ينطق
فكأننا من فرعها في مغرب ... وكأننا من وجهها في مشرق
تبدو فتهف بالعيون ضياؤها ... الويل حل بمقلة لم تطبق
أخذ عن أبي حاتم السجستاني والرياشي وعبد الرحمن بن عبد الله ابن أخي الأصمعي، وأبي عثمان سعيد بن هارون وغيرهم، وتنقل في البلدان، فسكن البصرة وعمان ونواحي فارس وصحب ابني ميكائيل وكانا يومئذ على عمالة فارس وعمل لهما " كتاب الجمهرة "، وقلداه ديوان فارس، وكانت تصدر كتب فارس عن رأيه، ولا ينفذ الأمر إلا بعد توقيعه، فأفاد منها أموالاً عظيمة.
وكان مبيداً لا يمسك درهماً شحاً وكرهاً. ومدحهما بقصيدته المقصورة، فوصلاه بعشرة آلاف درهم، وهكذا، قال ابن خلكان: ابني ميكائيل.
وقال في موضع آخر من تاريخه في مدح عبد الله بن محمد بن ميكائيل وولده ويقال أنه أحاط فيها بأكثر المقصورة أولها:
إما تري رأسي حاكى لونه ... طرة صبح تحت أذيال الدجى
واشتعل المبيض في مسودة ... مثل اشتعال النار في جزل الفضا
ثم انتقل ابن دريد من فارس إلى بغداد سنة ثمان وثلاثمائة بعد عزل ابني ميكائيل وانفصالهما إلى خراسان، فأمر المقتدر أن يجرى عليه كل شهر خمسون ديناراً، ولم تزل جارية عليه إلى حين وفاته. وكان واسع الرواية، وعرض له في رأس تسعين من عمر، فالج،(2/212)
سقي له الترياق فبرىء، وصح ورجع إلى إسماع تلامذته، ثم عاوده الفالج، فبطلت حركته، وكان إذا دخل عليه الداخل ضج وتألم. قال تلميذه ابن القالي: فكنت أقول في نفسي: عاقبه الله تعالى لقوله في مقصورته.
مارست من لو هوت الأفلاك ... من جوانب الحق عليه ما شكا
وما كان يصيح صياح من يغشى، أو يسأل بالمسائل، والداخل بعيد منه، ومع ذلك ثابت الذهن كامل العقل، يرد فيما يسأل عنه رداً صحيحاً، وعاش بعد ذلك عامين وكان كثيراً ما يتمثل:
فواحزني أن لا حياة لذيذة ... ولا عمل يرضى به الله صالح
وتوفي يوم توفي فيه أبو هاشم الجبائي المعتزلي. فقال الناس: مات اليوم علم والكلام " ودريد " تصغير درد، وهو الذي ليس فيه سن، كسويد في تصغير أسود. وكان قد قام مقام الخليل بن أحمد، وأورد أشياء، وكان يذهب بالشعر كل مذهب، " ومقصورته " خلق من المتقدمين والمتأخرين، ومن أجود شروحها شرح الفقيه محمد بن أحمد اللخمي السبتي، وعارضه جماعة، ورثاه بعضهم فقال:
فقدت بابن دريد كل فائدة ... لما عدا نالت الأحجار والتراب
وكنت أبكي لفقد الجود منفرداً ... فصرت أبكي لفقد الجود والأدب
وفيها توفي مؤنس الخادم الملقب بالمظفر، وعمره نحو تسعين سنة، وكان معظماً شجاعاً منصوراً، وقد تقدم ذكر قتله، ولم يبلغ أحد من الخدام منزلته إلا كافور الأخشيدي صاحب مصر. وسيأتي ذكره في ترجمته إن شاء الله تعالى قلت يعنون ولايات الدنيا ورفعتها عند أهلها.
اثنتين وعشرين وثلاث مائة
فيها قبض المماليك القاهر، هجموا عليه وهو سكران نائم، فقام مرعوباً، وهرب فتبعوه إلى السطح، وبيده سيف، ففوق واحد منهما سهماً وقال: انزل وإلا قتلتك، فقبضوا عليه بعد أن قال: انزل فنحن عبيدك. وأخرجوا محمد بن المقتدر، ولقبوه الراضي بالله، وكحل القاهر، ووزر ابن مقلة قال الصولي: كان القاهر أهوج سفاكاً للدماء، السيرة، مدمن الخمر. كان له حربة يحملها، فلا يضعها حتى يقتل إنساناً، ولولا جودة(2/213)
حاجبه سلامة لأهلك الحرث والنسل.
وفيها اشتهر محمد بن علي الشلغماني " بالشين والغين المعجمتين وقيل ياء النسبة نون "، موضع ببغداد، وشاع أنه يدعي الألوهية وأنه يحيي الموتى، وكثر أتباعه، وأحضره ابن مقلة عند الراضي، وسمع كلامه، فأنكر الألوهية وقال: إن لم ينزل العقوبة بعد ثلاثة، وكثره سبعة أيام وإلا فدمي حلال. وكان قد أظهر الرفض، ثم قال بالتناسخ والحلول. وتخرق على الجهال، وضل به طائفة. وأظهر شأنه الحسين بن روح، زعيم الرافضة. فلما طلب هرب إلى الموصل، وغاب سنتين، ثم عادوا دعى الألوهية، فتبعه فيما قيل جماعة، منهم إبراهيم بن عون، فقبض عليه ابن مقلة، وكنس بيته، فوجد فيه رقاعاً وكتباً فيما قيل، يخاطبونه في الرقاع بما لا يخاطب به البشر، وأحضر فأصر على الإنكار، فضعفه ابن عبدوس. وأما ابن أبي عون فقال: إلهي وسيدي ورازقي، فقال الراضي: للشلغماني: أنت زعمت أنك لا تدعي الربوبية، فما هذا؟ فقال: وما علي من قول ابن أبي عون. ثم أحضروه غير مرة، وجرت لهم فصول، وأحضرت الفقهاء والقضاة، ثم أفتى الأئمة بإباحة دمه، فأحرق، ثم ضربت رقبة ابن أبي عون، ثم أحرق، وكان فاضلاً مشهوراً صاحب تصانيف أدبية، من رؤساء الكتاب، أعني ابن أبي عون، وشلغمانة من أعمال واسط. ولم يحج أحد إلى سنة سبع وعشرين خوفاً من الفرامطة.
وفيها توفي حافظ الأندلس أحمد بن خالد، قال القاضي عياض: كان إماماً في وقته في مذهب مالك، وفي الحديث لا ينازع.
وفيها توفي السيد الكبير الولي الشهير القدوة العارف، بحر المعارف أبو الحسين خير النساج البغدادي، وكانت له حلقة يتكلم فيها، وعمر دهراً، قيل إنه لقي سريا السقطي، وله أحوال كبيرة وكرامات شهيرة.
وفيها توفي المهدي عبيد الله، والد الخلفاء الباطنية العبيدية المقبري، المدعي. أنه من ولد جعفر الصادق، وكان بسلمية من بلاد الشام، فبعث دعاته إلى اليمن والمغرب، وحاصل الأمر أنه استولى على مملكة المغرب، وامتدت دولته بضعاً وعشرين سنة، ومات(2/214)
بالمهدية التي بناها، وكان يظهر الرفض ويبطن الزندقة، وقال أبو الحسن القابسي صاحب " الملخص " الذي قتله عبيد الله وبنوه بعده أربعة آلاف رجل في دار النحر في العذاب، ما بين عالم وعابد ليردهم عن الترضي عن الصحابة، فاختاروا الموت. ومن ذلك قول بعضهم في قصيدة:
وأحل دار النحر في إعلاله ... من كان ذا تقوى وذا صلوات
قلت: ولم يزل الباطنية منهم في بعض جبال اليمن، وقد جرت لهم هناك أمور وزند وفجور، أوضحت ذلك في " كتاب المرهم " وتقدمت الإشارة في سنة سبع عشرة وثلاثين من هذا الكتاب إلى شيء من ذلك.
وفي السنة المذكور توفي الشيخ العارف أبو بكر محمد بن علي الكتابي شيخ الصوفية نزيل مكة، أخذ عن أبي سعيد الخراز وغيره وهو مشهور.
وفيها توفي الشيخ الكبير العارف بالله الشهير أبو علي الروذباري البغدادي نزيل مصر، من كبار شيوخها في زمانه، صحب الجنيد وجماعة، وكان إماماً محققاً، روي أنه قال: أستاذي في التصوف الجنيد، وفي الحديث إبراهيم الحربي، وفي الفقه ابن سريج وفي الأدب ثعلب. قلت: وناهيك بفضائل هؤلاء الأربعة المذكورين:
ثلاث وعشرين وثلاث مائة
فيها محنة ابن شنبوذ، كان يقرأ في المحراب بالشواذ، فطلبه الوزير ابن مقله وأحضر القاضي والقراء وفيهم ابن مجاهد فناظروه، فأغلظ للحاضرين في الخطاب ونسبهم إلى الجهل، فأمر الوزير بضربه لكي يرجع، فضرب سبع درر وهو يدعو على الوزير، فتوبوه غضباً، وكتبوا عليه محضراً، وكان مما أنكر عليه: فأمضوا إلى ذكر الله وذروا البيع، وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصباً. وهذا الأنموذج مما روي ولم يتواتر.
وفيها توفي قتيبة شيخ الحنابلة البرنهاري " بالباء الموحدة والراء المكررتين "، فنودي أن لا يجتمع اثنان من أصحابه، وحبس منهم جماعة واختفى هو.(2/215)
وفيها أخذ القرمطي أبو طاهر الركب العراقي، وانهزم الأمير لؤلؤ وبه ضربات، وقتل خلق من الوفد، وسبيت الحريم، وهلك محمد بن ياقوت في الحبس بعدما طلب الجند أرزاقهم، وأغلظوا له، وقبض الراضي بالله عليه، وعظم شأن الوزير ابن مقلة وتفرد بالأمور.
وفيها توفي الحافظ أبو بشر أحمد بن محمد الكندي المروزي، روى عن محمود ابن آدم وطائفة، وهو أحد الوضاعين الكذابين، مع كونه محدثاً إماماً في السنة والرد على المبتدعة.
وفيها توفي نفطوية النحوي، أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة الواسطي، صاحب التصانيف الحسان في الآداب، وكان بارعاً فصيحاً في الخطاب، ولا يكاد يخلو ذو فضل من أين يطعن فيه ويعاب، ولهذا هجاه بعض الناس ببيتين الثاني منهما:
أحرقه الله بنصف اسمه ... وصير الثاني صراخاً عليه
وعجز الأول: فليجتهد أن لا يرى نفطويه، وصدره كرهت ذكره فحذفته، روى عن شعيب بن أيوب وطبقته.
وفيها توفي الحافظ الجوال الفقيه أبو نعيم عبد الملك بن محمد الجرجاني، سمع علي بن حرب وعمر بن شبة وطبقتهما، قال الحاكم: كان من أئمة المسلمين. وقال أبو علي النيسابوري: ما رأيت بخراسان بعد ابن خزيمة مثل أبي نعيم، كان يحفظ المرفوعات والمراسيل، كما نحن نحفظ المسانيد. عمر إحدى وثمانين سنة.
وفيها توفي أبو عبيد المحاملي القاسم بن إسماعيل أخو القاضي حسين.
أربع وعشرين وثلاث مائة
فيها قبض على الوزير ابن مقلة، وأحرقت داره، وضرب وأخذ خطه بألف ألف دينار، وجرت عظائم من الضرب والتعليق وغير ذلك، وجرت أمور طويلة يخالف فيها أهل الدولة، وبطلت الوزارة والدواوين، وضعف أمر الخلافة، وبقي الراضي بالله صورة.
وفيها توفي مفتي العراق أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد، وكان(2/216)
بصيراً بالقراءة وعللها ورجالها، عديم النظير.
وفيها توفي أبو الحسن أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد البرمكي المعروف بجحظة " بفتح الجيم وسكون الحاء المهملة وفتح الظاء المعجمة وبعدها هاء " على خلاف فيه تقدم، كان صاحب فنون وأخبار ونجوم ونوادر ومنادمة، وقد جمع المرزباني أخباره وأشعاره، وكان من ظرفاء عصره، وله أشعار رائقة منها قوله:
أيا ابن أناس مول الناس جودهم ... فأصبحوا حديثاً للنوال المشهد
فلم يخل من إحسانهم لفظ مخبر ... ولم يخل من تقريطهم دفن دفتر
وكان مشوه الخلق، وفي ذلك يقول ابن الرومي مشيراً إلى قبح صورته وحسن منادمته.
يا رحمة لمنادمته تحملوا ... علم العيون للذة الآذان
التقريظ مدح الإنسان وهو حي، والتأبين مدحه ميتاً.
وفيها توفي الفقيه الشافعي الحافظ صاحب التصانيف والرحلة الواسعة، عبد الله بن محمد بن زياد النيسابوري، سمع محمد بن يحيى الذهلي، ويونس بن عبد الأعلى. قال الحاكم: كان إمام عصره للشافعية بالعراق، ومن أحفظ الناس للفقهيات واختلاف الصحاب وقال الشيخ أبو إسحاق، كان زاهداً يفتي الناس أربعين سنة، لم ينم الليل، يصلي الصبح بوضوء العشاء، وجمع بين الفقه والحديث.
خمس وعشرين وثلاث مائة
فيها دخل القرمطي الكوفة فعاث فيها.
وفيها توفي الحافظ البارع المصنف أحمد بن أحمد بن محمد بن الحسن، تلميذ مسلم.
ست وعشرين وثلاث مائة
فيها قبض الراضي بالله على ابن مقلة، وقطع يده حين أخذ يكاتب في بعض أمور السلطنة والمضاهاة لبعض أهل الدولة. ثم بعد أيام قطع ابن واثق لسانه، لكونه كاتب(2/217)
بعض الأمراء، فأقبل بجيوشه من واسط، ودخل بغداد، فكرمه الراضي ولقبه أمير الأمراء، وولاه الحضرة، وضعف عن قتاله ابن واثق. فاختفى.
وفيها توفي عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن الحجاج الناسخ المصري.
وفيها توفي محمد بن القاسم المحاربي.
سبع وعشرين وثلاث مائة
فيها توفي الحافظ العالم عبد الرحمن ابن الحافظ الجامع، محمد بن إدريس بن المنذر التميمي الرازي " بالراء " وقد قارب التسعين، وقال أبو يعلى الخليلي: أخذ علم أبيه وأبي زرعة، وكان بحراً في العلوم ومعرفة الرجال صنف في الفقه واختلاف الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار، قال: وكان زاهداً يعد من الأبدال.
وفيها توفي محمد بن جعفر الخرائطي، مصنف مكارم الأخلاق ومساوئها، وغير ذلك.
وفيها توفي مبرمان النحوي، شرح سيبويه، وما أتمه، وهو محمد بن علي العسكري، أخذ من المبرد.
ثمان وعشرين وثلاث مائة
فيها التقى سيف الدولة ابن حمدان الدمشقي قاتله الله فهزمه.
وفيها توفي الإمام العلامة أبو سعيد الأصطخري، الحسن بن أحمد شيخ الشافعية بالعراق، روي عن سعدان بن نصر وطبقته، وصنف التصانيف، وعاش نيفاً وثملاثين سنة، وكان موصوفاً بالزهد والقناعة، وله وجه في المذهب، تولى حسبة بغداد، واستقضاه المقتدر على سجستان، فسار إليها، ونظر في مناكحاتهم، فوجد معظمها على غير إعتبار الولي، فأنكرها وأبطلها عن آخرها. وكان ورعاً، وهو من نظراء أبي العباس ابن سريج وأقران علي بن أبي هبيرة.
وفيها توفي الفقيه الواعظ، أحد الأئمة، أبو علي الثقفي محمد بن عبد الوهاب النيسابوري، عاش أربعاً وثمانين سنة، سمع في كبره من موسى بن نصر الرازي وأحمد بن ملاعب وطبقتهما. وكان له جنازة لم يعهد مثلها، وهو من ذرية الحجاج. قال الفقيه أبو الوليد: دخلت على ابن سريج، وسألني عن من درست الفقه؟ قلت: على أبي علي الثقفي، قال: لعلك تعني الحجاجي الأزيرق؟. قلت: نعم، قال: ما جاءنا من خراسان أفقه منه،(2/218)
وقال أبو بكر الضبعي: ما عرفنا الجدل والنظر حتى ورد علينا أبو علي الثقفي في العراق وذكره السلمي في طبقات الصوفية.
وفيها توفي أبو الحسن محمد بن أحمد بن شنبوذ المقرىء البغدادي، أحد الأئمة من مشاهير القراء وأعيانهم، وكان ديناً، وقيل كان فيه سلامة صدر وحمق منفرداً بقراءة الشواذ، وكان يقرأ بها في المحراب، فأنكر عليه ذلك، وبلع علمه أبا علي ابن مقلة الوزير فاستحضره واعتقله في داره أياماً، ثم استحضر القاضي أبا الحسين عمر بن محمد والمقرىء أبا بكر المعروف بابن مجاهد وجماعة من أهل القرآن، وأحضر ابن شبنوذ المذكور، ونواظر في حضرة الوزير، فأغلظ في الحديث للوزير وللقاضي وللمقرىء ابن مجاهد، ونسبهم إلى قلة المعرفة وغيرهم، بأنهم ما سافروا في طلب العلم كما سافر واستشار القاضي أبا الحسين المذكور، فأمر الوزير ابن مقلة بضربه، فأقيم، وضرب سبع درر، فدعا وهو يضرب على الوزير ابن مقلة بأن يقطع الله تعالى يده، ويشتت شمله وكان الأمر كذلك، كما سيأتي قريباً إن شاء الله تعالى. وأنكر ما كان ينكر عليه من الحروف التي كان يقرأ بها مما هو شنيع، وقال فيما سوى ذلك، فرابه قوم، فاستتابوه فقال: إنه رجع عما كان يقرأ، وإنه لا يقرأ إلا بمصحف عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، وكاتب علي الوزير محضراً بما قاله، وكتب بخطه ما يدل على توبته.
ومما حكي أنه كان يقرأ: فامضوا إلى ذكر الله، وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصباً، وليكن منكم فئة يدعون إلى الخير وغير ذلك.
وفيها توفي الوزير أبو علي محمد بن علي بن الحسن بن مقلة الكاتب المشهور كان في أول أمره يتولى بعض أعمال فارس، ويجبي خراجها، وتنقلت أحواله إلى استوزره الإمام المقتدر، فخلع عليه، فبقي في الوزارة سنتين وشهرين، ثم نفاه إلى بلاد فارس بعد أن صادره، ثم استوزره الإمام القاهر بالله، فأرسل إليه إلى فارس رسولاً يجيء به، ورتب له نائباً، فوصل يوم الأضحى من سنة عشرين وثلاثمائة، ولم يزل وزيره إلى اتهمه بالمعاضده على الفتك به. وبلغ ابن مقلة الخبر فاستتر.
ولما ولي الراضي بالله سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة فاستوزره أيضاً، وكان المظفر ياقوت مستحوذاً على أمور الراضي. وكان بينه وبين ابن مقلة وحشة وقرر ابن ياقوت الغلمان أنه إذا جاء قبضوا عليه، وأن الخليفة لا يخالفه في ذلك، وربما سره. فلما حصل(2/219)
ابن مقلة في دهليز دار الخلافة وثب الغلمان عليه، ومعهم ابن ياقوت، وقبضوا عليه، وأسلموه إلى الراضي يعرفونه صورة الحال، وعدوا له ذنوباً وأسباباً تقتضي ذلك، فرد جوابهم وهو يستصوب ما فعلوا، واتفق رأيهم على توزير عبد الرحمن بن عيسى بن داود الجراح، وقلده الراضي الوزراة، وسلم إليه ابن مقلة، فضربه بالمقارع، وجرى عليه من المكاره بالتعليق وغيره من العقوبة شيء كثير، وأخذ خطه بألف ألف دينار، ثم خلص، وجلس بطالاً في دار.
ثم إن ابن رائق استولى على الخلافة، وخرج عن طاعتها، فاستماله الراضي، وفوض إليه تديير المملكة، وجعله أمير الأمراء، وأمر أن يخطب له على جميع المنابر، وقوي أمره، وعظم شأنه، وتصرف برأيه، وأحاط على أملاك ابن مقلة وضياعه وأملاك ولده أبي الحسن، فأخذ ابن مقلة في السعي بابن رائق، وكتب إلى الراضي يشير عليه بإمساكه، وضمن له متى فعل ذلك، وقلده الوزارة فاستخرج له ثلاثمائة ألف ألف دينار، وكانت مكاتبة على يد ابن هارون المنجم النديم، فأطمعه الراضي بالإجابة إلى ما سأل، فلما استوثق ابن مقلة من الراضي ركب من داره وقد بقي من رمضان ليلة واحدة، واختار هذا الطالع لأن القمر يكون تحت الشعاع، وهو يصلح للأمور المستورة فلما وصل إلى دار الخليفة لم يمكنه من الوصول إليه، ووجه إلى ابن رائق، وأخبره بما جرى، وأنه احتال على ابن مقلة حتى حصله في أسره، ثم أظهر الراضي أمر ابن مقلة، وأخرجه من الإعتقال، وحضر صاحب ابن رائق وجماعة من القواد، وتقابلا فالتمس ابن رائق قطع يده التي كتب به المطالعة، فقطعت يده اليمنى، ورد إلى مجلسه. ثم ندم الراضي على ذلك، وأمر الأطباء بمداواته، فداووه حتى برىء. وكان ذلك نتيجة دعاء ابن شنبوذ المقرىء بقطع يده كما تقدم.
وقال أبو الحسن ثابت بن سنان الطبيب: كنت إذا دخلت إليه في تلك الحال سألني عن أحوال ولده، فأعرفه استتاره وسلامته، فتطيب نفسه، ثم يتوجه على يده ويقول: كتبت بها القرآن الكريم مرتين، تقطع كما تقطع اللصوص. فأسليه وأقول: هذا انتهاء المكروه، فينشدني:
إذا ما مات بعضك قاتلاً بعضاً ... فإن البعض من بعض قريب
ثم عاد وأرسل الراضي من بعد قطع يده، وأطمعه في المال، وطلب الوزارة وقال: إن قطع اليد ليس بعد قطع اليد، وليس مما يمنع الوزارة. وكان يشد القلم على ساعده ويكتب، ثم أمر بعض التمين إلى ابن رائق يقطع لسانه أيضاً، فقطع فأقام في الحبس مدة طويلة ولم يكن له من يخدمه، وكان يستسقي الماء لنفسه من البير، فيجذب بيده اليسري جذبة ونعمه الأخرى. وله أشعار في شرح حاله، من ذلك قوله:(2/220)
ما سئمت الحياة لكن توثقت ... بإيمانهم فزالت يميني
وليس بعد اليمين لذة عيش ... يا حياتي بانت يميني فبيني
ومنه أيضاً:
لست ذا ذلة إذا عصى الدهر ... ولا شامخاً إذا أو أتاني
ومن ذلك:
وإذا رأيت فتى بأعلى رتبة ... في شامخ من عزة المترفع
قالت له النفس العروف بقدرها ... ما كان أولاني بهذا الموضع
ولم يزل على هذه الحالة إلى أن توفي في موضعه، ودفن في مكان، ثم نبش بعد زمان وسلم إلى أهله. وهو أول من نقل هذه الطريقة من خط الكوفيين إلى هذه الصورة، هو وأخوه على خلاف فيه، وله ألفاظ منقولة مستعملة، من ذلك قوله: إذا أحببت تهالكت، وإذا اتعظت أهلكت، فإذا رضيت أبدت، وإذا غضبت أبرت.
ومن كلامه: يعجبني من يقول الشعر تأدباً لا تكسباً، ويتعاطى الغناء تطرباً لا تطلباً قيل: وله كل معنى مليح في النظم والنثر. وكان ابن الرومي الشاعر يمدحه، فمن معاتبة المقولة فيه قوله:
أن يخدم القلم السيف الذي خضعت ... له الرقاب ودانت خوفه الأمم
كذا قضى للأقلام مذ برئت ... إن السيوف لها مذ أرهفت خدم
وكل صاحب سيف دائم أبداً ... ما زال يتبع ما يجري به القلم
وكان أخوه الحسن بن علي بن مقلة كاتباً أديباً بارعاً، قيل: والصحيح أنه صاحب الخط، وفي عزل ابن مقلة من الوزارة، قال بعض الشعراء:
يقال العزل للأحرار حيض ... نجاة الله من أمر بغيض
ولكن الوزير أبا علي ... من اللائي يئسن من المحيض
وفيها توفي العلامة إمام اللغة صاحب المصنفات أبو بكر محمد ابن الأنباري النحوي اللغوي، عمر سبعاً وخمسين سنة، سمع في صغره من الكديمي بضم الكاف وإسماعيل القاضي، وأخذ عن أبيه وثعلب وطائفة.
قال أبو علي القالي: كان شيخنا أبو بكر يحفظ فيما قيل ثلاثمائة ألف بيت شاهد في القرآن، وقال محمد بن جعفر التميمي: ما رأيت أحفظ من ابن الأنباري، ولا أغزر بحراً(2/221)
منه. روي عنه أنه قال: أحفظ ثلاثه عشر صندوقاً.
قال: وحدث أنه كان يحفظ مائة وعشرين تفسيراً للقرآن العظيم بأسانيدها. وقيل: إنه أملى غريب الحديث في خمسة وأربعين ألف ورقة، وكان علامة وقته في الآداب وأكثر الناس حفظاً لهما. وكان صدوقاً ثقة ديناً خيراً، من أهل السنة. وصنف كتباً كثيرة في علوم القرآن وغريب الحديث والمشكل، وكان يملي في ناحية من المسجد، وأبوه في ناحية أخرى.
وفيها توفي الأستاذ أبو الحسن المزين، العارف بالله الولي الكبير، شيخ الصوفية، صحب الجنيد وسهل بن عبد الله، وجاور بمكة، وله مناقب كثيرة ومحاسن شهيرة، ومما حكي عنه أنه قال: كنت بمكة، فوقع لي إرادة السفر إلى المدينة، فلما بلغت بير ميمون، وجدت شاباً يجود بنفسه، فقلت له: قل لا إله إلا الله، ففتح عينيه، ونظر إلي وقال:
أنا إن مت فالهوى حشو قلبي ... وبداء الهوى يموت الكرام
ثم خرجت روحه، فغسلته وكفنته، وصليت عليه ودفنته، فسكن ما كان في نفسي من خاطر السفر، فرجعت إلى مكة وكان بعد ذلك يوبخ نفسه ويقول: حجام يلقن أولياء الله الشهادة واشوقاه. وقوله: بير ميمون يعني أنها البير المسماة اليوم بالنوارية، والله أعلم بالصواب. وبعض الناس يسميها بير ميمونة، وهي قريبة من قبرها.
وفيها توفي الشيخ الكبير العارف بالله الشهير: أبو محمد المرتعش، عبد الله بن محمد النيسابوري، أحد مشايخ العراق، صحب الجنيد وغيره، ومن كلامه: الإرادة حبس النفس عن مراداتها، والإقبال على أوامر الله تعالى، والرضوان بموارد القضاء، وقيل له: إن فلاناً يمشي على الماء فقال، عندي من مكنه الله تعالى من مخالفة الهوى، هو أعظم من المشي في الهواء، وكان يقال له: إشارات الشبلي، ونكت المرتعش، وحكايات الخزيمي.
وفيها توفي أحمد بن محمد بن عبد ربه القرطبي صاحب " العقد "، الأموي مولاهم. كان رأس العلماء المكثرين، والإطلاع على أخبار الناس. حوى كتابه من كل شيء، وله ديوان شعر جيد، ومن شعره:(2/222)
إن الغواني لو رأينك طاوياً ... برد الشباب طوين عنك وصالا
وإذا دعونك عمهن فإنه ... نسجت يزيدك عندهن خيالا
والقرطبي نسبة إلى قرطبة، وهي مدينة كبيرة من بلاد الأندلس، وهي دار مملكتها.
تسع وعشرين وثلاث مائة
فيها: استخلف المتقي لله، وتوفي الراضي بالله أبو إسحاق محمد. وقيل: أحمد المقتدر بالله جعفر بن المعتضد بالله العباسي. وكانت أمه جارية رومية، وهو آخر خليفة له شعر مدون وآخر خليفة انفرد بتدبير الجيوش، وآخر خليفة خطب يوم الجمعة إلى خلافة الحاكم العباسي، فإنه خطب أيضاً مرتين، وآخر خليفة جالس الندماء، ولكنه كان مقهوراً مع أمرته، وكان سمحاً كريماً محباً للعلماء والأدباء، سمع الحديث من البغوي وعمره إحدى وثلاثون سنة.
وفيها توفي يوسف بن يعقوب بن إسحاق التنوخي الأنباري الأزرق الكاتب، وله نيف وتسعون سنة. وأبو نصر محمد بن حمدويه المروزي.
ثلاثين وثلاث مائة
فيها حدث الغلاء المفرط والوباء ببغداد، وبلغ الكر مائتين وعشرة دنانير، أكلوا الجيف. وفيها وصلت الروم، فأغارت على أعمال حلب، وبدعوا، وسبوا عشرة آلاف نسمة. وفيها أقبل أبو الحسين علي بن محمد بن البريدي بالجيوش، فالتقاه المتقي وابن رائق إلى الموصل، واختفى وزيره أبو إسحاق القراريطي، ووقع النهب في بغداد، واشتد القحط حتى بلغ الكر ثلاثمائة وستة عشر ديناراً، وهذا شيء لم يعهد بالعراق. ثم عم البلاء بزيادة دجلة، فبلغت عشرين ذراعاً، فغرق الخلق.
وأما ناصر الدولة ابن حمدان فإنه جاءه محمد بن رائق، فوضع رجله في الركاب، إذ وثب به الفرس، فوقع فصاح ابن حمدان: لا يفوتنكم، فقتلوه، ثم دفن، وعفى قبر وجاء ابن حمدان إلى المتقي، فقلده المتقي مكان ابن رائق، ولقبه ناصر الدولة، ولقب(2/223)
أخاه علياً سيف الدولة. وعاد وهما معه، وهرب البريدي من بغداد، وكان مدة استيلائه عليها ثلاثة أشهر وعشرين يوماً، ثم نهب البريدي وعاد، فالتقاه سيف الدولة بقرب المدائن، ودام القتال يومين، وكان الهزيمة على ابن حمدان والأتراك، ثم كانت على البريدي، وقتل جماعة من أمراء الديلم، وأسر آخرون، وهرب البريدي إلى واسط بأسوأ حال، وساق وراءه سيف الدولة، ففر إلى البصرة.
وفي رجب من السنة المذكورة توفي الفقيه الكبير الإمام الشهير أبو بكر الصيرفي الشافعي، صاحب المصنفات في المذهب، وصاحب وجه فيه. كان من جلة الفقهاء، أخذ الفقه عن أبي العباس بن سريج، واشتهر بالحذق في النظرة والقياس وعلم الأصول، وله في أصول الفقه كتاب لم يسبق إليه. قال أبو بكر القفال: كان أعلم الناس بالأصول بعد الشافعي، وهو أول من انتدب من أصحابنا للشروع في علم الشروط، وصنف فيه كتاباً، أحسن فيه كل إحسان. والصيرفي نسبة مشهورة لمن يصرف الدنانير والدراهم.
وفيها توفي الشيخ الكبير أبو يعقوب النهرجوري، شيخ الصوفية. صحب الجنيد وغيره، وجاور مكة، وكان من كبار العارفين رحمه الله تعالى.
وفيها توفي الإمام الكبير القاضي أبو عبد الله المحاملي الشهير، الحسين بن إسماعيل الضبي البغدادي. عاش خمساً وتسعين سنة. قال أبو بكر الداؤدي: كان يحضر مجلس المحاملي عشرة آلاف رجل.
وفيها توفي الحافظ أبو عبد الله، محمد بن عبد الملك القرطبي. ألف كتاباً على سنن أبي داود، وكان بصيراً بمذهب مالك.
وفيها توفي الحافظ أبو عبد الله محمد بن يوسف الهروي، من أعيان الشافعية والراحلين في طلب الحديث، عاش مائة سنة.
وفيها توفي الزاهد العابد، صاحب المسجد المشهور بظاهر باب شرقي، يقال اسمه مفلح، وكان من الصوفية العارفين.
وفيها وقيل بعدها على ما حكاه ابن الهمداني في ذيل تاريخ الطبري توفي(2/224)
ببغداد وقيل بل في سنة أربع وعشرين وثلاثمائة الشيخ الإمام ناصر السنة، وناصح الأمه، إمام أئمة الحق، ومدحض حجج المبدعين المارقين، حامل راية منهج الحق ذي النور الساطع والبرهان القاطع، أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر إسحاق بن سلام بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى، عبد الله بن قيس الأشعري الصحابي رضي الله عنه. قلت هذا، ذكر اسمه ونسبه، وذكر الإمام السمعاني الأشعري نسبه إلى أشعر، أحد أجداده، وهو ثبت بن داود بن يشجب. قال: وإنما قيل له أشعر لأن أمه ولدته والشعر على يديه. انتهى.
قلت: نسبته المعروفة المتفق عليها إلى أبي موسى الأشعري الصحابي، وهو من الأشاعر: قبيلة من اليمن، ونسلهم إلى الآن باق،، وهم عرب يسكنون قريباً من زبيد، مشهورون بالنسب المذكور.
وأما ذكر مناقبه، وما ورد في السنة من الأحاديث الدالة على شرف أصله وكبر مجلسه، وما أمره به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في منامه، من النظر في سنته واتباعه لها ونصرته لمذهب الحق، وما شهد له به العلماء من الفضيلة والسيرة الجميلة، وما عرف به من العلم والعمل والعبادة والتقلل من الدنيا والزهادة، وعقوبة من أساء الظن به، واعتقد بطلان مذهبه وفساده، وبيان صحة إعتقاده وإعتداله وسداده، وما رئي له في المنام، مما يدل على أنه لمذهب الحق والهدى إمام، وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم باتباعه واتباع أصحابه للمسائل التي سأله في منامه، وما ورد عليه من الأمر بإقتدائهم في جوابه، وما مدحه به العلماء الأحبار من الفضائل بالنثر والأشعار، وغير ذلك مما لا يدخل تحت قيد الإنحصار، فإنه يحتاج في تدوين الجملة إلى تصانيف مفردة مستقلة كبار.
وقد صنف في ذلك كتاباً نفيساً الإمام الحافظ المحقق المسند الماهر، صاحب تاريخ الشام في ثمانين مجلداً، وأبو القاسم المعروف بابن عساكر صنفه في مجلد، وقد اختصرته في كتاب سميته " الشاش المعلم شاووش، كتاب المرهم المعلم بشرت المفاخر العلية في مناقب الأئمة الأشعرية "، ذكرت فيه نبذة من مناقبهم الجليلة، ومحاسنهم الجميلة، وسيرهم الحميدة، وعقائدهم السديدة التي وافقوا فيها عقيدة إمام الأئمة. أبي الحسن الأشعري المذكور، ناصر الحق البارع القامع للبدع المشكور. وحذفت ما ذكر ابن العساكر من الروايات والأسانيد في تآليفه وجمعه، رغباً في الإختصار، وهرباً من الملل في الإكثار، فجاء كتابي من كتابه قدر ربعه.(2/225)
قلت: ومما يدل على جلالة قدره وإرتفاعه وكثرة مصنفاته، فقد روى الحافظ أبو القاسم بسنده أنها عدت تراجمهم، ففاقت على ثلاثمائة وثمانين مصنفاً، منها " كتاب الفضول " في الرد على المحدثين والخارجين عن الملة، كالفلاسفة والتابعين والدهريين وأهل التشبيه والقائلين بقدم الدهر، على اختلاف مقالاتهم وأنواع مذاهبهم، ورد فيه على البراهمة واليهود والنصارى والمجوس. وهو كتاب مشتمل على اثني عشر كتاباً.
وكذلك " كتاب الموجز " يشتمل على اثني عشر كتاباً، على حسب تنوع مقالات المخالفين من الخارجين عن الملة، كالفلاسفة والداخلين، ورد على سائر أنواع المبتدعين في كتبه، تعميماً وتخصيصاً.
ومما يدل على ذلك أيضاً خطبة كتابه الذي صنفه في تفسير القرآن والرد على من خالف البيان من أهل الإفك والبهتان. قال: أما بعد، فإن أهل الزيغ والبدع والتضليل تأولوا القرآن على رأيهم، وفسروه على أهوالهم تفسيراً، لم يزل الله تعالى به سلطاناً، ولا أوضح به برهاناً، ولا رووه عن رسول رب العالمين، ولا عن أهل بيته الطيبين، ولا عن السلف المتقدمين من الصحابة والتابعين، افتراء على الله، قد ضلوا وما كانوا مهتدين، ثم قال في أثناء كلامه: وشيوخهم الذين قلدوهم، فأضلوهم وما هدوهم. قال: ورأيت الجبائي قد ألف كتاباً في تفسير القرآن، أوله على خلاف ما أنزله الله عز وجل لغة أهل قرية المعروفة بجبا، وليس من أهل اللسان الذي نزل به القرآن، وما روى في كتابه حرفاً واحداً عن المفسرين. وإنما اعتمد على ما وسوس به صدره وشيطانه، ولولا أنه استغوى بكتابه كثيراً من العوام، واستنزل به عن الحق كثيراً من العظام، لم يكن للتشاغل به وجه.
ثم ذكر المواضع التي أخطأ فيها الجبائي في تفسيره، وبين ما أخطأ فيه من تأويله من القرآن بعون الله تعالى وتيسيره، وكل ذلك مما يدل على جلة وكثرة علمه، وظهور فضله، جزاه الله تعالى عن جهاده في دينه بلسانه الحسنى، وأحله بإحسانه في مستقر جنانه. المحل الأسنى. واسم كتابه الذي ألفه في تفسير القرآن " المتحفون ".
قال الإمام الماهر في الفقه: محمد بن موسى بن عمار، فيما روى عنه الثقات الأخيار والعلماء الأحبار. ذكر لي بعض أصحابنا أنه رأى من تفسيره المذكور طرفاً وكان بلغ فيه سورة الكهف وقد أنهى مائة كتاب، ولم يترك آية يتعلق بها يدعي، إلا بطل تعلقه بها، وجعلها حجة لأهل السنة، وبين المجمل، وشرح المشكل، أو قال: المستشكل. قال: ومن وقف على تآليفه رأى أن الله تعالى قد أمده بإمداد توفيقه، وأقامه لنصرة الحق والذب عن طريقه.(2/226)
وكل من تعلق اليوم بمذهب السنة، وتفقه في معرفة أصول عن سائر المذاهب، نسب إلى أبي الحسن الأشعري، لكثرة تآليفه، وكثرة قراءة الناس لها، ولم يكن أول متكلم بلسان أهل السنة، إنما يجري على سنن غيره، وعلى نصرة مذهب معروف، فزاد المذهب حجة وبياناً، ولم يبتدع مقالة اخترعها، ولا مذهباً انفرد به.
ألا ترى أن مذهب أهل المدينة نسب إلى مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه؟ ومن كان على مذهب أهل المدينة يقال له مالكي، ومالك إنما جرى على سنن من كان قبله، وكان كثير الإتباع، إلا أنه زاد المذهب بياناً وبسطاً وحجة وشرحاً وألف كتابه الموطأ.
وأما ما أخذ عنه من الأسمعة والفتاوى، فنسب إليه لكثرة بسطه وكلامه فيه، وكذلك الإمام أبو الحسن الأشعري، لا فرق، فليس له في المذهب كثر من بسطه وشرحه وتأليفه في نصرته، فنجب في تلاميذه خلق كثير من المشرق. وكانت شوكة المعتزلة بالعراق شديدة، وأعظم ما كانت المحنة زمن المأمون والمعتصم، فتورع عن مجادلتهم أحمد بن حنبل، فموهوا بذلك على الملوك وقالوا: إنهم يعنون أهل السنة، يفرون من المناظرة لما يعلمون من ضعفهم على نصرة الباطل، وأنه لا حجة بأيديهم، وشنعوا بذلك عليهم، حتى امتحن في زمانهم أحمد بن حنبل وغيره، حتى أخذ الناس حينئذ بالقول بخلق القرآن، حتى ما كان تقبل شهادة شاهد، ولا يستقضي قاض، ولا يفتي مفت إلا يقول بخلق القرآن.
قال: وكان في ذلك الوقت جماعة من المتكلمين، كعبد العزيز المكي، والحارث المحاسبي، وعبد الله بن كلاب، وجماعة غيرهم، وكانوا أولي زهد، لم ير واحد منهم أن يطأ لأهل البدع بساطاً، ولا أن يداخلهم. وكانوا يردون عليهم، ويؤلفون الكتب في إدحاض حججهم، إلى أن أنشأ بعدهم، وعاصر بعضهم ابن أبي بشر الأشعري، يعني الشيخ أبا الحسن المذكور، فصنف في هذا العلم لأهل السنة التصانيف، وألف لهم التآليف، حتى أدحض الله تعالى حجج المعتزلة، وكسر شوكتهم. وكان يقصدهم بنفسه. ويناظرهم، فكلم في ذلك وقيل له: كيف تخالط أهل البدع، وتقصدهم بنفسك، وقد أمرت بهجرهم؟. فقال: هم أهل رئاسة، منهم الوالي والقاضي. ولرئاستهم لا ينزلون إلي، فإذا كانوا لا ينزلون إلى، ولا أسير أنا إليهم، فكيف يظهر الحق، ويعلمون أن للسنة ناصراً بالحجة؟.
قال: وكان أكثر مناظراته مع الجبائي المعتزلي، وله معه في الظهور عليه مجالس كثيرة، فلما كثرت تآليفه، ونصر مذهب أهل السنة وبسطه، تعلق بها أهل السنة من المالكية والشافعية وبعض الحنفية. فأهل السنة بالمشرق والمغرب بلسانه يتكلمون، وبحجته يحتجون.(2/227)
وأما أتباعه، فقد ذكر الإمام الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في كتابه، من أعيانهم، قريباً من ثمانين إماماً، ثم أردفتهم من جلة الأئمة ما صار للمائة تماماً. فمن اقتدى به، وتبعه في الإعتقاد من المحققين النظار النقاد، ممن جمع بين العلم والدين، وأقام قواطع الحجج والبراهين، كالإمام أبي بكر الباقلاني، والأستاذ أبي إسحاق الاسفرايني، والإمام ابن فورك، والشيخ الإمام أبي إسحاق الشيرازي، وأبي المعالي إمام الحرمين الجويني، والإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي، والإمام فخر الدين الرازي، والإمام عز الدين بن عبد السلام، والشيخ الإمام محيي الدين النواوي، والإمام تقي الدين بن دقيق العبد، وغير هؤلاء العشرة من ذوي المناقب الشهيرة.
وكذلك جماعة من أكابر المشايخ الجلة العارفين السالكين الربانيين المربين، كالشيخ أبي عبد الله القرشي، والأستاذ أبي القاسم القشيري، والشيخ شهاب الدين السهروردي، والشيخ أبي الحسن الشاذلي، وغيرهم من منابع الأسرار ومطالع الأنوار. وكان حامل رأيه من ماله من المناقب، وناصر مذهبه دون المذاهب، الإمام المحقق الحبر البارع ذو البرهان القاطع، والعلم الواسع، البحر الطامي، القاضي أبو بكر الباقلاني. وهو الذي رجح غير واحد من العلماء، أنه هو الذي كان على رأس المائة الرابعة لاحتياج الناس في قمع المبتدعين إلى علم أصول الدين.
قالوا: وكان على رأس " المائة الأولى " من الذين أشار صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث: " إن الله يحدث على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة، من يجدد لها أمر دينها "، عمر بن عبد العزيز، وعلى رأس " المائة الثانية " محمد بن إدريس الشافعي، وعلى رأس " المائة الثالثة " أبو الحسن الأشعري، وعلى رأس " المائة الرابعة " القاضي أبو بكر الباقلاني، وعلى رأس " المائة الخامسة " أبو حامد الغزالي. كل هؤلاء المذكورين نص عليهم الإمام الحافظ ابن عساكر وغيره من الأئمة، ونص على الأولين الإمام أحمد بن حنبل، ولم ينص على المائتين الأخريين، لأنه لم يدركها، وقد قيل أنه كان على رأس " المائة السادسة " فخر الدين الرازي، وعلى رأس " المائة السابعة " تقي الدين بن دقيق العبد. والله أعلم.
وكان الشيخ أبو الحسن المذكور شافعياً، يجلس في أيام الجمع في بدايته، في حلقة الفقيه الإمام أبي إسحاق المروزي الشافعي، في جامع المنصور.
قال الحافظ أبو نعيم: أخبرنا الأستاذ الإمام أبو منصور عبد القاهر البغدادي. وقال: سمعت عبد الله بن محمد بن طاهر الصوفي يقول: رأيت أبا الحسن الأشعري في مسجد البصرة، وقد أبهت المعتزلة في المناظرة، فقال له بعض الحاضرين: قد عرفنا تبحرك في(2/228)
علم الأصول، وأريد أن أسألك عن مسألة في الفقه، قال: اسأل عما شئت، فقال له: ما تقول في الصلاة بغير الفاتحة: قال: حدثنا زكريا بن يحيى قال: حدثنا عبد الجبار قال حدثنا سفيان، قال: حدثني الزهري عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ".
وحدثنا زكريا قال: حدثنا بندار قال: حدثني يحيى بن سعيد بن جعفر بن ميمون قال حدثني أبو عثمان عن أبي هريرة قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أنادي بالمدينة أنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب. قال: فسكت القائل، ولم يقل شيئاً.
قال الإمام الحافظ أبو القاسم ابن عساكر: وفي هذه الحكاية دلالة ظاهرة على أن أبا الحسن كان يذهب مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه قال: كذلك ذكر أبو بكر بن فورك، يعني الإمام المشهور في كتاب طبقات المتكلمين، وذكر غيره عن أئمتنا وشيوخنا الماضين.
وروى الإمام الحافظ أبو القاسم ابن عساكر المذكور، بسنده إلى الإمام الأستاذ أبي إسحاق الاسفرايني قال: كنت في جنب الشيخ أبي الحسن الباهلي كقطرة في البحر وسمعت الشيخ أبا الحسن الباهلي يقول: كنت في جنب الشيخ أبي الحسن الأشعري كقطر في البحر.
قلت: يعني بالباهلي المذكور شيخه، وشيخ الإمام ابن فورك، وتلميذ الشيخ أبي الحسن الأشعري. كما روى الحافظ أبو القاسم ابن عساكر، بسنده إلى القاضي أبي بكر الباقلاني قال: كنت أنا والأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني، والأستاذ ابن فورك معاً في درس الشيخ أبي الحسن الباهلي، تلميذ الشيخ أبي الحسن الأشعري، قال: وكان من شدة اشتغاله بالله تعالى مثل واله أو مجنون، وكان يدرس لنا في كل جمعة مرة واحده، وكان منا في حجاب، يرخي الستر بيننا وبينه كي لا نراه. انتهى. قلت: وإنما لم أترجم لهذا السب المذكور يعني أبا الحسن الباهلي لأني لم أقف على تاريخ موته.
وفيه مثل ما ذكر عنه في تدريسه في الجمعة مرة، سمعت من بعض أهل الخير والصلاح أنه كان يقيم في جبل " عدن " رجل مشتغل بالله تعالى، وله معرفة بالغة في النحو وكان ينزل إلى عدن يوماً في الجمعة، يشتغل الناس عليه في النحو.
والمشتغلون بالله والعلم على ثلاثة أقسام: منهم من لا يشتغل بالخلق بالكلية، لا بعلم ولا بعمل. ومنهم من يشتغل بالعلم وبالعمل معاً دائماً. ومنهم من يشتغل بهما أو بأحدهما في نادر من الأوقات كهذين السيدين المذكورين.(2/229)
ومن القسم الأول: الفقيه الإمام أحد الأولياء الكرام العالي المقام، صاحب الكرامات العظام، الشيني سفيان اليمني الحضرمي، ترك الإشتغال لما قيل له: إذا أردتنا فاترك القولين والوجهين.
ومن القسم الثاني: الفقيهان الإمامان الكبيران السيدان الوليان الشهيران، صاحبا المقامات العلية والكرامات الرضية، والمناقب العديدة والمحاسن الحميدة، زين الزمن وبركة اليمن: أبو الذبيح إسماعيل بن محمد الحضرمي، وأبو العباس أحمد بن موسى المعروف بابن عجيل. رضي الله عنهما.
رجعنا إلى ما كنا نحن بصدده، قال إمام المحدثين عمدة المسندين الحافظ الكبير السيد الشهير، قدوة الأئمة أكابر أبو القاسم ابن عساكر رحمه الله فكفى أبا الحسن فضلاً أن يشهد بفضله مثل هؤلاء الأئمة، وحسبه فخراً أن يثني عليه الأماثل من علماء الأمة، ولا يضر قدح من قدح فيه لقصور الفهم وعناءة الهمة، ولم يبرهن على ما يدعيه في حقه، إلا بنفس الدعوى ومجرد التهمة.
وقاد الإمام الحافظ الحبر المحقق الماهر، والبحر الخضم الطامي الزاخر، المشتمل على نفيس الدرر وعوالي الجواهر، الجامع بين المعقول والمنقول، والفروع والأصول. الصافي من سائر البدع، النقي أحمد بن الحسين، المكنى بأبي بكر البيهقي في أثناء رسالته: " الحسناء البالغة المرضية في مكاتبة العميد واستعطافه لنصرة الأشعرية ". ثم إنه أعز الله تعالى نصره صرف كلمته العالية إلى نصرة دين الله تعالى، وقمع أعداء الله عز وجل، بعدما تقرر للكافة حسن اعتقاده بتقرير خطباء أهل مملكته، على لعن من استوجب اللعن من أهل البدع ببدعته. فألقوا في سمعه ما فيه مساءة أهل السنة والجماعة كافة، ومصيبتهم عامة، من الحنفية والمالكية والشافعية، الذين لا يذهبون في التعطيل مذهب المعتزلة، ولا يسلكون في التشبيه طرق المجسمة من مشارق الأرض ومغاربها، ليتسلوه بالأسوة معهم في هذه المسماة، بما يسوءهم من اللعن والقمع في هذه الدولة المنصورة، يثبتها الله تعالى إن شاء، ونحن نرجوا عثوره عن قريب، على ما قصدوا وقوعه على ما أرادوا، ليستدرك بتوفيق الله عز وجل ما يدر منه فيما ألقي إليه، ويأمر بعزل من زور عليه، وقيح صورة الأئمة بين يدين، وكأنه خفي عليه أدام الله تعالى عزه حال شيخنا أبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى ورضوانه وما يرجع إليه من شرف الأصل وكبر المحل في العلم والفضل، وكثرة الأصحاب من الحنفية والمالكية والشافعية الذين رغبوا في علم الأصول، وأحبوا معرفة أوائل العقول. وفضائل الشيخ أبي الحسن الأشعري ومناقبه أكثر من أن يمكن حصرها في هذه الرسالة، لما في الإطالة من خشية الملالة.(2/230)
قلت: فهذا ما اقتصرت على ذكره من رسالته المليحة البالغة في الذب والنصرة والنصيحة، وكذلك الرسالة الأخرى في ذلك، البالغة في البلاغة والملاحه والبيان والفصاحة، للإمام الأستاذ العارف بالله، السالك بحر العلوم، وعلم العلماء الأعلام شيخ الشيوخ، أدلاء الطريقة وجمال الشريعة والحقيقة، زين الإسلام أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري، قدس الله روحه، وبل ثراه بماء الرحمة، ونور ضريحه.
ومن جملة كلامه فيها قوله: ظهر ببلد نيسابور من قضايا التقدير، في مفتتح سنة خمس وأربعين وأربعمائة من الهجرة، ما دعا أهل الدين إلى شق طراز خيرهم، وكشف قناع سرهم، بل طلب الملة الحنيفية يشكو عليلها، ويبدي عويلها، وينصب أعرابي رحمة الله عليه على من يسمع شكواها، ويصغي ملائكة السماء حين تبدت شجواها، ذلك مما أحدث من لعن إمام اللين، وسراح في اليقين، ومحي السنة وقامع البدعة، وناصر الحق وناصح الخلق، الزكي الرضي أبي الحسن الأشعري، قدس الله روحه، وسقي بماء الرحمة ضريحه، وهو الذي ذب عن الدين بأوضح حجج، وسلك في قمع المبتدعة وسائر أنواع المبتدعة أبين نهج، واستبذل وسعه في التصفح عن الحق، وأورث المسلمين بعد وفاته. كتبه الشاهدة بالصدق.
قلت: وهذا ما اقتصرت على ما ذكره أيضاً من رسالة الأستاذ المذكور في الذب عن الشيخ أبي الحسن الإمام المشكور، ونصرة مذهبه الظاهر الزاهر بالشرف والعز المنصور الذي قلت في معالي شرفه المشهور:
له منهج من نوره الكون باهج ... مضى لهدى الأشعرية مشعر
له بيض رايات العلى مع أئمة ... عزيز بحمد الله ما زال ينصر
عقيدة حق قد ذهب بجمالها ... عن السنة الغزاء، والحق يسفر
ومن كلام الأستاذ المذكور في الذب عن الإمام شيخ السنة الناصر، ما ذكر الإمام الحافظ أبو القاسم ابن عساكر قال: دفع إلي عبد الواحد بن عبد الأحد بن عبد الواحد بن عبد الكريم بن هوازن القشيري الصوفي النيسابوري بدمشق مكتوباً بخط جده الإمام أبي القاسم القشيري، وأنا أعرف الخط، فوجدت فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. اتفق أصحاب الحديث أن أبا الحسن علي بن إسماعيل الأشعري كان إماماً من أئمة أصحاب الحديث، مذهبه ومذهب أصحاب الحديث، تكلم في أصول الديانات وعلى طريقة أهل السنة، ورد على المخالفين من أهل الزيغ والبدعة، وكان على المعتزلة والروافض والمبتدعين من أهل القبلة والخارجين عن الملة سيفاً مسلولاً، ومن طعن فيه أو قدح فيه أو لعنه أو سبه، فقد(2/231)
بسط لسان السوء في جميع أهل السنة، بذلنا خطوطنا طائعين بذلك في هذا الكتاب، من ذي القعدة سنة ست وثلاثين وأربعمائة.
والأمر على هذه الجملة المذكورة في هذا الذكر كتبه عبد الكريم بن هوازن القشيري، وفيه: خط أبي عبد الله الخبازي المقرىء. كذلك يعرفه محمد بن علي الخبازي، وهذا خطه، وبخط الإمام أبي محمد الجويني. الأمر على هذه الجملة المذكورة فيه، وكتبه عبد الله بن يوسف وبخط أبي الفتح الشاشي، الأمر على الجملة التي ذكرت، وكتبه بضرب محمد بن الشاشي.
قلت: وذكر جماعة من الأئمة، قريباً من عشرين، منهم أبو الفتح الهروي، وأبو عثمان الصابوني، والشريف البكري، ومنهم: الشيخ أبو إسحاق الشيرازي. وهذا لفظه فيما نقله الإمام الحافظ ابن عساكر، الجواب: وبالله التوفيق، إن الأشعرية هم أعيان أهل السنة، وأنصار الشريعة، انتصبوا للرد على المبتدعة من القدرية والرافضية وغيرهم، فمن طعن فيهم فقد طعن عن أهل السنة، وإذا رفع أمر من يفعل ذلك إلى الناظر في أمر المسلمين، وجب عليه تأديبه بما يرتاع به كل أحد.
وكتب إبراهيم بن علي الفيروزابادي، وكذلك الإمام قاضي القضاة الدامغاني، والإمام أبو بكر محمد بن أحمد الشاشي، وغيرهم، وقال الإمام أبو القاسم المذكور، بعد أن ذكر خطوط الجميع: هذه الخطوط على من ذلك الدرج. ونقلها غيري من الفقهاء. قلت: فهذا ما أردت الإقتصار عليه في ترجمته، وهو قليل بالنسبة إلى جلالته، وإنما أرخيت العنان في ذلك إرخاء، لكوني رأيت بعض المؤرخين قد أعرض عن التعرض لذكره، وبعضهم ذكره بأوصاف يسيرة لا تليق بقدره، معرضاً عن ذكر فضائله ومرتبته العلية، لكونه رضي الله تعالى عنه منائياً بمذهبه الجامع بين المعقول والمنقول والحشوية، الواقفين مع ظواهر المنقول. وإن كان مستحيلاً في العقول، ومجانباً لعكسه أعيني مذاهب المبتدعة القائلين بالمعقول دون المنقول متوسطاً بين الطرفين المذمومين، سالكاً للنهج الأوسط المحمود، ومنبعه في كل صدور وورود رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ومن فضله الكريم في دار النعيم جازاه.
إحدى وثلاثين وثلاث مائة
فيها قلل ناصر الدولة ابن حمدان رواتب المتقي، وأخذ صناعته، وصادر العمال، وكرهه الناس، وزوج بنته بابن المتقي على مائتي ألف دينار، وهاجت الأمراء " بواسط(2/232)
" على سيف الدولة، فهرب، وسار آخوه ناصر الدولة إلى الموصل، فنهبت داره، وبرح خلق كثير من بغداد من تتابع الفن والخوف إلى الشام ومصر.
وفيها توفي أبو علي، حسن بن سعد بن إدريس الحافظ القرطبي، وكان فقيهاً صالحاً.
وفيها توفي الشيخ العارف محمد بن إسماعيل الفرغاني الصوفي، وكان من العابدين، وله نزهة حسنة، ومعه مفتاح منقوش، يصلي ويضعه بين يديه، كأنه تاجر، وليس له بيت، بل ينطرح في المسجد، ويطوي أياماً.
وفيها توفي الشيخ الجليل أبو محمود، عبد الله بن محمد بن منازل النيسابوري المجرد على الصدق والتحقيق. صحب حمدون القصار، وحدث بالمسند الصحيح أحمد بن سلمة النيسابوري، وكان له كلام رفيع في الإخلاص والمعرفة.
وفيها توفي الشيخ الكبير أبو الحسن، علي بن محمد بن سهل الدينوري. كان صاحب أحوال ومواعظ، ومن كلامه: من أيقن أنه لغيره، فماله أن يبخل بنفسه.
وفيها توفي الحافظ أبو عبيد الله بن محمد بن مخلد العطار الدوري، له تصانيف.
اثنتين وثلاثين وثلاث مائة
فيها كاتب المتقي بني حمدان، ليحكم توزون " بالمثناة من فوق وبين الواوين زاي " على بغداد. فقدم الحسين بن سعيد بن حمدان في جيش كثيف، فخرج المتقي والهاً ووزيره وساروا إلى " تكريت " ظنا أن سيف الدولة يراقب قدوم سيف الدولة على المتقي. وأشار بأن يصعد إلى الموصل. فتألم المتقي وقال: ما على هذا عاهدتموني. فتقلل أصحابه، وبقي في طائفة، وجاء توزون فاستعد للحرب ببغداد، فجمع ناصر الدولة جيشاً من الأعراب والأكراد، وسار إلى تكريت، ثم وقع القتال أياماً، فانهزم الخليفة والحمدانية إلى الموصل، ثم عملوا مصافاً أخرى، فانهزم سيف الدولة، فتبعه توزون، فانهزم بنو حمدان والمتقي إلى نصيبين، واستولى توزون على الموصل، وأخذ من أهلها مائة ألف دينار مصادرة، فراسل الخليفة توزون في الصلح وإعتذر بأنه ما خرج من بغداد إلا لما قيل(2/233)
أنك اتفقت، أنت والبريدي علي، والان قد آثرت رضاي، فصالح ابني حمدان، وأنا أرجع إلى داري. فأجاب إلى الصلح، ولم يحج الركب لموت القرمطي الطاغية أبي طاهر " بهجر " من جدري أهلكه، وأراح الله تعالى منه العباد والبلاد. وقام بعده أبو القاسم القرمطي.
وفيها توفي الحافظ أبو العباس، أحمد بن محمد الكوفي الشيعي، أحد أركان الحديث. وكان آية من آيات الله تعالى في الحفظ، حتى قال الدارقطني: أجمع أهل بغداد أنه لم يرد بالكوفة من زمن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه إلى زمن ابن عقدة أحفظ منه. قال: وقد سمعته يقول: أنا أجيب في ثلاثمائة ألف حديث من حديث أهل البيت وبني هاشم.
وروي عن ابن عقدة أنه قال: أحفظ مائة ألف حديث بأسنادها، وأذاكر بثلاثمائة ألف حديث. وقال أبو سعيد الماليني: تحول ابن عقدة مرة، وكانت كتبه ستمائة جمل، وقال بعض المحدثين: قد ضعفوه واتهمه بعضهم بالكذب، وقال بعضهم: كان يملي علي مثالب أصحابه فتركته.
وفيها توفي الإمام أبو العباس، أحمد بن محمد بن الوليد التيمي المصري، صنف " كتاب الانتصار " لسيبويه على المبرد. وكان شيخ الديار المصرية في العربية، مع أبي جعفر النحاس.
ثلاث وثلاثين وثلاث مائة
فيها حلف توزون أيماناً صعبة للمتقي، فسار من " الرقة " واثقاً بأيمانه، فلما قرب من الأنبار جاء توزون، وتلقاه، وقبل الأرض، وأنزله في مخيم ضرب له. ثم قبض على الوزير أبي الحسن بن علي بن مقلة، وكحل المتقي، فصاح المسلمون، فصرخ النساء، فأمر توزون بضرب الرباب حول المخيم، وأدخل بغداد مسمولاً مخلوعاً، وبويع عبد الله بن المكتفي، ولقب بالمستكفي بالله، فلم يحل الحول على توزون.
وفيها تملك سيف الدولة بن حمدان " حلب " وأعمالها، وهرب متوليها إلى مصر، فجهز الإخشيذ " بكسر الهمزة وبالخاء والشين والذال المعجمات والياء المثناة من(2/234)
تحت بعد الشين " ومعناه في لسان الترك ملك الملوك جيشاً، فالتقاهم سيف الدولة فهزمهم وأسر منهم ألف نفس، ثم سار إلى دمشق فملكها، وسار الإخشيذ ونزل على " طبرية " فخامر خلق من عسكر سيف الدولة إلى الإخشيذ، فانكسر سيف الدولة وجمعه فقصده الإخشيذ، فالتقاه، فانهزم سيف الدولة، ودخل الاخشيذ حلب. وأصاب بغداد قحط لم ير مثله، وهرب الخلق، وكان النساء يخرجن عشرين عشرين، وعشرة عشرة، تمسك بعضهم ببعض، بصحن الجوع الجوع، ثم تسقط الواحدة بعد الواحدة ميته.
وفيها توفي أبو علي اللؤلؤي، محمد بن أحمد البصري، راوي السنن عن أبي داود
أربع وثلاثين وثلاث مائة
فيها دثرت بغداد، وتداعت إلى الحراب من شدة القحط والفتن والجور.
وفيها اصطلح سيف الدولة والإخشيذ، وصاهره، وتقرر لسيف الدولة حلب وحمص وأنطاكية، وقصد معز الدولة بغداد، فاختفى الخليفة، وتسللت الأتراك إلى الموصل، وأقامت الديلم ببغداد، ونزل معز الدولة بباب الشماسية، وقدم له الخليفة التقاديم والتحف، ثم دخل إلى خدمة الخليفة وبايعه، فلقبه يومئذ معز الدولة، ولقب أخويه: علياً: عماد الدولة، والحسن: ركن الدولة، وضربت لهم السكة، واستوثقت المملكة لمعز الدولة، فلما تمكن كحل المستكفي بالله، وخلعه من الخلافة، لكون " علم القهرمانة " كانت تأمر وتنهي، فعملت دعوه عظيمة، حضرها خرشيد مقدم الديلم وعدة أمراء، فخاف معز الدولة من غائلتها، ولأن بعض الشيعة كان يثير الفتن، فآذاه الخليفة وكان معز الدولة متشيعاً فلما كان في جمادى الآخرة، ودخل الأمراء إلى الخليفة، ودخل معز الدولة فتقدم اثنان وطلبا من المستكفي رزقهما، فمد لهما يده ليقبلاها، فجذباه إلى الأرض وسحباه، فوقعت الصيحة، فنهبت دور الخلافة، وقبضوا على " علم " وخواص الخليفة وساقوا الخليفة ماشياً. وكانت خلافته سنة وأربعة أشهر، وصار ثلاثة خلفاء مكحولين: هو والذي قبله، والقاهر. ثم أحضر معز الدولة أبا القاسم الفضل بن المقتدر، فبايعه، ولقبه المطيع لله، وقرر له معز الدولة كل يوم مائة دينار للنفقة، وانحطت رتبة الخلافة إلى هذه المنزلة.
قلت: ما صار للخليفة من الخزائن، وما يدخل من جميع الدنيا؟ إجراء هذه القدر للنفقه، مع شدة الغلاء. فإنهم في هذه السنة في شعبان منها، كانوا ببغداد يأكلون الميتات والآدميين، ومات الناس على الطرق، وبيع العقار بالرغيفين(2/235)
واشتروا للمطيع كر دقيق بعشرة آلاف درهم.
قلت: والكر على ما قيل ستة وآلاف رطل بغدادي، فعلى هذا يكون قيمة كل رطل درهمين إلا ثلث درهم وهذا الغلاء وإن كان شديداً فقد وقع بمكة ما هو أشد منه، بلغ من الرطل الدقيق نحو درهمين في سنة ست وسبعمائة. بلغ في الزمن القديم على ما أخبرني من أثق به من شيوخ المجاورين فوق أربعة دراهم، وقع ذلك في زمانه. وبلغ في تهامة اليمن نحو هذا المبلغ، قبيل التاريخ المذكور، وقبل التاريخ المذكور، إنشاء تاريخي هذا بسنة.
وفيها توفي الإخشيذ محمد بن طفج، ملك مصر والشام ودمشق والحجاز وغيرها، التركي الفرغانجي، صاحب سرير الذهب، وأصله من أولاد ملوك فرغانة، ولاه المقتدر دمشق، فسار إليها،. ولم يزل بها إلى أن ولاه القاهر بالله مصر في شهر رمضان سنة إحدى وثلاثمائة، ثم ضم إليه الراضي بالله الجزيرة والحرمين وغير ذلك من البلاد المذكورة، ثم ضم إليه المتقي لله والحجاز وغير ذلك، مع ما تقدم. والإخشيذ لقب لقبه به الراضي، وهو لقب ملوك فرغانة، وتفسيره " ملك الملوك " كما تقدم. وكل من ملك ملك للناحية لقبوه بهذا اللقب، كما لقبوا كل من ملك بلاد فارس " كسرى "، وملك الترك " خاقان "، وملك الروم " هرقل "، وملك الشام " قيصر "، وملك اليمن " تبع "، وملك مصر " فرعون "، وملك الحبشة " النجاشي " وغير ذلك.
وقيصر: كلمة فرنجية تفسيرها بالعربية: شق عنه. وسببه أن أمه ماتت عنه من المخاض، وشق بطنها، وأخرج، فسمي قيصر.
وكان يفتخر على غيره من الملوك بذلك، ودعي لإخشيذ على المنابر بهذا اللقب، واشتهر به، وصار كالعلم عليه. وكان. ملكاً حازماً كثير التيقظ في حروبه، ومصالح دولته، وحسن التدبير، مكراراً للجند، شديد القوى.
وذكر بعضهم أن جيشه كان يحتوي على أربعمائة ألف رجل، وله ثمانية آلاف مملوك، ويحرسه في كل ليلة ألفان منهم،، ويوكل بجانب خيمته الخدم إذا سافر، ثم لم يثق ذلك حتى يمضي إلى خيم الفراشين ينام فيها، ولم يزل على مملكته إلى أن توفي في الساعة الرابعة من يوم الجمعة، لثمان بقين من ذي الحجة في السنة المذكورة بدمشق. وحمل تابوته إلى بيت المقدس ودفن فيه. وكانت ولادته يوم الاثنين منتصف رجب من سنة ثمان وستين ومائتين ببغداد، وهو أستاذ كافور الأخشيذي المشهور، فاتك المجنون، ثم قام كافور المذكور بتربية ابني مخدومه أحسن قيام، وهما: أبو القاسم وأبو الحسن. وستأتي ولاية(2/236)
كافور، وما يتعلق به. وأقام الجند بعد كافور أبا الفوارس أحمد بن علي بن الإخشيذي، وجعل خليفته في تدبير أموره الحسن بن عبد الله، وهو ابن عم أبيه وفيه يقول المتنبي:
إذا صلت لم أترك مصالاً لفاتك ... وإن قلت لم أترك مقالاً لعالم
وإلا فخانتني القوافي عافني ... عن ابن عبيد الله ضعف العزائم
وفي قصيدة طويلة يقول فيها:
أرى دون ما بين الفرات وبرقة ... سراباً لمشي الخيل فوق الجماجم
وطعن عصاريف كأن أكفهم ... عرفن الردينيات قبل العواصم
وهم يحسنون الكر في حومة الوغى ... وأحسن منه كرهم في المكارم
وهم يحسنون العفو عن كل مذنب ... ويحتملون الغرم عن كل غارم
حبيسون إلا أنهم في نزالهم ... أقل حياء من شفاء الصوارم
ولولا احتقار الأشد شبهتها بهم ... ولكنهم معدودة في البهائم
وكان امتداده له في ولايته الرملة، وانقراض دولة الإخشيذ في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة. ودخل إلى مصر رايات المغاربة الواصلين صحبة القائد جوهر وسيأتي ذكره.
وفيها توفي قاضي القضاة أبو الحسن أحمد بن عبد الله الخرقي.
وفيها توفي الوزير العدل علي بن عيسى بن داود بن الجراح البغدادي الكاتب، وزر مرات للمقتدر، ثم للقاهر. وكان محدثاً عالماً ديناً خيراً، عالي الأسناد، روى عن أحمد بن بديل، والحسن الزعفراني وطائفة، قيل: وكان في الوزراء كعمر بن عبد العزيز في الخلفاء.
قال القاضي أحمد بن كامل: سمعت الوزير علي بن عيسى يقول: كسبت سبعمائة ألف دينار، أخرجت منها في وجوه البر ستمائة ألف دينار وثمانين ألف دينار. وآخر من روى عنه ابنه عيسى في أماليه.
قلت: ومما يدل على فضله وما خصته به العناية قضيتان ذكرتهما في كتابي روض الرياحين: إحداهما: أن بعض المضطرين من أهل الخير المشغولين، رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النوم في وقت ضرورة وهو يقول له: إذا أصبحت اذهب إلى الوزير علي بن عيسى، وقل له: بإمارة ما صلى علي عند قبري كذا وكذا من مرة يدفع إليك كذا وكذا. وعين شيئاً كثيراً من الصلاة عليه ومن المال. فلما أصبح ذهب إلى الوزير المذكور ومعه المقرىء بن مجاهد المشهور فقال الوزير لابن مجاهد: ما حاجتك يا أبا بكر؟ فقال: يدني(2/237)
الوزير هذا الشيخ ويسمع كلامه، فسأل ذلك الشيخ عن قصته، فأعلمه بضرورته، وما قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد رفعت عينا علي بن عيسى، وقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وصدقت أيها الشيخ، هذا شيء لم يكن أطلع عليه إلا الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. ثم استدعى بالكيس، فعدله ألفاً، ثم عدد ألفاً آخر وقال: هذا شكر ما ذكرت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأشك في ألف ثالث دفعه إليه بشارة.
وأما القضية الثانية: فما ذكروا أنه ركب علي بن عيسى الوزير يوماً في موكبه، فصار الغرباء يقولون: من هذا؟ من هذا؟. فقالت امرأة: إلى كم تقولون من هذا، من هذا؟ هذا عبد سقط من عين الله، فابتلاه بما ترون. فسمعها علي بن عيسى، فرجع إلى منزله، واستعفى من الوزارة، وذهب إلى مكة فجاور بها.
وفي السنة المذكورة توفي الإخشيذ التركي الفرغاني ملك مصر والشام ودمشق وغيرها.
وفيها توفي القائم بأمر الله، أبو القاسم نذار بن المهدي عبيد الله الداعي الباطني. صاحب المغرب، وقد سار مرتين إلى مصر ليملكها، فما قدر له دخول الإسكندرية في المرتين معاً وتملكها.
وفي الثانية: جاء بعسكر عظيم، وبلغ " الجيزة " فوردت الأخبار بذلك إلى بغداد، فجهز المقتدر مؤنساً الخادم إلى محاربته بالرجال والأموال، فجد في السير، فلما وصل إلى مصر التقيا، وجرت بين العسكرين حروب لا توصف، ووقع في عسكر القائم الوباء والغلاء والأهوال، فمات الناس والخيل، فرجع إلى إفريقية ومعه عسكر مصر. وكان وصوله إلى " المهدية " في رجب سنة سبع وثلاثمائة، وفي أيامه خرج أبو يزيد مخلد بن كندار الخارجي، وجرت له أمور يطول شرحها ومات في المهدية.
وفيها توفي الشيخ الكبير العارف بالله الشهير صاحب المعارف السنية والأحوال القوية: أبو بكر الشبلي دلف بن جحدر، اشتغل في أول أمره بالفقه، وبرع في مذهب مالك، ثم سلك وصحب الجنيد وغيره من مشايخ عصره، وكان نسيج وحده حالاً وطرفاً وعلماً، وقيل: تاب في ابتداء أمره في مجلس خير النساح. ومجاهداته في أول أمره فوق الحد،(2/238)
ويقال أنه اكتحل بكذا وكذا من الملح لعتاد السهر، وكان يبالغ في تعليم الشرع، وإذا دخل رمضان جد في الطاعات ويقول: هذا شهر عظمه ربي عز وجل، فأنا أولى بتعظيمه.
ودخل يوماً على شيخه الجنيد، فوقف بين يديه، وصفق بيديه وأنشد:
عودوني الوصال والوصل عذب ... ورموني بالضد والضد أصعب
زعموا حين عاتبوا أن ذنبي ... قر طبعي لهم وما ذاك أذنب
ألا وحق الخضوع عند التلاقي ... ما جزاء من يحب إلا يجب
فقال الجنيد: نعم يا أبا بكر. وكانت امرأة الجنيد عنده حاضرة، فأرادت أن تشتري منه، فقال لها الجنيد: لا عليك، وهو غائب لا يراك. ثم بكى بعد إنشاده فقال الجنيد: اشتري منه الآن فقد حضر.
وقال بعضهم: دخلت على الشبلي يوماً في داره، وهو يصيح ويقول: على بعدك لا يصبر من عادته القرب، ولا يقوى على هجرك من يتمه الحب، فإن لم ترك العين فقد أبصرك القلب.
وقال الشبلي: رأيت معتوهاً عند جامع الرصافة يقول: أنا مجنون، أنا مجنون، فقلت له: لم لا تصلي. فأنشأ يقول:
يقولون زرنا واقض واجب حقنا ... وقد أسقطت حالي حقوقهم عني
إذا هم رأوا حالي فلم يأنفوا لها ... ولم يأنفوا منها أنفت لهم مني
وقال بعضهم: دخلت على الشبلي، فرأيته ينتف شعر حاجبه بالملقاط، فقلت له: سيدي، إنك تفعل هذا، وألمه يعود إلي، فقال: ظهرت لي الحقيقة فلم أستطع حملها، فإذا دخل على نفسي الألم لكي يستتر عني، فلا وجدت الألم، ولا هي استترت عني، ولا أنا أطيق حملها. وكان أبوه من حجاب الدولة، وله مقالات وحكايات وعجيبات، ذكرت شيئاً منها في غير هذا الكتاب.
وقد سأله بعض الفقهاء عن مسألة في الحيض امتحاناً فأجابه، وذكر فيها ثمانية عشر قولاً للعلماء، وكان قد أراد تخجيله وإظهار جهله في مجلسه بين الخلق، لكون خلقتهم بطلت باجتماع الناس على الشبلي، ولم يكن عند ذلك الفقيه من الأقوال المذكورة سوى ثلاثة.
خمس وثلاثين وثلاث مائة
فيها تملك سيف الدولة دمشق بعد موت الإخشيذ، فحاربه به جيوش مصر، فدفعته(2/239)
إلى " الرقة " بعد حروب وأمور واصطلح معز الدولة بن بويه، وناصر الدولة بن حمدان.
وفيها توفي الفقيه الإمام أبو العباس ابن القاص الطبري الشافعي، وله مصنفات مشهورة، تفقه على الإمام أبي العباس بن سريج.
وفيها توفي العلامة الأخباري الأديب، صاحب التصانيف محمد بن يحيى البغدادي الصولي الشطرنجي، قال ابن خلكان: كان أحد الأدباء الفضلاء المشاهير، روى عن أبي داود السجستاني، وأبي العباس ثعلب والمبرد وغيرهم.
وروى عنه الإمام الحافظ أبو الحسن الدارقطني، والإمام أبو عبد الله المرزباني وغيرهما ونادم المكتفي ثم المقتدر ثم الراضي، وكان أغلب فنونه أخبار الناس، وله رواية واسعة ومحفوظات كثيرة، وكان حسن الإعتقاد، جميل الطريقة، مقبول القول، وكان أوحد وقته في لعب الشطرنج، لم يكن في عصره مثله في معرفته، والناس الأن يضربون به المثل، فيقولون لمن يبالغون في حسن لعبه: فلان يلعب الشطرنج مثل الصولي.
قال ابن خلكان: ورأيت خلقاً كثيراً يعتقدون أن الصولي هو الذي وضع الشطرنج وهو غلط، فإن الذي وضعه " صصه " بالصاد المهملة المكررة بكسر الأولى منها وفتح الثانية وتشديدها وسكون الهاء في آخره ابن داهر الهندي، وضعه للملك " شيرام " بكسر الشين المعجمة وسكون الياء المثناة من تحتها والراء المكررة بعد الياء والميم، وكان " أزدشير " يفتح الهمزة والدال وسكون الراء بينهما وكسر الشين المعجمة وسكون المثناة من تحت وفي آخره راء، ابن بابك أول ملوك الفرس الأخيرة، قد وضع " النرد "، ولذلك قيل له " النردير " نسبة إلى واضعه المذكور، وجعله مثلا للدنيا وأهلها، فرتب الرقعة اثني عشر بعدد شهور السنة، وجعل القطع ثلاثين قطعة بعدد أيام كل شهر، وجعل الفصوص مثل القدر، ويقبله أهل الدنيا فالكلام في هذا يطول ويخرج عما نحن بصدده، فافتخرت الفرس بوضع النرد على ملك الهند، وكان ملك الهند يومئذ بلهيت " بفتح الموحدة وسكون اللام وفتح الهاء وسكون المثناة من تحت وبعدها مثناة من فوق على ما ضبطه بعض الناسخين " والله أعلم بصحة ذلك.
قلت: واسم الملك المذكور مخالف لما تقدم، من أن اسم الملك الذي وضع له شيرام، ويحتمل أن يكون أحد اللفظين إسماً له، والآخر لقباً. فلما وضع الشطرنج المذكور(2/240)
قضت حكماء ذلك العصر بترجيحه على النرد، ويقال أن " صصه " لما وضعه وعرضه على الملك المذكور أعجبه، وفرح به كثيراً، وأمر أن يكون في بيت الديانات، ورآها أفضل ما عمل، لأنها آلة الحرب، وعز الدين والدنيا، وأساس لكل عدل، وأظهر الشكر والسرور على ما أنعم عليه في ملكه بها. وقال لصصه: اقترح علي ما تشتهي، فقال: اقترحت أن تضع حبة بر في البيت الأول، ولا تزال تضعفها في كل بيت حتى تنتهي إلى آخرها، فمهما بلغ تعطيني. فاستصغر الملك ذلك، وأنكر عليه كونه قابله بالبر واليسير التافه الحقير، وكان قد أضمر له شيئاً كثيراً فقال: ما أريد إلآ هذا، وأصر على ذلك، فأجابه إلى مطلوبه، وتقدم له به، فلما قيل لأرباب الديوان أحسبوه قالوا: ما عندنا حب يفي بهذا، ولا بما يقاربه. فلما قيل للملك ذلك استنكر هذه المقالة، وأحضر أرباب الديوان، وسألهم فقالوا: لو جمع كل حب من البر في الدنيا، ما بلغ هذا القدر، فتعجب من مقالهم، وطالبهم بإقامة البرهان على ذلك، فقعدوا وحسبوه، وظهر لي صدق قولهم، فقال الملك: لصصه: أنت في اقتراحك ما اقترحت أعجب حالاً من وضعك الشطرنج.
قال ابن خلكان: وطريق هذا التضعيف أن يضع الحاسب في البيت الأول حبة، وفي الثاني حبتين، وفي الثالث أربع حبات، وفي الرابع ثماني حبات، وهكذا إلى آخره، فكلما انتقل إلى بيت أضعف ما قبله، وأثبته فيه. قال: ولقد كان في نفسي شيء من هذه المبالغه حتى اجتمع لي بعض حساب الإسكندرية، وذكر لي طريقاً يتبين صحة ما ذكروه، وأحضر لي ورقة بصورة ذلك، وهو أنه ضاعف الأعداد إلى البيت السادس عشر، وأثبت فيه وثلاثين ألفاً وسبع مائة وثماني وستين حبة، وقال: يجعل هذه الجملة مقدار قدح، قال: فغيرناها، فكانت كذلك، والعهدة عليه في هذا النقل، ثم ضاعف القدح في أبي السابع عشر، وهكذا حتى بلغ بيته في البيت العشرين، ثم انتقل إلى الوبيات ومنها إلى الأرادب، ولم يزل يضاعفها حتى انتهت في الأربعين إلى مائة ألف أردب، وأربعة وسبعين ألف أردب وسبع مائة واثنتين وستين أردباً وثلاثين أردباً. وقال: يجعل هذه الجملة في شونة، فقال: يجعل هذه مدينة، فإن المدينة لا يكون فيها أكثر من هذه الشون، وأي مدينة يكون فيها هذه الجملة من الشون؟. ثم ضاعف المدن حتى انتهت إلى بيت الرابع والستين، وهو آخر أبياته، دفعه الشطرنج إلى ستة عشر ألف مدينة وثلاثمائة وأربع وثمانين مدينة، وقال: نعلم أن ليس في الدنيا مدن أكثر من هذا العدد، فإن دور كرة الأرض معلوم بطريق الهندسة، وهو ثمانية آلاف فرسخ، بحيث لو وضعنا طرف حبل على أي موضع كان من الأرض وأدرنا الحبل على كرة الأرض، حتى، انتهينا بطرف الآخبر إلى ذلك الموضع(2/241)
الأرض، والتقى طرف الحبل، فإذا مسحنا ذلك الحبل كان طوله أربعة وعشرين ألف ميل، وهي ثمانية آلاف. قال: وذلك قطعي لا شك فيه.
وقد أراد المأمون أن يقف على حقيقة ذلك، وكان معروفاً بعلوم الأوائل وتحقيقها
ورأى فيها أن دور كرة الأرض عشرون ألف ميل. فسأل بني موسى بن شاكر - وكانوا قد اجتهدوا في معرفة علم الهندسة وغيرها من علم الأوائل - فقالوا: نعم، هذا قطعي، فقال: أريد منكم أن تعلموا الطريق الذي ذكره المتقدمون، حتى يبصر هل ينجز ذلك أم لا. فسألوا عن الأراضي المتساوي البلاد فقيل لهم: صحراء سنجار في غاية الاستواء، وكذلك وطأة الكوفة، فأخذوا معهم جماعة ممن يثق المأمون إلى أقوالهم، ويركن إلى معرفتهم بهذه الصناعة، وخرجوا إلى صحراء سنجار، فوقفوا في موضع منها، وأخذوا ارتفاع القطب الشمالي ببعض الآلات، وضربوا في ذلك الموضع وتداً، وربطوا فيه حبلاً طويلاً، ثم مشوا إلى الجهة الشمالية على الاستواء من غير انحراف. إلى يمين أو شمال، بحسب الإمكان، فلما فرغ الحبل نصبوا في الأرض وتداً آخر، وربطوا فيه حبلاً آخر، ومشوا إلى جهة الشمال أيضاً كفعلهم الأول، ولم يزل دأبهم ذلك، كلما فرغ الحبل ضربوا وتداً، وربطوا فيه طرف ذلك الحبل الذي فرغ، وطرف حبل آخر، ومشوا إلى جهة الشمال حتى انتهوا إلى موضع، أخذوا فيه ارتفاع القطب المذكور، فوجدوا قد زاد عن الارتفاع الأول درجة. فمسحوا ذلك القدر الذي قدروه من الأرض بالحبال، فبلغ ستة وستين ميلاً وثلثي ميل.
ومن المعلوم أن عدد درج الفلك ثلاثمائة وستون درجة، لأن الفلك مقسوم باثني عشر برجاً، كل برج ثلاثون درجة، فضربوا عدد درج الفلك الثلاث مائة والستين، في ستة وستين ميلاً وثلثين التي هي حصة كل درجة، فكانت الجملة أربعة وعشرين ألف ميل، وهي ثمانية آلاف فرسخ، وهذا محقق لا شك فيه، فلما عاد بنو موسى إلى المأمون، وأخبروه بما صنعوا وكان موافقاً لما رآه في الكتب القديمة من استخراج الأوائل طلب تحقيق ذلك في موضع آخر أيضاً، فصيرهم إلى أرض الكوفة، ففعلوا فيها كما فعلوا في سنجار، فتوافق الحسابان، فعلم المأمون صحة ما حرره القدماء في ذلك. انتهى كلام ابن خلكان في ذكر مساحة دور كرة الأرض.
قلت: فعلى هذا يكون دور كرة الأرض مسيرة ألف مرحلة، وذلك مسيرة ثلاث سنين إلا ثمانين يوماً في مسير النهار دون الليل، أو الليل دون النهار، لأن المرحلة ثماني فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، كما هو معلوم في حساب مسافة القصر الشرعية. ولكن هذا ينافي ما قد اشتهر أن الأرض مسيرة خمسمائة سنة، مع أن طول الشيء أقل من دوره، وتعلم من(2/242)
ذلك أيضاً أن في كل ثلاث مراحل إلا خمسة أميال وثلث في السير إلى جهة الشمال يرتفع القطب درجة، ويكون عرض البلد الذي انتهى إليها زائداً بدرجة على عرض التي ابتدأ بالسير منها، بالثلاث المراحل المذكورة، إذ كانت المرحلة أربعاً وعشرين ميلاً، كما قدروها في مسافة القصر.
ومما يدلك على صحة هذا، أن عرض " المدينة المشرفة " تزيد على عرض مكة المعظمة بثلاث درج، والله أعلم. وهذا لعمري يخالف ما قيل في أثر، وورد في الخبر أن الأرض مسيرة خمسمائة عام، والله سبحانه العلام.
رجعنا إلى كلام ابن خلكان وقال: يعلم ما في الأرض من المعمور، وهو قدر ربع الكرة بطريق التقريب، وقد انتشر الكلام، وخرجنا عن المقصود، ولكنه ما خلا عن فائدة أحببت إثباتها، ليقف عليها من يستنكر ما قالوه في تضعيف الخبر المذكور في رقعة الشطرنج، يعني أنه يبلغ قدره إلى ما ذكر، وإن كان ذلك مما يستنكر.
ثم قال: ولنرجع إلى حديث الصولي: حكى المسعودي في كتاب مروج الذهب قال: وقد ذكر أن الصولي في بدء دخوله على الإمام المكتفي لعب مع الماوردي بالشطرنج، وكان الماوردي متقدماً عند المكتفي، متمكناً من قبل، معجباً به للعب، فلما لعبا جميعاً بحضرة المكتفي حمد المكتفي حسن رأيه في الماوردي، وتقدم الحرمة والألفة على نصرته وتشجيعه وتنبيهه، حتى أدهش ذلك الصولي في أول وهلة، فلما اتصل اللعب بينهما، وجمع له الصولي هذه وقصده بكليته، غلبه غلبة لا يكاد يرد عليه شيئاً، وتبين حسن لعب الصولي للمكتفي، فعدل عن هواه ونصرته للماوردي، وقال له عاد ماء وردك بولاً.
قال ابن خلكان: وأخبار الصولي، وما جرى له أكثر من أن تحصى، ومع فضائله والاتفاق على تفننه في العلوم، وخلاعته وظرافته، ما خلا من منتقص هجاه هجواً لطيفاً، وهو أبو سعيد العقيلي بضم العين المهملة وفتح القات فإنه رأي له بيتاً مملوءاً كتباً، قد صنفها، وجلودها مختلفة الألوان، وكان يقول: هذه كلها سماعي وإذا احتاج إلى معاودة شيء منها قال: يا غلام هات الكتاب الفلاني، فقال أبو سعيد المذكور هذه الأبيات:
إنما الصولي شيخ ... أعلم الناس خزانة
إن سألناه بعلم ... طلب منه إبانة(2/243)
قال يا غلمان هاتوا ... رزمة العلم فلانة
توفي رحمه الله سنة خمس، وقيل سنة ست وثلاثين وثلاثمائة بالبصرة مستتراً، لأنه روى خبراً في حق علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، فطلبه الخاصة والعامة ليقتلوه، فلم يقدروا عليه. وكان قد خرج من بعد مضايقة لحقته.
وفي السنة المذكور توفي الحافظ أبو سعيد الشاشي، صاحب المسند، محدث ما وراء النهر.
ست وثلاثين وثلاث مائة
فيها توفي الحافظ أبو الحسين بن المنادي. صنف وجمع وسمع من جده وخلق كثير.
وفيها توفي أبو طاهر المحمدأبادي، ومحمد بن الحسن النيسابوري، أحد أئمة اللسان، كان إمام الأئمة. ابن خزيمة إذا شك في لغة سأله عنها.
وفيها توفي أبو العباس الأثرم محمد بن أحمد المقرىء البغدادي.
سبع وثلاثين وثلاث مائة
فيها كان الفرق ببغداد، فبلغت دجلة إحدى وعشرين ذراعاً، وهلك خلق كثير تحت الهدم. وفيها قوي معز الدولة على صاحب الموصل ابن حمدان، وقصده، فقر ابن حمدان إلى نصيبين ثم صالحه على ثمانية آلاف ألف في السنة وفيها: خرجت الروم وهرب سيف الدولة عن مرعش وملكوها. وهي بالعين والشين المعجمتين، كذا ضبطها بعضهم.
وفيها توفي الشيخ العارف بالله أبو إسحاق شيبان القرميسيني، صحب أبا عبد الله المغربي والخواص وغيرهما. ومن كلامه قوله: علم الفناء والبقاء يدور على إخلاص الوحدانية، وصحة العبودية، وما كان غير هذا فهو المغاليط والزندقة.
ثمان وثلاثين وثلاث مائة
فيها تعذر خروج ركب العراق للحج، وفيها توفي المستكفي بالله عبد الله ابن(2/244)
المكتفي بالله علي بن المعتضد بالله، أحمد.
وفيها توفي عماد الدولة أبو الحسن علي بن بويه الديلمي بضم الموحدة وفتح الواو وسكون المثناة من تحت والهاء. كان أبوه صياداً، ليست معيشته إلا من صيد السمك وكانوا ثلاثة إخوة: عماد الدولة، وركن الدولة، ومعز الدولة، والجميع ملكوا، وكان عماد الدولة وهو أكبرهم سبب سعادتهم وانتشار صيتهم، واستولى على البلاد وملوك العراقين والأهواز وفارس، وساسوا أمور الرعية أحسن سياسة، ثم لما ملك عضد الدولة بن ركن الدولة، اتسعت مملكته، وزادت على ما كانت لأسلافه.
وذكر هارون بن العباس المأموني في تاريخه: أن عماد الدولة المذكور اتفقت له أسباب عجيبة، كانت سبباً لثبات مملكته، منها أنه اجتمع أصحابه في أول ملكه، وطالبوه بالأموال، ولم يكن معه ما يرضيهم، وأشرف على الانحلال، فاغتم لذلك. فبينا هو يفكر قد استلقى على ظهره في مجلسه، إذ رأى حية خرجت من موضع من سقف من ذلك المجلس، ودخلت في موضع آخر منه، فخاف أن يسقط عليه، فدعا الفراشين، وأمرهم بإحضار سلم وأن تخرج الحية، فلما صعدوا وبحثوا عن الحية، وجدوا ذلك السقف يفضي إلى غرفة بين سقفين، فعرفوه ذلك، فأمرهم بفتحها، ففتحت، فوجد فيها عدة صناديق من المال والصياغات، قدر خمسمائة ألف دينار، فحمل المال إلى بين يديه، فسر به فأنفقه في رجاله، وثبت أمره بعد أن كان قد أشفى على الانخرام، ثم إنه قطع ثياباً، وسأل عن خياط حاذق، فوصف له خياط كان لصاحب البلد فأمر بإحضاره وكان أطروشاً فوقع له أنه قد سعي به إليه في وديعة كانت عنده لصاحب البلد، وأنه طلبه لهذا السبب، فلما خاطبه حلف أنه ليس عنده إلا اثني عشر صندوقاً لا يدري ما فيها، فعجب عماد الدولة من جوابه ووجه معه من حملها، فوجدوا فيها أموالاً وثياباً بجملة عظيمة، وكانت هذه من الأسباب الدالة على قوة سعادته، ثم تمكنت حاله، واستقرت فيها قواعده.
وفيها توفي أبو جعفر النحاس أحمد بن محمد النحوي المصري. ناظر ابن الأعرابي ونفطويه، وله تصانيف كثيرة مفيدة منها: " تفسير القرآن الكريم "، و " كتاب إعراب القرآن " و " كتاب الناسخ والمنسوخ "، و " التفاحة " في، النحو و " كتاب في الاشتقاق "، و " تفسير أبيات سيبويه "، ولم يسبق إلى مثله، وفسر عشرة دواوين وأملاها، و " كتاب في شرح المعلقات السبع "، و " كتاب طبقات الشعراء " وغير ذلك، وهي بضعة عشر مصنفاً، مما يتعلق بالنحو والأدب، ونحو ذلك مما يرجع إلى العربية.(2/245)
وفيها توفي الإمام الحافظ علي بن حمشاذ بالشين والذال المعجمتين وبينهما ألف وفي أوله حاء مهملة مكسورة وميم مكسورة مشددة النيسابوري. رحل وطوف وصنف، وله سند كبير وتفسير. توفي فجأة في الحمام. قال أحمد بن إسحاق الضبعي: صحبت علي بن حمشاذ في الحضر والسفر، فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه خطيئة.
وفيها توفي الفقيه الصالح محمد بن عبد الله بن دينار النيسابوري. قال الحاكم: كان يصوم النهار، ويقوم الليل، ويصبر على الفقر، ما رأيت في مشايخنا لأصحاب الرأي أعبد منه.
وفيها توفي الحسن أخو الوزير علي بن مقلة.
تسع وثلاثين وثلاث مائة
فيها دخل سيف الدولة بن حمدان بلاد الروم في ثلاثين ألفاً، فافتتح حصوناً، وسبى وغنم. فأخذت الروم عليه الدروب، واستولوا على عسكره قتلاً وأسراً، ونجا هو في عدد قليل، وتوصل من سلم بأسوأ حال.
وفيها أعادت القرامطة الحجر الأسود إلى مكانه، وكان بعض الأمراء قد دفع فيه لهم خمسين ألف دينار فأبوا.
وفيها توفي الحافظ أبو محمد، أحمد بن محمد الطوسي. قال الحاكم: كان أوحد عصره في الحفظ والوعظ، وأخرج صحيحاً على وضع مسلم.
وفيها توفي أبو عبد الله محمد بن عبد الله الأصبهاني. صنف في الزهد وغيره، وصحب العباد، وكان من أكبر الحفاظ حديثاً، قال الحاكم: هو محدث عصره، مجاب الدعوة، لم يرفع رأسه إلى السماء فيما بلغنا نيفاً وأربعين سنة.
وفيها توفي القاهر بالله أبو منصور محمد بن المعتضد العباسي.
وفيها توفي أبو نصر، محمد بن محمد التركي الفارابي الحكيم المشهور، صاحب التصانيف في المنطق والموسيقى وغيرهما من العلوم. قيل: هو أكبر فلاسفة المسلمين، لم يكن فيهم من بلغ رتبته في فنونه، والرئيس أبو علي بن سينا بكتبه تخرج، وبكلامه انتفع في تصانيفه. خرج أبو نصر المذكور من بلده، ولم يزل تنتقل به الأسفار إلى أن وصل إلى بغداد وهو يعرف اللسان التركي وعدة لغات غير العربي، فشرع في اللسان العربي،(2/246)
فتعلمه، وأتقنه غاية الاتقان، ثم اشتغل بعلوم الحكمة، ولما دخل بغداد كان فيها أبو بشر قسطا بن يونس الحكيم المشهور، وهو شيخ كبير يعلم الناس فن المنطق، وله إذ ذاك صيت عظيم، وشهرة وافية، ويجتمع في حلقته كل يوم خلق كثير وهو يقرأ كتاب أرسطاطاليس ليس في المنطق، ويملي على تلامذته شرحه، فكتب عنه وفي شرحه سبعون سفراً، ولم يكن في ذلك الوقت أحد مثله في فنه.
وكان في تآليفه حسن العبارة، لطيف الإشارة. وكان يستعمل في تصانيفه البسط والتذييل، حتى قال بعض علماء هذا الفن: ما أرى أبا نصر الفارابي أخذ طريق تفهيم المعاني الجزلة بالألفاظ السهلة إلا من أبي بشر، يعني: شيخه المذكور. وكان أبو نصر يحضر مجلسه من جملة تلامذته، فأقام بذلك برهة ثم ارتحل إلى مدينة حران.
وفيها توفي ابن خيلان بالخاء المعجمة والياء المثناة من تحت الحكيم النصراني، فأخذ عنه طرفاً من المنطق أيضاً، ثم قفل راجعاً إلى بغداد، وقرأ بها علوم الفلسفة، وتناول جميع كتب أرسطاطاليس، وتمهر في استخراج معانيها والوقوف على أغراضه فيها، ويقال أنه وجد. كتاب النفس لأرسطاطاليس عليه مكتوب بخط أبي نصر الفارابي: قرأت هذا الكتاب مائتي مرة.
ونقل عنه أنه كان يقول: قرأت السماع الطبيعي لأرسطاطاليس أربعين مرة، وأرى أني محتاج إلى معاودة قراءته، وروي عنه أنه سئل: من أعلم بهذا الشأن: أنت أم أرسطاطاليس؟ فقال: لو أدركته لكنت أكبر تلامذته، ذكره أبو العباس ابن خلكان حاكياً له عن أبي القاسم بن صاعد القرطبي في كتاب طبقات الحكماء.
وحكي عنه أنه قال: إني في التحقيق على جميع علماء الفلاسفة الإسلاميين، وشرح غامضها، وكشف سرها، وقرب تناولها، وجمع ما تحتاج إليه منها على ما أغفله الكندي وغيره من صناعة التعاليم، وأوضح الغفل فيها من عواد المنطق الخمسة، وعرف طريق استعمالها، وكيف يصرف صورة القياس في كل مادة، وجاءت كتبه في الغاية الكاملة والنهاية الفاضلة.
قلت: قوله الغقل هو بضم الغين المعجمة وسكون الفاء، يقال أرض غقل، لا علم بها ولا أثر عمارة، ودابة غفل: لا سمة عليها، ورجل غقل: لم يجرب الأمور، ذكره الجوهري، ثم له بعد ذلك كتاب شريف، لم يسبق إليه في إحضإر العلوم والتعريف(2/247)
بأغراضها، ولا ذهب أحد مذهبه فيه، ولا يستغني طلاب العلوم كلها عن الاهتداء به. انتهى كلام ابن صاعد.
قال ابن خلكان: ولم يزل أبو نصر ببغداد مكباً على الاشتغال بهذا العلم والتحصيل له إلى أن برز، أو قال: برع فيه، وفاق أهل زمانه. قال: ورأيت في بعض المجاميع أن أبا نصر لما ورد على سيف الدولة وكان مجلسه مجمع الفضلاء في جميع المعارف فأدخل عليه، وهو بزي الأتراك وكان ذلك دأبه دائماً فوقف، فقال له سيف الدولة اقعد فقال: حيث أنا أم حيث أنت؟ فقال حيث أنت، فتخطى رقاب الناس حتى انتهى إلى مسند سيف الدولة، وزاحمه فيه، حتى أخرجه عنه، وكان على رأس سيف الدولة مماليك، ولهم معهم لسان خاص يسارهم به، قل أن يعرفه أحد، فقال لهم بذلك اللسان: أن هذا الشيخ قد أساء الأدب، وإني سائله في أشياء، إن لم يعرف بها فأحرقوا به. فقال له أبو نصر بذلك اللسان: أيها الأمير، اصبر، فإن الأمور بعواقبها، فتعجب سيف الدولة وقال له: أتحسن بهذا اللسان. فقال: نعم، أحسن بأكثر من سبعين لساناً، فعظم عنده، ثم أخذ يتكلم مع العلماء حاضرين في المجلس في كل فن، فلم يزل كلامه يعلو، وكلامهم يسفل، حتى صمت الكل، وبقي يتكلم وحده. ثم أخذوا يكتبون ما يقوله، وصرفهم سيف الدولة، وخلا به فقال: هل لك أن تأكل؟ قال: لا، قال: فهل تشرب؟ قال: لا، قال: فهل تسمع؟ قال: نعم فأمر سيف الدولة بإحضار القيان، فحضر كل من هو من أهل هذه الصناعة بأنواع الملاهي، فلم يحرك أحد منهم آلته إلا وعابه أبو نصر، وقال له: أخطأت، فقال له سيف الدولة: وهل تحسن في هذه الصنعة شيئاً؟ قال: نعم، ثم أخرج من وسطه خريطة، وفتحها، وأخرج منها عيداناً، فركبها، ثم ضرب بها، فضحك كل من في المجلس، ثم فكها غير تركيبها، وضرب بها، فبكى كل من في المجلس، ثم فكها وركبها تركيباً آخر، وضرب بها فنام من في المجلس حتى البواب، فتركهم نياماً وخرج.
ويقال إن الآلة المسماة بالقانون من وضعه، وهو أول من ركبها هذا التركيب، وكان منفرداً بنفسه لا يجالس الناس، وكان زاهداً في الدنيا، لا يحتمل بأمر مكسب، ولا مكف، ولم يزده سيف الدولة على أربعة دراهم في كل يوم لقناعته.
أربعين وثلاث مائة
فيها جمع سيف الدولة جيشاً عظيماً، ودخل في بلاد الروم، فغنم وسبى سبياً كثيراً وعاد سالماً. وذلت القرامطة، فأمن الوقت، وحج الركب.
وفيها توفي ابن الأعرابي المحدث الصوفي القدوة أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد(2/248)
البصري، نزيل مكة، روى عن إسحاق الزعفراني. وخلق كثير، وجمع وصنف، ورحل إليه.
وفيها توفي الفقيه الإمام الكبير أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المروزي، إمام عصره في الفتوى والتدريس، أخذ الفقه عن أبي العباس بن سريج، وبرع فيه، وانتهت إليه الرئاسة بالعراق بعد ابن شريح، وصنف كتباً كثيرة وشرح مختصر المزني وأقام ببغداد زمناً طويلاً يدرس ويفتي، ونجب من أصحابه خلق كثير، وإليه ينسب درب المروزي ببغداد. ثم ارتحل إلى مصر في آخر عمره، فأدركه أجله فيها، ودفن بالقرب من تربة الإمام الشافعي.
وفيها توفي العلامة شيخ الحنفية بما وراء النهر، أبو محمد عبد الله بن محمد البخاري، وكان محدثاً رأساً في الفقه، صنف التصانيف. وقال الحاكم: هو صاحب عجائب عن الثقات، وقال أبو زرعة: هو ضعيف.
وفيها توفي أبو القاسم الزجاجي، عبد الرحمن بن إسحاق النهاوندي، صاحب التصانيف، أخذ عن اليزيدي وابن دريد وابن الأنباري، وصحب أبا إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج، وإليه نسب، وبه عرف. وسكن دمشق، وانتفع به الناس، وانتفع بكتابه خلق لا يحصون.
فقيل: إنه جاور بمكة مئة، كان إذا قرع الباب طاف أسبوعاً، ودعا بالمغفرة، وأن ينتفع بكتابه قارئه. قلت: وأخبرني بعض فضلاء المغاربة أن عندهم لكتابه مائة وعشرين شرحاً، قال ابن خلكان: وهو كتاب نافع، لولا طوله بكثرة الأمثلة.
قلت: ولعمري إن كتابين قد عظم النفع بهما، مع وضوح عبارتهما، وكثرة أمثلتهما، وهما " جمل الزجاجي " المذكور، و " الكافي في الفرائض " للصروفي، من أهل اليمن رضي الله تعالى عنه، هما كتابان مباركان ما اشتغل أحد بهما إلا انتفع خصوصاً أهل اليمن بكتاب الكافي المذكور، وبالجمل في بلاد الإسلام على العموم، وما ذكر عن مصنفه من الطواف والدعاء قد ذكر عن غير واحد من المصنفين، ومنهم الإمام الشيخ شهاب الدين السهروردي في تصنيف عقيدته، وبعضهم جعل الصلاة عوضاً عن الطواف بعد كل مسألة، على ما قيل.
ومنهم الإمام الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتابه التنبيه، والله أعلم بصحة ذلك عنهم ولعمري إن صح ذلك وهو من الهمم العالية في الاهتمام بصلاح الدين، والنفع العام للمسلمين، والتوفيق الخاص من رب العالمين.
توفي الزجاجي رحمه الله في شهر رمضان، وقيل في رجب في طبرية، وقيل في(2/249)
دمشق، في السنة المذكورة، وقيل في سنة تسع وثلاثين وثلاث مائة، والله أعلم.
وفي السنة المذكورة توفي الحافظ الإمام، محدث الأندلس، أبو محمد قاسم بن أصبغ القرطبي، صنف كتاباً على وضع سنن أبي داود، وكان إماماً في العربية.
وفيها توفي أبو الحسن الكرخي شيخ الحنفية بالعراق، وانتهت إليه رئاسة المذهب، وخرج له أصحاب أئمة. وكان إماماً قانعاً متعففاً عابداً صواماً قواماً كثير القدر.
إحدى وأربعين وثلاث مائة
فيها ظهر رجل وامرأة من التناسخية، يزعم الرجل أن روح علي رضي الله عنه انتقلت إليه. وتزعم المرأة أن روح فاطمة رضي الله تعالى عنها انتقلت إليها. وآخر يدعي أنه جبريل، فضربهم الوزير المهلبي، فتعززوا بالانتماء إلى أهل البيت. وكان بعض الولاة إذ ذاك شيعياً، فأمر بإطلاقهم. وفيها أخذت الروم مدينة سروج.
وفيها توفي طاهر المنصور، إسماعيل بن القائم بن المهدي العبيدي الباطني، صاحب المغرب. حارب مخلداً الأباضي الذي قد قمع بني عبيد، واستولى على مماليكه، فأسره وسلخه بعد موته، وحشى جلده. وكان المنصور المذكور بطلاً شجاعاً فصيحاً مفوهاً، يرتجل الخطب. وكان سبب موته أنه أصابهم مطر، نزل فيه برد كبير، وهبت ريح شديدة، فأوهن ذلك جسمه، واشتد عليه البرد، ومات أكثر من معه، فأراد أن يدخل الحمام، فنهاه طبيبه إسحاق بن سليمان الإسرائيلي، فلم يقبل منه، ودخل الحمام فنالت الحرارة الغريزية منه، ولازمه السهر، فأقبل إسحاق يعالجه، والسهر باق على حاله، فاشتد ذلك عليه، فقال لبعض الخدم: أما بالقيروان طبيب يخلصني من هذا. فقيل: هنا شاب قد نشأ، يقال له إبراهيم، فأمر بإحضاره، فحضر، فعرفه، وشكا ما به، فجمع له أشياء منومة، وجعلت في قنينة على النار، وكلفه شمها. فلما أدمن شمها نام، وخرج إبراهيم مسروراً بما فعل، وجاء إسحاق ليدخل عليه فقالوا: هو نائم، فقال: إذا كان قد صنع له شيئاً ينام به فقد مات، فدخلوا عليه، فوجدوه قد مات، فأرادوا قتل إبراهيم، فقال إسحاق: ما له ذنب، إنما داوأه بما ذكره الأطباء، غير أنه جهل أصل المرض، وما عرفتموه ذلك، إني كنت(2/250)
أعالجه، وأنظر في تقويه الحرارة الغريزية، وبها يكون النوم، فلما عولج بما يطفئها علمت أنه قد مات، ثم دفن بالمهدية.
اثنتين وأربعين وثلاث مائة
فيها توفي العلامة أبو بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب، شيخ الشافعية بنيسابور سمع بخراسان والعراق والحجاز والجبال، فأكثر وبرع في الحديث، وأفتى نيفاً وخمسين سنة، وصنف الكتب الكبار في الفقه والحديث، قال محمد بن حمدون: صحبته عدة سنين فما ترك قيام الليل، وقال الحاكم: كان يضرب المثل بعقله ورأيه، وما رأيت في جميع مشايخنا أحسن صلاة منه، وكان لا يدع أحداً يغتاب في مجلسه.
وفيها توفي الشيخ الكبير إبراهيم بن أحمد الرقي الواعظ، شيخ الصوفية أخذ عن الجماعة وجنيد.
وفيها توفي أبو القاسم علي بن محمد التنوخي القاضي الحنفي، وكان من أذكياء العالم، راوية الأشعار، عارفاً بالكلام والنحو، وله ديوان شعر، ويقال أنه حفظ ستمائة بيت في يوم وليلة.
وفيها توفي الناشىء الأصغر: علي بن عبد الله بن وصيف الشاعر المشهور. " كان متكلماً بارعاً، وهو من كبار الشيعة، وله تصانيف عديدة وأشعار حميدة، منها قوله:
إني ليهجرني الصديق تجنباً ... فأريه أن لهجره أسبابا
وأخاف إن عاتبته أغريته ... فأري له ترك العتاب عتابا
وإذا بليت بجاهل متغافل ... يدعو المحال من الأمور صوابا
أوليته مني السكوت وربما ... كان السكوت عن الجواب جوابا
وقوله:
إذا أنا عاتبت الملوك فإنما ... أخط بأقلام على الماء أحرفا
وهبه ارعوى بعد العتاب، ألم تكن ... مودته طبعاً فصار تكلفا
وكان المتنبي وهو صبي يحضر مجلسه في الكوفة، وكتب من إملائه من قصيدة له:
كأن سنان ذابله ضمير ... فليس عن القلوب له ذهاب
وصارمه كبيعتة لحم ... مقاصدها من الخلق الرقاب(2/251)
فنظم المتنبي هذا وقال:
كأن الهام في الهيجا عيون ... وقد طبعت سيوفك من رقاد
وقد صغن الأسنة من هموم ... فما يخطرن إلا في فؤاد
ثلاث وأربعين وثلاث مائة
فيها توفي شيخ الكوفة أبو الحسن علي بن محمد بن محمد الشيباني. قال ابن حماد الحافظ: كان شيخ المصر، والمنظور إليه، ومختار السلطان والقضاة، صاحب جماعة وفقه وتلاوة.
أربع وأربعين وثلاث مائة
فيها توفي العلامة أبو الفضل القشيري البصري المالكي، صاحب التصانيف في الأصول والفروع.
وفيها توفي الإمام العلامة أبو بكر محمد بن أحمد المعروف بابن الحداد، شيخ الشافعية، صاحب التصانيف الحسنة المفيدة، ولد يوم وفاة المزني، وسمع من النسائي، وكان صاحب وجه في المذهب، متبحراً في الفقه، متفنناً في العلوم، معظماً في النفوس، وعاش ثمانين سنة، وكان يصوم صوم داود، ويختم في اليوم والليلة، وكان حداداً، صنف كتاب الفروع في المذهب، وهو كتاب صغير الحجم كثير الفائدة، تصدى جماعة من الأئمة الكبار لشرحه، كالقفال المروزي، والقاضي أبي الطيب الطبري، والشيخ أبي علي السجزي، قيل وشرحه أحسن الشروح. أخذ ابن الحداد الفقه عن أبي إسحاق المروزي، وكان فقيهاً محققاً غواصاً على المعاني، تولى القضاء بمصر، والتدريس والفتاوى، وكانت الرعايا تعظمه وتكرمه. وكان يقال في زمنه: عجائب الدنيا ثلاثة: غضب الجلاد، ولطافة ابن السماد، والرد على ابن الحداد.
وفيها توفي أبو النضر محمد بن محمد الطوسي الشافعي مفتي خراسان. كان أحد من اعتنى بالحديث، ورحل فيه، وصنف كتاباً على وضع مسلم، وكان قد جزأ الليل: ثلثاً للتصنيف، وثلثاً للتلاوة، وثلثاً للنوم. قال الحاكم: كان إماماً بارع الأدب، ما رأيت أحسن صلاة منه، كان يصوم النهار، ويقول بالليل، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويتصدق بما فضل عن قوته.(2/252)
وفيها توفي الحافظ أبو عبد الله محمد بن يعقوب الشيباني، محدث نيسابور، صنف المسند الكبير، وصنف على الصحيحين. ومع براعته في الحديث والعلل والرجال، لم يرحل من نيسابور.
وفيها توفي الحافظ الأديب المفسر أبو زكريا يحيى بن محمد العنبري النيسابوري.
خمس وأربعين وثلاث مائة
فيها غلبت الروم على طرسوس، وقتلوا وسبوا وأحرقوا قراها.
وفيها توفي الفقيه الإمام شيخ الشافعية في عصره، أبو علي الحسن بن الحسين بن أبي هريرة الفقيه الشافعي. أخذ عن أبي العباس بن سريج، وأبي إسحاق المروزي. وشرح مختصر المزني، وعلق عنه الشرح أبو علي الطبري، وله مسائل في الفروع، ووجه في المذهب، درس ببغداد، وتخرج عليه خلق كثير، وانتهت إليه إمامة العراقين، وكان معظمتاً عند السلاطين والرعايا، إلى أن توفي في رجب من السنة المذكورة.
وفيها توفي الحافظ العلامة أبو الحسن القزويني القطان. سرد الصوم ثلاثين سنة، وكان يفطر على الخبز والملح، ورحل إلى العراق واليمن، وروى عن أبي حاتم الرازي وطبقته.
وفيها توفي الإمام اللغوي الزاهد صاحب ثعلب، أبو عمرو محمد بن عبد الواحد البغدادي المعروف بالمطرز. قيل: أنه أملى ثلاثين ألف ورقة في اللغة من حفظه، وكان آية في الحفظ والذكاء. استدرك على كتاب الفصيح كتاب شيخه ثعلب جزءاً لطيفاً سماه " فايت الفصيح "، وشرحه أيضاً في جزء آخر، وله " كتاب اليواقيت "، و " كتاب النوادر " و " كتاب التفاحة "، و " كتاب فايت العين "، و " كتاب فايت الجمهرة "، و " كتاب تفسير أسماء الشعراء "، و " كتاب القبائل "، وكتب أخرى تنيف الجميع على عشرين كتاباً. وكان لسعة روايته وغزارة حفظه يكذبه أدباء زمانه في أكثر نقل اللغة، ويقولون: لو طار طائر لقال: حدثنا ثعلب عن ابن الأعرابي، ويذكر في معنى ذلك شيئاً. وأما روايته الحديث، فإن المحدثين يصدقونه ويوثقونه. وكان أكثر ما يمليه من التصانيف يلقنه بلسانه من غير صحيفة يراجعها، وكان يسأل عن شيء قد تواطأت الجماعة على وضعه، فيجيب عنه، ثم يترك(2/253)
سنة، ويسأل عنه فيجيب بذلك الجواب بعينه.
ومما جرى له في ذلك أنهم سألوه: ما البيطرة عند العرب. فقال: كذا وكذا، فتضاحكوا سراً، وتركوه شهراً، ثم أمروا شخصاً سأله عن اللفظة بعينها فقال: أليس سألت عن هذه المسألة مدة كذا وكذا، وأجبت عنها بكذا وكذا؟ فتعجبوا من فطنته واستحضاره للمسألة والوقت.
وكان لمعز الدولة غلام اسمه خواجا، وكان المطرز المذكور قد بلغ من إملاء " كتاب اليواقيت " إلى ذكر الخبر، فقال: اكتبوا ياقوتة، وخواجا، " الخواج في أصل لغة العرب الجوع " ثم فرع على هذا باباً وأملاه، فعد الناس ذلك كذباً عظيماً، ثم تتبعوه في كتب اللغة، فوجدوا عن ثعلب عن ابن الأعرابي: الخواج، الجوع.
وكان المطرز المذكور يؤدب ولد القاضي محمد بن يوسف، فأملا يوماً على الغلام مسائل في اللغة، وذكر غريبها، وختمها ببيتين من الشعر، وحضر ابن دريد وابن الأنباري، وابن مقسم عند القاضي المذكور، فعرض عليهم تلك المسائل، فما عرفوا شيئاً، وأنكروا الشعر، فقال لهم القاضي: ما تقولون فيها؟ فقال ابن الأنباري: أنا مشغول بتصنيف مشكل القرآن، ولست أقول شيئاً. وقال ابن مقسم مثل ذلك، واحتج باشتغاله بالقراءآت. وقال ابن دريد: هذه المسائل من موضوعات المطرز لا أصل لشيء منها في اللغة. ثم انصرفوا، فبلغ المطرز ذلك، فاجتمع بالقاضي، وسأله إحضار دواوين جماعة من قدماء الشعراء عينهم، ففتح القاضي خزائنه، وأخرج له تلك الدواوين، فلم يزل المطرز يعمد إلى كل مسألة، ويخرج لها شاهداً من بعض تلك الدواوين، ويعرضه على القاضي، حتى استوفى جميعها، ثم قال: هذان البيتان أنشدناهما ثعلب بحضرة القاضي، وكتبهما القاضي بخطه على ظهر الكتاب الفلاني، فأحضر القاضي الكتاب، فوجد البيتين على ظهره بخطه، كما ذكر بلفظه.
وقال رئيس الرؤساء: وقد رأيت أشياء كثيرة مما أنكر عليه، ونسب فيه إلى الكذب، فوجدتها مدونة في كتب أهل اللغة، وخاصة في غريب أبي عيد، وقال عبد الواحد بن علي بن برهان الأسدي، لم يتكلم في علم اللغة أحد من الأولين والآخرين أحسن من كلام أبي عمرو الزاهد يعني المطرز وله " كتاب غريب الحديث " صنفه على مسند الإمام أحمد بن حنبل، وكان ابن برهان المذكور يستحسنه جداً، وله شعر رائق.
وفيها توفي الوزير محمد بن علي البغدادي الكاتب، وكان من الصلحاء واليه المنتهى في المعروف. قيل: إنه أعتق في عمره ألف رقبة، وأنفق في حجة حجها مائة ألف دينار، وبلغ ارتفاع مداخله بمصر من أملاكه في العام أربع مائة ألف دينار.(2/254)
وفيها توفي المسعودي المؤرخ.
ست وأربعين وثلاث مائة
فيها قل المطر، ونقص البحر نحواً من ثمانين ذراعاً، فظهر فيه جبال وجزائر وأشياء لم تعهد، وكان بالري زلازل عظيمة، وخسف ببلد الطالقان في ذي الحجة، ولم يفلت من أهلها إلا نحو من ثلاثين رجلاً، وخسف بخمسين ومائة قرية من قرى الري، فيما نقل بعض المؤرخين قال: وعلقت قرية بين السماء والأرض، ونحن فيها نصف يوم، ثم خسف بها.
وفيها توفي يوم عاشوراء أبو القاسم إبراهيم بن عثمان القيرواني، شيخ المغرب في النحو واللغة، حفظ كتاب سيبويه، والمصنف الغريب، وكتاب العين وإصلاح المنطق وغير ذلك.
وفيها توفي الحافظ الكبير أبو يعلى عبد المؤمن بن خلف السيفي. رحل وطوف. ووصل إلى اليمن، ولقي أبا حاتم الرازي وخليفته، وكان مفتياً ظاهرياً أثرياً، وفيه زهد وتعبد.
وفيها توفي أبو العباس المحبوبي محمد بن أحمد بن محبوب المروزي، محدث مرو وشيخها ورئيسها.
وفيها توفي مسند الأندلس، الفقيه الإمام المالكي وهب بن ميسرة التميمي. كان محققاً في الفقه، بصيراً بالحديث وعلله، مع زهد وورع.
سبع وأربعين وثلاث مائة
فيها فتكت الروم خذلهم الله تعالى ببلاد الإسلام، وقتلوا خلائق، وأخذوا عدة حصون بنواحي آمد وفارقين، ثم وصلوا إلى قنسرين، فالتقاهم سيف الدولة بن(2/255)
حمدان، فعجز عنهم، وقتلوا معظم رجاله، وأسروا أهله، ونجا هو في عدد يسير.
وفيها سار معز الدولة، واستولى على إقليم الجزيرة، وفر بين يديه صاحبها ناصر الدولة، فقدم على أخيه سيف الدولة بحلب، وجرت أمور طويلة، ثم إن سيف الدولة راسل معز الدولة يستعطفه، فعقد له على الموصل، وكان ناصر الدولة قد نكث بمعز الدولة مرات، ومنعه الحمل والخراج.
وفيها توفي الحافظ البارع أبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى، صاحب تاريخ مصر: تاريخ كبير للمصريين، وتاريخ صغير يختص بالغرباء الواردين فيها، وذيلهما أبو القاسم يحيى بن علي الحضرمي، وبنى عليهما.
وأبو سعيد المذكور حفيد يونس بن عبد الأعلى صاحب الإمام الشافعي، والناقل لأقواله الجديدة. كان خبيراً بأحوال الناس ومطلعاً على تواريخهم، ولما توفي رثاه عبد الرحمن بن إسماعيل الخولاني الحساب المصري النحوي العروضي بقوله:
ثبت علمك تصنيفاً وتقريباً ... وعدت بعد الزيد لعيسى مندوبا
أبا سعيد وما نالوك أن تشرب ... عنك الدواوين تصديقاً وتصويبا
ما زلت تلهج بالتاريخ تكتبه ... حتى رأيناك في التاريخ مكتوبا
مع أبيات أخرى حذفتها اختصارا.
وفيها توفي الحافظ أبو الحسين محمد بن عبد الله بن جعفر الرازي، والد الحافظ تمام.
وفيها توفي الأمير تميم المعز الحميري، رفعوا نسبه إلى سبأ ن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر. قالوا: وهو هود عليه السلام بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام، هكذا ذكره العماد في الجزيرة، وتميم المذكور ملك إفريقية، وما والاهما بعد أبيه المعز. وكان حسن السيرة، محمود الآثار، محباً للعلماء، معظماً لأرباب الفضائل، حتى قصدته الشعراء من الآفاق. وجده المثنى بن المسور أول من دخل منهم إلى إفريقية. وقال أبو الحسن بن رشيق القيرواني في الأمير تميم المذكور.
أصح وأوعى ما سمعناه في النداء ... من الخبر المأثور منذ قديم
أحاديث ترويها السنون عن الحيا ... عن البحر عن كف الأمير تميم
ولتميم المذكور أشعار كثيرة حسنة منها.(2/256)
سل المطر العام الذي عم أرضكم ... أجاء بمقدار الذي فاض من دمعي
إذا كنت مطبوعا على الصد والجفا ... فمن أين لي صبر فأجعله طبعي
ثمان وأربعين وثلاث مائة
فيها عمل الخطيب عبد الرحيم بن نباتة خطبة الجهاد، يحرض المسلمين على غزو الروم، وكانوا قد ظفروا بسرية فأسروها، وأسروا أميرها محمد بن ناصر الدولة بن حمدان، ثم أغاروا على الرها وحران، وقتلوا وسبوا، وكروا على ديار بكر.
وفيها توفي الفقيه الحافظ صاحب التصانيف، شيخ الحنابلة السجاد أحمد بن سليمان، وكان له حلقتان: حلقة للفتوى، وحلقة للإملاء. وكان رأساً في الفقه، ورأسا في الحديث، قيل: كان يصوم الدهر، ويفطر على رغيف، ويترك منه لقمة، فإذا كان ليلة الجمعة أكل تلك اللقم، وتصدق بالرغيف. قلت: ومثل هذا من الفقيه عزيز كثير، ومثله مذكور عن بعض أهل الرياضة من الفقراء المجردين الذي هو في حقهم قليل حقير.
وفيها توفي الشيخ الكبير أبو محمد جعفر بن محمد بن نصر، شيخ الصوفية ومحدثهم. سمع من أبي أسامة، وعلي بن عبد العزيز البغوي وطبقتهم، وصحب الجنيد وأبا الحسن النوري، وأبا العباس بن مسروق. وكان إليه المرجع في علم القوم وتصانيفهم وحكاياتهم، وحج ستاً وخمسين حجة، وعاش خمساً وتسعين سنة.
تسع وأربعين وثلاث مائة
فيها أوقع غلام سيف الدولة بالروم، فقتل وأسر، وفرح المؤمنون.
وفيها وقعت وقعة هائلة ببغداد بين أهل الستة والرافضة، وقويت الرافضة ببني هاشم ومعز الدولة، وعطلت الصلوات في الجوامع، ثم رأى معز الدولة المصلحة في القبض على جماعة من الهاشميين، فسكتت الفتنة.
وفيها حشد سيف الدولة، ودخل بلاد الروم، فأغار وفتك وسبى، ورجعت إليه جيوش الروم، فعجز عن لقائهم، فوفي ثلاثمائة، وذهبت خزانته، وقتل جماعة من أمرائه. وفيها كان إسلام الترك، قال ابن الجوزي أسلم من الترك مائتا ألف.(2/257)
وفيها توفي أبو الفوارس الصابوني، أحمد بن محمد السندي الفقيه المعمر، مسند ديار مصر، عن يونس بن عبد الأعلى والمزني والكبار.
وفيها توفي الفقيه العلامة أبو الوليد، حسان بن محمد القرشي الأموي النيسابوري، شيخ الشافعية بخراسان، وصاحب شريح صاحب التصانيف، وكان بصيراً بالحديث وعلله، وأخرج كتاباً على صحيح مسلم، وهو صاحب وجه في المذهب، وقال الحاكم: هو إمام أهل الحديث بخراسان، وأزهد من رأيت من العلماء وأعبدهم.
وفيها توفي الحافظ أحد الأعلام أبو علي الحسين بن علي بن يزيد النيسابوري. قال الحاكم: هو أوحد عصره في الحفظ والإتقان والورع والمذاكرة والتصنيف.
وفيها توفي الحافظ أبو أحمد العتباني محمد بن أحمد قاضي أصفهان. قال الحافظ أبو نعيم: كان من كبار الحفاظ.
خمسين وثلاث مائة
قالوا فيها بنى معز الدولة ببغداد دار السلطنة في غاية الحسن والكبر، غرم عليها ثلاثة عشر ألف ألف درهم، وقد درست آثارها في حدود الستمائة، وبقي مكانها تأوي إليه الوحوش، وبعض أساسها موجود، فإنه حفر لها في الأساسات نيفاً وثلاثين ذراعاً.
وفيها توفي أبو شجاع فاتك الكبير، المعروف بالمجنون، كان روميا أخذ صغيراً هو وأخ له وأخت لهما من بلاد الروم، فتعلم بفلسطين، وهو ممن أخذه الإخشيذ من سيده بالرملة كرهاً بلا ثمن، فأعتقه صاحبه، وكان معهم حراً في عدة المماليك، وكان كريم النفس بعيد الهمة شجاعاً، كثير الإقدام، ولذلك قيل له المجنون. وكان رفيق الأستاذ كافور في خدمته الاخشيذ، فلما مات مخدومهما، وتعزز كافور في تربية ابن الاخشيذ، أنف فاتك من الإقامة بمصر، كي لا يكون كافور أعلى رتبة منه، ويحتاج إلى أن يركب في خدمته. وكانت الفيوم وأعمالها إقطاعاً، فانتقل واتخذها سكناً له، وهي بلاد وبية كثيرة الوخم، فلم يصح بها له جسم، وكان كافور يكرمه ويخافه فزعاً منه، وفي نفسه منه ما فيها، واستحكمت العفة في جسم فاتك وإخوته، فاحتاج إلى دخول مصر للمداواة، فدخلها.
وبها دخل المتنبي ضيفاً للأستاذ كافور، وكان يسمع فاتك كثرة سخائه، غير أنه لا يقدر على قصد خدمته خوفاً من كافور، وفاتك يسأل عنه ويراسله السلام، ثم التقيا في الصحراء مصادقة من غير ميعاد، وجرى بينهما مفاوضات، فلما رجع فاتك إلى داره حمل للمتنبي في ساعته هدية قيمتها ألف دينار، ثم أتبعها بهدايا بعدها، فاستأذن المتنبي كافوراً(2/258)
في مدحه، فأذن له، فمدحه بقصيدة من غرر القصائد، أولها:
لا خيل عندك تهديها ولا مال ... فليسعد النطق إن لم يسعد الحال
وما أحسن القول فيها:
كفاتك ودخول الكاف منقصة ... كالشمس قلت وما للشمس أمثال
لما توفي رثاه المتنبي، وكان قد خرج من مصر، بقصيدة أولها:
الحزن يعلق والتحمل يردع ... والدمع بينهما عصي طيع
وما أرق قوله:
إني لأجبن من فراق أحبتي ... وتمس نفسي بالحمام فأشجع
ويزيدني غضب الأعادي قسوة ... ويلم بي عتب الصديق فأجزع
تصفو الحياة لجاهل أو غافل ... عما مضى منها وما يتوقع
ولمن يغالط في الحقائق نفسه ... ويسومها طلب المحال فتطمع
وفيها توفي الفقيه أبو علي الحسن بن القاسم الطبري الفقيه الشافعي، أخذ عن أبي علي بن أبي هريرة، وسكن ببغداد، ودرس بها بعد شيخه أبي علي بن أبي هريرة، وصنف التصانيف " كالمحرر في النظر " وهو أول كتاب صنف في الخلاف "، و " المجرد في الخلاف "، و " الإيضاح "، و " العدة " كلاهما في الفقه، وصنف كتابا في أصول الفقه " والطبري " نسبة إلى طبرستان، والنسبة إلى طبرية طبراني، وهو صاحب وجه في المذهب.
وفيها توفي خليفة الأندلس الناصر لدين الله أبو المظفر عبد الرحمن بن محمد الأموي وكانت دولته خمسين سنة، وقام بعده ولده المستنصر بالله، وكان كبير القدر كثير المحاسن أنشأ " مدينة الزهراء "، وهي عديمة الحسن في النظير، غرم أهلها من الأموال ما لا يحصى، ولما بلغه ضعف أحوال الخلافة بالعراق، ورأى أنه أمكن منهم والي تلقب باللقب المذكور.
وفيها توفي فاتك أبو شجاع الرومي الإخشيذي، رفيق الأستاذ كافور وأحد أمراء الدولة، وكان كافور يخافه، وقد مدحه المتنبي، فوصله فاتك بألف دينار.
إحدى وخمسين وثلاث مائة
فيها نازل طاغية الروم مدينة عين زربة بضم الزاي وسكون الراء وفتح(2/259)
الموحدة في مائة ألف وستين ألفاً، فأخذها وقتل خلقاً لا يحصون، وأحرقها ومات أهلها في الطرقات جوعاً وعطشاً، إلا من نجا بأسوأ حال، وهدم حولها نحواً من خمسين حصناً أخذ بعضها بالأمانة، ورجع فجاء سيف الدولة على عين زربة، وأخذ بتلافي الأمر، وبلم شملها، واعتقد أن " بعضها بالأمان " الطاغية لا يعود، فدهمه الملعون، ونازل حلب بجيوشه، فلم يقاومه سيف الدولة، ونجا في نفر يسير. وكانت داره بظاهر حلب، فدخلها الملعون، ونزل بها، واحتوى على ما فيها من الخزائن، وحاصر أهل حلب، إلى أن انهدمت ثلمة من السور، فدخلت الروم منها، فدفعهم المسلمون عنها، وبنوها في الليل، ونزلت أعوان الوالي إلى بيوت العوام، فنهبوا فوقع الصائح في الأسوار: الحقوا منازلكم، فنزلت الناس حتى خلت الأسوار، فبادرت الروم، فتسلقوا، وملكوا البلد، ووضعوا السيف في المسلمين حتى كلوا وملوا، واستباحوا حلب، ولم ينج إلا من صعد إلى القلعة.
وأما بغداد، فرفعت المنافقون رؤوسها، وقامت دولة الرافضة، وكتبوا على أبواب المساجد لعن معاوية، ولعن من غصب فاطمة حقها، ولعن من نفى أبا ذر، فمحاه أهل السنة بالليل، فأمره معز الدولة بإعادته، فأشار إليه الوزير المهلبي أن يكتب: ألا لعنة الله على الظالمين لآل محمد، ولعن معاوية فقط.
وأنزل الروم من منبج الأمير أبا فراس بن سعيد بن حمدان، وبقي في أسرهم سنين.
وفيها توفي قاضي الحرمين وشيخ الحنفية في عصره أبو الحسين أحمد بن محمد النيسابوري، ولي قضاء الحجاز مدة، وكان تفقه على أبي الحسين الكرخي، وبرع في الفقه.
وفيها توفي المهلبي الوزير في قول.
وفيها توفي دعلج أبو محمد السجزي. قال الحاكم: أخذ عن أبي خزيمة مصنفاته، وكان يفتي بمذهبه، وقال الدارقطني: لم أر في مشايخنا أثبت من دعلج، وقال الحاكم: لم يكن في الدنيا أيسر منه، اشترى بمكة دار العباس بثلاثين ألف دينار، وقيل:(2/260)
كان الذهب في داره بالقفاف، وكان كثير المعروف والصلاة.
وفيها توفي الحافظ أبو الحسن عبد الباقي ين قانع بن مرزوق، صنف التصانيف.
وفيها توفي أبو بكر النقاش، محمد بن الحسن الموصلي ثم البغدادي المقرىء المفسر صاحب التصانيف في التفسير والقراءات.
اثنتين وخمس وثلاث مائة
فيها يوم عاشوراء، ألزم معز الدولة أهل بغداد النوح والمأتم، وأمر بغلق الأبواب، وعلقت عليها المسوح، ومنع الطباخين من عمل الأطعمه، وخرجت نساء الرافضة منشرات الشعر، مسمحات الوجوه، يلطمن ويفتن الناس. قيل: وهذا أول ما نيح عليه.
وفيها يوم ثامن عشر في الحجة الرافضة عيد الغدير: غدير خم بضم الخاء المعجمة، ودقت الكوسات، وصلوا بالصحراء صلاة العيد.
وفيها أو في التي قبلها توفي الوزير المهلبي الحسن بن محمد، على الخلاف المتقدم، وكان وزير معز الدولة بن بويه بضم الموحدة وفتح الواو وسكون المثناة من تحت وفي آخره هاء الديلمي، وكان من ارتفاع القمر واتساع الصدر وعلو الهمة وفيض الكف، على ما هو مشهور به، وكان في غاية الأدب والمحبة لأهله وكان قبل اتصاله بمعز الدولة في شدة عظيمة من الضرورة، ولقي في سفره مشقة صعبة، اشتهى اللحم، فلم يقدر عليه فقال ارتجالاً:
ألا موت يباع فأشتريه ... فهذا العيش ما لا خير فيه
ألا موت لذيذ الطعم يأتي ... يخلصني من الموت الكريه
إذا أبصرت قبراً من بعيد ... فودي أنني مما يليه
ألا رحم المهيمن نفس حر ... تصدق بالوفاء على أخيه
وكان بمصر له رفيق يقال له أبو عبد الله الصوفي، وقيل أبو الحسن العسقلاني، فلما
سمع الأبيات اشترى له بدرهم لحماً، وطبخه وأطعمه، وتفارقا، وتنقلب بالمهلبي الأحوال، وتولى الوزارة ببغداد لمعز الدولة، وضاقت الأحوال برفيقه في السفر، الذي اشترى له اللحم، وبلغه وزارة المهلبي، فقصده، وكتب إليه.
ألا قل للوزير فديت نفسي ... مقالة مذكر ما قد نسيه
أتذكر إذ تقول لضيق عيش ... ألا موت يباع فأشتريه.
فلما وقف عليها تذكره وهوته أريحية الكرم، فأمر له في الحال بسبعمائة درهم(2/261)
ووقع في ورقته " مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء " سورة البقرة، الآية 261، ثم دعا به، وخلع عليه، وقلده عملاً يرتفق به، ومن المنسوب إلى الوزير المذكور في وقت الإضافة من الشعر، ما كتبه إلى بعض الرؤساء قوله، وقيل أنه لأبي نواس:
ولو أني استزدتك فوق ما بي ... من البلوى لأعوزك المزيد
ولو عرضت على الموتى حياة ... لعيش مثل عيشي لم يزيدوا
وقال أبو إسحاق الصابي، صاحب الرسائل: كنت يوماً عند الوزير المهلبي، فأخذ ورقة وكتب، فقلت:
يديها يد برعت جوداً بنائلها ... ومنطق درة في الطرس ينتثر
فخاتم كامن في بطن راحته ... وفي أناملها سحبان مستتر
وكان من رجال الدهر عزماً وحزماً وسؤدداً وعقلاً وشهامة ورأياً.
وفيها توفي علي بن إسحاق البغداي الزاهي الشاعر المشهور، كان وصافاً محسناً، كثير الملح، أحسن الشعر في التشبيهات وغيرها.
ومن قوله في تشبيه البنفسج.
ولا زور دية تزهو بزرقتها ... بين الرياض على جمر اليواقيت
كأنها فوق قامات ضعفن بها ... أوائل النار في أطراف كبريت
ويروى: فوق طاقات، ومن محاسن شعره:
وبيض بألحاظ العيون كأنما ... هززن سيوفاً أو سللن خناجرا
تصدين لي يوماً بمنعرج اللوى ... فغادرن قلبي بالتصبر غادرا
سفرن بدوراً وانتقبن أهلة ... ومسن غصوناً والتفتن جآذرا
واطلعن في الأخبار بالدر أنجماً ... جعلن لحيات القلوب صرائرا
وهذا تقسيم ظريف، قد استعمل جماعة من الشعراء، لمكنهم قصرت بهم القريحة عن بلوغ هذه الصنيعة. ونحوه قول المتنبي:
بدت قمراً ومالت خوط بان ... وفاحت عنبر أورثت غزالا
قلت: ولست أدري أيهما سلك طريق الآخر تابعاً له في هذه المآخذ، وهما متعاصران. توفي المتنبي بعده في سنة أربع.(2/262)
ومن التقسيم الحسن أيضاً قول بعض الشعراء:
وسائلة تسائل عنك قلنا ... لها في وصفك العجب العجيبا
رنا ظبياً وغنى عندليباً ... ولاح شقائقاً ومشى قضيبا
وأما نسبة الزاهي فقال السمعاني: ولست أدري نسبة الزاهي المذكور إلى أي شيء، لكن جماعة نسبوا هذه النسبة إلى قرية من قرى نيسابور.
وفيها توفي ابن المنجم علي بن عبد الله الشاعر المشهور، ذو نسب عريق في ظرفاء الأدباء، وندماء الخلفاء، يفضون إليه بأسرارهم، ويأمنونه على أخبارهم. وله أشعار حسان منها:
بيني وبين الدهر فيك يمجه ... سيطول إن لم يجبه اعتاب
يا غائبا لوصاله وكتابه ... هل يرتجى من غيبتيك إياب؟
لولا التعلل بالرجاء لتقطعت ... نفس عليك شعارها الأوصاب
لا بأس من روح الإله فربما ... يصل القطيع ويحضر الغياب
وفيها توفي الحافظ، أحد أركان الحديث بالأندلس، أبو القاسم خالد بن سعد، صنف التصانيف، وكان عجباً في معرفة الرجال والعلل. وقيل كان يحفظ الشيء من فرد مرة، وورد أن المستنصر بالله قال: إذا فاخرنا أهل المشرق بيحيى بن معين نحن فاخرناهم بخالد بن سعد.
ثلاث وخمسين وثلاث مائة
فيها تحارب معز الدولة وناصر الدولة أمير الموصل، فانهزم أولاً ناصر الدولة، ثم انتصر وأخذ حواصل معز الدولة ونقله، وأسر عدة من الأتراك.
وفيها توفي الحافظ البارع أبو سعيد أحمد بن محمد، والسيد الجليل الشيخ أبي عثمان سعيد بن إسماعيل الحبري النيسابوري شهيداً بطرسوس. صنف التفسير الكبير والصحيح على رسم مسلم، وغير ذلك.
وفيها توفي الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن حمزة بأصبهان في رمضان، وهو في عشر الثمانين، قال أبو نعيم لم ير بعد عبد الله بن مظاهر في الحفظ مثله، جمع(2/263)
الشيوخ والمسند.
وفيها توفي أبو الفوارس: شجاع بن جعفر الواعظ ببغداد وقد قارب المائة.
وفيها توفي الحافظ أبو علي محمد بن هارون بن شعيب الأنصاري الدمشقي.
أربع وخمسين وثلاث مائة
فيها توفي المتنبي، الشاعر العصر الملقب بأبي الطيب، أحمد بن الحسين بن الحسن الجعفي نسباً الكوفي، ثم الكندي منزلاً، قدم الشام في صباه، وجال في أقطاره، واشتغل بفنون الأدب، ومهر فيها، وكان من المكثرين في نقل اللغة والمطلعين على غريبها ووحشيها، فلا يسأل عن شيء إلا ويستشهد فيه بكلام العرب من النظم والنثر، حتى قيل: إن الشيخ أبا علي الفارسي، صاحب الإيضاح والتكملة قال له: كم لنا من الجموع على وزن فعلى بكسر الفاء وسكون العين وفتح اللام. - فقال المتنبي في الحال: " حجلى " و " ظربى ". قال أبو علي: فطالعت كتب اللغة ثلاث ليال على أن أجد لهذين الجمعين ثالثاً، فلم أجد.
قلت: وناهيك به. معرفة، في حق من يقول الإمام الجليل في العربية له هذه المقالة، ويشهد له بهذه الشهادة السنية. قال بعضهم: " وحجلى " جمع حجلة، وهو الطائر المسمى القبج: بفتح القاف وسكون الموحدة وبالجيم. " والظربى ": بكسر الظاء المعجمة وسكون الراء وبعدها موحدة: جمع ظربان، على وزن قطران، وهي دويبة منتنة الرائحة. وأما شعر المتنبي فكثرة شعره تغني عن مدحته.
قال ابن خلكان: والناس في شعره على طبقات: فمنهم من يرجحه على شعر أبي تمام ومن بعده، ومنهم من يرجح أبا تمام عليه، قال: واعتنى العلماء بديوانه فشرحوه، وذكروا أن أحد مشايخه الذين أخذ عنهم قال: وقفت له على أكثر من أربعين شرحاً، ما بين مطولات ومختصرات، ولم أر هذا بديوان غيره. وقال: ولا شك أنه رزق من شعره السعادة التامة. انتهى.
قلت: ولأهل الفضل من المتقدمين والمتأخرين خلاف كثير في تفضيل جماعة من الشعراء، بعضهم على بعض، وقد أوضحت ذلك في آخر الجزء الثاني من كتابي " الموسوم بمنهل المفهوم في شرح ألسنة العلوم ".
وعن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: اتفقوا على أن أشعر الشعراء امرؤ القيس والنابغة وزهير. قلت: يعني بذلك من الشعراء القدماء، ومعلوم أن كثيراً من الشعراء البارعين حذقوا(2/264)
بعد أبي عمرو كأبي تمام والبحتري والمتنبي قال: وكان يشبه ثلاثة من شعراء الإسلام بثلاثة من شعراء الجاهلية: الفرزدق بزهير، وجرير بالأعشى، والأخطل بالنابغة، فامرىء القيس من اليمن والنابغة، وزهير إذا رعب، وامرء القيس إذا ركب، والأعشى إذا طرب، أو قال: غضب.
وسئل الشريف الرضي عن هؤلاء الثلاثة فقال: أما أبو تمام فخطيب منبر، وأما أبو العبادة فواصف جود، وأما المتنبي فقائد عسكر، أو قال: منذر عسكر.
وقال بعض المتأخرين: ليس في العلم أشعر منه، وأما مثله فقليل، وقال أبو عمرو: قلت لجرير: ما تقول في الفرزدق. قال: أهجانا وأمدحنا، قلت: فما تقول في ذي الرمة؟ قال: نقط عروس وأبعار ظباء. قلت: فالأخطل. قال: أثنى للقمر والخمر. قلت: فما تقول فيك. قال أنا مدينة الشعر الذي أقول:
غيضن من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا؟
وقال أبو حاتم السجستاني: قيل لابن هرمة: بسكون الراء من أشعر الناس. قال: من إذا لعب لعب، وإذا جد جد، مثل جرير يقول:
غيضن من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا؟.
ثم جاء فقال:
إن الذي حرم الخلافة تغلباً ... جعل النبوة والخلافة فينا
مضر أبي وأبو الملوك فهل لكم ... يا حرز تغلب من أب كأبينا؟
هذا ابن عمي في دمشق خليفة ... لو شئت ساقكم إلى قطينا
قلت: وقد تقدم في تاريخ موت جرير نحو من هذا، مع زيادة في سنة عشر ومائة، وتقدم هناك تفسير الحرز والقطين.
وذكر بعض أئمة النحو أن أهل البصرة كانوا يقدمون امرؤ القيس، وأن أهل الكوفة كانوا يقدمون الأعشى، وإن أهل الحجاز والبادية كانوا يقدمون زهيراً.
وقال النابغة: ما تهاجى شاعران قط في جاهلية ولا إسلام، إلا وغلب أحدهما صاحبه، غير الفرزدق وجرير، فإنهما تهاجيا نحو ثلاثين سنة، ولم يغلب واحد منهما الآخر، وقال الأصمعي: قيل لحسان: من أشعر الناس. قال: أشعرهم رجلاً أو قبيلة. قالوا: بل قبيلة. قال: هذيل، قال الأصمعي: فهم أربعون شاعراً سلفاً، وكفهم يعدو على رجليه ليس فيهم فارس، وقال أبو حاتم: سألت الأصمعي: من أشعرهم. قال النابغة(2/265)
الذبياني، وما قال الشعر إلا قليلاً، والنابغة الجعدي قال الشعر ثلاثين سنة ثم نبغ، فالشعر الأول من قوله جيد بالغ، والآخر كأنه مسروق، وقال: تسعة أعشار شعر الفرزدق سرقة، وكان يكابر، وأما جرير فله ثلاثمائة قصيدة، وما علمت سرق شيئاً قط إلا نصف بيت، ولا أدري لعله وافق شيء شيئاً. قلت: يعني أشاروا إليه في قولهم: قد يقع الحافر على الحافر.
رجعنا إلى ذكر المتنبي: ذكروا أنه مدح عدة ملوك، وقيل إنه وصل إليه من ابن العميد ثلاثون ألف دينار، ومن عضد الدولة صاحب شيراز مثلها. وأما تلقبه بالمتنبي، فذكروا أنه ادعى النبوة في بادية السماوة، وتبعه خلق كثير في تلك الناحية من كلب وغيرهم، فعند ظهور هذه الدعوى العظيمة التي تكذبها الآية الكريمة والأحاديث الصحيحة وإجماع الأمة بالأقوال الصريحة، خرج إليه لؤلؤ أمير حمص نائب الإخشيذ، فأسره، وتفرق أصحابه، وحبسه طويلاً ثم استتابه، وأطلقه وقيل غير ذلك، قالوا وادعاء النبوة أصح. ثم التحق بالأمير سيف الدولة بن حمدان في سبع وثلاثين وثلاثمائة، ثم فارقه ودخل مصر سنة ست وأربعين وثلاثمائة، فمدح كافوراً الإخشيذي، وكان يقف بين يديه وهو محتمل بسيف ومنطقة ويركب بحاجبين من مماليكه، وهما بالسيوف والمناطق، ولما لم يرضه هجاه وفارقه ليلة عيد النحر سنة خمسين وثلاثمائة، ووجه كافور في طلبه رواحل إلى جهات شتى فلم يلحق، وكان كافور قد ولاه بولاية بعض أعماله، فلما رأى تعاطيه في شعره السمو بنفسه خافه، وعوتب فيه فقال: يا قوم من ادعى النبوة بعد محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أما يدعي المملكة مع كافور الإخشيذي. فحسبكم.
قال أبو الفتح بن جني: كنت أقرأ ديوان أبي الطيب عليه، فقرأت عليه قوله في كافور القصيدة التي أولها:
ألا ليت شعري هل أقول قصيدة ... ولا أشتكي فيها ولا أتعتب
وفيما يدور الشعر عني أقله ... ولكن قلبي يأتيه القوم قلب
قال: فقلت له تغر علي كيف يكون هذا الشعر في ممدوح غير سيف الدولة؟ فقال: حذرناه وأنذرناه فما نفع، ألست القائل فيه:
أخا الجود أعط الناس ما أنت مالك ... ولا تعطين الناس ما أنت قائل
فهذا الذي أعطاني كافور بسوء تدبيره وقلة تميزه.
وكان لسيف الدولة مجلس بحضرة العلماء كل ليلة يتكلمون بحضرته، فوقع بين(2/266)
المتنبي وابن خالويه النحوي كلام، فوثب ابن خالويه على المتنبي، فضرب وجهه بمفتاح كان بيده، فشجه فخرج ودمه يسيل على ثيابه، فغضب وخرج إلى مصر، وامتدح كافوراً ثم رحل عنه، وقصد بلاد فارس، ومدح عضد الدولة الديلمي، فأجزل جائزته. ولما رجع من عنده قاصداً إلى بغداد ثم إلى الكوفة في شعبان لثمان خلون منه، عرض له فاتك بن أبي الجهل الأسدي في عدة من أصحابه، وكان مع المتنبي أيضاً جماعة من أصحابه، فقاتلوهم فقتل المتنبي وابنه محسد " بضم الميم وفتح الحاء والسين المشددة بين المهملتين " وغلامه مفلح بالقرب من النعمانية، في موضع يقال له الصافية، وقيل خيال الصافية، من الجانب الغربي من سواد بغداد عند دير العاقول، بينهما مسافة ميلين.
وذكر ابن رشيق في " كتاب العمدة " في باب منافع الشعر ومضاره أن أبا الطيب لما فر حين رأى الغلبة، قال له غلامه: لا يتحدث الناس عنك بالفرار أبداً وأنت القائل:
الخيل والليل والبيداء تعرفني ... والحرب والضرب والقرطاس والقلم
فكر راجعاً حتى قتل.
وكان سبب قتله هذا البيت، وذلك يوم الأربعاء لست بقين، وقيل لليلتين بقيتا من شهر رمضان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، وقيل يوم الاثنين لثمان بقين، وقيل لخمس بقين. ومولده سنة ثلاث وثلاثمائة بالكوفة، في محلة تسمى كندة، فنسب إليها. وليس هو من كندة التي هي قبيلة، بل هو جعفي القبيلة بضم الجيم وسكون العين المهملة وبعدها فاء ولما قتل المتنبي رثاه القاسم بن المظفر بقوله:
لا رعى الله شرب هذا الزمان ... إذ دهانا في مثل ذاك اللسان
ما رأى الناس ثاني المتنبي ... أي ثان يرى أنكر الزمان
كان من نفسه الكبير في ... جيش وفي كربادي سلطان
لو يكن جاء من الشعر أنبى ... ظهرت معجزاته في المعاني
قلت: وهذا البيت الأخير غيرت ألفاظ مصراعه الأول إلى هذه الألفاظ المذكورة، عدولاً عن بشاعة لفظه، وما يتضمن ظاهره من الكفر الموافق لما ادعاه المتنبي، فإنه قال في المصراع المذكور:
وهو في شعره نبي ولكن ... ظهرت معجزاته في المعاني
ويحكى أن المعتمد بن عباد اللخمي صاحب قرطبة وأشبيلية أنشد يوماً بيت المتنبي وهو من جملة قصيدته المشهورة:(2/267)
إذا ظفرت منك العيون بنظرة ... أثاب بها معنى المطي ورازمه
وجعل يردده استحساناً له وفي مجلسه أبو محمد عبد الجليل بن وهيون الأندلسي، فأنشد ارتجالاً:
لئن جاد شعر ابن الحسين فإنما ... تجيد العطايا واللهى تفتح اللهى
تنبا عجباً للقريض ولو درى ... بأنك تدري شعره لنالها
قلت: يعني بالبيت الثاني أن المتنبي إنما تنبأ، أي ادعى النبوة إعجاباً منه بعشره، ولو درى أنك ستدري شعره وتستحسنه لناله، أي: ادعى الإلهية.
وقوله في البيت الأول: واللهى تفتح اللهى الأولى: بضم اللام، جمع لهوة بالضم، وهو ما يجعل في الرحى من الحب. والثانية بفتح اللام، جمع لهاة، وهي الهيئة المطبقة في أقصى سقف الفهم، واستعار بذلك استعارة حسنة، يعني إنما تفتح تلك اللها لأجل ما يوضع في فمه من المآكل الطيبة، والمراد إنما يجيد شعره ما يأخذه من أموال السلاطين والولاة. وذلك الذي حمله على تجويد شعره. ولقد أبدع عبد الجليل المذكور في هذين البيتين من ثلاثة أوجه: الأول: الارتجال، والثاني: ما تضمنا من المعاني الحسنة المطابقة للحال، والثالث ما ضمنه من الجناس الحسن.
وقيل: المتنبي أنشد لسيف الدولة في الميدان قصيدة " لكل امرىء من دهره ما تعودا "، فلما عاد سيف الدولة إلى داره، استعاده إياها، فأنشدها قاعداً. فقال بعض الحاضرين ممن يريد أن يكيد أبا الطيب: لو أنشدها قائما لأسمع، فأكثر الناس لا يسمعونه، فقال أبو الطيب: أما سمعت أولها " لكل امرىء من دهره ما تعودا "، وهذا من مستحسن الأجوبة. ومحمود أخباره ومستحسن آثاره نحوت فيها نحو الاختصار، فلم أذكر شيئاً مما له من المدائح والأشعار استغناء بما فيها من الاشتهار.
وفي السنة المذكورة توفي العلامة الحبر الحافظ صاحب التصانيف أبو حاتم محمد بن حبان بكسر الحاء المهملة وتشديد الموحدة التميمي البستي، وكان من أوعية العلم في الحديث والفقه واللغة والوعظ وغير ذلك حتى الطب والنجوم والكلام، ولي قضاء سمرقند ثم قضاء نسا، وغاب دهراً عن وطنه ثم رد إلى بست وتوفي فيها.
وفيها توفي المحدث محمد بن عبد الله بن إبراهيم البغدادي الشافعي. قال(2/268)
الخطيب: كان ثقة ثبتاً، حسن التصانيف، قال: ولما منعت الديلم الناس من ذكر فضائل الصحابة كتبوا السب على أبواب المساجد، وكان يتعمد إملاء أحاديث الفضائل في الجامع.
خمس وخمسين وثلاث مائة
فيها أخذ ركب مصر والشام، وهلك الناس، وتمزقوا في البراري، أخذتهم بنو سليم.
وفيها توفي الحافظ أبو بكر محمد بن عمر بن محمد بن سليم التميمي البغدادي.
روي عنه أنه قال: أحفظ أربعمائة ألف حديث، وأذاكر ستمائة ألف حديث. وذكر الدارقطني أنه خلط وأنه شفي.
وفيها توفي أبو الحكم منذر بن سعيد البلوطي قاضي الجماعة بقرطبة، وكان ظاهري المذهب فطناً مناظراً ذكياً بليغاً مفوهاً شاعراً كثير التصانيف، قوالاً للحق، ناصحاً للخلق، عزيز المثل رحمه الله تعالى.
فيها توفي أبو محمد مسلم بن معمر بن ناصح الدهلي الأديب بأصبهان.
ست وخمسين وثلاث مائة
فيها أقامت الرافضة المآتم على الحسين على العادة المارة في هذه السنوات.
وفيها توفي السلطان معز الدولة أحمد بن بويه الديلمي، وكان في صباه يخطب، وأبوه يصيد السمك، فما زال يترقى في مراقي الدنيا إلى أن ملك بغداد نيفاً وعشرين سنة، ومات بالإسهال وكان حازماً سائساً مهيباً رافضياً عالماً، وقيل أنه رجع في مرضه عن الرفض، وندم على الظلم، وهو عم عضد الدولة وعماد الدولة وركن الدولة، وسيأتي ذكرهم بعد إن شاء الله تعالى.
وفيها توفي أبو محمد المغفلي بفتح الغين المعجمة والفاء المشددة أحمد بن عبد الله الهروي، أحد الأئمة. قال الحاكم: كان إمام أهل خراسان بلا مدافعة، وكان فوق الوزراء، وكانوا يصدرون عن رأيه.
وفيها توفي أبو علي إسماعيل بن القاسم البغدادي النحوي الأخباري، صاحب(2/269)
التصانيف، ونزيل الأندلس بقرطبة، في ربيع الآخر. أخذ الأدب عن ابن كبريت وابن الأنباري، وسمع من أبي يعلى الموصلي والبغوي وطبقتهما، وألف كتاب البارع في اللغة، في خمسة آلاف ورقة، لكن لم يتمه.
وفيها توفي صاحب كتاب الأغاني أبو الفرج علي بن الحسين القرشي الأموي المرواني، الأصبهاني الأصل، البغدادي المنشأ، الكاتب الأخباري. كان أديباً نسابة علامة شاعراً، كثير التصانيف وقال بعض المؤرخين: ومن العجائب أنه مرواني شيعي وكان عالماً بأيام الناس والأنساب والسير روى عن كثير من العلماء.
قال التنوخي: كان يحفظ من الشعر والأغاني والأخبار والآثار والأحاديث المسندة ما لم أر قط من يحفظ مثله، ويحفظ دون ذلك من علوم أخرى. منها: اللغة والنحو والخرافات والسير والمغازي، ومن آلة المنادمة شيئاً كثيراً، مثل علم الجوارح والبيطرة والطب والنجوم والأشربة وغير ذلك. وله شعر يجمع إتقان العلماء وإحسان الظرفاء الشعراء. وله المصنفات المستملحة، منها كتاب الأغاني الذي وقع الاتفاق عليه أنه لم يعمل في باب مثله، يقال أنه جمعه في خمسين سنة، وحمله إلى سيف الدولة بن حمدان، فأعطاه ألف دينار واعتذر إليه.
وحكي، عن الصاحب بن عباد أنه كان يستصحب في أسفاره وتنقلاته، حمل ثلاثين جملاً من كتب الأدب ليطالعها، فلما وصل إليه كتاب الأغاني لم يكن بعده يستصحب سوأه، مستغنياً به عنها. ومنها " كتاب القيان "، و " كتاب الإماء الشواعر "، و " كتاب الدرايات "، و " كتاب دعوة التجار "، و " كتاب مجرد الأغاني "، و " كتاب الألحانات وأدب الغرباء "، وكتب صنفها لبني أمية ملوك أندلس وسيرها إليهم سراً. منها كتاب نسب بني عبد شمس " و " كتاب أيام العرب "، ألف وسبع مائة يوم و " كتاب التعديل والانتصاف " في مآثر العرب ومثالبها، و " كتاب جمهرة النسب "، و " كتاب نسب بني شيبان "، و " كتاب نسب المهالبة "، و " كتاب نسب بني تغلب ونسب بني كلاب "، و " كتاب المغنين الغلمان " وغير ذلك. وكان منقطعاً إلى الوزير المهلبي، وله فيه مدائح، من قوله قوله:
ولما انتجعنا لائذين بظله ... أعان، وما عنا، ومن وما منا
وردنا عليه معترين فراشنا ... وزدنا نداه مجدبين فأخصبنا
وله فيه من قصيدة يهنىء فيها بمولود جاءه من سرية رومية:
أسعد بمولود أتاك مباركاً ... كالبدر أشرق جنح ليل مقمر(2/270)
سعد لوقت سعاد جاءت به ... أم حصان من بنات الأصفر
متبجج في ذر ولي شرف الورى ... بين المهلب منتماه وقيصر
شمس الضحى قرنت إلى بدر الدجى ... حتى إذا اجتمعا أتت بالمشتري
وأشعاره كثيرة، ومحاسنه شهيرة، وكانت ولادته سنة أربع وثمانين ومائتين.
وفيها توفي سيف الدولة الأمير الجليل الشأن علي بن عبد الله بن حمدان التغلبي الجزري، صاحب الشام، توفي بحلب وعمره بضع وخمسون سنة. وكان بطلاً شجاعاً أديباً شاعراً جواداً ممدحاً وقال أبو منصور الثعالبي في كتاب " يتيمة الدهر ": كان بنو حمدان ملوكاً، وجههم للصباحة، وألسنتهم للفصاحة، وأيديهم للشجاعة، وعقولهم للراحة، وسيف الدولة مشهور بسيادتهم، وواسطة قلادتهم، حضرته مقصد الوفود، ومطلق الجود، وقبلة الآمال ومحل الرحال، وموسم الأدباء، وحلية الشعراء. قيل إنه لم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع ببابه من شيوخ الشعر ونجوم الدهر، وإنما السلطان سوق يجلب إليها ما ينفق لديها، وكان أديباً شاعراً مجيداً محباً لجيد الشعر، شديد الاهتزاز له. وكان كل من أبي محمد وعبد الله بن محمد الغياض الكاتب، وأبي الحسن علي بن محمد الشمساطي، قد اختار من مدائح الشعر لسيف الدولة عشرة آلاف بيت.
ومن محاسن شعر سيف الدولة في وصف قوس قزح الأبيات الآتيات، وقد أبدع فيه كل الإبداع، وقيل إنها لأبي الصقر القميصي، والقول الأول ذكره الثعالبي في كتاب اليتيمة.
وساق صبيح للصبوح دعوته ... فقام وفي أجفانه سنة الغمض
يطوف بكاسات العقار كأنجم ... فمن بين منفض علينا ومنفض
وقد نشرت أيدي الجنوب مطارفاً ... على الجود كنار الحواشي على الأرض
يطرزها قوس السحاب بأصفر ... على أحمر في أخضر تحت مبيض
كأذيال خود أقبلت في غلائل ... مصيغة، والبعض أقصر من بعض
قال ابن خلكان: وهذا من التشبيهات الملوكية التي لا يكاد يحضر مثلها للسوقية، والبيت الأخير أخذ معناه أبو علي الفرج. بن محمد المؤدب البغدادي، فقال في فرس أدهم محجل: لبس الصبيح والدجنة بردين فأرخى برداً وقلص برداً وقيل إنها لعبد الصمد بن المعدل.
وكانت له جارية من بنات ملوك الروم في غاية الجمال، فحسدها بقية الخطايا، لقربها منه ومحلها من قلبه، وعزم على إيقاع مكروه بها من سم أو غيره، فبلغه الخبر، وخاف عليها، فنقلها إلى بعض الحصون احتياطاً وقال:(2/271)
راقبتني العيون فيك فأشفقت ... ولم أخل قط من إشفاق
ورأيت العدو يحسدني فيك ... محداً يا أنفس الأعلاق
فتمنيت أن تكوني بعيداً ... والذي بيننا من الود باق
رب هجر يكون من خوف هجر ... وفراق يكون من خوف فراق
قال ابن خلكان: رأيت هذه الأبيات بعينها في ديوان عبد المحسن الصوري، والله تعالى أعلم لمن هي، منهما ومن شعره أيضاً:
أقبله على جزع ... أكثر بالطائر الفزع
رأى ماء فأطعمه ... وخاف عواقب الطمع
وصادف خلسة فدنا ... ولم يلتذ بالجزع
ويحكى أن ابن عمه أبا فراس كان يوماً بين يديه في نفر من ندمائه، فقال سيف الدولة: أيكم يجيز قولي، وليس له إلا سيدي، يعني أبا فراس:
لك جسمي بعله ... فدمي لم تحله
فارتجل أبو فراس وقال:
إن كنت مالكاً ... فلي الأمر كله
فاستحسنه وأعطاه ضيعة بأعمال منبج المدينة المعروفة، تغل ألفي دينار كل سنة ومن شعر سيف الدولة أيضاً:
تجني علي الذنب والذنب ذنبه ... وعاتبني ظلماً وفي شقه العنب
إذا برم المولى بخدمة عبده ... يجني له ذنباً وإن لم يكن ذنب
وأعرض لما صار قلبي بكفه ... فهلا جفاني حين كان لي القلب
وذكر الثعالبي في اليتيمة أن سيف الدوله كتب إلى أخيه ناصر الدولة:
رضيت لك العليا وإن كنت أهلها ... وقلت لهم بيني وبين أخي فرق
ولم يك لي عنها نكول وإنما ... تحافيت عن حقي فتم لك الحق
ولا بد لي من أن أكون مصلياً ... إذا كنت أرضى أن يكون لك السبق
ويحكى أن سيف الدولة كان يوماً بمجلسه، والشعراء ينشدونه، فتقدم إنسان رث(2/272)
الهيئة وهو بمدينة حلب فأنشده:
أنت علي هذه حلب ... قد نفذ الزاد وانتهى الطلب
بهذه هجر البلاد وبالأمير ... تزهو على الورى العرب
وعبدك الدهر قد أضر به ... إليك من جور عبدك الهرب
فقال سيف الدولة: أحسنت والله وأمر له بمائتي دينار، وقال أبو القاسم عثمان بن محمد قاضي عين زربة بالزاي ثم الراء ثم الموحدة حضرت مجلس الأمير سيف الدولة بحلب، وقد وافاه القاضي أبو نصر محمد بن محمد النيسابوري، وقد طرح في كمه كيساً فارغاً، ودرجاً فيه شعر، استأذن في إنشاده، فأذن له فأنشد قصيدة أولها:
جنابك معتاد وأمرك نافذ ... وعبدك محتاج إلى ألف درهم
فلما فرغ من شعره ضحك سيف الدولة ضحكاً شديداً، وأمر له بألف درهم، فجعلت في الكيس الفارغ الذي كان معه.
وكان أبو بكر محمد، وأبو عثمان سعيد، ابنا هاشم المعروف بالخالد من الشعراء المشهورين، أبو بكر أكبرهما، وقد وصلا إلى حضرة سيف الدولة، ومدحاه فأنزلهما وقام بواجب حقهما، وبعث لهما مرة وصيفاً ووصيفة، ومع كل واحد منهما بدرة، وتخت ثياب من عمل مصر، فقال أحدهما من قصيدة طويلة:
لم يعد شكرك في الخلائق مطلقاً ... إلا ومالك في النوال حبيس
حولتنا شمساً وبدراً أشرقت ... بهما الدنيا الظلمة الحنديس
رسالة أتانا وهو حسناء يوسف ... وغزالة هي بهجة بلقيس
وهذا ولم تقنع بذا وبهذه ... حتى بعثت المال وهو نفيس
أتت الوصيفة وهي تحمل بدرة ... وأتى على ظهر الوصيف الكيس
وحبوتنا مما أحادث حوله ... مصر وزادت حسنة بئيس
فغدا لنا من جودك المأكول ... والمشروب والمنكوح والملبوس
فقال سيف الدولة: أحسنت إلا في لفظة المنكوح، فليس مما يخاطب الملوك بها.
ومن أشعار سيف الدولة، وقد جرت بينه وبين أخيه وحشة، فكتب إليه سيف الدولة:
لست أجفو وإن جفيت ولا ... أترك حقاً علي في كل حال
إنما أنت والد، والأب ... الجافي يجازي بالصبر والاحتمال
وكتب إليه مرة أخرى ما تقدم من قوله قريباً: " رضيت لك العليا وإن كنت أهلها ".(2/273)
وكان الذي لقيهما ناصر الدولة وسيف الدولة. الخليفة المتقي لله، وعظم شأنهما، وكان الخليفة المكتفي بالله قد ولى أباهما عبد الرحمن بن حمدان الموصل وأعمالها. وناصر الدولة أكبر سناً من سيف الدولة، فملك الموصل بعد أبيه، وكان أقدم منزلة عند الخلفاء.
فلما توفي سيف الدولة تغيرت أحواله كما سيأتي في ترجمته. وأخبار سيف الدولة كثيرة مع الشعراء، خصوصاً مع المتنبي والسري الرفاء واليامي والببغا. ولو أراد تلك الطبقة في تعدادهم طول. وكانت ولادته يوم الأحد سابع عشر ذي الحجة، سنة ثلاث وثلاث مائة، وقيل سنة إحدى وثلاث مائة. وتوفي يوم الجمعة ثالث ساعة وقيل رابع ساعة، لخمس بقين من صفر، السنة المذكورة بحلب وقد نقل إلى فارقين ودفن في تربة.
وكان قد جمع له من بعض الغبار الذي يجتمع عليه في غزواته شيئاً وعمله بقدر الكف، وأوصى أن يوضع خده عليها في لحده، فنفذت وصيته في ذلك، وكان تملكه بحلب في سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، انتزعها من يد أحمد بن سعيد الكلابي صاحب الإخشيذ: قلت ولعله المراد بقول الشاعر:
ما زلت أسمع والركبان تخبرني ... عن أحمد بن سعيد أطيب الخبر
حتى التقينا فلا والله ما سمعت ... أذني بأحسن مما قد رأى بصري
على ما ذكر بعض أهل المعاني والبيان، أنه أحمد بن سعيد، والذي ذكره ابن خلكان وغيره أنه جعفر بن فلاح، وإن قائلهما ابن هانىء الأندلسي، وغلط من قال خلاف هذا، والبيتان المذكوران في ترجمة جعفر المذكور في سنة ستين وثلاثمائة.
وملك بعد سيف الدولة ولده سعد الدولة أبو المعالي شريف بن سيف الدولة. وطالت مدته أيضاً في المملكة، ثم عرض له قولنج أشرف منه على التلف، وفي اليوم الثالث من عافيته واقع جاريته، فلما فرغ منها سقط عنها، وقد جف شقه الأيمن، فدخل عليه طبيبه، فأمر أن يسحق عنده الند والعنبر، فأفاق قليلاً، فقال الطبيب له: أرني مجسك، فناوله يده اليسرى، فقال: أريد اليمنى، فقال: ما تركت اليمين يميناً، وكان قد حلف وغدر.
وتوفي ليلة الأحد لخمس بقين من شهر رمضان سنة إحدى وثمانين وثلاث مائة، وعمره أربعون سنة وست أشهر وعشرة أيام، وتولى بعده ولده أبو الفضل سعد ولم يذكروا تاريخ وفاته، وبموته انقرض ملك بني سيف الدولة.(2/274)
وفي السنة المذكورة، وقيل في العام الآتي توفي أبو المسك كافور الحبشي الأسود الخادم الإخشيذي، صاحب الديار المصرية. اشتراه الإخشيذ صاحب مصر والحجاز والشام، فتقدم عنده حتى صار من أكبر قواده، لعقله ورأيه وشجاعته، ثم صار أتابك ولده الأكبر أبي القاسم بعده وكان صبياً فبقي الاسم لأبي القاسم ولد الكافور، فأحسن سياسة الأمور إلى أن مات أبو القاسم سنة تسع وأربعين وثلاث مائة. وأقام كافور في الملك بعده وتولى بعده أخوه أبو الحسن علي، فاستمر كافور على نيابته وحسن سيرته إلى أن توفي علي المذكور سنة خمس وخمسين ثلاث مائة، وقيل بل أربع وخمسين.
ثم استقل كافور بالمملكة من هذا التاريخ وكان وزيره أبو الفضل جعفر ابن الفرات وكان يرغب في أهل الخير ويعظمهم، وكان شديد السواد، اشتراه الإخشيذ بثمانية عشر ديناراً على ما قيل.
وكان أبو الطيب المتنبي قد فارق سيف الدولة بن حمدان مغاضباً كما تقدم وقصد مصر وامتدح كافوراً بمدائح حسان، فمن ذلك قوله في أول قصيدة، وقد وصف الخيل:
قواصد كافور تدارك غيره ... ومن قصد البحر استقل السواقيا
فجاءت بنا إنسان عين زمانه ... فحقت بياضاً خلفها ومآقيا
فأحسن في هذا إحساناً بلغ الغايات القصوى، قلت: ولدي أنه لو قال: " يومين بحراً تاركين سواقيا " ومن قصد البحر إلى آخره، كان أحسن وأنشد أيضاً القصيدة التي يقول فيها:
وأخلاق كافور إذا شئت مدحه ... وإن لم أشأ تملى علي فأكتب
إذا ترك الإنسان أهلاً وراءه ... ويم كافوراً فما يتغرب
ومن جملتها:
ويصلحك في ذي العبد كل حبيبة ... خلاني فأبكي من أحب وأندب
أحسن إلى أهلي وأهوى لقاءهم ... وأين من المشتاق عنقاء مغرب
فإن لم يكن إلا أبو المسك أوهم ... فإنك أحلى في فؤادي وأعذب
وكل امرىء يؤتى الجميل يحبه ... وكل مكان ينبت العز أطيب
ومن قصيدة هي آخر شيء أنشده:
أرى لي بقربي منك عيناً قريرة ... وإن كان قرباً بالبعاد خباب(2/275)
وهل نافعي أن ترفع الحجب بيننا ... ودون الذي أمليت منك حجاب
وفي النفس حاجات وفيك فطانة ... سكوتي بيان عنهما وخطاب
وما أنا بالباغي على الحب رشوة ... ضعيف هوى يبغى عليه ثواب
وما شئت إلا أن أدل عواذلي ... على أن رأيي في هواك صواب
وأعلم قوماً خالفوني فشرقوا ... وغربت إني قد ظفرت وخابوا
جرى الخلف إلا فيك أنك واحد ... وأنك ليث والملوك ذباب
وأن مديح الناس حق وباطل ... ومدحك حق ليس فيه كذاب
إذا نلت منك الود فالمال هين ... وكل الذي فوق التراب تراب
وما كنت لولا أنت إلا مهاجراً ... له كل يوم بلدة وصحاب
ولكنك الدنيا إليك حبيبة ... فما عنك لي إلا إليك ذهاب
وأقام المتنبي بعد إنشاد هذه القصيدة بمصر سنة لا يلقى كافوراً غضباً عليه، يركب في خدمته خوفاً منه، ولا يجتمع به، واستعد للرحيل في الباطن، وجهز جميع ما يحتاج إليه، وقال في يوم عرفة سنة خمسين وثلاثمائة قبل مفارقته مصر بيوم واحد قصيدته الدالية التي هجا كافوراً فيها، وفي أخرها:
من علم الأسود المخصي تكرمة ... أأمه البيض أم آباؤه الصيد
وله فيه من الهجو كثير، تضمنه ديوانه، ثم فارقه، وبعد ذلك دخل إلى عضد الدولة.
وذكر بعضهم قال: حضرت مجلس كافور الإخشيذي، فدخل رجل ودعا له، فقال في دعائه: أدام الله تعالى أيام مولانا " بكسر الميم " من أيام، فتكلم جماعة من الحاضرين في ذلك وعلبوه، فقام رجل من أوساط الناس، وأنشد مرتجلاً:
لا غرو إن لحن الداعي لسيدنا ... أو غض من دهش بالريق أو نهر
فتلك هيبة حالت جلالتها ... بين الأديب وبين القول بالحصر
وإن يكن خفض الأيام من غلط ... في موضع النصب لا عن قلة النظر
فقد تفاءلت من هذا لسيدنا ... والفأل مأثورة عن سيد البشر
بأن أيامه خفض بلا نصب ... وأن أوقاته صفو بلا كدر
قوله بالحصر " بفتح الحاء والصاد المهملتين ": العي، وهو أيضاً ضيق الصدر وأخبار كافور كثيرة، ولم يزل مستقلاً بالأمر بعد أمور يطول شرحها إلى أن توفي يوم الثلاثاء لعشر بقين من جمادى الأولى من السنة المذكورة بمصر على القول الصحيح، ودفن بالقرافة، وقبته هناك مشهورة، ولم تطل مدته في الاستقلال على ما ظهر من تاريخ موت علي بن(2/276)
الأخشيذ إلى هذا التاريخ. وكانت بلاد الشام في مملكته أيضاً مع مصر، وكان يدعى له على المنابر بمكة والحجاز جميعه، والديار المصرية وبلاد الشام، من دمشق وحلب وأنطاكية وطرسوس ومصيصة وغير ذلك، وعاش نيفاً وستين سنة.
سبع وخمسين وثلاث مائة
لم يحج الركب فيها لفساد الوقت وموت للسلاطين في الشهور الماضية.
وفيها توفي الحافظ صاحب التصانيف أبو سعيد النخعي البسري.
وفيها توفي المتقي لله أحمد بن الموفق العباسي المخلوع المسمول العينين، توفي في السجن وكانت خلافته أربع سنين، وكان فيه صلاح وكثرة صلاة وصيام، ولم يكن يشرب، وفي خلافته انهدمت القبة الخضراء المنصورية التي كانت فخر بني العباس.
وفيها توفي الحافظ المحدث عمر بن جعفر البصري رحمه الله.
وفيها توفي أبو فراس الحارث بن أبي العلاء، سعيد بن حمدان، ابن عم سيف الدولة. قال الثعالبي في وصفه: كان فرد دهره، وشمس عصره أدباً وفضلاً، وكرماً ومجداً وبلاغة وبراة، وفروسية وشجاعة، وشعره مشهور سائر بين الحسن والجودة، والسهولة والجزالة، والعذوبة. والفخامة والحلاوة ومعه ذو الطبع وسمة الظرف وعزة الملك ولم تجتمع هذه الخلال قبله إلا في شعر عبد الله بن المعتز. وأبو فراس يعد أشعر منه عند أهل الصنعة ونقدة الكلام. وكان ابن عباد يقول بدىء الشعر بملك، وختم بملك، يعني امرىء القيس وأبا فراس. وكان المتنبي يشهد له بالتقدم والتبريز، ويتحامى جانبه، ولا يمتري لمماراته، ولا يجتزي لمجازاته، وإنما لم يمدحه ومدح من دونه من آل حمدان، إعظاماً وإجلالاً، لا إغفالاً وإخلالاً، وكان سيف الدولة يعجب جداً بمحاسن أبي فراس، ويميزه بالإكرام على سائر قومه، ويستصحبه في غزواته، ويستخلفه في أعماله. وكانت الروم أسرته في بعض وقائعها، وهو جريح قد أصابه سهم، بقي نصله في فخذه، وأقام في الأسر أربع سنين في قسطنطينية، وأسرته الروم مرة قبلها، وذهبوا إلى قلعة يجري الفرات تحتها ويقال أنه ركب فرسه، وركض برجله، فأهوى به من أعلى الحصن إلى الفرات.
وقيل أنه لما مات سيف الدولة عزم على التغلب على حمص، فاتصل خبره بأبي المعالي بن سيف الدولة وغلام لأبيه، فأنفذ إليه من قاتله، فأخذ وقد ضرب ضربات فمات في الطريق، وقيل: بل مات من حرب بينه وبين موالي أسرته، وقال بعضهم: كان أبو فراس خال أبي المعالي، فقلعت أم أبي المعالي عينها، لما بلغها وفاته، وقيل: بل لطمت وجهها فقلعت عينها. وقيل: بل قتله غلام سيف الدولة، ولم يعلم أبو المعالي، فلما بلغه الخبر(2/277)
شق عليه. والله تعالى أعلم أي ذلك كان.
وله ديوان شعر من جملته قوله:
قد كنت عدتي التي أسطو فيها ... ويدي إذا اشتد الزمان وساعدي
فرميت منك بضد ما أملته ... والمرء يشرب بالزلال البارد
وله:
أساء فزادته الإساءة حظوة ... حبيب على ما كان منه حبيب
يعددني الواشون منه ذنوبه ... ومن أين للوجه المليح ذنوب
وله:
ونحن أناس لا توسط بيننا ... لنا الصدر دون العالمين أو القبر
تهون علينا في المعالي نفوسنا ... ومن خطب الحسناء لم يغلها المهر
وله:
كانت مودة سلمان له نسباً ... ولم يكن بين نوح وابنه رحم
ثمان وخمسين وثلاث مائة
فيها كان خروج الروم من الثغور، فأغاروا وقتلوا وسبوا، ووصلوا إلى حمص، وعظم المصائب، وجاءت المغاربة مع القائد جوهر المغربي، وأخذوا ديار مصر، وأقام الدعوة لبني عبيد الرافضة، مع أن الدعوة بالعراق في هذه المدة رافضية، وشعارهم قائم يوم عاشوراء ويوم الغدير، وستأتي قصة القائد جوهر المذكور، إن شاء الله تعالى.
وفيها توفي ناصر الدولة الحسن بن أبي الهيجا، عبد الله بن حمدان التغلبي، صاحب الموصل. وكان أخوه سيف الدولة يتأدب معه لسنة ومنزلته عند الخلفاء، وكان هو كثير المحبة لسيف الدولة، فلما توفي حزن عليه ناصر الدولة، وتغيرت أحواله، وضعف عقله، فبادره ولده أبو ثعلب الغضنفر، عمدة الدولة، فحبسه في حصن السلامة، ومنعه من التصرف، وقام بالمملكة، ولم يزل ناصر الدولة معتقلاً إلى أن مات.
وفيها توفي أبو القاسم زيد بن علي العجل العجلاني الكوفي، شيخ الإقراء ببغداد.
وفيها توفي محدث دمشق محمد بن إبراهيم القرشي الدمشقي، وكان ثقة مأموناً جواداً مفضلاً، أخرج له الحافظ ابن منده ثلاثين جزءاً.(2/278)
تسع وخمسين وثلاثين ومائة
فيها توفي الفقيه الإمام الشافعي أحمد بن محمد المعروف بابن القطان، أخذ الفقه عن ابن سريج، ثم من بعده عن أبي إسحاق المرزوي، وأخذ عنه العلماء، وله مصنفات في أصول الفقه وفروعه، انتهت إليه الرياسة.
وفيها توفي الفقيه مسند أصفهان، أحمد بن بندار السفار، وأحمد بن يوسف بن خلاد النصيبيني.
وفيها توفي المحدث الحجة أبو علي بن الصواف البغدادي، قال الدارقطني: ما رأت عيناي مثله ومثل آخر بمصر.
ستين وثلاث مائة
فيها لحق المطيع فالج أبطل نصفه وأثقل لسانه. وأقامت الشيعة عاشوراء باللطم والعويل والأنواح، وعيد الغدير بالكوسات واللهو والأفراح.
وفيها توفي جعفر بن الكثامي بضم الكاف وبعدها مثلثة الذي ولي دمشق للباطنية، وهو أول نائب وليها لبني عبيد وكان أحد قواد المعز العبيدي، وكان قد سار إلى الشام، فأخذ الرملة ثم دمشق، بعد أن حاصر أهلها أياماً، ثم قدم لحربه الحسن بن أحمد القرمطي الذي تغلب قبله على دمشق وكان جعفر مريضاً فأسره القرمطي وقتله. وكان رئيساً جليل القدر ممدوحاً. وفيه يقول أبو القاسم محمد بن هانىء الأندلسي الشاعر المشهور:
كانت مساءلة الركبان تخبرني ... عن جعفر بن فلاح طيب الخبر
حتى التقينا فلا والله ما سمعت ... أذني بأحسن مما قد رأى بصري
قلت: وبعضهم يرويه بأطيب، وبعضهم يقول عن أحمد بن سعيد أعني: الممدوح والناس يقولون هما لأبي تمام.
قال ابن خلكان: هو غلط، بل هما لمحمد بن هانىء المذكور، وقال يرويهما عن أحمد بن سعيد وداود وليس كذلك بل عن جعفر بن فلاح. انتهى.
وفيها توفي الحافظ العلم مسند العصر أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب(2/279)
اللخمي الطبراني في ذي القعدة بأصبهان، وله مائة سنة وعشرة أشهر، وكان ثقة صدوقاً، واسع الحفظ، بصيراً بالعلل والرجال والأبواب، كثير التصانيف. وأول سماعاته بطبرية، ثم رحل إلى القدس، ثم إلى حمص وجبلة ومدائن الشام. وحج ودخل اليمن، ورد إلى مصر، ثم رحل إلى العراق وأصفهان وفارس. وروى عن أبي زرعة الدمشقي وغيره من تلك الطبقة.
وفيها توفي الحافظ أبو عمرو بن مطر النيسابوري، وكان متعففاً قانعاً باليسير، يحيي الليل، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويجتهد في متابعة السنة.
وفيها توفي الآجري محمد بن الحسين البغدادي الفقيه المحدث، كان صالحاً عابداً. روى عن جماعة، منهم أبو شعيب الحراني، وأحمد بن يحيى الحلواني، والفضل بن محمد الجندي " بفتح الجيم والنون " وخلق كثير. وصنف في الحديث والفقه كثيراً، وروى عنه جماعة من الحفاظ، منهم: أبو نعيم الأصفهاني صاحب كتاب " حلية الأولياء "، جاور بمكة وتوفي بها. وقيل أنه لما دخلها أعجبته فقال: اللهم ارزقني الإقامة بها سنة، وسمع هاتفاً يقول له: بل ثلاثين سنة، فعاش بها ثلاثين سنة، ثم توفي رحمه الله.
وفيها توفي أبو القاسم بن أبي يعلى الهاشمي الشريف لما أخذ العبيديون دمشق، ثم قام هذا الشريف، وقام معه أهل الغوطة والسبات، واستفحل أمره في ذي الحجة سنة تسع وخمسين، وطرد عن دمشق متوليها، ولبس السواد، وأعاد الخطبة لبني العباس، فلم يلبث إلا أياماً حتى جاء عسكر المغاربة، وحاربوا أهل دمشق، وقتل بين الفريقين جماعة، ثم هرب الشريف في الليل، وصالح أهل البلد العسكر، وأسر الشريف عند تدمر، أسره جعفر بن فلاح على جمل، وبعث به إلى مصر.
وفيها توفي الشيخ العارف أبو الحسن بن سالم البصري، وكان له أحوال ومجاهدات، وعنه أخذ الأستاذ الشيخ العارف أبو طالب المكي صاحب القوت وأبو الحسن المذكور آخر أصحاب شيخ الشيوخ العارفين سهل بن عبد الله التستري وفاة.
وفيها توفي الوزير أبو الفضل محمد بن الحسين، المعروف بابن العميد. كان وزير.(2/280)
ركن الدولة ابن بويه، وكان متوسعاً في علوم الفلسفة والأجرام، وإمام الأدب والترسل، فلم يقاربه فيه أحد في زمانه، وكان كامل الرئاسة، جليل المقدار. ومن بعض أتباعه الصاحب ابن عباد، ولأجل صحبته قيل له: الصاحب، وكانت له في الرئاسة اليد البيضاء، وفي براعته في الكتابة قيل: بدأت الكتابة بعبد الحميد، وختمت بابن العميد. وقصده جماعة من مشاهير الشعراء بالمدائح، منهم المتنبي، مدحه بقصيدته التي أولها:
باد هواك صبرت أو لا تصبرا ... وبكاك إن لم يجر دمعك أو جرى
وقلت وفي إعراب قافية هذا البيت وقع بحث، وحاصله أن الألف هنا منقلبة عن نون التأكيد الخفيفة. فأعطاه ثلاثة آلاف دينار. ولما مات ابن العميد رتب ركن الدولة مكانه ابنه ذا الكتابتين: أبا الفتح علياً، وكان جليلاً نبيلاً ثرياً. ثم قبض عليه ركن الدولة في آخر الأمر، وصادره حتى بلغة عتاب العذاب. نسأل الله تعالى العافية من غرور الدنيا، وما فتنت به كل مصاب.
وفيها توفي الحافظ أبو محمد الرامهرمزي والجابري عبد الله بن جعفر الموصلي.
وفيها توفي أبو عبد الرحمن: عبد الله بن عمر المروزي الجوهري، محدث مرو.
وفيها توفي أبو جعفر الدراوردي محمد بن عبد الله بن بردة. حدث بهمدان.
إحدى وستين وثلاث مائة
فيها أخذ ركب العراق، اعترضته بنو هلال، وقتلوا خلقاً. وبطل الحج إلا طائفة نجت، ومضت مع أمير الركب الشريف أبي أحمد الموسوي، والد الشريف المرتضى.
وفيها توفي الحافظ أبو عبد الله: محمد بن الحارث بن أسد الخشني القيرواني مصنف " كتاب الاختلاف والافتراق " في مذهب مالك و " كتاب الفتيا " و " كتاب تاريخ الأندلس "، و " كتاب تاريخ إفريقية "، و " كتاب النسيب ".
اثنتين وستين وثلاث مائة
فيها توفي عالم البصرة الإمام الكبير أبو حامد المروزي: أحمد بن عامر الشافعي(2/281)
صاحب التصانيف، وصاحب أبي إسحاق المروزي. تفقه به أهل البصرة.
وفيها توفي أبو إسحاق المزكي النيسابوري قال الحاكم: هو شيخ نيسابور في عصره، وكان من العباد المجتهدين المحاجين المنفقين على العلماء والفقراء، وكان مثرياً متمولاً، دفن بنيسابور.
وفيها توفي الأمير الأديب الممدوح بمقصورة ابن دريد: إسماعيل بن عبد الله بن محمد بن ميكائيل.
وفيها توفي أبو جعفر البلخي الهندواني، الذي كان من براعته في الفقه يقال له أبو حنيفة الصغير. توفي ببخارى، وكان شيخ تلك الديار في زمانه.
وفيها توفي ابن فضالة المحدث الأموي، مولاهم الدمشقي.
وفيها توفي حامل لواء الشعر بالأندلس أبو الحسن محمد بن هانىء الأزدي الأندلسي الشاعر المشهور. قيل: إنه من ولد يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي، وقيل: بل هو من ولد أخيه روح، وكان أبوه هانىء من قرية من قرى المهدية بإفريقية. وكان شاعراً أديباً، فانتقل إلى الأندلس، فولد بها محمد المذكور بمدينة أشبيلية، ونشأ بها واشتغل، وحصل له حظ وافر من الأدب، وعمل الشعر فمهر فيه. وكان حافظاً أشعار العرب وأخبارهم، واتصل بصاحب أشبيلية، وحظي عنده. وكان منتهكاً للحرمات منهمكاً في اللذات، متهماً بالعقائد الفلسفيات. ولى اشتهر عنه ذلك نقم عليه أهل أشبيلية، وساءت المقالة في حق الملك بسببه، واتهم بمذهبه أيضاً، فأشار الملك عليه بالغيبة عن البلد مدة، ينسى فيها خبره، فانفصل عنها وعمره يومئذ سبعة وعشرون عاماً. وحديثه طويل، وخلاصته أنه خرج فلقي جوهراً القائد، مولى المنصور، فامتدحه، ولم يزل يرحل ويمتدح ولاة الأمر إلى أن نمي خبره إلى المعز أبي تميم معد بن المنصور العبيدي، ما انتهى إليه بالغ في الإنعام عليه، ثم توجه المعز إلى الديار المصرية كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى فشيعه ابن هانىء المذكور، ورجع إلى المغرب لأخذ عياله والالتحاق به، فتجهز وتبعه. فلما وصل إلى برقة، أضافه شخص من أهلها، فأقامه عنده أياماً في مجلس الأنس، فيقال أنهم عربدوا عليه، فقتلوه، وقيل: خرج من تلك الدار وهو سكران، فنام في(2/282)
الطريق، وأصبح ميتاً ولم يعرف سبب موقه. وقيل أنه وجد في ساقية من سواقي برقة مخنوقاً بتكة سرواله، وكان ذلك في بكرة يوم الأربعاء لسبع ليال بقين من رجب سنة اثنتين وستين وثلاث مائة، وعمره ست وثلاثون سنة، وقيل اثنتان وأربعون سنة رحمه الله هكذا قيده صاحب كتاب أخبار القيروان، وأشار إلى أنه كان في صحبة المعز، وهو مخالف لما ذكرته أولاً من تشيعه للمعز ورجوعه لأخذ عياله. ولما بلغ المعز وفاته بمصر أسف عليه كثيراً وقال: هذا الرجل كنانة جود إن تفاخر به شعراء المشرق فلم يقدر لنا ذلك. وله في معز عزيز المدائح ونحت الشعر، فمن ذلك قصيدته النونية التي أولها:
هل من أعتقه عالج بيرين ... أم منهما بقر الحدوج العين
ولمن ليالي باذ منا عهدها ... مذكر إلا أنهن شجون
والمشرقات كأنهن كواكب ... والناعمات كأنهن غصون
أومى لها المجان صفحة خده ... وبكى عليها اللؤلؤ المكنون
قلت قوله: الحدوج المراد بالحدوج هنا جمع: حدج وهو مركب من مراكب النساء مثل المحفة.
