بسم الله الرحمن الرحيم
قال العبد الفقير إلى لطف الله الكريم سيدنا الشيخ الإمام العالم العلامة علم العلماء وقدوة العرفاء أبو محمد عبد الله بن أسعد بن علي نزيل الحرمين الشريفين اليمني المعروف باليافعي: اما بعد حمدا لله المتوحد بالإلهية والكمال والعظمة والسلطان مميت الأحياء ومحيي الأموات المعروف بالرحمة والإحسان موجد الوجود ومفيض الفضل والجود في سائر الأكوان، الأزلي الأبدي، الحي الباقي، وكل من عليها فان. وصلواته وسلامه على رسوله الحبيب الكريم المنتخب من نسل عدنان النازل في ذروة علياء المفاخر المجلي عند استباق الأصفياء النجباء يوم الرهان وعلى آله وأصحابه الغر الكرام المعز بهم دين الإسلام السامي على سائر الأديان. فهذا كتاب لخصته واختصرته، مما ذكره أهل التواريخ والسير أولو الحفظ والاتقان في التعريف بوفيات بعض المشهورين المذكورين الأعيان، وغزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وشيء من شمائله، ومعجزاته، ومناقب أصحابه وأموره، وأمور الخلفاء والملوك، وحدوثها في أي الأزمان على وجه التقريب لمعرفة المهم من ذلك دون الاستيعاب، واستقصاء ذكر الأوصاف والأنساب لأستغني به في معرفة ما تضمنه عن الحاجة إلى استعارة التواريخ للمطالعة في بعض الأحيان، معتمداً في الشمائل والمناقب على ما أفصح به كتاب الشمائل للترمذي وجامعه والصحيحان، وفي التواريخ على ما قطع به الذهبي، أو أوله وصحح، ومودعه أشياء من الغرائب والنوادر والظرف والملح ملتقطاً ذلك من نفائس جواهر نوادر الفضلاء، ومعظمها من تاريخ الإمام ابن خلكان وشيئاً من تاريخ ابن سمرة في قدماء علماء اليمن أولي الفقه والحكمة والبيان مختصراً في جميع ذلك على الاختصار بين التفييط المخل، والإفياط الممل، محافظاً على لفظ المذكورين في غالب الأوقات حاذفاً للتطويل، وما يكره المتدين ذكره من الخلاعات، على حسب ما أشرت إليه في هذه الأبيات.
أيا طالباً علم التواريخ لم تشن ... بإخلال تفييط وإملال إفياط
تلق كتاباً قد أتى متوسطاً ... وخير أمور حل منها بأوساط
تجلى بأشعار زهت ونوادر ... وما لاق من إثبات ذكر وإسقاط(1/7)
به تجتلى الأسماع عند غرائب ... ولياً منقى من قشور وأخلاط
ومن درر الألفاظ عين معاني ... ونجباة خودات نقاوة لقاط
بذاك اعبتار واطلاع مطالع ... على علم دهر رافع الخلق حطاط
وتصريف أيام حكيم مداول ... لها مسقط في خلقه غير قساط
فكم في تواريخ الوقائع عبرة ... لمعتبر خاشي العواقب محتاط
فنى من صروف الدهرحزم مجانب ... تعاطى أمور معطيات لمتعاطي
قنوع بما فيه الخبير أقامه ... وقدره راضي القضا غير مسخاط
أجر رب من كل البلايا وفتنة ... بدنيا بها كم ذي افتنان وكم خاطي
وكم غارق في بدرها جاء شطه ... فكيف بمن للبدر قد جاوز الشاطي
وسميته مرآة الجنان وعبرة اليقطان في معرفة حوادث الزمان وتقليب أحوال الإنسان، وتاريخ موت بعض المشهورين من الأعيان، مرتباً على سني الهجرة النبوية، والله الموفق المستعان، والحمد لله رب العالمين على كل حال.
السنة الأولى من الهجرة
هاجر صلى الله عليه وآله وسلم من مكة المعظمة إلى المدينة المكرمة بالتأييد والتوفيق في صحبة الصديق السابق بالتصديق، ومعهما عامر بن فهيرة ورجل آخر من أهل الحيرة بالطريق، فدخلها صلى الله عليه وآله وسلم ضحى يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، فبنى صلى الله عليه وآله وسلم مسجده ومساكنه، وآخى بين المهاجرين، والأنصار، رضي الله تعالى عنهم، وأسلم عبد الله بن سلام، وتوفي نقيبان أسعد بن زرارة الأنصاري من بني النجار والبراء بن معرور السلمي.(1/8)
السنة الثانية
فيها حولت القبلة إلى الكعبة، قال محمد بن حبيب الهاشمي: حولت في ظهر يوم الثلاثاء نصف شعبان، وكان صلى الله عليه وآله وسلم في أصحابه، فجاءت صلاة الظهر في منازل بني سلمة، فصلى بهم ركعتين من الظهر في مسجد القبلتين إلى القدس، ثم أمر في الصلاة باستقبال الكعبة، وهو راكع في الركعة الثانية فاستدار واستدارت الصفوف خلفه صلى الله عليه وآله وسلم، فأتم الصلاة فسمي مسجد القبلتين. وفي شعبان أيضاً فرض صوم رمضان، وفي رمضان كانت وقعة بدر يوم الجمعة في السابع عشر منه، فاستشهد من المسلمين أربعة عشر رجلاً، منهم ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبو عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب قلت: هكذا ذكروا في التواريخ، ولم يبينوا من هم، وقد بينهم علماء السير، فقالوا: كان من قريش ستة أولهم أبو عبيدة بن الحارث ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعمير بن أبي وقاص الزهري، وذو الشمالين بن عبد عمرو، وعاقل بن البكير ومهجع مولى عمر بن الخطاب، وصفوان ابن بيضاء، ومن الأنصار ثمانية خمسة من الأوس سعد بن خيثمة، ومبشر بن عبد المنذر من بني عمرو بن عوف، وزيد بن الحارث من بني سلمة، ورافع بن المعلى من بني خثيم، وثلاثة من الخزرج من بني النجار، حارثة بن سراقة، وعوف ومعوذ ابنا عفراء، رضي الله عنهم. وقتل من الكفار سبعرن، وأسر سبعون، ومن المقتولين رأس الكفرة أبوجهل المخزومي، وعتبة بن ربيعة العبشمي، فهما المقدمان في الجيش والكبيران في قريش. وفيها توفيت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زوجة عثمان رضي الله تعالى عنهما، وفي شوال منها دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعائشة، وفيها بنى علي بفاطمة رضي الله عنهما.
وفيها توفي عثمان بن مظعون رضي الله عنه بالمدينة، وهو أول من مات من المهاجرين في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة بعد رجوعه من بدر، ولما دفن(1/9)
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " نعم السلف هو لنا عثمان بن مظغون ". وأعلم صلى الله عليه وآله وسلم قبره بحجر، وكان يزوره، وكان عابداً مجتهداً من فضلاء الصحابة، وكان ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية، وقال: لا أشرب شراباً يذهب عقلي، ويضحك بي من هو أدنى مني على أن أنكح كريمتي، فلما حرمت الخمر، وأعلم بتحريدها قال: تباً لها، قد كان بصري منها ثاقباً، ورأته امرأته فقالت:
ياعين جودي بدمع غير ممنوع ... على رزية عثمان بن مظعون
على أمرء بان في رضوان خالقه ... طوبى له من فقيد الشخص مدفون
مع أبيات أخرى، ومن فضائله أنه لما مات قبله النبى صلى الله عليه وآله وسلم، وأعلم على قبره، ودفن بجنبه ولده ابراهيم رضي الله تعالى عنه، وأنه لما سمع لبيداً ينشد شعراً:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
قال: صدقت، فلما قال:
وكل نعيم لا محالة زائل
قال: كذبت نعيم الجنة لا يزول، فقال لبيد: يا معشر قريش أكذب في مجلسكم، فلطم بعض الحاضرين عثمان بن مظعون على وجهه حتى اخضرت إحدى عينيه، وذلك في أول الإسلام، فقال له عتبة بن ربيعة: لو بقيت في منزلي ما أصابك هذا، وقد كان في نزله، ثم رده عليه، وقال له عثمان: ان عيني الأخرى لفقيرة إلى ما أصاب أختها في سبيل الله، وفيها ولد عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما.
السنة الثالثة
في رمضان منها ولد الحسن رضوان الله عليه قلت: ولم أرهم ذكروا تاريخ ولادة أخيه الحسين رضي الله تعالى عنه، والذي يقتضيه ما ذكروا من تاريخ مدة عمرهما وزمان وفاتهما أن تكون ولادة الحسين في السنة الخامسة، والله تعالى أعلم، ثم وقفت على كلام للأمام القطبي المالكي يذكر فيه أنه ولد في شهر شعبان في
السنة الرابعة، فعلى هذا ولد الحسين، قبل تمام السنة من ولادة الحسن ومثل هذا غريب في العادة. نادر الوقوع. ويؤيد هذا ما وقفت عليه، بعد ذلك من نقل الواحدي أن فاطمة رضي الله تعالى عنها، علقت بالحسين بعد مولد الحسن بخمسين ليلة، والله أعلم. وفي الثالثة أيضا دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحفصة رضي الله تعالى عنها.(1/10)
وفي رمضان أيضاً دخل بزينب بنت جحش، وبزينب بنت خزيمة العامرية أم المساكين، وعاشت عنده نحواً من ثلاثة أشهر. ثم توفيت. وفيها تزوج عثمان رضي الله عنه بأم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفيها تحريم الخمر، ووقعة أحد يوم السبت السابع من شوال، وصحح بعضهم أنها في الحادي عشر منه، فاستشهد فيها عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الأسد المتغلب أبو يعلى حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه، ومناقبه مشهورة، وسيرته مشكورة. وشجاعته معروفة. ونجابته موصوفة، وقد ورد أنه لما بلغه أن أبا جهل آذى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة قصده حمزة، فشجه بقوس كانت في يده. جاء بها من الصيد ومشاهده معروفة منها يوم بدر، ويوم أحد قتل فيها جماعة وبلي فيها بلاء حسناً، وكان ممن قتل يوم بدرعتبة بن ربيعة، وقيل: بل أخوه شيبة مبارزة، وما ندبه صلى الله عليه وآله وسلم إلى البراز يوم بدر للعدى إلا لما علم فيه من النجدة، ومكافحة الأقران أولى الاعتداء، وكان يقال له: أسد الله، وأسد رسوله أسلم في السنة الثالثة، وقيل في السنة السادسة من مبعثه، صلى الله عليه وآله وسلم ولم يسلم من إخوته سوى العباس، وكانوا تسعة، وقيل عشرة، وقيل اثنا عشر، وهم حمزة، والعباس، وأبو طالب، واسمه عبد مناف، والحارث، وهو أكبرهم سناً، والزبير، وعبد الكعبة، والمقوم، والمغيرة، وضرار، وأبو لهب، واسمه عبد العزى، والغيداق، وعبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما وقف صلى الله عليه وسلم عليه مقتولاً ممثلاً به يوم أحد حلف ليقتلن به سبعين من قريش، فأنزل الله عز وجل " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بل نصبر "، وكفرعن يمينه، ورثاه كعب ابن مالك، وقيل عبد الله بن رواحة، فقال:
بكت عيني، وحق لنا بكاها ... وما يغني البكاء ولا العويل
على أسد ألا له غداة قالوا ... لحمزة ذاكم الرجل القتيل
أصيب المسلمون به جميعاً ... هناك وقد أصيب به الرسول(1/11)
أبا يعلى بك الأركان هدت ... فأنت الماجد البر الوصول
عليك سلام ربك في جنان ... يخالطها نعيم ل ايزول
وفيها قتل الذي لبس في الله إهاب كبش، بعدما كان من الذين يلبسون ويتنعمون، فقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دعاه حب الله ورسوله إلى ما ترون " مصعب بن عمير العبدري قتل مع تتمة سبعين رجلاً من المسلمين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. وفي الحديث هاجرنا، فوجب أجرنا على الله فمنا من مضى لسبيله، ولم يأكل من أجره شيئاً منهم مصعب بن غمير قتل يوم أحد، وليس له إلا نمرة إن غطينا بها رأسه بدت رجلاه، وإن غطينا بها رجليه بدا رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " غطوا بها رأسه، واجعلوا على رجليه من الأذخر "، ومنا من أينعت له ثمرة فهويهديها، وكان أبواه يحبانه، ويغذيانه بأطعم الطعام والشراب، ويلبس أحسن ملابس الثياب، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " ما رأيت رجلاً أحسن ملة، ولا أرق حلة ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير "، وكان إسلامه في دار الأرقم ولما قدم من بعض الأسفار بدأ بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أمه فغضبت، فقالت قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحداً أو كانت في يده راية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر، ويوم أحد فلما قتل أخذها ليث بني غالب علي بن أبي طالب. وغزوة بدر الصغرى في هلال في القعدة، وفيها غزوة بني النضير عند بعضهما، وذكر بعض المحققين أنها في الرابعة.
السنة الرابعة
فيها غزوة بن معونة في صفر، قال أنس: كانوا سبعين، فقتلوا يومئذ، وقال غيره: وكانوا أربعين، وكان يقال لهم: القراء، فاستشهدوا كلهم، ونزل فيهم قرآن. وغزوة بني النضير في الربيع الأولى، فنزلوا صلحاً، وارتحلوا إلى خيبر. وغزوة ذات الرقاع في أول المحرم. وغزوة الخندق عند بعضهم، وكان مدة إقامة(1/12)
الأحزاب فيها خمسة عشر يوماً، ثم هزمهم الله تعالى، وكذلك نزول التيمم، وزواج أم سلمة.
السنة الخامسة
ذكر بعضهم فيها صلاة الخوف، وغزوة دومة الجندل، وغزوات ذات الرقاع عند نعضهم خلإذا لما تقدم، وغزوة الخندق عند بعضهم في شوال، ثم غزوة بني قريظة، وممن ذكر هذا الذهبي، قلت: والعجب من الشيخ محيي الدين النواوي رحمه الله كيف صحح كون غزوة الخندق في الرابعة، وغزوة بني قريظة في الخامسة ذكر ذلك في الروضة مع أنها وقعت عقبها وظاهرهذا النقل التناقض. اللهم إلا أن يكون غزوة الخندق في آخرالرابعة عنده، وغزوة بني قريظة في أول الخامسة. اعني دامت إلى أول الخامسة، فيصح ذلك لكني أراه بعيداً لوجهين: أحدهما ما تقدم من كون غزوة الخندق في شوال، وهذا النقل وإن احتمل خلفه، فالوجه الثاني لايحتمل خلافه، وهو ما قد علم من نصوص الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم توجه إلى بني قريظة في اليوم الذي انصرف فيه الأحزاب من غزوة الخندق بعدما أخبره جبرائيل عليه السلام بأن الله تعالى يأمره بالتوجه إلى بني قريظة، والغزوة إذا أطلقت حملت على ابتدائها دون دوامها، وغزوة الخندق هي غزوة الأحزاب، ولم يكن فيها سوى الرمي بالنبل، والمصابنة أكثر من عشرين يوماً، وقيل: خمسة عشر يوماً، وخرج فيها للمبارزة عمرو بن عبد ود، فبارزه علي رضي الله تعالى عنه فقتله. وفي السنة المذكورة توفي سعد بن معاذ سيد الأوس الذي اهتز عرش الرحمن بموته، وقال صلى الله عليه وآله وسلم فيه: " قوموا إلى سيدكم ". وقال: " لقد حكم بحكم الله " الحديث لما حكم في بني قريظة بما هو معروف، وقال: " لمناديل سعد في الجنة خير من هذا " مشيراً إلى الحرير الذي أعجبهم كل هذه من بعض مناقبه، مات رضي الله عنه شهيداً من سهم أصابه في غزوة الخندق، وعاش بعده حتى حكم في بني قريظة، وعدل في حكمه الذي وافق فيه حكم الله عز وجل.(1/13)
وقال ابن عبد البر: روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " لقد نزل من الملاتكة في جنازة سعد بن معاذ سبعون ألفاً ما وطأوا الأرض قبل ذلك ". قال ابن عبد البر: وبلغني عن بعض السلف أن جبرائيل عليه السلام نزل من السماء معتماً بعمامة من استبرق، وقال: يا نبي الله من هذا الذي فتحت له أبواب السماء واهتزله العرش؟ فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سريعاً يجر ثوبه فوجد سعداً وقد قبض، وفي ذلك يقول رجل من الأنصار شعراً.
وما اهتز عرش الله من موت هالك ... علمنا به إل السعد أبي عمرو
السنة السادسة
فيها بيعة الرضوان في ذي القعدة، وموت سعد بن خولة بمكة، وذكر بعضهم فيها غزوة بني المصطلق، وفرض الحج فيها، وقيل سنة خمس، وكسفت الشمس ونزل حكم الظهار.
السنة السابعة
فيها غزوة خيبر، وفتحها في صفر، وأكرم فيها بالشهادة بضعة عشر. وتزوج صلى الله عليه وآله وسلم صفرة، وميمونة، وأم حبيبة، وجاءته مارية القبطية هدية، وبغلته دلدل، وقدم جعفر بن أبي طالب وأصحابه من الحبشة رضي الله عنهم، وأسلم أبو هريرة رضي الله عنه. وفيها عمرة القضاء في ذي القعدة التي قضاها المسلمون عن عمرة الحديبية.
السنة الثامنة
فيها غزوة مؤتة في جمادى الأولى، فاستشهد الأمراء الثلاثة الأجلة السادة زيد بن حارثة الكلبي مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن فضائله تقديم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الإمارة. على الأمراء، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " وإن كان خليقأ للأمرة " أي حقيقاً بها، وكان قد أسرته العرب، وهو صبي، فجلب إلى المدينة. فسمع به قرابته، فقدم منهم جماعة لأجله وفيهم أبوه وعمه، فوجدوه قد ملكه النبي صلى الله عليه(1/14)
وآله وسلم، وأعتقه، فكلموه صلى الله عليه وآله وسلم فيه، فجعل صلى الله عليه وآله وسلم الخيرة إلى زيد أن اختار قومه أرسله معهم وإن اختار النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقام معه، فرغبه أهله إلى أن يختارهم، فأبى، واختار النبي صلى الله عليه وآله وسلم للسعادة السابقة، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يحبه، وفيه نزل " وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه " الأحزاب قيل أنعم الله تعالى عليه بالإيمان، وأنعمت عليه بالعتق والإحسان. وزوجة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زينب بنت جحش، فأقامت عنده. إلى أن فارقها لما فهم أن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها رغبة موثراً بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على نفسه، فزوجها الله تعالى عند ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما أخبر سبحانه بقوله " فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكما " عوضها الله تعالى أشرف الخلق وأكرمهم صلى الله عليه وآله وسلم، لما انقادت وأطاعت في زواج زيد بعد أن كانت قد كرهته هي وأخوها لكونه مولى، فلما أنزل الله عز وجل في ذلك: " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم " الآية إذعناً وأطاعا واستسلما لحكم الله تعالى فأعقبها ذلك السعادة الكبرى في الدنيا والآخرة. وقال ابن عبد البر: كان قد سبي في الجاهلية، وهو غلام، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بأربع مائة درهم، فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تبناه صلى الله عليه وآله وسلم بمكة قبل النبوة، فهو ابن ثمان سنين، فقال أبوه حارثة حين فقده. أشعاراً:
بكيت على زيد ولم أدر ما فعل ... أحي يرجى أم أتى دونه الأجل
فو الله ما أدري وإن كنت سائلاً ... أغالك سهل الأرض أم غالك الجبل
تذكرنيه الشمس عند طلوعها ... ويعرض ذكراه إذا قارب الطفل
وإن هبت الأرواح هيجن ذكره ... فيا طول ما حزني عليه وما وجل
سأعمل نضر العيش في الأرض جاهداً ... ولا أسأم التطواف أوتشأم الأبل
حياتي أو تأتي علي منيتي ... وكل امرء فان وإن غره الأمل
فحج بعد ذلك ناس من كلب فرأوا زيداً، فعرفهم، وعرفوه، فقال لهم أبلغوا أهلي الأبيات فإني أعلم أنهم قد جزعوا علي فأنشد أشعاراً:
أحن إلى قومي وإن كنت نائياً ... فإني قعيد البيت عند المشاعر(1/15)
فكفوا من الوجد الذي قد شجاكم ... ولا تعلموا في الأرض نض الأباعر
فإني بحمد الله في خيرأسرة ... كرام معد كابن بعد كابن
فانطلق الكلبيون وأعلموا أباه فخرج أبوه وعمه لفدائه، وقدما مكة والياً النبي صلى اله عليه وآله وسلم، وقالا له: يا ابن عبد المطلب يا ابن هاشم، يا ابن سيد قومه أنتم أهل حرم الله. وجيرانه تفكون العاني وتطعمون الأسير، جئناك في ابننا، فامنن علينا وأحسن إلينا في فدائه، قال: " من هو؟ " قالوا: زيد بن حارثة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: " فهلا غير ذلك " قالوا: وما هو؟ قال: " ادعوه فأخبره فإن اختاركم، فهو لكم وإن اختارني، فو الله ما أنا بالذي اختارعلى من اختارني أحداً " قالوا: قد زدتنا على النصف، وأحسنت، فدعاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وخيره، فقال: ما أنا بالذي اختار عليك أحداً أنت مني مكان الأب والعم، فقالوا: ويحك يا زيد أتختار العبودية على الحرية، وعلى أبيك وعمك، وأهل بيتك؟ قال: نعم قد رأيت من هذا الرجل شيئاً ما أنا بالذي أختار عليه أحداً، فلما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، أدخله الحجر، وقال: " يا من حضر اشهدوا أن زيداً ابني، يرثني وأرثه " فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت أنفسهما وانصرفا، فادعي يومئذ زيد بن محمد. وذكر معمر في جامعه عن الزهري، قال: ما علمنا أحداً أسلم قبل زيد بن حارثة قال عبد الرزاق، وما أعلم أحداً ذكر هذا غير الزهري، وقد روي عن الزهري من وجوه أن أول من أسلم خديجة، وشهد زيد بدراً، وزوجه صلى الله عليه وآله وسلم مولاته أم أيمن، فولدت له أسامة، وكان يقال له: حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكذا يقال: لزيد، ثم زوجه صلى الله عليه وآله وسلم زينب على ما تقدم والله أعلم. ثم استشهد بعده جعفربن أبي طالب، وهو ابن إحدى وأربعين سنة. ومن فضائله ارسال النبي صلى الله عليه وآله وسلم له أميراً، وحصول الهجرتين له ولأصحابه، وصدقه بين يدي النجاشي في أن عيسى صلوات الله عليه وسلامه عبد الله ورسوله مع اتخاذ النصارى له إلهاً وقتلهم من يصفه بكونه عبداً، واسهامه صلى الله عليه وآله وسلم ولأصحابه يوم خيبر، ولم يكونوا شهدوا الوقعة، وشدة شفقته على المساكين وبره لهم كما ورد في الحديث. قلت: هذا ما لخصته من أقوال العلماء، وكان يشبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في(1/16)
خلقه وخلقه، وكان أكبر من علي بعشر سنوات، وعقيل أكبر من جعفر بعشر سنين، وطالب أكبر من عقيل بعشر سنين أيضاً، " ولما قتل عوضه الله بقطع يديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء " رواه الزبير بن بكار في تاريخه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ورواه ابن أبي شيبة. ثم استشهد بعدهما عبد الله بن رواحة الخزرجي ومن فضائله أنه أحد النقباء ليلة العقبة وإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعله أميراً بعد جعفر ومنها قوة إيمانه ومن ذلك قوله شعراً.
والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إذ لاقينا
إن الأعادي قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا
وقوله:
وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا انشق معروف من الفجر ساطع
أتانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
ثم أخذ الراية خالد بن الوليد المخزومي لما أصيب الأمراء الثلاثة المذكورون من غير إمرة فاستظهر على المشركين، وتحيز بالمسلمين. وهي أول مشاهده في الإسلام قلت وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: " ثم أخذها سيف من سيوف الله " مدح عظيم، وفخر وتنويه إلى آخر الدهر. وفي السنة المذكورة فتح مكة في رمضان، وغزوة حنين في شوال، ثم حصار الطائف ونصب المنجنيق عليها، ثم رحل المسلمون عنها وأسلم أهلها في العام القابل، وفيها غزوات ذات السلاسل وغلاء السعر فقالوا سعر لنا يا رسول الله فاعلمهم أن الله تعالى هو المسعر، وهو القابض والباسط. وفيها ولد ابراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفيت ابنته زينب، وهي أكبر أولاده صلى الله عليه وسلم.(1/17)
السنة التاسعة
فيها وقعت غزوة تبوك في رجب وحج أبو بكر رضي الله تعالى عنه بالناس، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي صلاة الغائب، ووصفه صلى الله عليه وسلم بالصلاح، وموته رحمه الله في رجب، وتوفيت أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن أبي ابن سلول، ي ذي القعمة وقتل عروة بن مسعود الثقفي، قتله قومه إذ دعاهم إلى الإسلام، وكان من دهاة العرب الأربعة المعدودين الآتي ذكرهم بعد إن شاء الله تعالى، وهو أحد الرجلين اللذين قال المشركون: لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم. هو من الطائف، والوليد بن المغيرة من مكة وتوفي سهل ابن بيضاء الفهري، صلى الله عليه وسلم في المسجد. وقتل ملك الفرس، وملكوا عليهم بوارن بنت كسرى، إليها الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: " لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ".
السنة العاشرة
فيها حجة الوداع، ووفاة ابراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو ابن سنة ونصف، فحزن عليه صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: " العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بفراقك يا ابراهيم لمحزونون " قلت: وفي الحديث الصحيح. وقد تقدم إن الشمس كسفت في السنة السادسة. وفيه بعض إشكال، فإنه لم ينقل أن الشمس كسفت. في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير مرة، فإن كسفت مرتين فلا إشكال، وإلا فأحد النصين لا يصح، بل كسفت في العاشرة، أو مات ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في السادسة، والله أعلم. وقد ذكر بعض أصحابنا الشافعية: أن الشمس كسفت في غير اليوم الثامن والعشرين،(1/18)
محتجاً بكسوفها يوم مات ابراهيم، رداً على أهل علم الفلك، زاعماً أن موت ابراهيم في غير اليوم المذكور، فهذا يحتاج إلى نقل صحيح، فإن العادة المستقرة كسوفها في اليوم المذكور، والله أعلم.
ولما ولد ابراهيم رضوان الله عليه، بشر به أبو رافع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فوهب له عبداً، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: " ولد لي ولد فسميته باسم أبي ابراهيم صلى الله عليه وآله وسلم " وذكر ابن بكار أن الأنصار تنازعوا في من يرضعه، فدفعه صلى الله عليه وآله وسلم إلى أبي سيف، فلما توفي قال صلى الله عليه وآله وسلم: " إن له مرضعة في الجنة ". وفيها إسلام جرير ونزول قوله تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي " - المائدة: 3 - وظهور الأسود العنسي بالنون بعد العين المهملة الدجال المدعي للنبوة، وكان له شيطان. يخبره ببعض الأشياء الغائبة عن الناس، فضل به خلق كثير واستولى على اليمن، إلى أن قتل في العام القابل في صفر وكان بين ظهوره وقتله نحو من أربعة أشهر، وكثرت الوفود في السنة العاشرة، ودخل الناس في دين الله أفواجاً. وبعضهم ذكر الوفود في التاسعة، وكانت غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم خمساً وعشرين، وقيل سبعاً وعشرين، وسراياه ستاً وخمسين، وقيل غير ذلك والله أعلم.
السنة الحادية عشر
توفي فيها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في وسط نهار الاثنين في ربيع الأول. قلت وفيما قيل: إنه توفي في الثاني عشر منه أشكال، لأنه صلى الله عليه وسلم كانت وقفته بالجمعة في السنة العاشرة إجماعاً، فإذا كان ذلك لا يتصور وقوع يوم الاثنين في ثاني عشر ربيع الأول من السنة التي بعدها، وذلك مطرد في كل سنة، تكون الوقفة قبله بالجمعة على كل تقدير، من تمام الشهور ونقصانها، وتمام بعضها ونقصان بعض. ولم يعتمر صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة سوى أربع عمر، كلهن في ذي القعدة، ما خلا التي مع حجته، فإن أفعالها وقعت في ذي الحجة. وسميت حجة الوداع لأن(1/19)
النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودع الناس فيها، ولم يحج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة سواها. وأما قبل الهجرة فلم يضبط عدد حجاته صلى الله عليه وآله وسلم، غير أنه أقام بعد النبوة بمكة ثلاث عشرة سنة على القول الراجح المشهور، وقيل عشراً، وقيل خمس عشرة، وأقام بالمدينة عشراً بالاجماع، كان مبعثه صلى الله عليه وآله وسلم على رأس أربعين سنة من مولده. وروى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أنزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين سنة وعن عائشة مثل ذلك. وتوفي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين سنة وفي إقامته بمكة والمدينة يقول أبو ليث صرمة بن قيس الأنصاري.
ثوى في قريش بضع عشرة حجة ... وذكر لو يلقى صديقاً موليا
ويعرض في أهل المواسم فنه ... ولم يرمن يؤوي ولم ير داعيا
فلما أتانا واستقر به السوى ... وأصبح مسروراً بطيبة راضيا
وأصبح لا يخشى ظلامة ظالم ... بعيد، ولا يخشى من الناس باغيا
بذلنا له الأموال من جل مالنا ... وأنفسنا، عند الوغى ولا ناسيا
نادى الذي عادى من الناس كلهم ... جميعاً وإن كان الحبيب الموليا
ونعلم أن الله لا شيء غيره ... وأن كتاب الله أصبح هاديا
وكان مولده صلى الله عليه وآله وسلم عام الفيل بمكة، في شعب بني هاشم، في الدار التي كانت تدعى بعد ذلك لمحمد بن يوسف أخي الحجاج. وتوفي جده عبد المطلب وهو ابن ثمان سنين في أحد الأقوال، وشهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بناء الكعبة وتراضت قريش بحكمه وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة على أحد الأقوال فيما نقل ابن عبد البر. قلت هذا مشكل، فإنهم نقلوا في السيرة أنه كان وهو صبي صغير، وفي ذلك قضية مشهورة وقعت له حين نزع بردته ووضعها على كتفه يتقي بها الحجارة فحصل له في ذلك عشرين سنة على القول المشهور.(1/20)
وفرضت الصلوات الخمس ليلة الإسراء بمكة بعد النبوة لعشر سنين وثلاثة أشهر، قيل ليلة سبع وعشرين من رجب، وقيل بل في الربيع الأول، وقيل في الثاني، وقيل في رمضان، وأما الصوم ففرض بعد الهجرة بسنتين، واختلفوا في الزكاة هل فرضت قبل الصوم أم بعده؟!. قلت ومناقبه صلى الله عليه وسلم ومحاسنه قد ملأت الوجود شهرة، ولو اجتمع الخلق على أن يحصوها. كان وصفهم من بحرها قطرة، ولم يتعرض الذهبي لشيء من شمائله صلى الله عليه وسلم، ولا رأيت أحداً من أهل التواريخ تعرض لذلك، مع تعرضهم لأوصاف الناس الذين يؤرخون موتهم، فكان ذكر وصفه صلى الله عليه وسلم أولى وأحرى وأبهج وأبهى: وها أنا أذكر شيئاً مما رويناه بسندنا من ذلك مما أخرجه الحافظ أبو عيسى الترمذي رحمه الله غير ملتزم لترتيبه وأذكر شيئاً من أوصافه صلى الله عليه وسلم ومحاسن خلقه وخلقه وأقدم على ذلك ذكر نسبه صلى الله عليه وسلم. أما نسبه عليه أفضل الصلوات والسلام، المتفق عليه بين العلماء الأعلام، فهم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، ذا هو نسبه المتفق عليه إلى عدنان. أما ما فوقه ففيه خلاف لا يهتدى إلى معرفة حقيقته بإيضاح وبيان. وأما صفته صلى الله عليه وآله وسلم فقد روينا في كتاب شمائله صلى الله عليه وآله وسلم، تصنيف الشيخ الإمام الحافظ أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، حمه الله، بسندنا المتصل عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس بالطويل البائن ولا بالقصير ولا بالأبيض الأمهق ولا بالأدم ولا بالجعد القطط ولا بالسبط، بعثه الله تعالى على رأس أربعين سنة، فأقام بمكة عشر سنين وبالمدينة عشر سنين، وتوفاه الله تعالى على رأس ستين سنة، وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء. قلت وقد تقدم أن القول الراجح أنه صلى الله عليه وآله وسلم أقام بعد النبوة بمكة(1/21)
ثلاث عشرة سنة، والصحيح عند جمهور العلماء أن عمره صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث وستون سنة. وبسندنا المتصل في الكتاب المذكور أيضا إلى البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً مربوعاً، بعيد ما بين المنكبين عظيم الجمة إلى شحمة أذنيه، عليه حلة حمراء ما رأيت شيئا قط أحسن منه، وفي الرواية الأخرى عنه ما رأيت من ذي لمة في حلة حمراء أحسن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، له شعر يضرب منكبيه، بعيد ما بين المنكبين، لم يكن بالقصير ولا بالطويل. وروينا فيه أيضا عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه كان إذا وصف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: لم يكن بالطويل الممعط، لا بالقصير المتردد، كان ربعة من القوم، لم يكن بالجعد القطط ولا بالسبط، كان جعداً رجلاً، ولم يكن بالمطهم ولا بالمكلثم، في وجهه تدوير أبيض مشرب أدعج العينين أهدب الأشفار جليل المشاس والكتداجرد ذو مسربة شثن الكفين والقدمين، إذا مشى تقلع، كأنما ينحط من صبب، وإذا التفت التفت معاً. بين كتفيه خاتم النبوة أجود الناس صدراً، وأصدق الناس لهجة، وألينهم عريكة، وأحسنهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله، صلى الله عليه وآله وسلم. قال أبو عيسى: سمعت أبا جعفر محمد بن الحسين، يقول: سمعت الأصمعي يقول في تفسير صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: الممعط الذاهب طولاً، والمتردد الداخل بعضه في بعض قصراً وأما القطط فشديد الجعودة، والرجل الذي في شعره حجولة، أي تثن قليلاً يعني الرجل بكسر الجيم وأما المطهم فالبادن الكثير اللحم، والمكلثم المدور الوجه والمشرب
الذي في بياضه حمرة. والأدعج الشديد سواد العين، والأهدب الطويل الأشفار، والكتد المجتمع الكتفين، وهو الكاهل، والمسربة الشعر الدقيق الذي كأنه قضيب من الصدر إلى السرة والشثن الغليظ الأصابع من الكفين والقدمين، والتقلع إن يمشي بقوة والصبب الحدور، قول: انحدرنا في صبب وصبوب، قوله: جليل المشاس يريد رؤوس المناكب، والعشرة الصحبة، والعشير الصاحب، والبديهة المفاجأة، يقال: بدهته بأمر: أي فجأته. وروينا فيه أيضا عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: سألت خالي هند بن أبي هالة، وكان وصإذا لحلية النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا أشتهي أن يصف لي منها شيئا أتعلق به، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخماً مفخماً يتلألأ وجهه تلألأ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع وأقصر من المشذب، عظيم الهامة رجل الشعر، إن انفرقت عقيصته فرق، وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه، إذا هو وفره أزهر اللون واسع الجبين، ازج الحواجب، سوابغ في غير قرن بينهما عرق يدره الغضب، أقنى العرنين، له نور يعلوه، يحسبه من لم يتأجله اشم، كث اللحية سهل الخدين، ضليع الفم مفلج الأسنان دقيق المسربة، كان عنقه جيد دمية في صفاء الفضة، معتدل الخلق بادن متماسك سواء البطن والصدر عريض الصدر بعيد ما بين المنكبين ضخم الكراديس أنور المتجرد موصول ما بين اللبة، والسرة، بشعر يجري كالخط عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك لشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر طويل الزندين رحب الراحة شثن الكفين والقدمين سائل الأطراف أو قال شائل الأطراف خمصان الأخمصين مسيح القدمين ينبو عنهما الماء إذا أزال زال قلعاً يخطو تكفياً، ويمشي هوناً ذريع المشية إذا مشى كأنما ينحط من صبب، إذا التفت التفت جميعاً، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة، يسوق أصحابه، ويبدر من لقي بالسلام. وروينا فيه أيضاً عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضليع الفم، أشكل العين منهوش العقب قال شعبة: قلت لسماك يعني أحد رواة هذا الحديث: ما ضليع الفم؟ قال: عظيم الفم، قلت: ما أشكل العين؟ قال: طويل شق العين: قلت منهوش العقب؟ قال: قليل لحم العقب. وفي رواية أخرى عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة أضحيان، وعليه حلة حمراء، فجعلت انظر إليه وإلى القمر، فلهو عندي أحسن من القمر. قلت: يعني في حسن لونه وريق بهجته، وأما باقي محاسن صورته. فليس القمر مشاركة في شيء منها. وروينا فيه أيضاًعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " عرض على الأنبياء فإذا موسى ضرب من الرجال كأنه من رجال شنوءة ورأيت عيسى ابن مريم فإذا هو أقرب من رأيت به شبهاً عروة بن مسعود ورأيت ابراهيم فإذ هو أقرب من رأيت به شبهاً صاحبكم يعني نفسه ورأيت جبرائيل، إذا هو أقرب من رأيت به شبهاً دحية " صلوات الله وسلامه على نبينا، وعليهم أجمعين. وروينا فيه أيضاً عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفلج الثنيتين، إذا كلم رئي كالنور يخرج من بين ثناياه صلى الله عليه وآله وسلم. في بياضه حمرة. والأدعج الشديد سواد العين، والأهدب الطويل الأشفار، والكتد المجتمع الكتفين، وهو الكاهل، والمسربة الشعر الدقيق الذي كأنه قضيب من الصدر إلى السرة والشثن الغليظ الأصابع من الكفين والقدمين، والتقلع إن يمشي بقوة والصبب الحدور، قول: انحدرنا في صبب وصبوب، قوله: جليل المشاس يريد رؤوس المناكب، والعشرة الصحبة، والعشير الصاحب، والبديهة المفاجأة، يقال: بدهته بأمر: أي فجأته. وروينا فيه أيضا عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: سألت خالي هند بن أبي هالة، وكان وصإذا لحلية النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا أشتهي أن يصف لي منها شيئا أتعلق به، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخماً مفخماً يتلألأ وجهه تلألأ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع وأقصر من المشذب، عظيم الهامة رجل الشعر، إن(1/22)
انفرقت عقيصته فرق، وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه، إذا هو وفره أزهر اللون واسع الجبين، ازج الحواجب، سوابغ في غير قرن بينهما عرق يدره الغضب، أقنى العرنين، له نور يعلوه، يحسبه من لم يتأجله اشم، كث اللحية سهل الخدين، ضليع الفم مفلج الأسنان دقيق المسربة، كان عنقه جيد دمية في صفاء الفضة، معتدل الخلق بادن متماسك سواء البطن والصدر عريض الصدر بعيد ما بين المنكبين ضخم الكراديس أنور المتجرد موصول ما بين اللبة، والسرة، بشعر يجري كالخط عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك لشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر طويل الزندين رحب الراحة شثن الكفين والقدمين سائل الأطراف أو قال شائل الأطراف خمصان الأخمصين مسيح القدمين ينبو عنهما الماء إذا أزال زال قلعاً يخطو تكفياً، ويمشي هوناً ذريع المشية إذا مشى كأنما ينحط من صبب، إذا التفت التفت جميعاً، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة، يسوق أصحابه، ويبدر من لقي بالسلام. وروينا فيه أيضاً عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضليع الفم، أشكل العين منهوش العقب قال شعبة: قلت لسماك يعني أحد رواة هذا الحديث: ما ضليع الفم؟ قال: عظيم الفم، قلت: ما أشكل العين؟ قال: طويل شق العين: قلت منهوش العقب؟ قال: قليل لحم العقب. وفي رواية أخرى عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة أضحيان، وعليه حلة حمراء، فجعلت انظر إليه وإلى القمر، فلهو عندي أحسن من القمر. قلت: يعني في حسن لونه وريق بهجته، وأما باقي محاسن صورته. فليس القمر مشاركة في شيء منها. وروينا فيه أيضاًعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " عرض على الأنبياء فإذا موسى ضرب من الرجال كأنه من رجال شنوءة ورأيت عيسى ابن مريم فإذا هو أقرب من رأيت به شبهاً عروة بن مسعود ورأيت ابراهيم فإذ هو أقرب من رأيت به شبهاً صاحبكم يعني نفسه ورأيت جبرائيل، إذا هو أقرب من رأيت به شبهاً دحية " صلوات الله وسلامه على نبينا، وعليهم أجمعين. وروينا فيه أيضاً عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفلج الثنيتين، إذا كلم رئي كالنور يخرج من بين ثناياه صلى الله عليه وآله وسلم.(1/23)
تواضعه صلى الله عليه وآله وسلم
عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله ". وعن أنس بن ماللك رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعود المريض، ويشهد الجنازة، ويركب الحمار، ويجيب دعوة العبد، وكان يوم قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف عليه أكاف من ليف. وعنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعى إلى خبز الشعير والإهالة السخنة فرجيب. وعنه أيضاً قال: حج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، على رجل رث وعليه قطيفة خلق، لا يساوي أربعة دراهم، فقال اللهم اجعله حجاً مبروراً لا رياء فيه ولا سمعة. وعنه أيضاً قال: لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانوا إذا رأوه ولم يقوموا له، لما يعلمون من كراهيته لذلك. وعن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما قال: سألت أبي عن دخول النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: اذا أوى إلى منزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء جزءاً لله وجزءاً لأهله وجزءاً لنفسه ثم جزأ جزءاً بينه وبين الناس، فيودي ذلك بالخاصة على العامة، ولا يدخر عنهم شيئاً للعامة، وكان من سيرته في جزء الأمة، إيثار أهل الفضل باذنه، وقسمه على قدر فضلهم في الدين، فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج، فيتشاغل بهم، ويشغلهم عما أصلحهم، الأمة من مسألتهم عنه. قلت: هذا في الشمائل من مسألتهم عنه وفي كتاب الشفاء، من مسألته عنهم، وأخبارهم بالذي ينبغي لهم، ويقول: " ليبلغ الشاهد منكم الغائب، وابلغوني حاجة من لا يستطيع ابلاغها، إنه من أبلغ سلطاناً حاجة من لا يستطيع ابلاغها، ثبت الله قدميه يوم القيامة، لا يذكر عنده إلا ذلك، ولا يقبل من أحد غيره، يدخلون رواداً، ولا يفترقون إلاعن(1/24)
ذواق، ويخرجون أدلة يعني على الخير ". قلت: وقوله عن ذواق؟ قيل: ذواق العلم والفوائد، لأنه صلى الله عليه وآله وسلم ما كان عنده شيء من الدنيا يسع به الخلايق، قال: فسألته عن مخرجه كيف كان يصنع فيه؟ قال كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخزن لسانه إلا فيما يعنيه، ويؤلفهم ولا ينفرهم، ويكرم كريم كل قوم، ويوليه عليه، ويحذر الناس، ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره، ولا بخلقه، ويتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، ويحسن الحسن ويصوبه، ويقبح القبيح ويوهيه، معتدل الأمر غير مختلف لا يغفل، مخافة أن يغفلوا، أو يميلوا لكل امرىء عنده عتاد، يعني أهبة لا يقصر عن الحق ولا يجاوزه الذين يلونه من الناس، خيارهم وأفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومواراة. قال فسألته عن مجلسه فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر، فإذا انتهى إلى قوم، جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك. يعطي كلا ًنصيبه لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه ممن جالسه. ومن سأله عن حاجته لم يرده ألا بها أو بميسور من القول قد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أباً وصاروا عنده في الحق سواء مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم. يتعاطفون فيه بالتقوى متواضعين، يوقرون فيه الكبير، ويرحمون فيه الصغير ويوثرون ذا الحاجة، ويحفظون الغريب. وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " لو أهدي إلي كراع لقبلت ولو دعيت إليه لأجبت ". وعن عمرة قالت: قيل لعائشة رضي الله تعالى عنها: ماذا كان يعمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيته؟ فقالت: كان بشراً من البشر، يفلي ثوبه، ويحلب شاته ويخدم نفسه. وروى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كان يعلف البعير، ويقم البيت ويخصف النعل، ويرقع الثوب، ويعلف الشاة، ويأكل مع الخادم ويطحن معه إذا أعيى، وكان لا يمنعه الحياء أن يحمل بضاعته من السوق إلى أهله، ويصافح الغني والفقير، ويسلم مبتدياً، ولا يحقر ما دعي إليه ولو إلى حشف الثمر، وكان هين المؤنة لين الخلق كريم(1/25)
الطبيعة جميل المعاشرة طلق الوجه بساماً من غير ضحك، محزوناً من غير عبوس، متواضعاً من غير مذلة، جواداً من غير سرف، رقيق القلب رحيماً بكل مسلم، لم يتجشأ قط من شبع، ولم يمد يده إلى الطمع، صلى الله عليه وآله وسلم وعلى أصحابه وبارك وشرف كرم.