قال ابن خلكان: وديوانه كبير، ولولا ما فيه من الغلو في المدح والإفراط المفضي إلى الكفر لكان من أحسن الدواوين. وليس للمغاربة من هو في طبقته لا من متقدميهم ولا متأخريهم، بل هو أشعرهم على الإطلاق، وهو عندهم كالمتنبي عند المشارقة، وكانا متعاصرين، وإن كان في المتنبي مع أبي تمام من الاختلاف ما فيه. قال: ويقال أن أبا العلاء المعري، كان إذا سمع شعره يقول: ما أشبهه إلا برحى يطحن قروناً، لأجل القعقعة في ألفاظه، ويزعم أنه لا طائل تحت تلك الألفاظ. قال: ولعمري ما أنصفه في هذا المقال وما حمله على هذا إلا فرط تعصبه للمتنبي، قال: وبالجملة فما كان إلا من المحسنين في النظم، والله أعلم، انتهى.
وقال في أول ترجمته " أبو نواس الأندلسي " فكناه بكنية أبي نواس الحسن بن هانىء الحكمي العراقي، وهذا محمد بن هانىء الأزدي الأندلسي، فقد اتفقا في اسم الأبوين، وهو هانىء، وقد يتوهم من لا يدري التاريخ والنسب أنهما أخوان، كما ذكر ذلك في بعض الناس فيما مضى متوهماً لاتفاق اسم الأبوين، أو مقلداً متوهماً، ولو اطلع على التاريخ لعلم بطلان ذلك، فإن هذا المغربي توفي في سنة اثنتين وستين وثلاث مائة، وذلك المشرقي توفي في سنة ست وتسعين ومائة، فبينهما مائة وست وستون سنة، والأخوان لا يتباعد ما بينهما هذا التباعد في مثل زمانهما، هذا من حيث التاريخ.(2/283)
وأما من حيث النسب، فلما ذكروا أن المغربي أزدي، والمشرقي حكمي، ولعل ابن هانىء المغربي المذكور وهو الذي وقع بينه وبين المتنبي ما يحكى من القصة العجيبة عنده وصوله إلى قابس لمدح صاحب الإفريقية. وقد ذكرتهما في آخر علم البديع من كتاب منهل المفهوم في شرح ألسنة العلوم فإن الشاعر الذي ذكروا أنه رد المتنبي عن ملاقاة صاحب الأندلس، ومدحه بالجملة التي ذكرها داهية في المكر، فإنه حكى أن المتنبي لما خيم بإزاء قصره في زي أمير في الحشمة والغلمان والخدم والخيل والأتباع والحشم، فزع صاحب قابس من ذلك، وسأل عنه، فلما قيل له: إنه شاعر أتى ليمدحك، كره ذلك وقال: أي شيء يرضي صاحب هذه الهيئة، ويقنعه من الجائزة؟ فقال شاعره أنا أرده عنك، وغالب ظني أنهم قالوا إنه ابن هانىء، فقال له. بأي وجه ترده عني. فقال: بوجه جميل، فقال: افعل فأخذ شاة رديئة ولبس لباس بدوي، وجعل يقود الشاة متوجهاً إلى جهة منزل المتنبي، وهو في مخيم كأنه مخيم أمير، فلما قرب منه قال: طرقوا إلى الأمير، فصاروا يضحكون عليه، ويتعجبون منه. فلما وصل إليه وهو يقود الشاة في تلك الهيئة التي اتصف هو وشاته بها ضحك منه، هو ومن حوله، وقال له: ما هذه الشاة؟ قال: هذه جائزتي من الملك. قال: جائزة؟ فال: نعم، قال: جائزة علام ذا. قال: على مدحي له. فتعجب من ذلك وقال: عسى أن تكون جائزته على قدر مدحه، ثم قال له: أسمعني مدحك له، كيف قلت فيه؟ قال: قلت:
ضحك الزمان وكان قدماً عابساً ... لما فتحت يجد عزمك قايسا
أنكحتها عذراء وما أمهرتها ... إلا فتى وصوارماً وفوارسا
من كان بالسمر العوالي خاطباً ... جلبت له بيض الحصون عرائسا
فتحير المتنبي عند سماع شعره وقال: أنا ما أقدر أقول مثل هذا الذي أجازك عليه بهذه الشاة، فارتحل راجعاً من حيث جاء، هكذا حكى لي بعض أهل الخير ممن له إلمام ومعرفة ببعض الشعراء من جهة المغرب، أو ما يقرب منها، بهذا اللفظ أو ما يقرب منه معناه. ولكن ما رأيت أحداً من المؤرخين ذكر للمتنبي دخولاً إلى بلاد المغرب. والله أعلم.
ثلاث وستين وثلاث مائة
فيها ظهر ما كان المطيع يستره من الفالج، فثقل لسانه، فدعا حاجب السلطان(2/284)
عز الدولة إلى خلع نفسه، وتسليم الخلافه لولده الطائع لله، ففعل ذلك، وأتيت على خلعه قاضي القضاة.
وفيها أقيمت الدعوة بالحرمين للمعز العبيدي، وقطعت خطبة بني العباس، ولم يحج ركب العراق لأنهم وصلوا إلى بعض الطريق، فرأوا هلال ذي الحجة، وأعلموا أن الماء معدوم قدامهم، فعدلوا إلى مدينة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فزاروا، ثم رجعوا.
وفيها توفي الحافظ أبو الحسين الشهيد محمد بن أحمد بن سهل الرملي، سلخه صاحب مصر المعز، وكان قد قال: لو كان معي عشرة أسهم لرميت الروم بسهم ورميت بني عبيد بتسعة، فبلغت القائد جوهراً، فلما ظفر به قرره، فاعترف وأغلظ لهم، فقتلوه، وكان عابداً صالحاً زاهداً قوالاً بالحق.
وفيها توفي الحافظ محدث الشام أبو العباس محمد بن موسى السمسار الدمشقي.
وفيها توفي صاحب المعز العبيدي وقاضيه النعمان بن محمد، المكنى بأبي حنيفة، كان من أوعية العلم والفقه والدين والنقل، على ما لا مزيد عليه، كذا ذكر بعض المؤرخين وغير ذلك، وذكر بعض المؤرخين أنه كان في غاية الفضل من أهل القرآن، والعلم بمعانيه، وعالماً بوجوه الفقه، وعلم اختلاف الفقهاء واللغة والشعر والمعرفة بأيام الناس، مع عقل وإنصاف، وألف لأهل البيت من الكتب آلاف أوراق بأحسن تأليف، وأملح أسجع، وعمل في المناقب والمثالب كتاباً حسناً، وله ردود على المخالفين لأبي حنيفة ومالك والشافعي وابن شريح وكتاب اختلاف الفقهاء ينتصر فيه لأهل البيت، وقصيدة فقهية. وكان ملازماً صحبة المعز، ووصل معه إلى الديار المصرية أول دخوله إليها من إفريقية، ولما مات صلى عليه المعز.
أربع وستين وثلاث مائة
فيها أو بعدها ظهرت العيارون واللصوص ببغداد، واستفحل شرهم حتى ركبوا الخيل، وتلقوا بالقواد، وأخذوا الضريبة من الأسواق والدروب، وعم البلاء وفيها قطعت خطبة الطائع لله ببغداد خمسين يوماً، فلم يخطب لأحد، لأجل شعث وقع بينه وبين عضد الدولة عند قدومه العراق، فإن عضد الدولة قدم من شيراز، فأعجبته مملكة العراق فاستمال الأمراء، وجرت أمور يطول ذكرها.(2/285)
وفيها توفي الحافظ أبر بكر ابن السني الدينوري، صاحب كتاب عمل اليوم والليلة، رحل وكتب الكثير، وروى عن النسائي وأبي حنيفة وطبقتهما، وبينما هو يكتب، وضع القلم، ورفع يديه يدعو الله تعالى، فمات.
وفيها توفي المطيع لله الفضل بن المقتدر: جعفر بن المعتضد العباسي. والأمير جعفر بن علي بن أحمد بن حمدان الأندلسي، كان شيخاً كثير العطاء مؤثراً لأهل العلم، وفيه يقول الشاعر محمد بن هانىء الأندلسي:
المدنقان من البرية كلها ... جسمي وطرف بابلي أجور
والمشرقات النيرات ثلاثة ... الشمس والقمر المنير جعفر
قلت وقوله هذا استقي من منهل الشاعر، ويستدل بنجوم نظمه الزواهر في قوله:
هو في آفاق الأسهار سائر ... ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها
شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر
خمس وستين وثلاث مائة
فيها توفي الشيخ الكبير إسماعيل بن نجيد الإمام النيسابوري، شيخ الصوفية بخراسان، أنفق أمواله على الزهاد والعلماء، وصحب الجنيد وأبا علي عثمان الحيري، وسمع إبراهيم بن محمد البوشنجي، وأبا مسلم الكجي وطبقتهما، وكان صاحب أحوال ومناقب.
وفيها توفي الحافظ أحد أركان الحديث أبو علي الماسرجسي، رحل إلى العراق ومصر والشام. قال الحاكم: هو سفينة عصره في كثير الكتاب، صنف المسند الكبير مذهباً معللاً، جمع حديث الزهري جمعاً لم يسبق إليه، وكان يحفظه مثل الماء. وصنف كتاباً على البخاري وآخر على مسلم.
وفيها توفي الحافظ الكبير أبو أحمد عبد الله بن محمد بن القطان الجرجاني، مصنف الكامل في الجرح.(2/286)
وفيها توفي الحاكم أبو عبيد الله وفي ست وستين عند السمعاني، وفي ست وثلاثين عند الشيخ أبي إسحاق الشيرازي.
وفيها توفي الإمام النحرير الفاضل الشهير المعروف بالقفال الكبير، الشاشي، الفقيه الشافعي، إمام عصره بلا منازع، وفريد دهره بلا مدافع، صاحب المصنفات المفيدة والطريقة الحميدة. كان فقيهاً محدثاً أصولياً لغوياً شاعراً، لم يكن بما وراء النهر للشافعيين مثله في وقته، رحل إلى خراسان والعراق والحجاز والشام والثغور، وأخذ الفقه عن ابن سريج، وهو أول من صنف الجدل الحسن من الفقهاء، وله كتاب في أصول الفقه، وله شرح الرسالة، وعنه انتشر مذهب الشافعي في بلاده روى عن أكابر من العلماء. منهم: الإمامان الكبيران محمد بن جرير الطبري، وإمام الأئمة محمد بن خزيمة وأقرانهما، وروى عنه جماعة من الكبار، منهم: الحاكم، وأبو عبد الله بن منذر، وأبو عبد الرحمن السلمي وغيرهم.
قلت وهذا القفال الشاشي المذكور، قد يثبه على بعض الناس بقفال وشاشي آخرين، وها أنا ذا أوضح ذلك أيضاً بالغاً مما أوضحت ذلك في نظيره في الثلاثة النحويين المسمين بالأخفش.
اعلم أنهم ثلاثة قفال شاشي: وهو هذا، وقد ذكرنا عن من أخذ ومن أخذ عنه، وهو والد القاسم صاحب كتاب " التقريب "، وقيل إنه صاحب " كتاب التقريب " لا ولده، وللشك في ذلك يقال: قال صاحب التقريب، وأبو حامد الغزالي قال في كتاب الرهن: لما ذكر صاحب التقريب قال: أبو القاسم، فغلطوه في ذلك وقالوا: صوابه القاسم، والتقريب المذكور قليل الوجود في أيدي الناس، وهناك تقريب آخر يكثر وجوده في أيدي الناس، وهو لسليم، وبه تخرج فقهاء خراسان. والشاشي بشينين معجمتين بينهما ألف نسبة إلى الشاش مدينة وراء النهر سيحون - خرج منها جماعة من العلماء.
وإذا علم أن القفال هو الشاشي، فاعلم أن هناك قفالاً آخر شاشي وشاشياً، غير قفال. وثلاثتهم يكنون بأبي بكر، ويشترك اثنان منهم في اسمهما دون اسم أبيهما، واثنان في اسم أبيهما. فالقفال غير الشاشي هو القفال المروزي، وهو عبد الله بن أحمد، وعنه أخذ القاضي حسين والشيخ أبو محمد الجويني وولده إمام الحرمين. وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في سنة سبع عشرة وأربع مائة.(2/287)
والشاشي غير القفال هو فخر الإسلام محمد بن أحمد، مصنف المستظهري شيخ الشافعية في زمانه. تفقه على محمد بن بنان الكازروني، ثم لزم الشيخ أبا إسحاق وابن الصباغ ببغداد، وصنف وأفتى، وولي تدريس النظامية، ودفن عند الشيخ أبي إسحاق، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في سنة سبع وخمسمائة التي توفي فيها. فهذا الكلام فيهم قد أوضحته جداً حتى عن حد البيان تعدى. والقفال الشاشي المذكور في سنة خمس وستين وثلاثمائة، المذكور صاحب وجه في المذهب، وممن نبه على الخلاف في أن كتاب التقريب له أو لولده الإمام العجلي، وشرح مشكلات الوجيز والوسيط، ذكر ذلك في " كتاب التيمم ".
قلت: وإنما بسطت الكلام في هذا، وخرجت إلى الإسهاب الخارج عن مقصود الكتاب، لاحتمال أنه اتفق عليه من يحتاج إليه من الفقهاء. ونسأل الله تعالى التوفيق وسلوك الطريق الصواب.
وقال الحليمي: كان شيخنا القفال أعلم من لقيته من علماء عصره، وفي وفاته اختلاف.
وفيها توفي المعز لدين الله: أبو تميم معد بن المنصور إسماعيل بن القائم بن المهدي العبيدي، صاحب المغرب والديار المصرية. ولما افتتح مولاه جوهر سجلماسة مع فاس، وسعه إلى البحر المحيط، وخطب له في بلاد المغرب، وبلغه موت كافور الاخشيذي صاحب مصر، جهز جوهر المذكور الجيوش والأموال، قيل خمسمائة ألف دينار، أنفقها على جميع قبائل المغرب حتى البربر، فأخذ الديار المصرية، وبنى مدينة القاهرة المغربية، وكان مستظهراً للتشيع، معظماً لحرمة الإسلام، حليماً كريماً، وقوراً حازماً سرياً، يرجع إلى إنصاف مجرى الأمور على أحسن أحكامها. ولما كان منتصف شهر رمضان سنة ثمان وخمسين وثلاث مائة، وصلت البشارة بفتح الديار المصرية، ودخول عساكره إليها، وانتظام الحال بمصر والشام والحجاز، وإقامة الدعوة له بهذه المواضع، فسر بذلك سروراً عظيماً، واستخلف على إفريقية، وخرج متوجهاً إلى ديار مصر بأموال جليلة المقدار، ورجاء عظيمة الأخطار، فدخل الإسكندرية لست بقين من شعبان من سنة اثنتين وستين وثلاثمائة، وركب فيها ودخل الحمام. وقدم عليه قاضي مصر أبو طاهر، وأعيان أهل البلاد، وسلموا عليه، وجلس لهم عند المنارة، وخاطبهم بخطاب طويل يخبرهم أنه لم يرد فيه بدخول مصر لزيادة مملكته وللمال، وإنما أراد إقامة الحج والجهاد، وأن يختم عمره بالأعمال الصالحة،(2/288)
ويعمل بما أمره به جده صلى الله عليه وآله وسلم. ووعظهم حتى بكى بعض الحاضرين، وخلع على القاضي وبعض الجماعة، وحملهم، ثم ودعوه وانصرفوا. ورحل منها في أواخر شعبان، ونزل يوم السبت ثاني شهر رمضان سنة اثنتين وستين وثلاثمائة على جزيرة ساحل مصر، فخرج إليه القائد جوهر، وترجل عند لقائه، وقبل الأرض بين يديه، وأقام هناك ثلاثة أيام، ثم رحل ودخل القاهرة، ولم يدخل مصر، وكانت قد زينت له، وظنوا أنه يدخلها وأهل القاهرة لم يستعدوا للقائه لظنهم أنه يدخل مصر أو لا يدخلها ولما دخل القاهرة دخل القصر، ثم دخل مجلساً منه، وخر فيه ساجداً لله عز وجل، ثم صلى فيه ركعتين، وانصرف الناس عنه، وفي يوم الجمعة لثالث عشرة ليلة بقيت من المحرم سنة أربع وستين وثلاثمائة، عزل المعز القائد جوهراً عن داود بن مصر وجباية أموالها ومما ينسب إلى المعز من الشعر:
لله ما صنعت بنا تلك المحاجر ... أمضى وأقضى في النفوس من الحناجر
ولقد تعبت بينكم تعب المهاجر في الهواجر
وكانت ولادته بالمهدية يوم الاثنين حادي عشر شهر رمضان سنة تسع عشرة وثلاثمائة، وتوفي يوم الجمعة الحادي عشر من شهر ربيع الآخر، من السنة المذكورة بالقاهرة المشهورة.
ست وستين وثلاثمائة
فيها حجت جميلة بنت الملك ناصر الدولة بن حمدان، وصار حجها يضرب به المثل، فإنها أغنت المجاورين، وقيل كان معها أربعمائة كجاوة لا يدرى في أيها هي، لكونهن كلهن في الحسن والزينة يشتبهن، ونثرت على الكعبة لما دخلتها عشرة آلاف دينار.
وفيها مات ملك القرامطة الحسن بن أحمد بن أبي سعيد القرمطي، الذي استولى على أكثر الشام، وهزم جيش المعز، وقتل قائدهم جعفر بن فلاح، وذهب إلى مصر، وحاصرها شهراً قبل مجيء المعز، وكان يظهر الطاعة للطائع لله، وله شعر وفضيلة، ولد بالأحساء ومات بالرملة.
وفيها توفي ابن المرزبان أبو الحسن علي بن أحمد البغدادي الفقيه الشافعي، كان فقيهاً ورعاً من جملة العلماء. أخذ الفقه عن أبي الحسن بن القطان، وعنه أخذ الشيخ أبو حامد الأسفراييني أول قدومه بغداد.(2/289)
وحكي عنه أنه قال: ما أعلم أن لأحد علي مظلمة. ومفهومه أنه لم يغتب أحداً. إذ الغيبة من جملة المظالم. درس ببغداد، وله وجه في المذهب الشافعي، ومعنى المرزبان بكسر الراء وضم الزاي: صاحب الجد، وهو لفظ فارسي، في الأصل اسم من كان دون الملك.
وفيها توفي المستنصر بالله أبو مروان صاحب الأندلس عبد الرحمن بن محمد الأموي المرواني. وكان مشغوفاً بجمع الكتب والنظر فيها، بحيث أنه جمع منها ما لم يجمعه أحد قبله ولا بعده حتى ضاقت خزائنه.
وفيها توفي القاضي الفقيه الفاضل أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني الشافعي. كان فقيهاً أديباً شاعراً، ذكره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتاب " طبقات الفقهاء " وقال: له ديوان شعر، وهو القائل:
يقولون لي فيك انقباض وإنما ... رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما
من قصيدة له طويلة، وذكره الثعالبي في كتاب يتيمة الدهر فقال: هو فرد الزمان، ونادرة الفلك، وإنسان حدقة العلم، وقبة تاج الأدب، وفارس عسكر الشرع، مجمع خط ابن مقلة إلى نثر الجاحظ، ونظم البحتري. وقد كان في صباه اقتبس من العلوم والأدب، ما صار به في العلوم علماً وفي الكمال عالماً، ومن شعره:
وقال توصل بالخضوع إلى الغنى ... وما علموا أن الخضوع هو الفقر
وبيني وبين الحال شبان حرما ... علي الغنى: نفس الأبية والفقر
إذا قيل هذا اليسر أبصرت دونه ... مواقف خير من وقوفي بها الضرر
وله في الصاحب بن عباد:
ولا ذنب للأفكار أنت تركتها ... إذا احتشدت لم تنتفع باحتشادها
سبقت بأفراد المعاني وألفت ... خواطرك الألفاظ بعد شرادها
فإن نحن حاولنا اختراع بديعة ... حصلنا على مسروقها ومعادها
وله فيه يهنئه بالعافية:
وفي كل يوم للمكاره روعة ... لها في قلوب المكرمات وجيب
تقسمت العلياء جسمك كله ... فمن أين للأسقام فيك نصيب
إذا ألمت نفس الوزير تألمت ... لها أنفس تحيى بها وقلوب(2/290)
وله:
ما تطعمت لذة العيش حتى ... صرت للبيت والكتاب جليسا
ليس شيء أعز عندي من العلم ... فما أبتغي سواه أنيسا
إنما الذل في مخالطة الناس ... فدعهم وعش عزيزا رئيسا
قال ابن خلكان: وشعره كثير، وطريقه سهل، وله " كتاب الوساطة " بين المتنبي وخصومه، أبان فيه من فضل عزيز، وإطلاع كثير، ومادة متوفرة.
وفيها توفي الرجل الصالح المقرىء أبو الحسن محمد النيسابوري السراج. قال الحاكم: قل من رأيت أكثر اجتهاداً وعبادة منه. توفي يوم عاشوراء رحمه الله.
سبع وستين وثلاثمائة
فها توقني الشيخ الكبير العارف بالله الشهير أبو القاسم النصرأباذي، شيخ الصوفية والمحدثين في خراسان صحب الشبلي وأبا علي الروذباري، وسمع ابن خزيمة وابن صاعد وكان صاحب فنون من الفقه والحديث والتاريخ وعلم سلوك الصوفية. وحج وجاور بمكة سنتين، ومات بها قال الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي: سمعت أبا القاسم النصرأباذي يقول: إذا بدا لك شيء من بوادي الحق، فلا تلتفت معه إلى جنة، ولا إلى نار، فإذا رجعت عن تلك الحال، فعظم ما عظمه الله تعالى.
وقيل أن بعض الناس يجالس النسوان، ويقول: أنا معصوم في رؤيتهن، فقال: ما دامت الأشباح باقية فالأمر والنهي باق أو قال: باقيان والتحليل والتحريم مخاطب به.
وقال: التصوف ملازمة الكتاب والسنة، وترك الأهواء والبدع، وتحريم حرمات المشايخ، وروية أعذار الخلق، والمداومة على الأوراد، وترك ارتكاب الرخص والتأويلات.
وفيها توفي معز الدولة الديلمي، والغضنفر عمدة الدولة ابن الملك ناصر الدولة بن حمدان.
وفيها توفي القاضي محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن قريعة " بضم القاف وفتح الراء وسكون الياء المثناة من تحت وبعدها عين مهملة " البغدادي قاضي السندية " بكسر(2/291)
السين والدال المهملتين وسكون النون بينهما وتشديد الياء المثناة من تحت وبعدها هاء " وهي قرية بين بغداد والأنبار، وينسب إليها سندواني، ليحصل الفرق بين هذه النسبة والنسبة إلى بلاد السند المجاورة لبلاد الهند.
وقال ابن خلكان: وكان من أحد عجائب الدنيا في سرعة البداهة بالجواب في جميع ما يسأل عنه، في أصح لفظ وأملح سجع، وله مسائل وأجوبة مدونة في كتاب مشهور بأيدي الناس. وكان رؤساء ذلك العصر وفضلاؤه يلاعبونه، ويكتبون إليه بالمسائل الغريبة المضحكة، فيكتب الجواب، من غير توقف ولا تلبث، مطابقاً لما سألوه، وكان الوزير أبو محمد المهلبي، يغري به جماعة يضعون له من الأسئلة الهزلية على معان شتى من النوادر الظريفة، ليجيب عنها بتلك الأجوبة.
فمن ذلك ما كتبه إليه العباس بن المعلى الكاتب، ما يقول القاضي وفقه الله تعالى في يهودي زنى بنصرانية، فولدت ولداً جسمه للبشر، ووجهه للبقر وقد قبض عليها فيما يرى القاضي فيهما؟ فكتب جوابه بديهاً، هذا من أعدل الشهود على الملاعين اليهود بأنهم أشربوا حب العجل في صدورهم؟ حتى خرج من أيورهم، وأرى أن يناط برأس اليهود رأس العجل، ويصلب على عنق النصرانية الساق مع الرجل، ويسحبا على الأرض، وينادى عليهما: ظلمات بعضها فوق بعض والسلام.
ولما قدم الصاحب بن عباد إلى بغداد، حضر مجلس الوزير أبي محمد المهلبي وكان في المجلس القاضي أبو بكر المذكور فرأى من ظرفه وسرعة أجوبته مع لطافتها ما عظم تعجبه، فكتب الصاحب إلى أبي الفضل بن العميد كتاباً يقول فيه: وكان في المجلس شيخ خفيف الروح يعرف بالقاضي ابن قريعة، جاراني في مسائل خفتها، يمنع من ذكرها، إلا أني استظرفت من كلامه، وقد سأله كهل بيطار بحضرة الوزير أبي محمد عن حد القفاء، فقال: ما اشتمل عليه جربانك، ومازحك فيه إخوانك، وأدبك فيه سلطانك، وباسطك فيه غلمانك، فهذه حدود أربعة وجميع مسائله على هذا الأسلوب، وقوله: جربانك " هو لفظ فارسي بضم الجيم والراء وتشديد الموحدة وبالنون بين الألف والكاف ": لينة الثوب، وهي: الخرقة العريضة التي فوق القب تستر القفا. قال ابن خلكان: ولولا خوف الإطالة لذكرت جملة منها، وقد سرد محمد بن شرف القيرواني الشاعر المشهور، في كتابه الذي سقاه " أبكار الأفكار " عدة مسائل، وجواباتها من هذه المسائل.
وفيها توفى ابن قوطية محمد بن عمر الأندلسي. كان منا أعلم زمانه باللغة(2/292)
والعربية، وكان مع ذلك حافظاً للحديث والفقه والخبر والنوادر، راوياً للأشعار والآثار، لا يلحق شاوه، ولا يشق غباره، روى عنه الشيوخ والكهول. وكان قد لقي مشايخ عصره بحضرة الأندلس، وأخذ عنهم، وصنف الكتب المفيدة في اللغة، منها كتاب " تصاريف الأفعال " وهو الذي فتح هذا الباب، فجاء من بعده ابن القطاع، ولقد أعجز من يأتي بعده وفاق من تقدمه، وكان مع هذه الفضائل من العباد النساك، وكان جيد الشعر، صحت الألفاظ واضح المعاني، حسن المطالع والمقاطع، إلا أنه ترك ذلك ورفضه.
حكى الأديب الشاعر يحيى بن هذيل التميمي أنه توجه يوماً إلى ضيعة له بسفح جبل قرطبة، وهي من بقاع الأرض الطيبة المونقة، فصادف ابن القوطية المذكور صادراً عنها وكانت له أيضاً هناك ضيعة، قال: فلما رآني خرج علي واستبشر بلقائي، فقلت له على البداهة مداعباً له:
من أين أقبلت يا من لا شبيه له ... ومن هو الشمس، والدنيا له فلك
قال فتبسم وأجاب بسرعة:
من منزل يعجب النساك خلوته ... وفيه ستر على الفتاك إن فتكوا
قال: فما تمالكت أن قبلت يده، إذ كان شيخي، ومجدته، ودعوت له و " القوطية " " بضم القاف وسكون الواو وكسر الطاء المهملة وتشديد المثناة من تحت وبعدها هام " جدة جد نسبة إلى قوط بن حام بن نوح عليه السلام، وقوط أبو السودان والهند والسند، وكانت القوطية المذكورة وفدت إلى هشام بن عبد الملك في الشام متظلمة من عمها، فتزوجها عيسى بن مزاحم، وسافر بها إلى الأندلس.
ثمان وستين وثلاثمائة
فيها توفي أبو سعيد الحسين بن عبيد الله. وقال بعضهم: ابن عبد الله بن المرزباني السيرافي النحوي. كان من أعلم الناس بنحو البصريين، وشرح كتاب سيبويه، وأجاد فيه، وشرح مقصورة ابن دريد، وله تصانيف أخرى، وتصدر لإقراء القراءات والنحو واللغة والفقه والفرائض والحساب والكلام والشعر والعروض والقوافي، وكان نزهاً عفيفاً جميل(2/293)
السيرة حسن الأخلاق، رأساً في النحو، قرأ القراءات على ابن مجاهد، واللغة على ابن دريد، والنحو على ابن السراج. وكان ورعاً يأكل من النسخ، وينسخ الكراس بعشرة دراهم لبراعة خطه. يذكر عنه الاعتزال، ولم يظهر منه، والله أعلم به، وكان كثيراً ما ينشد في مجلسه.
أسكن إلى سكن تسربه ... ذهب الزمان وأنت منفرد
ترجو غداً وغدا كحاملة ... في الحي لا يدرون ما تلد
وكان بينه وبين أبي الفرج صاحب الأغاني ما جرت به العادة من التنافس بين الفضلاء، فعمل فيه أبو الفرج شعراً ذكره ابن خلكان كرهت ذكره: والسيرافي بكسر السين المهملة وسكون الياء المثناة من تحت وبعد الراء والألف فاء نسبة إلى مدينة سيراف.
وفيها توفي الشيخ الزاهد العائد أبو أحمد محمد بن عيسى النيسابوري، راوي صحيح مسلم عن ابن سفيان. قال الحاكم: هو من كبار عباد الصوفية، يعرف مذهب سفيان وينتحله.
وفيها توفي أبو الحسن محمد بن محمد النيسابوري، الحافظ المقرىء العبد الصالح الصدوق. سمع بمصر والشام والعراق وخراسان، وصنف في العلل والشيوخ والأبواب. قال الحاكم: صحبته نيفاً وعشرين سنة، فما أعلم أن الملك كتب عليه خطيئة.
وفيها وردت الدعوة العباسية على يد بعض أهل الدولة من العراقين، حارب المصريين والتقى هو وجوهر العبيدي، فانكسر جوهر، وذهب إلى مصر، وصادف العزيز صاحب مصر قد جاء في نجدته، فرد معه، فالتقاهم عسكر العراق، فأخذوا مقدمه أسيراً، ثم من عليه العزيز، وأطلقه.
وفيها توفي أبو طاهر محمد بن محمد بن نقية، وزير عز الدولة بن بويه. وكان من جملة الرؤساء، وأكابر الوزراء، وأعيان الكرماء، وكان قد حمل عز الدولة على محاربة ابن عمه عضد الدولة، فالتقيا على الأهواز، وكسر عز الدولة، فنسب ذلك إلى رأيه ومشورته. وفي ذلك يقول أبو غسان الطبيب بالبصرة.
أقام على الأهواز خمسين ليلة ... يدبر أمر الملك حتى تدمرا
فدبر أمراً كان أوله عمى ... وأوسطه بلوى وآخره خسرا
ولما قبض عليه سمل عينيه، فلزم بيته، ثم إنه طلبه بعد ذلك، ورماه بين أرجل(2/294)
الفيلة فمات من ذلك ولم يزل مصلوباً إلى أن توفي عضد الدولة فأنزل عن الخشبة، ودفن في موضعه، فقال فيه أبو الحسن ابن الأنباري:
لم يلحقوا بك عاراً إذا صلبت بلى ... بأؤا بمنك ثم استرجعوا ندما
واتفقوا أنهم في فعلهم غلطوا ... وأنهم نصبوا من سؤدد علما
فاسترجعوك وواروا منك طودعلا ... بدفنه دفنوا الأفضال والكرما
لئن بليت لما تبلى بذاك، ولا ... تنسى، وكم هالك ينسى إذا قدما
تقاسم الناس حسن الذكر فيك كما ... ما زال مالك بين الناس منقسما
تسع وستين وثلاثمائة
فيها توفي الشيخ الكبير أبو عبد الله أحمد بن عطاء الروذباري، شيخ الصوفية، نزيل صور، شيخ الشام في وقته.
وفيها توفي الإمام الكبير أبو سهل الصعلوكي: محمد بن سليمان النيسابوري الفقيه، شيخ الشافعية بخراسان. قال فيه الحاكم: أبو سهل الصعلوكي الشافعي اللغوي المفسر النحوي المتكلم المفتي الصوفي خير زمانه، وبقية أقرانه. " ولد " سنة تسعين ومائتين، واختلف إلى ابن خزيمة، ثم إلى أبي علي الثقفي، وناظر، وبرع، وسمع من أبي العباس السراج وطبقته، ولم يبق موافق ولا مختلف إلا أفر بفضله وتقدمه. وحضره المشايخ مرة بعد أخرى، ودرس، وأفتى في نيسابور وأصفهان وبلاد شتى، وقال الصاحب بن عباد: ما رأى أبو سهل مثل نفسه، ولا رأينا مثله. قلت: لأبي سهل مناقب كثيرة، وفضائل شهيرة، ذكرت شيئاً منها في " الشاش المعلم شاوش كتاب المرهم ".
وفي السنة المذكورة توفي النقاش المحدث الحافظ غير المقرىء.
سنة سبعين وثلاثمائة
فيها رجع عضد الدولة من همدان، فلما قرب من بغداد بعث إلى الخليفة الطائع لله أن يتلقاه، فما وسعه التخفف لضعف الخلفاء حينئذ، وقوة المملوك المتصرفين في البلدان. وما جرت عادة بذلك قط، أي بلقاء الخلفاء لهم، قال قبل دخوله من تكلم أو دعا له قتل.(2/295)
فما نطق مخلوق. قلت: هكذا أطلق بعضهم، ولم يبين من هو القابل ذلك منهما، هل نهى عضد الدولة أن يدعى للخليفة؟ أو نهى الخليفة أن يدعى لعضد الدولة. في ذلك احتمالان آخران: أحدهما أن يكون نهى الخليفة عن الدعاء لنفسه خوفاً أن يغار عضد الدولة، ويظهر منه غيظ وغضب. والثاني أن يكون الناهي هو عضد الدولة، نهى أن يدعى له تواضعاً للخليفة. والله أعلم بحقيقة ذلك، أيهما كان هو الناهي عن أن يدعى لنفسه. فقد أحسن في ذلك. وفي السنة المذكورة توفي شيخ الحنفية ببغداد الفقيه أحمد بن علي صاحب أبي الحسن الكرخي، وإليه انتهت رئاسة المذهب. وكان مشهوراً بالزهد والدين، عرض عليه قضاء القضاة فامتنع. وله عدة مصنفات.
وفيها توفي محمد بن الحسن بن رشيق المصري.
وفيها توفي النحوي اللغوي، صاحب التصانيف، وشيخ أهل الأدب: الحسين بن أحمد الهمداني، المعروف بابن خالويه، دخل بغداد، وأدرك جلة من العلماء مثل ابن الأنباري، وابن مجاهد المقرىء، وأبي عمر والزاهد، وابن دريد، وقرأ على السيرافي، وانتقل إلى الشام، واستوطن حلب، وصار بها أحد أفراد الدهر في كل قسم من أقسام الأدب، وكانت الرحلة إليه من الآفاق. وآل حمدان يكرمونه، ويدرسون عليه، ويقتبسون منه وهو القائل: دخلت يوماً على سيف الدولة، فلما مثلت بين يديه قال لي: اقعد، ولم يقل: اجلس. فتبينت بذلك إعلاقه بأهداب الأدب، واطلاعه على أسرار كلام العرب.
قال ابن خلكان وإنما قال ابن خالويه هذا لأن المختار عند أهل الأدب أن يقال للقائم اقعد وللنائم والساجد اجلس. وعلله بعضهم بأن القعود هو الانتقال من العلو إلى السفلى، ولهذا قيل لمن أصيب برجله مقعد. والجلوس هو الانتقال من السفل إلى العلو. ولهذا قيل: لنجد جلساً لارتفاعها، وقيل لمن أتاها: جالس، وقد جلس منه قول مروان بن الحكم لما كان والياً بالمدينة يخطب الفرزدق:
قل للفرزدق، والسفاهة كاسمها ... إن كنت تارك ما أمرتك فاجلس
أي اقصد الجلسا، وهي بحذو هذا البيت من جملة أبيات، وهذا كله في غير موضعه لكن للكلام شجون.
ولابن خالويه المذكور كتاب كبير في الأدب سماه " كتاب ليس " وهو يدل على اطلاع عظيم، فإن مبني الكلام من أوله إلى آخره على أنه ليس في كلام العرب كذا. وله كتاب لطيف سماه " الآل "، وذكر في أوله أن الآل ينقسم إلى خمسة وعشرين قسماً، وما اقتصر(2/296)
فيه، وذكر فيه الأئمة الأثني عشر، وتاريخ مواليدهم، ووفاتهم وأمهاتهم، والذي دعاه إلى ذكرهم أنه قال في جملة أسام الآل وآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنو هاشم. وله " كتاب الاشتقاق "، و " كتاب الجمل في النحو "، و " كتاب القراءات "، " كتاب إعراب ثلاثين سورة من الكتاب العزيز "، و " كتاب المقصور والممدود "، " كتاب المذكر والمؤنث " و " كتاب الألقاب "، و " كتاب شرح مقصورة ابن دريد "، و " كتاب الأسد " وغير ذلك، ولابن خالويه المذكور مع أبي الطيب المتنبي المذكور مجالس ومباحث عند سيف الدولة، وقد تقدم في ترجمة المتنبي بعض ما جرى بينه وبينه في سنة خمس وأربعين وثلاثمائة، حتى غضب المتنبي، وارتحل إلى كافور الإخشيذي صاحب مصر. ولابن خالويه شعر حسن ومنه على ما نقله الثعالبي في كتاب " اليتيمة ":
إذا لم يكن صدر المجالس سيداً ... فلا خير فيمن صدرته المجالس
وكم قائل: مالي رأيتك راجلاً ... فقلت له: من أجل أنك فارس
وفيها توفي الإمام العلامة صاحب المصنفات الكبار الجليلة المقدار " كتهذيب اللغة " وغيره: اللغوي النحوي الشافعي: أبو منصور محمد بن أحمد بن الأزهر الهروي الأزهري بقي في أسر القرامطة مدة طويلة، وكان متفقاً على فضله وثقته ودرايته وورعه. وروى عن أبي العباس ثعلب وغيره. وأدرك ابن دريد، ولم يرو شيئاً واحداً عن نفطويه، وعن ابن السراج النحوي. وكان قد رحل وطوف في أرض المغرب في طلب اللغة، فخالط قوماً يتكلموا بطباعهم البدوية، ولا يكاد يوجه في منطقهم لحن أو خطأ فاحش، فاستفاد من محاورتهم ومخاطبة بعضهم بعضاً ألفاظا ونوادر كثيرة وقع أكثرها في " كتاب التهذيب " وسبب مخالطته لهم أنه كان قد أسرته القرامطة، وكان القوم الذين وقع في سهمهم عرباً نشؤوا في البادية ينقون مساقط الغيث، ويرعون الغنم، ويعيشون بألبانها. وكان جامعاً لأشتات اللغات، مطلعاً على أسرارها ودقائقها. وتهذيبه المذكور أكثر من عشر مجلدات، وله تصنيف في غريب الألفاظ التي يستعملها الفقهاء من اللغة المتعلقة بالفقه.
وفيها توفي الحافظ أبو بكر محمد بن جعفر البغدادي الملقب غندر " بضم الغيم المعجمة وسكون النون وفتح الدال المهملة في آخره راء " المحدث المشهور، رحال جوال توفي بأطراف خراسان غريباً، سمع بالشام والعراق ومصر والجزيرة.
وفيها توفي الإمام المتكلم في الأصول، صاحب التصانيف الكثيرة، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن يعقوب بن مجاهد الطائي، صاحب الشيخ الإمام أبه الحسن(2/297)
الأشعري، وليس بابن مجاهد المقرىء. وعنه أخذ القاضي أبو بكر الباقلاني، وكان ديناً صيناً خيراً ذا تقوى.
إحدى وسبعين وثلاثمائة
فيها توفي الإمام الجامع الخبر النافع ذو التصانيف الكبار في الفقه والأخبار: أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل الجرجاني، الحافظ الفقيه الشافعي المعروف بالجرجاني، وكان حجة، كثير العلم، حسن الدين.
وفيها توفي شيخ المالكية بالمغرب: أبو محمد عبد الله بن إسحاق القيرواني. قال القاضي عياض: ضربت إليه آباط الإبل من الأمصار، وكان حافظاً فصيحاً بعيداً عن التصنع والرياء.
وفيها توفي الإمام الكبير الفقيه الشهيد الزاهد: أبو زيد محمد بن أحمد المروزي الشافعي، كان من الأئمة الأجلاء، حسن النظر، مشهورا بالزهد، حافظاً للمذهب، وله فيه وجوه غريبة روى الصحيح عن الفربري، وحدث بالعراق ودمشق ومكة، وسمع منه الحافظ أبو الحسن الدارقطني، ومحمد بن أحمد المحاملي، قال أبو بكر البزار: عاد الفقيه أبو زيد من نيسابور إلى مكة، فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه يعني خطبته وكان في أول أمره فقيراً، ثم أقبلت عليه الدنيا في آخر عمره، وقد تساقطت أسنانه، وبطلت حاسة الجماع، فيقول مخاطباً للنعمة: لا بارك الله فيك، ولا أهلاً بك، ولا سهلاً، أقبلت حيث لا ناب ولا نصاب. ومات بمرو في رجب وله تسعون سنة.
قال الحاكم: كان من أحفظ الناس لمذهب الشافعي، وأحسنهم نظراً، وأزهدهم في الدنيا. وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: هو صاحب أبي إسحاق المروزي، أخذ عنه أبو بكر القفال المروزي وفقهاء مرو.
وفيها توفي الشيخ الكبير العارف أبو عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي، شيخ إقليم فارس، صاحب الأحوال والمقامات. قال الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي: هو اليوم شيخ المشايخ، تاريخ الزمان، لم يبق للقوم أقدم منه سناً، ولا أتم حالاً، متمسك بالكتاب والسنة، فقيه على مذهب الشافعي. كان من أولاد الأمراء، وتزهد. توفي ثالث رمضان، وله خمس وتسعون سنة، وقيل عاش مائة وأربع سنين.
اثنتين وسبعين وثلاثمائة
فيها توفي عضد الدولة ابن الملك ركن الدولة، وهو أول من خوطب ب " شاهنشاه "(2/298)
في الإسلام، وأول من خطب له على المنابر ببغداد بعد الخليفة، وكان أديباً فاضلاً محباً للفضلاء، مشاركاً في فنون من العلم، وله صنف أبو علي الفارسي " الإيضاح "، و " التكملة " في النحو، وقصده الشعراء من البلاد كالمتنبي وأبي الحسن السلامي، ومدحوه بالمدائح الحسنة. وكان شيعياً غالياً شهماً، مطاعاً، حازماً ذكياً، متيقظاً مهيباً سفاكاً للدماء، له عيون كثيرة تأتيه بأخبار البلاد القاصية، وليس في بني عمه مثله، وكان قد طلب حساب ما يدخله في العام، فإذا هو ثلاثمائة ألف ألف وعشرون ألف درهم، وجدد مكوساً ومظالم. ولما نزل به الموت كان يقول: ما أغنى عني ماليه، هلك عني سلطانيه. وله أشعار ومنها قوله في قصيدة هذه الأبيات التي لم يفلح بعدها:
ليس شرب الروح إلا في المطر ... وغناء من جوار في السحر
غانيات سالبات للنهى ... ناغمات في تضاعيف الوتر
مبرزات الكأس من مطلعها ... ساقيات الراح من فاق البشر
عضد الدولة وابن ركنها ... ملك الأملاك غلاب القدر
نعوذ بالله من غضب الله ومن مثل هذا القول.
وممن حكى هذه الأبيات عنه أبو منصور الثعالبي في كتاب " يتيمة الدهر "، وإليه ينسب المارستان العضدي ببغداد، غرم عليه مالاً عظيماً، قيل وليس في الدنيا مثل تزيينه، وهو الذي أظهر قبر علي رضي الله تعالى عنه بزعمه بالكوفة، وبنى عليه المشهد، ودفن فيه. وللناس في هذا القبر اختلاف كثير، وأصخ ما قيل فيه أنه مدفون بقصر الإمارة بالكوفة كرم الله وجهه ومما يمدح الشعراء عضد الدولة قول المتنبي في قصيدة له:
أروح وقد ختمت على فؤادي ... بحبك أن يحل به سواكا
ومنها:
فلو أني استطعت غضضت طرفي ... فلم أنظر به حتى أراكا
وقول السلامي:
وبشرت آمالي بملك هو الورى ... ودار في الدنيا ويوم هو الدهر
وقد أخذ هذا المعنى القاضي الأرجاني في قوله:(2/299)
لو زرته فرأيت الناس في رجل ... والدهر في ساعة والأرض في دار
ولكن أين الثرى من الثريا؟ وكذلك هذا المعنى موجود في قول المتنبي:
هي الغرض الأقصى ورؤيتك المنى ... ومنزلك الدنيا وأنت الخلائق
لكنه ما استوفاه، فإنه ما تعرض لذكر اليوم الذي جعله السلامي وهو الدهر ومع هذا فليس له طلاوة بيت السلامي الذي هو السحر الحلال.
في السنة المذكورة أو في غيرها من عشر الثمانين توفي الإمام الكبير الفقيه الشافعي الشهير إمام مرو، ومقدم الفقهاء الشافعية في زمانه ومكانه، أبو عبد الله محمد بن أحمد الفارسي المروزي الخضري " بكسر الخاء وسكون الضاد المعجمتين وبالراء " وكان من أعيان تلامذة أبي بكر القفال المروزي، أقام بمرو ناشراً فقه الشافعي، وكان يضرب به المثل في قوة الحفظ، وقلة النسيان، وله في المذهب وجوه غريبة، نقلها الخراسانيون عنه. وروي عن الشافعي رضي الله. تعالى عنه صحيح لدلالة الصبي على القبلة، وقال معناه: أن يدل على قبلة تشاهد في الجامع، فأما موضع الاجتهاد فلا يقبل.
وذكر الإمام أبو الفتوح العجلي في كتاب شرح " مشكلات الوجيز والوسيط " إن الإمام أبا عبد الله الخضري المذكور سئل عن قلامة ظفر المرأة، هل يجوز للرجل الأجنبي النظر إليها. فأطرق طويلاً ساكتاً، وكانت تحته ابنه الشيخ أبي علي " الشبوي " بفتح الشين المعجمة والموحدة، فقالت له: لم تفكر؟ قد سمعت أبي يقول في جواب هذه المسألة: إن كانت من قلامة أظفار اليدين جاز النظر إليها، وإن كانت من أظفار الرجلين لم يجز، لأنها عورة. ففرح الخضري وقال: لو لم أستفد من اتصالي بأهل العلم إلا هذه المسألة لكانت كافية. انتهى كلام أبي الفتوح العجلي.
وقال أبو العباس ابن خلكان: هذا التفصيل بين اليدين والرجلين فيه نظر، فإن أصحابنا قالوا: اليدان ليستا بعورة في الصلاة، فأما بالنسبة إلى نظر الأجنبي فما نعرف بينهما فرقاً. انتهى كلام ابن خلكان.
قلت: كلام ابن خلكان المذكور ليس بصواب من وجهين: أحدهما قوله: قالوا اليدان ليستا بعورة، ولم يقل: الكفان. والثاني، قوله: ما يعرف بينهما فرقاً فإنه وإن كان لم يطلع على الفرق، وما في ذلك من الخلاف، فإنه قال ذلك على وجه الاعتراض، وكان حقه أن لا يقول مثل هذا إلا بعد اطلاعه على كلام الأصحاب، فالمسألة منصوص عليها.
قال الإمام الرافعي: النظر إلى وجه الأجنبية وكفيها، إن خاف الناظر، فيه حرام، وإن(2/300)
لم يخف فوجهان. قال أكثر الأصحاب لا سيما المتقدمون. لا يحرم بقول الله تعالى " ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها " سورة النور: الآية 31، وهو مفسر بالوجه والكفين، لكن يكره، قال ذلك الشيخ أبو حامد وغيره. والثاني يحرم، قاله الاصطخري وأبو علي الطبري، واختاره الشيخ أبو محمد والإمام، وبه قطع صاحب المهذب ووجهه الروياني باتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات، وبأن النظر مظنة الفتنة، وهو مدركة الشهوة، فاللائق بمحاسن الشرع سد الباب والإعراض عن تفاصيل الأحوال كالخلوة بالأجنبية. انتهى كلام الإمام الروياني. قلت: وقد علم من هذا بما حكته زوجة الخضري عن أبيها صواب على الوجه الأول والله أعلم.
ثلاث وسبعين وثلاثمائة
في أولها ظهرت وفاة عضد الدولة. وكانت قد أخفيت حتى أحضروا ولده صمصام الدولة، فجلس للعزاء، ولطموا عليه في الأسواق أياماً، وجاء الطائع إلى صمصام الدولة، فعزاه ثم ولاه الملك، وعقد له لوائين ولقبه شمس الدولة، وبعد أيام جاء الخبر بموت مؤيد الدولة أخي عضد الدولة. ولد بجرجان وولي مملكته أخوه فخر الدولة الذي وزر له إسماعيل بن عباد.
وفيها القحط الشديد ببغداد، وبلغ حساب الغرارة الشامية أربعمائة درهم.
قلت وقد بلغت الغرارة الحجازية بمكة إلى هذه القيمة المذكورة، وهي نحو من ثلث الشامية، في سنة ست وستين وسبع مائة.
وفيها توفي الأمير أبو الفتح الصنهاجي نائب المعز العبيدي على المغرب. وكان محمود السيرة، حسن السياسة، ولي القيروان اثنتي عشرة سنة، وكانت له أربعمائة سرية، يقال أنه ولد: له في فرد يوم سبعة عشر ولداً. وكان استخلاف المعز له عندما توجه إلى الديار المصرية في سنة إحدى وستين وثلاثمائة، وأوصاه بأمور كثيرة، وأكد عليه في فعلها، ثم قال: إن نسيت ما أوصيتك به فلا تنس ثلاثة أشياء: إياك أن ترفع الجبايا عن أهل البادية، والسيف عن البربر، ولا تول أحداً من إخوتك وبني عمك، فإنهم يرون أنهم أحق بهذا الأمر منك، وافعل مع أهل الحاضرة خيراً. وأمر بالسمع والطاعة له.
وفيها توفي الشيخ الكبير العارف بالله الشهير: أبو عثمان المغربي الصوفي سعيد بن سلم قال: هكذا " ابن سلم ". ذكر في بعض النسخ، وفي بعضها " ابن سلام " بزيادة ألف بعد(2/301)
اللام، نزيل نيسابور.
قال الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي: لم نر مثله في علو الحال وصون الوقت. وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري رحمه الله سمعت الأستاذ أبا بكر بن فورك رحمه الله يقول: كنت عند أبي عثمان المغربي حين قرب أجله، فلما تغير عليه الحال أشرنا على علي بالسكوت، ففتح الشيخ أبو عثمان عينيه وقال: لم لا يقول على شيء. فقلت لبعض الحاضرين: سلوه، وقولوا: علام يسمع المستمع، فإني أحتشمه في هذه الحالة؟ فسألوه فقال: إنما يسمع من حيث يسمع.
ومن كلامه رضي الله تعالى عنه: التقوى هي الوقوف على الحدود، لا يقصر فيها ولا يتعداها، وقال: من أثر صحبة الأغنياء على مجالسة الفقراء، ابتلاه الله تعالى بموت القلب.
قلت: وقد سمعت من أهل العلم والفضل بيتين في مدح سعيد بن سلم، لا أدري: أهو هذا المذكور أو غيره، وقد تضمنا لمدح عظيم بالغ، وهما:
ألا قل لساري الليل لا تخش ضلة ... سعيد بن سلم ضوء كل بلاد
لنا سيد أربى على كل سيد ... جواد، حثى في وجه كل جواد
قلت: وقوله: حتى في وجه كل جواد: يحتمل معنيين: أحدهما وهو الأظهر والله أعلم أنه بمعنى: حثى التراب في وجهه معناه حقره. والثاني: أن يكون جاد على كل جواد، وحثى في وجهه من المال ما يراد.
لما أمليت هذين الوجهين ذكر بعض من حضرني من الأصحاب أنه يحتمل معنى ثالثاً، وهو أن الجواد السابق من الخيل إذا سبق حثى التراب بحافره في وجه المسبوق. وهو معنى حسن غريب يحتمل أن قائله مصيب.
وفيها توفي الفضل بن جعفر الرجل الصالح المؤذن بدمشق: أبو القاسم التميمي.
أربع وسبعين وثلاثمائة
فيها توفي العلامة أبو سعيد، عبد الرحمن بن محمد بن خشكا الحنفي الحاكم بنيسابور.
وفيها توفي خطيب الخطباء أبو يحيى عبد الرحيم بن محمد بن إسماعيل ابن نباتة " بضم النون وبالموحدة وفتح المثناة من فوق بعد الألف " الفارقي اللخمي، العسقلاني المولد، المصري الدار، مصنف الخطب المشهورة. ولي خطابة حلب. لسيف الدولة، كان(2/302)
إماماً في علوم الأدب ورزق السعادة في خطبه التي وقع الإجماع على أنه ما عمل مثلها، وفيها دلالة على غزارة علمه، وجودة قريحته. وذكروا أنه سمع على المتنبي بعض ديوانه في خدمة سيف الدولة، وكان سيف الدولة كثير الغزوات، فلهذا أكثر من خطب الجهاد ليحض الناس، ويحثهم على الجهاد. كان رجلاً صالحاً، ورأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في المقابر، فأشار بيده إلى القبور وقال: كيف قلت يا خطيب؟ كيف قلت يا خطيب؟: لا يخبرون بما إليه آلوا، ولو قدروا على المقاد لقالوا، قد شربوا من الموت كأساً مرة، فلم يفقدوا من أعمالهم ذرة، والى عليهم الدهر إليه برة أن لا يجعل لهم إلى دار الدنيا كرة كأنهم لم يكونوا للعيون قرة، ولم يعهدوا في الأحياء مرة، أسكتهم الله الذي أنطقهم، وأبادهم الذي خلقهم، وسيجددهم كما خلقهم، ويجمعهم كما فرقهم.
ثم نقل صلى الله عليه وآله وسلم في فيه، فاستيقظ من منامه على وجهه أثر نور وبهجة لم يكن قبل. وقص رؤياه على الناس، وقال: سماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطيباً. وعاش بعد ذلك ثمانية عشر يوماً لا يستطعم طعاماً ولا شراباً من أجل تلك التفلة وبركتها. وهذه الخطبة التي فيها هذه الكلمات: تعرف بالمناسبة لهذه الواقعة.
وذكر بعضهم أنه ولد في سنة خمسين وثلاثمائة، وتوفي في السنة المذكورة، أعني سنة أربع وسبعين وثلاثمائة.
وعن بعضهم أنه قال: رأيت الخطيب ابن نباتة في المنام بعد موته، وقلت له: ما فعل الله تعالى بك. فقال: رفع لي ورقة، وفيها سطران بالأحمر. وهما: قد كان أمن لك من قبل ذا، واليوم أضحى لك أمنان، والصفح لا يحسن عن محسن، وإنما يحسن عن جان. قال: فانتبهت من النوم وأنا كررهما.
وفيها توفي تميم بن معز بن المنصور بن القائم بن المهدي، كان أبوه صاحب الديار المصرية والمغرب، وهو الذي بنى القاهرة. وكان تميم المذكور فاضلاً شاعراً ماهراً لطيفاً ظريفاً، ولم يل المملكة، لأن ولاية العهد كانت لأخيه العزيز، تولاها بعد أبيه. وللعزيز أيضاً أشعار جيدة، ذكرها أبو منصور الثعلبي في اليتيمة. ومن شعر تميم المذكور:
أما والذي لا يملك الأمر غيره ... وهو بالسر المكتم أعلم
لئن كان كتمان المصائب مؤلماً ... فأعد أنها عندي أشر وآلم
وفي كل ما تبكي العيون أقله ... وإن كنت منه دائماً أتبسم
ومنه:
وما أم خشف ظل يوماً وليلة ... ببلقية بيداء ظمآن صاديا(2/303)
تهيم فلا تدري إلى أين تنتهي ... مولهة خبرى تجوب الفيافيا
أضر بها حر الهجير فلم تجد ... لغلتها من بارد الماء ساقيا
فلما عنت من خشفها انعطفت له ... فألفته ملهوف الجوانح طاويا
فأوجع مني يوم شدت حمولهم ... ونادى منادي الحي أن لا تلاقيا
ولما توفي غسله القاضي أبو محمد بن النعمان، وكفنه في ستين ثوباً، وحضر أخوه العزيز الصلاة عليه.
قلت: قد قدمت في سنة سبع وأربعين ترجمة تميم بن المعز، وليس هو هذا، بل ذلك حميري وأفقه. هذا في اسمه واسم أبيه قد تشبهان، فلهذا انتبهت عليه. والمتقدم هو الممدوح بالبيتين المتقدمين في ترجمته، أعني قول ابن رشيق في أولهما أصح، وفي آخرهما عن كف الأمير تميم.
خمس وسبعين وثلاثمائة
فيها توفي الحافظ أبو زرعة أحمد بن الحسين الرازي الصغير، رحل وطوف وجمع وصنف.
وفيها توفي أبو مسلم ابن مهران الحافظ العابد العارف عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن مهران البغدادي. رحل إلى البلدان، منها خراسان والشام والجزائر وبخارى وصنف المسند، ثم تزهد وانقبض عن الناس، وجاور بمكة. وكان يجتهد أن لا يظهر للمحدثين، ولا لغيرهم. قال ابن أبي الفوارس: صنف أشياء كثيرة، وكان ثقة زاهداً ما رأينا مثله.
وفيها توفي الإمام الشهير الفقيه الكبير أبو القاسم عبد العزيز بن عبد الله الداركي الشافعي نزيل نيسابور ثم بغداد. انتهى إليه معرفة المذهب، قال أبو حامد الأسفراييني: ما رأيت أفقه منه، وقال غيره: كان صاحب وجه في المذهب، تفقه على أبي إسحاق المروزي، وحدث عن جده لأمه الحسن بن محمد الداركي. ودارك من قرى أصفهان.
وفيها توفي الأبهري القاضي، أبو بكر التميمي، صاحب التصانيف، وشيخ المالكية العراقيين. سئل أن يلي قضاء القضاة، فامتنع رحمه الله تعالى.
ست وسبعين وثلائمائة
فيها وقع قتال بين الديلم وكانوا تسعة عشر ألفاً وبين الترك، وكانوا ثلاثة آلاف،(2/304)
فانهزمت الديلم، وقتل منهم نحو ثلاثة آلاف، وكانوا مع صمصام الدولة، وكانت الترك مع أخيه، شرف الدولة، فخفوا به وقدموا به بغداد، فأتاه الخليفة الطائع طائعاً يهنئه، ثم خفي خبر صمصام الدولة فلم يعرف.
وفيها توفي الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المستملي البلخي. سمع الكثير، وخرج لنفسه معجماً، وحدث بصحيح البخاري عن الفربري.
وفيها توفي الواعظ أبو بكر محمد بن عبد الله بن عبد العزيز بن شاذان الصوفي الرازي.
سبع وسبعين وثلاثمائة
فيها رفع شرف الدولة عن العراق مظالم كثيرة، فمن ذلك أنه رد على الشريف أبي الحسين محمد بن عمر جميع أملاكه، وكان مبلغها في العام ألفي ألف وخمسمائة درهم، وكان الغلاء ببغداد دون الوصف.
وفيها توفي الإمام النحوي أبو علي الحسن بن أحمد الفارسي، اشتغل ببغداد، ودار البلاد، وأقام بحلب عند سيف الدولة ابن حمدان. وكان إمام وقته في علم النحو، وجرت بينه وبين المتنبي مجالس، ثم انتقل إلى بلاد فارس، وصحب عضد الدولة، وتقدم عنده، وعلت منزلته حتى قال عضد الدولة: أنا غلام أبي علي في النحو. وصنف له " كتاب الإيضاح والتكملة " في النحو، وله تصانيف أخرى تزيد على عشرة.
ويحكى أنه كان يوماً في ميدان شيراز، يساير عضد الدولة، فقال له: أنصب المستثنى في قولنا قام القوم إلا زيداً فقال الشيخ: بفعل مقدر. فقال له: كيف تقديره. فقاد: أستثني زيداً، فقال عضد الدولة: هلا رفعته، وقررت الفعل، امتنع زيد. فانقطع الشيخ وقال: الجواب ميداني، ثم إنه لما رجع إلى منزله، وضع في ذلك كلاماً، وحمله إليه فاستحسنه. وذكر في كتاب الإيضاح أنه بالفعل المتقدم تقويه إلا.
وحكى أبو القاسم بن أحمد الأندلسي قال: جرى ذكر الشعر بحضرة أبي علي وأنا حاضر فقال: إني لا أغبطكم على قول الشعر، فإن خاطري لا يوافقني على قوله، مع(2/305)
تحقيقي العلوم التي هي من مواده، فقال له رجل: فما قلت قط شيئاً منه؟ فقال: ما أعلم أن لي شعراً إلا ثلاثة أبيات، وذكرها في السبب، ولم أذكرها أنا في هذا الكتاب، لأنه أبدى فيه عيباً وذماً، وهو: " في الشرع نور ووقار "، كما ورد به في حديث النبي صلى الله عليه واله وسلم في قصة إبراهيم عليهما أفضل الصلاة والتسليم.
وذكر بعض المؤرخين أنه ذكر له إنسان في المنام أن لأبي علي مع فضائله شعراً حسناً. وأنشده في المنام منها هذا البيت:
الناس في الخير لا يرضون عن أحد ... فكيف ظنك يسمو الشر أو ساموا
وقيل: إن السبب في استشهاده في باب " كان " من كتاب الإيضاح ببيت أبي تمام:
من كان مرعى عزمه وهمومه ... روض الأماني لم يزل مهزولا
لأن عضد الدولة كان يحب هذا البيت وينشده كثيراً، وعدوا له من المصنفات عدة كتب، وفضله أشهر من أن يذكر، وكانت وفاته ببغداد، وقبره في الشونيزية.
وفيها توفيت أمة الواحد ابنة القاضي أبي عبد الله الحسين بن إسماعيل المحاملي، حفظت القرآن والفقه والنحو والفرائض، وغيرها من العلوم، وبرعت في مذهب الإمام الشافعي، وكانت تفتي مع أبي علي بن أبي هريرة.
وفيها توفي ابن لؤلؤ الوراق أبو الحسن علي بن محمد الثقفي البغدادي الشيعي، وكان ثقة يحدث بالآخرة.
وفيها توفي أبو الحسن الأنطاكي علي بن محمد المقرىء الفقيه الشافعي. دخل الأندلس، ونشر بها العلم، وقال ابن الفرضي: أدخل الأندلس علماً جماً، وكان رأساً في القراءات، لم يتقدمه فيها أحد.
وفيها توفي الحافظ الغطريفي محمد بن أحمد بن الحسين بن القاسم بن السري بن الغطريف الجرجاني الرباطي.
ثمان وسبعين وثلائمائة
فيها توفي الشيخ الكبير، شيخ الصوفية، وصاحب كتاب " اللمع في التصوف "، أبو(2/306)
نصر السراج عبد الله بن علي الطوسي.
وفيها توفي الحافظ صاحب التصانيف، وأحد أئمة الحديث، أبو أحمد الحاكم محمد بن محمد بن أحمد بن إسحاق النيسابوري. روى عن ابن خزيمة، وعبد الله بن زيدان محمد بن الفيض الغساني وغيرهم، وأكثر الترحال، وكتب ما شاء الله. قال الحاكم ابن البيع: أبو أحمد الحافظ إمام عصره، صنف على الصحيحين، وعلى جامع الترمذي، وألف " كتاب الكنى "، و " كتاب العلل "، و " كتاب الشروط "، و " المخرج على المزني "، وولي قضاء الشاش، ثم قضاء طوس، ثم قدم نيسابور، ولزم مسجده، وأقبل على العبادة والتصنيف، وكف بصره قبل موته بسنتين رحمة الله عليه.
تسع وسبعين وثلاثمائة
فيها وفي التي تليها اشتد البلاء، وعظم الخطب ببغداد بأمر العبادين، صاروا حزبين، ووقعت بينهم حروب، واتصل القتال بين أهل الكرخ وباب البصرة، وقتل طائفة ونهبت أموال الناس، وتواترت الفتن وأحرق بعضهم دروب بعض.
وفيها توفي شرف الدولة سلطان بغداد ابن السلطان عضد الدولة الديلمي، وكان فيه خير وقلة ظلم، وكان موته بالاستسقاء، ولي بعده أخوه أبو نصر.
وفيها توفي الإمام العالم المتكلم أحد أئمة الأشعرية الكبار في وقته، وعنه أخذ أبو علي بن شاذان: محمد بن أحمد أبو جعفر الجوهري البغدادي النقاش.
وفيها توفي أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي الإشبيلي، شيخ العربية بالأندلس وصاحب التصانيف. وأدب المؤيد بالله ولد المستنصر، كان واحد عصره في علم النحو وحفظ اللغة، أخبر أهل زمانه بالإعراب والمعاني والنوادر، إلى علم السير والأخبار،، يكن مثله في وقته. وله كتب تدل على وفور علمه، منها مختصر " كتاب العين "، و " كتاب طبقات النحويين واللغويين " في المشرق والأندلس، من زمن أبي الأسود الدؤلي إلى زمنه وعدة كتب أخرى، وتولى قضاء أشبيلية، وكان كثيراً ما ينشد:
الفقر في أوطاننا غربة ... والمال في الغربة أوطان
والأرض شيء كلها واحد ... والناس إخوان وجيران(2/307)
والزبيدي بضم الزاي وفتح الموحدة وسكون المثناة من تحت وبعدها دال مهملة نسبة إلى زبيد، واسمه منبه بن صعب بن سعد العشيرة بن مذحج بفتح الميم وسكون الذال المعجمة وكسر الحاء المهملة وبعدها جيم وهو في الأصل اسم أكمة حمراء باليمن، ولد عليها مالك بن رد، فسمي باسمها، ثم كثر ذلك في تسمية العرب، حتى صاروا يسمون بها، ويجلونه علماً على المسمى، وقطعوا النظر عن تلك الأكمة. وزبيد قبيلة كبيرة باليمن وكذا مذحج.
ثمانين وثلاثمائة
فيها توفي الحافظ المحدث الأندلسي أبو عبد الله محمد بن أحمد الأموي مولاهم القرطبي. سمع وصنف، ومن مصنفاته " فقه الحسن البصري " في سبع مجلدات، و " فقه الزهري " في أجزاء عديدة.
وفيها توفي الوزير أبو الفرج، وزير صاحب مصر العزيز بالله، وكان يهودياً بغدادياً، عجباً في الدهاء والفطنة والمكر، يتوكل للتجارة بالرملة، فانكسر وهرب إلى مصر، فأسلم بها، واتصل بالأستاذ كافور، ثم دخل المغرب، وأنفق عند المعز، وتقدم ولم يزل في الارتقاء إلى أن مات. وكان عظيم الهيبة، وافر الحشمة، عالي الهمة، وكان معلومه على مخدومه في السنة مائة ألف دينار، وقيل إنه خلف أربعة آلاف مملوك، ويقال أنه حسن إسلامه.
إحدى وثمانين وثلاثمائة
فيها أمر الخليفة الطائع بحبس الحسين بن المعلم وكان عن خواص بهاء الدولة فعظم عليه ذلك، ثم دخل على الطائع وفيه هيبة، دخلوا للخدمة، فلما قرب منه قبل الأرض، وجلس على الكرسي، وتقدم أصحابه فجذبوا الطائع بحمائل سيفه من السرير، ولفو، في كساء حتى أتوا به دار السلطنة، واختبطت بغداد، وظن الأجناد أن القبض على بهاء الدولة من جهة الطائع، فوقعوا من النهب ثم إن بهاء الدولة أمر بالنداء بخلافة القادر بالله، فأكره الطائع على خلع نفسه، وعمل بذلك سجل، ونفد إلى القادر وهو بالبطايح،(2/308)
وأخذوا جميع ما في دار الخلافة، حتى الرخام والأبواب، واستباحت الرعاع قلع الشبابيك، وأقبل القادر بالله أحمد ابن الأمير إسحاق بن المقتدر بالله، وله يومئذ أربع وأربعون سنة، وكان كثير التهجد والخير والبر، صاحب سنة وجماعة.
وفيها توفي العبد الصالح المقرىء مصنف " كتاب الغاية " والشامل في القراءات: الأستاذ أبو بكر أحمد بن الحسين بن مهران الأصبهاني ثم النيسابوري. قال الحاكم: كان إمام عصره في القراءات، وأعبد من رأينا من القراء، وكان مجاب الدعوه.
وفيها توفي القائد أبو الحسن جوهر بن عبد الله المعروف بالكاتب الرومي، كان من موالي المعز بن المنصور بن القائم بن المهدي صاحب الإفريقية. جهزه في جيش كثيف ليفتتح ما استعصى من بلاد المغرب، فسار إلى فاس، ثم إلى سجلماسة، ثم توجه إلى البحر المحيط فاتحاً للبلاد، وصاد من سمك البحر، وجعله في قلال الماء، وأرسله إلى المعز، ثم رجع ومعه صاحب فاس أسير في قفص حديد. وقد مهد البلاد، وحكم على أهل الزيغ والعناد من إفريقية إلى البحر المحيط من جهة المغرب، وفي جهة المغرب مر إفريقية إلى أعمال مصر، ولم يبق بلد من هذه البلاد إلا أقيمت فيه دعوته، وخطب له في جميعه جمعيه وجماعية إلا مدينة سبتة فإئها بقيت لبني أمية أصحاب الأندلس.
ولما وصل الخبر إلى المعز بموت كافور الإخشيذي صاحب مصر، بعث المعز القائد جوهراً المذكور إلى جهة المغرب لإصلاح أموره، وجميع قبائل العرب، وجنى القطائع التي كانت على البربر، وكانت خمسمائة ألف دينار، وخرج المعز بنفسه إلى المهدية، فأخرج من قصور آبائه خمسمائة حمل دنانير، وعاد إلى قصره، وعاد جوهر بالرجال والأموال، فجهزه إلى الديار المصرية ليأخذها، وسير معه العساكر في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، فتسلم مصر، وصعد المنبر خطيباً، ودعا لمولاه المعز ووصلت البشائر إلى المعز بأخذ البلاد وأقام بها حتى وصل إليه المعز وهو نافذ الأمر واستمر على علو منزلته وارتفاع درجته متولياً للأمور إلى سابع عشر المحرم سنة أربع وستين، فعزله المعز، وكان محسناً إلى الناس ولما توفي لم يبق شاعر إلا رثاه.
وكان سب انفاذ مولاه المعز إلى مصر أن كافورا الإخشيذي كما تقدم بسكون(2/309)
الخاء وكسر الشين والذال المعجمات وسكون المثناة من تحت بين الشين والذال، الخادم المشهور، لما توفي دعا لأحمد بن علي الإخشيذي على المنابر بمصر وأعمالها، والبلدان الشاميات والحرمين، وبعده الحسن بن عبد الله، فاضطرب الجند لقلة الأموال وعدم الانفاق فيهم وكان تدبير الأموال إلى الوزير أبي الفضل جعفر بن الفرات فكتب جماعة من وجوههم إلى المعز بإفريقية ويطلبون إنفاذ العساكر ليسلموا له مصر، فأمر القائد جوهر المذكور بالتجهيز إلى الديار المصرية، وجهز له ما يحتاج إليه من المال والسلاح والرجال، فبرز بالعساكر ومعه أكثر من مائة ألف فارس وأكثر من ألف ومائتي صندوق من المال، وخرج المعز لوداعه ثم قال لأولاده: انزلوا لوداعه، فنزلوا عن خيولهم، ونزل أهل الدولة لنزولهم، والمعز متكىء على فرسه، وجوهر واقف بين يديه، ثم قبل جوهر يد المعز وحافر فرسه، فقال له: اركب، فركب وسار بالعساكر.
ولما رجع المعز إلى قصره، أنفذ إلى جوهر ملبوسه وكل ما كان عليه سوى خاتمه وسراويله وكتب المعز إلى عبده أفلح صاحب برقة أن يرتحل للقائد جوهر، ويقبل يده عند لقائه فبذل أفلح مائة ألف دينار على أن يعفي من ذلك، فلم يعف، وفعل ما أمر به عند لقائه ووصل الخبر إلى مصر بوصوله مع العساكر، فاضطرب أهلها، واتفقوا مع الوزير ابن الفرات على المراسلة في الصلح وطلب الأمان، وأرسلوا بذلك أبا جعفر مسلم بن عبيد الله الحسني، بعد أن التمسوا منه أن يكون سفيرهم، فأجابهم، وشرط أن يكون معه جماعة من البلد. وكتب الوزير معهم كتاباً بما يريد، فتوجهوا نحو القائد جوهر، وكان قد نزل في بالقرب من الإسكندرية، فوصل إليه الشريف بمن معه، وأدى إليه الرسالة، فأجابه إلى ما التمسوه، وكتب له جوهر عهداً بما طلبوه، فاضطرب البلد اضطراباً شديداً، وأخذت الإخشيذية والكافورية وجماعة العسكر الأهبة للقتال، ورجعوا عن الصلح فبلغ ذلك جوهراً، فرحل إليهم، فتهيأ للقتال، وساروا بالعساكر نحو الجيزة، ونزلوا بها، وحفظوا الجسر. ووصل القائد جوهر، وابتدأ بالقتال، وأسرت رجال، وأخذت خيل، ومضى جوهر إلى ميتة الصيادين وأخذ المخاضة يمنة سلفان، واستأمن إلى جوهر جماعة من العسكر في مراكب، وجعل أهل مصر على المخاضة من يحفظها، فلما رأى ذلك جوهر قال لجعفر بن فلاح، لهذا اليوم أرادك المعز، فعبر عرياناً في سراويل وهو في مركب ومعه الرجال خوضاً، حتى خرجوا إليهم، ووقع القتال، فقتل خلق كثير من الإخشيذية وأتباعهم، وانهزموا في الليل، ودخلوا مصر، وأخذوا من دورهم ما قدروا عليه. وخرجت حرمهم(2/310)
ماشيات ودخلن على الشريف أبي جعفر في مكاتبة القائد بإعادة الأمان. فكتب إليه يهنئه بالفتح، ويسأله إعادة الأمان، فعاد الجواب بأمانهم، ثم ورد رسوله إلى جعفر بأن يجتمع به مع جماعة من الأشراف والعلماء ووجوه البلد، فاجتمعوا به في الجيزة، ونادى مناد: ينزل الناس كلهم، إلا الوزير والشريف. فنزلوا وسلموا عليه واحداً بعد واحد، والوزير عن شماله، والشريف عن يمينه، ولما فرغوا من السلام ابتدؤوا بدخول البلد، فدخلوا وقت زوال الشمس، وعليهم السلام والعدد، ودخل جوهر بعد العصر، وخيوله وجنوده بين يديه، وعليه ثوب ديباج، وتحته فرس أصفر، ونزل في موضع القاهرة اليوم، واختط موضع القاهرة، ولما أصبح المصريون حضروا عند القائد للتهنئة، فوجدوه قد حفر أساس القصر في الليل، وكان فيه دورات جاءت غير معتدلة لم تعجبه، ثم قال: حفرت في ساعة سعيدة لا أغيرها. وأقام عسكره يدخل البلد سبعة أيام، وبادر جوهر بالكتاب إلى مولاه يبشره بالفتح، وأنفذ إليه رؤوس القتلى في الوقعة، وقطع خطبة بني العباس عن منابر الديار المصرية، وكذلك أسمهم على السكة، وجعل ذلك كله باسم مولاه المعز، وزال الشعار الأسود، وألبس الخطباء الثياب البيض، وفي يوم الجمعة أمر جوهر بزيادة عقب الخطبة: اللهم صل على محمد المصطفى، وعلى علي المرتضى، وعلى فاطمة البتول، وعلى الحسن والحسين سبطي الرسول اللذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، اللهم صل على الأئمة الطاهرين آباء أمير المؤمنين. وعاد في الجمعة الأخرى وأذن بحي على خير العمل. ودعا الخطيب على المنبر للقائد جوهر، فأنكر جوهر عليه وقال: ليس هذا رسم موالينا. وشرع في عمارة الجامع بالقاهرة.
قال ابن خلكان: وأظن هذا الجامع هو المعروف بجامع الأزهر، فإن الجامع الآخر بالقاهرة مشهور بجامع الحاكم. وأقام جوهر مستقلاً بتدبير مملكة مصر قبل وصول مولاه المعز إليها أربع سنين وعشرين يوماً. ولما وصل المعز إلى القاهرة خرج جوهر من القصر إلى القائد، ولم يخرج معه شيء إليه سوى ما كان عليه من الثياب، ثم لم يعد إليه، ونزل في داره بالقاهرة، وسيأتي أيضاً طرف من خبره وخبر سيده المعز في ترجمته إن شاء الله تعالى.
وكان ولده الحسين قائد القواد للحاكم صاحب مصر، وكان قد خاف على نفسه من الحاكم وولده وصهره القاضي عبد العزيز زوج أخته، فأرسل الحاكم من برهم وطيب قلوبهم، وآنسهم مدة مديدة، ثم حضروا للخدمة، فتقدم الحاكم إلى سيف النقمة وأشد، فاستصحب عشرة من الغلمان الأتراك، وقتلوا الحسين وصهره القاضي، وأحضروا رأسيهما بين يدي الحاكم " في القيامة يكون التحاكم ".(2/311)
وفيها توفي سعد الدولة أبو المعالي شريف بن سيف الدولة بن حمدان الثعلبي صاحب حلب، وولي بعده ابنه سعد، فلما مات ابنه سعد انقرض ملك سيف الدولة من جهة ذريته.
وفيها توفي الحافظ أبو بكر ابن المقرىء محمد بن إبراهيم الأصفهاني صاحب الرحلة الواسعة، وقاضي الجماعة أبو بكر القرطبي المالكي صاحب التصانيف، وأحفظ أهل زمانه لمذهبه.
اثنتين وثمانين وثلاثمائة
فيها منع أبو الحسن بن المعلم الكوكبي الرافضة من عمل المآتم يوم عاشوراء الذي كان يعمل من نحو ثلاثين سنة، وأسقط طائفة من كبار الشهود الذين ولوا بالشفاعات، وقد كان استولى على أمور السلطان بهاء الدولة كلها.
وفيها شغبت الجند، وعسكروا، وبعثوا يطلبون من بهاء الدولة أن يسلم إليهم ابن المعلم، وصمموا على ذلك إلى أن قال له رسولهم: أيها الملك، اختر بقاءه أو بقاءك، فقبض حينئذ عليه وعلى أصحابه، ما زالوا به حتى قتلوه رحمة الله عليه.
وفيها توفي أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري، أحد الأئمة في الأدب والحفظ، وهو صاحب أخبار ونوادر واتساع في الرواية، وله التصانيف المفيدة. وكان الصاحب بن عباد يريد الاجتماع به، ولا يجد إليه سبيلاً، فقال لمخدومه مريد الدولة: إن البلد الفلاني قد اختل حاله، وأحتاج إلى كشف، فأذن لي في ذلك، فأذن، فلما أن وصل توقع أن يزوره أبو أحمد المذكور، فلم يزره، فكتب الصاحب إليه:
ولما أبيتم أن تزوروا وقلتم ... ضعيف فلم نقدر على الوجدان
أتيناكم من بعد أرض نزوركم ... منزل بكر عندنا وعوان
وكتب مع ذلك شيئاً من نثر بحال أبي أحمد. والبيت المشهور:
أهم بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان
فعجب الصاحب من اتفاق هذا البيت له، وذكر أنه لو عرف أنه يقع له هذا البيت لغير الروي. والبيت المذكور لأخي الخنساء صخر بن عمرو بن الشريد مع أبيات أخرى، وكان قد حضر محاربة بني أسد، فطعنه ربيعة بن ثور الأسدي، فأدخل بعض حلقات الدرع في جنبه، وبقي مدة حول في أشد ما يكون من المرض، وأمه وزوجته سلمى تمرضانه، فضجرت زوجته منه، فمرت بها امرأة، فسألتها عن حاله فقالت: لا هو حي فيرجى، ولا(2/312)
هو ميت فينسى فسمعها صخر فأنشد:
أرى أم صخر لا تمل عيادتي ... وملت سليمى مضجعي ومكاني
وما كنت أخشى أن أكون جنازة ... عليك، ومن يغتر بالحدثان
لعمري لقد نبهت من كان نائماً ... وأسمعت من كانت له أذنان
وأي امرىء ساوى بأم جليلة ... فلا عاش إلا في شقى وهوان
أهم بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان
فللموت خير من حياة كأنها ... معرس يعسوب برأس سنان
ثلاث وثمانين وثلاثمائة
فيها توفي أبو محمد بن حزم بن الفرضي: كان جليلاً زاهداً شجاعاً مجاهداً، ولاه المستنصر القضاء فاستعفاه، وكان فقيهاً صلباً ورعاً، وكان يشبهونه بسفيان الثوري في زمانه.
وفيها توفي الزاهد الواعظ شيخ الكرامية، ورأسهم بنيسابور إسحاق بن حمشاد.
قال الحاكم: كان من العباد المجتهدين، يقال أسلم على يديه أكثر من خمسة آلاف، قال: ولم أر بنيسابور جنازة أكثر جمعاً من جنازته.
وفيها توفي محمد بن العباس الخوارزمي الشاعر المشهور ابن أخت محمد بن جرير الطبري العلاة المشكور، كان إماماً في اللغة والأنساب والأشعار. من الشعراء المجيدين الكبار.
يحكى أنه قصد حضرة الصاحب بن عباد، فلما وصل بابه قال لبعض حجابه: قل للصاحب: على الباب أحد أرباب الأدب، وهو يستأذن في الدخول، فدخل الحاجب فأعلمه بما قد تكلمه، فقال الصاحب: قل له: قد ألزمت نفسي ألا يدخل علي من أولي الأدب إلا من يحفظ عشرين ألف بيت من شعر العرب، فخرج إليه الحاجب، فأعلمه بما قال، فقال ارجع إليه وقل له: من شعر النساء أم من شعر الرجال؟ فدخل الحاجب، وأعاد عليه ذلك القول، فأذن الصاحب له حينئذ في الدخول، فدخل عليه، فعرفه، وانبسط في الكلام معه وله ما حوى من الفضائل ديوان شعر وديوان رسائل. من نظمه المشتمل على المعاني(2/313)
الحسان هذان البيتان:
رأيتك إن أيسرت خيمت عندنا ... مقيماً وأن أعسرت زرت لماما
فما أنت إلا البدر إن قل ضوءه ... أغب، وإن زاد الضياء أقاما
وله ملح شهيرة ونوادر كثيرة، وكان قد فارق الصاحب بن عباد غير راض عنه، فقال في الإنشاد:
لا تحمدن ابن عباد وإن هطلت ... يداه بالجود حتى أخجل الديما
فإنها خطرات من وساوسه ... يعطي ويمنع لا بخلاً ولا كرماً
فبلغ ذلك ابن عباد، فلما بلغه خبر موته أنشد:
أقول لركب من خراسان قافل ... أمات خويرزميكم؟ قيل لي: نعم
فقلنا اكتبوا بالجص من فوق قبره ... ألا لعن الرحمن من كفر النعم
أربع وثمانين وثلاثمائة
فيها اشتد البلاء بالعباد ببغداد، وقووا على الدولة وعلى رأسهم عزيزاً التفت عليهم خلق عظيم، فنهض السلطان وتفرغ لهم فهربوا. ولم يحج أحد الركب المصري.
وفيها توفي الحافظ أبو الفضل الهمداني السمسار الذي لما أملى الحديث باع طاحوناً له بسبع مائة دينار، ونثرها على المحدثين، قيل: كان ركناً من أركان الحديث، ديناً ورعاً، لا يخاف في الله لومة لائم، وله عدة مصنفات. والدعاء عند قبره مستجاب.
وفيها توفي محمد بن عمران المرزباني البغدادي المولد وصاحب التصانيف المشهورة، والمجاميع الغريبة. كان راوية للأدب، صاحب أخبار، وتواليفه كثيرة، وكان ثقة في الحديث مائلاً إلى التشيع في المذهب، حدث عن عبد الله بن محمد البغوي وأبي بكر بن داد السجستاني وآخرين. وهو أول من جمع ديوان يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وهو صغير الحجم يدخل في مقدار ثلاث كراديس، وجمعه جماعة من بعده، وزادوا فيه أشياء(2/314)
ليست له. وشعره مع قلته في نهاية من الحسن، ومن محاسن شعره الأبيات التي منها قوله:
إذا رمت من ليلى على البعد نظرة ... لتطفي جوي بين الحشا والأضلع
تقول نساء الحي تطمح أن ترى ... محاسن ليلى من بداء المطامع
وكيف ترى ليلى بعين ترى بها ... سواها وما طهرتها بالمدامع
وتلتذ منها بالحديث وقد جرى ... حديث سواها في حزوق المسامع
أجلك يا ليلى عن العين إنما ... أراك بقلب خاشع لك خاضع
حزوق بالقاف هو المشهور عند الجمهور ورواه بعضهم بالتاء المثناة من فوق. رجعنا إلى ذكر المرزباني. روى عن دريد وابن الأنباري، وروى عنه أبو عبد الله الضميري وأبو القاسم التنوخي وأبو محمد الجوهري وغيرهم، والمرزباني لا يطلق عند العجم إلا على الرجل المقدم المعظم القدر، وتفسيره بالعربية حافظ الحد.
وفيها توفي المحسن بن علي بن محمد التنوخي الذي يقول فيه أبو عبد الله الشاعر:
إذا ذكر القضاة وهم شيوخ ... تخيرت الشباب على الشيوخ
ومن لم يرض لم اسقمه إلا ... بحسرة سيدي القاضي التنوخي
وله " كتاب الفرج بعد الشدة "، و " كتاب نشوار المحاضرة "، " كتاب المستجاد من فعالات الأجواد "، وديوان شعر أكبر من ديوان أبيه، وسمع بالبصرة من أبي العباس الأثرم وأبي بكر الصولي. والحسين بن محمد بن يحيى وطبقتهم. ونزل بغداد وأقام بها، وحدث بها إلى حين وفاته، وكان أديباً شاعراً أخبارياً، ولاه الإمام المطيع لله القضاء بعسكر المكرم ورامهرمز وتقفد أعمالاً كثيرة في نواحي مختلفة. ومن شعره في بعض المشايخ، وقد خرج يستقسي وكان في السماء سحاب فلما دعا أصحت السماء، فقال التنوخي المذكور:
خرجنا لنستسقي بفضل دعائه ... وقد كاد هدب الغيم أن يلحق الأرضا
فلما ابتدا يدعو تكشفت السما ... فما تم إلا والغمام قد انقضى
ومن الشعر المنسوب إليه:
قل للمليحة في الخمار المذهب ... أفسدت نسك أخي التقى المترهب(2/315)
نور الخمار ونور خدك تحته ... عجباً لوجهك كيف لم يتلهب
وجمعت بين المذهبين فلم يكن ... للحسن عن ذهبيهما من مذهب
وإذا أتيت عيني لتسرق نظرة ... قال الشعاع لها اذهبي، لا تذهبي
قال ابن خلكان: وقد أذكرتني هذه الأبيات في الخمار المذهب حكاية وقفت عليها منذ زمان بالموصل، وهي أن بعض التجار قدم مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومعه حمل من الخمر السود فلم يجد لها طالباً، فكسدت عليه، وضاق صدره، فقيل له: ما ينفقها لك إلا المسكين الدارمي، وهو من مجيدي الشعراء الموصوفين بالطواف والخلاعة، فقصده، فوجده قد تزهد وانقطع في المسجد، فأتاه، وقص عليه القصة فقال: وكيف أعمل، وأنا قد تركت الشعر، وعكفت على هذه الحالة. فقال له التاجر: أنا رجل غريب، وليس معي بضاعة سوى هذا الحمل، وتضرع إليه، فخرج من المسجد، وأعاد لباسه الأول، وعمل هذين البيتين، وشهرهما:
قل للمليحة في الخمار الأسود ... ماذا أردت بناسك متعبد
قد كان شمر للصلاة إزاره ... حتى قعدت له بباب المسجد
وشاع بين الناس أن المسكين الدارمي قد رجع إلى ما كان عليه، وأحب واحدة ذات خماراً أسود، فلم يبق بالمدينة ظريفة إلا وطيب خمار أسود، فباع التاجر الحمل الذي كان معه بأضعاف ثمنه لكثرة رغباتهن فيه، فلما فرغ منه عاد مسكين إلى تعبده وانقطاعه.
وللتنوخي المذكور ولد كان أديباً فاضلاً، وكان يصحب أبا العلاء المعري، وأخذ عنه كثيراً، وكان يروي الشعر الكثير، وهم أهل بيت كلهم فضلاء أدباء ظرفاء. " والمحسن " بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر السين المهملة المشددة وبعدها نون.
وفيها توفي الرماني شيخ العربية أبو الحسن علي بن عيسى النحوي ببغداد. وله قريب من مائة مصنف، أخذ عن ابن دريد وابن السراج، وكان متفنناً في علوم كثيرة من القرآن والفقه والنحو والكلام على مذهب المعتزلة والتفسير واللغة.
وفيها توفي الحافظ أبو الحسن محمد بن العباس بن أحمد بن الفرات البغدادي.
سمع من أبي عبد الله المحاملي وطبقته، وجمع ما لم يجمعه أحد في وقته. قال الخطيب: بلغني أنه كان عنده عن علي بن محمد المصري وحده مائة جزء وإنة كتب مائة تفسير ومائة تاريخ وهو حجة ثقة.
وفيها توفي الإمام أبو الحسين الماسرجسي، شيخ الشافعية بخراسان محمد بن علي النيسابوري. قال الحاكم: كان أعرف الأصحاب بالمذهب وترتيبه، وتفقه بخراسان والعراق(2/316)
والحجاز، وصحب الإمام أبا إسحاق المروزي مدة، وتفقه عليه، وصار ببغداد معيد أبي علي بن أبي هريرة، وهو صاحب وجه في المذهب، وعليه تفقه القاضي أبو الطيب الطبري، وسمع من أصحاب المزني ويونس بن عبد الأعلى والمؤمل بن الحسن، وعقد له مجلس الإملاء في دار السنة.
خمس وثمانين وثلاثمائة
فيها توفي الصاحب المعروف بابن عباد، وهو أبو القاسم إسماعيل بن أبي الحسن عباد بن أحمد بن إدريس الطالقاني. كان نادرة الدهر وأعجوبة العصر في فضائله ومكارمه. أخذ الأدب من أبي الحسين أحمد بن فارس اللغوي، صاحب كتاب المجمل في اللغة. وأخذ عن أبي الفضل بن العميد وغيرهما. وقال أبو منصور الثعلبي في كتابه اليتيمة في حقه: ليست بحضرتي عبارة أرضاها للإفصاح عن علو محله في العلم والأدب وجلالة شأنه في الجود والكرم، وتفرده بالغايات في المحاسن، وجمعه أشتات المفاخر، لأن همه قوتي ينخفض عن بلوغ أدنى فواضله ومعاليه، وجهد وصفي يقصر عن أيسر فضائله ومساعيه. ثم شرع في شرح بعض محاسنه وطرف من أحواله. وقال أبو بكر الخوارزمي في حقه: الصاحب نشأ من الوزارة في حجرها، ودب ودرج من وكرها، ورضع أفاويق درها، وورثها عن آبائه، كما قال أبو سعيد الرستمي في حقه:
ورث الوزارة كابراً عن كابر ... موصولة الأسناد بالأسناد
وروى عن العباد بن عباد: وقال بعضهم رأيت في أخباره أنه لم يسعد أحد بعد وفاته كما كان في حياته غير الصاحب، فإنه لما توفي أغلقت مدينة الري، واجتمع الناس على باب قصره ينتظرون خروج جنازته، وحضر مخدومه فخر الدولة، وسائر القواد، وقد غيروا لباسهم.
قلت إنه لم يسعد واحد بعد موته كما كان في حياته غيره من أرباب ولايات الدنيا، وما يفتخرون به من المناصب التي هي إن لم يسلم الله تعالى ما طيب، وهو أول من لقب بالصاحب من الوزراء، لأنه كان يصحب أبا الفضل بن العميد، فقيل له: صاحب بن العميد، ثم أطلق عليه هذا اللقب لما تولى الوزارة، وبقي علماً عليه.
وذكر الصابي في " كتاب الناجي " أنه إنما قيل له الصاحب لأنه صحب مؤيد الدولة منذ الصبا، وسماه الصاحب فاستمر هذا اللقب عليه، واشتهر به، ثم سمي به كل من تولى(2/317)
الوزارة بعده. وكان أولاً وزير مؤيد الدولة أبي منصور بويه بضم الموحدة وفتح الواو وسكون المثناة من تحت وفي آخره هاء ساكنة ابن ركن الدولة الديلمي، تولى وزارته بعد أبي الفتح علي بن أبي الفضل بن العميد، فلما توفي مؤيد الدولة في سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة، استولى على مملكته أخوه فخر الدولة أبو الحسن، فأقر الصاحب على وزارته، وكان مبجلاً عنده معظماً نافذ الأمر، وكان حسن الفطنه. كتب بعضهم إليه رقعه أغار فيها على رسائله، وسرق جملة من ألفاظه، فوقع تحتها هذه: " بضاعتنا ردت إلينا ".
وحبس بعض عياله في مكان ضيق بجواره، ثم صعد السطح يوماً، فأطلع عليه، فرآه، فناداه المحبوس بأعلى صوته، فاطلع فرآه في سواء الجحيم، فقال الصاحب: اخسؤوا فيها ولا تكلمون " قلت ": معنى أنك خاطبتنا بخطاب من هو معذب فأجبناك بالجواب الذي يجاب به أهل النار.
وله نوادر وتصانيف كثيرة، منها كتاب " المحيط " في اللغة، وهو سبع مجلدات، و " كتاب الكشف " عن مساوىء شعر المتنبي و " كتاب أسماء الله تعالى "، وصفاته، وكتب أخرى، وله رسائل بديعة ونظم جيد من جملته قوله:
رق الزجاج ورضت الخمر ... فتشابها فتشاكل الأمر
وكأنما خمر قدح ... وكأنما قدح ولا خمر
قلت وهذان البيتان يتمثل بهما في الأمور المحتملة المتشابهة، وممن يتمثل بهما شيخ عصره وإمام دهره شهاب الدين السهروردي قدس الله روحه.
وحكى أبو الحسين الفارسي النحوي أن نوح بن منصور أحد ملوك بني ساسان كتب إليه ورقة يستدعيه ليفوض إليه وزارته وتدبير أهل مملكته، فكان من جملة اعتذاره إليه أنه يحتاج لنقل كتبه إلى أربعمائة جمل في الظل لمن يبقى بها من التحمل.
وقال الإمام الحافظ أبو القاسم ابن عساكر: حكى لي من أثق به أن الصاحب بن عباد كان إذا انتهى إلى ذكر الباقلآني وابن فورك والأستاذ أبي إسحاق الأسفراييني وكانوا متناصرين من أصحاب الشيخ أبي الحسن الأشعري قال: الباقلآني بحر مغرق، وابن فورك جبل مطرق، والأسفراييني نار محرق.
قال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر: وكأن روح القدس نفث في روعه، حيث أخبر عن هؤلاء الثلاثة بما هو حقيقة الحال فيهم. انتهى.
وأخبار الصاحب بن عباد كثيرة، وفضائله بين أهل هذا الفن شهيرة، اقتصرت منها(2/318)
على هذه النبذة اليسيرة. وكانت وفاته ليلة الجمعة الرابع والعشرين من صفر من السنة المذكورة بالري، ثم نقل إلى أصبهان، ودفن بمحلة تعرف بباب درية، ولما خرج نعشه صاح الناس بأجمعهم وقيل الأرض ومشى فخر الدولة أمام الجنازة مع الناس، وقعدوا للعزاء أياماً.
وقال أبو القاسم بن أبي العلاء الشاعر الأصبهاني: رأيت في المنام قائلاً يقول: لم لم ترث الصاحب مع فضلك وشعرك فقلت: ألجمتني كثرة محاسنه، فلم أدر بما أبدأ منها، وخفت أن أقصر، وقد ظن في الاستيفاء لها. فقال: احفظ واسمع ما أقوله فقلت: قل.
قال: ثوى الجود والكافي معاً تحت حفرة فقلت: ليأنس كل منهما بأخيه فقال: هما اصطحبا حيين ثم تعانقا فقلت: ضجيعين في لحدٍ بباب درية فقال: إذا ارتحل الثاوون من مستقرهم فقلت: أقاما إلى يوم القيامة فيه ومما رثاه الشعراء قول أبي سعيد الرستمي:
أبعد ابن عباد يهش إلى السرى ... أخو أهل ويستماح جواد
أبى الله إلا أن يموتا بموته ... فما لهما حتى المعا معاد
وفي السنة المذكورة توفي الإمام الحافظ المشهور، صاحب التصانيف الدارقطني أبو الحسن علي بن عمر البغدادي الدارقطني. قال الحاكم: صار أوحد عصره في الحفظ والفهم والورع، وإماماً في النجاة، صادفته فوق ما وصف لي، وله مصنفات يطول ذكرها.
وقال الخطيب كان فريد عصره، وقريع دهره، ونسيج وحده. وإمام وقته، انتهى إليه علم الأثر والمعرفة بمذاهب العلماء والأدب والشعر، قيل إنه يحفظ دواوين جماعة وقال أبو ذر الهروي: قلت للحاكم: هل رأيت مثل الدارقطني. فقال: هو لم ير مثل نفسه، فكيف أنا؟ وقال البزقاني: كان الدارقطني يملي علي العلل من حفظه وقال القاضي أبو الطيب الطبري: الدارقطني أمير المؤمنين في الحديث وقال غيره: أخذ الفقه عن أبي سعيد الأصطخري الفقيه الشافعي. " قلت " يعني الإمام المشهور صاحب الوجوه في المذهب، قيل بل أخذه عن صاحب لأبي سعيد، وأخذ القراءات عرضاً وسماعاً عن محمد بن الحسن النقاش، وعلي بن سعيد القزاز، ومحمد بن الحسين الطبري، ومن في طبقتهم وسمع من ابن مجاهد وهو صغير، وروى عنه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني صاحب حلية الأولياء(2/319)
وجماعة كثيرة. وصنف " كتاب السنن "، و " المؤتلف والمختلف " وغيرهما، وخرج من بغداد إلى مصر قاصداً أبا الفضل جعفر بن الفرات وزير كافور الأخشيذي، فإنه بلغه أن أبا الفضل عازم على تأليف مسند، فمضى إليه ليساعده عليه، وأقام عنده مدة، وبالغ أبو الفضل في إكرامه، وأنفق عليه نفقة واسعة، وأعطاه شيئاً كثيراً، وحصل له بسببه مال جزيل، ولم يزل عنده حتى فرغ المسند. وكان يجتمع هو والحافظ عبد الغني على تخريج المسند وكتابته، إلى أن تبحر. وقال الحافظ عبد الغني المذكور: أحسن كلاماً على حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة: علي بن المديني في وقته، وموسى بن هارون في وقته، والدارقطني في وقته أو كما قال.
وسأل الدارقطني يوماً أحد أصحابه: هل رأى الشيخ مثل نفسه. فامتنع من جوابه، وقال: قال الله تعالى " فلا تزكوا أنفسكم " سورة النجم، آية 32، فألح عليه فقال: إن كان في فن واحد، فقد رأيت من هو أفضل مني، وإن كان من اجتمع فيه ما اجتمع في فلان، كان متفنناً في علوم كثيرة.
قلت: فهذا ما لخصته من أقوال العلماء في ترجمته، وكل ذلك مدح في حقه، إلا سفره إلى مصر من أجل الوزير المذكور، فإنه وإن كان ظاهره كما قالوا لمساعدة له في تخريج المسند المذكور، فلست أرى مثل هذا الإيقاع بأهل العلم، ولا بأهل الدين. ثم لما كان مثل هذه المساعدة بعض أهل العلم والدين لا يشوبه شيء من أمور الدنيا كان حسناً منه، وفضلاً وحرصاً على نشر العلم، والمساعدة في الخير. وبعيد عن تطاوع النفوس لمثل هذا إلا إذا وفق الله، وذلك نادر أو معدوم، وما على الفاضل المتدين من أرباب الولايات ألفوا أو لم يألفوا نعم، لو أرسل إليه بعضهم وقال: أرو عني كتابي وكان فيه نفع للمسلمين فلا بأس، فقد روينا عن شيخنا رضي الدين أربعين حديثاً، تخريج السلطان للملك، فظفر صاحب اليمن، وتوفي الدارقطني رحمه الله، وقد قارب الثمانين، أو كاد يبلغها، وصلى عليه الشيخ أبو حامد الأسفراييني.
وفي السنة المذكورة " توفي " الحافظ المفسر الواعظ صاحب التصانيف: أبو حفص ابن شاهين عمر بن أحمد البغدادي. قال الحسين بن المهدي بالله: قال لنا ابن شاهين صنف ثلاثمائة وثلاثين مصنفاً، منها " التفسير الكبير " ألف جزء، و " المسند " ألف وثلاثمائة(2/320)
جزء، و " التاريخ " مائة وخمسون جزءاً. وقال ابن أبي الفوارس: ابن شاهين ثقة مأمون، جمع وصنف ما لم يصنفه أحد.
وفيها توفي أبو الحسن محمد بن عبد الله المعروف بابن سكرة، الأديب الهاشمي العباسي البغدادي، الشاعر المشهور، لا سيما في المزاح والمجون. وكان هو وابن نجاح يشبهان في وقتهما بجرير والفرزدق، ويقال إن ديوان ابن سكرة يزيد على خمسين ألف بيت. قال الثعالبي: وهو شاعر متسع العبارة في أنواع الإبداع، فاق في قول الظرف والملح على الفحول والأفراد، جاد في ميدان المجون والسخف ما أراد. قالوا وهو من ولد علي بن المهدي بن أبي جعفر المذكور المنصور الخليفة العباسي ومن بديع تشبيهه ما قاله في غلام رآه وفي يده غصن عليه زهر:
غصن بان بدا وفي اليد منه ... غصن فيه لؤلؤ منظوم
فتحيرت بين غصنين في ذا ... قمر طالع وفي ذا نجوم
ويقال إن الملحي البغدادي الشاعر كتب إلى ابن سكرة الهاشمي:
يا صديقاً أفادنيه زمان ... فيه ضيق بالأصدقاء ونصح
بين شخصي وشخصك بعد ... غير أن الخيال بالوصل سمح
إنما أوجب التباعد منا ... أنني سكر وأنك ملح
فكتب إليه ابن سكرة:
هل يقول الخليل يوماً لخل ... شاب منه محض المودة قدح
بيننا سكر فلا تفسدنه ... أم يقول بيني وبينك ملح؟
هكذا صوابه. أعني إن الأبيات الأولى لابن سكرة، والبيتين الأخيرين للملحي، خلاف ما رأيته في بعض التواريخ، حيث عكس ذلك، وهو غير مناسب لمفهوم نظمهما. ولابن سكرة أيضاً في الشباب:
لقد بان الشباب وكان غصناً ... له تمر وأوراق تظلك
وكان البعض منك فمات فاعلم ... متى ما مات بعضك مات كلك
وله أيضاً من أبيات له في هجاء بعض الرؤساء:(2/321)
ولا تقل ليس في عيب ... قد تقذف الحرة العفيفه
والشعر نار بلا دخان ... وللقوافي رؤى لطيفه
كم من ثقيل المحل شام ... هوت به أحرف خفيفه
لو هجي المسك وهو أهل ... لكل مدح لصار جيفه
وله:
قيل ما أعددت للبر ... د فقد جاء بشدة
قلت: دراعة عري ... تحتها جية رعدة
وله في الشتاء الكافات المشهورة.
وفي إعراضها قلت مشيراً إلى نصحتين: الأولى لبني الدنيا الراغبين، والثانية لبني الدين الزاهدين:
وهي كانون مصطل، ففصل ... الشتاء يا صاح بالبرد مقبل
وأوله في الفجر سبع لشوكه ... وشمس تجدي لذي شوى وتوكل
بأول كانونين خامس عشرة ... تكون فإن كنت أنصحت فقل
فخذ عشر كافات خلت عن خلاعة ... على الفسق تغري الفاسقين وتحمل
كل الكبش واكتس بالكسافي أريكة ... للحلا زكت والكبش عندك يكمل
ولكن أولى النصح ما فيه قلته ... وإن لم أكن ممن إذا قال يفعل
تمسكن وكن في كن كونك ناسكاً ... وكل كلما يلقى إليك التوكل
تأس بمسكين وواس بممكن ... وفكر بمن فوق المزابل ينزل
وللنفس قل هل من نعيم ورفعة ... كمثل جنان هم بها منك أفضل
بخمس ما بين سابقون بخيرها ... لهم في علاها فوق رأسك منزل
وهذا إذا صادفت سعد عناية ... وقرب بها باقون من تلك يدخل
قصور وحور لا تطاق صفاتها ... وكل نعيم ما له العقل يعقل
إلهي بجاه المصطفى لا حرمتنا ... نعيماً بها يا نعم مولى مؤمل
وصل على تاج العلى سيد الورى ... رسول كريم لا يساويه مرسل
وفي السنة المذكورة توفي الفقيه العلامة الزاهد الورع الخاشع البكاء المتواضع، أبو بكر الأودني، شيخ الشافعية ببخارى. ومن غرائب وجوهه في المذهب أن الربا حرام في كل شيء، فلا يجوز بيع شيء بجنسه متفاضلاً.
وفيها توفي أبو محمد يوسف بن أبي سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي النحوي(2/322)
اللغوي الإخباري الفاضل ابن الفاضل، قد تقدم ذكر أبيه في سنة ثمان وستين مع ذكر شيء من فضائله، وهو السيرافي المشهور بين النحاة، وهذا ابنه كان عالماً بالنحو، وتصدر في مجلس أبيه بعد موته، وخلفه على ما كان عليه، وكمل كتاب أبيه الذي سماه " الإقناع " وهو كتاب جليل نافع في بابه. فإن أباه كان قد شرح كتاب سيبويه، وظهر له بالإطلاع والبحث في حال التصنيف ما لم يظهر لغيره من المعاني، ثم صنف " الإقناع " وكأنه ثمرة استفادته حال البحث والتصنيف، ومات قبل إكماله فكمله ولده المذكور. وليوسف عدة كتب، منها: " شرح أبيات كتاب سيبويه " وهو في غاية من الجودة. و " شرح أبيات كتاب إصلاح المنطق "، وأجاد فيه أيضاً، وكذلك " شرح أبيات المجاز " لأبي عبيدة، و " أبيات معاني الزجاج "، و " أبيات غريب أبي عبيد القاسم بن سلام " وغير ذلك. وكانت كتب اللغة تقرأ عليه مرة رواية، ومرة دراية، و " كتاب البارع " للمفضل بن سلمة في عدة مجلدات هذب " كتاب العين " في اللغة المنسوب إلى الخليل، وأضاف إليه من اللغة طرفاً صالحاً وعن عبد السلام البصري خازن دار العلم ببغداد قال: كنت في مجلس أبي سعيد السيرافي وبعض أصحابه يقرأ عليه إصلاح المنطق لابن السكيت فمر ببيت جميل:
ومطوية الأتراب أما نهارها ... فمكث وأما ليلها فذميل
وقال أبو محمد يوسف بومطوية بالخفض أصلح. ثم التفت إلينا وقال: هذه وأورب فقلت: أطال الله بقاء القاضي، إن قبله ما يدل على الرفع، فقال: ما هو. قلت:
إياك في الله الذي أنزل الهدى ... والنور والإسلام عليك دليل
ومطوية الأتراب، قال فعاد وأصلحه، وكان ابنه أبو محمد حاضر، فتغير وجهه لذلك، ونهض لساعته إلى دكانه، فباعه واشتغل بالعلم إلى أن برع فشرح كتاب المنطق وحدث من وراءه بعمل هذا الشرح، وبين يديه أربعمائة ديوان، ولم يزل أمره على سداد واشتغال وإفادة إلى أن توفي، وكان ديناً صالحاً ورعاً متقشفاً رحمه الله.
؟؟
ست وثمانين وثلاثمائة
فيها توفي شيخ الإسلام، قدوة الأولياء الكرام أبو طالب المكي صاحب قوت القلوب محمد بن علي بن عطية الحارثي، نشأ بمكة، وتزهد، ولقي الصوفية، وصنف ووعظ، وكان في البداية صاحب رياضة ومجاهدة، وفي النهاية صاحب أسرار ومشاهدة وأستاذه الشيخ الكبير العارف بالله الشهير أبو الحسن بن سالم البصري.
وفيها توفي العزيز بالله أبو منصور، نزار بن المعز بالله معد بن المنصور إسماعيل القاسم بن محمد بن المهدي العبيدي الباطن، صاحب المعز ومصر والشام، ولي الأمر بعد(2/323)
أبيه. وكان شجاعاً جواداً حليماً قريباً من الناس، لا يحب سفك الدماء، له أدب وشعر، وكان مغرماً بالصيد، وقام بعده ابنه الحاكم.
وذكر بعض المؤرخين أنه هو الذي اختط أساس الجامع بالقاهرة مما يلي باب الفتوح، وفي أيامه بني قصر البخرة بالقاهرة الذي لم يبن مثله شرقاً ولا غرباً، وقصر الذهب، وجامع القرافة. وقيل: كتب نزار المذكور إلى المرواني صاحب الأندلس كتاباً يسبه فيه ويهجوه، فكتب إليه: أما بعد فإنك قد عرفتنا، فهجوتنا، ولو عرفتك لأجبتك، والسلام فاشتد على نزار، وأقحم عن الجواب وأكثر أهل العلم بالأنساب لا يصححون نسب العبيديين إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ما حكاه بعضهم.
قلت وسيأتي ذكر الطعن في نسبه في محضر فيه خطط جماعة من الأئمة المشهورين في العراق، وفي مبادي ولاية العزيز المذكور صعد المبرد يوم الأحد فوجد هناك ورقة، فيها مكتوب.
إنا سمعنا نسباً منكراً ... يتلى على المنبر في الجامع
إن كنت فيما تدعي صادقاً ... فاذكر ما بعد الأب الرابع
وإن ترد تحقيق ما قلته ... فأنسب لنا نفسك كالطائع
وفيها توفي أبو عبد الله محمد بن حسن الأسترابادي، ختن أبي بكر الإسماعيلي، وكان صاحب وجه في المذهب، وله مصنفات، وكان أديباً بارعاً مفسراً مناظراً. روى عن أبي نعيم عبد الملك بن عدي الجرجاني، وعاش خمساً وسبعين سنة، وتوفي يوم عرفة رحمه الله تعالى.
سنة سبع وثمانين وثلاثمائة
فيها توفي الشيخ العارف المنطق بالحكم والمعارف، والحبر الواعظ الإمام السيد جليل، قدوة الأنام، سني الأحوال الذي على فضله الأفاضل مجمعون، عالي المقام أبو حسين محمد بن أحمد المعروف بابن شمعون.
قال الإمام الحافظ أبو بكر بن إسماعيل: أبو الحسين الواعظ المعروف بابن شمعون كان واحد دهره، وفريد عصره في الكلام على الخواطر والإشارات، ولسان الوعظ دون ناس حكمه، وجمعوا كلامه، قال: وكان بعض شيوخنا إذا حدث عنه قال: حدثنا الشيخ جليل المنطق بالحكمة أبو الحسين بن شمعون.(2/324)
وقال الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي: محمد بن أحمد بن شمون لسان الوقت، والمرجوع إليه في آداب الظاهر، يذهب إلى أشد المذاهب، وهو إمام التكلم على هذا الشأن في الوقت، والمعبر عن الأحوال بألطف بيان، مع ما يرجع إليه من صحة الاعتقاد، وصحبة الفقراء.
وروى الحافظ أبو القاسم ابن عساكر بسنده إلى أبي بكر الأصفهاني خادم الشيخ أبي بكر الشبلي قال: كنت بين يدي الشبلي في الجامع، يوم الجمعة، فدخل أبو الحسين ابن شمعون وهو صبي على رأسه قلنسوة فجاز علينا، وما سلم، فنظر الشبلي إلى ظهره وقال: يا أبا بكر: أتدري أي شيء لله تعالى في هذا الفتى من الذخائر.
وبسند الحافظ أبي القاسم إلى النجيب عبد الغفار بن عبد الواحد الأموي قال: كان القاضي أبو بكر الأشعري، وأبو حامد يقبلان يد ابن شمعون يعني الإمامين ناصر السنة وقامع البدعة شيخ الأكابر من أئمة الأصول الجهابذة الحذاق، والإمام الكبير السيد الشهير شيخ طريقة العراق. قال: وكان القاضي - يعني الباقلاني - يقول: ربما خفي علي من كلامه بعض شيء لدقته.
وروى الحافظ أبو القاسم أيضاً بسنده: إنه كان في أول عمره ينسخ بأجرة، ويعول بأجرة نسخه على نفسه وعلى أمه، وكان كثير البر لها فجلس يوما ينسخ وهي جالسة بقربه فقال لها: أحب أن أحج، قالت: يا ولدي، كيف يمكنك الحج، وما معك نفقة، ولا لي ما أنفقه. إنما عيشنا من أجرة هذا النسخ، وغلب عليها النوم، فنامت، وانتبهت بعد ساعة فقالت: يا ولدي، حج، فقال لها: منعت قبل النوم، وأذنت بعده. فقالت: رأيت الساعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: دعيه، فإن الخيرة له في حجه في الآخرة والأولى. ففرح، وباع من دفاتره ماله قيمة، ودفع إليها من ثمنها نفقتها، وخرج مع الحجاج، فأخذ العرب الحاج، وأخذ في الجملة.
قال ابن شمعون: فبقيت عرياناً، فوجدت مع رجل عباءة كانت على عدل، فقلت له: هب لي هذه العباءة أستر نفسي بها، فقال: خذها، فجعلت نصفها على وسطي، ونصفها على كتفي وكان عليها مكتوب: يا رب سلم مبلغ رحمتك، يا أرحم الراحمين. وكنت إذا غلب علي الجوع، ووجدت قوماً يأكلون، وقفت أنظر إليهم، فيدفعون إلي كسرة، فأقنع بها ذلك اليوم. ووصلت إلى مكة، فغسلت العبادة، وأحرمت بها، وسألت أحد بني شيبة أن يدخلني البيت. وعرفته فقري، فأدخلني بعد خروج الناس، وأغلق الباب، فقلت: اللهم(2/325)
أنك بعلمك غني عن إعلامي بحالي، اللهم ارزقني معيشة أستغني بها عن سؤال الناس؟ فسمعت قائلاً يقول من ورائي: اللهم إنه ما يحسن أن يدعوك، اللهم ارزقه عيشاً بلا معيشة. فالتفت فلم أر أحداً، فقلت: هذا الخضر أو أحد الملائكة الكرام على الجميع السلام قال: فأعدت القول، فأعاد الدعاء، فأعدت، فأعاد ثلاث مرات وعدت إلى بغداد، وكان الخليفة قد حرم جارية من جواريه، وأراد إخراجها من الدار، فكره ذلك إشفاقاً عليها. قال أبو محمد ابن السني: فقال الخليفة: اطلبوا رجلاً مستوراً، يصلح أن يزوج هذه الجارية. فقال بعض من حضر: قد وصل ابن شمعون من الحج، وهو يصلح لها، فاستصوب الجماعة قوله، وتقدم بإحضاره وبكل حضار الشهود فأحضروا، وزوج بالجارية، ونقل معها من المال والثياب والجواهر ما يحمل بالملوك. وكان ابن شمعون يجلس على الكرسي للوعظ فيقول: أيها الناس، خرجت حاجاً، وكان من حالي كذا وكذا وشرح حاله جميعه وأنا اليوم علي من الثياب ما ترون، ووطئتي ما تعرفون، ولو وطئت على العتبة تألمت من الدلال، ونفسي تلك.
وروى الحافظ والخطيب عنه: إنه خرج من مدينة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاصداً بيت المقدس، وحمل في صحبته تمراً صيحانياً، فلما وصل إلى بيت المقدس طالبته نفسه بأكل الرطب، فأقبل عليها باللائمة، وقال: من أين لنا في هذا الموضع رطب. فلما كان وقت الافطار، عمد إلى التمر ليأكل منه، فوجده رطباً صيحانياً، فأكل منه شيئاً، ثم عاد إليه من الغد، فوجده تمرا على حالته، فأكل منه، أو كما قال.
وكان له حسن الوعظ، وحلاوة الإشارة، ولطف العبارة. أدرك جماعة من جلة المشايخ، وروى عنه منهم الشيخ الكبير العارف أستاذ الطريقه، ولسان الحقيقة، وبحر المعارف أبو بكر الشبلي، وروى عن أبي بكر بن داود وجماعة، وأملى عدة مجالس، وروى الصاحب بن عباد قال: سمعت ابن شمعون يوماً، وهو على الكرسي في مجلس وعظ يقول: سبحان من أنطق باللحم، وبصر بالشحم، وأسمع بالعظم إشارة إلى اللسان والعين والأذن وهذه عن لطائف الاشارات.
ومن كلامه أيضاً: رأيت المعاصي نزلة، فتركتها مروءة، فاستحالت ديانة. وله كل معنى لطيف كان لأهل العراق فيه اعتقاد كثير، ولهم به غرام شديد، وإياه عنى الحريري في المقامة الحادية والعشرين وهي الرازية بقوله في أوائلها: رأيت ذات بكرة زمرة أسرر تمرات،. وهم منتشرون انتشار الجراد، مستنون استنان الجياد، ومتواصفون واعظاً يقصدونه، ويجعلونه ابن شمعون دونه وكان مولده سنة ثلاثمائة، وتوفي رحمه الله في نصف ذي القعدة يوم الجمعة، وقيل ذي الحجة من السنة المذكورة، ولم يخلف ببغداد بعده(2/326)
مثله رحمه الله.
وفيها توفي أبو طاهر ابن الفضل بن محمد بن إسحاق بن خزيمة السلمي.
والفقيه الإمام أبو عبد الله ابن بطة الحنبلي.
ثمان وثمانين وثلاثمائة
فيها توفي الحافظ أبو بكر، أحمد بن عبدان الشيرازي الصيرفي، كان من كبار المحدثين.
وفيها توفي الحافظ أبو عبد الله: حسيين بن أحمد بن عبد الله بن بكير البغدادي الصيرفي. كان عجباً في حفظ الحديث وسرده.
وفيها توفي الإمام الكبير الخير الشهير أبو سليمان الخطابي أحمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب البستي الشافعي. كان فقيهاً أديباً محدثاً، وله التصانيف البديعة، منها " أعلام السنن " في شرح البخاري، و " معالم السنن " في شرح سنن أبي داود، و " غريب الحديث "، و " كتاب إصلاح غلط المحدثين "، و " كتاب الشرح "، و " كتاب بيان الدعاء " وغير ذلك، سمع بالعراق أبا علي الصفار، وأبا جعفر الرزاز وغيرهما.
وروى عنه الحاكم أبو عبد الله بن البيع النيسابوري، وعبد الغفار بن محمد الفارسي، وأبو القاسم عبد الوهاب بن أبي سهل الخطابي، وذكر صاحب يتيمة الدهر، وأنشد له:
وما غمة الإنسان في شقة النوى ... ولكنها والله في عدم الشكلي
وإلى غريب بين بست وأهلها ... وإن كان فيها أسرتي وبها أصلي(2/327)
قلت يعني بالشكلي: المشاركة في أوصافه، وأسرة الرجل بالضم رهطه والغمة بالضم الكربة. وأنشد له أيضاً:
فسامح ولا تستوف حقك كله ... وأبق فلم يستوف قط كريم
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم
قلت هكذا يحفظ ذميم، وفي الأصل الذي وقفت عليه من نقل ابن خلكان سليم، ومعناه غير صحيح، فإن الطرفين إما إفراط، وإما تفريط. قالوا: وكان يشبه في عصره بأبي عبيد القاسم بن سلام علماً وأدباً وزهداً وورعاً وتدريساً وتأليفاً. والبستي بضم الموحدة، وسكون السين المهملة، والمثناة من فوق نسبة إلى بست: مدينة من بلاد كابل، بين هراة وغزنة، كثيرة الأشجار والأنهار..
قال الحاكم أبو عبد الله: سألت أبا القاسم المظفر بن طاهر عن اسم أبي سليمان الخطابي: أحمد أو حمد؟ فقال: سمعته يقول اسمي الذي سميت به حمد، ولكن الناس كتبوا أحمد، فتركته عليه.
وقال أبو القاسم المذكور: أنشدنا أبو سليمان لنفسه:
ما دمت حياً فدار الناس كلهم ... فإنما أنت في دار المداراة
من يدر دارى، ومن لم يدر سوف يرى ... عما قليل نديماً للندامات
قلت داري قوله هذا: مأخوذ من القول السائر في ألسنة الناس، متضمناً للجناس: " دارهم ما دمت في دارهم " قلت: وهذا الإطلاق الذي أطلقه وأجمله، أرى فيه تقييداً وتفصيلاً، وقد خطر لي وقت وقوفي على هذين البيتين معارضتهما ببيتين، فقلت:
إن كنت بالناس مشغولاً فدارهم ... أو كنت بالله ذا شغل وهمات
فلا تعلق سوى بالله ذائقة ... إن المهيمن كافيك المهمات
وفيها توفي الحاتمي محمد بن الحسن بن المظفر الكاتب اللغوي البغدادي، أحد الأعلام المشاهير المطلعين المكثرين. أخذ الأدب عن أبي عمرو الزاهد المعروف بالمطرز غلام ثعلب. روى عنه وعن غيره أيضاً، وأخذ عنه جماعة من النبلاء، منهم القاضي أبو قاسم التنوخي، وله الرسالة الحاتمية التي شرح فيها ما جرى بينه وبين المتنبي من إظهار سرقاته وإبانة عيوب شعره، ولقد دلت رسالته على غزارة مادته وتوقر إطلاعه، وسماها(2/328)
الموضحة، وهي كثيرة في اثنتي عشرة كراسة، شهدت لصاحبها بالفضل الباهر، مع سرعة الاستحضار، وإقامة الشاهد، وله " كتاب حلية المحاضرة " يدخل في مجلدين و " الحاتمي " نسبة إلى بعض أجداد له اسمه حاتم.
حكى في أول رسالته المذكورة السبب الحامل له على إنشائها، فقال: لما ورد أحمد بن الحسين المتنبي مدينه السلام منصرفاً عن مصر ومتعرضاً للوزير أبي محمد المهلبي بالتخيم عليه، والمقام لديه، التحف رداء الكبر، وأرسل ذيول التيه، ونأى بجانبه استكباراً وثنى عطفه وازدراءاً. وكان لا يلاقي أحداً إلا أعرض عنه بها، وزخرف عليه القول تمويهاً، تخيل عجباً إليه أن الأدب مقصور عليه، وأن الشعر بحر لم يرد به غيره، وروض لم ير نواره سواه، فهو يجني جناه، ويقطف قطوفه دون من تعاطاه، وكل مجرى في الخلاء يستر، ولكل نبأ مستقر، فغير جار على هذه الوتيرة مديدة، أحرز به رسن البغي فيها، فظل يموج في تيهه حتى إذ تخيل لأنه السابق الذي لا يجارى في مضمار، ولا يساوى عذاره بعذار، وأنه رب الكلام ومفضض عذارى الألفاظ، ومالك رق الفصاحة. نثراً ونظماً، وقريع دهره الذي لا يقارع فضلاً وعلماً، وثقلت وطأته على كثير ممن وسم نفسه بميسم الأدب، وأنيط من مائه أعذب مشرب، فطأطأ بعض رأسه، وخفض بعض جناحيه، وظاهر من أعلى التسليم له طرفة. وساء معز الدولة أحمد بن بويه، وقد صورت حاله أن يرد حضرته - وهي دار الخلافة ومستقر العز، بيضة الملك - رجل صدر عن حضرته سيف الدولة ابن حمدان، وكان عدواً مبايناً لمعز الدولة، فلا يلقى أحداً بمملكته يساويه في صناعته، وهو ذو النفس الأبية والعزيمة الكسروية، والهمة التي لو هممت بالدهر لما قصرته بالإحراز صروفه، ولا دارت عليهم دوائره وحنوقه، وتخيل الوزير المهلبي رجماً بالغيب أن أحداً لا يستطيع مساجلته، ولا يرى نفسه كفوءاً له، ولا يصلح بأعيانه فضلاً عن التعلق بشيء من معانيه، ولم يكن هناك مزية يتميز أبو الطيب بها تميز الهجين الجذع من أبناء الأدب، فضلاً عن العتيق القارح إلا الشعر، ولعمري إن افتاته كانت فيه ريطبة ومجانبة عذبة له منيعاً عواره، معلماً أظفاره، ومذيعاً أسراره، وناشراً مطاويه، ومنقذاً من نظمه ما تسمح فيه، ومتوخياً أن يجمعنا دار يشار إلى ربها، فأجري أنا وهو في مضمار، ويعرف فيه السابق من المسبوق، واللاحق من المقصر عن اللحوق، وكنت إذ ذاك ذا سحاب مدرار، وزند في كل فضيلة ودار، وفظيع يناسب صفو العقار، إذا وصبت بالحباب ووسبت به سرائر الأكواب، والخيل تجري يوم الرهان بإقبال أربابها لا بعروقها ونصابها، ولكل امرىء حظ من مواتاة زمانه،(2/329)
يقضى في ظله أرب، وبذلك مطلب، ويتوسع مراد ومذهب، حتى إذا عدت عن اجتماعنا عواراً من الأنام قصدت مستقره، وتحتي بغلة سفوا تنظر عن عيني بارويتشوف بمثل قادمتي نسر، كأنني كوكب وقاد، من تحته عمامة، يقتادها زمام الجنوب، ومن بين يدي عدة من الغلمان الورقة مماليك وأحرار، يتهافتون تهافت فريد الدر عن أسلاكه، ولم أذكر هذا تبجحاً ولا تكبراً بل لأن أبا الطيب شاهد جميعه ولم يرعه روعته، ولا استنطفه زبرجه، ولا زادته تلك الحالة الجميلة التي ملأت طرفه وقلبه إلا عجباً بنفسه وإعراضاً عني بوجهه، فألفيت هناك فتية تأخذ عنه شيئاً من شعره، فحين أوذن بحضوري، واستؤذن عليه لدخولي، نهض عن مجلسه مسرعاً، ووارى شخصه مستخفياً، فأعجلته نازلاً عن البغلة - وهو يراني - ودخلت، فأعظمت الجماعة قدري، وأجلستني في مجلسه، وإذا تحته أحلاق عناقد الحب عليها الحوادث فهي رسوم دائرة، وأسلاك متناثرة، فلم يكن إلا ريثما جلست، فنهضت، ووفيته حق السلام، غير مشاح له في القيام، لأنه إنما اعتمد نهوضه عن الموضع لئلا ينهض إلي، والغرض في لقائه غير ذلك، وحين لقيته تمثلت بقول الشاعر:
وفي الممشى إليك علي عار ... ولكن الهوى منع القرارا
فتمثل بقول الآخر:
يسقى رجال، ويسقى آخرون بهم ... ويسعد الله أقواماً بأقوام
وليس رزق الفتى من فضل حليته ... لكن جدود وأرزاق بأقسام
كذلك الصيد بحرمة الرامي المجيد وقد ... يرمي فيحرزه من ليس بالرامي
وإذا به لابس سبعة أقبية، كل قباء منها لون، وكنا في وغرة القيظ وجمرة الصيف، وفي يوم تكاد ودائع الهامات تسيل فيه، فجلست مستوفزاً، وجلس محتقراً، وأعرض عني لاهياً، وأعرضت عنه ساهياً، أؤنب نفسي في قصده، وأستخف رأيها في تكفف ملاقاته بعز هيئته، ثانياً عطفه، لا يعيرني طرفه، وأقبل على تلك الرغفة التي بين يديه، وكل يومىء إليه، ويرجي بلحظه، ويشير إلى مكاني بيده، ويوقظه من سنته وجهله، ويأتي الازدراء نفاراً وعتواً واستكباراً، ثم أيان يثني جانبه إلي، ويقبل بعض الإقبال علي، فأقسمت بالوفاء والكرم فإنهما من محاسن القسم أنه لم يزد علي أن قال: ايش خبرك. فقلت: بخير، ولا ما جنيت على نفسي من قصدك، ووسمت به قدري من ميسم الذل بزيارتك، وتجشمت رأيي من السعي إلى مثلك، ممن لم تهذبه تجربة، ولا أدبته بصرة، ثم تحدرت عليه تحدر لسيل إلى قوارة الوادي، وقلت له: أبن لي مم تيهك وخيلاؤك وعجبك وكبرياؤك؟ وما الذي يوجب ما أنت عليه من الذهاب بنفسك. والرمي بهمتك إلى حيث يقصر عنه باعك، لا يطول اليك ذراعك؟ هل هاهنا نسب تنتسب إلى المحدثة، أو شرف علقت بأذياله، أو(2/330)
سلطان تسلطت بعزه، أو علم يقع الإشارة إليك به. إنك لو قدرت نفسك بقدرها، أو وزنتها بميزانها، ولم يذهب بك البتة مذهباً لما عددت أن تكون شاعراً مكتسباً فامتقع لونه، وغض بريقه، وجعل يلين في الاعتذار، ويرغب في الصفح والاعتذار، ويكرر الإيمان أنه لم يتبين، ولا اعتمد التقصير في. فقلت: يا هذا، إن قصدك شريف في نسبه تجاهلت نسبه، أو عظيم في أدب صغرت أدبه، أو متقدم عند سلطان حفظت منزلته، فهل المجد تراث لك دون غيرك؟ كلا والله، لكنك مددت الكبر ستراً على نقصك، وضربته رواقاً حائلاً دون مباحثك، فعاود الاعتذار نقلت: لا عذر لك مع الإصرار، وأخذت الجماعة في الرغبة أني في مباشرته وقبول عذره واستعمال الأناة الذي تستعملها الحرمة عند الحفيظة، وأنا على شاكلة واحدة في تقريعه وتوبيخه، وذم خليقته، وهو يؤكد القسم أنه لم يعرفني معرفة ينتهز معها الفرصة في قضاء حقي، فأقول لم يستأذن عليك باسمي ونسبي، أما في هذه الجماعة من كان يعرفني لو كنت جهلتني؟ وهب أن ذلك كذلك، ألم تر شاربي. أما شممت عطر نشري؟ ألم تميز في نفسك عن غيرك. وهو في أثناء ما أخاطب به وقد ملأت سمعه تأنيباً وتفنيداً يقول: خفف عليك، أكفف عن عزتك، اردد من صورتك، فإن الأناة من شيم مثلك فأصحب حينئذ جانبي له، يعني: انقاد بعد صعوبته، ولانت عريكتي في يده، واستحييت من تجاوز الغاية التي انتهيت إليها في معاتبة، وذلك بعد أن روضته رياضة الصعب من الإبل، وأقبل علي معظماً، وتوسع في تقريظي مفخماً، وأقسم أنه ينازع منذ ورد العراق ملاقاتي، ويعد نفسه بالاجتماع معي، ويسومها التعلق بأسباب مودتي، فحين استوفى القول في هذا المعنى استأذن عليه فتى من الفتيان الطالبين الكوفيين، فأذن له، فإذا حدث مرهف الأعطاف يمثل به نشوة الصبي، فتكلم، فأعرب عن نفسه، وإذا لفظ رخيم، ولسان حلو وأخلاق فكهة، وجواب حاضر وثغر باسم في إناة الكهول ووقار المشايخ، فأعجبني ما شاهدته من شمائله، وملكني ما تبئنته من فضله، فجازاه أبياتاً. ومن ها هنا كان افتتاح الكلام بينهما في إظهار سرقاته ومعايب شعره.
قلت هذا ما نقله ابن خلكان مع خلل في ألفاظ يسيرة من نقله، قال: وقد طال الكلام، لكنه لزم بعضه بعضاً، فما أمكن قطعه وهذه الرسالة تشتمل على فوائد جمة، فإن كان كما ذكر أنه أبان له جميعها في ذلك المجلس، فما هذا الاطلاع عظيم. قلت: والأمر على ما ذكر ابن خلكان، أعني إن كان هذا الكلام صدر عنه في مجلس واحد فقد أبدع ما صنع، وجمع من الفوائد.
تسع وثمانين وثلاثمائة
فيها توفي الإمام الكبير الشهير أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني المالكي، شيخ المغرب، وإليه انتهت رئاسة المذهب. قال القاضي عياض: حاز رئاسة الدين والدنيا،(2/331)
رحل إليه من الأقطار، ونجب أصحابه، وكثر الآخذون عنه، وهو الذي لخص المذهب وملأ البلاد من تآليفه، وكان يسمى مالكاً الأصغر.
وفيها توفي أبو الطيب ابن غلبون الحلبي، المقرىء الشافعي، صاحب الكتب في القراءات.
وفيها توفي أبو الهيثم الكشميهني محمد بن مكي المروزي، راوية البخاري عن الفربري، وله رسائل أنيقة. توفي يوم عرفة رحمه الله.
تسعين وثلاثمائة
فيها توفي ابن فارس اللغوي، أبو الحسين أحمد بن فارس الرازي. كان إماماً في علوم شتى. وخصوصاً اللغة فإنه أتقنها، وألف " كتاب المجمل " فيها، جمع على اختصاره شيئاً كثيراً، وله " كتاب حلية الفقهاء "، ورسائل أنيقة، ومسائل في اللغة تفانى بها الفقهاء، ومنه اقتبس الحريري صاحب المقامات ذلك الأسلوب ووضع المسائل الفقهية في المقامة الطيبية وهي مائة مسألة وكان مقيماً بهمدان، وعليه اشتغل بديع الزمان الهمداني صاحب المقامات المتقدمة على مقامات الحريري، وله أشعار جيدة فمنها قوله:
وقالوا: كيف حالك قلت: صبراً ... يقضي حاجة وتفوت حاج
إذا ازدحمت هموم الصدر قلنا ... عسى يوماً يكون بها انفراج
وله شعر:
مرت بنا هيفاء مجدولة ... تركة تنمى لتركي
تريق بطرف فاتر فاتن ... أضعف من حجة نحوي(2/332)
وقوله:
إذا كنت في حاجة مرسلاً ... وأنت بها كلف مغرم
فارسل حكيماً ولا توصه ... وذاك الحكيم هو الدرهم
وغير ذلك من أشعار حذفتها للاختصار.
وفيها توفيت أمة الإسلام بنت القاضي أحمد بن كامل البغدادية، كانت دينة حافظه فاضلة، رحمها الله تعالى.
وفيها توفي الحافظ أبو زرعة الكشي محمد بن يوسف الجرجاني.
وفيها توفي القاضي أبو الفرج النهرواني، المعافى بن زكريا الجريري، تفقه على مذهب محمد بن جرير الطبري، وسمع من البغوي وطبقته. قال الخطيب: كان من أعلم الناس في وقته بالفقه والنحو واللغة وأصناف الآداب. وله شعر حسن، ومنه ما روى القاضي أبو الطيب:
ألا قل لمن كان لي حاسداً ... أتدري على من أست الأدب
أسأت على الله في فعله ... لأنك لم ترض لي ما وهب
فجازاك عني بأن زادني ... وشد عليك وجوه الطلب
وذكره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في " كتاب طبقات الفقهاء " وأثنى عليه، ثم قال وأنشدني قاضي بلدنا أبو علي الداودي، قال: أنشدني أبو الفرج لنفسه:
أأقتبس الضياء من الضباب ... وألتمس الشراب من السراب
أريد من الزمان النذل بدلاً ... وأربأ من جنى سلع وصاب
أرجي أن ألاقي لاشتياقي ... خيار الناس في زمن الكلاب
يعني ما لا يرى العسل، ومن شعره أيضاً:
مالك العالمين ضامن رزقي ... فلماذا أملك الخلق رقي
قد قضى لي بما علي ومالي ... خالقي جل ذكره قبل خلقي
صاحب البذل والندى في يساري ... ورفيقي في عسرتي حين رفقي(2/333)
فكما لا يرد عجز رزقي ... فكذا لا يجر رزقي حذقي
وله عدة تصانيف ممتعة في الأدب و " كتاب الجليس والأنيس " تصنيفه. وروى عن الفقيه عبد الباقي أنه كان يقول: إذا حضر القاضي أبو الفرج فقد حضرت العلوم كلها، ولو أوصى رجل بشيء أن يدفع إلى أعلم الناس لوجب أن يدفع إليه.
إحدى وتسعين وثلاثمائة
فيها توفي الحسين المعروف بابن الحجاج الشاعر، له ديوان شعر في عشر مجلدات، تولى حسبة بغداد، وقيل إنه عزل بأبي سعيد الاصطخري الإمام الشافعي. ومن شعره:
يا صاحبي استيقظا من رقدة ... تزري على عقل اللبيب الأكيس
هذي المجرة والنجوم كأنها ... نهر تدفق في حديقة نرجس
وفيها توفي الفقيه إمام أهل الظاهر في عصره أبو الحسن عبد العزيز بن أحمد الخوزي بالخاء المعجمة والزاي قال عبد الله الضميري: ما رأيت فقيهاً أنظر منه ومن أبي حامد الأسفراييني الشافعي.
وفيها توفي حسام الدولة مقلد بن المسيب بن رافع العقيلي، صاحب الموصل تملكها بعد أخيه، قتله غلام له، ورثاه الشريف الرضي وأبو القاسم بن أحمد الشيباني.
اثنتين وتسعين وثلاثمائة
فيها زاد أمر الشطار، وأخذوا الناس ببغداد نهاراً جهاراً، وقتلوا وبدعوا وأضلوا بعد ذلك ببعض، وكثروا، وصار فيهم هاشميون، فسير بهاء الدولة وكان غائباً عميد الجيوش إلى العراق ليسوسها، فقتل وصلب ومنع السنة والشيعة من إظهار مذهب، وقامت الهيبة.
وفيها توفي الفقيه أبو محمد عبد الله بن إبراهيم المغربي، وكان عالما بالحديث، رأساً في الفقه. قال الدارقطني: لم أر مثله.
وفيها توفي أبو عبد الرحمن بن أبي شريح: محمد الأنصاري، محدث هراة.
وفيها توفي أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي النحوي. كان إماما في العربية، صاحب تصانيف في النحو والعروض والقوافي، وشرح ديوان المتنبي، لازم أبا علي(2/334)
الفارسي، وكان أبوه مملوكاً رومياً. وسئل المتنبي عن قوله " صبرت أم لم تصبرا " في ثبوت الألف مع لم الجازمة، فقال: لو كان أبو الفتح هنا لأجابك، يعني ابن جني. قلت: وهذه الألف بدل من نون التأكيد الخفيفة، أصله " أم لم تصبرن " ومنه قول الأعشى: ولله فاعبدا، أصله: فاعبدن. ولابن جني تصانيف كثيرة مفيدة، منها " التنبيه "، و " المهذب " و " اللمع ". و " التبصرة "، ويقال إن أبا إسحاق أخذ تسمية كتبه منه.
وفيها توفي الوليد بن أبي بكر الأندلسي الحافظ. رحل وروى عن ابن رشيق. وعلي بن الخطيب وخلق، قال ابن الفرضي: كان إماماً في الفقه والحديث، عالماً باللغة والعربية، لقي في الرحلة أزيد من ألف شيخ.
ثلاث وتسعين وثلاثمائة
فيها توفي الحسن بن الضبي المعروف بابن وكيع الشاعر المشهور، ذكره الثعالبي وقال: كان شاعراً بارعاً وعالماً جامعاً، قد برع على أهل زمانه، فلم يتقدمه أحد في أوانه وله كل بديعة، يسخر الأوهام، ويستعبد الأفهام، وله ديوان شعر جيد، وله كتاب بين في سرقات المتنبي سماه المصنف ومن شعره:
لقد قنعت همتي بالخمول ... وصدت عن الرتب العالية
وما جهلت طعم طيب العلا ... ولكنها تؤثر العافية
قال بعض الفقهاء: أنشدت الشيخ أبا الفتح القضاعي المدرس بتربة الشافعي في القرافة بيتي ابن وكيع المذكورين، فأنشدني لنفسه على البديهة:
بقدر الصعود يكون الهبوط ... فإياك والرتب العالية
وكن في مكان إذا ما سقطت ... تقوم رجلاك في عافية
ولابن وكيع أيضاً:
سلا عن حبك القلب المشوق ... فما يسبو إليك ولا يتوق
جفاؤك كان عنك لنا عزاء ... وقد يسلى عن الولد العقوق
وفيها توفي الإمام أبو نصر، صاحب الصحاح الجوهري إسماعيل بن حماد التركي اللغوي أحد أركان اللغة. قيل: كان في جودة الخط في طبقة ابن مقلة ومهلهل، أكثر الترحال، ثم سكن نيسابور، وقيل كان متردياً من سطح بيت بنيسابور، وقيل إنه تسود. وعمل له شبه جناحين وقال: أريد أن أطير، فطار، فهلك رحمه الله تعالى.
وفيها توفي الطائع له عبد الكريم بن المطيع لله الفضل بن المقتدر جعفر بن(2/335)
المعتضد أحمد بن الموفق طلحة بن المتوكل العباسي. كانت دولته أربعاً وعشرين سنة، خلع من الخلافة في شعبان سنة إحدى وثمانين بالقادر بالله، إلى أن مات ليلة الفطر من سنة ثلاث وتسعين، وله ثلاث وسبعون سنة، وصلى عليه القادر بالله، ولم يؤذوه، بل بقي مكرماً محترماً في دار ابن عمه القادر بالله، وشيعه من الأكابر، ورثاه الشريف الرضي.
وفيها توفي السلامي محمد بن عبد الله المخزومي الشاعر. قال الثعالبي: هو من أشعر أهل العراق قولاً بالإطلاق، وشهادة بالاستحقاق. ومن شعره قوله في عضد الدولة:
إليك طوى عرض البسيطة جاعل ... قصارى المطايا أن يلوح لها القصر
فكنت وعزمي في الظلام وصارمي ... ثلاثة أشياء كما اجتمع النسر
وبشرت إياك بملك هو الورى ... ودار هي الدنيا ويوم هو الدهر
وقد أخذ القاضي أبو بكر الأرجاني معنى البيت الأخير، وسبكه في قوله:
يا سائلي عنه لما ظلت أمدحه ... هذا هو الرجل العاري من العار
لو زرته لرأيت الناس في رجل ... والدهر في ساعة والأرض في دار
وقد استعمل المتنبي أيضاً هذا المعنى، لكنه لم يكمله، بل أتى ببعضه في النصف الأخير من هذا البيت.
هي الغرض الأقصى ورؤيتك المنى ... ومنزلك الدنيا وأنت الخلائق
ولما ذكر ابن خلكان ما بعد نظم السلامي قال: وإن كان في معنى ذلك لكن ليس فيه رشاقته، ولا عليه طلاوته. وكان عضد الدولة يقول: إذا رأيت السلامي في مجلسي ظننت أن عطارد قد نزل من الفلك إلي.
أربع وتسعين وثلاثمائة
فيها توفي أبو عمر عبد الله بن عبد الوهاب السلمي الأصبهاني المقرىء.
وفيها توفي أبو الفتح إبراهيم بن علي البغدادي.
وفيها توفي أبو عبد الله محمد بن عبد الملك اللخمي القرطبي الحداد.(2/336)
خمس وتسعين وثلاثمائة
فيها توفي الحافظ أبو القاسم عبد الوارث بن سفيان القرطبي.
وفيها توفي الخفاف أبو الحسين أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن عمر الزاهد النيسابوري.
ست وتسعين وثلاثمائة
فيها توفي الحافظ العلم أحمد بن عبد الله اللخمي الأشبيلي، كان يحفظ عدة مصنفات، وكان إماماً في الأصول والفروع.
وفيها توفي الإمام أبو سعيد بن إسماعيل، شيخ الشافعية بجرجان.
وفيها توفي ابن شيخهم إسماعيل بن أحمد. كان صاحب فنون وتصانيف، توفي ليلة الجمعة، وهو يقرأ في صلاة المغرب " إياك نعبد وإياك نستعين " الفاتحة: 15، ففاضت نفسه وله ثلاث وستون سنة.
وفيها توفي الحافظ أبو عمرو محمد بن أحمد بن محمد بن جعفر النيسابوري المزكي، صاحب الأربعين المروية.
سبع وتسعين وثلاثمائة
فيها توفي الإمام أصبغ بن الفرج الأندلسي المالكي مفتي قرطبة.
وفيها توفي أبو الحسن القصار البغدادي المالكي، صاحب كتاب " مسائل(2/337)
الخلاف. قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: لا أعرف لهم كتاباً في الخلاف أحسن مشه. وقال أبو ذر الهروي: هو أفقه من لقيت من المالكية.
وفيها توفي من طبقته أبو الحسن بن القصار علي بن محمد بن عمر الرازي الفقيه الشافعي. كان مفتياً قريباً من ستين سنة، وكان له من كل علم حظ، وعاش قريباً من مائة سنة.
ثمان وتسعين وثلاثمائة
فيها ثارت فتنة هائلة ببغداد. قصد رجل شيخ الشيعة ابن المعلم وهو الشيخ المفيد وأسمعه ما يكره، فثار تلامذته، وقاموا، واستنفروا الرافضة، وأتوا قاضي القضاة أبا محمد الأكفاني، والشيخ أبا حامد الأسفراييني، فسبوهما، فحميت الفتنة، ثم إن أهل السنة أخذوا مصحفاً قيل إنه على قراءة ابن مسعود، فيه خلاف كثير، فأمر الشيخ أبو حامد والفقهاء بإتلافه، فأتلف بمحضر منهم، فقام ليلة النصف رافضي، وشتم فأخذ، فثارت الشيعة، ووقع القتال بينهم وبين السنية، واختفى أبو حامد، واستنفرت الروافض، وصاحوا حاكم يا منصور، فغضب القادر بالله، وبعث خيلاً لمعاونة السنية، فانهزمت الرافضة، حرق بعض دورهم، وذلوا وأمر عميد الجيوش بإخراج ابن المعلم من بغداد، فأخرج، وحبس جماعة، ومنع القصاص مدة.
وفيها زلزلت الدينور، فهلك تحت الردم أكثر من عثرة آلاف، وزلزلت سيراف السبت، وغرق عدة مراكب، ووقع برد عظيم، وبلغ وزن واحدة منه مائة وستة دراهم.
وفيها هدم الحاكم العبيدي الكنيسة المعروفة بالقمامة بالقدس، لكونهم يبالغون في إظهار شعارهم، ثم هدم الكنائس التي في مملكته. ونادى: من أسلم وإلا فليخرج من مملكتي أو يلتزم بما أمر. ثم أمر بتعليق صلبان كبار على صدورهم، وزن الصليب أربعة أرطال بالمصري، وبتعليق خشبة كبد المكمدة، وزنها ستة أرطال في عنق اليهودي إشارة إلى رأس العجل الذي عبدوه، فقيل: كانت الخشبة على تمثال رأس عجل، وبقي هذا مدة(2/338)
سنين، ثم رخص لهم في الردة كونهم مكرهين، وقال: تنزه مساجدنا عمن لا نية له في الإسلام.
وفيها توفي أبو الفضل أحمد بن الحسين الهمداني الأديب العلامة بديع الزمان، صاحب المقامات الفائقة التي هي بالاختراع سابقة، وعلى منوالها نسج الحريري مقاماته، واحتذى حذوه واقتفى أثره، واعترف في خطبته بفضله، وأنه الذي أرشده إلى سلوك ذلك المنهج، وإلى ذلك أشار بقوله:
فلو قبل مبكاها بكيت صبابة ... بسعدى شفيت النفس قبل التندم
ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا ... بكاها، فقلت الفضل للمتقدم
والبديع المذكور أحد الفضلاء الفصحاء، وله رسائل بديعة ونظم مليح، سكن هراة من بلاد خراسان. فمن رسائله الماء إذا طال مكثه ظهر خبثه، وإذا سكن متنه تحرك نتنه. فكذلك الضيف، يسمح لقاؤه إذا طال ثواؤه، ويثقل ظله إذا انتهى محله والسلام.
ومن رسائله أيضاً: حضرته التي هي كعبة المحتاج، لا كعبة الحجاج، ومشعر الكرام لا مشعر الحرام، ومنى الضيف لا منى الخيف، وقنبلة الصلاة لا قبلة الصلاة وله من تعزية الموت خطب قد عظم حتى هان، ومس خشن حتى لان، والدنيا قد تنكرت حتى صار الموت أخف خطوبها، وجنت حتى صار أصغر ذنوبها، فانظر يمنة، هل ترى إلا محنة، ثم انظر يسرة هل ترى إلا حسرة؟! ومن شعره من جملة قصيدة طويلة:
وكاد يحكيك صوب الغيث منسكباً ... لو كان طلق المحيا يمطر الذهبا
والدهر لو لم يحن والشمس لو نطقت ... والليث لو لم يصد والبحر لو عذبا
وله كل معنى مليح حسن من نظم ونثر توفي رحمة الله مسموماً بهراة.
وقال بعضهم: سمعت الثقات يحكون أنه مات من السكتة، وعجل دفنه، فأفاق في قبره، وسمع صوته بالليل، ونبش عنه، فوجد قد قبض على لحيته، ومات من هول القبر والله أعلم.
تسع وتسعين وثلاثمائة
فيها رجع الركب العراقي خوفاً من ابن الجراح الطائي، فدخلوا بغداد قبل العيد.
وأما ركب البصرة فأجازه بنو زغب الهلاليون. وقال ابن الجوزي: أخذوا للركب ما قيمته ألف ألف دينار.
وفيها توفي أحمد بن محمد الدارمي الشاعر المشهور، كان من فحول شعراء عصره(2/339)
وخواص مداح سيف الدولة بن حمدان. وكان عنده تلو المتنبي في المنزلة، وله معه وقائع ومعارضات في أناشيد. ومن شعره في القاضي أبي طاهر صالح بن جعفر الهاشمي:
أمير العلا إن العوالي كواسب ... علاك في الدنيا وفي جنة الخلد
يمر عليك الحول سيفك في الطلى ... وطرفك ما بين الشكيمة والورد
ويمضي عليك الدهر، فعليك للعلى ... وقولك للتقوى وكفك للرفد
قلت هذا هو في الأصل المنقول منه، وصوابه علاك من الدنيا ومن جنة الخلد والطلى: بضم الطاء المهملة وتشديدها: الأعناق، وهو مراده في هذا البيت وبكسرها: القطران وما طبخ من عصير العنب حتى ذهب ثلثاه، والخمر عند بعض العرب وبفتحها: الولد من ذوات الظلف. والطلي بكسر اللام: الصغير من أولاد الغنم والطرف بكسر الطاء: الكريم من الخيل.
وفيها توفي أبو الحسن علي بن عبد الرحمن بن أحمد بن يونس الصدفي بضم الصاد المنجم المصري صاحب الزيج بكسر الزاي وسكون المثناة من تحت، وفي آخره جيم الحاكمي، المشهور المعروف بزيج ابن يونس، وهو زيج كبير في أربع مجلدات، بسط القول والعمل فيه، وما أقصر في تحريره، وذكر أن الذي أمره بعمله وابتدأه للعزيز بن الحاكم صاحب مصر.
قال بعضهم كان ابن يونس المذكور أبله مغفلاً يعتم على طرطور طويل، ويجعل رداءه فوق العمامة، وكان طويلاً، إذا ركب ضحك منه الناس لشهرته ورثاثة لباسه وسوء حالته، وكان له مع هذه الهيئة إصابة بديعة غريبة في النخامة، لا يشاركه فيها أحد، وكان متفنناً في علوم كثيرة، وقد أفنى عمره في النجوم والسير والتوليد، ولا نظير له في ذلك، وكان يضرب بالعود على جهة التأدب به، وله شعر حسن منه قوله:
أحمل نشر الريح عند هبوبه ... رسالة مشتاق لوجه حبيبه
بنفسي من تحيى النفوس بقربه ... ومن طابت الدنيا به وبطيبه
لعمري لقد عطلت كأسي بعده ... وغيبتها عني لطول مغيبه
وجدد وجدي طائف منه في الكرى ... سرى موهناً في خفية من رقيبه
ويحكى أن الحاكم العبيدي صاحب مصر قال وقد جرى في مجلسه ذكر ابن يونس(2/340)
وتغفله: دخل إلى عندي يوماً ومداسه في يده فقبل الأرض، وجلس وترك المداس إلى جانبه، وأنا أراه وأراها، وهو بالقرب مني، فلما أراد الانصراف قبل الأرض، وقدم المداس ولبسه، وانصرف. قيل: ذكر هذا في معرض غفلته، وقلة اكتراثه. وكانت وفاته فجأة.
وفيها توفي القدوة أبو الفضل أحمد بن أبي عمران نزيل مكة رحمه الله.
وفيها توفي أحمد بن محمد. الأنطاكي الشاعر ومن شعره قوله في مدح وزير العزيز ابن المعز العبيدي:
قد سمعنا مقاله واعتذاره ... وأقلنا ذنبه وعثاره
والمعاني لمن عفت ولكن ... بك عرضت فاسمعي يا جاره
أربع مائة
فيها أقبل الحاكم العبيدي على التأله والدين على مقتضى مذهبه، وأمر بإنشاء دار العلم بمصر، وأحضر فيها الفقهاء والمحدثين، وعمر الجامع المعروف بجامع الحاكم في القاهرة، وكثر الدعاء له، فبقي كذلك ثلاث سنين، ثم أخذ يقتل أهل العلم، وأغلق تلك الدار، ومنع من فعل كثير من الخير.
وفيها توفي أبو نعيم الأسفراييني عبد الملك بن الحسن، راوي المسند الصحيح عن الحافظ أبي عوانة، وكان عبداً صالحاً.
وفيها توفي أبو الفتح علي بن محمد الكاتب البستي، الشاعر المشهور، صاحب الطريقة الأنيقة في التجنيس الأنيس البديع التأسيس، فمن نثره البديع قوله: من أصلح فاسده، أرغم حاسده. ومن أطاع غضبه أضاع أدبه. عادات السادات سادات العادات. من سعادة جدك وقوفك عند حدك. أجمل الناس من كان للإخوان مذللاً وعلى السلطان مدللاً. الفهم شعاع العقل. المنية تضحك من الأمنية. حد العفاف الرضي بالكفاف، بالخرق الرقيع ترقيع. يعني بالرقيع: الأحمق. قلت: ولو قال: على الإحسان مذللاً، عوضاً عن قوله وعلى السلطان، كان أصلح وعند أهل الخير أملح، لكنه ممن لهم رغبة في القرب السلطان، فللرهبة، ولهذا قال أيضاً: الرشوة رشاء الحاجات: ما دخل نجاس النجاسات في جواهر الجناسات. ومن بديع نظمه قوله:
إن هز أقلامه يوماً ليعلمها ... أنساك كل كمي هن عامله
وإن أمر على رق أنامله ... أقر بالرق كتاب الأنام له(2/341)
وقوله:
إذا تحدثت في قوم لتؤنسهم ... بما تحدثت من ماض ومن آت
فلا تعد لحديث إن طبعهم ... مؤكل بمعاداة المعاداة
وقوله:
تحمل أخاك على ما به ... فما في استقامته مطمع
وإن له خلق واحد ... وفيه طبائعه الأربع
وكم قدروا له أشعاراً شهيرة تجنيساً وغيره.
وفيها توفي السيد الجليل الفقيه الفاضل الصالح العالم العامل الورع الزاهد جعفر ابن عبد الرحيم التيمي، من حوالي الجند بفتح الجيم والنون سأله والي الجند الإقامة في بعض تلك البلاد لنفع الخلق بالفتوى والتدريس ونشر العلم، فأجابه إلى ذلك بشرطين أحدهما: إعفاؤه من الحكم، والثاني أن لا يأكل من طعام الوالي شيئاً، فأقام على ذلك مدة، ثم اتفق أنه حضر يوماً عقداً عند الوالي، فأحضر من الطعام ما جرت العادة بإحضاره عند العقد، ثم خص الوالي الفقيه المذكور بشيء من الموز وقال: هذا أهداه لي فلان وذكر إنساناً تطيب به النفس، فكل منه موزتين، ثم خرج، فتقيأهما في دهليز الوالي. ثم لما ملك البلاد ابن الصليحي، سأله أن يتولى القضاء فقال له: لا أصلح لذلك. فأعرض عنه ابن الصليحي مغضباً، فخرج من عنده، فافتقده فلم يجده، فأمر بعض من عنده من الجند أن يلحقوه، ويبطشوا به، فلحقه منهم في بعض الطريق خمسة عشر رجلاً، فضربوه بسيوفهم فلم تقطع فيه شيئاً، ثم كرروا الضرب حتى آلمتهم أيديهم، فلم يؤثر فيه، فرجعوا وأعلموا ما مضى من ابن الصليحي، فأمرهم بكتمان ذلك.
وسئل الفقيه المذكور عن حاله وقت الضرب فقال: كنت أقرأ سورة يس فلم أشعر بالضرب.(2/342)
/سنة احدى واربع مائة
فيها أقام صاحب الموصل الدعوة ببلده للحاكم أحد خلفاء الباطنية، لأن رسل الحاكم تكررت إلى صاحب الموصل قرواش بفتح القاف والراء وبعد الألف شين معجمة ابن مخلد بفتح اللام فأفسدوه، فسار قرواش إلى الكوفة، فأقام بها الخطبة للحاكم وبالمدائن، وأمر خطيب الأنبار بذلك، فهرب وأبدى قرواش صفحة الخلاف، وعاث، وأفسد، فأرسل القادر بالله، إلى الملك بهاء الدولة الإمام أبي بكر الباقلاني فقال: قد كاتبنا أبا علي عميد الجيوش في ذلك، ورسمنا بأن ينفق في العسكر مائة ألف دينار، وإن دعت الحاجة إلى مجيئنا قدمنا. ثم إن قرواش خاف الغلبة فأرسل يعتذر، وأعاد الخطبة العباسية، ولم يحج ركب العراق لفساد الوقت. وفيها توفي عميد الجيوش أبو علي الحسين بن أبي جعفر، وكان أبوه من حجاب عضد الدولة. وخدم أبو علي بهاء الدولة، وترقت مرتبته، فولاه نائباً عنه بالعراق، فأحسن سياستها، وأبطل عاشوراء الرافضة، وأباد الحرامية والشطار، وصار عدله ذا اشتهار. وفي عدله وهيبته حكايات ذكرها العلماء والأخيار. وفيها توفي العالم الكبير أبو عمرو أحمد بن عبد الملك الاشبيلي المالكي. انتهت إليه رئاسة العلم بالأندلس في زمانه، مع الورع والصيانة، ودعي إلى القضاء بقرطبة مرتين فامتفع، وصنف كتاب الاستيعاب في مذهب مالك في عشر مجلدات. وفيها توفي صاحب كتاب الغريبين أحمد بن محمد الهروي. كان من العلماء، وما أقصر في كتابه المذكور، وكان يصحب أبا منصور الأزهري اللغوي، وعليه اشتغل، وبه انتفع وتخرج، وكتابه المذكور جمع فيه بين تفسير غريب القرآن الكريم وغريب حديث الرسول عليه السلام، وهو من الكتب النافعة التي سارت في الإذاق الشاسعة. وفيها توفي أبو عمر أحمد بن محمد القرطبي الأموي مولاهم، روى عن قاسم بن(3/3)
أصبغ وخلق، وهو أكبر شيخ لابن حزم.
وفيها توفني قاضي قضاة العبيديين وابن قاضيهم؛ عبد العزيز بن محمد بن نعمان. قتله الحاكم وقتل معه قائد القواد حسين أبن القائد جوهر، وبعث من حمل إليه رأس قاضي طرابلس أبي الحسين علي بن عبد الواحد، لكونه سلم عزاز إلى متولي حلب. وفيها توفي أبو الحسن العلوي النيسابوري شيخ الأشراف، وكان سيداً نبيلاً صالحاً. قال الحاكم: عقد له مجلس الإملاء، واتتقبت له ألف حديث، وكان يعد في مجلسه ألف محبرة. وفيها وقيل في التي قبلها ترفي أبو الفتح علي بن محمد البستي الكاتب الشاعر المشهور، ومن ألفاظه المليحة ما تقدم من قوله: من أصلح فاسده أرغم حاسده، إلى آخرها.
سنة اثنتين واربع مائة
فيها كتب محضر ببغداد في القدح في النسب الذي يدعيه خلفاء مصر العبيديون وفي عقائدهم، وأنهم زنادقة منسوبون إلى الخرمية بضم الخاء المعجمة وفتح الراء وكسرالميم وفتح المثناة من تحت مشددة وفي آخره هاء إخوان الكافرين، شهادة يتقرب بها إلى رب العالمين، وإن الناجم بمصر وهو منصور بن نزار الملقب بالحاكم حكم الله تعالى عليه بالبوار مع كلام طويل قاله فيه: لما صار الملقب بالمهدي إلى المغرب، تسمى بعبيد الله، وتلقب بالمهدي، وهو ممن تقدم من سفلة الأنجاس، أدعياء خوارج، لا نسب لهم في ولد علي رضي الله تعالى عنه، وقد كان هذا الإنكار شائعاً بالحرمين، ولا نعلم أحداً من الطالبيين توقف في إطلاق القول في هؤلاء الخوارج أنهم ادعياء، وإن هذا الناجم بمصر وسيلة كفار وفساق بمذهب التنوية والمجوسية معتقدون قد عطلوا الحدود، وأباحوا الفروج، وسفكوا الدماء، وسبوا الأنبياء، ولعنوا السلف، وادعوا الربوبية. وكتب في ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعمائة، وكتب خلق في المحضر: منهم الشريف المرتضى وأخوه الشريف الرضي وجماعة من الكبار العلوية، والقاضي أبو محمد الأكفاني، والإمام أبو حامد الاسفراييني، والإمام أبو الحسين القدوري، وخلق كثير.(3/4)
وفيها توفي أبو المطرف عبد الرحمن بن محمد الأندلسي القرطبي صاحب التصانيف. كان من جهابذة المحدثين وحفاظهم، جمع ما لم يجمعه أحد من أهل عصره بالأندلس، وكان يملي من حفظه. وقيل: إن كتبه بيعت بأربعين ألف دينار قاسمية ولي القضاء والخطابة، وعزل بعد تسعة أشهر، وله كتاب أسباب النزول في مائة جزء وكتاب فضائل الصحابة والتابعين في مائتين وخمسين جزءاً. وفيها توفي الإمام أبو الحسن بن اللبان الفرضي، محمد بن عبد الله البصري. روى سنن أبي داود، وسمعها منه القاضي أبو الطيب. قال الخطيب: انتهى إليه علم الفرائض، وصنف فيها كتباً. وروى عنه بعضهم أنه قال: ليس في الأرض فرضي إلا من أصحابي أو أصحاب أصحابي إلا ويحسن شياً. وكان إماماً في الفقه والفرائض، صنف فيهما كتباً نفيسة، وبه وبالإمام أبي حامد الاسفرائيني تفقه الحاقظ محمد بن يحيى المعروف بابن سراقة والقاضي الإمام أبو عبد الله الجعفي الكوفي الحنفي المعروف بابن النهرواني.
سنة ثلاث وأربع مائة
فيها أخذ الركب العراقي وفيها توفي الإمام الكبير الفقيه الشهير القاضي أبو عبد الله الحسين بن الحسن الحليمي الجرجاني البخاري الشافعي، صاحب التصانيف المستحسنة والآثار الحسنة والفضائل المتفقة وهو صاحب وجه في المذهب، تفقه على أبي بكر الأودن، وأبي بكر القفال. ثم صار إماماً معظماً مرجوعاً إليه في ما وراء النهر. وفيها توفي شيخ الحنابلة القاضي أبو يعلى صاحب المصنفات في أنواع مختلفات. وفيها توفي الوليد بن محمد بن يوسف الأزدي الأندلسي القرطبي الحافظ المعروف بابن الفرضي. كان فقيهاً عالماً في فنون العلم من الحديث وعلم الرجال والأدب البارع، وله من التصانيف تاريخ علماء الاندلس، وله كتاب حسن في المؤتلف والمختلف وفي مشتبه النسبة وكتاب في أخبار شعراء الأندلس وغير ذلك، ورحل من الأندلس إلى المشرق، فحج وأخذ عن العلماء، وسمع منهم، وكتب من إمامهم. ومن شعره:
أسير الخطايا عند بابك واقف ... على وجل مما به أنت عارف
يخاف ذنوباً لم يخف عنك عيبها ... ويرجوك فيها فهو راج وخائف
فمن ذا الذي يرجى سواك ويتقي ... وما لك من فضل القضاء مخالف
فيا سيدي، لا تخزني في صحيفتي ... إذا نشرت يوم الحساب الصحائف(3/5)
وكن مؤنسي في ظلمة القبر عندما ... يصد ذوو القربى ويحفوا الموالف
فإن ضاق عني عفوك الواسع الذي ... أرجي لإسرافي فإني لتالف
قلت ما أحسسن هذه الأبيات إذا تضرع فيها بقلب وجلة الرجل المتوجه إلى الله عز وجل، إلا أن فيها شيئين: احدهما قوله أنت عارف والله تعالى لا يقال له عارف وإنما يقال: عالم وفيه بحث يطول موضع ذكره في كتب الأصول. والثاني أن في الأصل المنقول منه يخاف ذنوباً لم يخف عنك عيبها بتقديم لم وهو مكسور، ولعله من غلط الكاتب، وصوابه على ما ذكرته. توفي شهيداً، قتلته البربر رحمه الله يوم فتح قرطبة، وروي عنه أنه قال: تعلقت بأستار الكعبة فسألت الله الشهادة. وفيها توفي سيف السنة وناصر الملة الإمام الكبير الحبر الشهير، لسان المتكلمين وموضح البراهين، وقامع المبتدعين وقاطع المبطلين، القاضي أبو بكر محمد بن الطيب المشهور بابن الباقلاني الأصولي المتكلم المالكي الأشعري المجدد به دين الأمة على رأس المائة الرابعة على القول الصحيح. وقد أوضحت ذلك، وذكرت طرفاً من مناقبه في الشاش المعلم شاؤش كتاب المرهم ومناقب مائة إمام من أعيان أئمة الأشعرية، وإنه كانت محاسن القاضي أبي بكر المذكور الباطنة أكثر من محاسنه الظاهرة، وكان كل ليلة إذا قضى ورده كتب خمساً وثلاثين ورقة تصنيفاً من حفظه. وكان فريد عصره في فنه. وله التصانيف الكبيرة المسندة الشهيرة، وإليه انتهت الرئاسة في هذا العلم، وكان ذا باع طويل في بسط العبارة، مشهوراً بذلك، حتى إنه جرى بينه وبين أبي سعيد الهاروني مناظرة يوماً، فأطال قاضي أبو بكر فيها الكلام، ووسع في العبارة، وزاد في الإسهاب، وبالغ في الإيضاح الإطناب، ثم التفت إلى الحاضرين وقال: اشهدوا على أنه إن أعاد ما قلت لأغير الايضاح، ولم أطالب بالجواب، فقال الهاروني: اشهدوا على أنه إن أعاد كلام نفسه سلمت له ما قال.
وقال الحافظ أحمد بن علي الخطيب البغدادي: محمد بن الطيب أبو بكر القاضي معروف بابن الباقلاني، المتكلم على مذهب الأشعري، وكان ثقة، أعرف الناس بعلم الكلام وأحسهم خاطراً وأجودهم لساناً، وأصحهم عبارة، وله التصانيف الكثيرة في الرد على المخالذين من الرافضة والمعتزلة والجهمية والخوارج وغيرهم، وقال: حدثت أن ابن المعلم شيخ الرافضة ومتكلمها حضر بعض مجالس النظر مع أصحابه، فأقبل القاضي أبو بكر الأشعري، فالتفت ابن المعلم إلى أصحابه وقال: قد جاءكم الشيطان، فسمع القاضي كلامه وكان بعيداً فلما جلس أقبل على ابن المعلم وأصحابه، وقال: قال الله تعالى " أنا ارسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً " - مريم 83 -.(3/6)
وقال الشيخ أبو القاسم بن برهان النحوي: من سمع مناظرة القاضي أبي بكر لم يستلذ بعدها لسماع كلام أحد من المتكلمين والفقهاء والخطباء والمترسلين، ولا الأغاني أيضاً لطيب كلامه وفصاحته وحسن نظامه وإشارته. وله التصانيف الكثيرة في الرد على المخالذين من المعتزلة والرافضة والخوارج والمرجئة والمشبهة والحشوية. وحكى الحافظ ابن عساكر عن أهل العلم أنه قال: كان القاضي أبو بكر فارس هذا العلم مباركاً علي هذه الأمة، يلقب سيف السنة ولسان الأمة، وكان مالكياً فاضلاً متورعاً ممن لم يحفظ عليه زلة قط، ولا تنسب إليه نقيصة. وذكر الإمام القاضي أبو المعالي بن عبد الملك، عن الشيخ الإمام أبي الحاكم القزويني قال: كان الإمام أبو بكر الأشعري يضمر من الورع والديانة والزهد والصيانة أضعاف ما كان يظهره، فقيل له في ذلك فقال: إنما ظهر ما أظهره غيظاً لليهود والنصارى والمبتدعين المخالذين، لئلا يستحقروا علماء الحق والدين. وقال الحافظ ابن عساكر: كان الانتساب إلى الاعتزال فاشياً منتشراً، وكل من كان متسنناً مستخفياً مستتراً إلى أن قام القاضي أبو بكر بنصرة المذهب، واشتهر في المشرق والمغرب. وكان مظهره بدار السلام التي هي قبة الإسلام، فلم يظهر لذلك تغيير من الأنام، ولا نكرة من العلماء والعوام بل كان الكل يتقلدون منه المنة من العوام، والأئمة يلقبونه بأجمعهم سيف السنة ولسان الأمة. وكان بينه وبين جماعة من الحنابلة مخالطة ومؤانسة واجتماع ومجالسة. ونقل الحافظ ابن عساكر بسنده إلى أبي بكر الخوارزمي قال: كل مصنف ببغداد، إنما ينقل من كتب الناس إلى تصانيفه، سوى القاضي أبي بكر، فإن صدره يحوي علمه وعلم الناس. وروى الحافظ الخطيب أنه كان القاضي أبو بكر يهم أن يختصر ما يصنفه، فلا يقدرعلى ذلك لسعة علمه وكثرة حفظه. ولما توفي حضر الشيخ أبو الفضل التميمي الحنبلي حافياً مع إخوانه وأصحابه، وأمر أن ينادي بين يدي جنازته: هذا ناصر السنة والدين، هذا إمام المسلمين، هذا الذي كان يذب عن سنة الشريعة المخالذين، هذا الذي صنف سبعين ألف ورقة ردا على الملحدين. وروى الحافظ أبو القاسم بسنده إلى القاضي أبي الفخر قال: سمعت الطائي يقول: كنت أشتهي أن أرى القاضي الإمام أبا بكر في النوم، فلم يتفق لي، فنمت ليلة، وصليت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألف مرة، وسألت الله تعالى ونمت، فلما كان وقت السحر، رأيت جماعة حسنة ثيابهم، بيضاء وجوههم، طيبة(3/7)
روائحهم، ضاحكة أسنانهم، فقلت لهم: من أين جئتم؟ فقالوا: من الجنه. فقلت: ما فعلتم؟ فقالوا: زرنا القاضي الإمام أبا بكر الأشعري، فقلت: وما فعل الله به؟ فقالوا: غفر له، ورفع له في الدرجات. قال: ففارقتهم، ومشيت، وكأني رأيت القاضي أبا بكر، وعليه ثياب حسنة، وهو جالس في رياض خضرة نضرة، فهممت أن أساله عن حاله، وسمعته يقرأ " أفهو في عيشة راضية في جنة عالية " - الحاقة 21 - 22 - فهالذي ذلك فرحاً، وانتبهت. ولما توقني رثاه بعضهم في هذين البيتين:
انظر إلى جبل تمشي الرجال به ... وانظر إلى القبر ما يحوي من السلف
انظر إلى صارم الإسلام منغمداً ... وانظر إلى درة الإسلام في الصدف
قلت: لقد ضمن هذين البيتين مدحاً عظيماً يليق بجلالة الإمام المذكور، ويناسب حاله المشهور، ولكن لو أبدل لفظين من بيته كان أحسن وأنسب - فيما أرى - أحدهما قوله ما يحوي من السلف لو قال: من الشرف، والثاني قوله درة الإسلام لو قال: درة التوحيد، لتغاير بين اللفظين، فإنه قد قال في هذا البيت: صارم الإسلام والتوحيد. وإن كان الإسلام داخلاً فيه، فالمغايرة بين الألفاظ وإن اتحدت معانيها أحسن وأبعد من كراهة التكرير ومن قصيدة مدحه بها أبو الحسن السكري، قال بعد ذكر الغزل:
ملكت محبات القلوب ببهجة ... مخلوقة من عفة وتخبب
فكأنما من حيثما قابلتها ... شيم الإمام محمد بن الطيب
اليعربي بلاغة وفصاحة ... والأشعري إذا اعتزى للمذهب
قاض إذا التبس القضاء على الحجى ... كشفت له الآراء كل مغيب
لا تستريح إذا الشكوك تخالجت ... إلا إلى لب كريم المنصب
وصلته همته بأبعد غاية ... أعني المريد بها سلوك المطلب
أهدي له ثمر القلوب محبة ... وحباه حسن الذكر من لم يحبب
ما زال ينصر دين أحمد صارعاً ... بالحق يهدي لطريق الأصوب
والناس بين مضلل ومضلل ... ومكذب فيما أتى ومكذب
حتى انجلت تلك الضلالة فاهتدى ... الساري وأشرق جنح ذاك الغيهب
وفيها توفي الأمير شمس المعالي أبو الحسن قابوس بن أبي طاهر الجيل، أمير جرجان وبلاد الجيل وطبرستان. قال الثعالبي في اليتيمة: أختم هذا الكتاب بذكر خاتم الملوك، وغرة الزمان، وينبوع العدل والإحسان، ومن جمع الله سبحانه له إلى عزة العلم(3/8)
بضبطه القلم، وإلى فضل الحكم فصل الحكم. ومن. مشهور ما ينسب إليه من الشعر قوله:
قل للذي بصروف المصر عيرنا ... هل حارب الدهر إلا من له خطر
أما ترى البحر يعلو فوقه جيف ... ويستقر بأقصى قعره الدرر
فإن تكن عبثت أيدي الزمان بنا ... ونالنا من تمادي بؤسه ضرر
ففي السماء نجوم ما لها عدد ... وليس يكسف إلا الشمس والقمر
وله من النظم والنثر أشياء مستحسخة، وكذلك كان خطه في نهاية من الحسن. وكان الصاحب ابن عباد إذا رآه قال: هذا خط قابوس أم جناح الطاوس؟ وينشد قول المتنبي:
في خطه من كل قلب شهوة ... حتى كأن مداده الأهواء
ولكل عين قرة في قربه ... حتى كأن مغيبه الأقذاء
وكان الأمير المذكور صاحب جرجان وتلك النواحي، وكانت من قبله لأبيه، ثم انتقلت مملكة جرجان عنهم إلى غيرهم، وشرح ذلك يطول. وكان ملك قابوس المذكور لها في سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، وكانت المملكة قد انتقلت إلى أبيه من أخيه. قالوا: وكان قابوس من محاسن الدنيا وبهجتها، غير أنه على ما خص به من المناقب والرأي البصير بالعواقب من السياسة لا يساغ كأسه، ولا تؤمن سطوته وبأسه، يقابل زلة القدم، ولا يذكر العفو عند الغضب على من أجرم، فما زال على هذا الخلق قابوس حتى استوحشت منه النفوس، وانقلبت عنه القلوب، وتجافى الصاحب عن المصحوب، فأجمع أهل عسكره على خلعه عن ولايته، ونزع الأيدي عن طاعته، وحالوا بينه وبين جرجان، وملكوها، وبعثوا إلى ولده أبي منصور ليعقد البيعة له، فأسرع في الحضور. فلما وصل إليهم أجمعوا على طاعته أن خلع أباه، فلم يسعه في تلك الحال إلا المداراة، فأجابهم خوفاً على خروج الملك عن بيتهم ولما رأى قابوس هذا المرام، توجه بمن معه من خواصه إلى ناحية بسطام، لينظرما يستقر عليه الأمر. فلما سمعوا بخروجه حملوا ولده على قصده وإزعاجه عن مكانه، ومقابلته بالشر. فسار معهم مضطراً إلى أبيه، فتلاقيا، وتباكيا لما جرى من تغير الحال، وتشاكيا، وعرض الولد نفسه أن يكون حجاباً بينه وبين أعاديه، فلو قوبل بالقتال لقتل، وذهب نفسه فيه. ورأى الوالدان ذلك لا يجدي، ولا توجد نجدة، وأن ولده أحق بالولاية والملك بعده، فسلم إليه خاتم المملكة، واستوصاه خيراً بنفسه ما زال في قيد الحياة واتفقا على أن يكون الوالد في بعض القلاع إلى حلول أجله والأنسلاخ من الحياة والانقطاع، أو فناء أعاديه من البلاد والقلاع. فانتقل إلى قلعة(3/9)
هنالك، وشرع الولد في الإحسان إلى الجيش وهم يسومون والده المهالك، فلم يزالوا يسيؤون، وهو يحسن إليهم حتى قتلوا والده خشية قيامه عليهم فآل الأمر إلى ما ذكر من إكساف الشمس والقمر.
سنة أربع وأربع مائة
فيها، وقيل في سنة اثنتين وأربع مائة وقيل ذلك توفي الإمام الجليل السيد الحفيل أبو الطيب الصعلوكي سهل ابن الإمام أبي سهل العجلي النيسابوري الشافعي، مفتي خراسان،، قال الحاكم: هو أنظر من رأينا تخرج به جماعة. واختلفوا فيه وفي القاضي أبي بكر الباقلاني، أيهما كان على رأس المائة الرابعة في كونه مجدد الدين للأمة؟ فقيل: هو، لكثرة فنونه واتساع فضائله العلمية والعملية، وقيل: القاضي أبو بكر، لاحتياج الناس في زمن البدع إلى علم الأصول أكثر من علم الفروع وغيره لادحاض حجج المبتدعين بقواطع جراهين. وقد تقدم أن هذا القول أصح. وممن رجحه من الأئمة الجلة الالأكابر، الإمام الحافظ أبو القاسم بن عساكر، وذلك أن الباقلاني المذكور كان بارعاً في علم الأصول، كان فيه الغالب عليه من بين العلوم، أنفق فيه أوقات عمره، فهو بالتقدم فيه مشهور. وقد ذكرت أيضاً في الشاش المعلم شيئاً من مناقب سهل المذكور ومناقب أبيه.
سنة خمس وأربع مائة
فيها توفي الإمام الكبير الفقيه الشهير أبو القاسم المعروف بابن كج يوسف بن حمد الدينوري. كان يضرب به المثل في حفظه لمذهب الشافعي، وكان بعض الفقهاء يفضله على الشيخ أبي حامد الاسفرائيني وهو صاحب وجه في المذهب وقد قيل له: يا أستاذ؛ الاسم لأبي حامد والعلم لك، فقال: ذاك رفعة بغداد، وجعلني الدينور قتله العيارون بالدينور ليلة السابع والعشرين من رمضان. وفيها توفي الواعظ الزاهد أبو القاسم بكر بن شاذان قال الخطيب: كان عبداً صالحاً. وأبو محمد الأكفاني، قال: أبو إسحاق ابراهيم بن أحمد الطبري: من قال إن أحداً أنفق على أهل العلم مائة ألف دينار فقد كذب غير أبي محمد بن الأكفاني. وفيها توفي عبد العزيز بن عمر بن نباته الشاعر التميمي السعدي. جمع في شعره بين حسن السبك وجودة المعنى، طاف البلاد، ومدح الملوك والوزراء والرؤساء، وله في سيف(3/10)
الدولة بن حمدان غرر القصائد ونخب المدائح، وكان قد أعطاه فرساً أدهم أغر محجلاً فكتب إليه.
يا أيها الملك الذي أخلاقه ... من خلقه، ورؤاه من رأيه
قد جاءنا الطرف الذي أهديته ... هادية تعقد أرضه بسمائه
أولاته وليتنا فبعثته ... رمحاً يشيب العرف عقد لوائه
نجياك منه على أغر محجل ... ما للدياجي قطرة من مائه
فكأنما لطم الصباح جبينه ... فاقتض منه فخاض في أحشائه
في أبيات أخرى. وله أيضاً في سيف الدولة.
لم يبق جودك لي شيئاً أوصله ... تركني أصحاب الدنيا بلا فعل
وهذا المعنى، فيه يقول البحتري:
وقطعتني بالجود حتى إنني ... متخوف أن لا يكون لقاء
أخجلتني تبدي يديك فسودت ... ما بيننا تلك الندا البيضاء
وفي معناه أيضاً قول دعبل:
أصلحتني بالبر حتى أفسدتني ... وتركتني أتسخط الإحسانا
وهذا المعنى مطروق للشعراء. وما ألطف قول المعري فيه:
لو اختصرتم من الإحسان زرتكم ... والعذب يهجر للإفراط في الخصر
الخصر بفتح الخاء المعجمة والصاد المهملة وبعدها راء: البرد الشديد. والمعنى: إن الماء إذا أفرط في شدة برودته ترك شربه، وقال محمد بن وشاح: سمعت عبد العزيز بن نباتة يقول: كنت يوماً في دهليزي، فدق علي الباب، فقلت: من؟ قال: رجل من أهل المشرق. فقلت: ما حاجتك؟ فقال: أنت القائل:
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره ... تنوعت الأسباب والداء واحد
فقلت نعم، فقال: أرويه عنك؟ فقلت: نعم. ثم كذلك ذكر أنه سأله آخر من المغرب، فأجابه كذلك وقال: عجبت كيف وصل إلى الشرق والغرب. ولعبد العزيز المذكور أيضاً:
متع لحاظك من خل تودعه ... فما أخالك بعد اليوم بالوادي
قال أبو الحسن محمد بن علي البغدادي صاحب كتاب المفاوضة عدت أبا نصر بن(3/11)
نباتة في اليوم الذي توفي فيه، فأنشدني هذا البيت، وودعته وانصرفت، فأخبرت في طريقي أنه توفي.
وفيها توفي الإمام الكبير الحافظ الشهير أبو عبد الله محمد بن عبد الله، المعروف بالحاكم ابن البيع النيسابوري، إمام أهل الحديث في وقته. كتب عن نحو الذي حديث شيخ، وبرع في معرفة الحديث وفنونه، وصنف التصانيف، وتفقه على الإمام أبي سهل الصعلوكي الفقيه الشافعي، ولازمه الدارقطني، وسمع منه الإمام أبو بكر القفال الشاشي وغيره من الأئمة. وفيها وقيل في سنة ثلاث وستين وأربع مائة توفي ابن زيدون المخزومي الأندلسي الشاعر المشهور. ومن شعره:
يا بائعاً حظه مني ولو بذلت ... لي الحياة بحظي منه لم أبع
يكفيك أني إن حملت قلبي ما ... لا يستطيع قلوب الناس يستطع
ته أحتمل واستطل أصبر وعز ... أهن وول أقبل اسمع ومر أطع
ومن شعره أيضاً:
تكاد حين تناجيكم ضمائرنا ... يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
حالت لبعدكم أيامنا فغدت ... سوداً، وكانت بكم بيضاً ليالينا
بالأمس كنا وما نخشى تفرقنا ... واليوم نحن وما يرجى تلاقينا
ومنه أيضاً:
لم تدر ما خلتعيناك في خلديمن الغرام ولا ما كابدت كبدي
سنة ست واربع مائة
فيها توفي الإمام الجليل الفاضل، مقر النجابة والفضائل، الشيخ أبو حامد أحمد بن(3/12)
أبي طاهر محمد بن أحمد الاسفرائيني الفقيه الشافعي، شيخ طريقة العراق، وإمام الشافعية بالاتفاق. انتهت إليه رئاسة الدنيا والدين ببغداد، وكان يحضر مجلسه أكثر من ثلائمائة فقيه هكذا ذكر بعضهم، وقال بعضهم: سبع مائة فقيه، علق على مختصر المزني تعاليق، وطبق الأرض بالأصحاب، وله فى المذاهب: التعليقة الكبرى في نحو خمسين مجلداً، وكتاب البستان، ذكر فيه غرائب، وهو كتاب صغير. أخذ الفقه عن أبي الحسن بن المرزباني، ثم عن أبي القاسم الداركي. واتفق أهل عصره على جلالته وتفضيله وتقديمه في جودة النظر. وذكر الخطيب أنه حدث بشيء يسير عن عبد الله بن عدي، وأبي بكر الاسماعيلي، وابراهيم بن محمد الاسفرائيني وغيرهم. وقال: وكان ثقة، ورأيته غير مرة، وحضرت تدريسه، وسمعت من يذكر أنه كان يحضر درسه سبعمائة متفقه. وكان الناس يقولون: لو رآه الشافعي لفرح به. وحكى الشيخ أبو إسحاق في كتاب الطبقات أن أبا الحسن القدوري كان يعظمه ويفضله على كل أحد، وأن الوزير أبا القاسم علي بن الحسن حكى له عن القدوري أنه قال: أبو حامد عندي أفقه وأنظر من الشافعي. قال الشيخ أبو إسحاق: فقلت له: هذا القول من القدوري، حمله عليه اعتقاده في الشيخ أبي حامد، وتعصبه للحنفية على الشافعي، ولا يلتفت إليه فإن أبا حامد، ومن هو أعلم منه وأقدم على بعد من تلك الطبقة، وما مثل الشافعي ومثل من بعده إلا كما قال الشاعر:
نزلوا بمكة في قبائل نوفل ... ونزلت بالبيداء أبعد منزل
وقال تلميذه الإمام سليم الرازي: كان لا يخلو له وقت عن اشتغال، حتى إنه كان إذا أبوأ القلم قرأ القرآن أو سبح، وكذلك إذا كان ماراً في الطريق. وروى القاضي الإمام طاهر ابن الإمام العلامة صاحب البيان يحيى بن أبي الخير العمراني اليمني بسنده عن بعض شيوخه بالسند المتصل عن الإمام أبي الفتوح يحيى بن عيسى بن ملامس، عن والده قال: لقيت الشيخ الإمام أبا حامد الاسفرائيني بمكة في بعض المواسم، فرأيت عليه ثياباً ثمينة من ثياب الملوك، ورأيته يركب مراكب الملوك، ورأيته في الطواف والناس يعظمونه فقرأ في الطواف قارىء: " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً " - القصص 83 - فبكى الشيخ أبو حامد بكاء شديداً، وسمعته يقول: أما العلو يا رب فقد أردناه، وأما الفساد فلم نرده. وروي أنه قابله بعض الفقهاء في مجلس المناظرة بما لا يليق، ثم أتاه في الليل معتذراً إليه، فأنشده أبو حامد:
جفاء جرى جهراً لدى الناس وانبسط ... وعذراً أتى سراً فأكد ما فرط(3/13)
ومن ظن أن يمحو جلي جفائه ... خفى اعتذار فهو في أعظم الغلط
وفي الإمام أبي حامد المذكور ما هو عن بعضهم بهذا اللفظ مسطور، لما عاد مريضاً أنشأ المريض يقول:
مرضت فاشتقت إلى عائد ... فعادني العالم في واحد
ذاك الإمام ابن طاهر ... أحمد ذو الفضل أبو حامد
وكانت ولادته رحمه الله في سنة أربع وأربعين وثلاثمائة، وقدم بغداد في سنة ثلاث وستين وثلاثمائة. وقال الخطيب: سنة أربع وستين. ودرس الفقه بها من سنة سبعين إلى أن توفي في السنة المذكورة، ودفن في داره، ثم نقل إلى باب حرب في سنة عشر وأربعمائة. قلت: وهذا يقتضي أنه نقل بعد موته بأربع سنين، وأن جسده ما بلي، ويكون ذلك كرامة في حقه. وقال الخطيب: صليت على جنازته في الصحراء، وكان الإمام في الصلاة عليه عبد الله بن المهدي، خطيب جامع المنصور، وكان يوماً مشهوراً بعظم الحزن وكثرة الناس وشدة البكاء. ونسبته إلى إسفراين بكسر الهمزة وسكون السين المهملة وفتح الفاء والراء وكسر الياء المثناة من تحت وبعدها نون هي بلدة بخراسان بنواحي نيسابور على منتصف الطريق إلى جرجان.
وفيها توفي الشيخ الكبير العارف بالله الشهير، وحيد عصره ونسيج وحده، الأستاذ أبو علي الحسن بن علي الدقاق النيسابوري. وفيها توفي الإمام الكبير الأستاذ الشهير محمد بن الحسن بن فورك بضم الفاء وسكون الواو وفتح الراء الأصفهاني، صاحب التصانيف الحميدة والسيرة السديدة والفضائل العديدة والعزيمة الشديدة والشمائل الجريدة والأوصاف السعيدة، المتكلم الأصولي، الأديب النحوي الواعظ. دخل العراق، وأقام بها مدة يدرس العلم، ثم توجه إلى الري، فسمعت به المبتدعة، فراسله أهل نيسابور، والتمسوا منه التوجه إليهم، ففعل، وورد نيسابور، فبنى له مدرسة وداراً، وأحيى الله به أنواعاً من العلوم. ولما استوطنها ظهرت بركته على جماعة المشتغلين بالعلم، وبلغت مصنفاته في أصول الفقه والدين ومعاني القرآن قريباً من مائة مصنف، ورحل إلى مدينة غزنة بفتح الغين المعجمة والنون وسكون الزاي بينهما مدينة عظيمه في أوائل الهند من جهة خراسان، وجرت له بها مناظرات كثيرة. ومن كلامه رضي الله تعالى عنه: الشغل بالعيال نتيجة متابعة شهوة الحلال، فما ظنك(3/14)
بقضية شهوة الحرام. وكان شديد الرد على أصحاب عبد الله بن كرام، ثم عاد إلى نيسابور، فسم في الطريق، فمات هناك، ونقل إلى نيسابور، ومشهده ظاهر هنالك، يزار، ويستسقى به لنزول الأمطار، وتجاب الدعوة عنده رحمة الله عليه ورضوانه. وفي السنة المذكورة توفي الشريف الرضي أبو الحسن محمد بن الحسين بن موسى الحسيني الموسوي البغدادي الشيعي، نقيب الأشراف، ذو المناقب ومحاسن الأوصاف، صاحب ديوان الشعر. ذكره الثعالبي في كتابه اليتيمة، وقال: ابتدأ يقول الشعر بعد أن جاوز عشر سنين بقليل، وهو اليوم أبدع أهل الزمان إنشاء، وأعجب سادة أهل العراق يعني الجهابذة الحذاق يتحلى مع محتده الشريف ومفخره المنيف بأدب ظاهر، وفضل باهر، وحظ من جميع المحاسن وافر، ثم هو أشعر الطالبين على كثرة شعرائهم المفلقين يعني بالمفلقين بضم الميم وسكون الفاء وكسر اللام والقاف: الدهاة الآتين بالأمر العجيب. قال: ولو قلت إنه أشعر قريش لم أبعد عن الصدق، وسيشهد بما أخبرته شاهد عدل من شعره العالي المدح، الممتنع في وصفه عن القدح الذي يرجع إلى السلاسة متانة، وإلى السهولة رصانة، ويشتمل على معان يقرب جناها، ويبعد مداها. ومن غرر شعره ما كتبه إلى الإمام القادر بالله أبي العباس أحمد بن المقتدر من جملة قصيدة:
عطفاً أمير المؤمنين فإننا ... في دوحة العلياء لا نتفرق
ما بيننا يوم الفخار تفاوت ... أبداً كلانا في المعالي معرق
إلا الخلافة ميزتك فإنني ... أنا عاطل منها، وأنت مطوق
ويقال: أعرق الرجل: إذا كان له عرق في الكرم، كذلك الفرس، ويقال أيضاً في اللؤم، بضم اللام. ومن جيد قوله أيضاً:
رمت المعالي فامتنعن ولم يزل ... أبداً يمانع عاشقاً معشوق
وصبرت حتى نلتهن ولم أقل ... ضجراً دواء الفارك التطليق
وديوان شعره كبير، يدخل في أربع مجلدات، وهو كثير الوجود، فلا حاجة إلى الإكثار من ذكره. وذكر أبو الفتح ابن جني النحوي أن الشريف المذكور أحضر إلى ابن السيرافي النحوي وهو طفل لم يبلغ عمره سنين، فلقنه النحو، وقعد معه يوماً في الحلقة، فذاكره بشيء من الإعراب على عادة التعليم، فقال له: إذا قلنا: رأيت عمر، فما علامة النصب في عمر؟ فقال له الرضي: بغض علي فعجب السيرافي والحاضرون من حدة خاطره. وذكر أنه حفظ القرآن(3/15)
في مدة يسيرة، وصنف كتاباً في معاني القرآن يتعذر وجود مثله، دال على توسعه في علم النحو واللغة، وصنف كتاباً في مجازات القرآن، فجاء نادراً في بابه. وقال الخطيب: سمعت أبا عبد الله الكاتب بحضرة أبي الحسين بن محفوظ يقول: سمعت جماعة من أهل العلم بالأدب يقولون الرضي أشعر قريش، فقال ابن محفوظ: هذا صحيح، وقد كان في قريش من يجيد القول، إلا أن شعره قليل، فأما مجيد مكثر فليس إلا الرضي.
سنة سبع واربع مائة
فيها سقطت القبة العظيمة التي على صخرة بيت القدس. وفيها هاجت فتنة مهولة بواسط بين الشيعة وأهل السنة، ونهبت دور الشيعة، أحرقت، وهربوا، وقصدوا علي بن مزيدة واستنصروا به. وفيها توفي الحافظ أبو بكر أحمد بن عبد الرحمن الشيرازي مصنف كتاب الألقاب. وفيها توفي محمد بن أحمد بن شاكر القطان المصري، مؤلف فضائل الشافعي. وفيها توفي أبو الحسن المحاملي محمد بن أحمد بن القاسم بن اسماعيل الطيبي. البغدادي الشافعي الفرضي شيخ سليم الرازي. وفيها توفي الوزير فخر الملك أبو غالب محمد بن علي، وزير بهاء الدولة وسلطان الدولة. وكان فخر الدولة من أعظم وزواء آل بويه على الإطلاق بعد أبي الفضل محمد بن العميد، والصاحب بن عباد، وكان واسع النعمة، فسيح مجال الهمة، جم الفضائل، جزيل سطايا والنوال. قصده جماعة من أعيان الشعراء، ومدحوه، وقرضوه بنجب المدائح، منهم أبو نصر بن نباتة بقصيدة منها قوله:
لكل فتى قرين حين يسمو ... وفخر الملك ليس له قرين
أنخ بجنابه واحكم عليه ... بما أملته وأنا الضمين
وحكي أنه مدحه بعض الشعراء بعد هذه القصيدة، فلم يجزه بما يرضيه، فجاء إلى ابن نباتة المذكور وقال له: أنت غررتني، وأنا ما مدحته إلا ثقة بضمانك، فتعطيني ما يليق بمثل قصيدتي، فأعطاه من عنده شيئاً رضي به، فبلغ ذلك الملك، فسير لابن نباتة جملة مستكثرة(3/16)
لهذا السبب. وقال فيه بعضهم:
أرى كبدي وقد بردت قليلاً ... أمات الهم أم عاش السرور
أم الأيام خافتني لأني ... بفخر الملك منها أستجير
ومن أجله صنف ابن الحاسب كتاب الفخري في الجبر والمقابلة. وحكي أنه رفع إليه قصة سعى فيها بهلاك شخص، فوقف فخر الملك عليها، وقلبها وكتب في ظهرها: السعاية قبيحة وإن كانت صحيحة، فإن كنت أجريتها مجرى النصح فخسرانك فيها أكثر من الربح، ومعاذ الله تقبل من مهتوك في مستور، ولولا أنك في حقارة سبيل لقابلناك بما يشبه مقالك، ويروع به أمثالك، فاكتم هذا العيب، واتق من يعلم الغيب، والسلام. ولم يزل فخر الملك في عزة وجاهة وحرمة إلى أن نقم عليه مخدومه سلطان الدولة المذكور بسبب، فقتله. قلت: وكم من تعاسة تنال ذوي الولايات، ثم لا يرتدعون من طلب الرئاسات.
سنة ثمان وأربع مائة
فيها وقعت فتنة عظيمة بين السنية والشيعي، وتفاحشت، وقتل طائفة من الفريقين، وعجز صاحب الشرطة عنهم، وقاتلوه، فأطلق الذيران في سوق نهر الدجاج. وفيها استتاب القادر بالله وكان صاحب سنة طائفة من المعتزلة والرافضة، وأخذ خطوطهم في التوبة، وبعث إلى السلطان في ذلك الوقت يبث السنة بخراسان، ففعل ذلك، وبالغ وقتل جماعة، ونفى خلقاً كثيراً من المعتزلة والرافضة والاسماعيلية والجهمية والمشبهة، وأمر بلعنهم على المنأبو. وفيها قتل الدوري وقطع لكونه ادعى ربوبية الحاكم. وفيها توفي أبو الفضل الخزاعي محمد بن جعفر الجرجاني المقرىء، مصنف كتاب الواضح، وكان كثير التطواف في طلب القراءات. وفيها توفي أبو عمر البسطامي محمد بن الحسين الشافعي، قاضي نيسابور وشيخ الشافعية بها، رحل وسمع الكثير، ودرس المذهب، وأملى على الطبراني وطبقته.(3/17)
سنة تسع وأربعمائة
فيها توفي الحافظ الكبير النسابة عبد الغني بن سعيد الأزدي المصري، صاحب التصانيف النافعة، منها كتاب المؤتلف والمختلف. كان الدارقطني يفخمه ويقول: كأنه شعلة نار. وقال منصور الطرسوسي: خرجنا نودع الدارقطني بمصر، فبكينا، فقال: تبكون وعندكم عبد الغني؟ وقال البرقاني: ما رأيت بعد الدارقطني أحفظ من عبد الغني رحمه الله. وفيها توفي ابن الصلت محمد بن أحمد الأهوازي. وفيها توفي الشيخ الكبير عبد الله بن يوسف، نزيل نيسابور، من كبار الصوفية وثقات المحدثين.
سنة عشر وأربع مائة
فيها افتتح السلطان محمود بن ناصر الدولة الهند، وأسلم نحو من عشرين ألفاً، وقتل من الكفار نحو خمسين ألفاً، وهدم مدينة الأصنام، وبلغ عدد الخمس من الرقيق ثلاثة وخمسين ألفاً، واستولى على عدة قلاع وحصون، وكان جيشه ثلاثين ألف فارس سوى الرجالة والمطوعة، ولم يزل يفتح في بلاد الهند إلى حيث لم تبلغه في الإسلام راية، وطهرها من أرجاس الشرك، وبنى مساجد وجوامع. وتفصيل حاله في الحروب والفتح يطول شرحه. ولما فتح بلاد الهند كتب كتاباً إلى بغداد يذكر فيه ما فتح الله عل يديه من بلاد الهند، وأنه كسر الضم المشهور بسومنات، وذكر في كتابه أن هذا الصنم عند الهنود يحيي ويميت، ويفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ويبرىء من العلل، وربما كان يتفق لشقوتهم برء عليل بقصده، ويوافقه طيب الهواء، وكثرة الحركة، ويزيدون به افتناناً ويقصدونه من أقاصي البلاد رجالاً وركباناً، ومن لم يصادف منهم انتعاشاً أجنح بالذنب وقال: إنه لم يخلص له الطاعة، فلم يستحق منه الإجابة. ويزعمون أن الأرواح إذا فارقت الأجسام اجتمعت لديه على مذهب أهل التناسخ وتشبيهها فيمن شاء، وأن مد البحر وجزره عبادة له على قدر طاعته، وكانوا بحكم هذا الاعتقاد يحجونه من كل صقع بعيد، ويأتونه من كل فج عميق، يتحفونه بكل مال نفيس، ولم يبق في بلاد الهند والسند على تباعد أقطارها وتفاوت أديانها ملك ولا سوقة إلا(3/18)
وقد تقرب إلى هذا الصنم بما عز عليه من أمواله وذخائره، حتى بلغت أوقافه عشرة آلاف قرية في تلك البقاع، وامتلأت خزانته من أصناف الأموال. وفي خدمته من البراهمة ألف رجل يخدمونه، وثلاث مائة رجل يحلقون رؤوس حجاجه ولحاهم عند الورود عليه، وثلاثمائة رجل وخمس مائة امرأة يغنون ويرقصون عند بابه، ويجري من الأوقات المصدرة له لكل طائفة من هؤلاء رزق معلوم. وكان بين المسلمين وبين القلعة التي فيها الصنم المذكور مسيرة شهر في مفازة موصوفة بقلة الماء وصعوبة المسالك واستيلاء الرمل على طرقها. وسار إليها السلطان محمود في العدد المذكور مختاراً له من عدد كثير، وأنفق عليهم من الأموال ما لا يحصى، فلما وصلوا إلى القلعة وجدوها حصناً منيعاً، ففتحوها في ثلاثة أيام، ودخلوا بيت الصنم وحوله من أصنام الذهب والمرصع بأنواع الجواهر عدة كثيرة محيطة بعرشه يدعون أنها الملائكة فأحرق المسلمون الصنم، ووجد وافي أذنه نيفاً وثلاثين حلقة، فسألهم محمود عن معنى ذلك فقالوا: لكل حلقة عبادة ألف سنة، وكلما عبدوه ألف سنة علقوا في أذنه حلقة. وذكروا من أخبار هذا الصنم هذياناً يطول ذكره، حذفت بعضه، وذكرت بعضه، وبعض المؤرخين حذف الجميع، وبعضهم ذكر الجميع. ومما ذكروا عن السلطان محمود ما هو مشهور، ومن فضل مذهب الشافعي معدود ما سيأتي الآن ذكره، ويعلم منه فضل المذهب المذكور وفخره، قضية عجيبة مشتملة على نادرة غريبة، وهي ما ذكره إمام الحرمين: فحل الفروع والأصليين أبو المعالي عبد الملك ابن شيخ الإسلام، أبي محمد الجويني في كتابه الموسوم بمغيث الخلق في اختيار الحق أن السلطان محمود المذكور كان على مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وكان مولعاً بعلم الحديث، وكان الناس أو قال: الفقهاء يسمعون الحديث من الشيوخ بين يديه، وهو يسمع، وكان يستفسر الأحاديث، فوجد أكثرها موافقاً لمذهب الشافعي رضي الله عنه، فوقع في خلده حبه، فجمع الفقهاء من الفريقين في مرو، والتمس منهم الكلام في ترجيح أحد المذهبين على الآخر، فوقع الاتفاق على أن يصلوا بين يديه ركعتين على مذهب الشافعي، وركعتين على مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنهما، يقتصر فيهما على أقل الفروض، لينظر فيها السلطان، ويتفكر، ويختار. ما هو أحسنه، فصلى القفال المروزي بطهارة مسبغة وشرائط معتبرة من الطهارة والسترة واستقبال القبلة، واتى بالأركان والفرائض على وجه الكمال والتمام، وكانت صلاة لا يجوز الشافعي دونها، ثم صلى ركعتين على ما يجوز أبو حنيفة، ولبس جلد كلب مدبوغ، ولطخ ربعه بالنجاسات، وتوضأ بنبيذ التمر وكانت في صميم الصيف في المفازة، فاجتمع عليه الذباب والبعوض، وكان وضوءه منكوساً منكساً، ثم استقبل القبلة، وأحرم بالصلاة من غير نية للوضوء، وكبر بالفارسية، ثم قرأ آية بالفارسية دوبرك كل سبز ثم نقر نقرتين كنقرات الديك من غير فصل ومن غير ركوع، وتشهد وضرط(3/19)
في آخره من غير نية
السلام، وقال: أيها السلطان هذه صلاة أبي حنيفة، فقال السلطان: إن لم يكن هذه صلاة أبي حنيفة قتلتك، لأن مثل هذه الصلاة لا يجوزها ذو دين، فأنكرت الحنفية أن يكون هذه صلاة أبي حنيفة، فأمر القفال بإحضار كتب أبي حنيفة، فأمر السلطان نصرانياً كاتباً يقرأ المذهبين جميعاً، فوجدت الصلاة على مذهب أبي حنيفة على ما حكاه القفال، فأعرض السلطان عن مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، وتمسك بمذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه انتهى كلام إمام الحرمين. لام، وقال: أيها السلطان هذه صلاة أبي حنيفة، فقال السلطان: إن لم يكن هذه صلاة أبي حنيفة قتلتك، لأن مثل هذه الصلاة لا يجوزها ذو دين، فأنكرت الحنفية أن يكون هذه صلاة أبي حنيفة، فأمر القفال بإحضار كتب أبي حنيفة، فأمر السلطان نصرانياً كاتباً يقرأ المذهبين جميعاً، فوجدت الصلاة على مذهب أبي حنيفة على ما حكاه القفال، فأعرض السلطان عن مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، وتمسك بمذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه انتهى كلام إمام الحرمين.
سنة احدى عشرة وأربع مائة
فيها كان الغلاء المفرط بالعراق، حتى أكلوا الكلاب. وفيها توفي الحاكم بأمر الله أبو علي منصور بن العزيز بن نزار بن المعز العبيدي صاحب مصر والشام والحجاز والمغرب، فقد في شوال وله ست وثلاثون سنة. جهزت أخته ست الملك عليه من قتله، وكان شيطاناً مهيباً خبيث النفس متلون الاعتقاد، سمحاً جواداً سفاكاً للدماء، قتل عدداً كثيرأ من كبراء دولته صبراً، وأمر بشتم الصحابة، وكتبه على أبواب المساجد، وأمر بقتل الكلاب حتى لم يبق بمملكته منها إلا القليل، وأبطل الفقاع والملوخية والسمك الذي لا فلوس له، وأتى لمن باع ذلك سراً فقتلهم ونهى عن بيع الرطب، ثم جمع منه شيئاً عظيماً فأحرقه، وأباد أكثر الكروم، وشدد في الخمر، وألزم أهل الذمة حمل الصلبان في أعناقهم، وأمرهم بلبس العمائم السود، وهدم الكنائس، ونهى عن تقبيل يد من له ديانة، وأمر بالسلام فقط، وبعث إليه عامله على المغرب ينكر عليه، فأخذ في استمالته، وحمل في كمه الدفاتر ولزم التفقه، وأمر الفقهاء ببث مذهب المالك، واتخذ له مالكيين يفقهانه، ثم ذبحهما صبراً، ونفى المنجمين من بلاده، وحرم على النساء الخروج، فما زلن ممنوعات سبع سنين وسبعة أشهر حتى قتل، وتزهد، وتأله، ولبس الصوف، وبقي يركب الحمار ويمر وحده في الأسواق، ويقيم الحسبة بنفسه. ويقال إنه أراد أن يدعي الإلهية كفرعون، وشرع في ذلك، وخوفه خواصه عن زوال دولته، فانتهى. وكان المسلمون وأهل الذمة في كرب وبلاء شديد معه، حتى إنه أوحش أخته بمراسلات قبيحة، وأتها تزني، وطلبت ابن دواس القائد وكان خائفاً من الحاكم فاتفقت معه على قتل الحاكم وسيرته طويلة عجيبة وأقامت أخته بعده ولده الطاهر علي بن منصور، وقتلت ابن دواس وسائر من اطلع على سرها، وأعدمت جيفة الحاكم، ولم يجدوا إلا جبة الصوف، وقد صبغت بالدماء، وقطعت بالسكاكين.(3/20)
سنة اثنتي عشرة وأربعمائة
فيها توفي الشيخ الكبير العارف بالله الشهير الحافظ أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين ابن موسى النيسابوري السلمي الصوفي. صحب جده أبا عمرو بن نجيد، وسمع الأصم وطبقته، وصنف التفسير والتاريخ وغير ذلك، وبلغت مصنفاته مائة. وقال الخطيب: قدر أبي عبد الرحمن عند أهل بلده جليل، وكان مع ذلك مجلوداً صاحب حديث. توفي في شعبان رحمه الله تعالى. وفيها توفي أبو عبد الله بن جعفر التميمي النحوي، المعروف بالقزاز القيرواني. كان الغالب عليه النحو واللغة، وله عدة تآلي، وكان العزيز بن المعز العبيدي صاحب مصر قد تقدم إليه أن يؤلف كتاباً، يجمع فيه سائر الحروف التي ذكر النحويون أن الكلام كله اسم وفعل وحرف جاملي. قال ابن الخزاز: وما علمت أن نحوياً ألف شيئاً من النحو على حروف المعجم سواه. وقال ابن رشيق: وكان مهيباً عند الملوك والعلماء وخاصة الناس، محبوباً عند العامة، قليل الخوض إلا في علم دين أو دنيا، وله شعر مطبوع منصوع، من ذلك قوله:
أما ومحل حبك في فؤادي ... وقدر مكانه فيه المكين
لو انبسطت لي الآمال حتى ... يصير من عنانك في يميني
لصنتك في مكان سواد عيني ... وحطت عليك من حذر جفوني
فأبلغ منك غايات الأماني ... وآمن فيك آفات الظنون
فلي نفس تجرع كل يوم ... عليك بهن كاسات المنون
إذا أمنت قلوب الناس خافت ... عليك خفي ألحاظ العيون
فكيف وأنت دنياي ولول ... عتاب الله فيك لقلت ديني
وقوله:
أحين علمت أنك نور عيني ... وأني لا أرى حتى أراكا
جعلت مغيب شخصك عن عياني ... يغيب كل مخلوق سواكا
وبلغ جملة الكتاب الذي ألفه العبيدي ألف ورقة، جمع فيه المفرق من الكتب النفيسة على أقصر سبيل، وأقرب ما يؤخذ، وأوضح طريق، وكأنه قد اقترح عليه أن يؤلفه على حروف المعجم، على وجه لم يسبق إليه كما تقدم.(3/21)
سنة ثلاث عشرة وأربع مائة
فيها تقدم بعض الباطنية من المصريين إلى الحجر الاسود، فضربه بدبوس، فقتلوه في الحال. قال محمد بن علي بن عبد الرحمن العلوي: قام يضرب الحجر ثلاث ضربات، وقال: إلى متى يعبد الحجر؟ ولا محمد ولا علي فيمنعني ما أفعله، فإني اليوم أهدم هذا البيت. فأنفاه أكثر الحاضرين، وكاد أن يفلت وكان أحمر أشقر جسيماً طويلاً وكان على باب المسجد عشر فوارس ينصرونه، فاحتسب رجل، ووجأه بخنجر، ثم تكاثروا عليه، فهلك، وأحرق، وقتل جماعة ممن اتهم بمعاونته، واختبط الوفد، ومال الناس على ركب مصريين بالنهب. وتخشن وجه الحجر، وتساقط منه شظايا يسيرة، وتشقق، وظهر مكسرة أسمر يضرب إلى صفرة محبباً مثل الخشخاش، فعجن الفتات بالمسك، وأكد، وحشيت الشقوق، وطلبت، فهو يبين لمن تأمله. وفيها توفي عالم الشيعة وإمام الرافضة صاحب التصانيف الكثيرة، شيخهم المعروف بالمفيد وبابن المعلم أيضاً، البارع في الكلام والجدل والفقه. وكان يناظر أهل كل عقيدة مع الجلالة والعظمة في الدولة البويهية. قال ابن أبي طي: وكان كثير الصدقات، عظيم الخشوع، كثير الصلاة والصوم، خشن اللباس، وقال غيره: كان عضد الدولة ربما زار الشيخ المفيد، وكان شيخاً ربعة نحيفاً أسمر، عاش ستاً وسبعين سنة، وله اكثر من مائتي مصنف، كانت جنازته مشهودة، وشيعه ثمانون ألفاً من الرافضة والشيعة، وأراح الله منه. وكان موته في رمضان.
سنة أربع عشرة وأربع مائة
فيها توفي الشيخ أبو الحسن، المعروف بابن جهضم الهمداني، شيخ الصوفية بالحرم الشريف ومؤلف كتاب بهجة الأسرار في التصوف وفيها توفي الحافظ ابن الحافظ أبو القاسم تمام بن محمد البجلي الرازي الدمشقي. وفيها توفي القاضي عبد الجبار بن أحمد، من رؤوس أئمة المعتزلة وشيوخهم(3/22)
، صاحب التصانيف والخلاف العنيف.
سنة خمس عشرة وأربع مائة
فيها توفي الإمام أبو الحسن المحاملي، شيخ الشافعية، أحمد بن محمد الضبي، تفقه على والده وعلى الشيخ أبي حامد الاسفرائيني، وبرع في الفقه، ودرس في أيام شيخه أبي حامد وبعده، وسمع الحديث من محمد بن المظفر وطبقته، ورحل به أبوه إلى الكوفة، وسمعه بها، وصنف عدة كتب منها المجموع والمقنع والقباب، وصنف في الخلاف كثيرا. وكان عديم النظير في الذكاء. وقال الشيخ أبو حامد: هو اليوم أحفظ للفقه مني والمحاملي نسبة إلى عمل المحامل الذي يركب فيها في السفر.
سنة ست عشرة وأربع مائة
فيها انتشر العيارون ببغدا، وخرقوا الهيبة، واصلوا العملات والقتل، وأخذوا الناس نهاراً جهاراً. وكانوا يمشون بالليل بالشمع والمشاعل، ويكبسون البيوت، ويأخذون أصحابها، ويعذبونهم إلى أن يقروا لهم بذخائرهم، وأحرقوا دار الشريف المرتضى. ولم يخرج فيها ركب من بغداد. وفيها توفي أبو عبد الله بن الحذاء القرطبي اليمني المالكي المحدث، مؤلف كتاب البشرى في تعبير الرؤيا في عشرة أسفار، وتولى قضاء إشبيلية وغيرها وفيها توفي أبو الحسن علي بن محمد التهامي، الشاعر المشهور. ومن شعره في ذم الدنيا:
طبقة على كدر وأنت تريدها ... صفواً من الأقذاء والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها ... متطلب في الماء جذوة نار
وإذا رجوت المستحيل فإنما ... تبني الرجاء على شفير هار
سجن في القاهرة، ثم قتل سراً، ورآه بعض أصحابه في النوم فقال: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي، فقال: بأي عمل؟ قال: بقولي في مرثية ولدي الصغير:(3/23)
جاورت أعدائي وجاور ربه ... شتان بين جواره وجواري
والتهامي نسبة إلى تهامة، وهي خطة متسعة بين الحجاز وأطراف اليمن. وله:
إني لأرحم حسدي لحرما ... ضمنت صدورهم من الإوغار
نظروا صنيع الله بي فعيرتهم ... في جنة وقلوبهم في نار
سنة سبع عشرة وأربع مائة
فيها هجمت الجند على الكر، فنهبوه وأحرقوا الأسواق، فوقعت الرعاع في النهب، وأشرف الناس على التلف، فقام المرتضى وطلع إلى الخليفة، فخلع وتكلم في القضية، فجعل يعير عليه، ثم ضبطت محال بغداد، وشرعوا في المصادرات. وفيها توقني الإمام أبو بكر القفال المروزي، عبد الله بن أحمد شيخ الشافعية بخراسان، حذق في صنعته حتى عمل قفلاً بمفتاحه وزن أربع حبات، فلما صار ابن ثلاثين سنة أحس في ذكاء، وحبب الله إليه الفقه، واشتغل به، فشرع فيه وهو صاحب طريقة الخراسانيين وفي الفقه. عاش تسعين سنة. قال ناصر العمري: لم يكن في زمانه أفقه منه، ولا يكون بعده. كنا نقول إنه ملك في صورة آدمي قلت: وهو القفال المتقدم ذكره مع السلطان محمود، الملقب يمين الدولة وأمين الملة ابن ناصر الدولة، ولة ذكر في صلاته على مذهب الشافعي فقهاً، والمجرية على مذهب أبي حنيفة في القصة المتقدم ذكرها في سنة عشرة وأربعمائة. قالوا: وكان وحيد زمانه فقهاً وحفظاً وورعاً وزهداً، واشتغل عليه خلق كثير، منهم الأئمة الكبار؛ القاضي حسين، والشيخ أبو محمد الجويني، وابنه إمام الحرمين، والشيخ أبو علي السبخي وغيرهم، وكل واحد من هؤلاء صار إماماً يشار إليه، ولهم التصانيف النافعة، وأخذ عنهم أئمة كبار أيضاً. والقفال المذكور ممن شرح فروع الإمام الفقيه أبي بكر بن الحداد المصري، فأجاد في شرحها رحمة الله تعالى عليهم أجمعين. وفي السنة المذكورة توفي الحافظا أبو حازم عمر بن أحمد الهذلي المسعودي النيسابوري، توفي يوم عيد الفطر. قال الخطيب: كان ثقة صادقاً حافظاً عارفاً، وقال غيره: يقال إنه كتب عن عشرة أنفس عشرة آلاف جزء.(3/24)
سنة ثمان عشرة وأربع مائة
فيها توفي الإمام الكبير الأستاذ الشهير أبو إسحاق الأسفرائيني، ابراهيم بن محمد بن ابراهيم بن مهران، الأصولي المتكلم الفقيه الشافعي، أحد الأعلام، صنف التصانيف. قال الحاكم: أخذ عنه الكلام والأصول عامة شيوخ يسابور، وأقر له بالعلم أهل العراق وخراسان، وله التصانيف الجليلة منها: كتابه الذي سماه: جامع الحلي في أصول الدين والرد على الملحدين في خمس مجلدات، وغير ذلك من المصنفات. وأخذ عنه القاضي أبو الطيب الطبري أصول الفقه بأسفرايين، وبنيت له المدرسة المعروفة بنيسابور. وذكر عبد الغفار الفارسي في سياق تاريخ نيسابور: إنه أحد من بلغ حد الاجتهاد من العلماء المتبحرة في العلوم واجتماعه شرائط الإمامة، وكان طراز ناحية الشرق. وكان يقول: أشتهي أن أموت بنيسابور حتى يصفي علي جميع أهل نيسابور، فتوفي بها يوم عاشوراء، ثم نقلوه إلى أسفرايين، ودفن في مشهده. وممن كان يخلف إلى مجلسه الأستاذ أبو القاسم القشيري. وأكثر الحافظ أبو بكر البيهقي الرواية عنه في تصانيفه، وغيره من المصنفين، وسمع بخراسان أبا بكر الإسماعيلي، وبالعراق أبا محمد دعلج بن أحمد السجزي وأقرانهما. وفيها توفي الوزير المعزي الحسين بن علي، استظهر القرآن العزيز وعدة من الكتب في النحو واللغة، ونحو خمسة ألف بيت من مختار الشعر القديم، ونظم الشعر، وتصرف في النثر، وبلغ من الخط إلى ما يقصر عنه نظراؤه، ومن حساب المولد والجبر والمقابلة إلى ما يستقل بدونه الكاتب، وكل ذلك قبل استكماله أربع عشرة سنة، واختصر إصلاح المنطق، واستوفى على جميع فوائده، حتى لم يفته شيء، وغير من أبوابه ما أوجب التدبير تغييره للحاجة إليه، وجمع كل نوع إلى ما يليق به، ثم نظم بعد اختصاره ما كتب في عدة أوراق في ليلة واحدة، وجميع ذلك قبل استكماله سبع عشرة سنة. ومن شعره:
أقول لها والعيش تخدع للسرى ... أعدي لفقدي ما استطعت من الصبر
سأنفق ريعان الشبيبة واثقاً ... على طلب العلياء أو طلب الأجر
أليس من الخسران أن ليالياً ... تمر بلا نفع وتحسب من عمر(3/25)
قلت هذا البيت الأخير ما أدري: أهو له أم استعاره للتضمين، فإن كان له فقد استعاره بعضهم للتضمين حيث قال:
إذا رقد السما وأسهرت ناظري ... وأنشدت بيتاً وهو من أفخر الشعر
أليس من الخسران أن ليالياً ... تمر بلا نفع وتحسب من عمري؟!
وللوزير المذكور أيضاً:
أرى الناس في الدنيا كراع تنكرت ... مراعيه حتى ليس في تلك مربع
فماء بلا مرعى ومرعى بلا ماء ... وحيث ترى ماء ومرعى فمنبع
وفيها توفي الحافظ أبو القاسم، هبة الله بن الحسن الطبري الفقيه الشافعي. تفقه على الشيخ أبي حامد، وسمع من المخلص وطبقته. قال الفقيه: كان يفهم ويحفظ. صنف كتاباً في السنة وكتاب رجال الصحيحين وكتاباً في السنن ثم خرج في آخر أيامه الى الدينور، ومات بها.
وفيها توفي أبو الحسين بن جعفر بن عبد الوهاب المعروف بابن الميداني، محدث دمشق رحمه الله تعالى. وفيها توفي الشيخ الكبير أبو منصور الأصبهاني، شيخ الصوفية في زمانه، روى عن الطبراني، توفي في رمضان رحمه الله تعالى.
سنة تسع عشرة وأربع مائة
فيها كان السلطان جلال الدولة ببغداد، فتحالفت عليه الأمراء، وكرهوه لتوفره على اللعب، وطالبوه، فأخرج لهم من المصاغ وغيره ما قيمته أكثر من مائة ألف دينار، فلم يرضهم، ونهبوا دار الوزير، وسقطت الهيبة، ودب النهب في الرعية، وحصروا الملك، فقال: مكنوني من الانحدار، فأجابوه، ثم وقعت صيحة، فوثب وبيده طبر وهو الحديد الماضي الذي يحمل بين يدي الملوك وصاح فيهم، فلانوا له، وقبلوا الارض وقالوا: اثبت، فأنت السلطان. ونادوا بشعاره، فأخرج لهم متاعاً كثيراً، فبيع ولم يف بمقصودهم، ولم(3/26)
يحج ركب بغداد في تلك السنة. وفيها توفي الحافظ أبو عبد الله بن الفخار القرطبي، شيخ المالكية وعالم الأندلس.
وكان زاهداً عابداً ورعاً متألهاً عارفاً بمذاهب العلماء، واسع الدائرة حافظاً للمدونة عن ظهر قلب، والنوادر لابن أبي زيد، مجلب الدعوة. قال القاضي عياض: كان أحفظ الناس وأحضرهم علماً، وأسرعهم جواباً، وأوقفهم على اختلاف العلماء وترجيح المذاهب، حافظاً للأثر، مائلاً إلى الحجة والنظر رحمه الله تعالى. وفيها توفي عبد المحسن بن محمد المعروف بابن غلبون، الصوري الشاعر المشهور، أحد البارعين الفضلاء المجيدين الأدباء. ومن نظمه:
عندي حدائق سكر غرس جودكم ... قد مسها عطش فليسق من غرسا
تداركوها، وفي أغصانها ورق ... فلن يعود اخضرار العود إن يبسا
سنة عشرين واربع مائة
فيها وقع برد عظيم إلى الغاية في الواحدة أربعة أرطال بالبغدادي، حتى قيل إن بردة وجدت تزيد على قنطار، وقد نزلت في الأرض نحواً من ذراع، وذلك بأرض النعمانية من العراق، وهبت ريح لم يسمع بمثلها، قلعت الأصول الغائبة من الزيتون والنخيل. وفيها جمع القادر بالله كتاباً، فيه وعظ ووفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقصة ما جرى لعبد العزيز صاحب الحيدة بفتح الحاء والدال المهملتين وسكون المثناة من تحت بينهما وفي آخره هاء مع بشر المريسي، والرد على من يقول بخلق القرآن، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسب الرافضة، وغير ذلك. وجمع له الأعيان والعلماء ببغداد، فقرأ على الخلق، ثم أرسل الخليفة إلى جامع براثا بالموحدة وقبل الالذين راء وبينهما مثلثة وهو مأوى الرافضة من أقام الخطبة على السنة، فخطب، وقصر عما كانوا يفعلونه في ذكر علي رضي الله تعالى عنه، فرموه بالآجر من كل ناحية، فنزل وحماه(3/27)
جماعة، حتى أسرع بالصلاة، فتألم القادر بالله وغاضبه ذلك، وطلب الشريف المرتضى شيخ الرافضة وكاتب السلطان وزيره ابن ماكولا يستحيش على الشيعة. ومن جملة كتابه: وإذا بلغ الأمير إلى الجرأة على الدين وسياسة المملكة من الرعاع والأوباش، فلا صبر دون المبالغة بما توجبه الحمية. وقد بلغه ما جرى في الجمعة الماضية في مسجد براثا الذي يجمع الكفرة والزنادقة ومن قد تبرأ الله تعالى منه، فصار أشبه شيء بمسجد الضرار، وذلك أن خطيباً كان فيه يقول مقالاً يخرج به، إلى الزندقة، فإنه يقول بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم: وعلى أخيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، مكلم الجمجمة، ومحيي الأموات، البشري الإلهي، مكلم أصحاب الكهف. فأنفذ الخطيب ابن تمام، فأقام الخطبة، فجاء الآجر كالمطر، وكسر أنفه، وخلع كتفه، ودمي وجهه لولا أن أربعة من الأتراك حموه، وإلا كان هلك والضرورة ماسة إلى الانتقام ونزل ثلاثون بالمشاعل إلى دار ذلك الخطيب، فنهبوا الدار، وعز الحريم، وخاف أولو الأمر من فتنة تكبر. ولم يخطب أحد ببراثا، وكثرت العملات والكبسات، وفتحت الحوانيت جهاراً، وعم البلاء إلى آخر السنة حتى صلب جماعة. وفيها توفي أبو الحسن أحمد بن علي بن الحسن البغدادي. قال الخطيب: كان ثقة من أهل القرآن والأدب والفقه على مذهب مالك. وفيها توفي عبد الجبار بن أحمد الطرسوسي، شيخ الإقراء في الديار المصرية، وأستاذ مصنف العنوان وألف كتاب المجتبى في القراءات. وفيها توفي عبد الرحمن بن أبي نصر التميمي الدمشقي، المعروف بالشيخ العفيف، قال أبو الوليد: وكان خيراً من ألف مثله إسناداً وإتقاناً وزهداً مع تقدمه. فيها توفي الأمير عز الملك محمد بن عبد الله بن أحمد الحراني الأديب العلامة، صاحب التآليف. وكان رافضياً، له كتاب القضايا الصابية في التنجيم، في ثلاثة آلاف(3/28)
ورقة، وكتاب الأديان في العبادات في ثلاثة آلاف وخمس مائة ورقة، وكتاب التلويح والتصريح في الشعر ثلاث مجلدات، وكتاب تاريخ مصر وكتاب أنواع الجماع في أربع مجلدات، وغير ذلك من السخافات. وفيها توفي الأمير عز الملك محمد بن أبي القاسم الكاتب الحراني الأصل، المصري المولد، صاحب التاريخ المشهور وغيره من المصنفات، رزق حظوة في التصانيف، وكان مع ما فيه من الفضائل على زي الأجناد، واتصل بخدمة الحاكم العبيدي صاحب مصر ونال منه سعادة من الدنيا. وبلغ تاريخه ثلاثة عشر ألف ورقة. وله عدة تصانيف أخرى، وله شعر حسن، من ذلك أبيات رثى بها أم ولده، وهي:
ألا في سبيل الله قلب تقطعاً ... وقادحة لم تبق للعين مدمعا
الصبر وقد حل الثرى من أوده ... ولله هم ما أشد وأوجعا
فياليتني للموت قدمت قبلها ... وإلا فليت الموت أذهبنا معا
سنة احدى وعشرين واربع مائة
فيها أو في ما بعدها توفي الإمام أبو الفتح يحيى بن عيسى بن ملابس، وهو ممن انتشر
عنه فقه الإمام الشافعي في بلاد اليمن، تفقه بجماعة منهم الإمام الحسين بن جعفر المراغي، ومنهم الإمام محمد بن يحيى بن سراقة. ثم ارتحل إلى مكة، فجاور فيها، وشرح مختصر المزني، شرحه المشهور له في اليمن، ذكر في أوله أنه شرحه بمكة في أربع سنين، مقابل الكعبة. وروى القاضي الإمام طاهر ابن الإمام العلامة يحيى بن أبي الخير العمراني، مصنف كتاب البيان بسنده عن الإمام يحيى بن عيسى المذكور أنه لما استأذنه ولده في المجاورة بمكة نهاه أن يتزوج من النساء من هي بالغ بسنها، قال: فإني تزوجت بها ستين امرأة في أربع سنين، ولا آمن عليك أن تتزوج من كنت تزوجت بها. وفيها أقبلت الروم في ثلاثمائة ألف على قصد الشام، فأشرف على معسكرهم سرية من العرب نحو مائة فارس وألف راجل، فظن ملكهم أنها كبسة، فاختفى، ولبس خفاً أسود، وهرب، فوقعت الخبطة فيهم، واستحكمت الهزيمة، فطمع أولئك العرب منهم، ووضعوا السيف حتى قتلوا مقتلة عظيمة، وغنموا خزائن الملك، واستغنوا بها.(3/29)
وكاد أن يستولي الخراب إلى بغداد، لضعف الهيبة وتتابع السنين، فاجتمع الهاشميون في جامع المنصور، ورفعوا المصاحف، واستنفروا الناس، فاجتمع إليهم الفقهاء وخلق من الإمامية والرافضة، وضجوا بأن يعفوا من الترك، فعمد الترك نعود بالله من الضلال فرفعوا صليباً على رمح، وترامى الفريقان بالنشاب والآجر، وقتل طائفة، ثم تهاجروا، وكثرت العملات والكبسات، وأخذت المخازن الكبار والدور، وتجدد دخول الأكراد اللصوص إلى بغداد، فأخذوا خيول الأتراك من الاصطبلات. وفيها توفي السلطان محمود ابن الأمير ناصر الدولة أبو منصور. كان أبوه أمير الغزاة الذين يغزون من بلاد ما وراء النهر على أطراف الهند، وأخذ عدة قلاع، وافتتح ناحية بست. وأما محمود فافتتح غزنة ثم بلاد ما وراء النهر، ثم استولى على سائر خراسان، ودان له الخلق على اختلاف أجناسهم، وفرض على نفسه غزو الهند كل عام، فافتتح منه بلاداً واسعة، وقد مضى ذكر شيء من فتح البلاد البعيدة، وصفاته الجميلة الحميدة، وعلو همته الشريفة، ورجوعه عن مذهب أبي حنيفة إلى مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنهما، في القضية المتقدمة في السنة العاشرة بعد الأربعمائة.
وفيها توفي الإمام أحمد بن محمد المعروف بابن دراج الأندلسي الشاعر. قال الثعالبي: كان يصقع الأندلس كالمتنبي يصقع الشام. ومن أشعاره ما عارض بها قصيدة أبي نواس التي مدح بها الخصيب صاحب ديوان خراج مصر ومنها قوله:
تقول التي من بيتها خف محمل ... عزيزعلينا أن نراك تسير
أما دون مصر للغني مطلب ... بلى إن أسباب الغنى لكثير
فقلت لها واستعجلتها بوادر ... جرت فجرى من حرهن عبير
درين أكثر حاسديك برحلة ... إلى بلدة فيها الخصيب أمير
فما حازه جود ولا حل دونه ... ولكن يصير الجود حيث يصير
فتى يشتري حسن الثناء بماله ... ويعلم أن الدائرات تدور
فمن كان أمسى جاهلاً بمقالتي ... فإن أمير المؤمنين خبير
ثم قال في أواخرها بعد ذكر المنازل:
زها بالخصيب السيف والرمح في الوغى ... وفي السلم يزهو منبر وسرير
جواد إذا الأيدي قبضن عن الندى ... ومن دون عورات النساء غيور
فإني جدير إن بلغتك للغنى ... وأنت لما أملت منك جدير
فإن تولني منك الجميل فأهله ... وإلا فإني عاذر وشكور(3/30)
وكل هذه الأبيات من قصيدة أبي نواس، وأما قصيدة ابن دراج المعارض بها فمنها هذه الأبيات:
دعيني أرد ماء المفاوز راجياً ... إلى حيث ماء للكرام نمير
فإن خطيرات المهالك ضمنت ... براكبها أن الجزاء خطير
ولما تراءت للوداع وقد هفا ... بصبري منها أنه وزفير
تناشدني عهد المودة والهوى ... وفي المهد منهوم النداء صغير
عيي بمرجوع الخطاب ولحظه ... بموقع أهواء النفوس خبير
تنوع بممنوع القلوب ومهدت ... له أذرع محفوفة ونحور
فكل مفداة الترائب عنده ... وكل محياة المحاش ظير
عصيت شفيع النفس فيه وقادني ... روائح تلاب السرى وبكور
فطار جناح البين بي وهفت بها ... حوائج من دعو العراق تطير
ولو شاهدتني والهواجر تلتظي ... علي ورقراق السراب يمور
أسلط حراً لها جرات إذا سطا ... على حر وجهي والأصيل هجير
واستنشق النكباء وهي لواقح ... وأستوطن الرمضاء وهي تفور
وللموت في عين الجبان تلون ... وللذعر في سمع الجري صفير
لبان لها أني من الضيم جازع ... وأني على مض الخطوب صبور
أمير على غول السبايف ماله ... إذا ريع إلا المشرقي وزير
ولو بصرت بي والسرى حل عزمتي ... وجرسي لجنان الفلاة سمير
وأعتسف الموماة في غسق الدجى ... وللأسد في غيل الغياض زئير
وقد حومت زهر النجوم كأنها ... كواعب في خضر الحدائق حور
ودارت نجوم القطب حتى كأنها ... كؤوس مهاً والى بهن مدير
وقد خيلت طرف المجرة أنها ... على مفرق الليل البهيم فقير
وثاقب عزمي والظلام مروع ... وقد غض في أجفان النجوم فتور
لقد أيقنت المنى طوع همتي ... وأني بعطف العامري جدير
وفيها أو قبلها أو بعدهما، توفي الإمام أبو عبد الله محمد بن مسعود بن أحمد(3/31)
المسعودي الفقيه الشافعي الفاضل المبرز الورع، من أهل مرو. تفقه على أبي بكر القفال المروزي، وشرح مختصر المزني، وأحسن فيه، وروى قليلاً من الحديث عن أستاذه القفال. وحكى عنه الغزالي في كتاب الوسيط في الايمان مسألة لطيفة فقال: فرع لو حلف لا يأكل بيضاً، ثم انتهى إلى رجل، فقال: والله لآكلن ما في كمك، فإذا هو بيض، فقد سئل القفال عن هذه المسألة وهو على الكرسي فلم يحضر جواب. فقال المسعودي: يتخذ منه الناطف، ويأكله، فيكون قد أكل ما في كمه، ولم يأكل البيض، فاستحسن ذلك منه. وهذه الحيلة من لطائف الحيل الوافية من الوقوع في الخلل. توفي المسعودي المذكور بعد نيف وعشرين وأربع مائة بمرو - رحمه الله تعالى - ونسبته إلى جده مسعود.
سنة واثنتين وعشرين واربع مائة
فيها عزم الصوفي الملقب بالمنصور على الغزو، فكتب له السلطان منشوراً، وقصد الجامع لقراءة المنشور وبين يديه الرجال بالسلاح يترضون على الشيخين، وصاحوا: هذا يوم معاوي. قلت: يعنون فيه إظهار شعار معاوية بن ابي سفيان في الذكر لإبي بكر وعمر دون علي رضي الله تعالى عنهم فحصبهم أهل الكرخ، فسارت الفتنة، واضطربت، ونهبت العامة دار الشريف المرتضى، ودافع عنه جيرانه الأتراك، واحترقت له سرية، وبات الناس في ليلة صعبة، وتأهبوا للحرب، واجتمعت العامة وخلق من الترك، وقصدوا الكرخ، فرموا النار في الأسواق، وأشرف أهل الكرخ على التلف، فركب الوزير والجند، فوقعت آجره على صدر الوزير، وسقطت عمامته، وقتل جماعة من الشيعة، وزاد النهب فيهم، واحرق في هذه السائرة عدة اسواق، ولم يجر من السلطان إنكار لضعفه وعجزه، وتبسطت العامة، وآثاروا الفتن: فالنهار فتن ومحن، والليل عملات ونهب. وقامت الجند على السلطان جلال الدولة لإطراحه مصالحهم، وراموا قطع الخطبة، فارضاهم بالمال، فساروا بعد أيام عليه. وثم مات القادر بالله، واستخلف ابنه القائم بأمر الله، فبايبعه الشريف المرتضى، ثم الأمير حسن بن عيسى بن المقتدر، وقامت الأتراك على القائم بالرسم الذي للبيعة، فقال: إن القادر لم يخلف مالاً، وصدق لأنه كان من أفقر الخلفاء، ثم صالحهم على ثلاثة ألاف دينار، وعرض القائم خاناً وبستاناً للبيع، وصغر دست - الخلافة إلى هذا الحد، وصارت الأموال والأعمال مقسومة بين الأتراك والأعراب، مع ضعف ارتفاع الخراج، والوزارة خالية من أهلية، وما يناسبها من صلاحيته، والوقت هرج ومرج، والناس بلا رأس.(3/32)
وفيها توفي القادر بالله بن المقتدر بن المعتضد العباسي، وكانت خلافته إحدى اربعين سنة. قال الخطيب: كان من أهل الديانة والتهجد وكثرة الصدقات على صفة اشتهرت عنه. وصنف كتاب في الأصول، في فضل الصحابة، وتكفير المعتزلة، والقائلين بخلق القرآن، وكان يقرأ كل جمعة بحضرة الناس. وفيها توفي القاضي عبد الوهاب الفقيه المالكي، أحد الأعلام. انتهت إليه رئاسة المذهب. قال الخطيب: لم ألق في المالكية أفقه منه. وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: سمعت كلامه في النظر، وكان فقيهاً متأدباً شاعراً، له كتب كثيرة في كل فن. ومن ذلك كتاب التلقين في الفقه، وكتاب المعرفة، وشرح الرسالة، وغير ذلك. ومن أشعاره:
سلام على بغداد في كل موطن ... وحق لها مني سلام مضاعف
فوالله ما فارقتها عن قلى لها ... وإني لشطي جانبيها لعارف
ولكنها ضاقت علي بأسرها ... ولم تكن الأرزاق فيها تساعف
وكانت كخل كنت أهوى دنوه ... وأخلاقه تنأى به وتخالفه
ومن أشعاره الظريفة المشتملة على المعاني اللطيفة قوله:
ونائمة قبلتها فتنبهت ... فقالت: تعالوا فاطلبوا اللص بالحد
فقلت لها إني فديتك غاصب ... وما حكموا في غاصب بسوى الرد
خذيها وكفي عن أثيم ظلامة ... وإن أنت لم ترضي فألفاً على العد
فقالت: قصاص يشهد العقل أنه ... على كبد الجاني الدين أشهد
ما غير ذلك مما حذفته رغبة في الاختصار وكراهة لبعض الغزل الفاحش في الأشعار. توفي ليلة الاثنين الرابعة عشر من صفر، ودفن في القرافة. وفيها توفي الإمام الواعظ يحيى بن عمار الشيباني السجستاني نزيل هراة.
سنة ثلاث وعشرين واربع مائة
فيها سارت الغلمان بالسلطان جلال الدولة، وصمموا على عزله، وطرده، فهرب(3/33)
بالليل مع جماعة من غلمانه إلى عكبراء، ونهبت داره من الغد. في السنة المذكورة سار الملك المسعود بن محمود بن ناصر الدين، فدخل أصفهان بالسيف، ونهب وقتل علماء لا يحصون، ففعل ما لا يفعله الكفرة. وفيها توفي الحافظ أبو الحسن علي بن أحمد النعيمي البصري. قال الخطيب: كان حافظاً عارفاً متكلماً شاعراً. وفيها توفي ابن البواب الكاتب علي بن هلال. قيل ليس له في الكتابة مثل ولا مقارب، وإن كان أبو علي أول من نقل هذه الطريقة من الخط الكوفي، وأبرزها في هذه الصورة، وله بذلك فضيلة السبق، وخطه أيضاً في نهاية الحسن، لكن ابن البواب هذب طريقته، ونقاها، وكساها حلاوة وبهجة، والكل معترفون له بالتفرد، وعلى منواله ينسجون، وليس فيهم من يلحق شأنه، ولما توفي رثي بهذين البيتين:
استشعر الكتاب فقدك سالفاً ... وقضت بصحة ذلك الأيام
فلذاك سودت الروي كأنه ... أسف عليك وشقت الأقلام
وروى ابن الكلبي الهيثم بن العدي أن ناقل هذه الكتابة من الحيرة إلى الحجاز هو حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وكان قد قدم الحيرة، فعاد إلى مكة بهذه كتابة، وقال لأبي سفيان بن حرب: ممن أخذ أبوك هذه الكتابة؟ فقال: من أسلم بن نذر، وقال: سألت أسلم ممن أخذ الكتابة فقال: من واضعها، من عامر بن مرة. قالوا: فحدوث هذه الكتابة قبل الإسلام بقليل. وكان لحمير كتابة تسمى المسند، وحروفها منفصلة غير متصلة، وكانوا يمنعون العامة من تعليمها، فلا يتعاطاها أحد إلا بإذنهم، فجاءت ملة الإسلام، وليس بجميع اليمن من يقرأ ويكتب، وجميع كتابات الأمم من سكان الشرق والغرب اثنتا عشرة كتابة، وهي العربية والحميرية واليونانية والفارسية والسريانية والعبرانية الرومية والقبطية والبربرية والأندلسية والهندية والصينية.
سنة اربع وعشرين واربع مائة
فيها اشتد الخطب ببغداد بسبب الحرامية وأخذهم أموال الناس عياناً، يأخذون للتاجر ما قيمته عشرة آلاف دينار، وقتلوا صاحب الشرطة، وباقي الناس لا يجسرون يقولون: فعل بنا فلان كذا، خوفاً منه. وزادت العملات والكبسات ووقع القتال، وأحرقت أماكن وأسواق(3/34)
ومساجد، وقوي الشر، وتارت الجند، وقبضت على السلطان جلال الدولة، ليرسلوه إلى واسط والبصرة، فأنزلوه في مركب وابتلت ثيابه، وأهين، ثم أرجموه، فأخرجوه، وأركبوه فرساً ضعيفة، وشتموه، فانتصر له أبو الوفاء القائد في طائفة، وأخذوه من أيدي أولئك، وردوه إلى داره، ثم سار في الليل إلى الكرخ، فدعا له أهلها، ونزل في دار الشريف المرتضى، فأصبح العسكر، وهموا به، فاختلفوا، فقال بعضهم: ما بقي إلا هذا وابن أخيه من بني بويه بضم الموحدة وفتح الواو وسكون المثناة من تحت وقد سلم الأمر ومضى إلى بلاد فارس، ثم كتبوا له ورقة بالطاعة والاعتذار، فركب معهم إلى دار السلطنة. وفي السنة المذكورة توفي الحافظ العبد الصالح محمد بن ابراهيم الأردستاني بالراء والدال والسين المهملات والمثناة من فوق الالف والنون بعدها.
سنة خمس وعشرين واربع مائة
فيها توفي الحافظ الكبير محمد بن محمد بن أحمد بن غالب الخوارزمي البرقاني، قال الخطيب: لم نر في شيوخه أثبت منه، كان ورعاً عارفاً بالفقه، كثير التصانيف، ذا حظ من علم العربية. صنف مسنداً، ضمنه ما يشتمل عليه الصحيحان. وقال غيره: كان نسيج وحده.
وفيها توفي أبو علي بن شاذان البغدادي. قال الخطيب: كان صدوقاً، صحيح السماع، يفهم الكلام على مذهب الأشعري. وفيها توفي الفقيه العالم الزاهد عمر بن ابراهيم الهروي. وفيها توفي الحافظ عبد الله بن عبد الوهاب بن عبد الله المزني الدمشقي.
سنة ست وعشرين واربع مائة
وفيها تملك العيارون بغداد. وغزا مسعود بن أحمد بلاد الهند، فوصل كتابه بأنه قتل من القوم خمسين ألفاً وسبى سبعين ألفاً. وفيها توفي ابن شهيد الأديب أبو عامر، أحمد بن عبد الملك بن مروان الأشجعي القرطبي الشاعر، حامل لواء الشعر بالأندلس. قال ابن حزم: لم يخلف له تظيراً في الشعر والبلاغة، وكان سمحاً جواداً.(3/35)
وفيها توفي أبو محمد بن الشقاق بالشين المعجمة والقاف المكررة كبير المالكية، رأس القراء. وفيها توفي الفقيه الأديب المحدث، أبو عمرو الزرجاهي بفتح الزاي وسكون الراء قبل الجيم على ما ضبط في بعض النسخ محمد بن عبد الله البسطامي، ابن شهيد بضم الشين المعجمة. أحمد بن عبد الملك بن مروان القرطبي قال في كتاب الذخيرة: وكان متفنناً بارعاً، بينه وبين ابن حزم الظاهري مكاتبات ومداعبات، وله التصانيف الغربية البديعة، ومن محاسن شعره من قصيدة له:
وتدري سباع الطير أن كماته ... إذا لقيت صيد الكماة سباع
تطير جياعاً فوقه وتردها ... ظباة إلى الأوكار وهي شباع
سنة سبع وعشرين واربع مائة
فيها دخل العيارون، وهم مائة الأكراد والأعراب، فأحرقوا دار صاحب الشرطة، فتحوا خاناً، فأخذوا ما فيه، وخرجوا بالكارات، والناس لا ينطقون. وفيها شغب الجند على الملك جلال الدولة، وقالوا اخرج عنا، فقال أمهلوني ثلاثة أيام، وجرت أمور طويلة، ثم تركوه لضعفهم.
وفيها توفي أبو إسحاق الثعلبي أحمد بن محمد بن ابراهيم النيسابوري، المفسر المشهور. وكان حافظاً واعظاً رأساً في التفسير والعربية، متين الديانة، فاق بتفسيره الكبير سائر أهل التفاسير. قلت: هكذا قيل، ولعل ذلك من بعض الوجوه، وإلا فهناك تفاسير أخرى، قد تميز كل واحد منها بفضيلة وفن معروف عند أهله، وله كتاب العرائس في قصص الأنبياء وغير ذلك، ذكره السمعاني وقال: يقال له الثعلبي، والثعالبي وهو لقب له، وليس نسب. ونقل بعض العلماء أن الاستاذ أبا القاسم القشيري رحمه الله تعالى قال: رأيت رب العزة في المنام، وهو يخاطبني وأخاطبه، وكان في أثناء ذلك أن قال الرب تعالى اسمه: أقبل الرجل الصالح، فالتفت فإذا أحمد الثعلبي مقبل. ذكره عبد الغافر الفارسي في سياق تاريخ نيسابور، وأثنى عليه وقال: هو صحيح النقل، موثوق به. وكان كثير الشيوخ. رحمه ته تعالى. وفيها توفي الإمام الجياني المحدث أبو علي الحسين بن محمد الغساني الأندلسي.(3/36)
كان إماماً في الحديث، وله كتاب مفيد، ساه تقييد المهمل ضبط فيه كل لفظ يقع فيه اللبس من رجال الصحيحين في جزئين، وما قصر فيه. وكان من جهابذة المحدثين، وكبار العلماء المفيدين، حسن الخط جيد الضبط، له معرفة بالغريب والشعر والأنساب. ونسبته إلى جيان بفتح الجيم وتشديد المثناة من تحت مدينه كبيرة بالأندلس، وبأعمال الري قرية يقال له جيان أيضاً. والغساني نسبة إلى غسان وقد تقدم الكلام عليه.
سنة ثمان وعشرين واربع مائة
فيها توفي أبو الحسين أحمد بن محمد الفقيه الحنفي القدوري، انتهت إليه رئاسة الحنفية بالعراق. وكان حسن العبارة في النظر، وسمع الحديث، وروى عنه الخطيب أبو بكر، وصنف في مذهبه المختصر وغيره، وكان يناظر الشيخ أبا حامد الاسفرائيني الفقيه الشافعي، وقد تقدم في ترجمة أبي حامد ما بالغ القدوري في مدحته. والقدوري نسبة إلى عمل القدور، جمع قدر. وفيها توفي الحافظ أحمد بن منجويه بالنون والجيم والمثناة من تحت بعد الواو رحل وسمع، وصنف التصانيف. وفيها توفي مهيار الشاعر المشهور الفارسي. كان مجوسياً فأسلم، ويقال إن إسلامه كان على يد الشريف الرضي، وعليه تخرج في نظمه، وله ديوان كبير يدخل في أربع مجلدات. ومن شعره:
يراها بعين الشوق قلبي على النوى ... فيخطىء ولكن من لعيني برؤياها
فالله ما أصفى وأكدر حبها ... وأبعدها مني الغداة وأدناها
وهما من قصيدة شهيرة. وقال أبو الحسن صاحب دمية القصر: ومن شعره أيضاً:
ملحاً على البخل الشحيح بماله ... أفلا يكون بماء وجهك أنجلا
أكرم يديك عن السؤال فإنما ... قدر الحياة أقل من أن تسألا
ولقد أضم إلي فضل قناعتي ... وأتيت مشتملاً بها متزملا
وإذا امرؤ أفنى الليالي حسرة ... وأمانياً أفنيتهن توكلا
وفيها توفي الرئيس أبو علي المعروف بابن سينا الحكيم المشهور، الحسين بن عبد الله ابن الحسن بن علي بن سينا. قال ابن خلكان: تنقل الرئيس ابن سينا في البلاد، واشتغل بالعلوم، وحصل الفنون، ولما بلغ عشر سنين كان قد أتقن علم القرآن الكريم والأدب،(3/37)
وحفظ أشياء من أصول الدين وحساب الهندسة والجبر والمقابلة، وتوجه نحوهم الحكيم أبو عبد الله الناتلي بالنون والمثناة من فوق بين الألف واللام فأنزله أبو علي عنده، وابتدأ يقرأ عليه، فأحكم علم المنطق وإقليدس والمجسطي، حتى فاق الناتلي بدرايتها. وأوضح له رموزاً، وفهمه إشكالات كان شيخه المذكور لا يدريها، ومع ذلك كان يختلف في الفقه إلى اسماعيل الزاهد، يقرأ ويبحث، ويناظر، ثم اشتغل بتحصيل علوم أخرى كالطبيعي والإلهي وغير ذلك، ونظر في النصوص والشروح، ففهم كل ذلك، ثم رغب في علم الطب، وتأمل الكتب المصنفة فيه، وعالج هادياً لا متكسباً، وعلمه حتى فاق فيه الأوائل والأواخر في أقل مدة، وأصبح فيه عديم القرين فقيد المثيل. واختلف إليه فضلاء هذا الفن وكبراؤه، يقرؤون عليه أنواعه والمعالجات المكتسبة من التجربة وسنه إذ ذاك ست عشرة سنة - وفي مدة اشتغاله لم ينم ليلة واحدة بكمالها، ولا اشتغل بالنهار بنوى المطالبة، وكان إذا أشكل عليه مسألة توضأ، وقصد المسجد الجامع، وصلى، ودعا الله تعالى أن يسهلها عليه، ويفتح مغلقها - على ما ذكر بعض المورخين. وذكر عند الأمير نوح بن نصر - صاحب خراسان - في مرض موته، فأحضره، وعالجه حتى برىء، واتصل به، وقرب منه، ودخل إلى دار كتبه، وكانت عديمة المثل، فيها من كل فن من الكتب المشهورة بأيدي الناس وغيرها، مما لا يوجد في سواها، ولا سمع باسمه، فضلاً عن معرفته، فظفر أبو علي منها بكتب الأوائل وغيرها، وحصل نخب فوائدها، واطلع على أكثر علومها، واتفق بعد ذلك احتراق تلك الخزانة، فتفزد أبو علي بما حصله من علومها، ويقال: إنه هو الذي توصل إلى إحراقها ليتفرد بمعرفة ما حصله منها، وينسبه إلى نفسه، ولم يستكمل ثمان عشرة سنة من عمره إلا وقد فرغ من تحصيل العلوم بأسرها وقيل التي عاناها بأسرها ثم صار هو وأبوه يتصرفان في الأحوال، ويتقلدان للسلطان الأعمال، وجرت له تنقلات في البلدان وما فيها من دولة السلطان، وإنه تولى الوزارة لشمس الدولة في همدان، ثم تشوش العسكر، وعمدوا إلى داره، فنهبوها، وقبضوا عليه، وسألوا شمس الدولة في قتله، فامتنع، ثم اطلق فتوارى، ثم مرض شمس الدولة بالقولنج، فأحضره لمداواته، واعتذر إليه، وأعاده وزيراً. وكان ابن سينا قوي المزاج يغلب عليه قوة الجماع، حتى أضعفته ملازمته، وعرض له قولنج، فعالجه مراراً، يصح أسبوعاً ويمرض أسبوعاً، ومرض أمراضاً كثيرة، وطرح بعض غلمانه في بعض أدويته شيئاً كثيراً زائداً على ما رسمه الطبيب، فعجزت المعالجات عن شفائها، وأشرفت قواه على السقوط، فأهمل المداواة، واعترف بالعجز عن تدبير نفسه، ثم اغتسل، وتاب، وتصدق بما معه على الفقراء ورد المظالم على من عرفه، وأعتق مماليكه، وجعل يختم في كل ثلاثة أيام ختمة، ثم توفي في التاريخ المذكور في شهر رمضان بهمدان.(3/38)
قلت: وهذا مختصر تنقلات جرت له في الأحوال والبلدان، منها خوارزم وجرجان ودهستان وقزوين، والري وبخارى وهمدان وأصفهان، وبست وطوس، واجتمع بولاتها لخوارزم شاه، وشمس المعالي قابوس، وشمس الدولة، وعلاء الدولة، وكان نادرة عصره في علمه وذكائه وتصانيفه، صنف كتاب الشفاء في الحكمة والنجاة والإشارات والقانون وغير ذلك، مما يقارب مائة تصنيف، ما بين مختصر ومطول ورسالة في فنون شتى، وله رسائل بديعة، منها رسالة الطير وغيرها، وهو أحد فلاسفة المسلمين، وله شعر، من ذلك قوله:
هبطت إليك من المحل الأرفع ... ورقاء ذات تعزز وتمنع
محجوبة عن كل مقلة عارف ... وهي التي سفرت ولم تتبرقع
وصلت على كره إليك وربما ... كرهت فراقك وهي ذات تفجع
أنفت وما ألفت فلما واصلت ... ألفت مجاورة الخراب البلقع
وأظنها نسيت عهوداً بالحمى ... ومنازلاً بفراقها لم تقنع
حتى إذا اتصلت بهاء هبوطها ... من ميم مركزها بذات الأجرع
علقت بها ثاء الثقيل فأصبحت ... بين المعالم والطلال الخضع
تبكي وقد نسيت عهوداً بالحمى ... ومدامع تهمي ولما تقلع
حتى إذا قرب المسير الى الحمى ... ودنا الرحيل إلى الفضاء الأوسع
وغدت تفرد فوق ذروة شاهق ... والعلم يرفع كل من لم يرفع
وقعود عالمه بكل خفية ... في العالمين فخرقها لم يرقع
فهبوطها إن كان ضربة لازم ... ليكون سامعه بما لم تسمع
فلأي شيء أهبطت من شاهق ... شام إلى قعر الحضيض الأوضع
إن كان أهبطه الإله بحكمة ... طويت على الفطن اللبيب الأورع
إذ عاقها الشرك الكثيف وصدها ... قفص عن الأوج الفسيح الأرفع
وكأنها برق تألف بالحمى ... ثم انطوى وكأنه لم يلمع
قال وفضائله مشهورة كثيرة. وكان الشيخ كمال الدين بن يونس - يقول: إن مخدومه سخط عليه، واعتقله، ومات في السجن، وكان ينشد:
رأيت ابن سينا يعادي الرجال ... وفي السجن مات أخس الممات
فلم يشف ما نابه بالشفاء ... ولم ينج من موته بالنجاة(3/39)
انتهى قلت: والشفاء والنجاة إشارة إلى كتابيه المتقدم ذكرهما، ولقد طالعت كتاب الشفاء فلم أراه إلا جديراً بقلب الفاء قافاً، مشتمل على كثيرة فلسفة، لا ينشرح لها صدر متدين. وذكر شيخ الإسلام أستاذ الأنام في عصره: شهاب الدين السهروردي رحمه الله أنه غسل كتابه الموسوم بالشفاء بإشارة قدسية نبوية، يعني بإشارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قلت: وقد ذكروا أنه تاب، واشتغل بالتنسك، فإن صح ذلك فقد أدركه الله تعالى لسابق عنايته وواسع رحمته، حتى أحدث فيه لاحق توبته - والله أعلم بحقيقة ذلك وصحته. وفيها توفي وجيه الدولة أبو المطاع بن حمدان ابن ناصر الدولة الحسين بن عبد الله بن حمدان الثعلبي، كان شاعراً ظريفاً حسن السبك، جميل المقاصد. ومن شعره قوله:
إني لأحسد لا في أسطر الصحف ... إذا رأيت اعتناق اللام للألف
وما أظنهما طال اعتناقهما ... إلا لما لقيا من شدة الشغف
وأورد له الثعالبي في اليتيمة
قالت: لطيف خيال زارها ومضى ... بالله صفة لا تنقص ولا تزد
فقال حلبت لو مات من ظمأ ... وقلت قف عن ورد الماء لم يرد
قالت صدقت الوفا في الحب عادته ... يا برد ذاك الذي على كبدي
وذكر بعضهم أن هذه الأبيات للشريف أبي القاسم أحمد بن طباطبا العلوي، ولوجيه الدولة المذكور أشعار كثيرة حسنة شهيرة، وكان قد وصل إلى مصر في أيام الظاهر بن الحكم العبيدي صاحبها، فقلده ولاية الإسكندرية وأعمالها، فأقام بها سنة، ثم رجع إلى دمشق.
سنة تسع وعشرين واربع مائة
فيها توفي الحافظ محدث هراة أبو يعقوب القراب بالقاف في أوله والموحدة في آخره على ما ضبطه بعضهم اسحاق بن ابراهيم السرخسي الهروي. روى عن خلق كثير، زاد عدة شيوخه على ألف ومائتين، وصنف تصانيف كثيرة، وكان صالحاً زاهداً مقلاً من الدنيا، رجمه الله. وفيها توفي العلامة في اللغة والشعر والعربية المصنف في الزهد وغيره، يونس بن عبد الله بن محمد بن مغيث، قاضي الجماعة بقرطبة. وفيها توفي الأستاذ أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي الفقيه الشافعى الأصولى(3/40)
الأديب. كان ماهراً في فنون عديدة خصوصاً علم الحساب فإنه كان متقناً له، وله فيه تآليف نافعة، وكان عارفاً بالفرائض والنحو، وله أشعار. وكان ذا مال وثروة وإنفاق على أهل العلم والحديث، ولم يكتسب بعلمه مالاً، وصنف في العلوم، وأربى على أقرانه في الفنون، ودرس في سبعة عشر فناً، وكان قد تفقه على الأستاذ أبي إسحاق الاسفرائيني، وجلس بعده للإملاء في مكانه سنين، واختلف الأئمة إليه، فقرؤوا العلوم عليه، مثل الأستاذ زين الإسلام القشيري، والإمام ناصر المروزي، وغيرهما.
سنة ثلاثين واربع مائة
فيها توفي الإمام الحافظ الشيخ العارف أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني الصوفي، صاحب كتاب حلية الأولياء، كان من أعلام المحدثين وأكابر الحفاظ المفيدين، أخذ عن الأفاضل، وأخذوا عنه، وانتفعوا به. وكتابه الحلية من أحسن الكتب. قلت: أما طعن ابن الجوزي فيها وتنقصه لها فهو عن باب قولي.
لئن ذمها جاراتها وضرائر ... وعين جمالاً في حلاها وفي الحلي
فما سلمت حسناء من ذم حاسد ... وصاحب حق من عداوة مبطل
مع أبيات أخرى في مدح الإمام أبي حامد الغزالي وتصانيفه وكلامه الغالي، وله كتاب تاريخ أصفهان تفرد في الدنيا بعلو الإسناد مع الحفظ. روى عن المشايخ بالعراق والحجاز والخراسان، وصنف التصانيف المشهورة في الأقطار. وفيها توفي أبو منصور الثعالبي عبد الملك بن محمد النيسابوري الأديب اللبيب الشاعر، صاحب التصانيف الأدبية السائرة في الدنيا، وراعي بلاغات العلم، وجامع أشتات النظم. سار ذكره سير المثل، وضربت إليه آباط الإبل، وطلعت دواوينه في المشارق والمغارب طلوع النجم في الغياهب. ومن نظمه:
لك في المفاخر معجزات جمة ... أبداً لغيرك في الورى لم تجمع
بحران يجري في بلاغة شأنه ... شعر الوليد وحسن لفظ الأصمع
كالنور أو كالسحر أو كالبدر أو ... كالوشي في برد عليه موسع
وإذا تفتق نور شعرك ناظراً ... فالحسن بين مرصع ومصرع
نقشت في فص الزمان بدائعاً ... تزرى بآثار الربيع الممرع(3/41)
مع أبيات أخرى كتبها إلى الأمير أبي الفضل الميكالي. وله من التآليف كتاب يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر وهو أكبر كتبه وأحسنها، وفيه يقول أبو الفرح الإسكندري:
أبيات أشعار اليتيمة ... أبكار أفكار قديمة
ماتوا وعاشت بعدهم ... فذاك سميت اليتيمة
قيل والثعالبي: نسبة إلى خياطة جلود الثعالب وعملها. وله كتاب فقه اللغة وسحر البلاغة وسر البراعة ومؤنس التوحيد وشعر كثير هو له مجيد، جمع فيه أشعار الناس ورسائلهم وأخبارهم وأحوالهم. وفيها توفي أبو القاسم عبد الملك بن بشران البغدادي الواعظ. قال الخطيب: كان ثقة ثبتاً صالحاً، وكان الجمع في جنازته يتجاوز الحد ويفوت الانحصار.
؟ سنة احدى وثلاثين وأربعمائة فيها توفي القاضي المقرىء المحدث أبو العلاء الواسطي، محمد بن علي بن أحمد. وفي نيف وثلاثين توفي الفقيه الإمام أحد العلماء الأعيان، أول من جمع بين طريق العراق وخراسان الحسن بن علي السنجي صاحب شرح فروع ابن الحداد.
؟ سنة اثنتين وثلاثين واربع مائة استولت فيها السلجوقية بالسين المهملة والجيم والقاف على جميع خراسان. وفر السلطان مسعود إلى غزنة. والحرب في بغداد بين الرافضة والسنية. وفيها توفي الحافظ أبو العباس جعفر بن محمد بن المستغفر بن الفتح النسفي، صاحب التصانيف الكثيرة.
سنة ثلاث وثلاثين واربع مائة
فيها توفي السلطان المسعود ابن السلطان محمود. والرئيس أحمد بن محمد أبو الحسين الأصفهاني وراوي المعجم الكبير عن الطبراني. والقاضي أبو نصر أحمد بن الحسين الدينوري، سمع سنن النسائي من ابن السني وحدث به.(3/42)
سنة أربع وثلاثين وأربعمائة
فيها كانت الزلزلة العظمى بتبريز، فهدمت أسوارها، وأحصى من هلك تحت الهدم فكانوا أكثر من أربعين ألفاً نسأل الله العفو والعافية. وفيها توفي الحافظ أبو ذر الهروي الأنصاري الفقيه المالكي، نزيل مكة روى الصحيح عن ثلاثة من أصحاب القريري، وجمع لنفسه معجماً، وعاش ثمانياً وسبعين سنة وكان ثقة متقناً ديناً عابداً حافظاً بصيراً باللغة والأصول، أخذ علم الكلام عن الباقلاني وصنف مخرجاً على الصحيجن، وكان شيخ الحرم في عصره، ثم تزوج بالسروا، وبقي يحج كل عام ويرجع.
سنة خمس وثلاثين واربع مائة
فيها توفي جلال الدولة. وأبو الحزم جهور محمد بن جهور أمير قرطبة ورئيسها وصاحبها.
سنة ست وثلاثين واربع مائة
توفي فيها الشريف المرتضى أبو القاسم علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن ابراهيم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين ابن الحسين بن علي بن أبي طالب رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. كان نقيب الطالبين، وكان إماماً في علم الكلام والأدب والشعر، وهو أخو الشريف الرضي المقدم ذكره في سنة ست وأربعمائة. بين موتيهما ثلاثون سنة. وللمرتضى تصانيف على مذهب الشيعة، ومقالة في أصول الدين، وله ديوان شعر كثيرة وقد اختلف الناس في كتاب نهج البلاغة المجموع من كلام علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، هل هو جمعه أو جمع أخيه الرضي؟ وقد قيل إنه ليس من كلام علي وإنما أحدهما هو الذي وضعه ونسبه إليه، والله تعالى أعلم. وله(3/43)
الكتاب الذي سماه الدرر والغرر وهي مجالس املأها يشتمل على فنون من معاني الأدب، تكلم فيها على النحو واللغة وغير ذلك، وهو كتاب يدل على فضل كبير وتوسع في الاطلاع على العلوم. وذكره ابن بسام الأندلسي في أواخر كتاب الذخيرة فقال: هذا الشريف إمام أئمة العراق بين الاختلاف والافتراق، إليه فرغ علماؤها وأخذ عنه عظماؤها، صاحب مدارسها، وجامع شاردها وآنسها، ممن سارت أخباره، وعرفت بها أشعاره، وحمدت في ذات الله مآثره وآثاره، وتواليفه في أصول الدين، وتصانيفه في أحكام المسلمين، مما يشهد أنه فرغ تلك الأصول، وأهل ذاك البيت الجليل وأورد له عدة مقاطع، فمن ذلك قوله:
ولما تفرقنا كما شاءت النوى ... بين ود خالص وتودد
كأني وقد سار الخليط عشية ... أخو جنة مما أقوم وأقعد
قيل ومعنى البيت الأول من هذين البيتين مأخوذ من قول المتنبي:
إذا اشتبكت دموع في خدود ... تبين من بكى ممن تباكى
ومما نسب إلى المرتضي أيضاً رضي الله تعالى عنه:
مولاي يا بدر كل داجية ... خذ بيدي قد وقعت في اللجج
حسنك ما تنقضي عجائبه ... كالبحر جد عنه بلا حرج
بحق من خط عارضيك ومن ... سلط سلطانها على المهج
مد يديك الكريمتين معاً ... ثم إدع لي من هواك بالفرج
وحكى الخطيب أبو زكريا يحيى بن علي التبريزي اللغوي أن أبا الحسن علي بن أحمد الفالي الأديب كانت له نسخة من كتاب الجمهرة لابن دريد في غاية الجودة، ودعته الحاجة إلى بيعها، فباعها، واشتراها الشريف المرتضى بستين ديناراً، وتصفحها، فوجد فيها أبياتاً بخط بائعها أبي الحسن الفالي:
أنست بها عشرين حولاً وبعتها ... لقد طال وجدي بعدها وحنيني
وما كان ظني أنني سأبيعها ... ولو خلدتني في السجون ديوني
ولكن لضعف وافتقار وصبية ... صغار عليهم تستهل شؤوني
وقد تخرج الحاجات يا أم مالك ... كرائم من رب بهن ضنين
وهذا الفالي منسوب إلى فالة بالفاء وهي بلدة بخوزستان وملح الشريف المرتضى وفضائله كثيرة. وكانت ولادته في سنة خمس وخمسين وثلاثمائة.(3/44)
وفي السنة المذكورة توفي أبو الحسن البصري المتكلم محمد بن علي شيخ المعتزلة، والذي قبله أعني الشريف المرتضى شيخ الشيعة من كبار أئمتهم. وأبو الحسين من كبار أئمة المعتزلة، جيد الكلام، حسن العبارة، غزير المادة، وله التصانيف الفائقة في أصول الفقه، منها المعتمد وهو كتاب كبير نفيس، ومنه ومن المستصفى الإمام أبي حامد الغزالي استمد فخر الدين الرازي في تصنيف كتابه المحصول ولأبي الحسين تصفح الأدلة، وعزير الأدلة، وله شرح الأصول الخمسة وله كتاب في الإمامة وغير ذلك. وفيها توفي أبو عبد الله الصيمري الفقيه أحد أئمة الحنفية.
سنة سبع وثلاثين واربع مائة
فيها توفي شيخ الأندلس وعالمها ومقرئها وخطيبها أبو محمد مكي بن أبي طالب القيسي، كان من أهل التبحر في العلوم كثير التصانيف، وكان مشهوراً بالصلاح وإجابة الدعوة رحمه الله تعالى ومما روي في إجابة دعوته أنه كان إنسان يتسلط عليه، ويحصي عليه سقطاته وكان الشيخ كثيراً ما يتلعثم، ويتوف، فحضر ذلك الرجل في بعض الجمع، وجعل يحد النظر إلى الشيخ، ويغمزه، فلما خرج مضى، ونزل في الموضع الذي كان يقرأ فيه، ثم قال لنا: أمنوا على دعائي، ثم رفع يديه وقال: اللهم اكفنيه؛ قال: فأمنا فأقعد ذلك، وما دخل الجامع بعد ذلك اليوم. وله تصانيف كثيرة نافعة، فمنها الهداية إلى بلوغ النهاية في معاني القرآن الكريم، وتفسيره وأنواع علومه، وهو سبعون جزءاً، ومنتخب الحجة لأبي علي الفارسي ثلاثون جزءاً، وكتاب التبصرة في القراءات في خمسة اجزاء وهو من أشهر تواليفه - وكتاب الكشف عن وجوه القراءات وعللها عشرون جزءاً، وكتاب الوقف في كلا وبلى في القرآن جزءان، وكتاب تنزيه الملائكة عن الذنوب، وفضلهم على بني آدم جزء، وكتاب اختلاف العلماء في الروح والنفس جزء، وكتاب شرح التمام والوقف أربعة أجزاء وغير ذلك، ومجموع تصانيفه نحو من أربعين مصنفاً، بعضها مشتمل على أجزاء كثيرة. وفيها توفي الإمام الأوحد القاسم بن محمد بن عبد الله القرشي الجمحي، من أهل شمعة من بلاد اليمن. لما تفرقت قريش عن الحجاز سكن قوم منهم بسهفنة، وكان هو وأهله منهم، ومات فيها، وهو الذي انتشر عنه مذهب الشافعي في نواحي الجند وصنعاء(3/45)
والمعافر والسحول وعدن ولحج وأبين، ومنه استفاد فقهاء هذه البلاد المذكورة، كانت مدرسته في سهفنة وكان تفقه وتعلم في ابتداء أمره في زبيد على بكر بن المصرف بمختصر المزني وبعض شروحه، وكان له رحلة إلى مكة سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، ولقي فيها أبا بكر أحمد بن ابراهيم المروزي، فأخذ عنه كتاب السنن عن أبي داؤد سليمان بن الأشعث، وسمع عنه موطأ الإمام مالك. وكان قد جمع مع الفقه والحديث والكلام وأصول الفقه علم القراءات ومعاني القرآن، وكان فقيهاً اجتمع عليه القريب والبعيد من البلاد وأخذ عنه العلم خلق كثير.
سنة ثمان وثلاثين واربع مائة
فيها توفي الشيخ الإمام الجليل القدر، مفتي الأنام، قدوة المسلمين وركن الاسلام، ذو المحاسن والمناقب العظام، والفضائل المشهورة عند العلماء والعوام، الفقيه الأصولي الأديب النحوي المفسر الشيخ أبو محمد الجويني عبد الله بن يوسف شيخ الشافعية، ووالد إمام الحرمين. قال أهل التواريخ: كان إماماً في التفسير والفقه والأصول والعربية والأدب، قرأ الأدب على أبيه أبي يعقوب يوسف بجوي، ثم قدم نيسابور، واشتغل بالفقه على أبي الطيب سهل بن محمد الصعلوكي، ثم انتقل إلى أبي بكر القفال المروزي، واشتغل عليه بمرر، ولازمه واستفاد منه، وانتفع عنه، وأتقن عليه المذهب والخلاف، وقرأ عليه طريقته، وأحكمها. فلما لخرج عليه عاد إلى نيسابور، وتصدى للتدريس والفتوى، وتخرج عليه خلق كثير، منهم ولده إمام الحرمين، وكان مهيباً لا يجري بين يديه إلا الجدل والبحث والتحريض على التحصيل. له في الفقه تصانيف كثيرة الفضائل، مثل التبصرة والتذكرة ومختصر المختصر والفرق والجمع والسلسلة وموقف الإمام والمأموم، وغير ذلك من التواليف، وله التفسير الكبير المشتمل على عشرة أنواع في كل آية. وقال الإمام عبد الواحد بن عبد الكريم القشيري: كان أئمتنا في عصره، والمحققون من أصحابنا يعتقدون فيه من الكمال والفضل والخصال الحميدة ما أنه لو جاز أن يبعث الله تعالى نبياً في عصره لما كان إلا هو، من حسن طريقته وورعه وزهده وديانته وكمال فضله رضي الله تعالى عنه سمع الحديث الكثير، وتوفي في ذي القعدة من السنة المذكورة، وقيل قي سنة أربع وثلاثين وأربعمائة بنيسابور والله أعلم. وقال الشيخ أبو صالح المؤذن: مرض الشيخ أبو محمد الجوينى سبعة عشر يوماً،(3/46)
وأوصاني أن أتولى غسله وتجهيزه، فلما توفي غسلته، وكفنته في الكفن. ورأيت يده اليمنى زهراء منيرة من غير سوء وهي تتلألأ تلألؤ القمر، فتحيرت وقلت لنفسي هذه بركات فتاويه. قلت: وفضاثله كثيرة شهيرة، وقد ذكرت شيئاً منها في الشاش المعلم
سنة تسع وثلاتين وأربع مائة
فيها توفي الحافظ أبو محمد الحسن بن محمد الحسن بن الجلال البغدادي. قال الخطيب: كان ثقة له معرفة، أخرج المسند على الصحيحين، وجمع أبواباً وتراجم كثيرة.
سنة اربعين واربع مائة
فيها أقام العرب بالمغرب الدعوة للقائم بأمر الله العباسي وخلع طاعة المستنصر العبيدي، فبعث المستنصر جيشاً من العرب يحاربون فذلك أول دخول العربان إلى إفريقية وهم بنو رباح وبنو زغبة، وجرت لهم أمور يطول شرحها. وفيها توفي أبو القاسم عبد الله بن عمر بن شاهين رحمه الله تعالى.
سنة احدى واربعين واربع مائة
توقني أبو علي أحمد بن عبد الرحمن بن عثمان بن القاسم بن أبي نصر التميمي الدمشقي، أحد الأكابر. وفيها توفي الحافظ أبو عبد الله محمد بن علي الصوري، أحد أركان الحديث. قال الخطيب: وكان يسرد الصوم، وقال أبو الحسين: ما رأيت أحفظ من الصوري.
سنة اثنتين واربعين واربع مائة
فيها عين ابن النسوي بالنون والسين المهملة لشرطة بغداد، فاتفق السنية والشيعية على أنه متى ولي نزحوا عن البلد، فوقع الصلح بين الفريقين بهذا السبب، وصار أهل الكرخ يترحمون على الصحابة، وصلوا في مساجد السنية، وخرجوا كلهم إلى زيارة المشاهد، وتحابوا، وتزاوروا، هذا شيء لم يعهد منذ دهراً، وقيل في دهر. وفيها توفي شيخ العراق، الزاهد القدوة أبو الحسن علي بن عمر بن القزريني. قال الخطيب: كان أحد الزهاد ومن عباد الله الصالحين، يقرىء ويحدث، ولا يخرج إلا لصلاة، غلقت جميع بغداد يوم دفنه، ولم نر جمعاً أعظم من ذلك الجمع.(3/47)
وفيها توفي أبو القاسم الثمانيني الموصلي الضريري النحوي، أحد أئمة العربية بالعراق. أخذ عن ابن جني، وتصدر للإفادة، وصنف شرحاً للمع كتاب النحو، وشرحاً للتصريف. والواعظ أبو طاهر بن العلاف محمود بن علي البغدادي.
سنة ثلاث واربعين واربع مائة
فيها زال الأنس بين السنية والشيعية، وعادوا إلى أشد ما كانوا عليه من الشر والفتن، وأحكم الرافضة سور الكرخ، وكتبوا على الأبراج: محمد وعلي خير البشر، فمن رضي فقد شكر، ومن أبى فقد كفر، واضطرمت نار الفتنة، وأخذت ثياب الناس في الطرق، وغلقت الأسواق، واجتمع للسنية جمع لم ير مثله، وهجموا دار الخلافة، فوعدوا بالخير. وثار أهل الكرخ، فالتقى الجمعان، فقتل جماعة، ونبشت عدة قبور للشيعة، وأحرقوا. وتم على الرافضة خزي عظيم، فعمدوا إلى خان الحنفية، فأحرقوه، وقتلوا مدرسهم أبا سعيد السرخسي رحمه الله تعالى. وفيها توفي أبو القاسم علي بن أحمد الفارسي: مسند الديار المصرية، أكثر عن أبي أحمد بن الناصح والذهلي.
سنة أربع وأربعين وأربع مائة
فيها هاجت الفتنة ببغداد، واستعرت نيرانها، وأحرقت عدة حوانيت، وكتب أهل الكرخ على أبواب مساجدهم: محمد وعلي خير البشر. وأذنوا بحي على خير العمل، فاجتمع غوغاء أهل السنة، وحملوا حملة حربية على الرافضة، فهرب النظارة، وازدحموا في درب ضيق، فهلك ست وثلاثون امرأة وستة رجال وصبيان، وطرحت النيران في الكرخ، وأخذوا في تحصين الأبواب والقفال، والتقوا في سادس من ذي الحجة، فجمع الطقطقي بالقاف بين الطائين المهملتين طائفة من الأعوان، وكبس جهة من الكرخ، وقتل رجلين، ونصب رأسيهما على مسجد العلائين. وفيها عمل محضر كثير ببغداد، وتضمن القدح في نسب بني عبيد الخارجين بالمغرب ومصر، وأن أصلهم من اليهود، وأنهم كاذبون في انتسابهم إلى جعفر الصادق رضي الله(3/48)
تعالى عنه. فكتب فيه خلق من الأشراف والسنة وأولي الخيرة. وفيها توفي أبو غانم أحمد بن الحسين المروزي الكراعي مسند خراسان في وقته. وفيها توفي أبو عمرو الداني عثمان بن سعيد القرطبي الحافظ المقرىء أحد الأعلام، صاحب التصانيف الكثيرة المتفننة، توفي بدانية المنسوب إليها، قيل وكان مجاب الدعوة رحمه الله تعالى.
سنة خمس وأربعين وأربع مائة
فيها توفي مقرىء الديار المصرية، الملقب بتاج الأئمة أبو العباس أحمد بن على بن هشيم المصري. وفيها توفي أبو إسحاق البرمكي بن ابراهيم بن عمر البغدادي الحنبلي. قال الخطيب: كان صدوقاً ديناً فقيهاً، له حلقة للفتوى وفيها توفي الحافظ أبو سعيد السمعاني اسماعيل بن علي الرازي. قال الكتاني: كان من الحفاظ الكبار زاهداً عابداً، ويقاق إنه سمع من ثلاثة آلاف شيخ، وكان رأساً في القراءات والحديث والفقه، بصيراً بمذهبي الحنفية والشافعية، لكنه من رؤوس المعتزلة. قلت: وما سمعت أن أحداً له من الشيوخ مثل هذا المذكور إلا الحافظ أبا سعيد السمعاني، فإن شيوخه يزيدون على أربعة آلاف شيخ. وممن سمعت أن شيوخه يزيدون على الذين: عبد الله بن المبارك. وممن سمعت أن شيوخه يزيدون على ألف: الحافظ أبو القاسم ابن عساكر، ذكروا أن شيوخه ألف وثلاث مائة. وممن سمعت أن شيوخه ألف: الطبراني، وممن سمعت أن شيوخه دون الألف: الشيخ صلاح الدين العلائي مدرس الصالحية في القدس رحمه الله أخبرني بذلك، أو قال نحو الألف، قال: وليس فيهم أجل من الشيخ رضي الله تعالى عنه يعني شيخنا رضي الدين فقيه المحدثين الصالحين ابراهيم بن محمد الطبري، إمام مقام ابراهيم الخليل على نبينا وعليه الصلاة والسلام. وفيها توفي أبو طاهر محمد بن أحمد بن محمد الكاتب مسند أصبهان.
سنة ست واربعين واربع مائة
فيها توفي الحافظ أبو يعلى الخليل بن عبد الله بن أحمد القزويني، أحد أئمة الحديث. وفيها توفي أبو علي الأهوازي الحسن بن علي بن ابراهيم: المقرىء المحدث صاحب(3/49)
التصانيف. وأبو محمد بن اللبان الاصبهاني. قال الخطيب: وكان أحد أوعية العلم.
سنة سبع واربعين واربع مائة
فيها توفي أبو عبد الله القادسي الحسين بن أحمد البغدادي. وفيها توفي قاضي القضاة ابن ماكولا: الحسين بن علي العجلي الشافعي. قال لخطيب: لم نر قاضياً أعظم نزاهة منه. وفيها توفي حكم بن محمد الجذامي، وأبو القاسم التنوخي، وابن سلوان. وفيها توفي أبو الفتح السليم بن أيوب بن سليم الرازي: الفقيه الإمام الشافعي المفسر لأديب: صاحب التصانيف. كان رأساً في العلم والأدب والعمل، يشار إليه في الفضل والعبادة. ومن تصانيفه كتاب الإشارة في الفروع وكتاب غرائب الحديث وكتاب التقريب، وليس هو التقريب الذي نقل عنه إمام الحرمين في النهاية، وحجة الإسلام في البسيط والوسيط، فإن ذلك للقاسم بن القفال الشاشي. أخذ سليم الفقه عن الشيخ أبي حامد لاسفرائيني، وأخذ عنه أبو الفتح الشيخ نصير بن ابراهيم المقدسي. وقال سليم: دخلت بغداد في بدايتي في طلب علم اللغة، فكنت آتي شيخا هناك، فذهبت في بعض الأيام إليه، قيل لي: هو في الحمام، ومضيت نحوه، فمررت في طريقي على الشيخ ابي حامد الاسفرائيني - وهو يملي - فدخلت المسجد، وجلست مع الطلبة، فوجدته يشرح في كتاب أصيام في مسألة إذا أولج ثم أحس بالفجر فنزع، فاستحسنت ذلك، فعلقت الدرس على ظهر جزء كان معي، فلما عدت إلى منزلي جعلت أعيد الدرس مخلى بي، وقلت: أتم هذا الكتاب يعني - كتاب الصيام فعلقته، ولزمت الشيخ أبا حامد حين علقت منه جميع التعليق - يعني كتابه - وكان لا يخلو له وقت من اشتغال، حتى أنه كان إذا برأ القلم قرأ القرآن، أو سبح، أو قال: وسبح. وكذلك إذا كان ماراً في الطريق، كما تقدم في ترجمته، وغير ذلك من الأوقات التي لا يمكن الاشتغال فيها بعلم. قلت: وهذا مما يدلك على اهتمام هذا الإمام على استغراق أوقاته بالنفع بالعلم لوجه الله تعالى، والعمل به في طاعاته، وهذا عزيز جداً من أهل العلم. وأحوال الناس في ذلك مختلفة، فبعضهم كان يرخي بينه وبين أصحابه ستراً، وبعضهم يذكر بالقلب سراً، وبعضهم يأتي بالذكر جهراً. وإرخاء الستر قد روي عن بعض المشايخ وعن بعض أهل العلم أيضاً: وهو أبو الحسن الباهلي شيخ القاضي أبي بكر الباقلاني في علم الأصول: وقد يكون في إرخاء الستر(3/50)
غرض آخر من ترك النظر إلى بعض الناس، إما لخوف فتنة، أو تشويش خاطر ببعض من هو في مجلسه حاضر. ولا يخلو الموقف صاحب القلب المليح من غرض صحيح. وسكن سليم الشام بمدينة صور متصدياً لنشر العلم وإفادة الناس. وكان يقول: وضعت مني صوره رفعتها. وكان موته رحمه الله غرقاً عند رجوعه من الحج عند ساحل جدة، وقال بعضهم: في بحر القلزم بضم القاف والزاي وسكون اللام بينهما، ثم تبئين في أي مكان منه، وقال: عند ساحل جدة، وقال بعضهم: في بحر القلزم المذكور غرق فيه فرعون. قلت ويحتمل أنه غرق في الجانب الذي يلي مصر منه، وسليم في الجانب الذي يلي جدة منه، وشتان ما بين الغرقين: غرق الشقاوة والإبعاد، وغرق الشهادة والإسعاد. وكان سليم المذكور قد نيف على الثمانين، ودفن في جزيرة بقرب الجار الآتي تفسيره قريباً، عند المخاضة في طريق عيذا. والرازي: نسبة إلى الري على غير قياس ألحقوا الزاي في النسبة، كما ألحقوها في المروزي عند النسبة إلى مرو: وهي مدينة عظيمة من بلاد الديلم بين قومس والجبال. والجار بفتح الجيم وبعد الألف راء: وهي بلدة إليها القمح الجاري. وذكر أبو القاسم الزمخشري في كتاب الأمكنة والجبال والمياه أن الجار قرية على ساحل البحر، بها مرسى مطايا القلزم ومطايا عيذاب، يعني بالمطايا المذكورة: السفن. وقال ابن حوقل بفتح الحاء المهملة والقاف وسكون الواو بينهما وفي آخره لام الجار: الفرضة المدلية على ثلاث مراحل منها، على البحر وحده فرضة منه. قلت: يعني فرضة مكة، ويعنونه بالفرضة في مثل هذا الموضع فرضة البحر التي هي محط السفن. وفي السنة المذكورة توفي عبد الوهاب بن الحسين بن برهان بفتح الموحدة أبو الفرح البغدادي الغزالي.
سنة ثمان واربعين واربع مائة
فيها خطب بالكوفة والموصل وواسط للمستنصر المصرفي العبيدي، ففرحت الرافضة بذلك، واستفحل أمر الأمير البساسيري بفتح الموحدة وبالسين المهملة المكررة قبل الألف وبعدها وسكون المثناة مكررة قبل الراء وبعدها ثم جاءته الخلع والتقليد من مصر. وفيها توفي عبد الله بن الوليد الأنصاري الأندلسي الفقيه المالكي. وفيها توفي الشيخ(3/51)
عبد الغافر أبو الحسين محمد بن عبد الله الفارسي. وفيها توفي أبو الحسن الفالي علي بن محمد بن علي المؤذب، وأبو الحسن الباقلاني علي بن ابراهيم بن عيسى البغدادي، وابن مسرور أبو حفص. قال عبد الغافر: هو حفص المارودي الزاهد الفقيه، كان كثير العبادة والمجاهدة، وكانوا يتبركون بدعائه رحمة الله عليه عاش سبعين سنة.
سنة تسع واربعين واربع مائة
فيها توفي أبو العلاء أحمد بن عبد الله التنوخي المعري اللغوي الشاعر المشهور، صاحب التصانيف الكثيرة المشهورة، والرسائل البليغة المنشورة، والزهد والذكاء المفرط. كان متضلعاً من فنون الأدب، قرأ النحو واللغة على أبيه ب المعرة، وعلى محمد بن عبد الله ابن سعد النحوي بحلب، وله من النظم: لزوم ما لا يلزم وهو كبير يقع في خمسة أجزاء وما يقارنها، وله سقط الزند أيضاً، وشرحه بنفسه وسماه: ضوء السقط، وله الكتاب المعروف بالهمزة والردف يقارب المائة جزء في الأدب أيضاً. وحكي من وقف على المجلد الأول بعد المائة من كتاب الهمزة والردف قال: لا أعلم ما كان يعوده بعد هذا وكان علامة عصره في فنون، وأخذ عنه أبو القاسم التنوخي والخطيب أبو زكريا التبريزي وغيرهما. ومن لطيف نظمه قوله:
لو اختصرتم من الإحسان زرتكم ... والعذب يهجر للإفراط في الخمر
بالخاء المعجمة والصاد المهملة مفتوحتين وبالراء البرد. ومن نظمه المشير به إلى فضله:
وإني وإن كنت الأخير زمانه ... لآت بما لم يستطعه الأوائل
وكانت وفاته ليلة الجمعة ثالث وقيل ثاني عشر ربيع الأول من السنة المذكورة، وكانت أيضاً ولادته يوم الجمعة عند مغيب الشمس لثلاث بقين من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وستين وثلاثمائة بالمعرة، وعمي من الجدري أول سنة سبع وستين، وغشي يمنى عينيه بياض، وذهبت اليسرى جملة. وشرح ديوان المتنبي، وسماه كتاب لامع الغزنوي في شرح ديوان المتنبي ولما فرغ من تصنيفه وقرىء عليه أخذ الجماعة في وصفه، فقال أبو العلاء: كأنما نظر إلى المتنبي بلحظ الغيب، حيث يقول:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صمم
واختصر ديوان أبي تمام وشرحه، وكذلك ديوان البحتري، وتولى الانتصار بهم، وتنقد عليهم في مواضع، ودخل بغداد مرتين قلت: وقد ذكر في كتاب منهل المفهوم في(3/52)
شرح ألسنة المعلوم في قسم الإيماء: حكي أنه حضر مجلس الشريف المرتضى، وكان الشريف نقص من شعر المتنبي، والمعري يمدحه حتى قال: لو لم يكن في شعره إلا قصيدة التي يقول فيها: لك يا منازل في القلوب منازل لكفى فأمر الشريف بإخراجه من المجلس مسجوناً، ثم قال: أتدرون ما عنى هذا الأعمى في القصيدة المذكورة؟ إنما أومأ فيها إلى قول المتنبي:
واذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل
انتهى قلت: ومما يدلك على فرط ذكاء أبي العلاء المعري، وفرط ذكاء الشريف، وفهمه ذلك في الحال. ثم رجع إلى المعرة، وشرع في التصنيف، وسار إليه الطلبة من الآفاق، وكاتبه العلماء والوزراء وأهل الأقدار، أو قيل إنه مكث مدة خمس وأربعين سنة لا يأكل اللحم، يرى رأي الحكماء المتقدمين، إذ لا يأكلونه، لكيلا يذبحوا الحيوان، إذ لا يرون بإيلام الحيوانات مطلقاً. قلت: وهو خلاف ما جاءت به الأنبياء والشرائع، ودل على جعله الإجماع ونصوص الآيات القواطع. ونظم الشعر وهو ابن إحدى عشرة سنة. ومن نظمه:
لا تطلبن بغير خط رتبة ... قلم البليغ بغير خط مغزل
سكن السما كان السماء كلاهما ... هذا له رمح وهذا أعزل
ويروى بغير حد. قلت: وقد نظمت ثلاثة أبيات، أوضحت فيها ما أشار إليه بمثال أولى من مثاله، فإنه أشرك بين السماكين في نيل المرتبة، مع كون أحدهما ذا آلة يكتسب بها المراتب وهي الرمح وأنا خصصت بالمرتبة الخالي منهما عن الآلة حيث قلت:
لو كان بالآلات خط يحصل ... والسعد يأتي ولعطايا تجزل
ما كان في عالي المنازل رامح ... أو لم يجزها دون ذلك أعزل
لكنه من دونه قد حازها ... في شرحه البدر المتمم ينزل
وكلا النظمين في قوافيهما التزام ما لا يلزم ولما توفي رثاه تليمذه أبو الحسن بن همام بقوله:
إن كنت لم ترق الدماء زهادة ... فلقد أرقت اليوم من جفني الدما
سيرت ذكرك في البلاد كأنه ... مسك فسامعه يعطر أو فما
قلت يعني أن طيب ثنائه يعطر سامعه أو المتكلم به المثني عليه، واقتصر على الفم لضيق المقام في مساعدة الوزن على عموم المتكلم دون تخصيص فيه، ويحتمل أنه أراد(3/53)
بالتعطير تعميم السامع والمتكلم يزكون. أوهنا بمعين الواو فحسب، ومثل ذلك قد يجيء، ومنه قوله تعالى " وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون " - الصافات 147 - على رأي بعض المفسرين، فإنه وإن لم يكن محمد عليه، فان القائل يقول بذلك، ما احتج إلا بما يصح الاحتجاج به، وهو وقوع أو موقع الواو، وإذا تتبع ذلك وجد في الكلام الفصيح منه ما يكثر عدة، فيما نبهت عليه فائدة، وهي أنه لا يلزم من رد قوله: من احتج على علم بطلان حجته، بل يرد قوله لقيام دليل آخر على خلاف قوله، وإن كان احتجاجه صحيحاً في نفسه، وأشار في البيت الأول إلى ما كان يعتقده، ويدين به من عدم الذبح للحيوانات. وفي السنة المذكورة توفي أبو سعيد البجلي أحمد بن محمد بن عبد العزيز الرازي الحافظ. وفيها توفي أبو عبد الله الخبازي المقرىء النيسابوري. وكان كبير الشأن وافر الحرمة مجاب الدعوة. وفيها توفي أبو عثمان الصابوني شيخ الإسلام الواعظ المفسر، أحد الأعلام، شيخ خراسان. وفيها توفي أبو الفتح الكرخي الخيمي رأس الشيعة صاحب التصانيف. كان نحوياً لغوياً منجماً طبيباً متكلماً، من كبار أصحاب الشريف المرتضى.
سنة خمسين واربع مائة
فيها توفي الفقيه الكبير الإمام الشهير أبو الطيب طاهر بن عبد الله بن طاهر الطبري الشافعي. كان ديناً ورعاً عارفاً بالأصول والفروع، محققاً في علمه، سليم الصدر، حسن الخلق، صحيح المذهب، يقول الشعر. ومن شعره ما أرسل به بالغزالي لأبي العلاء المعري حين أتى بغداد:
وما ذات در لا يحل لحالب ... تناولها واللحم منها محلل
لمن شاء في الحالين حياً وميتاً ... ومن رام شرب الدر فهو مضلل
إذا طعنت في السن فاللحم طيب ... وآكله عند الجميع معقل
وخوف بها للأكل فيها كزازة ... فما لحضيض الرأي فيه مأكل
وما يجتبي معناه إلا مبزر ... عليم بأسرار القلوب محصل
فأجابه المعري مملياً على الرسول ارتجالاً:
جوابان عن هذا السؤال كلاهما ... صواب وبعض القائلين مضلل
فمن ظنه كرماً فليس بكاذب ... ومن ظنه نخلاً فليس يجهل
لحومهما الأعناب والرطب الذي ... هو الحبل والدر الرحيق المسلسل(3/54)
ولكن ثمار النخل وهي غضيضة ... تراها وغض الكرم يجبى ويؤكل
يكلفني القاضي الجليل مسائلاً ... هي النجم قدراً بل أعز وأطول
فأجابه أبو الطيب:
أثار ضميري ناظماً من نظيره ... من الناس طراً شائع الفضل يكمل
ومن قبله كتب العلوم بأسرها ... وخاطره في جدة النار مشعل
تساوى له سر المعاني وجهرها ... ومعضلها باد لديه مفصل
فلما أثار الخبأ قاد منيعه ... أسيراً لأنواع البيان مكمل
وقربه من كل فهم بكشفه ... وإيضاحه حتى رآه المغفل
وأعجب منه نظمه الدر مسرعاً ... ومرتجلا من غير ما يتمهل
فيفخر من يجر ويسمو مكانه ... جلالاً له حيث الكواكب ينزل
فهنأه الله الكريم بفضله ... محاسنه جم وعمر مطول
فأجابه المعري مرتجلاً مملياً على الرسول:
ألأليها القاضي الذي بلهاته ... سيوف على أهل الخلاف تسلسل
فؤادك معمور من العلم أهله ... وجدك في كل المسائل مقبل
فإن كنت بين الناس غير ممول ... فأنت من الفهم المصون ممول
إذا أنت خاطبت الخصوم مجادلاً ... فأنت وهم حاكي الحمام وأجدل
كأنك من في الشافعي مخاطب ... ومن قلبه تملى فما تتمهل
وكيف بذي علم ابن ادريس دارساً ... وأنت بإيضاح الهدى متكفل
تفضلت حتى ضاق ذرعي بشكر ما ... فعلت وكفي عن جوابك أجهل
لأنك في كنه الثريا مصاحب ... وأعلى ومن يبغي مكانك أسفل
مع أبيات أخرى حذفتها اختصاراً آخرها:
تجهلت الدنيا بإنك فوقها ... ومثلك حقاً من به يتحمل
عاش القاضي أبو الطيب رحمه الله مائة وستين سنة. قلت وربما سمعت من بعض شيوخنا: وعشرين سنة، ولم يهن عظمه حتى حكى أنه أتى على نهر أو مكان يحتاج إلى طفرة كبيرة، فطفره، ثم قال: أعضاء حفظها الله تعالى في صغرها فقراها في كبرها، أو كما قال رضي الله تعالى عنه: وكذلك لم يحتل عقله ولا تغير(3/55)
فهمه، يفتي ويستدرك على الفقهاء الخطأ ويقضي ببغداد، ويحضر المراكب في دار الخلاف، إلى أن مات. تفقه على أبي علي الزجاجي صاحب ابن القاضي في طبرستان وعلى أبي سعيد الإسماعيلي وأبي القاسم، تناكح بجرجان، ثم ارتحل إلى نيسابور، وأدرك أبا الحس، الماسرجسي، فصحبه أربع سنين، وتفقه عليه، ثم ارتحل إلى بغداد، وحضر مجلس الشيخ أبي حامد الأسفرائيني، وعليه اشتغل أبو إسحاق الشيرازي، وقال في حقه: لم أر فيمن رأيت أكمل اجتهاداً وأشد تحقيقاً وأجود نظراً منه، وشرح مختصر المزني وفروع ابن حداد المصري، وصنف في الأصول والمذهب والخلاف والجدل كتباً كثيرة. وقال الشيخ أبو إسحاق: لازمت مجلسه بضع عشر سنة، ودرست أصحابه في مسجده سنتين بإذنه، واستوطن ببغداد، وولي القضاء بربع الكرخي بعد موت عبد الله الصيمري، ولم ينزل على القضاء إلى حين وفاته رحمه الله تعالى. وفيها توفي الإمام النحرير الكبير، أقضى القضاة أبو الحسين علي بن محمد البصري الماوردي الشافعي، مصنف الحاوي الكبير النفيس الشهير والإقناع وأدب الدنيا والدين والأحكام السلطانية وقانون الوزارة وسياسة الملك وتفسير القرآن الكريم والقلب والعيون، وصنف في أصول الفقه والأدب وغير ذلك، وكان إماماً في الفقه والأصول والتفسير، بصيراً بالعربية، ولي قضاء بلاد كثيرة، ثم سكن بغداد، وعاش ستاً وثمانين سنة، تفقه على أبي القاسم الصيمري بالبصرة، وعلى الشيخ أبي حامد الأسفرائيني ببغداد، وحدث عن جماعة، وكان حافظاً للمذهب. درس العلوم. وروى عنه الخطيب صاحب تاريخ بغداد: وانتفع الناس به، وقيل إنه لم يظهر شيئاً من تصانيفه في حياته، وإنما جمع جميعاً في موضع، فلما دنت وفاته قال لشخص يتولاه: الكتب التي في المكان الفلاني كلها تصنيفي، وإنما لم أظهرها لأني لم أجد نية خالصة لله تعالى، فإذا عاينت الموت، ووقعت في النزع، فاجعل يدك في يدي، فإن قبضت عليها، وعصرتها، فاعلم أنه لم يقبل من سنن منها، فالقها في دجلة، وإن بسطت يدي ولم أقبض على يدك، فاعلم أنها قد قبلت، وقد ظفرت بما كنت أرجوه. ففعل الموصي ذلك، فبسط يده، ولم يقبضها على يده، فعلم أنها علامة القبول، فأظهر كتبه بعده. وذكر الخطيب في أول تاريخ بغداد عن الماوردي قال: كتب إلي أخي من البصرة وأنا ببغداد: طيب الهوى ببغداد يشوقني قدماً إليها، وإن علقت مقادير، فكيف صبري عنها الآن، إن جمعت طيب هوائين ممدود ومقصور. وقيل إنه لما خرج من بغداد راجعاً إلى(3/56)
البصرة كان ينشد أبيات ابن الأحنف:
أقمنا كارهين لها فلما ... ألفناها خرجنا مكرهينا
وما حب البلاد بنا ولكن ... أمر العيش فرقة من هوينا
خرجت أقر ما كانت بعيني ... وخلفت القرار بها رهينا
والماوردي نسبة إلى الماورد، وعمره ست وثمانون سنة، رحمة الله عليه.
سنة احدى وخمسين واربع مائة
فيها توفي أبو المظفر عبد الله بن شبيب الضبي، مقرىء أصبهان وخطيبها وواعظها وشيخها وزاهدها.
سنة احدى وخمسين واربع مائة
فيها توفي شيخ لإقراء بمصر: محمد بن أحمد المقرىء بقزوين، أخذ عن طاهر ابن غلبون، وسمع
من أبي الطيب والد طاهر، وعبد الله الكلابي، وطائفة.
سنة ثلاث وخمسين واربع مائة
فيها توفي أبو العباس ابن نفيس شيخ القراء أحمد بن سعيد المصري. وفيها توفي نصر الدولة صاحب ديار بكر، أحمد بن مروان الكردي، ملك بعد أن قتل أخوه منصور بن مروان، وكان رجلاً مسعوداً على الهمة، حسن السياسة، كبير الحزم. وحكى بعض المؤرخين أن نصر الدولة المذكور لم يصادر في دولته أحداً سوى شخص واحد، وأنه لم تفته صلاة الصبح عن وقتها، مع انهماكه في اللذات، وإنه كان له ثلاثمائة وستون جارية، يخلو في كل ليلة من ليالي السنة بواحدة منهن، ثم لا يعود القربة إليها إلا في تلك الليلة من العام الثاني، وأنه قسم أوقاته، فمنها ما ينظر فيه مصالح دولته، ومنها ما يجتمع فيه بأهله والداب، ويصل إلى الدابة ويقضي أوطاره.
سنة أربع وخمسين واربع مائة
فيها بلغت دجلة إحدى أو عشرين ذراعاً وغرقت بغداد. وفيها انتصر المسلمون على الروم، وغنموا وسبوا حتى بيعت السرية الخبازة بمائة(3/57)
درهم. وفيها توفي أبو نصر زهير بن الحسن الرضي، الفقيه الشافعي، مفتي خراسان، والإمام المقرىء الزاهد، أحد العلماء العاملين. قال أبو سعيد السمعاني: كان مقرئاً كثير التصانيف، حسن العيش، قانعاً منفرداً عن الناس، يسافر وحده، ويدخل البراري. سمع بمكة وبالري ونيسابور وبجرجان وبأصبهان وببغداد وبالبصرة وبالكوفة وبدمشق وبمصر وكان من أفراد الدهر. وفيها توفي القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة الفقيه الشافعي، قاضي الديار المصرية، القضاعي مصنف كتاب الشباب وكتاب مناقب الإمام الشافعي وكتاب الأنباء عن الأنبياء وتواريخ الخلفاء، قال ابن ماكولا: كان متفنناً في عدة علوم، لم أر بمصر من يجري مجراه. وذكر السمعاني في كتاب الذيل أنه حج الخطيب والقضاعي سنة خمس وأربعين وأربعمائة، فسمع الخطيب منه. وفيها توفي شرف الدولة ابن باديس بالموحدة قبل الألف ابن منصور الحميري الصنهاجي، صاحب إفريقية وما والاها من بلاد المغرب. وكان الحاكم صاحب مصر قد لقبه شرف الدولة، وسير له تشريفاً وسجلاً، وكان ملكاً جليلاً عالي الهمة، محباً لأهل العلم، كثير العطاء، وكان واسطة عقد بيته، ومدحه الشعراء وانتجعه الأدباء، وكانت حضرته محط ذوي الآمال. وكان مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه بإفريقية أظهر المذاهب، فحمل أهل المغرب على التمسك بمذهب مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه وحسم مادة الخلاف في المذهب، واستمر الحال في ذلك إلى الآن، وقطع خطبة المستنصر بالله العبيدي، وخلع طاعته، وخطب الإمام للقائم بأمر الله خليفة بغداد، واستمر على ذلك. وأخبار المعز بن باديس كثيرة، وسيرته شهيرة، وله شعر قليل. وكان يوماً جالساً في مجلسه، وعنده جماعة من الأدباء، وبين يديه أترجة ذات أصابع، فأمرهم فيها شعراً، فقال ابن رشيق شعراً:
أترجة سبطة الأطباق ناعمة ... تلقى العيون بحسن غير منحوس
كأبما بسطت كفاً لخالقها ... تدعو لطول بقاء لابن باديس
سنة خمس وخمسين واربع مائة
فيها توفي أبو طالب محمد بن ميكائيل بن سلجوق بفتح السين المهملة وسكون اللام وبالقاف أول ملوك السلجوقية، كانوا يسكنون قبل استيلائهم على الممالك فيما وراء النهر، قريباً من بخارى، كانوا عدداً غير محصور، لا يدخلون تحت طاعة سلطان، فإذا قصدهم(3/58)
جمع لا يقوون عليه دخلوا المفاوز، وتحضنوا بالرمال، وجرت لهم مع ولاة خراسان أمور يطول ذكرها وشرحها، وحاصل الأمر أنهم استظهروا على الولاة، وظفروا بهم، وملكوا البلاد، وكان ابتداء أمرهم في سنة تسع وعشرين وأربعمائة، وكان السلطان أبو طالب محمد المذكور كبيرهم، وإليه الأمر والنهي في السلطنة، وأخذ أخوه داود مدينة بل، واتسع لهم الملك، واقتسموا البلاد، وانحاز السلطان مسعود إلى غزنة ونواحيها، وكانوا يخطبون له في أول الأمر، فعظم شأنهم إلى أن راسلهم القائم بأمر الله وكان الرسول بينهم وبينه الماضي أبا الحسن علي بن حبيب الماوردي مصنف الحاوي الكبير في الفقه، وكان السلطان محمد المذكور حليماً محافظاً على الصلوات الخمس في أوقاتها جماعة، وكان يصوم الاثنين والخميس، ويكثر الصدقات، ويبني المساجد، ويقول استحي من الله تعالى أن أبني داراً لا أبني إلى جانبها مسجداً. ثم إنه تمهدت له البلاد، وملك العراق وبغداد، وسير إلى الإمام القائم يخطب إليه بنته، فشق على القائم، واستعفى منه، وترددت الرسل بينهما، فلم يجد من ذلك بداً، فزوجه بها، وعقد العقد بمدينة تبريز، ثم توجه إلى بغداد فلما دخلها طلب الزفاف، وحمل مائة ألف دينار برسم حمل القماش ونقله، فزفت إليه بدار المملكة، وجلست على سرير ملبس من ذهب، ودخل السلطان إليها، فقبل الأرض بين يديها، ولم يكشف البرقع عن وجهها في ذلك الوقت، وقدم لها تحفاً يقصر الوصف عن ضبطها، وقبل الأرض، وقدم وانصرف، فظهر عليه السرور. وبالجملة، فأخبار الدولة السلجوقية كثيرة ومقصودنا الاختصار وسنذكر جماعة من ملوكهم في السنين التي توفوا فيها إن شاء الله تعالى. وتوفي السلطان المذكور يوم الجمعة، ثامن عشر رمضان من السنة المذكورة. وذكر عنه السمعاني أنه قال: رأيت وأنا بخراسان في المنام، كأني رفعت إلى السماء وأنا في ضباب لا أبصر شيئاً، غير أني أشم رائحة طيبة، فنوديت: أنت قريب من الباري جلت قدرته فسل حاجتك تقض؛ فقلت في نفسي: أسألك طول العمر، فقيل: لك سبعون سنة، فقلت: يارب؛ لا يكفيني، فقيل: لك سبعون سنة. ولما حضرته الوفاة قال: إنما مثلي مثل شاة شدت قوائمها بحبل الصوف، فنظن أنها تذبح، فتضطرب، حتى إذا أطلقت تفرح، ثم تشد للذبح، فتظن أنها تشد بحبل الصوف للذبح فتسكن، فتذبح، وهذا المرض الذي أنا فيه هو شد القوائم للذبح. - فمات منه - رحمه الله تعالى وعمره سبعون سنة. وفيها توفي أبو طاهر أحمد بن محمود الثقفي الأصبهاني المؤدب. وكان صالحاً ثقة سنياً كثير الحديث.(3/59)
سنة ست وخمسين واربع مائة
فيها قبض السلطان ألب أرسلان على الوزير عميد الملك الكندري، ثم قتله في آخر العام المذكور، وحمل رأسه إلى نيسابور، وكان قد جب مذاكيره لأمر، وتفرد بوزارته نظام الملك الطوسي، فأبطل ما كان عمله العميد وسلطانه من سب الأشعرية على المنابر، وانتصر للشافعية، وأكرم زين الإسلام أبا القاسم القشيري وإمام الحرمين أبا المعالي الجويني. وكان العميد المذكور من رجال الدهر جوداً وشجاعة وسخاء وكفاية وشهامة، مدحه الشعراء منهم: أبو الحسين الباخرزي ويقال متغزلاً في قصيدة:
اكدي بجاري ود كل قرين ... أم هذه شيم الظباء العين
قصوا علي حديث من قيد الهوى ... إن التأسي روح كل حزين
ولئن كتمتم مشفقين لقد درى ... بمصارع العذراء والمجنون
إلى أن قال بعد غزل طويل:
فإذا عميد الملك حلى ربعه ... طرفاً تعال الطائر الميمون
ملك إذا ما العزم حث جياده ... مزجت بأزهر شامخ العرنين
وفيها توفي الحافظ عبد العزيز بن محمد النخشبي، وكان من كبار الحفاظ. وفيها توفي أبو القاسم عبد الواحد بن علي بن برهان بفتح الموحدة العكبري النحوي، صاحب التصانيف. قال الخطيب: كان متضلعاً بعلوم كثيرة، منها النحو واللغة والنسب وأيام العرب والمتقدمين. وله أنس شديد بعلم الحديث. وكان فقيهاً حنفياً، أخذ علم الكلام عن أبي الحسين البصري، وتقدم فيه. وفيها توفي أبو علي الحسن بن رشيق، أحد الفضلاء، صاحب التصانيف المليحة والرسائل الفائقة والنظم الجليل. سكن القيروان ولم يزل إلى أن هجم العرب، وقتلوا أهلها، وأخربوها، فانتقل إلى جزيرة صقلية، وأقام بمارز إلى أن توفي بها، وهي قرية في الجزيرة المذكورة، وينسب الإمام المارزى إليها. ومن شعر ابن رشيق المذكور.
أحب أخي وإن أعرضت عنه ... وقل على مسامعه كلامي
ولي في وجهه تقطيب راض ... كما قطبت في وجه المدام
ورب تقطب من غير بغض ... وبغض كان من تحت ابتسامي(3/60)
يا رب لا أقوى على دفع الأذى ... وبك أستغيث من الضعيف الموذي
ما لي بعثت إلي ألف بعوضة ... وبعثت واحدة إلى نمرود
وله:
وقائلة ماذا الشجون وذا الضنا ... فقلت لها قول المشوق المتيم
هواك أتاني وهو ضيف أعزه ... فأطعمته لحمي وأسقيته دمي
وفيها توفي الإمام العلامة أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري الأموي مولاهم، الفارسي الأصل، الاندلسي القرطبي، صاحب المصنفات. مات مشرداً عن بلده من قبل الدولة، وكان إليه المنتهى في الذكاء وحدة الذهن، وسعة العلم بالكتاب والسنة، والمذاهب والملل والنحل، والعربية والأدب، والمنطق والشعر، مع الصدق والديانة والحشمة، والسؤدد والرئاسة والثروة وكثرة الكتب، هكذا وصفه الذهبي بهذه الأوصاف. وقال ابن خلكان: كان حافظاً عالماً بعلوم الحديث وفقهه، مستنبطاً للأحكام من الكتاب والسنة بعد أن كان شافعي المذهب انتقل إلى مذهب أهل الظاهر، وكان متفنناً في علوم جمة عاملاً بعلمه زاهداً في الدنيا بعد الرئاسة التي كانت له، ولاية من قبله في الوزارة وتدبير الممالك، متواضعاً ذا فضائل جمة، وتواليف كثيرة، وسمع سماعاً جماً وألف في فقه الحديث كتاباً سماه الإيصال إلى فهم كتاب الخصال الجامعة لجمل شرائع الإسلام في الواجب والحلال والحرام والسنة والإجماع، أورد فيه أقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين، وكتب أخرى كثيرة منها كتاب اظهار تبديل اليهود والنصارى في التوراة والإنجيل وبيان تناقص ما بأيديهم من ذلك، ممن ما لا يحتمله التأويل. وهذا معنى لم يسبق إليه وكتاب التقريب بحد المنطق والمدخل أتى فيه بالأمثال العامة والأمثلة الفقهية، سلك في بيانه وإزالة سوء الظن عنه وتكذيب المحرفين به طريقة لم يسلكها أحد قبله. وكان شيخه في المنطق محمد بن الحسن المذحجي بسكون الذال المعجمة وكسر الحاء المهملة والجيم المعروف بابن الكتاني، وكان أديباً شاعراً طبيباً، له في الطب رسائل وكتب في الأدب. وقال الحافظ أبو عبد الله محمد بن فتوح الحميدي: ما رأينا مثله فهماً، اجتمع له مع الذكاء وسرعة الحفظ وكرم النفس واليدين، وما رأيت من يقول الشعر في البديهة وأسرع منه. ثم قال: أنشدني لنفسه:
لئن أصبحت مرتحلاً بجسمي ... فروحي عندكم أبداً مقيم(3/61)
ولكن للعيان لطيف معنى ... بنظرتنا إلى وجه الكليم
وروى الحافظ الحميدي له أيضاً:
أقمنا ساعة ثم ارتحلنا ... وما يغني المشوق وقوف ساعه
كأن الشمل لم يك ذا اجتماع ... إذا ما شتت البين اجتماعه
ومن شعره أيضاً:
وذي عدل فيمن سيأتي حسنه ... يطبل ملامي في الهوى ويقول
أفي حسن وجه لاح لم تر غيره ... ولم تدر كيف الجسم أنت قتيل
فقلت له أسرفت في اللوم ظالماً ... وعندي رد لو أردت طويل
ألم تر أني ظاهري وأنني ... على ما بدا حتى يقوم دليل
قلت في قوله هذا مناقشة، وهي أن لا يكون الوجه الظاهر مستحيلاً في العقد كما في صفات الله في الاستواء والنزول إلى سماء الدنيا، وأن لا يكون مخالفاً للقياس الجلي، كما هو معلوم في التشنيع على داود الظاهري في تنجس الماء بالبول فيه، ولا يتنجس بالتغوط فيه. قالوا وكان كثير الوقوع في العلماء المتقذمين، لا يكاد أحد يسلم من لسانه، فنفرت عنه القلوب، واستهدف من فقهاء وقته، فتمالؤوا على بغضه، وردوا قوله، واجتمعوا على تضليله، وشنعوا عليه، وحذروا سلاطينهم من فتنته، ونهوا عوامهم عن الدنو إليه والأخذ عنه، فاقتصته الملوك، وشردوه عن بلادهم حتى انتهى إلى بادية فمات بها. وقال أبو العبالس بن العريف: كان لسان ابن حزم وسيف الحجاج بن يوسف شقيقين، يعني بذلك كثرة وقوعه في الأئمة، كما قد عرف من صنيع الحجاج بهم وسفكه لدمائهم. وكان والد ابن حزم المذكور وزير الدولة العامرية أي وزير أبي تمام المنصور في بلاد المغرب، وكان من أهل العلم والأدب والخير، وقال ولد ابن حزم: أنشدني والدي في بعض وصاياه لي رحمه الله تعالى.
إذا شئت أن تحبني غنياً فلا تكن ... على حالة إلا رضيت بدونها
سنة سبع وخمسين واربع مائة
فيها توفي العيار سعيد بن أبي سعيد وأبو عثمان أحمد بن محمد النيسابوري.
سنة ثمان وخمسين واربع مائة
فيها ولدت بنت لها رأسان ورقبتان ووجهان على بدن واحد ببغداد.(3/62)
وفيها توفي الإمام الكبير الحافظ النحرير أحمد بن الحسين البيهقي الفقيه الشافعي، واحد زمانه وفرد أقرانه في الفنون، من كبار أصحاب الحاكم أبي عبد الله بن البيع في الحديث الزائد عليه في أنواع العلوم، له مناقب شهيرة وتصانيف كثيرة بلغت ألف جزء، نفع الله تعالى بها المسلمين شرقاً وغرباً وعجماً وعرباً، لفضله وجلالته وإتقانه وديانته تغمده الله برحمته غلب عليه الحديث، واشتهر به، ورحل في طلبه إلى العراق والجبال والحجاز، وسمع بخراسان من علماء عصره، وكذلك بقية البلاد التي انتهى إليها، وأخذ الفقه عن أبي الفتح ناصر بن محمد العمري المروزي، وهو أول من جمع نصوص الشافعي في عشر مجلدات. ومن مشهور مصنفاته السنن الكبير والسنن الصغير ودلائل النبوة والسنن والآثار والخلافيات وهو من الكتب الباهرة وشعب الايمان ومناقب الإمام الشافعي ومناقب الإمام احمد والأسماء والصفات والبعث والنشور وكتاب الاعتقاد وكتاب الدعوات وكتاب الزهد وكتاب المدخل وكتاب الآداب وكتاب الترغيب وكتاب الأسرار. قال الشيخ الإمام عبد الغافر الفارسي: كان على سيرة العلماء قانعاً باليسير من الدنيا، محموداً في زهده وورعه. وذكر غيره أنه سرد الصوم ثلاثين سنة، وذكر بعضهم أن مشايخه نحو المائة، قال وليسوا بالنسبة إلى علومه بكثير ولكن بورك للرجل في ذلك، لكنه سمع مصنفات عديدة، ومع هذا فاته أشياء منها: مسند الإمام. هكذا قال في الأصل، وكأنه يعني الإمام أحمد. ومنها سنن النسائي وابن ماجة وجامع الترمذي، كل هذه ليست عنده إلا ما قل منها، وقال إمام الحرمين في حقه: ما من شافعي المذهب إلا وللشافعي عليه منة إلا أحمد البيهقي، فإن له على الشافعي منة، فإنه كان أكثر الناس نصراً لمذهب الشافعي. وطلب إلى نيسابور لنشر العلم، فأجاب، وانتقل إليها، وكان على سيرة السلف، وأخذ عنه الحديث جماعة من الأعيان كالفراوي وعبد المنعم القشيري وزاهر وغيرهم. وكان مولده في شعبان سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، ونسبته إلى بيهق بفتح الموحدة وسكون المثناة من تحت وبعد الهاء المفتوحة قاف وهي قرى مجتمعة بنواحي نيسابور على عشرين فرسخاً منها. وفيها توفي الفقيه الإمام القاضي أبو عاصم محمد بن محمد بن أحمد العبادي الهروي الشافعي، وكان إماماً متقناً، انتقل في البلاد، ولقي خلقاً من المشايخ وأخذ عنهم، وصنف كتباً نافعة، منها المبسوط والهادي إلى مذهب العلماء والرد على السمعاني وأدب القضاء وطبقات الفقهاء، وسمع الحديث ورواه. فيها توفي القاضي أبو يعلى شيخ الحنابلة البغدادي فقيه عصره في مذهبه.(3/63)
وفيها توفي ابن سيدة أبو الحسن علي بن اسماعيل الحافظ، كان إماماً في اللغة والعربية، وكان حافظاً لهما، وله كتاب المحكم والمخصص، كلاهما في اللغة، وكتاب الأنيق ستة مجلدات في شرح الحماسة، وغير ذلك. ووجد على ظهره مجلد من المحكم بخط بعض الفضلاء: إن ابن سيدة دخل المتوضي وهو صحيح، فأخرج منه وقد سقط لسانه، وانقطع كلامه، ثم مات بعد يومين نسأل الله تعالى العفو والعافية.
سنة تسع وخمسين واربع مائة
في ذي القعدة منها فرغت عمارة المدرسة النظامية التي أنشأها الوزير نظام الملك، وقرر لتدريسها الشيخ أبا إسحاق الشيرازي، فاجتمع الناس، ولم يحضر، إذ لقيه في الطريق صبي وقال: كيف تدرس في مكان مغصوب؟ فرجع، واختفى. فلما أيسوا من حضوره وقد اجتمع فيها وجوه الناس وقالوا: إما ينبغي أن ينصرف هذا الجمع من غير تدريس. فأرسل إلى أبي نصر الصباغ مصنف الشامل فدرس. فلما وصل الخبر إلى الوزير أقام القيامة على العميد أبي سعيد، فلم يزل يرفق بالشيخ أبي إسحاق حتى درس، وعمد إلى قبر الإمام الأعظم أبي حنيفة الكوفي رضي الله تعالى عنه فبنى عليه قبة عظيمة، وأنفق عليها أموالاً جسيمه. وفي السنة المذكورة توفي أبو نصر أحمد بن عبد الباقر الموصلي، وأبو مسلم الأصبهاني الأديب المفسر المقرىء.
سنة ستين واربع مائة
فيها أوقبلها كان غلاء عظيم بمصر. وفيها كانت الزلزلة التي هلك فيها بالرملة وحدها على ما ذكر ابن الأثير خمسة وعشرون ألفاً، وقال: انشقت الصخرة ببيت المقدس، وعادت بإذن الله تعالى، وأبعد الله سبحانه البحر عن ساحله مسيرة يوم. وفيها توفي عبد الدائم بن الهلال الجوزاني ثم الدمشقي، والواسطي أبو الجوائز الحسن بن علي الكاتب. كان من الفضلاء أديباً شاعراً حسن الشعر، ومن شعره:
دع الناس طراً واصرف الود عنهم ... إذا كنت في أخلاقهم لا تسامح
ولا تبغ من دهر بظاهر ريقة ... صفاء بنيه في الطباع جوامح(3/64)
شيئان معدومان في الأرض: درهم ... حلال وخل في الحقيقة ناصح
وله:
وبراني الهوى بري المدى وأذا بني ... صدودك حتى صرت أنحل من أمس
ولست أرى حتى أراك وإنما ... يبين هباء الذر في ألق الشمس
سنة احدى وستين واربع مائة
فيها توفي الفوراني بالنون قبل ياء النسبة عبد الرحمن بن محمد بن فوران المروزي، شيخ الشافعية وتلميذ القفال صاحب التصانيف الكثيرة في الأصول والمذهب والخلاف والجدل والملل والخل. انتهت إليه رئاسة الطائفة الشافعية، وطبق الأرض بالتلامذة، وله في المذهب الوجوه الجيدة، وصنف فيه كتاب الإبانة وهو كتاب مفيد، وحكى بعض فضلاء المذهب أن إمام الحرمين كان يحضر حلقته وهو شاب ولا يصغي إلى قوله، فبقي في نفسه منه شيء، فمتى قال في النهاية، وقال بعض المصنفين كذا وغلط في كذا، فمراده الفوراني، هكذا قيل والله أعلم وهو بضم الفاء وسكون الواو وبالراء قبل الألف وبعدها نون ثم ياء النسبة وعنه أخذ أبو الحسن المتولي صاحب اليتيمة. وفيها توفي عبد الرحمن بن أحمد البخاري الحافظ. وأبو الحسين محمد بن مكي الأزدي المصري، وأبو الحسين نصر بن عبد العزيز الفارسي الشيرازي.
سنة اثنتين وستين وأربع مائة
فيها: أقبلت جيوش الروم، فنزلوا على منبج فاستباحوها، وأسرعوا الكرة لفرط القحط حتى بيع فيهم رطل الخبز بدينار. وفيها أقيمت الخطبة العباسية في الحجاز، وقطعت خطبة المصريين لاشتغالهم بما هم فيه من القحط والوباء الذي لم يسمع في الدهور بمتله، وكاد الخراب يستولي على وادي مصر، حتى نقل صاحب مرآة الزمان أن امرأة خرجت وبيدها مد جوهر فقالت: من يأخذه بمدبر؟ فلم يلتفت إليها أحد، فألقته في الطريق، وقالت: هذا ما نفعني وقت الحاجة فلا أريده، فلم يلتفت إليه أحد. هكذا ذكروا لله تعالى أعلم بصحته ولما جاءت الشارة بإقامة الدعوة للعباسيين بمكة أرسل السلطان ألب أرسلان إلى صاحبها محمد بن أبي هاشم ثلاثين(3/65)
ألف دينار وخلعاً. وفيها توفي الإمام الكبير الفقيه الشهير القاضي حسين بن محمد المروزي، شيخ الشافعية في زمانه، صاحب التعليقة في الفقه، والوجوه الغريبة، أخذ عنه الفقه عن الإمام أبي بكر القفال المروزي، وصنف في الأصول والفروع والخلاف، ولم يزل يحكم بين الناس، ويدرس، ويفتي، أخذ عنه الفقه جماعة من الأعيان، منهم أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي صاحب كتاب التهذيب، وشرح السنة وغيرهما، قلت: كلما أطلق العلماء الشافعية في الفروع من لفظ القاضي فالمراد به القاضي حسين المذكور. واما في الأصول إذا أطلق ذلك أهل السنة فالمراد به القاضي أبو بكر الباقلاني، وإذا قالوا: القاضيان، فالمراد بهما: هو والقاضي عبد الجبار المعتزلي، وإذا أطلقوا الشيخ، فالمراد به أبو الحسن القشيري وعند الفقهاء المراد به الشيخ أبو محمد الجويني وإذا أطلقوا الإمام، فالمراد به عند الفقهاء وبعض الأصوليين إمام الحرمين. وأكثر الأصوليين يريدون به فخر الدين الرازي.
وفيها توفي الإمام اللغوي أبو غالب بن بشران الواسطي الحنفي، ويعرف بابن الخالة. وفيها توفي السيد الجليل الفقه الإمام أبو عبد الله محمد بن عتاب بفتح العين المهملة وتشديد المثناة من فوق وبعد الألف موحدة الحراني مولاهم المالكي، مفتي قرطبة، وعالمها ومحدثها وأورعها.
سنة ثلاث وستين واربع مائة
فيها أقام صاحب حلب محمود بن صالح الكلابي الخطبة العباسية، ولبس الخطيب السواد وأخذت رعاع الرافضة حضر الجامع وقالوا: هذه حصر الإمام علي، فليأت أبو بكر بحصره، وجاءت محموداً الخلع مع طراد الذهب، ثم بعد قليل جاء السلطان ألب أرسلان وحاصر محموداً، فخرجت أمه بتقاديم وتحف فترحل عنهم.(3/66)
وفيها كانت الملحمة الكبرى، وخرج أرمانوس في مائتي ألف من الفرنج والروم والكرج بالجيم فوصلوا إلى منازكرد فبلغ السلطان كثرتهم، وما عنده سوى خمسة عسر ألف فارس، فصبحهم على الملتقى وقال: إن استشهدت فإنني ملك شاه ولى عهدي. فلما التقى الجمعان أرسل بطلب المهادنة، فقال طاغية الروم: لا هدنة إلا بالري، فاحتد ألب أرسلان وجرى المصاف يوم الجمعة والخطباء على المنابر ونزل السلطان وعفر وجهه قي التراب، وبكى وتضرع، ثم ركب، وحمل فصار المسلمون في وسط القوم، وصدقوا فنزل النصر، وقتلوا الروم كيف شاؤوا، وانهزمت الروم، وامتلأت الأرض بالقتلى، وأسر أرمانوس، فأحضر إلى السلطان، فضربه ثلاث مقارع بيده، وقال: ألم أرسل إليك في الهدنة فأبيت؟ فقال: دعني من التوبيخ، وافعل ما تريد. قال: ما كنت تفعل بي لو أسرتني؟ قال: فما كنت تظن أن أفعل بك؟ قال: إما أن تقتلني وإما أن تشهرني في بلادك، وأبعدها العفو، قال: ما عزمت على غير هذه، ثم فدى نفسه بألف ألف وخمس مائه ألف دينار، وبكل أسير في مملكته، فخلع عليه، وأطلق له عدة من البطارقة، وهادنه خمسين سنة، وشيعه فرسخاً، وأعطاه عشرة آلاف دينار برسم الطريق، فقال: أين جهة الخليفة؟ فعرفوه، فكشف رأسه، وأومى إلى الجهة بالخدمة. وأما المنهزمون ففقدوهم، ولما وصل هذا الخبر إلى أطراف بلده ترهب، وتزهد، وجمع ما أمكنه وكان مائتين وتسعين ألف دينار، فأرسله، وحلف أنه لا يقدر غيره، ثم إنه استولى على بلاد الأرمن. وفي السنة المذكورة سار بعض أمراء الملك ألب أرسلان، فدخل الشام وافتتح الرملة، وأخذها من المصريين، وحاصر بيت المقدس فأخذه منهم، ثم حاصر دمشق، وأغارت عسكره، وأخربوا أعمال دمشق. وفيها توفي أبو حامد الأزهري أحمد بن الحسن النيسابوري، والحافظ أحد الأئمة صاحب التآليف المنتشرة في الإسلام أبو بكر الخطيب أحمد بن علي بن ثابت البغدادي. روى عن أبي عمر بن مهدي وابن الصلت الأهوازي وطبقتهما، ورحل إلى البصرة ونيسابور وأصبهان ودمشق والكوفة والري، وصنف قريباً من مائة مصنف، وفضله أشهر من أن يوصف، وأخذ الفقه عن أبي الحسين المحاملي والقاضي أبي الطيب الطبري. وكان فقيهاً نقلت عليه الحديث والتاريخ، توفي يوم الاثنين سابع ذي الحجة. وقال السمعاني: في(3/67)
شوال. وكان الشيخ ابو إسحاق الشيرازي من جملة من حمل نعشه، وكان يراجعه في تصانيفه قلت يعني فيما يتعلق بالحديث، وذكر محب الدين النجار بسنده أن أبا بكر بن زهر الصوفي كان قد أعد لنفسه قبراً إلى جانب قبر بشر الحافي، وكان يمضي إليه في كل أسبوع مرة، وينام فيه ويقرأ فيه القرآن كله، فلما مات الفقيه الخطيب وكان قد أوصى أن يدفن إلى جانب قبر بشر جاء أصحاب الخطيب إلى ابن زهر، وسألوه أن يدفن الخطيب في القبر الذي أعده لنفسه، وأن يؤثره به، فامتنع من ذلك امتناعاً شديداً وقال: أعددته لنفسي منذ سنتين فيؤخذ مني؟ فلما رأوا ذلك جاؤوا إلى الشيخ أبي سعيد الصوفي، وذكروا له ذلك، فاستحضره وقال له: أنا لا أقول اعطهم القبر، ولكن أقول لو أن بشراً الحافي في الأحياء، وأنت إلى جانبه، فجاء أبو بكر الخطيب ويقعد دونك، أكان يحسن منك أن تقعد أعلى منه؟ قال: لا، بل كنت أقوم وأجلسه في مكاني. قال: فكذا ينبغي أن يكون الآن. قال: فطاب قلبه، وأذن لهم في دفنه في القبر المذكور في باب حرب. وكان الخطيب قد تصدق بجميع ماله وهو مائتا دينار، وفرقها على أرباب الحديث والفقهاء والفقراء في مرضه، وأوصى أن يتصدق عنه بجميع ما عليه من الثياب، ووقف جميع كتبه على المسلمين، ولم يكن له عقب. ورأيت له منامات صالحة بعد موته، وكان قد انتهى إليه علم الحديث وحفظه. قال ابن موكولا: لم يكن للبغداديين بعد الدارقطني مثل الخطيب. وفيها توفي أبو علي حسان بن سعيد رئيس مرو الروذ الذي عم خراسان بره وأفضاله، وكان يكسي في كل عام ألف نفس، وأنشأ الجامع المنيع. وفيها توفي أبو عمرو المنبجي الهروي المحدث كان ثقة صالحاً. وفيها توفيت أم الكرام كريمة أحمد
المروزية المجاورة بمكة. روت الصحيح، وكانت ذات ضبط وفهم ونباهة، وما تزوجت قط، وقيل إنها بلغت المائة، وسمع منها خلق، وفيها توفي أبو الغنائم الزجاجي البغدادي. وفيها توفي الحافظ أبو عمر بن عبد البر القرطبي، أحد الأعلام، وصاحب التصانيف وعمره خمس وتسعون سنة وخمسة أيام قيل: وليس لأهل المغرب أحفظ منه مع الثقة والدين والنزاهة والتبحر في الفقه والعربية والأخبار. وله من التصانيف كتاب التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد وكتاب الاستدراك لمذاهب علماء الأمصار فيما تضمنه الموطأ من المعاني والرأي والآثار. وكتاب الاستيعاب في اسماء الصحابة النجاب وكتاب جامع بيان العلم وفصله وما ينبغي في روايته وحمله وكتاب الدرر في اختصار المغازي والسير وكتاب العقل والعقلاء وما جاء في أوصافهم، وكتاب بهجة المحاسن في أنس المجالس وكتاب صغير في قبائل العرب وأنسابهم، وغير ذلك. وكان له بسطة كبيرة في علم النسب، مع ما تقدم من الفقه والأخبار والعربية. روزية المجاورة بمكة. روت الصحيح، وكانت ذات ضبط وفهم ونباهة، وما تزوجت قط، وقيل إنها بلغت المائة، وسمع منها خلق، وفيها توفي أبو الغنائم الزجاجي البغدادي. وفيها توفي الحافظ أبو عمر بن عبد البر القرطبي، أحد الأعلام، وصاحب التصانيف وعمره خمس وتسعون سنة وخمسة أيام قيل: وليس لأهل المغرب أحفظ منه مع الثقة والدين والنزاهة والتبحر في الفقه والعربية والأخبار. وله من التصانيف كتاب التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد وكتاب الاستدراك لمذاهب علماء الأمصار فيما تضمنه الموطأ من المعاني والرأي والآثار. وكتاب الاستيعاب في اسماء الصحابة النجاب(3/68)
وكتاب جامع بيان العلم وفصله وما ينبغي في روايته وحمله وكتاب الدرر في اختصار المغازي والسير وكتاب العقل والعقلاء وما جاء في أوصافهم، وكتاب بهجة المحاسن في أنس المجالس وكتاب صغير في قبائل العرب وأنسابهم، وغير ذلك. وكان له بسطة كبيرة في علم النسب، مع ما تقدم من الفقه والأخبار والعربية.
سنة اربع وستين واربع مائة
فيها توفي أبو الحسن جابر بن نصر البغدادي العطار والمعتضد بالله عباد ابن القاضي محمد بن اسماعيل اللخمي صاحب إشبيلية، ولي بعد أبيه، وكان شهماً مقداماً صارماً، قتل جماعة وصاد آخرين، ودانت له الملوك. وفيها توفي ابن حيدة بكر بن محمد النيسابوري.
سنة خمس وستين واربع مائة
فيها قتل ألب أرسلا، وتسلطن ابنه ملكشاه، وفيها افترق الجيش، واقتلوا فقتل نحو الأربعين ألفاً، ثم التقوا مرة ثانية، وكثر القتل في العبيد، وانتصر الأتراك، وضعف المستنصر، وأنفق خزائنه في رضائهم، وغلب العبيد على السعيد، ثم جرت لهم وقعات، وعاد الغلاء المفرط والوباء، ونهب الجند دور العامة. قال ابن الأثير: اشتد البلاء والوباء حتى إن أهل البيت كانوا يمولون في ليلة، وحتى حكي أن امرأة أكلت رغيفاً بألف دينار، باعت عروضاً لها قيمة ألف دينار، واشترت بها حملة قمح، وحمله الحمال على ظهره، فنهبت الحملة، فنهبت المرأة مع الناس، فحصل لها رغيف واحد. وفيها توفي السلطان الكبير عضد الدولة أبو شجاع: ألب أرسلان ابن الملك داود بن ميكائيل بن سلجوق بفتح السين المهملة وضم الجيم بين الواو واللام، أول من قيل له السلطان على منابر بغداد. وكان فى آخر دولته من أعدل الناس، وأحسنهم سيرة، وأرغبهم في الجهاد وفي نصر الإسلام، ثم عبر نهر جيحون ومعه نحو مائتي ألف فارس، وقيل إنه لم يعبر الفرات في قديم الزمان ولا في حديثه في الإسلام ملك تركي قبل ألب أرسلان، فإنه أول من عبرها من ملوك الترك، فأتى بمتولي قلعة يقال له يوسف الخو ارزمي، فأمر أن يشد(3/69)
بأربعة أوتاد، فقال: يا مخنث، مثلي يقتل هكذا؟ فغضب السلطان، فأخذ القوس والنشاب فقال: خلوه، فرماه، فأخطأه وكان قل أن يخطىء فشد يوسف عليه، فنزل السلطان، فأخذ القوس والنشاب فقال: خلوه عن السرير، فعثر، فبرك عليه يوسف، وضربه بسكين معه في خاصرته، فشد مملوك على يوسف فقتله، ثم مات السلطان من ذلك، وكان أهل سمرقند قد خافوه، وابتهلوا إلى الله تعالى وفروا إليه ليكفيهم أمر ألب أرسلان، فكفاهم. وفيها توفي أبو الغنائم عبد الصمد بن علي الماسع، سمع جده أبا الفضل ابن المأمون الدارقطني وجماعة. قال أبو سعيد السمعاني: كان ثقة نبيلاً مهيباً تعلوه سكينة ووقار، رحمه الله. وفيها توفي الأستاذ الكبير العارف بالله الشهير السيد الجليل الإمام، جامع الفضائل والمحاسن زين الإسلام أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري النيسابوري الصوفي شيخ خراسان، وأستاذ الجماعة، ومصنف الرسالة. قال أبو سعيد السمعاني: لم ير أبو القاسم مثل نفسه في كماله وبراعته، كان علامة في الفقه والتفسير والحديث والأصول والشعر والأدب والكتابة وعلم التصوف، جمع بين الشريعة والحقيقة، أصله من ناحية اسنوا، من العرب الذين قدموا خراسان. توفي أبوه وهو صغير، فتعلم الأدب، وحضر مجلس الأستاذ ابي علي الدقاق وكان إمام وقته فلما سمع كلامه أعجبه، ووقع في قلبه، فسلك طريق الإرادة، فقبله الدقاق، وأقبل عليه، وتفرس فيه النجابة، فجذبه بهمته، وأشار عليه بالاشتغال بالعلم، فخرج إلى درس محمد بن أبي بكر الطوسي، وشرع في الفقه حتى فرغ من تعليقه، ثم اختلف إلى الأستاذ أبي بكر بن فورك، فقرأ عليه حتى أتقن علم الأصول، ثم تردد إلى الأستاذ أبي إسحاق الاسفرائيني، وقعد ليسمع درسه أياماً، فقال الأستاذ: هذا العلم لا يحصل بالسماع، ولا بد من الضبط بالكتابة، فأعاد عليه جميع ما سمع منه في تلك الأيام، فعجب منه، وعرف محله، فأكرمه وقال له: ما تحتاج إلى درس، بل يكفيك أن تطالع مصنفاتي. فقعد، وجمع بين طريقته وطريقة ابن فورك، ثم نظر في كتب القاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني، وهو مع ذلك يحضر مجلس الأستاذ ابي علي الدقاق، وزوجه ابنته مع كثرة أقاربها، وبعد وفاة أبي علي سلك مسلك المجاهدة والتجريد، وأخذ في التصنيف، فصنف التفسير الكبير، وسقاه التيسير في علم التفسير وهو من أجود التفاسير، وصنف الرسالة في رجال الطريقة، وخرج إلى الحج في رفقة فيها الإمام أبو محمد الجويني وإمام الحرمين والإمام الحافظ أحمد بن الحسين البيهقي، وجماعة من المشاهير وسمع منهم الحديث في بغداد والحجاز، وكان له في الفروسية واستعمال السلاح الباع الطويل،(3/70)
والبراعة البالغة. وأما مجلس الوعظ والتذكير فهو إمامها المنفرد بها، عقد لنفسه مجلس الإملاء في الحديث. وذكره صاحب: كتاب دمية القصر، وبالغ في الثناء عليه حتى قال في مبالغته: لو قرع الصخر بسوط تخويفه لذاب، ولو ربط إبليس في مجلسه لناب. وذكره الخطيب في تاريخه وقال: كان حسن الموعظة، مليح الإشارة، يعرف الأصول على مذهب الأشعري، والفروع على مذهب الشافعي. وذكره الشيخ
الإمام عبد الغافر في تاريخه فقال: عبد الكريم بن هوازن أبو القاسم القشيري الإمام مطلقاً، الفقيه المتكلم الأصولي، المفسر الأديب النحوي، الكاتب الشاعر، لسان عصره وسيد وقته، ونصر الله بين خلقه، شيخ المشايخ وأستاذ الجماعة، ومقذم الطائفة ومقصود سالكي الطريقة، وبندار الحقيقة وعين السعادة، وقطب السيادة وحقيقة الملاحة، لم ير مثل نفسه في كماله وبراعته، وجمع بين علم الشريعة والحقيقة. وذكر الخطيب سماعه من جماعة كثيرين من الأكابر: كأبي نعيم والحاكم والخفاف والسلمي وابن فورك وأشباههم. قلت: وقد ذكرت عن الإمام الحافظ ابن عساكر في كتابي الشاش المعلم محاسن كثيرة وقضايا شهيرة، وحذفتها هناك. وقال أبو عبد الله محمد بن الفضل الفراوي: أنشدنا عبد الكريم بن هوازن لنفسه: لإمام عبد الغافر في تاريخه فقال: عبد الكريم بن هوازن أبو القاسم القشيري الإمام مطلقاً، الفقيه المتكلم الأصولي، المفسر الأديب النحوي، الكاتب الشاعر، لسان عصره وسيد وقته، ونصر الله بين خلقه، شيخ المشايخ وأستاذ الجماعة، ومقذم الطائفة ومقصود سالكي الطريقة، وبندار الحقيقة وعين السعادة، وقطب السيادة وحقيقة الملاحة، لم ير مثل نفسه في كماله وبراعته، وجمع بين علم الشريعة والحقيقة. وذكر الخطيب سماعه من جماعة كثيرين من الأكابر: كأبي نعيم والحاكم والخفاف والسلمي وابن فورك وأشباههم. قلت: وقد ذكرت عن الإمام الحافظ ابن عساكر في كتابي الشاش المعلم محاسن كثيرة وقضايا شهيرة، وحذفتها هناك. وقال أبو عبد الله محمد بن الفضل الفراوي: أنشدنا عبد الكريم بن هوازن لنفسه:
سقى الله وقتاً كنت أخلو بوجهكم ... وثغر الهوى في روضة الأنس ضاحك
قمنا زماناً والعيون قريرة ... وأصبحت يوماً والعيون سوافك
ومما أنشده في رسالته المشهورة.
ومن كان في طول الهوى ذاق سلوة ... فإني من ليلى لها غير ذائق
وأكثر شيء نبته من وصالها ... أماني لم تصدق كلمحة بارق
وكان ولده أبو نصر عبد الرحيم إماماً كبيراً، أشبه أباه في علومه ومجالسه، ثم واظب دروس إمام الحرمين أبي المعالي، حتى حصل طريقته في المذهب والخلاف، ثم خرج إلى الحج، فوصل إلى بغداد، وعقد بها مجلس وعظ، وحصل له قبول عظيم، وحضر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي مجلسه، وأطبق علماء بغداد على أنه لم ير مثله. قلت: وسيأتي ذكر شيء من محاسنه وسيرته في ترجمته إن شاء الله تعالى.(3/71)
وفي السنة المذكورة توفي الخطيب أبو الحسين محمد بن عل، المنتسب إلى المهتدي بالله. كان سيد بني العباس في زمانه وشيخهم، نبيلاً صالحاً متقبلاً، يقال له راهب بني العباس لدينه وعبادته وسرده الصوم. عاش خمساً وتسعين سنة. وفيها توفي أبو القاسم الهذلي يوسف بن علي المتكلم المقرىء النحوي، صاحب كتاب الكامل في القراءات. كان كثير الترحال، حتى وصل إلى بلاد الترك في طلب القراءات المشهورة والشاذة.
سنة ست وستين واربع مائة
فيها كان الغرق الكثير ببغداد، فهلك خلق تحت الردم، وأقيمت الجمعة في الطيار على ظهر الما، وكان الموج كالجبإل، وغرق بالكلية بعض المحال، وبقيت كأن لم يكن، وقيل: بلغ ارتفاع الماء ثلاثين ذراعاً. وفيها توفي ركن الدولة الحسن بن بويه الديلمي، صاحب أصفهان والري وهمدان وجميع العراق، وهو والد عضد الدولة ومؤيد الدولة وفخر الدولة، وأخو معز الدولة. وكان ملكاً جليل القدر عالي الهمة. وكان أبو الفضل بن العميدي وزيره، والصاحب بن عباد وزير ولده مؤيد الدولة قالوا: وكان مسعوداً ورزق السعادة في أولاده الثلاثة، وقسم عليهم الممالك، فقاموا بها أحسن قيام، وكان أوسط إخوته قبله عماد الدولة، وبعده معن الدولة. وفيها توفي أبو سهل الحفصي محمد بن أحمد المروزي، راوي الصحيح عن الكشميهني. كان رجلاً أميناً مباركاً، سمع منه نظام الملك فأكرمه، وأجزل صلته. وفيها توفي الحافظ أبو محمد الكتاني عبد العزيز بن أحمد التميمي الدمشقي الصوفي. والحافظ أبو بكر بن العطار محمد بن ابراهيم الأصفهاني والفقيه أبو المكارم محمد بن سلطان الغنوي الدمشقي الفرضي. ويعقوب بن أحمد الصيرفي النيسابوري.
سنة سبع وستين واربع مائة
فيها أخذ المستنصر الديار المصرية والإسكندرية ودمياط وبلاد الصعيد. وكان قد استضع، وأخذ منه جميع ذلك في سنة خمس، فعاد إليه جميع ما أخذ منه، ثم أخذ يعمر البلاد وأطلق الفلاحين من الكلف، ثم بعث الهدايا إلى صاحب مكة، فأعاد خطبة المستنصر(3/72)
بعد أن كان قد خطب للقائم بأمر الله أعواماً. وفيها عمل السلطان ملك شاه الرصد، وأنفق عليه أموالاً عظيمة.
وفيها توفي محدث الأندلس أبو عمرو بن الحذاء أحمد بن محمد القرطبي. والقائم بأمر الله أبو جعفر عبد الله بن القادر بالله. ومدة خلافته أربع وأربعون سنة وأشهر، وكان ورعاً ديناً كثير الصدقة، وله علم وفضل، من خير الخلائق، لا سيما بعد عوده إلى الخلافة، وبويع حفيده المقتدي بأمر الله عبد الله بن محمد القائم. وفيها توفي جمال الإسلام أبو الحسن الدراوردي عبد الرحمن بن محمد بن مظفر البوشنجي، شيخ خراسان علماً وفضلاً وجلالة وسنداً. تفقه على القفال المروزي وأبي الطيب الصعلوكي وأبي حامد الاسفرائيني، وروى الكثير عن أبي محمد بن حمويه. وفيها توفي أبو الحسن الباخرزي بالموحدة والخاء المعجمة بعد الألف وبعده راء ثم زاي الرئيس الأديب علي بن الحسن، مؤلف كتاب دمية القصر. وكان رأساً في الكتابة والإنشاء والشعر، وأوحد عصره في فصله وذهنه، سابقاً إلى حيازة قصبات السبق في نظمه ونثره، وكان في شبابه مشتغلاً بالفقه على مذهب الإمام الشافعي، ملازماً درس أبي محمد الجوني، ثم شرع في فن الكتابة، وارتفعت به الأحوال، وانخفضت، ورأى من الدهر العجائب، وغلب أدبه على فقهه، وعمل الشعر والحديث، وصنف كتاب دمية القصر وعصرة أهل العصر وهو ذيل يتيمة الدهر التي للثعالبي، جمع فيها خلقاً كثيراً، وله ديوان شعر في مجلد كبير. ومن نظمه:
يا فالق الصبح من لا غرته ... وجاعل الليل في أصداغه سكنا
بصورة الوثن استعبدتني وبها ... قيدتني وقديماً هيجت لي شجنا
لا عز إن أحرقت نار الهوى كبدي ... فالنار حق على من يعبد الوثنا
والأمير عز الدولة محمود بن نصر بن صالح الكلابي صاحب حلب، ملكها عشرة أعوام، وكان شيخاً فارساً جواداً ممدوحاً، يداري المصريين والعباسيين، أوسط داره بينهما، ولي بعده ابنه نصر، فقتله بعض الأتراك بعد سنة.(3/73)
سنة ثمان وستين واربع مائة
فيها حوصرت دمشق، واشتد بها الغلاء، وعدمت الأقوات، ثم تسلم البلد بالأمان، وأقيمت الخطبة العباسية، وأبطل شعار الشيعة من الأذان وغيره. وفيها توفي مقرىء واسط الحسن بن قاسم الواسطي، كان أحد من اجتهد في القراءات، ورحل فيها إلى البلاد، وصنف فيها. وفيها توفي أبو الفتح عبد الجبار بن عبد الله الرازي الواعظ الجوهري. والإمام المفسر أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري، أستاذ عصره في النحو والتفسير، تلميذ أبي إسحاق الثعلبي، وأحد من برع في العلم، وصنف التفاسير الشهيرة المجمع على حسنها، والمشتغل بتدريسها، والمرزوق السعادة فيها، وهي البسيط والوسيط والوجيز، ومنه أخذ أبو حامد الغزالي أسماء كتبه الثلاثة، وله كتب أخرى، بعضها فيما يتعلق بأسماء الله الحسنى وكتاب أسباب النزول وشرح كتاب المتنبي شرحاً مستوفي. قيل: وليس في شروحه - مع كثرتها - مثله، وذكر فيه أشياء غريبة، منها أنه تكلم في شرح هذا البيت:
وإذا المكارم والصوارم والقنا ... وبنات أعوج كل شيء يجمع
ثم قال: أعوج: فحل كريم كان لبني هلال بن عامر، وإنه قيل لصاحبه: ما رأيت من
شدة عدوه؟ قال: ضللت في بادية وأنا راكبه فرأيت قطاً يقصد الماء، فتبعته وأنا أغض من لجامه - حتى توافينا الماء دفعة واحدة. وهذا غريب فإن القطا شديد الطيران، وإذا قصد الماء اشتد طيرانه أكثر من غير قصده الماء، وهو كان يمض من لجامه أن يكفه عن شدة العدو. وقيل وإنما لقب أعوج لأنه كان صغيراً، فجاءتهم غارة، فهربوا منها، وطرحوه في خرج، وحملوه لعدم قدرته على المشي معهم لصغره، فاعوج ظهره من ذلك، فقيل له أعوج. والواحدي نسبة قيل إلى الواحد بن مهرة على ما حكاه العسكري. وفيها توفي محدث همدان وزاهداها: يوسف بن محمد الخطيب. وفيها توفي العبد الصالح أبو القاسم يوسف بن محمد الهمداني الصوفي الذي خرج له الخطيب خمسة أجزاء.(3/74)
وفيها توفي البياضي الشاعر المشهور مسعود بن عبد العزيز الهاشمي، وهو من الشعراء المجيدين في المتأخرين، وديوان شعره صغير وهو في غاية الرقة. ومن شعره:
إن غاض دمعك والركاب تساق مع ما بقلبك فهو منك نفاق
وإنما قيل له البياضي لأن أحد أجداده كان في مجلس بعض الخلفاء مع جماعة من العباسيين لابسين السواد وهو لابس البياض - فقال الخليفة: من ذلك البياضي؟ فثبت هذا اللقب عليه.
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
سنة تسع وستين واربع مائة
فيها كانت فتنة لما وعظ الإمام الكبيرالعلامة الشهير أبو نصر ابن الأستاذ الإمام زين الإسلام أبي القاسم القشيري ببغداد في النظامية، وكان قد حصل له إقبال عظيم، وحضر مجلسه أكابر العلماء كالإمام أبي إسحاق الشيرازي وغيره من الجلة كما تقدم ذكره ونصر في وعظه مذهب الأشعرية، وحط على مذهب الحنبلية، فهاجت الفتنة، وثارت العصبية وقتل جماعة. وفي السنة المذكورة توفي أبو الحسن أحمد بن عبد الواحد السلمي. وفيها توفي المحدث المتقن مسند الأندلس حاتم بن محمد التيمي القرطبي. وفيها توفي مؤرخ الأندلس ومسندها حبان - بن خلف بن حسين القرطبي. وفيها توفي الإمام النحوي أبو الحسن طاهر بن أحمد بن بابشاذ النحوي، صاحب المصنفات المفيدة منها المقدمة المشهورة، وشرحها وشرح الجمل للإمام الكبير الزجاجي، وشرح كتاب الأصول لابن السراج، ومسودات في النحو، توفي قبل إتمامها. قيل: لو بيضت قاربت خمسة عشر مجلداً، وانتفع الناس بعلمه وتصانيفه. كان بمصر إمام عصره في النحو، وكانت وظيفته أن ديوان الإنشاء لا يخرج حتى يعرض عليه ويتأمله، فإن كان فيه خطأ من جهة النحو واللغة أصلحه كاتبه، وإلا استرضاه، فيسير إلى الجهة التي كتب إليها، وكان له على ذلك راتبة من الخزانة، يتناوله في كل شهر، وأقام على ذلك زمانأ. ويحكى أنه كان يوماً يأكل طعاماً في سطح جامع مصر، وعنده ناس، فحضرهم قط، فرموا له لقمة، فأخذها في فيه، وغاب عنهم، ثم عاد إليهم، فرموا له شيئاً آخر، ففعل ذلك مراراً كثيرة، فعجبوا منه وتبعوه، فوجدوه يرقى إلى حائط في سطح الجامع، ثم ينزل إلى موضع خال فيه قط أعمى، وكلما يأخذه من الطعام يحمله إلى ذلك القط، فيأكله، فتعجبوا من ذلك، وكان سبباً لاستغنائه عن الخدمة، لما تفكر من كونه حيواناً أعمى لا يهتدي إلى(3/75)
يقوم بحاله، سخر الله له هذا القط يقوم بكفايته، ويسوق إليه الرزق المقسوم، فكيف يضيع من هو مثلي؟ ونزل عن راتبه، ولزم البيت متوكلاً على الله تعالى، فما، زال ملطوفاً به محمول الكلفة إلى أن مات، وقيل: إنه خرج ليلة من غرفة في سطح الجامع،. فزلت رجله في بعض الطاقات المجهولة للضوء، فسقط وأصبح ميتاً، وأصله على ما ذكر بعضهم من الديلم، وبابشاذ: كلمة عجمية يتضمن معناها الفرح والسرور.
سنة سبعين وإربع مائة
فيها كانت فتنة كبيرة ببغداد بسبب الاعتقاد، ووقع النهب في البلد، وأشتد الخطب، وركب العسكر، وقتلوا جماعة، حتى فتر الأمر. قلت: هكذا أطلق بعض المؤرخين، ولم تبن هذه الفتنة بين أهل السنة والرافضة أو بين الأشعرية والحنبلية. وفي السنة المذكورة توفي الحافظ أبو صالح أحمد بن عبد الملك النيسابوري، محدث خراسان في زمانه، روى عن أبي نعيم وعن أبي الحسين البغدادي وللحاكم، وخلق، ورحل إلى أصفهان وبغداد ودمشق، وله ألف حديث عن ألف شيخ. وفيها توفي أبو الحسين بن النقور بفتح النون وتشديد القاف محمد بن محمد البغدادي المحدث البزاز. وكان يأخذ على اشغال الطلبة لأنهم كانوا يفوتون عليه الكسب لعياله، أفتاه بجواز ذلك الشيخ إبو إسحاق. وتوفي وله إحدى وتسعون سنة. وفيها توفي الحافظ أبو القاسم عبيد الله بن الجلاد. وفيها توفي الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن منده الأصبهاني، صاحب التصانيف، كان ذا سعت ووقار، وله أصحاب وأتباع. قال الذهبي: وفيه تسنن مفرط أوقع بعض العلماء في الكلام في معتقده، وتوهموا فيه التجسيم. قال: وهو بريء منه فيما علمت، ولكن لو قصر من شأنه لكان أولى به. قلت وكلام الذهبي هذا يحتاج إلى إيضاح، فقوله: فيه تسنن مفرط أي: مبالغ في الأخذ بظواهر السنة والاستدلال بها، وجحد حملها على التأويل.(3/76)
وقوله: أوقع بعض العلماء يعني: بعض العلماء المتكلمين المؤولين، وقوله توهموا فيه التجسيم: لأن الجري على اعتقاد الظواهر ومنع التأويل فيها يدل على ذلك، والكلام فيه يطول، وقد أوضحت ذلك في الأصول. وقوله: لو قصر من شأنه لكان أولى به: أي لو ترك المبالغة في التظاهر بذلك، والاستشهاد به، لكان أولى. وأما قوله: وهو بريء منه، فشهادة على أمر باطن، والله أعلم بحقيقته نهاية ما، ثم إنه ما يصرح بالتجسيم بلسانه، لكن يقول بالجهة، وأسلم ما في ذلك أنه يلزم منه القول بالتجسيم. وفي لزوم المذهب خلاف مشهور عند العلماء، هل هو مذهب أم لا؟ هذا إذا اقتصر على اعتقاد الجهة، فأما إذا اعتقد الحركة والنزول والجارحة فصريح في التجسيم. لا دوران حوله - نسأل الله الكريم الاستقامة على الدين القويم، بجاه نبيه عليه أفضل الصلوات والتسليم. وللمحدثين في اقتداء الإمامين الكبيرين الشهيرين الورعين الفقهين المحدثين جامعي المحاسن والمفاخر: الشيخ السيد الفاضل محيي الدين النواوي والحافظ أبو القاسم ابن عساكر - كفاية، والله ولي الهداية.
سنة احدى وسبعين واربع مائة
فيها دخل الشام تاج الدولة أخو السلطان ملك شاه من جهة أخيه، وأخذ حلب ودمشق، وكان عسكره التركمان. وكان أقسيس الخوارزمي قد جاءت المصريون لحرب، فاستنجد بتتش بالمثناة من فوق مكررة ثم الشين المعجمة عندما أخذ حلب، فسار إليه، وفر المصريون، فخرج أقسيس إلى خدمة تتش، فأظهر الغضب لكونه ما تلقاه إلى بعيد، وقتله في الحال، وأحسن سيرته في الشاميين. وفيها توفي أبو علي بن البناء الفقيه الزاهد الحسن بن أحمد البغدادي الحنبلي صاحب التآليف والتاريخ. وفيها توفي الحافظ الكبير أبو علي الحسن بن علي التجيبي - رحل وطوف، وجمع وصنف. وفيها توفي الحافظ القدوة الزاهد نزيل الحرم الشريف، وجار بيت الله المنيف أبو القاسم سعد بن علي الزنجاني. سئل محمد بن طاهر المقدسي عن أفضل من رأى فقال: سعد الزنجاني، وشيخ الإسلام الأنصاري. فقيل: أيهما كان أفضل؟ فقال: الأنصاري كان(3/77)
متقناً، وأما الزنجاني فكان أعرف بالحديث منه. وقال غيره: كان الزنجاني إماماً كبيراً. وفيها توفي عبد العزيز بن علي أبو القاسم الأنماطي. روى عن المخلص، ومات في رجب. وفيها توفي الشيخ الإمام النحوي العلامة، صاحب التصانيف المفيدة: عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني الشافعي الأشعري. ومن تصانيفه المغني في شرح الإيضاح ثلاثون مجلداً. قلت وكلامه في علم المعاني والبيان يدل على جلالته وتحقيقه وديانته وتوفيقه. وقيل إنه مات في سنة أربع وسبعين. وفيها توفي شيخ عصره المتفق على جلالة قدره، الفقيه أبو عاصم الفضيل بن يحيى الهروي. وفيها توفي شيخ زمانه في همدان علماً وفضلاً وجلالة وزهداً، ويقيناً في العلوم وحظاً: أبو الفضل محمد بن عثمان بن زيرك القومساني. وفيها توفي أبو الفتيان محمد بن السلطان المعروف بابن حتوس بالحاء المهملة المفتوحة والياء المشددة المثناة من تحت والواو الساكنة وبعدها سين مهملة، وفي شعر المغاربة: ابن حبوس بالموحدة المخففة. كان أبو الفتيان المذكور شاعراً مشهوراً من الشعراء الشاميين المحسنين، وفحولهم المجيدين، له ديوان شعر كبير، لقي جماعة من الملوك والآكاب، ومدحهم، وأخذ جوائزهم. ومن نظمه في مدح أبي المظفر نصر بن محمود بن شبل الدولة قوله في قصيدة.
ثمانية لم تفترق مذ جمعتها ... فلا افترقت ما ذب عن ناظر شفر
يقينك والتقوى، وجودك والغنى ... ولفظك والمعنى، وحزمك والنصر
ومما وجد في ديوان ابن حيوس هذه الأربعة الأبيات، وبعضهم ينسبها إلى أبي بكر(3/78)
الصائغ والله اعلم بحقيقة ذلك:
أسكان نعمان الأراك تيقنوا ... بأنكم في ربع قلبي ودوموا
على حفظ الوداد فطالما ... بلينا بأقوام إذا استؤمنوا اخافوا
سلوا الليل عني مذ تناءت دياركم ... هل اكتحلت بالغمض لي فيه أجفان
وهل جردت أسياف برق سمائكم ... فكان لها إلا جفوني أجفان
وذكروا أنه وصل أحمد بن محمد المعروف بابن الخياط الشاعر إلى حلب وبها يومئذ أبو الفتيان المذكور - فكتب إليه ابن الخياط.
لم يبق عندي ما يباع بدرهم ... وكفاك مني منظري عن مخبري
إلا بقية ماء وجه منتهى ... عن أن تباع وأين أين المشتري؟
قيل: ولو قال: وأنت نعم المشتري لكان أحسن.
سنة اثنتين وسبعين واربع مائة
فيها توفي الفقيه الزاهد القدوة أبو محمد هياج بن عبيد. قال هبة الله الشيرازي: ما رأت عيناي مثله في الزهد والورع. وقال ابن طاهر: بلغ من زهده أنه يواصل ثلاثاً، لكن يفطر على ماء زمزم، فإذا كان اليوم الثالث واتاه بشيء أكله. وكان قد نيف على الثمانين، وكان يعتمر في كل يوم ثلاث عمر على رجيله، ويدرس عدة دروس لأصحابه، وكان يزور النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل سنة من مكة، فيمشي حافياً ذاهباً وراجعاً. روى عن أبي ذر الهروي، وطائفة. وفيها توفي أبو منصور العكبري محمد بن محمد بن أحمد الأخباري النديم عن تسعين سنة. صدوق، روى عن عبد الله الجعفي وهلال الحفار وطائفة. توفي في رمضان. وفيها توفي أبو علي الحسن بن عبد الرحمن الشافعي المالكي. وعبد العزيز بن محمد الفارسي الهروي.
سنة ثلاث وسبعين واربع مائة
فيها توفي أبو القاسم الفضل بن عبد الله الواعظ النيسابوري. وفيها توفي السلطان الغنوي الدمشقي شاعر أهل الشام. له ديوان كبير.(3/79)
وفيها توفي أبو الحسن علي بن محمد بن علي الصليحي بضم الصاد المهملة وفتح اللام وسكون المثناة من تحت والحاء المهملة مكسورة القائم باليمن، كان أبوه قاضياً باليمن، سني المذهب، وكان أهله وجماعته يطيعونه، وكان الداعي عامر بن عبد الله الرواحي بالراء والحاء المهملة يلاطفه ويركب، أو قال: يركب إليه لرئاسته وسؤدده وصلاحة علمه، فلم يزل عامر المذكور حتى استمال قلب ولده المذكور وهو يومئذ دون البلوغ، لاحت فيه مخائل النجابة. وقيل كانت عنده حلية علي الصليحي في كتاب الصور، وهو من الذخائر القديمة، فأوفقه منه على تثقل حاله وشرف ماله، وأطلعه على ذلك سراً من أبيه وأهله. ثم مات عامر عن قرب، وأوصى له بكتبه وعلومه، ورسخ في الذهن من كلامه ما رسخ، فعكف على الدرس وكان ذكياً فلم يبلغ الحلم حتى تضلع من علومه التي بلغ بها - وبالحد الصعيد غاية البعيد. قلت هذا على اعتقاد من هو طريد عن باب التوفيق والاعتقاد السديد، فلم يزل مشتغلاً بتلك العفوم الضلالية الأوهامية، حتى صار فقيهاً في مذهب الباطنية الإسماعيلة، منتصراً في علم التأويل المخالف بمفهوم التنزيل، ثم إنه صار يحج بالناس دليلاً على طريق السراة والطائف خمس عشرة سنة، وكان الناس يقولون له: بلغنا أنك ستملك اليمن بأسره، ويكون لك شأن؟ فيكره ذلك، وينكره على قائله، مع كونه أمراً قد شاع، وكثر في أفواه الناس - الخاصة والعامة. ولما كان سنة تسع وعشرين رأربع مائة ارتقى رأس جبل، هو أعلى ذروة من جبال اليمن، وكان معه ستون رجلاً، قد خالفهم بمكة في سنة ثمان وعشرين وأربعمائة على الموت والقيام بالدعوة، وما منهم إلا من هو من قوم وعشيرة في منعة وعدد كبير، ولم يكن برأس الجبل المذكور بناء بل كان قلة عالية منيعة، فلما ملكها لم ينتصف نهار ذلك اليوم إلا وقد أحاط بها عشرون ألف ضارب بسيف، وحصروه وشتموه، وسفهوا رأيه، وقالوا له: إن نزلت وإلا قتلناك أنت ومن معك بالجوع، فقال لهم: لا أفعل هذا إلا خوفاً علينا وعليكم أن يملكه غيرنا فإن تركتموني أحرسها وإلا نزلت إليكم، فانصرفوا عنه، ولم يمض عليه أشهر حتى بنى في رأس ذلك الجبل، وحصنه، وأتقنه، واستفحل أمر الصليحي شيئاً فشيئاً. وكان يدعو للمستنصر العبيدي صاحب مصر في الخفية، ويخاف من نجاح صاحب تهامة، ويلاطفه، ويستكبر لأمره، وفي الباطن يعمل الحيلة في قتله، ولم يزل حتى قتله بالسم مع جارية جميلة أهداها إليه، وكان ذلك في سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة(3/80)
بالكدراء، وفي سنة تلاث وخمسين كتب الصليحي إلى المستنصر يستأذنه في إظهار الدعوة، فأذن له، فطوى البلاد طياً، وفتح الحصون والبلاد، ولم تخرج سنة خمس وخمسين إلا وقد ملك اليمن كله: سهله ووعره، وبره وبحره. وقيل: وهذا أمر لم يعهد مثله في الجاهلية والإسلام، حتى قال يوماً وهو يخطب الناس في جامع الجند: وفي مثل هذا اليوم يخطب على منبر عدن ولم يكن ملكها بعد، فقال بعص من حضر: سبوح قدوس، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. قلت قوله سبوح قدوس: إن كان تعظيماً له وتنزيها فقد كفر قائله، إذ أشركه مع الله بما يختص به تعالى، وإن كان تهكماً به وأنه ادعى من القدرة صفة من صفات الله تعالى التي لا يتصف بها غيره، فمثل هذا لا ينبغي أن يقال، والظاهر - والله أعلم - أن هذا مقال بعض الزنادقة، أخرجه مخرج التعظيم له. قال: فلم يدر مثل ذلك اليوم حتى خطب الصليحي على منبر عدن، فقام ذلك الإنسان، وتعالى في المقام، وأخذ البيعة، ودخل في المذهب. وفي سنة خمس وخمسين استقر حاله في صنعاء، وأخذ معه ملوك اليمن الذين أزال ملكهم، وأسكنهم معه، وولى في الحصون غيرهم، واختط بمدينة صنعاء عدة حصون، وحلف أن لا يولي تهامه، إلأ لمن وزن له مائة ألف دينار، فوزنت له ذلك زوجته أسماء عن أخيها أسعد بن شهاب، فولاه وقال لها: يا مولاتنا؛ أنى لك هذا؟ قالت: هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب، فتبسم وعلم أنه من خزانته، فقبضه وقال: هذه بضاعتنا ردت إلينا، ونمير أهلنا، ونحفظ أخانا. ولما كان في سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة، عزم الصليحي على الحج، فأخذ الملوك الذين كان يخاف منهم أن يثوروا عليه، واستصحب زوجته أسماء بنت شهاب، واستخلف مكانه ولده منها المكرم أحمد، وتوجه في ألفي فارس، فيهم من آل الصليحي مائة وتسعون - شخصاً، حتى إذا كان بالمنج، نزل في ظاهرها بالعسكر بضيعة يقال لها أم الدهيم وبيرام معبد، ونزلت عساكره والملوك الذين معه من حوله، فلم يشعر الناس حتى قتل الصليحي، فانزعر الناس، وكشفوا عن الخبر، فإذا الذي قتله سعيد الأحول ابن الذي قتلت الجارية أباه نجاحاً بالسم، أرسل إليه أخوه يعلمه أن الصليحي متوجه إلى مكة، فتحضر حتى تقطع عليه الطريق، فحضر، ثم خرج هو وأخوه، ومعهما سبعون رجلاً بلا مركوب ولا(3/81)
سلاح، بل مع كل واحد جريدة في رأسها مسمار حديد، وتركوا جادة الطريق، وسلكوا الساحل، وكان بينهم وبين المخيم مسيرة ثلاثة ايام، وكان الصليحي قد سمع بخروجهم، فسير خمسة آلاف حربة من الحبشة الذين كانوا في ركابه لقتالهم، واختلفوا في الطريق، فوصل سعيد الأحوال المذكور ومن معه إلى طريق المخيم، وقد أخذ منهم التعب والجفاء وقلة المادة، فظن الناس أنهم من جملة عبيد العسكر، ولم يشعر بهم إلا عبد الله أخو الصليحي فقال: يا مولانا؛ اركب، فهذا والله الأحول سعيد بن نجاح. وركب عبد الله فقال الصليحي لأخيه: إني لا أموت إلا بالدهيم وبيرام معبد التي نزل بها رسول الله صلى الله عليه اله وسلم لما هاجر إلى المدينة، فقال له رجل من أصحابه: قاتل عن نفسك، فهذه والله الدهيم، وهذه بيرام معبد. فلما سمع الصليحي ذلك لحقه اليأس من الحياة وقال: فلم يبرح من مكانه حتى قطع رأسه بسيفه، وقتل أخوه معه، وسائر الصليحيين. ثم إن سعيداً أرسل إلى الخمسة آلاف التي أرسلها الصليحي أن الصليحي قد قتل، وأخذت ثأر أبي، فقدموا عليه، وأطاعوه، واستعان بهم على قتال عسكر الصليحيين، فاستظهر عليهم قتلاً وأسراً ونهباً، ثم حمل رأس الصليحي على عود المظلمة، وقرأ القارىء: " قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء "، - آل عمران 26 - ورجع إلى زبيد، وقد حاز الغنائم. قلت هكذا نقل بعض المؤرخين، وقد ذكرته عن بعضهم في كتاب المرهم أن داعي الاسماعيلية دخل اليمن ودعا إلى مذهبهم، ونزل في الجبل المذكور، ولم يزل يدعو سراً حتى كثرت أتباعهم، وظهرت دعوتهم، وملكوا جبال اليمن وتهامتها. ولكن ذلك مخالف بما قدمناه عن بعض في هذا التاريخ، من وجوه. منها: أنهم ذكروا أن داعيهم الذي أظهر مذهبهم في اليمن وملكهم اسمه: علي بن فضل، من ولد خنفر بفتح الخاء المعجمة وسكون النون وفتح الفاء في آخره راء بن سبأ. والذي تقدم في هذا التاريخ اسمه علي بن محمد الصليحي. ومنها أن دعوتهم ظهرت في سنة سبعين ومائتين، والمذكور فيما تقدم من هذا التاريخ أن دعوتهم ظهرت في سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة.
ومنها أنهم ذكروا أن علي بن الفضل المذكور كان داعياً للاسماعيلية، والصليحي المذكور في هذا التاريخ كان داعياً للرافضة الإمامية، ولكن يمكن الجمع بينهما على هذا الوجه، وهو أنهم في ظاهر الدعوة يقرون إلى مذهب الإمامية، وفي الباطن متدينون لمذهب الباطنية. ولهذا قال الإمام حجة الإسلام في وصف الباطنية: ظاهر مذهبهم الرفض، وباطنه الكفرالمحض.(3/82)
ومنها أن الداعي علي بن الفضل الذي ملك اليمن كان داعياً لإمام لهم، كان مستتراً في بلاد الشام، والصليحي المذكور كان داعياً للمستنصر العبيدي صاحب مصر. ومنها أن على بن فضل لما استولى على اليمن تظاهر بالزندقة، وخلع الإسلام، وأمر جواريه أن يضربن بالدفوف على المنبر، وتغنين بشعر قاله، أوله:
خذي الدف يا هذه واضربي ... وغني هزاريك ثم أطربي
تولى نبي بني هاشم ... وهذا نبي بني يعرب
وقد حط عنا فروض الصلاة ... وحط الصيام ولم يتعب
قلت: وقوله نبي بني يعرب بالنبي نفسه، وأنه جاء بشريعة مسقطة للفروض التي أوجبتها شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، يزعم المارق - لعنه الله - أن ما نسب إليه كان صحيحاً، ويحتمل أنهما قضيتان في زمانين والله أعلم.
سنة اربع رسبعين واريع مائة
فيها فتح تاج الدولة أخو السلطان ملكشاه طرسو. وفيها توفي أبو الوليد الباجي سليمان بن خلف المالكي الأندلسي، كان من علماء الأندلس وحفاظها، سكن شرق الأندلس، ررحل إلى الشرق، فأقام بمكة مع أبي ذر الهروي ثلاثة أعوام، وكان يمضي معه إلى السراة مع أهل أبي ذز، وحج أربعة أعوام، ثم رحل إلى بغداد، فأقام بها ثلاثة أعوام يدرس الفقه ويقرأ الحديث، ولقي فيها جماعة من العلماء، منهم: الإمام أبو الطيب الطبري، تفقه عليه، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وأقام بالموصل مع أبي جعفر الشيباني يدرس عليه الفقه، كذا ذكر ابن خلكان.
وقال الذهبي: أخذ عنه علم الكلام، وسمع الكثير، وبرع في الحديث والفقه والأصول والنظر، ورد إلى وطنه بعد ثلاثة عشر سنة، وكان ممن روى عنه الحافظ أبو بكر الخطيب ويونس بن عبد الله بن مغيث ومكي بن أبي طالب وابن غيلان، وغيرهم. وقال أبو علي بن سكرة: ما رأيت أحداً على سمته وهيبته وتوفير مجلسه، وصنف كتباً كثيرة منها كتاب المنتقى وكتاب إحكام الفصول في أحكام الأصول وكتاب التعديل والتجريح فيمن روى عنه البخاري في الصحيح وغير ذلك، وكان أحد الأئمة الأعلام(3/83)
المقتدي بهم الأنام، ووقع بينه وبين أبي محمد بن حزم المعروف بالظاهري مجالس ومناظرات، ولي القضاء بالأندلس، وقد قيل إنه ولي قضاء حلب أيضاً. وأخذ عنه أبو عمر بن عبد البر صاحب الاستيعاب، وكان يقول: سمعت أبا ذرعبد بن أحمد الهروي يقول: لو صحت الإجازة لبطلت الرحلة. وروى عنه الخطيب البغدادي قال: أنشدني أبو الوليد الباجي لنفسه:
اذا كنت أعلم عماً يقيناً ... بأن جميع حياتي كساعة
فلم لا أكون ضنيناً بها ... وأجعلها في صلاح وطاعة
والباجي نسبة إلى باجة وهي مدينة بإفريقية، وهناك باجة أخرى وهي قرية من قرى أصبهان. وفيها توفي أبو بكر محمد بن المزكي النيسابوري المذكور المحدث. كتب عنه خمسمائة نفس، وأكثر عن أبيه وأبي عبد الرحمن السلمي والحاكم. وروى عنه الخطيب مع تقدمه. توفي في رجب.
سنة خمس وسبعين واربع مائة
فيها قدم الشريف أبو القاسم البكري الواعظ من عند نظام الملك إلى بغداد، فوعظ بالنظامية، ونبذا الحنابلة بالتجسيم، فسبوه وتعرضوا له، وكبس دور بني الفراء، وأخذ كتاب القاضي أبي يعلى في إبطال التأويل، وكان يقرأ بين يديه وهو على المنبر، فيشفع به ويشيع شأنه. وفيها توفى محدث أصبهان ومسندها عبد الوهاب ابن الحافظ أبي عبد الله العبدي الأصفهاني. وفيها أوفى حدودها توفي أبو الفضل المطهر بن عبد الواحد الأصفهاني.
سنة. ست وسبعين واربع مائه
فيها عزم أهل حران وقاضيهم على تسليم حران إلى أمير التركمان لكونه سنياً،(3/84)
وغضبوا على صاحب الموصل لكونه رافضياً، ولكونه يساعد المصريين على محاصرة دمشق فأسرع إلى حران، ورماها بالمنجنيق، وأخذها وذبح القاضي وولديه. وفيها توفي الشيخ الإمام المتفق على جلالته وبراعته في الفقه والأصول وزهادته وورعه وعبادته وصلاحه وجميل صفاته السيد الجليل أبو إسحاق، المشهور فضله في الآفاق جمال الدين ابراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي الفيروزأبادي، وعمره ثلاث وثمانون سنة دخل شيراز، وقرأ بها الفقه على أبي عبد الله البيضاوي، وعلى عبد الوهاب بن رامين، ثم دخل البصرة، وقرأ فيها على بعض علمائها، ودخل بغداد سنة خمس عشرة وأربعمائة، تفقه على جماعة من الأعيان، وصحب القاضي أبا الطيب الطبري، ولازمه كثيراً، وانتفع به، وظهرفضله، وتميز على أصحابه، وناب عنه في مجلسه، ورتبه مفيداً في حلقته، وصنف التصانيف المباركة المفيدة المشهورة السعيدة، منها التنبيه والمهذب في الفقه واللمع وشرحه في أصول الفقه والنكت في الخلاف والمعونة في الجدل، وله شعر حسن، ومنه قوله:
سألت الناس عن خل وفي ... فقالوا ما إلى هذا سبيل
تمسك إن ظفرت ودحر ... فإن الحر في الدنيا قليل
وقوله أيضاً فيما نقله بعضهم:
أحب الكأس من غير المدام ... وأهوى للحسان بلا حرام
وما حبي لفاحشة ولكن ... رأيت الحب أخلاق الكرام
وقوله أيضاً فيما عزي إليه: حكيم يرى أن النجوم حقيقة، ويذهب في أحكامها كل مذهب يخبر عن أفلاكها وبروجها، وما عنده علم بما في المغيب. وسيأتي ذكر شيء مما قيل فيه وفي كتبه. وذكر الحافظ ابن عساكر أنه كان أنظر أهل زمانه وأفصحهم وأورعهم وأكثرهم تواضعاً وبشرى. انتهت إليه رئاسة المذهب، ورحل إليه الفقهاء من الأقطار، وتخرج به أئمة كبار، ولم يحج، ولا وجب عليه حج، لأنه فقيراً متعففاً قانعاً باليسير. سمع الحديث من أبي علي ابن شاذان وأبي بكر البرقاني وغيرهما، وتفقه على جماعة في شيراز والبصرة وبغداد. قلت وقد ذكر الشيخ أبو إسحاق المذكور في طبقات الفقهاء قريب عشرة من شيوخه، منهم من انتسب إليه، وأشهرهم في الانتساب إليه والاشتغال عليه والملازمة له والأخذ عنه: الإمام القاضي أيو الطيب الطبري. قال الحافظ ابن عساكر: وكان يظن ممن لا يفهم أنه مخالف للأشعري - لقوله في كتابه في أصول الفقه: وقالت الأشعرية الأمر، لا(3/85)
صيغة له قال: وليس ذلك لأنه يعتقد اعتقاده، وإنما قال ذلك لأنه خالفه في هذه المسألة التي هي مما تفرد بها أبو الحسن.