ذكر شيءمن حيائه
مما ورد في حيائه صلى الله عليه وآله وسلم روينا في كتاب الحافظ أبي عيسى المذكور عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. أشد حياء من العنراء في خدرها، وكان إذا كره الشيء عرفناه في وجهه. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما نظرت إلى فرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقالت ما رأيت فرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ذكر شيءمن خلقه
يسير مما ورد من محاسن خلقه صلى الله عليه وآله وسلم
اعلم إنه ما يهتدي أحد من خلق الله عز وجل، إلى معرفة ما حوى خلقه الحسن من المحاسن الكريمة، وجميل الأخلاق الكاملة العظيمة وقد أجمل الله تعالى من وصفه في محكم تنزيله ما لا تتسع الدفاتر لتفصيله. فقال في الذكر الحكيم: " وإنك لعلى خلق عظيم " فأعظم بما وصفه العظيم بكونه عظيماً. فإنه لا يهتدي الخلق إلى إدراك كنه ذلك العظيم، تفصيلاً لمجموع محاسنه، وتعميماً. ولكني أذكر شيئاً مما ورد في ذلك من الأخبار بحسب التبرك والتذكار. روينا في الكتاب المذكور عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشر سنين، فما قال لي أف قط، وما قال لشيء صنعته لم صنعته، ولا لشيء تركته لما تركته. وكان صلى الله عليه وآله وسلم من أحسن الناس خلقاً، ولا مسست خزاً قط، ولا حريراً ولا شيئاً ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا شممت مسكاً قط ولا عطراً كان أطيب من عرق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يكاد يواجه أحداً بشيء يكرهه، وكان عنده رجل به أثر صفرة، فلما قام قال صلى الله عليه وآله وسلم للقوم: " لو قلتم له يدع هذه الصفرة ". وروينا عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاحشاً، ولا متفحشاً ولا صخاباً في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، لكن يعفو ويصفح.(1/26)
وعنها أيضاً قالت: ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده شيئاً قط إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا ضرب خادماً ولا امرأة. وعنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منتصراً لنفسه من مظلمة ظلمها قط، ما لم ينتهك من محارم الله شيء فإذا انتهك من محارم الله شيء، كان أشدهم في ذلك غضباً. وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً. وعنها قالت: استأذن رجلاً على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا عنده فقال بئس ابن العشيرة أو أخو العشيرة ثم أذن له، فألان له القول، فلما خرج قلت: يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له القول فقال: " يا عائشة إن من شر الناس من تركه الناس أو ودعه الناس اتقاء فحشه ". وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " كنت لك كأبي زرع لأم زرع الحديث " وأوله قالت: جلست إحدى عشرة امرأة. تعاهدن وتعاقدن، أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً، ثم ذكرت ما قالت: كل واحدة منهن في حديث طويل، ذكره البخاري رضي الله تعالى عنه. وفي آخره قالت الحادية عشر زوجي أبو زرع، وما أبو زرع؟ أناس من حلي أذني، وملأ من شحم عضدي، ويجحني فبجحت إلى نفسي الحديث. قال في آخره: لما ذكرت ما أعطاها زوجها الثاني، بقولها: وأعطاني من كل رائحة زوجاً، وقال كلي أم زرع، وميري أهلك، فلو جمعت كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغرآنية أبي زرع. قالت عائشة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كنت لك كأبي زرع لأم زرع. وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً قط فقال لا. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان، حتى ينسلخ فيأتيه جبرائيل عليه السلام، فيعرض عليه القرآن، فإذا لقيه جبرائيل، كان صلى الله عليه وآله وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة. وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فسأله أن يعطيه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ما عندي شيء، ولكن اتبع(1/27)
علي، فإذا جاءني شيء قضيته، فقال عمر: يا رسول الله، قد أعطيته، فما كلفك الله ما لا تقدر عليه، وكره صلى الله عليه وآله وسلم قول عمر، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله انفق ولا تخش من ذي العرش إقلالاً، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعرف البشر في وجهه لقول الأنصاري، ثم قال بهذا أمرت. وعن الربيع بنت معوذ ابن عفراء رضي الله تعالى عنهما، قالت: اتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقناع من رطب، وأجر زغب فأعطاني ملء كفيه حلياً وذهباً. وفي رواية. وعليه أجر من قثاء زغب، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحب القثاء، فأتيت بها، وعنده حلية قد قدمت عليه من البحرين، فملأ يده منها وأعطانيه. وعن علي رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم دائم البشر سهل
الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب ولا فحاش ولا عياب ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهيه، ولا يوئس منه، ولا يجيب فيه، قد ترك نفسه من ثلاث: الرياء والإكثار وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحداً، ولا يعيبه، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، وإذا تكلم أطرق جلساؤه، كأنما على رؤوسهم الطير إذا سكت تكلموا، لا يتنازعون عنده الحديث، ومن تكلم عنده انصتوا له، حتى يفرغ حديثهم عنده، حديث أولهم يضحك مما يضحكون منه، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته، حتى إن كان أصحابه ليستجلبونه ويقول: " إذا رأيتم صاحب حاجة يطلبها فارقدوه " ولا يقبل الثناء إلا من مكافىء، لا يقطع على أحد حديثه حتى يجوز، فيقطعه بنهي أو قيام. ن الجانب، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب ولا فحاش ولا عياب ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهيه، ولا يوئس منه، ولا يجيب فيه، قد ترك نفسه من ثلاث: الرياء والإكثار وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحداً، ولا يعيبه، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، وإذا تكلم أطرق جلساؤه، كأنما على رؤوسهم الطير إذا سكت تكلموا، لا يتنازعون عنده الحديث، ومن تكلم عنده انصتوا له، حتى يفرغ حديثهم عنده، حديث أولهم يضحك مما يضحكون منه، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته، حتى إن كان أصحابه ليستجلبونه ويقول: " إذا رأيتم صاحب حاجة يطلبها فارقدوه " ولا يقبل الثناء إلا من مكافىء، لا يقطع على أحد حديثه حتى يجوز، فيقطعه بنهي أو قيام.
ذكر شيء من عبادته
مما جاء في عبادته صلى الله عليه وآله وسلم عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى انتفخت قدماه، فقيل له: اتتكلف هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: أفلا أكون عبداً شكوراً. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه نحوه إلا أنه قال: يصلي حتى تورمت قدماه. وفي رواية عنه. حتى تنتفخ. وفي الجميع يقول النبي صلى الله عليه وآله سلم " أفلا أكون عبداً شكوراً ".(1/28)
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان ينام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أول ليلة، ثم يقوم، فإذا كان من السحر، أوتر ثم أتى فراشه فإذا كانت له حاجة ألم بأهله فإذا سمع الأذان وثب فإن كان جنباً إذاض عليه من الماء وإلا توضأ وخرج للصلاة. وعنها وقد سئلت. كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. في رمضان فقالت: ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشر ركعة، يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً. قالت: قلت: يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ قال: يا عائشة إن عيني تنامان. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان صلى الله عليه وآله وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا لم يصل من الليل منعه من ذلك النوم أو غلبت عيناه صلى من النهار اثنتي عشر ركعة. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " إذا قام أحدكم من الليل، فليفتح صلاته بركعتين خفيفتين ". وعن حذيفة اليمان رضي الله تعالى عنهما أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الليل قال فلما دخل في الصلاة قال الله أكبر ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة، ثم قرأ البقرة، ثم ركع، وكان ركوعه نحواً من قراءته، وكان يقول سبحان ربي العظيم سبحان ربي العظيم، ثم رفع رأسه وكان قيامه نحواً من ركوعه، وهو يقول: لربي الحمد لربي الحمد، ثم سجد، فكان سجوده نحواً من قيامه، وكان يقول سبحان ربي الأعلى سبحان ربي الأعلى، ثم رفع رأسه فكان بين السجدتين نحو من السجود، وكان يقول: رب اغفر لي، رب اغفر لي، حتى قرأ البقرة وآل عمران والنساء والمائدة أو الأنعام. شك شعبة. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بآية من القرآن ليلة. وعن عبد الله يعني ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، قال: صليت ليلة مع رسول الله(1/29)
صلى الله عليه وآله وسلم فلم يزل قائماً حتى هممت بأمر سوء قيل: وما هممت به؟ قال: هممت أن أقعد، وأدع النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وعن عبد الله بن شقيق، قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تطوعه، فقالت: كان يصلي ليلاً طويلاً قائماً وليلاً طويلاً قاعداً، فإذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ وهو جالس ركع وسجد وهو جالس. وعن معاذة، قالت: قلت: لعائشة رضي الله تعالى عنها أكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الضحى؟ قالت: نعم أربع ركعات. وعن أنس رضي الله تعالى عنه أنه كان صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الضحى ست ركعات. وعن عبد الرحمن بن أبي يعلى قال: ما أخبرني أحد أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويصلي الضحى إلا أم هاني فإنها حدثت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل بيتها يوم فتح مكة، فاغتسل، فسبح ثماني ركعات ما رأيته صلى صلاة قط أخف منها غير أنه، كان يتم الركوع والسجود، قلت: الحديث الصحيح المشهور أن ذلك في أعلى مكة عند قدومه لفتحها. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي الضحى حتى نقول لا يدعها وبدعها حتى نقول لا يصليها. وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى لله عليه وآله وسلم كان يدمن أربع ركعات عند زوال الشمس، وقال إن أبواب السماء تفتح، عند زوال الشمس ولا ترتج حتى يصلي الظهر، فأحب أن يصعد لي في تلك الساعة خير. وفي رواية أخرى. عمل صالح. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي قبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين، وبعد المغرب اثنتين، وبعد العشاء ركعتين، وقبل الفجر اثنتين. وعن علي رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي قبل(1/30)
الظهر
أربعاً، وبعدها ركعتين، وقبل العصر أربعاً، يفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين، والنبيين ومن تبعهم من المؤمنين والمسلمين قلت: وفي حديث آخر: يصلي قبل الظهر أربعاً وبعدها أربعاً. ركعتين، وقبل العصر أربعاً، يفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين، والنبيين ومن تبعهم من المؤمنين والمسلمين قلت: وفي حديث آخر: يصلي قبل الظهر أربعاً وبعدها أربعاً.
ذكر شيء من بكائه
ما ورد من بكائه صلى الله عليه وآله وسلم عن مطرف بن عبد الله بن الشخيرعن أبيه قال أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلي، ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء. وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل عثمان بن مظعون، وهو ميت، وهو يبكي، أو قالت: وعيناه تهرقان. وعن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم: اقرأ علي، فقلت: يا رسول الله اقرأ عليك، وعليك أنزل قال: أني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت سورة النساء، حتى بلغت " وجئنا بك على هؤلاء شهيداً " النساء قال: فرأيت عيني النبي صلى الله عليه وآله وسلم تهملان.
ذكر شيء من معجزاته
صلى الله عليه وآله وسلم منها انشقاق القمر. ومنها نبع الماء من بين أصابعه، وتكثيره. وتكثير الطعام لبركة دعائه، صلى الله عليه وآله وسلم. وكلام الشجرة وشهادتها له بالنبوة. وأجابتها دعوته لما قال له أعرابي: من يشهد لك؟ والشجرة التي جاءت إليه صلى الله عليه وآله وسلم، حتى قضى حاجته خلفها. وحنين الجذع إليه، صلى الله عليه وآله وسلم. وتسبيح الطعام الذي كان يأكل منه، صلى الله عليه وآله وسلم. وتسبيح الحصى في كفه، وتسليم الأشجار والأحجار عليه، صلى الله عليه وآله وسلم. ورجف أحد به وببعض أصحابه، صلى الله عليه وآله وسلم. وكلام الضب والذئب له والجمل. وذلك ما روي أن أعرابياً صاد ضباً، فجاءه والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بين أصحابه، فقال: ما هذا؟ قالوا: نبي الله، فقال: واللات والعزى لا آمنت بك أو تؤمن هذا الضب، وطرحه بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " يا ضب " فأجاب بلسان مبين لبيك وسعديك يا زين من وافى القيامة، فقال " من تعبد "؟ قال: الذي في السماء عرشه، وفي الأرض سلطانه، وفي الجنة رحمته، وفي النار عقابه قال: " فمن أنا " قإل: رسول رب العالمين، وخاتم النبيين، قد أفلح من صدقك، وخاب من كذبك، فأسلم الأعرابي.(1/31)
وروينا أن ذئباً أخذ ظبياً فدخل الظبي الحرم، فانصرف الذئب، فعجب من رآه من الكفار، فقال الذئب: أعجب من ذلك، محمد بن عبد الله بالمدينة، يدعوكم إلى الجنة، وتدعونه إلى النار. وروي أن بعيراً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فوضع مشفره في الأرض، وبرك بين يديه، فسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن شأنه، فأخبر: ان أهله أرادوا ذبحه. وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم: إنه يشكو كثرة العمل وقلة العلف. وفي رواية شكا إلي أنكم أردتم ذبحه، بعد أن استعملتموه في شاق العمل من صغره، فقالوا نعم. وروي أن حمام مكة أظلت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتحها فدعا لها بالبركة. وروي أنه أمر حمامتين فوقفتا بفم الغار، وإن العنكبوت نسجت على بابه، فلما رأى ذلك الطالبون له، انصرفوا. وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في صحراء فنادته ظبية؟ يا رسول الله: قال: " ما حاجتك ": قال صادني هذا الأعرابي ولي خشفان في ذلك الجبل، فأطلقني حتى أذهب فأرضعهما، وأرجع، قال: " وتفعلين " قالت: نعم فأطلقها فذهبت ورجعت فأوثقها فانتبه الأعرابي وقال يا رسول الله ألك حاجة؟ قال: " أطلق هذه الظبية "، فأطلقها، فخرجت تعدو في الصحراء، وتقول أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. ومنها حديث الناقة التي شهدت عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم لصاحبها، أنه ما سرقها وإنها ملكه، وكلام الحمار الذي أصابه صلى الله عليه وآله وسلم بخيبر، وقال له اسمي يزيد بن شهاب، فسماه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعفورا. والعنز التي أتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عسكر. وقد أصابهم عطش، فحلبها صلى الله عليه وآله وسلم، فأروى الجند الحديث وفيه طول. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: ان يهودية أهدت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجنب شاة مصلية سمتها، فأكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منها، وأكل القوم، فقال: ارفعوا أيديكم فإنها أخبرتني أنها مسمومة، فمات بشر بن البراء، فقال صلى الله عليه وآله وسلم لليهودية: " ما حملك على ماصنعت؟ " قالت: إن كنت نبياً لم يضرك(1/32)
الذي صنعت، وإن كنت ملكاً أرحت الناس منك، فأمر بها، فقلت، وفي حديث آخر قالت: أردت قتلك، فقال: ما كان الله ليسلطك على ذلك. وأصيبت عين قتادة بن النعمان يوم أحد، حتى وقعت على وجنته، فردها رسول الله صلى الله عليه آله وسلم، وكانت أحسن عينيه. وعن حبيب بن يزيد: أن أباه ابيضت عيناه، فكان لا يبصر بهما شيئاً، فنفث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيهما، فأبصر. وتفل في عين علي رضي الله تعالى عنه يوم خيبر، وكان رمداً، فصار بارئاً. وكانت في كف شرحبيل الجعفي سلعة تمنعه القبض على السيف وعنان الدابة فشكاها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فما زال يطحنها بكفه حتى لم يبق لها أثر. ودعا صلى الله عليه وآله وسلم لعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل، فاستجيب له في عمر رضي الله تعالى عنه. قال ابن مسعود: فما زلنا أعزة مذ أسلم عمر، رضي الله تعالى عنه. ودعا صلى الله عليه وآله وسلم في الاستسقاء فسقوا، ثم شكوا إليه المطر، فدعا فارتفع. ودعا لابن عباس رضي الله تعالى
عنهما اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل، فصار حتى سمي الحبر وترجمان القرآن ودعا لجماعة بالبركة فظهرت عليهم البركات، وربحوا في التجارات، نهم عبد الله بن جعفر والمقداد وعروة بن أبي الجعد. قال: كنت أقوم بالكراسة فما ارجع حتى أربح أربعين ألفاً. وقال البخاري في حديثه: وكان لو اشترى التراب ربح فيه. ودعا على مضر فقحطوا، حتى استعطفته قريش ودعا لهم. ودعا على كسرى حين مزق كتابه أن يمزق ملكه فلم تبق له باقية. وقال لعتبة بن أبي لهب " اللهم سلط عليه كلباً من كلابك "، فأكله أسد. وقال لرجل رآه يأكل بشماله: " كل بيمينك ": فقال: لا أستطيع. فقال: " لا استطعت " فلم يرفعها إلى فيه. ودعا على الحكم بن أبي العاص، وكان يختلج بوجهه، ويغمز عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: " كذلك كن " فلم يزد يختلج إلى أن مات. وغير ذلك مما يخرج عن الانحصار. هذا منه قطرة من بحار، وللعلماء في المعجزات تصانيف مستقلات، وإلى شيء من محاسنه الباهية في ظاهره وباطنه أشرت في بعض القصائد هذه الأبيات. نهما اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل، فصار حتى سمي الحبر وترجمان القرآن ودعا لجماعة بالبركة فظهرت عليهم البركات، وربحوا في التجارات، نهم عبد الله بن جعفر والمقداد وعروة بن أبي الجعد. قال: كنت أقوم بالكراسة فما ارجع حتى أربح أربعين ألفاً. وقال البخاري في حديثه: وكان لو اشترى التراب ربح فيه. ودعا على مضر فقحطوا، حتى استعطفته قريش ودعا لهم. ودعا على كسرى حين مزق كتابه أن يمزق ملكه فلم تبق له باقية. وقال لعتبة بن أبي لهب " اللهم سلط عليه كلباً من كلابك "، فأكله أسد. وقال لرجل رآه يأكل بشماله: " كل بيمينك ": فقال: لا أستطيع. فقال: " لا استطعت " فلم يرفعها إلى فيه. ودعا على الحكم بن أبي العاص، وكان يختلج بوجهه، ويغمز عند النبي صلى الله(1/33)
عليه وآله وسلم، فقال: " كذلك كن " فلم يزد يختلج إلى أن مات. وغير ذلك مما يخرج عن الانحصار. هذا منه قطرة من بحار، وللعلماء في المعجزات تصانيف مستقلات، وإلى شيء من محاسنه الباهية في ظاهره وباطنه أشرت في بعض القصائد هذه الأبيات.
صلاة وتسليم يفوح شذاهما ... على سيد الكونين من آل هاشم
نبي علا فوق النبيين منصباً ... يدا نوره من قبل نشوة آدم
وجبة صبيح الوجه مصباح ظلمة ... محا بضيا العدل ظلام المظالم
حليم كريم مشفق متعطف ... رؤوف بكل المؤمنين وراحم
مبيد للأعادي ذو انتقام وسطوة ... غليظ على الكفار للكفر هادم
مقر الندى بجر خضم وفي الوغا ... هزبر من الأسد الليوث الضراغم
يروي القنا عند اللقا من دم العدى ... وبالبيض يقري البيض حتى الجماجم
سراج الدنيا شرقاً وغرباً نقي الطغى ... بسمر القنا والمرهقات الصوارم
به الدهر أضحى ضاحكاً متبسماً ... عبوساً على أعدائه غير باسم
مليح فصيح أبيض أدعج إذا ... تبسم خلت البرق بين المباسم
إلى شحمة الأذنين يكسوه وفروة ... حكت جنح ليل مظلم اللون فاحم
أغر به يستنزل القطر قد سقت ... أنامله جيشاً ربيعا لقادم
شفيع البرإيا صاحب الحوض واللوا ... غياث الورى عند الدواهي الدواهم
ومخترق سبعاً طباقاً بليلة ... بها في محل القدس أنس التنادم
براقاً ومعراجاً من الكون قد علا ... إلى رتبة لا يرتقي بسلالم
من الفرش حتى العرش شاهد في ... سرى كسبعة آلاف سنين توامم
وكان له الروح الأمين مسائراً ... إلى سدرة من فوقها غير صارم
له الرسل والأملاك تخدم في السماء ... فأكرم بمخدوم هناك وخادم
يهنيه كل بالكرامة قائلاً ... لأحمد أهلاً مرحباً خير قادم
وبات له بعداً محياك باسماً ... على أرضه لا تفخري وتعاظمي
أميطت له حجب الجلال فجازها ... إلى مكرمات حازها بعزايم
من النور كم حجب تعدى وابحرا ... بها غير محجوب هناك وعايم
إلى أن دنا من حضرة القدس والملا ... بعيداً وهم ما بين حان وقائم
فوافى شراب الحب في الكلس قد ... صفا وقد طابت الأحباب وقت التنادم(1/34)
فقال التي قد رام موسى ولم يقل ... لدى الطور في أعلى السما غير دائم
فقال لسان الحال في ذاك منشداً ... يعبر عن موسى بنظم ملائم
قضاها لغيري وابتلاني بحبها ... بسابق علم لست فيه بعالم
أنا طالب والغير مطلوب أنا ... بها مغرم أهريق في حبها دمي
معنى بها والغير فيها منعم ... ولكم بين مشغوف معنى وناعم
فلا نلت ما قد رمت منها ولا أنا ... من العتب أو بلوى هواها بعالم
نهار التجلي صعقة قد لقيتها ... بها ضل عقلي زائلاً غير فاهم
كفى شرفاً أن الحبيب مثبت ... لمذهب عقل للكليم وكالم
لطرف أديب لم يرغ لا ولا طغى ... وقلب لبيب ساكن غيرهائم
رأى ووعى ما لم ير غيره ولا ... وعى في السما من آية ومعالم
علا فوق كل المصطفين مقرباً ... بأعلى مقام ما له من مزاحم
وعاد قرير العين في خلع الرضا ... وغانم ما لم يغتنم كل غانم
بيمناه سيف الحق والرأس مكرم ... بتاج العلى والظهر بزهو بخاتم
ألا يا رسول الله يا معدن الندى ... ويا بحر جود يا مقر المكارم
ويا من ملأ الكونين فضلاً وسؤدداً ... فياضاً لفضل للخلائق عاصم
ومن أمتي والرسل نفسي مقالهم ... يقول وهم ما بين جاث وجاثم
من الهول يا غوث الورى من جهنم ... إذا ظن كل أنه غير سا لم
لعاص فقير يافعي يماني ... لمداحكم يا سيد الرسل خادم
أغث وأجر واشفع له ولعشرة ... مضى ذكرهم في نظمه المتقادم
فاصل واصل ثم شيخ وأهله ... وصهر وذي الأرحام أهل التراحم
وخل وقارىء كتبه ثم سامع ... وجار فكم حق على الجار لازم
فأنت الذي لا شك تحت لوائه ... غدا آدم يمشي فمن دون آدم
عليك صلاة الله ثم سلامه ... يصوغان نشراً محييا كل شامم
وآلك أهل الفضل والفخر والعلى ... وأصحابك الزهر النجوم النواجم
وأزواجك الغر القوانت في الدجى ... ذوات الصلاح القانتات الصوائم
وسبحان من ذاتاً ووصفاً مقدس ... وأشرف مبد وذكر وخاتم
ذكر خاتم النبوة
روينا في الكتاب عن السائب بن يزيد قال: ذهبت بي خالتي إلى رسول الله(1/35)
صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: يا رسول الله إن ابن اختي وجع، فمسح رأسي وروي برأسي فدعا بالبركة، وتوضأ فشربت من وضوئه، وقمت خلف ظهره، فنظرت إلى الخاتم بين كتفيه، فإذا هو مثل زر الحجلة. وعن أبي نضرة قال: سألت أبا سعيد الخدري عن خاتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يعني خاتم النبوة، فقال: كان في ظهره بضعة ناشزة. وعن عبد الله بن سرجس قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في أناس من الناس من الصحابة، فدرت هكذا من خلفه، فعرف الذي أريد فألقى الرداء عن ظهره، فرأيت مثل الخاتم على كتفيه، مثل الجمع حولها خيلان، أنها ثآليل قلت: قوله مثل الجمع بضم الجيم وسكون الميم. قال في الصحاح جمع الكف بالضم، وهو حين يقبضها يقال: ضربته بجمع كفي.