قال: وقد ذكرنا فتواه فيمن خالف الأشعرية واعتقد بتبديعهم، وذلك أوفى دليل على أنه منهم. انتهى كلام الحافظ ابن عساكر. قلت: والفتوى المذكورة عن الشيخ أبي إسحاق في هذه الألفاظ التي نقلها الإمام ابن عساكر الجواب، وبالله التوفيق. إن الأشعرية هم أعيان أهل السنة ونصار الشريعة، انتصبوا للرد على المبتدعين القدرية والروافض وغيرهم، فمن طعن فيهم فقد طعن على أهل السنة، وإذا رفع أمر من يفعل ذلك الى الناظر في أمر المسلمين وجب عليه تأديبه بما يرتدع كل أحد. وكتب ابراهيم بن علي الفيروزأبادي، وبعده جوابي مثله، وكتب محمد بن أحمد الشاشي، وذكر الحافظ ابن عساكر أيضاً أجوبة أخرى لقاضي القضاة الدامغاني وأصحاب الحديث، ولا نطول بذكر ذلك. وقال الحافظ محب الدين بن النخار: فاق أهل زمانه في العلم والزهد، وانتشر فضله في القرب والبعد، أو قال: في البلاد. وأكثر علماء الأمصار من تلامذته. وروى عنه الإمام الحافظ السمعاني بسنده في تذييله على تاريخ بغداد أنه قال: كنت نائما فرأيت رسول الله صلى عليه وآله وسلم ومعه أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فقلت: يا رسول الله، بلغني عنك أحاديث كثيرة، وأريد أن أسمع منك حديثاً بغير واسطة وروي بعضهم، أتشرف به في الدنيا، وأجعله ذخراً في الآخرة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: يا شيخ، من أراد السلامة فليطلبها في سلامة غيره منه، وكان يفرح ويقول: سماني سول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيخاً. قال الإمام السمعاني: وسمعت جماعة يقولون: لما قدم أبو إسحاق رسولاً إلى نيسابور يعني رسول الخليفة أمير المؤمنين المقتدي بأمر الله تلقاه الناس، وحمل الإمام أبو المعالي الخويني غاشية، ومشى بين يديه يعني بذلك إمام الحرمين. قلت: وسيأتي في ترجمة إمام الحرمين أن الشيخ أبا إسحاق عظمه أيضا فقال: تمتعوا بهذا الإمام، فإنه نزهة هذا الزمان. مشيراً إلى امام الحرمين. رواه السمعاني. وذكر بعض أهل الطبقات كلاماً معناه أنه حكي أن الشيخ أبا إسحاق تناظر هو وإمام الحرمين، فغلبه أبو إسحاق بقوة معرفته بطريق الجدل. قلت وقد سمعت من بعض المشتغلين بالعلم نحواً من هذا، وأن إمام الحرمين قال(3/86)
له: والله اعلم ما غلبتني بفقهك، ولكن بصلاحك. هكذا حكي والله أعلم. وذكروا أنه لما شافهه أمير المؤمنين بالرسالة قال: وما يدريني أنك أمير المؤمنين
ولم أرك قبل هذا قط؟! فتبسم الخليفة من ذلك، وأعجبه، فأحضر من عرفه به. وذكروا أيضاً أنه كان في طريق، فمر كلب، فزجره بعض أصحابه، فقال له أبو إسحاق: أما علمت أن الطريق مشتركة بيننا وبينه؟ وله في الورع حكايات شهيرة. ومن تواضعه أنه كان - مع جلالته وعلو منزلته - يحضر مجلس بعض تلامذة إمام الحرمين، أعني مجلس وعظه، وهو الشيخ الإمام البارع جامع المحاسن والفضائل بلا منازع أبو نصر عبد الرحيم ابن الإمام أبي القاسم القشيري كما سيأتي. وذكر الحافظ ابن النجار أنه لما ورد بلاد العجم، كان يخرج إليه أهلها بنسائهم، فيمسحون أردانهم يعني به أو قال: أردانهم به، ويأخذون تراب نعله، فيستشفون به. وذكر علماء التاريخ أنه لما فرغ نظام الملك من بناء المدرسة النظامية التي في بغداد سنة تسع وخمسين وأربع مائة قرر لتدريسها الشيخ أبا إسحاق. واجتمع الناس من سائر أعيان البلد وجوه الناس على اختلاف طبقاتهم، فلم يحضر الشيخ أبو إسحاق، وسبب ذلك أنه لقيه صبي قيل حمال من السوق فقال له: كيف تدرس في مكان مغصوب. فرجع واختفى، فلما أيسوا من حضوره قالوا: ما ينبغي أن ينصرف هذا الجمع إلا بعد تدريس، فدرس الإمام أبو نصر بن الصباغ - مصنف الشامل وقيل: لم يكن حاضراً، بل نفذ إليه عند ذلك، فحضر ودرس. فلما وصل الخبر إلى نظام الملك أقام القيامة على العميد أبي سعيد، فلم يزل يرفق بالشيخ أبي إسحاق حتى عرس بها. وذكر بعضهم أن الشيخ أبا إسحاق ظهر في مسجده بعد اختفائه، ولحق أصحابه من ذلك ما بان عليهم، وفتروا عن حضور درسه، وراسلوه أنه أن لم يدرس بها مضوا إلى ابن الصباغ، وتركوه، فأجاب إلى التدريس بها، وعزل ابن الصباغ، وكان مدة تدريسه بها عشرين يوماً. قلت لماذا كان الحامل للشيخ أبي إسحاق على التدريس بها قول طلبته المذكور، وفتورهم عن حضور درسه، فذلك يحمل على حرصه على نشر علمه، ونفع المسلمين به، ويكون ذلك من النصيحة للدين والاهتمام بالقيام لإظهار ما شرع من الأحكام، وتعليمها للراغبين فيها من الأنام، وكراهية أن يكون علمه مهجوراً، وتعطيل النفع بما سعى في تحصيله دهوراً.(3/87)
قلت ومما يناسب ذلك ما جرى لبعض علماء اليمن، وهو الفقيه الإمام الكبير البارع الولي الشهير، قدوة الزمن، ومفتي اليمن: علي بن قاسم، وذلك أن سلطان اليمن لما ثبت عنده أنه أفضل أهل زمانه في نواحي مكانه، ندبه إلى التدريس في مدرسته، فامتنع، فراجعه في ذلك، فلم يوافق، فقالوا له: إما تدرس في مدرستي، وإما تخرج من بلادي، فقال: أنا أخرج، فخرج إلى بعض الأمكنة التي لا يجتمع فيها من الطلبة مثل ما يجتمع في المدن، فأخذ يدرس فيها، فلم يحضر عنده إلا نفر يسير، خلاف ما كانه يحضره عنده من الجمع الكثير، فأنكر في ذلك، وقال: أرجع أدرس في المكان الذي كنت فيه - والبلاد بلاد الرحمن، ما هي بلاد السلطان فرجع، فأعلم السلطان - برجوعه، فقال: لعله قبل التدريس، فاستحضره، وأمره بالذهاب إلى المدرسة، فامتنع من ذلك، فقال: اذهبوا به إلى الحبس، فذهبوا به، فلما بلغ ببعض الطريق، أمر برده، فلما رجع إليه قال له: المصلحة أن تدرس، فأبى ورأى المصلحة بخلاف ذلك، فقال: اذهبوا به إلى الحبس، فذهبوا به إلى أن بلغ ما شاء الله من الطريق، ثم استدعى برده فلما رجع تكلم عليه، وحذره من المخالفة، وبالغ في ذلك، فقال: لا سبيل إلى ذلك، فقال: اسجنوه، فسجنوه بعنف، وربما أخذوه بأطوار، فقال: يا قميص، اخنقه. أو كما قال من الكلام مشيراً بذلك إلى قميص السلطان، فخنق السلطان قميصه، ونزل عليه من البلاء ما لا يطيقه، فصاح: أطلقوه، أطلقوه. فما أطلقوه، فأطلقه السلطان لما أصابه من البلاء والامتحان. ومما وقع للفقيه المذكور مع السلطان أنه حضر شهر رمضان في وفد السلطان، فقال: انظروا أفضل الناس يصلي بنا في هذا الشهر. فقالوا: ما هنا أفضل من الفقيه علي بن قاسم، فاستدعى به السلطان، والتمس منه أن يؤمهم، فلما كان أول ليلة من رمضان، تقذم على أنه يصلي بهم، فطار شرار من الشماع التي في حضرة السلطان، فوقعت في ثياب الفقيه المذكور، فنفض ثيابه، وهج خارجاً من ذلك المكان وهو يقول: " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار "، - هود 113 -. وكان من حدة ذكائه وقوة براعته في الفقه أنه التزم ان جميع ما يسأل عنه لا يجيب عنه إلا من كتاب التنبيه. رجعنا إلى ذكر صاحب التنبيه:
أخبرني بعض الفقهاء الصلحاء، أفضل أهل الصنعاء، ممن يرد عليه أحوال الفقراء، قال: كنا جماعة نتدارس التنبيه، كما يتدارس القرآن، فبينا نحن في بعض الأيام نتدارسه، إذ كشف لي عن الشيخ أبي إسحاق حاضراً معنا في المجلس، وإذا به يقول ما معناه: حسبت في كتابي ما حسبته من خير الآمال، وما حسبت قط أنه بلغ إلى هذا الحال، أو نحو ذلك من المقال. يعني: أنه يتدارس كما يتدارس القرآن. وقال القاضي محمد بن محمد الماهاني: إمامان ما اتقق لهما الحج: الشيخ أبو إسحاق، والقاضي ابو عبد الله الدامغاني. اما أبو إسحاق، فكان فقيراً، ولكن لو اراده لحمل على الأعناق. وأما الدامغاني، فلو أراد الحج على السندس والاستبرق لأمكنه. وقال الفقيه أبو الحسن محمد بن عبد الملك الهمداني: حكى أبي قال: حضرت مع قاضي القضاة أبي الحسن الماوردي - سنة أربعين وأربعمائة - في عزاء إنسان سماه، فتكلم الشيخ أبو إسحاق، فلما خرجنا، قال الماوردي: ما رأيت كأبي إسحاق، لو رأه الشافعي لتجمل به، أو قال: لأعجب به. وقال الإمام أبو بكر الشاشي مصنف المستظهري: وشيخنا أبو إسحاق حجة على أئمة العصر. وقال الموفق الحنفي: الشيخ أبو إسحاق أمير المؤمنين فيما بين الفقهاء. وقال الإمام السمعاني: كان أبو إسحاق يوسوس في الطهارة. سمعت عبد الوهاب الأنماطي يقول: كان الشيخ أبو إسحاق يتوضأ في الشط، فغسلرني بعض الفقهاء الصلحاء، أفضل أهل الصنعاء، ممن يرد عليه أحوال الفقراء، قال: كنا جماعة نتدارس التنبيه، كما يتدارس القرآن، فبينا نحن في بعض الأيام نتدارسه، إذ كشف لي عن الشيخ أبي إسحاق حاضراً معنا في المجلس، وإذا به يقول ما معناه: حسبت في كتابي ما حسبته من خير الآمال، وما حسبت قط أنه بلغ إلى هذا الحال، أو نحو ذلك من المقال. يعني: أنه يتدارس كما يتدارس القرآن. وقال القاضي محمد بن محمد الماهاني: إمامان ما اتقق لهما الحج: الشيخ أبو(3/88)
إسحاق، والقاضي ابو عبد الله الدامغاني. اما أبو إسحاق، فكان فقيراً، ولكن لو اراده لحمل على الأعناق. وأما الدامغاني، فلو أراد الحج على السندس والاستبرق لأمكنه. وقال الفقيه أبو الحسن محمد بن عبد الملك الهمداني: حكى أبي قال: حضرت مع قاضي القضاة أبي الحسن الماوردي - سنة أربعين وأربعمائة - في عزاء إنسان سماه، فتكلم الشيخ أبو إسحاق، فلما خرجنا، قال الماوردي: ما رأيت كأبي إسحاق، لو رأه الشافعي لتجمل به، أو قال: لأعجب به. وقال الإمام أبو بكر الشاشي مصنف المستظهري: وشيخنا أبو إسحاق حجة على أئمة العصر. وقال الموفق الحنفي: الشيخ أبو إسحاق أمير المؤمنين فيما بين الفقهاء. وقال الإمام السمعاني: كان أبو إسحاق يوسوس في الطهارة. سمعت عبد الوهاب الأنماطي يقول: كان الشيخ أبو إسحاق يتوضأ في الشط، فغسل وجهه مراراً، فقال له رجل: يا شيخ، أما تستحي تغسل وجهك كذا وكذا مرة؟! فقال أبو إسحاق: لو حصلت لي الثلاثة ما زدت عليها. يعني: لو حصل لي العلم أو الظن المولد بعموم الثلاث للوجه ما زدت عليها. انتهى. قلت: جميع هذا المذكور في الشيخ أبي إسحاق مما ذكره علماء الطبقات والتواريخ، ومما رويناه عن أهل العلم والخبر. ومن ذلك أيضاً ما ذكر بعضهم أنه رأى الشيخ الإمام أبا إسحاق المذكور بعد وفاته وعليه ثياب بيض، وعلى رأسه تاج - فقيل له: وما هذا البياض؟ فقال: شرف الطاعة. قال: والتاج؟ قال: عز العلم. وفيه قال عاصم بن الحسن:
تراه من الذكاء نحيف جسم ... عليه من توقده دليل
إذا كان الفتى ضخم المعالي ... فليس يضره الجسسم النحيل
قال السلار العقيلي:
كفاني إذا عز الحوادث صارم ... ينيلني المأمول في الإثر والأثر
يقد ويفري في اللقاء كأنه ... لسان أبي إسحاق في مجلس النظر
ومما قيل فيه: وكان قد استقر إجماع أهل بغداد بعد موت الخليفة على أن يعقد الخلافة لمن اختاره الشيخ أبو إسحاق، فاختار المقتدي بأمر الله فيما حكاه الإمام طاهر ابن الإمام العلامة يحيى بن أبي الخير العمراني فيما يغلب على ظنه.(3/89)
ولقد رضيت عن الزمان وإن رمى ... قومي يخطب ضعضع الأركانا
لما رآني طلبة الخبر الذي ... أحيى الإله بعلمه الأديانا
أزكى الورى ديناً واكرم شيمة ... وأمد في طلق العلوم عنانا
وأقل في الدنيا القصيرة رغبة ... ولطالما قد أنصف الرهبانا
لله ابراهيم أي محقق ... صلب إذا رب البصيرة لانا
فتخيله من زهده ومخافة ... لله قد نظر المعاد عيانا
ومما قيل فيه وفي كتاب التنبيه ما رواه الحافظ ابن عساكر:
سقياً لمن صنف التنبيه مختصراً ... ألفاظه العز واستقصى معانيه
إن الإمام أبا إسحاق صنفه ... للة والدين لا للكبر والتنبيه
رأى علوماً عن الأفهام شاردة ... فجازها ابن علي كلها فيه
لا زلت للشرء ابراهيم منتصراً ... تذب عنه أعاديه وتحميه
قلت: وفيه وفي كتاب المهذب، وما اشتمل عليه من الفقه والمسائل النفيسات، نظمت قصيدة من جملتها هذه الأبيات، بعدما طعن فيه بعض المتعصبين، وزعم أنه ليس فيه شيء من المسائل الفقهيات، وحلف على ذلك بعض إيمان الغليظات، فأرسل إلي من بعض البلاد البعيدة في السؤال عن ذلك، وعن اليمين المذكورة، فأجبت بجواب مشتمل علي التعنيف والإنكار الشديد على الطاعن في محاسنه المشهورة، وختمت الجواب بهذه الأبيات التي هي إلى فضائله مشيرات:
إذا الغز عن غر المسائل سائل ... وقال: افتني أين استقرت فجاوب
وقل غرها عن در فقه تبسمت ... ملاح الحلي حلت كتاب المذهب
عذارى المعاني قد زهت في خدورها ... على غير كفو لازمات التحجب
ذراري أبي إسحاق أكرم بسيد ... إمام نجيب للبعيد مقرب
بمدح علاه لا أقوم وإنما ... أذب مقال الطاعن عن المتعصب
قبولاً واقبالاً حظته سعادة ... وأضحى لطلاب كياقوت مطلب
تصانيفه كم من إمام وطالب ... بها انتفعا في شرق أرض ومغرب
وما ذاك إلاعن عطاء عناية ... وتخصيص فضل لاينال بمكسب
ولما مات الشيخ أبو إسحاق رثاه أبو القاسم بن نافيا بالنون وبعد الالف فاء ثم المثناة من تحت هكذا هو في الاصل المنقول منه حيث قال:
أجرى المدامع بالدم المهراق ... خصب أقام قيامه الآباق(3/90)
ما لليالي لا تؤلف شملها ... بعد ابن نجدتها أبي إسحاق
إن قيل مات فلم يمت من ذكره ... حي على مر الليالي باق
ثم درس بعده في النظامية الإمام أبو سعيد المتولي مدة، ثم صرف بالإمام ابن الصباغ، ثم صرف ابن الصباغ أيضاً بأبي سعيد المذكور على ما نقل بعضهم - وذكر بعضهم أنه لما توفي الشيخ أبو إسحاق، جلس أصحابه للعزاء بالمدرسة النظامية، فلما انقضى العزاء رتب مؤيد الملك ابن نظام الملك علي سعيد المتولي، ولما بلغ الخبر نظام الملك كتب بإنكار ذلك، وقال: كان من الواجب أن تغلق المدرسة سنة لأجله. وأمر أن يدرس الشيخ أبو نصر بن الصباغ. قلت وممن درس في النظامية من الأئمة الكبار أبو حامد الغزالي، وأبو بكر الشاشي صاحب المستظهري، وأبو النجيب السهروردي، وجماعة كبار مترتبون على تعاقب الأعصار، وقد يتعجب من عدم ذكر التدريس بها إمام الحرمين، وليس بعجب، فإن إمام الحرمين كانت إقامته بنيسابور، وكان مدرساً هنالك بالمدرسة النظامية. قلت وهذا ما اقتصرت عليه من ذكر مناقب الشيخ أبي إسحاق، وله فضائل جليلة، ومحاسن جميلة، وسيرة حميدة طويلة. ثم أدبه وزهادته، وورعه وعبادته، وفضائله وبراعته، وتواضعه وقناعته، وصلاحه وكرامته وغير ذلك من مشهور المناقب ومشكور المواهب التي لا يحصرها عد حاسب. ومن ورعه ما حكوا أنه كان إذا حضر وقت الصلاة خرج من المدرسة النظامية، وصلى
في بعض المساجد. وكان يقول رحمة الله عليه: بلغني أنه أكثر آلاتها غصب واصلة على مر الدهور بالنفحات الالهية. وفي السنة المذكورة توفي طاهر بن الحسين القواس الحنبلي، وكان إماماً في الفقه والورع رحمه الله. وفيها توفي الحافظ عبد الله بن العطار الهروي. وفيها توفي الواعظ البكري الأشعري أبو بكر المغربي. وفد على نظام الملك بخراسان، فكتب له سجلاً أن يجلس بجوامع بغداد، فقدم، وجلس، ووعظ، ونال من الحنابلة سباً وتكفيراً، ونالوا منه. وفيها توفي مقرىء الأندلس في زمانه أبو عبد الله محمد بن شريح الرعيني الأشبيلي، مصنف كتاب الكافي وكتاب التذكير سمع من أبي ذر الهروي وجماعة.(3/91)
سنة سبع وسبعين واربع مائة
فيها سار صاحب قونية سليمان السلجوقي إلى الشام بجيوشه، فأخذ أنطاكية، وكانت بيد النصارى منذ مائة وعشرين سنة، وكان ملكها قد سار عنها إلى بلاد الروم، ورتب بها نائباً، فأساء إلى أهلها وإلى الجند في إقامته بها. فلما دخل بلاد الروم، واتفق ولده والنائب المذكور على تسليمها إلى صاحب قونية، وكاتبوه، فأسرع في البحر، ثم طلع، وسار إليها في جبال وعرة، فأتاها بغتة، فنصب السلالم ودخلها، وقتل جماعة، وعفا عن الرعية، وأخذ منها أموالاً لا تحصى، ثم بعث إلى السلطان ملك شاه، يبشره بالفتح. وكان صاحب الموصل يأخذ الوظيفة من أنطاكية، فطلب العادة من سليمان، فقال له ذلك المال جزية، وأنا بحمد الله مؤمن.
وفيها توفي ذو الوزارتين محمد بن عمار الأندلسي الشاعر المشهور. كانت ملوك الأندلس تخافه لبذاءة لسانه وبراعة جنانه. وكان جليساً وشهيراً ووزيراً ومشيراً لصاحب الأندلس في زمانه، ثم خلع عليه خاتم الملك، ووجهه أميراً، فتبعته المواكب والمضارب والنجائب والكتائب والجنود، وضربت خلفه الطبول، ونشرت على رأسه الرايات، فملك مدينة تدمير بضم المثناة من فوق وكسر الميم وسكون الدال المهملة بينهما وقبل الراء مثناة من تحت ساكنة وأصبح راقي منبر وسرير، مع ما كان فيه من عدم السياسة وسوء التدبير، ثم بادر إلى عقوق من قربه، فانقلبت الدائرة عليه خوفاً، وخاف فيما طلبه، وحصل في القبصة قبيصاً، وأصبح لا يجد له محيصاً، إلى أن قتل في قصره، وأضحى مدفوناً في قبره، وله أشعار جميلة، ومن جملة قصيدة له طويلة في المعتضد بن عباد:
ملوك العز في عرصاتهم ... ومثوى المعالي بين تلك المعالم
هو البيت يا عز الضنى لبنائه ... بأس وما عز القنا لدعائم
وفيها توفي العالم النبيل اسماعيل بن معبد بن اسماعيل ابن الإمام أبي بكر الإشبيلي الجرجاني. كان وافر الحشمة، له يد في النظم والنثر. وفيها قيل في التي قبلها توفيت أم الفضل بنت عبد الصمد الهروية. لها جزء مشهور بها، يرويه عن عبد الرحمن بن أبي شريح. عاشت تسعين سنة. وفيها توفي أبو سعيد عبد الله ابن الإمام عبد الكريم بن هوازن القشيري، أكبر الإخوة،(3/92)
وعاشت أمه فاطمة بنت الشيخ أبي علي الدقاق بعد أربعة أعوام، وعمره أربع وستون سنة. وفيها توفي الفقيه الإمام مفيد الطلاب، ومفتي الأنام: عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد البغدادي أبو نصر المعروف بابن الصباغ. كان فقيه العراقين، وكان يضاهي الشيخ أبا إسحاق الشيرازي. وبعضهم يرجحه عليه في معرفة المذهب. قلت: يعنون في معرفة الفروع، وأما معرفة الأصول أو المباحث العقلية فأبو إسحاق مرجح عليه وعلى عامة الفقهاء، إلا ما شاء الله تعالى. وكان يرحل إليه من البلدان، وكان تقياً صالحاً حجة. ومن مصنفاته كتاب الشامل في الفقه، وهو من أجود كتب الشافعية وأصحها نقلاً وأثبتها أدلة. وله كتاب تذكرة العالم والطريق السالم والعدة في أصول الفقه وولي التدريس في النظامية، على ما تقدم إيضاحه في ترجمة الشيخ أبي إسحاق، وقيل إنه كف بصره في آخر عمره. وفي السنة المذكورة توفي الشيخ الجليل الكبير الشأن الفضل بن محمد المرشد شيخ خراسان، أبو علي المعروف بالفارمدي. قال الشيخ عبد الغافر: هو شيخ الشيوخ في عصره، المنفرد بطريقته في التذكير التي لم يسبق إليها في حسن عبارته وتهذيبه، وحسن آدابه، ومليح استعارته، ودقة إلطافه، دخل نيسابور، وصحب الأستاذ أبا القاسم القشيري، وأخذ في الاجتهاد البالغ إلى أن نال، وحصل له عند نظام الملك قبول خارج عن الحد روى عن جماعة، وعاش سبعين سنة.
وفيها توفي الحافظ أبو سعيد مسعود بن ناصر السجزي، رحل، وصنف، وحدث عن جماعة، وقال الدقاق: لم أر أجود إتقاناً ولا أحسن ضبطاً منه.
؟ سنة ثمان وسبعين واربع مائة
فيها صارت الفتنة بين الرافضة والسنية، اقتتلوا، وأحرقت أماكن. وفيها توفي الحافظ المتقن أبو العباس أحمد بن عمر الأندلسي. روى عن أبي الحسن بن جهضم وطائفة، ومن جلالته أنه روى عنه إماما الأندلس: ابن عبد البز وابن حزم. وله كتاب دلائل النبوة. وفيها ليلة الجمعة ثامن عشر شوالها توفي الإمام الكبير الفقيه البارع المجيد ذو الوصف الحميد، والمنهج السديد أبو سعد على القول الأصح وقيل: أبو سعيد المتولي: عبد الرحمن ابن محمد المعروف بالمتولي النيسابوري، شيخ الشافعية، وتلميذ القاضي حسين. كان جامعاً بين العلم والدين، وحسن السيرة وتحقيق المناظرة، له يد قوية في الأصول والفقه، والخلاف(3/93)
والتدريس. وصنف كتاب التتمة، تمم به كتاب الإبانة تصنيف شيخه أبي القاسم الفوراني بالنون قبل ياء النسبة والفاء المضمومة قبل الواو والراء بعدها ودرس بالنظامية بعد الشيخ أبي إسحاق عشرين يوماً، ثم صرف بابن الصباغ، ثم صرف ابن الصباغ به، واستمر بها أبو سعد إلى أن توفي، وتخرج به جماعة من الأئمة، وسمع الحديث، وصنف في الفقه، وعجلته المنية قبل إتمامه التتمة، وأتمه من بعده جماعة، ولم يأتوا بالمقصد، ولا سلكوا طريقه، فإنه جمع في كتابه الغرائب من المسائل، والوجوه الغريبة التى لا تكاد توجد في كتاب غيره. وله في الفرائض مختصر صغير مفيد جداً، وله في الخلاف طريقة جامعة لأنواع المسائل، وله في أصول الدين تصنيف صغير، وكل تصانيفه نافعة. قال بعض المؤرخين: ولم أعلم لأي معنى دعي المتولي. وفيها توفي أبو معشر عبد الكريم بن عبد الصمد الطبري المصري، نزيل مكة، وصاحب كتاب التلخيص. وفيها توفي شيخ المعتزلة محمد بن أحمد الكرخي، وقاضي القضاة أبو عبد الله الدامغاني محمد بن علي الحنفي. تفقه بخراسان ثم ببغداد على القدوري، وسمع من الصوري وجماعة، وكان نظير القاضي أبي يوسف في الجاه والحشمة والسؤدد، بقي في القضاء دهراً دفن في القبة إلى جنب الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه. وفيها توفي الإمام الحفيل السيد الجليل، المجمع على إمامته، المتفق على غزارة مادته وتفننه في العلوم من الأصول والفروع والأدب وغير ذلك، الإمام الناقد المحقق البارع النجيب المدقق، أستاذ الفقهاء المتكلمين، وفحل النجباء والمناظرين، المقر له بالنجابة والبراعة، وتحقيق التصانيف وملاحتها، وحسن العبارة وفصاحتها، والتقدم في الفقه، ذو الأصلين: النجيب ابن النجيب، إمام الحرمين، حامل راية المفاخر وعلم العلماء الأكابر: أبو المعالي عبد الملك ابن ركن الإسلام أبي محمد، فخر الإسلام والأئمة، ومفتي الإمام المجمع على إمامته شرقاً وغرباً، المقر بفضله السراة والحراة، عجماً وعرباً، رباه حجر الإمامة، وحرك ساعد السعادة مهده، وأرضعه ثدي العلم والورع، إلى أن ترعرع فيه ونفع، أخذ العربية وما يتعلق بها أوفر حظ ونصيب، وزاد فيها على كل أدب، ورزق من التوسع في العبارة بعلوها ما لم يعهد من غيره، حتى أنسى ذكر سبحان، وفاق فيها الأقران، وحمل القرآن، وأعجز الفصحاء اللد، وجاوز الوصف والحد، وكان يذكر دروساً، يقع كل واحد منها في أطباق وأوراق، يتلعثم في كلمة، ولا يحتاج فيها إلى استدراك غيره، يمر فيها كالبرق الخاطف بصوت مطابق كالرعد القاصف، لا يلحقه المبرزون، ولا يدرك شأوه المتشدقون المتفيهقون،(3/94)
وما يوجد في كثير من العبارات البالغة كنه الفصاحة، غيض من فيض ما كان على لسانه، وغرفه من أمواج ما كان يعهد من بيانه. تففه في صباه على والده ركن الاسلام، وكان يزهى بطبعه وتحصيله، وجودة قريحته، وكياسة غريزته، لما يرى فيه من المخائل، ثم خلفه من بعد وفاته، وأتى على جميع مصنفاته، فقلبها ظهر البطن، وتصرف فيها، وخرج المسائل بعضها على بعض، ودرس سنين، ولم يرض في شبابه وتقليد والده وأصحابه، حتى أخذ في التحقيق، وجد، واجتهد في المذهب والخلاف ومجالس النظر، حتى ظهرت نجابته، ولاح على أيامه همه أبيه وفراسته، وسلك طريق المباحثة، وجمع الطرف بالمطالعة والمناظرة، حتى أربى على المتقدمين، وأنسى مصنفات الأولين، وسعى في دين الله سعياً يبقى أثره إلى يوم الدين. ومن ابتداء أمره أنه لما توفي أبوه، كان سنه دون العشرين أو قريباً منها، فأقعد مكانه للتدريس، وكان يقيم الرسم في درسه، ويقوم منه، ويخرج إلى مدرسة الإمام البيهقي، حتى حصل الأصول
وأصول الفقه على الأستاذ الإمام أبي القاسم الإسكاف، وكان يواظب على مجلسه. قال الراوي: وسمعته يقول في أثناء كلامه: كتبت عليه في الأصول أجزاء معدودة، وطالعت في نفسي مائة مجلدة، وكان يصل الليل بالنهار في التحصيل، حتى فرغ منه، وكان يبكر قبل الاشتغال بالتدريس إلى مسجد الأستاذ أبي عبد الله الخبازي، يقرأ عليه القرآن، ويقتبس من كل نوع من العلوم ما يمكن، مع مواظبته على التدريس، ويجتهد في ذلك، ويواظب على المناظرة، إلى أن ظهر التعضب بين الفريقين: الأشعرية والمبتدعة، واضطربت الأحوال والأمور، واضطر إلى السفر والخروج عن البلاد والوطن، فخرج مع المشايخ إلى العسكر، ثم خرج إلى بغداد، يطوف ويلتقي الأكابر من العلماء ويدارسهم، ويناظرهم، حتى تهذب في النظر، وشاع ذكره، واشتهر. ثم خرج إلى الحجاز وجاور بمكة أربع سنين، يدرس ويفتي، ويجمع طرق المذهب، صول الفقه على الأستاذ الإمام أبي القاسم الإسكاف، وكان يواظب على مجلسه. قال الراوي: وسمعته يقول في أثناء كلامه: كتبت عليه في الأصول أجزاء معدودة، وطالعت في نفسي مائة مجلدة، وكان يصل الليل بالنهار في التحصيل، حتى فرغ منه، وكان يبكر قبل الاشتغال بالتدريس إلى مسجد الأستاذ أبي عبد الله الخبازي، يقرأ عليه القرآن، ويقتبس من كل نوع من العلوم ما يمكن، مع مواظبته على التدريس، ويجتهد في ذلك، ويواظب على المناظرة، إلى أن ظهر التعضب بين الفريقين: الأشعرية والمبتدعة، واضطربت الأحوال والأمور، واضطر إلى السفر والخروج عن البلاد والوطن، فخرج مع المشايخ إلى العسكر، ثم خرج إلى بغداد، يطوف ويلتقي الأكابر من العلماء ويدارسهم، ويناظرهم، حتى تهذب في النظر، وشاع ذكره، واشتهر. ثم خرج إلى الحجاز وجاور بمكة أربع سنين، يدرس ويفتي، ويجمع طرق المذهب
ويقلل على تحصيل، وبهذا قيل له إمام الحرمين، قلت: هكذا قيل إنه لقب بهذا اللقب بهذا السبب، وكأنه صار متعيناً في الحرمين، متقدماً على علمائهما، مفتياً فيهما، ويحتمل أنه على وجه التفخيم له كما هو العادة في أقوالهم ملك البحرين وقاضي الخافقين. ونسبة إمامته في الحرمين لشرفهما، توصلا إلى الإشارة إلى شرفه وفضله، وبراعته ونبله، وتحقيقه وفهمه وعند الله في ذلك حقيقة علمه. ثم رجع بعد مضي نوبة التعصب، فعاد إلى نيسابور، وقد ظهرت نوبة السلطان ألب أرسلان، وتزين وجه الملك بإشارة نظام الملك، واستقرت أمور الفريقين، وانقطع(3/95)
التعصب، فعاد إلى التدريس، وكان بالغاً في العلم نهاية، مستجمعاً أسبابه، فبنيت المدرسة الميمون النظامية، وأقعد للتدريس فيها، واستقامت أمور الطلبة، وبقي ذلك قريباً من ثلاثين سنة من غير مزاحم ولا مدافع، فسلم له المحراب والمنبر، والخطابة والتدريس، ومجلس التذكير يوم الجمعة والمناظرة، وهجرت له المجالس، فانغمز غيره من الفقهاء بعلمه وتسلطه. قلت: يعني اقتداره على العلوم والتصرف فيها وكسدت الأسواق في جنبه، ونفق سوق المحققين من خواصه وتلامذته، وظهرت تصانيفه، وحضر درسه الأكابر والجمع العظيم من الطلبة، وكان يقعد بين يديه كل يوم نحو ثلاثمائة رجل من الأئمة والطلبة، وتخرج به جماعة من الأئمة الفحول وأولاد الصدور، حتى بلغوا محل التدريس في زمانه، وانتظم بإقباله على العلم، ومواظبته على التدريس والمناظرة، والمباحثة أسباب ومحافل، ومجامع وإمعان في طلب العلم، وسوق نافقة لأهله، لم تعهد قبله. واتصل به ما يليق بنصبه من القبول عند السلطان والوزير والأركان، ووفور الحشمة عندهم، بحيث لا يذكر من غيره، وكان المخاطب والمشار إليه، والمقبول من قبله، والمهجور من هجره، المصدر في المجالس، من ينتهي إلى خدمته، والمنظور إليه، من يعترف في الأصول والفروع من طريقته، واتفق منه تصانيف، مثل النظامي والغياتي حصل بسببها موقع القبول، بما يليق بها من الشكر والرضاء، والخلع الفائقة والمراكب الثمينه، والهدايا والموسومات، كذلك إلى أن قلد زعامة الأصحاب، ورئاسة الطائفة، وفوض اليه أمور الأوقاف، وصارت حشمة وزراء العلماء والأئمة والقضاة، وقوله في الفتوى مرجع العظماء والأكابر والولاة، واتققت له نهضة في أول ما كان من أيامه إلى اصبهان، بسبب مخالفة بعض الأصحاب، فلقي بها من المجلس النظامي ما كان اللائق بمنصبه من الاستيشار والإعزاز والإكرام بأنواع المبار، وأجيب بما كان فوق مطلوبه، وعاد مكرماً إلى نيسابور، وصار أكثر عنايته مصروفاً إلى تصنيف الكتاب الكبير في المذاهب، المسمى بنهاية المطلب في دراية المذهب، حتى حرره، وأملاه، وأتى فيه من البحث والتقرير، والسبك والتنقير، والتدقيق والتحقيق، بما شفى العليل، وأوضح السبيل، ونبه على قدره ومحله في علم الشريعة، ودرس ذلك للخواص والتلامذة، وفرغ منه ومن إتمامه، فعقد مجلساً لتتمة الكتاب، حضره الأئمة والكبار، وختم الكتاب على رسم الإملاء والاستملاء، وتبجح الجماعة بذلك، ودعوا له، وأثنوا عليه، وكانوا من المعتدين بإتمام ذلك، شاكرين عليه، فما صنف في الإسلام قبله مثله، ولا اتفق لأحد ما اتفق له، ومن قاس طريقته وطريقة المتقدمين في الأصول والفروع، وأنصف، أقر بعلو منصبه ووفور تعبه ونصبه في الدين، وكثرة شهرته في استنباط الغوامض، وتحقيق المسائل، وترتيب الدلائل.(3/96)
ومن تصانيفه المشهورة المفيدة النافعة الحميدة الشامل في أصول الدين، والإرشاد والعقيدة النظامية وغياث الأمم في الإمانة ومغيث الخلق في اختيار الحق والبرهان في أصول الفقه وتلخيص التقريب وكتاب تلخيص نهاية المطلب، ولم يتمه وغنية المسترشدين في الخلاف، وغير ذلك من الكتب. وقال الراوي: ولقد قرأت فصلاً ذكر علي بن حسن بن أبي الطيب في كتاب دمية
القصر مشتملاً على حاله. قلت: وقد وقفت على ما ذكره فيه، وبالغ في مدحه، وشكره بمحاسن يطول ذكرها، ويعظم شكرها، منها قوله: فالفقه فقه الشافعي، والأدب أدب الأصمعي، وحسن بصيرة بالمواعظ الحسن البصري، وكيفما كان فهو إمام كل إمام، المستعلي بهمته على كل همام، والفائز بالظفر على إرغام كل ضرغام. وقال الشيخ أبو الحسن بن أبي عبد الله الأديب في كتابه: كم له من فضل مشتمل على العبارة الفصيحة العالية، والنكت البديعة والنادرة، في المحافل منه سمعناه، وكم من مسائل في النظر شهدناه، ورأينا منه في إقحام الخصوم وعهدناه، وكم من مجلس في التذكير للعوام مسلسل المسائل، مشحون بالنكت المستنبطة من مسائل الفقه، مشتملة على حقائق الأصول، مبكية في التحذير، مفرحة في التبشير، مختومة بالدعوات وفنون المناجاة، حضرناه وكم من مجمع للتدريس جاء، وللكبار من الأئمة وإلقاء المسائل عليهم والمباحث في غورها رأيناه، وحصلنا بعض ما أمكننا منه وعقلناه، ولم نقدر ما كنا فيه من نصرة أيامه وزهرة شهوره وأعوامه حق قدره، ولم نشكر الله عليه حق شكره حتى فقدناه وسلبناه. قال: وسمعته يقول في أثناء كلامه: أنا لا أنام، ولا آكل عادة، وإنما أنام إذ غلبني النوم ليلاً كان أو نهاراً، آكل إذا اشتهيت أي وقت كان. وكانت لذته ولهوه ونزهته في مذاكرة العلم وطلب الفائدة من أي نوع كان. وقال: لقد سمعت الشيخ أبا الحسن المجاشعي النحوي القادم علينا سنة تسع وستين وأربع مائة يقول: وقد قبله الإمام فخر الإسلام وقابله بالإكرام، وأخذ قي قراءة النحو عليه وتلمذ له بعد أن كان إمام الأئمة في وقته، وكان يحمله كل يوم إلى داره، ويقرأ عليه كتاب أكسير الذهب في صنعة الأدب من تصنيفه. وكان يحكي ويقول: ما رأيت عاشقاً للعلم أي نوع كان كمثل هذا الإمام، فإنه يطلب العلم للعلم، هذا بعض كلامه. قال بعض الأئمة: وكان كذلك.(3/97)
ومما له من الجلالة والمفاخر ما أتى عليه الجلة الأكابر المشهورون بجلالة القدر والتقدم من علماء العصر، كجمال العلماء المجمع على فضله وجلالته، وعلو منزلته وإمامته، الشيخ أبي إسحاق الشيرازي. قال الإمام أبو سعد السمعاني: قرأت بخط أبي جعفر محمد بن علي الهمداني: سمعت الشيخ أبا إسحاق الفيروزأبادي يقول: تمتعوا بهذا لإمام، فإنه نزهة هذا الزمان، يعني أبا المعالي الجويني. وقال ابن خلكان في تاريخه: قاد أبو حامد: سمعت الشيخ أبا إسحاق الشيرازي يقول لإمام الحرمين: يا مفيد أهل المشرق والمغرب؛ نلت اليوم إمام الأئمة. قلت: وكذلك الإمام أبو المعالي المذكور، عظم الإمام أبا إسحاق المذكور، كما تقدم من حمله الغاشية بين يديه. ومن حميد سيرة أبي المعالي أنه كان ما يستصغر أحداً حتى يسمع كلامه مبتدئاً كان، أو منتهياً صغيراً كان، أو كبيراً ولا يستنكف من أن يعزي الفائدة المستفادة إلى قائلها، ويقول: إن هذه الفائدة مما استفدته من فلان، ولا يحتال أحداً أيضاً في التزييف إذا لم يرض كلامه ولو كان أباه أو احداً من الأئمة المشهورين.
قلت: ومن ذلك قوله في بعض المسائل بعد ذكره مقال والده فيها: وهذه زلة من الشيخ يعني والده. وكان من التواضع لكل أحد بمحل، ويتحمل منه الاستهزاء لمبالغة فيه، ومن رقة القلب بحيث يبكي إن سمع بيتاً، أو تفكر في نفسه ساعة، وإذا شرع في حكاية لأحوال، وخاض في علوم الصوفية في فصول مجالسه للغدوات، حتى أبكى الحاضرين ببكائه، وتقطر الدماء من الجفون لزعقاته وإشاراته واحتراقه في نفسه، وتحققه بما يجري من دقائق الأسرار. هذه الجملة نبذ مما عهدناه منه إلى انتهاء أجله. ولما توفي رحمه الله صاح الصائح من كل جانب، وجزع الخلق عليه جزعاً لم يعهد مثله، ولم تفتح الأبواب في البلد، ووضعت المناديل عن الرؤوس عاماً، بحيث ما اجترأ احد على ستر رأسه من الرؤوس والأكابر، وصلي عليه بعد جهد وشدة زحمة، ودفن في داره، ثم نقل بعد سنين إلى مقبرة الحسين، وكسر منبره في الجامع، وقعد الناس للعزاء أياماً. وكان طلبته قريباً من أربعمائة، يتفزقون في البلد نائحين عليه، وكان عمره تسعاً وخمسين سنة. وسمع الحديث من جماعة كثيرة، وله إجازة من الحافظ أبي نعيم الأصبهاني، صاحب حلية الأولياء، وقد سمع سنن الدارقطني من أبي سعيد بن عليك، وكان يعتمد تلك الأحاديث في مسائل الخلاف، ويذكر الجرح والتعديل منها في الرواية، وظني أن آثار جده واجتهاده في دين الله تعالى يدوم إلى قيام الساعة وإن انقطع نسله من جهة الذكور ظاهراً(3/98)
فنشر علمه يقوم مقام كل نسب، ويغني عن كل سبب مكتسب. قلت: ومن المشهور المذكور في بعض التواريخ وغيرها أن والده الشيخ أبا محمد كان في أول أمره ينسخ بالأجرة، فاجتمع له من كسب يده شيء اشترى به جارية موصوفة بالخير والصلاح، ولم يزل يطعمها من كسب يده أيضاً إلى أن حبلت بإمام الحرمين وهو مستمر على تربيتها بمكتسب الحلال فلما وضعته، أوصاها أن لا تمكن أحداً من إرضاعه، فاتفق أنه دخل عليها يوماً وهي متألمة، والصغير يبكي، وقد أخذته امرأة من جيرانهم، وشاغلته بثديها فرضع منها قليلاً فلما رآه شق عليه، وأخذه إليه، ونكس رأسه، ومسح على بطنه، وأدخل إصبعه في فيه، ولم يزل يفعل ذلك حتى قاء جميع ما شربه، وهو يقول: يسهل علي أن يموت، ولا يفسد طبعه بشرب لبن غير أمه. ويحكى عن إمام الحرمين أنه كان يلحقه في بعض الأحيان فترة في مجلس المناظرة، فيقول: هذا من بقايا تلك الرضاعة، ومولده في ثاني عشر المحرم، سنة تسع عشرة وأربع مائة، ولما مرض حمل إلى قرية من أعمال نيسابور، موصوفة باعتدال الهواء وخفة الماء، فمات بها، ونقل إلى نيسابور، ودفن في داره، ثم نقل بعد سنين إلى مقبرة الحسين كما تقدم ودفن بجنب أبيه، وصلي عليه ولده أبو القاسم، وأكثر الشعراء المراثي، ومما رثي به:
قلوب العالمين على المعالي ... وأيام الورى شبه الليالي
أيثمر غصن أهل الفضل يوماً ... وقد مات الإمام أبو المعالي؟
سنة تسع وسبعين واربع مائة
فيها نزل تتش حلب، ثم أخذها. وساق السلطان ملك شاه من أصبهان فقدم حلب، وخافه أخوه تتش، فهرب. وفيها وقعة الزلاقة، وذلك أن ملك الإفرنج جمع الجيوش، فاجتمع المعتمد يوسف بن تاشقين أمير المسلمين والمطوعة، فأتوا الزلاقة من عمل بطليو، فالتقى الجمعان، فوقعت الهزيمة على أعداء الله تعالى، وكانت ملحمة عظيمة في أول جمعة من رمضان، وجرح المعتمد عدة جراحات شديدة، وطابت الأندلس، فعمل الأمير ابن تاشقين(3/99)
على تملكها.
ولما افتتح ملك شاه حلب والجزيرة، قدم بغداد وهو أول قدومه إليها ثم خرج يصيد، وعمل منارة القرون من كثرة وحش صاده، ثم رد إلى أصبهان. وفيها أعيدت الخطبة العباسية بالحرمين، وقطعت خطبة العبيديين. وفيها توفي شيخ الشيوخ ببغداد: أبو سعد أحمد بن محمد النيسابوري، وكان منظما عند نظام الملث وأهل الدولة، وله رباط مشهور ومريدون. وفيها توفي طاهر بن محمد بن محمد أبو عبد الرحمن المستملي، والد زاهر. روى عن أبي بكر الحيري وطائفة. وكان فقيهاً صالحاً ومحدثاً عارفاً، له بصر تام بالشروط. وفيها توفي أبو الحسن علي بن فضال المجاشعي القيرواني، صاحب المصنفات في العربية والتفسير، وكان من أوعيه العلم. وفيها توفي أبو الفضل محمد بن عبد الله النيسابوري الرجل الصالح. روى عن أبي نعيم الاسفرائيني، وأبي الحسن العلوي، وطبقتهما. وفيها توفي مسند العراق أبو نصر محمد بن علي الهاشمي العباسي رحمه الله.
سنة ثمانين واربع مائة
فيها عرس المقتدي بالله على ابنة السلطان، وكان وقتاً مشهوداً، أنفق فيه الخليفة أموالاً كثيرة، وخلع على سائر الأمراء، ومد سماطاً هائلاً. وفيها توفي مقرىء الأندلس عبد الله بن شميل الأنصاري المرسي رحمه الله. وفيها توفيت فاطمة بنت الشيخ أبي علي الدقاق، الزاهدة العابدة، زوجة الأستاذ أبي القاسم القشيري. كانت كبيرة القدر عالية الاسناد. روت عن أبي نعيم الاسفرائيني والحاكم والعلوي وطائفة. وفيها توفيت فاطمة بنت الحسن بن علي الأقرع، أم الفضل البغدادية، الكاتبة التي جودوا على خطها، وكانت تنقل طريقة ابن البواب. حكت أنها كتبت ورقة للوزير الكندي فأعطاها ألف دينار. روت عن أبي عمر الفارسي.(3/100)
وفيها توفي السيد المرتضى ذو الشرفين: أبو المعالي محمد بن محمد بن زيد العلوي الحسيني الحافظ، قتله الخاقان بما وراء النهر مظلوماً. روى عن أبي علي بن شاذان وخلق، وتخرج بالخطيب، ولازمه، وصنف التصانيف، وحدث بسمرقند وأصبهان وبغداد وكان مقبولاً معظماً وافر الحشمة، يفرق في العام نحو عشرة آلاف درهم زكاة ماله.
سنة احدى وثمانين واربع مائة
فيها توفي أبو بكر الغورجي أحمد بن عبد الصمد الهروي، راوي جامع الترمذي عن الجرجاني. وفيها توفي شيخ الإسلام، أحد الأعلام، القدوة الحافظ: عبد الله بن محمد الهروي الصوفي شيخ: خراسان في زمانه غير منازع، له عدة تصانيف. وفيها توفي ابن ماجة الأبهري - محمد بن أحمد الأصبهاني، عاش خمساً وتسعين سنة.
سنة اثنتين وثمانين وأربع مائة
فيها سار السلطان ملك شاه بجيوشه من أصبهان، وعبر النهر، وملك بخارى وسمرقند مع قتال وحصار، وسار نحو كاشغر، فدخل ملكها في الطاعة، فرجع الى خراسان، ونكث أهل سمرقند، فكر راجعاً إلى سمرقند، وجرت أمور طويلة. وفيها توفي أحمد بن محمد بن صاعد، أبو نضر الحنفي، رئيس نيسابور وقاضيها، وكان يقال له شيخ الاسلام، وقيل: كان مبالغاً في التعصب في المذهب، فأغرى بعضاً ببعض، حتى لعنت الخطباء اكثر الطوائف. وفيها توفي الحافظ أبو اسحاق ابراهيم بن سعيد النعماني مولاهم المصري، عن تسعين سنة، وكان ثقة حجة، صالحاً ورعاً، كبير القدر. وفيها توفي القاضي أبو منصور بن شكرويه محمد بن أحمد الأصبهاني. وفيها توفي مؤلف بستان العارفين محمد بن أبي جعفر المحدث. كان صوفياً عابداً صاحب حديث. روى عن الحاكم وطائفة.(3/101)
سنة ثلاث وثمانين وأربع مائة
فيها كانت فتنة هائلة لم يسمع بمثلها بين السنية والرافضة، قتل فيها عدد كثير، وعجز والي البلد، واستظهر أهل السنة بكثرة من معهم من أعوان الخليفة، واستكانت الشيعة، وذلوا، ولزموا التقية، وأجابوا إلى أن كتبوا على مساجد الكرخ: خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه - فاشتد الناس على غوغائهم، وخرجوا عن عقولهم، واشتدوا، فنهبوا شارع ابن أبي عون، ثم جرت أمور مزعجة، وعاد القتال حتى بعث صدقة بن مزبل عسكراً، يتتبع المفسدين إلى أن فتر الشر قليلاً. وفيها توفي أبو الحسين عاصم بن الحسن العاصمي الكرخي، الشاعر المشهور. كان ظريفاً، صاحب ملح ونوادر، مع الصلاح والعفة والصدق. مرض في أواخر عمره، فغسل ديوان شعره. وفيها توفي العلامة الواعظ نزيل أصفهان، ومدرس نظاميتها، وشيخ الشافعية بها، ورئيسها: محمد بن ثابت الشافعي الواعظ. وفيها توفي أبو نصر محمد بن سهل السراج، آخر أصحاب أبي نعيم الاسفرائيني. كان ظريفاً نظيفاً لطيفاً.
سنة اربع وثمانين واربع مائة
فيها استولى يوسف بن تاشفين أمير المسلمين على الأندلس، وقبض على المعتمد بن عباد، وأخذ كل شيء يملكه، وترك أولاده فقراء. وفيها استولت الفرنج على جزر صقلية. وفيها توفي الحافظ المعافري الشاطبي، تلميذ ابن عبد البر ظاهر، وكان من أئمة هذا الشأن، مع الورع والتقوى. وفيها توفي الحافظ الزاهد أبو القاسم عبد الله بن علي الانصاري البصري، استشهد بالبصرة، وكان من العبادة والخشوع بمحل، وفيها توفي أبو نصر محمد بن أحمد شيخ المقرئين بمرو.(3/102)
وفيها توفي مسند الآفاق، كان إماماً في علوم القرآن، كثير التصانيف، - مبين الديانة. عالي الإسناد، وقاضي القضاة أبو بكر الناصحي محمد بن عبد الله بن الحسين النيسابوري. قال الشيخ عبد الغافر: هو في عصره أفضل أصحاب أبي حنيفة، وأعرفهم بالمذهب، وأوجههم في المناظرة، مع حظ وافر من الأدب والطب، ولم تحمد سيرته في القضاء. وفيها توفي المعتصم محمد بن معن الأندلسي التجيبي صاحب المرية ومحاوية والصمارحية من بلاد الأندلس، وتوفي وجيش ابن تاشفين محاصرون.
سنة خمس وثمانين واربع مائة
فيها أخذت ركب العراق خفاجة بالخاء المعجمة والفاء والجيم بين الالف والهاء، وكان الحريق ببغداد، احترق فيه من الناس عدد كثير وأسواق كبار من الظهر إلى العص. وفي عاشر رمضان فيها، قتل الوزير الكبير الحميد الشهير، نظام الملك، قوام الدين: أبو علي الحسين بن علي بن إسحاق الطوسي، كان من جلة الوزراء. قلت: وهذا أول ما بلغناه من التلقيب بفلان الدين، ثم استمر ذلك إلى يومنا، وإنما كانوا يلقبون بفلان الدولة والملك من يعظم شأنه عندهم، ثم عموا التلقيب بالدين فيما بعد، حتى في السوقية والفجرة، لقبوهم بنور الدين وشمس الدين وزين الدين وكمال الدين وأشباه ذلك - ممن هم ظلام الدين وشين الدين ونقص الدين وأشباه ذلك من أضداد الدين، وإلى ذلك أشرت بقولي في بعض القصائد: يسمى فلان الدين من هو عكس ما يسمى به حاوي الصفات الدنيه، فالنور ظلامة، والكمال نقيصة، ومحيي مميت، ثم عكس التقية سوى السيد الحبر النواوي، وشبهه إمام الهدى محيي الدين. وما أحسن ما قال الشيخ بركة الزمن وزين اليمن ذو المجد الأثيل: أحمد بن موسى بن عجيل، قال رضي الله عنه: تتبعت هذه الألقاب فلم أجد منها صادقاً إلا صارم الدين، يعني: قاطع الدين. رجعنا إلى ذكر الوزير نظام الملك، ذكره أبو سعد السمعاني فقال: كعبة المجد ومنبع الجود، كان مجلسه عامراً بالقراء والفقهاء، أنشأ المدارس بالأمصار، ورغب في العلم،(3/103)
وأملى، وحدث، وعاش ثمانياً وسبعين سنة، اشتغل في ابتداء أمره بالحديث والفقه، ثم اتصل بخدمة علي بن شاذان المعتمد عليه بمدينة بلخ، وكان يكتب له، ثم خلاه وقصد داود بن مكائيل السلجوقي بالسين المهملة والجيم والقاف والد السلطان ألب أرسلان - فطهر له منه النصح والمحبة، فسلمه إلى ولده المذكور، وقال له: أتخذه والداً، ولا تخالفه فيما يشير به.
ثم لما توفي داود، وملك ولده المذكور، دبر نظام الملك أمره، فأحسن التدبير، وبقي في خدمته عشرين سنة، ثم توفي السلطان المذكور، فازدحم أولاده على الملك، ثم آل أمر المملكة لولده ملك شاه، فصار الأمر كله للنظام، وليس للسلطان إلا التخت والصيد، وأقام على هذا عشرين سنة، ودخل على الإمام المقتدي بالله، فأذن له بالجلوس بين يديه، وقال له: يا حسن، رضي الله عنك برضى المؤمنين عنك. وكان مجلسه عامراً بالفقهاء والصوفية، وكان كثير الإنعام على الصوفية، فسئل عن سبب ذلك فقال: أتاني صوفي وأنا في خدمة بعض الأمراء، فوعظني، وقال: اخدم من تنفعك خدمته، ولا تشتغل بما يأكله الكلاب غداً. فلم أعلم معنى قوله، فشرب ذلك الأمير من الغد - وكانت له كلاب كالسباع، تفترس الغرباء - فغلبه السكر، فخرج وحده، فلم تعرفه الكلاب، فمزقته، فعلمت أن الرجل كوشف بذلك. فأنا أخدم الصوفية لعلي أظفر بمثل ذلك، وكان إذا سمع الأذان أمسك عن جميع ما هو فيه، وكان إذا قدم عليه أبو المعالي إمام الحرمين، وأبو القاسم القشيري صاحب الرسالة بالغ في إكرامهما، وأجلسهما في مسند. وبنى المدارس والربط والمساجد في البلاد، فاقتدى به الناس، وشرع في عمارة مدرسته ببغداد سنة سبع وخمسين وأربع مائة. وفي سنة تسع وخمسين جمع الناس على طبقاتهم ليدرس بها الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، فلم يحضر، ودرس أبو نصر بن الصباغ بها عشرين يوماً، ثم درس بها الشيخ أبو إسحاق قلت: وقد تقدم إيضاح ذلك، وبيان سبب تغيب الشيخ أبي إسحاق عن التدريس في أول الأمر، وتدريسه بها فيما بعد، في ترجمته في سنة ست وسبعين وأربع مائة، واسمع نظام الملك الحديث بعدما سمعه، وكان يقول: إني لأعلم أني لست أهلاً لذلك، ولكني أريد أن أربط نفسي في قطار النقلة لحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ويروى له من الشعر قوله:
بعد ثمانين ليس قوه ... ذهبت نشوة الصبوه
كأنني والعصا بكفي ... موسى، ولكن بلا نبوه(3/104)
وقيل إن هذين البيتين لأبي الحسن محمد بن أبي الصقر الواسطي. كانت ولادة نظام الملك يوم الجمعة الحادي والعشرين من ذي القعدة سنة ثمان وأربع مائة في طوس، وتوجه في صحبة ملك شاه إلى أصبهان، فلما كانت ليلة عاشر رمضان من السنة المذكورة أفطر، وركب في محفته، فلما بلغ إلى قرية قريبة من نهاوند قال: هذا الموضع قتل فيه خلق كثير من الصحابة في زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وطوبى لمن كان منهم فاعترضه صبي ديلمي على هيئة الصوفية معه قصعة، فدعا له، وسأل بتناولها، فمد يده ليأخذها، فضربه بسكين في فؤاده، فحمل إلى مضربه، فمات، وقتل القاتل في الحال، وركب السلطان إلى معسكره، فسكنهم، وحمل إلى أصبهان، ودفن بها. وقيل إن السلطان دس عليه من قتله، فإنه سئم من طول حياته، واستكثر ما بيده من الاقطاعات، ولم يعش السلطان بعده إلا خمسة وثلاثين يوماً.
وقيل إنه قتل بسبب تاج الملك أبي الغنائم المرزباني، فإنه كان عدو نظام الملك، وكان كثير المنزلة عند مخدومه ملك شاه، فلما قتل رتبه موضعه في الوزارة، ثم إن غلمان نظام الملك وثبو عليه، فقتلوه، وقطعوه إرباً إرباً بعد قتل نظام الملك بدون أربعة اشهر. وقد كان نظام الملك من حسنات الدهر. ورثاه شبل الدولة أبو الهيجاء: مقاتل بن عطية البكري، فقال:
كان الوزير نظام الملك لؤلؤة ... نفيسة صاغها الرحمن من شرف
عزت فلم تعرف الأيام قيمتها ... فردها غيرة منه إلى الصدف
وفي السنة المذكورة توفي محدث مكة أبو الفضل جعفر بن يحيى الحكاك، كان متقياً حجة صالحاً. روى عن أبي ذر الهروي وطائفة، وعاش سبعين سنة. وفيها توفي الإمام الكبير العالم الشهير أبو بكر الشاشي محمد بن علي بن حامد الفقيه شيخ الشافعية، صاحب الطريقة المشهورة والمصنفات المشكورة، درس مدة بغزنة ثم بهراة ونيسابور، وحدث عن منصور الكاغذي، وتفقه في بلاده على أبي بكر السبخي، وعاش نيفاً وتسعين سنة. وفيها توفي أبو عبد الله محمد بن عيسى التجيبي مقرىء الأندلس، أخذ عن أبي عمر والداني ومكي بن أبي طالب وجماعة. وفيها توفي السلطان ملك شا، أبو الفتح جلال الدولة، ابن السلطان ألب أرسلان(3/105)
محمد بن داود السلجوقي التركي. تملك ما وراء النهر وبلاد الهياطلة، وبلاد الروم والجزيرة، والشام والعراق، وخراسان وغير ذلك. قال بعض المؤرخين: ملك من مدينة كاشغر الترك إلى بيت المقدس طولاً، ومن قسطنطينية وبلاد الجرت إلى نهر الهند عرضاً، وكان حسن السيرة محسناً إلى الرعية، وكانوا يلقبونه بالملك العادل، وكان ذا عزم بالعمائر وبالصيد، فحفر كثيراً من الأنهار، وصنع بطريق مكة مصانع، وغرم عليها أموالاً كثيرة خارجة عن الحصر، وأبطل المكوس في جميع البلاد، وكان لهجاً بالصيد حتى قيل: إنه ضبط ما اصطاده بيده، فكان عشرة آلاف، فتصذق بعشرة آلاف دينار، وقال: إني خائف من الله - سبحانه - من إزهاق الأرواح من غير مأكلة، وصار بعد ذلك كلما قتل صيداً تصدق بدينار. وخرج من الكوفة لتوديع الحاج، فجاوز العذي، وشيعهم بالقرب من الواقصة، وصاد في طريقه وحشاً كثيراً، فبنى هناك منارة في حوافر الحمر الوحشية وقرون الظباء التي صادها في ذلك الطريق، وذلك في سنة ثمانين وأربع مائة. قالى ابن خلكان: والمنارة باقية إلى الآن، وتعرف بمنارة القرون. انتهى قوله. قلت وكثير من الناس يسمونها أم القرون، وكانت السبل في أيامه ساكنة، والمخاوف آمنة، تسير القوافل من ما وراء النهر إلى الشام، وليس معها خفير، ويسافر الواحد والاثنان من غير خوف. ولما توجه لحرب مر بمشهد علي، فدخل هو ووزيره نظام الملك، ودعوا، ثم سأل نظام الملك: بأي شيء دعوت؟ فقال: بنصرك على أخيك. فقال: أما أنا، فقلت: اللهم انصرنا، وأصلحنا للمسلمين. ودخل عليه واعظ فوعظه، وحكى له أن بعض الأكاسرة اجتاز منفرداً من عسكره على باب بستان، فتقدم إلى الباب، وطلب ما يشربه، فأخرجت له صبية إناء فيه ماء والسكر والثلج، فشربه، واستطابه، فقال: هذا، كيف يعمل؟ فقالت: إن قصب السكر يزكو عندنا حتى نعصره بأيدينا، فيخرج منه هذا الماء، فقال: ارجعي وأحضري شيئاً آخر. وكانت الصبية غير عارفة به، ففعلت، فقال في نفسه: الصواب أن أعوضهم عن هذا المكان، وأصطفيه لنفسي. فما كان بأسرع من خروجها باكية، وقالت: إن نتة سلطاننا قد تغيرت، فقال: ومن أين علمت ذلك؟ قالت: كنت آخذ من هذا ما أريد من غير تعسف، والآن قد اجتهدت من عصر القصب، فلم يسمح ببعض ما كان يأتي. فعلم صدقها، فرجع عن تلك(3/106)
النية، ثم قال: ارجعي الآن، فإتك تبلغين الغرض. وعقد على نفسه أن لا يفعل ما نواه، فخرجت الصبية ومعها ما شاءت من ماء السكر، وهي مستبشرة، فقال السلطان للواعظ: لم لا تذكر للرعية أن كسرى اجتاز على بستان فقال للناطور: ناولني عنقوداً من الحصرم؟ فقال له: ما يمكنني ذلك، فإن السلطان لم يأخذ حقه، ولا يجوز خيانته، فتعجب الحاضرون من مقابلته بمثلها، ومعارضته بما أوجب الحق له ما أوجب الحق عليه. وحكي أن مغنية أحضرت إليه - وهو بالري فأعجب بها، واستطاب غناها، فهم بها، فقالت: يا سلطان، إني أغار على هذا الوجه الجميل أن يعذب بالنار، وإن الحلال أيسر، وبينه وبين الحرام كلمة، فقال: صدقت، واستدعى القاضي، فزوجها منه، وابتنى بها، وتوفي عنها، وعيون محاسنه أكثر من أن تحصى. وحكى الهمداني أن نظام الملك - الوزير - دفع للملاحين الذين عبروا بالسلطان والعسكر نهر جيحون على العامل بأنطاكية، وكان مبلغ أجرة المعابو أحد عشر ألف دينار، وذلك لسعة المملكة. وتزوج الإمام المقتدي بأمر الله - أمير المؤمنين - ابنة السلطان المذكور، وكان السفير في الخطبة الشيخ أبا إسحاق الشيرازي، المهذب والتنبيه - رحمه الله - وأنفذه الخليفة إلى نيسابور لهذا السبب - فإن السلطان كان هناك - فلما وصل إليه أدى الرسالة، ونجز الشغل. قال
الهمداني: وعاد الشيخ أبو إسحاق إلى بغداد في أقل من أربعة أشهر، وناظر إمام الحرمين بنيسابور، فلما أراد الانصراف من نيسابور، خرج إمام الحرمين للوداع، وأخذ بركابه حتى ركب أبو إسحاق. وظهر له في خراسان منزلة عظيمة. وكانوا يأخذون التراب الذي وطأته بغلته، فيتبركون به، كما تقدم. وكان زفاف ابنة السلطان إلى الخليفة في سنة ثمانين وأربع مائة، وفي صبيحة دخولها عليه أحضر الخليفة المقتدي عسكر السلطان على سماط صنعه لهم، كان فيه أربعون ألف من عسكر. وفي بقية هذه السنة رزق الخليفة ولداً من ابنة السلطان، سماه أبا الفضل جعفر، زينت بغداد لأجله، وكان السلطان قد دخل بغداد دفعتين، فهي من جملة بلاده التي تحتوي عليها مملكته، وليس للخليفة فيها سوى الاسم، وخرج منها في الدفعة الثانية على الفور إلى نحو دجيل لأجل الصيد، فاصطاد وحشاً وأكل من لحمه، فابتدأت به العلة، وافتصد، فلم يكثر من إخراج الدم، فعاد إلى بغداد مريضاً، ولم يصل إليه أحد من خاصته، فلما دخلها توفي ثاني يوم دخوله، وحمل في تابوت إلى خراسان، ولم يفعل له كغيره من السلاطين، فلم يشهد له جنازة، ولا صلى عليه أحد ظاهراً، ولا جر ذنب فرس من أجل موته. ني: وعاد الشيخ أبو إسحاق إلى بغداد في أقل من أربعة أشهر، وناظر إمام الحرمين بنيسابور، فلما أراد الانصراف من نيسابور، خرج إمام الحرمين للوداع، وأخذ بركابه حتى ركب أبو إسحاق. وظهر له في خراسان منزلة عظيمة. وكانوا يأخذون التراب الذي وطأته بغلته، فيتبركون به، كما تقدم. وكان زفاف ابنة السلطان إلى الخليفة في سنة ثمانين وأربع مائة، وفي صبيحة دخولها عليه أحضر الخليفة المقتدي عسكر السلطان على سماط صنعه لهم، كان فيه أربعون ألف من عسكر. وفي بقية هذه السنة رزق الخليفة ولداً من ابنة السلطان، سماه أبا الفضل جعفر، زينت بغداد لأجله، وكان السلطان قد دخل بغداد دفعتين، فهي من جملة بلاده التي تحتوي عليها مملكته، وليس للخليفة فيها سوى الاسم، وخرج منها في الدفعة الثانية على الفور إلى نحو دجيل لأجل الصيد، فاصطاد وحشاً وأكل من لحمه، فابتدأت به العلة، وافتصد، فلم يكثر من إخراج الدم، فعاد إلى بغداد مريضاً، ولم يصل إليه أحد من خاصته، فلما دخلها توفي ثاني يوم دخوله، وحمل في تابوت إلى خراسان، ولم يفعل له كغيره من السلاطين،(3/107)
فلم يشهد له جنازة، ولا صلى عليه أحد ظاهراً، ولا جر ذنب فرس من أجل موته.
سنة ست وثمانين واربع مائة
فيها لما علم تتش في دمشق بموت أخيه أنفق الأموال، وتوجه ليأخذ السلطنة، فسار معه من حلب قسيم الدولة مولى السلطان ملك شاه، ودخل في طاعته صاحب أنطاكية وصاحب الرها وحران. ثم سار، وأخذ الرحبة في أول سنة ست، ثم نازل نصيبين، فأخذها عنوة، وقتل بها خلقاً كثيراً، ونهبها، ثم سار إلى الموصل، فالتقاه ابراهيم العقيلي في ثلاثين ألفاً، وتعرف بوقعة المصن، فانهزموا، وأسر ابراهيم، فقتله صبراً، فأقر أخاه علياً على الموصل لأنه ابن عمه. ولم يحج ركب العراق في السنة المذكورة، وحج ركب الشام، فنهبهم صاحب مكة محمد بن أبي هشا، ونهبتهم العربان، توصل من سلم في حالة عجيبة. وفيها توفي أبو الفضل الأصبهاني الحداد. روى ببغداد وأصبهان، وروى الحلية ببغداد. وفيها توفي الحافظ أبو مسعود سليمان بن ابراهيم الأصبهاني. قال السمعاني: جمع وصنف وخرج على الصحيحين. وروى عن محمد بن ابراهيم الجرجاني وأبي بكر بن مردويه وخلق. ولقي ببغداد أبا بكر المتقي وطبقته. وفيها توفي الشيخ أبو الفرج الشيرازي الحنبلي عبد الواحد بن محمد الفقيه القدوة.
وفيها توفي شيخ الإسلام الهكاري أبو الحسن علي بن أحمد الأموي من ذرية عتبة بن أبي سفيان بن حرب. وكان صالحاً زاهداً ربانياً ذا وقار وهيبة وأتباع ومريدين. رحل في الحديث، وسمع من أبي عبد الله الفراء وأبي القاسم بن بشران وطائفة. وفيها توفي مسند خراسان أبو المظفر موسى بن عمران الأنصاري. وفيها توفي أبو الفتح نصر بن الحسين الشاشي نزيل سمرقند. روى صحيح مسلم عن عبد الغافر، وسمع بمصر من جماعة، ودخل الأندلس، فحدث بها. وفيها توفي الحافظ أبو القاسم هبة الله بن عبد الوارث الشيرازي. سمع بخراسان والعراق وفارس واليمن ومصر والشام، ومات كهلاً، وكان صوفياً صالحاً متقشفاً.(3/108)
سنة سبع وثمانين واربع مائة
في أولها عزم المقتدي بأمر الله على تقليد السلطان بركيا روق بالموحدة والمثناة من تحت بين الكاف والألف فالتقاه، وخطب له ببغداد، ولقب ركن الدولة، ومات الخليفة من الغد فجأة، وحاصر تتش حلب، فافتتحها، ثم سار فأخذ الجزيرة وأذربيجان، وكثرت جيوشه، واستفحل شأنه. وفيها توفي مسند نيسابور أبو بكر بن خلف الشيرازي أحمد بن علي. روى عن الحاكم وعبد الله بن يوسف وطائفة. قال الشيخ عبد الغافر: هو شيخنا الأديب المحدث المتقن الصحيح السماع، ما رأينا شيخاً أورع منه ولا أشد إتقاناً. نيف على التسعين. وفيها توفي قسيم الدولة لما افتتح ملك شاه حلب استنابه عليها، فأحسن السياسة، وضبط الأمور، وتتنع المفسدين حتى صار دخله كل يوم من البلد ألفاً وخمسمائة دينار، وكانت وفاته بالقتل بعد أسره في المصاف.
وفيها توفي أبو نصر الحسن بن أسد الفارقي، الأديب صاحب النظم والنثر والكتاب المعروف في الألغاز. وفيها توفي المقتدي بالله أبو القاسم عبد الله ابن الأمير ذخيرة الدين محمد بن القائم بأمر الله العباسي. بويع بالخلافة بعد جده في شعبان سنة سبع وستين وأربع مائة، وعمره تسع عشرة سنة وثلاثة اشهر، ومات فجأة في المحرم عن تسع وثلاثين سنة، وقيل: سمته جارية. وكان ديناً خيراً، أمر بنفي الخواطي والمغنيات من بغداد، وكانت الخلافة في أيامه زاهرة، وحرمتها وافرة. وبويع بعده للمستظهر بالله أحمد. وفي السنة المذكورة توفي الحافظ الكبير الأمير أبو نصر علي بن هبة الله العجلي البغدادي المعروف بابن ماكول، النسابة صاحب التصانيف النافعة، لم يكن ببغداد بعد الخطيب أحفظ منه. قال الحميدي: ما راجعت الخطيب في شيء إلا وأجابني عن الكتاب، وقال حتى اكشفه، وما راجعت ابن ماكولا إلا وأجابني حافظاً كأنه يقرأ من كتاب. وقال أبو سعد السمعاني: وكان لبيباً عارفاً ونحوياً مجوداً وشاعراً مبرزاً. سمع الحديث الكثير، وأخذ(3/109)
عن مشايخ العراق وخراسان والشام وغير ذلك، وكان أحد الفضلاء المشهورين، تتبع الألفاظ المشتبهة في الأسماء الأعلام، وجمع شيئاً كثيراً.
وكان الخطيب البغدادي قد جمع بين كتاب المؤتلف والمختلف الذي للدارقطني، والذي لعبد الغني الموسوم بمشتبه النسبة وزاد عليهما، وجعله كتاباً مستقلاً سماه المؤتلف تكملة المختلف. وجاء ابن ماكولا فزاد على هذا المؤتلف، وضم إليه الأسماء التي وقعت له، وجعله كتابا سماه الإكمال، أجاد فيه وأفاد، حتى صار اعتماد المحدثين عليه، أحسن فيه إحساناً بالغاً، وحلاه حسناً فائقاً، ولم يصنع مثله في بابه، ثم جاء ابن نقطة وذيله، وما أقصر فيه. وفي كتاب الأمير ابن ماكولا دلالة على كثرة اطلاعه وضبطه وإتقانه. ومن الشعر المنسوب إليه قوله:
قرض خيامك عن أرض تهان بها ... وجانب الذل إن الذل يجتنب
وارحل إذا كان في الأوطان منقصة ... فالمندل الرطب في أوطانه الحطب
قال الحميدي خرج إلى خراسان ومعه غلمان له ترك، فقتلوه بجرجان، فأخذوا ماله، وهربوا، وهو من ذرية الأمير أبي دلف العجلي. وفي السنة المذكورة توفي أبو عامر الأزدي القاضي محمود الهروي، الفقيه الشافعي، كان عديم النظير زهداً وصلاحاً وعفة. وفيها توفي المستنصر بالله أبو تميم معد ابن الظاهرعلي بن الحاكم العبيدي صاحب مصر. لما عظم أمره وكبر شأنه خطب له ببغداد أرسلان البساسيري، وقطع خطبة الإمام القائم. وقد جرى في أيامه أشياء لم يجر شيء منها في أيام آبائه، منها قطع الخطبة المذكورة، ومنها ملك ابن الصليحي بلاد اليمن، ودعاؤه له على منابرها، ومنها أن المستنصر المذكور أقام في الأمر ستين سنة، وهذا شيء لم يبلغه أحد من العبيديين، ولا من بني العباس. ومنها أنه ولي وهو ابن سبع سنين، وفي سنة تسع قطع اسمه واسم آبائه من الحرمين. ومنها أنه حدث في أيامه الغلاء العظيم الذي ما عهد مثله منذ زمان يوسف عليه السلام، وأقام سبع سنين، وأكل الناس بعضهم بعضاً، حتى قيل إنه بلغ رغيف واحد بجمسين ديناراً، وكان في هذه المدة يركب وحده، وكل من معه من الخواص مترجلون، ليس لهم دواب يركبونها، وكانوا إذا مشوا تساقطوا في الطرقات من الجوع، وكان المستنصر يركب بغلة عارية، وآخر الأمر توجهت أمه وبناته إلى بغداد من فرط الجوع في سنة اثنتين وستين وأربع مائة.(3/110)
سنة ثمان وثمانين واربع مائة
فيها قامت الدولة على أحمد خان صاحب سمرقند، وأشهدوا عليه بالزندقة والإقلال، فأفتى الأئمة بقتله، فخنقوه، وملكوا ابن عمه. وفيها التقى تتش وابن أخيه بركيا روق بنواحي الري، فانكسر عسكر تتش، وقاتل هو حتى قتل. وكان رضوان بن تتش قد صار إلى بغداد لينزل بها، فلما قارب هيت جاءه نعي أبيه، ودخل حلب، ثم قدم عليه من الوقعة أخوه دقاق، فراسله متولي قلعة دمشق فسار سراً من أخيه، وتملك دمشق. وفيها قدم الإمام أبو حامد الغزالي دمشق زاهداً في الدنيا، وما كان فيه من رئاستها والإقبال والقبول من الخليفة وكبراء الدولة، وصنف الإحياء وأسمعه بدمشق، وأقام بها سنتين، ثم حج ورجع إلى وطنه. قلت: هكذا ذكر بعض المؤرخين أنه قدم في السنة المذكورة إلى دمشق، وذكر بعضهم أن توجهه فيها كان إلى بيت المقدس لابساً الثياب الخشنة، وناب عنه أخوه في التدريس، وذكر أنه بعد ذلك توجه من القدس إلى دمشق، فأقام بها مدة يذكر الدروس في زاوية الجامع في الجانب الغربي منه، ثم ذكر أنه انتقل منها إلى بيت المقدس، واجتهد في العبادة وزيارة المشاهد والمواضع المعظمة وأشياء أخرى سيأتي ذكرها. قلت وأما قول الذهبي أنه صنف الإحياء وأسمعه بدمشق، فمخالف لما ذكر الإمام أبو حامد المذكور في كتابه المنقذ من الضلال أنه أقام في الشام قريباً من سنتين، مختلياً بنفسه، ولم يذكر إسماعه الإحياء ولا تصنيفه إياه، ولو كان لذكره، كما ذكر علوماًُ أخرى صنف فيها قبل السفر أيضاً. فتصنيف الإحياء مع ما اشتمل عليه من العلوم الواسعة المحاكية للبحر الذي أمواجه متدافعة، لا يمكن وضعه في سنتين ولا ثالثة ولا رابعة، وأما ما ذكره ابن كثير وغيرهم من كونه حج قبل سفره إلى الشام، وأنه أقام في الشام عشر سنين وأنه دخل مصر والاسكندرية، ورام الاجتماع بملك المغرب، فكل ذلك مخالف تصريح ما نص عليه أبو حامد في كتابه المذكور، فإنه ذكر أنه توجه إلى الشام قبل توجهه إلى مكة، ثم توجه إلى الحج بعد السنتين المذكورتين، ثم كر راجعاً إلى وطنه وأولاده، وهذا يدل عل بطلان القول المذكور وفساده، والعجب كل العجب من قوله أنه قصد السلطان المغرب بقضاء أرب، وهو من ملاقاة السلاطين قد هرب، وسيأتي ذكر ذلك في ترجمته.(3/111)
وفيها توفي الحافظ أبو الفضل أحمد بن الحسن بن خيرون البغدادي. روى عن علي بن شاذان والبرقاني، وكتب كثيراً. قال بعضهم: كتب عن ابن شاذان ألف جزء. وفيها توفي شيخ المعتزلة أبو يوسف القزويني، صاحب التفسير الكبير، الذي هو أزيد من ثلاثمائة مجلد. درس الكلام على القاضي عبد الجبار بالري، وسمع منه ومن أبي عمرو بن مهدي الفارسي، وتنقل في البلاد، ودخل مصر، وكان صاحب كتب كثيرة وذكاء مفرط، وتبخر في المعارف، وكان داعية إلى الاعتزال، وعاش خمساً وتسعين سنة. وفيها توفي المعتمد على الله أبو القاسم محمد بن المعتضد اللخمي، صاحب الأندلس. كان ملكاً جليلاً، عالماً ذكياً، وشاعراً محسناً، وبطلاً شجاعاً، وجواداً ممدوحاً. كان بابه محط الرحال وكعبة الآمال، وشعره في الذروة العليا، ملك من الأندلس من المدائن والحصون والمعاقل مائة وثلاثين مسوراً، وبقي في المملكة نيفاً وعشرين سنة. وهو من ذرية النعمان بن المنذر آخر ملوك الحيرة وقبض عليه أمير المسلمين ابن تاشفين لما قهره، وغلب على ممالكه، وسجنه بأغمات حتى مات بعد أربع سنين من زوال مملكته. وخلف عن ثمانمائة سرية، ومائة وثلاثة وسبعين ولداً. قلت أما كثرة الأولاد فقد نقل أن غيره كان أكثر منه أولاداً، وأما السراري فما سمعت أن أحداً من الخلفاء بلغ من كثرتهن إلى هذا العدد المذكور. وكان راتبه في اليوم ثمانمائة رطل لحم، ومما قيل فيه لما قص عليه قول الشاعر:
لكل شيء من الأشياء ميقات ... وللمنى من منايا هن غايات
وقال آخر بعد لزومه وقتل ولديه:
تبكي السماء بدمع رائح غاد ... على البهاليل من أبناء عباد
ومما قيل فيه لما حبس:
تنشق رياحين السلام فإنها ... أفض بها مسكاً عليك مختما
أنكر في عصر مضي لك مشرقاً ... فيرجع ضوء الصبح عندي مظلما
وأعجب من أفق المجرة إذ رأى ... كسوفك شمساً، كيف أطلع أنجما
ولما دخلت عليه بناته السجن - وكان يوم عيد، وقد صرن يغزلن للناس بالأجرة،(3/112)
وهن في أطمار - أنشده:
فيما مضى كنت بالأعياد مسروراً ... فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك بالأطمار جائعةيغزلن للناس لا يملكن قطميرا
يطأن في الطين والأقدام حافية ... كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا
قد كان دهرك إن تأمره ممتثلاً ... فردك الدهر منهياً ومأمورا
ومن شعر المعتمد أيضاً:
لولا عيون من الواشين ترمقني ... وما أحاذره من قول حراس
لزرتكم لأكافيكم لجفونكم ... شيئاً على الوجه أو سعياً على الرأس
ومما مدح به قول الشاعر:
بغيتك في محل ينجيك من ردى ... يروعك في ذرع بروقك في برد
جمال واجمال وسبق وصولة ... كشمس الضحى، كالمزن كالبرق والرعد
بمهجته شاد العلى ثم زادها ... بنى مايتا حجاجه أسد
وفيها توفي قاضي القضاة الشامي أبو بكر بن محمد الحموي الشافعي، كان من أزهد القضاة وأروعهم وأتقاهم لله وأعرفهم بالمذهب. سمع ببغداد من طائفة، وولي القضاء بعد أبي عبد الله الدامغاني، وكان من أصحاب القاضي أبي الطيب الطبري، ولم يأخذ على القضاء رزقاً، ولا غير ملبسه. قال أبو علي بن سكرة: كان يقال لو رفع المذهب أمكنه أن يملأه من صدره.
وفيها توفي الإمام الحافظ العلامة أبو عبد الله الحميد: محمد بن أبي نصر الأندلسي، مؤلف الجمع بين الصحيحين. كان أحد أوعية العلم، صحب ابن حزم الظاهري بالأندلس، وابن عبد البر، ورحل، وسمع بالقيروان والحجاز ومصر والشام والعراق، وكتب عن خلق كثير، وكان كثير الاطلاع، ذكياً فطناً، صيتاً ورعاً، أخبارياً متقناً، مغرماً في تحصيل العلم، كثير التصانيف، حجة ثقة، ظاهري المذهب، وله جذوة المقتبس في تاريخ علماء الأندلس(3/113)
وكان يقول: ثلاثة أشياء من علوم الحديث يجب تقديم الاهتمام بها: كتاب العلل: وأحسن كتاب وضع فيه كتاب الدارقطني، وكتاب المؤتلف والمختلف: وأحسن كتاب وضع فيه كتاب الأمير أبي نصر بن ماكول (، وكتاب وفيات الشيوخ: وليس فيه كتاب. قال: وقد كنت أردت أن أجمع فيه كتاباً، فقيل لي: رتبه على حروف المعجم، بعد أن رتبته على السنين، قال أبو بكر بن طرخان: فشغله عنه صحيحان إلى أن مات. وقال ابن طرخان المذكور: أنشدنا أبو عبد الله الحميدي المذكور لنفسه:
لقاء الناس ليس يفيد شيئاً ... سوى الهذيان من قيل وقال
فأقلل من لقاء الناس إلا ... لأخذ العلم أو إصلاح حال
؟؟؟؟؟؟؟؟
سنة تسع وثمانين وأربعمائة؟؟
فيها توفي أبو طاهر أحمد بن الحسن بن أحمد الباقلاني الكرخي ثم البغدادي، وكان صالحاً زاهداً منقبضاً عن الناس، ثقة حسن السيرة. وفيها توفي عبد الملك بن سراج الأموي مولاهم القرطبي، لغوي الأندلس. وفيها توفي أبو أحمد القاسم بن المظفر الهشرزاري، والد قاضي الخافقين، كان حاكماً بمدينة إربل مدة، وبمدينة سنجار أيضاً مدة. وكان من أولاده وحفدته علماء نجباء كرماء، نالوا المراتب العالية، وتقدموا عند الملوك، وتحكموا وقضوا، ونفقت أسواقهم. ومما أنشد:
همتي دونها السها والزبانا ... قد علمت جهدها، فما ابتدانا
ونسب الإمام السمعاني في ذيل تاريخ بغداد هذا القول إلى ولده المعروف بقاضي الخافقين خلاف ما ذكره أبو البركات بن المستوفي في تاريخ إربل من نسبه إلى والده القاسم المذكور.
وذكر السمعاني أن قاضي الخافقين اشتغل بالعلم على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي رحمه الله ولي القضاء بعدة بلاد، ورحل إلى العراق وخراسان والجبال، وسمع الحديث الكثير، وسمع منه السمعاني، وإنما قيل له قاضي الخافقين لكثرة البلاد التي وليها(3/114)
، والشهرزوري نسبة إلى شهرزور: بلدة كبيرة من أعمال إربل، قيل: فيها مات الإسكندر ذو القرنين عند عوده من بلاد المشرق. وحكى الخطيب في تاريخ بغداد أن الإسكندر جعل مدائن كسرى دار إقامته، ولم يزل
بها إلى أن توفي، فحمل تابوته إلى الإسكندرية، لأن أمه كانت مقيمة هناك، فدفن عندها والله أعلم. قلت: يعني أن موضع إقامته كان في الموضع الذي خلقه فيه كسرى. وفي السنة المذكورة توفي الحافظ مفيد بغداد: محمد بن أحمد المعروف بابن الخاضبة. روى عن أبي بكر الخطيب وغيره، ورحل إلى الشام، وسمع من طائفة، وكان محبباً إلى الناس كلهم، لدينه وتواضعه، ومروءته، ومسارعته في قضاء حوائج الناس، مع الصدق والورع، والصيانة التامة وطيب القراءة قال ابن طاهر: ما كان في الدنيا أحد أحسن قراءة منه، وقال غيره: ما رأيت في المحدثين أقوم باللغة من ابن الخاضبة. وفيها توفي الإمام العلامة أبو المظفر السمعاني: منصور بن محمد التميمي المروزي الحنفي ثم الشافعي، شرع على والده منصور في المذهب، وسمع أبا غانم الكراعي وطائفة، وكان إمام عصره بلا مدافعة، أقر له بذلك الموافق والمخالف، وكان حنفي المذهب، متعيناً عند أئمتهم، فلما حج ظهر له بالحجاز ما اقتضى انتقاله إلى مذهب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه فلما عاد إلى مرو، لقي بسبب انتقاله محناً وتعصباً عظيماً، فعبر على ذلك، فصار إماماً للشافعية بعد ذلك، يدرس ويفتي. وصنف في مذهب الشافعي وغيره من العلوم تصانيف كثيرة، منها منهاج أهل السنة والانتصار والرد على القدرية وغيرها، وصنف في الأصول والقواطع. وفي الخلاف والبرهان يشتمل على قريب من ألف مسألة خلافية. والأوسط والاصطلام رد فيه على أبي زيد الدبوسي، وأجابه من الأسرار التي جمعها، وله تفسير القرآن العزيز كتاب نفيس. وجمع في الحديث ألف حديث عن مائة شيخ، وتكلم عليها فأحسن، وله وعظ مشهور بالجودة. والسمعاني نسبة إلى سمعان بفتح السين المهملة وهو بطن من تميم، وقيل: يجوز بكسر السين أيضاً.
سنة تسعين واربع مائة
فيها قتل الأرسلان ابن السلطان وألب أرسلان السلجوقي. وفيها التقى الأخوان(3/115)
دقاق ورضوان ابنا تتش بقنسرين، فانكسر دقاق، ونهب عسكره، ثم تصالحا على أن يقدم أخاه في الخطبة بدمشق. وفيها أقام رضوان بحلب دعوة العبيديين، وخطب للمستعلي الباطني، ثم بعد أشهر
أنكر عليه صاحب أنطاكية وغيره، فأعاد الخطبة العباسية. وفيها توفي أبو يعلى أحمد بن محمد البصري الفقيه المعروف بابن الصواف شيخ مالكية العراق، وله تسعون سنة، وكان علامة زاهداً مجداً في العبادة، عارفاً بالحديث. قال بعضهم: كان إماماً في عشرة أنواع من العلوم. توفي في رمضان. وفيها توفي أبو الفتح عبدوس بن عبد الله بن عبدوس، رئيس همدان ومحدثها. سمع من محمد بن أحمد بن حمدويه الطوسي، وروى عنه الإمام أبو زرعة. وفيها توفي الفقيه الإمام، العالي المقام، الصالح المشهور، مفتي الأنام، الفقيه الزاهد، الورع العابد، ذو المناقب العديدة، والسيرة الحميدة أبو الفتح شيخ الشافعية بالشام نصر بن ابراهيم المقدسي النابلسي، صاحب التصانيف، قال علماء التاريخ: كان إماماً علامة، مفتياً محدثاً، حافظاً زاهداً، متبتلاً ورعاً، كثير القدر عديم النظير. قال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر: درس العلم ببيت المقدس، ثم انتقل إلى صور، فأقام بها عشر سنين ينشر العلم، مع كثرة المخالفين له من الرافضة، ثم انتقل منها إلى دمشق، فأقام بها سبع سنين يحدث، ويدرس، ويفتي على طريقة واحدة من الزهد في الدنيا والتنزه عن الدنايا، والجري على منهاج السلف من التقشف وتجنب السلاطين، ورفض الطمع، والاجتزاء باليسير، مما يصل إليه من غلة أرض كانت له، يأتيه منها ما يقتاته، فيخبز له كل ليلة قرصة بجانب الكانون، ولا يقبل من أحد شيئاً. قال وسمعت من يحكي أن تاج الدولة ابن ألب أرسلان زاره يوماً، فلم يقم له، وسأله عن أجل الأموال التي يتصرف بها السلطان، فقال: أجلها أموال الجزية، وخرج من عنده فأرسل إليه بمبلغ من المال، وقال: هذا من مال الجزية، ففرقه على الأصحاب، فلم يقبله، وقال: لا حاجة بنا إليه. فلما ذهب الرسول لامه بعض الفقهاء، وقال: قد علمت حاجتنا إليه، فلو كنت قبلته، وفرقته فينا، فقال له: لا تجزع من فوته، فسوف يأتيك من الدنيا ما(3/116)
يكفيك. فكان كما تفرس فيه. قال وسمعت بعض من صحبه يقول: لو كان الفقيه أبو الفتح في السلف لم يقصر درجته عن واحد منهم، لكنهم فاقوه بالسبق. وكانت أوقاته كلها مستغرقة في عمل الخير، إما في نشر علم، وإما في إصلاح عمل. قال: وحكى بعض أهل العلم أنه قال: صحبت إمام الحرمين أبا المعالي الجويني بخراسان، ثم قدمت العراق، وصحبت الشيخ أبا إسحاق الشيرازي، فكانت طريقته عندي أفضل من طريقة أبي المعالي، ثم قدمت الشام فرأيت الفقيه أبا الفتح، فكانت طريقته أحسن من طريقيتهما جميعاً. توفي بدمشق في السنة المذكورة يوم عاشوراء، وكان عمره نيف علي ثمانين سنة رحمة الله عليه.
سنة إحدى وتسعين وأربع مائة
في جمادى الأولى: فيها ملكت الفرنج أنطاكية بالسيف، ونجا صاحبها في ثلاثين فارساً، ثم ندم حتى غشي عليه من الغم، فأركبوه، فلم يتماسك، فتركوه وتنحوا فعرفه أرمني حطاب، فقطع رأسه، وحمله إلى ملك الفرنج، وعظم المصاب على المسلمين برواح أنطاكية، وأخذت الفرنج المعرة بالسيف، ثم تجامع عساكر الجزيرة والشام فعملوا مع الفرنج مصافاً، فتجادلوا، وهزمتهم الفرنج. وفيها توفي أبو العباس أحمد بن عبد الغفار الأصبهاني رحمه الله. وفيها توفي أبو الفوارس طراد بن محمد بن علي النقيب الهاشمي العباسي، نقيب النقباء ومسند العراق. روى عن جماعة، وأملى مجالس كثيرة، وازدحموا عليه، ورحلوا إليه. وكان أعلى الناس منزلة عند الخليفة. وفيها توفي أبو الحسن الكرخي مكي بن منصور، الرئيس السلار نائب الكرخ معتمدها، وكان محمود السيرة وافر الحشمة.
سنة اثنتين وتسعين واربع مائة
فيها انتشرت دعوة الباطنية بأصبهان وأعمالها، وقويت شوكتهم، وأخذت الفرنج(3/117)
الملاعين فيها بيت المقدس بكرة الجمعة لسبع بقين من شعبان بعد حصار شهر ونصف. قال ابن الأثير: قتلت الفرنج في المسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفاً. وفيها ابتداء دولة محمد بن السلطان ملك شاه، طلع شهماً شجاعاً مهيباً، فتسارعت إليه العساكر، فسار إلى الري فتملكها. وفيها توفي أبو الحسن أحمد بن عبد القادر بن محمد البغدادي اليوسفي. كان جليل القدر، روى عن ابن شاذان وطبقته. وفيها توفي أبو القاسم الخليلي أحمد بن محمد الدهقان رحمه الله. وفيها توفي أبو تراب المراغي عبد الباقي بن يوسف. قال السمعاني: كان عديم النظير في فنه، بهي المنظر، سليم النفس، عاملاً بعلمه نفاعاً للخلق، فقيه النفس، قوي الحفظ، تفقه ببغداد على أبي الطيب الطبري، وسمع أبا علي بن شاذان. وفيها توفي الخلعي القاضي أبو الحسين المصري الفقيه الشافعي. سمع من طائفة، وانتهى إليه علم الاسناد بمصر. قال ابن سكرة: فقيه له تصانيف، ولي القضاء، وحكم يوماً، واستعفى، وانزوى في القرافة. وفيها توفي الحافظ أبو القاسم مكي بن عبد السلام المقدسي، أحد من استشهد بالقدس، رحل، وجمع، واجتهد في هذا الشأن.
سنة ثلاث وتسعين واربع مائة
فيها التقى المسلمون مع الفرنج بقرب ملطية وانكسر الفرنج، وأسر ملكه، ولم يفلت منهم سوى ثلاثة آلاف، هربوا في الليل، وكانوا ثلاثمائة ألف. وفيها توفي الشيخ الحافظ المحدث عبد الملك بن محمد اليمني اليافعي. رحل وسمع من جماعة كبار في مكة وعدن وجبال اليمن. وروى كتاب الرسالة للشافعي، ومختصر المزني، والدقائق لابن المبارك، وكان شيخاً فاضلاً ورعاً زاهداً، يقال إنه سأله بعض أهل بغداد الانتقال إليه ليقرأ عليه، وبذل له في ذلك مالاً، فامتنع، وكتب إليه بقصيدة مفتتحها.(3/118)
منزلي منزل رحيب أنيق ... فيه لي من فواكه الصيف سويق
قلت يحتمل أنه أراد الفواكه المعنوية، إشارة إلى أنواع العلوم ونشرها في بلده على وجه الاستعارة، كما قلت في استعارة الفاكهات للأحوال والمقامات.
ويثمر خوخ الخوف في روضة الرضا ... وإجاص إخلاص وتين التوكل
وأرطاب حب قد جنتها يد الهوى ... وأعناب السواق بها القلب ممتل
ورمان إجلال وتفاح هيبة ... وموز الحيامبدي رجاء السفرجل
جنان جنان عارف لمعارف ... جنى من جناها كل دان مذلل
فيا طرف قلب عش برؤياك طرفة ... ويا نفس أحلى نفيس له كلي
واليافعي نسبة إلى يافع بن زيد بن مالك بن زيد بن مالك بن رعين، بطن من حمير. قال الإمام أبو سعد السمعاني في كتاب الأنساب: ومنهم راشد بن جندل اليافعي، روى عن حبيب بن أوس، روى عنه يزيد بن أبي حبيب. وفيها توفي الإمام النحوي اللغوي صاحب التصانيف سليمان بن عبد الله بن الفتى النهرواني. صنف كتاب القانون في اللغة عشر مجلدات، وكتاباً في التفسير، وتخرج به أهل أصبهان، ودرس ولده الحسن في النظامية. وفيها توفي أبو الفضل عبد القاهر بن عبد السلام العباسي النقيب المقرىء المالكي.
سنة أربع وتسعين وأربعمائة
فيها كثرت الباطنية بالعراق والجبل وزعيمهم الحسن بن صباح تملكوا القلاع وقطعوا السبيل، وأهم الناس شأنهم لاشتغال أولاد ملك شاه بنفوسهم ومقاتلة بعضهم بعضاً. وفيها أخذت الفرنج بلداناً بالشام، منها سروج وقيسارية بالسيف وأرسوف بالأمان. وفيها توفي أبو الفضل أحمد بن علي بن الفضل بن طاهر بن الفرات الدمشقي. وفيها توفي الفقيه الإمام شيخ الشافعية بخراسان أبو الفرج البزاز بالزاي المكررة قبل الألف وبعدها عبد الرحمن السرخسي ثم المروزي، تلميذ القاضي حسين. وكان يضرب به المثل في حفظ المذهب والورع.(3/119)
وعبد الواحد ابن الأستاذ أبي القاسم القشيري، وكان صالحاً عالماً كثير الفضل. روى عن جماعة، وسماعه من الطرازي حضوراً. وفيها توفي القاضي أبو المعالي شيخ الوعاظ بالعراق، مؤلف كتاب مصارع العشاق عزيز بن عبد الملك شيذلة الجيلي. كان فقيهاً شافعياً، فاضلاً واعظاً ماهراً، فصيح اللسان حلو العبارة، كثير المحفوظات صنف في الفقه وأصول الدين والوعظ والمحبة، وجمع كثيراً من أشعار العرب، وتولى القضاء ببغداد، وسمع الحديث الكثير من جماعة كثيرة، كان أشعري المذهب وناصراً له. قال ابن خلكان: ومن كلامه يعني في المحبة: إنما قيل لموسى عليه السلام: لن تراني، لأنه لما قيل له: انظر إلى الجبل، نظر إليه فقيل: يا طالب؛ انظر إلينا لما تنظر إلى ما سوانا. ثم أنشد.
يا مدع بمقالة صدق المودة والإخا ... لوكنت تصدق في المحبة مانظرت إلى سوى
انتهى قلت وكلامه هذا الذي حكاه ابن خلكان لا يليق بالكليم الوجيه ابن عمران. إنما يليق بغيره ممن في محبته نقصان، كما في حكاية الجارية المشهورة التي قالت لمدعي محبتها: ورائي من هو أحسن مني، فلما التفت قالت:
لوكنت صادقاً في هوانا ... لما التفت إلى سوانا
وأما الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فلا يحسن هذا في حقهم، بل لايجوز، فإن منصب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أرفع من أن يناله شين ولا ملام، وأنما يحسن في غيرهم إذا ادعى الحب والغرام. وعجبت من ابن خلكان كيف يحكي مثل هذا في حق موسى عليه السلام، ولا ينكره على قائله. وقال أبو المعالي المذكور: أنشدني والدي عند خروجه من بغداد للحج.
مددت إلى التوديع كفاً ضعيفة ... وأخرى على الرمضاء فوق فؤادي
فلا كان هذا العهد آخر عهدنا ... ولا كان ذا التوديع آخر زادي
توفي رحمه الله يوم الجمعة، ودفن محاذياً للشيخ أبي إسحاق الشيرازي وعزيز: بفتح العين المهملة وزايان بينهما مثناة من تحت ساكنة. وشيذلة بفتح الشين والذال المعجمتين، وبينهما مثناة من تحت ساكنة. قال ابن خلكان: ولا أعرف معنى هذا اللقب مع كثرة كشفي عنه.(3/120)
سنة خمس وتسعين واربع مائة
فيها توفي المستعلي بالله أبو القاسم أحمد بن المستنصر بالله العبيدي، صاحب مصر، وفي أيامه انقطعت، دولته من الشام، واستولى عليه أتراك وفرنج، فأخذوا البيت المقدس وقتل فيه من المسلمين خلق كثير، وقتل في المسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفاً وأخذوا من عند الصخرة من أواني الذهب والفضة ما لا يضبطه الوصف، ولم يكن للمستعلي مع الأفضل حل ولا ربط، بل كان الأفضل أمير الجيوش هو الكل. وفي أيامه هرب أخوه نزار الذي تنسب إليه الدعوة النزارية بقلعة الألموت، فدخل الإسكندرية، وبايعه أهلها، وساعده القاضي ابن عمار ومتوليها، فنازلهم الأفضل مرة بعد أخرى، حتى ظفر بهم، ورجع، فذبح متولي الإسكندرية، وبنى على نزار حائطاً، فهلك. وفيها توفي شيخ الأطباء بالعراق سعيد بن هبة الله، صاحب التصانيف في الفلسفة والطب والمنطق. وفيها توفي عبد الواحد بن عبد الرحمن الزبيري الفقيه. قال السمعاني: عمر مائة وثلاثين سنة.
سنة ست وتسعين واربع مائة
فيها سار دقاق صاحب دمشق، فأخذ الرحبة، وتسلم حمص بعد موت صاحبها. وفيها توفي مقرىء العراق أبو طاهر أحمد بن علي، صنف المستنير في القراءات، كان ثقة محموداً، أقرأ خلقاً. وسمع الكثير عن ابن غيلان وطبقته. وفيها توفي مقرىء الأندلس أبو داود سليمان بن نجاح الأندلسي، مولى المؤيد بالله الأموي، وفيها توفي أبو البركات محمد بن المنكدر الكرخي المؤدب. روى عن عبد الملك ابن بشران. وفيها توفي أبو الحجاج يوسف بن سليمان، المعروف بالأعلم النحوي، رحل إلى قرطبة، وأقام بها مدة، وأخذ الأدب عن جماعة، وكان عالماً بالعربية واللغة ومعاني(3/121)
الأشعار، حافظاً لها، كثير العناية بها، حسن الضبط لها، مشهوراً بمعرفتها وإتقانها، أخذ الناس عنه كثيراً، وكانت الرحلة في وقته إليه، وقد أخذ عنه أبو علي الحسين بن محمد الغساني الجياني. وشرح كتاب الجمل للزجاجي، وشرح أبياته في كتاب مفرد، وكف بصره في آخر عمره، وإنما قيل له: الأعلم لأنه كان مشقوق الشفة العليا، ومن كان هكذا يقال له أعلم، فإن كان مشقوق الشفة السفلى قيل له: أفلح بالفاء والحاء المهملة بينهما لام وكان غيره: العباسي الفارسي المشهور بالشجاعة، يلقب الفلحاء لفلحة كانت به. وإنما ذهبوا به إلى تأنيث الشفة، كأنهم يعنون به صاحب الشفة الفلحاء، وكان سهيل بن عمرو القرشي رضي الله تعالى عنه أعلم، فلما أسر يوم بدر قال عمر رضي الله تعالى عنه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: دعني أنزع ثنيته، فلا يقوم عليك خطيباً أبداً، فقال عليه السلام: دعه، فعسى أن يقوم مقاماً تحمده، وكان من الخطباء الفصحاء، وهو الذي أبرم صلح الحديبية على يديه، ثم أسلم، وحسن إسلامه، ثم قام هو لما قبض النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطيباً بمكة، وسكن الناس، ومنعهم من الاختلاف بعد تشتت أمر الإسلام، وارتداد جماعة من العرب، وكان مقامه حينئذ لتثبيت الناس هو المقام المحمود، وإنما قال عمر رضي الله عنه فلا يقوم عليك خطيباً: لأنه إذا كان مشقوق الشفة العليا، ونزعت ثنيته تعذر عليه الكلام إلا بمشقة
سبع وتسعين واربع مائة
فيها نازلت الفرنج حران، فالتقاهم سقمان، ومعه عشرة آلاف، فانهزموا، وتبعهم الفرنج فرسخين، ثم نزل النصر وكر المسلمون، فقتلوهم كيف شاؤوا. وكان فتحاً عظيماً. وفيها توفي أحمد بن علي المعروف بابن زهر الصوفي البغدادي وفيها توفي القدوة الواعظ الزاهد اسماعيل بن علي النيسابوري، وفيها توفي شمس الملك ابن تاج الدولة السلجوقي. وكان مسجوناً ببعلبك، فذهب بجهله إلى صاحب القدس لكي ينصره، فلم يلو عليه، فتوجه إلى الشرق، فهلك. وفيها توفي أبو مكتوم عيسى ابن الحافظ أبي ذر عبد الله بن أحمد الهروي، ثم السروي الحجازي. روى عن أبيه صحيح البخاري. وفيها توفي مفتي الأندلس ومسندها محمد بن الفرج القرطبي المالكي، كان رأساً في العلم والعمل، قوالاً بالحق، رحل إليه الناس من الأقطار لسماع الموطأ والمدونة.(3/122)
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
سنة ثمان وتسعين واربع مائة
فيها توفي الحافظ أبو علي أحمد بن محمد البغدادي البوارني، كان بصيراً بالحديث محققاً حجة. وفيها توفي أبو عبد الله الطبري الحسين بن علي، الفقيه الشافعي محدث مكة. روى صحيح مسلم عن عبد الغافر، وكان فقيهاً مفتياً. تفقه على ناصر بن الحسين العمري. قال الذهبي: وجرت له فتن وخطوب مع هياج بن عبيد وأهل السنة بمكة، وكان عارفاً بمذهب الأشعري، انتهى كلامه. قلت: اسمعوا هذا الكلام العجيب، كيف جعل أهل السنة هم المخالفون لمذهب الأشعري؟ وهذا مما يدلك على اعتقاده لمذهب الظاهرية الحشوية، مع دلائل أخرى متفرقة في كتابه. وفيها توفي الحافظ أبو علي الحسين بن محمد الجياني بالجيم والمثناة من تحت وبعد الألف نون الغساني الأندلسي، أحد أركان الحديث بقرطبة. روى عن ابن عبد البر وجماعة من طبقته. وكان كامل الأدوات في الحديث، علامة في اللغة ولشعر والنسب، وحسن التصنيف. وفيها توفي سقمان التركماني، صاحب ماردين وجد ملوكها. كان أميراً جليلاً، صالحاً فارساً موصوفاً، حضر عدة حروب. وفيها توفي محمد بن عبد السلام أبو الفضل الأنصاري البزاز البغدادي. كان جليلاً صالحاً. روى عن البرقاني وابن شاذان.
سنة تسع وتسعين واربع مائة
فيها ظهر بنهاوند رجل ادعى النبوة، وكان ساحراً صاحب مخاريق، فتبعه: خلق كثير، وكثرت عليهم الأموال، وكان لا يدخر شيئاً، فأخذ، وقتل قاتلة الله تعالى. وفيها توفي أخو نظام الملك، عبد الله بن علي بن إسحاق الطوسي. والعبد الصالح الزاهد القانت لله، أحد القراء ببغداد أبو منصور الخياط: محمد بن أحمد البغدادي قال ابن ناصر: كانت له كرامات. وفيها توفي أبو البقاء الحبال المعمر بن محمد الكوفي.(3/123)
سنة خمس مائة
فيها غزا السلطان محمد ابن ملك شاه الباطنية، وأخذ قلعتهم بأصبهان، وقتل صاحبها أحمد بن عبد الملك. وكان قد تملكها اثنتي عشرة سنة، وهي من بناء ملك شاه، بناها على رأس جبل، وغرم عليها ألف ألف دينار. وفيها توفي عالم أهل طوس: العلأمة أبو المظفز الخوافي بفتح الخاء المعجمة وقبل الألف واو وبعدها فاء نسبة إلى ناحية من نواحي نيسابور، كثيرة القرى الفقيه الشافعي، كان أنظر أهل زمانه، تفقه على إمام الحرمين حتى صار أوحد تلامذته، ولي القضاء بطوس ونواحيها، وكان مشهوراً بين العلماء بحسن المناظرة وإقحام الخصوم، وكان رفيق أبي حامد الغزالي. رزق الغزالي السعادة في تصانيفه، والخوافي في مناظراته. وفيها توفي جعفر بن أحمد البغدادي المقرىء السراج الأديب. روى عن ابن شاذان وجماعة، وكان ثقة بارعاً أخبارياً، علامة كثير الشعر، حسن التصانيف. وفيها توفي أبو الحسين بن الطيوري المبارك بن عبد الجبار. قال ابن السمعاني: كان مكثراً صالحاً، أميناً صدوقاً، صحيح الأصول رصيناً وقوراً، كثير الكتابة. وفيها توفي أبو الكرم، المبارك بن فاخر الدباس، الأديب من كبار أئمة اللغة والنحو ببغداد، وله مصنفات. روى عن القاضي أبي الطيب الطبري، وأخذ العربية عن عبد الواحد ابن برهان بفتح الموحدة النحوي. وفيها توفي حافظ عصره وعلامة زمانه: أبو محمد جعفر بن أحمد المعروف بابن السراج القارىء البغدادي، صاحب التصانيف العجيبة، منها: كتاب مصارع العشاق وغيره، حدث عن أبي علي بن شاذان، وأبي الفتح بن شاهين، والخلال وغيرهم. وأخذ عنه خلق كثير، وله شعر حسن، منه قوله:
وعدت بأن تزوري كل شهر ... فزوري قد تقضى الشهر، زوري
وشقى بيننا نهر المعلى ... إلى البلد المسمى شهرزور
وأشهر هجرك المحتوم صدق ... ولكن شهر وصلك شهر زور(3/124)
قلت وقد أبدى في الثلاثة الأبيات صنعة حسنة من الجناس، فالقافية الأولى مركبة من الشهر والأمر لها بالزيارة، والثانية اسم البلد المعروف، والثالثة إضافة شهر إلى زور: أي الشهر الموعود فيه بوصلك، شهر كذب، ولكن القافية الوسطى مشتملة على الإقواء الذي هو من جملة عيوب القافية، لأن إعرابه على وفق العربية النصب، لكونه مفعولاً ثانياً، على وزن قولك: مشيت إلى الرجل المسمى زيداً، والقافية التي قبلها، والتي بعدها مخفوضتان بالأمر للمؤنثة، والأخيرة بإضافة شهر إليها، لكني قد وجهت للقافية الوسطى في دفع الإقواء المعاب وجهاً من وجوه الإعراب، وهو أن يقال: المراد بالمسمى: السمو، أي: الرفع، كما قال قبله المعلى، ويكون قوله بعده شهر زور مخفوضاً، بدلاً من البلد المخفوض بإلى، ولو قال: إلى البلد المروي، أو المشرق لسلم من الإقواء. ومن جلالة جعفر المذكور أن أبا طاهر السلفي كان يفتخر رويته، مع كونه لقي أعيان ذلك الزمان، وأخذ عنهم. وفيها وقيل في ثلاث وتسعين توفي يوسف بن تاشفين، أمير المسلمين، سلطان المغرب أبو يعقوب البربري الملثم. كان أكبر ملوك الدنيا في عصره ودولته بضعاً وثلاثين سنة، وكان رجلاً شجاعاً عادلاً عديم الرفاهية، تشيب العيش على قاعدة البربر، اختط مراكش، وأنشأها في برج صغير، وصيرها دار الإمارة، وكثرت جيوشه، وبعد صيته، وتملك الأندلس، ودانت له الأمم. وفي آخر أيامه بعث رسولاً إلى العراق يطلب عهداً من المستظهر بالله، فبعث له بالخلع والتقليد واللواء، فأقيمت الخطبة العباسية بممالكه، وكان يميل إلى أهل العلم والدين، ويكرمهم، ويصدر عن رأيهم، وكان يحب العفو والصفح عن الذنوب العظام. ومن ذلك أن ثلاثة نفر اجتمعوا، فتمنى أحدهم ألف دينار يتجر بها، وتمنى آخر عملاً يعمل فيه لأمير المسلمين، وتمنى الآخر زوجة ابن تاشفين المذكور وكانت من أحسن النساء ولها حكم في بلاده فبلغه الخبر، فأحضرهم، وأعطى متمني المال ألف دينار، واستعمل للذي تمنى الاستعمال، وقال للذي تمنى زوجته: يا جاهل؛ ما حملك على هذا الذي لا تصل إليه؟ ثم أرسله إليها، فأنزلته في خيمة ثلاثة أيام، تحمل إليه كل يوم طعاماً واحداً، ثم أحضرته، وقالت له: ما أكلت في هذه الأيام؟ قال: طعاماً واحداً، قالت: كذلك كل النساء شيء واحد، وأمرت له بمال وكسوة، وأطلقته. قلت: وقد سمعت ما يناسب هذا عن بعض ملوك الهند، حكي أنه خرج ملك من(3/125)
ملوك الهند في بعض الليالي متنكراً ليسمع ما يقول الناس في بلاده، فرأى ثلاثة جلوساً، فدنا منهم، فإذا بهم يتمنى كل واحد منهم شيئاً. فقال أحدهم: أتمنى أن أكون ملكاً، وقال آخر: أتمنى زوجة الملك أتزوجها، وقال الثالث: أتمنى فرساً وسيفاً ولباساً للحرب، لأجاهد في سبيل الله، فلما أصبح الملك، استدعي بهم، فلما حضروا أعطى الذي تمنى الجهاد فرساً جواداً، وسيفاً ماضياً ولباساً حصيناً، وقال: هذا ما تمنيت. وأجلس الذي تمنى الملك في مكان، وفوق رأسه سيف مسلول معلق بشيء واه، فبقي خائفاً يلتفت إلى السي. فقال له: أراك تلتفت؟ فقال: أخاف من هذا السيف، فقال: ما تطلب بالملك؟ فإن الملك لا يزال خائفاً مثلك الآن، وأمر بطعام وإدام من جنس واحد، ملون بألوان مختلفة، فأحضر ذلك، وأمر الذي تمنى زوجته أن يأكل من تلك الألوان، ففعل، فقال له: كيف رأيت ألوانه؟ قال: مختلفة، قال: فكيف طعمه؟ قال: واحد، قال: فكذلك النساء، انتهى معنى الحكاية. قلت: ومثل هذا المقال إنما هو مدافعة وتساهل في التمثيل، وليس المثل كالمثل، فإن اللذات بالنساء تتفاوت بحسب تفاوت جمالهن، وتفاوت منصبهن وشرفهن، وذلك معروف لا يمكن جحده. ولهذا يقول الرسول - عليه السلام: " ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله ". فمدحه بذلك، وبين فضله بمخالفة هواه مع شدة ميل الطبع، وقوة الشهوة المتصفة بهذه الصفة. رجعنا إلى ذكر ابن تاشفين، وقال بعضهم: كان يوسف بن تاشفين مقدم جيش أبي بكر بن عمر الصنهاجي، وكان أبو بكر المذكور قد حاصر سجلماسة، وقاتل أهلها أشد القتال، حتى أخذها، ثم رتب عليها يوسف بن تاشفين، وكان من أمره ما كان، وأول ذلك أن البرير خرج عليهم من جنوب المغرب الملثمون يتقدمهم أبو بكر بن عمر الصنهاجي، وكان رجلاً ساذجاً خير الطباع مؤثراً لبلاده على بلاد المغرب، غير ميال إلى الرفاهية، وكانت ولاة المغرب
ضعفاء، فلم يقدروا يقاومون الملثمين، فأخذوا البلاد من أيديهم من باب تلمسان إلى ساحل البحر المحيط. فلما حصلت البلاد لأبي بكر المذكور، سمع أن عجوزاً في بلاده ذهبت لها ناقة في غارة، فبكت، وقالت: ضيعنا أبو بكر بن عمر بدخوله إلى بلاد المغرب، فحمله ذلك على أن استخلف على بلاد المغرب يوسف بن تاشفين المذكور من أصحابه، ورجع إلى بلاده، وكان يوسف رجلاً شجاعاً، مقداماً عادلاً، فاختط بالمغرب مدينة مراكش - كما تقدم - وكان موضعها مكمناً للصوص، ثم تملك الأندلس بعد وقائع يطول ذكرها، وصار ملكاً للعرب الملثمين. وكان قد ظهر لأبطال الملثمين ضربات بالسيوف تقد الفارس، وطعنات بالرماح تنظم الكلاء، وكان لهم بذلك ناموس ورعب في قلوب المبتدئين لقتالهم، وسموا ملثمين: لأنهم كانوا يلثمون، ولا يكشفون وجوههم. وسبب ذلك على ما قيل إن حمير كانت تلثم لشدة الحر والبرد، يفعله الخواص منهم، فكثر ذلك حتى صار يفعله عامتهم. وقيل سببه أن قوماً من أعدائهم كانوا يقصدون غفلتهم إذا غابوا، فيطرقون الحي، ويأخذون المال والحريم، فأشار عليهم بعض مشائخهم أن يبعثوا النساء في زي الرجال إلى ناحية، ويقعدوا لهم في البيوت ملثمين في زي النساء، فإذا أتاهم العدو، وظنوا أنهم النساء، خرجوا عليهم، ففعلوا ذلك، وثاروا عليهم بالسيوف، وقتلوهم، فلزموا اللثام تبركاً بما حصل لهم من الظفر. وقال الشيخ الحافظ عز الدين بن الأثير في تاريخه الكبير: وقيل إن سبب اللثام أن طائفة منهم خرجوا. مغيرين على عدوهم، فخلفهم العدو إلى بيوتهم، ولم يكن بها إلا الشيوخ والصبيان. فلما تحقق الشيوخ مجيء العدو لهم، أمروا النساء أن يلبسن ثياب الرجال، ويلثمن حتى لا يعرفن، ويلبسن السلاح. ففعل ذلك، وتقدم الشيوخ والصبيان أمامهن، واستدار النساء بالبيوت، فلما أشرف العدو ورأى جمعاً عظيماً، وظنوا رجالاً، وقالوا: هؤلاء عند حريمهم يقاتلون عنهن قتال الموت، فالرأي أن نسوق النعم ونمضي، فإن اتبعونا قاتلناهم خارجاً عن حريمهم، فبيناهم في جميع النعم من المراعي، إذ أقبل رجال الحي، فبقي العدو بينهم وبين النساء، فقتلوا من العدو كثيراً، وكان من قبل النساء لهم أكثر. فمن ذلك الوقت جعلوا اللثام سنة، ولازموا ذلك، فلا يعرف الشيخ من الشاب. ومما قيل في اللثام: ضعفاء، فلم يقدروا يقاومون الملثمين، فأخذوا البلاد من أيديهم من باب تلمسان إلى ساحل البحر المحيط. فلما حصلت البلاد لأبي بكر المذكور، سمع أن عجوزاً في بلاده ذهبت لها ناقة في غارة، فبكت، وقالت: ضيعنا أبو بكر بن عمر بدخوله إلى بلاد المغرب، فحمله ذلك على أن استخلف على بلاد المغرب يوسف بن تاشفين المذكور من أصحابه، ورجع إلى بلاده، وكان يوسف رجلاً شجاعاً، مقداماً عادلاً، فاختط بالمغرب مدينة مراكش - كما تقدم - وكان(3/126)
موضعها مكمناً للصوص، ثم تملك الأندلس بعد وقائع يطول ذكرها، وصار ملكاً للعرب الملثمين. وكان قد ظهر لأبطال الملثمين ضربات بالسيوف تقد الفارس، وطعنات بالرماح تنظم الكلاء، وكان لهم بذلك ناموس ورعب في قلوب المبتدئين لقتالهم، وسموا ملثمين: لأنهم كانوا يلثمون، ولا يكشفون وجوههم. وسبب ذلك على ما قيل إن حمير كانت تلثم لشدة الحر والبرد، يفعله الخواص منهم، فكثر ذلك حتى صار يفعله عامتهم. وقيل سببه أن قوماً من أعدائهم كانوا يقصدون غفلتهم إذا غابوا، فيطرقون الحي، ويأخذون المال والحريم، فأشار عليهم بعض مشائخهم أن يبعثوا النساء في زي الرجال إلى ناحية، ويقعدوا لهم في البيوت ملثمين في زي النساء، فإذا أتاهم العدو، وظنوا أنهم النساء، خرجوا عليهم، ففعلوا ذلك، وثاروا عليهم بالسيوف، وقتلوهم، فلزموا اللثام تبركاً بما حصل لهم من الظفر. وقال الشيخ الحافظ عز الدين بن الأثير في تاريخه الكبير: وقيل إن سبب اللثام أن طائفة منهم خرجوا. مغيرين على عدوهم، فخلفهم العدو إلى بيوتهم، ولم يكن بها إلا الشيوخ والصبيان. فلما تحقق الشيوخ مجيء العدو لهم، أمروا النساء أن يلبسن ثياب الرجال، ويلثمن حتى لا يعرفن، ويلبسن السلاح. ففعل ذلك، وتقدم الشيوخ والصبيان أمامهن، واستدار النساء بالبيوت، فلما أشرف العدو ورأى جمعاً عظيماً، وظنوا رجالاً، وقالوا: هؤلاء عند حريمهم يقاتلون عنهن قتال الموت، فالرأي أن نسوق النعم ونمضي، فإن اتبعونا قاتلناهم خارجاً عن حريمهم، فبيناهم في جميع النعم من المراعي، إذ أقبل رجال الحي، فبقي العدو بينهم وبين النساء، فقتلوا من العدو كثيراً، وكان من قبل النساء لهم أكثر. فمن ذلك الوقت جعلوا اللثام سنة، ولازموا ذلك، فلا يعرف الشيخ من الشاب. ومما قيل في اللثام:
قوم لهم درك العلى في حمير ... وإن أنتم صنهاجة فهم هم
لما حووا إحراز كل فضيلة ... غلب الحياء عليهم فتلثموا
ولما حضرت الوفاة يوسف بن تاشفين عهد بالأمر من بعده إلى ابنه علي الذي خرج عليه ابن تومرت بفتح المثناة من فوق وسكون الواو وفتح الميم والراء وسكون المثناة في آخره. وفيها أو بعدها توفي الإمام العلامة الفقيه الفرضي إسحاق بن يوسف بن ابراهيم بن يعقوب بن عبد الصمد الصروفي، مصئص كتاب الكافي في الفرائض. تفقه بجعفر بن عبد الرحمن، وإسحاق العشاري. وكان علامة في المواريث والحساب، وكتابه دال على علمه،(3/127)
ويقال إن أصله من المعافر، وسكن الصروف، وصنف الكافي فاستغنى به أهل زمانه عن الكتب القديمة في المواريث. قلت وكتابه المذكور مبارك واضح بكثرة الأمثلة، انتفع به خلق كثير - وخصوصاً من أهل اليمن - ويقال إنه لما أظهر في بعض البلاد الشاسعة ابتاع بوزنه فضة، وأرى أن مثله في الانتفاع والبركة والإيضاح بكثرة الأمثلة كتاب الجمل في النحو للزجاجي. وسمعت من بعض شيوخنا يحكي عن بعض العلماء في بعض الآفاق أنه قال: ما بلغت فضيلة في أحد من أهل اليمن إلا في اثنين: صاحب الكافي في الفرائض، وصاحب كتاب البيان في الفقه. قلت: لا شك أن هذين الكتابين اشتهرا في قديم الزمان، وشاعا في البلدان، فلهذا قيل ذلك المقال. ولبعض المتأخرين من أهل اليمن أيضاً تصانيف، منها: شرح المهذب للإمام الكبير الولي الشهير اسماعيل بن محمد الحضرمي، ومنها شرح التنبيه لابن أخته الفقيه العلامة القاضي جمال الدين ومنها شرح الوسيط للفقيه الإمام المالكي أبي شكيل في بضعة عشر مجلداً، وغالب فضائل أهل اليمن إنما هي بالصلاح والأوصاف الملاح، ويكفي دليلاً على فضلهم ودينهم قوله - عليه الصلاة والسلام - " الأيمان يمان والحكمة يمانية ". رجعنا إلى ذكر الإمام الصروفي في ذكر ابن سمرة أنه كان له ابنتان، تزوج إحديهما - وهي تسمى ملكة - الفقيه الإمام زيد بن عبد الله اليفاعي، فأولدها بنتاً اسمها هندة، هي أم محمد بن سالم الإمام بجامع ذي شرف، ولذلك صارت كتب الفقيه زيد بن عبد الله اليفاعي بأيديهم، لأنه لم يرثه غير أمهم هذه. وتزوج الأخرى إمام مسجد الجند: حسان بن محمد، فاستولدها ولداً، وصار إليه من كتب الفقيه إسحاق شيء. قال الإمام ابن سمرة: وأخبرني الفقيه الفاضل عبد الله بن محمد بن سالم بمنزله بذي باشرق، عن شيوخه، عن الشيخ إسحاق الصروفي، أنه كان يقرأ عليه رجل من الجن ساحت الخلق، فلما كان ذات يوم أتاهم رجل محنش وهو الذي يلزم الحنشات والحيات بيده فلا تضره - فقال الجني للشيخ إسحاق: أتمثل لهذا ثعباناً، وانظر ما يكون منه، فكره الشيخ ذلك منه، فلم يقبل منه، فتصور الجني ثعباناً، فعزم الراقي عليه حتى حصل في(3/128)
جونته، فطلب الشيخ منه أن يطلقه، فتعسر عليه ساعة، فأطلقه من جونته، فغاب ومكث خمسة عشر يوماً، فعاد إلى الشيخ وفيه آثار من نار، فسأله عن ذلك فقال: إنه لما عزم علي أردت أن أخرج، فكانت نار تلفحني من كل جهة، ولا أرى موضعاً خالياً من النار، فدخلتها كارهاً فهذه الآثار من تلك النار.
سنة احدى وخمس مائة
فيها كانت وقعة كبيرة بالعراق بين سيف الدولة صدقة بن منصور أمير العرب وبين السلطان محمد، فقتل صدقة في المصاف. وفيها كان الحصار على صور وطرابلس والشام في ضرمع الفرنج. وفيها توفي أبو علي تميم بن معز ابن السلطان أبي يحيى الحميري الصنهاجي، ملك إفريقية وما والاها بعد أبيه، وكان حسن السيرة، محمود الآثار، محباً للعلماء، معظماً للفضلاء مقصداً للشعراء، كامل الشجاعة وافر الهيبة، عاش تسعاً وتسعين سنة، وكانت دولته ستاً وخمسين سنة، وخلف من البنين أكثر من مائة، ومن البنات ستين - على ما ذكر ابن شداد في تاريخ القيروان - وتملك بعده ابنه يحيى، وفيه يقول أبو علي، الحسن بن رشيق القيرواني:
أصح وأقوى ما سمعناه في الندا ... من الخبر المأثور منذ قديم
أحاديث ترويها السيول عن الحيا ... عن البحر عن كف الأمير تميم
ولتميم المذكور أشعار حسنة منها قوله:
سل المطر العام لذي عم أرضكم ... أجاء بمقدار الذيى فاض من دمعي؟
إذا كنت مطبوعاً على الصد والجفا ... فمن أين لي صبر، فأجعله طبعي؟
وكان يجيز الجوائز السنية، ويعطي العطايا الجزيلة الهنيئة، وفي أيام ولايته أخذ المهدي محمد بن تومرت إفريقية عند عوده من بلاد الشرق، وأظهر بها الإنكار على من رآه خارجاً عن سنن الشريعة، ومن هناك توجه إلى مراكش، وكان منه ما كان، على ما سيأتي قريباً، وكان قد فوض إلى تميم المذكور أبوه في حياته ولاية المهدية، ولم يزل بها إلى أن توفي والده، فاستبد بالملك، ولم يزل كذلك إلى أن توفي. وفيها توفي صدقة بن منصور مقتولاً كما تقدم، وذلك يوم الجمعة، سلخ جمادى(3/129)
الآخرة. وقتل معه ثلاثة آلاف فارس، وكان شيعياً، له محاسن ومكارم وحلم وجود، ملك العرب بعد أبيه اثنتين وعشرين سنة، وكان ذا بأس وسطوة وهيبة، نافر السلطان محمد ابن ملك شاه السلجوقي، واقتضت الحال الحرب بينهما، إلى أن قتل في المعركة في التاريخ المذكور، وحمل رأسه إلى بغداد، وكانت إمارة أبيه سبعاً وستين سنة. وفي السنة المذكورة توفي الرجل الصالح أبو محمد عبد الرحمن بن أحمد الصوفي الدوني، راوي السنن عن أبي نصر الكسار، وكان زاهداً عابداً سفياني المذهب. وفيها توفي أبو الفرج القزويني محمد ابن العلامة أبي حاتم محمود بن أحمد بن الحسن الأنصاري، وكان فقيهاً صالحاً وفيها توفي أبو سعد الأسدي محمد بن عبد الملك البغدادي المؤدب.
سنة اثنتين وخمس مائة
فيها حاصر جاولي بالجيم، الموصل - وبها زنكي - فأنجده صاحب الروم أرسلان، ففر جاولي، ودخل أرسلان الموصل، وحلفوا له، ثم التقى جاولي وأرسلان في ذي القعدة، فحمل أرسلان بنفسه، وضرب يد حامل العلم فأبانها، ثم ضرب جاولي بالسيف، فقطع السيف بعض لبوسه، وحمل أصحاب جاولي على الروميين فهزموهم، وبقي أرسلان في الوسط، فهز فرسه، ودخل نهر الخابور، فدخل به الفرس في ماء عميق، فغرق وطفا بعد أيام، فدفن، وساق جاولي، فأخذ الموصل، فظلم وغشم. وفيها تزوج المستظهر بالله بأخت السلطان محمد. وفيها ظهرت الإسماعيلية بالشام، ثم خذلت، وأخذتهم السيوف، فلم ينج منهم أحد. وفيها قتلت الباطنية الاسماعيلية بهمذان قاضي القضاة عبيد الله بن علي الخطيبي. وفيها قتلت بأصبهان يوم عيد الفطر أبا العلاء صاعد بن محمد البخاري. وفيها قتلت النيسابوري الحنفي المفتي، أحد الأئمة.(3/130)
وفيها قتلت بجامع آمد يوم الجمعة في شهر الله المحرم فخر الإسلام القاضي أبا المحاسن عبد الواحد بن اسماعيل بن أحمد الروياني الفقيه الإمام، الشافعي مذهباً أحد الرؤوس الأكابر في أيامه، شيخ الشافعية فروعاً وأصولاً وخلافاً، صاحب التصانيف السنية، سمع الشيخ أبا الحسن عبد الغافر بن محمد الفارسي، وأبا عبيد الله محمد بن بيان الكازروني، وتفقه على مذهب الإمام الشافعي، وروى عنه زاهر بن طاهر الشحامي وغيره. وكان له الجاه العظيم والحرمة الوافرة، وكان الوزير نظام الملك كثير التعظيم له بكمال فضله، رحل إلى بخارى، ودخل غزنة، ونيسابور، ولقي الفضلاء، وحضر مجلس ناصر المروزي، وعلق عنه الحديث، وبنى بآمل طبرستان مدرسة، ثم انتقل إلى الري، ودرس بها، وقدم أصبهان، وأملأ بجامعها، وصنف الكتب المفيدة منها: بحر المذهب، هو من أطول كتب الشافعية، وكتاب الكافي، وكتاب حيلة المؤمن، وصنف في الأصول والخلاف. ونقل عنه أنه يقول: لو احترقت كتب الشافعي لأمليتها من خاطري، ذكره الحافظ أبو محمد عبد الله بن يوسف القاضي في طبقات أئمة الشافعي، وأثنى عليه. وذكره الحافظ يحيى بن منده، فأثنى عليه، وروى الحديث عن خلق كثير في بلاد متفزقة. وقال الحافظ أبو طاهر السلفي: بلغنا أن أبا المحاسن الرؤياني أملى بمدينة آمل، وقتل بعد فراغه من الإملاء بسبب التعصب في الدين. وذكر الحافظ أبو سعد السمعاني أنه قتل في الجامع يوم الجمعة - الحادي عشر من المحرم - من السنة المذكورة، قتله الملاحمة، وقال بعضهم: عاش سبعاً وثمانين سنة. وعظم الخطب بهؤلاء الملحدين، وخافهم كل أمير وعالم بهجومهم على الناس. وفي السنة المذكورة توفي أبو القاسم الربعي علي بن الحسين الفقيه الشافعي المعتزلي ببغداد، قلت: يعنون أنه شافعي الفروع، معتزلي الأصول، كما قيل إن جار الله الزمخشري حنفي الفررع معتزلي الأصول، وأشباه ذلك كثر، يكون أحدهم فروعي مذهب آخر. وفيها توفي أبو زكريا التبريزي الخطيب صاحب اللغة يحيى بن علي بن محمد الشيباني، صاحب التصانيف، أخذ اللغة عن أبي العلاء المعري، وسمع من سليمان بن أيوب بصور، وكان شيخ بغداد في الادب. وسمع الحديث بمدينة صور من الفقيه أبي الفتح سليم بن أيوب الرازي وجماعة، وروى عنه الخطيب الحافظ أبو بكر وغيره من أعيان الأئمة، وتخرج عنه خلق كثير، وتلمذوا له، وصنف في الأدب كتباً مفيدة، منها شرح(3/131)
الحماسة وشرح ديوان المتنبي وشرح المعلقات السبع، وله تهذيب غريب الحديث وتهذيب إصلاح المنطق ومقدمات حسنة في النحو، وكتاب الكافي في علم العروض والقوافي، وشرح سقط الزند للمعري، وله الملخص في إعراب القرآن في أربع مجلدات، ودرس الأدب في حنش نظامية بغداد، ودخل مصر، فقرأ عليه ابن بابشاذ شيئاً من اللغة. وفيها توفي محمد بن عبد الكريم بن حشيش البغدادي رحمه الله تعالى.
سنة ثلاث وخمس مائة
في ذي الحجة منها أخذت الفرنج طرابلس بعد حصار سبع سنين، وكان المدد يأتيها من مصر في البحر. وفيها أخذوا بانياس. وفيها أخذ صاحب أنطاكية طرطوس وحصن الأكراد. وفيها توفي أبو بكر أحمد بن المظفر بن سوسن رحمه الله. وفيها توفي الحافظ أبو الفتيان عمر بن عبد الكريم الرواسي، طوف خراسان والعراق والشام ومصر، وكتب عن الصابوني وطبقته.
وفيها توفي أبو سعد المطرز بن محمد الأصبهاني في نيف وتسعين سنة، سمع الحسين ابن ابراهيم وأبا علي غلام محسن وغيرهما، وهو أكبر شيخ للحافظ أبي موسى المديني، سمع منه حضوراً.
سنة أربع وخمس مائة
فيها أخذت الفرنج بيروت بالسيف، ثم أخذوا صيدا بالأمان، وأخذ صاحب أنطاكية بعض الحصون، وعظم المصاب، وتوجه خلق كثير من المطوعة يستصرخون الدولة ببغداد على الجهاد، واستغاثوا، وكسروا منبر جامع السلطان، وكثر الضجيج، فشرع السلطان في أهبة الغزو.(3/132)
وفيها توفي أبو الحسين الخشاب يحيى بن علي بن الفرج المصري، شيخ الإقراء با لروايات. وفيها توفي اسماعيل بن أبي الحسين عبد الغافر بن محمد الفارسي، ثم النيسابوري. وأبو يعلى حمزة بن محمد بن علي البغدادي أخو طراد الزينبي. وفيها توفي أبو الحسن علي بن محمد بن علي الطبري الفقيه الشافعي، المعروف بألكيا، بكسر الكاف وفتح المثناة من تحت والتخفيف وبعدها ألف، وهي في اللغة العجمية الكبير القدر المقدم بين الناس، كان من أهل طبرستان، فخرج إلى نيسابور، وتفقه على إمام الحرمين أبي المعالي الجويني مدة إلى أن برع، وكان حسن الوجه جهوري الصوت فصيح العبارة حلو الكلام، وخرج من نيسابور إلى بيهق، ودرس بها مدة، ثم خرج إلى العراق، وتولى التدريس بالنظامية ببغداد إلى أن توفي. ذكره الحافظ عبد الغافر بن اسماعيل الفارسي وقال: كان من درس معيداً إمام الحرمين في الدروس، وكان ثاني أبي حامد الغزالي، بل أرجح منه في الصوت والمنظر، ثم اتصل بخدمة الملك بركيا روق - بالموحدة قبل الراء والمثناة من تحت بين الكاف والراء مكررة قبل الكاف والواو ابن ملك شاه السلجوقي، وحظي عنده بالمال والجاه، وارتفع شأنه، وتولى القضاء بتلك الدولة، وكان يستعمل الأحاديث في ميادين الكفاح إذا طارت رؤوس المقاييس في مهاب الرياح. قال الحافظ أبو طاهر السلفي: استفتيت شيخنا أبا الحسن المعروف بالكيا، وقد جرى بيني وبين الفقهاء كلام في المدرسة النظامية - ما يقول الإمام - وفقه الله تعالى - في رجل أوصى بثلث ماله للعلماء والفقهاء، هل يدخل كتبة الحديث تحت هذه الوصية أم لا؟ فكتب الشيخ تحت السؤال: نعم، كيف لا؟ وقد قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم " من حفظ على أمتي أربعين حديثاً من أمر دينها بعثه الله تعالى يوم القيامة فقيهاً عالماً " انتهى. قلت الظاهر - والله أعلم إنه محمول على ما إذا عرف معنى الحديث وأحكامه، وإلا فلا يدخل في الوصية، وقد وقفت بعد قولي هذا على ما يؤيده - والحمد لله تعالى - وهو ما نص عليه الإمام الرافعي، وقرره الإمام النووي في الروضة، قال: فيما إذا أوصي للعلماء لا يدخل فيهم الذين يسمعون الحديث، ولا علم لهم بطرقه، ولا بأسماء الرواة، ولا بالمتون، فإن السماع المجرد ليس بعلم. توفي رحمه الله تعالى يوم الخميس مستهل السنة المذكورة، ودفن في تربة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وحضر دفنه الشريف أبو طالب الزينبي وقاضي القضاة أبو الحسن(3/133)
الدامغاني، وكانا مقدمي الطائفة الحنفية، وكان بينه وبينهما مناقشة، فوقف أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال أبو الحسن الدامغاني متمثلا:
وما تغني النوادب والبواكي ... وقد أصبحت مثل حديث أمس
وأنشد الزينبي متمثلاً:
عقم النساء فما يلدن شبيهه ... إن النساء بمثله عقم
وكان في خدمته بالمدرسة النظامية ابراهيم بن عثمان الغزي الشاعر المشهور، فرثاه بأبيات منها قوله:
هي الحوادث لا تبقي ولا تذر ... ما للبرية عن محتومها وزر
لو كان ينجي علو من بوائقها ... لم تكسف الشمس، بل لم يخسف القمر
قل للجبان الذي أمسى على حنر ... من الحمام متى رد الردى الحدر؟
بكى على شمسه الإسلام إذ أفلت ... بأدمع قل في تشبيهها المطر
حبر عهدناه طلق الوجه مبتسماً ... والبشر أحسن ما يلقى به البشر
لئن طوته المنايا تحت أخمصها ... فعلمه الجم في الآفاق منتشر
أخا ابن إدريس كنت تورده ... تحار في نظمه الأذهان والفكر
وكان قد سئل في حياته عن يزيد بن معاوية، فقدح فيه، وشطح، وكتب فصلاً طويلاً، ثم قلب الورقة، وكتب: لو مددت بياض لمددت العنان في مجازي هذا الرجل، وقال: هذا الإنسان، وكتب: فلان ابن فلان. قال ابن خلكان: وقد أفتى الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى في مثل هذه المسألة بخلاف ذلك، فإنه سئل عمن صرح بلعن يزيد، هل يحكم بفسقه، أم هل يكون ذلك مرخصاً فيه؟ وهل كان مريداً قتل الحسين رضي الله تعالى عنه أم كان قصده الدفع؟ وهل يسوغ الترحم عليه، أم السكوت أفضل أنعم بإزالة الاشتباه مثاباً؟ فأجاب: لا بجوز لعن مسلم أصلاً، ومن لعن مسلماً فهو الملعون، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: " المسلم ليس بلعان " لما وكيف يجوز لعن مسلم، ولا يجوز لعن البهائم؟ - وقد ورد النهي عن ذلك - وحرمة المسلم أعظم من حرمة الكعبة، بنص النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويزيد صح إسلامه، وما صح قتله للحسين، ولا أمره به، وما لم يصح منه ذلك لا يجوز أن يظن ذلك به، فإن إساءة الظن بالمسلم حرام، وقد قال الله(3/134)
تعالى: " اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم " - الحجرات 12 - وقال النبي صل الله عليه وآله وسلم: " إن الله حرم من المسلم دمه وماله وعرضه وأن يظن به ظن ". ومن زعم أن يزيد أمر بقتل الحسين رضي الله تعالى ورضي به - فينبغي أن يعلم به غاية حماقة، فإن من قتل من الأكابر والوزراء والسلاطين في عصره، لو أراد أحد أن يعلم حقيقة من الذي أمر بقتله، ومن الذي رضي به، ومن الذي - وإن كرهه لم يقدر على ذلك كان قد قتل بجواره وزمانه، وهو يشاهده، فكيف يعلم ذلك فيما أنقضى عليه قريب من أربعمائة سنة في مكان بعيد؟ فهذا لا يعرف حقيقته أصلا، وإذا لم تعرف وجب إحسان الظن بكل مسلم يمكن إحسان الظن به، ومع هذا فالقتل ليس بكفر، بل هو معصية، وربما مات القاتل بعد التوبة، ولو جاز لعن أحد، فسكت عن ذلك، لم يكن الساكت عاصياً، بل لو لم يلعن إبليس طول عمره لا يقال له في القيامة؛ لم لم تلعن إبليس؟ وأما الترحم عليه فإنه جائز، بل مستحب، إذ هو داخل في قوله: اللهم أغفر للمؤمنين والمؤمنات. والله أعلم. - كتبه الغزالي -. قلت: ينبغي أن يوضح الأمر في ذلك ويفصل، وهو أنه لا يخلو: إما أن يعلم أنه أمر بقتله، فلا يخلو، إما أن يكون معتقداً جله، أولا، فإن استحله فقد كفر، وإن أمر به ولى يستحله فقد فسق، فليس القتل مقتضياً للكفر، إلا إذا كان قتلاً لنبي، وإن لم يعلم أنه أمر بقتله فلا يجوز أن يفسق بمجرد ظن ذلك والله أعلم.
سنة خمس وخمس مائة
فيها جاءت عساكر العراق والجزيرة لغزو الفرنج، فنازلوا الرها، فلم يقدروا، ثم ساروا وقطعوا الفرات، ونازلوا بعض بلاد الفرنج خمسة وأربعين يوماً، فلم يصنعوا شيئاً، واتفق موت مقدمهم واختلافهم، فردوا، وطمعت الفرنج في المسلمين، وتجمعوا، فحاصروا صور مدة طويلة. وفيها كانت ملحمة كبيرة بالأندلس بين ابن تاشفين وبعض ملوك الفرنج، وانتصر المسلمون، وأسروا وقتلوا، وغنموا مالاً يعبر عنه، وذلت الفرنج. وفيها توفي أبو محمد الآبنوسي عبد الله بن علي البغدادي المحدث، سمع من أبي القاسم التنوخي والجوهري.(3/135)
وفيها توفي أبو الحسن بن العلاف علي بن محمد البغدادي الحاجب، مسند العراق. وفيها توفي الإمام حجة الإسلام زين الدين أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الغزالي، أحد الأئمة الأعلام، اشتغل في مبدأ أمره بطوس، على أحمد الزادكاني، ثم قدم نيسابور، واختلف إلى دروس إمام الحرمين أبي المعالي الجويني، وجد في الاشتغال حتى تخزج في مدة قريبة، وصار من الأعيان المشاهير المشار إليهم في زمن أساتذتهم، وصنف في ذلك الوقت، وكان أستاذه يتبجح به، ولم يزل ملازماً إلى أن توفي في التاريخ المذكور في ترجمته، فخرج من نيسابور إلى العسكر، ولقي الوزير نظام الملك، فأكرمه، وعظمه، وبالغ في الإقبال عليه، وكان بحضرة الوزير جماعة من الأفاضل، فجرى بينهم الجدال والمناظرة في عدة مجالس، وظهر عليهم، واشتهر اسمه، وسارت بذكره الركبان، ثم فوض إليه الوزير تدريس مدرسته - النظامية - بمدينة بغداد، فجاءها، وباشر إلقاء الدروس بها، وذلك في جمادى الأولى سنة أربع وثمانين وأربعمائة. فعجب به أهل العراق، وارتفعت عندهم منزلته، ثم ترك جميع ما كان عليه، وسلك طريق الزهد والانقطاع، وقصد الحج. وذكر في الشذور أنه خرج من بغداد في سنة ثمان وثمانين وأربع مائة متوجهاً إلى بيت المقدس، متزهداً لابساً خشن الثياب، وناب عنه أخوه في التدريس، ثم ذكره في سنة خمس وخمس مائة. فلما رجع توجه إلى الشام، فأقام بمدينة دمشق مدة يذكر الدروس في زاوية الجامع - في الجانب الغربي منه - وانتقل منها إلى بيت المقدس، واجتهد في العبادة وزيارة المشاهدة والمواضع المنظمة، ثم قصد مصر، وأقام بالاسكندرية مدة، ويقال إنه قصد منها الركوب في البحر إلى بلاد المغرب على عزم الاجتماع بالأمير يوسف بن تاشفين صاحب مراكش - وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى فبينا هو كذلك بلغه نعي يوسف المذكور، فصرف عنانه من تلك الناحية، ثم عاد إلى وطنه بطوس. قلت هذه الزيادة في ذكر دخوله مصر والإسكندرية، وقصده الركوب إلى ملك بلاد المغرب غير صحيحة، فلم يذكر أبو حامد في كتابه: المنقذ من الضلال - سوى إقامته ببيت المقدس ودمشق، ثم حج ورجع إلى بلاده والعجب كل العجب، كيف يذكر أنه قصد الملك المذكور لأرب - وهو من الملوك والمملكة هرب - فقد كان له في بغداد الجاه الوسيع، والمقام الرفيع، فاحتال في الخروج عن ذلك، وتعلل بأنه إلى الحج سالك لأداء ما عليه من فروض المناسك، ثم عدل إلى الشام، وأقام بها ما أقام وكذا علماء التاريخ الحفاظ الأكابر ومنهم الإمام الجليل أبو القاسم ابن عساكر - لم يذكر هذه الزيادة التي تنافي رفع همته عن المقاصد الدنية، لإعراضه عن الدنيا والخلق بالكلية، ولما عاد إلى الوطن اشتغل(3/136)
بنفسه، وآثر الخلوة، وصنف الكتب المفيدة في الفنون العديدة. ومن مشهورات مصنفاته: الوسيط والبسيط والوجيز والخلاصة في الفقه، ومنها إحياء العلوم: وهو من أنفس الكتب وأجملها. وله في أصول الفقه: المستصفى والمنخول والمنتحل في علم الجدل، وتهافت الفلاسفة، ومحك النظر ومعيار العلم، والمقاصد، والمظنون به على غير أهله، ومشكاة الأنوار والمنقذ من الضلال، وحقيقة القولين، وكتاب ياقوت التأويل في تفسير التنزيل أربعين مجلداً، وكتاب أسرار علم الدين، وكتاب منهاج العابدين، والدرة الفاخرة في كشف علوم الآخرة، وكتاب الأنيس في الوحدة، وكتاب القربة إلى الله عز وجل، وكتاب اختلاف الأبرار والنجاة من الأشرار، وكتاب بداية الهداية، وكتاب جواهر القرآن، والأربعين في أصول الدين، وكتاب المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، وكتاب ميزان العمل، وكتاب القسطاس المستقيم، وكتاب التفرقة بين الإسلام والزندقة، وكتاب الذريعة إلى مكارم الشريعة، وكتاب المنادى والغايات، وكتاب كيمياء
السعادة، وكتاب تدليس إبليس لعنه الله. وكتاب نصيحة الملوك، وكتاب الاقتصاد في الاعتقاد، وكتاب شفاء العليل في مسائل التعليل، وكتاب أساس القياس، وكتاب المقاصد، وكتاب إلجام العوام عن علم الكلام، وكتاب الانتصار، وكتاب الرسالة الدينية، وكتاب الرسالة القدسية، وكتاب أبيات النظر، وكتاب المآخذ، وكتاب القول الجميل في الرد على غير الإنجيل، وكتاب المستظهري، وكتاب الأمالي وكتاب في علم اعداد الوقف وحدوده، وكتاب مفصل الخلاف، وجزء في الرد على المنكرين في بعض الفاظ إحياء علوم الدين. وقال يمدحه تلميذه: الشيخ الإمام أبو العباس الأقلشي المحدث الصوفي، صاحب كتاب النجم والكواكب وغيره: لسعادة، وكتاب تدليس إبليس لعنه الله. وكتاب نصيحة الملوك، وكتاب الاقتصاد في الاعتقاد، وكتاب شفاء العليل في مسائل التعليل، وكتاب أساس القياس، وكتاب المقاصد، وكتاب إلجام العوام عن علم الكلام، وكتاب الانتصار، وكتاب الرسالة الدينية، وكتاب الرسالة القدسية، وكتاب أبيات النظر، وكتاب المآخذ، وكتاب القول الجميل في الرد على غير الإنجيل، وكتاب المستظهري، وكتاب الأمالي وكتاب في علم اعداد الوقف وحدوده، وكتاب مفصل الخلاف، وجزء في الرد على المنكرين في بعض الفاظ إحياء علوم الدين. وقال يمدحه تلميذه: الشيخ الإمام أبو العباس الأقلشي المحدث الصوفي، صاحب كتاب النجم والكواكب وغيره:
أبا حامد أنت المخصص بالحمد ... وأنت الذي علمتنا سنن الرشد
وضعت لنا الإحياء يحيي نفوسنا ... وينقذنا من طاعة المارد المردي
فربع عبادات وعاداتها التي ... تعاقبها كالدر نظم في العقد
وثالثها في المهلكات وإنه ... لمنج من الهلك المبرح بل بعدي
ورابعها في المنجيات وإنه ... ليسرح بالأرواح في جنة الخلد
ومنها ابتهاج للجوارح ظاهر ... ومنها صلاح للقلوب من البعد
وكتبه كثيرة، وكلها نافعة، ثم ألزم بالعود إلى نيسابور والتدريس بها بالمدرسة النظامية، فأجاب إلى ذلك بعد تكرار المعاودات، ثم ترك ذلك وعاد إلى بيته في وطنه، واتخذ خانقاها للصوفية، ومدرسة للمشتغلين بالعلم في جواره، ووزع أوقاته على وظائف الخير من ختم القرآن ومجالسه أهل القلوب، والقعود للتدريس، إلى أن انتقل إلى ربه هذا(3/137)
ما ذكره بعض علماء التاريخ. قلت: وكان رضي الله تعالى عنه رفيع المقام، شهد له بالصديقية إلأولياء الكرام، وهو الحبر الذي باهى به المصطفى سيد الأنام موسى وعيسى - عليه وعليهما أفضل الصلاة والسلام - في المنام الذي رويناها بإسنادنا العالي عن الشيخ الإمام القطب أبي الحسن الشاذلي والذي أنتشر فضله في الآفاق. وتميز بكثرة التصانيف وحسنها على العلمماء، وبرع في الذكاء وحسن العبارة وسهولتها، وأبدع، خى صار إفحام الفرق عنده أسهل من شرب الماء. قال الشيخ الإمام الحافظ ذو المناقب والمفاخر السيد الجليل أبو الحسن عبد الغافر الفارسي: محمد بن محمد بن محمد أبو حامد الغزالي حجة الإسلام والمسلمين، إمام أئمة الدين، لم تر العيون مثله لساناً وبياتاً ونطقاً وخاطراً وذكاء وطبعاً، ابتدأ في صباه بطرف في الفقه في طوس، على الفقيه الإمام أحمد الزادكاني، ثم قدم نيسابور مختلفاً إلى درس إمام الحرمين في طائفة من الشبان من طوس، وجد واجتهد حتى تخرج عن مدة قريبة، وصار أنظر أهل زمانه، وأوحد أقرانه في أيام إمام الحرمين، فكانت الطلبة يستفيدون منه، ويدرس لهم، ويرشدهم، ويجتهد في نفسه، وبلغ الأمر به إلى أن أخذ في التصنيف. وكان الإمام - مع علو درجته وسمو عبارته وسرعة جريه في المنطق والكلام لا يصفي نظره إلى الغزالي سراً، لإنافته عليه في سرعة العبارة، وقوة الطبع، ولا يطيب له تصديه للتصنيف - وإن كان متخرجاً به منتسباً إليه، كما لا يخفى من طبع البشر - ولكنه يظهر التبحح به والاعتداد بمكانه ظاهر أخلاق ما يضمره.
ويقال على ما ذكره بعض المؤرخين أنه لما صنف كتابه المنخول، عرضه على إمام الحرمين فقال: دفنتني وأنا حي، فهلا صبرت إلى أن أموت؟ لأن كتابك غطى على كتابي.
هكذا نقل عن إمام الحرمين - والله أعلم مع كونه بالمحل للذي شهد له بفضله الجملة من أفراد الأئمة، من ذلك ما تقدم عن الإمام السمعاني أن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي قال: تمتعوا بهذا الإمام، فإنه نزهة هذا الزمان، يعني أبا المعاني الجويني - رحمة الله عليهم أجمعين -، وما تقدم من وصفه بإمام الأئمة على الإطلاق، وغير ذلك مما اشتهر من وصفه بالفضائل، وبراعته في العلوم في الآفاق، ثم بقي كذلك إلى أن انقضى أيام الإمام، فخرج من نيسابور، وسار إلى العسكر، واحتل من مجلس نظام الملك محل القبول، وأقبل عليه الصاحب لعلو درجته وظهور اسمه وحسن مناظرته وجري عبارته، وكانت تلك الحضرة محط رحال العلماء ومقصد الأئمة والفصحاء، فوقعت للغزالي اتفاقات حسنة من الاحتكاك(3/138)
بالأئمة وملاقاة الخصوم ومناظرة الفحول ومناقدة الكبار، وظهر اسمه في الآفاق، وارتفق بذلك أكمل الارتفاق، حتى أدت الحال به إلى أن رسم للمصير إلى بغداد للتدريس بالمدرسه الميمونة النظامية بها، فصار إليها، وأعجب الكل تدريسه ومناظرته، وما لقي مثل نفسه، وصار بعد إمامة خراسان إمام العراق، ثم نظر في علم الأصول - وكان قد أحكمه - فصنف فيه، وجدد المذهب في الفقه، فصنف فيه تصانيف، وسبك الخلاف، فحرر فيه أيضاً تصانيف، وعلت حشمته ودرجته في بغداد حتى كادت تغلب حشمة الأكابر وأمراء دار الخلافة، فانقلب الأمر من وجه آخر، وظهر عليه بعد ممارسة العلوم الدقيقة، وممارسة الكتب المصنفة فيها، وسلك طريق التزهد والتألة، وترك الحشمة، وطرح ما نال من الدرجة، ولازم الاشتغال بأسباب التقوى وزاد الآخرة، فخرج عما كان فيه، وقصد بيت الله تعالى، وحج ودخل الشام، وأقام في تلك الديار قريباً من عشر سنين، يطوف ويزور المشهد المعظمة. قلت: هكذا ذكر بعض المؤرخين، وقد قدمت في فساد ذلك من البيان ما يدل فيه على البطلان، والمعروف الذي نص عليه أبو حامد في بعض كتبه أنه أقام في الشام سنتين، نعم، ذكروا أنه أقام بعد رجوعه في العزلة والخلوات، وترك الاشتغال والمخالطات قريباً من عثسرسنين. قال الشيخ عبد الغفار: وأخذ في التصانيف المشهورة التي لم يسبق إليها، مثل إحياء علوم الدين، والكتب المختصرة مثل الأربعين وغيرها من الرسائل التي من تأملها علم محل الرجل من فنون العلم، وأخذ في مجاهدة النفس وتغيير الأخلاق وتحسين الشمائل، فانقلب شيطان الرعونة وكلب الرئاسة والجاه، والتخلق بالأخلاق الذميمة إلى سكون النفس وكرم الأخلاق، والفراغ عن الرسوم والتزينات والتزيي بزي الصالحين، وقصر الأمل ووقف الأوقات، أو قال: الأوقاف على هداية الخلق ودعائهم إلى ما يعنيهم في أمر الآخرة وتبغيض الدنيا، والاشتغال بها على السالكين، والاستعداد للرحيل للدار الآخرة الباقية، والانقياد لكل من يتوسم فيه، أو يشم منه رائحة المعرفة، أو يلحظ بشيء من أنوار المشاهدة، حتى مرن على ذلك ولان، ثم عاد الى وطنه ملازماً بيته، مشتغلاً بالتفكر، ملازماً للوقت مقصوداً تقياً، وذخراً للقلوب ولكل من يقصده، ويدخل عليه إلى أن أتى على ذلك مدة، وظهرت التصانيف، وفشت الكتب، ولم تبد في أيامه مناقضة لما كان عليه، ولا اعتراض لأحد على ما آثره، حتى انتهت نوبة الوزارة إلى الأجل فخر الملك جمال الشهداء تغمده الله(3/139)
بغفرانه -، وتزينت خراسان بحشمته ودولته، وقد سمع وتحقق بمكانة الغزالي ودرجته، وكمال فضله وجلالته، وصفاء عقيدته ومعاشرته وقفاء سيرته، فتبرك به وحضره، وسمع كلامه، فاستدعى منه أن لا يبقي أنفاسه وفوائده عقيمة لا استفادة منها، ولا اقتباس من أنوارها، وألح عليه كل الإلحاح، وشدد في الاقتراح إلى أن أجاب إلى الخروج، وخرج إلى نيسابور، وكان الليث غائباً عن عرينه، والأمر خافياً في مستور قضاء الله ومكنونه، فأشير إليه بالتدريس في المدرسة الميمونة النظامية وغيرها، فلم يجد بداً من الإذعان للولاة، ونوى بإظهار ما اشتغل به هداية السراة وإفادة القاصدين، لا الرجوع إلى ما انخلع عنه، وتحرز عن رقه من طلب الجاه ومماراة الأقران، ومكاثرة المعاندين وكم فرع عصا الخلاف فيه، والوقوع فيه والطعن فيما يذره ويأتيه، والسماية به والتشنيع عليه، فما تأثر به، ولا اشتغل بجواب الطاعنين، ولا أظهر استيحاشاً لغمرة المخالفين، قال: ولقد زرته مراراً، وما كنت أحدث في نفسي مما عهدته في سالف الزمان عليه
من الدعارة، أو قال: من الزعارة وإيحاش الناس والنظر إليهم بعين الازدراء، والاستحقار لهم كبراً وخيلاء، واغتراراً بما رزق من البسطة في النطق والخاطر والعبارة، وطلب الجاه والعلو في المنزلة، وكنت أظن أنه متلفح بجلباب التكلف والتيمن بما صار إليه، فتحققت بعد التروي والتنقير أن الأمر على خلاف المظنون، وأن الرجل أفاق بعد الجنون. من الدعارة، أو قال: من الزعارة وإيحاش الناس والنظر إليهم بعين الازدراء، والاستحقار لهم كبراً وخيلاء، واغتراراً بما رزق من البسطة في النطق والخاطر والعبارة، وطلب الجاه والعلو في المنزلة، وكنت أظن أنه متلفح بجلباب التكلف والتيمن بما صار إليه، فتحققت بعد التروي والتنقير أن الأمر على خلاف المظنون، وأن الرجل أفاق بعد الجنون.
وحكي لنا في ليل كيفية أحواله من ابتداء ما ظهر له سلوك طريق التأله وغلبت الحال عليه بعد تبحره في العلوم واستطالته على الكل بكلامه، والإستعداد بالذي خصه الله تعالى به في تحصيل العلوم، وتمكنه من البحث والنظر حتى تنزه عن الاشتغال بالعلوم العربية عن المقالة، وتفكر في العاقبة وما يجدي وينفع في الآخرة، فابتدأ بصحبة الفارمذ، وأخذ مفتاح الطريقة، وامتثل ما كان يشير به عليه من القيام بوظائف العبادات والإمعان في النوافل، واستدامة الإذكار والجد والاجتهاد، طلباً للنجاة، إلى أن جاز تلك العقابات، وتكلف تلك المشاق وما يحصل على، ما كان يطلبه من مقصوده، ثم حكى أنه راجع العلوم وخاض في الفنون، وعاود الجد والاجتهاد في كتب العلم الدقيقة، واقتفى بأربابها حتى انفتح له أبوابها، وبقي مدة في الوقائع، وتكافؤ الأدلة وأطراف المسائل، ثم حكى أنه فتح عليه من باب الخوف باب بحيث شغله عن كل شيء وحمله على الإعراض عما سواه تعالى، حتى سهل ذلك، وهكذا إلى أن ارتاض كل الرياضة، وظهرت له الحقائق، وصار ما كنا نظن به ناموساً وكلف طبعاً وتحققاً، وأن ذلك أثر السعادة المقدرة له، من الله تعالى، ثم(3/140)
سألناه عن كيفتة الرغبة في الخروج عن بيته، والرجوع إلى ما دعي إليه من أمر نيسابور، فقال معتذراً عنه: ما كنت أجوز في ديني أن أقف عن الدعوة ومنفعة الطالبين بالإفادة، وقد حق علي أن أبوح بالحق، وأنطق به، وأدعو إليه، وكان صادقاً في ذلك، ثم ترك ذلك قبل أن يترك، وعاد إلى بيته، واتخذ في جواره مدرسة لطلبة العلم وخانقاهاً للصوفية، وكان قد وزع أوقاته على وظائف الحاضرين من ختم القرآن ومجالسة أهل القلوب والقعود للتدريس، بحيث لا تخلو لحظة من لحظاته ولحظات من معه عن فائدة، إلى أن أصابه عين الزمان ومن الأيام به على أهل عصره، فنقله الله تعالى إلى كريم جواره من بعد مقاسات أنواع من التقصد والمناوأة من الخصوم، والسعي به إلى الملوك، وكفاية الله تعالى وحفظه وصيانته عن أن تنوشه أيدي النكبات، أو ينتهك ستر دينه بشيء من الزلات. وكانت خاتمة أمره إقباله على حديث المصطفى - صلى الله عليه وآله وسلم - ومجالسة أهله ومطالعة الصحيحين: البخاري والمسلم اللذين هما حجة الإسلام، ولو عاش لسبق الكل في ذلك الفن في يسير من الأيام يستفزعه في تحصيله، ولا شك أنه سمع الأحاديث في الأيام الماضية، واشتغل في آخر عمره بسماعها، ولم تتفق له الرواية، وما خلف من الكتب المصنفة في الأصول والفروع وسائر الأنواع يخلد ذكره، ويقرر عند المطالعين المنصفين المستفيدين منها أنه لم يخلق مثله بعده، ومضي إلى رحمة الله تعالى يوم الاثنين الرابع عشر من جمادى الآخرة سنة خمس وخمسمائة، خصه الله تعالى بأنواع الكرامة في آخرته، كما خصه بفنون العلم بدنياه بمنة ورحمته. وقلت إلى شيء من ذكر ارتفاع مناقبه وبحر علوم كتبه - أشرت - والانتفاع في بعض القصيدات بقولي في هذه الأبيات:
وأحيا علوم الدين طالعه ينتفع ... ببحر علوم المستنير المحصل
أبي حامد الغزال غزل مدقق ... من الغزل لم يغزل كذاك بمغزل
دعي حجة الإسلام لا شك أنه ... لذلك كفؤ كامل للتأهل
له في منامي قلت: إنك حجة ... لإسلامنا لي قال: ما شئت لي قل
وقلت في أخرى:
بناكم وجير من بناء قواعد ... وجمع معان واختصار مطول
وكم من بسيط في جلاء نفائس ... وإيضاح إيجاز وحل لمشكل
وكم ذي اقتصار مودع رب قاطع ... لإفحام خصم مثل ماض به اعتل
بكف همام ذب عن منهج الهدى ... بحرب نصال لا يرى غير أول
كمثل الفتى الحبر المباهي بفضله ... فعنى بغزال العلى وتغزل(3/141)
به المصطفى باهي لعيسى ابن مريم ... جيليل العطايا والكليم المفضل
أعندكما حبر كهذا فقيل: لا ... وناهيك في هذا الفخار المؤثل
رآه الولي الشاذلي في منامه ... وترويه عنه من طريق مسلسل
تصانيفه فاقت بنفع وكثرة ... وحلة حسن كم بها لعزيز قل
وكم حجة الإسلام حاز فضيلة ... وكم حلة حسناتها فضله جلي
بها جاهل مع حاسد طاعن فذا ... تعامى وعنها ذاك أعمى قد ابتلي
وما ضر سلمى ذم عالي جمالها ... ومنظرها الباهي ومنطقها الحلي
لئن ذمها جاراتها ونضائر ... وعين جمالاً في حلاها وفي الحلي
فما سلمت حسناء عن ذم حاسد ... وصاحب حق من عداوة مبطل
ولم يعقب إلا البنات، وكان يعرض عليه الأموال فما يقبلها، ويعرض عنها، ويكتفي بالقدر الذي يصون له دينه، ولا يحتاج معه إلى التعرض لسؤال. قال الإمام الحافظ أبو القاسم ابن عساكر - رحمة الله عليه -: سمعت الإمام الفقيه أبا القاسم سعد بن علي بن أبي هريرة الاسفرائيني الصوفي الشافعي بدمشق قال: سمعت الشيخ الإمام الأوحد زين القراء جمال الحرم أبا الفتح عامر بن بحام بن أبي عامر الساوي بمكة - رحمه الله تعالى - يقول: دخلت المسجد الحرام يوم الأحد فيما بين صلاة الظهر والعصر الرابع عشر عن شوال سنة خمس وأربعين وخمسمائة - وذكر شيئاً ظهر عليه من الوجد وأحوال الفقراء - قال: فكنت لا أقدر أن أقف، ولا أجلس لشدة ما بي، فكنت أطلب موضعاً أستريح فيه ساعة على جنبي، فرأيت باب بيت الجماعة للرباط الراسي عند باب المروة مفتوحاً، قلت: يعني في جهة الباب المسمى في الحديث الحزور، قال: فقصدته، ودخلت فيه، وقعت على جنبي الأيمن بحذاء الكعبة المشرفة مفترشاً يدي تحت خدي، لكيلا يأخذني النوم، فينقض طهارتي، فإذا برجل من أهل البدعة معروف بها، جاء ونشر مصلاه على باب ذلك البيت، وأخرج لوحاً من جيبه أظنه كان من الحجر، وعليه كتابة، فقبله ووضعهه بين يديه، وصلى صلاة طويلة مرسلاً يديه فيها على عادتهم، وكان يسجد على ذلك اللوح في كل مرة، فإذا فرغ من صلاته سجد عليه وأطال فيه، وكان يمعك خده من الجانبين عليه، ويتضرع في الدعاء ثم رفع رأسه وقبله ووضعه على عينيه، ثم قبله ثانياًوأدخله في جيبه كما كان.(3/142)
فلما رأيت ذلك كرهته، واستوحشت منه، وقلت في نفسي؛ ليت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كان حياً فيما بيننا، ليخبرهم بسوء صنيعهم، وما هم عليه من البدعة ومع هذا التفكر كنت أطرد النوم عن نفسي كيلا يأخذني فيفسد طهارتي، فبينا أنا كذلك إذ طرأ علي النعاس وغلبني، فكنت بين اليقظة والمنام، فرأيت عرصة واسعة فيها ناس كثيرون واقفون، وفي يد كل واحد منهم كتاب مجلد، قد تحلقوا كلهم على شخص، فسألت الناس عن حالهم، وعمن في الحلقة فقالوا: هذا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وهؤلا أصحاب المذهب، يريدون أن يقرؤوا مذاهبهم واعتقادهم من كتبهم على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يصححوها عليه، قال: فبينا أنا كذلك أنظر إلى القوم، إذ جاء واحد من أهل الحلقة - وبيده كتاب - قيل إن هذا هو الشافعي - رضي الله تعالى عنه - فدخل وسط الحلقة، وسلم على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فرأيت رسول الله - صلى الله على وآله وسلم - في جماله وكماله لابساً الثياب البيض النظيفة، من العمامة والقميص وسائر الثياب على زي أهل الصوف، فرد عليه الجواب، ورحب به، وقعد الشافعي بين يديه، وقرأ من الكتاب مذهبه واعتقاده، وجاء بعد ذلك شخص آخر قيل هو الإمام الأعظم أبو حنيفة الكوفي - رضي الله تعالى عنه - وبيده كتاب، فسلم وقعد يمين الشافعي، وقرأ من الكتاب مذهبه واعتقاده، ثم أتى بعده كل صاحب مذهب إلى أن لم يبق إلا القليل، وكل من يقرأ يقعد بجنب الآخر. فلما فرغوا، إذا واحد من المبتدعة الملقبة بالرافضة - لعنهم الله - قد جاء وبيده كراريس غير مجلدة، وفيها ذكر عقائدهم الباطلة، وهم أن يدخل الحلقة، ويقرأها على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فخرج واحد ممن كان مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وزجره، وأخذ الكراريس من يده، ورمى بها إلى خارج الحلقة وطرده، وأهانه. قال: فلما رأيت أن القوم قد فرغوا، وما بقي أحد يقرأ عليه شيئاً تقدمت قليلاً - وكان
في يدي كتاب مجلد - فناديت وقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا الكتاب معتقدي ومعتقد أهل السنة، لو أذنت لي حتى أقرأه عليك؟ فقال - عليه السلام -: وإيش ذلك؟ قلت: يا رسول الله، هو قواعد العقائد الذي صنفه الغزالي، فأذن لي في القراءة، فقعدت وابتدأت: بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب قواعد العقائد، وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: عقيدة أهل السنة في كلمتي الشهادة التي هي أحد مباني الإسلام. وذكر أنه قرأ العقيدة المذكورة إلى أن انتهى إلى قول الإمام أبي حامد: معنى الكلمة الثانية: وهي شهادة الرسول، وأنه - تعالى - بعث النبي الأمي القرشي محمد - صلى الله عليه(3/143)
وآله وسلم - إلى كافة العرب والعجم والجن والأنس، قالى: فلما بلغت إلى هذا رأيت البشاشة والتبسم في وجه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى إذا انتهيت إلى نعته وصفته التفت إلي وقال: أين - الغزالي؟ فإذا بالغزالي كأنه كان واقفاً على الحلقة بين يديه، فقال: ها أنا ذا، يا رسول الله، وتقدم، وسلم على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فرد عليه الجواب، وناوله يده العزيزة والغزالي يقبل يده المباركة، ويضع خديه عليها تبركاً وبيده العزيزة المباركة، ثم قعد وقال: فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أكثر استبشاراً بقراءة أحد، مثلما كان بقراءتي عليه قواعد العقائد. ثم انتبهت من النوم وعلى عيني أثر الدمع مما رأيت من تلك الأحوال والكرامات -، فإنها كانت نعمة جسيمة من الله تعالى - سيما في آخر الزمان مع كثرة الأهواء - فنسأل الله تعالى أن يثبتنا على عقيدة أهل الحق، ويحيينا عليها، ويميتنا عليها، ويحشرنا معهم، ومع الأنبياء والمرسلين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، فإنه بالفضل جدير، وعلى ما يشاء قدير والغزالي - بفتح الغين المعجمة وتشديد الزاي وبعد الألف لام. قال ابن خلكان: هذه النسبة إلى الغزال على عادة أهل خوارزم وجرجان، فإنهم ينسبون إلى القصار القصاري، إلى العطار والعطاري، وقيل إن الزاي مخففة نسبة إلى غزالة، وهي قرية من قرى طوس، قال: وهو خلاف المشهور، ولكن هكذا قال السمعاني في كتاب الأنساب والله أعلم بالصواب. قلت وفضائل الإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي - رضي الله تعالى عنه - أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تشهر. وقد روينا عن الشيخ الفقيه الإمام العارف بالله، رفيع المقام الذي اشتهرت كرامته العظيمة، وترادفت، وقال للشمس يوماً؛ قفي، فوقفت حتى بلغ المنزل الذي يريد من مكان بعيد. عن أبي الذبيح اسماعيل ابن الشيخ الفقيه الإمام ذي المناقب والكرامات والمعارف: محمد بن اسماعيل الحضرمي - قدس الله أرواح الجميع - أنه سأله بعض الطاعنين في الإمام أبي حامد المذكور - رضي الله تعالى عنه - في فتيا أرسل بها إليه: هل يجوز قراءة كتب الغزالي؟ فقال رضي الله عنه في الجواب: إنا لله، وإنا إليه راجعون، محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وآله وسلم - سيد الأنبياء، ومحمد بن إدريس سيد الأئمة، ومحمد بن محمد بن محمد الغزالي سيد المصنفين، هذا جوابه رحمة الله عليه. وقد ذكرت في كتاب الإرشاد أنه سماه سيد المصنفين، لأنه تميز عن المصنفين بكثرة(3/144)
المصنفات البديعات، وغاص في بحر العلوم، واستخرج عنها الجواهر النفيسات، وسحر العقول يحسن العبارة وملاحة الأمثلة وبداعة الترتيب والتقسيمات والبراعة في الصناعة العجيبة، مع جزالة الألفاظ وبلاغة المعاني الغريبات، والجمع بين علوم الشريعة والحقيقة، والفروع والأصول، والمعقول والمنقول، والتدقيق والتحقيق، والعلم والعمل، وبيان معالم العبادات والعادات، والمهلكات والمنجيات، وأبراز محاسن أسرار المعارف المحجبات العاليات، والانتفاع بكلامه علماً وعملاً لا سيما أرباب الديانات - والدعاء إلى الله سبحانه برفض الدنيا والخلق ومحاربة الشيطان والنفس، بالمجاهدة والرياضيات، وإفحام الفرق أيسر عنلى من شرب الماء: بالبراهين القاطعة، وتوبيخ علماء السوء الراكنين إلى الظلمة والمائلين إلى الدنيا الدنية، أولي الهمم الدنيات، وغير ذلك مما لا يحصى مما جمع في تصانيفه من المحاسن الجميلات والفضائل الجليلات، مما لم يجمعه مصنف - فيما علمنا - ولا يجمعه فيما نظن، ما دامت الأرض والسماوات، فهو سيد المصنفين عند المنصفين، وحجة الإسلام عند أهل الاستسلام لقبول الحق من
المحققين في جميع الأقطار والجهات، وليس يعني أن تصانيفه أصح، فصحيحا البخاري ومسلم أصح الكتب المصنفات. وقد صنف الشيخ الفقيه الإمام المحدث شيخ الإسلام، عمدة المسندين ومفتي المسلمين، جامع الفضائل قطب الدين: محمد ابن الشيخ الإمام العارف أبي العباس القسطلاني - رضي الله تعالى عنهما - كتاباً أنكر فيه على بعض الناس، وأثنى على الإمام أبي حامد الغزالي ثناء حسناً، وذم إنساناً ذمة، قال في أثناء كلامه: ومن نظر في كتب الغزالي وكثرة مصنفاته وتحقيق مقالاته، عرف مقداره، واستحسن آثاره، واستصغر ما عظم من سواه، وعظم قدره فيما أمده الله به من قوله، ولا مبالاة بحاسد قد تعاطى ذمة أو معانداً، بعده الله عن إدراك معاني بهمة، فهو كما قيل: في جميع الأقطار والجهات، وليس يعني أن تصانيفه أصح، فصحيحا البخاري ومسلم أصح الكتب المصنفات. وقد صنف الشيخ الفقيه الإمام المحدث شيخ الإسلام، عمدة المسندين ومفتي المسلمين، جامع الفضائل قطب الدين: محمد ابن الشيخ الإمام العارف أبي العباس القسطلاني - رضي الله تعالى عنهما - كتاباً أنكر فيه على بعض الناس، وأثنى على الإمام أبي حامد الغزالي ثناء حسناً، وذم إنساناً ذمة، قال في أثناء كلامه: ومن نظر في كتب الغزالي وكثرة مصنفاته وتحقيق مقالاته، عرف مقداره، واستحسن آثاره، واستصغر ما عظم من سواه، وعظم قدره فيما أمده الله به من قوله، ولا مبالاة بحاسد قد تعاطى ذمة أو معانداً، بعده الله عن إدراك معاني بهمة، فهو كما قيل:
قل لمن عن فضائله تعامنى ... تعام، لن تعدم الحسناء ذاما
هذا بعض كلامه بحروفه، وقال بعض العلماء المالكية والمشايخ العارفين الصوفية، الناس من فضلة علوم الغزالي، معناه: أنهم يستمدون من علومه ومدده، ويستعينون بها على ما هم بصدده، زاده الله تعالى فضلاً ومجداً على رغم الحساد والعدى. قلت وقد اقتصرت على هذا القدر اليسير من محاسنه وفضله الشهير، محتوياً بذكر شيء مما له من الفضل الباهر والجاه والنصيب الوافرة، وشرف المجد والمفاخر، مما روينا بالأسانيد العالية عن السادة الأكابر، أعني: أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بتعزير(3/145)
من أنكر عليه ونعم الأمر - حتى إن المنكر ما مات إلا وأثر السوط على جسمه ظاهر بنصر الله عز وجل - ونعم الناصر. وفي السنة المذكورة توفي أبو الهيجاء مقاتل بن عطية بن مقاتل البكري الحجازي الملقب بشبل الدولة، كان من أولاد أمراء العرب، فوقعت بينه وبين إخوته وحشة أوجبت رحلته عنهم، ففارقهم، ووصل إلى بغداد، ثم خرج إلى خراسان، واختص بالوزير نظام الملك، وصاهره، ولما قتل نظام الملك رثاه ببيتين تقدم ذكرهما في ترجمته، ثم عاد إلى بغداد، وأقام بها مدة، وعزم على قصد كرمان، مسترفداً وزيرها مكرم بن العلاء وكان من الأجواد فكتب إلى المستظهر بالله قصته، يلتمس منه الإنعام عليه بكتاب إلى الوزير المذكور، يتضمن الإحسان إليه، فوقع المستظهر على رأس قصته: يا أبا الهيجاء، أبعدت النجع، أسرع الله بك الرجعة، وفي ابن العلاء مقنع، فطريقته في الخير مهي، وما يسر به إليك، فيحلي ثمره سكره، ويستعذب مياه بره، والسلام. فأكتفى أو الهيجاء بهذه الأسطر، واستغنى عن الكتاب، وتوجه إلى كرمان، فلما وصلها قصد حضرة الوزير، واستأذن في الدخول فأذن له، فدخل عليه، وعرض عليه رأيه القصة، فلما رآها قام وخرج عن دسته إجلالاً وتعظيماً لكاتبها، وأوصل لأبي الهيجاء ألف دينار في ساعته، ثم عاد إلى دسته، فعرفه أبو الهيجاء أن معه قصيدة يمدحه بها، فاستنشده إياها فأنشده:
دعي العيس تذرع عرض الفلا ... إلى ابن العلاء وإلا فلا
فلما سمع الوزير هذا البيت أطلق له ألف دينار آخر، ولما كمل إنشاد القصيدة أطلق له ألف دينار آخر، وخلع عليه وقاد إليه جواداً يركبه، وقال له: دعاء أمير المؤمنين مسموع ومرفوع، وقد دعا لك بسرعة الرجوع، وجهز بجميع ما يحتاج إليه، ورجع إلى بغداد، وكان من جملة الأدباء الظرفاء، وله النظم الفائق الرائق، وبينه بين العلامة أبي القاسم الزمخشري مكاتبات وأشعار، يمدح كل منهما الآخر.(3/146)
؟؟؟؟؟
سنة ست وخمس مائة
فيها وقيل في التي تليها: توفي أبو غالب أحمد بن محمد الهمداني العدل، وأبو القاسم اسماعيل بن الحسين القريض، والفضل بن محمد القشيري النيسابوري الصوفي، وأبو سعد المعمر بن علي البغدادي، الحنبلي الواعظ المفتي، كان يبكي الحاضرين ويضحكهم، وله قبول زائد وسرعة جواب، وحدة خاطر وسعة دائرة، روى عن ابن غيلان وأبي محمد الجلال.
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
سنة سبع وخمس مائة
في المحرم منها التقى عسكر دمشق والجزيرة، وعسكر الفرنج بأرض طبرية وكانت وقعة مشهورة قتلهم المسلمون فيها قتلاً ذريعاً، وأسروهم، وممن أسر ملكهم ابن صاحب القدس، لكن لم يعرف، فبذل شيئاً للذي أسره، فأطلقه، ثم أنجدهم عسكر أنطاكية وطرابلس، ورد المنهزمون، فثبت لهم المسلمون، وانحاز أعداء الله إلى جبل، ورابط الناس بإزائهم يرمونهم، وأقاموا كذلك سبعة وعشرين يوماً، ثم سار المسلمون فنهبوا بلاد الفرنج وضياعهم ما بين القدس إلى عكا، وردت عساكر الموصل، وتخلف مقدمهم مودود بدمشق، وأمر العساكر بالقدوم في الربيع، فوثب على مودود باطني يوم جمعة، فقتله، وقتل الباطني. وفيها توفي أبو بكر الحلواني أحمد بن علي بن بدران، وكان ثقة متعبداً زاهداً، روى عن القاضي أبي الطيب الطبري وطائفة. وفيها توفي رضوان صاحب حلب ابن تاج الدولة السلجوقي، ومنه أخذت الفرنج أنطاكية، وملكوا بعده ابنه ألب أرسلان الأخرس. وفيها توفي أبو غالب شجاع بن فارس الذهلي السهروردي ثم البغدادي الحافظ، نسخ ما لا ينحصر من التفسير والحديث والفقه لنفسه وللناس، حتى إنه كتب شعر ابن الحجاج سبع مرات. وفيها توفي الشاشي المعروف بالمستظهري: فخر الإسلام أبو بكر محمد بن أحمد بن الحسين شيخ الشافعية، كان فقيه وقته، تفقه أولاً على أبي عبد الله محمد بن بيان الكازروني(3/147)
وعلى القاضي أبي منصور الطوسي صاحب أبي محمد الجويني. ثم رحل إلى بغداد، ولازم الشيخ أبا إسحاق الشيرازي رحمه الله وقرأ عليه، وأعاد عنده، وقرأ كتاب الشامل في الفقه على أبي نصر بن الصباغ، ودخل نيسابور صحبة الشيخ أبي إسحاق، وتكلم في مسألة بين يدي إمام الحرمين، فأحسن فيها، وعاد إلى بغداد. وذكر الحافظ عبد الغافر الفارسي في تاريخ نيسابور: وتعين في الفقه بعد أستاذه أبي إسحاق، وانتهت إليه رئاسة الطائمة الشافعية، وصنف تصانيف حسنة منها: كتاب حلية العلماء في المذهب، ذكر فيه مذهب الشافعي، ثم ضم إلى كل مسألة اختلاف الأئمة فيها، وجمع من ذلك شيئاً كثيراً وسماه: المستظهري، وصنف أيضاً في الخلاف، وتولى التدريس بالمدرسة النظامية بمدينة بغداد، وكان قد وليها قبله الشيخ أبو إسحاق وأبو نصر بن الصباغ صحب الشامل، وأبو سعد المتولي صاحب تتمة الإبانة وأبو حامد الغزالي والكيا الهراسي وقد سبق ذكر ذلك في ترجمه كل واحد منهم فلما انقرضوا تولاها هو. وحكى بعض المشايخ من علماء المذهب أنه يوماً ذكر المدرسين، فوضع منديله على عينيه، وبكى كثيراً - وهو جالس على السدة التي جرت عادة المدرسين بالجلوس عليها، وكان ينشد:
خلت الديار فسدت غير مسود ... ومن العناء تفردي بالسؤدد
وجعل يردد هذا البيت ويبكي، قيل: هذا إنصاف منه، واعتراف لمن تقدمه بالفضل والرجحان عليه. قلت وقد يقع مثل هذا البكاء ممزوجاً بفرح بما صار إليه، وقد فرق العلماء بين بكاء الحزن والفرح بأن دمعة ذلك حارة، ودمعة هذا باردة، ذكروا ذلك عند بكاء البكر وقت استئذانها في نكاحها. والبيت المذكور من جملة أبيات في الحماسة. وفي السنة المذكورة توفي الحافظ ذو الرحلة الواسعة والتصانيف: محمد بن طاهر المقدسي المعروف بابن القيسراني كان أحد الرحالين في طلب الحديث، سمع بالحجاز والشام ومصر والثغور والجزيرة والعراق والجبال وفارس، وخوزستان وخراسان واستوطن همذان. وكان من المشهورين بالحفظ والمعرفة لعلوم الحديث، وله في ذلك مصنفات ومجموعات تدل على غزارة علمه وجودة معرفته، منها أطراف الكتب الستة: وهي صحيحا البخارى ومسلم، وسنن أبي داود والترمذي والنسائي، وسنن ابن ماجة سادسها عند بضهم والموطأ عند بعض. وأطراف الغرائب: تصنيف الدارقطني، وكتاب الأنساب في(3/148)
جزء لطيف، وهو الذي ذيله الحافظ أبو موسى الأصبهاني، وغير ذلك من الكتب، وله شعر حسن كتب عنه غير واحد من الحفاظ، ثم رجع إلى بيت المقدس، فأحرم من ثم إلى مكة، وتوفي عند قدومه من الحج آخر حجاته يوم الجمعة لليلتين بقيتا من شهر ربيع الأول من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.
والقيسراني بفتح القاف والسين المهملتين بينهما مثناة من تحت ثم راء مفتوحة وبعد الألف نون نسبة إلى قيسارية: بليدة بالشام على ساحل البحر، سمع بالقدس وبغداد ونيسابور وهراة وأصفهان وشيراز والري ودمشق ومصر. قال الحافظ اسماعيل بن محمد بن الفضل: أحفظ من رأيت: محمد بن طاهر. وقال السلفي: سمعت ابن طاهر يقول: كتبت البخاري ومسلماً وسنن أبي داود وابن ماجة سبع مرات. وفيها توفي أبو المظفر محمد بن أبي العباس الأموي المعاوي اللغوي الشاعر الأخباري النسابه، صاحب التصانيف، والفصاحة والبلاغة، وكان رئيساً عالي الهمة ذا سلف، توفي بأصبهان مسموماً، ومن شعره قوله:
ملكنا أقاليم البلاد فأذعنت ... لنا رهبة أو رغبة عظماؤها
فلما انتهت أيامنا علقت بنا ... شدائد أيام قليل رجاؤها
وكان إلينا في السرور ابتسامها ... فصار علينا في الهموم بكاؤها
وصرنا نلاقي النائبات بأوجه ... رقاق الحواشي كاد يقطر ماؤها
إذا ما هممنا أن نبوح بما جنت ... علينا الليالي لم يدعنا جناؤها
وله تصانيف كثيرة منها: المؤتلف والمختلف، وطبقات كل فن، وما اختلف وائتلف في أنساب العرب، وله في اللغة مصنفات لم يبسق إلى مثلها، وكان حسن السيرة جميل الأمر. وفيها توفي ابن اللبانة محمد بن عيسى اللغوي الأندلسي الأديب، ومن جملة الأدباء وفحول الشعراء، له تصانيف عديدة في الآداب، وكان من شعراء دولة المعتمد بن عباد. وفيها توفي المؤتمن بن أحمد أبو نصر الربعي الحافظ، ويعرف بالساجي حافظ،(3/149)
محقق واسع الرحلة، كثير الكتابة، متين الورع والديانة، وكتب الشامل عن مؤلفه ابن الصباغ.
سنة ثمان وخمس مائة
فيها هلك صاحب القدس من جراحة أصابته يوم مصاف طبرية المذكور فيما مضى. وفيها مات أحمد بك صاحب مراغة، وكان شجاعاً جواداً عسكره خمسة آلاف، فنكثت به الباطنية.
وفيها توفي أحمد بن غلبون أبو عبد الله الخولاني ثم القرطبي ثم الإشبيلي، وكان صالحاً خيراً عالي الإسناد، منفرداً. وألب أرسلان صاحب حلب، وابن صاحبها رضوان السلجوقي، وكان سيىء السيرة فاسقاً، فقتله البابا، فأقام أخاه مقامه، وكان طفلاً له ست سنين، ثم قتل البابا سنة عشرة. وفيها توفي أبو الوحش سبيع بن مسلم الدمشقي المقرىء الضرير، وكان يقرىء من السحر إلى الظهر. وفيها توفي أبو القاسم علي بن ابراهيم بن العباس الحسني - الدمشقي، الخطيب الرئيس، المحدث صاحب الأجزاء العشرين التي أخرجها له الخطيب، وكان ثقة نبيلاً محتشماً مهيباً، سيداً شريفاً، صاحب حديث وسنة. وفيها توفي السلطان مسعود صاحب الهند وغزنة، وتملك بعد موته ولده أرسلان شاه، وهو ابن عمه السلطان ملك شاه.
سنة تسع وخمس مائة
فيها قدم عسكر السلطان محمد الشام، فاستعان بالفرنج، فأعانوه، فأخذ(3/150)
كفرطاب وهي للفرنج وسار إلى المعرة، وساق صاحب أنطاكية وكبس العسكر، وكسرهم، ورجع من سلم منهم منهزمين، واستنصرت الفرنج على المسلمين. وفيها توفي ابن ملة اسماعيل بن محمد الواعظ الأصبهاني المحدث، صاحب المجالس. وفيها توفي أبو شجاع الديلمي الهمداني الحافظ صاحب كتاب الفردوس، وتاريخ همدان. توفي أبو الفرج غيث بن علي الصوري، خطيب صور ومحدثها. والشريف أبو يعلى محمد بن محمد بن صالح الهاشمي الشاعر المشهور. وأبو البركات السفطي هبة الله بن المبارك البغدادي. ويحيى بن تميم بن المعز السلطان أبو طاهر الحميري صاحب إفريقية، نشر العدل وافتتح عدة قلاع لم يتهيأ لأبيه فتحها، وكان جواداً ممدوحاً عالماً كثير المطالعة للأخبار والسير، عارفاً بها، رحيماً للضعفاء، شفوقاً على الفقراء يطعمهم في الشدائد، ويرفق بهم، ويقرب أهل العلم والفضل من نفسه، وكان عارفاً في صناعة النجوم، حسن الوجه على حاجبه شامة، أشهل العينين. ولما كان يوم الأربعاء وهو عيد الأضحى من السنة المذكورة توفي فجأة، وذلك أن منجمه قال له: السير في موكبك في هذا النهار عليك نحس، لا تركب، فامتنع من الركوب، وخرج أولاده ورجال دولته إلى المصلى، فلما انقضت الصلاة حضر رجال الدولة على ما جرت به العادة للسلام، وقرىء القرآن وأنشد الشعراء، وانصرفوا إلى الإيوان، فأكل الناس، وقام يحيى إلى مجلس الطعام، فلما وصل إلى باب المجلس أشار إلى جارية من حظاياه فاتكأ عليها، فما خطا من باب البيت سوى ثلاث خطوات حتى وقع ميتاً. وخلف ثلاثين ابناً، فتملك بعده ابنه علي ستة أعوام ومات، فملكوا بعده الحسن بن علي وهو مراهق، فامتدت دولته إلى أن أخذت الفرنج طرابلس الغرب بالسيف سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، فخاف وفز من المهدية،. والتجأ إلى عبد المؤمن.(3/151)
قلت: وهذا العلم وما ندب فيه من الحذر لا يغني عن وقوع ما سبق في علم الله تعالى من القدر. ومن ذلك ما حكي أن بعض الملوك قال له بعض المنجمين: أنت تموت في الساعة الفلانية من اليوم الفلاني من الشهر الفلاني من السنة الفلانية من عقرب تلدغك، فلما كان قبل الساعه المذكورة تجرد من جميع لباسه سوى ما يستر العورة، وركب فرساً بعد أن غسله ونظفه ونفض شعره، ودخل بفرسه في البحر حذراً مما ذكر له من وقوع هذا الأمر، فبينما هو كذلك فأجاءه ما يخشى من المهالك، وذلك أن فرسه عطست فخرجت من أنفها عقرب، فلدغته، ولم يغنه ما رام من الاحتراز والهرب، نسأل الله الكريم كمال الإيمان بنفاذ قدره والتسليم في كل ما جاء به الشارع وروى في خبره.
سنة عشرة وخمس مائة
فيها توفي أبو الكرم خميس بن علي الواسطي الجوزي الحافظ، وكان عالماً حافظاً شاعراً.
وفيها توفي عبد الغفار بن محمد بن حسين النيسابوري مسند خراسان. وفيها توفي الصيرفي صاحب الأصم، قال السمعاني: كان صالحاً عابداً، رحل إليه من البلاد. وفيها توفي العسال أبو الخير المبارك بن الحسين البغدادي المصري الأديب شيخ الإقراء ببغداد. وفيها توفي الخطاب محفوظ بن أحمد الأرحبي شيخ الحنابلة صاحب التصانيف. وفيها توفي أبو طاهر محمد بن الحسين الدمشقي. وفيها توفي أبو الغنائم محمد بن علي بن ميمون الكوفي الحافظ. وفيها توفي الحافظ أبو بكر محمد ابن الحافظ العلامة أبي المظفر منصور بن محمد التميمي المروزي والد الحافظ أبي سعد، كان محمد المذكور إماماً فاضلاً محدثاً فقيهاً شافعياً، وله الإملاء الذى لم يسبق إلى مثله، تكلم على المتون والأسانيد، وأبان مشكلاته، وله عدة تصانيف وشعر غسله قبل موته.
سنة احدى عشرة وخمس مائة
فيها غرقت سنجار وانهدم سورها، وهلك خلق كثير، وجر السيل باب المدينة مسير مرحلة، فطمه السيل، ثم انكشف بعد سنين، وسلم طفل في سرير تعلق بزيتونة، ثم عاش وكبر.(3/152)
قلت ومن هذا النمط المذكور والعجائب الواقعة في الدهور ما سمعت أنه جاء السيل في جوف الليل، فحمل قرية - وأهلها نائمون - ورمى بهم في البحر، وفيهم صبية عروس طفت على ظاهر الماء كأنها محمولة على سرير، ولم يتغبر كل ما عليها من الطيب والصنعة والحرير بقدرة اللطيف الخبير الذي هو على كل شيء قدير، فوجدت حية قذفها البحر على الساحل، وما مشى من المحذور إليها واصل. وفيها توفي السلطان محمد بن ملك شاه بن ألب أرسلان التركي: غياث الدين أبو شسجاع، وكان فارساً شجاعاً فحلاً، ذا بر ومعروف، وخلف له أربعة أولاد: محمود ومسعود وسليمان وطغرل بك، وقام بعده ابنه محمود وهو أبن أربع عشرة سنة، ففرق الأموال، وقد خلف محمد أحد عشر ألف ألف دينار سوى ما يناسبها من الحواصل. وكان السلطان محمد المذكور لما مات أبوه وقد دخل بغداد، هو وأخوه سنجر، فخلع عليهما الإمام المستظهر بالله، فالتمس محمد المذكور من أمير المؤمنين أن يجلس له ولأخيه فأجيب إلى ذلك، وجلس لهما في قبة التاج، وحضر أرباب المناضب وأبناؤهم، وجلس أمير المؤمنين على سدته، ووقف سيف الدولة ابن مزيد صاحب الحلة عن يمين السدة - وعلى كتفه بردة النبي صلى الله عليه وآله وسلم - وعلى رأسه العمامة وبين يديه القضيب، وخلع على محمد الخلع السبع التي جرت عادة السلاطين بها، وألبس الطوق والتاج والسوارين، وعقد له الخليفة اللواء بيده وقلده سيفين، وأعطاه خمسة أفراس براكبها، وخلع على أخيه سنجر خلعة أمثاله، وخطب لمحمد بالسلطنة في جامع بغداد - كما جرى عادتهم في ذلك الزمان - وذلك في خمس وتسعين وأربع مائة على ما ذكر بعضهم، وذكر غير واحد من المؤرخين أنها سنة اثنتين وتسعين وأربع مائة. وذكر بعضهم أن الإمام أبا حامد الغزالي رحمه الله تعالى قال للسلطان محمد ابن ملك شاه: اعلم يا سلطان العالم، أن بني آدم طائفتان: طائفة عقلاء نظروا إلى مشاهدة حال الدنيا وتمسكوا ابامل العمر الطويل، ولم يتفكروا في النفس الأخير، وطائفة عقلاء جعلوا النفس الأخيرة نصب أعينهم، لينظروا ماذا يكون مصيرهم، وكيف يخرجون من الدنيا ويفارقونها وإيمانهم سالم، وما الذي ينزل عن الدنيا إلى قبورهم، وما الذي يتركونه لأعاديهم من بعدهم، ويبقى عليهم وباله ونكاله. ثم إن السلطان محمداً ابن ملك شاه جرت بينه وبين أخيه بركيا روق حروب يطول(3/153)
ذكرها، وكان قد خطب لأخيه من قبله في بغداد، فقطعت الخطبة له، وخطب لمحمد واستقل بمملكته. ولما مات أخوه ولم يبقى له منازع، وصفت له الدنيا، وأقام على ذلك مدة، ثم مرض زماناً طويلاً، وتوفي في الخميس الرإبع والعشرين من ذي الحجة من السنة المذكورة بمدينة أصبهان. ولما أيس من نفسه أحضر ولده محموداً، وقبله، وبكى كل واحد منهما، وأمره أن يخرج ويجلس على تخت السلطنة، وينظر في أمور الناس. فقال لوالده: إنه يوم غير مبارك يعني من طريق النجوم - فقال: صدقت، ولكن على أبيك، وأما عليك فمبارك بالسلطنة، فخرج وجلس على التخت بالتاج والسوارين، وتزوج الإمام المقتفي لأمر الله فاطمة بنت السلطان محمد المذكور، فدخلت إلى دار الخلافة بالزفاف، ويقال فيما ذكر لها من المناقب أنه كان لها التدبير الصائب. وفي السنة المذكورة ترحلت العساكر عن حصار الباطنية بالألموت لما بلغهم موت السلطان محمد. وفيها توفي أبو طاهر عبد الرحمن بن أحمد البغدادي راوي سنن الدارقطني، وكان رئيساً وافر الجلالة. وفيها توفي الحافظ أبو زكريا يحيى بن عبد الوهاب ابن الحافظ محمد بن إسحاق ابن محمد بن يحيى بن منده العبدي الأصبهاني صاحب التاريخ، سمع من البيهقي وطبقته، وقال: السمعاني جليل القدر وافر الفضل، واسع الرواية حافظ كثير التصانيف، بعيد من التكلف، سمع من خلائق، وكتب عنه الشيوخ، منهم القطب الذي خضعت لقدمه رقاب الأولياء الأكابر، شيخ الشيوخ أبو محمد محيي الدين عبد القادر صاحب المقام العالي المعروف بالجيلاني، وجماعة من كبار الشيوخ. وذكره الحافظ السمعاني في كتاب الذيل، وغيره من كبار المؤرخين، وذكروا جلالته في الفضل وكونه من بيت علم بدىء بيحيى وختم بيحيى يريدون في معرفة الحديث والعلم والفضل - وكان يحيى المذكور
كثيراً ما ينشد لبعضهم. اً ما ينشد لبعضهم.
عجبت لمبتاع الضلالة بالهدى ... وللمشتري دنياه بالدين أعجب
وأعجب من هذين من باع دينه ... بدنيا سواه فهو من ذين أخيب
وفيها توفي مسند العراق أبو علي بن نبهان الكاتب محمد بن سعيد الكرخي. روى عن(3/154)
ابن شاذان وغيره، قال ابن ناصر: فيه تشيع صحيح، بقي قبل موته سنة ملقى على ظهره لا يعقل ولا يفهم، وقال غيره: عاش مائة سنة كاملة، وله شعر وأدب.
سنة اثنتي عشرة وخمس مائة
في الثالث والعشرين من ربيع الآخر منها توفي الإمام المستظهر بالله أبو العباس أحمد بن المقتدي بالله العباسي، وله اثنتان وأربعون سنة، وكانت خلافته خمساً وعشرين سنة، وكان قوي الكتابة جيد الأدب والفضيلة، كريم الأخلاق، مسارعاً في أعمال البر. وفيها توفي أبو الفضل بكر نن محمد الأنصاري الجابري الفقيه، شيخ الحنفية بما وراء النهر، وعالم تلك الديار، ومن كان يضرب به المثل في مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه المقلب بشمس الأئمة. وفيها توفي أبو طالب الحسين بن محمد الزينبي المقلب بنور الهدى. وفيها توفي أبو القاسم الأنصاري العلامة سليمان بن ناصر النيسابوري الشافعي المتكلم، تلميذ إمام الحرمين، صاحب التصانيف، كان صوفياً زاهداً من أصحاب الأستاذ أبي القاسم القشيري. روى الحديث عن أبي الحسين عبد الغافر الفارسي وجماعة.
سنة ثلاث عشرة وخمس مائة
فيها كانت وقعة هائلة بخراسان بين سنجر وبين ابن أخيه محمود بن محمد، فانكسر محمود، ثم وقع الاتفاق، وتزوج بابنة سنجر. وتم فيها كانت الفتنة بين صاحب مصر والأمير أتابك أمير الجيوش الأفضل، وتمت لهما خطوب، ودس الأفضل على الأمير من يسمه مراراً، فلم يمكن ذلك. وفيها ظهر قبر ابراهيم الخليل - صلوات الله عليه - وإسحاق ويعقوب - عليهم الصلاة والسلام - ورآهم جماعة لم تبل أجسامهم، وعندهم في تلك المغارة قناديل من ذهب وفضة، ذكره ابن حمزة بن القلانسي - بالنون والشين المعجمة - في تاريخه. وفيها توفي شيخ الحنابلة وصاحب التصانيف ومؤلف كتاب الفنون الذي يزيد على أربعمائة مجلد علي بن عقيل البغدادي الظفري، وكان إماماً مبرزاً كبير العلوم خارق الذكاء، مكباً على الاشتغال والتصنيف تفقه على القاضي أبي يعلى وغيره، وأخذ علم الكلام عن أبي(3/155)
علي بن الوليد، وأبي القاسم بن التيان وغيره، وروى عن أبي محمد الجوهري، قال السلفي: ما رأيت مثله، وما يقدر أحد أن يتكلم معه لغزارة علمه وبلاغة كلامه وقوة حجته. وفيها توفي قاضي القضاة أبو الحسين الدامغاني علي ابن قاضي القضاة أبي عبد الله محمد بن علي الحنفي، ولي القضاء أربعاً وعشرين سنة، وكان ذا حزم ورأي وسؤدد وهيبة وافرة، وديانة ظاهرة. وفيها توفي أبو بكر محمد بن طرخان التركي ثم البغدادي المحدث النحوي، أحد الفضلاء، روى عن أبي جعفر بن المسلمة وطبقته، وتفقه على الشيخ أبي إسحاق، وكان ينسخ بالأجرة، وفيه زهد وورع تام. وفيها توفي أبو سعد المبارك بن علي، من كبار أئمة المذهب. روى عن القاضي أبي يعلى وجماعة، وتفقه على الشريف أبي جعفر بن أبي موسى.
سنة أربع عشرة وخمس مائة
فيها كان المصاف بين السلطان محمود وأخيه مسعود صاحب أذربيجان والموصل، وله يومئذ إحدى عشرة سنة، فلما التقوا انهزم مسعود وأسر وزيره، وفي هذا الوقت كان ظهور ابن تومرت بالمغرب. وفيها قتل في حصن تعز من بلاد اليمن أسعد بن أبي الفتوح بن العلاء بن الوليد الحميري، قتله رجلان من أصحابه، ودفن في الحصن، قيل: فلما قدم من بني أيوب سيف الإسلام إلى اليمن نبش وأخرج إلى مقابر المسلمين. وفيها، وقيل في التي بعدها توفي في الجند الفقيه الإمام عالم العلماء مفيد الطالبين وقدوة الأنام زيد بن عبد الله اليمني - اليفاعي بالفاء قبل الألف وبعد المثناة من تحت - نسبة إلى يفاعة: مكان في اليمن. تفقه على الشيخ الإمام أبي بكر بن جعفر بن عبد الرحيم المخائي - نسبة إلى المخا: بالخاء المعجمة المخففة وفتح الميم قبلها؛ مكان قريب من زبيد على ساحل البحر - توفي أبو بكر المذكور سنة خمس مائة، أخذ عنه جماعة، وكان يحفظ المجموع للمحاملي، والجامع في الخلاف لأبى جعفر - على ما نقل الإمام طاهر ابن الإمام(3/156)
العلامة يحيى صاحب البيان عن والده المذكور - وتفقه زيد أيضاً بصهره الإمام إسحاق بن يوسف الصروفي، ثم ارتحل إلى مكة في المرة الأولى، فأدرك فيها تلميذي الشيخ الإمام أبي إسحاق الشيرازي مصنف المهذب، وهما الحسين بن علي الشاشي الطبري مصنف العدة وأبو نصر البندنيجي مصنف المعتمد في الخلاف، فقرأ عليهما، وطريقه في المهذب وكتاب التبصرة في علم الكلام في أصول الدين إلى أبي نصر البندنيجي. وذكر ابن سمرة أنه لما رجع زيد المذكور من مكة إلى الجند سنة اثنتي عشرة وخمس مائة اجتمع عنده في الجند ما يزيد على مائتي رجل من أجلة الفقهاء من تهامة وأبين وحضرموت والشحر والشام وغير ذلك، وقرأ الإمام يحيى بن أبي الخير عليه النكت في الخلاف: تصنيف الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وسمع عليه أيضاً بقراءة الفقيهين، الإمام عبد الله الهمداني وعبد الله بن يحيى الصعبي، وبقراءة غيرهما من الفقهاء الأجلة عدة كتب في الفقه والخلاف والأصول، وذلك في دولة السلطان أبي الفتوح الحميري، فعظم حال الفقيه وجمل أمره، واجتمع المؤالف - والمخالف على مودته، وكان لا يصلي في الجامع إلا الجمعة في آخر المسجد. قلت لعل تأخره عند حضور الجماعة في الصلوات لما يخشى من الضرر في اجتماع الناس عليه وازدحامهم بحسن اعتقادهم فيه، أو غير ذلك من الآفات، كما ذكر الإمام أبو حامد الغزالي أنه رأى بمكة بعض العارفين يصلي في بيته، لا يحضر المسجد الحرام، فسأله عن ذلك فذكر كلاماً معناه أنه يدخل عليه من الضرر في الخروج أكثر مما يدخل عليه النفع. رجعنا إلى ذكر زيد اليفاعي: روى ابن سمرة عن بعض من أدرك أنه قال: دخلت الجند أستفتيه عن مسألة في الفرائض - وكان صغير الخلق دقيق الجسم - فوجدته يدرس أصحابه في دهليز بيته، فهبته هيبة عظيمة، فغلطت سؤالي، ورددت كلامي، فآنسني بكلامه، وأجابني عن سؤال بأحسن الجواب. قلت وقوله: كان صغير الخلق دقيق الجسم: أراد بذلك الإعلام بحليته والتعريف دون الانتقاص والتعنيف، وقد وجد مثل هذا الخلق في كثير من العلماء والأولياء على ما اقتضت حكمة العليم القدير من التفاوت بين الكبير من الخلق والصغير. وحكى ابن سمرة أنه سئل بعض الفقهاء بحضرة الإمام زيد المذكور عن الفقيه ابراهيم ابن علي ابن الإمام الحسين بن علي الطبري مصنف كتاب العدة؛ كيف كان حاله في العلم؟(3/157)
فقال: هو مجود، ولولا أنه اشتغل بالعبادة مع الصوفية لكان في الفقه إماماً وفي الخلاف كاملاً. قال الراوي: وكان حاضراً فقلت له: طريقته هذه غير ملومة ولا مكروهة، فقال لي:
كان الشيخ - يعني جده القاضي حسين الطبري المذكور - يكره ذلك ويقول: اشتغال العالم بالعبادة فرار من العلم فأعجب، أو قال: أعجب زيد بهذه الحكمة. وقلت: هذا صحيح، لأن الحرص في العلم يقوم مقام العبادة، ولو كان فيه بعض قساوة انتهى، وهو بعض كلامه، وذكر بعده ما يوافقه من أقوال بعض الفقهاء. قلت ولا شك أن فضل العلم وشرفه معروفان، ولكن الشأن في إخلاصه والعمل به، فإذا حصل ذلك فهو النهاية، ومع هذا فأحوال الناس مختلفة، وقد قسمتهم في كتاب الإرشاد على خمسة أقسام، وليس إطلاق الكلام في الندب إلى إحدى الطريقين صحيحاً، بل لا بد من تفصيل، فمن كان له نية صحيحة في العلم ونجابة في الفهم، ولم يغلب عليه أحوال الرجال المشاهدين لنور الجمال، فلا شك أن هذا يندب له المبادرة وبذل المجهود في الاشتغال بالعلم، مع مزج ذلك بشيء من العبادة ولزوم سيرة السلف من التعفف والتورع والتقلل من الدنيا، وإن كان في ذلك ما ذكر من بعض القساوة، فقد أنصف في ذلك، وأما من لم يكن كما ذكرنا إما لعدم صلاح النية وإما لعدم القابلية، وإما لخوف كثرة الآفات في المخالطات، وإما لإمتلاء القلب بمحبة العبادات واستئناسه بالمناجاة في الخلوات، وإما لورود الأحوال ووجود المشاهدات، أعني مشاهدة نور الجمال واستيلاء هيبة العظمة والحلال، فكل هؤلاء واقفون مع ما ورد على قلوبهم، لكلى قوم مشرب وفي الهوى مذهب، ولقد أحسن قائلهم.
كانت لقلبي أهواء مفرقة ... فاستجمعت إذ رأتك العين أهوائي
تركت للناس دنياهم ودينهم ... شغلاً بحبك يا ديني ودنياي
ولقد وقع بي في ابتداء اشتغالي بالعلم خاطر أن ألقياني في مجاذبتهما: أحدهما يجذبني إلى العلم طلباً لفضله، والآخر إلى العبادة لوجود حلاوة فيها وسلامة من آفات المخالطات والتشتت في البحث والمجادلات، واشتعل في باطني مثل النار في القريحة المحرورة للمجاذبة المذكورة، ثم حصلت والحمد لله إشارة أذهبت عني ذلك الاحتراق، مردتني إلى التسليم إلى ما سبق به القضاء بتقدير الخلاق، وذلك أني في حال تلك الشدة لما قلقت، ولم أستطع نوماً ولا قراراً، ومعي كتاب أطالعه ليلاً ونهاراً، فتحته في ذلك الوقت فرأيت فيه ورقة قابلتني أول ما فتحته ولم أرها قبل ذلك مع طول ما طلبته، وفيها أبيات ما كنت سمعتها، وهي:(3/158)
كن عن همومك معرضاً ... وكل الأمور إلى القضا
فلربما اتسع المضيق ... وربما ضاق الفضا
ولرب أمرمتعب ... لك في عواقبه رضا
الله يفعل ما يشاء ... فلا تكن متعرضا
فلما قرأتها كأنما صب ماء على تلك النار، فرد ذلك الاحتراق، وذهبت تلك الأكدار، وأنشد لسان مقالي في تلك الوقت ما يوافق حالي، وناديت قلبي:
اسمع وخذ بالإشارة ... فيا حسن ما في ضمها من بشارة
ودربي مع ريح القضا حيث دارت ... وسلم لسلمى ثم سر حيث سارت
عسى من خدور الحي تبدو بدورها ... توسلت حتى أقبلتك ثغورها
ألا يا لقومي أعلموني بحيلة ... إلى وصل خودات كعاب جميلة
أراك الحمى قل لي بأي وسيلة ... إذا ما بدت ناديت في كل حيلة
بقطع لأهلي مع فراقي لبلدتي ... وذلي وسيحي في البلاد وغربتي
وإيناس نفسي بعد زفري وحضرتي ... رحمت على صبري على كل كربة
ثم استمريت في مدة يسيرة بشيء من الأشغال والاشتغال بالعلم، مع مزج ذلك يتخلل البطالات، ثم خطر لي عند وقوفي على كلام الفقهاء الذين نحن بصدده هذه الأبيات:
تقضى زماني والقضاء مصرفي ... وكان إلى العلم الشريف تشوفي
وما كانت الأيام إلا قلائلاً ... به ثم مال القلب نحو التصوف
ومن لم يسل في دهره نحوه يمت ... ولم يهو من صاحي جمالاً ويعرف
فإن كنت ذا جهل بمنهج حبه ... ومشربه سل عنه أهل التعرف
قلت وفضل التصوف وأهله أولي الصفاء والأنوار والمعارف والأسرار، والقرب والمنادمات والحضرة والمشاهدات، لا يسعه مجلدات، وقد ذكرت نبذة من ذلك في كتاب الأسرار والنظير، في فضل ذكر الله تعالى وتلاوة كتابه العزيز، وفضل الأولياء والناسكين، والفقراء والمساكين، وفي كتاب روض الرياحين في حكايات الصالحين، وفي كتاب نشر المحاسن الغالية في فضل المشايخ أولي المقامات العالية، قدس الله تعالى أرواحهم، ونور ضرائحهم ونفعنا ببركاتهم، وجعلنا معهم في محياهم ومماتهم، آمين، ولله در قائلهم في وصف راح الهوى المعمورة من نور الجمال التي سكر بها المحبون أولو الأحوال، حيث أنشد وقال:
هبنا لأهل الدير كم سكروا بها ... وما شربوا منها، ولكنهم هموا(3/159)
على نفسه فليبك من ضاع عمره ... وليس له منها نصيب ولاسهم
وفيها توفي أبو علي الحسن بن خلف القيراوني المقرىء، صاحب تلخيص العبارات في القراءات. والوزير مؤيد الدين الحسين بن علي الأصبهاني، صاحب ديوان الإنشاء للسلطان محمد بن ملك شاه، كان من أفراد الدهر وحامل لواء النظم والنثر وهو صاحب لامية العجم. والحافظ الكبير أبو علي بن سكرة حسين بن محمد الأندلسي حج سنة إحدى وثمانين وسمع ببغداد من البانياسي وطبقته، وأخذ التعليقة الكبرى عن أبي بكر الإمام الشاشي المستظهري واخذ بدمشق عن الفقيه الإمام نصر المقدسي، ورد إلى بلاده بعلم جم وبرع في الحديث وفنونه، وصنف التصانيف. فأكره على القضاء، فوليه، ثم اختفى حتى عفي، واستشهد في المصاف وهو أبناء الستين. وفيها توفي الإمام أبو نصر عبد الرحمن ابن الإمام أبي القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري كان إماماً كبيراً، أشبه أباه في علومه ومجالسه، وواظب على حضور درس إمام الحرمين حتى حصل طريقته في المذهب والخلاف. ثم خرج، فوصل الى بغداد، وعقد بها مجلس وعظ، وحصل له قبول عظيم، وحضر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي مجلسه. وأطبق علماء بغداد على أنهم لم يروا مثله. وكان يعظ في المدرسة النظامية ورباط شيخ الشيوخ، وله مع الحنابلة خصام بسبب الاعتقاد إذ هو وأبو وشيخه إمام الحرمين وغيرهم من أكابر العلماء ورؤوس الأشاعرة، وانتهى الأمر إلى فتنة بين الفريقين، قتل فيها جماعة من الطائفتين، وركب أحد أولاد نظام الملك حتى سكنها، وبلغ الخبر نظام الملك وهو بأصبهان وسير إليه استدعاءه، فلما حضر عنده زاد في إكرامه، ثم جهزه إلى نيسابور فلما وصل إليها لازم الوعظ والدرس إلى أن قارب انتهاء أمره، فأصابه ضعف في أعضائه وقال بعضهم: فالج فأقام لذلك مقدار شهر، ثم توفي ضحوة نهار الجمعة الثاني والعشرين من جمادى الآخرة من السنة المذكورة بنيسابور، ودفن بالمشهد المعروف بهم، وكان يحفظ من الشعر والحكايات شيئاً كثيراً. وأبو منصور محمود بن اسماعيل الصيرفي الأشقر، راوي المعجم الكبير للطبراني. قال السلفي: كان صالحاً.(3/160)
سنة خمس عشرة وخمس مائة
فيها احترقت دار السلطنة ببغداد، فتلف ما قيمته ألف ألف دينار. وفيها توفي أبو علي الحداد: الحسن بن أحمد الأصبهاني المقرىء المجود، مسند الوقت، وكان مع علو إسناده أوسع أهل زمانه رواية، حمل الكثير عن أبي نعيم، وكا ن خيراً صالحاً. وفيها توفي الملك الأفضل شاهنشاه ابن أمير الجيوش بدر الجمالي الأرمني، كان الملك الأفضل وزيراً للمستعلي العبيدي، وكان حسن التدبير فحل الرأي، وهو الذي أقام المستعلي بعد موت أبيه المستنصر مقامه، وخلف من الأموال ما لم يسمع بمثلهما، قيل إنه خلف ستمائة ألف دينار عيناً، ومائتين وخمسين إردباً دراهم نقد مصر، وخمساً وسبعين ألف ثوب ديباج أطلس، وثلاثين راحلة أخفافها من ذهب عراقي، وداوة ذهب فيها جوهر قيمته أثنا عشر ألف دينار، ومائة مسمار من ذهب وزن كل مسمار مائة مثقال، في عشرة مجالس، في كل مجلس عشرة مسامير، على كل مسمار منديل مشدود بذهب من الألوان أيما أحب منها لبسه - وخمس مائة صندوق لكسوته خاصة من دف دمياط وبلد أخرى سموها، وخلف من الرقيق والخيل والبغال والمراكب والطيب والتجمل والحلي ما لا يعلم قدره إلا الله، وخلف خارجاً من ذلك من البقر والجواميس والغنم كما يطول عدده، وبلغ ضمان ألبانها في سنة وفاته ثلاثين ألف دينار، ووجد في تركته صندوقان كبيران فيهما إبر ذهب برسم النساء والجواري. وكان شهماً مهيباً بعيد الغور، ولي وزارة السيف والقلم، وإليه قضاء القضاة والتقدم على الدعاة في ولاية المستعلي، ثم الأمر، وكانا معه صورة بلا معنى، وكان قد أذن للناس في إظهار عقائدهم، وأمات شعار دعوة الباطنية، فنقموه لذلك، ووثب عليه ثلاثة من الباطنية فضربوه بالسكاكين فقتلوه، وحملوه بآخر رمق، وقيل إن الأمير دسهم عليه بتدبير أبي عبد الله البطائحي الذي وزر بعده، ولقب بالمأمون. وفيها توفي أبو القاسم علي بن جعفر السعدي الصقلي المولد، المعروف بابن القطاع،(3/161)
المصري المنزل والوفاة، كان من أئمة الأدب خصوصاً اللغة، وله تصانيف نافعة منها كتاب الأفعال، أحسن فيه كل الإحسان، وهو أجود من الأفعال لابن القوطبة، وإن كان ذاك سبقه إليه، وله كتاب أبنية الأسماء، جمع فيه فأوعب، وعروض حسن جيد، وكتاب الدرة الخطيرة المختارة من شعر الجزيرة، ولمح اللمح، جمع فيه خلقاً من علماء الأندلس، قرأ الأدب على فضلاء صقلية كابن البراء اللغوي وأمثاله، وأجاد النحو غاية الإجادة، ورحل عن صقلية لما أشرف على تملكها الفرنج، ووصل إلى مصر في حدود سنة خمس مائة، وبالغ أهل مصر في إكرامه، ومن شعره:
وشادن لبيانه عقد ... حلت عقودي وأوهنت جلدي
عابوه جهلاً بها فقلت لهم ... أما سمعتم بالنفث في العقد؟
وله شعر كثير، توفي بمصر: وفيها توفي الحافظ أبو الخير بن عوض الهروي. كان عالماً صاحب حديث وإفادة، حريصاً على الطلب.
سنة ست عشرة وخمس مائة
توفي الإمام محيي السنة أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي المحدث المقرىء، صاحب التصانيف، وعالم أهل خراسان، كان سيداً زاهداً قانعاً، يأكل الخبز وحده، فليم في ذلك، فصار يأكله بالزيت، وكان أبوه يصنع الفراء، توفي بمروروذ، ودفن عند شيخه القاضي حسين، أخذ الفقه عنه، وصنف في تفسير كلام الله تعالى، وأوضح المشكلات من قوله صلى الله عليه وآله وسلم، وروى الحديث، ودرس، وكان لا يلقي الدرس إلا على طهارة، وصنف كتباً كثيرة منها: كتاب التهذيب في الفقه، وشرح السنة في الحديث، ومعالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم، وكتاب المصابيح، والجمع بين الصحيحين، وغير ذلك، والبغوي نسبة إلى بلدة بخراسان بين مرو وهراة يقال لها بغ، بالباء الموحدة والغين المعجمة.
والحافظ أبو محمد عبد الله بن أحمد السمرقندي، سمع من أبي بكر الخطيب وجماعة، ورحل إلى نيسابور وأصبهان. وأبو القاسم بن الفحام الصقلي: عبد الرحمن بن أبي بكر، مصنف التجويد في القراءات.(3/162)
وأبو محمد الحرير: صاحب المقامات، القاسم بن علي بن محمد البصري الأديب، حامل لواء البراعة وفارس النظم والنثر، ونسجهما بظرافة الصناعة، كان من رؤساء بلده، روى الحديث عن أبي تمام محمد بن الحسين وغيره، وعاش سبعين سنة، ورزق الحظوة التامة في عمل المقامات، واشتملت على شيء كثير من كلام العرب من لغاتها وأمثالها ورموز أسرار كلامها، حتى قال بعض الفضلاء: من عرفها حق معرفتها استدل بها على فضل هذا الرجل وكثرة إطلاعه وغزارة مادته. وكان سبب وضعه لها ما حكاه ولده أبو القاسم عبد الله قال: كان أبي جالساً في مسجد بني حرام، فدخل شيخ ذو طمرين عليه أهبة السفر، رث الحال فصيح الكلام حسن العبارة، فسألته الجماعة: من أين الشيخ؟ فقال: من سروج، فاستخبروه عن كنيته قال: أبو زيد، فعمل أبي المقامة المعروفة بالحرامية، وهي الثامنة والأربعون، وعزاها إلى أبي زيد المذكور، واشتهرت، فبلغ خبرها الوزير شرف الدين أبا نصر القاشاني - بالقاف والشين المعجمة - وزير الإمام المسترشد باللة، فلما وقف عليها أعجبته، وأشار على والدي أن يضم إليها غيرها، فأتمها خمسين مقامة. وإلى الوزير المذكور أشار الحريري في خطبة المقامات بقوله: فأشار من إشارته حكم، وطاعته غنم إلى أن أنشىء مقامات أتلو فيها تلوالبديع، وإن لم يدرك الظالع شيئاً والضليع. هكذا وجد في عدة تواريخ في نسخة من المقامات عليها خطه، وقد كتب بخطه أيضاً على ظهرها أنه صنفها للوزير جلال الدين عميد الدولة أبي علي الحسن بن أبي المعز علي ابن صدقة وزير المسترشد، قيل: وهذا أصح من الرواية الأولى، لكونه بخط المصنف، والله أعلم. وذكر القاضي أبو الحسن علي بن يوسف الشيباني وزير حلب في كتابه المسمى أنباء الرواة على أبناء النجاة أن أبا زيد المذكور اسمه المطهر بن سلار، وكان بصيرياً نحوياً لغوياً، وصحب الحريري المذكور، واشتغل عليه بالبصرة، وتخرج به، روى عنه القاضي أبو الفتح محمد بن أحمد الميداني الواسطي ملحة الإعراب للحريري، وذكر أنه سمعها منه عن الحريري وقال: قدم علينا واسط سنة ثمان وثلاثين وخمس مائة، فسمعنا منه، وتوتجه منها مصعداً إلى بغداد، فوصلها، وأقام مدة يسيرة وتوفي بها رحمه الله تعالى. وأما تسمية الراوي لها بالحارث بن همام فإنما عنى به نفسه، هكذا ذكر ابن خلكان(3/163)
وقال: وقفت عليه في بعض شروح المقامات، وهو مأخوذ من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كلكم حارث وكلكم همام، فالحارث: الكاسب، والهمام: كثير الاهتمام، وما من شخص إلا وهو حارث وهمام، لأن كل أحد كاسب ومهتم بأموره. وقد اعتنى، بشرحها خلق كثير، فمنهم من طول، ومنهم من اختصر، قال ابن خلكان: ورأيت في بعض المجاميع أن الحريري لما عمل المقامات كان قد عملها أربعين مقامة، وحملها من البصرة إلى بغداد، فادعاها فلم يصدقه من أدباء بغداد، وقالوا إنها ليست من تصنيفه، بل هي لرجل مغربي من أهل البلاغة مات بالبصرة، ووقعت أوراقه إليه فادعاها، فاستدعاه الوزير إلى الديوان وسأله عن صناعته فقال: أنا رجل منشىء، فاقترح عليه إنشاء الرسالة في واقعة عينها، فانفرد في ناحية عن الديوان، وأخذ الدواة والورقة، ومكث زماناً كثيراً فلم يفتح الله سبحانه عليه بشيء من ذلك، فقام وهو خجلان، وكان في جملة من أنكر دعواه في عملها أبو القاسم بن أفلح الشاعر، فلما لم يعمل الحريري الرسالة التي اقترحها الوزير أنشد ابن أفلح هذين البيتين، وقيل إنهما لابن محمد الحريمي البغدادي الشاعر المشهور:
شيخ لنا من ربيعة الفرس ... ينتف عثنوته من الهوس
أنطقه الله بالمشان كما ... رماه وسط الديوان بالخرس
وكان الحريري يزعم أنه من ربيعة الفرس، وكان مولعاً ينتف لحيته عند الفكرة، وكان يسكن في مشان البصرة، فلما رجع إلى بلده عمل عشر مقامات أخر، وسيرهن واعتذر من عيه وحصره بالديوان بما لحقه من المهابة، وللحريري تاليف حسان منها: درة الغواص في أوهام الخواص ومنها ملحة الإعراب، منظومة في النحو والآداب، وله أيضاً شرحها، وله ديوان رسائل وشعر كثير غير شعره الذي في المقامات، ومن ذلك قوله:
قال العواذل ما هذا الغرام به ... أما ترى الشعر في خديه قد نبتا
فقلت والله لو أن المفند لي ... تأمل الرشد في عينيه ما ثبتا
ومن أقام بأرض وهي مجدبة ... فكيف يرحل منها والربيع أتى
وله قصائد استعمل فيها التجنيس كثيراً، ويحكى أنه كان دميماً قبيح المنظر، فجاءه شخص غريب يزوره ويأخذ عنه شيئاً من شعره، فلما رآه استزرى شكله، ففهم الحريري ذلك منه، فلما التمس أن يملي عليه قال: اكتب.(3/164)
ما أنت أول سار غره قمر ... ورائد أعجبته خضرة الدمن
فاختر لنفسك غيري إنني رجل ... مثل المعيدي فاسمع بي ولا تزني
فخجل الرجل منه وانصرف عنه. والمعيدي: بضم الميم وفتح العين المهملة وسكون المثناة من تحت وبعدها دال مهملة مكسورة: رجل منسوب إلى معد بن عدنان، وقد نسبوه بعدما صغروه وخففوا منه الدال، وفيه جاء المثل المشهور: لأن تسمع بالمعيد خير من أن تراه، وهذا المثل يضرب لمن له صيت وذكر ولا منظر له، قال المفضل الضبي: أول من تكلم بهذا المثل المنذر بن ماء السماء قاله لمشقة بن ضمرة التميمي الدارمي، وكان قد سمع بذكره، فلما رآه قبحه، فقال له هذا المثل، وسار عنه، فقال له شقة: أبيت اللعن إن الرجال ليسوا بحرزير مراد منها الأجسام، إنما المرء بأصغريه، قلبه ولسانه، فأعجب المنذر بما رأى من عقله وبيانه، ومن شعر الحريري قوله:
لا تزر من تحب في كل شهر ... غير يوم ولاتزده عليه
فاضتياء الهلال في الشهر يوم ... ثم لا تنظر العيون إليه
قلت: وقد عارضت بيتي الحريري اللذين أطلق فيهما الزيارة في كل شهر مرة تشبيهاً بالهلال، بأبيات فصلت فيها بين المزورين المتفاوتين في الأحوال، وأشرت إلى أن - بعضهم وهو أخصهم بالمودة والأنس - يزار كل يوم كالشمس، وبعضهم ممن يليه في الود والدفعة في كل أسبوع كالجمعة، وبعضهم ممن قل وده أو شق بعمه أو كان مع قرب الدار يؤثر قلة المزار وملاقاة الرجال في الشهر مرة كالهلال، وبعضهم ممن نأت به البلاد وإن كان من أهل الصحبة والوداد - في السنة مرتين تشبيهاً بالعيدين، كما يختلف بالقرب وبعد البلاد ويختلف بالقلة وكثرة الوداد، فصلت بين الحالات المذكورات بهذه الأبيات:
لا تزرنا في الحمى كل عام ... غير مثنى على مرور الدهور
هل ترى العيد زائراً كل عام ... غير ثنتين عائداً بالسرور
أو دنت داره ففي كل يوم ... فيه للشمس بهجة بالظهور
أو ترى بين قرب دار وبعد ... زر كما زاره هلال الشهور
أو ترى قدر بعده دون هذا ... بالجمع تلك ضاحكات الثغور
يجتلي حسنه بغر الليالي ... أو يزهر قد اكتسى ثوب نور
إن تساووا محاسناً سار أولاً ... فاوتن بالكواكب كالبدور(3/165)
غير أن المزار في كل يوم ... عند حب غرامه في الصدور
واعتدال بحبها زاد حباً ... عند من زرت في خبا أو قصور
والذي يؤثر التقلل مثلي ... زر قليلاً بذاك كثر الأجور
كل شهر وإن دنا منك داراً ... مرة أو بحسب حال المزور
والبرايا على اختلاف طباع ... في اجتماع وعزله وحضور
خذ مقالي مفصلاً ذا وضوح ... ما به مشكل ولا ذو قصور
رحم الله متقنا صنعه في ضيق ... لحد مجاور للقبور
فعسى الله دعوة من شقيق ... فأرى ما نظمت في ذي السطور
وكذلك عارضت قصيدته التي فضل بها الغني على الفقير، ومن جملتها قوله في هذه الأبيات:
فانظر بعينك هل أرض معطلة ... من النبات كأرض حفها الشجر
أبعد عما تيسر الأغنياء به ... فأي فضل له ود ما له ثمر
وارحل ركابك عن أرض ظمئت بها ... إلى الجنان الذي يهمي به المطر
وعارضته بقصيدة، وسميتها المنهج الأسنى في تفضيل الفقر على الغنى هذه الأبيات، منها:
قل للحريري من ذا في الحرير غدا ... وقصر در وحور زانها الحور
وفاكهات وأنها رمد فقة ... شهيدو وكثبان مسك والحصى درر
وجل نور وياقوت أسرتها ... تزهو براكبها والحسن والسرر
وطيب عيش ترى كل النعيم به ... ما تشتهي النفس مما ليس ينحصر
والضد في ضنك أهوال وروعتها ... سنين خمس منير جابذ الخبر
فسوف يدري العلى للفقر أم لغنى ... وأرض من منهما قد حفها الشجر
ومن له عود وصل يانع خضر ... زاه وذاك بذاك الحسن والثمر
إذا هشيماً رأى الغصن البصير له ... تذري الرياح به قد حلت الغير
يحكي سراباً ظن ذو ظمأ ... أو حلم نوم فلم يوجد له أثر
انقد بعين فؤاد جوهراً لهما ... عين البصيرة تدري الحسن لا البصر
فجوهر الفقر تزهو جوهريته ... بالحك، والمال زيف حين يختبر
وإنظر هل الزرع في أرض مجردة ... كزرع أرض وفيها الغيث والشجر
إن الفقير الذي للفقر مصطبر ... هو الغني والغنى بالمال مفتقر
يكفيك لو كان الفؤاد له نوع ... اعتبار إذا مرت به الغير(3/166)
من ليس يغنيه منا وادياً ذهب ... يهلع ويجمع ولا يشبع ويدخر
مستقبلاً فيه آفات معجلة ... وفي المال لصافي الماء جا كدر
شغلاً عن الله مع حب لمبغضة ... ورب هول غدا والنار تستعر
والفقر كم من سعادات يحوز بها ... بفوز حلب لها بالسبق تبتدر
مع الفراغ لطاعات مقربة ... ممن هو الملك الوهاب مقتدر
ولذة وحلاوات معجلة ... والأنس بالله فيه القوم قد سرروا
والطيب قد فاح، إذ لاح الجمال لهم ... والراح يسقون من كأس بها سكروا
فعربدوا ثم باحوا بالهوى علناً ... لما قوي الحب ما في كتمه صبروا
ساحوا وباحوا وصاحوا صار مدحتهم ... خلع العذار، لحى العذال أو غدروا
يا سعد عبد غني القلب ذي أرب ... راض بمقدور مولى ما به ضجر
من فتية زارعي الخيرات أرضهم ... نقوا من الغيث والأشجار إذ بذروا
إن قيل بأفضل من لا يحتلي محلاً ... ممدوحة أي فضل فيه يفتخر
قل حب محبوب ونصر هدى ... ليافعي رجا هذين مدخر
مع من أحب يكون المرء يومئذ ... والأجر حق لقوم للهدى نصروا
في كل هذا نصوص الشرع ناطقة ... مع الكتاب حديث صح مشتهر
وما لعبد نزول فوق منزلة ... أولاه مولاه بل يرضى ويأتمر
لا بد في الملك من ترتيب مملكة ... لو لم يكن ما نهى الناهون أو أمروا
فيها أمير وجندي له وبها ... وزير ملك ومخدوم ومحتقر
في الخلق دار بنوه وفق حكمتهم ... وقدروا الأمر فيه حسب ما قدروا
فكيف ترتيب خدام لمملكة ... عن حكمة الحق ما قد قدر القدر
هذا رسول نبي داود، ذا ملك ... وذا ولي وذا راج وذا حذر
وذاك قطب وذا غوث وذا وتد ... وذا بديل إذا ما امتدت به حضروا
وذا عليم وهذا عابد شجر ... وذا تقي وهذا مؤمن برر
سلم له وارض بالمقدور إن له ... حكماً به مودع، سر له خبر
فطاعة الحكيم مع تسليم حكمته ... وظيفة العبد راضيها له خطر
فنسأل الله توفيق القيام بها ... والصرف عن كل وصف ضمنه خطر
ها هي بدت في حكمي فقر معارضه ... من في الحرير الغني بالمال يفتخر
مصونة جا حسن مخدرة ... عن غير كفو فعنه الحسن مستتر
عن أربعين لقد فاقت بأربعة ... من سبعة نيف سبعين مختصر
ختامها حمد ربي والصلاة على ... ختام رسل سراج دونه القمر(3/167)
يعني أن الأبيات المذكورة هنا أربعة وأربعون مختصرة من قصيدة له مشتملة على سبعة وسبعين بيتاً. توفي الحريري رحمه تعالى الله في السنة المذكورة، وقيل في سنة خمسين بالبصرة في سكة بني حرام، فنسب إليهم من هذه السكة التي سكن بها، وكانت ولادته في سنة ست وأربعين وأربعمائة. والمشان بفتح الميم والشين المعجمة، بعد الألف نون: بليدة فوق البصرة، كثيرة النخل، شديدة الوخم، وكان أصل الحريري منها، ويقال إنه كان له ثمانية عشر ألف نخلة، وكان فاضلاً نبيلاً جليل القدر، له تاريخ لطيف سماه: صدور زمان القبور وقبور زمان الصدور، نقل منه العلماء والأصبهاني في كتاب: نصرة الفترة وعصرة الفترة الذي ذكر فيه أخبار الدولة السلجوقية نقلاً كثيراً وفيها توفي الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد الأصبهاني الدقاق، كان محدثاً أثرياً فقيراً متقللاً
سنة سبع عشرة وخمس مائة
في أولها التقى الخليفة المسترشد بالله ودبيس الأسدي، وكان دبيس قد طغى وتمرد، ووعد عسكره بنهب بغداد، وجرد المسترشد يومئذ سيفه، ووقف على تل، فانهزم جمع دبيس، وقتل خلق منهم، وقتل من جيش الخليفة نحو عشرين رجلاً، وعاد مؤيداً منصوراً وذهب دبيس فعات ونهب وقتل في نواحي البصرة. وفيها توفي ابن الخياط الشاعر المشهور: أبو عبد الله أحمد بن محمد التغلبي الدمشقي الكاتب، كتب أولاً لبعض الأمراء، ثم مدح الملوك والكبار، وبلغ في النظم الذروة العليا، أخذ عن أبي فتيان بن الجيوش، وعنه أخذ ابن القيرواني، قال السلفي: كان شاعر الشام في زمانه. وفيها توفي الحافظ الكبير أبو نعيم عبد الله بن أبي علي الحداد، مؤلف أطراف الصحيحين، كان عجباً في الإحسان إلى الراحلة وإفادتهم مع الزهد والعبادة والفضيلة التامة.(3/168)
وفيها توفي أبو الغنائم بن المهتدي بالله: محمد بن محمد الهاشمي الخطيب. وفيها توفي الحافظ أبو الحسن محمد بن مرزوق البغدادي رحمه الله. وفيها توفي أبو صادق مرشد بن يحيى المسندي البصري.
سنة ثمان عشرة وخمس مائة
فيها كسر ابن بهرام - صاحب حلب - الفرنج، ثم نازل منبج فجاءه سهم فقتله، فحمله ابن عمه - صاحب ماردين - إلى ظاهر حلب، وتسلم حلب، وأقام بها نائباً، ورد إلى ماردين، فراحت حلب. وفيها أخذت الفرنج صور بالأمان، وبقيت في أيديهم إلى سنة تسعين وست مائة. وفيها توفي أبو الفضل أحمد بن محمد الدينوري، البغدادي المولد، الشاعر المعروف بابن الخازن، كان فاضلاً فائق الخط، أوحد وقته، اهتم ولده نصر الله الكاتب المشهور بجمع شعره، فجمع منه، وهو حسن السبك، منه قوله: - وقد أضافة الحكيم أبو القاسم الأهوازي يوماً، وزاد في خدمته وإكرامه، وكان في داره بستان وحمام، فأدخله فيهما:
وافيت منزله فلم أر حاجباً ... إلا تلقاني بسن ضاحك
والبشر في وجه الغلام إمارة ... لمقدمات ضياء وجه المالك
ودخلت جنته وزرت حميمه ... فشكرت رضواناً ورأفة مالك
قال ابن خلكان: ثم إني وجدت هذه الأبيات للحكيم أبي القاسم هبة الله بن الحسين الأهوازي الطبيب الأصفهاني، ذكره العماد في الخريدة. وفيها توفي الحسن بن الصباح صاحب الألموت، وزعيم الإسماعيلي، وكان ذاهيبة، ماكراً زندقياً من شاطين الإنس. وفيها توفي أبو الفتح سلطان بن ابراهيم المقدسي الشافعي الفقيه، قال السلفي: كان من أفقه الفقهاء بمصر، تفقه عليه أكثرهم، وقال غيره: أخذ عن أبي نصر المقدسي، وسمع من أبي بكر الخطيب، وسمع من جماعة. وفيها توفي أبو بكر غالب بن عبد الرحمن بن غالب القرماطي الحافظ، كان حافظاً للحديث وطرقه وعالمه، عارفاً برجاله، ذاكراً لمتونه ومعانيه. ذكر بعضهم أنه كرر صحيح البخاري سبعمائة مرة،، كان أديباً شاعراً لغوياً ديناً.(3/169)
وفيها توفي أبو الفضل أحمد بن محمد الميداني النيسابوري، كان أديباً فاضلاً عارفاً باللغة، واختص بصحبة الإمام أبي الحسن الواحدي، صاحب التفسير، ثم قرأ على غيره، وأتقن في العربية خصوص اللغة وأمثال العرب، وله فيها التصانيف المفيدة، منها: كتاب الأمثال المنسوب إليه، ولم يعمل مثله في بابه، وكتاب: السامي في الأسامي، وهو جيد في بابه، وكان قد سمع الحديث ورواه، وكان ينشد كثيراً:
تنفس صبح الشيب في ليل عارضي ... فقلت: عساه يكتفي بعذاري
فلما فشا عاتبته فأجابني ... أيا هل ترى صبحاً بغير نهار؟
سنة تسع عشرة وخمس مائة
فيها سار الخليفة لمحاربة دبيس، فانخذل دبيس وذل، وطلب العفو، وكان معه طغرل بك ابن السلطان محمد فمرض، ثم سارا إلى خراسان، واستجارا لسنجر، فأجارهما، ثم قبض على دبيس خدمة للخليفة. وفيها توفي أبو عبد الله بن البطائحي المأمون، وزير الديار المصرية للآم، وكان أبوه جاسوساً للمصريين، فمات. روى محمد هذا يتيماً رآه شاباً ظريفاً، فأعجبه فاستخدمه مع الفراشين، ثم تقدم عنده، ثم آل أمره، إلى أن ولي بعده، وفيها توفي أبو البركات بن البخاري البغدادي المعدل هبة الله بن محمد.
سنة عشرين وخمس مائة
يوم الأضحى منها خطب المسترشد بالله، وصعد المنبر ووقف ابنه ولي العهد - الراشد بالله - دونه بيده سيف مشهور، وكان المكبرون خطباء الجوامع، ونزل فنحر بيده بدن، وكان يوماً مشهوداً ما عهد للإسلام مثله منذ دهر. وفيها توفي الإمام الرباني ذو الأسرار والمعرف والمواهب واللطائف: أبو الفتوح أحمد بن محمد الطوسي الغزالي الواعظ - أخو الإمام حجة الإسلام أبي حامد.(3/170)
شيخ مشهور فصيح مفوة، صاحب قبول تام لبلاغته وحسن إيراده وعذوبة لسانه، وعظ مرة عند السلطان محمود فأعطاه ألف دينار، وكان مليح الوعظ حسن المنظر صاحب كرامات وإشارات، وكان من الفقهاء، غير أنه مال إلى الوعظ والتصوف فغلب عليه، ودرس بالنظامية نيابة عن أخيه أبي حامد، لما ترك التدريس زهادة فيه، اختصر كتاب أخيه المسمى بإحياء علوم الدين، في مجلد واحد، وسماه: لباب الأحياء، وله كتاب آخر سماه: الذخيرة في علم البصيرة، وطاف البلاد، وخدم الصوفية بنفسه، وخدموه، وصحبهم وصحبوه، وكان مائلاً إلى الانقطاع والعزلة. وذكره ابن النجار في تاريخ بغداد فقال: كان قد قرأ القارىء بحضرته: " ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم " - الزمر 53 -، فقال: شرفهم بياء الإضافة إلى نفسه بقوله يا عبادي، ثم أنشد:؟ وهان علي اللوم في جنب حبها وقول الأعادي إنه لخليع
أصم إذا نوديت باسمي وإنني ... إذا قيل لي: يا عبدها، لسميع
وهذا مثل قول بعضهم: لا تدعني إلا بيا عبدي، فإنه أشرف أسمائي، وتوفي بقزوين - رحمه الله تعالى. قلت هكذا أثنى عليه الحافظ ابن النجار وغيره من العلماء والأولياء، ولا التفات إلى
ما أومى إليه الذهبي من بعض الطعن فيه. ومما يحكى من مكاشفاته أنه سأله إنسان عن أخيه محمد، أين هو؟ فقال: في الدم، ثم طلبه السائل فوجده في المسجد، فتعجب من قول أخيه في الدم، وذكر له ذلك فقال: صدق، كنت أفكر في مسألة من مسائل المستحاضة - رحمة الله تعالى عليهما. وفيها توفي أبو بحر الأسدي. سفيان بن العاصي محدث قرطبة. وصاعد بن سيار أبو العلاء الهروي الدهان، قال السمعاني: كان حافظاً متقناً، كتب الكتب الكثيرة، وجمع الأبواب، وعرف الرجال. وأبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد المالكي، قاضي الجماعة بقرطبة ومفتيها. روى عن أبي علي الغساني وأبي مروان بن مروان وخلق، وكان من أوعية العلم، له تصانيف مشهورة، عاش سبعين سنة. وفيها توفي أبو عبد الله محمد بن بركات السعيدي المصري النحوي اللغوي، روى عن القضاعي وغيره، وسمع البخاري من كريمة بمكة.(3/171)
وفيها توفي أبو الفتح أحمد بن علي المعروف بابن برهان الفقيه الشافعي، كان متبحراً في الأصول والفروع والمتفق والمختلف، وتفقه على أبي حامد الغزالي وأبي بكر الشاشي وأبي الحسن المعروف بالكيا، وصار ماهراً في فنونه، وصنف كتاب الوجيز في أصول الفقه، وولي التدريس بالمدرسة النظامية ببغداد دون الشهر، وبرهان بفتح الباء الموحدة وسكون الراء. وفيها توفي الإمام أبو بكر بن الوليد القريشي الفهري الأندلسي، الفقيه المالكي الطرطوشي. بضم الطائين المهملتين بينهما راء ساكنة وبعدهما واو ساكنة ثم شين معجمة منسوباً إلى طرطوشة: مدينة في آخر بلاد المسلمين بالأندلس. صحب أبا الوليد الباجي، وأخد عنه مسائل الخلاف، وسمع منه وأجاز له، وقرأ الفرائض والحساب، وقرأ الأدب على أبي محمد بن حزم، ورحل إلى المشرق سنة ست وسبعين وأربعمائة،. وحج ودخل بغداد والبصرة، وتفقه على أبي بكر محمد الشاشي المعروف بالمستظهري الفقيه الشافعي، وعلى أبي العباس أحمد الجرجاني، وسكن الشام ودرس بها، وكان إماماً عالماً عاملاً زاهداً ورعاً ديناً متواضعاً متقشفاً متقللاً من الدنيا، راضياً منها باليسير، على ما ذكره بعض المؤرخين. وكان يقول: إذا عرض لك أمران: أمر دنيا وأمر أخرى، فبادر بأمر الأخرى يحصل لك أمر الدنيا والأخرى، وكان كثيراً ما ينشد:
إن لله عباداً فطنا ... طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
فكروافيها فلماعلموا ... أنها ليست لحي وطنا
جعلوها لجة واتخذوا ... صالح الأعمال فيها سفنا
قلت: هكذا قال بعضهم: فكروا فيها، وقال بعضهم: نظروا فيها، والكل معناه واحد، فإن المراد: ينظروا نظرة القلب، وله من التصانيف: سراج الملوك، وغيره وله طريقة في الخلاف، ونسب إليه أشعار من ذلك:
إذا كنت في حاجة مرسلاً ... وأنت بإنجازها معزم
فأرسل بأكمه خلانه ... به صمم أعطش أبكم
ودع عنك كل رسول سوى ... رسول يقال له الدرهم
وحكي أنه اجتمع بالإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي في بلاد الشام، وقصد(3/172)
مناظرته، فقال له أبو حامد: هذا شيء تركناه بصبية بالعراق، يعني: ترك المغالبة بالعلم والمفاخرة فيه لصبية - جميع صبي - كأنه شبه من يطلب هذا بالصبيان لغلبة الهوى عليهم، نسأل الله التوفيق لصالح الأعمال وحسن الخاتمة عند منتهى الآجال.
؟ سنة إحدى وعشرين وخمس مائة
فيها أقبل السلطان محمود بن محمد ابن ملك شاه في جيشه محارباً للمسترشد بالله، فتحول أهل بغداد كلهم إلى الجانب الغربي، ونزل محمود والعسكر بالجانب الشرقي، وتراموا بالنشاب، وترددت الرسل في الصلح، فلم يفعل الخليفة، فنهبت دار الخلافة، فغضب الخليفة، وخرج من المخيم. والوزير ابن صدقة بين يديه - فقدموا السفن في دفعة واحدة، وعبر عسكر الخليفة، وألبسوا الملاحين السلاح، وسبح العيارون وصاح المسترشد: يا لبني هاشم، فتحركت النفوس معه، هذا وعسكر السلطان مشغولون بالنهب، فلما رأوا الجد ولوا الأدبار، وعمل فيهم السيف، وأسر منهم خلق، وقتل جماعة أمراء، ودخل الخليفة إلى داره، وكان معه يومئذ قريب من ثلاثين ألف مقاتل، ثم وقع الصلح. وفيها ورد الخبر بأن سنجر صاحب خراسان قتل من الباطنية اثني عثر ألفاً، ومرض السلطان محمود، وتعلل بعد الصلح، فرحل إلى همدان، وولي بغداد الأمير عماد الدين زنكي، ثم صرف بعد أشهر، وفوض إليه الموصل، وسار إليها لموت متوليها. وفي السنة المذكورة توفي أبو السعادات أحمد بن أحمد بن عبد الواحد الهاشمي العباسي المتوكلي، شريف صالح خير. روى عن الخطيب وغيره، وعاش ثمانين سنة. ختم التراويح ليلة سبع وعشرين، ورجع إلى منزله فسقط من السطح فمات رحمه الله تعالى. وفيها توفي أبو الحسن بن الدينوري علي بن عبد الواحد، روى عن القزويني وأبي محمد الخلال، وهو أقدم شيخ لابن الجوزي، وأبو العز القلانسي محمد بن الحسين بن بندار الواسطي مقرىء العراق وصاحب التصانيف في القراءات. وفيهما توفي عبد الله بن محمد المعروف بابن السيد البطليوسي النحوي، كان عالماً بالآداب واللغات، متبحراً فيهما ومقدماً في معرفتهما وإتقانهما، وكان الناس يجتمعون إليه ويقرؤون عليه، ويقتبسون منه، وكان حسن التعليم جيد التفهيم، ثقة ضابطاً، ألف كتباً نافعة، منها كتاب المثلث فى مجلدين، أتى فيه بالعجائب، ودل على اطلاع عظيم، فإن(3/173)
مثلث قطرب في كراسة واحدة، قالوا: ومع هذا استعمل فيه الضرورة وما لا يجوز، وغلط في بعض ذلك، وله كتاب: الاقتضاب في شرح أدب الكتا، وشرح سقط الزند لأبي العلاء المعري شرحاً استوفى فيه المقاصد، وهو أجود من شرح أبي العلاء، وله كتاب الخلل في شرح أبيات الجمل والخلل في أغاليط الجمل أيضا وكتاب شرح الموطأ، قيل وشرح ديوان المتنبي وكتباً أخرى، وله نظم حسن، فمن ذلك قوله:
أخو العلم حي خالد بعد موته ... وأوصاله تحت التراب رميم
وذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى ... يظن من الأحياء وهو عديم
سنة اثنتين وعشرين وخمس مائة
في أولها تملك حلب عماد الدين زنكي. وفيها سار السلطان محمود إلى خدمة عمه سنجر، فانطلق له دبيس بن صدقة وقال: اعزل زنكي عن الموصل والشام، وأولي دبيساً، واسأل الخليفة أن يصفح عنه، فأخذه ورجع. وفيها توفي الحافظ أبو محمد عبد الله بن أحمد الأشبيلي، كان حافظاً للحديث وعلله، عارفاً برجاله وبالجرح والتعديل، ثقة، كتب الكثير، واختص بأبي علي الغساني، وله تصانيف في الرجال. وابن صدقة الوزير أبو علي الحسن وزير المسترشد، كان ذا حزم وعقل ودهاء ورأي وأدب وفضل.
سنة ثلاث وعشرين وخمس مائة
فيها أصلح زنكي نفسه بأن يحمل للسلطان في السنة مائة ألف دينار وخيلاً وثياباً وافرة. وفي رمضان منها هجم دبيس على نواحي بغداد وعلى الحلة، وبعث الى المسترشد يقول: إن رضيت عني رددت أضعاف ما ذهب به من الأموال، فقصده عسكر محمود، فدخل البرية بعد أن أخذ من العراق نحو خمس مائة ألف دينار.(3/174)
وفيها أخد زنكي حماة، ثم نازل حمص وأسر صاحبها، وأخذه معه لما لم يقدرعلى أخذها، ورد إلى الموصل. وفيها قتل بدمشق نحو ستة آلاف ممن كان يرمى بعقيدة الإسماعيلي، وكان قد دخل الشام بهرام الأستراباذي، وأضل خلقاً كثيراً، وأقام داعياً بدمشق، فكثر أتباعه، وملك عدة حصون بالشام، ثم راسل الفرنج ليسلم إليهم دمشق - فيما قيل - ويعوضوه بصور، وقرر، الباطنية بدمشق أن يغلقوا أبواب الجامع - والناس في الصلاة - ووعد الفرنج أن يهجموا البلد حينئذ، فقتله بوري بن طغتكين - بالطاء المهملة والغين المعجمة والكاف بين المثناة من فوق ومن تحت ثم النون - وعلق رأسه على القلعة، ووضع السيف في الباطنية الإسماعيلية بدمشق في نصف رمضان يوم الجمعة، وسلم بهرام بانياس للفرنج، وجاءت الفرنج فنازلت دمشق، ثم تناجى عسكر دمشق والعرب والتركمان، فبيتوا للفرنج، فقتلوا وأسروا. وفيها توفي أبو الحسن عبد الله بن محمد ابن الإمام أبي بكر البيهقي. سمع الكتب من جده ومن الصابوني وجماعة. وفيها توفي أبو الفضل جعفر بن عبد الواحد الثقفي الأصفهاني الرئيس. وفيها توفي الفقيه العلامة أحد الأئمة الكبار يوسف بن عبد العزيز، نزيل الإسكندرية، أحكم الأصول والفروع، وروى الصحيحين، وله التعليقة الكبرى في الخلاف.
سنة اربع وعثسرين وخمس مائة
فيها التقى زنكي الفرنج بناحية حلب، وثبت الجمعان، ثم ولت الفرنج، فوضع السيف فيهم، وافتتح زنكي حصن الأثارب، فنازل حصن كادم. وفيها أخذ السلطان محمود قلعة الألموت.(3/175)
وفيها ظهرت ببغداد عقارب طيارة قتلت جماعة أطفال. وفيها توفي أبو إسحاق ابراهيم بن يحيى الكلبي الغزي المشهور، شاعر محسن، ذكره الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق، وسمع من الشيخ نصر المقدسي سنة إحدى وثمانين وأربعمائة، رحل إلى بغداد وأقام بالمدرسة النظامية عدة سنين، ومدح ورثى غيرواحد من المدرسين بها وغيرهم، ثم رحل إلى خراسان وامتدح بها جماعة من رؤسائها، وانتشر شعره هناك، وذكر له عدة مقاطع من الشعر، وأثنى عليه. انتهى كلام الحافظ. قال ابن خلكان: وله ديوان شعر اختاره بنفسه، وذكر في خطبته أنه ألف بيت، وذكره العماد الكاتب في الخريدة، وأثنى عليه، وقال: إنه جاب البلاد وتغرب، وتغلغل في أقطار خراسان وكرمان، ومدح وزير كرمان مكرم بن العلاء في قصيدته البائية التي أبدع فيها. منها قوله:
حملنا من الأيام ما لا نطيقه ... كما حمل العظم الكثير العصائبا
ومنها في قصر الليل. وهي معنى لطيف:
وليل رجونا أن يدب عذاره ... فما اختط حتى صار بالفجر شائبا
ومن شعره قوله:
قالوا هجرت السفر، قلت: ضرورة ... وباب الدواعي والبواعث مغلق
خلت الديار فلا كريم يرتجى ... منه النوال ولا مليح بعشق
ومما يستملحه الأدباء ويستظرفونه قوله:
إشارة منك كفينا وأحسنها ... رد السلام غداة البين بالعنم
أم ترانا وقد ضمت يد ليد ... عند العناق وقد لاقى فم لفم
حتى إذا طرح عنها المرط من دهش ... فانحل بالضم سلك العقد في النظم
تبسمت فأضاءالليل فالتقطت ... حباب منتشرفي ضوء منتظم(3/176)
قيل: والبيت الأخير منها ينظر إلى قول الشريف الرضي من جملة قصيدته:
وبات بارق ذاك الثغر يوضح لي ... مواقع اللثم في داج من الظلم
وولد الغزي المذكور بغزة، وبها قبر هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم - وتوفي بين مرو وبلخ من بلاد خراسان، ودفن ببلخ. وأما كون هاشم قبره بغزة فذكر عبد الملك بن هشام أن أول من سن الرحلتين لقريش: رحلة الشتاء والصيف: هاشم بن عبد مناف جد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ثم هلك هاشم بغزة من أرض الشام تاجراً، فقال مطرود بن كعب الخزاعي يبكيه:
وهاشم في ضريح وسط بلقعة ... تسقى الرياح عليه بين غزات
قال أهل العلم باللغة: إنما قال غزات: وهي غزة واحدة كأنه سمى كل ناحية منها باسم البلدة، وجمعها على غزات، فصارت من ذلك الوقت تعرف بغزة هاشم لأن قبره بها، لكنه غير طاهر لا يعرف، وإلى ذلك أشار أبو نواس الشاعر المشهور لما توجه إلى مصر ليمدح ابن عبد الحميد صاحب ديوان الخراج، ذكر المنازل في طريقه فقال:
طوالب بالركبان غزة هاشم ... وبالفرما من حاجهن شقور
والفرما بفتح الفاء والراء المدينة العظمى التي كانت كرسي الديار المصرية في زمن ابراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم - ومن بعض قراها: هاجر أم اسماعيل - صلى الله عليه وسلم - من قرية تسمى أم العرب، ومن الاتفاق الغريب أن اسماعيل أبو العرب، وأمه من أم العرب، والشقور بضم الشين المعجمة والقاف: بمعنى الأمور المهمة اللاصقة بالقلب. وفيها توفي الاخشيد اسماعيل بن الفضل الأصبهاني. وابن الغزال أبو محمد عبد الله بن محمد المصري المجاور، شيخ صالح مقرىء. وفيها توفيت أم ابراهيم فاطمة بنت عبد الله بن أحمد الأصبهانية - رحمها الله -. وفيها توفي الفقيه الحافظ الظاهري نزيل بغداد أبو عامر العبدري محمد بن سعدون. قال ابن عساكر: كان فقيهاً على مذهب داود، وكان أحفظ شيخ لقيته، قال القاضي أبو بكر ابن العربي: هو أثبت من لقيته، وقال ابن ناصر: كان فهماً عالماً متعففاً مع فقر، وقال السلفي: كان من أعيان علماء الإسلام، متصرفاً في فنون كثيرة، وقال ابن عساكر: بلغني أنه قال: أهل البدع يحتجون بقوله تعالى " ليس كمثله شيء " - الشورى 11 -، أي في الإلهية لا(3/177)
في الصورة، لم يحتج بقوله تعالى " لستن كأحد من النساء أن اتقيتن " - الأحزاب 32 -، أي في الحرمة. وفيها توفي محمد بن عبد الله بن تومرت - بضم المثناة من فوق وفتح الميم وسكون الراء والمثناة في آخره المصمودي البربري الهرغي، بفتح الهاء وسكون الراء بعدها غين معجمة، نسبة إلى هرغة: وهي قبيلة كبيرة من المصامدة في جبل السوس في أقصى المغرب، ينتسب إلى الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنهما - الملقب بالمهدي، رحل إلى المشرق، ولقي الإمام أبا حامد الغزالي وطائفة، وحصل فنوناً من العلم والأصول والكلام والحديث، وحج وأقام بمكة مدة مديدة، وكان رجلاً ورعاً ساكناً ناسكاً زاهداً متقشفاً، شجاعاً جلداً عاقلاً، عميق الفكر بعيد الغور، فصيحاً، مهيباً لذاته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد صاحب دعوة عبد المؤمن بن علي بالمغرب، نشأ هناك ثم رحل إلى المشرق في شيعته طالباً للعلم، فانتهى إلى العراق، وكان كثيراً ظرافاً بساماً في وجوه الناس، مقبلاً على العبادة، لا يصحبه من متاع الدنيا إلا عصا وركو، وكان متحملاً للأذى من الناس، وناله بمكة شيء من المكروه، فخرج منها إلى مصر، وبالغ في الإنكار، فزادوا في أذاه، وطردته الدولة - وكان إذا خاف من البطش وإيقاع الفعل به خلط في كلامه فينسب إلى الجنون - فخرج من مصر إلى الاسكندرية، وركب البحر متوجهاً إلى بلاده، وكان قد رأى في منامه وهو في بلاد الشرق كأنه شرب ماء البحر جميعه كرتين، فلما ركب في السفينة شرع في تغيير المنكر جميعه على أهل السفينة، وألزمهم إقامة الصلاة وقراءة الأحزاب من القرآن، ولم يزل على ذلك حتى انتهى إلى المهدية - إحدى مدن إفريقية - وكان ملكها يومئذ الأمير يحيى بن تميم بن المعز الصبهاجي، وذلك في سنة خمس وخمس مائة على ما ذكر في تاريخ القيروان. وذكر غيره أنه اجتاز في رجوعه من العراق بإفريقية أيام ولاية الأمير تميم والد يحيى المذكور والله أعلم بالصواب. ولما وصل إلى المهدية نزل في مسجد مغلق وهو على الطريق، وجلس في طاق شارع إلى المحجة ينظر إلى المارة، فلا يرى منكراً من عادة الملاهي أو أواني الخمور، إلا نزل إليها وكسرها، وتسامع الناس به في البلاد، فجأووا إليه، وقرؤوا عليه كتباً من أصول الدين، وبلغ خبره الأمير، فاستدعاه مع جماعة من الفقهاء.
فلما رأى سمته، وسمع كلامه أكرمه، وأجله وسأله الدعاء، فقال له: أصلحك الله(3/178)
تعالى لرعيتك، ولم يقم بعد ذلك في المهدية إلا أياماً يسيرة، ثم انتقل إلى بجاي، وأقام بها مدة وهو على حاله في الإنكار، فأخرج منها إلى بعض قراها، واسمها ملال، فوجد بها عبد المؤمن بن علي القيسي. وذكروا في بعض تواريخ المغرب عن سيرة ملوكه أن محمد بن تومرت كان قد اطلع من علوم أهل البيت على كتاب يسمى الجف: بفتح الجيم وسكون الفاء وفي آخره راء - وسيأتي إيضاح الجفر المذكور إن شاء الله تعالى في سنة ثمان وخمسين - وانه رأى فيه صفة رجل يظهر بالمغرب الأقصى بمكان يسمى السوس من ذرية الرسول - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى الله عز وجل، يكون مقامه ومدفنه بموضع من المغرب يسمى بترمذ - وسيأتي ضبط حروفه بعد إن شاء الله تعالى - ورأى فيه أيضاً أن استقامة ذلك الأمر واستيلاءه وتمكنه يكون على يد رجل من أصحابه، هجاء اسمه ع ب د م وم ن، وتجاوز وقته المائة الخامسة للهجرة، فأوقع الله في نفسه أنه القائم بأول الأمر، وأن أوانه قد أزف، فما كان يمر بموضع إلا سأل عنه، ولا يرى أحداً إلا أخذ اسمه وتفقد حليته - وكانت حلية عبد المؤمن معه - فبينا هو في الطريق، إذ رأى شاباً قد بلغ أشده على الصفة التي منه، فقال له وقد تجاوزه: ما اسمك يا شاب؟ فقال: عبد المؤمن، فرجع إليه وقال: الله أكبر، أنت بغيتي، فنظر في حليته، فوافقت ما عنده، فقال له: ممن أنت؟ فقال: من كومية - بضم الكاف وسكون الواو وكسر الميم وفتح المثناة من تحت - قبيلة، فقال: أين مقصدك؟ فقال: الشرق، فقال: ما تبغي من الشرق؟ قال: أطلب علماً، قال: فقد وجدت علماً وشرفاً وذكراً، اصحبني تنله، فوافقه على ذلك، فألقى محمد إليه أمره، وأودعه سره. وكان محمد قد صحب رجلاً يسمى عبد الله الونشريشي بالنون بعد الواو ثم الشين المعجمة مكررة قبل الراء والمثناة من تحت وبعدهما - ففاوضه فيما عزم عليه من القيام فوافقه على ذلك أتم الموافقة. وكان الونشريشي ممن تهذب وقرأ فقهاً، وكان جميلاً فصيحاً في لغة العرب وأهل المغوب، فتحدثاً يوماً في كيفية الوصول إلى الأمر المطلوب، فقال محمد لعبد الله: أترى أن تستر ما أنت عليه من العلم والفصاحة عن الناس، وتظهر من العجز واللكن والحصر والتعري عن الفضائل ما تشتهر به عند الناس، ليتخذ الخروج واكتساب العلم دفعة واحدة، ليقوم لك ذلك مقام المعجزة عند حاجتنا إليه، فتصدق فيما تقوله. ففعل عبد الله ذلك.(3/179)
ثم ان محمداً استدعى أشخاصاً من أهل المغرب أجلاداً في القوى الجسمانية أغماراً، وكان أميل إلى الأغمار من أولي الفطن والاستبصار، فاجتمع له منهم ستة سوى الونشريشي، ثم إنه رحل إلى أقصى المغرب، واجتمع بعبد المؤمن بعد ذلك، وتوجهوا جميعاً إلى مراكش - وسلطانها يومئذ علي بن يوسف بن سفيان وكان ملكاً عظيماً حليماً ورعاً عادلاً متواضعاً، وكان بحضرته رجل يقال له ملك بن وهيب الأندلسي - وكان عالماً صالحاً، وشرع محمد في الإنكار على جاري عادته، حتى أنكر على ابنه الملك - وله في ذلك قصة يطول شرحها فبلغ خبره الملك، وأنه يحدث في تغير الدولة فتحدث ملك بن وهيب في أمره وقال: تخاف من فتح باب يعسر علينا سده، والرأي أن تحضر هذا الشخص وأصحابه ليسمع كلامهم بحضور جماعة من علماء البلد، أجاب الملك، إلى ذلك - وكان محمد وأصحابه مقيمين في مسجد خراب خارج البلد - وطلبوهم، فلما ضمهم المجلس قال الملك لعلماء بلده: سلوا هذا الرجل ما يبغي منا، فانتدب له قاضي المرورية واسمه محمد بن اسود - فقال: ما هذا الذي يذكر عنك من الأقوال في حق الملك العادل الحليم المنقاد إلى الحق، المؤثر طاعة الله - عز وجل - على هواه؟ فقال محمد: أما ما نقل عني فقد قلته، ولي من ورائه أقوال، وأما قولك إنه يؤثر طاعة الله عز وجل على هواه، وينقاد إلى الحق فقد ظهر صحة اعتبار هذا القول عنه، لتعلم، بتعريته عن هذه الصفة أنه مغرور بما يقولون له، وتطرونه به مع علمكم أن الحجة عليه متوجهة - فهل بلغك يا قاضي أن الخمر تباع جهاراً، وأن الخنازير تمشي بين المسلمين، وتؤخذ أموال اليتامى؟ - وعد من ذلك شيئاً كثيراً. فلما سمع الملك كلامه ذزفت عيناه، وأطرق حياء، ففهم الحاضرون من فحوى كلامه أنه طامع في المملكة لنفسه. ولما رأوا سكوت الملك وانخداعه، لم يتكلم أحد منهم، فقال ملك بن وهيب - وكان
كثير الاجتراء على الملك: - أيها الملك؛ إن عندي لنصيحة، إن قبلتها حمدت عاقبتها، وإن تركتها لم تأمن غائلتها، فقال الملك: ما هي؟ قال: إني خائف عليك من هذا الرجل، وأرى أنك تعتقله وأصحابه، وتنفق عليهم كل يوم ديناراً لتكفي شره، وإن لم تفعل ذلك لينفق عليك خزائنك كلها، ثم لا ينفعك ذلك. فوافقه الملك، فقال وزيره: يقبح بك أن تبكي من موعظة هذا الرجل، ثم تسيء إليه في مجلس واحد، وأن يظهر منك الخوف منه - مع عظم ملكك - وهو رجل فقير لا يملك سد جوعه!!، فلما سمع الملك كلامه أخذته عزة النفس، واستهون أمره، وصرفه، وسأله الدعاء. وحكى صاحب كتاب المغرب أنه لما خرج من عند الملك لم يزل وجهه تلقاء وجهه إلى أن فارقه، فقيل له: نراك تأدبت مع الملك؟! فقال: أردت أن لا يفارق وجهي الباطل ما استطعت حتى أغيره. فلما خرج محمد وأصحابه من عند الملك قال لهم: لا مقام لنا مع وجود ملك بن وهيب، فما نأمن أن يغادر الملك في أمرنا، فينا لنا منه مكروه، وإن لنا بمدينة أغمات أخاً في الله، فنقصد المرور به، فلم نعدم منه رأياً وإيماء صالحاً واسم هذا الشخص عبد الحق بن ابراهيم من فقهاء المصامدة - فخرجوا إليه ونزلوا عليه، وأخبره محمد خبرهم، وأطلعه على مقصدهم، وما جرى لهم عند الملك، فقال عبد الحق: هذا الموضع لا يحميكم، وإن أحصن هذه المواضع المجاورة لهذا البلد تينمل بكسر المثناة من فوق وسكون المثناة من تحت وبعدها نون ثم ميم مفتوحة ولام مشددة - في المكان الفلاني، وبيننا وبين ذلك مسافة يوم في هذا الجبل، فانقطعوا فيه برهة ريثما ينسى ذكركم. فلما سمع محمد بهذا الاسم تجدد له ذكر اسم الموضع الذي رآه في كتاب الجفر، فقصده مع أصحابه، فلما أتوه رآهم أهله على تلك الصورة، فعلموا أنهم طلاب العلم، فقاموا إليهم، وأكرموهم، وتلقوهم بالترحاب، وأكرموهم في أكرم منازلهم. وسأل الملك عنهم بعد خروجهم من مجلسه، فقيل له: إنهم سافروا، فسره ذلك وقال: تخلصنا من الإثم بحسبهم. ثم إن أهل الجبل تسامعوا بوصول محمد إليهم - وكان قد سار فيهم ذكره فجاؤوه - من كل فج عميق، وتبركوا بزيارته، وكان كل من أتاه استدناه، وعرض عليه ما في نفسه من الخروج على الملك، فإن أجابه أضافه إلى خواصه، وإن خالقه أعرض عنه، وكان يستميل الأحداث وذوي الغباوة، وكان ذو الحلم والعقل من أهاليهم يهنونهم ويحذرونهم من إتباعه، ويخوفونهم من سطوة الملك، فكان لا يتم له مع ذلك حال. وطالت المدة، وخاف محمد من مفاجأة الأجل قبل بلوغ الأمل، وخشي أن يطرأ علىير الاجتراء على الملك: - أيها الملك؛ إن عندي لنصيحة، إن قبلتها حمدت عاقبتها، وإن تركتها لم تأمن غائلتها، فقال الملك: ما هي؟ قال: إني خائف عليك من هذا الرجل، وأرى أنك تعتقله وأصحابه، وتنفق عليهم كل يوم ديناراً لتكفي شره، وإن لم تفعل ذلك لينفق عليك خزائنك كلها، ثم لا ينفعك ذلك. فوافقه الملك، فقال وزيره: يقبح بك أن تبكي من(3/180)
موعظة هذا الرجل، ثم تسيء إليه في مجلس واحد، وأن يظهر منك الخوف منه - مع عظم ملكك - وهو رجل فقير لا يملك سد جوعه!!، فلما سمع الملك كلامه أخذته عزة النفس، واستهون أمره، وصرفه، وسأله الدعاء. وحكى صاحب كتاب المغرب أنه لما خرج من عند الملك لم يزل وجهه تلقاء وجهه إلى أن فارقه، فقيل له: نراك تأدبت مع الملك؟! فقال: أردت أن لا يفارق وجهي الباطل ما استطعت حتى أغيره. فلما خرج محمد وأصحابه من عند الملك قال لهم: لا مقام لنا مع وجود ملك بن وهيب، فما نأمن أن يغادر الملك في أمرنا، فينا لنا منه مكروه، وإن لنا بمدينة أغمات أخاً في الله، فنقصد المرور به، فلم نعدم منه رأياً وإيماء صالحاً واسم هذا الشخص عبد الحق بن ابراهيم من فقهاء المصامدة - فخرجوا إليه ونزلوا عليه، وأخبره محمد خبرهم، وأطلعه على مقصدهم، وما جرى لهم عند الملك، فقال عبد الحق: هذا الموضع لا يحميكم، وإن أحصن هذه المواضع المجاورة لهذا البلد تينمل بكسر المثناة من فوق وسكون المثناة من تحت وبعدها نون ثم ميم مفتوحة ولام مشددة - في المكان الفلاني، وبيننا وبين ذلك مسافة يوم في هذا الجبل، فانقطعوا فيه برهة ريثما ينسى ذكركم. فلما سمع محمد بهذا الاسم تجدد له ذكر اسم الموضع الذي رآه في كتاب الجفر، فقصده مع أصحابه، فلما أتوه رآهم أهله على تلك الصورة، فعلموا أنهم طلاب العلم، فقاموا إليهم، وأكرموهم، وتلقوهم بالترحاب، وأكرموهم في أكرم منازلهم. وسأل الملك عنهم بعد خروجهم من مجلسه، فقيل له: إنهم سافروا، فسره ذلك وقال: تخلصنا من الإثم بحسبهم. ثم إن أهل الجبل تسامعوا بوصول محمد إليهم - وكان قد سار فيهم ذكره فجاؤوه - من كل فج عميق، وتبركوا بزيارته، وكان كل من أتاه استدناه، وعرض عليه ما في نفسه من الخروج على الملك، فإن أجابه أضافه إلى خواصه، وإن خالقه أعرض عنه، وكان يستميل الأحداث وذوي الغباوة، وكان ذو الحلم والعقل من أهاليهم يهنونهم ويحذرونهم من(3/181)
إتباعه، ويخوفونهم من سطوة الملك، فكان لا يتم له مع ذلك حال. وطالت المدة، وخاف محمد من مفاجأة الأجل قبل بلوغ الأمل، وخشي أن يطرأ على
أهل الجبل من جهة الملك ما يحوجهم إلى تسليمه إليهم والتخلي عنه، فشرع في إعمال الحيلة فيما يشاركونه فيه ليبغضوا على الملك بسببه، فرأى بعض أولاد القوم شقراً زرقاً، وألوان آبائهم السمرة والكحل، فسألهم عن سبب ذلك فلم يجيبوه، فألزمهم الإجابة فقالوا: نحن من رعية هذا الملك، وله علينا خرإج في كل سنة، يصعد مماليكه إلينا، وينزلون في بيوتنا، ويخرجوننا عنها، ويستحلون من فيها من النسوان، فيأتي الأولاد على هذه الصفة، وما لنا قدرة على دفع ذلك عنا. قال محمد: والله إن الموت خير من هذه الحياة، وكيف رضيتم بهذا - وأنتم أضرب خلق الله بالسيف، وأطعنهم بالحربة؟! - فقالوا: بالرغم لا بالرضى. فقال: أرأيتم لو أن ناصراً نصركم على أعدائكم، ما كنتم تصنعون؟ قالوا كنا نقدم أنفسنا بين يديه بالموت، قالوا: ومن هو؟ قال: ضيفكم. يعني: نفسه، فقالوا: السمع والطاعة. وكانوا يغالون في تعظيمه، فأخذ عليهم العهود والمواثيق، واطمأن قلبه. ثم قال لهم: استعدوا لحضور هؤلاء بالسلاح، فإذا جاءكم فأجروهم على عوائدهم، وخلوا بينهم وبين النساء، وميلوا عليهم بالخمور، فإذا سكروا فاذنوني بهم. فلما حضر المماليك، وفعل معهم أهل الجبل ما أشار به - وكان ليلاً - أعلموه بذلك، فأمر بقتلهم بأسرهم، فلم يمض من الليل سوى ساعة حتى أتوا على آخرهم، ولم يفلت منهم سوى مملوك واحد كان خارج المنازل لحاجة، وسمع النكبة عليهم والوقع بهم، فهرب من غير الطريق حتى خلص من الجبل، ولحق بمراكش، وأخبر الملك بما جرى، فندم الملك على فوات محمد من يده، وعلم أن الحزم كان مع ملك بن وهيب بما أشار به، فجهز من وقته خيلاً بمقدار ما يسع ذلك الوادي، فإنه ضيق المسلك، وعلم محمد أنه لا بد من عسكر يخرج إليهم، فأمر أهل الجبل بالقعود على أبواب الوادي، وراصده، واستنجد لهم بعض المجاورين، فلما وصلت الخيل إليهم أقبلت عليهم الحجارة من جانب الوادي مثل المطر - وكان ذلك من أول النهار إلى آخره - وحال بينهم الليل، ورجع العسكر إلى الملك فأخبروه بما نزل بهم، فعلم أنه لا طاقة له بأهل الجبل لتحصنهم، فأعرض عنهم، وتحقق محمد ذلك منه، وصفا له مودة أهل الجبل، فعند ذلك استدعى الونشريشي المذكور وقال له: هذا أوان إظهار فضائلك دفعة واحدة لتقوم المعجزة، لتستميل بك قلوب من لا يدخل في الطاعة. ثم اتفقا على أنه يصلي الصبح، ويقول بلسان فصيح بعد استعمال العجمة واللكنة في(3/182)
تلك المدة: - إني رأيت البارحة في منامي: وقد نزل ملكان من السماء، وشقا فؤادي، وغلاه وحشياه علماً وحكمة وقرآناً، فلما أصبح قال ذلك - وهو فصل يطول شرحه - فاتفق أنه انقاد له كل صعب القياد، وعجبوا من حاله وحفظه القرآن في النوم، فقال له محمد: فعجل لنا بالبشرى في أنفسنا، وعرفنا: أسعداء نحن أم أشقياء؟ فقال له: أما أنت؛ فإنك المهدي القائم بأمر الله، ومن معك سعد، ومن خالفك هلك، ثم قال: أعرض أصحابك علي حتى أميز أهل الجنة من أهل النار، وعمل في ذلك حيلة قتل بها من خالف أمر محمد، وأبقى من أطاعه - وشرح ذلك يطول - وكان غرضه أن لا يبقى في الجبل مخالف لمحمد. فلما قتل من قتل علم محمد أن في الباقين من له أهل وأقارب قتلوا، وأنهم لا تطيب قلوبهم بذلك، فجمعهم وبشرهم بانتقال ملك مراكش إليهم، واغتنامهم أموالهم، فسرهم ذلك، وسلاهم عن أهلهم. وبالجملة فإن تفصيل هذه الواقعة طويل، وخلاصة الأمر أن محمداً لم يزل حتى جهز جيشاً عدد رجآله عشرة آلاف - ما بين فارس وراجل - وفيهم عبد المؤمن والونشريشي وأصحابه كلهم، وأقام هو بالجبل، فنزل القوم لحصار مراكش، وأقاموا عليها شهراً ثم كسروا كسرة شنيعة، وهرب من سلم من القتل، وكان فيمن سلم عبد المؤمن، وقتل الونثسريشي، وبلغ محمداً الخبر - وهو بالجبل - وحضرته الوفاة قبل عود أصحابه إليه، فأوصى من حضر أن يبلغ ألفائبين أن النصر بهم وألفاقبة حميدة، فلا يضجروا، وليعتادوا القتال، وأن الله سيفتح على أيديهم - والحرب سجال - وإنكم ستقومون ويضعفون، وسيفتح لكم وتكثرون ويقفون، وأنتم في مبدأ أمروهم في آخره - ومثل هذه الوصايا وأشباهها، وهي وصية طويلة. ثم إنه توفي رحمة الله تعالى في السنة المذكورة، ودفن في الجبل، وقبره هناك مشهور يزار. وكانت ولادته يوم عاشوراء سنة خمس وثمانين وأربع مائة، وأول دعأنه إلى هذا الأمر سنة أربع عشرة وخمس مائة، وكان رجلاً ربعة
قصيراً أسمر عظيم آلهامة حاد النظر. قال صاحب كتاب المغرب في أخبار أهل المغرب في حقه: آثاره تنبئك عن أخباره، وحتى كأنك بألفا قدم في الثرى وهذة في الثريا، ونفس ترى إراقة ماء الحياة دون ماء المحيا. وكان قوته - من غزل أخت له - رغيفاً في كل يوم بقليل سمن أو زيت، ولم ينتقل عن هذا حين كثرت عليه الدنيا، ورأى أصحابه يوماً - وقد مالت نفوسهم إلى كثرة ما غنموه - فأمر بضم جميعه، فأحرقه وقال: من كان يبتغي الدنيا فما له عندي إلا ما رأى، ومن يبتغي الآخرة فجزاؤه على الله تعالى، وكان على خمول زيه وبسط وجهه مهيباً، منيع الحجاب إلا عند مظلمة، وله رجل مخص بخدمته والإذن عليه، وكان له شعر ومن ذلك: قصيراً أسمر عظيم آلهامة حاد النظر. قال صاحب كتاب المغرب في أخبار أهل المغرب في حقه: آثاره تنبئك عن أخباره، وحتى كأنك بألفا قدم في الثرى وهذة في الثريا، ونفس ترى إراقة ماء الحياة دون ماء المحيا. وكان قوته - من غزل أخت له - رغيفاً في كل يوم بقليل سمن أو زيت، ولم ينتقل عن(3/183)
هذا حين كثرت عليه الدنيا، ورأى أصحابه يوماً - وقد مالت نفوسهم إلى كثرة ما غنموه - فأمر بضم جميعه، فأحرقه وقال: من كان يبتغي الدنيا فما له عندي إلا ما رأى، ومن يبتغي الآخرة فجزاؤه على الله تعالى، وكان على خمول زيه وبسط وجهه مهيباً، منيع الحجاب إلا عند مظلمة، وله رجل مخص بخدمته والإذن عليه، وكان له شعر ومن ذلك:
أخذت بأعضادهم إذ نأوا ... وخلفك القوم اذ ودعوا
فكم أنت تنهي ولا تنتهي ... وتسمع وعظاً ولا تسمع
فيا حجر الشجر حتى متى ... تسد الحديد ولا تقطع
وكان كثيراً ما ينشد:
تجرد من الدنيا فإنك إنما ... خرجت إلى الدنيا وأنت مجرد
ولم يفتتح شيئاً من البلاد، وإنما قرر القواعد ومهدها ورتبها، وكانت الفتوحات على يد عبد المؤمن كما سيأتي في ترجمته - أن أول ما أخذ تلمسان ثم فاس ثم سلا ثم سبتة ثم مراكش، واستوثق له الأمر، وامتد ملكه إلى المغرب الأقصى والأدنى وبلاد إفريقية وكثير من بلاد الأندلس. ومما ذكر بعض المؤرخين أنه ادعى الإمامة وأنه معصوم، قال: وكان على طريقة مثلى لا تنكر معه العظمة، وقيل: كان حاذقاً في ضرب إلىمل، وقيل: اتفق لعبد المؤمن أنه كان قد رأى أنه جمل في صحفة مع ابن تاشفين، ثم اختطف الصحفة منه، فقال له المعبر هذه إلىؤيا: لا ينبغي أن تكون ذلك، بل هي لرجل يخرج على ابن تاشفين، ثم يغلب على الأمر. وذكر أنه بعدما انكسرت المصادمة انتصرت مرة أخرى، ثم استنجد أمرهم وأخذوا في شن ألفارات في بلاد ابن تاشفين، وكثر ألفاخلون في دعوتهم. وكان ابن تومرت لم يزل على لون واحد من الزهد والتقلل والعبادة وإقامة السنن والشعائر. قال: غير أنه أفسد بالدعاء - كونه المهدي - وبسرعته في الدعاء، وكان ربما كاشف أصحابه، ووعدهم بأمور فيوافق، وكان طويل الصمت حسن الخشوع والسمت رحمه الله تعالى.(3/184)
وفيها توفي الآمر بأحكام الله أبو علي منصور بن المستعلي بالله العبيدي - صاحب مصر - كان مشتهراً بالظلم والفسق، امتدت دولته ثلاثين سنة. فلما تمكن وكبر قتل وزيره الأفضل، وأقام في الوزارة الشامون البطائحي، ثم صادره وقتله، ولما خرج إلى الجيزة في وقت كمن له قوم بالسلاح، فلما مر على الجسر نزلوا عليه بالسيوف، ولم يكن له عقب، فبايعوا بعده ابن عمه الحافظ عبد الحميد ابن الأمير محمد بن المستنصر. وفيها توفي أبو محمد بن الأكفاني هبة الله بن أحمد بن محمد الأنصاري الدمشقي الحافظ. وفيها توفيت فاطمة الجوزدانية بالجيم وبعد الواو زاي وذال معجمة وبين الألف وياء النسبة نون أم ابراهيم بنت عبد الله الأصبهانية، سمعت من ابن ريذة معجم الطبراني، وعاشت تسعاً وتسعين سنة.
سنة خمس وعشرين وخمس مائة
وفيها توفي الشيخ الكبير الولي الشهير ألفارف بالله، الخبير ذو الكرامات الكريمات والأحوال العظيمات والمقامات العلية والطريقة السنية أبو عبد الله حماد بن مسلم الدباس، كان أمياً، وفتح عليه بالمعارف والأسرار، وصار قدوة للمشايخ الكبار، وكبرت به الأصاغر، وهو الشيخ الذي خضعت له رقاب الشيوخ الأكابر محيي الدين أبي محمد عبد ألفادر الجيلاني - رضي الله تعالى عنهم، ونفعنا بهم آمين - ولكل واحد من الكرامات ما لا يسعه إلا مجلمات، وقد ذكرت شيئاً من ذلك في غير هذا الكتاب يدهش من سمعه من ذوي القلوب والألفاب، وكانت وفاة الشيخ المذكور ذي المناقب المشهورة في شهر رمضان من السنة المذكورة. وفيها توفي عن ثمان وثمانين سنة الولي الكبير الشهير الإمام النجيب النبيه المعروف بالشيخ محمد بن عبدويه: المشهور بالفضل والورع والاحسان المدفون في بلاد اليمن في جزيرة كمران - بفتح الحروف الثلاثة - تفقه على الشيخ الإمام أبي إسحاق الشيرازي في بغداد بكتابه المهذب ومسائل الخلاف وبكتبه في الأصول والجدل، ودخل اليمن بكتاب المهذب، وهو أول من دخل به اليمن - على ما بلغني - وسكن عدن مدة، ثم انتقل إلى زبيد - وملوكها الحبشة يومئذ - فدخلها مفضل بن أبي البركات بعسكر من العرب، وكان للشيخ(3/185)
المذكور مال يتجر به، فانتهب مع جملة ما نهب من زبيد، قال الامام المعروف بابن سمرة في تاريخه: وأظن ذلك وقع في الوقعة الأولى سنة تسمع وتسعين وأربعمائة. ثم خرج ابن عبدويه المذكور فسكن في جزيرة كمران، قلت وبها توفي، وأنا ممن زار قبره هنالك. قال ابن سمرة: وكانت أهل التوحيد وأهل الجلالات - يأتون للسلام عليه، ويقبلون رأسه - وهو قاعد - وكان كثير الزهد والورع، متحرياً في المطعم، لا يأكل إلا الأرز من بلاد آلهند، وكان عبيده يسافرون إلى الحبشة وآلهند ومكة وعدن للتجارة، فأخلف الله تعالى عليه أموالاً، فكان ينفق على طلبة العلم منها، وكان ظاهر التقوى مؤألفا للمسلمين من كل أفق. وله تصنيف في أصول الفقه سماه الإرشاد، وكان له ولد عالم بعلم الكلام والأصول مع تنوير في الفقه يسمى عبد الله، تفقه بأبيه، ومات قبله في سنة ثلاث وعشرين وخمس مائة، ودفن في الجزيرة المذكورة، ودفن والده لما توفى إلى جنبه، وقبرهما هنالك بجنب المسجد يزاران، يزورهم الصالحون وغيرهم، ويتبرك بترابهما. قال ابن سمرة: وله ذرية فقراء في هذه الجزيرة إلى اليوم، وهم ذوو مروءة ودين، وذكر أنه حج من عدن في البحر مع الشيخ الكبير الولي الشهير: مدافع بن سعيد التميمي، ومروا بالجزيرة المذكورة في سنة أربع وسبعين وخمس مائة، فكنا نقصد القبرين، ونزورهما واردين وصادرين، ونتبرك بالمسجد والقبرين وآثار الفقيهين وآثار التدريس. وفي المسجد ختمة موقوفة، ذكر بعض ذرية الشيخ محمد أنه بخط جده محمد المذكور، هذا بعض كلام ابن سمرة في ذلك. قلت: وقد زرت المسجد والقبرين، فأدركت بعض ذرية الوليين المذكورين، وأضافوني خبزاً وتمراً وملما، وسمكاً يقال له الشيراز، وكان الشيخ في ذلك الزمان لمكان الشيخ أحمد الأسوم، من أهل الصلاح وممن أشار إليه بالسر والصلاح، وكان الشيخ ابن عبدويه المذكور معظماً عند الناس غزير العلم كريم النفس، ارتحل إليه خلائق من فقهاء اليمن من بلمان شتى لعلمه وجوده وإتقانه وفهمه، وأخذوا عنه العلم، وكتب للشيخ أبي إسحاق المهذب وغيره، والتاريخ قرأه بعضهم عليه في سنة تسع عشرة وخمس مائة، كان قد ابتلي بذهاب البصر، فقال عند ذلك مخاطباً لنفسه - رحمة الله عليه -:
وقالوا قد دها عينيك سوء ... فلو عالجته بالقدح زالا
فقلت إلىب مختبري بهذا ... فإن أصبر أنل منه الجلالا
وإن أجزع حرمت الأجر منه ... وكان حصيصتي منه الوبالا
وإني صابر راض شكور ... ولست مغيراً ما قد أنا لا(3/186)
صنيع مليكنا حسن جميل ... وليس لصنعه شيء مثالاً
وربي غير متصف بحيف ... تعالى ربنا عن ذا تعالى
ولما توفي ولده المتقدم ذكره رثاه بعض فقهاء اليمن بقصيدة، قال في بعضها:
أمن بعد عبد الله نجل محمد ... يصون دموع العين من كان مسلما
وقد غاض بحر العلم مذ غاب شخصه ... ولكن بحر الوجد من بعده طمى
وفي السنة المذكورة توفي أبو العلاء - ابن عبد الملك الإيادي الإشبيلي طبيب الأندلس صاحب التصانيف، حدث عن أبي الغساني وجماعة، وله شعر رائق ورئاسة كبيرة. وفيها توفي الملقب بعين القضاة أبو المعالي عبد الله بن محمد آلهمداني الفقيه العلامة الأديب، وأحد من يضرب به المثل في الذكاء ألفارع النجيب، دخل فى مذهب التصوف، وأخذ في الكلام والإشارات الدقيقة وما لا يفهمه الخلق من أسرار الحقيقة مما نسب فيه إلى الكفيان فقتل به مصلوباً بهمذان. وفيها توفي السلطان مغيث الدين محمود ابن السلطان محمد بن ملكشاه السلجوقي، وكان قد خطب له ببغداد وغيرها، وله معرفة بالنحو والشعر والتاريخ، وكان شديد الميل إلى أهل العلم والخير - وتوفي بهمذان. وفيها توفي مسند العراق هبة الله بن حصين الشيباني البغدادي. وفيها توفي محمد بن عبد الملك بن زهير الإيادي الأندلسي الإشبيلي، من أهل بيت كلهم وزراء وعلماء ورؤساء وحكماء. قال الحافظ أبو الخطاب ابن دحية في كتابه المسمى المطرب من أشعار أهل المغرب، وكان شيخنا أبو بكر - يعني ابن زهير المذكور بمكان من اللغة مكين، ومورد من الطب معين، كان يحفظ شعر ذي إلىمة وهو ثلث لغة العرب، مع الإشراف على جميع أقوال أهل الطب والمنزلة العلما عند أصحاب المغرب، مع سمو النسب وكثرة الأموال والنشب، صحبته زماناً طويلاً، واستفدت منه أدباً جليلاً، ومن شعر ابن زهير المذكور وقد شاخ وغلب عليه الشيب:
إني نظرت إلى المرآة إذ جليت ... فأنكرت مقلماي كل ما رأنا
رأيت فيها شويخاً لست أعرفه ... وكنت أعهده من قبل ذاك فتى
فقلت: أين الذي بالأمس كان هنا ... متى ترحل عن هذا المكان متى؟(3/187)
فاسضحكت ثم قالت وهي معجبة ... إن الذي أنكرته مقلماك أتى
كانت سليمى تنادي يا أخي وقد ... صارت سليمى تنادي اليوم يا أبتا
قلت وقد عارضت هذه الأبيات لما أنشدها بعض المغاربة بقصيدة تنيف على ثمانين بيتاً سميتها: الرياض في الوعظ والاتعاظ وفي بيان حدود الأسنان والعراض وهي هذه:
وناعم فاقد ألفا يذكرنا ... نجداً واحداً وسلما والصفا ومنى
ومن بها حل والعيش الذي انصرمت ... واللمالي التي فيها بلوغ منى
وسادة كانت الأيام زاهرة ... بالنور واليمن فيهم زينوا اليمنا
ما بين حلى سقي من غيث رحمته ربي ثرى من بها ثاو ومن عدنا
إن قلت في فضل سادات لنا سلفوا ... فقول حسان في الأسلاف قد حسنا
لكنني في مديحي قد عممت به ... شيوخ الإسلام لم أخصص أحبتنا
من كان في شرق أرض أو بمغربها ... والشام واليمن ألفاوي لمحتدنا
ومدح شيب أتت في الشرع مدحته ... معارضاً من له بالذم أفهمنا
يا من رأى منقبات الشيب منقصه ... لم تدر كم قيل في علماه حدثنا
وكم روى من إمام نور ذاك عدا ... وما به من وقار قد رووه لنا
كذلك الحق يستحيي تبارك من ... ذي شيبة كلها تروي أئمتنا
صغرته إذ شويخاً قلت مع خطأ ... التصغير أيضاً خطا واوبه قرنا
كبره واقصد به تعظيم حرمة من ... بالدين دانوا وزانوا بالحلي الزمنا
قل غيرنا وبه للنفس مدحتها ... فالله يعلم منك السر والعلنا
لما نظرت إلى المرآة قد جليت ... شاهدت في تلك شيخاً قد علاه سنا
فقلت من ذا وعهدي قبل ذاك فتى ... بالزهور يرفل في ثوب الشباب هنا
فقال منها لمان ألفال ذاك مضى ... في ليل جهل قبيل الصبح حين دنا
وذا بدا حين فجر العقل ضاء به ... نور الوقار مع الأحلام قد سكنا
وبين ذين بدت أعلام نور بها ... كهولة زانها وشي وحسن ثنا
وهكذا العمر دولات كفاكهة ... زهو وأرطابها قد أورثت شحنا
وبعد أرطابها تمر فضيلته ... مشهورة فيه قوت للفقير غنى
ففي الثلاثين للشبان منزلة ... فيها ثناها انتهى ما بعد ذاك بنا
في تلك عيش نفوس أخضر وبها ... نعيم دنيا عني قد شابه وضنا
تكدير صفو ومن بعد الحياة فنا ... فالحزن يتلو سروراً والبكاء عنا
منازل الشيخ من خمسين قبل بدت ... من أربعين وفيها الانتهاء فنا(3/188)
وبعد ذاك رحيل نحو دار بقا ... فيها نعيم وسعد وشقا وعنا
حسب اكتساب لماعات ومعصية ... إليهما ألفابق المقدور قاد لنا
فضلاً وعدلاً، ومن شاء الكريم حبا ... عفواً وخير الذي عصيانه ودنا
منازل الكهل بين المنزلين ثوت ... للصاليحن بها عيش القلوب هنا
إلى نهايات غايات الحياة بها ... رياض فضل لأرباب القلوب مفا
وللجنان جنان الوصل مثمرة ... فكم فواكه فيها للنفوس من حنا
على مدى الدهر قد زادت زكاوتها ... لذاذة عند ذي ذوق وطيب جنا
من فاكهات فعال الصألفات جنوا ... وذو البطالات يجني الشوك مشبهنا
يا مشبهي يافعي في بطالته ... وضيعة العمر قولوا يا مصيبتنا
يا حسرتا بالنحاس الدون جوهرة ... النفيس بعنا، وما الدنيا له ثمنا
بل كل فيد من إنماس الحياة سما ... فضلاً على عيش دنيا معقباً فتنا
يا غبن من باع داراً بالفلوس إذا ... ما مفلس الدين جا بالدين مرتهنا
قد ضيع العمر لا علم ولا عمل ... مسوده أبيض والعظم القوي وهنا
هل بعدما ابيض زرع في منارعه ... إلا حصاد وهل في وقت ذاك ونا
حصد القضا بغتة تأتيه أمنية ... خف النوازل فالمغرور من أمنا
فكم صغير زروع حصد ذاك أتى ... فانهض بعزم وحزم عل ذاك دنا
شمر وعمر بحصن القلب حارسه ... ومن العدو الذي أمسى له وطنا
أين الجهاد وإكثار السهاد إذا ... لذ إلىقاد نفى عن طرفه الوسنا
وأين تأديب نفس في رياضتها ... بالجوع والصمت والسمت الذي حسنا
وبئس مثلي بثوب العجز مشتملاً ... نحو التكاسل قد مهر الجياد ثنا
يلقى علائقه أمست عوائقه ... عن كسب خير وفي القلب الونا وطنا
سلم الذنوب وداء من عيوب هوى ... قد صيرا كل من قد ثبط زمنا
يا بارد القلب يا خالي الفؤاد ومن ... ما هزه ذكر من في حاجز سكنا
ولا نسيم صبا نجد الغرام ولا ... نشر الحزام ولا من في النقا عطنا
ولا خيام لسلمى دون ذي سلم ... ولا العقيق ومن من رامتين دنا
ولا صفا عند جيران الصفا وهوى ... من في خيام زهت من دون خيف منا
من يشرب الحب لم ماء العذيب يذقومن زكا بالهوى ما شم طيب منا
ولا بكى عندما ناح الحمام ولا ... يرتاح إن لاح من برق الحجاز سنا(3/189)
ولا لنعما ونعمان هواه ولا ... يشتاق في المنزل الأصلي إلىضا وطنا
ولا دنا من خيام في حمى وهوى ... نور الجمال الذي كم عاشق فتنا
مثلي بعيد وكل قد ألم به ... النذير لاه ومن سطواته أمنا
نذير هادم لذات الشبيب فتى ... مفيق لجماعات الصحاب دنا
ومسكت ذا فصاحات به شمت الأ ... عدا وسروا وأحباب بكوا حزنا
وقدموا لرحيل حان مركبه ... مطية إلىاحلين النعش والكفنا
وشيعوه إلى أن جاء منزله ... تحت الجنادل في بيت البلاد فنا
في ضيق للحد ترعى الدود آكلة ... خدين يا طألفا بالحسن قد فتنا
ومقلة حل فيها الحسن سائلة ... وطيب الريح أضحى جيفه نتنا
وبعد ذاك نشور وإلىحيل إلى ... دار الجزا فعذاب أو لماء منا
ما لا يبال ولا عين رأته ولا ... لوصفه جاء ذكر طارق أذنا
هذا مقالي تناهى في العراض وفي ... اعتذاري عن اللوم الملم بنا
ما أحسن الحق والإنصاف حيث هما ... حلا ولو في مساكين هما سكنا
فافهم هديت سوى نهج إلىشاد وكن ... محققاً ومحقاً من ملا فطنا
حسن البلاغة مع حسن استعارتها ... ضاعا مع العي أو من يكتم الحسنا
من ليس يمدح سلمى عندما جليت ... يحكي لمن في الثرى البدر البهي دفنا
يا سامعاً لفظ نظمي لا تظن به ... مدحي لنفسي قبيح إن أقول: أنا
لا تحسبن فيه تخصيصاً لمدحتها ... والله ما طرف قلبي نحو ذاك رنا
لكني عارضت في مدح الشيوخ به ... من ذمهم في مديح والسباب عنى
من لفظه ذاك مفهوم ومعذرتي ... في ذكر نفسي جلي عند من فطنا
ما لي طريق ومرآة بها نظري ... شخصي سوى ما أرى غيري بها كمنا
إلا الذي قلت في روم العراض به ... مثل الذي قال: لاسوء يظن بنا
والله ما أرتضي فيها مطالعتي ... كيلا أرى شين وجه للذنوب جنا
هاك المقال الذي جاء العراض لمن ... قال له ينهى ألفافيات بنا
نظرت يوماً إلى المرآة إذ جليت ... فانكرت مقلماي عندما رأتا
رأيت فيها شويخاً لست أعرفه ... وكنت أعرف فيها قبل ذاك فتى
فقلت اين الذي بالأمس كان هنامتى ترحل عن هذا المحل متى؟
فاستضحكت ثم قالت وهي ما نطقت ... قد كان ذاك وهذا بعد ذاك أتى
هذا بذاك وكل لا دوام له ... أما ترى العود يذوي بعدما نبتا؟(3/190)
بالواو يروي شويخاً عن مقالته ... صواب ذاك شييخاً حين شاب عتا
بالله أنصف من المداح ذين هدى ... منا ومن مادح الدنيا بما نعتا
ها قد ثنت عن ثمانين العنان وما ... في مهرها من كلال نحو ذاك أتى
على الثمانين قد نافت ثمانية ... تزهو رياض عراض في أوان شتا
ختامها حمد ربي والصلاة على ... ختام رسل به ألفاران كلمتا
والآل والصحب سامي المجد ما نغمت ... حمامتا أيكة خضرا وغردتا
؟؟؟؟؟؟
سنة ست وعشرين وخمس مائة
فيها كانت الوقعة بناحية الدينور بين السلطان سنجر وبين ابني أخيه: سلجوق ومسعود. قال ابن الجوزي: كان مع سنجر مائة وستون ألفا، ومع مسعود ثلاثون ألفا، وبلغت القتلى أربعين ألفا فقتلوا قتلة جاهلية على الملك لا على الدين، وقتل أتابك السلجوقي، وجاء مسعود لما رأى الغلبة إلى بين يدي سنجر، فعفا عنه، وأعاده إلى مكانه، وقرر سلطنة بغداد لطغرل بك - بالماء المهملة والغين المعجمة وإلىاء الموحدة قبل ألفاف - ورد هو إلى خراسان. وفيها التقى المسترشد بالله بزنكي - بالزاي والنون قبل ألفاف - ودبيس، وشهر المسترشد يومئذ السيف، وحمل بنفسه - وكان في الفتن فانهزم دبيس وقتل من عسكرهما خلق. وفيها توفي الملك الأكمل أحمد بن الأفضل أمير الجيوش شاهنشاه ابن أمير الجيوش بدر الجمالي المصري، سجن بعد قتل أبيه مدة إلى أن قتل الأمير، وأقيم الحافظ، وأخرج الأكمل؟ وولي وزارة السيف والقلم، وكان شهماً عالي آلهمة كأبيه وجده، فحجر على الحافظ، ومنعه من الظهور، وأخذ أكثر ما في القصر، وأهمل ناموس الخلافة العبيدية لأنه سنياً كأبيه، لكنه أظهر التمسك بالإمام المنتظر، وأبطل من الأذان: حي على خير العمل، وغير قواعد القوم، فأبغضه الدعاة والقواد، وعملوا عليه، فيكب للعب الكرة في المحرم فوثبوا عليه، وطعنه مملوك الحافظ بحربة، وأخرجوا الحافظ، ونزل إلى دار الأكمل واستولى على خزائنه.(3/191)
وفيها توفي أبو المعز محمد بن عبد الله السلمي العكبري، وهو آخر من روى عن القاضي أبي الحسن ألفاوردي. وروى عنه الجوهري والقاضي أبو طيب الطبري وغيرهم. وفيها توفي بوري - بضم الموحدة وكسر إلىاء بين الواو والماء - الملقب بتاج الملوك، صاحب دمشق ابن صاحبها طغتكين مملوك تاج الدولة السلجوقي فنفي عليه ألفاطنية، فخرج وتعلل أشهراً ومات، وولي بعده ابنه شمس الملوك اسماعيل، وكان شجاعاً مجاهداً جواداً كريماً. وفيها توفي الإمام العلامة أبو محمد عبد الله بن أبي جعفر ألفالكي، انتهت إليه رئاسة ألفالكية. روى عن ابن البر وغيره من الكبار، وسمع بمكة صحيح مسلم من أبي عبد الله الطبري. وفيها توفي القاضي أبو الحسن ابن الفياء البغدادي الحنبلي، وكان متفنناً مناظراً عارفاً بالمذهب ودقائقه، أكثر الحط على الأشعرية، قتل ليلة عاشوراء، وأخذ مآله، ثم قتل قاتله.
سنة سبع وعشرين وخمس مائة
فيها قدمت التركمان، فأغاروا على أعمال طرابل، فالتقاهم فينج طرابلس، فهزمهم التركمان. وفيها سار المسترشد بالله في اثني عثر ألفا إلى الموصل، فحاصرها ثمانين يوماً وزنكي بها، ثم ترحل خوفاً على بغداد من دبيس والسلطان مسعود. وفيها توفي مسند العراق أبو غالب بن البناء البغدادي الحنبلي. وفيها توفي أبو العباس أحمد بن سلامة الكرخي. برع في المذهب وغوامضه على الشيخين أبي إسحاق وابن الصباغ، حتى صار يضرب به المثل في الخلاف والمناظرة، ثم علم أولاد الخليفة.(3/192)
وفيها توفي العلامة أبو الفتح الميهن، وأبو سعيد صاحب التعليقة، تفقه بمرو وغزنة، وشاع فضله، وبعد صيته، وولي نظامية بغداد مرتين، وخرج له عدة تلامذة. وكان يتوقد ذكاء، تفقه على أبي المظفر بن السمعاني وموفق آلهروي، وكان يرجع إلى خوف ودين. وفيها توفي ابن الزاغوني أبو الحسن بن عبيد الله البغدادي شيخ الحنابلة. روى الحديث وقرأ القراءات، وبرع في المذاهب والأصول والوعظ، وصنف التصانيف واشتهر. وفيها توفي رئيس نيسابور وصدرها وقاضيها وعالمها أبو سعيد محمد بن أحمد الصاعدي، وأبو حازم بن الفياء الفقيه الحنبلي محمد ابن القاضي أبي يعلى، برع في المذهب والأصول والخلاف، وبرع أهل زمانه بالزهد والديانة، صنف كتاب التبصرة في الخلاف ورؤوس المسائل وشرح مختصر الجرمي، وغير ذلك.
سنة ثمان وعشرين وخمس مائة
وفيها قدم رسول السلطان سنجر، فأكرم، وأرسل إليه المسترشد بالله خلعة عظيمة، قومت بمائة وعشرين ألف دينار. ثم عرض المسترشد جيشه، فبلغ خمسة عشر ألفا في عدد وزينة لم ير مثلها، وجدد المسترشد قواعد الخلافة، ونشر رسمها، وهابته الملوك. وفيها توفي الشيخ الكبير أبو الوقت أحمد بن علي الشيرازي صاحب إلىباط والأصحاب والمريدين ببغداد، وكان يحضر السماع. وفيها توفي شيخ الشافعية أبو علي ألفارقي الحسن بن ابراهيم، تفقه على محمد بن بيان ألفازروني، ثم ارتحل إلى الشيخ أبي إسحاق، وحفظ عليه المهذب، وتفقه على ابن الصباغ، وحفظ عليه الشامل، وكان ورعاً زاهداً صاحب حق مجوداً لحفظ الكتابين المذكورين، وقد سمع من أبي جعفر بن سلمة وجماعة، وولي قضاء واسط مدة وعليه تفقه القاضي أبو سعيد بن أبي عصرون. وفيها وقيل في التي تليها توفي ابن أبي الصلت أمية بن عبد العزيز ألفاني الأندلسي، كان ماهراً في علوم الأوائل من الطبيعي والرياضي والآلهي، كثير التصانيف بديع النظم،(3/193)
رأساً في معرفة علم آلهيئة والنجوم والموسيقى انتقل في البلاد ومات غريباً. ومن تصانيفه كتابه الذي سماه الحديقة، على أسلوب يتيمة الدهر للثعالبي، ورسالة العمل بالاصطرلاب، وكتاب الوجيز في آلهندسة، وكتاب الأدوية المفيدة، وكتاب في المنطق سماه تقويم الدهر، وكتاب سماه الانتصار في إلىد على ابن رضوان في ردة على حنين بن إسحاق في مسائلة. لما صنف الوجيز للأفضل الملقب بشاهنشاه عرضه على شيخه أبي عبد الله الحلبي فلما وقف عليه قال: هذا الكتاب لا ينفع المبتدىء، ويستغنى عنه للمنتهي، وكان فاضلاً في علوم الأدب عارفاً بفن الحكمة، يقال له الأديب الحكيم، وانتقل إلى ثغر الاسكندرية، ومن جملة ما ينسب إليه من النظم:
إذا كان أصلي من تراب فكلها ... بلادي وكل العالمين أقاربي
ولا بد لي أن أسأل العيس حاجة ... تشق على شم الذرة، والغوارب
ومما نسب إليه أيضاً العماد ألفاتب في الخريدة.
وقائلة ما بال مثلك خاملاً ... أأنت ضعيف إلىأي أم أنت عاجز؟
فقلت لها ذنبي إلى القوم أنني ... لما لم يجوزوه من المجد حائز
وما فاتني شيء سوى الحظ وحده ... وأما المعالي فهي عندي غرائز
وله أيضاً:
سكنتك يا دار الفناء مصدقاً ... بأني إلى دار البقاء أصير
وأعظم ما في الأمر أني صائر ... إلى عادل في الأمر ليس يجور
فياليت شعري كيف ألفاه عندها ... وزادي قليل والذنوب كثير؟
فإن أك مجزياً بذنبي فإنني ... بسوء عقاب المذنبين جدير
وإن يك عفو منك ربي ورحمة ... فثم نعيم دائم وسرور
كانت وفاته بالمهدية من بلاد المغرب، ونزل من صاحبها علي بن يحيى بن تميم بن المعز منزلة جليلة بعد أن كان قد نفاه الأفضل من مصر. انتهى مختصراً.
سنة تسع وعشرين وخمس مائة
وفيها حشر السلطان محمود، وجميع الجيوش، ونفذ خمسة آلاف فكبسوا مقدمة المسترشد، وأخذوا خيلهم وأمتعتهم، فيد إلى بغدا بأسوأ حال، ثم سار الخليفة إليه(3/194)
في سبعة آلاف، وكان مسعود بهمذان في بضع عشرة ألفا، فالتقوا في رمضان، فانكسر عسكر الخليفة، وأحيط به وبخواصه، وأخذت خزائنه، وكان معه على البغال أربعة آلاف ألف دينار، ولم يقتل سوى خمسة أنفس، وحصل المسترشد في أسر مسعود، وأقام أهل بغداد يوم العيد عليه سنة ألفاتم، وهاشوا على شحنة مسعود، فاقتتل الأجناد والعوام، وقتل جمع كثير، وأشرفت بغداد على اللهب. ثم أمر الشحنة فنودي أن سلمانكم آت بين يدي الخليفة، وعلى كتفه ألفاشية، فسكنوا.
وأما مسعود فسار، ومعه الخليفة معتقلاً إلى مراغة - وبها داود بن محمود - فأرسل سنجر يهدد مسعوداً ويخوفه، ويأمره أن يتلافى الأمر بأن يعيد المسترشد إلى دسته، ويمشي في ركابه، فسارع إلى ذلك، واتفق أن مسعوداً ركب في جيشه، فهجم على سرادق المسترشد سبعة عشر من ألفاطنية، فقتلوه بظاهر مراغة، وجلس السلطان للعزاء، فوقع البكاء والنوح، وجاء الخبر إلى ولده إلىاشد، فبايعوه ببغداد طول الليل، وأقام عليه البغداديون مأتماً ما سمع بمثله قط. وكانت خلافة المسترشد بالله الفضل بن المستظهر بالله أحمد بن المقتدي بالله عبد الله ابن محمد ألفائم آلهاشمي العباسي سبع عشرة سنة ونصفاً. واستخلف بعده ابنه، وسنه إذ ذاك سبع وعشرون سنة، وقيل إن ألفاطنية جهزهم عليه مسعود، قيل: ولم يل الخلافة بعد المعتضد بالله أشهم منه، كان بطلاً شجاعاً مقداماً شديد آلهيبة، ذا رأي ويقظة وهمة عالية. وقد روى عن أبي القاسم بن بيان إلىزاز - بالزاي المكررة قبل الألف وبعدها. وفيها توفي شمس الملوك اسماعيل بن تاج الملوك بوري بن طغتكين - ولي دمشق بعد أبيه، وأخذ من الفرنج عدة حصون، وكان وافي الحرمة موصوفاً بالشجاعة، لكنه كان ظألفا مصادراً جباراً مفسداً، فيتبت أمه زمند خاتون من وثب عليه، فقتله في قلعة دمشق وكانت دولته ثلاث سنين وتولى بعده في الملك أخوه محمود. وفيها قتل حسن ابن الحافظ لدين الله العبيدي المصري الذي ولي وزارة أبيه ثلاثة أعوام، فظلم وغشم، وفتك حتى إنه قتل في ليلة أربعين أميراً، فخافه أبوه، وجهز لحربه جماعة، فالتقاهم، واختبطت مصر، ثم دس عليه أبوه من سقاه السم، فهلك.(3/195)
وفيها توفي دبيس بن صدقة ملك العرب أبو الأعز، ولد الأمير سيف الدولة الأسدي، كان فارساً شجاعاً مقداماً ممدحاً، خرج على المسترشد بالله، ودخل خراسان والشام والجزيرة، واستولى على كثير من العراق، قتله السلطان مسعود، وأظهر أنه قتله آخذاً بثأر المسترشد، وهو من بيت كبير، وإياه أراد الحريري في المقامة ألفاسعة والثلاثين بقوله: والأسدي دبيس، لأنه كان معاصره، فيام التقرب إليه بذكره في مقاماته، على ما ذكره ابن خلكان. وله نظم حسن منه قوله:
ألا قل لبدران الذي حن نازعاً ... إلى أرضه والحر ليس يخيب
تمتع بأيام السرور فإنما ... عذار الأماني بآلهموم تشيب
ولله في تلك الحوادث حكمة ... وللأرض من كأس الكرام نصيب
وفيها توفي الحافظ الأديب الشيخ عبد ألفافي بن اسماعيل بن عبد ألفافي ألفارسي، صاحب تاريخ نيسابور، ومصنف مجمع الغرائب والمفهم في شرح مختصر صحيح مسلم. كان إماماً في الحديث واللغة والأدب والبلاغة. حدث عن جده لأمه الشيخ الإمام أبي القاسم القشيري وطبقته، أجازه أبو محمد الجوهري وآخرون. وفيها توفي قاضي الجماعة محمد بن أحمد التجيبي القرطبي ألفالكي. روى عن أبي علي الغساني وطائفة، وكان من جلة العلماء وكبارهم، مع الدين والخشوع. قتل مظلوماً بجامع قرطبة في صلاة الجمعة - رحمه الله تعالى -.
سنة ثلاثين وخمس مائة
فيها جاء أمير من جهة السلطان المسعود يطلب من إلىاشد بالله سبعمائة ألف دينار، فاستشار الأعيان، فأشاروا عليه بألفاجيل، فيد على مسعود بقوة نفس، وأخذ يتهيأ، فانزعج أهل بغداد، وعلقوا السلاح، ثم إن إلىاشد قبض على إقبال ألفادم، وأخذت حواصله، فتألم العسكر لذلك، وشغبوا، ووقع اللهب، ثم جاء زنكي، وسأل في إقبال سؤالاً تحته إلزام، فأطلق له. ثم خرج بالعساكر، فجاء عسكر مسعود، فنازلوا بغداد، وقاتلهم الناس، وخامر جماعة أمراء إلى إلىاشد، ثم بعد أيام وصل مسعود يطلب من إلىاشد الصلح، فقرئت مكاتبته على الأمراء، فأبوا إلا القتال، فأقبل مسعود في خمسة آلاف راكب، ودام الحصار، واضطرب عسكر الخليفة، وجرت أمور يطول ذكرها، ثم كاتب مسعود زنكي، وواعده ومناه، فكتب إلى الأمراء إنكم إن قتلتم زنكي أعطيتكم بلاده، فعلم زنكي بذاك، فيحل هو(3/196)
وإلىاشد عن بغداد، فدخلها مسعود فأظهر العدل، واجتمع إليه الاعيان والعلماء، وحطوا على إلىاشد، وطعنوا فيه. وقيل خوفهم وأرهبهم إن لم يخلعوا إلىاشد، فكتبوا محضراً ذكروا فيه ما يقتضي خلعه، وأحضروا محمد بن المستظهر، فبايعوه، ولقبوه المقتفي لأمر الله. ثم أخذ مسعود جميع ما في دار الخلافة حتى لم يدع فيها سوى أربعة أفياس. وفي السنة المذكورة توفي الحافظ أبو نصر ابراهيم بن الفضل الأصفهاني. وفيها توفي شيخ دمشق ومحدثها النحوي الزاهد علي بن أحمد الغساني. روى عن أبي بكر الخطيب وكثيرين. قال السلفي: لم يكن في وقته مثله في دمشق كان إماماً زاهداً عائذاً ثقة، قال الحافظ ابن عساكر: كان متحرزاً متيقظاً منقطعاً في بيته. وفيها توفي أبو سهل محمد بن ابراهيم الأصبهاني المنكي راوي مسند إلىوياني عن أبي الفضل إلىازي.
وفيها توفي الشيخ الكبير أستاذ الصوفية بخراسان ألفارف القدوة الشهير أبو عبد الله محمد بن حمويه الجويني. روى عن موسى بن عمران الانصاري وجماعة، وصنف في التصوف، وكان بعيد الصيت ومسند أصفهان في زمانه. وفيها توفي أبو بكر محمد بن علي الصألفاني.
وراويه أبو عبد الله محمد بن الفضل الصاعدي النيسابوري فقيه الحرم ألفارسي. روى عن الكبار، وتفيد بكتب كبار، وصار مسند خراسان، وكان شافعياً مفتياً مناظراً محدثاً واعظاً، صحب إمام الحرمين أبا المعالي الجويني، وعلق عنه الأصول، ونشأ بين الصوفية، وعاش تسعين سنة، وهو المقول فيه: للفياوي ألف راوي. وكان يحمل الطعام إلى المسافرين الواردين عليه، ويخدمهم بنفسه - مع كبر سنه وقدره - وخرج حاجاً إلى مكة، وعقد له مجلس الوعظ ببغداد وسائر البلاد التي توجه إليها، وأظهر العلم بالحرمين، وعاد إلى نيسابور، وقعد للتدريس. وسمع صحيح البخاري من سعيد بن أبي سعد، وصحيح مسلم من عبد ألفافي ألفارسي، وسمع من شيخ أبي إسحاق الشيرازي والحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، والأستاذ أبي القاسم عبد الكريم القشيري وإمام الحرمين، وتفيد برواية عدة كتب للمافظ البيهقي، مثل دلائل النبوة، والأسماء والصفات والبعث والنشور، والدعوات الكبيرة والصغيرة. والفياوي بضم الماء وفتح إلىاء، وهذه النسبة إلى فياوة بليدة مما يلي خوارزم، بناها عبد الله بن طاهر في خلافة الشامون، وهو يومئذ أمير خراسان، وللفياوي فضائل جمة(3/197)
ذكرت شيئاً منها في كتابي ألفاش المعلم، وممن رواها الإمام الحافظ إلىاوية ألفاهر المعروف بأبي القاسم ابن عساكر.
سنة إحدى وثلاثين وخمس مائة
فيها دفع زنكي إلىاشد المخلوع عن الموصل، وتسلل الناس عنه، وبقي حائراً، فنفذ مسعود الذي فارس لماخذوه، ففاتهم وجاء إلى مراغة، فبكى عند قبر أبيه، وحثا على رأسه التراب، فيق له أهل مراغة، وقام معه داود السلطان ولد محمود، فالتقى داود ومسعود، فقتل خلق من جيش مسعود، وصادر مسعود إلىعية ببغداد، وعسف. وفيها أخذ زنكي بعلبك. وفيها توفي اسماعيل بن أبي القاسم النيسابوري، كان صوفياً صألفا من أصحاب الأستاذ أبي القاسم القشيري. وفيها أو فيما قبلها توفي مسند هراة في زمانه تميم بن أبي سعيد الجرجاني.
وفيها توفي الحافظ أبو جعفر آلهمداني محمد بن الحسن، سمع بخراسان والعراق والحجاز. وفيها أبو عبد الله يحيى بن الحسن بن أحمد بن أحمد بن البناء البغدادي، وكان ذا علم وصلاح.
سنة اثنتين وثلاثين وخمس مائة
فيها قويت شوكت إلىاشد بالله وكثرت جموعه، فلم يلبث أن قتل. وفيها توفي الحافظ أبو نصر ألفازي محمد بن عمر الأصبهاني، قال ابن السمعاني: ما رأيت في شيوخي كثر رحلة منه، كان ثقة حافظاً. وفيها توفي أبو القاسم أحمد بن محمد بن القرطبي المالكي، أحد الأئمة - رحمه الله -. وفيها توفي اسماعيل بن أحمد الفقيه الشافعي النيسابوري. تفقه على إمام الحرمين، وبرع في الفقه، وروى عن جماعة.(3/198)
وفيها توفي أبو المظفر عبد المنعم ابن الأستاذ أبي القاسم القشيري، آخر إخوته وفاة، حدث عن البيهقي والكبار. وفيها توفي أبو الحسن الخدامي علي بن عبد الله الأندلسي، أحد الأئمة صنف في التفسير والأصول، وأجاز له الحافظ ابن عبد البر وأم الخير فاطمة بنت علي بن المظفر البغدادية المقرئة. وقيل في السنة التي قبلها وقيل بعدها توفي شيخ الكرخ وعالمها ومفتيها أبو الحسن محمد بن عبد الملك الفقيه الشافعي. قال ابن السمعاني: إمام ورع فقيه مفت، محدث أديب، أفنى عمره في طلب العلم ونشره. وفيها توفي إلىاشد بالله أبو جعفر بن المسترشد بالله بن المستظهر بالله، خطب بولاية العهد أكثر أيام والده، وبويع بعده. وكان شاباً أبيض مليحاً، تام الشكل شديد البطش، شجاع النفس حسن السيرة، جواداً شاعراً فصيحاً، لم تطل دولته، خلعوه لأمور ملفقة، وسار إلى أصبهان ومعه السلطان داود بن محمود، ومرض هناك، فوثب عليه جماعة من ألفاطنية وقتلوه. وفيها توفي الإمام العلامة أبو الحسن يونس بن محمد بن مغيث القرطبي. كان رأساً في الفقه والحديث والأنساب والتواريخ واللغة وعلو الإسناد. وفيها توفيت أم الخير فاطمة بنت علي البغدادي المقرئة المعروفة ببنت الزعبل - بالزاي والموحدة بينهما عين مهملة - روت صحيح مسلم وغريب الخطابي عن الحافظ أبي الحسين ألفارسي، وعاشت سبعاً وتسعين سنة.
سنة ثلاث وثلاثين وخمس مائة
قال أبو الفيج بن الجوزي: فيها كانت زلزلة عظيمة بحيرة، أتت على مائة ألف وثلاثين أهلكتهم، قيل: صار مكان الدماء أسود، وقال ابن الأثير: الذين هلكوا مائتا ألف وثلاثون ألفا.
وفيها توفي الشيخ أبو العباس أحمد بن عبد الملك بن أبي حمنة. روى عن جماعة،(3/199)
وتفيد بالإجازة عن أبي عمرو ألفاني. وفيها توفي جمال الإسلام أبو الحسن علي بن مسلم السلمي الشافعي، مدرس الغزالية ومفتي الشام في عصره، صنف في الفقه والتفسير، وتصدر للاشتغال وإلىواية. وفيها توفي صاحب دمشق محمود بن بوري، ولي بعد قتل أخيه شمس الملوك.
سنة أربع وثلاثين وخمس مائة
فيها حاصر زنكي دمشق. وفيها توفي القاضي أبو المفضل القرشي الدمشقي، من أصحاب الفقية الإمام أبي نصر المقدسي. وفيها توفي البديع الأصطرلابي هبة الله بن الحسين ألفاعر المشهور، أحد الأدباء الفضلاء. كان وحيد زمانه في علم الآلات الفلكية متقناً لهذه الصناعة، وأثنى عليه غير واحد من المؤرخين، وذكروا له عدة مقاطيع، فمن ذلك قوله:
أهدى لمجلسه الكريم وإنما ... أهدى له ما حزت من نعمأنه
كالبحر يمطره السحاب وما له ... فضل عليه لأنه من مأنه
وكان كثير الخلاعة يستعمل المجون في شعره، وكان قد جمعه ودونه، واختار ديوان ابن حجاج، ورتبه على مائة وواحد وأربعين باباً، وجعل كل باب في فن من فنون شعره، وكان قد جمعه ونفاه وسقاه: درة ألفاج من شعر ابن حجاج. وكان ظريفاً في جميع حركاته، والأصطرلابي نسبة إلى الأصطرلاب بفتح آلهمنة وسكون الصاد المهملة وبعضهم يكتبه بالسين وضم الماء المهملات وقبل الألف راء وبعدها موحدة وهو الآله المعروفة. قال كوشيار بن كنان بن باسهري الجبلي صاحب كتاب الزيج في إلىسالة التي وضعها في العلم الأصطرلابي: هو كلمة يونانية معناها ميزان الشمس، وقيل إن لاب اسم الشمس بلمان يونان، فكأنه قال: أصطر الشمس إشارة إلى الخطوط التي فيها، وقيل إن أول من وضعه بطلميوس صاحب المجسطي، وكان سبب وضعه له أنه كان معه كرة فلكية - وهو راكب - فسقطت منه، فداستها دابته، فخسفتها، فبقيت على هيئة الاصطرلاب. وكان أرباب علم الرياضيات يعتقدون أن هذه الصورة لا ترتسم في جسم كروي على هيئة الأفلاك، فلما(3/200)
رأه بطلميوس على تلك الصورة علم أنه يرتسم في السطح ويكون نصف دائرة، ويحصل منه ما يحصل من الكرة، فوضع الاصطرلاب، ولم يسبق إليه، وما اهتدى أحد من المتقدمين إلى أن هذا القدر يتأتى في الخط، ولم يزل الأمر مستمراً على استعمال الكرة والاصطرلاب إلى أن استنبط الشيخ شرف الدين الطوسي المذكور في ترجمة الشيخ كمال الدين بن يونس - رحمهما الله تعالى -، وهو شيخه في هذا العلم - أن يضع المقصود من الكرة والاصطرلاب في خط، فوضعه وسماه العصا، وعمل له رسالة بديعة، وكان قد أخطأ في بعض هذا الوضع، فأصلحه الشيخ كمال الدين، وهذبه. والطوسي أول من أظهر هذا في الوجود، فصارت آلهيئة توجد في الكرة، لأنها تشتمل على الطول والعرض والعمق، ويوجد في السطح الذي هو مركب من الطول والعرض بغير عمق، ويوجد في الخط الذي هو عبارة عن الطول فقط، ولم يبق سوى النقطة، ولا يتصور أن يعمل فيها شيء، لأنها ليست جسماً ولا سطحاً ولا خطاً، بل هي في طرف الخط. كما أن الخط طرف السطح، والسطح طرف الجسم، والنقطة لا تتجزأ، فلا يتصور أن يرتسم فيها شيء، وهذا وإن كان خروجاً عما نحن بصدده فإنه لا يخلو عن فائدة، والعلم به خير من الجهل به.
سنة خمس وثلاثين وخمس مائة
فيها ألح زنكي على دمشق للحصار، وخرب وعاث بحوران، ثم التقاه عسكر دمشق، فقتل جماعة، ثم ترحل إلى الشرق. وفيها توفي الحافظ الكبير أبو القاسم اسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي الطليحي الأصبهاني، إمام أئمة وقته وأستاذ علماء عصره. قال ابن السمعاني: هو أستاذي في الحديث، وعنه أخذت هذا القدر، وهو إمام في التفسير والحديث واللغة والأدب، عارف بالمتون والأسانيد. أملى بجامع أصبهان قربياً من ثلاثة آلاف مجلس. وقال أبو عامر العبدري: ما رأيت مثله ذاكرته، فيأيته حافظاً للحديث، عارفاً بكل علم متفنناً، وقال غيره: صنف التفسير في ثلاثين مجلما كباراً. وفيها توفي رزين بن معاوية العبدري الأندلسي، مصنف تجريد الصحاح. ومحمد بن عبد ألفاقي الأنصاري الحنبلي، سمع من علي بن عيسى ألفاقلاني، وأبي الطيب الطبري وطائفة. وتفقه على القاضي أبي يعلى، وبرع في الحساب وآلهندسة، وشارك(3/201)
في العلوم. قال ابن السمعاني: ما رأيت أجمع للفنون منه، نظر في كل علم.
وفيها توفي الشيخ الكبير العالم ألفارف، ذو الأسرار والمعارف أبو يعقوب يوسف بن أيوب بن يوسف آلهمذاني شيخ الصوفية بمرو وبقية مشايخ الطريق ألفالكين الشاملين، تفقه على الشيخ أبي إسحاق، فأحكم مذهب الشافعي، وبرع في المناظرة، ثم ترك ذلك وأقبل على شأنه. روى عن الخطيب والكبار، وسمع بأصبهان وبخارى وسمرقند، ووعظ وخوف، وانتفع به الخلق، وكان صاحب أحوال وكرامات، وتوفي في ربيع الأول عن أربع وتسعين سنة.
وفيها توفي أبو نصر محمد بن عبيد الله بن خاقان القيسي صاحب كتاب قلائد العقيان، له عدة تصانيف منها الكتاب المذكور، جمع فيه الشعراء المغرب وطائفة كثيرة، وتكلم على ترجمة كل واحد منهم بأحسن عبارة وألطف إشارة. هكذا حكي عنه. وله أيضاً كتاب مطمح الأنفس ومسرح ألفانس في ملح أهل الأندلس، وهو ثلاث نسخ: كبرى ووسطى وصغرى، وهو كثير ألفائدة، لكنه قليل الوجود في هذه البلاد، وكلامه في هذه الكتب يدل على فضله وغزارة مادته، وكان كثير الأسفار سريع التنقلات. قال الحافظ أبو الخطاب بن دحية في كتابه الموسوم بالمطرب من أشعار أهل المغرب: لقيت جماعة من أصحابه حدثوني عنه تصانيفه وعجائبه، وكان مخلوع العذار في دنياه، ولكن كلامه في تآليفه كالسحر الحلال والماء الزلال، قيل: ذبح في مسكنه في مراكش، أشار بقتله أمير المؤمنين أبو الحسن علي بن يوسف بن تاشفين.
وفيها توفي أبو يعقوب يوسف بن أيوب بن يوسف آلهمداني، الفقيه ألفاضل العالم الشامل إلىباني، قدم بغداد ولازم الشيخ أبا إسحاق الشيرازي، واشتغل عليه حتى برع في أصول الفقه والمذهب والخلاف. وسمع الحديث من جماعة ببغداد وأصبهان وسمرقند، ثم زهد في الدنيا، ولزم العبادة والرياضة والمجاهدة حتى صار من العلماء الذين يهتدي بهم الخلق إلى الله عز وجل، وعقد له مجلس الوعظ في المدرسة النظامية في بغداد، وصادف قبولاً عظيماً من الناس. قال الشيخ الصالح أبو الفضل صافي بن عبد الله الصوفي: حضرت مجلس شيخنا يوسف آلهمداني في النظامية - وكان قد اجتمع عليه العالم - فقام فقيه يعرف بابن السقا، وسآله، فقال الشيخ ألفارف ذو المعارف والنور يوسف بن أيوب المذكور: جلس، فإني أجد من كلامك رائحة الكفي، ولعلك تموت على غير دين الإسلام. قال أبو الفضل: فاتفق بعد(3/202)
هذا القول بمدة أن قدم رسول نصراني من ملك إلىوم إلى الخليفة، فمضى إليه ابن السقا، وسآله أن يستصحبه، وقال له: يقع لي أن أترك دين الإسلام، وأدخل في دينكم؛ فقبله النصراني، وخرج معه إلى القسطنطينية، والتحق بملك إلىوم، وتنصر، ومات على النصرانية. وقال الحافظ أبو عبد الله محمد بن محمود المعروف بابن النجار البغدادي في تاريخ بغداد في ترجمة يوسف آلهمداني المذكور: سمعت أبا الكرم عبد السلام بن أحمد المقرىء يقول: كان ابن السقا قارئاً للقرآن الكريم، مجوداً في تلاوته. حدثني من رآه في القسطنطينية ملقى على دكة مريضاً، وبيده حلق مروحة يدفع بها الذباب عن وجهه، قال: فسألته: هل القرآن باق على حفظك؟ قال: ما أذكر منه إلا آية واحدة " ربما يود الذين كفيوا لو كانوا مسلمين "، - الحجر 2 -، وألفاقي نسيته. نعوذ بالله من سوء القضاء. قلت وقد ذكرت في بعض كتبي عما نقل في مناقب الشيخ القطب إلىباني أستاذ الأكابر أبي محمد محيي الدين عبد ألفادر الجيلاني قدس الله تعالى سره قضية ابن السقا المذكور وكفيه، أنه كان سبب إساءته على رجل من الأولياء يقال له الغوث، وأنه خرج رسولاً للخليفة إلى ملك إلىوم، فافتتن بابنة الملك، فطلب زواجها، فامتنعوا من ذلك إلا بكفيه، فكفي. وقال بعضهم: كان أبو يعقوب المذكور صاحب الأحوال والمواهب الجزيلة والكرامات والمقامات الجليلة، وإليه انتهت تربية المريدين الصادقين، وكان قد برع في الفقه، ففاق أقرانه، خصوصاً في علم النظر. وكان الشيخ أبو إسحاق يقدمه على جماعة كثيرة من أصحابه - مع صغر سنه - لزهده وحسن سريرته واشتغآله بما يعنيه، ثم ترك كل ما كان فيه من المناظرة، واشتغل بما هو الأهم من عبادة الله تعالى ودعوة الخلق وإرشاد الأصحاب إلى الطريق المستقيم، ونزل مرو وسكنها، وخرج إلى هراة وأقام بها مدة، ثم سئل إلىجوع إلى مرو في آخر عمره فأجاب، ورجع إليه، وخرج إلى هراة ثانياً، ثم عزم على إلىجوع إلى مرر، وخرج فأدركته منيته في الطريق، فدفن ثم نقل بعد ذلك إلى مرو، ونقل ذلك ابن النجار في تاريخه عن السمعاني.
سنة ست وثلاثين وخمس مائة
فيها كانت ملحمة عظيمة بين السلطان سنجر وبين الترك الكفية فيما وراء اللهر، أصيب فيها المسلمون، وأقبل سنجر في نفي يسير، بحيث وصل بلخ في ستة أنفس، وأسرت(3/203)
زوجته وبنته، وقتل من جيشه مائة ألف أو أكثر، قيل: كان في القتلى أربعة آلاف امرأة، وكانت الترك في ثلاث مائة ألف فارس. وفيها توفي الشيخ الكبير ألفارف بالله الشهير ذو المواهب واللمائف والعلوم إلىبانية والمعارف أبو العباس ابن العريف أحمد بن محمد الصنهاجي الأندلسي الصوفي. كان له معرفة بالعلوم وعناية بالقراءات وجمع إلىوايات والطرق، متناهياً في الفضل والدين. وكان المريدون والعباد والزهاد يقصدونه، ولما كثر أتباعه خاف منه السلطان، وتوهم أن يخرج عليه، فطلبه، فأحضر إلى مراكش، فتوفي في الطريق قبل أن يصل، وقيل بعد أن وصل، وكان من أهل المنية. وفيها توفي الإمام أحد العلماء الأعلام، الفقيه المحدث الأصولي، الأديب محمد بن علي التميمي ألفازري. شرح صحيح مسلم شرحاً جيداً سماه كتاب المعلم بفوائد كتاب مسلم، وعليه بنى القاضي عياض بن موسى اليحصبي ألفالكي كتاباً اسماه الإكمال في شرح مسلم. وله في الأدب كتب متعددة. وكان فاضلاً متقناً، توفي في ثامن عشر ربيع الأول من السنة المذكورة، وقيل يوم الاثنين ثاني الشهر المذكور بالمهدية وعمره ثلاث وثمانون سنة. وألفازري نسبة إلى مازر وهي بفتح الزاي، وقد تكسر أيضاً، وهي بليدة بجزيرة صقلية. وفي السنة المذكورة توفي الحافظ أبو القاسم اسماعيل بن أحمد السمرقندي. وفيها توفي الإمام المفتي الشافعي عبد الجبار بن محمد، إمام جامع نيسابور، تفقه على إمام الحرمين، وسمع البيهقي والقشيري والجماعة. وفيها توفي الشيخ ألفارف ذو المواهب واللمائف أبو الحكم عبد السلام بن عبد إلىحمن المعروف بابن برجان الأندلسي اللخمي الإشبيلي شيخ الصوفية ومؤلف شرح أسماء الله الحسنى، توفي غريباً بمراكش. قال الأبار: كان من أهل المعرفة بالقراءات والحديث، والتحقيق، بعلم الكلام، والتصوف مع الزهد والاجتهاد في العبادة، وقبره بإزاء قبر ابن العريف. وفيها توفي شيخ الحنابلة بالشام بعد والده ابن الشيخ أبي الفيح عبد الواحد الشيرازي الدمشقي الفقيه الواعظ.(3/204)
وفيها توفي هبة الله بن أحمد البغدادي، المقرىء المحقق إمام جامع دمشق. ختم عليه خلق كثير، وله اعتناء بالحديث.
سنة سبع وثلاثين وخمس مائة
فيها توفي أبو الفتح بن البيضاوي القاضي عبد الله بن محمد بن محمد بن محمد أخو القاضي القضاة أبي القاسم الزينبي لأمه. وفيها توفي صاحب المغرب علي بن يوسف بن تاشفين، كان يرجع إلى عدل ودين وتعبد وحسن طوية، وشدة إيثار لأهل العلم وتعظيم لهم، قيل: وهو الذي أمر بإحراق كتب الإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي، والذي وثب عليه ابن تومرت الملقب بالمهدي الذي صحبه عبد المؤمن. توفي في رجب من السنة المذكورة. وفيها توفي الحافظ عمر بن محمد النسفي السمرقندي الحنفي. يقال له مائة مصنف. وفيها توفي قاضي دمشق وابن قاضيها أبو المعالي القرشي الشافعي. سمع من جماعة، وتفقه على الإمام أبي نصر المقدسي.
سنة ثمان وثلاثين وخمس مائة
فيها حاصر سنجر مدينة خوارزم، وكاد أن يأخذها، فذل خوارزم شاه، وبذل الساعة. وفيها توفي الحافظ مفيد بغداد أبو البركات عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي. كان واسع إلىواية، متقناً دائم البشر، سريع الدمعة، جمع وخرج وحصل، ولم يتزوج قط. وفيها توفي الوزير أبو القاسم علي بن طراد الزينبي العباسي، وزير المسترشد والمقتفي. اشتغل بالعبادة والخير لما تغير عليه المقتفي إلى أن مات، وكان يضرب به المثل بحسنه في صباه. وفيها توفي أبو الفتوح محمد بن الفضل الأسفيائيني، الواعظ المتكلم. له تصانيف في الأصول والتصوف. قال الحافظ ابن عساكر: أجرى من رأيت لماناً وجناناً، وأسرعهم جواباً، وأسلمهم خطاباً. لازمت حضور مجلسه، فما رأيت مثله واعظاً ولا مذكراً. وفيها توفي العلامة النحوي اللغوي المفسر المعتزلي أبو القاسم محمود بن عمر(3/205)
الزمخشري الخوارزمي، صاحب الكشاف والمفصل. عاش إحدى وسبعين سنة متفنناً في التفسير والحديث والنحو واللغة وعلم البيان إمام عصره في فنونه. وله التصانيف البديعة الكثيرة الممدوحة الشهيرة، عدد بعضهم منها نحو ثلاثين مصنفاً في التفسير والحديث وإلىواة وعلم الفيائض والنحو والفقه واللغة والأمثال والأصول والعروض والشعر. ومن ذلك كتاب شافي العي من كلام الشافعي وغير ذلك، وكان شروعه في تأليف المفضل في غرة شهر رمضان سنة ثلاث عشرة وخمس مائة، وفيغ منه في غرة المحرم، أظنه قال: سنة خمس عشرة وخمس مائة. وكان قد جاور بمكة زماناً، فصار يقال له: جار الله لذلك، حتى صار هذا اللقب علماً عليه. وكانت إحدى رجليه ساقطة، فكان يمشي في خشب. وسبب سقوطها أنه أصابه في بعض أسفاره برد شديد وثلج كثير، وكان معه محضر فيه شهادة خلق كثير ممن اطلعوا على حقيقة ذلك خوفاً من أن يظن قطعها لريبة.
وذكر بعض المؤرخين أنه أمسك عصفوراً، وربطه بخيط في رجله، ففلت من يده، فأدركه وقد دخل في جرق، فجذبه فانقطعت رجله في الخيط، فتألمت والدته لذلك، ودعت عليه بقطع رجله كما قطع رجله. فلما وصل إلى سن الطلب، رحل إلى بخارى لطلب العلم، فسقط عن ألفابة، فانكسرت رجله، وبلغت إلى حالة اقتضت قطعها - والله أعلم أي ذلك كان -. ولما صنف كتاب الكشاف استتفتح الخطبة بالحمد لله الذي خلق القرآن، فقيل له: متى تركته على هذه آلهيئة هجره الناس، فغيره بالذي أنزل القرآن. وقيل: هذا إصلاح الناس لا إصلاح المصنف، ومن شعره يرثي شيخه أبا مضر:
وقائلة ما هذه الدرر التي ... تساقط من عينيك سمطين سمطين
فقلت لها الدر الذي كان قد حشى ... أبو مضر أذني تساقط من عيني
وهذا مثل قول القاضي أبي بكر الأرجان، ولا يدري أيهما أخذ من الآخر، لأنهما كانا متعاصرين وهو.
ولم يبكني إلا حديث فياقهم ... لما أسرته إلى أدمعي(3/206)
هو ذلك الدر الذي أودعته ... في مسمعي أجريته من مدمعي
ومما أنشده لغيره في كتابه الكشاف عند تفسير قوله تعالى في سورة البقرة " إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها " - البقرة 26 -، فإنه قال: أنشدت لبعضهم:
يا من يرى مد البعوض جناحها ... في ظلمة الليل البهيم الأليل
ويرى عروق نياطها في نحوها ... والمخ في تلك العظام النحل
اغفي لعبد تاب من فيطاته ... ما كان منه في الزمان الأول
قال ابن خلكان: وكان بعض الفضلاء قد أنشدني هذه الأبيات بمدينة حلب، وقال: إن الزمخشري المذكور أوصى أن يكتب على لوح قبره:
آلهي؛ لقد أصبحت ضيفك في الثرى ... وللضعيف حق عند كل كريم
فهب لي ذنوبي في قراي فإنها ... عظام، ولا يقرى بغير عظيم
سنة تسع وثلاثين وخمس مائة
فيها أخذ زنكي إلىها من الفرنج. وتوفي تاشفين صاحب المغرب ولد علي بن يوسف بن تاشفين المصمودي البربري الملثم. كانت دولته في ضعف وسفال مع وجود عبد المؤمن، فتحصن، فصعد إليه أصحاب عبد المؤمن، فلما أيقن بآلهلكة ركض فرسه، فتردى إلى البحر، فتحطم وتلف، ولم يبق لعبد المؤمن منازع، فتوجه وأخذ تلمسان. وفيها توفي أبو منصور إلىزاز سعيد بن محمد البغدادي شيخ الشافعية، ومدرس النظامية، تفقه على الغزالي وأسعد الميهني والكيا وألفاشي والمتولي، وروى عن رزق الله التميمي. وفيها توفيت مسندة أصفهان أم البهاء، فاطمة بنت محمد البغدادية الواعظة، روت عن أبي الفضل إلىازي وجماعة. وفيها توفي أبو منصور محمد بن عبد الملك البغدادي المقرىء، مصنف المفتاح والموضع في القراءات العشرة.(3/207)
وفيها توفي وقيل في التي بعدها توفي أبو منصور موهوب بن أبي طاهر الجواليقي البغدادي الأديب اللغوي. كان إماماً في فنون الأدب، وهو متدين ثقة غزير الفضل، وافي العقل، مليح الخط، كثير الضبط صنف التصانيف المفيدة، وانتشرت عنه مثل شرح أدب ألفاتب وثمة درة الغواص في أوهام الخواص للحريري صاحب المقامات، وسماه: التكملة فيما يلحن فيه الشامة، إلى غير ذلك، وله نوادر كثيرة. وكان إماماً للمقتفي بالله. وما زاده في أول دخوله عليه على قوله: السلام على أمير المؤمنين: ورحمة الله تعالى. فقال له اين التلميذ النصراني - وكان قائماً بين يدي المقتفي، وله ادلال الخدمة والصحبة: ما هكذا يسلم على أمير المؤمنين يا شيخ، فلم يلتفت إليه، وقال للمقتفي: يا أمير المؤمنين، سلامي هو ما جاءت به السنة النبوية، ثم قال: يا أمير المؤمنين؛ لو حلف حالف أن نصرانياً أو يهودياً لم يصل إلى قلبه نوع من أنواع العلم على الوجه، لما لزمته الكفارة، لأن الله تعالى يختم على قلوبهم، ولن يفك ختم الله تعالى إلا الإيمان. فقال: صدقت وأحسنت فيما فعلت. فكأنما ألجم ابن التلميذ بحجر مع فضله وغزارة أدبه. سمع ابن الجواليقي من شيوخ زمانه، وأخذ عنه الناس علماً جما، وينسب إليه قليل من الشعر، من ذلك هذان البيتان، وقال بعض المطلعين: وجدتهما من جملة أبيات لابن الخشاب، وهما:
ورد الورى سلمال جوادك فارتووا ... ووقفت خلف الورد وقفة حائم
حيران أطلب غفلة من وارد ... والورد لا يزداد غير تزاحم
قلت: لقد أبدع قائلهما في معناهما، وأجاد وبالغ في مدحه بما تضمنه هذا الإنشاد. وحكى اسماعيل بن الجواليقي المذكور قال: كنت في حلقة والدي يوم الجمعة بعد الصلاة بجامع القصر - والناس يقرؤون عليه - فوقف عليه شاب وقال: يا سيدي؛ قد سمعت ببيتين من الشعر، ولم أفهم معناهما، وأريد أن تسمعهما مني، وتعرفني معناهما. فقال: قل، فأنشد.
وصل الحبيب جنان الخلد أسكنها ... وهجرة الناس تصليني بها النارا
فالشمس بالقوس أمست وهي نازلة ... إن لم يزرني وبالجوزاء إن زارا
فلما سمعهما والدي قال: يا بني؛ هذا شيء من معرفة علم النجوم، وتسييرها لأمر صنعه أهل الأدب، قال: فانصرف ألفاب من غير حصول فائدة، فاستحي والدي من أن(3/208)
يسأل عن شيء ليس عنده منه علم، وقام وآلى على نفسه أن لا يجلس في حلقته حتى ينظر في علم النجوم، ويعرف تسيير الشمس والقمر. فنظر في ذلك، وحصلت معرفته، ثم جلس. ومعنى البيت المسؤول عنه أن الشمس إذا كانت في آخر القوس كان الليل في غاية الطول، لأنه يكون آخر فصل الخريف، وإذا كانت في آخر الجوزاء كان الليل في غاية القصر، لأنه آخر فصل الربيع، فكأنه يقول: إذا لم يزرني فالليل عندي في غاية الطول، وإن زارني كأن الليل عندي في غاية القصر. انتهى. قلت: وفي نهاية الطول والقصر المذكورين في البرجين المذكورين. والاعتدال في برجي الحمل والميزان. وشدة البرد في برج الدلو، وشدة الحر في برج الأسد، أشرت بهذه الأبيات الأربعة حيث أقول:
إذا طال بالجوزاء نهار مفاخراً ... رماه بقوس طول ليل فيقصر
وإن حمل الإنصاف يوماً بعدله ... أتاه بميزان بها العدل يظهر
وإن شد حبل البرد دلواً ليستقوا ... أتى أسد في حرب حر وعسكر
فيكسر هذا ذاك حيناً، وحربهم ... سجال، ويغزو ذاك هذا فيكسر
سنة أربعين وخمس مائة
فيها توفي الحافظ أبو سعد أحمد بن محمد البغدادي الأصبهاني. كان ثقة خيراً، يحفظ صحيح مسلم.
سنة احدى واربعين وخمس مائة
فيها حاصر عماد الدين زكي الملقب بالملك المنصور - صاحب الموصل - قلعة جعبر، فوثب عليه ثلاثة من غلمانه فقتلو، وتملك الموصل بعده ابنه غازي، وتملك حلب وغيرها من نواحيها ابنه الآخر نور الدين محمود. وكان زنكي من الأمراء المتقدمين، وفوض إليه السلطان محمود بن ملكشاه السلجوقي ولاية بغداد في سنة إحدى وعشرين وخمس مائة، ثم أمره السلطان محمود بالتجهيز إلى الموصل والاستعداد لقتال الفرنج بالشام، فوصل إلى الموصل، وملكها، ودفع الفرنج عن(3/209)
حلب وقد ضايقوها بالحصار - ثم عاد إلى الموصل، فأقام بها، وهو من كبراء الدولة السلجوقية، فقتله ألفاطنية بجامع الموصل - يوم الجمعة تاسع ذي القعدة سنة عشرين وخمس مائة - جلسوا له في الجامع بزي الصوفية، فلما انفتل من صلاته قاموا إليه واثخنوه جراحاً لأنه كان قد تصدى لقتلهم، وقتل منهم عصبة كبيرة، فلما قتل رسم المسترشد أمير المؤمنين بتولية الموصل لولده زنكي، فتوجه زنكي إلى الموصل، فتسلمها وما والاها من البلاد، ثم توجه إلى قلعة جعبر فحاصرها، حتى أشرف على أخذها، فأصبح مقتولاً كما تقدم. وفيها أخذت الفرنج طرابلس الغرب بالسيف ثم عمروها. وفيها توفي شيخ الشيوخ أبو البركات اسماعيل ابن الشيخ أبي سعد - أحمد بن محمود النيسابوري البغدادي، وكان جليل القدر. وفيها توفي زنكي الأتابك صاحب الموصل وحلب، وكان فارساً شجاعاً ميمون النقيبة شديد ألفاس، قوي إلىأس عظيم آلهيبة، ملك الموصل وحلب وحماه وحمص وبعلبك وإلىها والمعرة. قتله بعض غلمانه كما تقدم وهو نائم وهربوا إلى قلعة جعبر. وفيها توفي أبو الحسن سعد الخير بن محمد الأنصاري الأندلسي المحدث. كان فقيهاً عألفا متقناً، رحل إلى المشرق، وتفقه على الإمام أبي حامد الغزالي وشيخ المقرئين بالعراق. وفيها توفي المقرىء النحوي أبو محمد عبد الله بن علي البغدادي.
سنة اثنتين وأربعين وخمس مائة
وفيها كان الغلاء المفيط - وفيما قبلها بإفريقية - حتى أكلوا لحوم الآدميين. وفيها توفي أبو الحسن بن الآبنوسي أحمد بن عبد الله البغدادي الشافعي الوكيل. سمع وتفقه وبرع، وقرأ الكلام والاعتزال، ثم لطف الله تعالى به وتحول سنياً.(3/210)
وفيها توفي أبو جعفر أحمد بن عبد إلىحمن الأندلسي البطروجي أحد الأئمة. روى عن أبي علي الغساني وغيره. كان إماماً حافظاً بصيراً بالحديث ومعرفة رجآله وعلله، ومعرفة مذهب مالك ودقائقه. وله مصنفات مشهورة. وفيها توفي أبو القاسم علي ابن الإمام العلامة أبي نصر عبد السيد بن الصباغ. وفيها توفي أبو الفتح نصر الله بن محمد المصيصي ثم الدمشقي، الفقيه الشافعي الأصولي الأشعري. سمع من أبي بكر الخطيب، وتفقه على الإمام أبي نصر المقدسي، ودرس بالغزالية، وأفتى واشتغل، وصار شيخ دمشق في وقته. وفيها توفي الشريف أبو السعادات المعروف بابن الشجري: هبة الله بن علي العلوي الحسيني البغدادي النحوي اللغوي، صاحب التصانيف، كان متضلما من علم الآداب وأشعار العرب وأيامها وأحوآلها، كامل الفضائل. له عدة تصانيف، منها: كتاب الأماني، أو قال: الأمالي وهو أكبر تآليفه وأكثرها فائدة، أملاه في أربعة وثمانين مجلما، مشتملاً على خمسة فنون من علم الأدب. ولما فيغ من إملأنه حضر عنده أبو محمد المعروف بابن الخشاب، والتمس سماعه عليه، فلم يجبه إلى ذلك، فعاداه، ورد عليه في مواضع من الكتاب، ونسبه فيه إلى الخطأ. فوقف أبو السعادات المذكور على إلىد، فيد عليه في رده، وبين وجوه غلطه، وجمعه كتاباً سماه: الانتصار، وهو على صغر حجمه مفيد جداً، وسمعه عليه الناس. وجمع أيضاً كتاباً سماه: الحماسة، تضاهي به الحماسة لأبي تمام ألفائي، وهو كتاب مليح غريب، أحسن فيه. وله في النحو عدة تصانيف، وكان حسن الكلام حلو الألفاظ، فصيحاً جيد البيان والتفهيم، وقرأ الحديث على جماعة من الشيوخ المتأخرين. وذكره الحافظ أبو سعد بن السمعاني في كتاب الذيل، وقال: اجتمعت معه في دار الوزير أبي القاسم بن طراد الزينبي وقت قراءتي عليه الحديث، وعلقت عنه شيئاً من الشعر في المدرسة، ثم مضيت إليه وقرأت عليه جزءاً من أمالي أبي العباس الثعلب. وحكى أبو البركات عبد إلىحمن بن الأنباري في كتابه مناقب الأدباء: إن العلامة أبا القاسم محمود الزمخشري، لما قدم بغداد قاصداً للحج، مضى إلى زيارته شيخنا - أبو السعادات بن الشجري، ومضينا معه إليه فلما اجتمع به أنشده قول المتنبي:
واستأثر الأخبار قبل لمانه ... فلما التقينا صغر الخبر الخبر(3/211)
ثم أنشد بعد دلك:
كانت مساءلة إلىكبان تخبرني ... عن جعفر بن فلاح أحسن الخبر
حتى التقينا فلا والله ما سمعتأذني بأحسن مما قد رأى بصري
فقال العلامة الزمخشري: روي عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه لما قدم إليه زيد الخيل قال له: " يا زيد، ما وصف لي أحد في ألفاهلية ولا في الإسلام إلا رأيته دون ما وصف لي غيرك ". قال ابن الأنباري: فخرجنا من عنده، ونحن نعجب كيف يستشهد الشريف بالشعر، والزمخشري بالحديث، وهو رجل أعجمي، هذا معنى كلام ابن الأنباري، وكان أبو السعادات المذكور نقيب ألفالبين بالكرخ نيابة عن ولده، وله شعر حسن، من ذلك قوله:
هذه السديرة والغدير ألفافح ... فاحفظ فؤادك إنني لك ناصح
يا سدرة الوادي الذي إن ضله ... ألفاري هداه نشرها المتفاوح
هل عايد قبل الممات لمغرم ... عيش تقضى في ظلالك صالح
شط المنار به ونوئي منزلاً ... بصميم قلبك فهو دان نازح
غصن تعطفه النسيم وفوقه ... قمريحف به ظلام طايح
ولقد مررنا بالعقيق فشاقنا ... فيه مراتع للمها ومسارح
ظللنا به نبكي، فكم من مضمر ... وجداً أذاع هواه دمع سافح
قلت ضله ألفاري رأيته الصواب، وفي الأصل المنقول منه: الوادي، ثم وجدته في نسخه أخرى كما ذكرت من الصواب. وهذه أبيات من قصيدة له في مدح الوزير المظفر بن علي الملقب بنظام الدين.
سنة ثلاث واربعين وخمس مائة
في ربيع الأول منها نازل الفرنج دمشق في عشرة آلاف فارس وستين ألف راجل، فخرج المسلمون من دمشق، وكانوا مائة وثلاثين ألف راجل وعسكر البلد، فاستشهد نحو مائتين، ثم برزوا في اليوم الثاني، فاستشهد جماعة، وقتل من الفرنج عدد كثير. فلما كان في اليوم الشامس وصل غازي وأخوه نور الدين في عشرين ألفا إلى حماه. وكان أهل دمشق في الاستغاثة والتضرع إلى الله تعالى، وأخرجوا المصحف العثماني إلى صحن الجامع، وضج النساء والأطفال مكشفين إلىؤوس، وصدقوا الافتقار إلى الله عز وجل(3/212)
فأغاثهم، وركب قسيس الفرنج، وفي عنقه صليب وفي يديه صليب، وقال: أنا قد وعدني المسيح أن آخذ دمشق، فاجتمعوا حوله، وحمل على البلد، فحمل عليه المسلمون فقتلوه - لعنة الله تعالى - وقتلوا حماره، وأحرقوا الصلمان، ووصلت النجدة، فانهزمت الفرنج، وأصيب منهم خلق. وفيها توفي أبو الحسن علي بن أبي الوفاء المعروف بابن مسهر الموصلي. كان شاعراً بارعاً رئيساً مقدماً، يمدح الخلفاء والملوك والأمراء. وله ديوان شعر في مجلدين، ومن شعره في صفة الخيل.
سود حوافيها بيض حجافلها ... صبح تولد بين الصبح والغسق
من طول ما وطئت ظهر الدجى حنتاوطول ما كرعت من منهل الفلق
ومنها في صفة الفهد:
والشمس مذ لقبوها بالغزالة ... أعطته إلىشا حسداً من لونها اليقق
ويعطيه حباً كي يسالمها ... على المنايا نعاج إلىمل بالحدق
هذا ولم يبرزا مع سلم ... جانبه يوماً لناظره إلا على فيق
وهذه الأبيات مع جودتها مأخوذة من أبيات الأمير المعروف بابن السراج الصوري. ولابن مسهر أيضاً في بعض الرؤساء:
ولما اشتكيت اشتكى كل ما ... على الأرض واعتل شرق وغرب
لأنك قلب لجسم الزمان ... وما صح جسم إذا اعتل قلب
ومن غريب الاتفاق ما حكى أبو الفتح بن أبي الغنائم أنه رأى في منامه منشداً ينشد:
وأعجب من صبر القلوص التي سرت ... بهودجك المنموم أنى استقلت
وأطبق أحناء الضلوع على جوى ... جميع وصبر مستحيل مشتت
قال أبو الفتح: فلما انتبهت مكثت مدة أسائل عن قائل هذين البيتين، فلم أجد عنه مخبراً، ثم اتفق بعد سنين نزول ابن مسهر المذكور في ضيافتي، فتجارينا في بعض اللمالي ذكر المنامات، فذكرت له المنام الذي رأيته والبيتين فقال: أقسم بالله أنهما من شعري، من جملة قصيدة منها:
إذا ما لمان الدمع نم على الهوى ... فليس بشر ما الضلوع أحنت(3/213)
فوالله ما أدري عشية ودعت ... أناحت حمامات النوى أم تغنت؟
وأعجب من صبر القلوص التي سرتبهودجك المنموم أنى استقلت
أعاتب فيك اليعملات على النوى ... وأسأل عنك الريح من حيث هبت
وألصق أحناء الضلوع على جوى ... جميع وصبر مستحيل مشتت
قال: فلما أنشدنا هذه الأبيات إلىقاق عجبنا من هذا الاتفاق. وفيها توفي أبو إسحاق الغنوي ابراهيم بن محمد بن نبهان إلىقي الصوفي الفقيه الشافعي. تفقه على الإمام حجة الإسلام الغزالي وغيره، وسمع رزق الله التميمي، وكان ذا سمت وعبادة، وهو راوي خطيب ابن نباتة. وفيها توفي محدث بغداد ومفيدها المبارك بن كامل الخفاف، وكان فقيراً متعففاً. وفيها وقيل في التي تليها: توفي الفقيه الإمام الحافظ أبو بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي المعافيي الأندلسي الأشبيلي، رحل إلى المشرق، ودخل الشام، ولقي بها الإمام محمد بن الوليد الطرطوشي، وتفقه عنده، ودخل بغداد، وسمع بها من جماعة، ثم دخل الحجاز فحج، ثم عاد إلى بغداد، وصحب الإمام أبا حامد الغزالي والإمام أبا بكر ألفاشي وغيرهما من العلماء والأدباء، ثم صدر عنهم ولقي بمصر والاسكندرية جماعة من المحدثين، فكتب عنهم، واستفاد منهم. ثم عاد إلى الأندلس، ثم قدم إلى اشبيلية بعلم كثير، ولم يدخل أحد قبله إلى المشرق من علماء المغرب في إلىحلة للعلم، وكان من أهل اليقين في العلوم والاستخبار والجمع لها، عارفاً متكلماً في أنواعها باقدامها حريصاً على نشرها، ثاقب الذهن في تمييز الصواب منها، مع آداب وأخلاق وحسن معاشرة، وكرم نفس. واستقضي ببلده، فنفع الله تعالى به أهلها لإبرام أمره ونفوذ أحكامه، وكان له في الظالمين صولة مرهوبة، ثم صرف عن القضاء، وأقبل على نشر العلم. وله مصنفات منها كتاب عارضة الأحوذي في شرح الترمذي كذا هو في الأصل المنقول منه قال: وألفارضة: القدرة على الكلام، يقال فلان شديد ألفارضة إذا كان ذا قدرة على الكلام، والأحوذي: الخفيف في الشيء لحذقه، وقال الأصمعي: المستمر في الأمور القاهرة لها. وفيها توفي أبو الدر ياقوت إلىومي عتيق بن الخباري. حدث بدمشق ومصر وبغداد. وفيها توفي أبو الحجاج الفندلاوي يوسف بن دوناس المغربي ألفالكي. كان فقيهاً(3/214)
عألفا صألفا حلو المجالسة، شديد التعصب للأشعرية، صاحب حط على الحنابلة. قتل في سبيل الله في حصار الفرنج بدمشق، مقبلاً غير مدبر بالذيروز، وقبره يزار بمقبرة باب الصغير. وفيها قتل شاهنشاه ابن نجم الدين أيوب، في الوقعة التي اجتمع فيها الفرنج سبع مائة ألف ما بين فارس وراجل - على ما قيل - وتقدموا، إلى باب دمشق، وعزموا على أخذ بلاد المسلمين قاطبة، فنصر الله عليهم المسلمين - ولله الحمد -.
سنة أربع وأربعين وخمس مائة
فيها توفي القاضي أحمد بن محمد الأرجاني - بفتح آلهمنة وكسر إلىاء مع خلاف في تشديدها وتخفيفها وبعدها جيم - له شعر رائق، وكان قاضي تستر. وهو وإن كان في العجم ففي العرب محتدة. وكان فقيهاً شاعراً. وفي ذلك قوله:
أنا أشعر الفقهاء غير مدافع ... في العصر أو أنا أفقه الشعراء
شعري إذا ما قلت دونه الورى ... بالطبع لا بتكلف الالماء
كالصوت في قلل الجبال إذا عل ... للسمع هاج تجاوب الأصداء
قلت: ليس في الأصل المنقول منه قلل، بل لفظ آخر معناه غير مفهوم. ومن شعره:
لوكنت أجهل ما علمت لسرني ... جهلي كما قد ساءني ما أعلم
كالصعو يرتع في الرياض وإنما ... حبس آلهزار لأنه يترنم
والصعوة بالصاد المهملة، وآلهزار بالزاي المعجمة: طائران. ومنه:
شاور سواك إذا نابتك نائبة ... يوماً وإن كنت من أهل المشورات
فالعين تنظر منها ما دنا ونأى ... ولا ترى نفسها إلا بمرآة
ومنه:
أنحو كم ويرد وجهي القهقرى ... عنكم، فسيري مثل سير الكوكب
فالقصد نحو المشرق الأقصى لكم ... والسير رؤي العين نحو المغرب(3/215)
ومنه:
أحب المرء ظاهره جميللصاحبه وباطنه سليم
مودته تدوم لكل هول ... وهل كل مودته تدوم؟
وهذا البيت الأخير يقرأ معكوساً، أعني: من آخره إلى أوله، ولا يتغير شيء من لفظه، ولا من معناه، وله ديوان شعر فيه كل معنى لطيف. وفيها توفي أبو المحاسن أسعد بن علي بن الموفق آلهروي الحنفي العبد الصالح، راوي الصحيح وألفارمي. وفيها توفي الحافظ لدين الله أبو الميمون عبد المجيد بن محمد العبيدي الرافضي صاحب مصر. وفيها توفي القاضي الإمام العلامة أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض بن موسى ابن عياض اليحصبي، أحد الحفاظ الأعلام. سمع من أبي علي بن سكرة، وأبي محمد بن غياث وطبقتهما، وأجاز له أبو علي الغساني، وولي قضاء سبتة مدة ثم قضاء غرناطة، وصنف التصانيف الجليلة المفيده، منها: الإكمال في شرح صحيح مسلم، كمل به: المعلم في شرح مسلم للإمام ألفازري. ومنها: الشفا في تعريف حقوق المصطفى. ومشارق الأنوار في تفسير غريب الحديث. وكان إمام وقته في الحديث وعلومه والنحو واللغة، وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم، وهو من أهل اليقين في العلوم والذكاء. وله شعر حسن: ومنه قوله:
الله أعلم أني منذ لم أركم ... كطائر خانه ريش الجناحين
فلو قدرت ركبت البحر نحوكم ... فإن بعدكم عني جني حيني
والحين بفتح الماء: آلهلاك، وبالكسر: الوقت. وفيها توفي الحافظ المقدسي أبو الحسن علي بن أبي المكارم الاسكندارني ألفالكي، كان فقيهاً فاضلاً، من أكابر الحفاظ المشاهير في الحديث وعلومه، صحب الحافظ أبا طاهر السلفي. وفيها توفي الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري، ولازمه وانتفع به ابن خلكان. وأنشدني أبو الحسن المقدسي المذكور لنفسه:
أيا نفس بألفاثور عنخير مرسلوأصحابه وألفابعين تمسكي
عساك إذا بالغت في نشر دينه ... بما طاب من نشر له أن تمسكي
وخافي غداً يوم الحساب جهنماً ... إذا لفحت نيرانها أن تمسك(3/216)
قلت: وبيان الجناس في هذه القوافي الثلاث واختلاف معانيها أن الأولى من التمسك، والثانية من التطيب بالمسك، والثالثة من: مسه يمسه. قال: وأنشدني أيضاً لنفسه رحمة الله تعالى عليه:
ولمياء تحيي من تحيي بريقها ... كأن مناج إلىاح بالمسك فيها
وما ذقت فاهاً غير أني رويته ... عن الثقة المسواك، وهو موافيها
هذا المعنى مستعمل، ومنه قول الآخر:
وأخبرني أترابها أن ريقهاعلى ما حكى عود الأراك لذيذ
وقول الآخر:
يا أطيب الناس ريقاً غير مختبر ... إلا شهادة أطراف المساويك
وفيها توفي يوسف الدين غازي بن عماد الدين زنكي بن آقسنقر صاحب الموصل ملك غازي المذكور الموصل بعد أن كان مقطعاً شهرزو، من جهة السلطان محمود السلجوقي، وكذلك ما كان لأبيه من ديار ربيع، وترتيب أحوآله، وأخذ أخوه نور الدين محمود حلب وما والاها من بلاد الشام، ولم تكن دمشق يومئذ لهم، وكان غازي المذكور منطوياً على خير وصلاح، يحب العلم وأهله، وبنى بالموصل المدرسة المعروفة بالعتيقة، ولم تطل مدته في المملكة.
سنة خمس وأربعين وخمس مائة
فيها أخذت العربان ركب العراق، وأخذ للماتون - أخت السلطان مسعود - ما قيمته مائة ألف دينار، وتمنق الناس. ومات خلق جوعاً وعطشاً. وفيها نازل نور الدين دمشق وضايقها، ثم خرج إليه صاحبها مجير الدين، ووزيره ابن الصوفي، فخلع عليهما، ورد إلى حلب - ونفوس الناس قد أحبته لما رأوا من دينه -.(3/217)
وفيها توفي المبارك بن أحمد الكندي البغدادي الخباز، سمع أبا نصر الزينبي، وعاصم ابن الحسن، وطائفة. وفيها توفي إلىئيس أبو علي الحسين بن علي النيسابوري، روى عن الفضل بن المحب وجماعة.
سنة ست وأربعين وخمس مائة
فيها توفي الحافظ أبو نصر عبد إلىحمن بن عبد الجبار، وكان صألفا فاضلاً متواضعا، سمع جماعة من شيوخ زمانه. وفيها توفي أبو الأسعد عبد إلىحمن بن عبد الواحد ابن الشيخ أبي القاسم القشيري خطيب نيسابور ومسندها. سمع من جده حضوراً، ومن جدته فاطمة بنت الدقاق، ويعقوب ابن أحمد الصيرفي وطائفة. وروى الكتب الكبار كالبخاري ومسند أبي عوانة. وفيها توفني الحافظ أبو الوليد الدباغ يوسف بن عبد العزيز اللخمي، ثم القرشي.
سنة سبع وأربعين وخمس مائة
وفيها توفي المقرىء الأستاذ أبو عبد الله محمد بن الحسن المعروف بألفاني. أخذ القراءات عن أبي داود وغيره، وسمع الحديث، وتصدر للإقراء وتعليم العربية، وكان مشاركاً في علوم جمة، صاحب تحقيقات وإتقان، ولي خطابة بلده. وفيها توفي القاضي أبو الفضل محمد بن عمر بن يوسف الفقيه الشافعي. ولد ببغداد، وسمع جماعة منهم ابن الشامون وابن المهتدي وابن الخياط. وكان ثقة صألفا، تفقه على الشيخ أبي إسحاق، وانتهى إليه علو الإسناد بالعراق، وولي قضاء دير ألفاقول. وفيها توفي محمد بن منصور النيسابوري. شيخ صالح، سمع القشيري ويعقوب الصيرفي والكبار - رحمه الله -. وفيها توفي السلطان مسعود بن محمود بن ملكشاه السلجوقي. استقل بالملك، وامتدت أيامه، وكان منهمكاً في اللهو واللعب، عاش خمساً وأربعين سنة، وكان قد آذى المقتفي، فقبض عليه شهراً، فمات. وقيل: حدث به القيء، وغلبه الغثيان، واستمر به ذلك إلى أن توفي. وكان قد اقتتل هو وأخوه محمود على الملك، فالتقيا، فانتصر عليه محمود، ثم تقلبت الأحوال بمسعود المذكور إلى أن تسلطن، وكان سلماناً عادلاً لين ألفانب، كبير(3/218)
النفس، ففيق مملكته على أصحابه، ولم يكن له من السلطنة غير الاسم، وكان حسن الأخلاق كثير المناح والانبساط مع الناس، فمن ذلك أن أتابك زنكي - صاحب الموصل - أرسل إليه القاضي كمال الدين محمد بن عبد الله بن أبي القاسم الشهرزوري في رسالته، فوصل إليه، وأقام معه في العسكر، فوقف يوماً على خيمة الوزير حتى قارب أذان المغرب، فعاد إلى خيمته، فأذن المغرب - وهو في الطريق - فيأى إنساناً فقيهاً في خيمة، فنزل إليه فصلى معه، ثم سآله كمال الدين: من أين أنت؟ فقال: أنا قاضي مدينة كذا، فقال له كمال الدين: القضاة ثلاثة، قاضيان في النار، وهما أنا وأنت، وقاض في الجنة - وهو من لا يعرف أبواب هؤلاء الظلمة ولا يراهم - فلما كان من الغد أرسل السلطان، وأحضر كمال الدين إليه، فلما دخل كمال الدين عليه ورآه ضحك وقال: القضاة ثلاثة. فقال كمال الدين: نعم يا مولانا؛ فقال: والله صدقت؛ ما أسعد من لا يرانا ولا نراه.
سنة ثمان واربعين وخمس مائة
فيها خرجت الغز على أهل خراسان، وهم تركمان ما وراء اللهر، فالتقاهم سنجر، فاستباحوا عسكره قتلاً واسراً، ثم هجموا نيسابور، فقتلوا فيها قتلاً ذريعاً، ثم أخذوا بلخ، وأسر السلطان سنجر، فبقي في أيديهم -، وكانوا نحو مائة ألف - فلما ملكت الخطا ما وراء اللهر طردوا عنها هؤلاء الغز فنزلوا بنواحي بلخ، ثم ساروا وعملوا بخراسان ما لا يعمله الكفار من القتل والأسر والخراب والمصادرة والعذاب، ثم تجمع عسكر خراسان، فواقعوا الغز وقعات، كان الظفي في أكثرها للغز. وفي السنة المذكورة أخذت الفرنج عسقلان بعد عدة حصارات، وكان المصريون يمدونها بالرجال والذخائر، فاختلف عسكرها، وقتل منهم جماعة، فاغتنم الفرنج غفلتهم، فيكبوا الأسوار ودخلوها. وفيها توفي الزاهد ألفابد أبو العباس أحمد بن أبي غالب البغدادي الوراق. زاره السلطان مسعود في مسجده، فتشاغل عنه بالصلاة، وما زاده على أن قال: يا مسعود؛ اعدل وادع لي الله، أكبر وأحرم بالصلاة، فبكى السلطان، وأبطل المكوس والضرائب وتاب. وفيها توفي أبو الحسين إلىفاء أحمد بن منير الأطرابلسي ألفاعر المشهور. وكان رافضياً هجاء فائق النظم، وله ديوان.(3/219)
وفيها توفي أبو عبد الله محمد بن نصر المخزومي ألفالدي، المعروف بابن القيسراني ألفاعر المشهور ومن الشعراء المجيدين والأدباء المتفننين - وكان بينه وبين ابن منير المذكور معارضة كجرير والفيزدق في زمانهما، وبينهما مهاجاة ومكاتبات وأجوبة، وكانا مقيمين بحلب، ومتنافسين في صناعتهما كما جرت عادة التظراء، ومن شعر ابن المنير المذكور:
وإذا الكريم رأى الخمول نزيلهفي منزل فالحزم أن يترحلا
فالبدر لما أن تضاءل جد في ... طلب الكمال فحازه متنقل
سفهاً لحلمك إن رضيت بمشربرنق ورزق الله قد ملأ الملا
ساهمت عيسك مر عيشك قاعداً ... افلا فليت بهن ناصية الفل
فارق ترق كالسيف سل فبان في ... متنيه ما أخفى القراب وأخمل
لا تحسبن ذهاب نفسك ميتة ... ما الموت إلا أن تعيش مذلل
لا ترض من دنياك ما أرضاك مندنس وكن طيفاًجلى ثم انجل
وصل آلهجير بهجر قوم كلما ... أمطرتهم شهداً جنوا لك حنظلا
لله علمي بالزمان وأهله ... ذنب الفضيلة عندهم أن تكمل
طبعوا على لؤم الطباع فخيرهم ... إن قلت قال وإن سكت تأولا
أنا من إذا ما الدهر هم بخفضه ... سامته همته السماك الأعزلا
والطرابلسي نسبة إلى طرابلس، وهي مدينة بساحل الشام قريبه من بعلبك، وقد تزاد آلهمنة في أولها، فيقال: أطرابلس، وقوله:
سفهاً بحلمك إن رضيت بمشرب ... رنق، ورزق الله قد ملأ المل
إلىنق: بإلىاء والنون وألفاف: قال في الصحاح: وإلىنق بالتحريك: مصدر قولك: رنق الماء بالكسر إذا تكدر، وعيش رنق: أي كدر، والله أعلم - ومن شعر ابن القيسراني:
والله لو أنصف العشاق أنفسهم ... فدوك فيها بما عزوا وما صانوا
ما أنت حين تغشى في مجالسهم ... إلا نسيم الصبا والقوم أغصان
وله هذا البيت من قصيدة وكان كثير الإعجاب به:
وأهوى الذي أهوى له البدر ساجداً ... ألست تري في وجهه أثر الترب
ومن معانيه البديعة قوله من جملة قصيدة رائقة:
هذا الذي سلب العشاق نومهم ... أما ترى عينه ملأى من الوسن؟(3/220)
ألفالدي نسبة إلى خالد بن الوليد المخزومي. قال ابن خلكان هذا بزعم أهل بيته، وأكثر المؤرخين وعلماء الأنساب يقولون إن خألفا - رضي الله تعالى عنه - لم يتصل نسبه، بل انقطع منذ زمان - والله أعلم -. وفيها توفي أبو الفتح عبد الملك بن عبد الله الكروخي آلهرو، المشهور بالخير والصلاح، رحمه الله. وفيها توفي الزاهد الواعظ أبو الحسن علي بن الحسن، درس بالصادرية وقام عليه الحنابلة لأنه تكلم فيهم، وكان معظماً مفخماً في الدولة معرضاً عن الدنيا. وفيها توفي الملك العادل علي بن السلار الكردي ثم المصري وزير الظافي العبيدي صاحب مصر. وكان سنياً شافعياً، شجاعاً مقداماً، شهماً مائلاً إلى أرباب الفضل والصلاح، عمر بالقاهرة مساجد، وكان مع هذه الأوصاف ذا سيرة جائرة وسطوة قاهرة. يحكى أنه دخل يوماً على الموفق أبي الكرم بن المعصوم، فشكا إليه حآله من غرامة لزمته بسبب الولاية، فلما أطال عليه الكلام قال له: والله إن كلامك لا يدخل في أذني، فحقد عليه لذلك، فلما ترقى إلى درجة الوزارة طلبه، فخاف منه واستتر مدة، فنادى عليه في البلد وأهدر دم من يخفيه، فأخرجه الذي خبأه، فخرج في زي امرأة بإزار، وخف فعرف وأخمد، وحمل إلى الملقب بالعادل، فأمر بإحضار لوح خشب ومسمار طويل، وأمر به فألقي على جنبه، وطرح اللوح تحت أذنه، ثم ضرب المسمار في أذنه الآخرى وصار كلما صرخ يقول له: دخل كلامي في أذنك أم لا؟ ولم يزل كذلك حتى نفذ المسمار من الأذن التي على اللوح، ثم عطف المسمار على اللوح، ويقال إنه شنقه بعد ذلك، ثم آل الأمر إلى أن جهز عسكراً إلى جهة الشام، وجعل عليه عباس بن أبي الفتوح مقدماً، فكره المقدم المذكور فياق الديار المصرية وما هو عليه فيها من إلىاحة، وما يقاسيه في لماء العدو فيزق على العادل من قتله على فياشه في واقعة يطول ذكرها نسأل الله ألفافية من شر الدنيا وغوائلها. وفيها توفي أبو الفتح محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني المتكلم على مذهب الأشعري، كان إماماً مبرزاً فقيهاً متكلماً، تفقه على أبي نصر القشيري وأحمد الخوافي وغيرهما، وبرع في الفقه، وقرأ الكلام على أبي القاسم الأنصاري، وتفيد فيه.(3/221)
وصنف كتباً، منها نهاية الإقدام في علم الكلام: وكتاب الملل والنحل وتلخيص الأقسام لمذاهب الأنام في الكلام وكان كثير المحفوظ، حسن المحاورة، يعظ الناس. دخل بغداد وأقام بها ثلاث سنين، فظهر له قبول كثير عند العوام، وسمع الحديث من علي ابن المديني وغيره، وكتب عنه الحافظ أبو سعد عبد الكريم بن محمد السمعاني وذكره في كتاب الذيل. وشهرستان: بفتح السين المعجمة وإلىاء وسكون آلهاء بينهما والسين المهملة بعد إلىاء وقبل الألف المثناة من فوق وبعدها نون: وهو اسم لثلاث مدن: الأولى في خراسان بين نيسابور وخوارزم، وهي المشهورة، ومنها أبو الفتح المذكور، والثانية قصبة بناحية نيسابور من أرض فارس. والثالثة مدينة جي بأصبهان، بينها وبين مدينة أصبهان نحو ميل، وبها قبر الإمام إلىاشد بن المسترشد. وكان الشهرستاني المذكور يروي بالإسناد المتصل إلى النظام البلخي العالم المشهور ابراهيم بن بشار أنه كان يقول: لو كان للفياق صورة لارتاع لها القلوب، ولهدأ الجبال، ولجمر الغضا أقل توهجاً من حمله، ولو عذب الله أهل النار بالفياق لاستراحوا إلى ما قبله من العذاب. وكان يروي للدريدي أيضاً باتصال الإسناد إليه ومن قوله:
ودعته حين لا تودعه ... روحي ولكنها تسير معه
ثم افترقنا وفي القلوب لناضيق مكان وفي الدموع سعه
ويروي أيضاً مسنداً إليه:
يا راحلين بمهجة ... في الحب متلفة شقيه
الحب فيه بلية ... وبليتي فوق البلية
كل ذلك رواه ابن السمعاني في الذيل. وفيها توفي الإمام العلامة محيي الدين محمد بن يحيى النيسابوري شيخ الشافعية وصاحب الغزالي. انتهت إليه رئاسة المذهب بخراسان، وقصده الفقهاء من البلاد، صنف التصانيف ودرس بنظامية بلده، واستفاد منه خلق كثير، وبرع علماً وزهداً، وصنف كتاب: المحيط في شرح الوسيط والإنصاف في مسائل الخلاف، وغير ذلك من الكتب. ذكره الحافظ عبد ألفافي ألفارسي في تاريخ نيسابور، وأثنى عليه وقال: كان له حظ في التذكير واستمداد في سائر العلوم، وكان يدرس بنظامية نيسابور، ثم درس بمدينه هراة في المدرسة النظامية، ومن جملة مسموعاته ما سمعت من الشيخ أحمد بن علي المعروف بابن عبدوس بقراءة الإمام أبي نصر عبد إلىحمن ابن الأستاذ أبي القاسم عبد الكريم القشيري في سنة ست وتسعين وأربع مائة: وحضر بعض فضلاء عصره، وسمع فوائده وحسن ألفاظه(3/222)
فأنشده:
رواة الدين والإسلام تحيى ... بمحيي الدين مولانا ابن يحيى
كأن الله رب العرش يلقي ... عليه حين يلقي الدرس وحيا
توفي شهيداً - رحمه الله تعالى في شهر رمضان، قتلته الغز لما استولوا - على نيسابور، ولما مات رثاه جماعة من العلماء، ومن جملتهم أبو الحسن علي بن أبي القاسم البيقهي، قال فيه:
يا سافكاً دم عالم متبحر ... قد طار في أقصى الممالك صيته
بالله قل لي يا ظلوم ولا تخف ... من كان محيي الدين كيف تميته؟
وفيها توفي الحافظ خطيب مرو أبو طاهر محمد بن محمد المروزي. تفقه على أبي المظفر السمعاني وغيره، وسمع من طائفة. وكذا معرفة وفهم مع الثقة والفضل والتعفف. وفيها توفي شيخ الصوفية ببلدة الخطيب أبو الفتح محمد بن عبد إلىحمن الكشميهني المروزي، آخر من روى كتاب البخاري عن محمد بن أبي عمران. وفيها توفي هبة الله بن الحسين بن أبي شريك ألفاسب، وكان حشوياً مذموماً.: فيها توفي صاحب الأحوال والكرامات أبو الحسن المقدسي.