صفة خاتم كفه وصفة تختمه
عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: كان خاتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ورق، وكان فضه حبشياً. وفي رواية أخرى عنه من فضة فصه منه وفي حديث آخر عنه أيضاً كان نقش خاتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر. وفي رواية أخرى عنه: كأني أنظر إلى بياضه في كفه، وأنه كان إذا دخل الخلاء نزع عن كفه. وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: اتخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاتماً من ورق، فكان في يده، ثم كان في يد أبي بكر وعمر، ثم كان في يد عثمان، ثم وقع. وروي حتى وقع في بيراريس نقشه محمد رسول الله. وعن علي رضي الله عنه: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يلبس خاتمه في يمينه.(1/36)
وعن عبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنهما: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتختم في يمينه. وكذا رواه ابن عباس وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله وآله وسلم اتخذ خاتماً من فضة، وجعل فصه مما يلي كفه. وروى بعض أصحاب الحديث عن قتادة عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنه كان يتختم في يساره أيضاً. قال الترمذي وهو حديث لايصح. وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: اتخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاتماً من ذهب، فكان يلبس في يمينه، فاتخذ الناس خواتيم من ذهب، فطرحه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال لا ألبسه أبداً، فطرح الناس خواتيمهم.
ذكر شعره صلى الله عليه وسلم
عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من إناء واحد، وكان له شعر فوق الجمة ودون الوفية. وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان شعر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس بالجعد ولا بالسبط، كان يبلغ شحمة أذنيه. وفي رواية أخرى عنه كان إلى انصاف أذنيه. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يسدل شعره، وكان المشركون يفرقون رؤوسهم، وكان أهل الكتاب يسلمون رؤوسهم، وكان يحب موافقة أهل الكتاب، فيما لم يؤمر بشيء، ثم فرق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأسه. وعن أم هانىء رضي الله تعالى عنها قالت: رأيت شعر رسول الله ذا ضفائر أربع.
ذكر شيبة صلى الله عليه وآله وسلم
عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: ما عددت في رأس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولحيته إلا أربع عشرة شعرة بيضاء. وقال غيره: نحواً من، عشرين. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال أبو بكر: رسول الله قد شبت، قال:(1/37)
" شيبتني وهود والواقعة والمرسلات وعم تسألون وإذا الشمس كورت: " وفي حديث آخر. شيبتي هود وأخواتها.
ذكرلباسه صلى الله عليه وسلم
عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: كان أحب الثياب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القميص. وعن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: كان كم قميص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرسغ. وعن أنس رضي الله عنه قال: كان أحب الثياب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلبسه الحبرة. وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: ما رأيت أحداً من الناس أحسن في حلة حمراء من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إن كانت جمته لتقرب قربا من منكبه صلى الله عليه وآله وسلم. وعن أبي رمثة رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعليه بردان أخضران. وعن قيلة بنت مخرمة رضي الله عنها قالت رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعليه أسمال مليتين كانتا بزعفران وقد نفضه قلت المليتين تصغير ملايتين تثنية ملاءة وهي نوع من الثياب. وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبس جبة رومية ضيقة الكمين. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات غداة وعليه مرط شعر أسود قلت ذكر في الصحاح أن المرط بالكسر كساء من صوف أو خز. وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.(1/38)
" البسوا البياض فإنها أطهر وأطيب وكفنوا فيها موتاكم ". وعن جابر رضي الله تعالى عنه قال: دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة وعليه عمامة سوداء.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أعتم سدل عمامته بين كتفيه. وعن الأشعث بن سليم قال: سمعت عمتي تحدث عن عمها قال: بينما أنا أمشي بالمدينة. إذا إنسان خلفي يقول: ارفع إزارك فإنه أنقى وأبقى. فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت: يا رسول الله إنما هي بردة ملحا، فقال: " أما لك في اسوة " فنظرت، فإذا إزاره إلى نصف ساقيه.
ذكر نعله صلى الله عليه وآله وسلم
عن قتادة رضي الله عنه قال: قلت: لأنس بن مالك كيف كان نعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لها قبالان وفي رواية أخرى أخرج لنا أنس بن مالك نعلين جرداوين لهما قبالان. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلبس النعال التي ليس فيها شعر، ويتوضأ فيها، فأنا أحب أن ألبسها لما قيل له رأيتك، تلبس النعال السبتية. وعن ابن بريدة رضي الله عنهما أن النجاشي أهدى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خفين أسودين ساذجين، فلبسهما ثم توضأ، فمسح عليهما.
ذكر صفة مشيه صلى الله عليه وسلم
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كأن الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحداً أسرع في مشيه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كأن الأرض تطوى له، انا لنجهد أنفسنا، وأنه لغير مكترث. وعن علي رضي الله تعالى عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا مشى تكفى(1/39)
تكفياً، كإنما ينحط من صبب.
ذكر جلسته صلى الله عليه وسلم
عن قيلة بنت مخرمة رضي الله عنها: إنها رأت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد قاعداً القرفصاء. عن عباد بن تميم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا جلس في المسجد أحبتى بيديه.
ذكر خبزه صلى الله عليه وسلم
عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتابعين، حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبيت الليالي متتابعة طاوياً وأهله لا يجدون عشاء وكان أكثر خبزهم خبز الشعير. وعن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه أنه قيل له: أكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النقى يعني الحواري فقال: ما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النقي حتى لقي الله، فقيل له: هل كانت لكم مناخل على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: ما كانت لنا مناخل: قيل: كيف كنتم تصنعون بالشعير؟ قال: كنا ننفخه فيطير منه ما طار، ثم نعجنه. وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: ما أكل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على خوان ولا سكرجة ولا خبز مرقق، قال: فقلت: لقتادة فعلى ما كانوا يأكلون؟ قال: على هذه السفر.
ذكر إدامه صلى الله عليه وسلم
عن جابر وعائشة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " نعم الإدام الخل ". وفي حديث عبد الله نعم الادم أو الادام الخل. وعن أبي أسيد رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " كلوا(1/40)
بالزيت وادهنوا به ". وعن ابن عمر مثله. وكذلك عن زيد بن أسلم. وعن يوسف بن عبد الله رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ كسرة من خبز شعير، فوضع عليها تمرة، وقال هذا دام هذه.
ذكر شرابه صلى الله عليه وسلم
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان أحب الشراب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحلو البارد. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا وخالد بن الوليد على ميمونة فجاءتنا بإناء من لبن، شرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنا عن يمينه وخالد عن شماله، فقال لي: الشربة لك. فإن شئت آثرت بها خالد أفقلت: ما كنت لأوثر على سورك أحداً. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " من أطعمه الله طعاماً فليقل اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيراً منه ومن سقاه الله لبناً فليقل اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه " وقال صلى الله عليه وآله وسلم: " ليس شيء يجزئك عن مكان الطعام والشراب غير اللبن ". قال أبو عيسى وميمونة بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هي خالة خالد بن الوليد وخالة ابن عباس وخالة يزيد بن الأصم رضي الله عنهم.
ذكر أكله صلى الله عليه وسلم
عن كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يلعق أصابعه ثلاثاً وفي رواية أخرى كان يأكل بأصابعه الثلاث، ويلعقهن وفي رواية عن أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أكل طعاماً لعق أصابعه الثلاث. وعن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " أما أنا فلا آكل متكئاً ". وعن أنس قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بتمر، فرأيته يأكل وهو مقع من الجوع قلت: هذا من جلسة الإقعاء المعروفة.(1/41)
ذكر شربه صلى الله وسلم
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شرب من زمزم وهو قائم. وعن علي رضي الله تعالى عنه أنه أتي بكوز من ماء، وهو في الرحبة فأخذ منه كفاً فغسل يديه، ومضمض، واستنشق، ومسح وجهه وذراعيه ورأسه، وهو قائم، ثم قال: " هذا وضوء من لم يحدث " هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعل. وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتنفس في الإناء ثلاتاً إذا شرب، ويقول: " هو أروى وامرأ ".
قوله صلى الله عليه وسلم عند الطعام،
وعندما يفرغ منه عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما أنه د خل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعنده طعام: فقال: " ادن يا بني فسم الله وكل بيمينك وكل مما يليك ". وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إذا أكل أحدكم فنسي أن يذكر اسم الله على طعامه فليقل بسم الله أوله واخره ". وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا فرغ من طعامه قال: " الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين ". وعن أبي إمامة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا رفعت المائدة من بين يديه يقول: " الحمد لله حمداً كثيرا ًطيبا ًمباركاً فيه غير مودع ولا مستغني عنه ربنا " وفي الحديث الآخر. غير مكفي ولا مكفور ولا مودع إلى آخره. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأكل طعاماً في ستة من أصحابه، فجاء اعرابي فأكله بلقمتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " لو سمى لكفاكم ". وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة أو يشرب الشربة فيحمده عليها ".
ذكروضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن زاذان عن سلمان رضي الله عنهما قال قرأت في التوراة أن بركة الطعام الوضوء(1/42)
بعده، فذكرت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأخبرته بما قرأت في التوراه، قال رمسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده ".
ذكر عيشه صلى الله عليه وسلم
وما أكل من الألوان أو مدحه عن أبي طلحة رضي الله تعالى عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجوع، ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن حجرين. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ساعة لا يخرج فيها، ولا يلقاه فيها أحد، فأتاه أبو بكر، فقال: ما جاء بك يا أبا بكر؟ قال: خرجت ألقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وانظر في وجهه وأسلم عليه، فلم يلبث إن جاء عمر، فقال: ما جاء بك يا عمر؟ قال: الجوع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وأنا قد وجدت بعض ذلك " فانطلقوا إلى منزل أبي الهيثم بن التيهان الأنصاري وكان رجلاً كثير البخل والشماء، ولم يكن له خدم، فلم يجدوه وقالوا لامرأته: اين صاحبك؟ قالت: انطلق يستعذب لنا الماء. فلم يلبثوا أن جاء أبو الهيثم بقربة يزعبها فوضعها، ثم جاء يلتزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويفديه بأبيه وأمه، ثم انطلق بهم إلى حديقته، فبسط لهم بساطاً ثم انطلق إلى نخله، فجاء بقنو فوضعه، فقال النبى صلى الله عليه وآله وسلم: " أفلا تنقيت لنا من رطبه " فقال: يا رسول الله إني أردت أن تختاروا أو تخيروا من رطبه وبسره فأكلوا وشربوا من ذلك الماء، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة ظل بارد ورطب طيب وماء بارد " فانطلق أبو الهيثم ليصنع لهم طعاماً، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " لا تذبحن ذات در " فذبح لهم عناقاً أو جدياً فأتاهم بها، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " هل لك خادم؟ " قال: لا قال: فإذا أتانا سبي فأتنا فأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم برأسين ليس منهما ثالث، فأتاه أبو الهيثم، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " اختر منهما " فقال: يا نبي الله اختر لي، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " إن المستشار مؤتمن خذ هذا فأني رأيته يصلي واستوص به معروفاً " فانطلق به أبو الهيثم إلى امرأته، فأخبرها بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت امرأته: ما أنت ببالغ ما قال فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن تعتقه. قال: فهو عتيق. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الله لم يبعث نبياً ولا خليفة إلا وله بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر وبطانة لا تألوه خبالاً ومن(1/43)
يوق بطانة السوء فقد وقي ". وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " لقد أخفت في الله وما يخاف أحد ولقد أوذيت في الله وما يؤذي أحد ولقد أتت علي ثلاثون ما بين ليلة ويوم وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه أبط بلال ". وعن نوفل بن إياس الهذلي رضي الله عنه قال: كان عبد الرحمن بن عوف لنا جليساً، وكان نعم الجليس، وأنه انقلب بنا ذات يوم حتى إذا دخلنا بيته، دخل فاغتسل، ثم خرج وأتانا بصحفة فيها خبز ولحم، فلما وضعت بكى عبد الرحمن، وقلت له: يا أبا محمد ما يبكيك؟ قال: هلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يشبع هو وأهل بيته من خبز الشعير، فلا أرانا أخرنا لما هو خير لنا. وعن أم هانىء بنت أبي طالب رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: اما عندك شيء؟ فقلت: لا إلا خبزاً يابس وخل. فقال هاتي: ما أفقر بيت من أدم فيه خل وقد تقدم أيضاً عن جابر رضي الله تعالى عنه نعم الأدام الخل وكذلك عن عائشة وعن عبد الله رضي الله عنهما بمعناه.
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأكل لحم الدجاج. وعن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعجبه الدباء. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحب الحلواء والعسل. وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأكل القثاء بالرطب. وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأكل البطيخ بالرطب. وعنها أيضاً قالت: ما كان صلى الله عليه وآله وسلم يحب الذراع إلا لأنها أعجل اللحم نضجاً.(1/44)
وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " إن أطيب اللحم لحم الظهر ". وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يعجبه الثفل قال بعض الرواة يعني ما بقي من الطعام. وعن أبي عبيد قال: طبخت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قدراً، وكان يعجبه الذراع، فناولته الذراع، ثم قال ناولني النراع فناولته، ثم قال ناولني الذراع فقلت: يا رسول الله كم للشاة من ذراع فقال: " والذي نفسي بيده لو سكت لناولتني الذراع ما دعوت ". وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " أفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ". وعن أنس رضي الله عنه قال: اولم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتمر وسويق. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي عليه السلام يأتي فيقول أعندك غداء؟ فأقول: لا قالت: فيقول أني صائم قالت: فأتى يوماً فقلت يا رسول الله أهديت لنا هدية قال: وما هي قلت حيس قال أما أني أصبحت صائماً قالت ثم أكل. وعنها قالت: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض قلت: وأما ما ذكر في الأحاديث من كونه صلى الله عليه وآله وسلم كان يحب الحلواء والعسل. وأنه يأكل لحم الدجاج ونحو ذلك مما يستطاب، فينبغي أن يعلم أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يقصد أن يصنع له شيء من ذلك، لكن إذا حضر بين يديه اتفاقا أكله. كما كان يأكل ما حضر من خبز شعير وغيره، ولا يتوقف صلى الله عليه وآله وسلم على طعام مخصوص ولا لباس مخصوص ولا هيئة مخصوصة، وينبغي لغيره إذا اشتهى شيئاً طئباً لا يجعله عادة مستمر، بل إن كان ولا بد فأحياناً، وينبغي مع ذلك أن يطعم منه المساكين. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان أحب الشراب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحلو البارد. كما تقدم وتقدم أيضا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " من أطعمه الله طعاماً فليقل اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيراً منه ومن سقاه الله لبناً فليقل اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه " وقال صلى الله عليه وآله وسلم: " اليس شيء يجزىء مكان الطعام والشراب سوى اللبن ".(1/45)
ذكر شيء من الوضوء للطعام
مما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم في الوضوء للطعام، وما يقال عند الطعام عن سلمان رضي الله عنه قال: قرأت في التوراة أن بركة الطعام الوضوء بعده، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: " بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده " قلت هذا الحديث قد تقدم عن سلمان رواية ولفظاً. وعن راشد بن جندل التابعي عن حبيب بن أوس عن أبي أيوب الأنصاري قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوماً، فقرب إليه طعام، فلم أرى أعظم بركة منه أول ما أكلنا ولا أقل بركة في آخره. فقلنا: يا رسول الله: كيف هذا؟ قال: " إنا ذكرنا اسم الله حين أكلنا ثم قعد من أكل ولم يسم فأكل معه الشيطان ". وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إذا أكل أحدكم فنسي أن يذكر الله عند طعامه فليقل بسم الله أوله وآخره ". وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا فرغ من طعامه قال: " الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين ".
ذكر شيء مما جاء في تطييبه
صلى الله عليه وآله وسلم وترجيل شعره وخضابه وتكحيله عن أنس رضي الله عنه قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سكة يتطيب منها. وفي رواية أخرى. كان لا يرد الطيب. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " طيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه، وطيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه ". وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أرجل شعر رأس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا حائض. وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر دهن رأسه، وتسريح لحيته. وعن أبي رمثة رضي الله عنه قال: اتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع ابن لي، فقال " ابنك؟ " فقلت: نعم أشهد به قال: " لا يجني عليك ولا تجني عليه " ورأيت الشيب أحمر. قال أبو عيسى هذا أحسن شيء روي في هذا الباب، وأفسر من الروايات الصحيحة(1/46)
أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يبلغ الشيب. وعن قتادة رضى الله عنه قال: قلت لأنس هل خضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: لم يبلغ ذلك إنما كان شيبه في صدغه، ولكن أبو بكر خضب بالحناء والكتم. وفي رواية أخرى عن أنس رضي الله عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مخضوباً. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحب التيمن في طهوره إذا تطهر، وفي ترجله إذا ترجل، وفي انتعاله إذا انتعل. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " اكتحلوا بالاثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشعر ". ومثله من رواية ابن عمر. وعن ابن عباس كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكتحل بالاثمد ثلاثا ثلاثاً قبل أن ينام.
كلامه صلى الله عليه وسلم
عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعيد الكلمة ثلاثاً ليعقل عنه. وعن هند بن أبي هالة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم متواصل الأحزان دائم الفكر، ليست له راحة، طويل السكوت لا يتكلم في غير حاجة، ويتكلم بجوامع الكلم، بكلامه فصل لا فضول ولا تقصير، ليس بالجافي ولا المهين، يعظم النعمة وإن دقت، ولا يذم منها شيئاً، غير أنه لم يكن يذم ذواقاً، ولا يمدحه ولا يغضبه الدنياوما كان لها، فإذا تعدى الحق لم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له. ولا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها، الحديث. قال في آخره. وإذا غضب أعرض وأشاح جل ضحكه التبسم.(1/47)
مزاحه صلى الله عليه وسلم
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله إنك تداعبنا قال: " إني لا أقول إلا حقا ". تداعبنا يعني تمازحنا.
عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً استحمل رسول الله صلى الله عليه وآله فقال إني حاملك على ولد الناقة فقال: يا رسول الله ما أصنع بولد الناقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " وهل تلد الإبل إلا النوق ". وعن المبارك بن فضالة عن الحسين قال: اتت عجوز النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله، ادع الله لي أن يدخلني الجنة. فقال: " يا أم فلان أن الجنة لا يدخلها عجوز " قال: فولت تبكي فقال: " أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز " إن الله عز وجل يقول " إنا أنشأناهن انشاء فجعلناهن أبكارًا عرياً أتراباً ".
كلامه صلى الله عليه وسلم في الشعر
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم
وعن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يتمثل بشعر ابن رواحة ويقول طرفة. " ويأتيك بالأخبارما لم تزود ". وعن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: اصاب حجر إصبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدميت فقال:
هل أنت إلا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: وقد قيل له أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعني يوم حنين؟ فقال: لا والله ما ولي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن سرعان الناس تلقتهم، او قال رشقتهم هوازن بالنبل ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بغلته، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب آخذ بلجامها، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:(1/48)
أنا النبي لاكذب ... أنا ابن عبد المطلب
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: جالست النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثرمن مائة مرة، فكان أصحابه يتناشدون الشعر، ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية، وهو صلى الله عليه وآله وسلم ساكت، وربما تبسم معهم.
ضحكه صلى الله عليه وآله وسلم
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يضحك إلا تبسماً، وكنت إذا نظرت إليه قلت أكحل العينين وليس بأكحل. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إني لأعرف آخر أهل النار خروجاً " الحديث. وفيه. فيقول: تسخر بي وأنت الملك قال: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضحك حتى بدت نواجذه.
كلامه صلى الله عليه وسلم في السمر
عن عائشة رضي الله عنها قالت حدث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة نساء حديثاً، فقالت امرأة منهن: كان الحديث حديث خرافة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: " أتردون ما خرافة؟ ان خرافة كان رجلاً من عذرة أسرته الجن في الجاهلية فمكث فيهم دهراً ثم ردوه إلى الأنس فكان يحدث الناس بما رأى فيهم من الأعاجيب فقال الناس حديث خرافة.
نومه صلى الله عليه وآله وسلم
عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أخذ مضجعه وضع كفه اليمنى تحت خده الأيمن، قال: " رب قني عذابك يوم تجمع عبادك ". وعن حذيفة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أوى إلى فراشه فقال " اللهم باسمك أموت وأحيا " وإذا استيقظ قال: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور ". وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه فنفث فيهما، وقرأ فيهما " قل هو الله أحد " والمعوذتين، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما رأسه ووجهه ثم ما أقبل من جسده، يصنع ذلك(1/49)
ثلاث مرات. وفي رواية رويناها في جامعه الكبير يبدأ بهما على رأسه.
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أوى إلى فراشه قال: " الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي ". وعن أبي قتاة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا عرس بليل اضطجع على شقة الأيمن، وإذا عرس قبيل الصبح نصب ذراعه ووضع رأسه على كفه.
فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن عائشة رضي الله عنها قالت: إنما كان فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان ينام عليه آدماً حشوه ليف.
وعن حفصة بنت عمر رضي الله تعالى عنها قالت: كان فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسحاً تثنيه ثنيتين، فينام عليه، فلم كان ذات ليلة ثنيته بأربع ثنيات، فلما أصبح قال: " ما فرشتموني " وقال " أفرشتموني الليلة " قالت: قلنا هو فراشك إلا أنا ثنيناه بأربع ثنيات قلنا هو أوطأ لك قال: " ردوه بحاله الأول فإنه منعتني وطأته صلاتي لليلة ".