؟؟؟
سنة تسع وأربعين وخمس مائة
فيها تمكن المقتفي بموت السلطان مسعود، وعرض عسكره، وكانوا ستة آلاف فارس، فأنفق فيهم ثلاثمائة ألف دينار، وجهزهم مع الوزير ابن هبيرة. وحرض بعض كبار الدولة السلطان محمد على قصد العراق، واستأذن في التقدم، فأذن في ذلك، فجمع التركمان وجاؤوا، فسار لحربهم المقتفي، ونازلهم أياماً، ثم عمل المصاف في رجب، فانهزمت ميسرة المقتفي، فحمل بنفسه ورفع الصرخة، وسل السيف وصاح: آل مضر، كذب الشيطان. فوقعت آلهزيمة على التركمان، وأخذ لهم في ما قيل أربعمائة ألف رأس غنم، وأسرت أولادهم، ثم مالوا على واسط، فسار ابن هبيرة بالعساكر، فهزمهم ورجع منصوراً، فتلماه المقتفي.(3/223)
وفيها نزل ألفارجي علي بن مهدي - الملقب: عبد النبي - إلىتهامة اليمن بمن تبعه من العساكر، وهو يستبيح دماء الناس، وكانت عقيدته التكفير بالذنب. روى بالإسناد في سيرة الشيخ الكبير ألفارف بالله المعروف بالصياد: أحمد بن أبي الخير اليمني: قال صاحبه الشيخ الجليل ذو العطاء الجزيل شيخ شيوخ الطريقة وإمامهم عي علوم الحقيقة عبد الله بن علي الأسدي اليمني قال: كنت أنا والصياد متتآخيين بمدينة زبيد في زمن الحبشة، وكنا معتكفين في المسجد الجامع، فلما كان آخر دولة الحبشة سمعنا بظهور علي بن مهدي وإقبال الناس عليه - سمعنا به في قرية من قرى وادي زبيد - فقال لي الصياد: يا أخي سر بنا نشاهد هذا إلىجل، إن كان كما زعموا صألفا تباركاً بزيارته. قال: فتقدمت أنا وهو في يوم الأحد الثالث عشر من شعبان سنة تسع وأربعين وخمس مائة إلى أن وصلنا إلى المكان الذي هو فيه، فوجدنا معه خلما كثيراً - وهو يطعمهم التمر، ويقدمهم على الأكل أفواجاً أفواجاً، وقد نصبوا له خشباً من النخل، وبنوا له على رأسه بيتاً لا يطلعه إلا بدرجة فلما وصلنا قعدنا في طرف الناس إلى أن أكلوا جميعهم. وصاح صائحهم: من كان لم يأكل فلمات وإلا فلا يلومن إلا نفسه، فلم يجبه أحد، وطلعوا إلى السهوة التي هو قاعد عليها بغدأنه، وقد أبصرنا ولم نشعر بإبصاره لنا، فقال لبعض أصحابه: قدم إلى هذين إلىجلين - وأومى إلينا - فأتى رسوله فقال: أجيبوا الإمام - صلوات الله عليه - وهكذا ذكر: الصلاة عليه. قال فكر هنا، فلم يزل بنا حتى سرنا معه، فلما وصلنا إليه سلمنا عليه، فيحب بنا وبش بنا بشاشة عظيمة، وقدم الطعام إلينا، فقلنا: ما لنا به حاجة، نحن صيام، ولم نأكل شيئاً. فقال لنا: أريد من تفضلكما أن تصحباني إلى مسجد ألفازة، فأجبناه إلى ذلك، وخرج معنا في ذلك الوقت وقد تغدى فأخذنا طريق االساحل إلى أن وصلنا مسجد ألفازة، فدخلنا المسجد جميعاً بعد صلاة الضحى، فيكعنا ما شاء الله تعالى، وقعدنا ولم يقعد ابن مهدي المذكور، بل يطالع من ألفاب ساعة ومن ألفاقة ساعة، ولم يزل كذلك ساعة، ثم رمى نفسه في المحراب وقال: أنا جاركما من هذا الشخص الذي وصل إلينا - قلت: يعني أنا مستجير بكما منه - قال: فتقدمنا إلى ألفاب فإذا بزيلعي يمشي على البحر - وهو طويل وبيده عصا يتوكأ عليها - فلما وصل إلينا سلم علينا ودخل المسجد، فلما رأى ابن مهدي زعق عليه زعقة منكرة وقال: يا شيطان يا فتان، تدخل هذا المسجد اليوم؟! أقتلك وأريح(3/224)
الناس منك. وحمل عليه يريد أن يضربه بالعصا، فأخذنا ندفعه عنه، ونسآله بالله أن يتركه لنا، فقد استجار بنا، فتركه، وركع ركعتين في المسجد، وودعنا، وخرج يمشي على الماء في طريقه التي أتى فيها. ورجع ابن مهدي إلى حالته الأولى يطالع من ألفاب تارة ومن ألفاقة تارة أخرى، فلما كان بعد ساعة أخرى، أقبل ورمى نفسه في المحراب وقال: أنا جاركما من هذا الذي وصل إلينا، فقمنا وطالعنا، وإذا برجل بدوي طويل أقبل من الخبت، وهو يمشي وبيده عصا، فلما وصل إلى المسجد سلم علينا، فلما رأى ابن مهدي في المحراب صاح عليه صيحة منكرة مثل الصيحة الأولى وقال: يا شيطان يا فتان، ما تعمل في هذا الموضع المبارك؟!! اليوم أريح الناس منك. وحمل عليه بعصا ليضربه، فلم نزل ندفعه عنه، ونسآله بالله أن يتركه، فلم يتركه إلا بشدة عظيمة. ثم ركع ركعتين في المسجد، وودعنا، ورجع في طريقه الذي جاء منها، فقال لنا ابن مهدي: أريد أن تصحباني إلى الموضع الذي وجدتماني فيه، فقال له الصياد: ما بقينا نصحبك، ولا نمشي معك. فلم يزل بنا حتى أنعمنا له أن نصحبه إلى قرية الأهواب - بالماء الموحدة - فلما خرجنا معه إليها تركناه
ورجعنا إلى زبيد في ذلك اليوم، فأقمنا بها مدة يسيرة، فلما كانت سنة أربع وخمسين وخمس مائة كثرت العساكر معه، وظهر منه ما ظهر من التكفير بالذنب واستباحة دماء المسلمين. انتهى. وفي سنة تسع وأربعين وخمس مائة المذكورة جاءت الأخبار أن السلطان محمود شاه قاصد بغداد، فاستعرض المقتفي جيشه، فزادوا على اثني عشر ألف فارس، فضعف عزم محمد شاه، فخامر عليه جماعة أمراء، ولجؤوا إلى الخليفة. وجاءت الأخبار بما لحق السلطان سنجر من الذل له اسم السلطنة، ولا يلتفت إليه وأنه يبكي على نفسه. وفيها في صفر أخذ نور الدين دمشق من مجير الدين أحمد بن بوري بن طغتكين على أن يعوضه بحمص، ولم ثم ذلك له، فغضب وسار إلى بغداد، وبنى بها داراً فاخرة، وبقي بها مدة، وبعث المقتفي عهداً بالسلطنة لنور الدين، وأمره بالمسير إلى مصر، فاشتغل عن ذلك بحرب الفرنج. وفيها توفي الظافي بالله أبو منصور اسماعيل ابن الحافظ لدين الله العبيدي. كان منهمكاً في الملاهي والقصف، وكان يأنس إلى نصر بن عباس ولد وزيره، فدس عليه من قتله، وأخفى قتله، ثم ذهب إلى أبيه عباس فأعلمه بذلك، وكان أبوه قد أمره بقتله، لأن نصراً كان في غاية الجمال وكان الناس يتهمونه به فقال له أبوه: قد أتلفت عرضك بصحبة الظافي وتحدث الناس فيكما، فاقتله حتى تسلم من هذه التهمة، فقتله. فلما كان الصبح من تلك الليلة حضر عباس إلى باب القصر، وطلب الحضور عند الظافي في شغل منهم، فطلبه الخدم في المواضع التي عادته أن يبيت فيها، فلم يوجد، فقيل لعباس: ما نعلم أين هو، فنزل عن مركوبه، ودخل القصر بمن معه ممن يثق بهم، وقال للخدم: أخرجوا إلي أخوي مولانا، فأخرجوا له جبرائيل ويوسف ابني الحافظ، فسآلهما عنه فقالا: سل ولدك عنه فإنه أعلم به منا، فأمر بضرب رقابهما وقال: هذان قتلاه، هذه خلاصة هذه القضية. والجامع الظافيي الذي بالقاهرة داخل باب زويلة منسوب إليه، وهو الذي عمره ووقف عليه شيئاً كثيراً - على ما يقال والله أعلم -. وفيها توفي أبو البركات عبد الله بن محمد بن الفضل الفياوي النيسابوري، كان رأساً في معرفة الشروط، حدث بمسند أبي عوانة، ومات من الجوع بنيسابور في فتنة الغز. وفيها توفي أبو العشائر محمد بن خليل القيسي الدمشقي، صاحب الإمام نصر المقدسي. وفيها توفي الحافظ أبو المعز - المبارك ابن أحمد الأنصاري. وفيها توفي مؤيد الدولة - وزير صاحب دمشق. ورجعنا إلى زبيد في ذلك اليوم، فأقمنا بها مدة يسيرة، فلما كانت سنة أربع وخمسين وخمس مائة كثرت العساكر معه، وظهر منه ما ظهر من التكفير بالذنب واستباحة دماء المسلمين. انتهى. وفي سنة تسع وأربعين وخمس مائة المذكورة جاءت الأخبار أن السلطان محمود شاه قاصد بغداد، فاستعرض المقتفي جيشه، فزادوا على اثني عشر ألف فارس، فضعف عزم محمد شاه، فخامر عليه جماعة أمراء، ولجؤوا إلى الخليفة. وجاءت الأخبار بما لحق السلطان سنجر من الذل له اسم السلطنة، ولا يلتفت إليه وأنه يبكي على نفسه. وفيها في صفر أخذ نور الدين دمشق من مجير الدين أحمد بن بوري بن طغتكين على أن يعوضه بحمص، ولم ثم ذلك له، فغضب وسار إلى بغداد، وبنى بها داراً فاخرة، وبقي بها مدة، وبعث المقتفي عهداً بالسلطنة لنور الدين، وأمره بالمسير إلى مصر، فاشتغل عن ذلك بحرب الفرنج. وفيها توفي الظافي بالله أبو منصور اسماعيل ابن الحافظ لدين الله العبيدي. كان منهمكاً في الملاهي والقصف، وكان يأنس إلى نصر بن عباس ولد وزيره، فدس عليه من قتله،(3/225)
وأخفى قتله، ثم ذهب إلى أبيه عباس فأعلمه بذلك، وكان أبوه قد أمره بقتله، لأن نصراً كان في غاية الجمال وكان الناس يتهمونه به فقال له أبوه: قد أتلفت عرضك بصحبة الظافي وتحدث الناس فيكما، فاقتله حتى تسلم من هذه التهمة، فقتله. فلما كان الصبح من تلك الليلة حضر عباس إلى باب القصر، وطلب الحضور عند الظافي في شغل منهم، فطلبه الخدم في المواضع التي عادته أن يبيت فيها، فلم يوجد، فقيل لعباس: ما نعلم أين هو، فنزل عن مركوبه، ودخل القصر بمن معه ممن يثق بهم، وقال للخدم: أخرجوا إلي أخوي مولانا، فأخرجوا له جبرائيل ويوسف ابني الحافظ، فسآلهما عنه فقالا: سل ولدك عنه فإنه أعلم به منا، فأمر بضرب رقابهما وقال: هذان قتلاه، هذه خلاصة هذه القضية. والجامع الظافيي الذي بالقاهرة داخل باب زويلة منسوب إليه، وهو الذي عمره ووقف عليه شيئاً كثيراً - على ما يقال والله أعلم -. وفيها توفي أبو البركات عبد الله بن محمد بن الفضل الفياوي النيسابوري، كان رأساً في معرفة الشروط، حدث بمسند أبي عوانة، ومات من الجوع بنيسابور في فتنة الغز. وفيها توفي أبو العشائر محمد بن خليل القيسي الدمشقي، صاحب الإمام نصر المقدسي. وفيها توفي الحافظ أبو المعز - المبارك ابن أحمد الأنصاري. وفيها توفي مؤيد الدولة - وزير صاحب دمشق.
سنة خمسين وخمس مائة
فيها عسكر طلائع بالصعيد، وأقبل لماخذ القاهرة، فانهزم منه عباس وابنه الذي كان قتل الظافي، ودخل طلائع القاهرة بأعلام مشهورة بثياب سود، مظهراً للحزن، وفي الأعلام شعور نساء القصر، كن يبعثن إليه بها في طي الكتب حزناً على الظافي. وفيها توفي الإمام العلامة أبو العباس أحمد بن معد التجيبي الأندلسي الأقليشي سمع أبا الوليد بن الدباغ وطائفة، وبمكة من الكروخي، وكان زاهداً عارفاً متفنناً صاحب تصانيف مفيدة،: له شعر في الزهد. وفيها توفي، الحافظ محدث العراق أبو الفضل، محمد بن ناصر البغدادي، اعتني(3/226)
بالحديث بعد أن برع في اللغة. قال ابن النجار: كان ثقة ثبتاً، حسن الطريقة متديناً، فقير متعففاً نظيفاً نزهاً، وقف كتباًِ وخلف ثياباً خليقة وثلاثة دنانير، لم يعقب. وفيها توفي أبو الكرم الشهرزوري المبارك بن الحسن البغدادي شيخ المقرئين ومصنف المصباح في العشرة، كان صألفا خيراً، قرأ عليه خلق كثير، وأجاز له أبو الغنائم بن الشامون وطائفة، وسمع من اسماعيل بن مسعدة وغيره، وقرأ القراءات على عبد السيد بن عتاب وطائفة، وانتهى إليه علو الإسناد. وفيها توفي قاضي القضاة بالديار المصرية أبو المعالي محلي بن جميع القرشي المخزومي الشافعي. ولي بتفويض العادل بن السلار، وله كتاب الذخائر في المذهب، من المصنفات المعتبرة. وفيها توفي الحافظ السلامي البغدادي محمد بن ناصر. كان حافظ بغداد في زمانه، أديباً وافي الحظ من الأدب، كثير البحث عن الفوائد وإثباتها، روى عنه الأئمة فأكثر وأخذ عنه علماء عصره، منهم الحافظ أبو الفيج بن الجوزي وأكثر روايته عنه. وفيها توفي الفقيه ألفاضل الورع الزاهد عمر بن عبد الله بن سليمان بن السري اليمني من جبال اليمن. توفي بمكة حاجاً. روى القاضي أبو الطيب طاهر ابن الإمام يحيى بن أبي الخير اليمني أنه كان قد أصابه بثرات في وجهه، فيام معالجتها على يد الحكيم، وارتحل إليه وكان في ذي جبلة - فيأى ليلة قدومه إليه عيسى ابن مريم - صلوات الله على نبينا وعليه - فقال: يا روح الله؛ امسح على وجهي وادع ل؛ ففعل، فلما قام من آخر ليلته وأمر الماء على وجهه وجد فيه خفة، وأحس عافية، فاستبشر بصدق رؤياه. فلما أسفي نظر في المرآة، فإذا وجهه قد صح وأنار، فحمد الله تعالى، ورجع إلى منزله قد عاماه العليم الحكيم. قلت: انظر - رحمك الله - كيف رام الشفاء من علاج الحكمة الكسبية، فشفاه الله تعالى بحكم الحكمة الوهبية الآلهية، ولم يجعل ذلك على يد من هو أفضل منه من الأنبياء، رده باللطف ومناسبة الحكمة من حكيم إلى حكيم ليكون شفاؤه بفضل تقدير العزيز العليم.
سنة إحدى وخمسين وخمس مائة
فيها توفي مسند أصبهان أبو القاسم اسماعيل بن علي بن الحسين النيسابوري، ثم الأصبهاني الصوفي، نيف على مائة سنة.(3/227)
وفيها توفي أبو الحسن علي بن أحمد اليزدي الشافعي المقرىء الزاهد، برع في القراءات والمذهب، وصنف في القراءات والفقه والزهد، وكان رأساً في الزهد والورع. وفيها توفي الشيخ أبو البيان بن محفوظ القرشي الشافعي اللغوي الدمشقي الصوفي المعروف بابن الحوراني، كان أستاذاً ملازماً للحفظ - والمطالعة، كثير العبادة بالمراقبة، كبير ألفان بعيد الصيت، صاحب أحوال ومقامات، لازماً للسنة والأثر. وله تآليف وأذكار مسجوعة وأشعار مطبوعة، وأصحاب ومريدون، وفقراء بهديه يقتدون. كان هو والشيخ رسلان شيخي دمشق في عصرهما. وفيها توفي الخطيب أبو الفضل يحيى بن سلامة. كان علامة الزمان في علمه ومقرىء العصر في نظمه ونثره ومن نظمه الممدوح قوله
أشكو إلى الله من نارين: واحدة ... في وجنتيه وأخرى منه في كبدي
ومن سقامين: سلم قد أحل دمي ... من الجفون، وسلم حل في جسدي
ومن نمومين: دمعي حين أذكره ... يذيع سري، وواش منه بإلىصد
ومن ضعيفين: صبري حين أذكره ... ووده، ويراه الناس طوع يدي
وكان قد اشتغل بالأدب وبرع فيه، ثم اشتغل بالفقه على مذهب الإمام الشافعي، وأجاد فيه، وتولى الخطابة في فارقين، وتصدر للفتوى بها، واشتغل عليه الناس، وانتفعوا به، ولم يزل على رئاسته وجلالته وامادته إلى أن توفي - رحمه الله تعالى.
سنة اثنتين وخمسين وخمس مائة
فيها نازل بغداد محمد شاه ابن السلطان محمود، فاختلف عسكر المقتفي عليه، وقاتلت الشامة، ونهب ألفانب الغربي، واشتد الخطب، واقتتلوا في السفن أشد قتال، وفيق المقتفي الأموال والسلاح، ونهض أتم نهوض حتى إنه كان من جملة ما عمل له بعض الزخاجين ثمانية عشر ألف قارورة للنفط، ودام الحصار نحواً من شهرين، وقتل خلق كثير من الفييقين، وجاءت الأخبار بأخذ همذان - وهي لمحمد شاه - فقلق لذلك وقلت عليهم الميرة، وجرت أمور طويلة، ثم ترحلوا خائبين. وفيها خرجت الإسماعيلية على حجاج خراسان فقتلوا وسبوا، واستباحوا إلىكب(3/228)
وضج الضعفاء والجرحى. شيخ اسماعيلي ينادي: يا مسلمون؛ ذهبت الملاحدة، فأبشروا، ومن هو عطشان سقيته، فبقي إذا كلمة أحد أجهز عليه، فهلكوا كلهم إلى رحمة الله.
وفيها اشتد القحط بخراسان، وتخربت بأيدي الغز، ومات سلمانها سنجر، وغلب كل أمير على بلد، واقتتلوا، وتغيرت إلىعية الذين نجوا من القتل. وفيها هزم نور الدين الفرنج على صفد وكانت وقعة عظيمة: وجاءت الزلزلة العظمى بالشام، فهلك بحلب تحت إلىدم نحو خمس مائة، وخربت أكثر حماه ولم ينج من بعض البلاد إلا خادم وامرأة، ثم عمرها نور الدين. وفيها أخذ نور الدين من الفرنج غزة ونابل. وفيها توفي الملقب بشمس الملوك ابراهيم بن رضوان السلجوقي، تملك حلب مدة مديدة، ثم أخذها منه زنكي وعوضه نصيبين. وفيها توفي سنجر الملقب بالسلطان الأعظم ابن السلطان ملك شاه ابن ألب أرسلان ابن أحمد السلجوقي صاحب خراسان، قيل: وأحد ملوك العصر وأعرفهم نسباً وأقدمهم ملما وأكثرهم جيشاً، خطب له بالعراقين وأرمينية وأذربيجان والشام والموصل وديار بكر وربيعة والجزيرة والحرمين وخراسان وغير ذلك. وكان وقوراً مهيباً ذا حياء وكرم وشفقة على إلىعية، وكان مع كرمه المفيط أكثر الناس مالاً، اجتمع في خزائنه من الجواهر ألف وثلاثون رطلاً، قيل: هذا ما لم يملكه خليفة ولا ملك، فيما يعلم. وفيها توفي أبو مروان عبد الملك بن ميسرة اليحصبي ثم القرطبي، أحد الأعلام ممن جمع الله له الحديث والفقه مع الأدب ألفارع والدين والورع والتواضع. وفيها توفي مسند بخارى عثمان بن علي البيكندي - بالموحدة ثم المثناة من تحت ثم النون بين ألفاف وألفال المهملة على ما ضبط بعضهم - كان إماماً عألفا ورعاً عابداً متعففاً.(3/229)
وفيها توفي رئيس أصفهان وعالمها محمد بن عبد اللطيف الخجندي - بالماء المعجمة وألفال المهملة وبينهما جيم ونون. قال ابن السمعاني: كان صدر العراق في زمانه على الإطلاق إماماً مناظراً واعظاً جواداً مهيباً، كان السلطان محمود يصدر عن رأيه، وكان بالوزراء أشبه منه بالعلماء، درس ببغداد بالنظامية، وكان يعظ وحوله السيوف. مات فجأة في قرية بين همدان والكرخ. وفيها توفي القاضي الأجل أبو بكر بن محمد بن عبد الله الشافعي في شهر رمضان، وحضر موته الإمام العالم العلامة صاحب البيان يحيى بن أبي الخير اليمني العمراني، وقال حين نعي عليه: ماتت المروءة. قلت: ومثل هذا المقال يقال في كل وصف جميل مات من اتصف به إذا كان غألفا عليه، مشتهراً فيه، متميزاً على غيره به، كما بلغني أنه لما توفي الشيخ الصالح أبو محمد المعروف بالسكري المغربي - رحمة الله عليه - قال الشيخ الكبير السيد الشهير ألفارف بالله الخبير نجم الدين الأصبهاني - قدس الله روحه - مات الفقر من الحجاز. وهذا الشيخ أبو محمد المذكور هو ناظم القصيدة التي مفتتحها:
دار الحبيب أحق أن تهواها ... وتحن من طرب إلى ذكراها
أخذ القاضي أبو بكر المذكور الفقه عن الإمام العلامة زيد بن عبد الله اليفاعي. قلت: وقد تقدم نسبة الشافعي واليفاعي - وعلى الجملة - فالفيق بينهما أن الشافعي نسبة إلى جد واليفاعي إلى مكان. وكان هذا القاضي المذكور أديباً شاعراً مترسلاً فصيحاً، وله ديوان شعر مشهور في زمانه ومكانه، روى عن أبيه وخآله كتاب إلىسالة للمافعي، ومختصر المنني بروايتهما عن الشيخ الإمام عبد الملك بن محمد الشافعي، وولي قضاء اليمن من جبآلها إلى عدن، وكان له ولد يقال له محمد بن ابن أبي بكر، نبت نباتاً حسناً، وأخذ الفقه عن أخوآله بني عبد العليم، وكان له معرفة في علم الكلام واللغة والعربية وحسن الشعر، مات بالجند سنة ست وأربعين وخمس مائة، وقبره هنالك. ولما توفي أبوه بعده قبر هنالك أيضاً، ولأبيه فيه مدح ومرثية بأشعار كثيرة، ومن قصيدة له في ذلك:
جوار الله خير من جواري ... له دار لكل خير دار
وكان القاضي أبو بكر المذكور ذا جاه كبير وحظ عظيم عند الملوك، استوهب خراج الفقهاء، وخلصهم من المظالم، ولما قدم القاضي الإمام العلامة ذو الفضل العديد - الملقب(3/230)
بالرشيد - من ديار مصر إلى اليمن أكرمه القاضي أبو بكر المذكور، وبجله، وكان الرشيد المذكور فاضلاً بارعاً ذا فنون كثيرة، وفضيلة شهيرة. وحكي انه أستأذن هو والجليس أبو المعالي المصري - ذات يوم على الوزير فلان - سماه - فلم يأذن لهما، واعتذر عن المواجهة، ووجدا عنده غلظة من الحجاب، ثم عاوداه مرة أخرى، واستأذنا عليه، فقيل لهما إنه نائم، فخرجا من عنده فقال القاضي الرشيد:
توقع لأيام اللئام زوآلهافعما قليل سوف تنكر حآلها
فلو كنت تدعو الله في كل حالة ... لتبقي عليهم ما أمنت انتقآلها
وقال صاحبه أبو المعالي:
لئن أنكرتم عنا ازدحاماً ... ليجتنبكم هذا الزحام
وإن نمتم عن ألفاجات عمداً ... فعين الدهر لا تنام
فلم يكن بعد أيام حتى نكب الوزير نكبة عظيمة. وفي السنة المذكورة توفي أبو الحسن محمد بن المبارك العكبري الفقيه الشافعي. أتقن المذهب على أبي بكر ألفاشي المستظهري، درس وأفتى وصنف وأقرأ له مصنف في شرح التنبيه للشيخ أبي إسحاق ومصنف في الأصول.
وفيها توفي ابن خميس أبو عبد الله الحسين بن نصرالموصلي الجهني الشافعي، الملقب تاج الإسلام. قال ابن خلكان: أخذ الفقه عن أبي حامد الغزالي ببغداد، وعن غيره وولي القضاء برحبة مالك بن طوق، ثم رجع إلى الموصل، وصنف كتباً منها: مناقب الأبرار على أسلوب رسالة القشيري ومناسك الحج وأخبار المقامات. قلت: وقول ابن خلكان: على أسلوب رسالة القشيري، ليس إطلاقه هذا بمرضي ولا صحيح، فإن رسالة القشيري جمعت أصناما من العقائد والآداب وذكر المقامات والأحوال وأسمأنها واصطلاحات المشايخ الصوفية، من ذلك: ذكر اللوامع والطوالع، والبوادة واللوائح، والمحبة والشوق، والأنس وآلهيبة، والسكر والغيبة، والفناء والبقاء، إلى غير ذلك مما يطول ذكره ومما لم يذكره في مناقب الأبرار المذكور، وإنما ذكر فيه مما يناسب ما في إلىسالة قوله: ومنهم ومنهم فحسب.(3/231)
وخميس جده الأعلى، والجهني نسبة إلى جهينة القبيلة المعروفة من قضاعة، سكن في قرية من الموصل مجاور القرية التي فيها العين المعروفة بعين القيارة التي ينفع الاستحمام بها من ألفالج والرياح ألفاردة، وهي مشهورة في بر الموصل.
سنة ثلاث وخمسين وخمس مائة
قال ابن الأثير: فيها نزل ألف وسبعمائة من الإسماعيلية على رزق كبير للتركمان، فأخذوه، فأسرع عسكر التركمان، فأحاطوا بهم، ووضعوا فيهم السيف، فلم ينج منهم إلا تسعة أنفس - والحمد لله -. وفيها توفي الفقيه ألفاضل الورع الزاهد عمر بن اسماعيل بن يوسف. أخذ عن الإمام زيد بن الحسن المهذب وأصول الفقه، وكان رفيق الإمام يحيى بن أبي الخير في رحلتهما إلى احاطة، ورويا عنه: غريب الحديث في اللغة لأبي عبيد، ومختصر العين للمافي، وغير ذلك، وكان فاضلاً إماماً في العربية. أخذ الإمام يحيى عنه ألفافي والجمل للزجاجي، وأخذ عنه محمد بن موسى العمراني: الناسخ والمنسوخ في القرآن لأبي جعفر الصفار. وفيها توفي مسند الدنيا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب السجزي ثم آلهروي الصوفي في الزاهد. كان مكثراً من الحديث عالي الإسناد، طالت مدته، فألحق الأصاغر والأكابر، سمع صحيح البخاري ومسند ألفارمي وعبد بن حميد بن جمال الإسلام ألفاؤدي في سنة خمس وستين وأربع مائة، وسمع من أبي عاصم الفضيلي ومحمد بن أبي مسعود ألفارسي وطائفة، وصحب شيخ الإسلام الأنصاري، وخدمه، وعمر ودخل بغداد، فازدحم الخلق عليه. وكان خيراً متواضعاً متودداً حسن السمت، متين الديانة محباً للرواية. وكانت ولادته بهراة في ذي القعدة سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، ووفاته ببغداد في ذي القعدة سنة ثلاث وخمسين وخمس مائة في رباط فيروز، وصلي عليه بالجامع صلاة الشامة، وكان الإمام في تلك الصلاة شيخ الشيوخ الأكابر أبو محمد محيي الدين عبد ألفادر الجيلي - قدس الله روحه - وكان الجمع متوافياً، ودفن في الشونيزي في الدكة المدفون فيها الشيخ رويم، وهو اخر من روى في الدنيا(3/232)
عن ألفاؤدي. وفيها توفي الحافظ أبو مسعود عبد الجليل بن محمد الأصبهاني، أوحد وقته، وفي علمه، مع حسن طريقه وتواضعه. كان جيد المعرفة حسن الحفظ، ذا عفة وقناعة وإكرام للغرباء. وفيها توفي علي ابن عساكر المقدسي ثم الدمشقي الحساب، صحب الفقيه نصر المقدسي. وفيها توفي العلامة أبو حفص عمر بن أحمد النيسابوري الصفار، كان من كبار الشافعية ويذكر مع محمد بن يحيى، ويزيد عليه بالأصول، قال ابن السمعاني: هو إمام بارع مبرز، جامع لأنواع من العلوم الشرعية، سديد السيرة. مات يوم عيد الأضحى. وفيها توفي محمد بن عبد الله ألفاتب المعروف بابن التعاويذي البغدادي، ألفاعر المشهور، وله ديوان شعر. وكان باسمه - رأيته في أيام الناصر لدين الله، فالتمس أن ينقل باسم أولاده. ولما عمي سأل أن يجدد له راتب مدة حياته، فكان يواصل بشيء من الخشكار إلىومي، فكتب أبياتاً إلى صاحب المخزن الملقب بفخر الدين، ومن جملتها:
حاشاك ترضى أن تكون خزانتي ... كخزانة البواب والنقاط
سوداء مثل الليل شعر قفيزها ... ما بين طسوج إلى قيراط
قد كدرت حسني المضي وغيرت ... طبعي السليم وأرقبت أخلاطي
أخنت عليها ألفادثات وأفيطت ... فيها إلىداة أيما إفياط
فتول تدبيري فقد أنهيت ما ... أشكوه من مرضي إلى بقراط
وكان وزير الديوان ابن البلدي قد عزل أرباب الولايات، وصادرهم وعاقبهم، فعمل أبياتاً في ذلك منها:
يا قاصداً بغداد جز عن بلدة ... للجور فيها زجرة وعتاب
إن كنت طالب حاجة فارجع فقد ... سدت على إلىاجي لها الأبواب
ليست وما بعد الزمان كعهدها ... أيام يعمر ربعها الطلاب
ويجلها الرؤساء من ساداتها ... والجلة الأدباء والكتاب
والدهر في أولى حداثته وللأ ... يام فيها نضرة وشباب
والفضل في سوق الكرام يباع ل ... غالي من الأثمان والآداب(3/233)
بادرت وأهلوها معاً فبيوتهم ... ببقاء مولانا الوزير خراب
قال ابن خانكا: وأما قصيدته المشتملة على التشبيب والمدح فإنها في نهاية الحسن، قلت: وقد اختصرت في ترجمته الكبيرة المشتملة على المحاسن النضيرة على هذه الألفاظ اليسيرة، التعاويذي نسبة إلى كتابة التعاويذ - بالذال المعجمة وهي الحروز. ذكر موته بعض المؤرخين في السنة المذكورة، وذكر بعهم في سنة أربع وثمانين - والله أعلم -. وفيها توفي الإمام الأوحد العالم الأمجد عبد الله بن يحيى بن أبي آلهثم الصنعي، وهو ابن ثمان وسبعين سنة، وقيل إحدى وثمانين. وكانت مدرسته في سهفنة. وروى ابن سمرة بسنده أنت الإمام يحيى بن أبي الخير كان يقول: عبد الله بن يحيى شيخ الشيوخ، وكانا متحابين يتزاوران، وحضر الإمام يحيى جنازته وهو وأصحابه من ذي الشرف - قال: وكان فاضلاً زاهداً ورعاً. روي أن ناساً من بني مليك ضربوه بالسيوف فلم تقطع سيوفهم، فسألوه عن ذلك فقال: كنت أقرأ سورة ياسين. قال: والذي أرويه أنه كان يقرأ آيات، وهي قوله تعالى: " ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم "، - البقرة 255 -، " فالله خير حافظاً وهو أرحم إلىاحمين " - يوسف 64 - و " حفظاً من كل شيطان مارد " - الصامات 7 - " وحفظاً ذلك تقدير العزيزالعليم " - فصلت 12 - " أن كل نفس لما عليها حافظ " - ألفارق 4 - " إن بطش ربك لشديد إنه هو يبدىء ويعيد وهو الغفور الودود " - البروج 12، 13، 14 -. إلى آخر السورة، قال: وهذه إلىواية وهي المشهورة. قال: وذكر أن الفقيه المذكور قال: خرجت يوماً مع جماعة، فيأينا ذئباً يلاعب شاة عجفاء، ولا يضرها بشيء، فلما دنونا منها نفي الذئب، فوجدنا في رقبة ألفاة كتاباً مربوطاً، فحللناه، فقرأنا فيه هذه الآيات. وله مصنفات مليحة منها: كتاب التعريف في الفقه، واحترازات المهذب، وكان يقوم بكفايته وما يحتاج إليه رجل من مشايخ بني يحيى، وهم بطن من يافع قلت: ويافع يقولون: هم أهل يحيى وأهل موسى وأهل عيسى، ثلاثة بطون بينهم بعض قرابة، وفيهم عز وشرف نفوس، فأهل موسى أخوالي - وألفالب عليهم الكرم والمشيخة وشرف النفوس - وأهل يحيى أخوال بني عمي - وألفالب عليهم العز والنجدة، ولا تزال الحرب بينهم وبين أعدأنهم ومن أهل يحيى المذكورين الولي الكبير الفقيه الشهير أبو بكر التغزي الذي كان السلطان الملك المؤيد في طوعه. وذكر ابن سمرة أنه تفقه بهذا الفقيه عبد الله بن يحيى المذكور خلق كثير.(3/234)
؟؟؟؟
سنة أربع وخمسين وخمس مائة
فيها سارعبد المؤمن في مائة ألف، فنازل المهدية بحراً وبراً، فأخذها من الفرنج بالأمان، فخرجوا منها في البحر في وقت الشتاء، فغرق أكثرهم - ولله الحمد -. وفيها دخلت الغز بنيسابور، ووقعت فتنة وحروب وحمية وعصبية بين الشافعية والعلوية ومعهم الحنفية في نيسابور وتعبت إلىعية، وأحرقت أسواق ومدارس، ووقع القتل بالشافعية، ثم انتصروا وبالغوا في أخذ الثأر، وحرقوا مدرسة الحنفية. وفيها توفي أبو جعفر العباسي أحمد بن محمد بن عبد العزيز نقيب آلهاشميين، حدث ببغداد وأصبهان، وكان صألفا متواضعاً فاضلاً مسنداً.
وفيها توفي أبو زيد جعفر بن زيد الشامي الحموي، مصنف رسالة البرهان كان صألفا عابداً صاحب سنة وحديث. وفيها توفي الحسن بن جعفر المتوكل العباسي. وكان أديباً شاعراً صألفا. وفيها توفي محمد شاه ابن السلطان محمود بن محمد ابن ملك شاه السلجوقي، وكان كريماً عاقلاً.
سنة خمس وخمسين وخمس مائة
فيها توفي العميد ابن القلانسي حمنة بن أسد التميمي الدمشقي. وفيها توفي سلمان غزنة حسن شاه، تملك بعد أبيه بهرام شاه. وفيها توفي قاضي العراق أبو جعفر الثقفي عبد الواحد بن أحمد، ولاه المستنجد قضاء القضاة، وولي بعده ابنه جعفر. وفيها توفي ألفائز بنصر الله أبو القاسم عيسى بن الظافي العبيد، أقيم في الخلافة بعد قتل أبيه - وله خمس سنين، وقد تقدم أن نصر بن عباس قتله بأمر عباس، ولما كان صبيحة الليلة التي قتل فيها الظافي حضر عباس إلى المصر على جاري عادته في الخدمة،(3/235)
وطلب الاجتماع به موهماً عدم اطلاعه على قتله، وطلبوه في جميع مظانه في القصر، فلم يقفوا له على خبر، فتحققوا عدمه. فأخرج عباس أخوي الظافي وقال: أنتما قتلتما إمامنا، وما نعرفه إلا منكما، فأصرا على الإنكار صادقين، فقتلهما في الوقت لنفي التهمة عن نفسه، ثم استدعى بولده ألفائز - وعمره خمس سنين كما تقدم، وقيل: سنتان - فحمله على كتفه ووقف في صحن ألفار، فأمر أن تدخل الأمراء، فدخلوا فقال لهم: هذا ولد مولانا، وقد قتل عماه أباه، وقد قتلهما كما ترون، والواجب إخلاص الساعة لهذا الطفل، فقالوا بأجمعهم: سمعنا وأطعنا. فصاحوا صيحة واحدة، فاضطرب منها الطفل، فبال على كتف عباس، وسماه: ألفائز، وسيره إلى أمه، واختل من تلك الصيحة، فصار يصرع في كل وقت، ويختلج، وخرج عباس إلى داره، ودبر الأمور، وانفيد بالتصرف - وكان وزيراً للظافي - وأما أهل القصر فإنهم اطلعوا على باطن الأمر، وأخذوا في الحيلة في قتل عباس وابنه، وكاتبوا طلائع ابن رزيك - بضم إلىاء وتشديد الزاي المكسورة وسكون المثناة من تحت بعدها كاف - الملقب بالملك الصالح، وكان إذ ذاك والي سبتة بني حصيب في الصعيد، وسألوه الانتصار لهم، وقطعوا شعورهم، وسيروها في طي الكتاب، وسودوا الكتاب، فلما وقف الصالح عليه اطلع من حوله من كبار الأجناد، وتحدث معهم في ذلك فأجابوه إلى الخروج معه، واستمال جمعاً من العرب، وساروا قاصدين القاهرة - وقد لبسوا السواد - فلما قاربوها خرج إليهم جميع من فيها من الأمراء والأجناد والسودان، وتركوا عباساً وحده، وخرج عباس في ساعته من القاهرة - ومعه ولده قاتل الظافي، وشيء من مآله وجماعة يسيرة من أتباعه - وقصدوا طريق الشام. وأما صالح فإنه دخل القاهرة بغير قتال، وما قدم شيئاً على النزول بدار عباس المعروفة بدار الشامون بن البطائحي، وقد ضاع مدرسة للحنفية، وتعرف بالسيوفية، واستحضر ألفادم الصغير الذي كان مع الظافي ومن معه من المقتولين، وحملوا وقطعت لهم الشعور، وانتشر البكاء والنياحة في البلد، ومشى الصالح والخلق قدام الجنازة إلى موضع الدفن، وتكفل الصالح بالصغير، ودبر أحوآله. وأما عباس ومن معه فإن أخت الظافي كاتبت فينج عسقلان بسببه، وشرطت لهم مالاً جزيلاً إذا أمسكوه، فخرجوا عليه وصادفوه، فتواقعوا واقتتلوا، وقتلوا عباساً وأخذوا مآله وولده، وانهزم بعض أصحابه إلى الشام، وسيرت الفرنج نصر بن عباس ألفاتل المذكور إلى القاهرة محتاطاً به في قفص حديد، فلما وصل تسلم رسولهم ما شرطوا لهم من ألفال، وأخذوا نصراً المذكور، ومثلوا به، ثم صلبوه على باب زويلة، ثم أحرقوه. هذه خلاصة(3/236)
الواقعة وفيها طول - وأقيم بعد ألفائز المذكور العاضد وفي السنة المذكورة توفي المقتفي لأمر الله محمد بن المستظهر بالله بن المقتدي بالله العباسي. كان عألفا فاضلاً لبيباً، حليماً شجاعاً، مهيباً خليقاً للإمارة كامل السؤدد، لا يجري في دولته أمر وإن صغر إلا بتوقيعه، ووزر له علي بن طراد الزينبي، ثم أبو نصر بن حهيرة، ثم علي بن صدقة، ثم ابن هبيرة وحاجبه أبو المعالي بن الصاحب وجماعة بعده. وكان مليح الشبية عظيم آلهيبة، وكانت دولته خمساً وعشرين سنة، وقد جدد باباً للكعبة، واتخذ لنفسه تابوتاً من العقيق دفن فيه، وعقدت البيعة بعده لولده المستنجد بالله. وفيها توفي أبو الفتوح ألفائي محمد بن محمد آلهمداني صاحب الأربعين.
سنة ست وخمسين وخمس مائة
فيها توفي أبو حكيم اللهرواني الزاهد الفيضي، أحد من يضرب به المثل في الحلم والتواضع، أنشأ مدرسة بباب الأزج، واجتهد جماعة على امضأنه فلم يقدروا. وفيها توفي سلمان الغور الحسين بن الحسين. وفيها توفي سليمان شاه ابن السلطان محمد السلجوقي قيل: كان أهوج أخرق فاسقاً بل زيديقاً يشرب الخمر في نهار رمضان، قبض عليه الأمراء ثم خنق. وطلائع الملقب بالملك الصالح ابن رزيك، قد تقدم دخوله القاهرة لما استنجد به عند قتل الملك الظافي، فتولى الوزارة في أيام ألفائز، واستقل بالأمور وتدبير أحوال الدولة. وكان فاضلاً محباً لأهل الفضائل، سمحاً في العطاء سهلاً في اللماء جيد الشعر، ومن شعره:
كم ذا يرينا الدهر من أحداثه ... عبراً وفينا الصد والإعراض
ينسى الممات وليس يجري ذكره ... فينا فتذكرنا به الأمراض
ومنه:
ومهذهف ثمل القوام سرت إلى ... أعطافه النشوات من عينيه(3/237)
ماضي اللماظ كأنما سلت يدي ... سيفي غداة إلىوع من جفنيه
والناس طوع يدي وأمري نافذ ... فيهم وقلبي الآن طوع يديه
فأعجب لسلمان يعم بعدله ... ويجور سلمان الغرام عليه
مع أبيات أخرى، ومنه:
مشيبك قد نضى صبغ الشباب ... وحل ألفاز في وكر الغراب
تنام ومقلة الحدثان تقضي ... وما ناب النوائب عنك نابي
وكيف بقاء عمرك وهو كنز ... وقد أنفقت منه بلا حساب
وكان المهذب عبد الله بن أسعد الموصلي قد قصده من الموصل مدحه بقصيدته ألفافية التي أولها.
أما كفاك تلاقي في تلاقيك ... ولست تنقم إلا فيط حبيكا
وفيم تغضب إن قال الوشاة: سلاوأنت تعلم أني لست أسلوكا
لا نلت وصلك إن كان الذي زعموا ... ولا شفا ظمئي جود ابن رزيكا
وهي من نخب القصائد. ولما مات ألفائز وتولى العاضد مكانه استمر الصالح على وزارته، وزادت حرمته، وتزوج العاضد ابنته، فاغتر بطول السلامة. وقد كان العاضد تحت قبضته، فيزق عليه من يقتله من أجناد الدولة، فكمنوا للصالح مرة بعد أخرى حتى قتلوه، وخرجت الخلع بمنصبه لولده العادل، وهذا الصالح المذكورهو الذي بنى الجامع على باب زويلة بظاهر القاهرة، وكان لما خرج أشرت على الوفاة قد أوصى ولده أن يتعرض لماور وزير مصر بسوء، وكان قد تمكن في بلاد الصعيد، ثم إنه قدم إلى القاهرة، وهرب العادل وأهله منها، وحمل من الذخائر ما لا يحصى، وندب شاور جماعة، فلحقوه وأخذوه أسيراً، وأحضروه إلى باب شاور، فوقف عنده زمناً طويلاً، ثم حبسه مدة، ثم قتله وتولى مكانه من الوزارة ومدة. ثم خرج عليه أبو الأشبال ضرغام بن عامر الملقب بفارس المسلمين اللخمي المنذري، وغلبه وأخرجه من القاهرة. وذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخه ابن شاور وصل إلى الملك العادل نور الدين مستنجداً، فأكرمه واحترمه، وبعث معه جيشاً، ثم إن شاور بعث إلى ملك الفرنج، واستنجده، وضمن له أموالاً، فيجع عسكر نور الدين إلى الشام، وحدث ملك الفرنج نفسه بملك مصر، فلما بلغ نور الدين ذلك جهز عسكراً، وجاءت أمور يطول ذكرها، ثم إن شاور المذكور قتل، وكان قتله عند مشهد السيدة نفيسة - رضي الله عنها - بين القاهرة ومصر، وكان طلائع المذكور أديباً شاعراً، فاضلاً جواداً، ممدحاً رافضياً، يجمع الفقراء ويناظرهم على الإمامة وعلى القدر، وله مصنف في ذلك.(3/238)
وفيها توفي أبو الفتح عبد الوهاب بن محمد ألفالكي المقرىء. وفيها توفي سلمان ما وراء اللهر خاقان محمود بن محمد التركي، ابن بنت السلطان ملك شاه السلجوقي.
سنة سبع وخمسين وخمس مائة
فيها حج إلىكب العراقي، وحيل بينهم وبين البيت إلا شرذمة يسيرة، ورجع الناس بلا طواف. وفيها توفي أبو مروان عبد الملك بن زهير الإشبيلي طبيب عبد المؤمن وصاحب
التصانيف. وفيها توفي الشيخ الكبير الولي الشهير ذو الفتح الظاهر وألفال ألفاهر، والمعارف والأسرار، والكرامات والأنوار، والمقامات العلية والمواهب السنية، والأنفاس الصادقة والآيات ألفارقة: عدي بن مسافر الشامي ثم آلهكاري الزاهد. صحب الشيخ عقيلاً المنبجي والشيخ حماد الدباس، وإليه ينتسب ألفائفة العدوية. سار ذكره في البلاد، وتبعه خلق كثير، وعظم فيه الاعتقاد، وانقطع إلى جبل آلهكارية من أعمال الموصل، وبنى هناك زاوية، مال إليه أهل تلك النواحي ميلاً عظيماً، وقبره عندهم من المنارات المعدودة والمشاهد المقصودة - رضي الله تعالى عنه، ونفعنا به وبجميع الصالحين. وله كرامات كريمة وآيات عظيمة، منها أن بعض أصحابه كان مختلما بنفسه في بعض الصحارى، فقال له: يا سيدي، أشتهي الانقطاع في هذا المكان، فلو كان عندي ماء أشرب منه، وما أقتات به، فقام الشيخ إلى صخرتين كانتا هنالك، فوكز إحداهما فانفجرت منها عين ماء حلو عذب، ووكز الآخرى فنبتت فيها في الوقت شجرة رمان، وقال لها: أيتها الشجرة؛ أنبتي بإذن الله تعالى يوماً رماناً حلواً، ويوماً رماناً حامضاً، فقال صاحبه: وهو إسرائيل بن عبد المقتدر فأقمت هنالك سنين آكل من تلك الشجرة رماناً يوماً حلواً ويوماً حامضاً أحسن رمان وأطيبه في الدنيا. وفيها توفي الشيخ الإمام المحدث شيخ المحدثين سراج الدين أبو الحسن علي بن أبي بكر بن حمير اليمني آلهمداني. روى عن جماعة كثيرين، وروى عنه الإمام يحيى بن أبي(3/239)
الخير صحيح البخاري وسنن أبي داود، واجتمع عليه جماعة، وسمعوا عليه الكتابين المذكورين. وكان في الحديث متقناً للرواية عألفا بصحيحه ومعلوله. قال الإمام يحيى بن أبي الخير: ما رأيت أحفظ من هذا الشيخ - يعني: علي بن أبي بكر المذكور - في حفظ الحديث ولا أعرف منه، قيل له: ولا في العراق؟ قال: ما سمعت، قال ابن سمرة: وعنه أخذ شيخ قاضي عدن أحمد بن عبد الله القريظي، وله تصنيف مليح يعرف بكتاب الزلازل والأشراط، قال: وإليه ينتهي سند أكثر أصحابنا، وسمع عليه خلق كثير في الجند وعدن وغيرهما من بلاد اليمن. وفيها توفي أبو سعيد المؤيد بن محمد الأندلسي ألفاعر المشهور، من أعيان شعراء عصره، وله نظم عجيب مشتمل على المعاني المبتكرة، من ذلك قوله في وصف طنبور:
وطنبور مليح الشكل يحكي ... بنغمته الفصيحة عندليبا
روى لما روى نغماً فصاحاً ... حواها في تقنلها قضيبا
كذا من عاشر العلماء طفلاً ... يكون إذا نشا شيخاً أديبا
ولبعضهم في هذا المعنى:
وعود له نوعان من لذة المنى ... فبورك جان مجتنيه وغارس
تغنت عليه وهو رطب حمامة ... وغنت عليه قينة وهو يابس
سنة ثمان وخمسين وخمس مائة
فيها توفي الشيخ الزاهد أحمد بن محمد بن قدامة، وكان خطيب جماعيل بفتح الجيم وتشديد الميم وبكسر العين المهملة بعد الالف واللام بعد مثناة من تحت ففي من الفرنج مهاجراً إلى الله عز وجل، ثم صعد إلى الجبل، وكانوا يعرفون بالصالحية - لنزولهم بمسجد بني صالح، ومن ثم قيل جبل الصالحية - وكان قانتاً لله زاهداً صألفا، صاحب جد وصدق وحرص على الخير - رحمه الله تعالى -. وفيها توفي ابن القطان هبة الله بن الفضل ألفاعر المشهور البغدادي، سمع الحديث من جماعة، وسمع عليه، وكان غاية في الخلاعة والمجون، كثير المناح والمداعبات، وله ديوان شعر، وذكره السمعاني في الذيل وقال: شاعر مجود مليح الشعر، رقيق الطبع، إلا أن آلهجاء غالب عليه، وهو ممن يتقي لمانه، كتبت عنه حديثين، وعلقت عنه مقطمات من(3/240)
شعره، وذكر العماد في خريدة القصر: وكان مجمعاً على ظرفه ولطفه. وحكي أنه دخل يوماً على الوزير الزينبي وعنده الحيص - وقد عمل بيتين لا يمكن أن يعمل لهما ثالث، لأنه قد استوفى المعنى فيهما، فقال الوزير: وما هما؟ فأنشد:
زار الخيال بخيلاًمثل مرسلهفما شفاني منه الضم والقبل
ما زارني قط إلا كي يوافقني ... على إلىقاد فينفيه ويرتحل
فالتفت الوزير إلى الحيص وقال له: ما تقول في دعواه؟ فقال: إن أعادهما سمع لهما الوزير ثالثاً، فقال له الوزير: أعدهما، فوقف الحيص لحظة ثم أنشد:
وما درى أن نومي حيلة نصبت ... لطيفه حين أعيى اليقظة الحيل(3/241)
المغرب الأقصى والأدنى وبلاد إفريقية وكثير من بلاد الأندلس - وتسمى أمير المؤمنين - وقصدته الشعراء، وامتدحته بالمدائح الحسان، وكان أبيض مليحاً، أسود الشعر وضياً، معتدل الشامة جهوري الصوت، فصيحاً عذب المنطق، لا يراه أحد إلا أحبه بديهة، وكان ملما عادلاً عظيم آلهيبة عالي آلهمة، كثير المحاسن متين الديانة، يقرأ كل يوم سبعاً، ويجتنب لبس الحرير، ويصوم الاثنين والخميس، ويهتم بالجهاد والنظر في الأمور، كأنما خلق للملك. وذكر عماد الأصبهاني في كتاب الخريدة أنه لما أنشده بعض الفقهاء:
ما هز عطفيه بين البيض والأسل ... مثل الخليفة عبد المؤمن بن علي
أشار إليه أن يقتصر على هذا البيت، وأمر له بألف دينار، ولما تمهدت له القواعد وانتهت أيامه خرج من مراكش إلى مدينة سلا، فأصابه بها مرض شديد، وتوفي بها رحمه الله تعالى - وعهد إلى ولده أبي عبد الله محمد، فاضطرب أمره، وأجمعوا على خلعه، وبويع أخوه يوسف. والكومي: بضم ألفاف وسكون الواو، وبعدها ميم: نسبة إلى كومية، وهي قبيلة صغيرة نازلة بساحل البحر من أعمال تلمسان. وذكر في بعض تواريخ المغرب أن ابن تومرت كان قد ظفي بكتاب يقال له: الجفي، وفيه ما يكون على يده، وقضية عبد المؤمن وجيشه واسمه وغير ذلك مما تقدم ذكره. وقال ابن قتيبة في أوائل كتاب اختلاف الحديث بعد كلام من علم باطنه بما وقع طويل: وأعجب من هذا التفسير - تفسير إلىوافض للقرآن الكريم وما يدعونه إليهم عن الجفي الذي ذكره سعد ابن هارون العجلي وكان رأس اليزيدية - فقال شعراً:
ألم تر أن الرافضين تفيقوا ... فكلهم في جعفر قال منكرا
وطائفة قالوا إمام ومنهم ... طوائف سمته النبي المطهرا
ومن عجب لم أقصه جلد جفيهم ... برئت إلى إلىحمن ممن تجفيا
مع أبيات أخرى. قم قال ابن قتيبة: وهو جلد جفيا دعوا أنه كتب لهم فيه الإمام كل ما يحتاجون إلى عمله كل ما يكون إلى يوم القيامة، قيل: ويعنون بالإمام: الإمام جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه وإلى هذا الجفي المذكور أشار أبو العلاء المعري بقوله:
لقد عجبوا لأهل البيت لما ... أتاهم علمهم في مسك جفي
ومرآة المنجم وهي صغرى ... أرته كل عامرة وقفي
وقوله في: مسك جفي: هو بفتح الميم وسكون السين المهملة: الجلد، والجقر: بفتح الجيم وسكون الماء وبعدها راء: من أولاد المعز، ما بلغ أربعة أشهر والاثني جفية. وكانت(3/242)
عادتهم في ذلك الزمان أنهم يكتبون في الجلود والعظام والخزف، وما شاكل ذلك. وفيها توفي سديد الدولة ابن الأنباري صاحب ديوان الإنشاء محمد بن عبد الكريم الشيباني ألفاتب البليغ، أقام في الإنشاء خمسين سنة، وناب في الوزارة ونفذ رسولاً، وكان ذا رأي وحزم وعقل. وفيها توفي الفقيه العلامة الإمام مفيد ألفالبين وقدوة الأنام الذي سارت بفضائله إلىكبان، واشتهر علمه في البلمان، النجيب ألفارع صاحب البيان أبو زكريا يحيى بن أبي الخير اليمني، من بني عمران المنتسبين إلى معد بن عدنان. ولد في سنة تسع وثمانين وأربع مائة، وتفقه بجماعة، منهم: خآله أبو الفتوح، ومنهم الإمامان زيد بن عبد الله اليفاعي، وزيد بن الحسين ألفايشي، وموسى بن علي الصعبي، وعبد الله بن أحمد، وعمر بن اسماعيل بن علقمة، وسالم بن عبد الله، وغير هؤلاء المذكورين، ومنهم شيخه في الحديث، ومنهم شيخه في الفقه، ومنهم شيخه في النحو ومنهم شيخه في اللغة ومنهم شيخه في الأصول. وحفظ على - ما ذكر ابن سمرة -: كتاب المهذب واللمع للشيخ أبي إسحاق، والملخص والإرشاد لابن عبدويه، وكافي الفيائض للصرد، والذي ذكره من مسموعاته من الحديث صحيح البخاري وسنن أبي داود وجامع الترمذي، وقرأ في أصول الدين الحروف الستة، وتزوج في سنة سبع عشر بأم القاضي طاهر المذكور، وكان قد تسرى قبلها بحبسه. وتفقه ولده القاضي أبو الطيب طاهر المذكور، وخلفه في حلقته ومجلسه، وأجاب عن المشكلات في حياته، وجالس العلماء وروى عنهم، وأخذ عن غير واحد، وجاور في مكة سنين، فيوى عن كبار المحدثين في الحرم الشريف: كالأنصاري، وعن شيخ المقرئين أبي عبد الله محمد بن ابراهيم الحضرمي، ثم عاد إلى وطنه في سنة ست وستين، وولي قضاء ذي جبلة وأعمآلها من زمان بني مهدي إلى بعض أيام شمس الدولة من بني أيوب، وصنف مصنفات مليحة منها: مقاصد اللمع، ومنها كتاب في مناقب الإمامين الشافعي وأحمد بن حنبل، وجمع بين علم القراءات والحديث والفقه، وبرع في علم الكلام، وناظر بعض المخالذين بين يدي سلمان الوقت، فقطعه مراراً. رجعنا إلى ذكر والده الإمام يحيى بن أبي الخير، وفي سنة ثمان عشرة ابتدأ بمطالعة الكتب من شروح مختصر المنني والشامل لابن الصباغ وكتاب العدة والإبانة، وشرح التلخيص وغير ذلك من الفقهيات، فوجد فيها من المسائل ما ليس مذكوراً في المهذب(3/243)
، فاستشار شيخه زيد بن عبد الله اليفاعي في ذلك، فأشار عليه بجمع ما ليس في كتاب المهذب، وشرع في تعليق كتاب الزوائد في السنة المذكورة، وولد ابنه طاهر سنة ثمان عشرة، وكمل كتاب الزوائد في سنة عشرين، وحج وزار في سنة إحدى وعشرين. وذكر ابن سمرة كلاماً فيما يتعلق بما جرى له في تلك الحجة من المناظرة والكلام في العقيدة مع بعض العلماء، رأيت تأخير ذكر ذلك إلى آخر ما يتعلق به الكلام، لئلا يفصل بين ما يتعلق بما نحن بصدده من تصنيفه، وبين غيره - مما يطول فيه الكلام ويباين في مذاهب الأنام ثم رجع فاستخرج كتابه المؤلف في الدور من كتاب ابن اللمان وغيره، ثم نظر في كتابه الزوائد، فإذا هو قد رتبه على ترتيب شروح مختصر المنني، وأغفل الدور وأقوال فقهاء الأمة من أرباب المذاهب المدونة المشهورة وغيرهم، فطالع وراجع، ثم ابتدأ بتصنيف كتابه البيان سنة ثمان وعشرين وخمسمائة، وفيغ منه سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، فيتبه على ترتيب محفوظه - وهو المهذب - فجمع البيان في ست سنين، وجمع الزوائد في قريب من أربع سنين. قال ابن سمرة: وذكر في البيان عن الشريف العثماني مسائل تدل على غزارة علمه وفضله وجواز الأخذ باجتهاده ونقله. قلت وهذا الذي ذكره من نقله عن العثماني صحيح، وما ذكره من جواز الأخذ باجتهاد العثماني غير صحيح، فإن للعثماني في المذهب وجوهاً ضعيفة، جماهير أصحابنا على خلافها. ومن ذلك ما نقل عنه أن المكي وغيره ممن ينشىء إحرام الحج من مكة إذا طاف عند خروجه إلى عرفة، وسعى بعده يجزيه عن السعي المفيوض عليه في الحج، وهذ غير مسلم ولا موافق عليه، فإنه لا بد أن يقع السعي بعد طواف الاماضة أو طواف القدوم، ولا يصح بعد طواف لا يتعلق بمناسك الحج هذا هو المذهب الصحيح. وأما من أطلق من
المصنفين في المذهب قوله أنه يصح بعد طواف صحيح. وقول بعضهم أنه يصح بعد طواف ما فلا بد من تقييد ذلك بقولنا: متعلق بمنسك من مناسك الحج، وتكون القيود في ذلك أربعة: الأول بعد طواف، والثاني صحيح، والثالث من مناسك الحج، وإلىابع لم يتخلل بينه وبين السعي وقوف. ومع ذلك فإن كتاب البيان وإن كان كتاباً جليلاً منتفعاً به في الآفاق فإن فيه وجوهاً ضعيفة - ليس هذا الكتاب موضع تتبع ذكرها - ويكفي منها ما ذكروا أن الشاموم إذا قال: " إياك نعبد وإياك نستعين " ألفاتحة عند قراءة إمامه ذلك تبطل صلاته. ورجعنا إلى ذكر ما يتعلق بتصنيفه، قال ابنه القاضي طاهر: إنه ما علق الزوائد حتى(3/244)
طالع في المهذب أربعين مرة بعد حفظه له. قلت: يعني أنه تكرر تتبع الكتاب لينظر: هل ما وجد من الزوائد في غيره فيه أم ل؟ لئلا يقع ما يسميه - زوائد ما هو موجود فيه - وذكر كلاماً مما يدل على قوة حفظه لكتاب المهذب وفهمه فيه، وتصرفه في معانيه وامادة الطلبة وتفهيمهم على حسب ما يليق بكل منهم من بسط الكلام والاقتصار على ما يحصل به الإفهام. قلت ولا شك أن إلىجل كان كذلك ماهراً في كثير من العلوم - سيما علم الفقه - خصوصاً كتاب المهذب، وعليه العمدة كان في جمعه كتاب البيان، ثم أضاف إليه ما ذكر من الزوائد كما فعل الشيخ في عبد الغفار في كتابه: ألفاوي كما نبه في خطبته بقوله: سميته ألفاوي لما حوى الفوائد الزوائد وما في اللماب، يعني أنه أودعه ما تضمنه كتابه المسمى باللماب، مع زوائد أخرى أضافها إليه. وبلغني أنه كثيراً ما كان يعتمد في جمع البيان على كتاب الشامل لابن الصباغ في بعض ما نقل. وروى ابن سمرة أنه لما فيغ من كتاب البيان سآله الفقيه محمد بن مفلح الحضرمي - وكان من جلة أصحابه أن يستخرج المسائل المشكلة، فاستخرج ذلك ووضعه في كتاب مستقل. وذكر أنه في أثناء تصنيف البيان اعتنر من التدريس لاشتغآله بجمعه. قلت: واللذة يجدها مع الاشتغال - خلقها الله تعالى في قلوب المشتغلين بالعلوم أو بالأعمال - ليكون عوناً على تحصيل المقاصد، بحيث إن الإنسان يقدم ذلك الشغل الذي هو فيه على غيره من حظوظ النفس، حكمة من الله تعالى ولطفاً، حتى أخبرني بعض شيوخنا أنه كان يتغذى بالاشتغال بالعلم، قلت: ولقد كنت في بعض الأوقات يبيت عشاي مطروحاً أول الليل إلى آخر وقت السحر، لما أجد من الميل إلى غيره. رجعنا إلى ما كنا. وذكر أنه أقام بسير بفتح السين المهملة وسكون المثناة من تحت وفي آخره راء وفي أوله موحدة مكسورة: مكان، حتى ظهرت حروب فيه وفتن، فانتقل إلى ذي السفا، ثم إلى ذي أشر، وأقام فيه سبع سنين يدرس ويقرأ، ثم ظهر ابن مهدي واستولى على زبيد وأعمآلها، ثم قويت شوكة ولده مهدي، وأغار على الجند وبواديها، وقتل من قتل في تلك النواحي سنة سبع وخمسين وخمس مائة، ثم في سنة ثمان أخذ جبال(3/245)
اليمن وقتل فيها قتلاً ذريعاً، وحرق مسجدها في يوم الاثنين الثامن من شهر شوال، ثم رجع إلى زبيد ومات فيها، ثم ولي أخوه عبد النبي المعروف بالسيد والإمام، على ألسنة العوام، وأصحابه يقولون: عليه السلام وأسر أبا النور بن أبي الفتح، فمات في أسره بزبيد. وفي سنة اثنتين وستين أخذ المجمعة واستولى على مخلاف التعك، وزالت على يديه دولة آل زريع من المخلاف، دامت دولة بني مهدي خمس عشرة سنة وثلاثة أشهر وثمانية أيام، إلى أن قدم السلطان شمس الدين من الديار المصرية، ثم بعده سيف الإسلا، كلاهما من بني أيوب، وسيأتي ذكرهما مع غيرهما في تراجمهم إن شاء الله تعالى. وعبد النب، المذكور هو الذي جرى له مع الشيخين الكبيرين الوليين الشهيرين اليمنيين القديمين أبي العباس الصياد والشيخ علي الأسدي ما جرى في مسجد ألفازة من ساحل زبيد - على ما مضى ذكره. ولما كثر الفساد وخربت البلاد، وقتلت العباد في دولة بني مهدي انتقل الإمام أبو زكريا يحيى بن أبي الخير بن سالم العمراني اليمني الشافعي المذكور إلى ذي السفال تغيباً عن الشرور، وتوفي في السنة التي تليها - رحمه الله تعالى - مبطوناً شهيداً، وما ترك فييضة في مرضه، فأقام ليلتين ينازع ويسأل عن أوقات الصلاة وذكر إلىاوي أنه كان ورده في كل ليلة سبع القران، يقرأه في صلاته، وربما قال في مائة ركعة. وكان من جملة تصانيفه: كتاب الانتصار في إلىد على القدرية الأشرار، وكتابه المشهور بغرائب الوسيط، ومختصر من إحياء علوم
الدين للإمام حجة الإسلام واشتهر من تصانيفه المذكورات كتاب البيان، وانتفع به وشاع فضله في البلمان، وعد من الكتب الستة المشهورة المفيدة المبسوطة في الفقه المشكورة - بل الله تعالى برحمته تراه، وشكر سعيه، وجعل الجنة مأواه - وفيه يقول ألفاعر: م حجة الإسلام واشتهر من تصانيفه المذكورات كتاب البيان، وانتفع به وشاع فضله في البلمان، وعد من الكتب الستة المشهورة المفيدة المبسوطة في الفقه المشكورة - بل الله تعالى برحمته تراه، وشكر سعيه، وجعل الجنة مأواه - وفيه يقول ألفاعر:
لله شيخ من بني عمران ... قد شاد قصر العلم بالأركان
يحيى لقد أحيى الشريعة هادياً ... بزوائد وغرائب وبيان
هو درة اليمن الذي ما مثله ... من أول في عصرنا أو ثاني(3/246)
قلت: وأما ما ذكرت من تأخير الكرم على العقيدة، فذكر ابن سمرة أنه لقي الفقيه الإمام الواعظ الشريف محمد بن أحمد العثماني، وأنه ناظره في العقيدة - والشريف أشعري - فنظر الإمام يحيى مذهب الحنابلة، وذكر أنه استدل بالآية، وأنه ظهر بالحجة إلى أن نزف الشريف العرق من وجهه، كأنه يعني: خجلاً. وأما اجتماعه بالشريف المذكور، فظاهره الصحة، خلاف ما ذكر بعض الناس أنه اجتمع في تلك الحجة بأبي حامد الغزالي، وأنه بحث معه في المسائل الفقهية - وعليه فيو كما هو زي حجاج اليمن - وأن وأبا حامد أعجبه بحثه، فذلك غير صحيح، فإن الإمام أبا حامد توفي قبل ذلك في سنة خمس وخمسمائة. وأما ما ذكر من كون عقيدته حنبلية فصحيح بالنسبة إلى الحنابلة المتأخرين - حاشى الإمام أحمد - والمتقدمين منهم، وقد أوضحت ذلك، وأشبعت الكلام فيه في كتابي: المرهم، وإليه أشرت بقولي:
وفي حشويات كسوفان أظلما ... هما جهة والحرف حاش ابن حنبل
أعني أن ذلك مذهب الحشوية بعد أن أسفيت البدور لأئمة كل مذهب، وذكرت أن بدور المذاهب الثلاثة أنارت، وأنه حصل في بدور مذهب الحشوية كسوفان مظلمان، وهما ما ذكرت من القول بالجهة والحرف والصوت في كلام الله تعالى. وأما ما ذكرت - من كون الإمام أحمد والمتقدمين من أصحابه - براء مما ادعاه المتأخرون منهم، فممن نص على ذلك بعض الحنابلة: وهو الإمام أبو الفيج بن الجوزي، حتى ذكر أنهم صاروا شبه على المذهب باعتقادهم الذي يتوهم غيرهم أنه مذهب أحمد. وليس العجب من حنابلة الفيوع وإنما العجب من شافعية الفيوع كصاحب البيان المذكور ومن تابعه من أهل الجبال، والكلام معهم في شيئين: أحدهما الاحتجاج، والثاني الأئمة المحتجون. أما الاحتجاج فاستمداده من إلىاهين العقلية القواطع ونصوص الكتاب والسنة المنيرات السواطع، وذلك لعمري يحتاج في ذكره إلى مصنف مستقل مشتمل على مجلمات لايسع هذا المكان شيء منها. وأما الأئمة المحتجون فقد ذكرت منهم مائة إمام في كتابي: الموسوم بألفاش المعلم شاوش وكتاب المرهم المعلم بشرف المفاخر العلية في مناقب الأئمة الأشعرية، وما اجتلوا به من الفضائل والمحاسن الحميدة والطريقة السديدة والأوصاف الجميلة، ومن متأخريهم جمال الإسلام الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وتصنيفه في ذلك معروف - أعني تصنيفه في أصول الدين، وكذا فتياه التي رواها الإمام الحافظ أبو القاسم ابن عساكر، وأنه قال فيها:(3/247)
الأشعرية رؤوس أهل السنة، وقد أوضحت ذلك في كتابي: المرهم. وكان الشيخ أبو إسحاق وحده فيه كفاية لصاحب البيان المذكور، فإنه هو وغيره معترفون له بالفضائل العديدة والمحاسن الحميدة والطريقة السديدة، والأوصاف الجميلة الملاح ألفاهدة له بالصلاح والفلاح. ومنهم شيخ الإسلام معدن الفضائل والمحاسن ومعتمد الفتاوى الشيخ محيي الدين النواوي، فقد ملأت محاسنه الآفاق، وحصل من الموالف والمخالف عليه الاتفاق، فكان فيه وحده كفاية لمن عاصره منهم، وأتى بعده، ومذهبه معروف في شرح مسلم وغيره من كتبه فيما يتعلق بالعقيدة. ومنهم حجة الإسلام أبو حامد الغزالي، ومحاسنه وفضائله وعلومه ودلائله أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر، وقد وقف المذكور يحيى على كتابه: الأحياء، وهو في العلوم بحر تلاطمت أمواجه، ومرتقى سنام عسر معراجه. فكل واحد من الثلاثة المذكورين فيه كفاية للمقتدين، فكيف باجتماعهم مع ما حووه من الفضل والدين!! بل اجتماع ألوف منهم الإمامين من الأئمة الأعلام المبرزين من المشايخ العارفين أولي الأنوار والأسرار واليقين، والعلماء الفضلاء الشاملين من المذاهب الثلاثة المعروفة!! وفي عقيدة الشيخ الإمام عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام وحدها كفاية لمن رآها واعتقدها من العلماء، وكذا عقيدة الشيخ الكبير الولي الشهير أبي عبد الله القرشي، وقد ذكرت ألفاظها في كتابي المرهم، وكذلك عقيدة الإمام شهاب الدين السهروردي الموسومة بأعلام آلهدى، وغيرهم ممن يطول عددهم ويسمو مجدهم. قلت: وأما قول الخصوم من المذكورين وغيرهم: مذهبنا مذهب السلف، فهذا جهل منهم بمذهب السلف، فإن السلف ما خالفوا مذهب الخلف، إلا بعدم ذكرهم للماويل، مع اعتقادهم تنزيه الله تعالى عن سمات الخلق من التجسم والمكان والحركة والانتقال وسائر، سمات الحدوث والتغير والزوال، وقليل منهم وافق جمهور الخلف في ألفاويل، وقليل من الخلف وافق جمهور السلف في عدم ذكرهم ألفاويل. كل هذا حكاه الإمام محيي الدين النواوي عنهم في شرح صحيح مسلم، والعجب منهم، يقولون مذهبنا مذهب السلف، وهذا إمام المحدثين من السلف والخلف الذي مذهبه باهج ما أظلم ولا اندرس، شيخ الإمام(3/248)
الشافعي: مالك بن أنس، تأول قول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - " ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا ". الحديث بتأويلين: أحدهما ينزل ملائكته تعالى ورحمته، والثاني أنه محمول على الاستعارة لأجابة ألفاعي واللطف، كما يقال: نزل الملك عن سريره إذا عدل في سيرته ولطف برعيته.
أترى هؤلاء الخصوم يتوهمون أنهم أعلم وأدرى بالتحقيق، وأدين وأقرب إلى التوفيق مما ذكرنا من الأولياء العارفين، والعلماء الشاملين أولي النور والفهم والتدقيق!! كلا بل جمدوا على الظواهر، ما فهموا استحالتها بالبرهان ألفاطع، فهم كما قال الشيخ الإمام - شيخ الاسلام شهاب الدين السهروردي: - أيها الشامد المحيط به الجهات؛ فهمك ما ينتج لك إلا الجهات، يستحيل عندك أن لا يكون الشيء إلا في مكان -، وقد كان المكان لا في مكان يعني السماوات والأرض، إذ خلقنا بعد أن لم تكونا، فما ظنك بخالقهما تبارك وتعالى؟!! ولقد بلغني أن الإمام القاضي - طاهر ابن الإمام يحيى بن أبي الخير المذكور - لما شرح الله تعالى صدره للنور أنكر على والده مذهبه، وعنفه - وهو في مكة - بالمكاتبة، ولقد تعجبت من فقهاء جبال اليمن في عقائدهم بحضرة الشيخ الفقيه الصالح عبد الله ابن الشيخ الولي الشهير ذي المقام ألفالي، ألفاكن في ذي السفال، وسألته: من أين جاءهم هذا الاعتقاد؟ فقال لي: غرهم صاحب البيان. - هكذا يقول - والله تعالى على ما أقول وكيل. وأفهمني أن اعتقاده اعتقاد الإمام الغزالي، ولم يزل فقهاء الجبال كلهم قديماً، وبعضهم حديثاً - يقدحون في الإمام حجة الاسلام، وعقيدته السنية المخالفة لعقيدة الحشوية، وما ينكر فضل الغزالي ويسيء الظن به إلا كل مخذول محروم تعيس مشؤوم. فقد قال الشيخ الكبير ذو المناقب الكثيرة والفضائل الشهيرة: ألفارف بالله ذو النور القدسي أبو العباس - المعروف بالمرسي - لما ذكر الغزالي، إنا لنشهد له بالصديقية العظمى. وقال شيخه - شيخ الشيوخ في أوانه وقطبهم في زمانه - الشيخ أبو الحسن ألفاذلي قدس الله روحه: من كانت له إلى الله تعالى حاجة فليتوسل إليه بالإمام أبي حامد الغزالي. كل هذا رواه الشيخ الإمام تاج الدين عطاء الله في كتابه: لمائف المنن. وكذلك الفقيه الإمام ألفارف بالله تعالى رفع المقام الذي كثرت كراماته وعظمت، وقال للشمس يوماً: قفي، فوقفت، إلى أن وصل إلى موضعه الذي يريد من مكان بعيد: أبو الفدا اسماعيل بن محمد الحضرمي لما جاءته، فتوى من فقهاء الجبال يقولون فيها - لمبالغتهم في الطعن فيه -: هل يجوز قراءة كتب الغزالي؟ أجاب بجواب أوله: إنا لله وإنا إليه راجعون، وآخره: ومحمد بن محمد بن محمد الغزالي سيد المصنفين. وفقهاء جبال اليمن مخالفون لفقهاء تهامتها، كما ذكر ابن سمرة أنه وقع في زمان(3/249)
صاحب البيان تكفير من بعض فقهاء الجبال لفقهاء زبيد، هذا كله لانطوأنهم على الجمود، وعدولهم عن طريق الحق المحمود. رجعنا إلى ذكر الغزالي، وكذلك الشيخ الكبير الولي الشهير أبي العباس المعروف بالصياد اليمني في كتاب سيرته إلىضية الشهيرة المروية ما هو معروف من كونه رأى في حال ورد عليه أبواب السماء، وقد فتحت، ونزل منهما عصبة معهم خلع خضر ومركوب، فجاؤوا إلى مقبرة، فانشق قبر منها، وخرج منه إنسان، فألبسوه تلك الخلع، وأركبوه على ذلك المركوب، وعرجوا به من سماء إلى سماء، ولم يزالوا كذلك إلى أن حرقوا السماوات السبع وسبعين حجاباً بعدها، قا: فسألت بعضهم: من هذا؟ قال: الغزالي. قال: ولا أدري أين بلغ انتهاؤه هذا في حال كشف ومشاهدة وحال من الأحوال الواردة. وأما المنامات المباركة إلىضية ألفالة على صحة عقيدة الأشعرية، من رؤية إلىسول عليه السلام وغيره، فها أنا أعقد لها وحدها فصلاً. فصل في ذكر بعض المنامات المباركة إلىضية ألفالة على صحة عقيدة الأشعرية من رؤية إلىسول عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام، وشيء من رؤية الأولياء والملائكة الكرام. من ذلك ما روى الإمام الحافظ ابن عساكر بسنده إلى الإمام الشيخ أبي الحسن الأشعري أنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العشر الأواخر من شهر رمضان، فقال لي: يا علي، أنصر المذاهب المروية عني، فإنها الحق. - وكان ذلك سبب انتصابه للرد على المبتدعين -.
قلت ومن ذلك ما روينا بالإسناد الصحيح المتصل ألفالي المسلسل إلى سيد الخلق إلىسول الكريم المبخل صلى الله عليه وآله وسلم أنه باهى بالإمام الغزالي موسى وعيسى ابن مريم - صلوات الله تعالى على الجميع - وقال: أفي أفتيكما حبر كهذا؟ قالا: لا. وأخبرني به الشيخ الفقيه الإمام الولي الكبير إلىفيع المقام شهاب الدين المعروف بابن الميلق عن شيخه السيد الكبير الفقيه ألفارف بالله الشهير تاج الدين بن عطاء الله ألفاذلي، عن شيخه أستاذ الأكابر معدن الأنوار ملقح السرائر أبي العباس المرسي ألفاذلي، عن شيخه القطب أبي الحسن ألفاذلي المذكور شيخ الشيوخ ألفاذلية المشهور، أنه قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في المنام باهى بالغزالي وذكر ما تقدم.(3/250)
ومن ذلك ما تقدم في ترجمة الإمام أبي حامد الغزالي في سنة خمس وخمسمائة من رواية الإمام الحافظ ألفاهر شيخ المحدثين أبي القاسم ابن عساكر في كتابه المشتمل على مناقب أبي الحسن الأشعري قال: سمعت الإمام الفقيه ابا القاسم سعد بن علي بن أبي القاسم ابن أبي هريرة الاسفيائيني الصوفي الأشعري بدمشق قال: سمعت الشيخ الأوحد زين القراء جمال الحرم أبا الفتح عامر بن النحام بن أبي عامر ألفاوي بمكة أنه رأى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وذكر قصة طويلة مشتملة على مرتبة جليلة للإمام أبي حامد المذكور، ذكرتها أيضاً في كتاب نشر المحاسن ألفالية، وفي كتاب: ألفاش المعلم، ومختصرها أنه رأى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بين اليقظة والمنام، فإذا بالأئمة أصحاب المذاهب جاؤوا يعرضون مذاهبهم عليه، فذكر أن أول من جاءه الشافعي، فبش به وأكرمه، ثم جلس بين يديه، ثم كذلك ذكر في الإمام أبي حنيفة - رضي الله عنه - وعرضا عليه مذهبهما، ثم كذلك كل ذي مذهب. قال: ثم جاء بعض المبتدعين ممن يبغض الصحابة بكتاب معه في كراريس ليعرضه، فطرد من بعيد، ولم يترك أن يصل إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وزجر، ورمي بالكراريس من يده، وأهين. قال إلىاوي: فلما رأيت أن القوم قد فيغوا - تقدمت وكان في يدي كتاب - فناديت وقلت: يا رسول الله؛ هذا معتقدي ومعتقد أهل السنة، لو أذنت لي حتى أقرأه عليك؛ فقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: وإيش ذلك؟ قلت: يا رسول الله! هو قواعد العقائد الذي صنفه الغزالي.
فقعدت وابتدأت: بسم الله إلىحمن الرحيم، كتاب قواعد العقائد، وفيه أربعة فصول: الفصل الاول في كلمتي الشهادة. وذكر أنه قرأ العقيدة إلى أن انتهى إلى قول الإمام أبي حامد: معنى الكلمة الثانية وهي شهادة للرسول وأنه بعث إلىسول النبي الأمي القرشي إلى كافة العرب والعجم والجن والإنس. فلما بلغت إلى هذا رأيت البشاشة والتبسم في وجهه صلى الله عليه وآله وسلم حتى انتهيت إلى نعته وصفته التفت إلي وقال: أين الغزالي؟ فإذا بالغزالي فقال: ها أنا ذا يا رسول الله؛ فتقدم وسلم على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فيد عليه الجواب، وناوله يده العزيزة، والغزالي يقبل يده ويضع خديه عليها تبركاً به وبيده العزيزة المباركة، ثم قعد فقال: فما رأيت - رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - أكثر استبشاراً بقراءة أحد مثلما كان بقراءتي عليه قواعد العقائد. ثم انتبهت من النوم - وعلى عيني أثر الدموع مما رأيت انتهى مختصراً. ومن ذلك ما رأيته بالإسناد المتقدم عن الشيخ أبي الحسن ألفاذلي، وذكرته في غير كتاب من كتبي، ومختصره أن الامام أبا الحسن بن حرزم المعروف في لمان الشامة بابن حرازم المغربي كان ينكر على الغزالي، ويطعن فيه، فيأى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في المنام، وإذا بالغزالي قد اشكى به إليه، فأمر صلى الله عليه وآله وسلم بجلده. قال(3/251)
الشيخ أبو الحسن ألفاذلي: ولقد مات يوم مات، وأثر السياط على جلده. قلت: وأخبرني بعض ذرية الشيخ ابن حرزم المذكور - وهو محرم جاث على ركبتيه باك بعينيه في الحرم الشريف - بزيادة على ما ذكرت مما هو مسطور في سيرد جده أنه كان جده المذكور مطاعاً في بلاد المغرب. وقال غيره: كان رئيس الفقهاء، فنظر في الإحيا، فقال: هو خلاف السنة. ثم التمس السلطان أن يأمر منادياً ينادي في البلاد بإحضار نسخ الإحياء، قال: فلما حضرت اجتمع هو والفقهاء، ونظروا فيها، وكان ذلك في يوم الخميس، فاجتمع رأيهم على أن يحرقوها يوم الجمعة بعد الصلاة. فلما كانت ليلة الجمعة رأى النبيً - صلى الله عليه وآله وسلم - في بعض الجوامع، ومعه أبو بكر وعمر والنور هنالك ساطع وهم جلوس فإذا بالإمام الغزالي قائم، فلما رآني قال: يا رسول الله؛ هذا خصمي. ثم جثا على ركبتيه، وزحف عليهما من مكانه إلى أن وصل إلى الموضع الذي فيه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وناوله نسخة من كتاب الإحياء، وقال: يا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - هذا يزعم أني أقول عنك خلاف سنتك، فانظر فيه، فإن كان كما يزعم استغفرت الله تعالى وتبت، وإن كان شيئاً تستحسنه حصل لي من بركتك فخذ لي حقي من خصمي. قال: فنظر فيه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من أوله إلى آخره، ثم قال: إن هذا حسن، ثم ناوله الصديق رضي الله تعالى عنه فنظر فيه ثم قال: نعم، والذي بعثك بالحق إنه لحسن، ثم ناوله عمر - رضي الله تعالى عنه - فنظر فيه، ثم قال كذلك. قال إلىاوي أبو الحسن المذكور: فعند ذلك أمر بتجريدي، فضربت خمسة أسواط، ثم شفع في الصديق وقال: يا رسول الله، إنما فعل هذا اجتهاداً في سنتك وتعظيماً لها. قال: فعند ذلك عفا عني أبو حامد، وبقيت متوجعاً لذلك خمساً وعشرين ليلة، ثم رأيت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - جاء، ومسح علي وتوبني فشفيت، ونظرت في الإحياء، ففهمته غير الفهم الأول. انتهى. قلت ومعلوم أن كتاب الإحياء مشتمل على عقيدة الأشعرية وعلى مذهب الصوفية، وقد استحسن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ذلك، وصاحباه، فلزم أن تكون العقيدة حسنة حميدة، وطريقة الصوفية رضية سديدة.
ومن ذلك ما أخبرني بعض الأخبار من أهل اليمن أنه شوهد الشيخ الإمام المحدث في(3/252)
زبيد أحمد بن أبي الخير جألفا بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يعرفه إلىائي، فقال: يا رسول الله، من هذا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: هذا الذي لم ينزل على سنتي: أحمد بن أبي الخير. قلت: وعقيدته عقيدة الأشعرية، والدليل على ذلك أنه سالني بعض الفقهاء من أهل عدن، هو الفقيه عمر بن يحيى المعروف بابن الجراف بالجيم وإلىاء المشددة عن عقيدة أشير عليه بها ليعتمد عليها، فقلت له: عليك بعقيدة الإمام عز الدين بن عبد السلام - وإنما أشرت بها لأنها لإمام فحل في مبارزة الخصوم، مشهور بالمحاسن وتحقيق العلوم - فقال لي: قد أشارعلي بها الإمام أحمد بن أبي الخير، فأعجبني ذلك، وسررت به لكونه من أئمة المحدثين، وبعضهم يعتقد الظواهر.
قلت ومن ذلك منامات أخر مما يتعلق بي - مشتملة على كلام طويل أحكيها بلفظها أو معناها - والله على ما أقول وكيل. الله يجعل ذلك نصحاً لا تبجحاً، وإرشاداً لا تمدحاً، ويرزقنا السلامة من الزيغ والفتن ألفاطنة والظاهرة والعفو وألفافية في الدين والدنيا والآخرة. ومن ذلك ما أخبرني بعض مشايخ الصوفية اليمانيين المباركين الصالحين بمكة في بعض حجاته نفع الله تعالى ببركاته قال: لما دخلت تعز اجتمعت بجماعة من أهلها أو قال من فقهأنها فجرى ذكرك بقول لي فقالوا: ذاك أشعري يعني أنهم أخرجوا ذلك مخرج القدح في المذهب المذكور فقال: فبت وفي نفسي شيء من ذلك، فرأيت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في المنام فقلت: يا رسول الله ما تقول في فلان؟ فأجابه صلى الله عليه وآله وسلم بجواب يسر، أستقبح أن أذكره لكونه يتعلق بالمدح لي والوعد بما لست من أهله، وإن كان فضل الله تعالى أوسع من ذلك، أسأله من كرمه تعالى حصول نيله. ومن ذلك أنه جاءني في كتاب من اليمن من بعض الصالحين في عدن - قبل تاريخ هذا الكتاب بنحو سنتين - مشتمل على معارف وحكم ومواعظ وعبر، فيه كفاية لمن اتغظ واعتبر، وهو مختوم بكلام مضمونه أنه رأى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في جامع أو قال: في مسجد، وهو معه، وفي ذلك المسجد حلمات كثيرة، فأخذ - صلى الله عليه وآله وسلم - بيده ومشى به إلى حلقة، ذكر في كتابه أني أنا المتحدث فيها، ثم قال له - صلى الله عليه وآله وسلم -: عليك بحلقة الفقيه فلان، وأشار إلي. قلت: ووجه الاستدلال بهذا على صحة العقيدة أن من أمر ألفارع بمجالسته فقد أرشد إلى الاقتداء به، ومن جملة ما يقتدى به من الخصائل الحميدة: صحة العقيدة.(3/253)
ومن ذلك أنه كما سماني صلى الله عليه وآله وسلم في هذا المنام فقيهاً، فقد سماني في منام بعض الأولياء العارفين المنورين المكاشفين شيخاً واماماً. ومعلوم أن كل واحد من اللفظين متضمن لجواز الاتباع والاقتداء والإرشاد والاهتداء، ومن جملة الاقتداء الاتباع في الأقوال والأفعال والعقائد، وسائر الأحوال. وهذا المنام المذكور فيه كلام يطول، وسر ما فيه من المحصول ذكرته في باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من كتابي: الموسوم بالإرشاد، ومختصره أنه رآني على سرير في قصر في بستان، وعندي الشيخ الكبير ألفارف بالله سهل بن عبد الله، وأني أتيت بأربع خلع خضر، لبست واحدة، وخلعت ثلاثاً على ثلاثة من أصحابي، وأن إلىسول - صلى الله عليه وآله وسلم - جاء إلى ذلك البستان وسأل عني وقال: أين الشيخ فلان؟ ما جئنا إلا لزيارته، وأنه مسح بيده الكريمة على رأسي، ودعا لي، وأوصاني فقال له أصحابي: أوصنا، فقال: أوصيكم بما أوصيت به إمامكم ولم أكن إماماً لهم في الصلاة فعم بالإمامة، وفيهم الفقيه والصوفي. ثم أتى - صلى الله عليه وآله وسلم - بطبق، فيه فواكه، فأخذ منه حبة رمان، وأطعم كل من هو حاضر في ذلك البستان، ومن جملة إطعامه الفواكه لي ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه ناولني بكفيه الكريمتين مرتين من بعض الثمار، وما رأى بعض الصالحين أنه رآني آكل رطباً بين يديه صلى الله عليه وآله وسلم ثم ذكر وصف ذلك إلىطب والظرف الذي هو فيه، وحسنهما. ومن ذلك ما رأى بعض الصالحين من العالمين: وهو الفقيه الإمام المشهور بالصلاح عند الفقهاء والعوام أحمد الجبرتي - المدفون في عدن في شهر رمضان - في المنام، ومعناه إن لم يكن لفظه بعينه أنه رأى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مهتماً بأمر، فسأله عن اهتمامه، فقال عليه السلام: أريد أن أرى أربعة رجال في أربعة بلمان، وذكر من البلمان مكة والمدينة، وذكر للمدينة الشيخ عبد الوهاب الجبرتي وذلك في حياته رحمه الله تعالى أيام إقامته بالمدينة، وذكر لمكة ما هو مفهوم مما نحن بصدده وأستغفر الله العظيم من ذكره - ومعلوم أنه لا يولي إلا من يجوز الاقتداء به. ومن ذلك ما رأيت في المنام في بعض الأوقات المباركات في أوان التجرد والأنس في الخلوات وقد كان جماعة من أهل الخير والمشتغلين بالله تعالى لازموني في الإقامة معهم في بعض البلاد وقالوا: هو أصلح لك من الانفراد فمال ألفاطر إلى الانعزال، فذهبت عنهم سائحاً، فرأيت في المنام بعد أن قرأت سورة ألفائدة كأنه قد قرب طعام، وخصصت بشيء منه وحدي، وإلى جنبي جماعة جمعوا على طعام، فذهب أحدهم يمدح العزلة ويذم الاختلاط
فقلت له: قد ذكروا أن الخلطة أفضل لمن يسلم فيها. قال: ومن ذا الذي يسلم اليوم في الخلطة؟! ثم سمعت كأن أناساً يتجادلون في مسألة الجهة، وواحد منهم يقول: إن لم يكن جهة فليس للوجود صانع - تعالى الله عن قوله هذا - فلما كان بعد ساعة سمعت إنساناً يصرخ، وهو يعاقب ويضرب، فسألت بعض من حضر هنالك عن ذلك فقال: هو ألفائل القول المذكور في الجهة. ثم أبصرت جنداً كأنهم عسكر سلمان قد أقبلوا على خيل وحدها، ومعها هجا، وهم يلزمون الناس ويمنعونهم في اعتقادهم، ولهم هيبة عظيمة في القلوب، فخشيت أن يمسكوني، فمروا بجنبي مسرعين وقالوا: اثبت على اعتقادك، فأنت على الحق. فذهب عني ما كنت أجده من الخوف، ثم نظرت كأن بقربي بئرين وخضرة كالمزارع أو البساتين، وإذا إنسان يقول وهو يشير إلى إحدى البئرين: هذي بئر فلان، حسبت أنها أوسع وأنها أغزر ماء من الآخرى، وأشار إلي أنه أخطاء في اعتقاده. ثم انتبهت من منامي، وأفكرت فيه، ففهمت جميع إشاراته من فضيلة العزلة والتخصيص بألفائدة بعد قراءة سورة ألفائدة ومعاقبة المعتقد للجهة، وعسكر السلطان الممتحنين في العقائد والأديان، والإشارة بالثبات على الصحيح من العقيدات إلا البئرين، ونسبة أحدهما إلى الشخص المذكور، ثم بعد ساعة ذكرت أنه مخالف في اعتقاده للجمهور، وهو ابن تيمية ومذهبه في ذلك مشهور. ومن ذلك ما أخبرني السيد الكبير الشيخ الولي الشهير الشريف جلال الدين شيخ بلاد ملمان - أمتع الله بحياته، وأعاد علينا من بركاته - أنه أمر في المنام أن يقرأ على عقيدتي ويعتقدها، وغير ذلك مما يكثر ذكره مما يتعلق بالنبي عليه أفضل الصلاة والسلام، وبالأولياء والملائكة الكرام مما رأه لي الأولياء أهل الكرامات والهناء، وما رأيته أنا، والحمد لله الجميل الثناء على ما منح من النعم، وأزال من العناء، وجزى الله نبينا وسيدنا محمداً - صلى الله عليه وآله وسلم - أفضل الجزاء، وجمع بيننا وبينه وبين سائر الأحباب والمحبين في دار الكرامة والنعيم بمحض فضل الله الكريم. آمين اللهم آمين وصلاته وسلامه ورحمته وبركاته على عباده الذين اصطفى وخص من بينهم محمد المصطفى. وقد لوحت إلى شيء مما ذكرت ببعض الإشارات في ضمن هذه الأبيات، من بعض القصيدات وهي القصيدة الموسومة بنزهة الألفاب وطرفة الآداب، واستعارات المعاني الغراب، الممزوجة بحلاوة الشهد والحلاب في بيان حكم الإعراب. حيث أقول منها: فقلت له: قد ذكروا أن الخلطة أفضل لمن يسلم فيها. قال: ومن ذا الذي يسلم اليوم في الخلطة؟! ثم سمعت كأن أناساً يتجادلون في مسألة الجهة، وواحد منهم يقول: إن(3/254)
لم يكن جهة فليس للوجود صانع - تعالى الله عن قوله هذا - فلما كان بعد ساعة سمعت إنساناً يصرخ، وهو يعاقب ويضرب، فسألت بعض من حضر هنالك عن ذلك فقال: هو ألفائل القول المذكور في الجهة. ثم أبصرت جنداً كأنهم عسكر سلمان قد أقبلوا على خيل وحدها، ومعها هجا، وهم يلزمون الناس ويمنعونهم في اعتقادهم، ولهم هيبة عظيمة في القلوب، فخشيت أن يمسكوني، فمروا بجنبي مسرعين وقالوا: اثبت على اعتقادك، فأنت على الحق. فذهب عني ما كنت أجده من الخوف، ثم نظرت كأن بقربي بئرين وخضرة كالمزارع أو البساتين، وإذا إنسان يقول وهو يشير إلى إحدى البئرين: هذي بئر فلان، حسبت أنها أوسع وأنها أغزر ماء من الآخرى، وأشار إلي أنه أخطاء في اعتقاده. ثم انتبهت من منامي، وأفكرت فيه، ففهمت جميع إشاراته من فضيلة العزلة والتخصيص بألفائدة بعد قراءة سورة ألفائدة ومعاقبة المعتقد للجهة، وعسكر السلطان الممتحنين في العقائد والأديان، والإشارة بالثبات على الصحيح من العقيدات إلا البئرين، ونسبة أحدهما إلى الشخص المذكور، ثم بعد ساعة ذكرت أنه مخالف في اعتقاده للجمهور، وهو ابن تيمية ومذهبه في ذلك مشهور. ومن ذلك ما أخبرني السيد الكبير الشيخ الولي الشهير الشريف جلال الدين شيخ بلاد ملمان - أمتع الله بحياته، وأعاد علينا من بركاته - أنه أمر في المنام أن يقرأ على عقيدتي ويعتقدها، وغير ذلك مما يكثر ذكره مما يتعلق بالنبي عليه أفضل الصلاة والسلام، وبالأولياء والملائكة الكرام مما رأه لي الأولياء أهل الكرامات والهناء، وما رأيته أنا، والحمد لله الجميل الثناء على ما منح من النعم، وأزال من العناء، وجزى الله نبينا وسيدنا محمداً - صلى الله عليه وآله وسلم - أفضل الجزاء، وجمع بيننا وبينه وبين سائر الأحباب والمحبين في دار الكرامة والنعيم بمحض فضل الله الكريم. آمين اللهم آمين وصلاته وسلامه ورحمته وبركاته على عباده الذين اصطفى وخص من بينهم محمد المصطفى. وقد لوحت إلى شيء مما ذكرت ببعض الإشارات في ضمن هذه الأبيات، من بعض القصيدات وهي القصيدة الموسومة بنزهة الألفاب وطرفة الآداب، واستعارات المعاني الغراب، الممزوجة بحلاوة الشهد والحلاب في بيان حكم الإعراب. حيث أقول منها:
ففي العلم مصباح وفي الجهل ظلمة ... تكون خلاف الاهتدا وضلائل
ولكن نور العلم بالله فائق ... على كل نور للعلوم وفاضل
ويتلوه علم الفقه، إذ عم نفعه ... به الخلق، والخلاق كل يعامل(3/255)
فذاك هو المقصود لكنه إلى ... وسائل محتاج بها يتكامل
وللعلم فضل ليس يجهل قدره ... سوى جاهل ما فوق ذلك جاهل
فكم خبر قد صح عن سيد الورى ... بتفضيله القرآن في ذاك نازل
وهذا زمان فيه عزت سلامة ... وشيخ لإرشاد المريدين كامل
وشيخ تفيد ألفالبين علومه ... مع الفضل بالعلم المشرف عامل
وقد عز جدا ذلكم في كليهما ... وإن قلت معدوماً فما القول باطل
وممن له بالشيخ سمى نبينا ال ... إمام أبو إسحاق في شيراز نازل
بهذا روى السمعاني البحر في كتابه ... الذيل في تاريخ بغداد ناقل
وكان أبو إسحاق في ذا افتخاره ... دعاني النبي شيخاً لذلك قائل
وقد جوزوا أشباه هذا للاقتدا ... ومن ذاك قرآن بيوسف نازل
وإني لذو محل عن الخير إنما ... أرجى بمحض الفضل يخصب ما حل
عسى الله ربي أن يحقق لي الذي ... أشار به غر شيوخ أفاضل
بإبراز حكمات وما فيه غبطة ... لأهل زماني فاكهات فواضل
وما في المنام المصطفى لي مسمياً ... إماماً وشيخاً ما دعا لي قائل
كذاك فقيهاً قد دعاني مبادراً ... إلى حلقتي والعلم فيه محافل
رأى كل ذالي سيد بعد سيد ... من الأولياء والحمد الله كامل
فإن شئت صدق واقبل النصح أو تشافكذب ونصحي لا قبولاً تقابل
وهاك ثماراً في قصيد تنوعت ... فكل ما تشا مما له الطبع قابل
وما لم يناسب دع لمن فيه راغب ... فما لم له تكل فغيرك يأكل
فإن طباع الخلق شثى فجامد ... ولين طبع للمحبة مائل
بذكر استعارات المعاني شجونه ... وذكر الهوى كل به الذوق حاصل
فكم من رقيق الغزل لم يلق ناسجاً ... وعذب زلال لم يرد ذاك ناهل
يقر بأسماع جلاف تمجه ... وتمرر إن ذاقت قلوب علائل
وهل فاق للمال السقيم حلاوة ... ويحفظ للماء اللطيف المناخل
فإن قيل في ذي الحشو قل ذاك سكر ... ولوز، وفي هذين لذة مأكل
إذا ما سماط مد من عربية ... به الادم صرفاً والطباع موالل
وإن، كان معها زيرباج وغيره ... فمن كل لون يستطيب التناول
قلت: وفي قولي من عريبة إلى آخره إشارة إلى ما أدخلت في العربية من علوم واستعارات، وحب ووعظ واعتقاد، ومدح إلىسول عليه افضل الصلاة والسلام، ومدح الأولياء الكرام والحضرة والمدام، واستعرت عربية السماط المذكور، وهي ما يعتاده العرب(3/256)
من المرقة الصرف في طبخ اللحم لصرف عربية النحو غير مخلوط به غيره، أعني نوعته بهذه الأنواع لئلا تمله بعض الطباع، علما مني بأن إخواننا المتصوفين يملون من الوقوف على مجرد ظاهر العلم، ولهذا قلت:
وها هي بألوان من الحلي تختلي ... بكل من الألوان في الحلو مائل
فإن صادفت بعض المعاني مولما ... أخا شجن في عندها ثماثل
خصوصاً إذا ما كان من مشرب الهوى ... له ذوق طبع أو مواجيد حاصل
وإبراز حكمات وما فيه غبطة ... لأهل زماني فاكهات فواضل
إشارة إلى ما ذكره ثلاثة من الأولياء الجلة العارفين بالله، فقولي بإبراز حكمات إشارة إلى ما قاله لي شيخنا وسيدنا وقدوتنا ألفارف بالله علي بن عبد الله الطواشي - قدس الله روحه - حيث قال: يا ما يبرز الله تعالى من هذا الصدر من الحكم وقولي: وما فيه غبطة: إشارة إلى ما قاله الشيخ الكبير الولي الشهير خالد بن شبيب الغزاوي، حيث قال وقد جرى ذكري في مجلسه: - يغبطه أهل زمانه فيما رواه بعض الصالحين عنه. وقولي: فاكهات فواضل: إشارة إلى قول الشيخ الكبير ألفارف بالله الخبير الشيخ عبد الهادي المغربي فيما روى عنه تلميذه عبد إلىزاق، وقد سئل عني: هو فاكهة زمانه. فهذا ما أشرت إليه من التنبيه لإزالة الإغماض في بعض هذه الألفاظ، فهذه الثلاث المذكورات مما أشار به الغر الأكابر الأفاضل المذكورون. ومما أشار إليه بعضهم أيضاً أنه قال: رأيتك قد أركبت فرساً، وحملت بين يديك غاشية، وحولك خلق، أو قال: بعدك، وأجلسك النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على كرسي. وقال آخر منهم: رأيتك مزيناً بالذهب في يديك، والملائكة ترفعك في الهواء عند الكعبة، والحجر الأسود يضحك إليك، ورأيت في يدك عكازاً نصفه أخضر ونصفه أبيض، فسألتك عنه فقلت: هو من عند ربي عز وجل. وقال آخر منهم: سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من أصحب؟ فقال عليه السلام: فلاناً، وأشار إليك. وقال آخر منهم: سألت النبي عليه السلام في الصلاة أن يكفلك، فقال عليه الصلاة والسلام: قد فعلنا قبل أن تسأل. قلت: وأرجو من الله تعالى تحقيق ذلك وتحقيق ما قاله لي بعضم تجاه الكعبة لما أشار إلى شيء بشرني به، فقلت له: إن شاء الله تعالى، فقال لي: قد شاء، وما وعدني به صلى الله عليه وآله وسلم في منامي بعد أن شكوت إليه شيئاً فقال: أنا ظهرك أو سندك - مع ما تقدم من دعأنه صلى الله عليه وآله وسلم لي الدعاء المعين المذكور، وكذلك دعا لي صلى الله عليه وآله وسلم. - في أيام تعلمي - القرآن بدعاء ما فهمته بعد أن قبلت يده صلى(3/257)
الله عليه وآله وسلم، وأظنه صلى الله عليه وآله وسلم فعل ذلك بي. والحمد لله على جميع ذلك، وأسأله الزيادة والإعادة من المهالك، وأن يجزي سيدنا محمداً وآله عنا أفضل الجزاء، وأن يوزعنا شكر نعمته، ويعيدنا من المكر والشقاء.
سنة تسع وخمسين وخمس مائة
فيها كسر نور الدين الفرنج، وأحاط بهم المسلمون فاستجر القتل والأسر بهم، فأسر صاحب أنطاكية وصاحب طرابلس ومقدم نصارى إلىو، وتسلم نور الدين بعض القلاع. وفيها سار ملك القسطنطينية بجيوشه، وقصد بلاد الإسلام، فلما قاربوا مملكة أرسلان جعل التركمان يبيتونهم، ويغزون عليهم في الليل، حتى قتلوا منهم نحو عشرة آلاف، فردوا بذل وخيبة، وطمع فيهم المسلمون، وأخذوا لهم عدة حصون. وفيها سار جيش نور الدين مع مقدم عسكر أسد الدين، فدخلوا مصر، وقتل الملك المنصور الضرغام الذي كان قد قهر شاور السعدي، ثم تمكن شاور، وخاف من عسكر الشام، واستنجد بالفرنج، فأنجدوه من القدس وما يليه، ثم صالحوا أسد الدين، ورجع إلى الشام. وفيها توفي صاحب سجستان أبو الفضل نصر بن خلف، عمر مائة سنة، ملك منها ثمانين سنة، وكان عادلاً حسن السيرة، وما بلغنا أن أحداً من الملوك بلغ ملكه مثل هذا القدر. وفيها توفي وزير صاحب الموصل محمد بن علي المعروف بالجواد الأصبهاني. كان دمث الأخلاق مسن المحاضرة مقبول المفاكهة، استوزره صاحب الموصل، وفوض الأمور وتدبير الدولة إليه، وظهر حينئذ جود الوزير، وانبسطت يده، ولم يزل يعطي ويبذل الأموال(3/258)
ويبالغ في الإنفاق حتى عرف بالجواد، وصار ذلك كالعلم عليه، وأثر آثاراً جميلة، واجرى الماء إلى عرفات أيام الموسم من مكان بعيد، وعمل الدرج من أسفل الجبل إلى أعلاه، وبنى سور مدينة إلىسول صلى الله عليه وآله وسلم، وما كان قد خرب من مسجده، وكان يحمل في كل سنة إلى مكة والمدينة من الأموال والكسوات للفقراء والمنقطعين ما يقوم بهم مدة سنة. وكان له ديوان مرتب باسم أرباب إلىسوم والقصاد لا غير، وتنوع في فعل الخير حتى أنه جاء في زمنه غلاء مفرط، فواسى الناس حتى لم يبق له شيء، وكان إقطاعه عشر مغل البلاد على جاري عادة وزراء الدولة السلجوقية. وأخبر بعض وكلأنه أنه دخل يوماً فناوله بقيارة وقال له: بع هذا واصرف ثمنه إلى المحاويج، فقال له الوكيل: إنه لم يبق شيء عندك سوى هذا البقيار والذي على رأسك، وإذا بعت هذا ربما تحتاج إلى تغيير البقيار، فلا تجد ما تلبسه، فقال له: إن هذا الوقت صعب كما ترى، وربما لا أجد وقتاً أصنع فيه الخير كهذا الوقت، فخرج الوكيل، وباع البقيار وتصدق بثمنه. وله من النوادر أشياء كثيرة، وأقام على هذه ألفالة إلى أن توفي السلطان غازي وتولى أخوه قطب الدين، فاستكثر إقطاعه، وثقل عليه أمره، وقبض عليه، وحبسه إلى أن توفي مسجوناً في العشر الأخير من شهر رمضان - وقيل من شعبان في السنة المذكورة - وصلي عليه، وكان يوماً مشهوراً من ضجيج الضعفاء والأرامل والأيتام حول جنازته، ودفن بالموصل إلى بعض سنة ستين، ثم نقل إلى مكة - حرسها الله تعالى - وطيف به حول الكعبة بعد أن صعدوا به ليلة الوقفة إلى جبل عرفات، وكانو يطوفون به كل يوم مراراً مدة مقامهم بمكة، وكان يوم دخوله مكة يوماً مشهوراً من اجتماع الخلق والبكاء عليه وكان معه شخص مرتب يذكر مآثره، ويعقد محاسنه إذا وصلوا به إلى المزارات والمواضع المعظمة، فلما انتهوا به إلى الكعبة وقف وأنشد:
يا كعبة الإسلام هذا الذي ... جاءك يسعى كعبة الجود
قصدت في الشام وهذا الذي ... لم يخل يوماً غير مقصود
ثم حمل إلى مدينة إلىسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ودفن بها بالبقيع بعد أن(3/259)
أدخل المدينة وطيف به حول حجرة إلىسول - صلى الله عليه وآله وسلم -. وكان ولده الملقب جلال الدولة من الأدباء الفضلاء البلماء الكرماء، وله ديوان رسائل أجاد فيه، وجمعه أبو السعادات بن الأثير وسماه: كتاب الجواهر واللآلىء من إملاء المولى الوزير الجلالي.
سنة ستين وخمس مائة
فيها وقعت فتنةهائلة بأصبهان تعصباً للمذاهب، وبقي الشر والقتل والقتال ثمانية أيام حتى قتل خلق كثير، وأحرقت أماكن كثيرة. وفيها توفي أبو المعمر حذيفة بن سعد الأزجي. وفيها توفي فقيه أهل الجزيرة أبو القاسم عمر بن محمد الشافعي الجزري، إمام جزيرة ابن عمر ومفتيها. تفقه على الإمام الغزالي وغيره، وسمع عليه وعلى أخيه، وصحب ألفاشي صاحب كتاب المستظهري، واشتغل أولاً على الشيخ أبي الغنائم السلمي ألفارقي وعلى الكبار، وصار أحفظ أهل زمانه للمذهب، وله مصنف كبيرعلى أشكالات المهذب وغريب ألفاظه وأسماء رجاله، وكان من العلم والدين في محل رفيع، وانتفع به خلق كثير. وفيها توفي القاضي أبو يعلى الصغير محمد بن محمد ابن القاضي الكبير، أبو يعلى ابن الفراء البغدادي الحنبلي. وكان موصوفاً بالذكاء والفصاحة، ولي قضاء واسط، ثم عزل منها. وفيها توفي أبو طالب العلوي محمد بن محمد بن محمد الشريف الحسني البصري نقيب ألفالبين. روى عن أبي علي التستري وجعفر العبادي وجماعة، واستقدمه ابن هبيرة لسماع السنن، فروى الكتاب بالإجازة سوى الجزء الأول، فإنه بالسماع من التستري. وفيها توفي أبو الحسن ابن التلميذ أمين الدولة هبة الله بن صاعد النصراني البغدادي شيخ قومه وقسيسيهم.(3/260)
وفيها توفي شيخ الطب جالينوس عصره صاحب التصانيف ووزير المقتفي أبو المظفر الملقب عون الدين يحيى بن محمد بن هبيرة. دخل بغداد شاباً، فطلب العلم وتفقه، وسمع الحديث وقرأ القراءات، وشارك في الفنون، وصار من فضلاء زمانه. ثم دخل في الكتاب، وولي مصارف الخزانة، ثم ترقى وولي ديوان ألفاص، ثم استوزره المقتفي، فبقي وزيراً إلى أن مات، وكان شامة بين الوزراء لعدله ودينه وتواضعه ومعروفه وفضائله. روى عن جماعة، ولما ولاه المقتفي امتنع من لبس خلعة الحرير، وحلف أنه لا يلبسها. وكان مجلسه معموراً بالعلماء والفقهاء والبحث وسماع الحديث. وشرح: الجمع بين الصحيحين، وألف كتاب العبادات في مذهب الإمام أحمد. ومات شهيداً مسموماً، وسمع منه خلق كثير منهم الحافظ أبو الفرج بن الجوزي واختصر كتاب إصلاح المنطق، وله أرجوزة في المقصور والممدود، وأرجوزة في علم الخط، وغير ذلك. ومدحه الشعراء منهم: أبو الفتح محمد بن عبد الله سبط ابن التعاويذي، قال:
سقاها الحياء أربع وطلول ... حكت دنفي من بعدهم ونحولي
ضمنت لها أجفان عين قريحة ... من الدمع مدرار الشوؤن همول
لئن حال رسم ألفارعما عهدته ... فعهد الهوى في القلب غير محيل
خليلي قد هاج الغرام وشاقني ... سنا بارق بالأجر عين كليل
ووكل طرفي بالسهاد بنظرتي ... قضاء مليء بالديون ملول
إذا قلت قد أنحلت جسمي صبابة ... يقول: وهل حب بغير نحول
وإن قلت دمعي بالأسى فيك شاهدي ... يقول شهود الدمع غير عدول
فلا تعذلاني إن بكيت صبابة ... على ناقض عهد الوفاء ملول
فابرح ما تمنى به الصب في الهوى ... ملال حبيب أو ملام عذول
ودون الكئيب الفرد بيض عقائل ... لعين بألفاب لنا وعقول
غداة التقت ألفاظها وقلوبنا ... فلم يجل إلا عن دم وقتيل
ألا حبذا والي الأراك وقد وشت ... برياك ريحا شمأل وقبول
وفي أبرديه كلما اعتلت الصباشفاء فؤاد بالغرامعليل
دعوت سلواً فيك غير مساعد ... وحاولت صبراً عنك غير جميل
تعرفت أسباب الهوى وحملته ... على كاهل للنائبات حمول
فلم أحظ من حب الغواني بطائل ... سوى رعي ليل بالغرام طويل
إلى كم تمنيني اللمالي بما جد ... رزين وقار الحلم غير عجول
أهز اختيالاً في هواه معاطفي ... وأسحب تيهاً في ثراه ذيولي
لقد طال عهدي بالنوال وإنني ... لصب إلى تقبيل كف مثيل(3/261)
وإن يدي يحيى الوزير لمافل ... بها لي، وعون الدين خير كفيل
وأهدي إلى الوزير عون الدين دواة بلور مرصعة بمرجان، وفي مجلسه جماعة فيهم حيص بيص، فقال الوزير: يحسن أن يقال في هذه الدواة شيء من الشعر، فقال بعض ألفاضرين:
ألين لماود الحديد كرامةً ... يقدره في السرد كيف يريد
ولان ذلك البلور وهو حجارة ... ومعطفه صعب المرام شديد
فقال حيص بيص له: إنما وصفت صانع الدواة، ولم تصفهما؟! فقال الوزير: من غيره؟ فقال حيص بيص:
صيغت دواتك من يوميك فاشتبها ... على الأنام ببلور ومرجان
فيوم سلمك مبيض يفيض ندى ... ويوم حربك قان بالدم ألفاني
وقد تقدمت حكاية عنه في السبب الذي نال به الوزارة في ترجمة السيد الجليل الولي الحفيل ذي الوصف الجميل والمجد الأثيل معروف - عرفنا الله تعالى بركته - في سنة مائتين.
سنة إحدى وستين وخمس مائة
فيها كثر ببغداد إلىوافض والسب، وعظم الخطب. وفيها توفي مسند أصبهان الإمام أبو عبد الله الحسن بن العباس الأصبهاني إلىستمي الفقيه الشافعي، سمع أبا عمرو بن منده وطائفة، وتفرد ورحل إليه، وكان زاهداً ورعاً خاشعاً فقيهاً مفتياً محققاً، تفقه بجماعة. وفيها توفي الحافظ أبو محمد عبد الله بن محمد المغربي الصنهاجي. روى عن أبي الحسن الجذامي والقاضي عياض، وكان عألفا بالحديث وطرقه وبالنحو واللغة والنسب، كثير الفضائل وقبره بظاهر بعلبك. وفيها توفي قطب الأولياء الكرام، شيخ المسلمين والإسلام، ركن الشريعة، وعلم الطريقة، وموضح أسرار الحقيقة، حامل راية علما للمعارف والمفاخر، شيخ الشيوخ وقدوة الأولياء العارفين الأكابر، أستاذ أرباب الوجود أبو محمد محيي الدين عبد ألفادر بن أبي صالح الجيلي، قدس الله روحه ونور ضريحه، لما تحلى - رضي الله عنه - بحلل العلوم الشرعية ونال لمائفها، وتجمل بتيجان الفنون الدينية، وحاز شرائفها، وهجر في مهاجرته إلى الحق كل الخلائق، وتزود في سفره إلى ربه عز وجل أحسن الآداب وأشرف الحقائق، وعقدت له ألوية الولاية فوق العلى ذوائبها، ورفعت له منازل جلي له، في سماء القرب(3/262)
كواكبها، ونظر قلبه إلى رقوم الفتح في ذيول الكشف عن الأسرار، وشخص سره إلى شموس المعارف من مطالع الأنوار. وأشهدت بصيرته عرائس الحقائق في مقاصير الغيوب، وأسكنت سريرته حضرة القدس في خلوة وصل المحب بالمحبوب، ورفعت أسراره إلى مشاهد المجد والكمال، ودام إحضاره في معالم العز والجلال، هنالك نكشف له علم السر المصون، واتضح له حقيقة الحق المكنون، واطلع على معاني خفايا مكامن المكنونات، وشاهد مجاري القدر في تصاريف المشيئات، واخترع الحكم من معادنها، وأظهر التحف من مكامنها، فآتاه الله الأمر النقي من تدنيس التلبيس بالجلوس للوعظ والتصدر للتدريس. وكان أول جلوسه للوعظ في الحلبة النورانية في شوال سنة إحدى وعشرين وخمس مائة، فجلس مجلما لله درة من مجلس، تجلله الهيبة والبهاء، وتحف به الملائكة والأولياء، فقام بنص الكتاب والسنة خطيباً على الأشهاد، ودعا الخلق إلى الله تعالى فأسرعوا إلى الانقياد، فيا له من داع أجابته أرواح المشتاقين، ومن مناد لبته قلوب العارفين، ومن حاد هيم ركائب النفوس في فلوات الشوق إلى رؤية الجمال، ومن هاد ساق نجائب القلوب إلى حمى الوصال، ومن ساق روى عطاش العقول من شراب القدس، وشوقها إلى منادمة الحبيب على بساط الأنس، وكشف براقع اللبس عن وجوه المعارف، ورفع أغطية الغين عن عين شرائف اللمائف، وهز أعطاف القلوب بوصف جمال القدم، وأرقص أشباح الأرواح بسماع نعت كمال الكرم - وناغي أطيار الأسرار في صوامع قدسها بألفان لذيذ أنسها، فطارت من أركان أطورها في حبها إلى أنوار أنوار هامع جنسها، وجلى عرائس المواعظ فدهثى لبهجة حسنها العشاق، وزف مخدرات المواهب فصبا لمعنى جمالها كل مشتاق، ونطق بنفائس الحكم من رياض أنس أينعت مروجها، وأبرز جواهر التوحيد من بحار علوم تلاطمت أمواجها، يرى من معانيها درراً وياقوتاً، ويجد من درها دواء ومن ياقوتها قوتاً، ودبج روض الحقائق بحدائق ذات بهجة فيا لها للمالكين إلى الله محجة وحجة، وبث لآلىء الفتح على بساط الإفهام، فتسابق لالتقاطها أولو الألفاب والأقلام، فتنضدت منها فوائد هدى في أعناق ذوي الهمم العلية، يصل المتحلي بها بإذن الله تعالى إلى مقامات السنية، فجال في النفوس مجال الإنفاس في الصدور، وعبق بالقلوب عبق إلىوض الممطور، وأبرأ النفوس من أسقامها، وشفى الخواطر من أوهامها، فما سمعه إلا من أوضح بالتوبة دجونه، أو من اكتحل بالبكاء جفونه، فكم رد إلى الله عاصياً، وكم ثبت الله به واهياً، وكم أصحى من خمر الهوى سكارى، وكم فك من قيود الناس أسارى، وكم اصطفى الله به أوتاداً وأبدالاً، وكم وهب الله به مقاماً وحالاً، وما زالت نجائب المواهب ترحل إليه. رحمة الله تبارك وتعالى عليه:
عبد له فوق المعالي رتبة ... وله المماجد والفخار الأفخر(3/263)
وله الحقائق والطرائق في الهدى ... وله المعارف كالكواكب تزهر
وله الفضائل والمكارم والندى ... وله المناقب في المحافل تنشر
وله التقدم والتعالي في العلى ... وله المراتب في النهاية تكبر
غوث الورى غيث الندى نور الهدى ... بدر الدجى شمس الضحى بل أنور
قطع العلوم مع العقول فأصبحت ... أطوارها من دونه تتحير
ما في علاه مقالة لمخالف ... فمسائل الإجماع فيه تسطر
قلت هذا ما ترجمه فيه بعضهم، وهو كذلك، بل فوق ذلك. وأما ترجمة الذهبي في قوله: والشيخ عبد ألفادر بن أبي صالح الزاهد: فمدحه بصفة الزهد، التي هي من أوائل منازل ألفالكين المبتدئين من المريدين، وقول: انتهى إليه التقدم في الوعظ والكلام على الخواطر؛ فغض من منصبه ألفالي، وقدح لا مدح فيما له من المفاخر والمعالي.
فمن مدح ألفادات أهل نهاية ... وسامي مقامات بأوصاف مبتدي
فقد ذمهم فيما به ظن مدحهم ... وكم معتد فيها بزعمه مهتدي
وهو ألفائل - رضي الله تعالى عنه - منطقاً بالهدى والمعارف والحكم. لا بالهوى والخرافات والخطوط التي تذمم:
ما في الصبابة منهل مستعذب ... إلا ولي فيه الألذ الأطيب
أو في الوصال مكانة مخصوصة ... إلا ومنزلتي أعز وأقرب
وهبت لي الأيام رونق صفوها ... فحلت مناهلها وطاب المشرب
وغدوت مخطوباً بالكل كريمة ... لا يهتدي فيها اللبيب ويخطب
أنا من رجال لا يخاف جليسهم ... ريب الزمان ولا يرى ما يرهب
قوم لهم في كل مجد رتبة ... علوية وبكل جيش موكب
أنا بلبل الأفراح أملىء دوحها ... طرباً، وفي العلماء باز أشهب
أضحت جيوش الحب تحت مشيئتي ... طوعاً ومهما رمته لا يعزب
أصبحت لا أملاً ولا أمنية ... أرجو، ولا موعودة أترقب
ما زلت أرتع في ميادين إلىضى ... حتى وهبت مكانة لا توهب
أضحى الزمان كحلة مرقومةتزهو ونحن لهالطراز المذهب
أفلت شموس الأولين، وشمسنا ... أبداً على فلك العلى لا تغرب
ذكروالشيخ عبد ألفادر بن أبي صالح الزاهد
نسبه ومولده وصنعته رضي الله تعالى عنه
أما نسبه رضي الله عنه فهو الشيخ محيي الدين أبو محمد عبد ألفادر بن أبي صالح(3/264)
موسى بن ابي عبد الله بن يحيى الزاهد بن محمد بن داود بن موسى بن عبد الله بن موسى الجون بن عبد الله المحض بن الحسن المثنى ابن أمير المؤمنين أبي محمد الحسن ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضوان الله تعالى عليهم - سبط أبي عبد الله الصومعي الزاهد، وبه كان يعرف حين كان بجيلان. وأما مولده رضي الله عنه: فسئل - رضي الله تعالى عنه - عن مولده فقال: لا أعلمه حقيقة، لكني قدمت بغداد في السنة التي مات فيها التميمي، وعمري إذ ذاك ثماني عشرة سنة. قال إلىاوي: والتميمي هذا هو أبو محمد رزق الله بن عبد الوهاب، توفي سنة ثمانين وأربع مائة، فيكون مولده رضي الله تعالى عنه سنة سبعين وأربعمائة، وذكر أبو الفضل أحمد ابن صالح الجيلي أن مولد الشيخ محيي الدين المذكور سنة إحدى وسبعين وأربعمائة، وأنه دخل بغداد سنة ثمان وثمانين وأربع مائة وله ثماني عشرة سنة. قلت: وذكر بعضهم أنه منسوب إلى جيل بكسر الجيم وسكون المثناة من تحت وهي بلاد متفرقة وراء طبرستان، وبها ولد، ويقال لها أيضاً جيلان وكيلان، وكيل أيضاً قرية على شاطىء دجلة على مسيرة يوم من بغداد من جهة طريق واسط، ويقال: فيها أيضاً جيل - بالجيم - ومن ثم يقال: كيل العجم، وكيل العراق والجيل أيضاً قرية تحت المدائن، وفي النسبة يقال: جيلاني وكيلاني وجيلي وكيلي. وأمه رضي الله تعالى عنه أم الخير أمة الجبار: فاطمة بنت أبي عبد الله الصومعي، وكان لها حظ وافر من الخير والصلاح. والصومعي من جملة - مشايخ جيلان ورؤساء زهادهم، وله الأحوال والكرامات الجلية، وأخوه الشيخ أبو أحمد عبد الله - سنه دون سنه - نشأ نشوءاً صألفا في العلم والخبرة، ومات بجيلان شاباً، وعمته المرأة الصالحة أم محمد عائثة بنت عبد الله ذات الكرامات الظاهرة. روي أن بلاد جيلان أجدبت مرة، واستسقى أهلها، فلم يسقوا، فأتى المشايخ إلى دار الشيخة عائشة المذكورة، وسألوها الاستسقاء لهم، فقامت إلى رحبة بيتها، وكنست الأرض وقالت: يا رب، أنا كنست، فرش أنت! قال: فلم يلبثوا أن مطرت السماء كأفواه القرب، فرجعوا إلى بيوتهم يخوضون في الماء. وأما صفة الشيخ رضي الله عنه فروي أنه كان نحيف البدن ربع الشامة، عريض الصدر عريض اللحية وطويلها، أسمر مقرون ألفاجبين، أدعج العينين، ذا صوت جهوري وسمت(3/265)
بهي، وقدر علي علم وفي - رضي الله عنه.
شيء من علمه وتسمية بعض شيوخه
قال بعض الأئمة المتكلمين في مناقبه: لما علم أن طلب العلم على كل مسلم فريضة، أنه شفاء للأنفس المريضة، إذ هو أوضح مناهج التقوى سبيلاً. وأبلغها حجة وأظهرها دليلاً، وأرفع معارج اليقين وأعلى مدارج المتقين، وأعظم مناصب الدين وأفخر مراتب المهتدين، وهو المرقاة إلى مقامات القرب والمعرفة، والوسيلة إلى المتولي بالحضرة المشرفة، شمر عن ساق الجد والاجتهاد في تحصيله، وسارع في طلب فروعه وأصوله، وقصد الأشياخ الأئمة أعلام الهدى علماء الأمة فاشتغل بالقرآن العظيم حتى أتقنه، وعمر بداريته سره وعلنه، وتفقه بالشيوخ، منهم: أبو الوفاء علي بن عقيل، وأبو الخطاب محفوظ ابن أحمد الكلوذاني، وأبو الحسين محمد ابن القاضي أبي يعلى، وأبو سعد المبارك بن علي المخزومي رضي الله تعالى عنهم - وأخذ عنهم مذهباً وخلافاً وفروعاً وأصولاً. وسمع الحديث من جماعة، منهم أبو غالب محمد بن الحسن ألفاقلاني، وأبو سعد محمد بن عبد الكريم، وأبو الغنائم محمد بن علي بن ميمون، وأبو بكر أحمد بن المظفر التمار، وأبو محمد جعفر بن أحمد ألفاري، وأبو القاسم علي بن أحمد الكرخي، وأبو عثمان اسماعيل ابن محمد الأصبهاني، وأبو طالب عبد ألفادر بن محمد، وابن عمه أبو طاهر عبد إلىحمن بن أحمد، وأبو البركات هبة الله بن المبارك، وأبو العز محمد بن المختار الهاشمي، وأبو نصر محمد، وأبو غالب أحمد، وأبو عبد الله يحيى أبناء الإمام أبي الحسن علي بن البنا، وأبو الحسين المبارك بن عبد الجبار، وأبو منصور عبد إلىحمن بن أبي غالب، وأبو البركات طلحة بن أحمد ألفاقولي وغيرهم - رحمة الله عليهم. وقرأ الأدب على أبي زكريا يحيى بن علي التبريزي، وصحب الشيخ ألفارف بالله قدوة المحققين وإمام ألفالكين وحجة العارفين أبا الخير حماد بن مسلم الدباس، وأخذ عنه علم الطريقة وتأدب به، وأخذ الخرقة الشريفة من يد القاضي أبي سعد المخرمي، ولقي الجماعة من أعيان شيوخ الزمان وأكابر المشايخ أولي العرفان. أكرم بهم مجداً وسودداً، وشرفاً وفخراً مؤبداً. فهم حماة ملة الإسلام وذوادها، وأنصار الشريعة وأعضادها، وأعلام الدين وأركانه، وسيوف الحق وسنانه. فقام - رضي الله تعالى عنه في أخذ العلوم الشرعية عنهم دائباً، وفي تلقي الفنون الدينية منهم واصباً. حتى فاق أهل زمانه. وتميز من بين أقرانه. ثم إن الله تعالى أظهره للخلق وأوقع له القبول العظيم الشام، عند ألفاص منهم والشام، والهيبة والجلالة الوافرة، والمناقب الشريفة ألفاخرة عند العلماء، وأظهر الله الحكم من قلبه على لمانه، وظهرت علامات قربه، من الله تعالى وإمارات - ولايته، وشواهد تخصيصه مع(3/266)
قدم راسخ في المجاهدة والعبادة، وتجرد خالص من دواعي الهوى وشوائب إلىكون إلى ألفادة، ومقاطعة دائمة بجميع الخلائق، وصبر جميل في طلب مولاة بقطع العلائق، وتجرع الغصص على مر الشدائد والبلوى، ورفض كلي لجميع الأشغال اشتغالاً بالمولى. ثم لما أراد الله به نفع الخلائق بعدما تضلع من العلوم الظاهرة وأسرار الحقائق، أضيف إلى مدرسة أستاذه أبي سعد المخرمي مما حولها من المنازل والأمكنة ما يزيد على مثلها، وبذل الأغنياء في عمارتها أعمالهم، وعمل الفقراء فيها بأنفسهم، فتكملت المدرسة المنسوبة إليه الآن، وكان الفراغ منها في سنة ثمان وعشرين وخمس مائة، وتصدر فيها للتدريس والوعظ والفتوى، وجلس بها للوعظ وقصد بالزيارات والنذور، واجتمع عنده بها من العلماء والفقهاء والصلحاء جماعة كثيرون، انتفعوا بكلامه وصحبته ومجالسته وخدمته، وقصد إليه طلبة العلم من الآفاق، فحملوا عنه وسمعوا منه، وانتهت إليه تربية المريدين بالعراق، وولي خزانة الأسرار وأوتي مقاليد الحقائق، وسلمت إليه أزمة المعارف، وصرف في الوجود المغارب منه والمشارق، فأصبح قطب الوقت مرجوعاً إليه حكماً وعلماً، وقام بالنظر والفتيا نقضاً وبرماً، وبرهن على العلم فرعاً وأصلاً، وبين الحكم عقلاً ونقلاً، وانتصر للحق قولاً وفعلاً. وصنف كتباً مفيدة وأملأ فوائد فريدة، فتحدث بذكره إلىفاق، وسارت بفضله إلىكبان وانتشرت أخباره في الآفاق، وأعملت المطي إليه ومدت إليه الأعناق، وتنزهت في حدائق محاسنه الأعين، ونطقت ببدائع أوصافه الألسن، ولقب بإمام الفريقين وموضح الطريقين، وكريم الجدين ومعلم الطرفين، مشتملاً برداء المفاخر والفضائل، صادقاً فيه قول ألفائل:
بمقدمه انهل السحاب وأعشب ال ... عراق وزال الغي واتضح إلىشد
فعيدانه رند، وصحراؤه حمى ... وحصاؤه در وأمواجه شهد
يميس به صدر العراق صبابة ... وفي قلب نجد من محاسنه وجد
وفي الشرق برق من مقابس نوره ... وفي الغرب من ذكرى جلالته رعد
فأضحى الزمان مشرقة به مناكبه، والدين مشرفة به مناصبه، والعلم عالية به مراتبه، والشرع منصورة به كتائبه، فانتمى إليه جمع عظيم من العلماء، وتلمذ له خلق كثير من الفقهاء، حذفت ذكرهم اختصاراً لكثرة عددهم ومشقة ذكرهم. وكذلك لبس الخرقة منه خلائق لا يحصون - من الفقراء والمشايخ الكبراء والعلماء(3/267)
الخبراء، وقد ذكرت في كتاب: خلاصة المفاخر في أخبار مناقب الشيخ عبد ألفادر وفي كتاب: نشر المحاسن ألفالية في فضل المشايخ أولي المقامات ألفالية، وغيرهما أن جمهور شيوخ اليمن يرجعون في لبس الخرقة إليه، بعضهم لبسها من يده لما قدمت أعلام فضائله عليهم، والأكثرون من رسول أرسله إليهم. وفيه وفي ألفاس الخرقة وانتساب معظم شيوخ اليمن في لبسها إليه. قلت في بعض القصيدات العشرة الأولة من هذه الأبيات:
وفي منهج الأشياخ ألفاس خرقة ... لهم سنة أصل روى ذاك عن أصل
ولبس اليمانيين يرجع غألفا ... إلى سيد سامي فخار على الكل
إمام الورى قطب الملا قائلاً على ... رقاب جميع الأولما قدمي أعلى
فطأطأ له، كل بشرق ومغرب ... رقاباً سوى فرد فعوقب بالعزل
مليك له التصريف في الكون نافذ ... بشرق وغرب الأرض والوعر والسهل
سراج الدجى شمس على فلك العلى ... بجيلان مبدؤها طلوعاً بلا أفل
طراز جمال مذهب فوق حلة ... غد الكون فيها الدهر يختال ذا رفل
يتيمة در زان عقد ولأنه ... يهيج على جيد الوجود به مجلي
لجدواك يا بحر الندى عبد قادرإلىيافعي ذو افتقار وذو محل
قفا هاهنا في رأس نهر عيونهم ... ملاها ومن بحر النبوة مستملي
وسبحانك اللهم رباً مقدساً ... وواسع فضل للورى فضله مولي
وأما كراماته رضي الله عنه، فخارجة عن الحصر، وقد ذكرت شيئاً منها في كتاب نشر المحاسن، وقد أخبرني من أدركت من أعلام الأئمة الأكابر أن كراماته تواترت، أو قريب من التواتر. ومعلوم بالاتفاق أنه لم يظهر ظهور كراماته لغيره من شيوخ الآفاق. وها أنا أقتصر في هذا الكتاب على واحدة منها، وهي ما روى الشيخ الإمام الفقيه العالم المقرىء أبو الحسن علي بن يوسف بن جرير بن معضاد الشافعي اللخمي في مناقب الشيخ عبد ألفادر بسنده من خمس طرق، وعن جماعة من الشيوخ الجلة أعلام الهدى العارفين المقنتين للاقتداء قالوا: جاءت امرأة بولدها إلى الشيخ عبد ألفادر، فقالت له: يا سيدي، إني رأيت قلب ابني هذا شديد التعلق بك، وقد خرجت عن حقي فيه لله عز وجل، ولك. فقبله الشيخ، وأمره بالمجاهدة وسلوك الطريق، فدخلت أمه عليه يوماً فوجدته نحيلاً مصفراًمن آثار الجوع والسهر، ووجدته يأكل قرصاً من الشعير، فدخلت إلى الشيخ فوجدت بين يديه إناء فيه عظام دجاجة مسلوقة قد أكلها، فقالت: يا سيدي؛ تأكل لحم دجاج ويأكل ابني خبز الشعير!! فوضع يده على تلك العظام وقال: قومي بإذن الله تعالى الذي يحيي العظام وهي(3/268)
رميم، فقامت دجاجة سوية وصاحت. فقال الشيخ: إذا صار ابنك هكذا فلماكل ما شاء. وأما كلامه رضي الله عنه فكثير جداً في انواع شتى، لا تسعه إلا مجلمات ودفاتر، وقد ذكرت شيئاً منه في كتاب: نشر المحاسن وخلاصة المفاخر. وها أنا أذكر منه ألفاظاً مختصرة في الشريعة المطهرة. قال رضي الله تعالى عنه: الإيمان طائر غيبي ينزل من أفق يختص برحمته من يشاء، فيسقط على شجرة قلب العبد، يترنم بلذيذ لحون يبشرهم ربهم، يطير من قفص صدر صاحبه إلى مقعد صدق الشريعة المحمدية - ثمرة شجرة الوجود -. الملة الإسلامية شمس أضاءت بنورها ظلمة الكون إتباع شرعه يعطي سعادة ألفارين. في قلب صاحب الشرع الأعظم ودائع بدائع الحكم. في أسرار صاحب الناموس الأكبر خزائن جواهر الغيب، اجعل قبول أمره طريقك إلى الله تعالى، صير كعبة عقلك مهبط أملاك كلمات أحكامه. من ماء غمام أقواله تشرب عطاش الأرواح. في عيون حياة ألفاظه يغتسل خطر العقول. نادى منادي الطلب للأرواح الشامنة في القوالب، آثار ساكن عزمها إلى العلى، طارت بأجنحة الغرام في فضاء المحبة، وقعت بعد التعب على أغصان الشوق، تناغت في شجرة بلابلها بمطربات ألفان الحنين إلى جمال وأشهدهم، وأزعجها هبوب نسيم الغرام إلى إعادة لذاذة ألست خرجت بعض تلك الطيور من أقفاص الصدور، ويتلمح أثراً من مطارها القديم، تنشق نسمة من مهب التكليم، تتذكر عيشها في ظل أثل الوص، تشكو جواها بعد بعاد الأحباب، فسمعت داعي الله تعالى بلمان إنسان عين الوجود، انتقش دعاؤه - صلى الله عليه وآله وسلم - في صفحات ألواح الأرواح، صارت دعوته ريحاً تهز أغصان أشجار القلوب، أضطربت فرسان العقول في ميادين الصور غراماً بما سمعت، اهتزت الألفاب بأيدي الوجد طرباً بذلك الوجد، صار عشقها له سراً من اسرار القدم، وأصبح ولههاً به، لطيفة من لمائف القدر، إذا أشرقت على النفوس الخربة أنوار الغيب حفظت الأسرار وارتفعت الحجب الظاهرة عن عيون بصائرها، لاحظت جمال صاحب الكون مشاهدته بصفاء مرايا الأسرار، كعبة كل عارف، موضع نظرات الحق منه أقرب الطرق إلى إلله تعالى، لزوم قانون العبودية والاستمساك بعروة الشريعة الإسلامية والاستقامة على جادة التقوى. أنسك بالله على قدر وحشتك عن غيره، ثقتك به على قدر معرفتك له، الكدر في الأعمال نوع من الحرمان. الانغماس في طلب الدنيا يثني العقل عن طلب الله عز وجل، الرياء في المطالب كسوف في شموس طلب ألفالب، والنفاق في المقاصد خدش في وجوه قصد ألفاصد، عدم المطلوب(3/269)
عذاب القلوب، فرقة الأحباب عذاب العقول، علائق زهرة الدنيا حجاب يمنع من الوصول إلى ملكوت العلى، إقبالك على الله تعالى بوجه عبادتك سبب إقبالك عليه بوجه إلىحمة، لو بلغ طفل عقلك الأسد في حجر ألفاديب ما التفت إلى الدنيا، لكن هو بعد في مهد، شغلتنا أموالنا وأهلونا، الأرواح القاهرة قناديل هياكل الأجساد، العقول الصافية ملوك قصور الصور. يا غلام افتح عين قلبك لتلقى عرائس أسرار الأزل، وانتشق بمشم روحك هبوب نسيم لمائف القدر، إن الله تعالى وضع تماثيل الوجود على ساحل بحر الدنيا لامتحان عيون أهل البصيرة، وسلم من الالتفات إلى زخرفها أطفال أرواح
أقيمت في مقصورة الثبات، وربيت في حجور العصمة، وأرخيت عليها أكناف آيات الأمر، وكوشفت بلمائف محبات القدر، وجليت عليها عرائس الغيب. وقال رضي الله تعالى عنه: حليت عروس آدم في خلع، إن الله اصطفى، وسجدت الملائكة لسطوع نور " ونفخت فيه من روحي "، - الحجر 29 - وسمع موسى فوق روضة الطور بلبلاً يترنم بلذيذ لحن: إني أنا الله. وانس ساقياً يفرغ شراب القدم في كؤوس، أنا اخترتك، أشتاق إلى رؤية ألفاقي، هزت أعطافه نشوات سكره، وكتب بيده شدة توقه في طرس عشقه حروفاً، أرني، فانقلب القلم في يده، فقال: لن تراني. قيل له عند انقضاء دولته: يا موسى؛ سلم بقلم إلىسالة لصاحب: " ويكلم الناس في المهد " - آل عمران 46 - واعطه الدواة ليكتب في كتب توحيدي: إني عبد الله. وتنقش في صحف رسالته سطور: " ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد " - الصف 6 - يمت في مقصورة الثبات، وربيت في حجور العصمة، وأرخيت عليها أكناف آيات الأمر، وكوشفت بلمائف محبات القدر، وجليت عليها عرائس الغيب. وقال رضي الله تعالى عنه: حليت عروس آدم في خلع، إن الله اصطفى، وسجدت الملائكة لسطوع نور " ونفخت فيه من روحي "، - الحجر 29 - وسمع موسى فوق روضة الطور بلبلاً يترنم بلذيذ لحن: إني أنا الله. وانس ساقياً يفرغ شراب القدم في كؤوس، أنا اخترتك، أشتاق إلى رؤية ألفاقي، هزت أعطافه نشوات سكره، وكتب بيده شدة توقه في طرس عشقه حروفاً، أرني، فانقلب القلم في يده، فقال: لن تراني. قيل له عند انقضاء دولته: يا موسى؛ سلم بقلم إلىسالة لصاحب: " ويكلم الناس في المهد " - آل عمران 46 - واعطه الدواة ليكتب في كتب توحيدي: إني عبد الله. وتنقش في صحف رسالته سطور: " ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد " - الصف 6
وقال رضي الله تعالى عنه: طارت نحل الأرواح قبل وجود الأشباح من كورات كن في فضاء مروض التوحيد، ليرعى من زهر أشجار الأنس، ويأكل من ثمار أغصان المعرفة، ويتخذ بيوتاً في مواطن القدس فوق قمم جبال العز، ويسلك سبيل الدنو إلى ربها في حضرة العلو في مقام قربها، ويجني ثمرات الحضور بأيدي الهمم ألفالية، فاصطادها صياد القدر بشباك التكليف، وحصرها بيد الأمر في أقفاص الأشباح، فألهتها من الهياكل بهجة حسن الصفة، وألفت مساكن البشرية، فنسيت موطناً من القدس الأشرف، فأوحى ربك إلى نحل الأرواح أن اسلكي سبل ربك ذللاً في مسالك الأشباح، وكلي من كل ثمرات الشريعة، وارعي من أزهار أنوار الحقيقة. فلما طار طائرها ليرعى حب الحب من حدائق المجاهدة وقع في شرك المحبة، ورأى ماء البلاء في غدير الولاء، فقال: كيف الخلاص؟ روض أنيق(3/270)
لكن ثمره مر، ومنهل عذب لكن فيه كم من غريق؟ فناداها حادي مطايا صدق الطلب بلمان النصح: يا أرباب الوله في حب معشوق الأرواح! ويا أصحاب الحرق في غاية أماني العارفين! ما بينكم وبين مطلوبكم سوى ارتفاع استار الصور، ولا يحجبكم عنه إلا حجب الهياكل، فطيروا إليه بأجنحة الغرام، واطلبوا عنده الحياة الأبدية، وموتوا عن شهوات إرادتكم ليحييكم به عنده في مقعد صدق. وقال رضي الله تعالى عنه: سرير الأسرار لا ينصب إلا في سرادق حق اليقين، وحق اليقين نقطة دائرة التوحيد، والتوحيد قاعدة بناء الوجود، الهوية الأحدية مغناطيس حديد قلوب العارفين، وإلىوضة الأبدية مراتع أسرار المكاشفين، كاشف الأرواح ليلة ألست بأسرار قدمه، الاطف العقول في مقام، وإذ أخذ بالألفاف تقرير عهده، باسط الخواطر في حضرة السرمدية بمباسطة، وأشهدهم بقرب إلى الأسرار في جناب الأزل بمخاطبة ألست، سقاهم كأس حبه بأيدي سقاة قربه، خرجوا إلى الدنيا وفي رؤوسهم نشوات ذلك الخمار، وفي عيون عقولهم بقايا رسوم ذلك الجمال، وفي أحداق قلوبهم يرفاه ذلك الجناب. واحرقتاه عليكم!! كيف تموتون وما عرفتم - ربكم؟!! الشجاعة صبر ساعة يا عجمي الفطنة، سافروا إلى بلاد العرب يا موتي الطبيعة، سافروا إلى بلاد هند الهداية. سقى بعض العارفين من هذا الشراب قطرة، وأفرغ ساقي القدر له منه بقية، فقامت روحه ترقص طرباً بين ندمأنه، قرأ لمان حال موسى وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً. قال المخبر عن صدق طلبه: " وخر موسى صعقاً " - الأعراف 143 - قيل: يا موسى؛ معدة طبعك ضعيفة عن تناول شراب، تجلي أنيق عينك ضيق عن مقابلة أنوار سبحات " ارني أنظر إليك " - الأعراف 143 - عين الحدث لا تنفتح في شعاع شمس القدم، ورد النظر ما يطلع في شجر كانون هذا الكون، أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا خلعة النظر في الدنيا مدخرة في خزائن الغيب لصاحب " قاب قوسين " - النجم 9 - هذا الشرف لا يناله من الخلائق سوى سيد ولد آدم ويتيمة عقد البشر: " ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده "، - الأنعام 152 -. قال إلىواة عنه: وأول كلام تكلم به على الناس على الكرسي - رضي الله تعالى عنه، قوله: أغواص الفكر يغوص في بحر القلب على درر المعارف، فيستخرجها إلى ساحل الصدر، فينادي عليها سمسار ترجمان اللمان، فتشتري بنفائس أثمان حسن الساعة " في بيوت أذن الله أن ترفع "، - النور 36 -. قلت: فهذا ما أثرت الاقتصار على ذكره للاختصار من كلامه الجليل المقدار المشتمل على الحكم والمعارف والأسرار. وقد أشرت في بعض هذه الأبيات المختصرة إلى محاسن(3/271)
كلامه المشتهرة، المنسوجة في الأسلوب الغريب الذي لم ينسج غيره على منواله العجيب:
أيا مادحاً نسجاً وشاه ابن جوزي ... حلاه بأسلوب بعنيك فاخر
كأنك لم تنظر نسيج معارف ... وأسرار زاهي حكمة وسرائر
بأطرف أسلوب وأطرف حلةوأشرف نسج باهجالحسن زاهر
لدى حضرة ألفاه أشرف صانع ... وأعرف أستاذ دعي عبد قادر
به شرف الأكوان قطب زمانه ... رداء مجده فيه طراز المفاخر
له قدم تسمو تعالى فخارها ... لها خضعت طوعاً رقاب الأكابر
وما نسج فتح من نفيس مواهب ... كنسج طباع من قريحة خاطر
وأين الثريا في علاها من الثرى ... وبل الندى في الفضل من وبل ماطر
كذا أين من باز العلى عاكف يرى ... على جيفة أو لاقط المتناثر
فما طائر تلقيه للماز صائداً ... وللماز تلقى صائداً كل طائر
وأين بعيد ألفار من ساكن الحمى ... نديم هوى في حضرة القدس حاضر
تسقى من إلىاح التي لم ريحها ... يرح ذاك، فضلاً عن شراب تداير
شريف معلى بل مولى على الورى ... وتصريفه قد عمهم غير قاصر
له في الوجود ألفاه والحكم نافذ ... خفير الورى في عصره غير خافر
لقد خفر الأكوان شرقاً ومغرباً ... وما في ضياء أخفرن أو دياجر
له الجن والأملاك والأنس كلهم ... يخافون لا شخص يرى غير حاذر
به اسأل، فإن ألفيت قولي مصدقاً ... وإلا أكذبن للمافعي في المحاضر
على روحه رضوان ربي مقدساً ... مدى الدهر زاكي النشر من غير آخر
وختمي لها حمدي لربي مصلما ... على المصطفى من قبل خلق العناصر
محمد الشامي على ذروة العلى ... غياث الورى عند الدواهي الذواعر
قلت: وأما اعتقاده فقد أخبرني - والله - من لا أشك في صدقه من أصحاب شيخ عصره وفريد دهره الشيخ نجم الدين الأصبهاني - قدس الله تعالى روحه - أنه قال: رجع آخراً عما كان يعتقده أولاً لما بلغه أن الفقيه الإمام ألفارع المشكور تقي الدين بن دقيق العيد المشهور تعجب من شذوذ الشيخ عبد ألفادر المذكور في اعتقاده عن موافقة الجمهور من المشايخ العارفين والعلماء المحققين في مسألة الجهة المعروفة. قلت: ومثل الشيخ نجم الدين المذكور إذا أخبر فعلى الخبير سقط المخبر، إذ هو من أهل الاطلاع ظاهراً وباطناً. أما ألفاطن فلأنه من أهل النور والكشف، وأما الظاهر فلقرب ألفار إذ كان العراق لهما موطناً، فهو الجامع - بين المعرفتين جميعاً مرتقياً في الولاية مقاماً(3/272)
عزيزاً رفيعاً. ومما يؤيد ذلك ويدل على عدم اعتقاده الجهة والمكان في حال النهاية والعرفان كلامه المشهور عنه في مناقبه الثابتة برواية الرجال ألفائعة في البلمان، ومن ذلك قوله المشتمل على يواقيت الحكم وابتهاج النور، وهو هذا النسيج العجيب والأسلوب الغريب والدر المنثور. قال رضي الله تعالى عنه: نودي في معاقل الأفاق وفجاج الأكوان ومعالم المصنوعات أن سلمان الصفات القديمة وملك النعوت العظيمة يريد أن يمر على مسالك المعالم ويبدو في مشاهد الشواهد، فحدقوا عقولكم وصفوا سرائركم، وقيدوا أفكاركم وغضوا أبصاركم، واحصروا بلاغتكم وكفوا مناطقكم والسنتكم. فبرز من جناب العزة سنا بارق مجلل بالهيبة، مظلل بالعظمة، متوج بالجلال، مكلل بالكمال، أخذ بنواصي الأنوار قاهراً لمعاني الأسرار، فتجلى في حلل لطفه وتلطفه، ودنا بتقربه وتعرفه، له مطالع ومشارق، ولوائح وبوارق، وشواهد ومناطق، ومعارف وحقائق، وعوارف ومناشق، تجلو مطالعة " إلىحمن على العرش استوى " - طه 5 - ويسفر مشارقه " وسع كرسيه السماوات والأرض " - البقرة 255 - ويوضح لوامحه، " يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء "، - ألفائدة 64 - ويكشف بوارقه " وهو معكم أينما كنتم "، - الحديد 4 - ويبدي شواهده " والسماوات مطويات بيمينه "، - الزمر 67 - ويفصح مناطقه " والله من ورأنهم محيط "، - البروج 20 - وينادي معارفه " وهو السميع البصير "، - الشورى 11 - ويطق حقائقه " ليس كمثله شيء "، - الشورى 11 - ويشهد عوارفه " لا تدركه الأبصار "، - الانعام 103 - وتتأرج مناشقة " قل الله ثم ذرهم " وظهرت معه بدائع القدم في أحسن صورة من بهجة الكمال ألفارز من حريم العز، عليها من ملابس الجمال غرائب العجائب، فطاف بها طائف من ربك في طرائق المكنونات ومصنوعات المصنوعات ومكنونات ألفائنات، فوقع الكل في مهاوي الهيبة، وتاهوا في مهامه الدهشة، وإذا الندا من حضرة القدس " ألست بربكم " فقالوا بلمان الذل والخضوع في مقام التوحيد والإقرار بوحدانية إلهيته: بلى، وأشهدهم على أنفسهم لقيام الحجة، يوم تشهد عليهم ألسنتهم، فيتبع الخلائق ذلك ألفارق، وسلكوا نحوه طرائق، فاقتفى قوم ولم يستضيئوا هى من علم ولا إثارة، بل حكموا العقول ومقاييسها. فاتبعوا الأهوية وأباليسها. فمنهم طائفة ضلوا في تيه التمويه ووقعوا في التجسيم والتشبيه، الذين أهلكهم الشقاء حين ابتلى أخيارهم، وأولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم. ومنهم فرقة - حاروا في أضاليل التعطيل. ومنهم عصابة هلكوا ابأباطيل الحلول، وأغرقوا فأدخلوا ناراً، فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً. ومبادىء التوحيد والتنزيه تنادي في صفحات الوجود أن سلمان الصفات القديمة(3/273)
وملك النعوت العظيمة إلى الآن في مقر العز والجلال ومظل القدرة والكمال. ما انتقل إلى مكان، لم يتغير عما عليه كان. يحتجب بجلال عزته في معالي كبريأنه وعظمته، فوجم العرش من خوف البطش، إذ جعل محلاً للافتراء ومجالاً للامتراء، وصاح بلمان إلىهبة من البعد: يا أرباب الغيبة عن إلىشد، إني منذ خلقت في دهشة الوله ووحشة التحير لمع لي من جناب الأزل بارق " إلىحمن على العرش استوى "، - طه 5 - فلما صوبت نظري إلى نفسي وقع حده على جرم السماء فانطبع فيه: " ثم استوى إلى السماء "، - البقرة 29 - فهبت فيها نظري، وشخص إليها بصري وطمحت إشراقات أنواره إلى عالم الثرى، فانتقش في طي مكنوناته مكتوب " واسجد واقترب "، - العلق 19 - فأتى رهين غريتي وقرين زفرتي، لا أسمع غير الأخبار ولا أشهد غير الآثار، وأتبع قوم سبيل إلىشاد في إشراق أنواره. ونصبو الشرع أمامهم، وأخذوا الحق إمامهم، واقتدوا بعساكر التوفيق
جنداً جنداً، وسبقت إليهم ركائب ألفاييد وفداً وفداً، وشموس الهداية تسري معهم، وعيون العناية ترعى مرتعهم وتجمعهم، فأوصلهم الصدق في اتباع الحق إلى مسالك التوحيد ومعارف التمجيد، وعلت بهم إلىتب إلى مقام القرب، وسقوط الكيف والتشبيه والحدود، ووجوب التنزيه والإجلال لواجب الوجود. قلت: فهذا بعض كلامه في ذلك محتوياً على التوحيد والتنزيه ومصرحاً بنفي التجسيم والتشبيه، مفصحاً بكون الحق تعالى لم ينتقل إلى مكان، ولم يتغيرعما عليه كان، جامعاً بين فصاحة العبارة وملاحة الاستعارة وكذلك قوله في المشاهدة: لا بد في الشهود من سقوط مشهودين ونفى تعلق الحط بالحيز والوقت والأين، ومحو ثبوت الفيق والجمع والقرب والبين. وقد ذكرت في كتاب نشر المحاسن. شيئاً من كلامه في الاعتقاد والأسرار وعلم ألفاطن. ومن كلامه أيضاً المروي عنه في مناقبه لما قيل له أن فلاناً - وسموا له بعض مريديه - يقول إنه يرى الله عز وجل بعيني رأسه، فاستدعى به وسأله عن ذلك فقال: نعم، فانتهره ونهاه عن هذا القول، وأخذ عليه أن لا يعود إليه فقيل له: أمحق هذا - أم مبطل؟ قال: هو محق ملبس عليه، وذلك أنه شهد ببصيرته نور الجمال، ثم خرق من بصيرته إلى بصره منفذاً فرأى بصره ببصيرته يتصلى شعاعها بنور شهوده، فظن أن بصره رأى ما شهدته بصيرته، وإنما رأى بصره ببصيرته فحسب، وهو لا يدري. قال الله تعالى: " مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان "، - الرحمن20 - وان الله يبعث بمشيئته على أيدي ألفافه أنوار جلاله وجماله إلى قلوب عباده، فتأخذ منها ما يأخذ المصور من الصور، ولا ضرر، ومن وراء ذلك رداء كبريأنه الذي لا سبيل إلى انخراقه. قال إلىاوي: وكان جمع من المشايخ والعلماء حاضرين هذه الواقعة، فأطربهم سماع هذا الكلام، ودهشوا من حسن إفصاحه عن حال إلىجل، وقام بعضهم ومزق ثيابه، وخرج إلى الصحراء عرياناً يعني هائماً. جنداً جنداً، وسبقت إليهم ركائب ألفاييد وفداً وفداً، وشموس الهداية تسري معهم، وعيون العناية ترعى مرتعهم وتجمعهم، فأوصلهم الصدق في اتباع الحق إلى مسالك التوحيد ومعارف التمجيد، وعلت بهم إلىتب إلى مقام القرب، وسقوط الكيف والتشبيه والحدود، ووجوب التنزيه والإجلال لواجب الوجود. قلت: فهذا بعض كلامه في ذلك محتوياً على التوحيد والتنزيه ومصرحاً بنفي التجسيم والتشبيه، مفصحاً بكون الحق تعالى لم ينتقل إلى مكان، ولم يتغيرعما عليه كان، جامعاً بين فصاحة العبارة وملاحة الاستعارة وكذلك قوله في المشاهدة: لا بد في الشهود من سقوط مشهودين ونفى تعلق الحط بالحيز والوقت والأين، ومحو ثبوت الفيق والجمع والقرب والبين. وقد ذكرت في كتاب نشر المحاسن. شيئاً من كلامه في الاعتقاد والأسرار وعلم ألفاطن. ومن كلامه أيضاً المروي عنه في مناقبه لما قيل له أن فلاناً - وسموا له بعض مريديه - يقول إنه يرى الله عز وجل بعيني رأسه، فاستدعى به وسأله عن ذلك فقال: نعم، فانتهره ونهاه عن هذا القول، وأخذ عليه أن لا يعود إليه فقيل له: أمحق هذا - أم مبطل؟ قال: هو محق ملبس عليه، وذلك أنه شهد ببصيرته نور الجمال، ثم خرق من بصيرته إلى بصره منفذاً فرأى بصره ببصيرته يتصلى شعاعها بنور شهوده، فظن أن بصره رأى ما شهدته بصيرته، وإنما رأى بصره ببصيرته فحسب، وهو لا يدري. قال الله تعالى: " مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان "، - الرحمن20 - وان الله يبعث بمشيئته على أيدي ألفافه أنوار جلاله وجماله إلى قلوب عباده، فتأخذ منها ما يأخذ المصور من الصور، ولا ضرر، ومن وراء ذلك رداء كبريأنه الذي لا سبيل إلى انخراقه.(3/274)
قال إلىاوي: وكان جمع من المشايخ والعلماء حاضرين هذه الواقعة، فأطربهم سماع هذا الكلام، ودهشوا من حسن إفصاحه عن حال إلىجل، وقام بعضهم ومزق ثيابه، وخرج إلى الصحراء عرياناً يعني هائماً.
قلت: وقوله: ومن وراء ذلك رداء الكبرياء الذي لا سبيل إلى انخراقه - نحو مما أشار إليه الشيخ الكبير ألفارف بالله السيد الجليل شيخ الشيوخ أبو الغيث ابن جميل - قدس الله روحه - بقوله: كل خيال نقاب لوجه الأمر العزيزي، والأمر العزيزي نقاب لجلال جمال سبحات وجه الله الكريم فرضاً، لئلا يبرز من ذلك الجلال ذرة، فلا يبقى أحد من الثقلين، ولا من سواهما لا يعرف لله طاعة ولا عصياناً. قلت: قوله: لا يعرف لله طاعة ولا عصياناً: يظهر فيه لي احتمالان، الاحتمال الأول: الإشارة إلى الفناء الكلي، واصطلام الحس والمحسوس، وفقدان وجدان جميع الوجود لاستيلاء سلمان جلال الجمال في حالة الشهود، فلا يشعر حينئذ بطاعة ولا معصية ولا مطيع ولا عاصي. والاحتمال الثاني: أن يشهد القدر سابقاً المقدور بسوط - القضاء المبرم، وقائداً له إلى العلم ألفابق بزمام الحكم المحكم، وصار مزعجاً بالخروج إلى حيز الوجود من حيز العدم، واقعاً - لا محالة - بقدرة الملك ألفادر وإيجاد خالق كل شيء العزيز ألفاهر المهروب منه إليه المستعاذ به منه، جل وعلا وتبارك وتعالى. قلت: فهذا ما اقتصرت عليه من ترجمة قطب الأولياء الأكابر المتوج بتاج الشرف والمفاخر، شيخ الوجود ومطلع السعود، محيي الدين عبد ألفادر، الذي لا تسع ترجمة محاسنه إلا مجلمات، على هذه النبذة اليسيرة في نحو تصنيف كراسة صغيرة، وقد اقتصر الذهبي منهاعلى نحو سبعة أسطرحقيرة. وفي السنة المذكورة توفي الإمام الحافظ تاج الإسلام أبو سعد عبد الكريم بن محمد ابن منصور المروزي، محدث المشرق، صاحب التصانيف الكثيرة وإلىحلة الواسعة. سمع بنيساور وهراة وبغداد وأصبهان ودمشق، وله معجم شيوخه في عشر مجلمات. كان ثقة مكثراً واسع العلم كثير الفضائل، ظريفاً لطيفاً نبيلاً متجملاً شريفاً. وفي السنة المذكورة توفي القاضي الرشيد أبو الحسين أحمد ابن القاضي الرشيد أبي الحسن علي الغساني الأسواني. كان من أهل الفضل والنباهة وإلىئاسة، صنف كتاب جنان الجنان ورياض الأذهان وذكر فيه جماعة من مشاهير الفضلاء، وله ديوان شعر، ولأخيه القاضي المهذب ديوان شعر أيضاً، وكانا مجيدين في نظمهما ونثرهما، ومن نظم القاضي المهذب قوله في قصيدة:(3/275)
وترى المجرة والنجوم كأنما ... تسقي الرياض بجدول ملآن
لو لم يكن نهراً لما عامت به ... أبداً نجوم الحوت والسرطان
وذكر العماد ألفاتب في كتاب السيل على الذيل الذي ذيل به على الخريدة أنه كان أشعر من أخيه الرشيد، والرشيد أعلم منه في سائر العلوم. قلت: ويشبه أن يكون نسبة هذين الأخوين الشريفين: إلىضي والمرتضى، فإن إلىضي كان أشعر، والمرتضى كان أعلم. وولي الرشيد المذكور النظر في ثغر الاسكندرية بغير اختياره، وقتله الوزير شاور ظلماً وكان أوحد عصره في علم الهندسة والرياضيات والعلوم الشرعيات، والآداب والشعريات. وقال العماد: أنشدني محمد بن موسى اليمني ببغداد قال: أنشدني القاضي الرشيد باليمن لنفسه في رجل:
لئن خاب ظني في رجائك بعدما ... ظننت فإني قد ظفرت بمنصفر
فإنك قد كلفتني محل منة ... ملكت بها شكري لدى كل موقف
لأنك قد حذرتني كل صاحب ... وأعلمتني أن ليس في الأرض من يفي
وله أيضاً مما نقله عنه العماد المذكور.
إذا ما نبت بالحر دار يودها ... ولم يرتحل عنها فليس بذي حزم
وهبه بها صباً ألم يدر أنه ... سيزعجه منها الحمام على رغم
وله أيضاً مما أنشده عنه أمير أبو الفوارس مرهف بن أسامة:
جلت علي إلىزايا بل جلت هممي ... وهل يضر جلاء الصارم الذكر
غيري بغيره عن حسن شيمته ... صرف الزمان وما يأتي من الغير
لو كانت النار للماقوت محرقة ... لمان يشتبه ألفاقوت بالحجر
لا تغررن بأطماري وقيمتها ... فإنما هي أصداف على درر
ولا تظن خفاء النجم من صغر ... فالذنب في ذاك محمول على البصر
وهذا البيت الأخير مأخوذ من قول أبي العلاء المعري، حيث قال فى قصيدة له طويلة:
والنجم تستصغر الأبصار رؤيته ... والذنب للطرف لا للنجم فى الصغر
وكان الرشيد قد سافر إلى اليمن رسولاً، ومدح جماعة من ملوكها. وممن مدحه منهم علي بن حاتم الهمداني، قال فيه:
لئن أجدبت أرض الصعيد وأقحطوا ... فلست أبالي القحط في أرض قحطان(3/276)
ومذ كفلت لي مأرب بمأربي ... فلست على آسوان يوماً بأسوان
وإن جهلت حقي زعانف خندف ... فقد عرفت فضلي غطارف همدان
فحسده ألفاعي وهو في مذهب الإسماعيلية الذي يدعو الخلق إلى متابعة الإمام المعصوم على زعمهم في عدن على ذلك، فكتب بالأبيات إلى صاحب مصر، فكانت سبب الغضب عليه، فأمسكه وأنفذه إليهم مقيداً مجرداً، وأخذ جميع موجوده، فأقام باليمن مدة، ثم رجع إلى مصر، فقتله شاور كما تقدم، وقوله:
وإن جهلت حقي زعانف خندف ... فقد عرقت فضلي غطارف همدان
يحتاج إلى تفسير لمن ليس باللغة خبيراً، أما الزعانف فهي بالزاي ثم العين المهملة وبين الألف والماء نون - وهي اطراف الأديم وأكارعه، وأما خندف وهي بكسر الماء المعجمة وقبل ألفال المهملة نون ساكنة وهي قبيلة تنسب إلى أمها امرأة ألفاس بن مضر، واسمها ليلى. والخندفة مشية كالهرولة، ويقال: خندف إلىجل، إذا مشى قألفا قدميه كأنه يغترف بهما، وأما غطارف فهو بالغين المعجمة والماء المهملة وإلىاء بعد الألف جمع غطريف، وهو السيد، وفرخ ألفازي، وقحطان قبيلة مسماة باسم جدها وهو أبو اليمن وهمدان بألفال المهملة وسكون الميم قبلها قبيلة من اليمن. وأما بالذال المعجمة وفتح الميم فبلد بالعجم. والغساني بفتح الغين المعجمة والسين المهملة المشددة نسبة إلى غسان، وهي قبيلة كبيرة من الازد، شربوا من ماء غسان، وهو باليمن فنسبوا إليه، ومنهم بنو جفنة رهط الملوك. ويقال غان اسم قبيلة، والأسواني نسبة إلى أسوان بضم الهمزة وسكون السين المهملة، وهي بلدة بصعيد مص.
سنة اثنتين وستين وخمس مائة
فيها سار أسد الدين السير الثاني إلى مصر ببعض جيش نور الدين، فنازل الجيزة شهرين، واستنجد وزيرمصرالفرنج، فدخلوا إلى النيل من دمياط، والتقوا، فانتصر أسد الدين، وقتل ألوف من الفرنج. قال ابن الأثير: هذه من أعجب ما أرخ أن ألفي فارس تهزم عساكر مصر والفرنج. ثم(3/277)
استولى أسد الدين على بلاد الصعيد وتقوى بخراجها، وأقامت الفرنج بالقاهرة حتى استر أسوا، ثم قصدوا الاسكندرية وقد أخذها صلاح الدين، فحاصروه أربعة أشهر، ثم كرأسد الدين منجداً له، فترحلت الملاعين بعد أن قد استقر لهم بالقاهرة شحنة، وقطيعة مائة ألف دينار في الشام. وصالح شاور أسد الدين على خمسين ألف دينار، وأخذها ونزل الشام.
وفيها قدم قطب الدين صاحب الموصل على أخيه نور الدين، فغزوا الفرنج، فأخذوا حصناً بعد حصن. وفيها احتراق البلادين حرقاً عظيماً، حتى صار تاريخاً، وأقامت النار أياماً. وفيها توفي خطيب دمشق أبو البركات الخضر بن شبل الفقيه الشافعي، درس بالغزالية وبالمجاهدية، وبنى له نور الدين المدرسة المعروفة بالعمادية. وفيها توفي ابن حمدون صاحب التذكرة أبو المعالي محمد بن أبي سعد ألفاتب الملقب كافي الكفاءة البغدادي. كان فاضلاً ذا معرفة تامة بالأدب والكتابة، من بيت مشهور بإلىئاسة والفضل، صنف كتاب التذكرة، وهو من أحسن المجاميع، يشتمل على التاريخ والأدب والنوادر والأشعار، لم يجمع أحد من المتأخرين مثله، ذكره العماد ألفاتب في كتاب الخريدة، وأنشد لنفسه لغزاً في مروحة الجيش:
ومرسلة معقودة دون قصدها ... منفذة تجري لجيش طليقها
يمر خفيف الريح وهي مقيمة ... وتسري وقد سدت عليها طريقها
لها من سليمان النبي وراثة ... وقد عزمت نحو النبيط عروقها
إذا صدق النوء الشمالي أمحلت ... وتمطر والجوزاء ذاك حريقها
وتحسبها إحدى الصنائع أنها ... لذلك كانت كل روح صديقها
قلت: وفي المروحة أيضاً أنشدنا بعض شيوخنا، وهو الشيخ الصالح أبو بكر ابن ألفائغ لنفسه:
وفي عدن حر كأن لهيبه ... من النار في أرجأنها اليوم لافح
أدافع عني بالمراوح جيشه ... فيا ضعف من يحمي قفاه المراوح(3/278)
وفيها توفي الإمام تاج الإسلام أبو سعد عبد الكريم بن أبي بكر محمد بن أبي المظفر منصور بن محمد التميمي السمعاني المروزي الفقيه الشافعي، ذكره الشيخ عز الدين أبو الحسن علي بن الأثير الجزري في مختصره فقال. أبوسعد واسطة عقد البيت السمعاني، وعينهم ألفاصرة ويدهم الناصرة، وإليه انتهت رئاستهم، وبه كملت سيادتهم. رحل في طلب العلم والحديث إلى شرق الأرض وغربها وشمالها وجنوبها، إلى ما وراء النهر وسائر بلاد خراسان مرات، وإلى قومس والري وأصبهان وهمدان وبلاد الجبال والعراق والحجاز والموصل والجزيرة والشام وغيرها من البلاد التي يطول ذكرها ويتعذر حصرها، ولقي العلماء وجالسهم، وأخذ عنهم، واقتدى بأفعالهم الجميلة وأثارهم الحميدة، وروى عنهم. وكانت عدة شيوخه تزيد على أربعة آلاف شيخ، وكان حافظاً ثقة مكثراً واسع العلم كثير الفضائل ظريفاً لطيفاً مبجلاً نظيفاً نبيلاً شريفاً، وصنف التصانيف الحسنة العزيزة ألفائدة، من ذلك تذييل تاريخ بغداد الذي صنفه ألفاضل أبو بكر الخطيب وهو نحو خمسة عشر مجلما. وتاريخ مرو يزيد على عشرين مجلما، والأنساب نحو ثماني مجلمات وهو الذي اختصره الشيخ عز الدين المذكور، واستدرك عليه مختصره في ثلاث مجلمات. وكانت ولادة أبي سعد يوم الاثنين ألفادي والعشرين في شعبان سنة ست وخمس مائة، وكان أبوه إماماً فاضلاً مناظراً فقيهاً محدثاً شافعياً، وله عدة تصانيف وشعر غسله قبل موته وإملاء لم يسبق إلى مثله، وتوفي أبوه المذكور وقت فراغ الناس من صلاة الجمعة ثاني عشر صفر سنة عشر وخمس مائة. وفيها توفي الحافظ المفسر الواعظ الأديب المتقن أبو شجاع عمر بن محمد البسطامي.
؟؟؟
سنة ثلاث وستين وخمس مائة
وفيها أعطى نور الدين لنائبه أسد الدين حمص وأعمالها، فبقيت في يده مائة سنة. وفيها توفي أبو محمد عبد الله بن علي الأصبهاني المقرىء، كان عألفا زاهداً معمراً.(3/279)
وفيها توفي أبو الحسين هبة الله بن الحسن بن هبة الله ابن عساكر الفقيه الشافعي، قرأ القراءات وسمع الحديث وتفقه ودرس بالغزالية، وأفتى واعتنى بفنون العلم، وكان ورعاً خيراً كبير القدر، عرضت عليه خطابة البلد فامتنع. وفيها توفي الشيخ الكبير الولي الشهير ألفارف بالله الخبير ذو المقامات الطية والأحوال السنية والأنفاس الصادقة والكرامات ألفارقة والتصانيف المفيدة الوثيقة في الشريعة والحقيقة أبو النجيب عبد ألفاهر بن عبد الله السهروردي القرشي البكري، نسبة إلى أبي بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - بينه وبينه اثنا عشر أباً، كان من أعيان المحققين وأعلام العلماء الشاملين وصفوة العارفين، وهو أحد من درس بالنظامية وتصدر للفتوى، وجمع ووضع التصانيف، وكان يلقب مفتي العراقين وقدوة الفريقين انعقد عليه إجماع المشايخ والعلماء بالاحترام، وأوقع الله له في الصدور القبول الشام، وكان يشرح أحوال القوم، ويتطيلس ويلبس لماس العلماء، ويركب البغلة ويرفع بين يديه - ألفاشية على ما نقله بعض العلماء في تصنيفه. ومن كراماته ما روى بعض أصحابه، وهو الشيخ أبو محمد عبد الله بن مسعود المعروف بإلىومي قال: مررت مرة مع شيخنا أبي النجيب بسوق السلطان ببغداد، فنظر إلى شاة مسلوخة معلقة عند جزار، فوقف عنده وقال له: إن هذه ألفاة تقول لي أنها ميتة، فغشي على الجزار، فتاب على يدي الشيخ المذكور، وأقر بصحة قوله. وله كرامات أخرى، وكلام نفيس ومحاسن جليلة لا نطول بذكر ذلك. وفيها قتل ظلماً القاضي المهذب أبو محمد الحسن ابن القاضي الرشيد الغساني الأسواني، وكان أوحد عصره في العلوم الشرعيات والهندسية والرياضيات والآداب والشعريات. ومن شعره ما تقدم من قوله في سنة إحدى وستين:
غيري يغيره عن حسن شيمته ... صرف الزمان وما يأتي من الغير
إلى آخر الأبيات
سنة أربع وستين وخمس مائة
فيها سار أسد الدين مسيره الثالث إلى مصر، وكانت الفرنج قد ملكت تنيس(3/280)
وحاصروا القاهرة، وأخذوا كل ما كان خارج السور، فكاتب شاور نور الدين واستنجد به، وسود كتابه وجعل في طيه ذوائب نساء القصر. وكان نور الدين بحلب، فساق إليه أسد الدين من حمص، فجمع العساكر ثم توجه في عسكر يقال كان سبعين ألفا ما بين فارس وراجل، فتقهقرت الفرنج، ودخل القاهرة وجلس في دست الملك، وخلع عليه العاضد خلع السلطنة، وعهد إليه بوزارته، وقبض على شاور، فأرسل إليه العاضد بطلب رأس شاور، فقطعه، وأرسل به إليه.
وشاور المذكور كان قد ولاه الملك الصالح بلاد الصعيد، ثم لما مات الملك الصالح دخل القاهرة بالعساكر، وقتل الملك ولد الملك الصالح، وجلس مكانه. ثم بعد شهرين مات أسد الدين، فقلد العاضد منصبه ابن أخيه صلاح الدين يوسف ابن نجم الدين، ولقبه بالملك الناصر، ثم ثار عليه السودان، فحاربهم وظفر بهم وقتل منهم قتلاً عظيماً. وفيها توفي صاحب دمشق مجير الدين الملقب بالملك المظفر. وفيها توفي شاور مقتولاً كما ذكرنا، وقد تقدم ذكر قهره لوزير العاضد الملقب بالعادل، وقتله له وجلوسه في الوزارة مكانه. وفيها توفي شيخ المقرئين بالأندلس أبو الحسن علي بن محمد المعروف بابن هذيل. وكان فيه مجموع فضائل من القراءة والزهد والورع والتواضع والتقلل من الدنيا والإعراض عنها وكثرة الصيام والقيام والصدقة والتجويد والإتقان في القراءات. وفيها توفي القاضي زكي الدين أبو الحسن علي ابن القاضي أبي المعالي محمد بن يحيى القرشي قاضي دمشق، استعفي عن القضاء فأعفي، وسار فحج.
وفيها توفي أبو المعالي محمد بن أبي الحسن علي بن محمد القرشي الأموي العثماني، كان ذا فضائل عديدة من الفقه والأدب وغيرهما، وله النظم المليح والخطب وإلىسائل، وتولى القضاء بدمشق، وكانت له عند السلطان صلاح الدين المنزلة السنية(3/281)
والمكانة المكينة، ولما فتح السلطان صلاح الدين مدينة حلب أنشده القاضي محيي الدين أبو المعالي المذكور قصيدة أجاد فيها كل الإجادة، وكان من جملتها هذا البيت:
وفتحك القلعة الشهباء في صفر ... مبشر بفتوح القدس في رجب
وكان كما قال، فإن القدس فتحت لثلاث بقين من رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، فقيل له: من أين لك هذا؟ فقال: أخذته من تفسير ابن برجان في تفسير قوله تعالى " ألم غلبت إلىوم في أدنى الارض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين " - إلىوم ا - 3 - والمنقول عن ابن برجان أنه ذكر له حساباً طويلاً وطريقاً في استخراج ذلك حتى حرره من قوله تعالى " بضع سنين ". ولما ملك صلاح الدين المذكور حلب فوض الحكم والقضاء بها للماضي أبي المعالي المذكور. ولما فتح القدس تطاول إلى الخطابة بها يوم الجمعة كل واحد من العلماء الذين كانوا في خدمته حاضرين، وجهز كل واحد منهم خطبة بليغة طمعاً في أن يكون هو الذي يعتن لذلك، فخرج المرسوم للماضي أبي المعالي المذكور أن يخطب، وحضر السلطان وأعيان دولته، وذلك في أول جمعة صليت بالقدس بعد الفتح، فلما رقي على المنبر استفتح بسورة ألفاتحة ثم قال: فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين، ثم قرأ سورة الأنعام " الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور " إلى آخر الآيات الثلاث، ثم قرأ من سورة سبحان " وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولما ولم يكن له شريك في الملك " - الاسراء 111 - الآية، ثم قرأ من أول الكهف " الحمد لله " إلى اخر الثلاث الآيات، ثم قرأ من النمل " وقل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى " - النمل 59 - ثم قرأ من سورة سبأ " الحمد لله " الخ الآية، ثم قرأ من سورة فاطر " الحمد لله فاطر السموات والأرض "، - فاطر 1 - وكان قصده أن يذكر جميع تحميدات القرآن الكريم، ثم شرع في الخطبة فقال:؟ الحمد لله معز الإسلام بنصره، ومذل الشرك بقهره، ومصرف الأمور جماعة أدباً كثيراً واتفقوا على فضله ومعرفته. بأمره، ومديم النعم بشكره، ومستدرج الكفار بمكره، الذي قدر الأيام دولاً بعدله، وجعل ألفاقبة للمتقين بفضله، وأفاء على عباده من ظله، وأظهر(3/282)
دينه على الدين كله، ألفاهر فوق عباده فلا يمانع، والظاهرعلى خليقته فلا ينازع، والآمر بما شاء فلا يراجع، وألفاكم بما يريد فلا يدافع، أحمده على إظفاره وإظهاره، وإعزازه لأولمانه ونصره لأنصاره، وتطهيره بيته المقدس من أدناس الشرك وأوضار، حمد من استشعر الحمد باطن سره وظاهراً جهاره، وأشهد أن لا آله الا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤاً أحد، شهادة من طهر بالتوحيد قلبه، وأرضى به ربه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، رافع الشك ودافع الشرك وداحض الإفك، الذي أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعرج به منه إلى السموات العلى، إلى سدرة المنتهى، عندها جنة ألفاوى، ما زاغ البصر وما طغى، صلى الله عليه وعلى خيلفته أبي بكر الصديق ألفابق إلى الإيمان، وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أول من رفع عن هذا البيت شعار الصلمان، وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان ذي النورين جامع القرآن وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مزلزل الشرك ومكسر الأوثان، وعلى آله وأصحابه وألفابعين لهم بإحسان. أيها الناس! أبشروا برضوان الله الذي هو الداية القصوى والدرجة العلما لما يسره الله على أيديكم من استرداد هذه ألفالة من الأمة ألفالة، وردها إلى مقرها من الإسلام بعد ابتذالها في أيدى المشركين قريباً من مائة عام، وتطهير هذا البيت الذي أذن الله أن يرفع ويذكر فيها اسمه، وإماطة الشرك عن طرقه بعد أن امتد عليها رواقه واستقر فيها رسمه، ورفع قواعده بالتوحيد، فإنه بنى عليه وشيد بنيانه بالتمجيد، وإنه أسس على التقوى من خلفه ومن بين يديه، فهو موطن أبيكم ابراهيم ومعراج نبيكم عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام، وقبلتكمم التي كنتم تصلون إليها في ابتداء الإسلام، وهو مقر الأنبياء ومقدس الأولياء، ومدفن إلىسل ومهبط الوحي، ومنزل به ينزل الأمر والنهي، وهو في أرض المحشر وصعيد المنشر، وهو في الأرض المقدسة التي ذكرها الله تعالى في كتابه المبين، وهو المسجد الذي صلى فيه رسول الله بالملائكة المقربين، وهو البلد الذي بعث الله إليه عبده ورسوله وكلمته التي ألفاها إلى مريم وروحه عيسى الذي كرمه برسالته، وشرفه بنبوته، ولم يزحزحه عن رتبة عبوديته، فقال تعالى: " لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون "، - النساء 172 - كذب العادلون بالله وضلوا ضلالاً بعيداً، ما اتخذ الله من ولد وما
كان معه إله، إذا لذهب كل إله بما خلق، وأملا الآية " لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم "، أألفائدة 17، 72 - إلى آخر الآيات من ألفائدة..... وهو أول القبلتين وثاني المسجد وثالث الحرمين، لا تشد إلىحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه. وهذا نحو من ثلث خطبته، رمت الاقتصار إيثاراً للاختصار. وفيها توفي الحافظ أبو أحمد معمر بن عبد الواحد القرشي العبشمي الأصبهاني، معه إله، إذا لذهب كل إله بما خلق، وأملا الآية " لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم "، أألفائدة 17، 72 - إلى آخر الآيات من ألفائدة..... وهو أول القبلتين وثاني المسجد وثالث الحرمين، لا تشد إلىحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا(3/283)
تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه. وهذا نحو من ثلث خطبته، رمت الاقتصار إيثاراً للاختصار. وفيها توفي الحافظ أبو أحمد معمر بن عبد الواحد القرشي العبشمي الأصبهاني، سمع من جماعة كثيرين، واعتنى بالحديث وجمعه، ووعظ وأملا وكان ذا قبول ووجاهة، توفني في طريق الحجاز، رحمه الله تعالى.
؟؟
سنة خمس وستين وخمس مائة
فيها وقعت الزلزلة العظمى بالشام، وأطنب جماعة في تعظيمها حتى قال بعضهم هلك بحلب تحت الهدم ثمانون ألفا. وفيها حاصرت الملاعين الفرنج دمياط خمسين يوماً، ثم ارتحلوا من أجل أن نور الدين وصلاح الدين أجلما عليهم وعلى بلادهم براً وبحراً. وعن صلاح الدين أنه قال: ما رأيت أكرم من العاضد، أخرج إلي في هذه المرة ألف ألف دينار سوى الثياب وغيرها. يعني بالعاضد أحد الخلفاء العبيديين. وفيها حاصر نور الدين سنجار، ثم أخذها بالأمان، وتوجه إلى الموصل وبنى بها جامعاً، ورتب أمورها، ثم رجع فنازل الكر، ونصب عليها منجنيقي، ثم رحل عنها لحرب نجدة الفرنج، فانهزموا. وفيها توفي أبو الفضل أحمد بن صالح بن شافع الجيلي ثم البغدادي، أحد العلماء والمعدلين والفضلاء والمحدثين.(3/284)
وفيها توفي صاحب الموصل وابن صاحبها السلطان قطب الدين مودود بن زنكي. وفيها توفي أبو المكارم عبد الواحد بن هلال الأزدي المعدل، سمع من غير واحد، وأجاز له الفقيه نصر، وكان رئيساً جليلاً كثير العبادة والبر. وفيها توفي أبو بكر بن النقور، بالنون وألفاف وفي آخره راء، عبد الله بن محمد البغدادي ثقة محدث من اولاد الشيوخ.
سنة ست وستين وخمس مائة
فيها توفي أبو زرعة طاهر ابن الحافظ محمد بن طاهر المقدسي ثم الهمذاني. وفيها توفي الحافظ المعدل أبو مسعود عبد إلىحمن بن أبي الوفاء علي بن أحمد الأصبها ني. وفيها توفي أبو عبد الله محمد بن يوسف الزينبي شاطبة، سمع من جماعة قال بعضهم: كان عارفاً بالأثر مشاركاً في التفسير، حافظاً للفروع، بصيراً باللغة والكلام فصيحاً مفوهاً، مع الوقار والصمت والصيام والخشوع، ولي قضاء شاطبة، وحدث وصنف. وفيها توفي المستنجد بالله أبو المظفر يوسف ابن المقتفي لأمر الله محمد ابن المستظهر بالله أحمد بن المقتدي العباسي. وفيها توفي ابن الجلال القاضي الأديب موفق الدين يوسف بن محمد، صاحب ديوان الإنشاء. ولي بعده القاضي المعروف بألفاضل. وفيها توفي المعافري عبد الجبار بن محمد المغربي، كان إماماً في اللغة وفنون الأدب، اشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا به، واشتغل ببغداد ودخل الديار المصرية.
سنة سبع وستين وخمس مائة
في أولها تجاسر صلاح الدين وقطع خطبة العاضد العبيدي، وخطب للمستضيء أمير(3/285)
المؤمنين العباسي، فأعقب ذلك موت العاضد العبيدي يوم عاشوراء، فجلس صلاح الدين للعزاء، وبالغ في الحزن والبكاء، وتسلم القصر وما حوى، واهتبط على أهل القصر في مكان أفرد لهم، وقرر لهم ما يكفيهم، ووصل إلى بغداد أبو نصر سعد بن عصرون رسولاً بذلك، فزينت بغداد فرحاً وكانت خطبة بني العباس قد قطعت من مصر مائتي سنة وتسع سنين وحلت مكانها خطبة بني عبيد. فأرسله بالخلع لنور الدين وصلاح الدين، وكانت خلعة نور الدين فرجية وجبة وقباء وطوق ذهب وزنه ألف دينار، ومعها حصان بسرجه، وحصان يجنب بين يديه، وسيفان ولواء، فقفد السيفين إشارة إلى الجمع له بين الشام ومصر. وفيها سار نور الدين لحصار الكرك، وطلب صلاح الدين فاعتذي، فلم يقبل عذره، وهم بالدخول إلى مصر وعزل صلاح الدين عنها، فبلغ ذلك صلاح الدين فجمع خواصه وواله وخاله شهاب الدين ألفارمي في جماعة أمراء، واستشارهم فقال ابن أخيه عمر: إذا جاءنا ققاتلناه. وتابعه غيره على ذلك من ألفاضرين، فشتمهم والد صلاح الدين نجم الدين أيوب، وأحد وزيرهم، وقال لابنه: أنا أبوك وهذا خالك، في هؤلاء من يريد لك الخير مثلنا؟ فقال: لا، قال: والله لو رأيت أنا وهذا نور الدين لم يمكنا إلا أن ننزل نقبل الأرض، ولو أمرنا بضرب عنقك لفعلنا، فما ظنك بغيرنا، وهذه البلاد لنور الدين؟! ! فإن أراد عزلك فأي حاجة له في المجيء، بل يطلبك بكتاب. ثم تفرقوا وكتب غير واحد من الأمراء بهذا المجلس المذكور إلى نور الدين، فلما خلا نجم الدين بابنه قال: أنت جاهل، تجمع هذا الجمع وتطلعهم على سرك؟! فلو قصدك نور الدين لم تر منهم معك أحداً، فاكتب إليه واخضع له، ففعل. وفيها توفي يحيى بن سعدون بن تمام الأزدي القرطبي الملقب صائن الدين، أحد الأئمة المتأخرين في القراءات وعلوم القرآن الكريم والحديث والنحو واللغة وغير ذلك، ودخل الاسكندرية وسمع من جماعة كثيرة وكذلك بمصر، ودخل بغداد وقرأ القران، وسمع(3/286)
الحديث على جماعة من أكابر زمانه، وكان ديناً ورعاً، عليه وقار وسكينة، وكان ثقة ثبتاً نبيلاً قليل الكلام كثير الخير مفيداً، وأقام بدمشق مدة، واستوطن الموصل، ودخل أصبهان، ثم عاد إلى الموصل، وأخذ عنه شيوخ ذلك العصر. قال ابن خلكان: وكان شيخنا قاضي حلب بهاء الدين أبو المحاسن يوسف بن رافع يفتخر بقراءته عليه ورويته، وكان كل يوم يسمط له دجاجة، ويتولى طبخها بيده. وكان كثيراً ما ينشد مسنداً إلى أبي الخير ألفاتب الواسطي:
جرى قلم القضاء بما يكون ... فسيان التحرك والسكون
جنون منك أن تسعى لرزق ... ويرزق في غشاوته الجنين
وفيها توفي العلامة أبو محمد الخشاب عبد الله بن أحمد البغدادي النحوي المحدث، طلب وسمع وأكثر وقرأ الكثير وكتب بخطه المليح المتقن، وأخذ العربية عن أبي السعادات ابن الشجري وابن الجواليقي، وأتقن النحو واللغة والتصريف والنسب والفرائض والحساب والهندسة وغير ذلك، وصنف التصانيف. وكان إليه المنتهى في حسن القراءة وسرعتها وفصاحتها مع الفهم والعذوبة، وانتهت إليه الإمامة في النحو، وكان متضلما من العلوم، وخطه في نهاية الحسن، وكان ظريفاً مزاحاً، وله شعر قليل من ذلك قوله في كتاب اللغز:
وذي أوجه لكنه غير بائح ... بصر، وذو الوجهين للسر مظهر
تناجيك بالأسرار أسرار وجهه ... فتسمعها بالعين ما دمت تنظر
وهذا المعنى مأخوذ من قول المتنبي في ابن العميد:
خلقت صفاتك في العيون كلامه ... كالخط يملاء مسمعي من أبصرا
وشرح كتاب الجمل لعبد ألفاهر الجرجاني وسماه: المرتجل في شرح الجمل، وترك أبواباً في وسط الكتاب ما تكلم عليها، وشرح اللمع لابن جني ولم يكمله. وكانت فيه بزازة وقلة اكتراث بألفاكل والملابس، وسخ الثياب يسقى في جرة مكسورة، وما تأهل قط ولا تسرى. وذكر العماد انه كان بينه وبينه صحبة ومكاتبات، قال: ولما مات رأيته في المنام فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: خيراً، فقلت: فهل يرحم الله الأدباء؟ فقال: نعم، فقلت: وإن كانوا مقصرين؟ فقال: يجري عتاب كثير ثم يكون بعده النعيم. انتهى. قلت فافهم معنى هذا الكلام أيها الواقف عليه، إنما ذكر هذا للمقصرين في الخيرات لا للماصين أولي السيئات كأمثالنا. نسأل الله الكريم أن يسامحنا ويعفو عنا.(3/287)
وفيها توفي العاضد لدين الله عبد الله ابن الحافظ لدين الله العبيدي المصري، أحد خلفاء ألفاطنية. وفي أيامه قدم حسين بن نزار بن المستنصري في جموع من المغرب، فلما قرب منه غدر به أصحابه، وقبضوا عليه وحملوه إلى العاضد، فذبحه صبراً. وكان موت العاضد بإسهال مفرط، وقيل: مات غماً لما سمع بقطع خطبته. وفيها توفي أبو الحسن بن النعمة على بن عبد الله الأنصاري الأندلسي، أحد الأعلام، تصدر لإقراء القرآن والحديث الفقه والنحو واللغة، وكان عألفا حافظاً للفقه والتفاسير ومعاني الآثار، مقدماً في علم اللمان -، فصيحاً مفوهاً ورعاً فاضلاً معظماً، دمث الأخلاق. انتهت إليه رئاسة الإقراء والفتوى، وصنف كتاباً كبيراً في شرح سنن النسائي بلغ فيه الداية. وفيها توفي أبو المظفر محمد بن أسعد بن الحكي، كان له القبول الشام في الوعظ بدمشق، سمع ودرس وصنف تفسير القرآن، وشرح مقامات الحريري. وفيها توفي أبو حامد النووي الطوسي الفقيه الشافعي محمد بن محمد، تلميذ محمد ابن يحيى. كان إليه المنتهى في معرفة علم الكلام والنظر والبلاغة والجدل، بارعاً في معرفة مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري، وصنف في الخلاف تعليقة جيدة، وله جدل مليح سماه: المقترح في المصطلح، أكثر الفقهاء الاشتغال به، وشرحه الفقيه أبو الفتح مظفز بن عبد الله المصري شرحاً مستوفي، وكان حلو العبارة ذا فصاحة وبراعة، دخل بغداد فصادف قبولاً وافراً من الشام وألفاص، وكان يحضر عنده كل يوم خلق كثير، وله حلقة المناظرة بجامع القصر، ويحضر عنده المدرسون والأعيان، ويجلس للوعظ في النظامتة - ومدرسها يومئذ ألفاشي أحمد بن عبد الله - وكان هو يدرس في المدرسة النهائية قريباً من النظامية، يذكر فيها كل يوم عدة دروس. وذكر بعض المؤرخين أنه وعظ، وبعد صيته، وشغب على الحنابلة فأصبح ميتاً ويقال إن الحنابلة أهدوا له مع امرأة صحن حلواء مسمومة.(3/288)
وفيها توفي الإمام أبو بكر الأزدي يحيى بن سعدون القرطبي النحوي، نزيل الموصل وشيخها، سمع بقرطبة ومصر وبغداد، وأخذ عن الزمخشري وبرع في العربية والقراءات، وتصدر فيها مدة. وكان ذا عبادة وورع، وتبحر في العلوم. وفيها توفي أبو الفتوح نصرالله بن قلانس ألفاعر اللخمي الإسكندري. كان شاعراً مجيداً وفاضلاً نبيلاً، صحب الشيخ الحافظ أبا طاهر السلفي، وانتفع بصحبته، وأثنى عليه الحافظ المذكور، ودخل بلاد اليمن، وامتدح بعض الوزارء في مدينة عدن، فأحسن إليه وأجزل صلتة، تم ركب البحر فغرق جميع ما كان معه، فعاد إليه عرياناً، وأنشده قصيدة مطلعها:
صدرنا وقد نادى السماح بنا ردوا ... فعدنا إلى مغناك والعود أمد
وأنشده أيضاً قصيدة مفتتحها:
سافر إذا حاولت قدراً ... سار الهلال فعاد بدرا
والماء يكسب ماجرى ... طيبا ًويخبث ما استقرا
وتنقل الدرر النفيسة ... بدلت بالبحر نحرا
ومعنى البيت الثاني مأخوذ من قول بديع الزمان: الماء إذا طال مكثه ظهر خبثه. والبيت الثالث مأخوذ من قول صرد ألفاعر وهو:
نقل ركابك في الفلا ... ودع الغواني في الخدور
لولا التنقل ما ارتقى ... درر البحور إلى النحور
سنة ثمان وستين وخمس مائة
فيها دخل قراقوش - بألفاق مكررة والشين المعجمة - ابن أخي السلطان صلاح الدين بلاد المغرب، فنازل طرابلس مدة وافتتحها - وكان للفرنج -. وفيها سار شمس الدولة أخو صلاح الدين إلى اليمن، فافتتحها وقبض على المتغلب عليها الزنديق المسمى بعبد النبي.(3/289)
وفيها حاصر صلاح الدين الكرك، ولم يفتتحها في هذه المرة. وفيها سار نور الدين فافتتح بهنسة وغيرها، ثم دخل الموصل، ودان له صاحب إلىوم. وفيها توفي الأمير نجم الدين أيوب بن شاذي - بالشين والذال المعجمتين - ويلقب بالملك الأفضل، والد الملوك: صلاح الدين وسيف الدين وشمس الدولة وسيف الإسلام وشاهنشاه وتاج الملوك بوري وست الشام وربيعة خاتون، وأخو الملك أسد الدين. شب به فرسه، فحمل إلى داره ومات بعد أيام، وكان يلقب بالأجل الأفضل. وأول ما ولي نجم الدين المذكور ولاية قلعة تكريت بعد ولاية أبيه لها بتولية وإليها نائب السلطان غياث الدين مسعود السلجوقي، ثم إن النائب المذكورغضب على نجم الدين بسبب أخيه أسد الدين، وذلك أنه مرت عليه امرأة باكية، فسألها كن سبب بكأنها، فذكرت له أنه تعرض لها إنسان، فتناول أسد الدين حربة بيد ذلك الإنسان، وضربه بها فقتله، فأمسكه أخوه نجم الدين واعتقله، وكتب إلى النائب يعرفه بذلك، فوصل جوابه وهو يقول لأبيكما: علي حق، وبيني وبينه مودة مؤكدة، فما يمكنني أن أكافئكما بسيئة تصدر مني ولكني أشتهي منكما أن تخرجا من بلدي. فلما وصلهما الجواب ما أمكنهما المقام بتكريت، فخرجا منها، ووصلا إلى الموصل، فأحسن إليهما الأتابك عماد الدين زنكي، وزاد في إكرامهما والإنعام عليهما، وأقطعهما إقطاعاً جسناً، ثم لما ملك الأتابك قلعة بعلبك استخلف بها نجم الدين أيوب، وفيها بنى خانقاهاً للصوفية يقال لها النجمية - وهي منسوبة إليه - عمرها في مدة إقامته بها، وكان رجلاً مباركاً كثير الصلاح مائلاً إلى أهل الخير، حسن النية جميل الطوية، ديناً عاقلاً كريماً، وفي سيرته وما جرى له كلام طويل ذكروا في آخره أنه لما تولى ولده صلاح الدين وزارة الديار المصرية في أيام العاضد صاحب مصر من العبيديين استدعى أباه نجم الدين المذكور من الشام. - وكان في دمشق في خدمة السلطان نور الدين محمود بن زنكي - فجهزه نور الدين وأرسله إليه، فدخل القاهرة لست بقين من رجب سنة خمس وستين وخمسمائة، وخرج العاضد إلى لقائه إكراماً لولده صلاح الدين، وفعل معه من الأدب ما هو اللائق بمثله، وعرض صلاح الدين على والده المذكور أمر الوزارة كله، وجعله له فأبى(3/290)
وقال: يا ولدي؛ ما اختارك الله لهذا الأمر إلا وأنت أهل له، ولا ينبغي أن تغير موضع السعادة. ولم يزل عنده حتى استقل صلاح الدين بمملكة البلاد - كما سيأتي في ترجمته - ثم خرج صلاح الدين إلى الكرك ليحاصرها، وأبوه بالقاهرة، فركب يوماً ليسير على عادة الجند فخرج من باب النصر - أحد أبواب القاهرة - فشبت به فرسه، فألقاه، وبقي متألفا أياماً، ثم توفي - رحمه الله تعالى -. وفيها توفي ملك النحاة أبو نزار الحسن بن صافي البغدادي. كان نحوياً بارعاً، أصولياً متكلماً، رئيساً ماجداً، قدم دمشق واشتغل بها، وصنف في الفقه والنحو والكلام، وعاش ثمانين سنة. وسمع الحديث، وقرأ مذهب الإمام الشافعي وأصول الدين على أبي عبد الله القيرواني، والخلاف على أسعد الميهن، وأصول الفقه على أبي الفتح بن برهان صاحب الوجيز والوسيط في أصول الفقه، وقرأ النحو على الفصيحي، والفصيحي قرأ على عبد القاهر الجرجاني صاحب الجمل الصغير، وسافر إلى خراسان وكرمان وغزنة، ورحل إلى الشام، واستوطن دمشق وتوفي بها. وله مصنفات كثيرة في الفقه والأصلين والنحو، وله ديوان شعر، ومدح النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بقصيدة، ومن شعره:
سلوت بحمد الله عنها فأصبحت ... دواعي الهوى من نحوها لا أجيبها
على أنني لا شامتإن أصابهابلاء، راض لواش بعيبها
ولقب نفسه ملك النحاة وكان يسخط على من يخاطبه بغير ذلك وأخذ عنه جماعة ادباء كثيراً واتفقوا على فضله ومعرفته.
سنة تسع وستين وخمس مائة
فيها توفي الملك العادل نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي، كان ملكاً عادلاً زاهداً عابداً ورعاً متمسكاً بالشريعة مائلاً إلى الخير مجاهداً في سبيل الله كثير الصدقات، بنى المدارس في بلاد الإسلام الكبار مثل دمشق وحلب وبعلبك ومنبج والرحب، وبنى بمدينة الموصل الجامع النوري، وبحماة الجامع الذي على نهر العاصي، وجامع(3/291)
الره، وجامع منبج، ومارستان دمشق، ودار الحديث بها، وله من المناقب وألفاثر والمفاخر ما يستغرق الوصف، وكان في الأولياء معدوداً من الأربعين، وصلاح الدين من الثلاث مائة، ذكر ذلك بعض الشيوخ العارفين. لما قتل أبوه سار في خدمته صلاح الدين محمد بن أيوب وعساكر الشام إلى مدينة حلب وحماة وحمص ومنبج وحران فملكها، وملك أخوه سيف الدين الموصل وما والاها، ثم إن نور الدين نزل على دمشق محاصراً لها - وصاحبها يومئذ مجير الدين أتابك الملك رواق بن تتش بالمثناة من فوق مكررة ثم الشين المعجمة السلجوقي - وكان نزول نور الدين عليها ثالث صفر سنة تسع واربعين وخمس مائة، وملكها يوم الأحد تاسع الشهر المذكور، ثم استولى على بقية بلاد الشام من حمص وحماة وبعلبك - وهو الذي بنى سورها - ومنبج وما بين ذلك، وافتتح من بلاد الروم عدة حصون منها مرعش وبهنسا وتلك الأطراف، وافتتح أيضاً من بلاد الفرنج أيضاً حارم وعزاز وبانياس وغير ذلك مما يزيد عدته على خمسين حصناً، ثم سير الأمير أسد الدين عم صلاح الدين إلى مصر ثلاث مرات، وملكها السلطان صلاح الدين في المرة الثالثة نيابة عنه، وجعل اسمه في الخطبة والسكة.(3/292)
وكان بينه وبين أبي الحسن سنان بن سليمان بن محمد الملقب راشد الدين صاحب قلاع الإسماعيلية ومقدم الفرقة الباطنية - وإليه تنسب الطائفة السنية مكاتبات ومحاورات بسبب المحاورة - فكتب إليه نور الدين في بعض الأزمنة كتاباً يهدده فيه ويتواعده بسب اقتضاء ذلك، فشق على سنان، فكتب جوابه أبياتاً ورسالة:
يا ذا الذي بقراع السيف هددنا ... لا قام مصرع جنبي حين تصرعه
قام الحمام إلى البازي يهدد ... فاستيقظت لأسود البر أصيعه
أضحى يسدفم الأفعى بإصبعهيكفيه ما قد تلاقي منه إصبعه
وقفنا على تفصيله وحمله وعلمنا ما هددنا به من قوله وعمله، فيا لله العجب من ذبابة تطن في أذن فيل وبعوضة تعد في التماثيل، ولقد قالها من قبلك قوم آخرون فدمرنا عليهم ما كان لهم من ناصرين، أو للحق تدحضون وللباطل تنصرون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. وأما ما صدر من قولك في قطع رأسي وقلعك لقلاعي من الجبال الرواسي فتلك أماني كاذبة وخيالالت غير صائبة، فإن الجواهر لا تزول بالأعراض كما أن الأرواح لا تضمحل بالأمراض، كم من قوي وضعيف، ودنيء وشريف، فإن عدنا إلى الظواهر والمحسوسات، وعدلنا عن البواطن والمعقولات فلنا أسوة رسول - الله صلى الله عليه وآله وسلم - في قوله: " ما أوذي نبي ما أوذيت "، وقد علمتم ما جرى على عترته وأهل بيته وشيعته، والحال ما حال والأمر ما زال، ولله الحمد في الآخرة والأولى إذ نحن مظلومون لا ظالمون، ومغصوبون لا غاصبون، وإذا " جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً "، وقد علمتم ظاهر حالنا وكيفية رحالنا، وما يتمنوه من الفوت ويتقربون به إلى حياض الموت قل " فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين "، - الجمعة 6و7 - وفي أمثال العاقة السائرة: أو للبط تهددون بالشط؟ فهيىء للبلايا جلباباً، وتدرع للرزايا أثواباً، فلأظهرن عليك منك ولأتعبنهم فيك عنك، فتكون كالباحث عن حتفه بظلفه، والجادع مارن أنفه بكفه، وما ذلك على الله بعزيز. وفي رواية: فإذا وقفت على كتابنا هذا فكن لأمرنا بالمرصاد ومن حالك على اقتصاد، واقرأ أول النحل وآخر ص. والصحيح أنه كتب هذا اللفظ إلى السلطان صلاح الدين بن أبي أيوب، وبالجملة فإن محاسن نور الدين كثيرة، وسيرته في حسنها شهيرة. وكانت وفاته - رحمه الله تعالى - بعلة(3/293)
الخوانيق، وأشار عليه الأطباء بالقصد فامتنع، وكان مهيباً فما روجع ودفن في بيت بقلعة دمشق كان يلازم الجلوس فيه والمبيت أيضاً، ثم نقل إلى تربته بالمدرسة التي أنشأها عند باب سوق الخواصين. وروي عن جماعة أن الدعاء عند قبره مستجاب، وكانت ولادته سنة إحدى عشرة وخمس مائة، فجميع عمره نيف وخمسون سنة، وكان قد عهد بالملك إلى ولده الملك الصالح اسماعيل، فقام من بعده، وخرج السلطان صلاح الدين من مصر، وملك دمشق وغيرها في بلاد الشام، وتركه في مدينة حلب، ولم يزل بها حتى توفي سنة سبع وسبعين وخمسمائة. وكان لموته وقع عظيم في قلوب الناس، وتأسفوا عليه لأنه كان محسناً محمود السيرة - رحمه الله تعالى -. وفيها وعظ الشهاب الطوسي ببغداد فقال: ابن ملجم لم يكفر بقتل علي - رضي الله تعالى عنه - فرجموه بالآجر، وهاجت الشيعة، فلولا العلماء لقتل، وحرقوا منبره، وهيؤوا له للمعياد الآتي قوارير النفط - ليحرقوه، ولامه نقيب النقباء، فأساء الأدب، فنفوه، فذهب إلى مصر وارتفع بها شأنه وعظم. وفيها توفي الحافظ أبوعلي العطار الحسن بن أحمد الهمداني المقرىء الأستاذ، شيخ همدان وقارئها وحافظها. رحل وحمل القراءات والحديث، قرأ بواسطة علي القلانسي، وببغداد على جماعة، وسمع من ابن بيان وطبقته، وبخراسان من الفراوي وطبقته، وبرع على حافظ زمانه في حفظ ما يتعلق بالحديث من الأنساب والتواريخ والأسماء والكنى والقصص والسير، وله تصانيف في القراءات والحديث والرقائق في مجلدات كبيرة، منها كتاب زاد المسافر خمسون مجلداً. وكان إماماً في العربية، وحفظ في اللغة كتاب الجمهرة، وأخرج جميع ما ورثه، وكان أبوه تاجراً، وسافر مراراً ماشياً يحمل كتبه على ظهره، ويبيت في المساجد، ويأكل خبز الدخن إلى أن نشر الله تعالى ذكره في الآفاق. قال ابن النجار: هو إمام في علوم القرآن والحديث والأدب والزهد والتمسك بالأثر. وفيها توفي سعيد بن المبارك البغدادي النحوي المعروف بابن الدهان، صاحب التصانيف الكثيرة، ألف شرحاً للإيضاح في ثلاثة وأربعين مجلداً، وكان سيبويه زمانه. وفيها توفي المسمى بعبد النبي ابن المهدي، الذي تغلب على اليمن، وتلقب(3/294)
بالمهدي. وكان أبوه أيضاً قد استولى على اليمن، فظلم وغشم وذبح الأطفال، وكان باطنياً من دعاة المصريين بني عبيد، وهلك سنة ست وستين، وقام بعده ولده المذكور فاستباح الحرائر وتمرد على الله فقتله شمس الدولة كما مضى. وفيها توفي الفقيه عمارة بن علي بن زيدان الحكمي المذحجي اليمني الشافعي الفرضي نزيل مصر وشاعر العصر. كان شديد التعصب للسنة أديباً
ماهراً، ولم يزل يماشي الحال في دولة المصريين إلى أن ملك صلاح الدين فمدحه، ثم إنه شرع في أمور وأخذ مع رفاق من الرؤساء في التعصب للعبيديين وإعادة دولتهم، فنقل أمرهم - وكانوا ثمانية - إلى صلاح الدين، فسبقهم في رمضان. ذكر في بعض تآليفه أنه من قحطان، وأن وطنه من تهامه اليمن: مدينة يقال لها برطان، من وادي سباع، وبعدها من مكة في مهب الجنوب أحد عشر يوماً. واشتغل بالفقه في زبيد مدة أربع سنين، وحج سنة تسع وأربعين وخمس مائة، وسيره قاسم بن هاشم صاحب مكة - شرفها الله تعالى - إلى الديار المصرية - وصاحبها يومئذ الفائزين الظافر - ومدحه ووزيره بقصيدة يقول فيها: هراً، ولم يزل يماشي الحال في دولة المصريين إلى أن ملك صلاح الدين فمدحه، ثم إنه شرع في أمور وأخذ مع رفاق من الرؤساء في التعصب للعبيديين وإعادة دولتهم، فنقل أمرهم - وكانوا ثمانية - إلى صلاح الدين، فسبقهم في رمضان. ذكر في بعض تآليفه أنه من قحطان، وأن وطنه من تهامه اليمن: مدينة يقال لها برطان، من وادي سباع، وبعدها من مكة في مهب الجنوب أحد عشر يوماً. واشتغل بالفقه في زبيد مدة أربع سنين، وحج سنة تسع وأربعين وخمس مائة، وسيره قاسم بن هاشم صاحب مكة - شرفها الله تعالى - إلى الديار المصرية - وصاحبها يومئذ الفائزين الظافر - ومدحه ووزيره بقصيدة يقول فيها:
الحمد للعيش بعد العزم والهمم ... حمداً يقوم بما أوليت من نعم
لا أجحد الحق عندي للركاب به ... تمنيت اللجم فيها ريتة الخطم
قرير، بعد مرار العيش من نظري ... حتى رأيت إمام العصر من أمم
وأجري من الكعبة البطحاء والحرم ... السامي إلى كعبة المعروف والكرم
إلى أن قال:
أقسمت بالفائز المعصوم معتقداً ... فوز النجاة، وأجري البر في القسم
لقد حمى الدين والدنيا وأهلهم ... وزيره الصالح الفراج للغمم
خليفة ووزير مد عدلهما ... ظلاً على مفرق الإسلام والأمم
زيادة النيل نقص عند فيضهما ... فما عسى تتعاطى منية الديم
فاستحسنا قصيدته، وأجز لاصلته، ثم رجع متوجهاً إلى مكة، ثم منها إلى زبيد في سنة إحدى وخمسين، ثم حج من عامه، فأعاده صاحب مكة المذكور في رسالة إلى مصر(3/295)
مرة ثانية، فاستوطنها ولم يفارقها بعد. وكانت بينه وبين الكامل بن شاور صحبة مؤكدة قبل وزارته، فلما وزر استحال عليه فكتب إليه:
إذا لم يسالمك الزمان فحارب ... وباعد إذا لم تنتفع بالأقارب
ولا تحتقر كبداً ضعيفاً فربما ... تموت الأفاعي من سموم العقارب
فقد هد قدماً عرش بليقس هدهد ... وخرب فأر قبل ذا سد مأرب
إذا كان رأس ألفال عمرك فاحترز ... عليه من الإنفاق في غير واجب
مع أبيات اخرى بالغة في الحسن، وقوله: من أمم هو بفتح الهمزة والميم الأولى، يقال: أخذت ذلك من أمم أي من قرب. قال زهير: وحيره ما هم لو أنهم أمم أي: لو أنهم بالقرب مني. والأمم أيضاً الشيء اليسير، يقال: ما سألت إلا أمماً. وأما الأمم بضم الهمزة في قوله: ظل على مفرق الإسلام والأمم فهو جمع أمة.
سنة سبعين وخمس مائة
فيها قدم صلاح الدين وأخذ دمشق بلا ضربة ولا طعنة، وسار الصالح اسماعيل في حاشيته إلى حلب، ثم سار صلاح الدين فحاصر حمص بالمجانيق، ثم سار فأخذ حماة، ثم حاصر حلب، ثم رد وتسلم حمص، ثم عطف إلى بعلبك فتسلمها، ثم كر والتقى صاحب الموصل مسعود بن مودود فإنهزم عسكر الموصل أسوأ هزيمة، ثم وقع الصلح. واستناب بدمشق أخاه سيف الإسلام، وكان بمصر أخوه العادل. وفيها توفي أحمد بن المبارك خادم الشيخ عبد القادر الذي كان يبسط المرقعة له على الكرسي. وفيها توفي القاضي علي بن عمر بن عبد العزيز بن قرة اليمني. كان حافظاً في التفسير واعظاً على المنابر، مقبول الكلمة في أهل بلده عارفاً بتأويل الرؤيا. قيل: إن رجلاً رأى في المنام الفقيه نعيماً العشاري الذي كان يحفظ عشرة علوم، فسأله عن رؤيا فقال: إن تأويل الرؤيا يا صرف عني إلى القاضي علي بن عمر. توفي في الطرية - بتشديد الياء المثناة من تحت وفتح الطاء المهملة وكسر الراء - قرية في ناحية مسجد الرباط من بلاد اليمن بساحل عدن.
سنة احدى وسبعين وخمس مائة
فيها شنق السلطان المبتدع ابن مهدي - الملقب نفسه عبد(3/296)
النبي - هو وأخوه أحمد في زبيد برسم السلطان شمس الدولة أول من ملك اليمن من بني أيوب. وابن مهدي المذكور من الآفات الكائنات والبليات والفتن العظيمات في بلاد اليمن. وفيها نقض صاحب الموصل الصلح، وسار إلى السلطان سيف الدين غازي، فالتقاه صلاح الدين بنواحي حلب، فانهزم غازي وجمعه - وكانوا ستة آلاف وخمس مائة - لم يقتل سوى رجل واحد، ثم سار صلاح الدين فأخذ منبج ثم نازل قلعة عزاز، ووثب عليه الإسماعيلية فجرحوه في خد، فأخذوا وقتلوا، وافتتح القلعة، ثم نازل حلب شهراً، ثم وقع الصلح: وترحل عنهم، وأطلق قلعة عزاز لولد السلطان نور الدين علي. وفيها توفي الفقيه الإمام المحدث البارع الحافظ المتقن الضابط ذو العلم الواسع شيخ الإسلام. ومحدث الشام ناصر السنة قامع البدعة، زين الحافظ بحر العلوم الزاخر، رئيس المحدثين المقر له بالتقدم، العارف ألفاهر ثقة الدين أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله ابن عساكر، الذي اشتهر في زمانه بعلو شأنه، ولم ير مثله في أقرانه، الجامع بين المعقول والمنقول، والمميز بين الصحيح والمعلوم، كان محدث زمانه ومن أعيان الفقهاء الشافعية، غلب عليه الحديث واشتهر به، وبالغ في طلبه إلى أن جمع منه ما لم يتفق لغيره، رحل وطوف، وجاب البلاد ولقي المشايخ، وكان رفيق الحافظ أبي سعد عبد الكريم بن السمعاني في الرحلة، وكان أبو القاسم المذكور حافظاً ديناً جمع بين معرفة المتون والاسانيد، سمع ببغداد في سنة عشر وخمسمائة من أصحاب البرمكي والتنوخي والجوهري، ثم رجع إلى دمشق، ثم رحل إلى خراسان، ودخل نيسابور وهراة وأصبهان والجبال، وصنف التصانيف المفيدة، وخرج التخاريج، وكان حسن الكلام على الأحاديث محظوظاً على الجمع والتأليف، صنف التاريخ الكبير لدمشق في ثمانين مجلداً، أتى فيه بالعجائب، وهوعلى نسق تاريخ بغداد.(3/297)
قال الإمام ابن خلكان: قال لي شيخنا الحافظ العلامة زكي الدين أبو محمد عبد العظيم المنذري - رحمه الله تعالى - وقد جرى ذكر تاريخ ابن عساكر المذكور، وأخرج لي منه مجلداً، وطال الحديث في أمره واستعظامه: ما أظن هذا الرجل إلا عزم على وضع هذا التاريخ من يوم عقل على نفسه، وشرع في الجمع من ذلك الوقت، وإلا فالعمر يقصرعن أن يجمع الإنسان فيه مثل هذا الكتاب بعد الاشتغال والتنبيه. قال: ولقد قال الحق، ومن وقف عليه عرف حقيقة هذا القول، ومتى يتسع الإنسان الوقت حتى يضع مثله، وهذا الذي ظهر هو الذي اختاره، وما صح له إلا بعد مسودات ما يكاد ينضبط حصرها، وله تآليف حسنة غيره، وأخرى ممتعة، قال: وله شعر لا بأس به، فمن ذلك قوله على ما قيل:
ألا إن الحديث أجل علم ... وأشرفه الأحاديث العوالي
وأنفع كل علم منه عندي ... وأحسنه الفوائد في الأمالي
وإنك لن ترى للعلم شيئاً ... محققه كأفواه الرجال
فكن يا صاح ذا حرص عليه ... وخذه من الرجال بلا ملال
ولا تأخذه من صحف فترمى ... من التصحيف بالداء العضال
ومن المنسوب إليه أيضاً:
أيا نفس ويحك جاء المشيب ... فماذا التصابي وماذا العزل
تولى شبابي كأن لم يكن ... وجاء مشيبي كأن لم يزل
كأني بنفسي على غرة ... وخطب المنون بها قد نزل
فياليت شعري ممن أكوان ... وما قدر الله لي في الأزل
وقد التزم في هذه الأبيات ما لا يلزم، وهو اطراد الزاي قبل اللام، والبيت الثاني هو بيت علي بن جبلة حيث يقول:
شباب كأن لم يكن ... وشيب كأن لم يزل
وليس بينهما إلا تغييريسير كما تراه. وقال بعض أهل العلم بالحديث والتواريخ: ساد أهل زمانه في الحديث ورجاله، وبلغ فيه الذروة العليا، ومن تصفح تاريخه علم منزلة الرجل في الحفظ. قلت: بل من تأمل تصانيفه من حيث الجملة علم مكانه في الحفظ والضبط للعلم والاطلاع وجودة الفهم والبلاغة والتحقيق والاتساع في العلوم، وفضائل تحتها من المناقب والمحاسن كل طائل. ومن تآليفه الشهيرة المشتملة على الفضائل الكثيرة كتاب: تبيين كذب المفتري فيما ذسب إلى الشيخ الإمام أبي الحسن الأشعري. جمع فيه بين حسن العبارة والبلاغة والإيضاح والتحقيق(3/298)
واستعياب الأدلة النقلية وطرقها، مع إسناد كل طريق. وذكر فيه طبقات أعيان أصحابه من زمان الشيخ أبي الحسن إلى زمانه، وأوضح ماله من المناقب والمكارم والفضائل والعزائم ورد إلى من رماه وافترى عليه بالعظائم. قلت: وكتابه المذكور الذي وفق لإنشائه ووضعه، قد اختصرته أنا في نحو من ربعه وسميته: الشاش المعلم شاؤش كتاب المرهم. المعلم بشرف المفاخر العلية في مناقب الأئمة الأشعرية، ذكر هو فيه قريباً من ثمانين إماماً من أعيان الأئمة الأشعرية، ووفيته فيما اختصرته مائة من الأئمة الجلة النقية، واختصاري له بحذف الأسانيد اختصاراً على ما هو المقصود والمراد من ذكر أعيان الأئمة المشهورين بالموافقة في الاعتقاد، والرد على المبتدعين أولي الزيغ والإلحاد. وكان ابن عساكر المذكور - رضي الله عنه - حسن السيرة والسريرة. قال الحافظ الرئيس أبو المواهب: لو أر مثله، ولا من اجتمع فيه من لزوم طريقة واحدة منذ أربعين سنة من لزوم الصلوات في الصف الأول إلا من عذر والاعتكاف في شهر رمضان وعشر ذي الحجة، وعدم التطلع وتحصيل الأملاك وبناء الدور، قد أسقط ذلك عن نفسه، وأعرض عن طلب المناصب من الإمامة والخطابة إياها بعد ما عرضت عليه، وقلة الالتفات - أو قال -: عدم الالتفات إلى الأمراء، وأخذ نفسه بالأمر بالمعروف والنهي عن المكنر، لا تأخذه في الله لومة لائم، ذكره الإمام الحافظ ابن النجار في تاريخه فقال: إمام المحدثين في وقته، ومن انتهت إليه الرئاسة في الحفظ والإتقان والمعرفة التامة والثقة، وبه ختم هذا الشأن. وقال ابنه الحافظ أبو محمد القاسم: كان أبي - رحمه الله تعالى - مواظباً على صلاة الجماعة وتلاوة القرآن، يختم في كل جمعة، وفي شهر رمضان في كل يوم، ويحيي ليلة النصف للعيدين، وكان كثير النوافل والإذكار، ويحاسب نفسه على كل لحظة يذهب في غير طاعة. سمع من جماعة من المحدثين كثيرين نحواً من ألف وثلاث مائة شيخ وثمانين امرأة، وحدث بأصبهان وخراسان وبغداد وغيرها من البلاد، وسمع منه جماعة من كبار الحفاظ وخلق كثير وجم غفير. وقال الحافظ عبد القاهر الرهاوي: رأيت الحافظ السلفي والحافظ أبا العلاء الهمداني والحافظ أبا موسى المدني، فما رأيت فيهم مثل ابن عساكر رحمه الله تعالى. وفيها توفي السيد الفقيه الورع الزاهد أبو بكر بن سالم بن عبد الله من جبال اليمن،(3/299)
استأذن عليه السلطان شمس الدولة، فتبرك بالسلام عليه واستسعد بالنظر إليه، وسأله الدعاء وأن يمسح له على بدنه. وفيها توفي جعدة العطاردي الإمام مجد الدين الفقيه الشافعي الأصولي الواعظ أبو منصور محمد بن أسعد - الطوسي - تلميذ الإمام البغوي، وراوي كتابيه: شرح السنة ومعالم التنزيل. دخل بلداناً كثيرة، وتفقه وبعد صيته في الوعظ، هكذا ذكر بعضهم. وقال ابن خلكان: كان فقيهاً فاضلاً واعظاً فصيحاً أصولياً، اشتغل على الإمام السمعاني، ثم على الإمام البغوي، وذكر تنقله إلى مرو، ثم إلى مرو روذ، ثم إلى بخارى، وعوده إلى مرو، وعقد مجلس الوعظ له بها، ثم انتقل إلى العراق، ثم إلى الموصل واجتمع الناس عليه بسبب الوعظ، وسمعوا منه الحديث، وأنشد يوماً على الكرسي من جملة أبياته:
تحية صوب المزن يقرأها الرعد ... على منزل كانت تحل به هند
تأت فأعرناها القلوب صبابة ... وعارية العشاق ليس لهارد
وكانت مجالسه في الوعظ من أحسن المجالس.
سنة اثنتين وسبعين وخمس مائة
فيها أمر السلطان صلاح الدين ببناء السور الكبيرالمحيط بمصر والقاهرة من البر، وطوله تسع وعشرون ألف ذراع وثلاث مائة ذراع بالقاسمي فلم يزل العمل فيه إلى أن مات صلاح الدين. وأنفق عليه أموالاً لا تحصى، وأمر أيضاً بإنشاء قلعة الجبل، ثم توجه إلى الاسكندرية، وسمع الحديث من السلفي. وفيها وقعة مقدم السودان المسمىبالكنز، جمع جيشاً بالصعيد، وسار إلى القاهرة في مائة ألف، فخرج له لحربه نائب مصر سيف الدولة، فالتقوا، فانكسر الكنز، وقتل في(3/300)
المصاف من السودان، قيل: ثمانون ألفاً. وفيها توفي أبو محمد عبد الله بن عبد الله بن عبد الرحمن الأموي العثماني الديباجي محدث الإسكندرية، وكان صالحاً متعففاً يقرىء النحو واللغة والحديث. وفيها توفي أبو الفضل قاضي القضاة ابن السهروردي، ومن جلالته أن السلطان صلاح الدين لما أخذ دمشق وتمنعت عليه القلعة أياماً مشى إلى دار القاضي أبي الفضل المذكور، فانزعج، وخرج ليلقاه فدخل وجلس وقال: طب نفساً، فالأمر أمرك والبلد بلدك.
سنة ثلاث وسبعين وخمس مائة
فيها وقعة الرملة سار صلاح الدين من مصر، فسبى وغنم بلاد عسقلان، وسار إلى الرمل، فالتقى الفرنج، فحملوا على المسلمين وهزموهم، وثبت السلطان صلاح الدين وابن أخيه تقي الدين، ودخل الليل واحتوت الفرنج على العسكر بما فيه، وتمزق العسكر، وعطشوا في الرمال وأستشهدوا جماعة، وتحير صلاح الدين ونجا، وقتل ولد لتقي الدين عمره عشرون سنة، وأشر الأمير الفقيه عيسى الهكاري، وكانت نوبة صعبة، ونزلت الفرنج على حماة، وحاصرتها أربعة أشهر لاشتغال السلطان بلم سعث الجيش. وفيها توفي السلطان أرسلان السلجوقي، والوزير أبو الفرج محمد بن عبد الله بن هبة الله، وكان جواداً سرياً معظماً مهيباً، خرج للحج في تجمل عظيم، فوثب عليه واحد من الباطنية فقتله فى أوائل ذي القعدة.(3/301)
وفيها توفي أبو محمد ابن المأمون الأديب هارون بن العباس العباسي المأموني البغدادي، صاحب التاريخ، وشرح أيضاً مقامات الحريري.
سنة اربع وسبعين وخمس مائة
فيها أخذ ابن قرابا الرافضي، ووجد في بيته يسب الصحابة، فقطعت يده ولسانه، ورجمته العامة، فهرب وسبح في الماء، فرموه بالآجر فغرق، فأخرجوه وأحرقوه. ثم ألحق ذلك بالتتبع على الرافضة، وأحرقت كتبهم، وانقمعوا حتى صاروا إلى ذلة اليهود، وتهيأ عليهم من ذلك ما لم يتهيأ ببغداد نحو مائتين وخمسين سنة. وفيها خرج نائب دمشق فرخ شاه ابن أخي السلطان، فالتقى الفرنج، فهزمهم وقتل مقدما لهم كان يضرب به المثل في الشجاعة. وفيها أطلق السلطان حماة عند موت صاحبها - خاله شهاب الدين - لابن أخيه الملك المظفر تقي الدين عمر ابن شاهنشاه، وأطلق له أيضاً المعرة ومنبج وفاء منه، فبعث إليها نوابه. وفيها توفي حيص بيص أبو الفوارس سعد بن محمد التميمي الشاعر، وله ديوان معروف، وكان وافر الأدب متضلعاً من اللغة، بصيراً بالفقه والمناظرة. وقال الشيخ نصر الله بن محلي: - قال ابن خلكان: وكان من ثقات أهل السنة، رأيت في المنام علي ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنه - فقلت له: يا أمير المؤمنين؛ يفتحون مكة ويقولون: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ثم تم على ولدك الحسين ما تم، فقال لي: أما سمعت أبيات ابن الصيفي في هذا؟!! فقلت لا، فقال: اسمعها منه. ثم استيقظت فبادرت إلى دار ابن الصيفي، فخرج إلي، فذكرت له الرؤيا، فشهق وأجهش بالبكاء، وحلف بالله إن كانت خرجت من فمي أو خطي إلى أحد، وإن كنت نظمتها إلا في ليلتي هذه، ثم أنشدني:
ملكنا فكان العفو منا سجية ... فلما ملكتم سال بالدم أبطح
وحللتم قتل الأسارى وطال ما ... عدونا على الأسراء نعفوا ونصفح
وحسبكم هذا التفاوت بيننا ... وكل إناء بالذي فيه يرشح(3/302)
وإنما قيل له حيص بيص لأنه رأى الناس يوماً في حركة مزعجة وأمر شديد فقال: ما للناس في حيص بيص؟! فبقي عليه هذا اللقب. ومعنى هاتين الكلمتين: الشدة والاختلاط. وفيها توفيت مسندة العراق شهدة بنت أبي نصر أحمد بن الفرج، الكاتبة العابدة الصالحة الدينورية الأصل، البغدادية المولد والوفاة. كانت من أهل كتبة الخط الجيد، وسمع عليها خلق كثير، وكان لها السماع العالي، ألحقت فيه الأصاغر بالأكابر، سمعت من أبي الخطاب نصر بن أحمد بن النضر وأبي عبد الله الحسين بن أحمد بن طلحة الثعالبي، وطراد بن محمد وآخرين واشتهر ذكرها وبعد صيتها، وكانت ذات بر وخير. والدينورية نسبة إلى دينور، قيل بكسر الدال المهملة. قال الحافظ أبو سعد السمعاني بفتحها. وقال ابن خلكان: الأصح الكسر: وهي بلدة من بلاد الجيل نسب إليها جماعة من العلماء. وفيها توفي القدوة المشار إليه بالصلاح والورع والعبادة وإجابة الدعوة أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري الأندلسي، قرأ العربية ولزم أبا بكر بن العربي مدة، وكان من أولياء الله تعالى الذين تذكر بالله رؤيتهم، وآثار مشهورة مشكورة، وكراماته موصوفة معروفة مع الحظ الوافر من الفقه والقراءات. وفها توفي السديد محمد بن هبة الله بن عبد الله السلماسي الفقيه الشافعي، كان إماماً في عسره، تولى الإعادة بالمدرسة النظامية ببغداد، وكان مسدداً في الفتيا، واتقن عدة فنون، وهو الذي شهر طريقة الشريف بالعراق، وقيل إنه كان يذكر بطريقة الشريف والوسيط والمستصفى للغزالي من غير مراجعة كتاب. قصده الناس من البلاد، واشتغلوا عليه، وانتفعوا به، وخرجوا علماء مدرسين مصنفين، من جملتهم الشيخان الإمامان عماد الدين محمد وكمال الدين موسى ولدا يونس، والشيخ شرف الدين أبو المظفر محمد بن علوان بن مهاجر وغيرهم من الأفاضل والسلماسي بفتح السين المهملة واللام والميم وبعد الالف سين ثانية نسبة الى سلماس: وهي مدينة من " بلاد آذربيجان، تخرج به جماعة مشاهير.
سنة خمس وسبعين وخمس مائة
فيها نزل صلاح الدين على بانياس، وأغارت سراياه على الفرنج، ثم أخبر بجمع الفرنج وتهيئهم للمجيء، فبادر في الحال وكبسهم، فإذا هم في ألف قنطارية وعشرة آلاف راجل، فحملوا على المسلمين فثبتوا لهم، ثم حمل المسلمون عليهم فهزموهم، ووضعوا فيهم السيف وأسروا مائتين وستين - أسيراً، منهم مقدم لهم، فاستفك نفسه بألف أسير،(3/303)
وبجملة من الما، وانهزم ملكهم جريحاً. وفيها جاء أرسلان صاحب الروم في عشرين ألفاً، فنهض إليه تقي الدين صاحب حماة وسيف الدين المسطور في ألف فارس، فكبسوا على الروميين، فركبوا خيولهم عري، ونجوا، وحوى تقي الدين الخيام بما فيها، ثم من على الأسرى بأموالهم وسرجهم. وفيها توفي المستضيء بأمر الله بن المستنجد بن المقتفي بن المستظهر بن المقتدي العباسي، وبويع بعد أبيه، وكان ذا دين وحلم وأناة ورأفة ومعروف زائد. قال ابن الجوزي: أظهر من العدل والكرم ما لم نره في أعمارنا، وفرق مالاً عظيماً للهاشميين وفي المدارس، وكان ليس للمال عنده وقع، أو قال: قدر. انتهى كلامه. قيل: وكان يطلب ابن الجوزي، ويأمره بعقد مجلس الوعظ، ويجلس بحيث يسمع ولا يرى. وفي أيامه اختفى الرفض ببغداد ووهي، وأما بمصر والشام فتلاشى، وزالت دعوة العبيديين، وخطب له بديار مصر واليمن وبعض المغرب، وبويع بعده ابنه أحمد الناصر لدين الله. واليسع بن عيسى بن حزم الغافقي المقرىء، أخذ القراءات عن جماعة منهم أبوه، وأقرأ بالاسكندرية والقاهرة، وقربه صلاح الدين واحترمه، وكان فقيهاً مفتياً محدثاً، مقرئاً نساباً اخبارياً بديع الخط، وقيل: هو أول من خطب بالدعوة العباسية بمصر. وفيها توفي الحافظ أبو المحاسن عمر بن علي القرشي الزبيري الدمشقي القاضي نزيل بغداد، صحب أبا النجيب السهروردي، وسمع من أبي الدر ياقوت الرومي وطائفة. وتوفي الحافظ المقرىء محمد بن خير الإشبيلي، فاق الأقران في ضبط القراءات
وبرع في الحديث واشتهر بالإتقان وسعة المعرفة بالعربية. وفيها توفي الحافظ ابن أبي غالب الضرير، برع في الحديث حتى صار يرجع إلى قوله، وانتهى إليه معرفة رجال الحديث وحفظه. وفيها توفي أبو الفضل منوجهر بن محمد الكاتب، كان أديباً فاضلاً مليح الإنشاء حسن الطريقة، روى عن جماعة المقامات عن الحريري.(3/304)
وفيها توفي الأستاذ المقرىء المحقق يوسف بن عبد الله الأندلسي المعروف بابن عباد، أخذ القراءات عن جماعة، وسمع عن خلق كثير، واعتنى بصناعة الحديث، وكتب العالي والنازل، وبرع في معرفة الرجال، وصنف التصانيف الكثيرة.
سنة ست وسبعين وخمس مائة
فيها نزل صلاح الدين على حمص من بلاد الأرمن، فافتتحه وهدمه، ثم رج، فوافاه التقليد وخلع السلطنة من الناصر لدين الله، فركب، وكان يوماً مشهوراً. وفيها قدم السلطان سيف الإسلام بن أيوب إلى بلاد اليمن مولى عليها بعد أخيه شمس الدولة. وفيها توفي القاضي الفقيه العالم الورع الزاهد محمد بن سعيد القريضي - اليمني اللحجي - بسكون الحاء المهملة وكسر الجيم - وكان موصوفاً بالفضائل والمحاسن، وله مصنفات حسنة منها: المستصفى في ذكر سنن المصطفى ومختصر الإحياء قيل إنه رأى صلى الله عليه وآله وسلم - فدعا له بالتثبيت. وفيها توفي القاضي ابن القاضي طاهر ابن الإمام يحيى بن أبي الخير العمراني، تقلد ولاية القضاء في أيام شمس الدولة، ومات في شهفة - يوم الجمعة منتصف ذي الحجة. وفيها توفي أبو طاهر السلفي الحافظ العلامة الكبير مسند الدنيا. وفيها توفي معمر الحفاظ أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد الأصفاني. سمع من الثقفي وأحمد بن عبد الغفار ومكي - الإسلام وخلق كثير، وخرج عنهم في معجم، وحدث بأصبهان قال: وكنت ابن سبع عشرة سنة أو أكثر أو أقل، ورحل تلك السنة فأدرك بها أبا الخطاب وابن البطر ببغداد، وعمل معجماً لشيوخ بغداد، ثم حج وسمع بالحرمين والكوفة والبصرة وهمدان والزنجان والري والدينور وقزوين وأذربيجان والشام ومصر،(3/305)
فأكثر وأطال، وتفقه فأتقن مذهب الشافعي، وبرع في الآدب وجود القرآن بروايات، وكان اشتغاله بالفقه على أبي الحسن الكيا، وفي اللغة على الخطيب يحيى بن علي التبريزي اللغوي، وقصده الناس من الأماكن البعيدة، وسمعوا عليه وانتفعوا به، ولم يكن في آخر عمره في عصره مثله، وبنى له العادل أبو الحسن علي بن السلار - وزير الظافر العبيدي صاحب مصر مدرسة في الإسكندرية، وفوضها إليه ومما وجه بخطه من قصيدة لمحمد بن عبد الجبار الأندلسي.
لولا اشتغال بالأمير ومدحه ... لأطلت في ذاك الغزال تغزلي
لكن أوصاف الجلال غلبنني ... فتركت أوصاف الجمال بمعزل
واستوطن الإسكندرية بضعاً وستين سنة مكباً على الاشتغال والمطالعة والنسخ وتحصيل الكتب، وجاوز المائة بلا ريب، وإنما النزاع في مقدار الزيادة، ومات يوم الجمعة بكرة الخامس ربيع الآخر رحمه الله تعالى. وفيها توفي شمس الدولة الملك المعظم توران شاه بن أيوب بن شاذي، وكان أسن من أخيه صلاح الدين، وكان يحترمه ويتأدب معه. أرسله فغزا النوبة، فسبى وغنم، ثم بعثه فافتتح اليمن - وكانت بيد الخوارج الباطنية - وأقام بها ثلاث سنين، بعثه إليها لما بلغه أن باليمن، إنساناً يسمى عبد النبي بن مهدي يزعم أنه ينتشر ملكه حتى يملك الأرض كلها، وكان قد ملك كثيراً من بلاد اليمن واستولى على حصونها، وخطب لنفسه، فجهز صلاح الدين جيشاً إليها مع أخيه المذكور من الديار المصرية في رجب سنة تسع وستين وخمسمائة، فمضى إليها، ففتح الله على يديه، وقتل الخارجي المذكور الذي كان فيها، وملك معظمها، وأعطى وأغنى خلقاً كثيراً، وكان كريماً أريحياً، ثم اشتاق إلى أطيب الشام ونضارتها، وكان القاضي الفاضل يكتب إليه الرسائل الفائقة، ويودعها شرح الأشواق. وكانت له من أخيه إقطاعات، وتوابه باليمن يجبون له الأموال. ومات وعليه من الديون مائتا ألف دينار، فقضاها عنه أخوه صلاح الدين. ولما تزايد به الشوق قدم إلى الشام وأقام بدمشق نائباً لأخيه، ثم تحول إلى مصر فتوفي بالإسكندرية، فنقل إلى الشام، فدفنته أخته ست الشام بمدرستها التي أنشأتها بظاهر دمشق، فهناك قبره وقبر ولدها حسام الدين، وكان قد تزوجها ناصر الدين، وتوفيت في ذي القعدة سنة ست عشرة وستمائة. وحكى الشيخ الأديب الفاضل مهذب الدين أبو طالب - نزيل مصر قال: رأيت في النوم شمس الدولة وهو ميت، فمدحته بأبيات وهو في القبر، فلف كفنه ورماه إلي(3/306)
وأنشدني:
لا تستقلن معروفاً سمحت به ... ميتاً فأمسيت منه عارياً بدني
ولا تظنن جودي شأنه بخل ... من بعد بذلي ملك الشام واليمن
إني خرجت من الدنيا وليس معي ... من كل ما ملكت كفي سوى كفني
وتوران بضم المثناة من فوق وبعد الواو راء - ومعنى توران شاه: ملك الشرق. وفيها توفي أبو المفاخر المأموني راوي صحيح مسلم بمصر: سعيد بن الحسن العباسي، روى الحديث هو وابنه وحفيده ونافلته. قلت: هكذا قال الذهبي مغايراً بين الحفيد والنافلة، والمعروف اتحادهما، وهما ولدا ولد، نعم قد قيل أيضاً أن الحفدة يطلقون على الأعوان والخدم. وفيها توفي أبو الحسن بن عطار النحوي علي بن عبد الرحمن السلمي، كان علامة اللغة وحجة في العربية.
وفيها توفي أبو العز محمد بن محمد المعروف بابن الخراساني البغدادي الأديب صاحب العروض والنوادر وديوان شعر في مجلدات. كان صاحب طرف وذكاء مفرط وتفنن في الأدب، روى عن جماعة. وفيها توفي صاحب الموصل غازي بن زنكي، كان منطوياً على خير وصلاح، يحب العلم وأهله، وبنى بالموصل المدرسة المعروفة بالعتيقة، وقدم مع سيف الإسلام إلى اليمن. وفي هذه السنة أو بعدها توفي الفقيه الفاضل القاضي أثير الدين قاضي قضاة المسلمين باليمن، وسمع عليه الشهاب وهو ابن اثنتين وسبعين سنة، وسمعه وهو ابن ثلاث سنين، سمعه عليه جماعة. قال ابن سمرة: كنت فيهم. ثم غضب عليه السلطان سيف الإسلام، وحمله رسالة إلى بغداد في صورة طرد وإبعاد، ثم رجع إلى مكة وكتب إلى سيف الإسلام سلطان اليمن:
وما أنا إلا المسك ضاع عندكم ... يضيع وعند الأكرمين يضوع
وفيها توفي - وقيل في سنة تسع - أبو الفضل الشيخ الإمام - رضي الله عنه - الموصلي الشافعي يونس بن محمد بن منعة رضي الدين والد الشيخين: عماد الدين أبي حامد محمد، وكمال الدين أبي الفتح موسى. تفقه الشيخ يونس على الحسين بن نصير السكبي الجهني(3/307)
الملقب تاج الإسلام في الموصل حين قدمها، وكان أصله من أهل إربل، ثم انحدر إلى بغداد، وتفقه بها على الشيخ أبي منصور سعيد بن محمد مدرس النظامية، ثم أصعد إلى الموصل، فصادف بها قبولاً تاماً عند المتولي بها الأمير أبي الحسن - والد الملك المعطم - وجعل إليه تدريس مسجده، وفوض نظره إليه، وكان يدرس ويناظر ويفتي، فقصده الطلاب للاشتغال عليه والمباحثة مع ولديه المذكورين، ولم يزل على قدم الفتوى والتدريس والمناظرة إلى أن توفي بالموصل في السنة المذكورة. وكانوا بيت علم، خرج من بينهم جماعة من الفضلاء، وانتفع بهم أهل تلك البلاد وغيرها، وكانوا مقصودين من بلاد العراق والعجم وغيرها.
وفيها توفي سيف الدين غازي بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكي ين أقسنقر صاحب الموصل، تقلد المملكة بعد وفاة أبيه مودود، ولما توفي والده بلغ الخبر نور الدين، فسار من ليلته طالباً بلاد الموصل، فوصل إلى الرقة في المحرم سنة ست وستين وخمس مائة وملكها، وسار منها إلى نصيبين، فملكها في الشهر المذكور، وأخذ سنجار في ربيع الآخر، ثم قصد الموصل، وقصد أن لا يقاتلها، فعبر بعسكره من محاصة - وهي بليدة بقرب الموصل - وسار حتى خيم قبالة الموصل، وراسل ابن أخيه سيف الدين المذكور، وعرفه صحة قصده، فصالحه، ودخل الموصل وأقر صاحبها فيها، وزوجه ابنته، وأعطى أخاه عماد الدين سنجار، وخرج من الموصل وعاد إلى الشام، ودخل حلب في شعبان من السنة المذكورة، فلما مات نور الدين وملك صلاح الدين دمشق، نزل على حلب فحاصرها، وسير سيف الدين جيشاً مقدمه أخوه عز الدين مسعود، والتقوا عند قرون حماة، فانكسر عز الدين بن مسعود، فتجهز سيف الدين بنفسه، فخرج إلى لقائه وتصافا على تل السلطان بين حلب وحماة - سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، فانكسرت ميسرة صلاح الدين بمظفر الدين بن زين الدين فإنه كان في ميمنة سيف الدين - ثم حمل صلاح الدين بنفسه، فانهزم جيش سيف الدين وعاد إلى حلب، ثم رحل إلى الموصل، ولما توفي سيف الدين تولى بعده أخوه عز الدين مسعود.(3/308)
وفيها توفي الشيخ الكبير الولي الشهير ذو الجاه الواسع المعروف بمدافع.
سنة سبع وسبعين وخمس مائة
فيها توفي الملك الصالح أبو الفتح اسماعيل ابن السلطان نور الدين محمود بن زنكي ختنه أبوه، فزينت دمشق، وعمل وقتاً باهراً، ثم مات أبوه بعد ختانه بأيام، فأوصى له بالسلطنة، فلم يتم له ذلك، وبقيت له حلب، وكان شاباً ديناً عاقلاً محبباً إلى أهل حلب إلى الغابة، بحيث إنهم قاتلوا صلاح الدين قتال الموت لما جاء ليتملكها، وما تركوا شيئاً من مجهودهم، ولما توفي أقاموا عليه المآتم، وبالغرا في النوح والبكاء عليه، وفرشوا الرماد في الطرق وكان عمره تسع عشرة سنة، وأوصى بحلب ابن عمه عز الدين مسعود بن مودود، فجاء وتملكها. وفيها توفي كمال الدين بن الأنباري العبد الصالح أبو البركات عبد الرحمن بن محمد. كان من الأئمة المشار إليهم في علم النحو، وتفقه في مذهب الإمام الشافعي بالمدرسة النظامية، وتصدرلإقراء النحوواللغة، وأخذ اللغة عن أبي منصور بن الجواليقي، والنحو عن أبي السعادات هبة الله بن السجزي الآتي ذكر فضله - إن شاء الله تعالى - وأخذ عنه، وانتفع بصحبته في علم الأدب، واشتغل عليه خلق كثير وصاروا علماء، وصنف في النحو كتاب أسرار العربية، وهو كتاب سهل المأخذ كثير الفائدة وله كتاب الميزان في النحو أيضاً، وكتاب في طبقات الأدباء جمع فيه بين المتقدمين والمتأخرين مع صغر حجمه، وكتبه كلها نافعة، وكان نفسه مباركاً ما قرأ عليه أحد إلا وتميز، ثم انقطع في آخر عمره في بيته مشتغلاً بالعلم العبادة، وترك الدنيا ومجالسة أهلها، ولم يزل على سيرة حميدة زاهداً عابداً. وكانت ولادته في سنة ثلاث عشرة وخمس مائة ببغداد، ودفن في تربة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي. والأنبار: بلدة قديمة على الفرات بينها ويين بغداد عشرة فراسخ. وفيها توفي شيخ الشيوخ أبو الفتح عمر بن علي ابن الشيخ محمد بن حمويه الجويني الصوفي، روى عن جده الفراوي، وجماعة، ونصبه نور الدين شيخ الشيوخ بالشام، وكان وافر الحرمة.
سنة ثمان وسبعين وخمس مائة
فيها سار صلاح الدين فافتتح حران وسروج وسنجار ونصيبين والرقة والبصرة،(3/309)
ونازل الموصل، ولم يظفر بها لحصانتها، ثم جاء رسول الخليفة يأمره بالترحل عنها، فرحل عنها، ورجع، فأخذ عز الدين مسعود، وعوضه بسنجار. وفيها لبس لباس الفتوة الناصر لدين الله من شيخ الفتوة عبد الجبار، وابتهج بذلك، وبقي يلبس الملوك. وفيها بعث صلاح الدين أخاه سيف الإسلام طغتكين بذلك - بالطاء المهملة والغين المعجمة والمثناة من فوق قبل الكاف ومن تحت بعدها ثم النون - على مملكة اليمن، فدخلها وتسلمها من نواب أخيه. وفيها توفي أبو الكرم هبة الله بن علي الأنصاري الخزرجي المصري المعروف بالبوصيري، كان أديباً كاتباً، له سماعات عالية وروايات تفرد بها، والحق الأصاغر بالأكابر في علو الإسناد، ولم يكن في آخر عصره في درجته مثله. سمع بقراءته جماعة من الكبار، ورحل إليه الطلاب من الأمصار. قال الذهبي. وفيها توفي أحمد بن الرفاعي الزاهد القدوة أبو العباس بن علي بن يحيى كان أبوه قد نزل بالبطائح، بالعراق بقرية أم عبيدة، فتزوج بأخت الشيخ منصور الزاهد، فولدت له الشيخ أحمد في سنة خمس مائة، وتفقه قليلاً على مذهب الشافعي، وكان إليه المنتهى في التواضع والقناعة ولين الكلمة، والذل والانكسار والارزاء على نفسه، وسلامة الباطن. ولكن أصحابه فيهم الجيد والرديء، وقد كثر الزغل فيهم، وتحدرت لهم أحوال شيطانية من دخول النيران والركوب على السباع واللعب بالحيات، وهذا ما عرفه الشيخ والأصلحاء أصحابه - فنعوذ بالله من الشيطان. قلت: هذه ترجمة الذهبي عليه في كتابه الموسوم بالعبر، ولم يزد على هذا، وهذا من العجائب في اقتصاره على هذا في ذكر شيخ الشيوخ الذي ملأت شهرته بالمشارق والمغارب، تاج العارفين، وإمام المعرفين، ذي الأنوار الزاهرة، والكرامات القاهرة، والمقامات العلية والأحوال السنية، والبركات العامة، والفضائل الشهيرة بين الخاصة والعامة: أحمد بن أبي الحسن الرفاعي. وقد ذكرت شيئاً من كراماته ومحاسنه في كتابي الموسوم بروض الرياحين، وفي كتاب الموسوم بالأطراف، وهو كما ترجم عليه بعض العلماء الفضلاء المعتقدين في المشايخ والفقراء حيث قال فيه: هو من أجل العارفين وعظماء المحققين وصدور المقربين، صاحب المقامات العلية والأحوال السنية، والأفعال الخارقة. والأنفاس الصادقة، والفتح المؤنق والكشف المشرق، والقلب الأنور والسر الأظهر والقدر الأكبر، والمعارف الباهرة والحقائق الظاهرة، واللطائف الشريفة والهمم(3/310)
المنيفة، والقدم الراسخ في التصريف الناقد، والباع الطويل في أحكام الولاية، خرق الله على يديه العوائد، وقلب له الأعيان، وأظهر العجائب، فله مجلس القرب في الحضرة الشريفة، ورفيع المقام والقبول العظيم عند الخاص والعام، عطرت بذكره الآفاق والأقطار، ولاح منه نور الفلاح، واستطار صيته في الوجود استطارة النار بالرياح. قلت: ومن كراماته ما روى ابن أخته الشيخ الجليل أبو الحسن علي قال: كنت يوماً جالساً عند باب خلوة خالي الشيخ أحمد رضي الله تعالى عنه، وليس فيها غيره، وسمعت عنده حساً، فنظرت فإذا عنده رجل ما رأيته قبل، فتحدثا طويلاً، ثم خرج الرجل من كوة في حائط الخلوة ومر في الهوى كالبرق الخاطف، فدخلت على خالي وقلت له: من الرجل؟ فقال له: أو رأيته؟. قلت: نعم، قال: هو الرجل الذي يحفظ الله - عز وجل - به قطر البحر المحيط، وهو أحد الأربعة الخواص، إلا أنه هجر منذ ثلاث وهو لا يعلم. فقلت له: يا سيدي؛ ما سبب هجره؟ قال: إنه مقيم بجزيرة في البحر المحيط، ومنذ ثلاث ليال أمطرت جزيرته حتى سالت أوديتها، فخطر في نفسه: لو كان هذا المطر في العمران، ثم استغفر الله تعالى، فهجر بسبب اعتراضه. فقلت له: أعلمته؟ قال: لا، إني استحييت منه، فقلت له: لو أذنت لي لأعلمته، فقال: أو تفعل ذلك؟ قلت: نعم، فقال: رنق، فرنقت، ثم سمعت صوتاً: يا علي، ارفع رأسك، فرفعت رأسي من رنقي، فإذا أنا بجزيرة في البحر المحيط فتحيرت في أمري، وقمت أمشي فيها فإذا بذلك الرجل، فسلمت عليه وأخبرته، فقال: ناشدتك الله ألا فعلت ما أقول لك، قلت: نعم، قال: ضع خرقتي في عنقي، واسحبني على وجهي، وناد علي، هذا جزاء من تعرض على الله سبحانه. قال: فوضعت الخرقة في عنقه وهممت بسحبه، وإذا هاتف يقول: يا علي، دعه فقد ضجت عليه ملائكة السماء باكية عليه وسائلة فيه، وقد رضي
عنه. قال: فأغمي علي ساعة، ثم سري عني وإذا أنا بين يدي خالي في خلوته. والله ما أدري كيف ذهبت ولا كيف جئت. قلت وقد اقتصرت على ما يسمع من كراماته في هذه القضية الفردة من بين ما لا يحصى، ولا يستطيع من رام ذلك عده. قال الإمام ابن خلكان: كان شافعي المذهب، أصله من العرب وسكن في البطائح في قرية يقال لها: أم عبيدة، وانضم إليه خلق عظيم، وأحسنوا الاعتقاد فيه وتبعوه. والطائفة المعروفة بالبطائحية والرفاعية من الفقراء منسوبة إليه. قال: ولأتباعه أحوال عجيبة في الحيات والنزول في التنانير وهي تضطرم بالنار فيطفئونها، ويقال إنهم في بلادهم يركبون الأسود، ومثل هذا وأشباهه، ولهم مواسم يجتمع عندهم من الفقراء عالم لا يعد ولا يحصى، ويقومون بكفاية الكل منهم، وأمورهم مشهورة مستفيضة، فلا حاجة إلى الإطالة. وذكر أصحابه وأتباعه ذكراً جميلاً يدل على حسن اعتقاده في الفقراء من حيث الجملة، وحمل أحوالهم على السداد خلافاً لما قدمته عن الذهبي من الطعن فيهم وسوء الاعتقاد. قال ابن خلكان: وكان للشيخ أحمد - على ما كان عليه من الاشتغال بالعبادة - شعر، فمنه على ما قيل: هـ. قال: فأغمي علي ساعة، ثم سري عني وإذا أنا بين يدي خالي في خلوته. والله ما أدري كيف ذهبت ولا كيف جئت. قلت وقد اقتصرت على ما يسمع من كراماته في هذه القضية الفردة من بين ما لا يحصى، ولا يستطيع من رام ذلك عده. قال الإمام ابن خلكان: كان شافعي المذهب، أصله من العرب وسكن في البطائح في قرية يقال لها: أم عبيدة، وانضم إليه خلق عظيم، وأحسنوا الاعتقاد فيه وتبعوه. والطائفة المعروفة بالبطائحية والرفاعية من الفقراء منسوبة إليه. قال: ولأتباعه أحوال عجيبة في الحيات والنزول في التنانير وهي تضطرم بالنار فيطفئونها، ويقال إنهم في بلادهم يركبون الأسود، ومثل هذا وأشباهه، ولهم مواسم يجتمع عندهم من الفقراء عالم لا يعد ولا يحصى، ويقومون بكفاية الكل منهم، وأمورهم مشهورة مستفيضة، فلا حاجة إلى الإطالة. وذكر أصحابه وأتباعه ذكراً جميلاً يدل على حسن اعتقاده في الفقراء من(3/311)
حيث الجملة، وحمل أحوالهم على السداد خلافاً لما قدمته عن الذهبي من الطعن فيهم وسوء الاعتقاد. قال ابن خلكان: وكان للشيخ أحمد - على ما كان عليه من الاشتغال بالعبادة - شعر، فمنه على ما قيل:
إذا جن ليلي هام قلبي بذكركم ... أنوح كما ناح الحمام المطوق
وفوقي سحاب يمطر الهم والأسى ... وتحتي بحار للهوى تتدفق
سلوا أم عمر وكيف بات أسيرها ... تفك الأسارى دونه وهو موثق
فلا هو مقتول ففي القتل راحة ... ولا هو ممنون عليه فيطاق
قال: ولم يزل على تلك الحال إلى أن توفي يوم الخميس الثاني والعشرين من جمادى الأولى من السنة المذكورة بأم عبيدة، وهو في عشر السبعين. والرفاعي بكسر الراء نسبة إلى رجل من العرب يقال له رفاعة، قال: هكذا نقلته من خط بعض أهل بيته، بفتح العين المهملة وكسر الباء الموحدة وسكون المثناة من تحت وقبل الهاء دال مهملة - وهي عدة قرى مجتمعة في وسط الماء بين واسط وبصرة، ولها في العراق شهرة. انتهى. قلت: وذكر غيره أن الأبيات المذكورة سمعها الشيخ سيدي أحمد المذكور من القوال، وكانت سبب موته. وفي مناقبه وما اتصف به من المحاسن والآداب والكرامات العظام مصنف لبعض الأئمة الأعلام، وهو السيد الجليل المعروف بابن عبد المحسن الواسطي. وفي السنة المذكورة توفي الحافظ محدث الأندلس ومؤرخها ومسندها أبو القاسم بن بشكوال خلف بن عبد الملك الخزرجي الأنصاري القرطبي. كان من علماء الأندلس، وله التصانيف المفيدة، منها كتاب الصلة الذي جعله ذيلاً على تاريخ علماء الأندلس تصنيف القاضي أبي الوليد عبد الله بن محمد المعروف بابن الفرضي، وقد جمع فيه خلقاً كثيراً، وله كتاب صغير في أحوال الأندلس - وما أقصر فيه - وكتاب الغوامض والمبهمات، وذكر فيه من جاء ذكره مبهماً في الحديث، فعينه ونسج فيه على منوال الخطيب البغدادي الذي وضعه على هذا الأسلوب، وجزء لطيف ذكر فيه من روى الموطأ عن أنى بن مالك - كذا في الأصل الذي وقفت عليه. من تاريخ ابن خلكان، عن أنى بن مالك - ولم يقل: مالك بن أنس، فإن أراد رواة الموطأ عن أنس بن مالك الصحابي فهو صحيح. وقال: ورتب أسماءهم على حروف المعجم فبلغت عدتهم ثلاثاً وسبعين رجلاً. ومجلد لطيف سماه:(3/312)
كتاب المستعين بالله تعالى عند الحاجات والمهمات والمتضرعين إلى الله سبحانه وتعالى بالرغبات والدعوات وما يسر الله الكريم لهم من الإجابات والكرامات، وله غير ذلك من المصنفات. وفيها توفي خطيب الموصل أبو الفضل عبد الله بن أحمد الطوسي ثم البغدادي. قال ابن النجار: قرأ الفقه والأصول على الكبار وأبي بكر الشاشي، والأدب على أبي زكريا التبريزي، وولي خطابة الموصل زماناً، وتفرد في الدنيا وقصده الرحالون. وفيها توفي الفقيه العلامة أبو المعالي مسعود بن محمد النيسابوري، تفقه على محمد ابن يحيى صاحب الغزالي، وتأدب على أبيه، وسمع من جماعة، وبرع في الوعظ وحصل له القبول ببغداد، ثم قدم دمشق ودرس بالمجاهدية والغزالية، ثم خرج إلى حلب ودرس بالمدرستين اللتين بناهما نور الدين وأسد الدين، ثم ذهب إلى همدان ودرس بها، ثم عاد إلى دمشق ودرس بالغزالية وانتهت إليه رئاسة المذهب بدمشق، وكان حسن الأخلاق قليل التصنع. مات في سلخ رمضان ودفن يوم العيد، وكان عالماً صالحاً ورعاً، صنف كتاب الهادي في الفقه - وهو مختصر نافع -، لم يأت فيه إلا بالقول الذي عليه الفتوى.
سنة تسع وسبعين وخمس مائة
فيها توفي بوري - بضم الموحدة وكسر الراء - ابن أيوب بن شاذي، الملقب بتاج الملك، أخو السلطان صلاح الدين، وهو أصغر أولاد أبيه. قال ابن خلكان: كانت فيه فضيلة، وله ديوان شعر فيه الغث والسمين، ولكنه بالنسبة إلى مثله جيد. ومما نقل عنه من الشعر:
ياحياتي حين ترضى ... ومماتي حين تسخط
آه من ورد على خديه بالمسك منقط ... بين جفنيك سلطان على ضعفي مسلط
قد تصبرت وإن ... برح بي الشوق وأفرط
فلعل الدهر يوماً ... بالتلاقي منك يغلط
ومنه أيضاً:
أيا حامل الرمح الشبيه بقده ... ويا شاهراً سيفاً حكى لحظة غضبا
ضع الرمح واغمد ما سللت فربما ... قتلت، وما حاولت طعناً ولا ضربا(3/313)
ومنه أيضاً:
أقبل من أعشقه راكباً ... من جوانب الغور على أشهب
فقلت: سبحانك يا ذا العلي ... أشرقت الشمس من الغرب
قلت: وجميع أشعاره هذه ليس فيها شيء من الغث الذي ذكر عنه، بل كلها من السمين الحسن المنبىء عن فضيلة اللسن. وكان موته من جراحه أصابته في مدينة حلب يوم حاصرها أخوه صلاح الدين، وكانت طعنة في ركبتي. قال: العماد الأصبهاني في البرق الشامي: بينما صلاح الدين جالس في سماط قد أعده في المخيم ضيافة بعد الصلح، وعماد الدين صاحب حلب إلى جانبه، ونحن في أغبط عيش وأتم سرور، إذ جاء الحاجب إلى صلاح الدين وأسر إليه بموت أخيه، فلم يتغير عن حالته، وأمر بتجهيزه ودفنه سراً وأعطى الضيافة حقها إلى آخرها. ويقال أنه كان يقول: ما أخذنا حلب رخيصة بقتل تاج الملك. وفيهل توفي قاضي زبيد الإمام الفاضل البارع المجود علي بن حسين السيري - بفتح السين المهملة وسكون المثناة من تحت وكسر الراء قرية مصيرة - بضم الميم وفتح الصاد المهملة وسكون المثناة من تحت وفتح الراء - بمخلاف الساعد قافلاً من مكة. وكان مع فضله ورعاً نظيفاً، تفقه على شيوخ زبيد، وأجمع على تفضيله الموالف والمخالف، ويقال إنه أجاب عن ألف مسألة وردت عليه من التعنت التي يمنحه به أهل زبيد على يد القاضي ابن النجاب. قال ابن سمرة في تاريخه؛ ولقد سمعت من بعض المشايخ السادة بشواحط، يعني؛ في جبال اليمن مكاناً يذكر من بعض فضائله وكرمه ما يتعجب منه السامع ويقصر عن بلوغه الطامع، مع ديانته وأمانته. وفيها وقيل بل في سنة ست كما تقدم توفي الإمام رضي الدين يونس الموصلي الشافعي. وفيها توفيت الشيخة الفاضلة تقية بنت غيث - بالغين المعجمة ثم المثناة من تحت ثم المثلثة - ابن علي السلمي الصوري. صبحت الحافظ أبا طاهر محمد بن أحمد السلفي الأصبهاني - وكانت فاضلة ولها شعر جيد - ذكرها في بعض تعاليقه وأثنى عليه، وكتب بخطه: عثرت في منزل سكناي فانجرح أخمصي، فشقت وليدة في الدار خرقة من خمارها وعصبته، فأنشدت تقية المذكورة في الحال لنفسها:(3/314)
لو وجدت السبيل جدت بخدي ... عوضاً من خمار تلك الوليدة
كيف لي أن أقبل اليوم رجلاً ... سلكت دهرها الطريق الحميدة
قال ابن خلكان: وحكى الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري أنها نظمت قصيدة تمدح بها الملك المظفر عمر ابن أخي السلطان صلاح الدين - وكانت القصيدة خمرية - وصفت بها آلة المجلس وما يتعلق بالخمر، فلما وقف عليها قال: الشيخة تعرف هذه الأحوال من زمن صباها. فبلغها ذلك، فنظمت قصيدة أخرى حربية وصفت فيها الحرب وما يتعلق بها أحسن وصف، ثم سيرت بها إليه تقول: علمي بتلك كعلمي بهذه. وكان قصدها براءة ساحتها مما نسبها إليه في صباها. وفيها توفي أبو عبد الله محمد المعروف بالأبله البغدادي الشاعر المشهور، أحد المتأخرين المجيدين، جمع في شعره بين الصناعة والرقة، وله ديوان شعر كثير الوجود بأيدي الناس، ذكره العماد الأصبهاني فقال: هو شاب ظريف يتزي بزي الجند، رقيق أسلوب الشعر حلو الصناعة رائق البراعة، عذب اللفظ أرق من النسيم السحري وأحسن من الوشي التستري، وكل ما ينظمه ولو أنه يسير والمغنون يغنون برانقات أبياته فهم يتهافتون على نظمه المطرب تهافت الطير الحوم على عذب المشرب. ومن رقيق شعره:
دعني أكايد لوعتي وأعاني ... أين الطليق من الأسير العاني
آليت لا أدع الملام بعزتي ... من بعد ما أخذ الغرام عناني
أولى تروض العاذلات وقد أرى ... روضات حسن في خدود حسان
ولدي يلتمس السلو ولم يزل ... حي الصبابة ميت السلوان
يا برق إن تجفو العقيقوطالماأغنته عنكسحائب الأجفان
في قصيدة له طويلة وله من أخرى
لئن وقرت يوماً بسمعي ملامة ... لهند فلا عقب الملامة في هند
ولا وجدت عيني سبيلاً إلى البكا ... ولا بت في أصل الصبابة والوجد
وبحت بما ألقى ورحت مقابلاً ... سماحة مجد الدين بالكفر والجحد(3/315)
سنة ثمانين وخمس مائة
فيها نازل صلاح الدين الكرك، ونصب عليها المجانيق، فجاءتها نجدات الفرنج، فرأى أن حصارها يطول، فسار وهجم نابلو، فنهب وسبى. وفيها أخذ كحلان - بضم الكاف وسكون الحاء المهملة - وأخرج منه أهله، وعقد في ولايته للشريف مهدي بن أسعد بن عبد الصمد الجوالي. وفيها توفي السلطان أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن القيسي صاحب المغرب، كان
أبوه قد جعل الأمر بعده لولده محمد، وكان طياشاً شريباً للخمر، فخلعه الموحدون واتفقوا على أبي يعقوب، وكان حلو الكلام ومليح المفاكهة، بصيراً باللغة وأيام الناس، قوي المشاركة في الحديث والقرآن وغير ذلك. وقيل إنه كان يحفظ أحد الصحيحين، وكان سخياً جواداً، هماماً فقيهاً حافظاً، لأن أباه هذبه، وقرن به أكمل رجال الحرب والمعارف، فنشأ في ظهور الخيل بين أبطال الفرسان، وفي قراءة العلم بين أفاضل العلماء، أولى التحقيق والإتقان، وكان ميله إلى الحكمة والفلسفة أكثر من ميله إلى الأدب وبقية العلوم، وكان جماعاً مناعاً ضابطاً بخراج مملكته، عارفاً بسياسة رعيته، وكان ربما يحضر حتى لا يكاد يغيب، ويغيب حتى لا يكاد يحضر، وله في غيبته نواب وخلفاء وحكام، وقد فوض الأمر إليهم لما علم من صلاحهم لذلك. والدنانير اليوسفية منسوبة إليه. فلما تمهدت له الأمور واستقرت قواعد ملكه دخل إلى جزيرة الأندلس، فكشف مصالح دولته، وتفقد أحوالها، وفي صحبته مائة ألف فارس من المغرب، أو قال: من العرب والموحدين، ثم أخذ في استرجاع بلاد المسلمين من أيدي الفرنج، - وكانوا قد استولوا عليها - فاتسعت مملكة الأندلس. وفي سنة خمس وسبعين قصد بلاد إفريقية، وفتح مدينة قفص، ثم دخل جزيرة الأندلس في سنة ثمانين وخمسمائة ومعه جمع كثيف، وقصد غربي بلادها، فحاصر العدو هنالك شهراً، واصابه مرض فمات منه في شهر ربيع الأول من السنة المذكورة، وكان قد استخلف ولده يعقوب، وقيل: إنه لم يستخلف، بل اتفق رأي قواد الموحدين وأولاد عبد(3/316)
المؤمن على تملكه، فملكوا. وذكر بعض المؤرخين أنه افتتح الأندلس وغيرها، وتهيأ له من ذلك ما لا يتهيأ لأبيه، وهادن ملك صقلية على جزية تحملها، وكان يملي أحاديث الجهاد بنفسه على الموحدين، فتجهز لغزو النصارى، واستنفر في سنة تسع وسبعين ودخل الأندلس، ثم تكلموا في الرحيل، فتسابق الجيش حتى بقي أبو يعقوب في قلة من الناس، فانتهزت الفرنج الفرصة، وخرجوا فحملوا على الناس فهزمزهم، وأحاطت الفرنج بالمخيم فقتل على بابه طائفة من أعيان الجند وخلصوا إلى أبي يعقوب، وطعن في بطنه، ومات بعد أيام يسيرة في رجب، وبايعوا ولده يعقوب.
سنة احدى وثمانين وخمس مائة
فيها نازل صلاح الدين الموصل، وكانت قد سارت إلى خدمته ابنة الملك نور الدين محمود زوجة عز الدين - صاحب البلد - وخضعت له، فردها خائبة وحصر الموصل، فبذل أهلها نفوسهم وقاتلوا أشد قتال، فندم وترحل عنهم لحصانتها، ثم نزل على ميافارقين، فأخذها بالأمان، ثم رد إلى الموصل وحاصرها أيضاً، ثم وقع الصلح على أن يخطبوا له وأن يكون صاحبها طوعه، وأن يكون لصلاح الدين شهرزور وحصونها، ثم رحل فمرض واشتد مرضه بحران حتى أرجفوا بموته، وسقط شعر لحيته ورأسه. وفيها هاجت الفتنة العظيمة بين التركمان وبين الأكراد في الجزيرة، وقتل من الفريقين خلق لا يحصون. وفيها توفي صدر الإسلام أبو الطاهر اسماعيل بن بكر المعروف بابن عوف الزهري الإسكندراني المالكي. تفقه على أبي بكر الطرطوسي، وسمع منه ومن أبي عبد الله الرازي. برع في المذهب وتخرج به الأصحاب، وقصده السلطان صلاح الدين وسمع منه الموطأ. وعاش ستاً وتسعين سنة. وفيها توفي البهلول محمد شمس الدين صاحب أذربيجان وعراق العجم، ويقال: كان له خمسة آلاف مملوك. وفيها توفي الشيخ الكبير الولي الشهير صاحب الكرامات الخارقة والأنفاس الصادقة والأحوال الفاخرة والأنوار القاهرة، والمقامات العالية والمناقب السامية، والمواهب الجزيلة والأوصاف الجميلة، والطور العالي، في الحقائق والمعراج الرفيع في المعارج، والترقي في(3/317)
درجات السابقين والسبق إلى منازل المقربين: حيوة بن قيس الحراني - رضي الله تعالى عنه - كان من أجلاء المشايخ العارفين وأعيان الصفوة المحققين، أحد أركان هذا الشأن وعلم العلماء الأعيان، صاحب التصريف النافذ في الوجود، والقدم الراسخ وعظيم الفضل النابع من عين الوجود، وهو أحد الأربعة الذين قال فيهم الشيخ أبو الحسن القرشي: إن أربعة من المشايخ يتصرفون في قبورهم كتصرف الأحياء: الشيخ معروف الكرخي، والشيخ عبد القادر الجيلي، والشيخ عقيل المنبجي، والشيخ حيوة بن قيس الحراني - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - انتهت إليه رئاسة هذا الأمر علماً وحالاً وزهداً واجلالاً، تزكى في تربيته كثير من المريدين بالرياضات، وتخرج بصحبته غير واحد من أهل المقامات، وتلمذ له جماعة كثيرة من أصحاب الأحوال والكرامات، وأشار إليه المشايخ والعلماء وغيرهم بالتبجيل، وانتهى إليه عالم عظيم ونال العطاء الجزيل. ومن كلامه رضي الله عنه: قيمة القشور بلبابها وقيمة الرجال بألبابها، وعز العبيد بأربابها وفخر المحبة بأحبابها. ثم قال: آثار المحبة إذا بدت أماتت قوماً وأحيت أسراراً، ونفت أشراراً وأنارت أسراراً. ثم أنشد:
وإذا الرياحمع العشي تناوحتأسهرن حاسده وهجن غيورا
وأمتن ذا بوجود وجد دائم ... وأقمن ذا، وكشفن عنه ستورا
ومنه المحبة تعلق القلب بين الهيبة والأنس، وهي سمة الطائفة وعنوان الطريقة، ووسيلة إلى رؤية المحبوب وهيمان إلى لقاء المطلوب. وكان رضي الله تعالى عنه يتمثل بهذه الأبيات:
مواجيد حق، أوجد الحق كلها ... وإن عجزت عنها فهوم الأكابر
وما الحب إلا خطرة ثم نظرة ... ينشي لهيباً بين تلك السرائر
إذا سكن السر السريرة ضوعفت ... ثلاثة أحوال لأهل البصائر
فحال بعيد السر عن كنه وجده ... ويحضره للشوق في حال حائر
حاول به رمت ذرى السر وانثنت ... إلى منظراً فناه عن كل ناظر
قلت هكذا في الاصل ثلاثة أحوال، والمفسر منها حالان دون الثلاث. وله رضي الله تعالى عنه من الكرامات وعجائب الآيات ما يذهل العقول وذكر اليسير منه يطول. من ذلك ما حكى الشيخ الصالح غانم بن يعلى التكريتي قال: سافرت مرة من اليمن في البحر المالح، فلما توسطنا بحر الهند وغلب علينا الريح أخذتنا الأمواج من كل جانب، وانكسرت بنا السفينة، فنجوت على لوح منها، فألقاني إلى جزيرة، فطفت فيها،(3/318)
فلم أر فيها أحداً، وإذا هي كثيرة الخيرات. رأيت فيها مسجداً فدخلته فإذا فيه أربعة نفر، فسلمت عليهم فردوا علي السلام، وسألوني عن قصتي فأخبرتهم، وجلست عندهم بقية يومي ذلك، فرأيت من توجههم وحسن إقبالهم على الله تعالى أمراً عظيماً. فلما كان وقت العشاء دخل الشيخ حيوة الحراني فقاموا يبادرون إلى السلام عليه، فتقدم وصلى بهم العشاء، ثم استرسلوا في الصلاة إلى طلوع الفجر، فسمعت الشيخ حيوة يناجي ويقول: إلهي؛ لا أجد لي في سواك مطمعاً، ولا إلى غيرك منتجعاً، قد أنخت ببابك ناظراً إلى حجابك، متى تكشف لي عن تفريج الكربة، والترقي إلى مجلس القرية، وقد أوثقت نفسي عن السرور بك فوسمتها بذكرك، ولي فيها كوامن أفراح ترتاح إليها صبابات أشواقي، ولي معك أحوال سيكشفها اللقاء يا حبيب التائبين، ويا سرور العارفين، ويا قرة عين العابدين، ويا أنس المنفردين، ويا حرز اللاجين ويا ظهر المنقطعين، ويا من حنت إليه قلوب الصديقين، ويا من أنست به أفئدة المحبين، وعليه عكفت همة الخاشعين. ثم بكى بكاء شديداً، ورأيت الأنوار قد حفت بهم وأضاء ذلك المكان كإضاءة القمر ليلة البدر، ثم خرج الشيخ حيوة من المسجد وهو يقول:
سير المحب إلى المحبوب إعجال ... والقلب فيه من الأحوال بلبال
أطوي المهامة من قفر على قدم ... إليك يدفعني سهل وأجبال
فقال ولي أولئك النفر: اتبع الشيخ، فتبعته، وكانت الأرض برها وبحرها وسهلها وجبلها يطوي تحت أقدامنا طياً. كنت أسمعه كلما خطا خطوة يقول: يا رب حيوة كن لحيوة، وإذا نحن بحران في أسرع وقت، فوافينا الناس يصلون بها صلاة الصبح. سكن حران واستوطنها إلى أن توفي بها رحمه الله تعالى. وفيها توفي الفقيه الفاضل محمد بن زكريا المدرس في الشويرا: بضم الشين المعجمة وفتح الواو وسكون المثناة من تحت وفتح الراء من بلاد اليمن. توفي وله ولد خلفه يفضل عليه في العلم، خلفه في التدريس اسمه ابراهيم، تفقه بأبيه المذكور، وكان يختم في رمضان في كل يوم وليلة. وفيها توفي المهذب بن الدهان عبد الله بن أسعد بن علي الموصلي الفقيه الشافعي الأديب الشاعر النحوي ذو الفنون. توفي بحمص وكان مدرسايها. وفيها توفي الحافظ عبد الحق بن عبد الرحمن الأزدي الإشبيلي المعروف بابن الخراط، أحد الاعلام، مؤلف الأحكام الكبرى، والصغرى، والجمع بين الصحيحين،(3/319)
وكتاب الغريبين في اللغة، وكتاب الجمع بين الكتب الستة. نزل ببجاية، وولي خطابتها، وتوفي بها بعدما لحقه محنة من الدولة، وكان مع جلالته في العلم قانعاً متعففاً موصوفاً بالصلاح والورع ولزوم السنة. وفيها توفي الإمام الحافظ العلامة المشهور أبو زيد عبد الرحمن ابن الخطيب عبد الله ابن الخطيب أحمد الخثعمي السهيلي الأندلسي المالقي صاحب كتاب الروض الأنف في شرح سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكتاب التعريف والإعلام فيما أبهم في القرآن من الأسماء الأعلام، وكتاب نتائج الفكر ومسألة رؤية الله تعالى في المنام ورؤية النبي عليه الصلاة والسلام، ومسألة السر في أعور الدجال، ومسائل كثيرة مفيدة وقال ابن دحية: أنشدني وقال: إنه ما سأل الله تعالى بها حاجة إلا أعطاه إياها:
يا من يرى ما في الضمير ويسمع ... أنت المعد لكل ما يتوقع
يا من يرجى للشدائد كلها ... يا من إليه المشتكى والمفزع
يا من خزائن رزقهفي قول كنامنن فإن الخير عندك أجمع
ما لي سوى فقري إليك وسيلة ... فبالافتقار إليك فقري أدفع
ما لي سوى قرعي لبابك حيلة ... فلئن رددت فأي باب أقرع؟
من ذا الذي أدعو وأهتف باسمه ... إن كان فضلك عن فقيرك يمنع؟
حاشا لمجودك أن تقنط عاصياً ... الفضل أجزل والمواهب أوسع
قلت: قوله: فإن الخير عندك أجمع: يحتاج إلى تأويل في إعرابه، والإلزم أن يكون من الإقواء المعيب في الشعر، فإن أجمع تأكيد للخير وهو منصوب فيكون منصوباً وله أشعار كثيرة نافية، أخذ القراءة عن جماعة، وروى عن ابن العربي والكبار، وبرع في العربية والنحو واللغة وفي الأخبار والآثار. وكان ببلده يتصف بالعفاف، ويتبلغ بالكفاف، حتى نما خبره إلى صاحب مراكش، فطلبه إليها وأحسن إليه، وأقبل بوجه الإقبال عليه، وأقام بها نحو ثلاثة أعوام، وتوفي بها. والسهيلي نسبة إلى قرية بالقرب من مالقة سميت باسم الكوكب لأنه لا يرى في جميع بلاد الأندلس إلا من جبل مطل عليها. ومالقة: بفتح الميم واللام والقاف مدينة كبيرة بالأندلس. وغلط السمعاني في قوله أنها بكسر اللام.(3/320)
وفيها توفي الحافظ أبو موسى محمد بن عمر المعروف بالمديني صاحب التصانيف.
سنة اثنتين وثمانين وخمس مائة
قال العماد الكاتب: أجمع المنجمون في هذا العلم في جميع البلاد على خراب العالم في شعبان عند اجتماع الكواكب السبعة في الميزان بطوفان الريح، وخوفوا بذلك ملوك الأعاجم والروم، فشرعوا في حفر مغارات ونقلوا إليها الماء والأزواد وتهيؤوا، فلما كانمت الليلة التي عينها المنجمون بمثل ريح عاد ونحن جلوس عند السلطان والشموع توقد ولم يتحرك ولم تر ليلة مثلها في ركودها. وقال محمد بن القادسي: فرش الرماد في أسواق بغداد، وعلقت المسوح يوم عاشوراء، وناح أهل الكرخ، وتعدى الأمر إلى سب الصحابة، وكانوا يصيحون به ما بقي كتمان. وقالى غيره: وقعت فتنة ببغداد بين الرافضة والسنية قتل فيها خلق كثير، وكان ذلك منسوباً إلى الصاحب الملقب بمجد الدين. وفيها توفي الإمام العلامة أبو محمد عبد الله المقدسي ثم المصري النحوي صاحب التصانيف، روى عن طائفة، وانتهى إليه علم العربية في زمانه، وقصد من البلاد لتحقيقه وتبحره، وكان يتحدث ملحوناً ويتبرم ممن يخاطبه بإعراب. ويحكى عنه حكايات في سذاجة الطبع، يأخذ في كمه العنب مع الحطب والبيض، فيقطر على رجله ماء العنب فيرفع رأسه ويقول: هذا من العجب، يمطر مع الضحو.
سنة ثلاث وثمانين وخمس مائة
فيها افتتح صلاح الدين بالشام فتحاً مبيناً ونصر نصراً مبيناً، وهزم الفرنج وأسر ملوكهم، وكانوا أربعين ألفاً. ونازل القدس وأخذه، وأخذ عكا وافتتح عدة حصون، وعز الإسلام وعلاه، ودخل على المسلمين سرور لا يعلمه إلا الله تعالى، وفيها قتل ابن(3/321)
الصاحب ببغداد، فذلت الرافضة. وفيها توفي القاضي عيسى بن علي، ولاه سيف الإسلام قضاء الجند. وفيها توفي الفقيه الفاضل الورع المصنف حسن بن أبي بكر الشيباني الساكن في الجوهة من بلاد اليمن، تفقه على الشيخ الإمام أبي عبد الله محمد بن عبدويه المتقدم ذكره، وبعبد الله الهروي والطويري، لزم مجلسه تسع سنين، ورحل إلى عدن رحلتين بينهما أربعون سنة، وله مصتفات حسنة. وعرض عليه قضاء زبيد في ولاية شمس الدولة، وفي ولاية أخيه سيف الإسلام فامتنع واعتذر، فقيل له: أرشدنا إلى من تراه، فأشار بالقاضي عبد الله بن محمد بن أبي عقامة. قال ابن سمرة بعدما ذكر بني عقامة: وبهم نشر الله تعالى مذهب الشافعي في تهامة. وذكر منهم جماعة منهم: القاضي أبو الفتوح بن أبي عقامة - بفتح العين المهملة - الثعلبي كان عالماً مجوداً، له مصنفات حسنة منها: كتاب التحقيق، وكتاب الخبايا، أخذ عن الفقيه أبي الغنائم، وهو عن الشيخ أبي حامد الاسفرائيني ومنهم القاضي محمد بن علي بن أبي عقامة الخطيب، قيل إنه ولي قضاء زبيد زمن الحبشة، وكان معظماً عندهم ذا جاه كبير وعلم غزير. ومنهم الحسن بن محمد بن أبي عقامة الخطيب، قيل إنه كان ينظم الخطبة على المنبر، وإليه تنسب الخطب العقامية. ومنهم القاضي محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أبي عقامة وأخوه أبو بكر ابن عبد الله، وقال: وآخرهم في هذا الزمان القاضي عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أبي عقامة الثعلبي قاضي زبيد من جهة الأمير، تفقه فقهاء زبيد وأخذ عنهم، وله معرفة بالحديث والتفسير. وفضائل آل أبي عقامة مشهورة. قلت: وفقهاء اليمن ينشدون أبياتاً وينسبونها إلى القاضي ابن أبي عقامة يمدح فيه بمعرفة عشرين علماً، ولا أدري أي المذكورين هو. وفيها قويت نفس السلطان ابن أرسلان، وأرسل إلى بغداد بأن يعمر له دار السلطان وأن يخطبوا له ويرفع له الشأن، فأمر الناصر بهدم الدار والآخراب، وأخرج رسوله مهاناً بلا جواب. وفيها توفي شيخ الفتوة وحامل لوائها عبد الجبار بن يوسف البغدادي حاجاً بمكة. وكان قد علا شأنه بكون الخليفة الناصر يفتي، ومحدث بغداد وصالحها عبد المغيث بن زهير وابن الدامغاني قاضي القضاة أبو الحسن علي بن أحمد الحنفي. وكان ساكناً وقوراً محتشماً.(3/322)
وفيها توفي المقدم الأمير الكبير محمد بن عبد الملك، كان من أعيان أمراء الدولتين بطلاً شجاعاً محتشماً عاقلاً، شهد في الشام المذكور الفتوحات، وحج، فلما نزل بعرفات رفع علم السلطان صلاح الدين، وضرب الكوسات فأنكر عليه أمير ركب العراق، فلم يلتفت وركب في طلبه وركب إليه الآخر، فالتقوا وقتل جماعة من الفريقين، وأصاب ابن المقدم سهم في عينه، فخرج سريعاً، ثم مات من الغد بمنى. وتوفي شيخ الحنابلة الملقب بناصر الإسلام نصر بن قينان - وكان موصوفاً بالورع والزهد والتعبد. وفيها توفي مجد الدين الصاحب هبة الله بن علي، ولي أستاذ دار للمستضيء، ولما ولي الناصر رفع منزلته وبسط يده وكان رافضياً سباياً لما تمكن أحيى شعار الإمامية، واشتهر بأشياء قبيحة، فقتل وأخذت حواصله، من جملتها ألف ألف دينار.
سنة اربع وثمانين وخمس مائة
دخلت، وصلاح الدين يصول وبخيوله يجول، حتى لاقت الفرنج منه ما ذكره يطول، وافتتح أخوه الملك العادل الكرك بالأمان، سلموها له لفريط القحط في رمضان. وفيها توفي أسامة بن مرشد الأمير الكبير مؤيد الدولة أبو المظفر الكناني - الشيرازي، أحد الأبطال المشهورين والشعراء المبرزين، له عدة تصانيف في الأدب والأخبار والنثر ونظم الأشعار، له ديوان شعر في جزأين ومن شعره:
لا تستعر جلداً على هجرانهم ... فقواك تضعف عن صدود دائم
واعلم بأنك إن رجعت إليهم ... طوعاً وإلا عدت عودة راغم(3/323)
وله في ابن طليب المصري، وقد احترقت داره:
انظر إلى الأيام كيف تسوقنا ... قهراً إلى الإقرار بالأقدار
ما أوقد ابن طليب قط بداره ... ناراً وكان خرابها بالنار
قال ابن خلكان: ومما يناسب هذه الواقعة أن الوجيه بن صورة المصري - دلال الكتب - كانت له دار موصوفة بالحسن فاحترقت، فقال علي بن مفرح المعروف بالمنجم:
أقول وقد عاينت دار ابن صورة ... وللنار فيها مارج يتضرم
كذا كل مال أصله من نهاوش ... فمما قليل في نهار يعدم
قلت: ومع هذا البيتين بيت ثالث أفرط فيه ما ينبغي أن يذكر، والبيت الثاني مأخوذ من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " من أصاب مالاً من نهاوش أهبه الله في نهابر ". والنهاوش الحرام، والنهابر المهالك. وقال لغزاً، وقد قلع ضرسه:
وصاحب لا أمل الدهرصحبتهيشفي لنفسيويسعى سعي مجتهد
لم ألقه مذ تصاحبنا فحين بدا ... لناظري افترقنا فرقة الأبد
قلت: وقد فسرت هذا اللغز حيث قلت:
ضرس امرىء غاب عن عينيه في فمه ... عليه في طحن مايغذوه معتمد
نعم الرحى صور الباري بحكمته ... تراه عند انقلاع غير مرتدد
وفيها توفي الإمام عبد الرحمن بن محمد بن حبيش الأنصاري. كان من أئمة الحديث والقراءات والنحو واللغة، ولي خطابة مرسية وقضاءها، واشتهر ذكره وبعد صيته، وصنف كتاب المغازي في مجلدات. وفيها توفي شيخ الحنفية في زمانه بما وراء النهر عمر ابن الإمام شمس الأئمة بكر بن علي رحمه الله تعالى. وفيها توفي التاج المسعودي محمد بن عبد الرحمن الخراساني الصوفي الرحال(3/324)
الأديب. كتب وسعى وجمع فأوعى، وصنف شرحاً طويلاً للمقامات، استوعب فيه ما لم يستوعبه غيره في خمس مجلدات كبار، ولم يبلغ أحد من شرح المقامات إلى هذا القدر ولا إلى نصفه، وكان مقيماً بدمشق، والناس يأخذون عنه بعد أن كان يعلم الملك الأفضل عند السلطان صلاح الدين، حصل له بطريقة كتباً نفيسة غريبة، وبها استعان على شرح المقامات. وحكى أبو البركات الهاشمي قال: لما دخل السلطان صلاح الدين حلب نزل المسعودي المذكور إلى جامع حلب، وقعد في خزانة كتب الوقف، واختار منها جملة أخذها لم يمنعه منها مانع، ولقد رأيته وهو يحشوها في عدل وقال ابن النجار: كان من الفضلاء في كل فن في الفقه والحديث والأدب، وكان من أظرف المشايخ وأجملهم، توفي عن اثنتين وثمانين سنة. وفيها توفي أبو الفتح التعاويذي، الشاعر الذي سار نظمه في الآفاق، وتقدم على شعراء العراق. هكذا ذكر بعضهم في السنة المذكورة، وقد قدمنا عن بعضهم ذكر موته في سنة ثلاث وخمسين، وذكرت شيئاً من فضائله هناك. وفيها توفي الإمام الحافظ محمد بن موسى الخازمي الهمداني الملقب زين الدين، أحد الحفاظ المتقنين وعباد الله الصالحين، سمع من أبي الوقت حضوراً، وسمع من أبي زرعة، ومعمر بن الفاخر بالخاء المعجمة ورحل إلى العراق وأصبهان والجزيرة وبلاد فارس وهمدان والشام والنواحي، وصنف التصانيف، وكان إماماً ذكياً ثاقب الذهن، فقيهاً بارعاً ومحدثاً ماهراً، بصيراً بالرجال والعلل، متبحراً في علم السنن ذا زهد وتعبد، وتأله وانقباض عن الناس، وغلب عليه الحديث، وبرع فيه واشتهر به، وصنف فيه وفي غيره كتباً مفيدة منها: الناسخ والمنسوخ في الحديث، وكتاب الفصل في مشتبه السنة، وكتاب عجالة المبتدىء في النسب، وكتاب ما اتفق لفظه وافترق مسماه في الأماكن والبلدان المشتبهة في الخط، وكتاب سلسلة الذهب فيما روى الإمام أحمد بن حنبل عن الإمام الشافعي، وشروط الأئمة، وغير ذلك من الكتب النافعة. واستوطن بغداد ساكناً في الجانب الشرقي، ولم يزل مواظباً للاشتغال ملازم الخير إلى أن توفي رحمة الله تعالى عليه، فدفن في الشونيزية إلى جانب سمنون بن حمزة، مقابل قبر الجنيد رحمة الله تعالى على الجميع، بعد أن صلى عليه خلق كثير برحبة جامع القصر، وحمل إلى الجانب الغربي فصلي عليه مرة بعد أخرى، وفرق كتبه على أصحاب الحديث. وكانت ولادته في سنة ثمان أو تسع وأربعين وخمس مائة،(3/325)
ونسبته إلى جده حازم. وفيها توفي الفقيه الفاضل قاضي عدن ذو الفضل أحمد بن عبد الله بن محمد اليمني القريظي، كان حافظاً مجوداً في الحديث بارعاً عارفاً باللغة والعربية، أقام في مجلس الحكم بها أربعين سنة.
سنة خمس وثمانين وخمس مائة
في أول شعبان منها التقى صلاح الدين الفرنج، وفي وسطه التقاهم أيضاً، فانهزم المسلمون واستشهد جماعة، ثم ثبت السلطان والأبطال كروا عليهم ووضعوا فيه السيف، وجافت الأرض من كثرة القتلى، ونازلت الفرنج عكا، فساق صلاح الدين وضايقهم، وبقي محاصراً، والتقاهم المسلمون مرات، وطال الأمر وعظم الخطب، وبقي الحصار والحالة هذه عشرين شهراً أو أكثر، وجاء الفرنج في البر والبحر، وملأوا السهل والوعر حتى قيل إن عدة من جاء منهم بلغت ست مائة ألف. وفيها توفي فقيه الشام قاضي القضاة أبو سعد عبد الله بن محمد المعروف بابن عصرون التميمي ئم الموصلي وأحد الأعلام. تفقه بالموصل وسمع بها، ثم رحل إلى بغداد فقرأ القراءات ودرس النحو والأصلين ودخل واسط وتفقه بها، ورجع إلى الموصل بعلوم جمة، ودرس بها وأفتى، ثم سكن سنجار، ثم قدم حلب ودرس بها وأقبل عليه نور الدين، فقدم معه عند مفتتح دمشق، ودرس بالغزالية، ثم رد وولي قضاء سنجار وحران مدة، ثم قدم دمشق وولي القضاء لصلاح الدين، وله مصنفات كثيرة. وفيها توقي المبارك بن المبارك شيخ الشافعية في وقته ببغداد وصاحب الخط المنسوب ومؤدب أولاد الناصر لدين الله، درس بالنظامية، وتفقه به جماعة وحدث، وكان صاحب علم وعمل ونسك وورع، وكان قد جود للكتابة حتى بالغ بعضهم وقال: هو أكتب من ابن البواب. ثم اشتغل بالفقه فبلغ فيه الداية. وفيها توفي صاحب الطريقة في الخلاف أبو طالب محمد بن علي التميمي الأصبهاني. تفقه على الشهيد محمد بن يحيى تلميذ حخه الإسلام أبي حامد الغزالي، وبرع في الخلاف، وصنف فيه التعليقة التي شهدت بفضله وتحقيقه وتدبيره على أكثر نظرائه، وجمع فيها بين الفقه والتحقيق. وكان عمدة المدرسين في إلقاء الدروس، واشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا به، وصاروا علماء مشاهير، وكان له في الوعظ اليد الطولى، وكان متفنناً في العلوم خطيباً،(3/326)
قاضياً مدرساً. وفيها توفي محمد بن يوسف البحراني الشاعر المشهور، وكان إماماً مقدماً في علم العربية متفنناً في أنواع الشعر، من أعلم الناس بالعروض والقوافي، وأحذقهم بنقد الشعر وأعرفهم بجيده من ردئيه، واشتغل بشيء من علوم الأوائل، وحل كتاب إقليدس، وبدأ بنظم الشعر وهو صبي صغير بالبحرين جرياً على عادة العرب قبل أن ينظر في الأدب. وكان قد رحل إلى شهرزور، وأقام بها مدة، ثم رحل إلى دمشق وخدم السلطان صلاح الدين رحمه الله تعالى بقصيدة طويلة، وله ديوان شعر جيد ورسائل حسنة، ومن شعره قصيدة مدح بها أبا المظفر صاحب إربل، من جملتها هذه الأبيات.
رب دار بالفضا طال بلاها ... عكف الركب عليها فبكاها
درست إلا بقايا أسطر ... سمح الدهر بها ثم محاها
كان لي فيها زمان وانقضى ... فسقى الله زماني وسقاها
والبحراني نسبة إلى البحرين: وهي بليدة بالقرب من هجر. قال الأزهري: وإنما سمي البحرين لان في ناحية قراها بحيرة على باب الأحساء، وقرى هجر بينها وبين البحر الأخضر عشرة فراسخ، وقدرت البحيرة ثلاثة أميال في مثلها، وعن أبي محمد اليزيدي قال: سألني المهدي وسأل الكسائي عن النسبة إلى البحرين وإلى الحصنين، ثم قالوا: حصني وبحراني، فقال الكسائي: كرهوا أن يقولوا: حصناني لاجتماع النونين، قال: وقلت أنا: كرهوا أن يقولوا بحري، فيشبه النسبة إلى البحر.
سنة ست وثمانين وخمس مائة
فيها توفي الحافظ الكبير أبو المواهب الحسن بن هبة الله المحفوظ ابن صصري الدمشقي، سمع من الحافظ ابن عساكر وغيره، وتخرج به، وسمع بالعراق وهمدان وأصبهان والجزيرة والنواحي من شيوخ فيها، وبرع في هذا الشأن، وجمع وصنف مع الثقة والجلالة والكرم والرئاسة. وفيها توفي الحافظ النحوي محمد بن عبد الله الفهري الاشبيلي، برع في الفقه والعربية، وانتهت إليه الرئاسة في الحفظ والفتيا.(3/327)
وفيها توفي قاضي القضاة أبو حامد محمد ابن قاضي القضاة أبي الفضل محمد بن عبد الله الشهرزوري الشافعي، له مع فضائله أشعار جيدة، منها قوله في وصف جرادة:
لها فخذا بكر وساقا نعامة ... وقادمتا نسر وجؤجؤه ضيغم
خبتهاأفاعي الرمل بطناً وأنعمتعليها جياد الخيل بالرأس والفم
ويحكى عنه رئاسة جسيمة ومكارم عظيمة.
سنة سبع وثمانين وخمس مائة
فيها اشتدت مضايقة الفرنج لعكا وقلة الأقوات على المسلمين بها، فسلموها بالأمان. وفيها توفي أبو المعالي عبد المنعم بن عبد الله بن محمد بن الفضل الفراوي النيساوري مسند خراسان، سمع من جده وجماعة. وفيها توفي صاحب حماة الملك المظفر عمر ابن شاهنشاه بن أيوب أحد الأبطال ابن أخي السلطان صلاح الدين. كان شجاعاً مقداماً منصوراً في الحروب، مؤيداً في الوقائع، له مشاهد مشهورة مع الفرنج، وآثار حميدة في المضافات دلت عليه التواريخ، وله في أبواب البر معروف متسع، منها مدارس شافعية ومالكية وأوقاف كثيرة، وكثرة إحسان إلى العلماء والفقراء وأرباب الخير، وناب عن عمه صلاح الدين بالديار المصرية في بعض غيباته عنها، ثم استدعاه صلاح الدين إليه في الشام ورتب في الديار المصرية ولده العزيز الملك عثمان ومعه الملك العادل، فشق ذلك على الملك المظفر المذكور، وعزم على دخول بلاد المغرب، وقبح عليه أصحابه ذلك فامتثل قول عمه، وحضر إلى خدمته وخرج صلاح الدين فالتقاه، وفرح به وأعطاه حماة، فتوجه إليها ورتب فيها بعده ولده الملك المنصور أبو المعالي الملقب ناصر الدين. وفيها توفي الفقيه نجم الدين محمد بن الموفق الصوفي الزاهد الفقيه الشافعي. تفقه على الإمام محمد بن يحيى تلميذ حجة الاسلام، وكان يستحضر كتابه المحيط في شرح(3/328)
الوسيط، وألف كتاباً سماه تحقيق المحيط، في ستة عشر مجلداً. روى ودرس وأفتى، وكان صلاح الدين يعتقد فيه ويبالغ في احترامه، وعمر له مدرسة الشافعية، وكان يبالغ في ذم العبيديين، ولما هاب صلاح الدين من الإقدام على قطع خطبة العاضد وقف قدام المنبر، وأمر أن يخطب الخطيب لبني العباس، ففعل ولم يقع، إلا الخير. قال الذهبي: ثم عمد إلى قبر ابن الكيزاني - من غلاة السنة وأهل الأثر - فنبشه وقال: لا يكون صديق وزنديق في موضع واحد. يعني: هو والشافعي، فثارت حنابلة مصر عليه، ووقعت الفتنة وصار بينهم حروب. قلت: وقوله من غلاة السنة وأهل الأثر: أي ممن يتغالى في تقرير الظواهر وعدم تأويلها، وإنما قال الذهبي: وغلاة أهل السنة، لأنه كثيراً ما يشير إلى أن الظاهرية هم أهل السنة، مفهماً بذلك أن اعتقاده موافق لأهل الظاهر - والله أعلم بالسرائر - ولما توفي المذكور في السنة المذكورة دفن في قبة تحت رجلي الإمام الشافعي - رضي الله عنه - وبينهما شباك. وكان أصحابه يصفون فضله ودينه، وأنه كان سليم الباطن قليل المعرفة بأحوال الدنيا. وفيها توفي الحكيم شهاب الدين يحيى بن حبش بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة وبالشين المعجمة - السهروردي المقتول بحلب. كان بارعاً في الحكمة وعلوم الفلسفة والأصول الفقهية وعلم الكلام - وشيخه وشيخ فخر الدين الرازي واحد، وهو مجد الدين الجيلي، وكان الحكيم المذكور مفرط الذكاء فصيح العبارة، مناظراً محجاجاً متزهداً، وكان علمه أكثر من عقله، ويقال إنه كان يعرف السيمياء. حكي أنه خرج من دمشق مع جماعة، فلما وصلوا إلى القابون لقوا قطيع غنم مع تركماني، فقال أصحابه: زيد رأساً من هذا الغنم، فأخذوا رأساً بعشرة دراهم كانت معه، فقال صاحب الغنم: خذوا رأساً أصغر منه، فقال: امشوا وأنا أقف معه وأرضيه، فتقدموا، وبقي يتحدث معه ويطيب قلبه، فلما بعدوا قليلاً تبعهم وتركه، وبقي التركماني يمشي خلفه ويصيح به، فلم يلتفت إليه حتى لحقه وجذب يده اليسرى وقال: أين تروح وتخلفني؟ وإذا بيده قد انخلعت من عند كتفه وصارت في يد التركماني، ودمها يجري، فبهت التركماني وتحير، ورمى اليد وخاف وهرب، وأخذ هو تلك بيده اليمنى، ولحق أصحابه وهو يلتفت إليه حتى غاب عنه. ولما وصل إلى أصحابه رأوا في يده اليمنى منديلاً لا غيره. قال ابن خلكان: ويحكى عنه مثل هذا أشياء كثيرة - انتهى والله أعلم بصحتها. قلت: ومثل هذا ما سمعته ممن يحكى عمن صاحب ابن سينا إلى جبل حراء أنه أخذ(3/329)
من بدوي شاة في الطريق، فذبحها هو وأصحابه، وشووها وأكلوها، فجاء البدوي إلى رأس الجبل يطالبه بالثمن، فجلس معه في مكانه بعيداً عن رفقائه، وتمدد بين يدي البدوي، فنظر إليه ذلك البدوي فإذا هو مذبوح، ففزع البدوي وهرب. قلت: وهذه الأفعال وأشباهها يئست من أفعال، وبئس من يفعلها، وبئس المعلم - الموصل إليها.
رجعنا إلى ذكر الحكيم السهروردي، له تصانيف عديدة كالتنقيحات في أصول الفقه، والتلويحات، وكتاب الهياكل، والرسالة الغريبة وغير ذلك. ومن كلامه: حرام على الأجساد المظلمة أن تلحق في ملكوت السماوات، فوحد الله تعالى وأنت بتعظيمه ملآن، واذكره وأنت من ملابس الأكوان عريان، ولو ما كان في الوجود شمس لأظلمت الأكوان، وأبى النظام أن يكون غير ما كان، فخفت حتى قلت لست بظاهر، وظهرت من سعيي على الأكوان، اللهم خلص لطيفي من هذا العالم الكثيف. وتنسب إليه أشعار، فمن ذلك:
جعلت هياكلها تجرعلى الحمى ... وصبت لمغناها القديم تشوقا
وتلفتت نحو الديار فشاقها ... ربع عفت أطلاله فتمزقا
وقفت تسائله فرد جوابها ... رجع الصدى أن لا سبيل إلى اللقا
فكأنها برق تآلف بالحمى ... ثم انطوى وكأنه ما أبرقا
ومن شعره المشهور:
أبداً تحن إليكم الأرواح ... ووصالكم ريحانة والراح
وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم ... وإلى لقاء جمالكم ترتاح
وارحمتا للعاشقين تحملوا ... ثقل المحبة والهوى فضاح
بالسر إن باحوا تباح دماؤهم ... وكذا دماء البائحين تباح
فإذا هم كتموا فحدث عنهم ... عند الوشاة المدمع السحاح
وبدت شواهد للسقام عليهم ... فيها لمشكل أمرهم إيضاح
خفض الجناح لكم وليس عليكم ... للصب في خفض الجناح جناح
فإلى لقاكم نفسه مرتاحة ... وإلى رضاكم طرفه طماح
عودوا بنور الوصل من غسق الدجى ... فالهجر ليل والوصال صباح
صافاهم فصفوا له قلوبهم ... في نورها المشكاة والمصباح
ركبوا على سفن الهوى ودموعهم ... بحر وشدة شوقهم ملاح
والله ما طلبوا الوقوف ببابه ... حتى دعوا وأتاهم المفتاح
لا يطربون بغير ذكر حبيبهم ... أبداً وكل زمانهم أفراح
حضروا وقد غابت شواهد ذاتهم ... فتهتكوا لما رأوه وصاحوا(3/330)
أفناهم عنهم وقد كشفت لهم ... حجب البقا فتلاشت الأرواح
مع أبيات أخرى في أثنائها وفي آخرها أوليتها حذف هجر الإعراض - عند لمعان برق سحاب بعض الأعراض. وكان شافعي المذهب ويلقب بالمؤيد بالملكوت. قال ابن خلكان: وكان يتهم بانحلال العقيدة والتعطيل واعتقاد مذهب الحكماء المتقدمين، واشتهرعنه ذلك، فلما وصل إلى حلب أفتى علماؤها بإباحة قتله، بما ظهر لهم من سوء مذهبه في اعتقاده قال: وقال الشيخ سيف الدين الآمدي: اجتمعت بالسهروردي في حلب، فقال لي: لا بد لي أن أملك الأرض، فقلت له: من أين لك هذا؟ قال: رأيت في المنام كأني شربت ماء البحر، فقلت: لعل هذا يكون اشتهار العلم وما يناسبها، فرأيته لا يرجع عما وقع في نفسه، ورأيته كثير العلم قليل العقل. وكان في دولة الملك الظاهر ابن السلطان صلاح الدين، فحبسه، ثم خنقه بإشارة والده صلاح الدين - وعمره ثمان وقيل: ست وثلاثون - وقيل: قتله وصلبه أياماً. وقيل: خير بين أنواع القتل فاختار أن يموت جوعاً لاعتياده الرياضات، فمنع من الطعام حتى تلف. ونقل ابن الجوزي في تاريخه عن ابن شداد قال: أقمت بحلب للاشتغال بالعلم الشريف، ورأيت أهلها مختلفين في أمر، فمنهم من ينسبه إلى الزندقه والإلحاد - وهم أكثر الناس - ومنهم من يعتقد فيه الصلاح وأنه من أهل الكرامات ويقولون: ظهر لهم بعد قتله ما يشهد له بذلك. وانتهى، والله أعلم ببواطن العباد وإليه المرجع والمعاد.
سنة ثمان وثمانين وخمس مائة
فيها سار شهاب الدين الغوري صاحب غزنة بجيوشه، فالتقى ملك الهند، فانتصر المسلمون واستحر القتل بالهنود، وأسر ملكهم، وغنم المسلمون ما لا ينحصر، من ذلك أربعة عشر فيلاً.
وفيها التقى المسلمون بالشام الفرنج غير مرة، والنصرة كلها للمسلمين إلا واحدة، مقدمها الملك العادل، فدهمهم العدو وهزمهم. وفيها توفي أبو الفضل اسماعيل بن علي الشافعي الفرضي، من أعيان المحدثين.(3/331)
تفقه على جمال الإسلام ابن المسلم وغيره، وسمع من هبة الله بن الأكفاني وطبقته، ورحل إلى بغداد فسمع بها جماعة من الكبار، وكتب الحديث الكثير، وكان بصيراً بعقد الوثائق والسجلات. وفيها توفي المشطوب الأمير - مقدم الجيوش سيف الدين علي بن أحمد بن أبي الهيجاء الهكاري نائب عكا، لما أخذت الفرنج عكا أسروه، ثم اشتري بمبلغ عظيم، ثم أقطعه صلاح الدين القد، فتوفي بها. وفيها توفي أبو المرهف نصر بن منصور الشاعر المشهور، كان ضريراً، قدم بغداد وحفظ القرآن المجيد، وتفقه على مذهب الإمام أحمد، وسمع الحديث من القاضي ابن الباقلاني وأبي البركات عبد الوهاب بن المبارك وأبي الفضل ابن الناصر وغيرهم، وقرأ الأدب على ابي منصور الجواليقي، وله ديوان شهر، ومن شعره قوله من قصيدة له:
وأخوف ما أخاف على فؤادي ... إذا ما أنجد البرق اللموع
لقدحملت من طول الثناء ... عن الأحباب ما لا أستطيع
وكان زاهداً ورعاً حسن المقاصد في الشعر.
سنة تسع وثمانين وخمس مائة
وفيها توفي صاحب مكة داود بن عيسى بن فليتة بن قاسم بن محمد بن أبي هاشم العلوي الحسيني. ومحمود سلطان شاه أخوه الملك علاء الدين خوارزم شاه ابنا أرسلان الخوارزمي. وسنان بن سليمان أبو الحسن البصري الإسماعيلي الباطني صاحب الدعوة وصاحب حصون الإسماعيلية. كان أديباً متفنناً متكلماً عالماً عارفاً بالفلسفة أخبارياً شاعراً. وصاحب الموصل السلطان عز الدين مسعود بن مودود أتابك بن زنكي. قال ابن الأثير: بقي عشرة أيام لا يتكلم إلا بالشهادتين وبالتلاوة، ورزق خاتمة خير، وكان كثير الخير والإحسان يزور الصالحين ويقربهم ويشفعهم، وفيه حلم وحياء ودين. ودفن في مدرسته في الموصل، وتملك بعده ولده نور الدين.(3/332)
وفيها توفي السلطان صلاح الدين الملك الناصر أبو المظفر يوسف بن أيوب بن شاذي - بالشين والذال المعجمتين وبينهما ألف في آخره ياء النسبة ومعناه بالعربية فرحان - صاحب الديارالمصرية والبلاد الشامية والعراق واليمنية. وتراجم أبيه أيوب وقرابته من الإخوة والأعمام مذكورة في مواضعها، وصلاح الدين المذكور كان واسطة العقد وشهرته وشائعته شهيرة مغنية عن مدحته والتعريف بصفته وسيرته. وقد ذكر بعض المؤرخين الاتفاق على أن أباه وأهله من الاكراد، وذكر بعضهم نسبه أباً، فإما إلى عدنان ثم رفعه إلى آدم صلى الله عليه وسلم وذكر ابن الأثير أن مجاهد الدين متولي شحنة العراق من جهة السلطان غياث الدين السلجوقي مسعود رأى في نجم الدين أيوب شاذي عقلاً ورأياً حسناً وحسن سيرة، فجعله وألياً بتكريت حافظاً للقلعة، فلما انهزم أتابك الشهيد صاحب - الموصل عماد الدين زنكي بالعراق في أيام الإمام المسترشد وكان قد جاء على قصد حصار بغداد - وصل بعد انهزامه إلى تكريت، فخدمه نجم الدين أيوب، وأقام له السفن فعبر دجلة هناك، وتبعه أصحابه فأحسن نجم الدين إليهم وسيرهم، ثم إن أسد الدين أخا نجم الدين قتل إنساناً بتكريت لكلام جرى بينهما، فأرسل مجاهد الدين إليهما، وأخرجهما من تكريت، فقصدا عماد الدين زنكي صاحب الموصل، فأحسن إليهما، وعرف لهما خدمتهما، واقطعهما إقطاعاً حسناً وصار من جملة جنده. فلما فتح عماد الدين زنكي بعلبك جعل نجم الدين والياً عليها وحافظاً، فلما قتل عماد الدين زنكي وتولى بعده ولده سيف الدين غازي بن زنكي أرسل إليه نجم الدين أيوب، وطلب منه عسكراً ليستعين به على قتال صاحب دمشق مجير الدين - وكان قد حاصر أيوب فلم ينجده بالعسكر، فلما رأى نجم الدين تلك الحال وخاف أن يؤخذ قهراً، أرسل في تسليم القلعة، وطلب أقطاعاً ذكره، فأجيب إلى ذلك، وحلف له صاحب دمشق، فسلم القلعة ووفى له بما حلف عليه من الإقطاع، وصار عنده من أكبر الأمراء. واتصل أخوه أسد الدين بالخدمة النورية المتعلقة بنور الدين محمود صاحب حلب - وكان يخدمه - فقربه نور الدين وأقطعه، وكان يرى منه في الحروب آثاراً يعجز عنها غيره لشجاعته وجرأته، فصارت له حمص والرحبة وغيرهما، وجعله مقدم عساكره. وكان صلاح الدين مولده سنة اثنتين وثلاثين وخمس مائة بقلعة تكريت لما كان عمه
وأبوه بها، ثم إن عماد الدين قصد حصار دمشق فلم تحصل له، فرجع إلى بعلبك فحاصرها شهراً وملكها سنة أربع وثلاثين وخمس مائة، ورتب فيها نجم الدين أيوب، ولم يزل صلاح الدين تحت كنف أبيه حتى ترعرع. وحاصر نور الدين بن عماد الدين زنكي دمشق،(3/333)
فأخذها، فلازم نجم الدين أيوب خدمته وكذلك ولده صلاح الدين، وكانت مخائل السعادة عليه لائحة، والنجابة تقدمه من حالة إلى حالة بتأييد الله تعالى، ونور الدين يرى له ويؤثره، وتعلم منه صلاح الدين طرائق الخير وفعل المعروف والاجتهاد في أمور الجهاد، حتى تجهز للمسير مع عمه أسد الدين إلى الديار المصرية لما جاء شاور مستغيثاً إلى الشام بالملك العادل نور الدين محمود بن زنكي في شهر رمضان سنة ثمان وخمسين وخمس مائة، فوجه نور الدين معه الأمير أسد الدين بن شاذي في جماعة من عسكره، وكان صلاح الدين من جملتهم في خدمة عمه وهو كاره للسفر معهم، وجعل أسد الدين ابن أخيه صلاح الدين مقدم عسكره، شاور حتى دخلوا مصر فاستولوا عليها. وكان الملك المنصور أبو الأشبال الضرغام بن عامر بن سوار الملقب بفارس المسلمين اللخمي المنذري قد استولى على الديار المصرية، فقتل عند مشهد السيدة نفيسة بين القاهرة ومصر، واجتز رأسه وطيف به ثلاثة أيام، ثم دفن عند بركة الفيل، وبنيت عليه قبة. ولما وصل أسد الدين وشاور إلى الديار المصرية واستولوا عليها وقتلوا الضرغام وحصل لشاور مقصده وعاد إلى منصبه واستمرت أموره غدر بأسد الدين، واستنجد بالفرنج عليه، فحصروه في بلبيس، فخلى لهم البلاد طامعاً في العود إليها وملكها، وعاد إلى الشام في سنة تسع وخمسين وخمس مائة، فأقام بها مفكراً في تدبير عوده إلى مصر محدثاً نفسه بالملك لها، مقرراً ذلك معه نور الدين إلى سنة اثنين وستين وخمس مائة. وبلغ شاور حديثه وطمعه في البلاد فخاف عليها فكتب إلى الفرنج وقرر معهم أنهم يجيؤون إلى البلاد، ويمكنهم تمكيناً كلياً ليعينوه على استئصال أعدائه، فبلغ ذلك نور الدين وأسد الدين، فخافا على الديار المصرية أن يملكوها ويتطرقوا إلى ملك غيرها من البلاد، فتجهز أسد الدين وأنفذ نور الدين معه العساكر - وصلاح الدين في خدمة عمه أسد الدين - فوصلوا إليها وصولاً مقارباً لوصول الفرنج إليها، واتفق شاور والمصريون جميعهم والفرنج على أسد الدين، وجرت حروب كثيرة ووقعات شديدة، وانفصل الفرنج عن البلاد، وانفصل أسد الدين أيضاً راجعاً إلى الشام. وسبب رجوع الفرنج أن نور الدين جرر العساكر إلى بلادهم في تلك السنة، فخافوا
على بلادهم وعادوا إليها، وكان سبب عود أسد الدين ضعف عسكره عن مقاومة الفرنج - والمصريين، وما عاينوه من الشدائد وما عاينوه من الأهوال، وما عاد حتى صالح الفرنج على أن ينصرفوا كلهم عن مصر. ثم إن أسد الدين عاد إلى مصر مرة ثانية وقيل ثالثة بسبب أن الفرنج جمعوا فارسهم وراجلهم وخرجوا يريدون الديار المصرية، فسار بنفسه وماله(3/334)
وإخواته وأهله ورجاله. وكان شاور لما أحس بخروج الفرنج إلى مصر أرسل إلى أسد الدين يستصرخه، فخرج مسرعاً، ولما علم الفرنج بوصوله إلى مصر واتفاقه مع أهلها رحلوا راجعين على أعقبهم ناكصين. وقام اسد الدين بها، يتردد إليه شاور في الأحيان، وكان قد وعدهم بمال في مقابلة ما خسروا من النفقة، فلم يعطيهم شيئاً، وعلقت مخالب أسد الدين في البلاد، وعلم أنه متى وجد الفرنج فرصة أخذوا البلاد، وتحقق أنه لا سبيل إلى الاستيلاء على البلاد مع بقاء شاور، فأجمع رأيه على القبض عليه إذا خرج إليه. وكان الأمراء الواصلون مع أسد الدين يترددون إلى خدمة شاور وهو يجتمع بأسد الدين في بعض الأحيان، وكان يركب على عادة وزرانهم بالطبل والبوق والعلم، فلم يتجاسر على قبضه أحد من الجماعة إلا أسد الدين بنفسه، وذلك أنه لما سار إليهم تلقاه راكباً، وسار إلى جانبه وأخذ يتلاعب به، وأمر العسكر أن يقصدوا أصحابه، ففزوا ونهبهم العسكر، وأنزل شاور في خيمة مفردة وأمر بجز رأسه. وأرسل المصريون إلى أسد الدين خلع الوزارة، فلبسها وسار ودخل القصر، وترتب وزيراً وذلك في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين وخمس مائة، ودام آمراً وناهياً - وصلاح الدين مباشر الأمور ومقررها لمكان كفايته ودرايته وحسن رأيه وسياسته - إلى الثاني والعشرين من جمادى الآخرة من السنة المذكورة، فمات أسد الدين في القاهرة، ودفن بها، ثم نقل إلى مدينة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد مدة بوصية منه. وذكر بعضهم أن أسد الدين دخل القاهرة في سنة أربع وستين وخمس مائة وخرج إليه العاضد آخر ملوك العبيديين، وتلقاه وحضر يوم الجمعة ثالث يوم دخوله، وجلس جانب العاضد، فخلع عليه، وأظهر له شاور وداً، وطلب منه أسد الدين مالاً ينفقه في العسكر، فدافعه وأرسل إليه أن الجند تغيرت قلوبهم عليه بسبب عدم النفقة، فإذا خرجت فكن منهم على حذر، فلم يكترث شاور بكلامه، وعزم أن يعمل دعوة يستدعي إليها أسد الدين والعساكر الشامية، ويقبض عليهم، فأحس أسد الدين بذلك، فاتفق صلاح الدين وعز الدين وبعض كبراء الدولة على قتل شاور وأعلموا أسد الدين فنهاهم عنه، وخرج شاور قاصداً أسد الدين - وخيامهم كانت على شاطىء النيل - فلم يجده في خيمته، وكان قد ركب إلى زيارة قبر الشافعي رضي الله عنه بالقرافة - فقال شاور: يمضي إليه، فساروا، فاكتنفه صلاح الدين مع آخر، فأنزلاه عن فرسه، فهرب أصحابه وأخذ أسيراً، وكتف، ولم يمكنهم قتله بغير إذن نور الدين، فأرسل العاضد يأمرهم بقتله فقتلوه. وكان ذا شهامة ونجابة وفروسية، قد تمكن فى بلاد الصعيد، ثم توجه إلى القاهرة وأخذ الوزارة، ثم توجه إلى(3/335)
الشام مستنجداً بالملك العادل نور الدين لما خرج عليه ضرغام بن عامر اللخمي المنذري وأخرجه عن القاهرة وولي الوزارة مكانه، فأنجده بالأمير أسد الدين. وأصل شاور من بني سعد من نسل والد حليمة التي أرضعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وفي كيفية قتله اختلاف كثيرة، والقصد من ذكر هذه الأشياء التوصل إلى ذكر ولاية السلطان صلاح الدين وسيرته. فلما مات أسد الدين استقرت الأمور بعده لصلاح الدين، وتمهدت القواعد ومشى الحال على أحسن الأوضاع، وبذل الأموال وملك قلوب الرجال، وهانت عنده الدنيا فملكها، وشكر نعمة الله تعالى عليه فتاب عن الخمر وأعرض عن أسباب اللهو، وتقمص بقميص الجد والاجتهاد، وما زال على قدم الخير وفعل ما يقربه وإلى الله تعالى إلى أن مات - رحمه الله تعالى - وما زال يشن الغارات على الفرنج إلى الكرك والشوبك وغيرهما من البلاد، وغشي الناس من سحائب الأفضال والإنعام ما لم يؤرخ عن غير تلك الأيام، هذا كله وهو وزير متابع للقوم، لكنه يقول بمذهب أهل السنة، ويجالس أهل العلم والفقه والتصوف، والناس يهرعون إليه من كل صوب، ويفدون عليه من كل جانب، وهو لا يخيب قاصداً، ولا يعدم وافداً إلى سنة خمس وستين وخمس مائة، فلما عرف نور الدين انتشار أمر صلاح الدين بمصر
أخذ حمص من نواب أسد الدين. ولما علم الفرنج ما جرى بين المسلمين وعساكرهم، وما تم للسلطان من استقامة الأمر بالديار المصرية، علموا أنه سيملك بلادهم، ويخرب ديارهم، ويقلع آثارهم اجتمعوا هم والروم جميعاً، وقصدوا الديار المصرية، وتوجهوا إلى دمياط، ومعهم آلة الحصار وما يحتاجون إليه من العدد. فلما بلغ صلاح الدين ذلك استعد بتجهيز الرجال وجمع الآلة، وبالغ في العطايا والهبات، وكان متحكماً لا يرد أمره في شيء. فلم يزل الحصار والقتال بين المسلمين وبينهم حتى رحلوا عنها خائبين، وقتل من رجالهم خلق كثير، واستقرت قواعد صلاح الدين مع والده اليها في جمادى الآخرة، وقد تقدم ذكر اجتماع صلاح الدين مع والده نجم الدين أيوب، ليتم له السرور، وتكون قصته مشاكلة لقصة يوسف عليه السلام، فوصل والده إليها في جمادى الآخرة، وقد تقدم ذكر اجتماع صلاح الدين مع والده وإكرامه له لما وصل إليه وأرسل صلاح الدين يطلب من نور الدين أن يرسل إليه إخواته، فلم يجبه إلى ذلك وقال: أخاف أن يخالف عليك أحد منهم فيفسد حمص من نواب أسد الدين. ولما علم الفرنج ما جرى بين المسلمين وعساكرهم، وما تم للسلطان من استقامة الأمر بالديار المصرية، علموا أنه سيملك بلادهم، ويخرب ديارهم، ويقلع آثارهم اجتمعوا هم والروم جميعاً، وقصدوا الديار المصرية، وتوجهوا إلى دمياط، ومعهم آلة الحصار وما يحتاجون إليه من العدد. فلما بلغ صلاح الدين ذلك استعد بتجهيز الرجال وجمع الآلة، وبالغ في العطايا والهبات، وكان متحكماً لا يرد أمره في شيء. فلم يزل الحصار والقتال بين المسلمين وبينهم حتى رحلوا عنها خائبين، وقتل من رجالهم خلق كثير، واستقرت قواعد صلاح الدين مع والده اليها في جمادى الآخرة، وقد تقدم ذكر اجتماع صلاح الدين مع والده نجم الدين أيوب، ليتم له السرور، وتكون قصته مشاكلة لقصة يوسف عليه السلام، فوصل والده إليها في جمادى الآخرة، وقد تقدم ذكر اجتماع صلاح الدين مع والده وإكرامه له لما وصل إليه وأرسل صلاح الدين يطلب من نور الدين أن يرسل إليه إخواته، فلم يجبه إلى ذلك وقال: أخاف أن يخالف عليك أحد منهم فيفسد البلاد.(3/336)
فصل
انتهاء اللولة العبيدية واقامة الدولة العباسية
اعلم أنه لما كان شهر المحرم مفتتح سنة سبع وستين وخمس مائة قطعت خطبة العاضد صاحب مصر، وخطب فيها للإمام المستضيء بأمر الله أمير المؤمنين. وكان سبب ذلك أن صلاح الدين لما ثبت قدمه في مصر، وزال المخالفون له، وضعف أمر العاضد، ولم يبق من العساكر المصرية أحد كتب إليه الملك العادل نور الدين محمود، يأمره بقطع الخطبة العاضدية وإقامة الخطبة العباسية، فاعتذر صلاح الدين للخوف من وثوب أهل مصر وامتناعهم من الإجابة إلى ذلك لميلهم إلى دولة المصريين، فلم يصغ نورالدين إلى قوله، وأرسل إليه يلزمه بذلك إلزاماً لا فسحة له، واتفق أن العاضد مرض، وكان صلاح الدين قد عزم على قطع الخطبة له، فاستشار أمراءه كيف يكون الابتداء بالخطبة العباسية، فمنهم من ساعد على ذلك، ومنهم من خاف. وكان قد وصل إلى مصر إنسان أعجمي يعرف بالأمير العالم، فلما رأى ما هم فيه من الإحجام قال: أنا أبتدىء بها. فلما كان أول جمعة من المحرم صعد المنبر قبل الخطيب، ودعا للمستضيء بأمر الله، فلم ينكر أحد ذلك. فلما كان الجمعة الثانية أمر صلاح الدين الخطباء بمصر والقاهرة بقطع خطبة العاضد وإقامة الخطبة للمستضيء بأمر الله، ففعلوا ذلك ولم ينتطح فيها عنزان، وكتب بذلك إلى سائر الديار المصرية وكان العاضد قد اشتد مرضه، فلم يعلمه أهله وأصحابه بذلك وقال: إن سلم فهو يعلم، وإن توفي فلا ينبغي أن ينغص عليه هذه الأيام التي بقيت من أجله. فتوفي يوم عاشوراء ولم يعلم بذلك. قلت: وقد نقلت عن بعضهم في كتاب المرهم أن العاضد مات غماً بما فعله صلاح الدين، ولم يقدرعلى منعه من ذلك. ولما توفي جلس صلاح الدين للعزاء واستولى على قصره وجميع ما فيه. ونقل أهل العاضد إلى مكان منفرد، ووكل بهم من يحفظهم، وجعل أولادهم وعمومتهم وأبناءهم في إيوان من القصر، وجعل عندهم من يحفظهم، وأخرج من كان فيه من العبيد والإماء، وأعتق البعض ووهب البعض وباع البعض، وأخلى القصر من سكانه وأهله. فسبحان من لا يتغير ملكه ولا يزول، ولا يؤثر فيه مرور الأيام والدهور. وكان ابتداء الدولة العبيدية بإفريقية والمغرب في ذي الحجة سنة تسع وتسعين ومائتين.
ذكر أئمة العبيديين وعدد سني دولتهم
أما عددهم فجملتهم أربعة عشر: أول من ظهر منهم على إفريقية عبيد الله الملقب بالمهدي، ثم بعده القائم بأمر الله، ثم المنصور، ثم المعز، ثم العزيز ثم الحاكم وهو الذي(3/337)
ملك مصر والشام والحجاز والمغرب، ثم الظاهر، ثم المستنصر، ثم المستعلي، ثم الآمر، ثم الحافظ، ثم الظافر، ثم الفائز، ثم العاضد وهو آخرهم. ومدة دولتهم مائتا سنة وست وستون سنة. وكان مقامهم بمصر مائتي سنة وثمان سنين. قلت: وإذ قد ذكرت عدد أئمة العبيديين ومدة دولتهم فلأذكرن عدد خلفاء بني العباس ومدة دولتهم، ثم كذلك أفعل في بني أمية ودولتهم، وأذكر الخلفاء الراشدين المستحقين ومدة خلافتهم، ليسهل معرفة الجميع في موضع واحد لمن أراد الاطلاع على ذلك.
ذكر خلفاء بني العباس وعدد سني دولتهم
هم سبعة وثلاثون: السفاح عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، ثم أخوه عبد الله أبو جعفر المنصور، ثم المهدي محمد بن أبي جعفر المنصور، ثم الهادي موسى بن المهدي، ثم الرشيد هارون بن المهدي، ثم الأمين محمد بن هارون الرشيد، ثم أخوه المأمون عبد الله بن هارون، ثم المعتصم محمد بن هارون، ثم الواثق هارون بن المعتصم، ثم المتوكل جعفر بن المعتصم، ثم المستنصر محمد بن المتوكل، ثم المستعين أحمد بن المعتصم، ثم المعز محمد بن المتوكل، ثم المهتدي محمد بن الواثق، ثم المعتمد أحمد بن المتوكل، ثم المعتضد أحمد بن الموفق طلحة بن المتوكل، ثم المكتفي علي بن المعتضد، ثم المقتدر جعفر بن المعتضد بن الموفق بن المتوكل، ثم القاهر بن أحمد بن المعتضد، ثم الراضي أحمد - وقيل محمد بن المقتدر - ثم المقتفي، ثم المتقي ابراهيم بن المقتدر، ثم المستكفي عبد الله بن محمد بن المكتفي، ثم المطيع الفضل ابن المقتدر، ثم الطائع عبد الكريم بن المطيع، ثم القادر أحمد بن إسحاق بن المقتدر، ثم القائم عبد الله بن القادر، ثم المقتدي عبد الله بن محمد بن القائم، ثم المستظهر أحمد بن المقتدي، ثم المسترشد الفضل بن المستظهر، ثم الراشد جعفر - وقيل منصور بن المسترشد - ثم المقتفي محمد بن المستظهر، ثم المستنجد يوسف بن المقتفي، ثم المستضيء الحسن بن المستنجد، ثم الناصر محمد بن المستضيء، ثم الظاهر محمد بن الناصر، ثم المستنصر بن الظاهر، ثم المستعصم عبد الله بن المستنصر. وأما مدة خلافتهم في خمس مائة وأربع وعشرون سنة.
ذكر ملوك بني أمية وعدد سني دولتهم
هم ثلاثة عشر: معاوية بن أبي سفيان، ثم يزيد بن معاوية، ثم معاوية بن يزيد، ثم مروان بن الحكم، ثم عبد الملك بن مروان، ثم الوليد بن عبد الملك، ثم سليمان بن عبد الملك، ثم عمر بن عبد العزيز، ثم يزيد بن عبد الملك، ثم هشام بن عبد الملك، ثم الوليد(3/338)
ابن يزيد، ثم يزيد بن الوليد، ثم مروان بن محمد الجعدي، وهو آخر ملوك بني أمية. وأما مدة دولتهم فهي إحدى وتسعون سنة.
ذكر عدد الخلفاء الراشدين ومدة خلافتهم
هم المشار إلى خلافتهم بقوله عليه السلام: الخلافة بعدي ثلاثون سنة. وهم: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم الحسن بن علي وبه تمام الثلاثين من السنين المذكورة. رجعنا إلى ما كنا بصدده من ذكر بعض ما جرى في دولة السلطان صلاح الدين: فلما استولى على القصر الذي كان فيه العاضد وأمواله وذخائره اختار منه ما أراد، ووهب وباع ما شاء، وكان فيه من الجواهر والذخائر النفيسة ما لم يكن عند ملك من الملوك، مما جمع على طول السنين. ومن ذلك قضيب الزفرد طوله نحو قصبة ونصف، والخيل الياقوت - لعله بالخاء المعجمة ثم المثناة من تحت وفي الأصل ضبطه بالجيم والباء الموحدة والله اعلم - غير ذلك من الكتب المنتخبة بالخطوط الجيدة نحو مائة ألف مجلد. ولما خطب للمستضيء بأمر الله أرسل إليه نور الدين يعرفه ذلك، فحل عنده أعظم محل، وسير اليه الخلع الكاملة إكراماً له، وسيرت الأعلام السود لتنصب على المنابر، وكانت هذه أول هيئة عباسية دخلت مصر بعد استيلاء العبيديين عليها. ثم إنه وقع بين نور الدين وبين صلاح الدين وحشة يطول ذكر سنيها، فعزم نور الدين على الدخول إلى مصر وإخراج صلاح الدين عنها، فظهر لصلاح الدين ذلك، فجمع أهله كما تقدم - وفيهم أبوه وخاله وسائر الأمراء، وأعلمهم بما بلغه، واستشارهم فلم يجبه أحد بشيء، فقام تقي الدين ابن أخي صلاح الدين وقال: إذا جاء قاتلناه ومنعناه من البلاد. ووافقه بعض أهله، فشتمهم والد صلاح الدين، وأنكر ذلك واستعظمه، وشتم تقي الدين وقال له: اقعد. وقال لولده صلاح الدين: أنا أبوك، وهذا شهاب الدين خالك، أتظن في هؤلاء كلهم من يحبك ويريد لك الخير مثلنا؟! والله لو رأيته - أنا وخالك - لم يمكنا إلا أن نقبل الأرض بين يديه، ولو أمرنا بضرب عنقك لفعلنا، فإذا كنا نحن هكذا فما ظنك بغيرنا؟!!، وكل من تراه من الأمراء لو رأى نور الدين وحده لم يتجاسروا على الثبات على سروجهم، وهذه البلاد له، ونحن مماليكه، وقد أقامك فيها، فإن أراد عزلك سمعنا وأطعنا، والرأي أن تكتب إليه كتاباً وتقول: بلغني أنك تريد الحركة لأجل البلاد، وأي حاجة إلى هذا ترسل المولى فلاناً - وسماه يضع في رقبتي منديلاً ويأخذني، أو قال: ويجرني إليك، فما ها هنا ما يمتنع(3/339)
عليك. وقال للجماعة كلهم: قوموا عنا، نحن مماليك نور اللين وعبيده، يفعل بنا ما يريد. فتفرقوا على هذا، وكتب أكثرهم إلى نور الدين بالخبر. فلما خلا أيوب بابنه صلاح الدين قال له: أنت جاهل قليل المعرفة، تجمع هذا الجمع الكثير وتطلعهم على ما في نفسك؟! وإذا سمع نور الدين أنك عازم على منعه البلاد جعلك أهم الأمور إليه، وأولاها بالقصد، ولو قصدك لم ير معك أحداً من هذا العسكر. وكانوا أسلموك إليه. وأما الآن بعد هذا المجلس فيكتبون إليه ويعرفونه قولي فاكتب أنت إليه وارسل إليه في المعنى، وقل: أي حاجة لك في قصدي أرسل إلي بأحد يأخذني بحبل يضعه في عنقي، فهو إذا سمع هذا عدل عن قصدك واشتغل بغيرنا، والأقدار تفعل عملها. والله لو أراد نور الدين قصبة من قصبة سكر مصر لقاتلته أنا عليها حتى أمنعه أو أقتل. ففعل صلاح الدين ما أشار به، فترك نور الدين قصده، واشتغل بغيره، وكان الأمر كما ظنه نجم الدين أيوب. وكان هذا من أحسن الآراء وأجودها. ثم توفي نور الدين في سنة تسع وستين وخمس مائة كما تقدم في ترجمته، وبلغ صلاح الدين أن إنساناً يقال له الكنز، جمع بأسوان خلقاً عظيماً من السودان، وزعم أنه يعيد الدولة المصرية، وانضاف إليه المصريون، فجهز صلاح الدين إليه جيشاً كثيفاً وجعل مقدمه أخاه الملك العادل، فساروا والتقوهم وكسروهم، وذلك في سنة سبعين وخمس مائة. واستقر لصلاح الدين قواعد الملك، وكان نور الدين قد خلف ولده الملك الصالح، اسماعيل في دمشق، وكان شمس الدين بن الداية بقلعة حلب قد حدثته نفسه بأمور، فسار الملك الصالح من دمشق إلى حلب فوصل إلى ظاهرها ومعه سابق الدين، فخرج بدر الدين حسن بن الداية فقبض على سابق الدين، ولما دخل الملك الصالح القلعة قبض على شمس الدين بن الداية وأخيه حسن، وأودع الثلاثة السجن. وفي ذلك اليوم قتل أبو الفضل ابن الخشاب لفتنة جرت بحلب، وقيل بل قتل قبل أولاد الداية. ثم إن صلاح الدين بعد وفاة نور الدين علم أن الملك الصالح ولد نور الدين صبي لا يستقل بالأمر ولا ينهض باعباء الملك، فتجهز من مصر في جيش
كثيف، وترك بها من يحفظها، وقصد دمشق مظهراً أنه يتولى مصالح الملك الصالح، فدخلها بالتسليم في سنة سبعين وخمس مائة، وتسلم قلعتها، واجتمع الناس إليه وفرحوا به، وأنفق أموالاً عظيمة وأظهر السرور بالدمشقيين، وسار إلى حلب، فنازل حمص وأخذ مدينتها ولم يشتغل بقلعتها، وتوجه إلى حلب ونازلها. ثم إن سيف الدين غازي - صاحب الموصل - لما أحس بما جرى علم أن الرجل قد استفحل أمره وعظم شأنه، وخاف إن غفل عنه استحوذ على البلاد وتعدى الأمر إليه، فأنفذ عسكراً وافراً وجيشاً عظيماً، وقدم عليه أخاه عز الدين مسعود، وساروا يريدون لقاء صلاح الدين. فلما بلغه ذلك رحل عن حلب عائداً إلى حماة، ورجع إلى حمص فأخذ قلعتها، ووصل عز الدين إلى حلب وأخذ معه عسكر ابن عمه الملك الصالح، وخرجوا في جمع عظيم. ولما عرف صلاح الدين بمسيرهم سار حتى وافاهم على قرون حماة وراسلهم، واجتهد أن يصالحوه فما صالحوه، ورأوا أن صرف المصاف معه ربما نالوا به غرضهم، والقضاء يجر إلى أمور، هم بها لا يشعرون. فتلاقوا، فقضى الله تعالى أنهم انكسروا، فهزموا بين يديه، وأسر جماعة منهم، ثم سار ونزل على حلب، فصالحوه على أخذ المعرة وكفرطاب وماردين. ولما جرت هذه الواقعة كان سيف الدين غازي محاصراً أخاه عماد الدين - صاحب سنجار - لأنه كان قد انتمى إلى صلاح الدين، ثم جمع العساكر وسار، وخرج ابن عمه الملك الصالح إلى لقائه، فوصل إلى حلب وصعد قلعتها. وأرسل صلاح الدين إلى مصر يطلب عسكرها، فوصل إليه وسار به حتى نزل على قرون حماة، ثم تصافوا وجرى بينهم قتال عظيم، فانكسرت ميسرة صلاح الدين، فحمل صلاح الدين بسيفه فانكسر القوم، وأسر منهم جمعاً من كبار الأمراء، فمر عليهم وأطلقهم، وعاد سيف الدين إلى حلب، فأخذ منها خزائنه، وسار حتى عاد إلى بلاده. ومنع صلاح الدين أصحابه من تتبع القوم، ونزل على خيامهم وقسم الخزائن، وأعطى خيمة سيف الدين لابن أخيه عز الدين، وسار إلى منبج فتسلمها، ثم إلى قلعة عزاز فحاصرها، ووثب جماعة من الإسماعيلية على صلاح الدين فنجاه الله تعالى منهم وظفر بهم، ثم سار فنزل على حلب وأقام عليها مدة، ثم رحل عنها. وكانوا قد أخرجوا له ابنة صغيرة لنور الدين فسألته عزاز، فوهبها لها. ثم عاد صلاح الدين إلى مصر ليتفقد أحوالها، ثم تأهب للغزاة، وخرج يطلب الساحلثيف، وترك بها من يحفظها، وقصد دمشق مظهراً أنه يتولى مصالح الملك الصالح، فدخلها بالتسليم في سنة سبعين وخمس مائة، وتسلم قلعتها، واجتمع الناس إليه وفرحوا به، وأنفق أموالاً عظيمة(3/340)
وأظهر السرور بالدمشقيين، وسار إلى حلب، فنازل حمص وأخذ مدينتها ولم يشتغل بقلعتها، وتوجه إلى حلب ونازلها. ثم إن سيف الدين غازي - صاحب الموصل - لما أحس بما جرى علم أن الرجل قد استفحل أمره وعظم شأنه، وخاف إن غفل عنه استحوذ على البلاد وتعدى الأمر إليه، فأنفذ عسكراً وافراً وجيشاً عظيماً، وقدم عليه أخاه عز الدين مسعود، وساروا يريدون لقاء صلاح الدين. فلما بلغه ذلك رحل عن حلب عائداً إلى حماة، ورجع إلى حمص فأخذ قلعتها، ووصل عز الدين إلى حلب وأخذ معه عسكر ابن عمه الملك الصالح، وخرجوا في جمع عظيم. ولما عرف صلاح الدين بمسيرهم سار حتى وافاهم على قرون حماة وراسلهم، واجتهد أن يصالحوه فما صالحوه، ورأوا أن صرف المصاف معه ربما نالوا به غرضهم، والقضاء يجر إلى أمور، هم بها لا يشعرون. فتلاقوا، فقضى الله تعالى أنهم انكسروا، فهزموا بين يديه، وأسر جماعة منهم، ثم سار ونزل على حلب، فصالحوه على أخذ المعرة وكفرطاب وماردين. ولما جرت هذه الواقعة كان سيف الدين غازي محاصراً أخاه عماد الدين - صاحب سنجار - لأنه كان قد انتمى إلى صلاح الدين، ثم جمع العساكر وسار، وخرج ابن عمه الملك الصالح إلى لقائه، فوصل إلى حلب وصعد قلعتها. وأرسل صلاح الدين إلى مصر يطلب عسكرها، فوصل إليه وسار به حتى نزل على قرون حماة، ثم تصافوا وجرى بينهم قتال عظيم، فانكسرت ميسرة صلاح الدين، فحمل صلاح الدين بسيفه فانكسر القوم، وأسر منهم جمعاً من كبار الأمراء، فمر عليهم وأطلقهم، وعاد سيف الدين إلى حلب، فأخذ منها خزائنه، وسار حتى عاد إلى بلاده. ومنع صلاح الدين أصحابه من تتبع القوم، ونزل على خيامهم وقسم الخزائن، وأعطى خيمة سيف الدين لابن أخيه عز الدين، وسار إلى منبج فتسلمها، ثم إلى قلعة عزاز فحاصرها، ووثب جماعة من الإسماعيلية على صلاح الدين فنجاه الله تعالى منهم وظفر بهم، ثم سار فنزل على حلب وأقام عليها مدة، ثم رحل عنها. وكانوا قد أخرجوا له ابنة صغيرة لنور الدين فسألته عزاز، فوهبها لها. ثم عاد صلاح الدين إلى مصر ليتفقد أحوالها، ثم تأهب للغزاة، وخرج يطلب الساحل
حتى وافى الفرنج على الرملة في أوائل سنة ثلاث وسبعين، وكانت الكسرة على المسلمين. فلما انهزموا لم يكن لهم حصن قريب يأوون إليه، فطلبوا جهة الديار المصرية وضلوا في(3/341)
الطريق، وأسروا منهم جماعة، منهم الفقيه عيسى الهكاري، وكان ذلك وهناً عظيماً جبرها الله تعالى بوقعة بعدها. ثم التمس الروم منه الصلح فصالحهم، وتوفي الملك الصالح بن نور الدين في السنة المذكورة - أعني سنة ثلاث وسبعين - وكان قد استحلف أمراء حلب وأجنادها لابن عمه عز الدين مسعود صاحب الموصل. فلما بلغ عز الدين المذكور موت الملك الصالح ووصيته له بحلب بادر إلى التوجه إليها خوفاً أن يسبقه صلاح الدين، فوصل إليها وصعد القلعة، واستولى على ما بها من الحواصل، وتزوج أم الملك الصالح، ثم قايض عز الدين أخاه عماد الدين صاحب سنجار، وخرج عز الدين عن حلب ودخلها عماد الدين، وجاء صلاح الدين وحاصره، ثم صالح عماد الدين صلاح الدين على أن ينزل له عن حلب ويعوضه عنها بسنجار والخابور ونصيبين وسروج، وحلف صلاح الدين على ذلك، وتسلم قلعة حلب، وجعل فيها ولده الملك الظاهر وكان صبياً. ثم سار صلاح الدين إلى أخيه الملك العادل - وهو بمصر يستدعيه ليجتمعوا على الكرك، فسار إليه بجمع كثير وجيش عظيم، واجتمعوا في شعبان سنة تسع وسبعين وخمس مائة. فلما بلغ الفرنج الخبر حشروا خلقاً كثيراً وجاؤوا إلى الكرك ليكونوا قبالة عسكر المسلمين، فخاف صلاح الدين على الديار المصرية، فسير إليها ابن أخيه تقي الدين، ورحل عن الكرك واستصحب أخاه الملك العادل معه، ودخل دمشق. وكان الملك الظاهر أحب أولاد أبيه إليه لما فيه من الخلال الحميدة. ولم يأخذ منه حلب إلا لمصلحة رآها في ذلك الوقت. ثم إن صلاح الدين رأى عود الملك العادل إلى مصر وعود الملك الظاهر إلى حلب أصلح - وكانت بيد أخيه - فأعطاها ابنه الملك الظاهر، ونزل صلاح الدين على الموصل وحاصرها ثلاث مرات، فلم يقدر على أخذها، وترددت الرسل بينه وبين صاحبها، ثم مرض صلاح الدين فسار إلى حران، فلحقته الرسل بالإجابة إلى ما طلب، وتم الصلح على أن يسلم إليه صاحب الموصل شهرزور وأعمالها وما وراء الفرات من الأعمال، وأن يخطب له على المنابر، وينقش اسمه على السكة. فلما حلفا أرسل صلاح الدين نوابه فتسلموا البلاد التي وقع الصلح عليها، وطال مرضه حتى أيسوا منه، فحلف الناس لأولاده - وكان عنده منهم الملك العزيز - وجاء أخوه العادل من حلب - وهو ملكها يومئذ - وجعله وصياً على الجميع، وأوصى لكل واحد منهم بشيء من البلاد، وكان عنده أيضاً ابن عمه ناصر الدين،(3/342)
فأقطعه حمص والرحبة، وسلم السلطان صلاح الدين ولده الملك العزيز إلى الملك العادل، وجعله أتابكه. ثم كانت وقعة حطين المباركة على المسلمين في رابع شهر ربيع الآخر - سنة ثلاث وثمانين وخمس مائة في يوم الجمعة، وكان كثيراً ما يقصد لقاء العدو في يوم الجمعة عند الصلاة تبركاً بدعاء المسلمين والخطباء على المنابر، وسار حتى نزل على بحيرة الطبرية - على سفح الجبل - ينتظر قصد الفرنج له، فلم يتحركوا ولا خرجوا عن منازلهم، فلما رآهم لا يتحركون ترك جريده على طبرية، وترك الأطلاب على حالها قبالة العدو، ونازل طبرية وهجمها، فأخذها في ساعة واحدة، وانتهت الناس بابها، وأخذوا في النهب والقتل والسبي والحرق، وبقيت القلعة محمية بمن فيها. ولما بلغ العذو ما جرى على طبرية قلقوا لذلك، ورحلوا نحوها، وبلغ السلطان ذلك فترك على طبرية من يحاصرها، ولحق بالعسكر فالتقى العدو على سفح طبرية، وحال الليل بين العسكرين، فناما على مصافهما ليلة الجمعة إلى بكرة يومها، واستمرت نار الحرب، واشتد الأمر وضاق الخناق بالعدو، وهم سائرون كأنهم يساقون إلى الموت، وهم ينظرون قد أيقنوا بالويل والثبور، وأنهم في غدهم من زوار القبور، ولم تزل الحرب تضطرم والفارس مع قرنه يضطرم، ولم يبق إلا الظفر ووقوع الوبال على من كفر، حتى حال بينهم الليل بظلامه، وبات كل واحد من الفريقين بمقامه إلى صبيحة يوم السبت، وتحقق المسلمون أن من ورائهم الأردن، ومن بين أيديهم بلاد العدو، وأنهم لا ينجيهم إلا الاجتهاد في الجهاد، فحملوا بأجمعهم عليه وصاحوا صيحة رجل واحد، فألقى الله الرعب في قلوب الكافرين، وكان حقاً علينا نصر المؤمنين. وأحاط المسلمون بالكافرين من كل جانب، وأطلقوا فيهم السهام، وحكموا فيهم السيوف القواضب، وأشعلوا حولهم النيران، وصدقوا فيهم الضرب والطعان، وضاق بهم الأمر حتى كادوا يستسلمون خوفاً من القتل، فأسر(3/343)
مقدمهم وقتل الباقون. وقال بعض الرواة: حكى لي من
أثق به أنه رأى بحوران شخصاً واحداً معه نيف وثلاثون أسيراً قد ربطهم بطنب خيمة لما وقع عليهم من الخذلان، ثم رحل السلطان إلى عكا فأخذها، واستنقذ من كان بها من أسرى المسلمين، فكانوا أكثر من أربعة آلاف، واستولى على ما فيها من الأموال والذخائر والبضائع، لأنها كانت مظنة التجارة، وتفرقت العساكر في بلاد الساحل فأخذوا الحصون والقلاع والأماكن المنيعة، فأخذوا نابلس وحيفا وقيسارية وصفورية والناصر. ولما استقرت قواعد عكا وقسمت أموالها صار يشن الغارة ويأخذ بلداً بعد بلد، فأخذ صيدا وعسقلان - والرملة والداروم والأماكن المحيطة بالقدس، ثم شمرعن ساق الجد والاجتهاد في قصد القدس المبارك، واجتمعت إليه العساكر التي كانت متفرقة في الساحل، فسار نحوه معتمداً على الله مفوضاً أمره إليه، ومنتهزاً الفرصة في فتح باب الخير الذي حث الله على انتهازه على لسان نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - لقوله: " من فتح له باب خير فلينتهزه، فإنه لا يعلم متى يغلق دونه ". وكان نزوله بالجانب الغربي، وكان مشحوناً بالمقاتلة من الخيالة والرجالة، وحزر أهل الخبرة من كان فيه من المقاتلة، فكانوا يزيدون على ستين ألفاً خارجاً عن النساء والصبيان، ثم انتقل لمصلحة رآها إلى الجانب الشمالي في يوم الجمعة العشرين من رجب، ونصب المجانيق، وضايق البلد بالزحف والقتال، حتى أخذ النقب في السور مما يلي وادي جهنم. ولما رأى أعداء الله ما نزل بهم من الأمر الذي لا مدفع له عنهم، وظهرت لهم أمارات الفتح وظهور المسلمين عليهم، وكانوا قد اشتد روعهم لما جرى على أبطالهم وحماتهم من القتل والأسر، وعلى حصونهم من التخريب والهدم، وتحققوا أنهم صائرون إلى ما صار أولئك إليه، فاستكانوا وأخلدوا إلى طلب الأمان، وحصل الاتفاق عليه بالمراسله من الطائفتين، وكان تسلم المسلمين القدس المبارك في يوم الجمعة الميمون السابع والعشرين من رجب المعظم - وليلته كانت ليلة المعراج على المشهور من الأقوال -، وكان فتحه عظيماً(3/344)
شهده الأولياء والعلماء وخلق، وقصده أهل الخير من البلدان القريبة والبعيدة، وارتفعت الأصوات بالضجيج والدعاء والتهليل والتكبير، وصليت فيه الجمعة يوم فتحه، وتكسر الصليب التي كانت على قبة الصخرة، وكان شكلاً عظيماً، ونصر الله المسلمين على يدي صلاح الدين نصراً عزيزاً. وكان الفرنج قد استولوا عليه سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة، ولم يزل بأيديهم حتى استنقذه منهم السلطان صلاح الدين في التاريخ المذكور. وكانت قاعدة الصلح أنهم قطعوا على أنفسهم عن كل رجل عشرين ديناراً، وعن كل امرأة خمسة دنانير صورية، وعن كل صغير ذكراً وأنثى ديناراً واحدا. فمن أحضر قطيعته نجى بنفسه وإلا أخذ أسيراً، وأخرج - عن كل من كان بالقدس من أسارى المسلمين، وكانوا خلقاً، وأقام به يجمع الأموال ويفرقها على الأمراء والرجال، ويحبوها الفقهاء والعلماء والزاهدين والوافدين عليه، وقد تقدم بإيصال من قام بقطيعته إلى مأمنه، وهي مدينة عظيمة، ولم يرحل عنه ومعه من المال الذي جيء له شيء، وكان يقارب مائتي ألف ألف دينار وعشرين ألفاً. ولما فتح القدس حسن عنده قصد صور، وعلم أنه إن أخر أمرها ربما عسر عليها. فسار نحوها حتى أتى عكا، فنزل عليها. ونظر في أمورها، ثم رحل عنها متوجهاً الى صور، فنزل قريباً منها، وأرسل بإحضار آلات القتال، فلما تكاملت عنده نزل عليها، وقاتلها وضايقها في البر والبحر، ثم أسروا من المسلمين المقدم الرئيس وخمس قطع من المسلمين، وقتلوا خلقاً كثيراً من رجال المسلمين، فعظم ذلك على السلطان وضاق صدره - وكان الشتاء قد هجم وتراكمت الأمطار - وامتنع الناس من القتال لكثرة الامطار فجمع الأمراء واستشارهم فيما يفعل، فأشاروا عليه بالرحيل ليستريح الرجال، ويتجمعوا للقتال. فرحلوا عنها وجمعوا من آلات الحصار ما أمكن وأحرقوا الباقي الذي عجزوا عن حمله. ثم خرج السلطان صلاح الدين وسار إلى بلاد العدو، ومعه عماد الدين صاحب سنجار، ومظفر الدين بن زين الدين، وعسكر الموصل قاصدين خدمته والغزاة معه، فسار نحو حصن الأكرا، ودخل بلاد العدو حتى وصل إلى طرطو، فوقف قبالتها ينظر إليها، والعساكر محدقة بها من البحر إلى البحر، وهي مدينة لها برجان كالقلعتين، فركبوا(3/345)
وقاربوا البلد، وزحفوا واشتد القتال وباعثوها، وصعد المسلمون سورها، وأخذوها بالسيف، وغنموا
جميع من بها وما فيها، وأحرقوا البلد. ثم سار يريد جبل، فما استتم نزول العسكر حتى أخذوها، وقوتل في القلعة قتالاً شديداً، ثم سلمت بالأمان. ثم لم يزل يأخذ بلداً بعد بلد، وقلعة بعد قلعة، ويقتل ويأسر ويغنم حتى بلغ إلى برزية - وهي من الحصون المنيعة في غاية القوة يضرب بها المثل في بلاد الفرنج، تحيط بها أودية من جميع جوانبها، وعلوها خمس مائة ونيف وسبعون ذراعاً، فأخذها عنوة، ثم كذلك بلداً بعد بلد حتى قرب من أنطاكية، فراسله أهلها في طلب الصلح فصالحهم لشدة ضجر العسكر، وكان الصلح معهم إلى سبعة أشهر على أن يطلقوا كل أسير عندهم، فإن جاءهم من ينصرهم وإلا سلموا البلد. ثم رحل السلطان، فسأله ولده الملك الظاهر - صاحب حلب - أن يجتاز به، فأجابه إلى ذلك، فوصل حلب وأقام بالقلعة ثلاثة أيام - وولده يقوم بالضيافة حق القيام - ثم سار من حلب فاعترضه تقي الدين - ابن أخيه - وأصعده إلى قلعة حماة، وصنع له طعاماً، وأحضر له سماعاً من جنى سماع الصوفية، وبات ليلة واحدة، وأعطاه جبلة وبلدة أخرى، ثم سار على طريق بعلبك، ودخل دمشق وأقام بها أياماً، ثم سار يريد صف، فنزل عليها، ولم يزل القتال حتى تسلمها بالأمان، ثم سلمت له الكرك، ثم سار إلى كوك، وضايقوها وقاتلوها مقاتلة شديدة - والأمطار متواترة، والوحول متضاعفة، والرياح عاصفة، والعدو متسلط لعلو مكانه فلما تيقنوا أنهم مأخوذون طلبوا الأمان، فأجابهم إليه وتسلمها منهم. ثم نزل إلى الغو، وأقام بالمخيم مدة الأيام، وأعطى الجماعة دستوراً، وسار مع أخيه العادل يريد زيارة القدس ووداع أخيه في توجهه إلى مصر، فدخل القدس، وصلى بها عيد الأضحى، وتوجه إلى عسقلان لينظر في أمورها، وأخذها من أخيه العادل وعوضه عنها الكرك، ثم مر على بلاد الساحل يتفقد أحوالها، ثم دخل عكا فأقام بها معظم المحرم يصلح أحوالها، وأمر بعمارة سورها، ثم سار إلى دمشق فأقام بها شهر ربيع الأول ثم خرج إلى شقيف - وهي في موضع حصين - فخيم في مرج عيون بالقرب منه، وأقام أياماً يباشر قتاله - والعساكر تتواصل إليه - فلما تحقق صاحب شقيف أنه لا طاقة له به نزل إليه بنفسه، فلم يعشر به إلا وهو قائم على باب خيمته، فأذن له في دخوله إليه، واكرمه واحترمه، وكان من أكابر الفرنج وعقلائهم، وكان يعرف بالعربية وعنده الاطلاع على شيء من التواريخ والأحاديث، وكان حسن التأني لما حضر بين يدي السلطان، وأكل معه الطعام وخلابه، ذكر أنه مملوكه وتحت طاعته، وأنه يسلم إليه المكان من غير تعب، واشترط أن يعطى موضعاً يسكنه بدمشق، وإقطاعاً فيها يقوم به وبأهله، وشروط غير ذلك، فأجابه إلى مرامه. وفي أثناء شهر ربيع الأول وصله الخبر بتسليم الشوبك، وكان قد أقام عليه جمعاً يحاصرونه مدة سنة كاملة إلى أن نفد زاد من كان فيه، وسلموه بالأمان. ثم ظهر للسلطان بعد ذلك أن جميع ما قاله صاحب شقيف كان خديعة، فراسلهم عليه ثم بلغه أن الفرنج قصدوا عكا ونزلوا عليها، فسير صاحب شقيف إلى دمشق بعد الإهانة الشديدة، وأتى عكا ودخلها بغتة لتقوي قلوب من بها، ثم استدعى العسكر من كل ناحية، ثم تكاثر الفرنج، واستفحل أمرهم وأحاطوا بعكا، ومنعوا من يدخل إليها ويخرج، فضاق صدر السلطان لذلك، ثم اجتهدوا في فتح طريق إليها لتستمر المسايلة بالمسيرة والنجدة، وسار الأمراء فاتفقوا على مضايقة العدو لينفتح الطريق، ففعلوا ذلك وانفتح الطريق، وسلكه المسلمون ودخل السلطان عكا، فأشرف على أمورها، ثم جرى بين الفريقين مناوشات في عدة أيام، ثم جرت وقعات لا حاجة للتطويل بذكرها، وقيل للسلطان: إن الوخم قد عظم بمرج عكا، فإن الموت قد نشأ بين الطائفتين، فأنشده: يع من بها وما فيها، وأحرقوا البلد. ثم سار يريد جبل، فما استتم نزول العسكر حتى أخذوها، وقوتل في القلعة قتالاً شديداً، ثم سلمت بالأمان. ثم لم يزل يأخذ بلداً بعد بلد، وقلعة بعد قلعة، ويقتل ويأسر ويغنم حتى بلغ إلى برزية - وهي من الحصون المنيعة في غاية القوة يضرب بها المثل في بلاد الفرنج، تحيط بها أودية من جميع جوانبها، وعلوها خمس مائة ونيف وسبعون ذراعاً، فأخذها عنوة، ثم كذلك بلداً بعد بلد حتى قرب من أنطاكية، فراسله أهلها في طلب الصلح فصالحهم لشدة ضجر العسكر، وكان الصلح معهم إلى سبعة أشهر على أن يطلقوا كل أسير عندهم، فإن جاءهم من ينصرهم وإلا سلموا البلد. ثم رحل السلطان، فسأله ولده الملك الظاهر - صاحب حلب - أن يجتاز به، فأجابه إلى ذلك، فوصل حلب وأقام بالقلعة ثلاثة أيام - وولده يقوم بالضيافة حق القيام - ثم سار من حلب فاعترضه تقي الدين - ابن أخيه - وأصعده إلى قلعة حماة، وصنع له طعاماً، وأحضر له سماعاً من جنى سماع الصوفية، وبات ليلة واحدة، وأعطاه جبلة وبلدة أخرى، ثم سار على طريق بعلبك، ودخل دمشق وأقام بها أياماً، ثم سار يريد صف، فنزل عليها، ولم يزل القتال حتى تسلمها بالأمان، ثم سلمت له الكرك، ثم سار إلى كوك، وضايقوها وقاتلوها مقاتلة شديدة - والأمطار متواترة، والوحول متضاعفة، والرياح عاصفة، والعدو متسلط لعلو مكانه فلما تيقنوا أنهم مأخوذون طلبوا الأمان، فأجابهم إليه وتسلمها منهم. ثم نزل إلى الغو، وأقام بالمخيم مدة الأيام، وأعطى الجماعة دستوراً، وسار مع أخيه العادل يريد زيارة القدس ووداع أخيه في توجهه إلى مصر، فدخل القدس، وصلى بها عيد الأضحى، وتوجه إلى عسقلان لينظر في أمورها، وأخذها من أخيه العادل وعوضه عنها الكرك، ثم مر على بلاد الساحل يتفقد أحوالها، ثم دخل عكا فأقام بها معظم المحرم يصلح أحوالها، وأمر بعمارة سورها، ثم سار إلى دمشق فأقام بها شهر ربيع الأول ثم خرج إلى(3/346)
شقيف - وهي في موضع حصين - فخيم في مرج عيون بالقرب منه، وأقام أياماً يباشر قتاله - والعساكر تتواصل إليه - فلما تحقق صاحب شقيف أنه لا طاقة له به نزل إليه بنفسه، فلم يعشر به إلا وهو قائم على باب خيمته، فأذن له في دخوله إليه، واكرمه واحترمه، وكان من أكابر الفرنج وعقلائهم، وكان يعرف بالعربية وعنده الاطلاع على شيء من التواريخ والأحاديث، وكان حسن التأني لما حضر بين يدي السلطان، وأكل معه الطعام وخلابه، ذكر أنه مملوكه وتحت طاعته، وأنه يسلم إليه المكان من غير تعب، واشترط أن يعطى موضعاً يسكنه بدمشق، وإقطاعاً فيها يقوم به وبأهله، وشروط غير ذلك، فأجابه إلى مرامه. وفي أثناء شهر ربيع الأول وصله الخبر بتسليم الشوبك، وكان قد أقام عليه جمعاً يحاصرونه مدة سنة كاملة إلى أن نفد زاد من كان فيه، وسلموه بالأمان. ثم ظهر للسلطان بعد ذلك أن جميع ما قاله صاحب شقيف كان خديعة، فراسلهم عليه ثم بلغه أن الفرنج قصدوا عكا ونزلوا عليها، فسير صاحب شقيف إلى دمشق بعد الإهانة الشديدة، وأتى عكا ودخلها بغتة لتقوي قلوب من بها، ثم استدعى العسكر من كل ناحية، ثم تكاثر الفرنج، واستفحل أمرهم وأحاطوا بعكا، ومنعوا من يدخل إليها ويخرج، فضاق صدر السلطان لذلك، ثم اجتهدوا في فتح طريق إليها لتستمر المسايلة بالمسيرة والنجدة، وسار الأمراء فاتفقوا على مضايقة العدو لينفتح الطريق، ففعلوا ذلك وانفتح الطريق، وسلكه المسلمون ودخل السلطان عكا، فأشرف على أمورها، ثم جرى بين الفريقين مناوشات في عدة أيام، ثم جرت وقعات لا حاجة للتطويل بذكرها، وقيل للسلطان: إن الوخم قد عظم بمرج عكا، فإن الموت قد نشأ بين الطائفتين، فأنشده:
اقتلاني ومالكاً ... وإقتلا مالكاً معي
يريد بذلك أنه قد رضي أن أتلف إذا أتلف الله أعداءه. قيل: وهذا البيت له سبب، وذلك أن مالك بن الحارث المعروف بالأشتر النخعي تماسك هو وعبد الله بن الزبير يوم الجمل، وكل واحد منهما من الأبطال المشهورين، وكان ابن الزبير مع خالته عائشة - رضي الله تعالى عنها - والأشتر مع علي - رضي الله عنه - وكان كل واحد منهما إذا قوي على صاحبه جعله تحته، وفعلا ذلك مراراً وابن الزبير ينشد البيت المذكور، وقيل إن الأشتر دخل على عائشة - رضي الله تعالى عنها - بعد وقعة الجمل فقالت: يا أشتر، أنت الذي أردت قتل ابن أختي يوم الوقعة. فأنشدها:(3/347)
أعايش؛ لولا أنني كنت طاوياً ... ثلاثاً لألقيت ابن أختك هالكا
غداة ينادي والرماح تنوشه ... بآخر صوت اقتلوني ومالكا
فنجاه مني أكله وشبابه ... وخلوة جوف لم يكن متماسكا
وقيل إن عائشة رضي الله تعالى عنها أعطت البشارة على سلامة ابن الزبير من الأشتر
عشرة آلاف درهم، وان ابن الزبير قال: لاقيت الأشتر النخعي، وما ضربته ضربة إلا ضربني ستاً أو سبعاً. والله أعلم. رجعنا إلى ما كنا فيه. ثم إن الفرنج جاءتهم الأمداد من البحر، واستظهروا على المسلمين بعكا، فضاق المسلمون من ذلك، وعزموا على صلح الفرنج بأن يسلموا البلد وجميع ما فيه من الآلات والعدة والأسلحة والمراكب ومائتي ألف دينار وخمس مائة أسير مجاهيل ومائة أسير معينين من جهتهم، ويخرجوا بأنفسهم وما معهم سالمين من الأموال والأقمشة مختصة بهم، وذراريهم ونسأئهم، وكتبوا بذلك كتباً فلما علم السلطان أنكره إنكاراً عظيماً، وعظم عليه هذا الأمر وعزم على أن يكتب إليهم في الإنكار عليهم المصالحة على هذا الوجه، وبقي متردداً في هذا، فلم يشعر إلا وقد ارتفعت أعلام العدو وصلبانه وناره وشعاره على سور البلد، وصاح الفرنج صيحة واحدة، وعظمت المصيبة على المسلمين واشتد حربهم، ووقع فيهم الصياح والعويل والبكاء والنحيب. وذكر بعضهم أن الفرنج خرجوا من عكا قاصدين عسقلان ليأخذوها، وساروا على الساحل - والسلطان وعساكره قبالتهم، وكان بينهم قتال عظيم، ونال المسلمين منه وهن شديد - فاستشار السلطان أرباب مشورته في خراب عسقلان خوفاً من أن يصل العدو إليها ويستولي عليها وهي عامرة، ويأخذ بها القدس، وينقطع بها طريق مصر، فاتفق رأيهم على ذلك، فشرع في خرابها، فلحق الناس من خرابها حزن عظيم، واشتد على أهل البلد ذلك، وعظم فراق أوطانهم، وشرعوا في بيع ما لا يقدورن على حمله، فباعوا ما يساوي عشرة دراهم بدرهم، وباعوا اثني عشر طير دجاج بدرهم واحد، واختبط البلد وخرج الناس بأهلهم وأولادهم إلى المخيم، وتشتتوا، فذهب بعضهم إلى مصر وبعضهم إلى الشام وجرت عليهم أمور عظيمة. ثم وصل خبر من جانب الملك العادل أن الفرنج قد تحدثوا معه في الصلح، وطلبوا جميع البلاد الساحلية، فرأى السلطان أن ذلك مصلحة لما علم ما في النفوس من الضجر، وكثرة ما هم عليهم من الديون. وكتب إليه بالإذن بذلك وتفويض الأمر إلى رأيه، وحث الناس على العجلة في الخراب المذكور خوفاً من هجوم الفرنج، وأمر بإحراق البلد، فأضرمت النيران في بيوته، وكان سورها عظيماً، ولم يزل الحريق يعمل في البلد من عشرين(3/348)
في شعبان إلى سلخه، وأمر ولده الملك الأفضل أن يباشر ذلك بنفسه وخواصه. قال بعض الرواة: ولقد رأيته يحمل الخشب بنفسه للإحراق، ثم خرج إلى اللد وأمر بإخرابها وإخراب القلعة التي بالرمل، ففعل ذلك، والتمس بعض أكابر ملوك الفرنج أن يجتمع بالسلطان صلاح الدين بعدما اجتمع بأخيه الملك العادل، فاستشار صلاح الدين أصحابه من أكابر دولته في ذلك، فوقع الاتفاق على أن ذلك يكون بعد الصلح، ثم قال السلطان صلاح الدين: متى صالحنا هم لم نأمن غائلتهم، ولو حدث لي حادث الموت كانت تجتمع هذه العساكر وتقوى على الفرنج، والمصلحة أن لا نزول عن الجهاد حتى نخرجهم من الساحل، أو يأتينا الموت. ثم ترددت الرسل بينهم في الصلح، وجرت وقعات كثيرة، ثم وقع الصلح بينهم، ثم أعطى العساكر الواردة عليه المنحدرة من البلاد البعيدة الدستور، فساروا عنه، وعزم على الحج لما فرغ باله من هذه الجهة، وتردد المسلمون إلى بلاد الفرنج، وجاؤوهم الى بلاد المسلمين، وحملت البضائع والمتاجر إلى البلدان، وحضر منهم خلق كثير لزيارة القدس، وتوجه السلطان إلى القدس، وأخوه الملك العادل إلى الكرك وابنه الملك الظاهر إلى حلب، وابنه الملك الأفضل إلى دمشق، وأقام هو في القدس يقطع الناس ويعطيهم دستوراً، ويتأهب إلى المسير إلى الديار المصرية وانقطع عزمه عن الحج، ثم قوي عزمه على أن يدخل الساحل جريدة ويتفقد القلاع ويدخل دمشق ويقيم بها أياماً، ويعود إلى القدس ومنه الى الديار المصرية. وقال ابن خلكان: قال شيخنا ابن شداد: وأمرني بالمقام في القدس إلى حين عوده لعمارة مارستان أنشأه به وتكميل المدرسة التي انشأها، فلما فرغ من افتقاده أحوال القلاع دخل دمشق وفيها أولاده: الملك الأفضل والملك الظاهر والملك الظافر مظفر الدين وأولاده الصغار، وجلس للناس يوم الخميس السابع والعشرين من شوال سنة ثمان وثمانين وخمس مائة، وحضروا عنده وبلوا شوقهم منه، وأنشد الشعراء فلم يتخلف منه أحد من الخاص والعام، وأقام بنشر جناح عدله وبهطل سحاب إنعامه وفضله، ويكشف عن مظالم الرعاياء. عمل الملك
الأفضل دعوة للملك الظاهر أظهر فيها من الهمم المالية ما يليق بهمته، وسأل السلطان الحضور فحضر عند الغلبة، وكان يوماً مشهوداً. وسار الملك العادل فوصل إلى دمشق، فخرج السلطان إلى لقائه، وأقام يتصيده وأخوه وأولاده، ويتفرجون في أراضي دمشق ومواطن الظباء - وكان ذلك كالوداع لأولاده ومراتع نزهه - ونسي عزمه إلى مصر، وركب يوم الجمعة الخامس عشر صفر ليلقى الحاج، وكان ذلك آخر ركوبه. ولما كانت ليلة السبت وجد كسلاً عظيماً، غشيته الحمى في أثناء الليل، ولم يظهر ذلك للناس وأثرها ظاهر عليه، ثم أخذ المرض يتزايد إلى أن توفي بعد صلاة الصبح للسابع والعشرين من شهر صفر من السنة المذكورة في أول ترجمته. وكان يوم موته يوماً لم يصب الإسلام والمسلمون بمثله بعد الخلفاء الراشدين، وغشي القلعة والملك والدنيا وحشة عظيمة، ودفن بمقابر الشهداء بالباب الصغير. ولما أخرج تابوته ارتفعت الأصوات عند مشاهدته، وعظم الضجيج، وأخذ الناس في البكاء والعويل، وصلوا عليه إرسالاً، ثم أعيد إلى الدار التي في البستان، ودفن في الصفة الغربية منها على ما ذكره بعض المؤرخين وذكر بعضهم أنه بقي مدفوناً بقلعة دمشق إلى أن بنيت له قبة شمالية الكلاسة التي هي شمالي جامع دمشق، فنقل إليها في يوم عاشوراء - كان يوم الخميس من سنة اثنتين وتسعين وخمس مائة - ورتب عنده القراء ومن يخدم المكان وأنشد في آخر سيرته بيت أبي تمام. ل دعوة للملك الظاهر أظهر فيها من الهمم المالية ما يليق بهمته، وسأل السلطان الحضور فحضر عند الغلبة، وكان يوماً مشهوداً. وسار الملك العادل فوصل إلى دمشق، فخرج السلطان إلى لقائه، وأقام يتصيده وأخوه وأولاده، ويتفرجون في أراضي دمشق ومواطن الظباء - وكان ذلك كالوداع لأولاده ومراتع نزهه - ونسي عزمه إلى مصر،(3/349)
وركب يوم الجمعة الخامس عشر صفر ليلقى الحاج، وكان ذلك آخر ركوبه. ولما كانت ليلة السبت وجد كسلاً عظيماً، غشيته الحمى في أثناء الليل، ولم يظهر ذلك للناس وأثرها ظاهر عليه، ثم أخذ المرض يتزايد إلى أن توفي بعد صلاة الصبح للسابع والعشرين من شهر صفر من السنة المذكورة في أول ترجمته. وكان يوم موته يوماً لم يصب الإسلام والمسلمون بمثله بعد الخلفاء الراشدين، وغشي القلعة والملك والدنيا وحشة عظيمة، ودفن بمقابر الشهداء بالباب الصغير. ولما أخرج تابوته ارتفعت الأصوات عند مشاهدته، وعظم الضجيج، وأخذ الناس في البكاء والعويل، وصلوا عليه إرسالاً، ثم أعيد إلى الدار التي في البستان، ودفن في الصفة الغربية منها على ما ذكره بعض المؤرخين وذكر بعضهم أنه بقي مدفوناً بقلعة دمشق إلى أن بنيت له قبة شمالية الكلاسة التي هي شمالي جامع دمشق، فنقل إليها في يوم عاشوراء - كان يوم الخميس من سنة اثنتين وتسعين وخمس مائة - ورتب عنده القراء ومن يخدم المكان وأنشد في آخر سيرته بيت أبي تمام.
ثم انقضت تلك السنون وأهلها ... فكأنها وكأنهم أحلام
تغمده الله تعالى برحمته، كان من محاسن الدنيا وغرائبها. ومن مصالح الأمور الدينية، ودفع نوائبها، وذكر بعضهم أنه لم يخلف في خزائنه ذهباً ولا فضة سوى سبعة وأربعين درهماً مصرية وخرصاً واحداً من الذهب صورياً، ولم يخلف ملكاً ولا داراً ولا عقاراً ولا مزرعة ولا بستاناً. وفي ساعة موته كتب القاضي الفاضل إلى والد الملك الظاهر صاحب حلب بطاقة مضمونها رسالة بديعة مشتملة على معان رفيعة مع الإيجاز الفائق والنطق الرائق، في حالة يذهل فيها الإنسان عن نفسه، والخطب الذي صير الضرغام في رمسه، وهي: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، إن زلزلة الساعة شيء عظيم، كتبت إلى مولانا السلطان الملك الظاهر أحسن الله عزاه وجبر مصابه وجعل فيه الخلف - في الساعة المذكورة، وقد زلزل المسلمون زلزالاً شديداً، وقد حفرت الدموع المحاجر، وبلغت القلوب الخناجر، وقد ودعت أباك ومخدومي وداعاً لا تلاقي بعده، وقد قبلت وجهه عني وعنك، وأسلمته إلى الله تعالى مغلوب الحيلة ضعيف القوة راضياً عن الله تعالى، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وبالباب من الجنود المجندة والأسلحة المغمدة ما لا يدفع البلاء ولا يملك رد القضاء. ويدمع العين ويخشع القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا عليك يا يوسف لمحزونون. وأما الوصايا فما يحتاج إليها، والآراء فقد شغلني المصاب عنها، وأما لائح الأمر فإنه إن وقع(3/350)
اتفاق فما عدمتم إلا شخصه الكريم، وإن كان غيره فالمصائب المستقبلة أهونها موته وهو الهول العظيم - والسلام. وقد تقدم ذكر أولاده وهم: الأفضل والظاهر والعزيز - وهو الملقب بالظافر فيما تقدم - ويعرف بالمشمر لأن أباه لما قسم البلاد بين أولاده الكبار قال: وأنا مشمر، فغلب عليه هذا اللقب، وتوفي في سنة سبع وعشرين وستمائة بحران عند ابن عمه الملك الأسرف بن الملك العادل، ولم يكن الأشرف يومئذ ملكاً. ثم إن ولده الملك العزيز لما أخذ دمشق من أخيه الملك الأفضل بنى إلى جانب القبة المذكورة المدرسة العزيزية، ووقف عليها وقفاً جيداً، ولما ملك السلطان صلاح الدين الديار المصرية عمر بالقرافة الصغرى المدرسة المجاورة لضريح الإمام الشافعي - رضي الله تعالى عنه -. وبنى مدرسة بالقاهرة في جوار المشهد المنسوب إلى الإمام الحسين بن علي - رضي الله تعالى عنهما - وجعل على ذلك وقفاً جيداً، وجعل دار سعيد السعداء خادم المصريين خانقاً، ووقف عليها وقفاً طائلاً، وجعل دار عباس بن السلار مدرسة للحنفية وعليها وقف جيد أيضاً والمدرسة التي بمصر المعروفة بزين النجار وقفاً على الشافعية وقفاً جيداً أيضاً، وله بمصر أيضاً مدرسة للمالكية، وبنى بالقاهرة داخل القصر مارستان، وله وقف جيد، وله بالقدس مدرسة وقفها كثير خانقة بها. قلت: وصلاح الدين كاسمه لما فتح من بلاد الكفار وعمرها بالإسلام، وما له من محاسن الأحكام، وفعل من المعروف في الأوقاف العظيمة ما تضمن النفع العام - فالله تعالى يقدس روحه وينور ضريحه - مع أن كثر هذه الوقوفات من المدارس وغيرها غير منسوبة إليه في الظاهر، ولا يعرف أنه أنشأها إلا من له اطلاع على علم التواريخ. قالوا: وكان مع هذه المملكة المتسعة والسلطنة العضيم والمرتبة المرتفعة كثير التواضع واللطف، قريباً من الناس رحيم القلب، كثير الاحتمال والمداراة، وكان يحب العلماء وأهل الخير ويحسن إليهم، ويميل إلى الفضائل ويستحسن الأشعار الجيدة ويرددها في مجالسه، حتى قيل إنه كان كثيراً ما ينشد قول أبي منصور محمد بن الحسين الحميري، وقيل إنه قول أبي محمد أحمد بن خيران الشامري:
وزارني طيف من أهوى على حذر ... من الوشاة، وداعي الصبح قد هتفا
فكدت أوقظ من حولي به فرحاً ... وكاد يهتك سر الحب بي شغفا
ثم انتبهت، وآمالي تخيل لي ... نيل المنى، فاستحالت غبطتي أسفا
قيل: وكان يعجبه ايضاً إنشاد أبي الحسن المعروف بابن المنخم.(3/351)
وما خضب الناس البياض لقبحه ... فأقبح منه حين يظهر ناضله
ولكنه مات الشباب فسودت ... على الرسم من حزن عليه منازله
فكان يمسك بكريمته وبنظر إليها ويقول: إي والله، مات الشباب. وأرسل إليه بعض الشعراء بقصيدتين من بغداد، قال في آخر إحداهما:
يا سلم، إن ضاعت عهودي عندكم ... فأنا الذي استودعت غير أمين
أوعدت مغبوناً فما أنا في الهوى ... لكم بأول عاشق مغبون
ومن البلية أن تكون مطالبي ... جدوى نخيل أو وفاء خؤون
ليت الظنين على المحب بوصله ... أخذ السماحة من صلاح الدين
ومما قيل فيه لبعض شعراء المشرق.
الله أكبر جاء القوس باريها ... ورام أسهم دين الله راميها
فكم لمصر على الأمصار من شرف ... بيوسفين وهل أرض تدانيها؟
فبابن يعقوب هزت جيدها طرباً ... وبابن أيوب هزت عطفهاتيها
قل للملوك تخلي عن ممالكها ... فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها
فلما أنشده إياها أعطاه ألف دينار. ومدحه المهذب أبوحفص عمر بن محمد المعروف بابن الشحنة الموصلي الشاعر المشهور بقصيدته التي أولها.
سلام مشوق قد يراه التشوق ... على خيره الحي الذي يتفرق
وعدد أبياتها مائة وثلاثة عشر بيتاً، وفيها البيتان السائران اللذان ثمثل بهما مدعي الأشجان مع بعد المكان، أحدهما.
وإني امرؤ أحببتكم لمكارم ... سمعت بها والأذن كالعين تعشق
وهذا البيت أخذه من قول بشار:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة ... والأذن تعشق قبل العين أحيانا
والبيت الثاني من قصيدة ابن الشحنة:
وقالت لي الأيام إن كنت واثقاً ... بأبناء أيوب فأنت الموفق
وقد مدحه خلق كثير من الشعراء تغمده الله تعالى برحمته وأسكنه بحبوحة جنته.(3/352)
سنة تسعين وخمس مائة
فيها سار بعض ملوك الهند وقصد بلاد الإسلام، فطلبه شهاب الدين صاحب غزنة، فالتقى الجمعان على نهر ماخون. قال ابن الاثير: وكان مع الهندي سبع مائة فيل، ومن العسكر ألف ألف نفس على ما قيل، فصير الفريقان وكان النصر لشهاب الدين الغوري. وكثر القتل في الهنود حتى جافت منهم الأرض، وأخذ شهاب الدين سبعين فيلاً، وقتل ملكهم، وكان قد شد أسنانه بالذهب، فما عرف إلا بذلك، وكان أكبر ملوك الهند. ودخل بلاده شهاب الدين وأخذ من خزائنه ألف حمل وأربع مائة حمل، وعاد إلى غزنة، ومن جملة الفيلة فيل أبيض. وفيها توفي الفقيه العلامة الشافعي القزويني الواعظ أبو الخير أحمد بن اسماعيل الطالقاني. قدم بغداد ودرس بالنظامية، وكان إماماً في المذهب والخلاف والأصول والوعظ. وروى كتباً وكباراً، ونفق كلامه بحسن سمته وحلاوة منطقه وكثرة محفوظاته، وكان صاحب قدم راسخ في العبادة، كبير الشأن عديم النظير. رجع إلى قزوين سنة ثمانين، ولزم العبادة إلى أن مات في محرم السنة المذكورة رحمه الله تعالى. وفيها توفي الإمام المقرىء أحد الأعلام أبو محمد القاسم بن فيرة بن خلف الرعيني الشاطبي الضرير، صاحب القصيدة المشهورة المباركة الموسومة بحرز الأماني ووجه التهاني في القراءات، حقق القراءات على غير واحد من أثمة القراء، وسمع الحديث من طائفة من المحدثين، وكان إماماً وعلامة محققاً، كثير الفنون واسع الحفظ، نظم القصيدتين اللتين سارت بهما الركبان وخضعت لبراعة نظمهما فحول الشعراء وأئمة القراء والبلغاء، وكان ثقة زاهداً ورعاً كبير القدر، نزل القاهرة وتصدر للإقراء بالمدرسة الفاضلية، وشاع أمره وبعد صيته، وانتهت إليه الرئاسة في الإقراء. وكان عالماً بكتاب الله تعالى قراءة وتفسيراً وبحديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وكان إذا قرىء عليه صحيح البخاري ومسلم والموطأ يصحح النسخ من حفظ، ويملي النكت على المواضع المحتاج إليها، وكان أوحد في علم النحو واللغة، عارفاً بعلم الرؤيا، حسن المقاصد، مخلصاً فيما يقول ويفعل، ولا يجلس(3/353)
للإقراء إلا على طهارة في هيئة حسنة، وتخشع واستكانة، وكان يعتل العلة الشديدة فلا يشتكي ولا يتأوه، وإذا سئل عن حاله قال: العافية. لا يزيد على ذلك. وقال بعض اصحابه: كان الشيخ كثيراً ما ينشد هذا اللغز في نعش الموتى، وهو في ديوان الخطيب يحيى بن سلامة الخصلفي - بالخاء المعجمة والصاد المهملة والفاء بين اللام وياءالنسبة.