حجامته صلى الله عليه وآله وسلم
عن أنس رضي الله عنه قال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حجمه أبو طيبة، فأمر له بصاعين من طعام، وكلم أهله فوضعوا عنه. وفي رواية ابن عمر رضي الله عنهما: دعا حجاماً فحجمه، وسأله كم خراجك، فقال ثلاثة أصع فوضع عنه صاعاً من خراجه وأعطاه أجره، وقال: " إن أفضل ما تداويتم به الحجامة " أو أن من أمثل دوائكم الحجامة. وروى الترمذي أيضاً أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم احتجم في الأخدعين وبين الكتفين، وأعطى الحجام أجره ولو كان حراماً لم يعط. وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى عليه وآله وسلم يحتجم في الأخدعين والكاهل، وكان يحتجم لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين.(1/50)
وعن أنس أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم احتجم وهو محرم بملل على ظهر القدم.
في أسمائه صلى الله عليه وآله وسلم
عن جبير بن مطعم عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " ان لي أسماء أنا محمد وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعدي نبي ". وعن حذيفة رضي الله عنه قال: لقيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض طرق المدينة، فقال: " أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي، وأنا نبي الرحمة، ونبي التوبة، وأنا المقفي، وأنا الحاشر ونبي الملاحم " قلت وروى غير الترمذي أن له أسماء أخر يطول عددها.
في سنه صلى الله عليه وآله وسلم
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مكث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة ثلاث عشرة سنة، يعني بعد نبوته، وبالمدينة عشراً. وعن عائشة رضي الله عنها: ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم مات وهو ابن ثلاث وستين.
في وفاته صلى الله عليه وآله وسلم
عن أنس رضي الله عنه قال: آخر نظرة نظرتها الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كشف الستارة يوم الاثنين، فنظرت الى وجهه، كأنه ورقة مصحف، والناس خلف أبي بكر فأشار الى الناس أن استولوا، وأبو بكر يؤمهم، وألقى السجف وتوفي من آخر ذلك اليوم. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بالموت، وعنده قدح فيه ماء، وهو يدخل يده في القدح، ثم يمسح وجهه بالماء، ثم يقول: " اللهم أعني على سكرات الموت أو سكرة الموت ". وعنها قالت: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، اختلفوا في دفنه، فقال(1/51)
أبو بكر رضي الله عنه: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً ما نسيته، قال: ما قبض الله نبياً إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه، ادفنوه في موضع فراشه. وعنها وعن ابن عباس أن أبا بكر قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدما مات، وفي روايتها الآخرى فوضع فمه بين عينيه، ووضع يديه على ساعديه، وقال: وانبياه واصفياه واخليلاه.
وعن أنس رضي الله عنه قال: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وما نفضنا أيدينا عن التراب، وأنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا، وعن سفيان بن عيينة عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الاثنين، فمكث ذلك اليوم وليلة الثلاثاء ويوم الثلاثاء، ودفن من الليل. وقال سفيان وقال غيره سمعت صوت المساحي من آخر الليل.
استخلافه أبا بكر في الصلاة
عن سالم بن عبيد رضي الله عنه وكانت له صحبة قال: اغمي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه، فإفاق، فقال: " حضرت الصلاة "؟ فقالوا: نعم. فقال: " مروا بلالاً فليؤذن، ومروا أبا بكر فليصل للناس "، او قال بالناس، ثم أغمي عليه، فأفاق، فقال: " مروا بلالاً فليؤذن، ومروا أبا بكر فليصل بالناس ". فقالت عائشة: ان أبى. وفي الحديث الآخر. ان أبا بكر رجل أسيف، اذا قام مقامك يبكي ولا يستطيع، فلو أمرت غيره، قال: ثم أغمي عليه، فأفاق، فقال: " مروا بلالاً فليؤذن ومروا أبا بكر فليصل بالناس "، فإنكن صواحب أو قال صواحبات. وفي الحديث الآخر. صويحبات يوسف، قال: فأمر بلال فأذن وأمر أبو بكر فصلى بالناس ثم إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجد خفة، فقال: " انظروا إلى من اتكىء عليه " فجاءته بريرة ورجل آخر فاتكأ عليهما، فلما رآه أبو بكر ذهب لينكص فأومى إليه أن يثبت مكانه ولفظه في صحيح مسلم ادعي لي أباك أبا بكر وأخاك، حتى أكتب كتاباً، فإني أخاف أن يتمنى متمن، ويقول قائل: انا ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر انتهى. رجعنا إلى لفظ الترمذي: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبض، فقال عمر: والله لا أسمع أحداً يذكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبض إلا ضربته(1/52)
بسيفي. هذا الحديث قال في آخره: فجاء أبو بكر حتى أكب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسه فقال: " إنك ميت وإنهم ميتون " فعلموا أنه قد صدق قلت وفي الحديث الآخر، ان أبا بكر رضي الله عنه لما خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس، قرأ " ومامحمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل " - آل عمران: 44 - قالوا: ياصاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتصلي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ال نعم. قالوا وكيف قال: يدخل قوم فيكبرون ويصلون ويدعون، ثم يخرجون حتى يدخل الناس الحديث.
قال فيه ثم أمرهم أن يغسله بنو أبيه، واجتمع المهاجرون يتشاورون، فقالوا: انطلقوا بنا إلى إخواننا من الأنصار، ندخلهم معنا في هذا الأمر، فقالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من له مثل هذه الثلاث " ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه " من صاحبه؟ لا تحزن إن الله معنا، مع من؟ ثم قال: ابسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده، فبايعه، وبايعه الناس بيعة حسنة جميلة. وعن أنس رضي الله عنه قال: لما وجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كرب الموت ما وجد، قالت فاطمة رضي الله عنها: واكرباه: فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " لا كرب على أبيك بعد اليوم، قد حضر بأبيك ما ليس بتارك منه أحدا، الموإفاة يوم القيامة ".
في ميراثه صلى الله عليه وآله وسلم
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: " لا تقسم ورثتي ديناراً ولا درهماً ما تركته بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة ". وفي الباب عن عمر وعائشة رضي الله عنهما وفي رواية عائشة رضي الله عنها: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ديناراً ولا درهماً ولا شاة ولا بعيراً. قال الراوي وأشك في العبد والأمة.
رؤيته صلى الله عليه وسلم في المنام
عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي ". وقي رواية أبي هريرة لا يتصور أو لا يتشبه بي. وفي رواية ابن عباس لا يستطيع أن يتشبه بي، فمن رآني في النوم فقد رآني. وفي رواية أبي قتادة من رآني يعني في النوم، فقد رأى الحق.(1/53)
وفي رواية أنس لا يتخيل بي، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: " رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة " انتهى ما لخصت من شمائله، مما رويناه في تصنيف الإمام الحافظ أبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي قلت ولما بلغ سماع هذا التاريخ علي إلى هذا المكان، اخبرني بعض الفقراء الصالحين المجردين الصادقين أنه رأى في المنام تاريخي هذا مكتوباً بالذهب في ورق أصفر بغدادي، ووصف من حسن ذلك ما لا يحضرني الآن ذكره، مما يستحسن ويجل قدره، وكان استماعه في الروضة الشريفة بازاء الحجرة المباركة المنيفة. وفي السنة الحادية عشرة أيضاً توفيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ورضي الله عنها، بعد وفاة أبيها بأشهر، وصحح بعضهم أنها ستة أشهر. ومن فضائلها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها: " إن فاطمة وفي الرواية الأخرى إن ابنتي بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما أذاها ".
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لها: " أما ترضين أن تكوني سيدة نساء الجنة؟ " تزوجها علي رضي الله عنهما، وعمرها خمس عشرة سنة وخمسة أشهر ونصف، وعمره إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر، ولم يتزوج عليها حتى ماتت، كأمها لم يتزوج عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى ماتت، وكانت إذا دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رحب بها، وكانت أشبه الناس بأبيها، ثلى الله عليه وآله وسلم في مشيتها وحديثها، ولما توفيت غسلتها أسماء بنت عميس وعلي رضي الله عنه وعن الجميع، ودفنها ليلاً..وفي السنة المذكورة توفيت أم أيمن حاضنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومولاته رضي الله عنها. ومن فضائلها: ان رسول الله صلى الله عه وآله وسلم كان يزورها، فلما توفي صلى الله عليه وآله وسلم، قال أبو بكر لعمر: رضي الله عنهما، انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يزورها.(1/54)
وفيها قتل عكاشة بن محصن الأسدي رضي الله عنه. ومن فضائله قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " أنت منهم " لما ذكر صلى الله عليه وآله وسلم أنه " يدخل الجنة من أمته سبعون ألفاً بغير حساب " فقال: ادع الله أن يجعلني منهم الحديث.
وفيها قتل خالد مالك بن النويرة الحنظلي مع رهط من قومه، وكان ممن منع الزكاة وهو من الرجال المعدودين، وفيه يقول أخوه.
لقد لامني عند القبور على البكا ... صحابي لتذارف الدموع السوافك
فقالوا أتبكي كل قبر رأيته ... لقبر ثوى بين اللوى والدكادك
فقلت لهم إن الشجى يبعث الشجى ... دعوني فهذا كله قبرمالك
قلت وبهذا البيت يستشهد أولو العرفان أن ذكر الشجى يهيج الأشجان ورؤية منازل الأحباب تورث الأحزان، عند تعطلها عن السكان، وفي ذلك يقول القائل.
كفى حزناً بالواله الصب أن يرى ... منازل من يهوى معطلة قفرا
قلت:
يذكرهم عيشاً بنعمان ناعماً ... حمام الحمى تعزي نسيم العواصف
ثير الصبا من كل صب صبابة ... فيصبو إلى عهد الصبا والمآلف
فهم بين مشتاق وباك وضاحك ... سروراً وصراخ وراج وخائف
لذكر اللقا والهجر والوصل والجفا ... وقرب وبعد ناشر جمع لاقف
وفي ناشر جمع لأقف معنيان أحدهما الإشارة إلى اللف والنشر المودعين هذين البيتين والثاني أن البعد ينشر الاجتماع وتفرقة بعد القرب.
السنة الثانية عشرة
فيها غزوة اليمامة - وقتل مسيلمة الكذاب - وفتحت اليمامة صلحاً على يد خالد بعد أن استشهد من الصحابة نحو من أربع مائة وخمسين، وقيل ست مائة، وقتل منهم ومن غيرهم من المسلمين ألفاً ومائتان رجل، ومن الصحابة زيد بن الخطاب، وكان أسن من عمر، وأسلم قبله، وكانت معه راية المسلمين يومئذ، فلم يزل يتقدم بها في نحر العدو حتى(1/55)
قتل، فوجد عليه عمر، وكان يقول: أسلم قبلي واستشهد قبلي، وما هبت الصبا إلا وانا أجدر ريح زيد، وأبو حذيفة بن عروة بن ربيعة. ومولاه سالم، وثابت بن قيس بن شماس وهو الخطيب الفصيح من الأنصار، كان يخطب عند ورود الوفود على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعليه أحال في الكلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لما أتى مسيلمة يطلب الملك بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له صلى الله عليه وآله وسلم: " لن تعدو قدر الله فيك وإذا أدبرت عقرك الله " وذهب وتركه خاسئاً. وقال هذا ثابت بن قيس بن شماس. واستشهد أيضاً أبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري الساعدي. ومن مناقبه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ سيفاً يوم أحد، فقال: من يأخذ هذا مني؟ فبسطوا أيديهم، كل إنسان منهم يقول أنا أنا قال فمن يأخذه بحقه؟ فأحجم القوم يعني تأخروا وكفوا، فقال سماك أبو دجانة: انا آخذه بحقه فأخذه فعلق به هام المشركين. قيل وإنه ممن شارك في قتل مسيلمة يوم اليمامة. ومن المقتولين بشر بن سعد الأنصاري. وعباد بن بشر. والطفيل بن عمرو الدوسي. قلت: وفي شهر ذي الحجة توفي صهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم زوج ابنته زينب أبو العاص بن الربيع القرشي العبشمي ابن أخت خديجة هالة بن خويلد، كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يثني عليه، وكانت العرب قد ارتدت ومنعت الزكاة، حتى لم يبق خطبة يخطب بها سوى في ثلاث مساجد: مسجدي الحرمين ومسجد ثالث في البحرين، وإلى ذلك أشار شاعر بقوله:
والمسجد الثالث الشرقي كان لنا ... والمنبران وفصل القول في الخطب
أيام لا منبر في الناس نعرفه ... إلا بطيبة والمحجوج ذي الحجب
فعزم أبو بكر رضي الله عنه على جهادهم، ووافقه أصحابه رضي الله عنهم بعد أن كانوا خالفوا في ذلك محتجين بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " من قال لا إله إلا الله فقد عصم دمه وماله " وكانوا قد متعوه الزكاة، فقال رضي الله عنه: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: الا بحق الإسلام وروى عصم دمه وماله إلا بحقه أي بحق المال. قال الشيخ الإمام أبو إسحاق الشيرازي: فانظر كيف منع من التعليق بعموم الخبر من طريقين أحدهما أنه بين أن الزكاة من حق المال فلم يدخل مانعها في عموم الخبر والثاني أنه بين أنه ينص الخبر في الزكاة كما خص في الصلاة فخص مرة بالخبر وأخرى بالنظر وهذه غاية ما ينتهي إليه المجتهد المحقق والعالم المدقق انتهى قلت ولم يزل بقاتلهم، ويجيش(1/56)
الجيوش عليهم حتى ردهم إلى الإسلام. وقام في ذلك مقاماً لم يقمه إلا نبي وإلى ذلك أشرت في الأبيات في ترجمته رضي الله عنه.
السنة الثالثة عشرة
فيها وقعة اجنادين بالنون بعد الجيم بقرب الرملة واستشهد يومئذ جماعة من الصحابة، ثم كان النصر والحمد لله تعالى وكان قد بعث الصديق فيها البعوث إلى الشام، وأمرعلى الجيش جماعة منهم أبو عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمه وعمرو بن العاص ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل ابن حسنة، وبعث إلى العراق خالد بن الوليد فافتتح الأبلة، أغار على السواد، وحاصر عين التمر، وأرى الفرس ذلاً وهواناً ثم خرق البرية إلى الشام واجتمع بجيوش المسلمين هنالك.
وفيا توفي ذو المجد والفخار علم المهاجرين والأنصار والسابق بالفضل والتصديق الخليفة المقدم أبو بكر الصديق عبد الله وقيلعتيق بن أني قحافة عثمان بن عامر التيمي القرشي رضوان الله تعالى عليهما في جمادى الآخرة عن ثلاث وستين سنة، وأوصى أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس، أن يكفن في ثوبيه، وقال: انما هما للبلى، والحي أولى بالجديد.
فصلى عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ودفن في حجرة ابنته عائشة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وإلى قربه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومصاحبته له حياً وميتاً. وإلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلا ". وإلى رده المرتدين عن دين الإسلام وقيامه في ذلك أحسن القيام أشرت بقولي في بعض القصيدات هذه الأبيات.
مقام نبي قام يوم ارتداد ... عن الإسلام والسيف أشهرا
إلى أن أطاعوه والإسلام رده ... إلى طيه من بعد ما قد تنشرا
فوالله لو كان النبي مخالبلاً ... خليلاً سوى الرب الذي خلقه برا
لكان أبو بكر خليلاً وسالقاً ... بخلته كلاً يميناً بلا افترا(1/57)
خليفته المرضي خير خليفة ... وصاحبه في الغار حياً وفي الثرى
وأشرت إلى ذلك أيضا في أخرى بقولي.
شيخ الوقار وثاني الغار شاهده ... في مجده القبة الحسناء والغار
مقدم الفضل والعليا له شرف ... في ذكر كتب أعداء له عار
وانجلى له مسفرات عن محاسنها ... بيض العلى عاليات الحسن أبكار
على أبي بكر الصديق فائحة من ... نشر علياه آصال وأبكار
وأشرت إلى ذلك أيضا في أخرى بقولي.
له مفخر في الغارحياً ومفخر ... له في الثرى في مضجع خير مضجع
أضاءت به ظلماً دياجي ارتدادهم ... رجوعاً إلى دين الهدى خير مرجع
وكم مفخر كم من مناقب كم علا ... وكم سؤدد في فضله المتنوع
فصديقهم ذو المجد سابقهم ... إلى علا كل فضل نافياً كل مبدع
وقد اقتصرت فيه على أربعة أبيات من كل واحدة من هذه القصائد المذكورات، وفيه يقول حسان رضي الله تعالى عنه.
إذا تذكرت شجواً من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها وأعدلها ... إلا النبي وأوفاها بما حملا
الثاني الثاني المحمود مشهده ... وأول الناس حقاً صدق الرسلا
ومناقبه مشهورة غير محصورة. ومن مناقبه رضي الله عه: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم " ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ " أي ثالثهما بالنظر والمعونة والتسديد والرعاية، وقول صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الله قد بعثني فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركون لي صاحبي؟ " فما أوذي بعدها الحديث.
قلت هذا نهاية المدح لأبي بكر رضي الله عنه، في صدق إيمانه وكمال يقينه، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم أخبر في هذا الحديث: انهم كذبوه في وجهه، وصدقه أبو بكر في غيبته، وهنا أبلغ ما يكون في التصديق والتكذيب، فإن الإنسان قد يصدق في الوجه ولا يصدق في الغيبة، ويكذب في الغيبة ولا يكذب في الوجه، وهذا واضح لمن تأمله، وهذا مما ظفرت إذ لا أعرف أحداً من العلماء ذكره. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لما قيل له: من أحب الناس إليك؟ قال: " عائشة ". قيل: ومن الرجال؟ قال: " أبوها ".(1/58)
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم له: " وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر "، لما ذكر أبواب الجنة الثمانية، من يدخل منها فقال أبو بكر هل يدعى منها كلها أحد؟. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر ". وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " يأبى الله ورسوله والمؤمنون إلا أبا بكر ". وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلأ ". وقول ابن عمر رضي الله عنهما: نخير بين الناس في زمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنخير أبا بكر ثم عمر ثم عثمان. كل هذه الأحاديث مروية في الصحاح. وفى صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " من أصبح منكم اليوم صائمأ؟ " قال أبو بكر: انا قال: " من تبع منكم اليوم جنازة؟ " قال أبو بكر: انا قال: " من أطعم اليوم منكم مسكيناً؟ " قال أبو بكر: انا قال: " من عاد منكم اليوم مريضاً؟ " قال أبو بكر: انا قال رسول الله صلى الله عليه وآلة وسلم: " ما اجتمعن في امرىء إلا دخل الجنة ". قال بعض العلماء: معناه دخل الجنة بلا محاسبة ولا مجازاة على قبيح الأعمال إلا فمجرد الإيمان يقتضي دخول الجنة بفضل الله تعالى. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه الترمذي " أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وما لأحد عندنا يد إلا وقد كافيناه بها إلا أبا بكر، فإن له عندنا يدأ يكافيه الله بها يوم القيامة، وما نفعني مال رجل ما نفعني مال أبي بكر، وما عرضت الإسلام على أحد إلا كان له كبوة إلا أبا بكر فإنه لم يتلعثم ". الحديث. ومن مناقبه أيضاً: مجيئه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بماله كله، وقوله الله ورسوله لما قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " ما تركت لأهلك " وغير ذلك مما يطول ذكره بل تعذر حصره. وروينا في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " بينما راع في غنمه عدا عليه الذئب فأخذ منها شاة، فطلبه الراعي، فالتفت الذئب إليه فقال: من لها يوم السبع يوم لبس لها راع غيري، وبينما رجل يسوق بقرة قد حمل عليها، فالتفت إليه فقالت: اني لم أخلق لهذا، لكنني إنما خلقت للحرث " فقال الناس: سبحان الله أبقرة تتكلم، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " فإني أومن بذلك وأبو بكر وعمر " وروينا في صحيح مسلم بتقديم قصه البقرة على قصة الشاة. قلت: وناهيك بهذا فضلاً وشرفاً لهما شهادته بالإيمان الكامل. مع كونهما أنهما كانا غائبين(1/59)
عن ذلك المجلس، كما في الحديث. قال العلماء: انما قال صلى الله عليه وآله وسلم ذلك لصدق إيمانهما: هما وقوة يقينهما، وفي ذلك لهما فضل ظاهر، وما ورد من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " ما فضلكم أبو بكر بكثرة صلاة، ولا صوم ولكن بشيء وقر في صدره " وما جاء أنه كان إذا تنفس يشم منه رائحة الكبد المشوية. واختلف في تسميته عتيقاً، فقيل لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " من سره أن ينظر إلى عتيق من النار فلينظر إلى أبي بكر ". وقيل لجمال وجهه، وهو في نسبه يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مرة بن كعب، وهو في العدد مثله بين كل واحد منهما وبين مرة ستة أباء، لأنه أبو بكر بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة وأمه سلمى وهي أم الخير بنت صخر بن عامر بن عمرو التيمية. ولد رضي الله عنه بعد عام الفيل بسنتين وأربعة أشهر إلا أياماً وهو أول من أسلم من الرجال رضي الله عنه، وكان خلافته سنتين وأشهراً، وولي الخلافة بعده عمر بن الخطاب باستخلافه له، فرضي المسلمون بذلك، ولم يختلف عليه اثنان. وفي السنة المذكورة توفي أمير مكة عتاب بن أسيد الأموي، واستعمله النبي صلى الله عليه وآله وسلم على مكة حين خروجه إلى حنين، فأقام للناس الحج تلك السنة.
السنة الرابعة عشرة
فتحت فيها دمشق في رجب صلحاً من أبي عبيدة وعنوة من خالد، ثم أمضيت صلحاً بعد أن حوصرت حصاراً طويلاً، وعزل عمر خالداً وجعل الأمر كله إلى أبي عبيدة بن الجراح، وخيف من فتنة تحدث من عزل خالد إذا بلغه الخبر، فلما بلغه ذلك قال: والله لو ولي علي عمر امرأة لسمعت وأطعت، فاستصوب ذلك منه واستحسن، وكان قد نفذه أبو بكر إلى العراق أميراً مقدماً لإقدامه وشجاعته، وعزله عمر لأنه كان يرد المهالك ويغدر بالمسلمين، ولأنه نازع أبا عبيدة وكان أميراً في الشام على المسلمين، وكان عمر يحب أبا عبيدة حباً شديداً، وكان يحفظ الغنائم مع قوله صلى الله عليه وآله وسلم واصفاً له أمين هذه الأمة. مع كون عمر قد أشار على أبي بكر رضي الله عنهما: بتقديم خالد في حرب بني حنيفة، وإنما عزله بعد ذلك لرجحان مصلحة ظهرت له في أبي عبيدة، كان المسلمون(1/60)
قد راجعوا عمر في أن يمضوا بالصلح.
وفي السنة المذكورة كانت وقعة جسر أبي عبيد، واستشهد يومئذ طائفة منهم أبو عبيد بن مسعود الثقفي، هو والد المختار الكذاب، وكان من أجلة الصحابة، وهذه الوقعة في مكان على مرحلتين من الكوفة. وعن الشعبي قال: قتل أبو عبيد في ثمان مائة من المسلمين. وفيها مصر البصرة عتبة بن غزوان، وأمر ببناء مسجدها الأعظم. وفيها فتحت بعلبك وحمص صلحاً. وهرب هرقل عظيم الروم إلى القسطنطينية.
السنة الخامسة عشرة
فيها وقعة اليرموك، كان المسلمون ثلاثين ألفاً، والروم أزيد من مائة ألف قد سلسلوا أنفسهم الخمسة والستة في سلسلة لئلا يفروا فداستهم الخيل. وقيل كان المسلمون أربعين أو خمسين ألفاً، والروم ألف ألف مع أربعة من ملوكهم، والرماة منهم مائة ألف، وجبلة بن الأيهم ملك غسان معهم بعدما ارتد هو وقومه من العرب لحقوا بهم فصدروهم لقتال المسلمين، وقالوا أنتم تلتقون بني عمكم من العرب فإن كفيتموناهم وإلا لقيناهم نحن، فتقدموا نحو المسلمين وهم ستون ألفاً، فبرز لهم من المسلمين ستون رجلاً انتقاهم خالد من قبائل العرب، فقاتلوهم يوماً كاملاً، ثم نصر الله ستين من المسلمين فهزموهم، وهرب جبلة، وقتلوهم حتى لم ينج منهم إلا القليل، ثم التقى المسلمون مع الروم مرة بعد أخرى حتى أبادوهم بالقتل، وهرب البقية من تحت الليل. واستشهد في اليرموك طائفة من المسلمين، منهم عكرمة بن أبي جهل وعياش بن أبي ربيعة المخزوميان، وكان عكرمة قد حسن إسلامه وقوي إيمانه، حتى كان إذا نظر في المصحف يبكي. وعبد الرحمن بن العوام أخو الزبير، وعامر بن أبي وقاص أخو سعد، فظهرت هناك نجدة جماعة من الصحابة منهم الزبير والفضل بن عباس وخالد بن الوليد في آخرين وعبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين.
وفي شوال وقعة القادسية بالعراق، وقيل كانت في سنة ست عشرة وأمير المؤمنين يومئذ سعد بن أبي وقاص ورأس المجوس رستم ومعه الجالينوس وذو الحاجب، وكان المسلمون نحواً من سبعة آلاف والمجوس ستين، وقيل أربعين ألفاً، وكان معهم سبعون فيلاً(1/61)
فحصرهم المسلمون في المدائن وقتلوا رؤوسهم الثلاثة المذكورين، وغيرهم. وممن استشهد عمرو ابن أم مكتوم الأعمى المؤذن المذكور في قوله تعالى " أن جاءه الأعمى ". وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم " وأبو زيد الأنصاري، واسمه سعد بن عبيد. وفيها افتتحت الأردن عنوة إلا طبرية، فإنها افتتحت صلحاً. وفيها توفي سعد بن عبادة سيد الخزرج بحوران في جش فمات لوقته. فيقال إن الجن أصابته، وأنه سمع قائلاً في بعض آبار المدينة يقول:
نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة ... ورميناه بسهم فلم يخط فؤاده
قلت قوله نحن من الخرم المعروف في علم العروض بالخاء المعجمة وهو ما يزاد في أول البيت زائداً على وزنه وأكثر ما يكون أربعة أحرف.
السنة السادسة عشرة
فيها افتتحت حلب وانطاكية صلحاً، وفيها مصر سعد بن أبي وقاص الكوفة، وأنشأها وفيها نزل عمر رضي الله عنه على بيت المقدس، وكان المسلمون قد حاصروا تلك المدينة المباركة، وطال حصارهم، فقال لهم أهلها: لا تتعبوا فلن يفتحها إلا رجل نحن نعرفه، له علامة عندنا فإن كان إمامكم به تلك العلامة سلمناها له من غير قتال، فأرسل المسلمون إلى عمر يخبرونه بذلك، فركب رضي الله تعالى عنه راحلته، وتوجه إلى بيت المقدس، وكان معه غلام له يعاقبه في الركوب نوبة بنوبة، وقد تزود شعيرأ وتمراً وزيتاً، وعليه مرقعة، لم يزل يطوي القفار الليل والنهار إلى أن قرب من بيت المقدس، فتلقاه المسلمون، وقالوا له: ما ينبغي أن يرى المشركون أمير المؤمنين في هذه الهيئة، ولم يزالوا به حتى ألبسوه لباساً غيرها، وأركبوه فرساً، فلما ركب وهسل به الفرس، داخله شيء من العجب، فنزل عن الفرس، ونزع اللباس ولبس المرقعة، وقال أقيلوني، ثم سار في هذه الهيئة إلى أن وصل، فلما رآه المشركون من أهل الكتاب كبروا، وقالوا: هذا هو، وفتحوا له الباب.
وفيها توفيت مارية القبطية أم ابراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. اهداها له المقوقس ملك الاسكندرية ومصر.(1/62)
السنة السابعة عشرة
فيها استسقى عمر بالعباس رضي الله عنهما، وقال ما معناه: اللهم أنا كنا إذا قحطنا توسلنا إليك بنبينا صلى الله عليه وآله وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك اليوم بعم نبينا فاسقنا. فسقوا، ثم خرج عمر فيها إلى جهة الشام ورجع لما سمع بالطاعون، بعد ان اختلف المسلمون في ذلك، فأشار عليه بعضهم بالقدوم وأشار بعضهم بالرجوع، فلما عزم على الرجوع قال له أبو عبيدة: افراراً من قدر الله تعالى؟ فقال: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة. نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله. ثم ضرب له مثلاً في ذلك معناه أن موضع الخصب يرعى وفي يرغب وموضع الجدب لا يقرب، ثم جاء عبد الرحمن بن عوف، روى لهم حديثاً موافقاً لرأي عمر، معناه أنه لما سمع بالوباء بأرض لا يقدم عليه، وإذا وقع بأرض هو فيها لا يخرج منها، ففرح عمر بذلك، وحمد الله تعالى إذ وافق رأيه الحديث المذكور، وهذا كله معنى الحديث الصحيح الوارد في ذلك. وفي السنة المذكورة زاد عمر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيها افتتح أمير البصرة أبو موسى الأشعري الأهواز، وفيها كانت وقعة جلولاء، وقتل فيها من المشركين مقتلة عظيمة، وبلغت الغنائم فيها ثمانية عشر ألف ألف، وقيل ثلاثين ألف ألف، وفيها تزوج عمر رضي الله عنه بأم كلثوم بنت فاطمة الزهراء، رضي الله عنهما.
السنة الثامنة عشرة
فيها طاعون عمواس بالعين والسين المهملتين وفتح الأحرف الثلاثة الأولى في ناحية الأردن فاستشهد فيها أبو عنيدة بن الجراح القرشي الفهري أمين هذه الأمة وأمير أمراء الشام، وهو ممن شهد بدراً وما بعدها من المشاهد، وهو الذي انتزع من وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حلقتي الدرع، والمراد به المغفر ومن مناقبه العظيمة: قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن لكل أمة أميناً وإن أمينك أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح ". حديث صحيح. وكان من أجمل الناس وجهاً وأشجعهم قلباً، شهد مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض الغزوات، وحجة الوداع، وأردفه خلفه. وممن استشهد فيه أيضاً الفضل بن عباس، ومعاذ بن جبل الأنصاري الخزرجي.(1/63)
وعمره ست وقيل ثمان وثلاثون سنه، وفضائله مشهوره.
ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم والله: " إني لأحبك يا معاذ " ومنها أنه بعثه صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن قاضياً، وقال له " بم تقضي؟ " قال: بكتاب الله. قال: " فإن لم نجد؟ " قال: بسنة رسول الله. قال: " فإن لم نجد؟ " قال: اجتهد برأيي. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه رسول الله " ومعلوم أنه لا يبعث صلى الله عليه وآله وسلم قاضياً إلا عالماً أميناً، ويكفيك في علمه أنه بين طرق الأحكام فأجاد. قلت فإن قيل: ومن طرق الأحكام أيضاً الإجماع ولم يذكره معاذ فالجواب إن حكم الإجماع متعذر مع بقائه صلى الله عليه وآله وسلم ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: " وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ " الحديث ومنها أنه من الأربعة الذين جمعوا القرآن من الخزرج، وذكر بعض المؤرخين أنه لا خلاف أنه الذي بنى مسجد الجند. وفي السنة المذكورة توفي يزيد بن أبي سفيان بن حرب الأموي. وأبو جندل بن سهيل. وأبوه سهيل بن عمر والقرشي العامري كان من رؤوس قريش وخطبائها البلغاء الفصحاء، موصوفاً بالحلم والعقل، قام بمكة يوم مات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تسكين الناس، مثل ما قام أبو بكر في المدينة بعدما خاف أمير مكة عتاب بن أسيد وتعب، ولعل هذا المقام الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله لعمر لعله يقوم مقاماً تحمده عليه، لما قال له عمر: دعني أكسر ثناياه حتى لا يقوم عليك خطيباً بعدها في قريش، بقوله في منصرفهم من بدر بأسرى قريش وهو فيهم. قلت ومن عقله وحلمه ما ذكر أهل السير أنه قدم المدينة في جماعة من شيوخ قريش، منهم أبو سفيان بن حرب. فاستأذنوا على عمر، فلم يأذن لهم، واستأذن عليه أناس من فقراء المسلمين وضعفائهم، فأذن لهم، فقال أبو سفيان، يا معشر قريش: ما رأيت كاليوم عجباً، انه ليؤذن لهؤلاء المساكين، او قال الموالي فيلجون، وكبار قريش في الباب تسقى في وجوههم الريح التراب، ولا يلتفت إليهم، فقام سهيل بن عمرو وقال: تالله إني لأرى ما في وجوهكم من الغضب، فإن كنتم ولا بد غاضبين فاغضبوا على أنفسكم، فإن الله تعالى دعا هؤلاء فأسرعوا، ودعاكم فأبطأ ثم، والله إن الذي سبقوكم فيه، من الخير خير من الذي تنافسون فيه في هذا الباب، ولا أرى لأحد منكم أن يلحق بهم إلا أن يخرج إلى هذا الوجه من الجهاد، لعل الله تعالى يرزقه الشهادة، ثم ركب وسافر إلى الشام ليجاهد مع من فيه من المسلمين، قال الحسن البصري: بعد كلامه في هذه القضية: لله دره ما أعقله!.(1/64)
قلت ومن عقله أيضاً انه كان يقرأ القرآن على بعص الموالي بمكه، ويتردد إليه، فعاب عليه بعض المتكبرين من قريش، فقال سهيل ما معناه: هذا الكبر والله الذي حال بيننا وبين الخير. ولما رآه صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحديبية مقبلاً رسولاً من قريش قال سهل لكم أمركم، م وقع الصلح على يده. وفي السنة المذكورة مات شرحبيل ابن حسنة. والحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي، كلاهما من الرؤوس الجلة وقيل إن الحارث المذكور استشهد في اليرموك، وهو أخو أبي جهل بن هشام، وفيها افتتحت حران والموصل والسوس وتستر.
السنة التاسعة عشرة
فيها فتحت تكريت وقيساريه، وتوفي أبو المنذر أبي بن كعب الأنصاري الخزرجي سيد القراء، رضي الله عنه على اختلاف في زمان موته في أي سنة هو وسيأتي ذكره بعد. ويزيد بن أبي سفيان على الخلاف المتقدم.
سنة عشرين
فيها افتتح عمرو بن العاص بعض ديار مصر، وتوفي بلال بن حمامة الحبشي مؤذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بداريا من بلاد الشام وفضائله مشهورة: منها تقدمه بالإسلام، وصبره على تعذيبه واذائه، وجد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم له تجاهه في الجنة. ولما حضرته الوفاة كانت امرأته تقول: واحزناه وهو يقول: واطرباه غداً نلقى الأحبة محمداً وحزبه. وفيها توفيت أم المؤمنين زينب بنت جحش القرشية الأسدية رضي الله عنها، ومن فضائلها: قوله تعالى " فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها " - الأحزاب: 37 - وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لنسائه: " اسرعكن لحاقاً بي أطولكن يداً " وكانت أطولهن يدا في الصدقة والجود وفعل الخير، فماتت أولهن، فعلموا أن المراد طول اليد في الصدقة والجود، وكانت سودة أطولهن يداً بالجارحة، وزينب هي التي كانت تسامي عائشة في المنزلة. وفيها توفي أبو الهيثم بن التيهان الأنصاري وهو الذي قصده النبي صلى الله عليه وآله(1/65)
وسلم وأبو بكر وعمر فأكرمهم، وقال: من أكرم اليوم منا ضيفاً؟. وفيها توفي أسيد بن حضير الأنصاري، وهو الذي رأى السكينة عند قراءة القرآن، والذي قال: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، لما نزلت آية التيمم لما وقفوا في السفر على غير ماء عند فقد عائشة رضي الله عنها العقد. وفيها توفي عياض بن غنم الفهري نائب أبي عبيدة على الشام، وفيها توفي أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي، وسعيد بن عامر الجمحي، وهرقل ملك الروم، وقيل قتل مسلماً في الباطن.
سنة إحدى وعشرين
فيها فتح مصر وتوفي الأمير الكبير البطل الشهير ميمون النقيبة ذو الهمة النجيبة سيف الله أبو سليمان خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي ابن ستين سنة على فراشه بعد ارتكابه العظائم بين القتا والصوارم في كثير من المعارك، فسلمه الله من المهالك، وهو من بعثه صلى الله عليه وآله وسلم: الى اليمن، ومناقبه مشهورة ويكفي فيها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ثم " أخذها يعني الراية سيف من سيوف الله عن غير إمرة ففتح الله على يده ". وفيها وقعة نهاوند. دامت المصاف فيها ثلاثة أيام، ثم جاء النصرة، واستشهد أمير المؤمنين النعمان بن مقرن المزني، وكان من سادات الصحابة، فنعاه عمر للناس على المنبر، وأخذ حذيفة بن اليمان الراية من بعده، ففتح الله على يده، وولى عمار بن ياسر إمامة الصلاة بالكوفة، لما شكا أهلها سعد بن وقاص، وولى عبد الله بن مسعود بيت المال. وفيها توفي العلاء بن الحضرمي، استشهد فيها بنهاوند طليحة بن خويلد الأسدي، وكان قد ارتد وادعى النبوة، ثم أسلم وحسن إسلامه، وكان يعد بألف فارس.
سنة اثنتين وعشرين
فيها فتح آذربيجان على يد المغيرة بن شعبة، ومدينة نهاوند صلحاً والدينور مع همدان عنوة على يد حذيفة، وطرابلس المغرب على يد عمرو بن العاص. وفيها افتتحت جرجان، وتوفي أبي بن كعب مع خلاف تقدم فيه في التاسعة عشر. ومن مناقبه أنه من الأربعة الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله(1/66)
وسلم وكلهم من الأنصار: معاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وأبو زيد فييما رواه مسلم وروى غيره حفظ جماعات من الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذكر بعض العلماء منهم خمسة عشر صحابياً، وثبت في الصحيح قتل يوم اليمامة سبعون ممن جمع القرآن، وكانت اليمامة قريباً من وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهؤلاء ممن جمعوه وقيل فكيف بالذين جمعوه ولم يقتلوا، وهذا يرد على بعض الملاحدة في ادعائه عدم تواتر القرآن. ومن مناقب أبي أيضاً قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " وأقرأكم أبي " وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الله أمرني أن أقرأ عليك لم يكن الذين كفروا " قال: وسماني؟ قال: نعم. قال: فبكى، وفي رواية فجعل يبكي، وكان بكاؤه مسروراً واستصغاراً لنفسه عن تأهله لهذه النعمة العظيمة والمنزلة الكريمة. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم " ليهنك العلم أبا المننر والأربعة المذكورون الذين حفظوا القرآن من الأنصار كلهم من الخزرج ". وفي الأوس أربعة لهم مناقب يقابل بهم هؤلاء الأربعة، وهم سعد بن معاذ الذي اهتز لموته عرش الرحمن، وحنظلة بن الراهب غسيل الملائكة، وقتادة بن النعمان الذي رد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عينه بعدما سألت، وذو الشهادتين خزيمة بن ثابت رضي الله تعالى عنهم.
سنة ثلاث وعشرين
فيها توفي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب القرشي العدوي رضي الله عنه شهيدأ، طعنه غلام المغيوة بن شعبة في صلاة الصبح لليالي بقين من ذي الحجة. ومن مناقبه: قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " بينما أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا امرأة إلى جانب قصر فقلت لمن هذا القصر قالوا لعمر " الحديث أخرجه البخاري. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " بينما أنا نائم إذ رأيت قدحاً أوتيت به وفيه لبن فشربت منه حتى انظر إلى الري يجري في ظفري ". او قال في أظفاري " ثم ناولت عمر " قالوا فما أولت؟ قال: " المعلم ". رواه مسلم. وفي رواية الترمذي قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " رأيت كأني أتيت بقدح لبن فشربت منه فأعطيت فضلي عمر بن الخطاب "(1/67)
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " بينما أنا نائم رأيت الناس عرضوا علي وعليهم قميص منها ما يبلغ الثدي ومنها ما يبلغ دون ذلك وعرض علي عمر وعليه قميص اجتره " قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: " الدين ". رويناه في الصحيحين وفي رواية مسلم يجره. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " إيه يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك " رواه البخاري. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم " لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون، فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر ". رويناه في الصحيحين واللفظ للبخاري.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم وقد رجف بهم أحد ومعه أبو بكر وعمر وعثمان: " اثبت فما عليك إلا نبي أوصديق أو شهيد ". وفي حديث آخر " أو شهيدان " رواه البخاري. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " رأيت في المنام أني أنزع بدلو وبكرة على قليبة "، وذكر أبا بكر إلى أن قال: " ثم جاء عمر " فاستحالت غرباً فلم أرعبقرياً يفري فرية حتى روى الناس وضربوا بعطن. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في كلام السبع: " فإني أؤمن بذلك وأبو بكر وعمر " كما تقدم. وقول علي رضي الله عنه لما توفي عمر: ما خلفت أحداً أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك وأيم الله إن كنت أظن أن يجعلك الله مع صاحبيك وحسبت أني كنت كثيراً أسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " ذهبت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر " رواه البخاري وفي الترمذي قال صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بكر وعمر: " هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين ". وروى أبو داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " إن أهل الدرجات العلى ليتراءون من تحتهم كما تراؤون النجم الطالع في أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما ". ومما جاء في فضل عمر أيضاً ما كشف له عند قوله يا سارية الجبل. والحديث المشهور أنه سراج أهل الجنة. وقول عمر رضي الله عنه في الحديث الصحيح: وافقت ربي في ثلاث في مقام ابراهيم، وفي الحجاب، وفي أسرى بدر، قلت: وقد وافق القرآن أيضاً في ثلاث أخرى مذكورة بنصوص أخرى: وهي عسى ربه أن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً(1/68)
منكن. وفي منع الصلاة على المنافقين، وفي تحريم الخمر، وبشره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالجنة، وكذا بشر أبا بكر وعثمان يوم بيراريس، شهد له النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الله تعالى جعل الحق على لسانه وقلبه.
وروي أنه قال صلى الله عليه وآله وسلم: " لو كان نبياً بعدي لكان عمر ". وقال في وصف أمته صلى الله عليه وآله وسلم: " وأشدهم في الله عمر ". وكانت أيامه باهجة زاهرة وسيرته الحسناء محمودة فاخرة، والعناية مؤيدة له ناضرة، وتوفي وعمره ثلاث وستون سنة، وقيل خمس وخمسون، وخلافته عشر سنين وسبعة أشهر وخمس ليال، وقيل غير ذلك ودفن مع صاحبيه في حجرة عائشة رضي الله عنها، بعد أن استأذنها في حياته، وأوصى أن يستأذن أيضاً بعد موته، فأذنت وهو في نسبه يجتمع مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كعب بن لؤي، بينه وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبعة آباء، وبينه وبين عمر ثماني آباء، لأنه عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي. وقد روي عن بعض السلف الأخيار وهو سليمان بن يسار رحمه الله أنه قال: ناحت الجن على عمر رضي الله عنه.
عليك سلام من أمير وباركت ... يد الله في ذاك الأديم الممزق
قضيت أموراً ثم غادرت بعدها ... بوائق في أكمامها لم تفتق
فمن يسع أو يركب جناحي نعامة ... ليدرك ما قدمت بالأمس يسبق
أبعد قتيل بالمدينة أظلمت ... له الأرض يهتز العصاة بأسوق
وفضائله أشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تحصر، وسيرته أحسن من أن تمدح وتشهر، وإلى شيء من فضائله أشرت بقولي:
وفاروقهم ما في الطغا منه بالوغا ... لقيصر إرعاد وكسرى وتبع
ومن عجب أن الملوك تهابه ... ويخشاه ناء في قميص مرقع
أبى عن لذيذ العيش محدث منزل ... وعش، نداه مخصحب كل مرتع
سراج جنان الخلد محمود سيرة ... نطوق بحق خائف متورع
وقولي في أخرى.
أقام شعار الدين أعلى منارة ... على همة فيه وجل وشمرا
له سيرة محمودة فيه هيبة ... ومن مهجة الشيطان يبعد مدبرا
إذا قال قولاً وافق هيبة ... نطوق بحق ليس في ذاك امترا(1/69)
لسان هدى لا يخشى لومة لائم ... إدا لامه في الله أو فيه عيرا
وقولي في أخرى.
ومظهر الدين في أعزازه عمر ... مذلل الكفر قد هابته كفار
سراج جنات عدن منه باهجة ... رياضها الغربا لأنوار زهار
ولما حضرته الوفاة، قيل له: الا تستخلف؟ قال: لا أتحملها حياً وميتاً فروجع في ذلك، فقال: الخليفة بعدي أحد هؤلاء الستة. وذكر عثمان وعلياً وطلحة والزبير وسعداً وعبد الرحمن بن عوف، جعل الأمر شورى بينهم، فتشاوروا، ثم أمضى الأمر إلى عثمان رضي الله عنهم أجمعين. وفي السنة المذكورة توفي قتادة بن النعمان الظفري الذي وقعت عينه يوم أحد فردها النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكانها، فكانت أحسن عينيه، وفي ذلك يقول ابنه: لما سأله بعض الخلفاء من بني أمية من أنت.
أنا ابن الذي سألت على الخد عينه ... فردت بكف المصطفى أحسن الرد
وكان قتادة المذكور بدرياً نزل في قبره عمر رضي الله عنهما.
سنة أربع وعشرين
في أولها بويع ذو النورين عثمان رضي الله عنه بالخلافة، وقد أوضحت كيفية بيعته في كتاب: في علم الأصول، وتوفي فيها سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي، وكان إسلامه حسناً.
سنة خمس وعشرين
فيها انتقض أهل الري فغزاهم أبو موسى الأشعري، أهل الاسكندرية فغزاهم عمرو بن العاص، فقتل وسبا، واستعمل عثمان على الكوفة أخاه لأمه الوليد بن عقبة بن أبي معيط، فجهز سليمان بن ربيعة الباهلي في اثني عشر ألفاً إلى برذعة فقتل وسبا.(1/70)
سنة ست وعشرين
فتحت سابور على يد عثمان بن أبي العاص، صالحهم على ثلاثة آلاف ألف درهم، وزاد عثمان في المسجد الحرام.