أتعرف شيئاً في السماء نظيره ... إذا صار سار الناس حيث يسير
فتلقاه مركوباً وتلقاه راكباً ... وكل أمير يعتر به أسير
يحض على التقوى ويكره قربه ... وتنفر منه النفس وهو نذير
ولم يسترد عن غربة في زيارة ... ولكن على رغم المزور يزور
وكانت ولادته في آخر سنة ثمان وثلاثين وخمس مائة وخطب ببلده وهو فتى، ودخل مصر سنة اثنتين وسبعين وخمس مائة، وكان يقال إنه يحفظ عند دخوله إليها وقر بعير من العلوم، وكان نزيل القاضي الفاضل، رأيته بمدرسة بالقاهرة مصدراً لإقراء القرآن الكريم والنحو واللغة إلى أن توفي، فدفن في تربة قاضي المذكور بالقرافة الصغرى. وفيرة بكسر الفاء وسكون المثناة من تحت وتشديد الراء والرعيني بضم الراء وفتح العين المهملة وسكون المثناة من تحت وبعدها نون ثم ياء النسبة: نسبة إلى ذي رعين: وهذا جد قبائل اليمن، نسب إليه خلق كثير، ومن جملتهم يافع جد قبيلتنا الكبير الشهيرة. الشاطبي - نسبة الى شاطبة مدينة كبيرة بشرق الأندلس، خرج منها جماعة من العلماء، وقيل أبو القاسم هو اسم الشاطبي، وكنيته اسمه، والصحيح ما تقدم. وفي السنة المذكورة توفي أبو شجاع محمد بن علي المعروف بابن الدهان البغدادي الفرضي الحاجب الأديب. له أوضاع بالجداول في الفرائض وغيرها، وصنف غريب الحديث في ستة عشر مجلداً الطافاً، رمز فيها حروفاً يستدل بها على اماكن الكلمات المطلوبة منه. وكان قلمه أبلغ من لسانه، وجمع تاريخاً وغير ذلك وله يد طولى في معرفة النجوم وحل الأزياج، وله شعر جيد منه ما كتبه إلى بعض الرؤساء، وقد عوفي من مرضه:
تذر الناس يوم برئك صوماً ... غير أني نذرت وحدي فطرا
عالماً أن يوم برئك عيد ... لا أرى صومه ولو كان نذرا
وفيها توفي الحافظ أبو عبد الله محمد بن ابراهيم الانصاري المالقي، صاحب الإمام(3/354)
ابن العربي كان إماماً معروفاً يسرد المتون والأسانيد عارفاً بالرجال واللغة ورعاً جليل القدر، طلبه من السلطان ليسمع بمراكش، فمات بها. وفيها توفي الشيخ الكبير قدوة العارفين وأستاذ المحققين، صاحب الكرامات الخارقة والانفاس الصادقة، والمقامات العلية والأحوال السنية، والهمم السامية والبركات النامية، والمعارف الجليلة والمواهب الجزيلة، والقدم الراسخ والمنهج المحمود، والباع الطويل في التصرف النافذ في الوجود، والمظهر العظيم والمحل الكريم أبو مدين شعيب بن الحسن، وقيل ابن الحسين المغربي - قدس الله روحه - أحد أركان هذا الشأن وأجمل الأكابر الأعيان، أظهر الله على يديه عجائب الآيات، ونطقه بفنون الحكم وكشف له الأسرار المغيبات، ورزقه القبول العظيم التام، والهيبة الوافرة في قلوب الأنام، ونشر ذكره في الآفاق وانعقد الإجماع على فضله، واجتمع عنده جمع كثير من الفقهاء والصلحاء، وتخرج به جماعة من أكابر المشايخ الأصفياء، مثل الشيخ أبي محمد عبد الرحيم القنادي، والشيخ أبي عبد الله القرشي، والشيخ أبي محمد عبد الله الفارسي، والشيخ أبي محمد صاحب الدكالي، والشيخ أبي غانم سالم، والشيخ أبي علي واضح، والشيخ أبي الصبر أيوب المكناسي، والشيخ أبي محمد عبد الواحد، والشيخ أبي الربيع المظفري، والشيخ أبي زيدين هبة الله وغيرهم من العلماء. وتلمذ له خلق كثير من أهل الطريق، وقال بارادته جم غفير من أصحاب الأحوال، وانتهى إليه عالم عظيم من الصلحاء وتأدب بين يديه المشايخ والعلماء، وله كلام نفيس على لسان أهل الحقائق، وكرامات عظام باهرات وخوارق. فمن كلامه: أغنى الأغنياء من أبدى له الحق حقيقة من حقه، وأفقر الفقراء من ستر الحق حقه عنه ومنه إذا ظهر الحق لم يبق معه غيره، وليس للقلب سوى وجهة واحدة، فإلى أي جهة توجه حجب عن غيرها، واذا سكن الخوف القلب أورثه المراقبة، ومن تحقق بالعبودية نظر أفعاله بعين الرياء وأحواله بعين الدعوى وأقواله بعين الافتراء، وما وصل إلى صريح الحرية من عليه من نفسه بقية. ومن كراماته ما روي أنه كان يوماً ماراً على الساحل فاعترضه طائفة من الفرنج، وحملوه معهم أسيراً إلى سفينة عظيمة لهم، فلما صار فيها إذا جماعة من المسلمين أسارى، فأخذوهم وفيها جعلوهم، فلما استقر الشيخ المذكور فيها مدوا قلوعها وعزموا على المسير، فلم تذهب بهم السفينة، ولا تحركت من مكانها - على قوة الريح وشدة هبوبها وهيجانها - فلما أيقنوا أنهم على المسير لا يقدرون، وخافوا أن يدركهم المسلمون قال بعضهم لبعض: هذا بسبب هذا المسلم ولعله من أصحاب السرائر - يشيرون إلى الشيخ المذكور - فعند ذلك أمروه بالنزول فقال: لا أفعل حتى تطلقوا كل من في سفينتكم من المسلمين، فلما علموا أن(3/355)
لابد لهم من ذلك الذي قال فعلوا وسارت بهم السفينة في الحال، ومن شعره:
يا من علا فرأى ما في الغيوب وما ... تحت الثرى، وظلام الليل منسدل
أنت الغياث لمن ضاقت مذاهبه ... أنت الدليل لمن حارت به الحيل
إنا قصدناك والآمال واثقة ... والكل يدعوك ملهوف ومبتهل
فإن عفوت فذو فضل وذو كرم ... وإن سطوت فأنت الحاكم العدل
ومما أنشد بعض العلماء والصلحاء في مدحه من أهل المغرب.
تبدت لنا اعلام علم الهدى صدقا ... فسار بشمسى الدين مغربنا شرقا
وأشرق منها كل ما كان آفلاً ... وأصبح نور السعد قد ملأ الأفقا
صحب الشيخ الكبير العارف بالله الشهير أبا العز المغربي، وكمل على يديه، وكان سلطان المغرب في زمانه قد أمر بإشخاصه إليه، فلما وصل إلى تلمسان قال: ما لنا وللسلطان! الليلة نزور الإخوان، ثم نزل واستقبل القبلة وتشهد وقال: ها قد جئت، ها قد جئت، وعجلت إليك رب لترضى. فمات ودفن في جبانة العباد، وقد ناهز الثمانين. وقبره بها ظاهر للزائرين، رضي الله عنه وعن سائر الصالحين. وفي السنة المذكورة توفي الشيخ الكبير العارف بالله الخبير إمام العارفين: جاكير: صاحب الفتح السني والكشف الجلي، والكرامات الباهرة والأحوال الفاخرة والمقامات العلية والأنفاس الزكية، والتصريف النافذ في العوالم، ومحاسن الأوصاف، وجميل الشيم والمكارم، والمعارف. كان تاج العارفين - رضي الله تعالى عنه - يثني عليه وينوه بذكره وبعث إليه طاقيته مع الشيخ علي ابن الهيتي، ولم يكلفه الحضور وقال: سألت الله تعالى أن يكون جاكير من مريدي، فوهبه لي. وكان رضي الله تعالى عنه يقول: ما أخذت العهد على أحد حتى رأيت اسمه مرقوماً في اللوح المحفوظ من جملة مريدي. وقال أيضاً أوتيت سيفاً ماضي الحد، أحد طرفيه بالمشرق والآخر بالمغرب، لو أشير به إلى الجبال الشوامخ لهوت. وروى الشيخ أبو الحسن علي ابن الشيخ الصالح ابن الشيخ العارف أبي الصبر يعقوب قال: أخبرنا أبي قال: سمعت والدي يقول: كانت نفقة شيخنا الشيخ جاكير بالجيم والمثناة من تحت بين الكاف والراء - رضي الله تعالى عنه من الغيب، وكان نافذ التصرف خارق الفعل متواتر الكشف، يندر له كثير. وكنت عنده يوماً فمرت به بقرات مع راعيها فأشار إلى إحداهن وقال: هذه حامل(3/356)
بعجل أحمر أغر، صفته كذا، يولد وقت كذا من يوم كذا، وهو نذر لي، ويذبحه الفقراء يوم كذا، ويأكله فلان وفلان، ثم أشار إلى الأخرى وقال: هذه حامل بأنثى، ومن صفتها كذا تولد وقت كذا، وهي نذر لي، ويذبحها فلان رجل من الفقراء يوم كذا، ويأكلها فلان وفلان، ولكلب أحمر فيها رزق. قال: فوالله لقد جرت الحال على ما وصف، ولم يخل منها بشيء، ودخل كلب أحمر إلى الزاوية، واختطف قطعة من لحم الأنثى وذهب بها. ومن كلامه - رضي الله تعالى عنه - إذا قدحت نار التعظيم مع نور الهيبة في زناد السر تولد منها شعاع المشاهدة، فمن شاهد الحق عز وجل في سره سقط الكون من قلبه. وأصله من الأكراد، سكن صحراء من صحارى العراق بالقرب من قنطرة الرصاص على يوم من سامرا، ولم يزل مستوطناً بها إلى أن مات بها، وقبره بها ظاهر يزار يؤمه من البعد الزوار، قد عمر الناس عنده قرية، رغبة في مجاورته والتماساً منهم لبركته.
سنة احدى وتسعين وخمس مائة
فيها كانت وقعة الزلاقة بين يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن وبين ملك الفرنج، فدخل يعقوب وغدا من زقاق سبتة في مائة ألف غير المطوعة، وأقبل الكافر عدو الله في مائتي ألف وأربعين ألفاً فانتصر بحمد الله الإسلام، وانهزم الكلب في عدد يسير، وقتل من الفرنج على ما أرخ أبو شامة وغيره مائة ألف وستة وأربعون ألفاً، وأسر ثلاثون ألفاً، وغنم المسلمون غنيمة لم يسمع بمثلها، حتى بيع السيف بنصف درهم، والحصان بخمسة دراهم، والحمار بدرهم، وذلك في تاسع شعبان من السنة المذكورة. وفيها سار الملك العزيز ولد صلاح الدين من مصر، فنزل بحوران لياخذ دمشق من أخيه الأفضل، فاتخذ الأفضل عمه العادل، فرجع العزيز، وتبعاه، فدخل القاضي الفاضل في الصلح بينهم، وأقام العادل بمصر. وفيها توفي الحافظ القدوة الإمام أحد العلماء الأعلام أبو محمد عبد الله الأندلسي الزاهد: عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عبيد الله المرسي، سمع فأكثر على أبي الحسن بن مغيث وابن العربي والكبار، وتفنن في العلوم، وبرع في الحديث، وطال عمره، وشاع ذكره، وكان قد سكن سبتة فاستدعاه السلطان إلى مراكش ليسمع.(3/357)
سنة اثنتين وتسعين وخمس مائة
فيها قدم العزيز دمشق مرة ثالثة ومعه عمه العادل، فحاصرا دمشق، ثم حاصر جند الأفضل عليه، ففتحوا لهما ودخلا في رجب، وزال ملك الأفضل، ورجع العزيز، وبقي العادل بدمشق وخطب بها للعزيز قليلاً. وفيها توفي الشيخ السديد شيخ الطب بالديار المصرية الملقب شرف الدين عبد الله بن علي. أخذ الصناعة عن الموفق بن زربي - بالزاي ثم الراء ثم الموحدة وياء النسبة - وخدم العاضد صاحب مصر، ونال الحرمة والجاه العريض، وعمر دهراً، وأخذ عنه النفيس بن الزبير. وحكي أنه حصل له في يوم ثلاثون ألف دينار، وحكى عنه تلميذه أبن الزبير أنه لما ظهر ولدي الحافظ لدين الله حصل له نحو خمسين ألف دينار. وفيها توفي الحبر الإمام أبو القاسم محمود بن المبارك الواسطي ثم البغدادي الفقيه الشافعي، أحد الأذكياء المناظرين المشار إليه في زمانه، والمقدم على أقرانه، درس بالنظامية، وقم دمشق، بنيت له مدرسة جاروخ - بالجيم في أوله والخاء المعجمة في آخره - ثم توتجه إلى شيراز وبنى له ملكها مدرسة، ثم أحضره ابن القضاب وقدمه. وفيها توفي أبو الغنائم محمد بن علي معروف بابن المعلم الشاعر المشهور، كان شاعراً رقيق الشعر لطيف الطبع، يكاد شعره يذوب من رقته، وهو أحد من اشتهر شعره وانتشر ذكره، ونبل بالشعر قدره، وحسن به حاله وأمره، وطال في نظمه عمره، وساعده على قبوله دهره، وأكثر القول في الغزل والمدح وفنون المقاصد، وكان سهل الألفاظ صحيح المعاني، يغلب على شعره وصف الشوق والحب وذكر الصباية والغرام، فعلق بالقلوب، ولطف مكانه عند أكثر الناس ومالوا إليه وتحفظوا وتداولوه بينهم، واستشهد به الوغاظ واستحلاه السامعون. قال ابن خلكان: سمعت من جماعة من مشايخ البطائح يقولون: ما سبب لطافة شعر ابن المعلم؟! ألا أنه كان إذا نظم قصيدة حفظها الفقراء المنتسبون إلى الشسخ أحمد بن الرفاعي، وغنوا بها في سماعاتهم، فطابوا عليها، فعادت عليه بركة أنفاسهم. قال: ورأيتهم يعتقدون ذلك اعتقاداً لا شك فيه عندهم، قال: وبالجملة، فشعره شبيه النوح، ولا يسمعه من عنده أدنى هوى إلا وهاج غرامه. قال: وكان بينه وبين ابن التعاويذي الشاعر المتقدم(3/358)
ذكره تنافس، وهجاه ابن التعاويذي بابيات أجاد فيها. ومن شعر ابن المعلم:
ردوا علي شوارد الأظعان ... ما الدار إن لم تغن من أوطاني
ولكم بذاك الجزع من متمتع ... هزت معاطفه بغصن البان
أبدى قلونه بأول موعد ... ومن الوفاء لنا بوعد ثان
فمتى اللقاء ودونه من قومه ... أبناء معركة وأسد طعان
تعلو الرماح وما أظن أكفهم ... خلقت لغير ذوابل المران
وتقلد وابيض السيوف فما ترى ... في الحي غير مهند وسنان
ولئن صددت، فمن مراقبة العدا ... ما الصد عن ملك ولا سلوان
يا ساكني نعمان أين زماننا ... بطويلع يا ساكني نعمان
وحكي عن ابن المعلم المذكور أنه قال: كنت ببغداد فاجتزت يوماً بالموضع الذي يجلس فيه الشيخ أبو الفرج بن الجوزي الواعظ، فرأيت الخلق مزدحمين، فسألت بعضهم عن سبب ازدحامهم فقال: هذا ابن الجوزي الواعظ جالس. - ولم أكن علمت بجلوسه - فزاحمت وتقدمت حتى شاهدته، وسمعت كلامه وهو يعظ حتى قال مستشهدا على بعض إشاراته؛ ولقد أحسن ابن المعلم حيث يقول:
يزداد في مسمعي تكرار ذكركم ... طيباً وبحسن في عيني تكرره
فعجبت من اتفاق حضوري واستشهاده بهذا البيت من شعري، ولم يعلم بحضوري لا هو ولا غيره من الحاضرين.
سنة ئلاث وتسعين وخمس مائة
فيها افتتح العادل يافا، وفيها أخذت الفرنج من المسلمين بيروت، وهرب أميرها الى صيدا. وفيها توفي سيف الإسلام الملك العزيز طغتكين بن أيوب بن شاذي صاحب اليمن. كان أخوه الملك الناصر صلاح الدين لما ملك الديار المصرية قد سير أخاه شمس الدولة إلى بلاد اليمن، فدخلها واستولى على كثير من بلادها ثم رجع عنها على ما هو مذكور في ترجمته في سنة ست وسبعين وخمسمائة، ثم سير السلطان صلاح الدين إليها بعد ذلك أخاه سيف الإسلام، وذلك في سنة سبع وسبعين وخمس مائة وكان رجلاً شجاعاً كريماً مشكور(3/359)
السيرة وحسن السياسة، مقصوداً من البلاد الشاسعة لاحسانه وبره. وكانت وفاة سيف الإسلام بالمنصورة مدينة اختطها باليمن، وتولى بعده ولده الملك المعز فتح الدين اسماعيل الذي سفك الدماء وظلم وعسف وادعى أنه أموي. وللمعز المذكور صنف أبو الغنائم مسلم بن محمود الشيرازي كتابه الذي سماه: عجائب الأسفار وغرائب الأخبار وأودع فيه من أشعاره وأخبار الناس كثيراً. وذكر بعضهم أنه مات بالحمراء من بلاد اليمن، وذكر أبو الغنائم في كتابه جمهرة الإسلام ذات النثر والنظم وأنه مات بثغر ودفن بها في المدرسة، ثم قال: وقتل ولده فتح الدين أبو الفداء اسماعيل في رجب سنة ثمان وتسعين بمكان شامي زبيد، وتولى مكانه أخوه الملك الناصر أيوب. وكان أبو الغنائم المذكور أديباً شاعراً، وكان أبوه أبو الثناء محمود نحوياً متصدراً الإقراء النحو بجامع دمشق، ذكره الحافظ ابن عساكر، وقال ابن عنين: أنشدني محمود المذكور لنفسه:
يقولون كافات الشتاء كثيرة ... وما هي إلا واحد غير مفترى
إذا صح الكيس فالكل حاصل ... لديك وكل الصيد يوجد في القري
وفيها توفي الوزير عبد الله بن يونس البغدادي، تفقه واشتغل بالأصول والكلام وقرأ القراءات وسمع من أبي الوقت، وصنف كتاباً في الكلام والمقالات، ثم توكل لأم الخليفة، فترقى وعظم قدره، وولى وزارة الناصر لدين الله.
سنة اربع وتسعين وخمس مائة
فيها استولى علاء الدين خوارزم شاه على بخار، وكانت للمعين صاحب الخطا، وجرى له معه حروب وخطوب، ثم انتصر علاء الدين وقتل خلقاً من الخطا. وفيها توفي السيد الكبير أبو علي الحسن بن مسل، المشار إليه في العراق في زمانه. ويقال إنه كان من الأبدال، زاره الخليفة الناصر غير مرة، وتفقه وسمع من أبي البدر الكرخي، وكان كثير البكاء دائم المراقبة متبتلاً في العبادة مشهوراً برفض الدنيا، بلغ التسعين رحمة الله تعالى(3/360)
عليه. وفيها توفي صاحب سنجار الملك عماد الدين زنكي بن مودود، تملك حلب بعد ابن عمه الصالح اسماعيل، فسار صلاح الدين ونازله، ثم أخذ منه حلب وعوضه بسنجار، وكان عادلاً متواضعاً، وتملك بعده ابنه قطب الدين محمد. وفيها توفي قوام الدين يحيى بن سعيد الواسطي المعروف بابن الزياد صاحب ديوان الإنشاء ببغداد انتهت إليه رئاسة الترسل، مع معرفته بالفقه والأصول والكلام والنحو والشعر، أخذ عن ابن الجواليقي، وحدث عن القاضي الأرجاني وغيره، وولي نظر واسط، ثم ولي حجابة الحجاب.
سنة خمس وتسعين وخمس مائة
وفيها بعث الخليفة خلع السلطنة لخوارزم شاه. وفيها أخرج ابن الجوزي من سجن واسط وتلقاه الناس، وبقي في المطمورة خمس سنين. كذا ذكر الذهبي، ولم يبين لأي سبب سجن. وكنت قد سمعت فيما مضى أنه حبس بسبب الشيخ عبد القادر، بأنه كان ينكر عليه، وكان بينه وبين ابنه عداوة بسبب الإنكار المذكور. وأخبرني من وقف على كتاب له ينكر على قطب الأولياء. وتاج المفاخر الذي خضعت لقدمه رقاب الأكابر الشيخ محيي الدين عبد القادر - قدس الله تعالى روحه ونور ضريحه - وإنكار ابن الجوزي عليه وعلى غيره من الشيوخ أهل المعارف والنور من جملة الخذلان وتلبيس الشيطان والغرور. والعجب منه في انكاره عليهم وبمحاسنهم يطرز كلامه فقد ملأت - والحمد لله - محاسنهم الوجود، فلا مبالاة بذم كل مغرور وحسود. قال الذهبي: وفيها فتنة الفخر الرازي صاحب التصانيف. وذلك أنه قدم هراة، ونال إكراماً عظيماً من الدولة، فاشتد ذلك على الكرامية، فاجتمع يوماً هو والقاضي مجد الدين ابن القدوة، فناظرا، ثم استطال فخر الدين على ابن القدوة وشتمه، ونال منه ما خرج فيه إلى الإهانة له. فلما كان من الغد جلس ابن عم مجد الدين فوعظ الناس وقال: ربنا آمنا بما أنزلت، واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين، أيها الناس؛ ما نقول إلا ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأما قول أرسطو أو كفريات ابن سينا وفلسفة الفارابي فلا نعلمها، فلأي شيء يشتم بالأمس شيخ من شيوخ الإسلام يذب عن دين الله؟ وبكى فأبكى الناس، وضجت الكرامية وثاروا من كل ناحية، وحميت الفتنة، فأرسل السلطان الجند وسكتهم، وأمر الرازي بالخروج. قلت: هكذا ذكر من المؤرخين من له غرض في الطعن(3/361)
على أئمة الأشعرية. ثم أتبع ذلك بقوله. وفيها كانت بدمشق فتنة الحافظ عبد الغني. وكان أماراً بالمعروف داعية إلى السنة فقامت عليه الأشعرية وأفتوا بقتله، فأخرج من دمشق مطروداً. انتهى كلامه بحروفه في القصتين معاً. ومذهب الكرامية والظاهرية معروف، والكلام عليهما إلى كتب الأصول الدينية مصروف، فهنالك يوضح الحق البراهين القواطع، ويظهر الصواب عند كشف النقاب للمبصر والسامع. وفيها مات العزيز صاحب مصر أبو الفتح عثمان ابن السلطان صلاح الدين. وكان شاباً ذا كرم وحياء وعفة. قالوا: وبلغ من كرمه أنه لم يبق له خزانة، وبلغ من عفته أنه كان له غلام بألف دينار، فحل لباسه، ثم أدركه التوفيق فتركه، وأسرع إلى سرية له فقضى حاجته منها. وأقيم والده علي، فاختلف الأمراء، وكان بعضهم للأفضل، فسار إلى مصر، ثم سار بالجيوش ليأخذ دمشق من عمه، فوقع الحصار، ثم دخل الأفضل من باب السلامة، وفرحت به العامة وحوصرت القلعة مد. وفيها صلب بدمشق إنسان زعم أنه عيسى ابن مريم، وأضل طائفة، فأفتى العلماء بقتله. وفيها توفي الإمام العلامة أبو الوليد محمد بن أحمد القرطبي المعروف بابن رشد. تفقه وبرع وسمع الحديث، وأتقن الطب، ثم أقبل على الكلام والعلوم الفلسفية حتى صار يضرب به المثل فيها، وصنف التصانيف، وكان ذا ذكاء مفرط وملازمة للاشتغال ليلاً ونهاراً. وتآليفه في الفقه والطب والمنطق والرياضي والإلهي. وكانت وفاته بمراكش. وفيها توفي شيخ الطب وجالينوس العصر محمد بن عبد الملك بن زهر الإيادي الإشبيلي أخذ الصناعة عن أبي العلاء زهير بن عبد الملك، وبرع ونال تقدماً وحظوة عند السلاطين، وحمل الناس عنه تصانيفه. وكان جواداً ممدحاً محتشماً كثير العلم قيل: إنه حفظ صحيح البخاري كله، وحفظ شعر ذي الرمة، وبرع في اللغة. توفي بمراكش. وفيها توفي العلامة يحيى بن علي البغدادي الشافعي المعروف بابن فضلان. كان(3/362)
من أئمة علم الخلاف والجدل مشاراً إليه. وفيها توفي المنصور أبو يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن صاحب المغرب الملقب بأمير المؤمنين. قد تقدم ذكر جده عبد المؤمن، ولما مات أبوه اجتمع رأي المشايخ الموحدين وبني عبد المؤمن على تقديمه، فبايعوه وعقد له الولاية ودعوة أمير المؤمنين كأبيه وجده، ولقبوه بالمنصور، فقام بالأمر أحسن قيام، وهو الذي أظهر أئمة ملكهم ورفع راية الجهاد، ونصب ميزان العدل، وبسط أحكام الناس على حقيقة الشرع، ونظر في أمر الدين والورع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأقام الحدود حتى في أهله وعشيرته والأقربين، كما أقامها في سائر الناس أجمعين، فاستقامت الأحوال في أحواله وعظمت الفتوحات.
ولما مات أبوه كان معه في الصحبة، فباشر تدبيرالمملكة من هناك، فأول ما رتب قواعد بلاد الأندلس، فأصلح شأنها وقرر المقاتلين في مراكزها، ومهد مصالحها في مدة شهرين، وأمر بقراءة البسملة في أول الفاتحة في الصلوات، وأرسل بذلك على سائر بلاد الإسلام التي في مملكته فأجاب قوم وامتنع آخرون. ثم عاد إلى مراكش التي هي كرسي ملكهم، فخرج عليه علي بن إسحاق الملثم في شعبان سنة ثمانين وخمس مائة، وملك بجاية وما حولها، فجهز إليه يعقوب عشرين ألف فارس وأسطوله في البحر. ثم خرج بنفسه في أول سنة ثلاث وثمانين، فاستعاد ما أخذ من البلاد، ثم عاد إلى مراكش. وخرجت طائفة من الفرنج في جيش كثيف إلى بلاد المسلمين، فنهبوا وسبوا، فانتهى مات أبوه كان معه في الصحبة، فباشر تدبيرالمملكة من هناك، فأول ما رتب قواعد بلاد الأندلس، فأصلح شأنها وقرر المقاتلين في مراكزها، ومهد مصالحها في مدة شهرين، وأمر بقراءة البسملة في أول الفاتحة في الصلوات، وأرسل بذلك على سائر بلاد الإسلام التي في مملكته فأجاب قوم وامتنع آخرون. ثم عاد إلى مراكش التي هي كرسي ملكهم، فخرج عليه علي بن إسحاق الملثم في شعبان سنة ثمانين وخمس مائة، وملك بجاية وما حولها، فجهز إليه يعقوب عشرين ألف فارس وأسطوله في البحر. ثم خرج بنفسه في أول سنة ثلاث وثمانين، فاستعاد ما أخذ من البلاد، ثم عاد إلى مراكش. وخرجت طائفة من الفرنج في جيش كثيف إلى بلاد المسلمين، فنهبوا وسبوا، فانتهى الخبر إلى الأمير يعقوب، فتجهز لقتالهم في جحفل عرمرم من قبائل الموحدين والعرب، واحتفل فيها وجاء إلى الأندلس، فعلم الفرنج فجمعوا جمعاً كثيراً من أقاصي بلادهم. وكان قد كتب إليه ملك الفرنج يتهدد المسلمين، ومن جملة كتابه باسمك اللهم فاطر السماوات والأرض، وصلى الله على السيد المسيح روح الله وكلمته، الرسول الفصيح، ثم عقب ذلك بالتوبيخ للأمير يعقوب والتهديد في كلام يطول. فلما وصل كتابه إلى الأمير يعقوب مزقه وكتب على ظهر قطعة منه: ارجع إليهم، " فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون " - النمل 37 - إن الجواب ما ترى، لا ما تسمع. ثم كتب هذا البيت:
ولا كتب إلا المشرقية عنده ... ولا ارسل إلا الخميس العرمرم
بيت المتنبي المشهور. ثم أمر باستدعاء الجيوش من الأمصار، وضرب السرادقات(3/363)
بظاهر البلد من يومه، وجمع العساكر وسار إلى البحر المعروف بزقاق سبتة، فعبر فيه إلى الأندلس، وسار إلى أن دخل بلاد الفرنج - وقد اعتدوا وأحشدوا وتأهبوا - فكسرت كسرة شنيعة بعد أن أمر فرسان الموحدين وأمراء العرب أن يحملوا، ففعلوا وانهزم الفرنج، وأعمل فيهم السيف، فاستأصلهم قتلاً، وما نجا منهم إلا ملكهم في نفر يسير. وغنم المسلمون أموالهم، حتى قيل إنه حصل لبيت المال من دروعهم ستون ألف درع. أما الدواب على اختلاف أنواعها فلم ينحصر لها عدد، ولم يسمع في بلاد الأندلس بكسرة مثلها. ومن عادة الموحدين أنهم لا يأسرون مشركاً محارباً إن ظفروا به ولو كان ملكاً عظيماً، بل يضربون رقاب الجميع - قلوا أو كثروا. ثم أتبعهم بجيش، فألفوهم قد أخلوا قلعة رباح لما داخلهم من الرعب، فملكها يعقوب وجعل فيها والياً وجيشاً. ولكثرة الغنائم لم يمكنه الدخول إلى بلاد الفرنج، فعاد إلى اشبيلية. وله مع الفرنج حروب عديدة أذلهم فيها، ونال منهم قتلاً ونهباً وتخريباً لديارهم، إلى أن التمسوا منه الصلح فصالحهم. وانتقل الى مدينة سلاوينا، وهي بالقرب منها مدينة عظيمة سماها رباط الفتح على هيئة الإسكندرية في اتساع الشوارع وحسن التقسيم وإتقان البناء وتحسينه وتحصينه، وبناها على البحر المحيط، ثم رجع إلى مراكش. وبعد هذا اختلفت الرواية في أمره، فمن قائلين إنه تجرد وساح في الأرض، وانتهى إلى بلاد الشرق وهو مستخف لا يعرف - ومات خاملاً، ومن قائلين إنه لما رجع إلى مراكش توفي - رحمه الله تعالى. قلت وسأذكر فيما بعد ما يؤيد قول من قال إنه تجرد عن الملك وساح في البلاد. وكان ملكاً جواداً عادلاً متمسكاً بالشرع المطهر، يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر - كما ينبغي - من غير محاباة، ويصلي بالناس الصلوات الخمس، ويلبس الصوف ويقف للمرأة والضعيف، فيأخذ لهم حقهم من كل ظالم عنيف، وأوصى أن يدفن في قارعة الطريق ليترحم عليه من أوصلته طريقه إليه من كل من مر به - أقبل لحاجة أو أدبر. وكان قد أمر علماء زمانه أن لا يقلدوا أحداً من الأئمة المجتهدين المتقدمين، بل تكون أحكامهم بما يؤدي إليه اجتهادهم من استنباطهم القضايا من الكتاب والحديث والإجماع والقياس. قال ابن خلكان: ولقد أدركنا جماعة من مشايخ المغرب وصلوا إلينا - وهم على تلك الطريق - مثل أبي الخطاب بن دحية، وأخيه أبي عمر ومحيي الدين بن العربي نزيل دمشق(3/364)
وغيرهم. وكان يعقوب المذكور يعاقب على ترك الصلاة، ويامر بالنداء في الاسواق بالمبادرة إليها، فمن غفل عنها واشتمل بمعيشة عزر تعزيراً بليغاً. وكان قد عظم ملكه واتسعت دائرة سلطانه حتى لم يبق بجميع أقطار بلاد المغرب من البحر المحيط إلى برقة إلا من هو في طاعته وداخل ولايته، إلى غير ذلك من جزيرة الأندلس. وكان محسناً محباً للعلماء مقرباً للأدباء مصغياً إلى المدح مثيباً عليه، وله ألف أبو العباس الموحدي كتابه الموسوم بصفوة الأدب وديوان العرب في مختار الشعر. قال ابن خلكان: وهو مجموع مليح أحسن في اختياره كل الإحسان. وإلى الأمير يعقوب نسبت الدنانير اليعقوبية المغربية. وكان قد أرسل إليه السلطان صلاح الدين رسولاً يستنجده على الفرنج الواصلين من بلاد المغرب إلى الديار المصرية وساحل الشام، ولم يخاطبه بأمير المؤمنين، بل بأمير المسلمين، فعز عليه ذلك، ولم يجبه إلى ما طلب منه. فلما توفي الأمير يعقوب بايع الناس ولده أبا عبد الله محمد بن يعقوب - ويلقب - بالناصر وارتجع الفدية من الملثم المتقدم ذكره، وكان قد استولى عليها، ثم تحول محمد بن يعقوب، ثم توفي بعد ذلك في سنة ست عشرة وستمائة. والمغاربة يقولون إنه أوصى عبيده بحراسة بستانه وحفظه، فتنكر وجعل يمشي في بستانه ليلاً، فعندما رأوه ابتدروه بالرماح، فجعل يقول: أنا الخليفة أنا الخليفة، فما تحققوه حتى هلك. والله أعلم بذلك. ولم يزل بنو عبد المؤمن يتوارثون الملك إلى أن انتهى إلى أبي العلاء إدريس بن يوسف بن عبد المؤمن، فوقعت بينه وبين بني مريم حرب قتل فيها، فانقرضت دولة بني عبد المؤمن، واستولى بنو مريم على ملكهم، ولم يزل الملك في عنقهم إلى الآن. قلت: هكذا قال ابن خلكان، وهكذا هو أيضاً إلى الآن، لكنه قد تضعضع واضطرب لعدم طاعة العرب. قلت: وقد تقدم أن بعض المغاربة يذكرون أن
الأمير يعقوب خلى الملك وساح في الأرض. ووعدت هناك بذكر ما يؤيد هذا القول، وها أنا أذكره الآن: سمعت ممن لا أشك في صلاحه من الفقراء الصادقين المتجردين المباركين من بلاد المغرب أن جمعاً من شيوخ المغاربة ذكروا رسالة الأستاذ أبي القاسم القشيري - رحمه الله تعالى - وما جمع فيها من مشايخ المشارقة وذكر مناقبهم، فراموا أن يعارضوا رسالته برسالة مشتملة على شيوخ يذكرونهم فيها - من شيوخ المغاربة - ثم ذكروا أن في شيوخ الرسالة القشيرية من تجرد عن الملك، ولم يجدوا في شيوخ المغرب من هو كذلك، فقالوا: ما تتم لنا معارضة الرسالة يعقوب خلى الملك وساح في الأرض. ووعدت هناك بذكر ما يؤيد هذا القول، وها أنا أذكره الآن: سمعت ممن لا أشك في صلاحه من الفقراء الصادقين المتجردين المباركين من بلاد المغرب أن جمعاً من شيوخ المغاربة ذكروا رسالة الأستاذ أبي القاسم القشيري - رحمه الله تعالى - وما جمع فيها من مشايخ المشارقة وذكر مناقبهم، فراموا أن يعارضوا رسالته برسالة مشتملة على شيوخ يذكرونهم فيها - من شيوخ المغاربة - ثم ذكروا أن في شيوخ الرسالة القشيرية من تجرد عن الملك، ولم يجدوا في شيوخ المغرب من هو كذلك، فقالوا: ما تتم لنا معارضة الرسالة(3/365)
المذكورة إلا بملك منها يزهد ويسلك طريق ابن أدهم المشكور. فاهتموا لحصول ملك يزهد في الدنيا من ملوك المغرب ليعارضوا به ابن أدهم على المنصب، فجاء الشيخ الكبير الولي الشهير أبو ابراهيم بن أدهم إلى أمير المؤمنين - يعقوب المذكور فيما تقدم - واجتمع به، فسر يعقوب بذلك، وأخرج له من خزائنه جواهر نفيسة إكراماً له في مجيئه إليه، فالتفت أبو ابراهيم إلى شجرة هنالك وإذا هي حاملة جواهر تدهش العقول، فدهش أمير المؤمنين يعقوب، وهاله ما رأى من تصريف عباد الله في ملك الله، وما أكرمهم به ووالاهم، ورفع قدرهم وأعلاهم، حتى صارت ملوك الدنيا بين أيديهم كالخدم، وملكهم حقير كالعدم. فعند ذلك احتقر يعقوب ما هو فيه من ملك الدنيا، فزهد فيه، وصار من كبار الأولياء.
سنة ست وتسعين وخمس مائة
فيها تسلطن علاء الدين خوارزم شاه محمد بعد موت أبيه. وفيها كانت محاصرة دمشق. وبها العادل، وعليها الأفضل والظاهر ابنا صلاح الدين وعساكرهما نازلة، قد خندقوا عليهم من أرض اللوان إلى بلد آخر، فأمن من كبسة عسكر العادل، ثم ترحلوا عنها، ورجع الظاهر إلى حلب، وسار الأفضل إلى مصر، فساق وراءه العادل وأدركه عند العراب، ثم تقدم عليه وسبقه إلى مصر، فرجع الأفضل خائباً إلى صرخد - بالخاء المعجمة - وغلب العادل على مصر وقال: هذا صبي. وقطع خطبته، ثم أحضر ولده الكامل وسلطنه على الديار المصرية، فلم ينطق أحد من الأمراء. وسهل له ذلك اشتغال أهل مصر بالقحط، فإن فيها كسو النيل من ثلاثة عشر ذراعاً إلى ثلاثة أصابع، واشتد الغلاء وعدمت الأقوات، وشرع الوباء وعظم الخطب إلى أن آل بهم الأمر إلى أكل الآدميين الموتى. وفيها توفي العلامة أبو اسحاق العراقي ابراهيم بن منصورالمصري الخطيب، شيخ الشافعية بمصر. شرح كتاب المهذب في عشرة أجزاء شرحاً جيداً. قلت: وهذا المذكور أول شراح المهذب، وهم خمسة فيما علمت، والثاني الإمام العلامة أبو عمر وعثمان بن(3/366)
عيسى الماراني الملقب ضياء الدين شرح الكتاب المذكور في قريب من عشرين مجلداً لكنه لم يكمله، بل بلغ فيه إلى كتاب الشهادات وسماة الاستقصاء لمذاهب العلماء والفقهاء. وسيأتي ذكر ذلك في ترجمته في السنة التي توفي فيها سنة اثنين وستمائة بالقاهرة. والثالث والرابع السيدان الكبيران الوليان الشهيران الإمامان الجليلان أبو الذبيح اسماعيل ابن محمد الحضرمي اليمني، وأبو زكريا محيي الدين النووي، وهما متعاصران توفيا في سنةواحدة سنة ست وسبعين وستمائة. ولا أدري أيهما سبق بالشرح، فلهذا جمعتهما، وسيأتي ذكرهما في السنة المذكورة، وثني من فضائلهما بالتعديد. والخامس الإمام العلامة قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وكل هؤلاء المذكورين ما أكملوا شرحه سوى العراقي والحضرمي وشرح السبكي، إنما بناه على ما انتهى إليه النووي، وهو باب الربا، ولم يكمله أيضاً ولقب أبو إسحاق المذكور بالعراقي لاشتغاله ببغداد. وفيها توفي علاء الدين خوارزم شاه سلطان الوقت. ملك من السند والهند وما وراء النهر إلى خراسان إلى بغداد. وكان جيشه مائة الف فارس وهو الذي أزال دولة سلجوق. وكان شجاعاً فارساً عالي الهمة، تغير على الخليفة، وعزم على قصد العراق، فجاءه الموت فجأة في رمضان، وحمل إلى خوارزم، وقيل كان عنده أدب ومعرفة بمذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - وقام مدة بعد ولده قطب الدين محمد. وفيها توفي مجد الدين طاهر بن نصر الله بن جميل الكيلاني الشافعي الفرضي مدرس مدرسة صلاح الدين في القدس، وهو أحد من قام على الحكيم الشهروردي وأفتى بقتله. وفيها توفي أبو علي المعروف بالقاضي الفاضل عبد الرحيم ابن القاضي الملقب بالأشرف أبي المجد علي ابن القاضي الملقب بالسعيد أبي محمد الحسن بن الحسن اللخمي العسقلاني المولد، المصري الدار، وزر للسلطان صلاح الدين، وتمكن منه غاية التمكن: وبرز في صناعة الإنشاء، وفاق المتقدمين، وله فيه الغرائب مع الإكثار. قال ابن خلكان: أخبرني أحد الفضلاء الثقات المطلعين على حقيقة أمره أن مسودات رسائله في المجلدات والتعليقات في الأوراق إذا جمعت ما تقصر عن مائة مجلد، وهو مجيد في أكثرها. قال العماد الأصبهاني في كتاب الخريدة في حقه: رب العلم والبيان واللسن واللسان، القريحة والوقادة والبصيرة النقادة والبديهة المعجزة والبديعة المطرزة،(3/367)
تخترع الأفكار وتفترع الأبكار، وتطلع الأنوار وتبدع الازهار، وهو ضابط الملك بآرائه ورابط السلك بآلآئه، أن شاء أنشأ في يوم واحد بل في ساعة ما لو دون لكان لأهل الصناعة خير بضاعة. أين قس في فصاحته؟! وأين قيس في مقام حصافته؟! وأين حاتم وعمرو في سماحته وحماسته؟! وأطال القول فيما سمت به مدائحه. فالله تعالى يسامحنا ويسامحه. وذكر له رسالة لطيفة كتبها إلى صلاح الدين من جملتها: أدام الله السلطان الملك وثبته، وتقبل عمله بقبول صالح وأنبته، وأرغم أنف عدوه بسيفه وكتبه، خدمة المملوك هذه واردة على يد خطيب عيذاب لما نابه المنزل عنها وقل عليه الموفق فيها. وسمع بهذه الفتوحات التي طبق الأرض ذكرها، ووجب على أهلها شكرها. هاجر من هجر عيذاب وملحا سارياً في ليلة أمل كلها نهار، فلا يسأل عن صحبها، وقد
رغب في خطابة الكرك وهو خطيب - وتوسل بالمملوك في هذا الملتمس - وهو قريب - وبرع من مصر إلى الشام ومن عيذاب إلى الكرك وهذا عجيب - والفقر سائق عنيف، والمذكور خامل لطيف، والسلام. ومن رسالة له في قلعة شاهقة يقال إنها قلعة كوكب قال: وهذه العلقة عقاب في عقاب، ونجم في سحاب، وهامة لها الغمامة عمامة ذائلة إذا حصنها - الأصيل كان الهلال لها قلامة. وله في النظم أشياء حسنة منها ما أنشده عند وصوله إلى الفرات في خدمة السلطان صلاح الدين يتشوق إلى نيل مصر: في خطابة الكرك وهو خطيب - وتوسل بالمملوك في هذا الملتمس - وهو قريب - وبرع من مصر إلى الشام ومن عيذاب إلى الكرك وهذا عجيب - والفقر سائق عنيف، والمذكور خامل لطيف، والسلام. ومن رسالة له في قلعة شاهقة يقال إنها قلعة كوكب قال: وهذه العلقة عقاب في عقاب، ونجم في سحاب، وهامة لها الغمامة عمامة ذائلة إذا حصنها - الأصيل كان الهلال لها قلامة. وله في النظم أشياء حسنة منها ما أنشده عند وصوله إلى الفرات في خدمة السلطان صلاح الدين يتشوق إلى نيل مصر:
بالله قل للنيل عني أنني ... لم أشف من الفرات غليل
وسل الفؤاد فإنه لي شاهد ... إن كان جفني بالدموع بخيلا
يا قلب كم خلقت ثم بثينة ... وأعيذ صبرك أن يكون جميلا
قلت: وهذا البيت رمز فيه رمزاً أشار فيه إلى ما كان بين بثينة وجميل من الحب وهيمان جميل بها، وإعاذته بالله من أن يكون متصفاً بما اتصف به جميل من الهيمان وفرط الحب الذي لا يقوى عليه إنسان، واستعار ذلك لما في قلبه من المحبة للنيل. ومنها قوله:
إذا السعادة لاحظتك عيونها ... ثم المخاوف كلهن أمان
واصطد بها العنقاء فهي حبالة ... وافتل بها الجوزاء وهي عنان
قلت والظاهر أن قوله: وافتل - بالفاء والمثناة من فوق - من فتل العنان.(3/368)
وأثنى عليه أيضاً الفقيه عمارة اليمني في كتاب النكت العصرية في أخبار الوزراء - المصرية. وقيل: إن كتبه بلغت مائة ألف مجلد، وكان له آثار جميلة وأفعال حميدة وديانة متينة وأوراد كثيرة. وكان دخله في السنة من مغله دون خمسين ألف دينار، وكان عمره بضعاً وستين سنة. وفيها توفي الشهاب الطوسي أبو الفتح محمد بن محمود نزيل مصر شيخ الشافعية. درس وأفتى ووعظ وصنف وتخرج به الأصحاب، وكان رئيساً معظماً ينبه على الملوك لصنعه، يركب بالغاشية والسيوف المسلولة - وبين يديه ينادي هذا الملك العلماء - وكان صاحب صولة في القيام على الحنابلة ونصرة الأشاعرة. وفيها توفي أبو الفتوح عبد المنعم بن أبي عبد الوهاب بن سعد الملقب شمس الدين الحراني الأصل البغدادي المولد، الحنبلي المذهب. كان تاجراً، وله في الحديث السماعات العالية، وانتهت الرحلة إليه من أقطار الأرض، وألحق الصغار بالكبار، لا يشاركه في شيوخه ومسموعاته أحد، توفي في بغداد ودفن بمقبرة الإمام أحمد - رضي الله تعالى عنه - وكان صحيح الذهن والحواس إلى أن مات، وتسرى بمائة وثمان وأربعين جارية.
سنة سبع وتسعين وخمس مائة
فيها كان الجوع والموت بالديار المصري، وجرت أمور تتجاوز الوصف ودام ذلك إلى نصف الشام الثاني، حتى قيل - أو قال قائل: مات ثلاثة أرباع أهل البلد المذكور لما أبعد والذي دخل تحت قلم الحشرية في مدة اثنتين وعشرين شهراً مائتا ألف وإحدى عشر ألفاً بالقاهرة، وهذا قليل في جنب من هلك بمصر والحواضر وفي البيوت والطرق ولم يدفن - وكله يسير في جنب من هلك بالإقليم. وقيل إن مصر كان فيها تسع مائة منسج، فلم يبق إلا خمسة عشر منسجاً. فقس على هذا - وبلغ الفروخ مائة درهم، ثم عدم الدجاج بالكلية لولا ما جلب من الشام. وأما أكل لحم الآدميين فشاع واستفاض، وقيل: تواتر. وفي شعبان منها كانت الزلزلة العظمى التي عمت أكثر الدنيا. قال أبو شامة: مات(3/369)
بمصر خلق تحت الهدم قال: ثم هدمت نابلس، وذكر خسفاً عظيماً، وأحصى من هلك في هذه السنة فكان ألف ألف ومائة ألف. وفيها كانت مراسلات الأمراء من مصر للأفضل والظاهر، وكرهوا العادل، وتطيروا بكعبة أسرع الأفضل إلى حلب، فخرج معه أخوه واتفقا على أن تكون دمشق للأفضل، ثم يسيران إلى مصر، فإذا ملكاها استقر بها الأفضل وتبقى الشام كلها للظاهر. فنازلوا دمشق وبها المعظم، وقدم أبوه إلى نابلس، فاستمال الأمراء وأوقع بين الأخوين - وكان من دهاة الملوك - فترحلوا. وكان بخراسان فتن وحروب عظيمة على الملك. وفيها توفي الإمام العلامة الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن علي المعروف بابن الجوزي البغدادي التميمي البكري نسبة إلى أبي بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - كان علامة عصره وإمام وقته في أنواع العلوم من التفسير والحديث والفقه والوعظ والسير والتواريخ والطب وغير ذلك. ووعظ من صغره وعظاً فاق فيه الأقران، وحصل له القبول التام والاحترام. حكي أن مجلسه حزر بمائة ألف، وحضر مجلسه الخليفة المستضيء مرات من وراء الستر. وصنف في فنون عديدة منها زاد المسير في علم التفسير أربعة أجزاء اتى فيها بأشياء غريبة - وله في الحديث تصانيف كثيرة، وله: المنتظم في التاريخ، وهو كتاب كبير، وله: الموضوعات، في أربعة أجزاء ذكر فيها كل حديث موضوع. وله تنقيح فهوم الأثرة على وضع كتاب المعارف لابن قتيبة - وبالجملة فكتبه أكثر من أن تعد، وكتب بخطه شيئاً كثيراً، والناس يغالون في ذلك. قال ابن خلكان حتى نقلوا أن الكراريس التي كتبها جمعت وحبست مدة عمره، وقسمت الكراريس على المدة فكان ما خص كل يوم تسع كراريس. قال: وهذا شيء عظيم لا يقبله العقل. قلت: وهو كما قال: ويقال إنه جمعت براية أقلامه التي كتب بها حديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فحصل منها شيء كثير. وأوصى أن يسخن الماء الذي يغسل به - بعد موته - بها، فكفت وفضل منها. وله أشعار لطيفة،....منها قوله معرضاً بأهل بغداد:
عذيري من فتية بالعراق ... قلوبهم بالجفا قلب
يرون العجيب كلام الغريب ... وقول القريب فلا يعجب
ميادينهم أن تبدت بخير ... إلى غير جيرانهم تقلب(3/370)
عذرهم عند توبيخهم ... مغنية الحي ماتطرب
وله أشعار كثيرة. وكانت له في مجالس الوعظ أجوبة نادرة، من ذلك ما يحكي أنه وقع النزاع ببغداد بين السنية والشيعية في المفاضلة بين أبي بكر وعلي - رضي الله تعالى عنهما - فرضي الكل بما يجيب عنه الشيخ أبو الفرج، وأقاما شخصاً سأله عن ذلك وهو على الكرسي في مجلس وعظه فقال: أفضلهما من كانت ابنته تحته ونزل في الحال حتى لا يراجع في ذلك، فقالت السنية: هو أبو بكر - رضي الله تعالى عنه - لأن ابنته عائشة تحت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وقالت الشعية: هو علي، لان فاطمة ابنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - تحته، وقال: وقال ابن خلكان: وهذا من لطائف الأجوبة، ولو حصل بعد الفكر التام وإمعان النظر كان في غاية الحسن فضلاًعن البديهة. انتهى. قلت: ومن نوادره ما سمعت من بعض أهل العلم: يحكى أن الخليفة غضب على إنسان من حاشيته، فأراد أن يعاقبه، فهرب فلزم أخاه، وصادره وأخذ له مالاً، فشكى ذلك المصادر إلى ابن الجوزي، وذكر له القضية فقال له: إذا انقضى مجلس وعظي فقم قدامي حتى تذكرني - وكان الخليفة يسمع وعظه من خلف الستر - كما تقدم فلما كان أول مجالسته الوعظ بعد ذلك - وانقضى المجلس - قام ذلك الإنسان المصادر، فلما رآه الشيخ أبو الفرج أنشد معرضاً يكون البريء، لا يؤاخذ بذنب الجزىء، محرضاً للخليفة على العدل والإحسان، وأن يعاد المال المأخوذ على ذلك الإنسان.
قفي ثم اخبرينا يا سعاد ... بذنب الطرف لم سلب الفؤاد؟
وأي قضتة حكمت إذا ماجنى زيدبه عمرو يقاد؟!
يعاد حديثكم فيزيد حسناً ... وقد يستحسن الشيء المعاد
فقال الخليفة من وراء الستر: يعاد، يعني: المال، فأعيد على ذلك الشخص ماله وانجبر حاله. قلت: وكلام ابن الجوزي، وإن افتخر، فهو بالنسبة إلى كلام القطب عبد القادر محقر، ولو سلم من طعنه وإنكاره على المشايخ علماء الباطن لبقي مكتسباً يحلل الحاسن. وقد قدمت ذكر ذلك الإنكار وأنشدت في الفرق بين الكلام أبياتاً من الأشعار، ذكرت ذلك في تاريخ سنة خمس وتسعين وخمس مائة التي أخرج فيها من السجن، وفي سنة إحدى وستين التي فيها ترجمة الشيخ عبد القادر رضي الله تعالى عنه. وكانت ولادة ابن الجوزي سنة ثمان، وقيل عشر وخمس مائة تقريباً، وتوفي ليلة الجمعة ثاني عشر شهر رمضان ببغداد بباب حرب. والجوزي بفتح الجيم وسكون الواو وفي آخره زاي وياء النسبة - إلى موضع يقال له فرضة(3/371)
الجوز. قال ابن النجار: وكان أبوه يعمل الصفر، وكان ولده محيي الدين يوسف محتسب بغداد. وتولى تدريس المستنصرية لطائفة الحنابلة، وكان يتردد في الرسائل إلى الملوك، ثم صار أستاذ دار الخلافة. وكان سبطه شمس الدولة - أبو المظفر يوسف الواعظ المشهور - له صيت وسمعة في مجالس وعظه، وقبول عند الملوك وغيرهم. وصنف تاريخاً كبيراً. قال ابن خلكان: رأيته بخطه في أربعين مجلداً أسماه: مرآة الزمان في تاريخ الأعيان. وفي السنة المذكورة توفي أبو شجاع بن المقرون البغدادي، أحد أئمة الإقراء. كان صالحاً عابداً ورعاً مجاب الدعوة، من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وكان يتقوت من كسب يده. وفيها توفي العماد الكاتب الوزير الفاضل، أبو عبد الله محمد بن محمد الأصبهاني الفقيه الشافعي تفقه بالمدرسة النظامية وأتقن الخلاف وفنون والأدب، وسمع من الحديث، ولما حصل تعلق بالوزير يحيى بن هبيرة فولاه النظر بالبصرة ثم بواسط، ثم انتقل إلى دمشق، - وسلطانها يومئذ الملك العادل نور الدين محمود بن أتابك زنكي - فتعرف به، وعرفه السلطان صلاح الدين ووالده، ونوه بذكره القاضي كمال الدين السهروردي عند السلطان نور الدين وعدد عليه فضائله، وأهله لكتابة الإنشاء. قال العماد: فبقيت متحيراً في الدخول فيما ليس من شأني ولا وظيفتي. وقال غيره: لم يكن قد مارس هذه الصناعة، فجبن عنها في الابتداء، فلما باشرها هانت عليه وأجاد فيها، وأتى فيها بالغرائب. وكان ينشىء الرسائل باللغة العربية والعجمية أيضاً. وحصل بينه وبين صلاح الدين مودة أكيدة امتزاج تام، وعلت منزلته عند نور الدين، وصار صاحب سره وسيره رسولاً في أيام الخليفة المستنجد، فلما عاد فوض إليه التدريس في المدرسة المعروفة، ثم رتبه في إشراف الديوان، ثم لما تسلم صلاح الدين قلعة حمص حضر بين يديه وأنشده قصيدة، ثم لازمه وترقى عنده حتى صار في جملة الصدور المعدودين والأماثل الممجدين، يضاهي الوزراء ويجري في مضمارهم. وكان القاضي الفاضل في أكثر الأوقات ينقطع عن خدمة السلطان صلاح الدين بالقيام بالمصالح، والعماد ملازم للباب، وهو صاحب السر المكتوم. وصنف التصانيف النافعة، من ذلك: خريدة القصر وجريدة أهل العصر، جملة ذيلاً على زينة الدهر تأليف أبي المعالي سعد بن علي الوراق الخطيري، والخطيري جعله ذيلاً على دمية القصر وعصرة أهل العصر للباخرزي، والباخرزي جعل كتابه ذيلاً على يتيمة الثعالبي، والثعالبي(3/372)
جعل كتابه ذيلاً على كتابه البارع لهارون المنجم. وذكر العماد المذكور الشعراء الذين كانوا بعد المائة الخامسة إلى سنة اثنتين وسبعين وبعدها، وجمع شعراء العراق والعجم والشام والجزيرة ومصر والعرب ولم يترك إلا النادر. كتابه المذكور عشر مجلدات، وصنف كتاب: البرق الشامي في سبع مجلدات، وهو مجموع تاريخ، ووسمه بالبرق لسرعة انقضاء تلك الأيام. وصنف كتاب الفتح القسي في الفتح القدسي في مجلدين يتضمن كيفية فتح البيت المقدس. وكتاب السيل على الذيل جملة ذيلاً على الذيل لابن السمعاني الذي ذيل به تاريخ بغداد للحافظ أبي بكر الخطيب. وكتاب نصرة الفترة وعصرة الفترة في اخبار الدولة السلجوقية. وله ديوان رسائل، وديوان شعر في أربع مجلدات. وكانت بينه وبين القاضي الفاضل مكاتبات ومحاورات لطائف. فمن ذلك ما يحكى عنه أنه لقيه يوماً وهو راكب على فرس فقال له: سر، فلا كبابك الفرس، فقال له الفاضل: دام علاء العماد. فأتى كل واحد منهما بألفاظ تقرأ على ترتيبها المذكور، وتقرأ مقلوباً، أعني من آخر حروفها مرتبة إلى
أولها، واللفظ والمعنى لا يتغيران. اجتمعا يوماً في موكب السلطان - وقد انتشر من الغبار لكثرة الفرسان ما سد الفضاء - فتعجبا من ذلك، وأنشد العماد في الحال: ها، واللفظ والمعنى لا يتغيران. اجتمعا يوماً في موكب السلطان - وقد انتشر من الغبار لكثرة الفرسان ما سد الفضاء - فتعجبا من ذلك، وأنشد العماد في الحال:
مما اثارته السنابك ... والجو منه مظلم
لكن أثارته السنابك ... يا دهر لي عبد الرحيم
فلست اخشى مس نابك.........................
فاتفق له الجناس في الأبيات الثلاثة مكتسياً حلة الحسن. قلت: وأما رسالته إلى القاضي الفاضل لما رجع من الحج - التي استحسنها ابن خلكان - فليست بحسنة من جهة لدين ولا من جهة البيان، فإنه بالغ فيها مبالغة محرجة لشعائر الله تعالى المنظمة إلى حد الامتهان، حيث قال: راكباً فرس البيان في ميدان بلاغة الإنسان الراكض، جواد اللسن الحاصل من نتائج جبلة الجنان وجرأة اللسان. طوبى للحجر والحجون من ذي الحجر والحجى منيل الجدى - ومنير الدجى، ولندى الكعبة من كعبة الندى، وللهدايا المشعرات من مشعر الهدى، وللقائم الكريم من مقام الكريم، ومن حاطم فقار الفقر للحطيم، ومتى هرم لمنى الحرم، وحاتم الكرم لمائح زمزم، ومتى ركب البحر البحر وسلك البر البر، ولقد عاد قيس إلى عكاظه، وعاد قيس لحفاظه، ويا عجباً للكعبة!! يقصدها كعبة الفضل والأفضال، والقبلة يستقبلها قبلة القبول والإقبال. قلت: وليس كما قال غيره في مدح بعض الأولياء، فإنهم من احباب الله تعالى الأصفياء.(3/373)
سنة ثمان وتسعين وخمس مائة
فيها تغلب قتادة بن ادريس الحسيني على مكة، وزالت دولة بني فليتة. وفيها توفي صاحب اليمن وابن صاحبها الملك المعز اسماعيل بن الملك سيف الاسلام طغتكين - بن نجم الدين أيوب بن شاذي كان مجرماً مصراً على شرب الخمر والظلم، ادعى أنه أموي وخرج يروم الخلافة، فوثب عليه أخوان من أمرائه فقتلاه، وولي بعده أخ له صبي، يدعى بالملك الناصر أيوب. وفيها توفي مسند الشام أبو طاهر بركات بن ابراهيم المعروف بالخشوع، سمع من ابن الأكفاني وجماعة. وفيها توفي الحافظ أبو الثناء حماد بن هبة الله. وفيها توفي اللؤلؤ الحاجب العادل، من كبار الدولة، له مواقف حميدة بالسواحل. وكان مقدم المجاهدين المؤيدين الذين ساروا لحرب الفرنج الذين قصدوا الحرم النبوي في البحر وظفروا قيل إنه سار لؤلؤ موقناً بالنصرة، وأخذ معه قيوداً بعدد الفرنج، وكانوا ينيفون على ثلاثمائة - كلهم أبطال من الكرك والشوبك - مع طائفة من العرب المرتدة، فلما بقي بينه وبين المدينة يوم أدركهم لؤلؤ، وبذل الأموال للعرب فخامروا معه، وذلت الفرنج، واعتصموا بحبل، فترحل لؤلؤ وصعد إليهم بالناس - في تسعة أنفس، فهابوه وسلموا أنفسهم، فصفدهم وقيدهم كلهم، وقدم بهم مصر، وكان يوم دخولهم يوماً مشهوراً. وكان لؤلؤ شيخاً أرمينياً من غلمان القصر، فخدم مع صلاح الدين مقدماً، وكان أينما توجه فتح ونصر، ثم كبر وترك الخدمة. وكان يتصدق كل يوم بطعام عدة قدور وباثني عشر ألف رغيف، ويضيف ذلك في شهر رمضان. وفيها توفي ابن الزكي قاضي الشام محيي الدين أبو المعالي محمد ابن قاضي القضاة زكي الدين علي ابن قاضي القضاة منتجب الدين محمد بن يحيى - القرشي الشافعي. كان فقيهاً إماماً طويل الباع في الإنشاء والبلاغة، فصيحاً كامل السؤدد.(3/374)
سنة تسع وتسعين وخمس مائة
وفيها تمكن العادل من الممالك، وأبعد الملك المنصور علي بن العزيز - صلاح الدين، وأسكنه بمدينة الرها. وفيها رمي بالنجوم، ذكر ذلك جماعة من المؤرخين قال بعضهم في سلخ المحرم ماجت النجوم وتطايرت كتطاير الجراد، ودام ذلك إلى الفجر، وانزعج الخلق وضجوا بالدعاء. قالوا: ولم يعهد ذلك إلا عند ظهور نبينا صلى الله عليه وآله وسلم. وفيها توفي غياث الدين سلطان غزنة أبو الفتح محمد. كان ملكاً جليلاً عادلاً محباً إلى رعيته كثير المعروف والصدفات، وتفرد بالملك بعده أخوه السلطان شهاب الدين. وفيها توفي القاضي محمد بن أحمد الأموي المرسي المالكي، أحد أئمة المذهب، عرض المدونة على والده، وأجاز له الكبار، وأفتى ستين سنة، وولي قضاء مرسية وشاطبة وصنف التصانيف. وفيها توفي الإمام العلامة أبو الموفق مسعود بن شجاع المعروف بالبرهان الحنفي، درس في النورية والخانوتية، قاضي العسكر، كان صدراً معظماً مفتياً رأساً في المذهب، وكان لا يغسل له فرجية، بل يهبها ويلبس جديدة. وفيها توفي الإمام أبو الحسن علي بن ابراهيم الأنصاري الدمشقي الحنبلي الواعظ، كان من رؤوس العلماء. وفيها توفي الحسن بن سعيد الملقب علم الدين الشاتاني - بالشين المعجمة وبين الألفين مثناة من فوق وقبل ياء النسبة نون - كان فقيهاً وغلب عليه الشعر وأجاد فيه واشتهر به، وكان الوزير أبو المظفر بن هبيرة كثير الإقبال عليه والإكرام له، وذكره العماد الكاتب في الخريدة وأثنى عليه، وقال يمدح صلاح الدين بقصيدة أولها:
أرى النصر معقوداً برايتك الصفرا ... فسروا ملك الدنيا فأنت بها أحرى
يمينك فيا اليمن واليسر في اليسرى ... فبشرى لمن يرجو الندى بهما بشرا
وفيها توفي الشيخ الكبير الولي الشهير إمام العارفين ودليل السالكين، صاحب الأحوال الفاخرة الكرامات الباهرة، والمقام العلي. والكشف الجلي، والعطاء السني والمشرب الهني، والمحاضرات القدسية والمسامرات الأنسية، والحقائق الربانية والأسرار(3/375)
الإلهية أبو عبد الله محمد بن أحمد بن ابراهيم القرشي الهاشمي، - قدس الله تعالى روحه - كان له التصريف النافذ في الوجود، والفضل الفائض من فيض الجود، والباع الطويل في أحكام الولاية، والجانب الرحيب في أحوال النهاية، والقدم الراسخ في التمكين المكين، والسبق إلى ذري درجات، المقربين، أحد أركان هذا الشأن، وعلم أعلامه وقدوة ساداته الأعيان، أجمع على جلالته أكابر الأولياء والعلماء، واتفق على فضيلته سكان الحضرة والحمى، وتبرك الجلة بآثاره، والتمسوا الهدى بإضاءة أنواره. وله كلام وكرامات، مودع بعضها في بعض المصنفات، مما اعتنى بجمعه وتأليفه الشيخ الإمام الحفيل السيد الجليل تلميذه أبو العباس أحمد بن علي القسطلاني. وقد ذكرت نبذة من ذلك في كتاب روض الرياحين، وكتاب أطراف السامعين. ومن كلامه رضي الله تعالى عنه: الزم الأدب وحدك من العبودية، ولا تتعرض لشيء، فإن أرادك له أوصلك إليه، ومنه: العالم من نطق عن سرك واطلع على عواقب أمرك، ومن كراماته رضي الله عنه ما ذكر قال: كنت بمنى فعطشت ولم أجد ماء، ولم يكن معي ما أشتري به، فمضيت أطلب بيراً من الآبار، فوجدت عليه أعاجم يستقون الماء، فقلت لأحدهم: ضع لي في هذه الركوة ماء، فضربني وأخذ الركوة من يدي ورمى بها بعيداً، فمضيت إليها لأخذها وأنا منكسر النفس - فوجدتها في بركة ماء حلو، فاستقيت وشربت، وجئت بها إلى أصحابي فشربوا، وأعلمتهم بالقصة، فمضوا إلى المكان ليستقوا منه فلم يجدوا ماء ولا أثر الماء، فعلمت أنها آية.
سنة ست مائة
فيها وقعت فتنة بين صاحب الموصل نور الدين، وبين ابن عمه قطب الدين صاحب سنجار، فاستنجد القطب بجاره الملك الأشرف موسى - وهو بحران - فسار معه وعمل مصافاً مع صاحب الموصل، فكسره الأشرف وأسر جماعة من أمرائه، ثم اصطلحا في آخر العام، وتزوج الأشرف بأخت صاحب الموصل.(3/376)
وفيها أخذت الفرنج فوة واستباحوها، وهي بليدة حسنة، دخلوا إليها من فم رشيد في النيل. وفيها توفي العلامة أبو الفضل محمد بن محمد بن محمد العراقي القزويني، ركن الدين المعروف بالطاوسي الحنفي. كان إماماً فاضلاً مناظراً محجاجاً فيما يعلم الخلاف، ماهراً فيه، اشتغل على الشيخ رضي الدين النيسابوري صاحب الطريقة في الخلاف، وبرز فيه، وصنف ثلاث تعاليق في الخلاف مختصرة، وثانية متوسطة أو كما قيل، وثالثة مبسوطة. وأجمع عليه الطلبة بمدينة همدان، وقصدوه من البلاد البعيدة والقريبة للاستفادة عليه، وعلقوا تعاليقه، وبنى له الحاجب جمال الدين بهمدان مدرسة تعرف بالحاجبية، وطريقته الوسطى خير من طريقته الأخيرتين لأن نفعها كثير وفوائدها جمة. قال ابن خلكان: واكثر اشتغال الناس في هذا الزمان بها، واشتهر صيته في البلاد، وحملت طرائقه إليها. والطاوسي: قيل نسبة إلى طاوس بن كيسان التابعي. وفيها توفي الإمام العالم العلامة أبو الفتوح العجلي منتجب الدين أسعد بن أبي الفضائل محمود بن خلف الأصبهاني الواعظ، شيخ الشافعية. كان من الفقهاء الفضلاء الموصوفين بالعلم والزهد، مشهوراً بالعبادة والنسك والقناعة، لا يأكل إلا من كسب يده. وكان يورق ويبيع ما يتقوت به، وكان واعظاً، ثم ترك الوعظ وألف كتاب آفات الوعاظ، سمع ببلده الحديث على جماعة، منهم: الحافظ اسماعيل بن محمد بن الفضل وأبو الوفا غانم بن أحمد الجلودي وأبو الفضل عبد الرحيم بن أحمد البغدادي وأبو المظفر قاسم بن الفضل الصيدلاني وغيره. وقدم بغداد وسمع بها من أبي الفتح محمد بن عبد الباقي، وله إجازة حث بها عن أبي القاسم زاهر بن طاهر وأبي الفتح اسماعيل بن أبي الفضل - الاخشيدي وأبي المبارك عبد العزيز الأزدي وغيرهم، وعاد إلى بلده وتبحر وتمهر واشتهر وصنف عدة تصانيف، فمن ذلك كتاب شرح مشكلات الوسيط والوجيز للغزالي، تكلم في المواضع المشكلة من الكتابين، ونقل من الكتب المبسوطة عليها، وله كتاب تتمة التتمة للمتولي، وعليه كان الاعتماد في الفتوى بأصهان. والعجلي بكسر العين المهملة وسكون الجيم نسبة إلى عجل بن لجيم - بضم اللام وفتح الجيم - وكان عجل المذكور يعد من الحمقى، من أجل أنه كان له فرس جواد، فقيل له أن لكل فرس جواد اسماً، فما اسم فرسك؟ فقال: لم اسمه بعد، فقيل له: سمه؛ ففقأ إحدى عينيه وقال: قد سميته الأعور. وفيه قال بعض شعراء العرب:(3/377)
رمتني بنو عجل بداء أبيهم ... وهل أحد في الناس أحمق من عجل
أليس أبوهم عار عين جواده ... فسارت به الأمثال في الناس بالجهل
يقال عار عينه - بالمهملة إذا فقأها. وبنو العجل قبيلة كبيرة من العرب شهيرة. وفي السنة المذكورة توفي الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي، سمع في دمشق والاسكندرية وبغداد وأصبهان، وصنف التصانيف، ولم يزل يسمع ويكتب، وإليه انتهى حفظ الحديث متناً وإسناداً ومعرفة، مع الورع والعباد والتمسك بالأثر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسيرته مذكورة في جزأين تأليف الحافظ الملقب بالضياء. وفيها وقيل في سنة ثلاث وست مائة توفي الشيخ الحافظ عبد الرزاق ابن الشيخ القطب عبد القادر بن أبي صالح الجيلي، أسمعه أبوه عن أبي الفضل الأرموي وطبقته، ثم سمعه بنفسه. وفيها توفيت فاطمة بنت سعد الخير بن محمد أم عبد الكريم بن أبي الحسن الأنصاري رضي الله عنهم.(3/378)
/سنةاحدى وست مائة فيها تغلبت الفرنج على مملكة القسطنطينية وأخرجوا الروم عنها بعد حصار طويل وحروب كثيرة.
وفيها توفي المحدث أحمد بن سليمان الحربي المقرىء المفيد، والرجل الصالح عبد الرحيم بن محمد بن محمد نزيل همدان، وأبو الفضل محمد بن الحسين المقري الدمشقي المعروف بابن الخصيب.
سنة اثنتين وست مائة
فيها سلم خوارزم شاه محمد بن ترمذ إلى ملك الخطا، فكان ذلك هو الخطأ بعينه وتشوش الناس لذلك قيل: وما فعله إلا مكيدة ليتمكن من ممالك خراسان.
وفيها توفي مدرس الأرمينية المعروف بالتقي الأعمى سرق ماله فاتهم به قائده، فاحترق قلبه، فأهلك نفسه، وجد مشنوقا بالمنارة الغربية، نسأل الله العافية.
وفيها توفي الإمام العلامة أبو عمر. وعثمان بن عيسى الهدباني بالدال المهملة والباء الموحدة، وقبل ياء النسبة نون الماراني بالراء بين الألفين والنون بعد الثانية الملقب ضياء الدين، كان من أعلم الفقهاء في وقته بمذهب الإمام الشافعي قرأ وتمهر في فروع المذهب وأصوله، وشرح المهذب شرحا لم يسبق إلى مثله في قريب من عشرين مجلدا، لكنه لم يكمله بلغ فيه إلى كتاب الشهادات، وسماه الاستقصاء لمذاهب الفقهاء. وشرح اللمع في أصول الفقه للشيخ أبي اسحاق الشيرازي أيضا شرحا مستوفي في مجلدين، وغير ذلك، ووقف عليه الأمير جمال الدين الهكاري في مدرسة أنشأها في القاهرة، وفوض تدريسها إليه، ولم يزل بها إلى أن توفي، وفوض إليه السلطان صلاح الدين القضاء بالديار المصرية، وهو في نسبته راجع إلى ابن عبدوس الماراني نسبة إلى بني ماران، توفي بعد أن نيف على الثمانين، ودفن بالقرافه الصغرى(4/3)
وفيها توفي السلطان أبو المظفر محمد شهاب الدين الغوري صاحب غزنة قتلته الإسماعيلية بعد قفوله من غزو الهند، وكان ملكًا جليلاً مجاهدًا، واسع المملكة حسن السيرة، وهو الذي حضر عنده الإمام فخر الدين الرازي، فوعظه وقال: يا سلطان العالم لا سطانك يبقى، ولا تلبيس الرازي يبقى، فانتحب السلطان باكياً.
وفيها توفي أبو العز عبد الباقي بن عثمان الهمداني الصوفي، وكان ذا علم وصلاح.
وفيها توفي أبو يعلى حمزة بن علي بن حمزة البغدادي، كان خيراً زاهداً بصيراً بالقراءات، حاذقا فيها.
سنة ثلاث وست مائة
فيها وقعت حروب خراسان، قوي فيها ملك خوارزم شاه، واتسع وافتتح بلخ غيرها، ونازلت الفرنج حمص، فصار إليهم المبارز وحاربهم.
وفيها توفي الحافظ الثقة عبد الرزاق ابن الشيخ عبد القادر الجيلي أسمعه أبوه من أبي الفضل الأرموي وطبقته، ثم سمع هو بنفسه، قيل: لم ير مثله في وقته في يقظة وتجربة.
وفيها توفي داود بن محمد بن محمود الأصبهاني وفيها توفي الحافظ أبو الحسن علي ابن فاضل الصوري المصري، كتب الكثير، واكثر عن السلفي سمع بمصر من الشريف الخطيب، وقرأ القراءات على الغافقي.
وفيها توفي محمد بن معمر القرشي الأصبهاني، سمع من خلق كثير، وكان عارفًا بمذهب الشافعي، وبالعربية والحديث، قوي المشاركة، محتشمًا ظريفًا وافر الجاه.
وفيها توفي أبو الحزم الإمام العلامة ضياء الدين محمد الموصلي المقري النحوي الضرير، صاحب ابن الخشاب، برع في القراءات والعربية واللغة وغير ذلك، وذكره أبو البركات ابن المستوفي في تاريخ إربل فقال: هو جامع فنون الأدب، وحجة كلام العرب، والمجمع على دينه وعقله، والمتفق على علمه وفضله رحل إلى بغداد، ولقى بها مشائخ(4/4)
النحو واللغة والحديث، وكان واسع الرواية، وكان أبدا يتعصب لأبي العلاء المعري ويطرب إذا قرىء عليه شعره للجامع بينهما من العمى والأدب..
قال ابن خلكان: وحكى بعض من أخذ عنه أنه لما كان ببلده كان جيرانه ومعارفه يسمونه مكيك تصغير مكي، فلما ارتحل واشتغل وحصل اشتاقت نفسه إلى وطنه، فعاد إليه، فتسامع به من بقي ممن كان يعرفه، فزاروه وفرحوا به لكونه فاضلأ من أهل بلدهم، وبات تلك الليلة، فلما كان سحر خرج إلى الحمام فسمع امرأة في غرفتها تقول لأخرى: ما تدرين من جاء؟ فقالت: لا، فقالت: مكيك ابن فلانة، فقال: والله لا أقعدن في بلد. أدعى فيها مكيك، فسافر من غير تربث، وعاد إلى الموصل، ثم سافر إلى الشام لزيارة بيت المقدس.
سنة أربع وست مائة
فيها تملك الملك الأوحد أيوب بن العادل مدينة خلاط.
وفيها توفي أبو العباس الرعيني أحمد بن محمد الإشبيلي المقري، وكان من الأدب والزهد بمكان.
وفيها توفي ابن الساعاتي علي بن محمد الشاعر الملفق صاحب ديوان الشعر.
وفيها توفي أبو ذر مصعب بن محمد الجياني النحوي اللغوي صاحب التصانيف، وحامل لواء العربية في الأندلس، ولي خطابة إشبيلية مدة، ثم قضاء جيان، ثم تحول إلى فاس، بعد صيته، وسارت الركبان بتصانيفه.
سنة خمس وست مائة
فيها توفي الملك سنجر شاه ابن غازي قتلة ابنه غازي وحلفوا له ثم وثب عليه من الغد خواص أبيه وقتلوه، وملكوا أخاه الملك المعظم، وكان سنجر سيىء السيرة ظلومًا وفيها توفي المحدث العالم محمد بن المبارك البغدادي. وفيها توفي أبو الجود غياث بن فارس اللخمي مقري الديار المصرية.(4/5)
سنة ست وست مائة
فيها نزلت الكرج بالراء الجيم على خلاط، فلما كادوا أن يأخذوها، زحف ملكهم في جيشه، فوصل إلى باب البلد. وفيها توفي الأوحد بن العادل، فبرز إليه عسكر المسلمين، فظفر به فرسه فأحاط المسلمون، وأسروه، وهرب جيشه.
وفيها سار خوارزم شاه صاحب خراسان في جيوشه، وقطع النهر، فالتقى الخطا وكانت ملحمة عظيمة انكسر فيها، وقتل منهم خلق كثير، واستولى خوارزم شاه على ما وراء النهر، وكان كشلوخان بالشين والخاء المعجمتين وعسكره، وقد أخرجتهم الخطا من أرضهم، ونزلوا بلاد الترك، وجرت لهم حروب مع الخطا، فلما عرفوا أن خوارزم شاه كسرهم قصدوهم، فكاتب ملك الخطا في الحال خوارزم شاه يقول: إما ما كان منك من بلادنا، وقتل رجالنا، فمغفور فقد أتانا عدو لا قبل لنا به، وقد انتصروا علينا وأخذونا لم يبق لهم دافع عنك والمصلحة أن تسير إلينا وتجيرنا، فكاتب خوارزم شاه كشلوخان، إنا معك، وكاتب ملك الخطأ كذلك، وسار بجيوشه إلى أن نزل بقرب مكان المصاف، فتوهم كلا الفريقين أنه معهم، وأنه مكين لهم، فالتقوا، فانهزمت الخطا فمال حينئذ مع كشلوخان، ورأى رأيًا نحسًا، وهو إن أمر أهل بلاد الترك بالجلاء إلى بخارى وسمرقند، ثم خربهما جميعًا وشتت الناس.
وفيها توفي أسعد بن المنجا بن أبي البركات القاضي أبو المعالي التنوخي المغربي، ثم الدمشقي روي عن القاضي الأرموي وتفقه على الشيخ عبد القادر وغيره.
وفيها توفيت أم هاني عفيفة بنت أحمد بن عبد الله الأصبهانية، وهي آخر من روى عن عبد الواحد صاحب أبي نعيم، ولها إجازة من أبي علي الحداد وجماعة، وسمعت المعجمين الصغير والكبير للطبراني من فاطمة الجوزدانية.
وفيها توفي الإمام الكبير العلامة التحرير الأصولي المتكلم المناظر المفسر صاحب التصانيف المشهورة في الآفاق الحظية سوق الإفادة بالاتفاق فخر الدين الرازي أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين القرشي التيمي البكري الملقب بالإمام عند علماء الأصول المقرر(4/6)
لشبه مذاهب الفرق المخالفين والمبطل لها بإقامة البراهين الطبرستاني الأصل الرازي المولد المعروف الشافعي المذهب فريد عصره، ونسيج وحد الذي قال فيه بعض العلماء.
خصه الله برأي هو للغيب طليعة ... فيرى الحق بعين دونها حد الطبيعة
ومدحه الإمام سراج الدين يوسف بن أبي بكر بن محمد السكاكي الخوارزمي بقوله:
أعلمهن علمًا يقينًا إن رب العالمينا ... لو قضى في عالميهم خدمة للأعلمينا
أخدم الرازي فخر أخدمة العبد بن سينا
فاق أهل زمانه الأصلين والمعقولات، وعلم الأوائل، صنف التصانيف المفيدة في
فنون عديدة. منها تفسير القران الكريم جمع فيه من الغرائب والعجائب ما يطرب كل طالب، وهو كبير جدًا لكنه لم يكمله وشرح سورة الفاتحة في مجلد، ومنها في علم الكلام المطالب العالية ونهاية العقول وكتاب الأربعين والمحصل وكتاب البيان والبرهان في الرد على أهل الزيغ والطغيان وكتاب المباحث المشرقية، وكتاب المباحث المعادية في مطالب المعادية وكتاب تهذيب الدلائل وعيون المسائل وكتاب إرشاد النظار إلى لطائف الأسرار وكتاب أجوبة المسائل النجارية وكتاب تحصيل الحق وكتاب الزيدة والمعالم وغير ذلك، وفي أصول الفقه والمحصول والمعالم في الحكمة الملخص وشرح الملخص لابن سينا وشرح الإشارات لابن سينا وشرح عيون الحكمة وغير ذلك، وفي الطلسمات السر المكتوم وشرح أسماء الله الحسنى ويقال: إن له شرح المفصل في النحو للزمخشري وشرح الوجيز في الفقه للغزالي. وشرح سقط الزند للمعري. وله مختصر في الإعجاز ومؤاخذات جيدة على النحاة وله طريقة في الخلاف، وله في الطب شرح الكليات للقانون، وصنف في علم الفراسة، وله مصنف في مناقب الشافعي، وكل كتبه مفيدة، وانتشرت تصانيفه في البلاد ورزق فيها سعادة عظيمة بين العباد، فإن الناس اشتغلوا بها، وهو أول من اخترع هذا الترتيب في كتبه، وأتي فيها بما لم يسبق إليه، وله في الوعظ اليد البيضاء ويعظ باللسانين العربي والعجمي، وكان يلحقه الوجد حال الوعظ، ويكثر البكاء، وكان يحضر مجلسه بمدينة هراة أرباب المذاهب والمقالات، ويسألونه وهو يجيب كل سائل بأحسن الأجوبة، المجادلات على اختلاف أصنافهم ومذاهبم ويجيء إلى مجلسه الأكابر والأمراء والملوك، وكان صاحب وقار وحشمة ومماليك وثروة، وبزة حسنة، وهيئة جميلة، إذا ركب مشى معه نحو ثلاث مائة مشتغل على اختلاف مطالبهم في التفسير والفقه والكلام والأصول والطب(4/7)
وغير ذلك، ورجع بسببه خلق كثير من الطائفة الكرامية وغيرهم إلى مذهب أهل السنة كان يلقب بهراة شيخ الإسلام، وكان مبدأ اشتغاله على والده إلى أن مات، ثم قصد الكمال السمناني بالسين المهملة والنون مكررة قبل الألف وبعدها، واشتغل عليه مدة، ثم عاد إلى الري، واشتغل على المجد الجيلي صاحب محمد بن يحيى الفقيه أحد تلامذة الإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي، ولما طلب المجد إلى مراغة ليدرس بها صحبه وقرأ عليه مدة طويلة علم الكلام والحكمة، ويقال: إنه كان يحفظ الشامل لإمام الحرمين في أصول الدين والمستصفى في أصول الفقه للغزالي وكذا المعتمد لأبي الحسين البصري، ثم قصد خوارزم وقد تمهر في العلوم فجرى بينه وبين أهلها كلام فيما يرجع إلى المذهب والاعتقاد، فأخرج من البلد، فقصد ما وراء النهر، فجرى له أيضا هنالك كذلك، فعاد إلى الري، وكان بها طبيب حاذق له ثروة ونعمة، وكان للطبيب ابنتان، ولفخر الدين ابنان، فمرض الطبيب، وأيقن بالموت، فزوج ابنتيه لولدي فخر الدين، ومات الطبيب، فاستولى فخر الدين على جميع أمواله، كذا قاله ابن خلكان قلت: وعلى تقدير صحة ذلك يحمل على استيلاء شرعي من نحو وصاية أو وكالة قال: ولازم الأسفار، وعامل شهاب الدين الغوري صاحب غزنة بالغين المعجمة والزاي والنون في جملة من المال، ثم مضى إليه لاستيفائه منه، فبالغ في إكرامه والإنعام عليه، وحصل له من جهته مال طائل، وعاد إلى خراسان، واتصل بالسلطان محمد المعروف بخوارزم شاه، فحظي عنده، ونال أسمى المراتب، ولم يبلغ أحمد منزلته عنده، ولما قدم إلى هراة نال من الدولة إكرامًا عظيمًا، فاشتد ذلك على الكرامية، فاجتمع يومًا مع القاضي مجد الدين ابن القدوة، فتناظر ثم استطال فخر الدين علي ابن القدوة، ونال منه وأهانه فعظم ذلك على الكرامية، وثاروا من كل ناحية، فقامت بينهم فتنة فأمر السلطان الجند بتسكينها وذلك في سنة خمس وتسعين وخمس مائة ولم يزل بينه وبين الكرامية السيف الأحمر، فينال منهم وينالون منه سبًا وتكفيرًا حتى قيل إنهم سموه فمات من ذلك، وكان موته بهراة يوم الاثنين يوم عيد الفطر من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.
ومناقبه أكثر من أن تحصر به وتعد وفضائله لا تحصى ولا تحد.
وكان له مع ما جمع من العلوم شيء من الكلام المنظوم، ومن ذلك قوله:
نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال(4/8)
فأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذىً ووبال
ولم تستفد من بحثناطول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقال وكم من جبال قد علت شرفاته رجال فزالوا والجبال جبال
وكم قد رأينا من رجال ودولة ... فبادوا جميعًا مسرعين وزالوا
وكان العلماء يقصدونه من البلاد، وتشد إليه الرحال من الأقطار.
وحكى شرف الدين بن عنين أنه حضر عرسه يومًا، وهو يلقي الدروس في مدرسته ودرسه حفل بالأفاضل واليوم شات وقد سقط ثلج كثير، فسقطت بالقرب منه حمامة، وقد طردها بعض الجوارح، فلما دفعت ما رجعت خوفًا من الحاضرين في المجلس، ولم تقدر الحمامة على الطيران من خوفها وشدة البرد، فلما قام فخر الدين من الدرس وقف عليها ورق لها وأخذها.
قلت: هكذا حكى والدي حكوا في علم المعاني والبيان أنها وقعت في حجر الإمام فخر الدين فأنشده بن عنين في الحال.
يا ابن الكرام المطمعين إذا استواى ... في كل مسغبة وثلج خاشف
الغامضين إذ االنفوس تطايرت ... بين الصوارم والوشيح الزاعف
من نبأ الورقاء أن ... محلكم حرم وأنك ملجأ للخائف
مع أبيات أخرى منها قوله:
جاءت سليمان الزمان لشكوها ... والموت تلمع من جناحي خاطف
وهذا البيت مع البيت الثالث هما اللذان المذكوران في علم المعاني والبيان من المبدعات إذا افتتحا بقوله جاءت سليمان الزمان حمامة إلى آخره، ثم أتبع بقوله: من نبأ الورقاء أن محلكم إلى آخره كانا من الموجز المبدع قوله: خاشف هو بالخاء والشين المعجمتين يقال: خشف الثلج إذا تحرك، ومنه قول الشاعر يصف البرده:
إذا كبد النجم السماء يشو ... على حين هر الكلب والثلج خاشف(4/9)
وقال أبو عبد الله الحسين الواسطي: سمعت فخر الدين بهراة ينشد على المنبر عقب كلام عاتب فيه أهل البلد:
المرء مادام حيًا يستهان به ... ويعظم الرزء فيه حين يفتقد
وذكر فخر الدين في كتابه الموسوم بتحصيل الحق، أنه اشتغل في علم الأصول على والده ضياء الدين عمر، ووالده على أبي القاسم سليمان بن ناصر الأنصاري، وهو على إمام الحرمين أبي المعالي، وهو على الأستاذ أبي الإسحاق الإسفرائيني وهو على الشيخ أبي الحسن الباهلي وهو على شيخ السنة أبي الحسن علي بن أبي إسماعيل الأشعري الناصر لمذهب أهل السنة والجماعة، وأما اشتغاله في فروع المذهب، فإنه اشتغل على والده المذكور، ووالده على أبي محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي، وهو على القاضي حسين المروزي، وهو على القفال المروزي، وهو على أبي زيد المروزى، وهو على أبي إسحاق المروزي، وهو على أبي العباس بن شريح، وهو على أبي القاسم الأنماطي، وهو على أبي إبراهيم المزني، وهو على الإمام الشافعي المطلبي رضي الله تعالى عنه.
وكانت ولادة فخر الدين في الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة أربع وأربعين، قيل: ثلاث وأربعين وخمس مائة بالري وتوفي يوم الاثنين يوم عيد الفطر من السنة المذكورة، كما تقدم رحمه الله تعالى، وفيها توفي العلامة مجد الدين أبو السعادات المبارك بن أبي الكرم محمد بن محمد بن محمد المعروف بابن الأثير الشيباني الجزري، ثم الموصلي الكاتب.
قال أبو البركات بن المستوفي في حقه: أشهر العلماء ذكر أو أكثر النبلاء قدرا وأوحد الأفاضل المشار إليهم، وفرد الأماثل المعتمد في الأمور عليهم أخذ النحو عن شيخه أبي محمد إسماعيل بن المبارك، وسمع الحديث متأخرًا، ولم يتقدم له رواية، وله المصنفات البديعة والرسائل الوسيعة.
منها جامع الأصول في أحاديث الرسول جمع فيه بين الصحاح الستة، وهو على وضع كتاب رزين إلا أن فيه زيادات كثيرة، ومنها كتاب النهاية في غريب الحديث في خمس مجلدات
وكتاب الإنصاف في الجمع بين الكشف والكشاف في تفسير القرآن أخذه من(4/10)
تفسير الثعلبي والزمخشري، وله كتاب المصطفى والمختار في الأدعية والأذكار، وكتاب لطيف في صنعة الكتابة، وكتاب البديع في شرح الفصول في النحو لابن الدهان، وديوان رسائل والكتاب الشافي في شرح مسند الإمام الشافعي وغير ذلك من التصانيف. وله ديوان الإنشاء لصاحب الموصل مسعود بن مودود ارسلان شاه وحظي عنده، وتوفرت حرمته لديه، وكتب له مدة، ثم عرض له مرض الفالج، فكف يده من الكتابة ورجليه من الحركة، وأقام في داره يغشاها الأكابر والعلماء وأنشأ رباطًا، ووقف أملاكه على رباطه المذكورة، وعلى داره التي سكنها.
قال ابن خلكان: وبلغني أنه صنف كتبه كلها في مدة تعطله، فإنه تفرغ لها وكان عنده جماعة يعينونه عليها في الأخبار والكتابة، وله شعر يسير، ومن ذلك ما أنشده للأتابك صاحب الموصل، وقد زلت بغلته.
إن زلت البغلة من تحته ... فإن في زلتها عذرا
حملها من علمه شاهقاً ... ومن ندى راحته بحرا
وحكى أخوه أبو الحسن أنه جاءه رجل مغربي، فالتزم أن يداويه ويبرئه ما هو فيه، وأنه لا يأخذ أجرة إلا بعد برئه. قال: فملنا إلى قوله، وأخذ في معالجته بدهن، حتى لانت رجله، وأشرف على كمال البرء، فقال لي: أعط هذا المغربي شيئا يرضيه واصرفه، فقلت له: لم ذا وقد ظهر نجح معالجته. فقال: الأمر كما يكون ولكني في راحة مما كنت فيه من صحبة هؤلاء القوم والالتزام بإحضارهم، وقد سكنت روحي إلى الانقطاع والدعة، وقد كنت بالأمس وأنا معافى أذل نفسي بالسعي إليهم. وأنا الآن قاعد في منزلي، فإذا طرأت لهم أمور ضرورية جاؤوني بأنفسهم لأخذ رأيي، وبين هذا وذاك كثير، ولم يكن سبب هذا إلا هذا المرض، فما أرى زواله ولا معالجته، ولم يبق من العمر إلا القليل، فدعني أعيش باقيه حرًا سليمًا من الذل، فقد أخذت منه بأوفر حظ. قال: فقبلت منه قوله وصرفت الرجل بإحسان.
وفيها توفي أبو المكارم أسعد بن الخطير مهذب بن ميناء الكاتب الشاعر، كان ناظر الدواوين. بالديار المصرية، وفيه فضائل عديدة ونظم سيرة السلطان صلاح الدين، وله ديوان شعر ومن جملته قوله.(4/11)
يعاتبني وينهى عن أمور ... سبيل الله أن ينهوك عنها
أتقدر أن تكون كمثل عيني ... وحقك ما علي أضر منها
سنة سبع وست مائة
فيها توفي صاحب الموصل أرسلان شاه ابن السلطان مسعود، وكان شهمًا شجاعًا سائسًا مهيبًا، قال أبو السعادات ابن الأثير وزيره: ما قات له في فعل خير الإبادر فيه، وقال أبو المظفر ابن جوزي: كان جبارًا سافكًا للدماء. وقال ابن خلكان: كان شهمًا عارفًا بالأمور تحول شافعيًا، ولم يكن في بيته شافعي سواه، وبنى مدرسة للشافعية بالموصل قل أن يوجد مدرسة في حسنها. توفي في شبارة بالشط ظاهر الموصل والشبارة بالشين المعجمة مفتوحة والموحدة مشددة، وبين الألف والهاء راء، وهي عندهم الحراقة عند أهل مصر، وكتم موته حتى دخل به إلى دار السلطنة بالموصل. ودفن في تربته التي بمدرسته المذكورة، وخلف ولدين هما الملك القاهر مسعود، والملك المنصور زنكي، وسيأتي ذكر كل واحد منهما في ترجمته إنشاء الله تعالى، وتسلطن بعده ابنه مسعود.
وفيها توفي مؤيد الدولة أسامة بن مرشد الكلبي من اكابر أهل قلعة سعير وشجعانهم علمائهم، له تصانيف عديدة في فنون الأدب، وله ديوان شعر في جزأين منه قوله.
لا تستعر جلداً على هجرانهم ... فقواك تضعف عن صدود دائم
وإعلم بأنك إن رجعت إليهم ... طوعًا وإلا عدت عودة راغم
ومنه قوله في دار ابن طليب احترقت:
أنظر إلى الأيام كيف تسوقنا ... قهرا إلى الإقرار بالأقدار
ماأوقد ابن طليب قط بداره ... نارًا وكان خرابها بالنار
ومما يناسب هذه الواقعة ما حكي، أن إنسانًا معروفًا بابن صورة المصري كانت له بمصر دار موصوفة بالحسن فاحترقت، فقال أبو الحسن بن مفرج المعروف بابن المنجم
أقول وقد عاينت دار ابن قعورة ... وللنار فيها مارج يضرم(4/12)
كذا كل مال أصله من مهاوش ... فعما قليل في نهابر يعدم
وما هو إلا كافر طال عمره ... فجاءته لما استبطأته جهنم
والبيت الثاني مأخوذ من قوله عليه السلام: " من أصاب مالا من مهاوش أذهبه الله في نهابر والمهاوش: الحرام، والنهابر: المهالك.
فيها توفي مسند العراق الحافظ أبو أحمد عبد الوهاب بن سكينة البغدادي الصوفي، سمع الحديث، وقرأ القراءات، وقرأ الفقه والخلاف والنحو.
وقال ابن النجار: هو شيخ العراق في الحديث والزهد والسمت وموافقة السنة، كانت أوقاته محفوظة لا يمضي له ساعة إلا في تلاوة، أو ذكر، أو تهجد أو اسماع، وكان يديم الصيام غالبآ ويستعمل السنة في أموره، قال: وما رأيت أكمل منه ولا أكثر عبادة ولا أحسن سمتًا.
وفيها توفي الشيخ أبو عمر المقدسي الزاهد محمد بن أحمد المعروف بابن قدامة سمع من جماعة، وكتب الكثير بخطه، وحفظ القرآن والحديث والفقه، وكان إمامًا فاضلأ مقريًا زاهدأ عابدًا قانتاً لله خائفًا من الله منيبًا إلى الله، كثير النفع لخلق الله، ذا أوراد وتهجد واجتهاد وأوقات مقسمة على الطاعات من الصلاة والصيام والذكر، وتعليم العلم، والفتوة والمروة والخدمة والتواضع، وكان عديم النظير في زمانه حطب بجامع الجبل إلى أن توفي في رحمه الله تعالى.
سنة ثمان وست مائة
فيها قدم بغداد رسول جلال الدجين حسن صاحب الألموت بدخول قومه في الإسلام، وأنهم قد تبرؤوا من الباطنية، وبنوا المساجد والجوامع، وصاموا رمضان، فسر الخليفة بذلك.
وفيها وثب قتادة الشريف الحسني أمير مكة على الركب العراقي بمنىً فنهبهم، وقتل جماعة قيل: راح للباس في ذلك ما قيمته ألف ألف دينار.(4/13)
وفيها توفي أبو العباس العاقولي أحمد بن الحسن أبي البقاء المقرىء، قرأ القراءات، وسمع الحديث والروايات المتعددات.
وفيها توفي العلامة ابن نوح الغافقي محمد بن أيوب الأندلسي، قرأ القراءات، وسمع الحديث، وتفقه وبرع في مذهب ملك، ولم يبق له في وقته نظير في شرق الأندلس تفننًا واستيخارًا، كان رأسًا في القراءات والفقه والعربية، وعقد المشروطة قال: الإبار: تلوت عليه وهو أغزر من لقيت علمًا وأبعدهم صيتًا.
وفيها توفي الإمام العلامة محمد بن يونس الملقب عماد الدين الفقيه الشافعي، كان إمام وقته في الأصول والخلاف والجدل، وكان له صيت عظيم في زمانه، وقصده الفقهاء من البلاد الشاسعة للاشتغال، وتخرج عليه خلق كثير صاروا كلهم أئمة مدرسين يشار إليهم، وكان مبدأ اشتغاله على أبيه، ثم توجه إلى بغداد وتفقه بالمدرسة النظامية على السديد محمد السلماسي، وكان معيدًا بها، والمدرس يومئذ الشريف يوسف بن بندار الدمشقي، وسمع بها الحديث من أبي عبد الرحمن بن محمد الكشميهني، ومن أبي حامد محمد بن أبي الربيع الغرناطي، وعاد إلى الموصل، ودرس بها في عدة مدارس، وصنف كتبًا في المذهب منها كتاب المحيط في الجمع بين المهذب والوسيط وشرح الوجيز للغزالي، وصنف جدلاً وعقيدة، وتعليقه في الخلاف، لكنه لم يتمها، وكانت إليه الخطابة في الجامع المجاهدي مع التدريس في المدرسة النورية والغربية والزنكية والنفسية والعلانية، وتقدم في دولة نور الدين ارسلان شاه صاحب الموصل تقدمًا كثيرًا، وتوجه رسولاً إلى بغداد من غير مرة، وإلى الملك العادل، وناظر في ديوان الخلافة، واستقل في مسألة شراء الكافر للعبد المسلم، وتولى القضاء بالموصل، ثم انفصل عنه بأبي الفضائل القاسم بن يحيى الشهرزوري الملقب ضياء الدين، وانتهت إليه رياسة أصحاب الشافعي بالموصل.
وكان شديد الورع والتقشف لا يلبس الثوب الجديد حتى يغسله، ولا يمس القلم للكتابة إلا ويغسل يده، وكان دمث الأخلاق يعني سهلها، لطيف الخلوة ملاطفا بحكايات وأشعار، وكان كثير المباطنة لنور الدين صاحب الموصل، يرجع إليه في الفتاوى، ويشاوره في الأمور، وله صنف العقيدة المذكورة، ولم يزد معه، أو قال: يبحث معه حتى(4/14)
انتقل عن مذهب أبي حنيفة إلى مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنهما، ولمم يوجد في بيت أتابك مع كثرتهم شافعي سواه.
ولما توفي نور الدين توجه إلى بغداد في الرسالة بسبب تقرير ولده الملك القاهر مسعود، فعاد وقد قضى الشغل ومعه الخلعة والتقليد، وتوفرت حرمته عند القاهر أكثر مما كانت عند أبيه، وكان مكمل الآداب، غير أنه لم يرزق سعادة في تصانيفه فإنها ليست على قدر فضائله.
وكان الملك المعظم صاحب إربل يقول: رأيت الشيخ عماد الدين في المنام بعد موته، فقلت له: أما مت؟! فقال: بلى، ولكني محترم رحمه الله تعالى.
وفيها توفي القاضي السعيد أبو القاسم هبة الله بن القاضي الرشيد أبي الفضل جعفر بن المعتمد السعدي، الشاعر المشهور، المصرفي صاحب ديوان الشعر البديع، ونظم رائق الحسن الرفيع أحد الفضلاء الرؤساء النبلاء، أخذ الحديث عن أبي طاهر أحمد بن محمد السلفي الأصبهاني، وكان كثير التخصيص والنعم، وافر السعادة من الدنيا، حميد الشيم اختصر كتاب الحيوان للجاحظ وسمي المختصر روح الحيوان، وله ديوان جميعه موشحات سماء دار الطراز وجمع شيئًا من الرسائل الدائرة بينه وبين القاضي الفاضل، ومن محاسن شعره قوله في غزل قصيدة مدح بها القاضي الفاضل:
ولو أبصر النظام جوهر ثغرها ... لما شك فيه أنه الجوهر الفرد
ومن قال: إن الخيرزانة قدها ... فقولوا له: إياك أن يسمع القد
وكان بمصر شاعر يقال له: أبو المكارم هبة الله بن وزير، فبلغ القاضي الملقب بالسعيد المذكور أنه هجاه، فأحضره إليه وأد به وشتمه، فكتب إليه أبو الحسن المعروف بابن المنجم الشاعر المشهور:
قل للسعيد أدام الله نعمته ... صديق ابن وزير كيف تظلمه
صفعته إذا غدا يهجوك منتقمًا ... وكيف من بعد هذا ظلت تشتمه
هجو يهجو، وهذا الصفع فيه ربًا ... والشرع ما يقتضيه، بل يحرمه
فإن تقل ما بهجو عنده ألم ... فالصفع والله أيضًا ليس يؤلمه(4/15)
سنة تسع وست مائة
فيها كانت الملحمه العظمى بالأندلس بن الناصر محمد بن يعقوب، وبين الفرنج، فنصر الله الإسلام، والحمد لله استشهد بها عدد كثير وتعرف بوقعة العقاب.
وفي السنة المذكورة توفي الحافظ أحمد بن هارون البغوي الشاطبي سمع أباه العلامة ابن هذيل، ولما حج سمع من السلفي، وكان عجبًا في سرد المتون، ومعرفة الرجال الأدب، وكان زاهدًا سلفيًا متفننًا عدم في وقعة العقاب.
وفيها توفي الملك الأوحد أيوب بن الملك العادل بن أبي بكر بن أيوب وكان ظلوماً سفاكًا لدماء الأمراء.
وفيها توفي أبو نزار ربيعة بن الحسن الحضرمي اليمني الصنعاني الشافعي المحدث، تفقه بظفار، ورحل إلى العراق وأصفهان، وسمع من طائفة منهم أبو المطهر الصيدلاني، وكان مجموع الفضائل، كثير التعبد والعزلة.
سنة عشر وست مائة
فيها توفي تاج الأمناء أبو الفضل أحمد بن محمد بن الحسن بن هبة الله الدمشقي المعدل ابن عساكر والد العز النسابة.
وفيها توفي أبو الفضل التركستاني أحمد بن مسعود شيخ الحنفية في العراق، وعالمهم ومدرس مسند الإمام أبي حنيفة.
وفيها توفي السلطان شمس الدين، صاحب همدان، وأصفهان، والري وصاحب المغرب الملقب بأمير المؤمنين، محمد بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن القيسي، وكان حسن القامة، أشقر، أشهل، طويل الصمت، كبير الأطراف بعيد الغور، ذا شجاعة وحلم، وفي سنة تسع وتسعين سار ونزل على مدينة فارس فأخذها، ثم سار وحاصر المهدية أربعة أشهر، ثم تسلمها، وقيل: إنه أنفق في هن! السفرة مائة وعشرين حمل ذهب.
وفيها توفي أبو موسى عيسى بن عبد العزيز الجزولي، كان إمامًا في علم النحو كثير الإطلاع على دقائقه وغريبه وشاذه، وصنف فيه المقدمة التي سماها القانون أتى فيها(4/16)
بالعجائب، وهي مع الإيجاز مشتملة على كثير من النحو قيل، ولم يسبق إلى مثلها واعتنى بها جماعة من الفضلاء شرحوها، ومنهم من وضع لها أمثلة، ومع هذا فلا يفهم حقيقتها، وأكثر النحاة يعترفون بقصور إفهامهم عن إدراك مراده منها، فإنها كلها رموز وإشارات، وقد قال بعض أئمة العربية: أنا ما أعرف هذه المقدمة، وما يلزم من كونه ما أعرفها إن لا أعرف النحو، ويقال: إنه كان يدري شيئًا من المنطق، وعلى جملة، وفي مقدمته المذكورة كلام غامض، وعقود لطيفة، وأشار إلى أصول صناعة النحو وغريبه.
وذكر بعضهم أنه كان إذا سئل عنها، هذه من صنعتك؟. قال: لا لأنه كان متورعًا
وكان قد جرى بين الطلبة بحث حصلت منه فوائد، فعلقها الجزولي فيها، وفوائد أخرى من كلام شيخه، فسلم يسعه لذلك أن يقول هي من صنعتي، وإن كانت منسوبة إليه، لأنه الذي انفرد بترتيبها. وكان قد دخل إلى الديار المصرية، وأقام بهامدة حجج، ثم رجع إلى بلاد المغرب، وأقام بمدينة بجاية مدة والناس يشتغلون عليه وانتفع به خلق كثير والجزولي بضم الجيم والزاي وسكون الواو نسبة إلى جزولة، وهي بطن من البربر.
وفي السنة المذكورة توفيت عين الشمس بنت أحمد بن أبي الفرج الثقفية الأصفهانية.
وفيها توفي أبو الفتح ناصر بن أبي المكارم المطرزي الفقيه النحوي الأديب الحنفي الخوارزمي، كانت له معرفة تامة بالنحو واللغة والشعر وأنواع الأدب، قرأ على جماعة، وسمع الحديث من طائفة، وكان رأسا في الاعتزال، داعيًا إليه منتحلاً مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه في الفروع، فصيحًا فاضلاً في الفقه، له عدة تصانيف نافعة منها شرح المقامات للحريري، وهو على وجازته مفيد محصل للمقصود، وله كتاب المغرب تكلم فيه على الألفاظ التي يستعملها الفقهاء من الغريب، وهي للحنفية بمنزلة كتاب الأزهري للشافعية. وما قصر فيه، فإنه أتى جامعا للمقاصد، وله غير ذلك، وانتفع الناس به وبكتبه ودخل بغداد حاجًا، وجرى له هناك مباحث مع جماعة من الفقهاء وأخذ أهل الأدب عنه، وكان شهير الذكر بعيد الصيت، وله شعر من ذلك قوله:
وإني لاستحيي من المجد أن أرى ... حليف عوان أو أليف غواني
وقوله:
تعامى زماني عن حقوقي وإنه ... قبيح على الزرقاء تبدي تعاميا
فإن تنكروا فضلي فإن دعاءه ... كفى لذوي الأسماع منكم مناديا(4/17)
ويقال: إنه كان بخوارزم خليفة الزمخشري: والمطرزي نسبة إلى من يطرز الثيابة ويرقمها إما هو أو أحد من آبائه.
وفيها وقيل: وفي سنة تسع توفي أبو الحسن علي بن محمد الحضرمي المعروف بابن خروف النحوي الأندلسي الإشبيلي، كان فاضلاً في علم العربية، وله فيها مصنفات شهدت بفضله وسعة علمه، شرح كتاب سيبويه شرحًا جيدًا وشرح الجمل لأبي القاسم الزجاجي، هذا غير ابن خروف الشاعر والحضرمي نسبة إلى حضرموت.
سنة احدى عشرة وست مائة
فيها توفي الحافظ المتقن مسند العراق عبد العزيز بن محمود المعروف بابن الأخضر البغدادي وفيها توفي الإمام الحافظ المفتي علي بن مفضل اللخمي المقدسي الإسكندراني الفقيه المالكي كان فقيهًا فاضلاً في مذهب الإمام مالك، ومن أكابر الحفاظ المشاهير في الحديث وعلومه، صحب الحافظ أبا طاهر السلفي الأصبهاني.
وفيها توفي الشيخ العلامة زكي الدين أبو محمد عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله المنذري، ولازم صحبته، وبه انتفع، وعليه تخزج، وعليه أنشد أبو الحسن المقدسي المذكور لنفسه:
تجاوزت ستين من مولدي ... فأسعد أيامنا المشترك
يسائلني زائري حالتي ... وما حال من حل في المعترك
وأنشد أيضاً لنفسه
أيا نفس بالمأثور من خير مرسل ... وبأصحابه والتابعين تمسكي
عساك إذا بالغت في نشر دينه ... بما طاب نشر له أن تمسكي
خافي غدًا يوم الحساب جهنمًا ... إذا لفحت نيرانها أن تمسكي
وأنشد أيضا ًلنفسه(4/18)
لما تحيي من تحيي بريقها ... كأن مزاج الراح بالمسك في فيها
وما ذقت فيها غير أني رويته ... عن الثقة المسواك، وهو موافيها
هذا المعنى قد سار في كثير من أشعار المتقدمين والمتأخرين، فمن ذلك قول بشار من جملة أبيات:
يا أطيب الناس ريقًا غير مختبر ... إلا شهادة أطراف المساويك
وقول آخر:
وأخبرني أترابها أن ريقها ... على ما حكى عودًا لأراك لذيذ
وكان مدرسًا ونائبًا في الحكم.
وفيها توفي الشيخ أبو الحسن بن أبي بكر الهروي، طاف البلاد وأكثر الزيارات حتى كاد يطبق الأرض بالدورات برًا وبحرًا وسهلاً ووعرًا، وكان له فضيلة ومعرفة بعلم السيمياء وبه تقدم عند الملك الطاهر عند السلطان صلاح الدين صاحب حلب، وكان كثير الرعاية له، وبنى مدرسة بظاهر حلب.
قال ابن خلكان: رأيت فيها بيتين مكتوبين بخط حسن كتابة رجل فاضل نزل هناك قاصدًا للديار المصرية. وهما.
رحم الله من دعا لأناس ... نزلوا ههنا يريدون مصر
نزلوا والخدود بيض، فلما ... أزف البين عدن بالدمع حمرا
وللهروي المذكور مصنفات منها كتاب الإشارات في معرفة الزيارات وكتاب الخطب الهروية وغير ذلك.
سنة اثنتي عشر وست ومائة
فيها سار الملك المسعود ابن السلطان الملك الكامل من الديار المصرية عندما بلغه موت صاحب البحرين سيف الإسلام، فاستولى على إقليم اليمن بغير حرب.
وفيها استولى خوارزم شاه على غزنة، وهرب ملكها إلى نهاوند، ثم جمع وحشد، والتقى صاحب غزنة.(4/19)
وفها انهزم الذي غلب على همدان والري وأصبهان، ثم قتل.
وفيها توفي الحافظ عبد الله بن سلمان الأندلسي، وكان موصوفًا بالاتقان حافظًا لأسماء الرجال، صنف كتابًا في تسمية شيوخ البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي، ولم يكمله، وكان إمامًا في العربية والترسل والشعر، ولي قضاء إشبيلية وقرطبة، وأدب أولاد المنصور صاحب المغرب.
وفيها توفي الحافظ عبد القادر الرهاوي، كان مملوكًا لبعض أهل الموصل فأعتقه وحبب إليه فن الحديث، فسمع الكثير، وصنف وجمع، وله الأربعون المتباينة الإسناد والبلاد، وهو شيء ما سبقه إليه أحد ولا يرجوه بعده محدث لخراب البلاد، سمع، وهمدان، وهراة، ومرو، ونيسابور وسجستان، وبغداد ودمشق، ومصر.
وقال ابن خلكان: كان حافظًا ثبتًا، كثير التصاينف، ختم به الحديث وقال أبو أسامة: كان صالحًا مهيبًا زاهدًا خشن، العيش، ورعاء ناسكًا.
وفيها توفي الوجيه المعروف بابن الدهان المبارك بن المبارك النحوي الضرير الواسطي قرأ القراءات، واشتغل بالعلم، وسمع الحديث من أبي زرعة طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي، وتفقه على مذهب أبي حنيفة بعد أن كان حنبليًا، ثم انتقل إلى مذهب الشافعي لما شعر المجلس تدريس النحو بالنظامية، وشرط الواقف أن لا يفوض إلا إلى الشافعي المذهب، وفي ذلك يقول أبو البركات المؤيدين يزيد التكريتي:
من مبلغ عني الوجيه رسالة ... وإن كان لا تجدي إليه الرسائل
تمذهب للنعمان بعد ابن حنبل ... وذلك لما أعوزتك المآكل
وما اخترت رأي الشافعي تدينا ... ولكنما يهوي الذي منه حاصل
وعما قليل أنت لا شك صائر ... إلى ملك فأفطن لما أنت قائل
وللوجيه المذكور تصنيف في النحو، وله شعر ومنه قوله:(4/20)
ولست أستفتح اقتضاك بالوعد ... وإن كنت سيد الكرماء
فإله السماء قد ضمن الرزق ... عليه ويقتضي بالدعاء
وفيها توفي الشيخ الكبير الولي الشهير العارف بالله الخبير أبو الحسن علي بن حميد الصعيدي المعروف بابن الصباغ صاحب أحوال سنية ومقامات علية وأنفاس صادقة، وكرامات خارقة، وفضائل جليلة، ومواهب جزيلة صحب الشيخ الكبير عبد الرحيم القناوي، وتخرج به، وكان والده صباغًا، وكان يريد أن يكون ولده صباغًا مثله، ولا يرى بما هو عليه من الاشتغال بسلوك طريق الصوفية، حتى كان بعض الأيام، فاشتد غضبه عليه وخاصمه كما اقتضى الوقت، وهو مشتغل عن الصباغ والثياب على حالها لم يصبغها، وعنده أزيار متعددة فيها أصباغ مختلفة الألوان يصبغ كل ثوب في زير منها على حسب ما يطلب صاحبه من ألوان الصبغ، فأخذوا أبو الحسن مجموع الثياب، وطرحها في زيرواحد فصاح والده، وإنغاظ عليه غيظًا شديدًا، وقال: أتلفت ثياب الناس، فأدخل أبو الحسن يده في الزير، وأخرجها جميعها، وكل واحد منها مصبوغ باللون الذي أراد صاحبه، فعند ذلك اندهش عقل والده وهاله ما رأى من تلك الكرامة التي ظهرت عليه، وسلم له حاله، واعتقد ما هو مائل إليه من السلوك لطريق الصوفية، وخلاه من تلك الصنعة بالكلية، ولما انتهى حاله وصار من أجلاء المرادين التمس منه الصحبة خلايق من المريدين، وكان لا يصحب إلا من يراه مكتوباً في اللوح المحفوظ من أصحابه، فجاءه إنسان يطلب منه الصحبة وخدمة الفقراء في بعض الوظائف، فأطرق الشيخ ساعة ثم رفع رأسه، وقال: ما بقي عندنا وظيفة، فقال: يا سيدي لا بد أن تفكر لي في خدمة، فقال: ما عندنا خدمة إلا إن كنت تذهب وتأتي كل يوم بحزمة من الحلفاء، قال: نعم يا سيدي فصار كل يوم يأخذ المحش ويأتي بحزمة منها، فلما كان بعد مدة أوجعته يده فرمى بالمحش وترك الفقراء وذهب، فبينا هو في بعض الطريق رأى في منامه كأن القيامة قامت والناس يجوزون على الصراط فمنهم الناجي، ومنهم الواقع في النار نسأل الله السلامة، فلم يقدر يجوز، وبقي في خطر عظيم يكاد يقع فيها، فطلب شيئًا يستمسك، فلم يجد وبقي متحيرًا مشرفًا على الهلاك، وإذا حزمة من حزم الحلفاء تحته في النار مارة عليها، فرمى بنفسه فوقها، حتى أخرجته منها ناجيًا بلطف الله تعالى، فاستيقظ مرعوبًا من هول ما رأى، فرجع إلى الشيخ، فلما وقع بصر الشيخ(4/21)
عليه، قال له: ما قلنا لك ما عندنا خدمة تصلح لك سوى قطع الحلفاء، فاستغفر الله، وعاد، ما كان عليه، وكان ابن الصباغ المذكور جليلاً، وناهيك لجلالته أن الشيخ الكبير الجليل القدر الشهير أبا عبد الله القرشي لما مات شيخه أصابته وحشة، فذهب إليه، وتأنس به رضي تعالى عنه مع الجميع منهم ونقضا بهم.
سنة ثلاث عشرة وست مائة
فيها قيل: وقع بالبصرة برد أصفر كالتارنجة الكبيرة، وأكبره ما يستحيي الإنسان أن يذكره وفيها: توفي العلامة تاج الدين أبو اليمن زيد بن الحسن الكندي المعروف البغدادي المولد والمنشأ والدمشقي الدار: والوفاة النحوي اللغوي المقري أكمل القراءات العشرة وله عشرة أعوام.
قال بعضهم: وهذا ما لا أعلمه تهيأ لأحد سواه أتقن القراءات والعربية على جماعة، وقال الشعر الجيد، ونال الجاه الوافر، فإن الملك المعظم كان قديم الاشتغال عليه، وكان ينزل من القلعة إليه، وكان أوحد عصره في فنون الأدب وعلو السماع، لقي جلة المشائخ، وأخذ عنهم، منهم الشريف أبو السعادات بن الشجري وأبو محمد بن الخشاب، وأبو منصور بن الجواليقي استوطن بدمشق بعد أسفار سافرها، وقصده الناس، وأخذوا عنه، وله كتاب نسخه على حروف المعجم قال ابن خلكان: أخبرني أحد أصحابه أنه قال: كنت قاعدًا على باب ابن الخشاب النحوي ببغداد، وقد خرج من عنده الزمخشري الإمام المشهور، وهو يمشي في خشب لأن احدى رجليه كانت سقطت من الثلج، والناس يقولون: هذا الزمخشري ونقل من خطه قال: كان الزمخشري أعلم فضلاء العجم بالعربية في زمانه، وبه ختم الله فضلاؤهم وكان محققاً بالاعتزال ورأيته عند شيخنا ابن الجواليقي مرتين قارئًا بعض كتب، اللغة من فواتحها، مستجيزا لها لأنه لم يكن له على ما عنده من العلم لقاء ولاراوية ولأبي اليمن شعر من جملته قوله، حين طعن في السن:
أرى المرء يهوى أن تطول حياته ... وفي طولها إرهاق ذل وإزهاق
تمنيت في عصر الشبيبة أنني ... أعمر والأعمال لا شك أرزاق
فلما أتاني ما تمنيت ساءني ... من العمر ما قد كنت أهوى وأشتاق(4/22)
تخيل لي فكري إذا كنت خاليًا ... ركوبي على الأعناق والسير أعناق
ويذكرني مر النسيم وروحه ... ضمائر يعلوها من الترب أطباق
وها أنا في إحدى وتسعين حجة ... لها في إرعاد مخوف وإبراق
يقولون ترياق لمثلك نافع ... وما لي إلا رحمة الله ترايق
ولما توفي نزل الناس بموته درجة في القراءات، وفي الحديث لأنه أخر من سمع ممن هو أعلى أهل عصره سندًا.
وفيها توفي الملك الظاهر صاحب حلب أبو الفتح غازي بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، كان ملكًا عظيمًا مهييًا حازمًا متيقظًا، كثير الاطلاع على أخبار الملوك، وأحوال رعيته، عالي الهمة، حسن التدبير والسياسة، باسط العدل، ملقبًا بغياث الدين، محباً للعلماء مجيزًا للشعراء، ويحكي من سرعة ادراكه أشياء حسنة، منها أنه جلس يومًا فعرض العسكر، وكلما حضر واحد من الأجناد سأله الديوان عن اسمه، حتى حضر واحد، فسألوه، فقبل الأرض، فلم يفطن أحد منهم لما أراد فأعادوا سؤاله، فقال الملك الطاهر: اسمه غازي، وكان كذلك وإنما لم يذكر اسمه أدباً لكونه موافقًا الاسم السلطان المذكور. وفيها توفي الفقيه الإمام معين الدين محمد بن إبراهيم السهيلي الشافعي مؤلف الكافية في الفقه في مجلد، كان إمامًا فاضلاً متفننًا مبرزًا، وله كتاب ايضاح الوجيز في مجلدين أحسن فيه، وله طريقة مشهورة في الخلاف والقواعد المشهورة المنسوبة إليه، واشتغل عليه الناس، وانتفعوا به وبكتبه من بعده خصوصًا القواعد، فإن الناس أكبوا على الاشتغال بها، توفي بكرة يوم الجمعة الحادي والعشرين من شهر رجب من السنة المذكورة.
وفيها توفي العز محمد بن الحافظ عبد الغني المقدسي، سمع وكتب الكثير وارتحل، وكان حافظًا فقيهًا ذا فنون ومروءة تامة، وديانة متينة، موصوفًا بحسن القراءات وجودة الفهم.
سنة أربع عشرة وست مائة
فيها سار خوارزم شاه في أربع مائة ألف راكب إلى أن وصل همدان قاصدًا بغداد ليتملكها، ويحكم على الناصر لدين الله، فاستعد الناصر، وفرق الأموال والسلاح وراسله، فلم يلتفت إليه، قال الرسول: أدخلت إليه في خيمة عظيمة لم أر مثل دهيلزها،(4/23)
والأطناب حرير، وفي الخدمة ملوك العجم، وما وراء النهر، وهو شاب عليه شعرات قاعد على تخت، وعليه قباء يساوي خمسة دراهم، وعلى رأسه قلنسوة جلد يساوي درهمًا، فسلمت فما رد ولا أمرني بالجلوس، فخطبت وذكرت فضل بني العباس، وأطنبت في فضل الخليفة والترجمان يخبره، فقال: قل له هذا الذي تصفه ما هو في بغداد، بل أنا أجيء وأقيم خليفة هكذا، ثم ردنا بلا جواب واتفق أن نزل بهمدان ثلج عظيم أهلك خيلهم، وركب هو يوماً فعثر به فرسه، فتعطب، وقلت الأقوات على جيوشه ولطف الله فردوا.
وفيها تخربت الفرنج على الملك العادل، ونزلوا على عين جالوت، وقطعوا الشريعة، وسبوا اليزك بالمثناة من تحت والزاي يعني الجرس وعانوا في البلاد، وتهيأ أهل دمشق للحصار، واستحث العادل ملوك النواحي على النجدة، فرجعت الفرنج بالغنائم والسبي إلى نحو عكا، هكذا أذكره الذهبي عكا بالألف وكانوا خمسة عشر ألفًا.
وفيها توفي العماد المقدسي إبراهيم بن عبد الواحد أخو الحافظ عبد الغني قيل: وكان صواماً قوامًا، صاحب أحوال وكرامات، سمحًا متفضلاً ورعًا متواضعًا.
وفيها توفي قاضي القضاة عبد الصمد بن محمد الأنصاري الخزرجي الدمشقي الشافعي، سمع من الكبار، ودرس وأفتى وبرع في المذهب وانتهى إليه علو الإسناد، وكان صالحًا عبادًا من قضاة العدل.
سنة خمس عشرة وست مائة
فيها الملك الأشرف موسى كسر ملك الروم كيكاوس، ثم أخذ عسكره وعسكر حلب، خل بلاد الفرنج ليشغلهم عن دمياط، فأقبل صاحب الروم لأعمال حلب، وأخذ بعض نواحيها، فقصده الملك الأشرف، وقدم بين يديه العرب، فكسروا والروم، وهزموهم. وفيها التقى الملك المعظم الروم، فكسرهم، وقتل خلقًا وأسر مائة فارس، ولكنه تمقت إلى الناس بإدارة المكوس والجبايات بدمشق، واعتذر لما عنفوه بقلة المال، وخرب بايناس، وبعض البلاد مما يلي تلك الجهة، وكانت قفلاً للشام، وزعم أنه فعل ذلك خوفاً من استيلاء الفرنج، وكذلك خرب قلعة منيعة كان قد أنشأها على الطور، وعجز عن حفظها لإحتياجها إلى المال والرجال.(4/24)
وفيها توفي صاحب مصر والشام السلطان الملك العادل سيف الدين محمد ابن الأمير نجم الدين أيوب، كان أخوه صلاح الدين يستشيره ويعتمد على رأيه لعقله ودهائه، ثم تقلبت به الأحوال بقدرة القدير ذي الجلال، واستولى على المالك وتسلطن ابنه الملك الكامل على الديار المصرية وابنه المعظم على الشام، وابنه الأشرف على الجزيرة، وابنه على خلاط، وابن ابنه المسعود على اليمن، وكان ملكًا جليلاً طويل العمر، عميق الفكر، بعيد الغور، جماعًا للمال، ذا حلم وسؤدد وله نصيب من صوم وصلاة، وكان يضرب به المثل في كثرة أكله، ولم يكن محببًا إلى الرعية لمجيئه بعد الدولتين النورية والصلاحية.
قال الملك العادل: لما عزمنا على المسير إلى مصر احتجت إلى حرمدان يعني الذي يسميه الناس اليوم حمدان، فطلبته من والدي، فأعطاني وقال: يا أبا بكر إذا ملكتم مصر، فاعطني ملؤه ذهبًا، فلما جاء إلى مصر، قال: يا أبا بكر أين الحرمدان فرحت وملأته من الدراهم السود، وجعلت على أعلاه شيئا من الذهب وأحضرته إليه، فلما آره اعتقده ذهباً، فقلبه وظهرت الفضة السوداء، فقال: يا أبا بكر تعلمت من دغل المصريين. ولما ملك صلاح الدين الديار المصرية كان ينوب عنه في حال غيبته في الشام، واستدعي منه الأموال للانفاق في الجند وغيرهم، فتقدم السلطان إلى العماد الأصفهاني إلى أن يكتب إلى أخيه الملك العادل يستحثه على انفاذها. حتى قال: يسير الحمل من مالنا أو من ماله ولما وصل إليه الكتاب شق عليه، فشكا إلى القاضي الفاضل، وكتب الفاضل جوابه ومن جملته وإمامًا ذكره المولى من قوله يسير الحمل من مالنا أو من ماله، فتلك لفظة لم يكن المقصود بها النجمة، وإنما المقصود بها من الكاتب السجعة، وكم من لفظة فضة، وكلمة فيها غلظة، حيرت الأقلام، وسدت خلل الكلام وخلف تسعة عشر ابنًا تسلطن منهم خمسة. الكامل، والمعظم، والأشرف، والصالح وشهاب الدين غازي.
وفيها توفي صاحب الموصل السلطان الملك القاهر عز الدين أبو الفتح مسعود بن السلطان نور الدين ارسلان شاه ابن المسعود الأتابكي وصاحب الروم السلطان الملك الغالب عز الدين بن كيكاوس.
وفيها توفي محدث بغداد الحافظ أبو العباس أحمد بن أحمد البندنيجي.
وفيها توفي الفقه أبو حامد محمد بن محمد العميدي الحنفي السمرقندي،(4/25)
كان إماماً في فن الخلاف، وهو أول من آفرده بالتضيف، ومن تقدمه، كان يمزجه بخلاف المتقدمين، ومن تصانيفه أيضًا كتاب النفائس اختصره شمس الدين أحمد بن الجليل الفقيه الشافعي الجوني قاضي دمشق وسماه عرائس النفائس، وكان كريم الأخلاق، كثير التواضع، طيب المعاشرة.
وفيها توفي الفقيه العلامة عماد الدين أبو القاسم الدامغاني قاضي القضاة عبد الله بن حسين، ولي القضاء بالعراق نحو ثمان سنين، ثم عزل، وأبو الفتوح محمد بن محمد بن محمد القرشي التيمي البكري الصوفي.
وفيها توفيت أم المؤيد زينب بنت عبد الرحمن بن الحسن الجرجاني الأصل، النيسابوري الدار، الصوفي المذهب المعروف بالشعري بفتح الشين المعجمة، وسكون العين المهملة، وكسر الراء، كانت عالمة أدركت جماعة من العلماء، وأخذت عنهم رواية واجازة منهم الإمام أبو المظفر بن عبد المنعم بن عبد الكريم القشيري والحافظ أبو الحسين عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي وأبو البركات ابن الإمام محمد بن الفضل الفزاري والعلامة أبو القاسم الزمخشري صاحب الكشاف وغيرهم.
سنة ست عشرة وست مائة
في أولها خرب الملك المعظم سور بيت المقدس خوفًا وعجزأ من الفرنج أن يملكه، فشتت أهله وتضرروا، وكان هو مع أخيه الكامل في كشف الفرنج عن دمياط، وتمت لهم للمسلمين حروب وقتال كثير، وجدت الفرنج في محاصرة دمياط، وعملوا عليهم خندقًا كبيرًا، وثبت أهل البلد ثباتًا لم يسمع بمثله، وكثر فيهم القتل والجراح، وعدمت الأقوات، ثم سلموها بالأمان وتسارعت الفرنج من كل فج عميق، وشرعوا في تحصينها، وأصبحت دار هجرتهم وترجوا أخذ ديار مصر، وأشرف الإسلام على الإنكسار والدمار، وأقبل أعداء الله من المشرق والمغرب، وأقبل المصريون على الجلاء فيهم الكامل إلى أن سار أخوه الأشرف كما سيأتي في سنة ثمان عشر وست مائة.
وفيها توفي أبو البقاء عبد الله بن الحسين العكبري الضريري النحوي صاحب التصانيف، أخذ النحو عن أبي محمد بن الخشاب وغيره من مشائخ عصره ببغداد، وسمع الحديث من أبي الفتح محمد بن عبد الباقي المعروف بابن البطي، ومن أبي زرعة طاهر بن محمد المقدسي وغيرهما، ولم يكن في آخر عمره في عصره مثله في فنونه على ما قيل:(4/26)
وكان الغالب عليه علم النحو وتصانيفه مفيده منها شرح كتاب الإيضاح لأبي علي الفارسي وديوان المتنبي واعراب القرآن الكريم في جزأين وكتاب اعراب الحديث وكتاب شرح اللمع لابن جني وكتاب اللباب في علل النحو وكتاب اعراب شعر الحماسة وشرح المفصل للزمخشري شرحًا مفصلاً وشرح الخطيب النباتية والمقامات الحريرية، وصنف في النحو والحساب، واشتغل عليه خلق كثير، وانتفعوا به واشتهر اسمه في البلاد في حياته وبعد صيته، وحكى في شرح المقامات عند ذكر العنقاء أن أهل الرس كان بأرضهم جبل يقال له: دمح صاعد في السماء قد رميل، وكانت به طيور كثيرة، وكانت العنقاء طائرة عظيمة الخلق طويلة العنق لها وجه إنسان وفيها من كل حيوان شبه من أحسن الطير، وكانت تأتي في السنة مرة هذا الجبل، فتلتقط طيره، فجاعت في بعض السنين وأعوزها الطير، فانقضت على صبي، فذهبت به، فسميت عنقاء مغرب والمغرب الني يجيء بالغرائب لإبعادها بما تذهب به، ثم ذهبت بجارية أخرى، فشكى أهل الرسل إلى نبيهم حنظلة بن صفوان، فدعا عليها فأصابتها صاعقة، فاحترقت، والله أعلم انتهى.
قال بعض أهل العلم: هذا حنظلة بن صفوان نبي أهل الرس كان في زمن الفترة بين عيسى ونبينا صلوات الله وسلامه عليهما.
وذكر بعض المؤرخين، وهو الفرغاني نزيل مصر أن العزيز نزار بن المعز صاحب مصر اجتمع عنده من غرائب الحيوان ما لم يوجد عند غيره، فمن ذلك العنقاء، وهي طائر جاءه من صعيد مصر في طول البلسون، وأعظم جسما منه له غبب ولحية، وعلى رأسه وقاية، وفيه عدة ألوان، ومشابهة من طيور كثيرة.
وذكر الزمخشري في كتاب ربيع الأبرار في باب الطير، عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن الله تعالى خلق في زمن موسى طائرة اسمها العنقاء، لها أربعة أجنحة من كل جانب، ووجه كوجه الإنسان وأعطاها من كل شيء قسطًا، وخلق لها ذكر أمثلها، وأوحي إليه إني خلقت طائرين عجيبين وجعلت رزقهما في الوحوش التي حول بيت المقدس وأنستك بهما وجعلتهما زيادة فيما فضلت به بني إسرائيل، فتناسلا، وكثر نسلهما، فلما توفي موسى عليه السلام انتقلت، فوقعت بنجدوا الحجاز، فلم تزل تأكل الوحوش، وتخطف الصبيان إلى أن شكوها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فدعا الله تعالى، فقطع نسلهما وانقرضت، والله أعلم.
قلت: وأما ما يقال في المثل في عدم وجود بعض الأشياء كالعنقاء يسمع بها ولا يرى(4/27)
على هذا يكون المراد بعدم رؤيتها بعد الانقراض المذكور.
وقال بعضهم: شيئان يسمع بهما ولا يريان العنقاء والغول، هكذا قيل قلت: ولكن قد حكي في رواية الغول حكايات كثيرة وإنها تتلون وإلى ذلك أشار كعب بن زهير في قوله:
ولا تدوم على حال تكون بها ... كما تلون في أثوابها الغول
وهي من سعالى الشياطين تعوذ بالله منهم، وقد قيل: إنها تجيء بعض الناس في صورة امرأة حسناء، ثم تسحره حتى يصير في صورة حمار، فتركب عليه وتركضه إلى حيث شاء، ثم تتركه أو ترده، ثم تروح وتخليه، وعلى لسان حال من وقع له هذا قلت أبياتًا في وصف الدنيا مشبهًا لها بالغول على طريق الخناس منها قولي.
كغول ذي غول ذي خداع ... وجابي الأرض ركضًا، ثم جابي
سعى لي مع سعالى ثم دلى ... يد الماجري بي في جرابي
ولي أهوى بما أهوى، فلما ... ترقي في حرابي في حرابي
رمى نحري لنحري ثم جهدي ... أنادي بالحرابي وأحرابي
ومعنى قولي في البيت الأول وجابي الأرض من الوحي الذي هو الدق أي ركض بي، وقولي في آخره: ثم جابي من المجيء أي ردني، وفي البيت الثاني سعالى من سعى يسعى مع سعالى جمع سعلان لما جرى بي من الجري، وفي جرابي الجراب المعروف، ولي أهوى أي أخرج من الجراب شيئًا أهوى به إلي بما أهوى أي بما أحب، والمعني أنه طمنني حتى أسكت خداعًا منه، فلما ترقي في حرابي حرًا هو الجبل المبارك المعروف الذي ترقي فيه، وفي حراب الثاني جمع حربة رمي نحري أي بتلك الحراب لنحري أي لقتلي كما ينحر الناقة، معنى أنادي بالحرابي أي بالجهد والطاقة مني التي لا أقدر على غيرها، وأحرابي من الحرب أي جهدي أقول واحرباه.
وفيها توفي الإمام العلامة أبو محمد عبد الله المعروف بابن شاس الجذامي المصري شيخ المالكية. صاحب كتاب الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة وضعه على ترتيب وجيز الإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي رحمه الله تعالى.
قال ابن خلكان: والطائفة المالكية بمصر عاكفة عليه لحسنه، وكثرة فوائده، وكان مدرساً بمصر بالمدرسة المجاورة للجامع، وتوجه لمجاهدة العدو لما أخذ دمياط، فتوفي هناك رحمه الله، كان من أكبار أئمة العالمين، حج في أواخر عمره، ورجع وامتنع من الفتيا(4/28)
إلى أن مات مجاهدًا في سبيل الله.
وفيها توفي الحافظ علي بن القاسم ابن الحافظ الكبير أبي القاسم بن عساكر وصاحب سنجار الملك المنصور قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكي، وست الشام الخاتون بنت أيوب أخت الملك العادل، توفيت في دمشق، ودفنت في مدرستها الشامية.
وفيها توفي أبو الفرج عبد الله بن أسعد بن علي المعروف بابن الدهان الموصلي الفقيه الشافعي المنعوت بالمهذب، كان فيها أديبًا فاضلاً شاعرًا، لطيف الشعر، مليح السبك، حسن المقاصد، غلب عليه الشعر واشتهر به، وله ديوان صغير وكله جيد، وهو من أهل الموصل. لما ضاقت به الحال عزم على قصد الوزير بمصر الملقب الملك الصالح، وعن استصحاب زوجته، فكتب إلى نقيب العلويين بالموصل أبي طاهر زيد بن محط الحسيني هذه الأبيات.
وذات شجو أسأل البين غيرتها ... باتت تؤمل بالتقييد امساكي
لجت فلما رأتني لا أصيخ لها ... بكت فأقرح قلبي خفتها الباكي
قالت وقد رأت الأجمال محدجة ... والبين قد جمع المشكو والشاكي
مالي إذا غبت في ذا المحل قلت لها: ... الله وابن عبيد الله مولاك
لا تجزعي بانحباس الغيث عنك فقد ... سألت نواء الثريا جوف معناك
فكفل بالشريف بن عبيد الله المذكور لزوجته بجميع ما تحتاج إليه مدة غيبته عنها فتوجه إلى مصر، ومدح الصالح بقصيدته الكافية أولها.
أما كفاك تلافي في تلافيكا ... ولست تنقم إلا فرط حبيكا
ومنها:
أأمدح الترك أبغي الفضل عندهم ... والشعر مازل عند لترك متروكا
لانلت وصلك إن كان الذي زعموا ... ولا شفا ظمأى جود ابن رزيكا(4/29)
ابن رزيك بضم الراء وكسر الزاي المشددة، وهو الممدوح، وقال العماد الكاتب أنشدني:
تردي الكتائب كتبه فإذا انبرى ... لم يمر أنفذا أسطرا أم عسكرا
وفي معنى تشبيه القلم بالعسكر قول بعضهم:
قوم إذا أخذوا الأقلام عن غضب ... ثم استمدوا بها ما المنيات
نالوا بها في أعاديهم وإن بعدوا ... ما لم ينالوا بحد المشرفيات
سنة سبع عشرة وست مائة
في رجب منها حصلت وقعة البرنس بين الكامل والفرنج، وكان فتحًا نصر الله فيه المسلمين، وقتل من الملاعين عشرة آلاف، وانهزموا إلى دمياط.
وفيها حج بالعراقيين مملوك الخليفة الناصر اشتراه بخمسة آلاف دينار، وكان معه
تقليد بمكة لحسن بن قتادة، وكان أبوه قد مات في وسط العام، فجاءه بعرفات، فقال: أنا أكبر أولاد قتادة، فولى، فتوهم حسن أنه معزول، فأغلق أبواب مكة، فركب المملوك ليسكن الفتنة، وقال: ما قصدي قتال، فثار به العبيد والأشرار وحملوه، فانهزم أصحابه، فتقدم عبد فعرفت فرسه، فذبحوه، وعلقوا رأسه، وأرادوا نهب العراقيين، فقام في ذلك أمير الشاميين المعتمد والي دمشق ورد معه ركب العراق.
وفيها أخذت التتار بالتاء المثناة من فوق مكررة قبل الألف، وبعدها راء كثيرًا من البلدان منها بخارى، وسمرقند، ثم عبر نهر جيحون، واستولى على خراسان قتلاً وسبيًا وتخريباً إلى حدود العراق بعد أن هزموا جيوش خوارزم، ومزقوهم، ثم عطفوا على قزوين فاستباحوها، وكذلك استباحوا أذربيجان، وحاصروا تبريز، وبها أن البهلوان، فبذل لهم أموالاً وتحفًا، فرحلوا عنه، وحاربوا الكرخ، وهزموهم، ثم ساروا إلى مراغة وأخذوها بالسيف ثم كروا نحو إربل، فاجتمع لحربهم عسكر العراق والموصل مع صاحب إربل، فهابوهم، وعرجوا على همدان، فحاربهم أهلها أشد محاربة في العام المقبل، وأخذوها بالسيف وأحرقوها، ثم نزلوا على بيلقان وأخذوها بالسيف وقتلوا ثم حاربوا الكرخ أيضًا،(4/30)
وقتلوا منهم ثلاثين ألفًا، ثم سلكوا طرقأ وعرة في الجبال إلى أن وصلوا بلاد اللان وفيها طوائف من الترك، وقليل من المسليمن، فالتقوا وكانت الدائرة على اللان، فقتلوا وسبوا ومروا إلى أن وصلوا مدينة سوادق ولم يزالوا يطوون الأرض ويضربون إلى أن كلت أسلحتهم وتكلكلت أيديهم مما قتلوا من النساء والأطفال، فضلاً عن الرجال، وكان خوارزم شاه بطلاً مقدامًا، وعسكره أوباشًا ليس لهم أقطاع، ولا ديوان بل يعيشون من النهب والغارات، وهم ما بين تركي كافر، أو مسلم جاهل لا يعرفون تعبية العسكر في المصاف، ولا أدمنوا إلا على المهاجمة وما لهم زرديات ولا عدة جيدة للحرب ثم أنه كان يقتل بعض القبيلة، ويستخدم باقيها، ولم يكن فيه شيء من المداراة لا لجنده ولا لعدوه، ويحرش بالتتار، وهم يغضبون على من يرضيهم، فكيف من يبغضهم ويوذيهم؟! فخرجوا عليه وهم بنواب وأولو كلمة مجتمعة وقلب واحد ورئيس مطاع، فلم يمكن خوارزم شاه أن يقف بين أيديهم ولكل أجل كتاب.
وفي السنة المذكورة توفي قاضي القضاة زكي الدين محمد بن يحيى القرشي الدمشقي، كان ذهيبة، وسطوة، وحشمة، وكان الملك المعظم يكرهه فاتفق أنه طالب جابي العزيزية بالحساب، فأساء الأدب عليه فأمر بضربه بين يديه، فوجد المعظم سبيلاً إلى أذيته، وبعث إليه بخلعة أمير قباء وكلوته، وألزمه يلبسها في مجلس حكمه، ففعل، ثم قام، فدخل ولزم بيته ومات كمدًا يقال: إنه رمي قطعًا من كبده، ومات كهلاً، فندم المعظم.
وفيها توفي الشيخ المقدم أسد الشام عبد الله بن عثمان اليويثيني، كان شيخًا مهيبًا طوالاً حاد الحال، تام الشجاعة أمارًا بالمعروف نهاء على المنكر، كثير الجهاد، دائم الذكر، عظيم الشأن، منقطع القرين، صاحب مجاهدات، وكان الأمجد صاحب بعلبك يزوره، وكان يهينه ويقول: يا مجيد أنت تظلم. وتفعل وتفعل، وهو يعتذر إليه وقيل: كان قوسه ثمان عشرة رطلاً، وكان لا يبالي بالرجال، قلوا أم كثروا، وكان ينشد هذه الأبيات ويبكي.
شفيعي إليكم طول شوقي إليكم ... وكل كريم للشفيع قبول
وعذري إليكم أنني في هواكم ... أسير وما سور الغرام ذليل(4/31)
فإن تقبلوا عذري فأهلاً ومرحبًا ... وإن لم تجيبوا فالمحب حمول
سأصبر لا عنكم ولكن عليكم ... عسى لي إلى ذاك الجناب وصول
توفي في شهر ذي الحجة، وهو صائم، وقد نيف على الثمانين.
قلت: ما أطنب الذهبي في كتابه العبر في مدح أحد من الشيوخ أرباب الأحوال العارفين بالله الرجال سوى في مدح الشيخ المذكور.
وفيها توفي شيخ الشيوخ أبو الحسن محمد ابن شيخ الشيوخ عمر بن علي الجويني، برع في مذهب الشافعي، ودرس وأفتى وسمع من يحيى الثقفي وأجاز له أبو الوقت وجماعة، وكان كبير القدر، ثم ولي بمصر تدريس الشافعي ومشهد الحسين، وبعثه الكامل رسولاً يستنجد بالخليفة وجيشه على الفرنج، فأدركه الموت بالموصل.
وفيها توفي مسند خراسان المؤيد بن محمد رضي الدين أبو الحسن الطوسي المقري انتهى إليه علو الإسناد بنيسابور، ورحل إليه من الأقطار، وخوارزم شاه محمد ابن السلطان الكبير علاء الدين، كان ملكًا جليلاً أصيلاً، عالي الهمة، واسع الممالك، كثير الحروب، ذا ظلم وجبروت وعز ودهاء.
سنة ثمان عشرة وست مائة
فيها سار الملك الأشرف ينجد أخاه الكامل، وسار معه عسكر الشام، وخرجت الفرنج من دمياط بالفارس والراجل أيام زيادة النيل، فنزلوا على ترعة، فتوثق المسلمون عليها النيل، فلم يبق لهم وصول إلى دمياط وجاء الأسطول، فأخذوا مراكب الفرنج، وكانوا مائة كند بالنون والدال المهملة المركب، وثمان مائة فارس فيهم صاحب عكا، وخلق من الرجالة، فلما رأوا الغلبة بعثوا يطلبون الصلح، ويسلمون دمياط إلى الكامل، فأجابهم، ثم جاء أخواه بالعساكر في رجب، وعمل سماطًا عظيمًا، وأحضر ملوك الفرنج، فأنعم عليهم، ووقف في خدمته الملك المعظم والأشرف، وكان يومًا مشهوراً، وقام راجح الحلي، فأنشده قصيدة منها:
ونادى لسان الكون في الأرض رافعًا ... عقيرته في الخافقين ومنشدا
أعباد عيسى إن عيسى وحزبه ... وموسى جميعأ ينصران محمدا(4/32)
اشارة إلى الإخوة الثلاثة قلت: وما ألطف هذه الإشارة، وأظرف هذه العبارة: وحسن سهولة هذا النظم وعذوبته، وأشار بعيسى إلى الملك المعظم، وبموسى إلى الملك الأشرف، وبمحمد إلى الملك الكامل وحسن مطابقة الحال أن عيسى وموسى المذكورين كانا في خدمة محمد، ومتابعة طاعته، وتبجيله، واحترامه كذلك موسى وعيسى صلوات الله على نبينا وعليهما لم يزالا في تبجيل محمد صلى الله عليه وآله وسلم واحترامه، فلو كانا حيين ما وسعهما إلا متابعته كما ورد في الحديث وجاءت في هذه المطابقة أعظم تبكيت للفرنج الحاضرين بل لليهود والنصارى أجمعين، فلما أحسن هذا الاتفاق العجيب والمعنى الغريب.
وفيها توفى الشيخ الكبير السيد الشهير ذو المعارف والأسرار واللطائف والأنوار والمقامات العليات، والأحوال السنيات، والأنفاس الصادقات والكرامات الخارقات والقدر الجليل، والعطاء الجزيل، المحقق، المحدث قدوة المحدثين، وإمام السالكين ناصر السنه نجم الدين البكري، رحل إلى الأقطار وتنقل في الأمصار، ورأى المشائخ الجلة الكرام، وحج بيت الله الحرام راكبًا وماشيًا، وفضله لا يزال يسمو في الأيام فاشيًا. سمع الحديث والأخبار والتفاسير والاثار عمن لا يحصى كثرة، ولبس خرقة الأصل من يد الشيخ العارف أبي الحسن إسماعيل القصري، عن محمد بن مانكيل، عن داؤد بن محمد المعروف بخادم الفقراء، عن العباس بن إبن إدريس، عن أبي القاسم بن رمضان، عن أبي يعقوب الطبري، عن عبد الله بن عثمان، عن أبي يعقوب النهرجورفي، عن أبي يعقوب السوسي، عن عبد الواحد بن زيد، عن كميل بن زياد، عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولبس خرقة البترك من الشيخ أبي ياسر عمار بن ياسر التدليسي، عن الشيخ أبي النجيب عبد القاهر بن عبد الله السهروردي، عن أبيه، عن عمه عمر بن محمد، عن أبيه محمد بن عمويه، عن أحمد بن سبا، عن ممشاد الدينوري، عن أبي القاسم الجنيد، عن خاله السري السقطي، عن معروف الكرخي، عن داؤد الطائي، عن الحبيب العجمي، عن الحسن البصري، عن علي رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واختلف في تسمية الشيخ نجم الدين الكبري فقال بعضهم: هو الكبرى مقصور وقال آخرون هو ممدود مفتوح الموحدة أي هو نجم الكبرى جمع تكسير الكبير قالوا والصحيح هو الأول ووجه صحته على ما ذكروا أنه كان أيام صباه شديد الذكاء فطنًا لم يلق مؤدبه إلى أقرانه في المكتب شيئًا من المشكلات إلا سبقهم بثاقب ذهنه، فلقبوه الطامة الكبرى، ثم غلب عليه ذلك اللقب، فحذفوا الطامة ولقبوه بالكبرى وهو وجه صحيح(4/33)
نقله جماعة من أصحابه ممن يوثق بهم، واستشهد رضي الله تعالى عنه بظاهر خوارزم في الوقعة العامة، والفتنة التتارية في السنة المذكورة، قال الراوي الشيخ الجليل كمال الدين العارف بالله السالك الحفيل المعروف بالسفناقي بالسين المهملة والفاء والنون، وقبل ياء النسبة قاف من أصحاب الشيخ نجم الدين المذكور قال: لما وصل التتار إلى خوارزم سنة سبع عشرة وست مائة، وحصروها جمع الشيخ أصحابه وهم أكثر من ستين، وقد هرب السلطان محمد وهم يظنون أنه بها، ودخلوا البلد، وكان في أصحاب الشيخ المذكور الشيخ سعد الدين الحموي، والشيخ علي لالا، وابن أخيه علي بن محمد مع جماعة من العارفين، فطلبهم الشيخ، وقال لهم: قوموا وارتحلوا وارجعوا إلى بلادكم، فإنه خرجت نار من المشرق وتحرق إلى قريب المغرب، وهي فتنة عظيمة ما وقع في هذه الأمة مثلها فقال بعضهم: لو دعوت الله أن يرفع هذه الفتنة عن بلاد المسلمين، فقال: هذا قضاء من الله تعالى حكم لا يرده ولا ينفع فيه الدعاء، فقالوا: يا مولانا معنا دواب تركب معنا وتخرج الساعة، فقال أني: أقتل هاهنا ولم يأذن الله لي أن أخرج منها فاستعدوا لخروجكم إلى خراسان، فخرجوا، ولما دخل الكفار إلى البلد نادى الشيخ في أصحابه الذين لم يأمرهم بالخروج للصلاة جامعة، ثم قال: قوموا على اسم الله تقاتل في سبيل الله، ودخل البيت، ولبس خرقة شيخه، وشد وسطه وكانت فرجية وجعل الحجارة في جانبيها، وأخذ العنزة، وخرج، ولما واجههم أخذ يرميهم بالحجارة حتى فرغ جميع ما معه، ورموه بالنبل، فجرحوه، وأخذ يدور ويرقص، فجاءه سهم في صدره، فنزعه ورمى به نحو السماء، وفاز الدم من صدره، فأخذ ينشد شعرًا بالعجمي من جملة معناه إن أردت فاقتلني بالوصال، أو بالفراق فأنا فارغ عنهما محبتك تكفيني، وما أنا حل إن قلت أغثني، ثم توفي ودفن في رباطة رحمة الله تعالى، ومما رثاه المؤيد بن يوسف الصلاحي، فقال في أثناء مرثيته:
زال جهد في مرضاة خالقه ... وما أعد له الرحمن ما كسبا
من ذا رأى بحر علم في بحار دم ... يجري إذا ما طفت أنواره سببا
يهوى النجوم الدراري من يكون لها ... يومًا نسيبًا تداتيه إذا انتسبا
يا يوم وقعة خوارزم التي اتصفت ... فجعتنا وفقدنا الدين والحسبا
أبح يا أله الخلق نيل رضى ... لا يدرك الكنه منه حاسب حسبا
وفيها توفي أبو نصر موسى بن شيخ محمود قطب الوجود مغدن الفضائل والمفاخر محيي الدين عبد القادر، روى عن أبيه وسعيد بن البناء، وابن ناصر، وأبي الوقت، وسكن دمشق رحمه الله تعالى.
وفيها توفي أبو الدر ياقوت بن عبد الله الموصلي الكاتب أخذ النحو عن الدهان، وقرأ(4/34)
عليه جملة من تصانيفه، وديوان المتنبي والمقامات الحريرية، وكان علامة، وكتب الكثير، وكان كاتباً مشهورًا منتشرًا خطه في البلاد في نهابة من الحسن، ولم يكن في أواخر زمانه من يقاربه في حسن الخط، ولا يودي طريقة ابن البواب في النسخ مثله مع فضل غزير ونباهة تامة، وكان مغرمًا بنقل الصحاح للجوهري، وكتب منها نسخًا كثيرة كل نسخة في مجلد واحد يباع بمائة دينار، وكتب عليه خلق كثير، وكانت له سمعة سائرة، وقصده الناس من الأقطار، وسير إليه من بغداد النجيب أبو عبد الله الواسطي قصيدة مدحه بها أولها:
ابن غزلان عالج والمصلى ... من ظبا سكن نهر المعلى
قلت هذا البيت وإن كان في النظم مليحًا فأراه في الأدب قبيحا لإستحقار غزلان المصلى:
سنة تسع عشرة وست مائة
وفيها توفي الأمير أبو المحاسن العباس بن أحمد ابن الأمير سيف الدين أبي الحسن علي ابن أحمد بن أبي الهيجاء المعروف بابن المشطوب لشطب كان بوجهه، وهو ملقب نعمة، كان أميرًا وافر الحشمة والحرمة بين الملوك، معدودًا بينهم كواحد منهم، وكان عالي الهمة، عزيز الوجود، واسع الكرم، شجاعًا أبي النفس، تهابه الملوك، وله وقائع مشهورة في الخروج عليهم، وهو من أمراء الدولة الصالحية، وجرت لهم أمور وتنقلات آخرها أن الملك الأشرف ابن الملك العادل قبض عليه في السنة المذكورة فاعتقله في قلعة حران وضيق عليه تضييقًا شديدًا من الحديد الثقيل في رجليه والخشب في يديه، ولم يزل في تلك الحال إلى أن توفي في شهر ربيع الآخر منها، ولما سجنه كتب إليه بعض الأدباء:
يا أحمد ما زلت عمادًا للدين ... يا أشجع من ملك سيفًا بيمين
لاتيئس إن حصلت في سجنهم ... يوسف قد أقام في السجن سنين
وهذا مأخوذ من قول البحتري من جملة أبيات:
أما في رسول الله يوسف أسوة ... لمثلك محبوسًا على الظلم والإفك
أقام جميل الصبر في السجن برهة ... فآل به الصبر الجميل إلى الملك
قال ابن خلكان: ورأيت في بعض رسائل القاضي الفاضل أن الأمير سيف الدين(4/35)
المعروف بابن المشطوب كتب إلى الملك الناصر صلاح الدين يخبره بولادة امرأة عمه عماد الدين، وإن عنده امرأة أخرى ذكر أنها حامل، فكتب القاضي الفاضل جوابه وصل كتاب الأمير دالاً على الخبر بالولدين، الحامل على التوفيق، والسايل كتب الله سلامته في الطريق فسررنا بالغرة الطالعة من لثامها، وتوقعنا المسرة بالثمرة الباقية في أكمامها قالت: رأيت بخط القاضي الفاضل ورد الخبر بوفاة الأمير سيف الدين المشطوب، أمير الأكراد وكبيرهم سبحان الحي الذي لا يموت ويهدم به بنيان قوم والدهر قاض ما عليه لوم.
قال ابن خلكان: هذا الكلام حل فيه بيت الحماسة:
فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما
قال: وهذا البيت من جملة مرثية، رثي بها قيس بن عاصم التميمي الذي قدم من البادية على النبي صلى الله عليه واله وسلم في وفد تميم في سنة تسع من الهجرة، وأسلم، وقال صلى الله عليه واله وسلم في حقه: هذا سيد أهل الوبر لما وكان عاقلاً مشهوراً بالحلم والسؤدد، وهو أول من وأد البنات في الجاهلية للغيرة والأنفة من النكاح، وتبعه الناس في ذلك إلى أن أبطله الإسلام، وقد قدمت ذكر ذلك، ومن جملة المرثية المذكورة:
عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحما
تحية من غادرته غرض الردى ... إذا زار عن سخط بلادك سلما
فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما
قلت: وقوله: عليك سلام الله إن صح سماعه أو اسماعه ممن يقتدي به، فهو شاهد، بجواز قول كثير من الناس في مكاتباتهم سلام الله ورحمته وبركاته على فلان ابن فلان، إلا ففي جواز ذلك نظر، والله أعلم أعني كونه قال: سلام الله عليك، فجعل السلام عليه من الله تعالى، ولم يقل: مني وليس لجواز هذا شاهد يعتمد عليه.
وقد اختلف العلماء في: هل يقال لغير الأنبياء عليه السلام؟ فجوزه بعضهم، ومنع، الأكثرون فما علمت، وقالوا: حكمه حكم الصلاة والذي أراه أنه يفرق بينه وبين الصلاة بين الترضي والصلاة مخصوصة على المذهب الصحيح بالأنبياء والملائكة، والترضي خصوص بالصحابة والأولياء والعلماء أعني في الأدب، والترحم لمن دونهم، والعفو(4/36)
للمذنبين، والسلام مرتبة بين مرتبة الصلاة والترضي، فيحسن أن يكون منزلته بين منزلتين لكونه مرتبة بين مرتبتين، أعني يقال لمن اختلف في نبوتهم كالخضر، ولقمان، وفي القرنين دون من دونهم.
وفيها توفي الشيخ الجليل العارف ذو الأسرار والمعارف السيد الكبير البعيد الصيت الشهير علي بن إدريس اليعقوبي صاحب الشيخ عبد القادر الجيلي رضي الله عنهما.
وفيها توفي أبو العباس نصر بن خضر بن نصر الإربلي الشيخ الفقيه الشافعي، كان فاضلاً ورعًا زاهدًا صالحًا عابدًا متقللاً من الدنيا ومباركًا ذكره الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق وأثنى عليه، وكان قد قدم دمشق، وأقام بها مدة، وكان عارفًا بالمذهب والفرائض والخلاف، اشتغل ببغداد على الكيا وابن الشاشي، ولقي جماعة من مشائخها، ثم رجع إلى اربل، وبنى له صاحب اربل، مدرسة القلعة، فدرس بها زمانًا، وهو أول من درس باربل. وله عدة تصانيف حسان كثيرة في التفسير والفقه وغير ذلك، وله كتاب ذكر فيه ستًا وعشرين خطبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكلها مسندة، واشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا.
ومن جملة من تخرج عليه الشيخ الفقيه الإمام أبو عمرو عثمان بن عيسى الهذباني الماراني شارح المهذب، المتقدم ذكره في سنة اثنتين وست مائة، وكانت وفاته ليلة الجمعة، ولما توفي تولى موضعه ابن أخيه نصر بن عقيل، وكان فاضلاً قد تخرج على عمه المذكور، فسخط عليه الملك المعظم صاحب إربل، وأخرجه منها فانتقل إلى الموصل، فكتب إليه أبو الدر الرومي من بغداد، وكان صاحبه.
أيا ابن عقيل لا تخف سطوة العدى ... وإن أظهرت ما أضمرت من عنادها
وأفضتك يومًا عن بلادك فتنة ... رأت فيك فضلاً لم يكن في بلادها
كذا عادة الغربان تكره أن ترى ... بياض البراد الشهب دون سوادها
أشار بذلك إلى الجماعة الذين سعوا به حتى غيروا خاطر الملك عليه.
وفيها توفي الشيخ الشهير بالأحوال الباهرة والكرامات الظاهرة يونس بن يوسف الشيباني، قال الذهبي في ترجمته، وهذا شيخ الطائفة اليونسية أولى الشطح، وقلة العقل، وكثرة الجهل أبعد الله شرهم. قال: وكان رحمه الله تعالى صاحب حال وكشف يحكى عنه(4/37)
كرامات قلت: قد ذكرت في غير موضع من هذا الكتاب غيظ الذهبي عن الصوفيه وتعريضه بالقدح فيهم وما على البدر إن قالوا به كلف، وهذا مع اعترافه بأن الشيخ المذكور كان من ذوي الكشف والأحوال والكرامات المخصوص بها أولى القرب والنوال نفعنا الله تعالى بعباده الصالحين، وأعاد علينا من بركاتهم أجمعين.
سنة عشرين وست مائة
وفيها توفي شيخ الشافعية بالشام في عصره أبو منصور عبد الرحمن بن محمد المعروف بفخر الدين ابن عساكر ابن أخي الإمام الحافظ أبي القاسم علي ابن عساكر. صاحب تاريخ دمشق لما، وخرج من بينهم جماعة من العلماء والرؤساء كان إمام وقته في علمه ودينه تفقه ودرس بالقدس زمانًا وبدمشق، واشتغل عليه خلق كثير، وتخرجوا عليه، وصاروا أئمة فضلاء: وكان مسددًا في الفتاوى، وكان لا يمل الناظر من رويته بحسن سمته واقتصاده في لباسه ولطفه، ونور وجهه، وكثرة ذكره الله عز وجل. عرض المعظم عليه القضاء فامتنع، وله مصنفات في الفقه لم تنشر. توفي في رجب، وله سبعون سنة قال ابن خلكان: وزرت قبره مرارًا بمقابر الصوفية ظاهر دمشق.
وفيها توفي صاحب المغرب السلطان المستنصر بالله أبو يعقوب يوسف بن محمد بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن القيسي. ولي الأمر عشر سنين بعد أبيه، ومات شابأ ولم يعقب.
وفيها توفي الشيخ موفق الدين المقدسي أحد الأئمة الأعلام عبد الله بن أحمد بن محمد ابن قدامة الحنبلي صاحب التصانيف حفظ القرآن، وتفقه، ثم ارتحل إلى بغداد فأدرك الشيخ عبد القادر رضي الله عنه، وسمع منه ومن جماعة، وانتهت إليه معرفة المذهب وأصوله كان تقيًا ورعًا زاهدًا مستغرق الأوقات في العلم والعمل، وقال بعض الأئمة: رأيت الإمام أحمد في النوم، فقال: ما قصر صاحبكم الموفق في شرح الخرقي قال الرائي: المنام المذكور، وسمعت الشيخ أبا عمر وابن الصلاح المفتي يقول: ما رأيت مثل الشيخ الموفق.
سنة احدى وعشرين وست مائة
فيهااستولى السلطان جلال الدين الخوارزمي على بلاد أذربيجان وراسله الملك(4/38)
المعظم، واتفق معه أنه يعينه على أخيه الملك الأشرف لفساد حدث بهما، وفيها استولى لؤلؤ على الموصل، وخنق محمودين القاهر، وزعم أنه مات.
وفيها عادت التتار إلى أن وصلوا إلى الري، وكان ممن سلم من أهلها وتراجعوا إليها وما شعروا إلا بالتتار، وقد أحاطوا بهم، فقتلوا وسبوا، ثم ساروا إلى ساوة، ففعلوا بأهلها كذلك، ثم كذلك قاشان، ثم عطفوا إلى همدان فأبادوا من بقي بها، ثم ساروا إلى تبريز، فوقع بينهم وبين الخوارزمية مصاف.
وفيها توفي القاضي الأسعد أبو البركات عبد القوي ابن القاضي عبد العزيز التميمي السعدي المصري المالكي وعبد الواحد بن يوسف بن عبد المؤمن سلطان المغرب ولي الأمر في العام الماضي، فلم يدار أمراء الموحدين، فخلعوا وحنقوا، وكانت لايته تسعة أشهر، وفي أيامه استولى على مملكة الأندلس ابن أخيه عبد الله بن يعقوب الملقب بالعادل، والتقى الفرنج، فهزموا جيشه، فقصدوا مراكش بأسوء حال، فقبضوا عليه وتملك الأندلس أخوه ادريس مدة، وخرج عليه محمد بن يوسف بن هود الجذامي، ودعا إلى بني العباس، فمال الناس إليه، فهرب إدريس بعسكره إلى مراكش، فالتقاه صاحبها يومئذ يحيى بن يعقوب بن يوسف، فهزم يحيى.
وفيها توفي الشيخ العارف صاحب الأسرار والمعارف والأحوال والأنوار أبو الحسن علي المعروف بالفريثي بالفاء والراء والمثناة من تحت، ثم المثلثة. قال الذهبي: كان صاحب حال، وكشف، وعبادة، وصدق، وأصحاب بسفح قاسيون قلت: وهو الذي حكي عنه في مناقب الشيخ عبد القادر أنه قال: رأيت أربعة من المشائخ يتصرفون في قبوركم كتصرف الأحياء، الشيخ عبد القادر، والشيخ معروفًا الكرخي، والشيخ عقيلاً المنبجي، والشيخ حياة بن قيس الحراني رضي الله تعالى عن الجميع ونفعنا بهم.
وفيها توفي شيخ المالكية أبو الحسن محمد بن محمد بن سعيد الأنصاري الإشبيلي، كان من كبار المتعصبين للمذهب، فأوذي من جهة بني عبد المؤمن لما أبطلوا القياس، وألزموا الناس الأخذ بالأثر والظاهر، وقد صنف كتاب المعلى والرد على المحلى لابن حزم.
سنة اثنتين وعشرين وست مائة
فيها جاء جلال الدين بن خوارزم شاه، فوضع السيف في دقوقاوأحرقها، وعزم(4/39)
على هجم بغداد، فانزعج الخليفة الناصر، وحصن بغداد، وأقام المجانيق، وأنفق ألف ألف دينار، فأعلم ابن خوارزم شاه أن الكرج قد خرجوا على بلاده، فساق إليهم والتقاهم، وظفر بهم، وقتل منهم سبعين ألفًا، ثم أخذ تفليس بالسيف، وقتل بها ثلاثين ألفًا، وكان قد أخذ تبريز بالأمان، وتزوج بابنة السلطان ابن سلجوق.
وفيها توفي أيضًا أبو الدر ياقوت بن عبد الله الرومي الملقب مهذب الدين الشاعر المشهور، اشتغل بالعلم، وأكثر من الأدب، وأجاد النظم، ولما تميز ومهر سمى نفسه الرحمن، قرأ القرآن وشيئًا من الأدب، وكتب خطًا حسنًا، وقال الشعر وأكثر النظم منه في المحبة والرقاق.
ومنه قوله:
خليلي لا والله ما جن عاشق ... وأظلم إلا حره وحر عاشق
إذا غاض دمعك والأحباب قد ماتوا ... فكل ما تدعي زور وبهتان
وكيف تأنس أو تنسى خيالهم ... وقد خلى منهم ربع وأوطان
لا أوحش الله من قوم نأوا فنأى ... عن النواظر أقمار وأغصان
ومنه قوله:
إلا من مبلغ وجدي بها وغرامي ... ومهد إلى دار السلام سلامي
وله ديوان شعر كبير. وذكر في بعض التواريخ أنه وجد ميتًا بمنزله ببغداد.
وفي السنة المذكورة توفي الخليفة الناصر لدين الله أبو العباس أحمد بن المستضيء
بأمر الله، كان فيه شهامة واقدام وعقل ودهاء، وتولى الخلافة في سنة خمس وسبعين وخمس مائة، وهو ابن ثلاث وعشرين سنة، وهو أطول بني العباس خلافة. كما أن الناصر لدين الله الأموي صاحب الأندلس أطول بني أمية دولة، وكما أن المستنصر بالله العبيدي أطول بني عبيد دولة، وكما أن السلطان سنجر ابن ملك شاه أطول بني سلجوق دولة، وكان الخليفة الناصر لدين الله مستقلاً بالأمور بالعراق متمكنًا من الخلافة يتولى الأمور بنفسه، حتى كان(4/40)
يشق الدروب والأسواق أكثر الليل والناس يتهيأون لقاءه، وما زال في عز وجلالة واستظهار وسعادة عاجلة، نسأل الله الكريم السعادة الآجلة.
وفي السنة المذكورة توفي الإمام الكبير الفاضل الشهير أبو الفضل أحمد ابن الإمام العلامة كمال الدين أبي الفتح موسى ابن الفقيه المفتي رضي الدين يونس الموصلي الشافعي.
قال ابن خلكان: كان كثير المحفوظات، عزيز المادة، حسن السمت، جميل المنظر شرح كتاب التنبيه في الفقه، واختصر إحياء علوم الدين للإمام الغزالي مختصرين: كبيراً وصغيرًا. قال: وكان يلقي في جميع دروسه من كتاب الإحياء دروسًا حفظًا، ونسج على منوال والده في اليقين في العلوم، تخرج عنه جماعة كثيرة. قال: وتولى التدريس بمدرسة الملك المعظم صاحب إربل بعد والده، وكان وصوله إلى هنالك من الموصل في أوائل شوال سنة عشر وست مائة، وكانت وفاة الوالد ليلة الاثنتين الثاني والعشرين من شعبان السنة المذكورة، قال: وقد كنت أحضر درسه وأنا صغير، وما سمعت أحداً يلقي الدرس مثله، ولم يزل على ذلك إلى أن حج، ثم عاد وأقام قليلاً، ثم انتقل إلى الموصل في سنة سبع عشرة وست مائة، وفوضت إليه المدرسة القاهرية، فأقام بها ملازم الاشتغال والإفادة، وقد كان من محاسن الوجود، وما أذكره إلا وتصغر الدنيا في عيني، وكان مبدأ شروعه في شرح التببيه بإربل،. وإستعار منا نسخة التنبيه عليها حواش مفيدة بخط بعض الأفاضل، ورأيته بعد ذلك، وقد نقل الحواشي كلها في شرحه.
وكان اشتغاله على أبيه بالموصل، ولم يتغرب لأجل الاشتغال بالعلم، وكان الفقهاء يتعجب منه كيف اشتغل في وطنه، وبين أهله، وفي عزه واشتغاله بالدنيا، وخرج منه ما خرج، قال: وهو من بيت العلم، وأطنب المدح في أبيه وعمه وجده، قال: ولو شرعت في وصف محاسنه لأطلت، وفي هذا القدر كفاية، وقال غيره: عاش أبوه بعده سبع عشرة سنة قلت: أما إطنابه في محاسنه، فالمحاسن لها وجوه متعددة، فأثنى عليه بما شاهده منه فيه، وأما مدحه لكتابة شرح التنبيه، فغير جدير بمدحه المذكور، فهو خال من التفضيل والتفريع والفوائد الموجودة في غيره كشرح الفقيه الإمام ابن الرفعة الذي هو جدير بالمدح الكامل لما تضمنه من الفوائد العقائل، وأما مدحه لإلقاء الدرس، وأنه ما سمع مثله ذ الإلقاء المذكور، فهو محتمل، ويكون ذلك. بحسن سياقه وتصوفه في المباحث وظرافته ومزجه بالاستعارات المستحسنة، والنوادر المستطرفة، وغير ذلك مما يطرب السامع والمدح(4/41)
بذلك من مثل ابن خلكان ثناء عظيم لصاحبه رافع.
وفيها توفي الملك الأفضل نور الدين علي ابن سلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، سمع من جماعة، وله شعر وترسل، وجودة كتابة. تسلطن بدمشق، وتملك أخوه الملك العزيز الديار المصرية، ولقي الملك الطاهر أخوهما بحلب، ثم جرت للملك الأفضل مع أخيه الغريز وقائع يطول شرحها، وآخر الأمر أن العزيز والعادل عمه حاصرا دمشق، وأخذاها من الأفضل، وأعطياه صرخد، ثم بعد قليل مات العزيز، وتولى ولده المنصور، ثم إن الملك العادل أخذ الديار المصرية، ودفع للملك الأفضل عدة بلاد: الشرق، ولم يحصل له منها إلا سميساط، فأقام بها إلى أن مات.
وكان الأفضل فيه فضيلة ونباهة، وكان يحب العلماء، ويعظم حرمتهم. ومن الشعر المنسوب إليه ما كتب إلى الإمام الناصر يشكو عمه العادل، وأخاه العزيز لما أخذوا منه دمشق هذه الأبيات:
مولاي إن أبا بكر وصاحبه ... عثمان قد غضبا بالسيف حق علي
وهو الذي كان قد ولاه والده ... عليهما، فاستقام الأمر حين ولي
فخالفاه وحلا عقد بيعته ... والأمر بينهما والنص فيه جلي
فانظر إلى خط هذا الاسم كيف لقي ... من الأواخر ما لاقى من الأول
فأجابه الإمام الناصر بجواب أوله:
وافى كتابك بابن يوسف معلناً ... بالود يخبر أن أصلك طاهر
غصبوا علياً حقه إذ لم يكن ... بعد النبي له بيثرب ناصر
فابشر فإن غدا عليه حسابهم ... واصبر فناصرك الإمام الناصر
ثم حارب أخاه العزيز صاحب مصر على الملك، ثم زال سلطانه، وتملك سميساط، وأقام بها مدة، وكان فيه عدل وحلم وكرم.
وفيها توفي الفخر الفارسي السيد الجليل مطلع الأنوار، ومنبع الأسرار، ومعدن المحاسن والفخار أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الفيروز أبادي الشافعي الصوفي صاحب العلوم الربانية الغامضة المستغربة في التصوف، والوصل والمحبة.
وأما ما ذكره الذهبي أن في تصانيفه أشياء منكرة، فكلام من ليس له بعلوم القوم(4/42)
مخبرة، ولا قوة اعتقاد قويم تحمله على حسن الظن والتسليم، ولعمري من خلاص هذين المذكورين، فهو بمعزل عن نهجهم، واعتقاد فضلهم المشكورين واقع لا محللة في ذمهم، وسوء الظن بهم المذمومين، توفي الفخر رحمه الله تعالى في ثامن ذي الحجة وقد نيف السبعين، وقبره في قرافة مصر مزور شهير، وهو ممن روى عن الإمام السلفي الكبير.
سنة ثلاث وعشرين وست مائة
فيها سار الملك الأشرف إلى أخيه المعظم وأطاعه وسأله أن يكاتب جلال الدين خوارزم شاه ليحمل جنده عليه ليترحل عن خلاط، فكتب إليه، فترحل عنها، وكان المعظم يلبس خلعة جلال الدين ويركب فرسه، وإذا خاطب الأشرف حلف وحياة رأس السلطان جلال الدين، فيتألم بذلك.
وفيها حارب جلال الدين المذكور التركمان، ومزقهم، ثم التقى الكرج فهزمهم وأخذ التفليس بالسيف، وكانت إذ ذاك دار ملكهم بها في أيديهم أكثر من مائة سنة.
وفيها توفي أبو العز مظفر بن إبراهيم العيلاني بالعين المهملة الشاعر المشهور المصري، كان أدبيًا عروضيًا، شاعرًا مجيدًا، صنف في العروض تصنيفًا مختصرًا جيدًا دل على حذقه، وله ديوان شعر رائق، وكان ضريرًا، وفي ذلك قال:
قالوا: عشقت وأنت أعمى ... ظبيًا كحيل الطرف ألمًا
وحلاه ما عاينتها ... فيقول قد شغفتك وهمًا
فأجبت إني موسوي ... العشق أنسًا وفهمًا
أهوى بجارحة السماع ... ولا أرى ذاك المسمى
ولما عاد الوزير صفي الدين بن شكر من الشام إلى مصر خرج أصحابه للقائه الخشبي المنزلة الرفيعة المعروفة، فكتب مظفر المذكور يعتذر إليه عن تأخره عن التقائه بهذه الأبيات:
قالوا إلى الخشبي سرنا على عجل ... نلقى الوزير جميعًا من ذوي الرتب
ولم تسر أيها الأعمى، فقلت لهم: ... لم أخش من تعب ألقى ولا نصب(4/43)
وإنما النار في قلبي لوحشته ... فخفت أجمع بين النار والخشب
وهذا المعنى مطروف لكنه أبرزه في جملة إستعمال تروق قال ابن خلكان: وأخبرني بعض أصحابه أنج شخصًا قال له: رأيت في بعض تواليف أبي العلاء المعري ماصورته: أصلحك الله وأبقاك، لقد كان من الواجب أن: تأتينا اليوم إلى منزلنا الخالي لكي تحدث عهدًا بك يا زين الأخلاء فما مثلك من غير عهد أو عقل، وسأله: من أي بحر هو؟ وهل هو بيت واحد أم أكثر؟ فإن كان أكثر، فهل أبياته على روي واحد أم هي مختلفة الروي؟ قال: فأفكر فيه، ثم أجابه بجواب حسن.
قال ابن خلكان: فلما قال لي المخبر ذلك قلت له: اصبر حتى أنظر فيه، ولا تقل ماقاله، ثم قال فكرت. فيه فوجدته، يخرج من بحر الرجز، وهو المجزومة وتشتمل هذه الكلمات على أربعة أبيات على روي اللام، وهي على صورة يسوغ استعمالها عند العروضيين، ومن لا يكون له بهذا الفن معرفة، فإنه ينكرها لأجل قطع الموصول منها، ولا بد من بيانها ليظهر صورة ذلك، وهي هذه:
أكرمك الله وأتقاك ... لقد كان من آل
واجب أن تأتينا ... فاليوم إلى منازلنا
خالي لكي حدث عهدًا ... بك يا زين الأخل
لاء فما مثلك من ... غير عهدًا أو عقل
فقال: وهذا إنما يذكره أهل هذا للشأن للمعاياة، لا لأنه من الأشعار المستعملة، فلما استخرجته عرضته على ذلك الشخص، فقال: هكذا قال مظفر الأعمى.
قال: وكتب مظفر المذكور لتقي الدين، ومدحه جماعة منهم،. فخلع على الجميع ولم يخلع عليه، فكتب إليه:
العبد مملوك مولانا وخادمه ... مظفر الشاعر الأعمى خليفتنا
يقبل الأرض إجلالاً لمالكه ... رقًا، وينهي إليه بعد كل هنا
أن القميص جميع الناس قد بصروا ... به وما منهم يعقوب غير أنا(4/44)
وله يوم زينة الشواني ...
يا أيها الملك المسرور آمله ... هذي شوانيك ترمى يوم سراء
كأنما هي عقبان بها ظمأ ... طارت من البر وانقضت على الما
وله في يوم لعبها ...
مولاي هذي الشواني في ملاعبها ... مثل الشواهين في سهل وفي جبل
يسعى محاذيفها ماء وينقضه ... بعض العقاب جناحيها من البلل
قلت يعني بالمخاذيف مقاذيف التي يقذف بها الماء لتمشي المركب، وقد أبدع في حسن هذا التشبيه في الجميع وأطنب، وله يصف فانوس الجامع العتيق بمصر.
أرى علمًا للناس في الصوم ينصب ... على جامع ابن العاص أعلاه كوكب
وما هو في الظلماء إلا كأنه ... على رمي زنجي سنان مذهب
وفيها توفي الطاهر بالله محمد بن الناصر لدين الله ابن المستضيء بأمر الله، وكانت خلافته تسعة أشهر ونصفًا، وكان دينًا خيرًا عادلاً حتى بالغ ابن الأثير فيه، وقال أظهر من العدل والاحسان ما أعاد به سنة العمرين، وقال أبو أسامة قيل لنا: ألا ينفسخ، فقال قد يبس الزرع فقيل: تبارك الله في عمرك، فقال: من فتح بعد العصر ايش يكسب، ثم أنه أحسن إلى الناس وفرق الأموال وأبطل المكوس، وأزال المظالم، وقال غيره: ولي بعده ابنه المستنصر بالله. وفيها توفي الإمام الكبير العلامة البارع الشهير الجامع بين العلوم والأعمال الصالحات، والزهد، والعبادات، والتصانيف المفيدات النفيسات أبو القاسم عبد الكريم محمد بن عبد الكريم القزويني الشافعي صاحب الشرح الكبير المشتمل على معرفة المذهب ودقائقه الغامضات الجامع الفائق التصانيف السابقات واللاحقات.
ومن كراماته أنه أضاءت له شجرة في بيته لما انطفىء السراج الذي كان يستضيء به عند كتبه بعض مصنفاته.(4/45)
سنة أربع وعشرين وست مائة
فيها جاء الخبر إلى السلطان جلال الدين، وهو بتوريز أن التتار قد قصدوا أصفهان وبها أهله، فسار إليها وتأهب للملتقى، فلما التقى الجمعان وحد له أخوه غياث الدين وولي، فكسرت ميمنته ميسرة التتار، ثم حملت ميسرته على ميمنة التتار، فطحنتها أيضاً وتباشر الناس بالنصر، ثم كرت التتار مع كمينها، وحملوا حملة واحدة كالسيل، وقد أقبل الليل، فزلت الأقدام، وقتلت الأمراء، واشتد القتال، وتزعزع بنيان جيش جلال الدين، وثبت هو في طائفة يسيرة، وأحيط به، فانهزم وطعن طعنه لولا الأجل لتلف وتمزق جيشه إلى أن ميمنته سارت على ميسرة التتار حتى، ولوا فتبعت أقفيتهم، وما رجعت إلا بعد يومين، فلم يسمع بمثل ذلك في الملاحم من انهزام كلا الفريقين، وذلك في رمضان.
وقيل ذلك بأيام مات طاغية التتار وسلطانهم الأعظم الذي خرب البلاد وأفنى البرايا، وأباد، وهو الذي جيش الجيوش، وخرج بهم من بادية الصين، ودانت له المغل، وعقدوا له عليهم، وأطاعوه، ولا طاعة الأبرار للملك الجبار، واسمه قيل الملك تمرجين بالمثناة من فوق والراء والجيم والمثناة من تحت والنون، ومات على الكفر، وكان من دهاة العالم، وأفراد الدهر، وعقلاء الترك وهو أحد ابني العم بركة وهولاكو.
وفيها توفي قاضي القضاة ابن السكري عماد الدين عبد الرحمن بن علي المصري الشافعي، تفقه على شهاب الطوسي، وبرع في المذهب، ودرس وأفتى ولي قضاء القاهرة وخطابتها.
وفيها توفي الملك المعظم سلطان الشام شرف الدين عيسى ابن الملك العادل الفقيه الأديب، ولد بالقاهرة، وحفظ القرآن، وبرع في الفقه وشرح الجامع الكبير في عدة مجلدات باعانة غيره، ولازم الاشتغال زمانًا، وسمع المسند كله من مسند أحمد بن حنبل مراراً، ثم تلاحق مماليكه بعد، وكان حنفي المذهب، قال ابن خلكان: كان متعصبًا لمذهبه وله فيه مشاركة حسنة، ولم يكن في بني أيوب حنفي سواه، وتبعه أولاده، وكان قد حج، ومدحه جماعة من الشعراء المجيدين، فأحسنوا في مدحه، وكانت له رغبة في فن الأدب، وقيل: إنه قد شرط لكل من يحفظ المفصل للزمخشري مائة دينار، وخلعة، فحفظه لهذا السبب جماعة. قال: ورأيت بعضهم بدمشق، والناس يقولون إن سبب حفظهم له كان هذا قال: ولم أسمع بمثل هذه المنقبة لغيره، وكانت مملكته متسعة يعني في بلاد الشام توفي يوم(4/46)
الجمعة سلخ ذي القعدة بدمشق، ودفن في قلعتها، ثم نقل إلى جبل الصالحية، ودفن في مدرسة هناك تعرف بالمعظمة فيها قبور جماعة من اخوانه وأهل بيته، وكان من النجباء الأذكياء، ذكرت عنه أمور تدل على حسن ادراكه واصابة المقصد منها أنه كان ابن عنين قد مرض، فكتب إليه:
انظر إلي بعين مولى لم يزل ... مولى الندى وتلاف قبل تلاف
فأنا الذي أحتاج ما تحتاجه ... فاغنم ثوابي وثناء الوافي
فجاء إليه بنفسه يعوده، ومعه صرة فيها ثلاث مائة دينار، فقال: هذ الصلة وأنا العائد وأشياء كثيرة يطول شرحها.
سنة خمس وعشرين وست مائة
فيها توفي العلامة الحسن بن إسحاق المعروف بابن الجواليقي المحدث الرحال أحمد بن تميم بن هشام الأندلسي.
وفيها توفي أبو المعالي أحمد بن الخضر الصوفي المعروف بابن طاووس رحمه الله.
سنة ست وعشرين وست مائة
فيها أخذ الكامل بيت المقدس، وسلمه إلى ملك الفرنج أعوذ بالله من سخط الله، ومن انتهاك شعائر الله، وموالاة أعداء الله، فكم بين من طهره من نجاسات الشرك، وبين من ساق إليه نجاسات الشرك، ومن أعز دين الله ونصره، وبين من أذله وحقره، ثم اتبع فعله ذلك بحصار دمشق وايذاء الرعية، وجرت بين عسكره وعسكر الناصر وقعات حربية، وقتل جماعة في غير سبيل الله، ووقع النهب في الغوطة والحواضر، وأحرقت الجبانات والخوانق ودام الحصار أشهرًا، لم وقع الصلح في شعبان، ورضي الناصر بالكرك ونابلس فقط، ثم دخل الكامل، وبعث جيشه يحاصرون حماة، ثم تسلم دمشق بعد شهر إلى(4/47)
أخيه الأشرف، فأعطاه الأشرف حران والرقة والرهاء وغير ذلك، فتوجه إلى الشرق ليتسلم ذلك، ثم حاصر الأشرف بعلبك، فأخذها من الأمجد.
وفيها توفي مسند الشام أبو القاسم شمس الدين الحسين بن هبة الله بن محفوظ الثعلبي الدمشقي.
وفيها توفيت أمة الله بنت أحمد بن عبد الله الآبنوسي، روت الكثير عن أبيها، وتفردت عنه، وتوفيت في الحرم، وتلقبت شرف النساء كانت صالحة خيرة.
وفيها توفي ياقوت الرومي الحموي، ثم البغدادي التاجر شهاب الدين الأديب الإخباري صاحب التصانيف الأدبية في التاريخ والأنساب والبلدان وغير ذلك، أسر من بلاده صغيرًا فابتاعه ببغداد رجل تاجر، ولما كبر ياقوت المذكور، قرأ شيئًا من النحو واللغة، وشغله مولاه بالأسفار في متاجرة، ثم جرت بينه وبين مولاه قضية أوجبت عتقه، فأبعده عنه فاشتغل بالنسخ، وحصلت له بالمطالعة فوائد. وصنف كتابًا سماه إرشاد الألباء إلى معرفة الأدباء في أربع مجلدات، وكتابًا في أخبار الشعراء المتأخرين والقدماء، وكتبًا أخرى عديدة، وكانت له همة عالية في تحصيل المعارف.
وذكر القاضي الأكرم أبو الحسن علي بن يوسف الشيباني وزير صاحب حلب ياقوت المذكور، كتب إليه رسالة من الموصل عند وصوله إليها يصف فيها حاله وما جرى له، فأحجم عن عرضها على مولاه الشريف إعظاما وتهيبًا، وفرارًا من قصورها عن طوله وتجنبًا، إلى أن وقف عليها جماعة من منتحلي صناعة النظم والنثر فوجدهم مسارعين، إلى كتبها، متهافتين على نقلها وما يشك أن محاسن مالك الرق حلتها، وفي أعلى درج الإحسان أحلتها، فشجعه ذلك على عرضها على مولاه، وللآراء علوها في تصفحها، والصفح عن زللها، فليس كل من لمس درهمًا صيرفيًا. ولا كل من اقتنى دراً جوهريًا.
قلت: وهذه الألفاظ اليسيرة من أولها رأيت كتابتها ليتعجب من بلاغتها من وقف عليها: بسم الله الرحمن الرحيم، أدام الله على العلم وأهليه، والإسلام وبنيه، ما سوغهم وحباهم، ومنحهم وأعطاهم، من سبوغ ظل المولى الوزير، أعز الله أنصاره، وضاعف مجده واقتداره، ونصر ألويته وأعلامه، وأجرى باجراء الأرزاق في الآفاق أقلامه، وأطال بقاءه، ورفع إلى أعلى عليين علاه، في نعمة لا يبلى جديدها، ولا يحصى عدها ولا عديدها، ولا ينتهي إلى غاية مديدها، ولا يقل حديدها ولا جديدها، ولا يقل وادها ولا وديدها، وأدام(4/48)
الله ولته، للدنيا والدين إلى يوم يبعثه ويهزم كرثه يعني كربه، ويرفع مناره، ويحسن بحسن أثره آثاره، ويفتق نوره وأزهاره، وينير نواره، ويضاعف أنواره، وأسبغ ظله للعلوم وأهلها، والآداب ومنتحليها، والفضائل وحامليها، ويشيد بمشيد فضله بنيانها، ويرصع بناصع مجده تيجانها ويروض ببالغ علائه زمانها، ويعظم لعلو همته الشريفة من البرية شأنها، ويمكن في أعلى درج الاستحقاق امكانها ومكانها، ورفع بنفاذ الأمر قدره للدول الإسلامية والقواعد الدينية: ليسوس قواعدها، ويعز مساعدها، ويهين معاندها، ويعضد بحسن الانابة معاضدها، وينهج بجميل المقاصد مقاصدها، حتى يعود بحسن تدبيره غر في جبهة الزمان، وسنة يقتدي بها من طبع على العدل والإحسان. يكون لها أجرها مادار الملوان، وكر الجديدان، ما أشرقت من الشرق شمس، وارتاحت إلى مناجاة الحضر الزاهرة نفس.
وبعد، فإن المملوك ينهي إلى المقر العالي المولوي، والمحل الأكرم العلي أدام الله سعادته مشرقة النور مبلغة السؤل، واضحة الغرر بادية الحجول، ما هو مكيف بالأريجية المولوية عن تبيانها، مستغن بما منحتها من صفاء الآراء عن افضاء قلمه لايضاحه وبيانه قد أحسنه ما وصفه به عليه الصلاة والسلام للمؤمنين، وإن من أمتي لمكلمين، وهو شر ما يعتقده من الولاء، ويفتخر به من البعيد للحضرة الشريفة الغراء. قد كفته تلك الألمعية عن اظهار المشتبه بالملق مما تجنه الطوية، لأن دلائل غلو المملوك في دين ولاية الآفاق، واضحة، وطبعه بسكة اخلاص الوداد باسمه الكريم على صفحات الدهر لائحة وإيمانه بشرائع الفضل الذي طبق الآفاق، حتى أصبح بها نبي المكارم مبين وتلاوة لأحاديث المجد بالمشاهدة متين، ودعاء أهل الآفاق إلى المغالاة في الإيمان بإمامة فضله(4/49)