سنة سبع وعشرين
فيها ركب معاوية بالجيش في البحر، وغزا قبرص، لت هذا ذكره بعض المؤرخين قبرس بالسين دون الصاد. وقيل كانت هذه الغزوة في
سنة ثمان وعشرين، وعزل عمرو بن العاص بعبيد الله بن سعد بن أبي سرح عن مصر، فغزا عبيد الله إقليم إفريقية وافتتحها، فأصاب كل إنسان ألف دينار، وقتل ملكهم جرجير، وكان في مائة ألف، وبلغ سهم الفارس وفرسه ثلاثة آلاف دينار. وفيها توفيت أم حرام بنت ملحان بقبرس، كانت مع زوجها عبادة بن الصامت رضي الله عنهما.
سنة ثمان وعشرين
فيها انتقض أهل آذربيجان، غزاهم الوليد بن عقبة، ثم صالحوه.
سنة تسع وعشرين
فيها افتتح عبد الله بن عامر بن كريز بالمثناة من تحت بين الراء والزاي مدينة اصطخر عنوة بعد قتال عظيم. وفيها عزل عثمان أبا موسى عن البصرة، وعثمان بن أبي العاص عن فارس، وجمع لعبد الله بن عامر، وكان شهماً شجاعاً، فافتتح فتحاً كبيراً بلاد فارس، ثم بلاد خراسان جميعاً في
سنة ثلاثين.
سنة ثلاثين
فيها توفي حاطب بن أبي بلتعة، وكان بدرياً، وفيه قال صلى الله عليه وآله وسلم: لما(1/71)
قال عمر: دعني أضرب عنقه لما كتب إلى قريش بعلمهم بعزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قصد مكة بالعساكر لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: " اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ". وفي حاطب المذكور نزل قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة " - الممتحنة: 1 -. ولما قيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ليدخلن حاطب النار: قال صلى الله عليه وآله وسلم: " كذبت لا يدخلها فإنه شهد بدر أو الحديبية ". وفيها افتتح ابن عامر سجستان مع فارس وخراسان، هرب ابن كسرى، واعتمر ابن عامر، فاستخلف الأحنف بن قيس على خراسان، اجتمعوا جمعاً لم يسمع بمثله، فالتقاهم الأحنف فهزمهم، ولما كثرت الفتوحات في العام المذكور، وأتى الخراج من كل جهة، اتخذ عثمان له الخزائن، وقسمه وكان يأمر للرجل بمائة ألف.
سنة إحدى وثلاثين
تكامل فيها فتح خراسان، وتوفي أبو سفيان بن حرب الأموي، وقيل في السنة الآتية ومما حصل له من المناقب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما روينا في الصحيح أنه قال: يا نبي الله ثلاث أعطيكهن قال نعم قال عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها قال نعم، قال: ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك، قال: نعم، وقال وتؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، قال: نعم. قال: ابو زميل بضم الزاي وفتح الميم وسكون المثناه من تحت وهو راوي ذلك عن ابن عباس لولا أنه طلب ذلك من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما أعطاه، ذلك لأنه لم يكن يسأل شيئاً إلا قال نعم. قلت هذا الحديث مشكل عند المحدثين لأن أبا سفيان ما أسلم إلا يوم فتح مكة، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد تزوج بأم حبيبة قبل ذلك بزمن طويل، تزوجها وهي في أرض الحبشة كانت مع الذين هاجروا من المسلمين إلى أرض الحبشة، وأبو سفيان المذكور هو المقدم رئيس قريش بعد رؤوسهم المقتولين في بدر، وذهبت كلتا عينيه في الجهاد، احداهما في تبوك، والأخرى في اليرموك. وفيها توفي الحكم بن أبي العاص الأموي والد مروان قرابة عثمان عفان رضي الله عنه، وكان يفشي سر النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قيل: كان يحاكيه في مشيه فطرده صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف، فلم يزل طريداً إلى أن استخلف عثمان فأدخله المدينة، واعتذر لما طعن في ذلك بأنه كان قد شفع فيه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوعده برده.(1/72)
قلت هكذا رأيت أن أذكر عذر عثمان رضي الله تعالى عنه في ذلك. وأما قول الذهبي: طرده النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما استخلف عثمان أدخله المدينة وأعطاه مائة ألف من غير ذكر عذر لعثمان، فإطلاق قبيح يستشنعه كل ذي إيمان بفضل الصحابة أولي الحق والإحسان.
سنة اثنتين وثلاثين
فيها توفي العباس عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابن ست وثمانين سنة ومن مناقبه من عقبه جميع الخلفاء المعروفين ببني العباس، وأن عمر رضي الله تعالى عنه استسقى به في خلافته بكونه عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسقوا. وكان يوم حنين هو وابن أخيه أبو سفيان بن الحارث، احدهما آخذ بلجام بغلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والآخر آخذ بركابها لما انهزم المسلمون إلا جماعة منهم، فأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يبادي بأصحاب الشجرة ثم بالأنصار، فردوا لما عرفوا صوته وكان صيتاً ينادي من جبل صلع غلمانه وهم في الغابة من آخر الليل، فيسمعهم، ومسافة ذلك قدر ثمانية أميال. وتوفي في السنة المذكورة عبد الرحمن بن عوف الزهري، احد العشرة المشهود لهم بالجنة، وصنائعه معروفة، وسعة غنائه بالمكارم محفوفة منها أنه باع مرة أرضاً بأربعين ألف دينار، فتصدق بها، ومنها ما ورد أنه تصدق بعير له كبيرة أقبلت من الشام، وبما عليها من أنواع البضائع. قلت وذكر الشيخ الحافظ أبو عبد الله محمد بن عمران بن موسى المرزباني في كتاب المقتبس قال: قتل عبيد الله بن معمر التيمي لأربعين سنة برستاق من رساتيق اصطخر في زمن عثمان بن عفان، ولم يبين في أي سنة، وقال اشترى عبيد الله بن معمر جارية فارهة بعشرين ألف دينار، كانت تسمى الكاملة في عمل الغناء وجودة الضرب ومعرفة الألحان والقرآن والشعر والكتابة وفنون الطبيخ والعطر، وكانت عند فتى قد أدبها لنفسه، وكان بها معجباً وواجداً بها وجداً شديداً، فلم يزل ينفق عليها حتى أتلف واحتاج، فحمل يسأل اخوانه. قلت ذلك حيناً، وهو في نكد وضيق شديد في معيشتهما، فقالت الجارية والله إني لأرى لك، وأشفق عليك، وأرغب بك، عن ما أنت فيه، ولو أنك بعتني، نلت غنى الدهر ولعل الله أن يصنع لنا جميلاً، فحملها إلى عبيدة الله بن معمر فأعجبته، فاشتراها بالثمن المذكور، فلما قبض الفتى المال، استشعر كل واحد منهما إلى صاحبه فأنشدت.
هنيئاً لك المال الذي قد حويته ... ولم يبق في كفي إلا تفكري
أقول لنفسي وهي في عين كربة ... أقلي فقد بان الحبيب أو اكثري(1/73)
إذا لم يكن للمرء عندك حيلة ... ولم تجد شيئاً سوى الصبر فاصبر
فقال الفتى:
ولولا قعود الدهر بي عنك لم يكن ... يفرقنا شيء سوى الموت فاعذري
أبوء بحزن من فراقك موجع ... أناجي به قلباً طويل التفكر
عليك سلام لا زيارة بيننا ... ولا وصل إلا أن يشاء ابن معمر
فقال عبيد الله ورق لهما خذ بيدها، وانصرفا راشدين، والمال الذي نقدته في ثمنها أنفقه عليها، والله لا أخذت منه درهماً، او قال شيئاً قال ومات ابنه عمر بالشام في موضع يقال له ضمير بضم الضاد المعجمة، قيل الراء مثناة، رثاه الفرزدق بأبيات أولها.
يا أيها الناس لا تبكوا على أحد ... بعد الذي بضمير وافق القدرا
كانت يداه لكم سيفاً يعاذ به ... من العدو وغيثاً ينبت الشجرا
أتى قريش أبو حفص فقد رزيت ... بالشام أو فارقتك الناس والظفرا
وفي السنة المذكورة توفي مقر الفضائل والسعود عبد الله بن مسعود الهذلي رضي الله عنه ومن مناقبه رضي الله عنه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " خذوا القرآن عن أربعة وذكر منهم ابن مسعود ". ومنها أنه كان هو وأمه من رآهما حسب أنهما من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كثرة دخولهما ولزومهما له، ومنها إنه كان عالماً بكتاب الله، قال ولقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إني أعلمهم بكتاب الله، ولو أعلم أن أحداً أعلم مني لرحلت إليه. قال الراوي: فجلست في حلق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فما سمعت أحداً يرد ذلك عليه ولا يعيبه.
قال العلماء وفي هذا دليل بجواز ذكر الإنسان بنفسه بالفضيلة والعلم ونحوه للحاجة، ومناقبه كثيرة شهيرة وهو الذي جز رأس أبي جهل يوم بدر بعد ما أثخنته الجراح من الأنصاريين، ولم يبق فيه إلا الرمق. وروي أن أبا جهل قال لما أراد أن يجز رأسه: لقد رقيت مرقى صعباً يا رويغى الغنم وكان رضي الله عنه مفتياً مرجوعاً إليه في المشكلات، بالاتفاق بين علماء الحجاز والشام والعراق، وهو الذي أشار إليه بعض الصحابة: لا تسألوني عن شيء، ما دام هذا الحبر بين أظهركم.
وفي السنة المذكورة توفي أبو الدرداء عويمر بن زيد وقيل ابن عبيد الله الأنصاري(1/74)
الخزرجي، أسلم بعد بدر، وكان حكيم هذه الأمة، ولي قضاء دمشق، وفضائله معروفة ومحاسنه موصوفة، وكان سلمان مواخياً له، وكان يغذ له فيما هو فيه من شدة المجاهدة، وهو القائل لامرأته أم الدرداء لما قالت له ما عندنا شيء يعني من النفقة: يا هذه إن بين أيدينا عقبة كؤدا لا يجوزها إلا المحققون. ولما دخل بيتهم رآها متبذلة، قال لها: ما شأنك؟ قالت: ان أخاك ليس له حاجة في الدنيا. فوعظه وقال إن لربك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، واضيفك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، فاعط كل ذي حق حقه. وفيها توفي أبو ذر جندب بن جنادة الغفاري الذي عند انتهاك المحارم لا تأخذه في الله لومة لائم وفضائله كثيرة، منها تقدم إسلامه وما تحمل فيه من الشدائد عند إعلانه بالصدق بين ظهراني في كل كفور من قريش معايذاً، ما لاقى في ضمن ذلك من المحن، وتغذيه بماء زمزم حتى ظهر فيه السمن. وتوفي أبو سفيان بن حرب على خلاف فيه تقدم، وعبد الله بن يزيد بن عبد ربه الأنصاري الذي أري الأذن وكان بدرياً.
سنة ثلاث وثلاثين
فيها توفي المقداد بن الأسود الكندي، وقد شهد بدراً، وهو القائل يومئذ: والله يا رسول الله ما نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى " اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون " ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك ومن أمامك ومن خلفك. فسر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، حتى رؤي البشر في وجهه، وكان يومئذ فارساً قطعاً. وفي الزبير اختلاف دون غيرهما بلا اختلاف، وفضائله في الشجاعة والنجابة معروفة، وهو من الصحابة، وفيها غزا عبد الله بن سعد بن أبي سرح بلاد حبشة.
سنة أربع وثلاثين
فيها أخرج أهل الكوفة سعيد بن العاص، رضوا بأبي موسى، وكتبوا فيه إلى عثمان، فأمره عليهم، ثم رد عليهم سعيد، فخرجوا ومنعوه. وفيها توفي أبوطلحة الأنصاري أحد النقباء ليلة العقبة، الذي قال فيه صلى الله عليه وآله وسلم: " صوت أبي طلحة في الجيش خير من فئية " وعبادة بن الصامت الخزرجي أحد النقباء ليلة العقبة مات بالرملة، قيل بالقدس، بعد أن ولى قضاءها. وفيها توفي أعلم أهل الكتاب به وبالآثار المشهور بكعب الأحبار، اسلم في زمان أبي(1/75)
بكر وروى عن عمر، وفيها توفي مسطح بن أثاثة وكان بدرياً.
سنة خمس وثلاثين
فيها توفي عامر بن ربيعة وعبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، وكان جليلاً نبيلاً من أحسن الناس وجهاً، ولاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجند بفتح الجيم والنون ومخاليفها من بلاد اليمن. وفي أواخر السنة المذكورة حصر المصريون عثمان بن عفان القرشي الأموي رضي الله عنه ليخلع نفسه من الخلافة، ولم يزالوا حاصرين له إلى أن آن الوقت الذي تصيبه فيه المصيبة التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: " فتح له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه ". والتي أشار صلى الله عليه وآله وسلم إلى نيله الشهادة بها بقوله صلى الله عليه وآله وسلم لما تحرك جبل أحد: " أسكن أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان ". وكان عليه صلى الله عليه وآله وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فتجرأ عليه أراذل من رعاء القبائل، واقتحموا عليه داره، فقتلوه، قيل: وكان المتعصبون عليه حينئذ أربعة آلاف. وسبب قتلهم له على ما قيل إنهم طلبوا منه ما لهم من العادة التي يأخذه الجند من ولاة الأمر، فأمر من كتب لهم بذلك إلى عامله في مصر، فلما كانوا في أثناء الطريق، فتحوا الكتاب، فوجدوا فيه الأمر بقتلهم، فرجعوا إليه، وقالوا كيف تأمر بقتلنا؟ فقال: ما كتبت الكتاب وإنما كتبه غيري. فقالوا: ان كان خطك فقد أمرت بقتلنا، وإن كان خط غيرك فقد زور عليك، وتغلب على أمرك، فما تصلح للخلافة. قلت وليس في هذا حجة لهم. بل قولهم ظاهر البطلان، فإن الأخيار ليسوا بمعصومين من تزوير الأشرار. ويقال إن الذي زورعليه مروان. والله أعلم بذلك ممن كان. وروينا في جامع الترمذي أنه جاء عبد الله بن سلام إلى عثمان فقال له: ما جاء بك؟ فقال: جئت في نصرتك. قال: اخرج إلى الناس، فأخبرهم عني فإنك خارج خير لي من داخل، فخرج عبد الله بن سلام، فقال: ايها الناس إنه كان اسمي في الجاهلية فلان فسماني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله. ونزلت عليه آيات من كتاب الله، ونزلت في قوله تعالى " وشهد شاهد من بني(1/76)
إسرائيل على مثله " الأحقاف الآية ونزلت في " قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب " الرعد، ان لله سيفاً مغموداً عنكم، وإن الملائكة قد جاورتكم في بلدكم هذا الذي نزل فيه نبيكم، الله الله في هذا الرجل، ان تقتلوه فو الله إن قتلتموه لتطردن جيرانكم من الملائكة، وليسلن سيف الله المغمود عنكم، فلا يتغمد إلى يوم القيامة، فقالوا: اقتلوا اليهودي واقتلوا عثمان. قال الترمذي هذا حديث حسن غريب.
قال علماء السير والتاريخ: وكان قتلهم له في يوم الجمعة ثاني عشر ذي الحجة والمصحف بين يديه، فانتضح الدم، ووقع على قوله تعالى: " فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم " البقرة وعمره يومئذ بضع وثمانون سنة، وقيل تسعون، وقيل غير ذلك والله أعلم. وقد اشتهر عنه رضي الله عنه أنه ما أراد القتال، والدفع عن نفسه بل قال لارقائه: وكانوا مائة عبد، وقيل أربع مائة من أغمد سيفه فهو حر لله، فأغمدوا سيوفهم كلهم إلا واحد منهم، فإنه قاتل حتى قتل. وإن علياً كرم الله وجهه أرسل إليه ابنه الحسن بماء للشرب، وقال له إن اخترت أن آتيك للنصر أتيت، فقال رضي الله عنه: لا فإني رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول لي إن قاتلتهم نصرت عليهم، وإن لم تقاتل أفطرت الليل عندنا، وأنا أحب أن أفطر عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان رضي الله عنه صائماً. ونقل عن علي رضي الله عنه أيضاً أنه لما بلغه قتله قال: الله المستعان ما كنا نظن أن يبلغ الأمر إلى هذا الحد وصلى عليه جبير بن مطعم، وقيل غيره ودفن في البقيع، رضي الله عنه وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة وأياماً وقيل الأشهر وكانت ولايته بجعل عمر الخلية بعده شورى بين الستة الجلة من الصحابة المشهورين في الحديث كما تقدم، فتشاورا، بينهم، ثم آل الأمر إليه، واتفق الصحابة كلهم عليه. ونسبه يجتمع مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عبد مناف، وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبينه ثلاثة آباء، وبين عثمان وبينه أربعة، لأنه عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف وأمه أروى بنت كريز بن ربيعة وأم أروى أم حكيم بنت عبد المطلب، الملقبة بالبيضاء توأمة عبد الله بن عبد المطلب. فجدة عثمان من قبل أمه عمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال لي بعض من يبغضه على وجه الطعن فيه مع إظهار التبجيل له: ما بال عثمان وهو من سادات الصحابة ما دفن إلا بعد يومين أو ثلاثة أيام؟ فقلت له: ليس ذلك بأشنع ولا أفظع من تطواف الفجرة بالبلدان برأس الحسين ابن المصطفى من ولد عدنان فخشي وولى وسكت خجلاناً.(1/77)
واتفق أهل الحق من جميع علماء أهل السنة أن عثمان رضي الله عنه قتل مظلوماً شهيداً، وللقتل أسباب تقتضيه لم يأت عثمان شيئاً منها، وجميع ما أنكر عليه أجيب عنه رحمة ابثه تعالى عليه ومن أوجب قتله لم يكن ذلك إلى مثل هؤلاء السفلة أولي الشرور وإنما يكون إلى أهل الحل والعقد في الأمور. قلت وليس يحصى فضائل عثمان وما له من المحاسن والإحسان الشاهدة له بالشهادة الحسنة والسعادة بالجنة. منها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبوا به لماء جاء يستأذن: " إيذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه " أخرجه البخاري وأخرجه مسلم من طرق قال في إحداها: فقال اللهم صبراً والله المستعان. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم وقد صعد أحداً ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف: " اسكن أحد فليس عليك إلا نبي وصديق وشهيدان " قال الراوي وهو أنس أظنه ركضه برجله وقال اسكن أحد الحديث أخرجه البخاري وقد تقدم. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " لا أستحيي ممن يستحي منه الملائكة " وفي بعض النسخ: " من رجل يستحي منه الملائكة " لما قالت له عائشة: دخل أبو بكر فلم تهش له، ولم تباله، ثم دخل عمر، ولم تهش له، ولم تباله، ثم دخل عثمان، فجلست فسويت ثيابك. ورواية البخاري أنه كان صلى الله عليه وآله وسلم قاعداً في مكان فيه ماء قد انكشف عن ركبته أو ركبتيه فلما دخل عثمان غطاها. وفي رواية مسلم كان صلى الله عليه وآله وسلم مضطجعاً في بيته كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه فاستأذن أبو بكر الحديث. وفي حديث مسلم الآخر أن عثمان رجل حيي وإني خشيت إن أذنت له على تلك الحال أن لا يبلغ إلي في حاجته. وفي الحديث المتقدم عن ابن عمر رضي الله عنهما في تفضيلهم بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر ثم عمر ثم عثمان. ومن مناقبه أيضاً تزويج النبي عليه السلام بابنتيه رقية وأم كلثوم، ولذلك لقب بذي النورين، يقال إنه ما تزوج من بني آدم ابنتي نبي سواه. ومنها تجهيزه جيش العسرة، وحفره بير رومة روينا في جامع الترمذي أيضاً عن عبد الرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بألف دينار حين جهز جيش العمرة، فنشرها في حجره، فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقلبها بيده(1/78)
ويقول: " ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم ". وروينا في جامع الترمذي أيضاً عن عبد الرحمن بن خباب قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحض على تجهيز جيش العسرة، فقام عثمان بن عفان، فقال: يا رسول الله علي مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض على الجيش، فقام عثمان وقال: يا رسول الله علي ثلاث مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، قال: فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينزل عن المنبر، ويقول بأعلى صوت: " ما ضر عثمان ما فعل بعد هذه ". ومن مناقبه أيضاً قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " من جهز جيش العسرة فله الجنة ". ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " من حفر بير رومة فله الجنة ". ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم في وصف أمته: " وأصدقهم حياء عثمان بن عفان ". ومبايعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم نيابة عنه بضرب إحدى كفيه على الأخرى، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: وهذه عن عثمان في بيعة الرضوان لما غاب بإرساله صلى الله عليه وآله وسلم له إلى مكة رسولاً إلى قريش إذ لم يكن في الصحابة من له منعة في قومه مثله. ومنها حفظه القرآن، وكثرة تلاوته، وقيامه به في صلواته، وكثرة نسكه وعبادته، وإلى شيء من فضائله الجليلات أشرت حيث أقول في بعض القصيدات هذه الأبيات.
وذي النور والبرهان والحلم والندى ... خشوع وللقرآن بالك يجمع
قنوت الدياجي والعيون هواجع ... بلذة عيش بالتهجد مولع
لقدمته يستحيي ملائكة السماء ... فما ضرذا لحم شريف مبضع
وقلت في أخرى:
والصائم القائم المحمود مشهده ... عثمان ذي النورين في قتله جاروا
شرار قوم من الأرذال في دمه ... في مصحف ظل للفجار فجار
سنة ست وثلاثين
فيها وقعة الجمل والكلام فيها طويل وها أنا أشير منه إلى شيء يسير مما ذكره أهل(1/79)
السير وتلخيص ذلك أنه لما قتل عثمان صبرا توجع له المسلمون، وسقط في أيدي جماعة، وكم بكى عليه من محزون، وسالت من بعده دماء الفتن كما تسيل ماء العيون. وصدق قول حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الذي لمجد الفضائل سما: والله لو كان قتل عثمان حقاً لأمطرتكم السماء رحمة ولكنها أمطرتكم دماً وسار طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنها وعنهم نحو البصرة. قال بعض علماء السنة طالبين الثأر بدم عثمان، وكانت عائشة قد اعتمرت وهي راجعة إلى المدينة، فلما بلغها قتل عثمان رجعت إلى مكة، وأرادوا من ابن عمران يخرج معهم إلى العراق، فامتنع فلما خرجوا من مكة، جاء مروان بن الحكم إلى طلحة والزبير، وقال على أيكما أسلم بالإمارة وأنادي بالصلاة؟ فسكتا فقال عبد الله بن الزبير: على أبي، وقال محمد بن طلحة: على أبي، فأرسلت عائشة إلى مروان أتريد أن ترمي الفتنة بيننا، او قالت بين أصحابنا مروا ابن أختي، فليصل بالناس. يعني عبد الله بن الزبير. وقال بعض المحققين من المتأخرين من أئمتنا خرجوا تغيباً عن الفتنة التي أبدت قرنيها من الشام ورجليها من العراق في ذلك الزمان. وذلك أن إمام الحق علياً كرم الله وجهه أرسل إلى أميري الشام والعراق معاوية وابن عامر يستدعيهما الطاعة والوصول إليه فلم يكن من معاوية إلا تجهيز جيوش الشام وجمع العساكر، وخرج أبو الحسن إلى جهة الكوفة وسارت جيوش العراق بين يديه، فالتقيا بعد وقعة الجمل، وكان من قدر الله في سفك دماء الفريقين ما كان. واعتذر عن ذلك أعلام أئمة السنة بأن معاوية كان طالباً أخذ الثأر من قتلة عثمان إذ كان له نسب في بني أمية وأن علياً لم يمكنه تسليمهم لأخذ الثأر منهم في أول خلافته قبل أن تقوى شوكة الهمة العلية. ثم وقعت وقعة الجمل بينه وبين طلحة والزبير ومن معهما، وذلك أنه رآهم خارجين عن طاعته، فاعترضهم من المدينة ليردهم من بعض الطرق، ففاتوه وسلموا من لزمه التعويق، فتقدموا حتى أتوا البصرة، واستعانوا منها ببيت المال ومن أهلها بالنصرة، وأرسل علي رضي الله عنه إذ فاتوا إلى المدينة يستدعي بالعدد والعدد طالباً بذلك الاستعانة على الحرب والمدد. عالماً بأن ما فعلوا ذلك إلا والخلاف منهم وقد اشتد، وأرسل ابنه الحسن إلى الكوفة مع ناصر الحق عمار. يستنفران من فيها رجاء المعونة والانتصار، ثم لما وصل إلى العراق ليردهم إلى طاعته خرج معه أهل الكوفة، وخرج معهم أهل البصرة، وحاول الصلح والرجوع إلى مبايعته، فلما عزموا عليه ثار الأشرار، ورموا بين(1/80)
الفريقين النار، حين خافوا أن يصطلحوا ما يسوء الفجار، من إقامة الحدود، والأخذ لدم عثمان بالثأر. فأشعلوا نار الحرب بالليل. حتى التقى الرجالة والخيل. وجرى دماء الفريقين كالسيل. فكل من مد يده إلى خطام الجمل الذي عليه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها راكبة لم يرجع إليه يده بل هي بضرب السيوف الماضيات ذاهبة وتقاتل الأقران. وتناشدوا عند ذلك الاشعار. وقطع على خطام الجمل سبعون يداً من بني ضبة كلما قطعت يد أخذ الزمام آخر وهم ينشدون.
نحن بنو ضبة أصحاب الجمل ... ننازل الموت إذ الموت نزل
والموت أشهس عنط نط مش العسل
وكانوا من حزب عائشة وطلحة والزبير، وبلغت القتلى يومئذ ثلاثة وثلاثين ألفاً على ما ذكر أهل التوإريخ، ل ذلك وعائشة رضي الله عنها راكبة على الجمل، فأمر علي بعقر ذلك الجمل المسمى بعسكر، فخمل الشر عند ذلك وظهر علي رضي الله عنه وانتصر، ثم جاء علي إلى عائشة فقال: غفر الله لك فقالت: ولك، ملكت فاسجح فما أردت إلا الإصلاح فبلغ من الأمر ما ترى، فقال: غفر الله لك، فقال: ولك، ثم إنه أمر معها عشرين امرأة من ذوات الشرف والدين من أهل البصرة يمضين معها إلى المدينة، وأنزلها في دار وأكرمها، ثم سفرها إلى المدينة الشريفة وشيعها بأولاده وودعها. وقتل ذلك اليوم طلحة بن عبيد الله القرشي التيمي أحد العشرة الكرام المشكورين في الأنام قيل رماه مروان بن الحكم، والله تعالى أعلم، مع أنه كان معهم ومن حزبهم لا من حزب علي رضي الله عنه، لكن قيل رماه من أجل ضغن كان في قلبه منه. ومن مناقبه أنه وقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيده يوم أحد، وقول الذي صلى الله عليه وآله وسلم " أوجب طلحة " أي وجبت له الجنة لما رفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الصخرة، وكونه من العشرة المشهود لهم بالجنة. وممن قتل ذلك اليوم محمد بن طلحة، كان فضله مشهوراً، وإليه يشير قائل بقوله:
وأشعث قوام بآيات ربه ... قليل الأذى فيما يرى العين مسلم
يناشدني حاميم والرمح شاجر ... فهلا تلا حاميم قبل التقدم
الأبيات إلى قوله فخر صريعاً لليدين وللفم. وقتل الزبير بن العوام القرشي الأسدي حواري النبي صلى الله عليه وآله وسلم وابن عمته صفرة، وأول من سل سيفاً فى سبيل الله تعالى، الذي قال صلى الله عليه وآله وسلم في قاتله في بعض الأخبار: " وبشروا قاتل ابن صفرة بالنار ". قتله ابن جرموز بوادي السباع(1/81)
بقرب البصرة منصرفاً تاركاً للقتال طالباً للسلامة من الفتن، وما يترتب عليها من الآقات والداء العضال، فلحقه الشيطان المذكور في الوادي المذكور، وأوهمه أنه له مسائر فأمنه، ولم يشعر أنه غادر، فاستغفل الهزبر الذي كانت يكسر العساكر فقتله، وحد أمنه وأخذ سيفه ذلك التعيس الفاجر. ثم جاء إلى علي بسيفه ليبشره بزعمه بذلك، فبشره علي بالنار التي يشربها النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاتله الخاسر الشقي. فقال له التعيس عندها بطريق الحجاج لا التندم: يا ويلنا إن قاتلناكم ويا ويلنا إن قاتلناكم معكم فنحن في النار. وذكر بعضهم أنه لما نظر على سيف الزبير معه قال بعدما بشره بالنار: طالما فرج به الكرب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فقال: انا لله وإنا إليه راجعون إن قاتلناكم فنحن في النار وإن قاتلنالكم أو قال معكم فنحن في النار. فقال له علي: ويلك ذلك شيء سبق لابن صفرة فقال والله ما قتلته إلا لهواك ثم ولى مغضباً. ومن مناقب الزبير قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " لكل نبي حواري وحوايي الزبير " والحواري: الناصر، وقيل: الخاصة. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " بشر قاتل ابن صفرة بالنار ". ومنها أنه ابن عمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأول من سل سيفاً في سبيل الله عز وجل. وكونه من العشرة المشهود لهم بالجنة. وله معارك مشهورة في اليرموك وغير مشهورة. وقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه وقال والله إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير من أهل هذه الآية: " ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرد متقابلين " - الحجر: 47 - قلت وما ينكر سعادة الجميع منهم، وغفران الله لهم، ما جرى بينهم إلا باغض ذو ابتداع، او جاهل ليس لهم بفضائلهم سماع. ومن جملة تلك الفضائل والمنحة قوله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد: " أوجب طلحة " أي وجبت له الجنة كما تقدم، وقصته في رفعه له في الحديث مشهورة، وفعلته في وقايته له بيده عن ضرب السيف مشكورة، ولم يزل الفخر في شلل يد طلحة من تلك الوقاية فاخراً. والشرف في فعله ذلك بين الخلائق ظاهراً. ومما يؤيد تلك السعادة التي يخص الله بها من يحب، والكرامة التي يشرح بها الصدور، والقلوب تطرب، ما روي بالإسناد عن بعض الصالحين: انه خرج يوماً إلى ظاهر البصرة مع الولي الكبير العارف بالله الشهيد الشيخ أبي محمد المعروف بابن عبد الله البصري رضي الله عنه، ثم أتى إلى تربة طلحة بن عبيد الله المذكور زائر، قال: فلما رأى الشيخ أبو(1/82)
محمد القبر من بعيد رجع القهقرى، ثم بعد ذلك رجع، فأتى القبر وزار وهو مطرق متأدب. قال الراوي المذكور فلما خرج سألته عن ذلك فقال: لما أشرفت على قبره رأيته جالساً عليه حلة خضراء وتاج مكلل بالدرر والجواهر، وقال بالدر والياقوت الأحمر، وعنده حوريتان، فاستحييت، ورجعت لوجهي، فاقسم علي أن أرجع فرجعت إليه رحمة الله ورضوانه عليه. وممن قتل يوم الجمل زيد بن صوحان. وكان من سادة التابعين صواماً قواماً وجملة من قتل ذلك اليوم من الفريقين نحو من عشرة آلاف على ما نقله بعض العلماء الأعلام وهذا خلاف لما تقدم من الأعلام والله سبحانه الخبير العلام. وفي أول السنة المذكورة توفي حذيقة بن اليمان أحد الصحابة أهل النجدة والنجابة. الذي كان يعرف المؤمنين من المنافقين بالسر الذي خصه سيد المرسلين قال: كان الناس يتعلمون الخير من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكنت أتعلم منه الشر مخافة أن أقع فيه. وكذلك توفي فيها سلمان الفارسي وفضله مشهور مشكور، ومن ذلك الفضل الذي حكيت قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " سلمان منا أهل البيت " وسيرته مشهورة في خروجه من بلاده في طلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وما لاقى في ذلك، وقوة إيمانه وصدقه وحرصه على معرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومحبته له وغرسه له صلى الله عليه وآله وسلم بيده عوناً له في براءة ذمته، وما حصل في ذلك من يمنه صلى الله عليه وآله وسلم وظهور بركته. وتوفي أمير مصر عبد الله بن أبي سرح وهو من السابقين.
سنة سبع وثلاثين
وفيها وقعة صفين بين جيش على العراقيين، وجيش معاوية الشاميين، في شهر صفر. وقال الإمام أحمد في تاريخه في شهر ربيع الأول، ودامت أياماً وليالي، وقتل بين الفريقين على ما نقلوا ستون ألفاً. وروي عن ابن سيرين أنهم سبعون ألفاً منهم أبو اليقظان عمار بن ياسر العنسي رضي(1/83)
الله عنه الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: " تقتلك الفئة الباغية " وقتلوه أصحاب معاوية. وفي رواية ويح ابن سمية تقتله الفئة الباغية، وسمية أمه وويح كلمة معناها الترحم، وكان من أهل النجابة في سبيل الله، والصدق في دين الله، بمكانة حفيلة بعثه علي رضي الله عنه ومعه ابنه الحسن ليستغفر أهل الكوفة في حرب يوم الجمل كما تقدم، فاستنفراهم، وقال في خطبته والله إني لأعلم أنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا الآّخرة، يعني عائشة رضي الله عنها، ولكن الله تعالى ابتلاكم بها ليعلم أتطيعونه أم تطيعونها، وعاتبه رجلان جليلان ممن توقف عن القتال لما التقى الفريقان في كلام معناه ما رأينا منكم قط شيئاً نكرهه سوى سراعك في هذا الأمر، يعني فى القتال مع علي، او نحو ذلك من المقال. وهذا مما يدل على أن المسلمين اختلف علمهم في ذلك، فالموافقون منهم اتضح لهم الحق مع علي فبايعوه، ومنهم من توهم أن الحق مع معاوية فبايعه، ومنهم من أشكال عليه الحال فتوقف، ومن المتوقفين سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر بن الخطاب وأسامة بن زيد ومحمد بن سلمة وآخرون رضي الله عنهم، وكان عمار رضي الله عنه من السابقين المهاجرين من اليمن إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وممن عذب في الله فلم يصده ذلك عن دين الله ومناقبه كثيرة جليلة شهيرة. وقتل مع علي أيضاً ذو الشهادتين خزيمة بن ثابت الأنصاري ويقال إنه بدري. وأبو ليلى الأنصاري والد عبد الرحمن المعروف بابن أبي ليلى. ومن غير الصحابة عبيد الله بن عمر الخطاب رضي الله عنه العدوي، قتل مع معاوية وكان على جيل الشام يومئذ، ولما طعن والده سل سيفه، ووثب على الهرمزان صاحب تستر فقتله. قلت ويحتمل أن ذلك بسبب كون قاتل عمر له به تعلق، والله أعلم. وذكر أهل التواريخ أشياء أخرى في قتال صفين ما لا ينبغي أن يذكر، وقتل مع علي أيضاً: هاشم بن عتبة بن أبي وقاص المعروف بالمرقال والسيرحال راوية علي يومئذ، ويقال إنه من أصحابه. وعبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي وكان على رجالة علي وأبو حسناء قيس بن المكشوح المرادي. احد الأبطال وأحد من أعان على قتل الأسود العنسي. وجندب بن زهير الغامدي الكوفي، ويقال له صحبة. وقيل وجد في قتلى أصحاب علي رضي الله عنه السيد الجليل العارف بالله الذي ملأ(1/84)
فضله الآفاق، واشتهر دنوه صلى الله عليه وآله وسلم بفضله في البدو والحضر الولي الكبير المفضل على سائر التابعين من غير شك فيه ولأمراء بشهادة إمام المرسلين وسيد الورى صلى الله عليه وآله وسلم: اويس بن عامر اليمني المرادي. ومناقبه أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تشهر ويكفيه من ذلك أخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه خير التابعين في صحيح مسلم وقد ذكرت شيئاً من فضائله في كتاب روض الرياحين وفيه وفي سائر من سقى شراب المحبة من الساسات قلت هذه الأبيات.
سقى الله قوماً من شراب وداده ... فهاموا به ما بين باد وحاضر
يظنهم الجهال جنوا وما بهم ... جنون سوى حب على القوم ظاهر
سكارى عن الأكوان غابوا فما يرى ... سوى واله فى حب مولاه ذاكر
يناجونه في ظلمة الليل عندما ... به قد خلوا منهم أويس بن عامر
شهير يماني حوى المجد والعلى ... لنا فيه عالي الفجرعند التفاخر
وقتل أيضا مع معاوية: حابس الطائي قاضي حمص وكان على رجالة معاوية، وقتل من أمراء معاوية ذو الكلاع الحميري نزيل حمص وهو أحد من شهد اليرموك وكان على ميمنة معاوية وكان من أعظم أصحابه خطر الشرفة ودينه وطلب منه معاوية أن يخطب الناس ويحضهم على القتال. قال الجوهري في الصحاح: ذو الكلاع بالفتح اسم ملك من ملوك اليمن وقال يزيد بن هارون: سمعت الجراح بن المباهل يقول: كان عند ذي الكلاع اثنا عشر ألف بيت من المسلمين، يعني تحت ملكه، فبعث إليه عمر، فقال: نشتري ونستعين بهم على عدوهم، فقال: لا هم أحرار. فأعتقهم في ساعة واحدة.
قال بعض من له اطلاع على علم الحد يث: الجراح متروك الحد يث وكان جيش معاوية سبعين ألفاً، وجيش علي قيل مائة ألف وقيل تسعين وقيل خمسين ألفاً وذكر الزبير بن بكار أن جيش معاوية كان خمسة وثلاثين ومائة ألف وكان جيش علي عشرين أو ثلاثين ومائة ألف وأنشد في ذلك بعض أصحاب معاوية.
فلو شهدت حمل مقامي ومشهدي ... بصفين يوماً شاب منه الذوائب
غداة أتى أهل العراق كأنهم ... من البحر لجج موجه متراكب(1/85)
وجئناهم نمشي كأن صفوفنا ... شهاب حريق رفعتها الجنائب
فقالوا لنا إنا نرى أن تبايعوا ... علياً فقلنا بل نرى أن تضاربوا
فطارت إلينا بالرماح كماتهم ... وطرنا إليهم بالأكف قواضب
إذانحن قلنا استهزموا عرضت لنا ... كتائب منهم وأزحجت كتائب
فلاهم مولون الظهور فيدبروا ... فراراً كفعل الجاذرات الذرائب
يعني بالذرايب الضواري: يقال ذرب على الشيء إذا تعوده. قال ابن شهاب فأنشدت عائشة رضي الله تعالى عنها أبياته هذه فقالت ما سمعت شاعراً أصدق شعراً منه. قال أهل التاريخ وصح عن أبي وائل عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل أنه قال رأيت كأن قبابا في رياض، فقيل هذه لعمار بن ياسر وأصحابه، فقلت: وكيف وقد قتل بعضهم بعضأ؟ قال انهم وجدوا الله واسع المغفرة. وممن قتل يومئذ مع معاوية أيضاً كريب بن صباح الحميري أحد الأبطال المذكورين، قتل جماعة بارزة، ثم بازرعلياً، فقتله علي رضي الله عنه. وذكر أن علياً واجه في بعض تلك المعارك معاوية فقال له علي: هلك المسلمون بيني وبينك، ابنزلي، فإذا قتل أحدنا صاحبه استراحوا من القتل والقتال، او كما قال، فسكت معاوية، ثم ذكر ذلك لوزيره عمرو بن العاص، فقال: انصفك الرجل. فقال له معاوية: ما أظنك إلا طمعت فيها قلت يعني إنك تعلم أني ما أنا له بمقاتلة، فإذا قتلني أخذ الخلافة بعدي. وقال بعض أصحاب التواريخ: بلغنا أن الأشعث بن قيس الكندي برز في ألفين وبرز أبو الأعور السلمي في خمسة آلاف، ثم اقتتلوا، فغلب الأشعث على الماء، وأزالهم عنه. التقى أصحاب علي وأصحاب معاوية يوم الأربعاء سابع صفر ويوم الخميس ويوم الجمعة وليلة السبت، ثم لما خاف أهل الشام الكثرة رفعوا المصاحف بإشارة عمرو بن العاص، ودعوا إلى الحكم بما في كتاب الله، فأجاب علي رضي الله عنه إلى تحكيم الحكمين، فاختلفت عليه جيشه، وخرجت الخوارج، وقالوا لا حكم إلا لله وكفروا علياً ثم حاربهم. فقتل منهم جمعاً كثيراً. ورجع إليه منهم جمع كثير وبقي منهم على الخلاف جمع. ولهم قصص طويلة في القتال والمقال. اوضحتها في كتاب المرهم ففيه لذكرها مجال. وسيأتي ذكر شيء منها في سنة أربعين في ترجمة علي رضي الله عنه. وفي تحكيم الحكمين هو ما روي أنه اجتمع في رمضان أبو موسى الأشعري ومن معه(1/86)
من الوجوه وعمرو بن العاص ومن معه كذلك بدومة الجندل للتحكيم فخلى عمرو بأبى موسى وخدعه، وقال له: تكلم قبلي فأنت أفضل وأكبر سابقة، وأرى أن تخلع علياً ومعاوية، ويختار المسلمون لهم رجلاً يجتمعون عليه، فوافقه على هذا ولم يشعر يخدعه، فلما خرجا وتكلم أبو موسى وحكم بخلعهما قام عمرو بن العاص وقال: اما بعد فإن أبا موسى قد خلع علياً كما سمعتم، وقد وافقته على خلعه ووليت معاوية. وقيل إنهما اتفقا على أن يصعد أبو موسى على المنبر وينادي: يا معشر المسلمين اشهدوا علي أن قد خلعت علياً من الخلافة، كما خلعت خاتمي هذا. ففعل ذلك وأخرج خاتمه من اصبعه ورمى به إليهم، ثم صعد عمرو وأخرج خاتمه أولاً وقال أشهدوا علي أني قد أدخلت معاوية في الخلافة كما أدخلت خاتمي هذا في اصبعي، وأدخله في اصبعه. قالوا: ثم سار الشاميون، وقد بنوا على هذا الظاهر، ورجع أصحاب علي إلى الكوفة عارفين أن الذي فعله عمرو حيلة وخديعة لا يعبأ بها.
سنة ثمان وثلائين
في شعبان قتلت الخوارج عبد الله بن خباب، فيها كانت وقعة النهروان بين علي والخوارج، فقتل رأس الخوارج عبد الله بن وهب الشيباني، وقال بعضهم الراسبي، وقتل أكثر أصحابه، وقتل من أصحاب علي اثنا عشر رجلأ، ويقال كانت هذه الوقعة في العام القابل وتوفي صهيب بن سنان المعروف بالرومي في شوال بالمدينة الشريفة وكان من السابقين الأولين وسهل بن حنيف الأوسي في الكوفة وكان بدرياً ذا علم وعقل ورياسة وفضل صلى عليه علي رضي الله عنهم. وفيها قتل محمد بن أبي بكر الصديق، وكان قد سار إلى مصر واليا عليها لعلي وبعث معاوية عسكراً وأمرعليهم معاوية بن خديج الكندي، فالتقى هو ومحمد فانهزم عسكرمحمد، واختفى هو في بيت امرأة، فدلت عليه، فقال: احفظوني في أبي بكر، فقال معاوية بن خديج قتلت ثمانين من قومي في دم عثمان، وأتركك وأنت صاحبه، فقتله وصيره في بطن حمار وأحرقه بالنار. يعني بقوله وأنت صاحبه: اي صاحب قتله اشارة إلى ما يقال(1/87)
إن محمد بن أبي بكر من جملة قتلته، والله أعلم ولا ينبغي آن يعتقد السوء في السلف إلاما صح، والصحيح يلتمس له محامل ومخارج، مع القطع بأن عثمان قتل شهيداً مظلوماً، ولم يكن له قاتل إلا رعاء اجتمعوا عليه وأراذل. وقال شعبة عن عمرو بن دينار إن عمراً هو الذي قتل محمد بن أبي بكر، قلت هكذا أطلق: عمراً. والله أعلم من أراد به عمرو بن العاص أم عمرو بن عثمان أم غيرهما.
وفيها مات الأشتر النخعي، وكان قد بعثه علي أميراً على مصر، وهلك في الطريق، فيقال إنه سم، وإن عبد العثمان لقيه فسقاه عسلاً مسموماً، وكان الأشتر من الأبطال وكان سيد قومه وخطيبهم وفارسهم. وقد ذكر بعض إنه شارك في قتل عثمان رضي الله عنه قلت وقد قيل: ان دهاة العرب أربعة عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان وعروة بن مسعود الثقفي والأشتر النخعي اسمه مالك بن الحارث وكأنهم يعنون بالدهاء الكيد والرأي والمكر. وقال في الصحاح الداهية الأمر العظيم والدهى بسكون الهاء، الفكر وجودة الرأي، يقال رجل داهية بين الدهى بسكون الهاء والدهاء ممدود والهمزة فيه منقلبة من الياء لا من الواو وهما دهيا وإن وما دهاك أي ما أصابك.
سنة تسع وثلاثين
فيها توفيت أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية بسرف في الموضع الذي بنى بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه وذلك من الاتفاقات العجيبة وقبرها هنالك معروف بين مكة وبطن مر وفيها تنازع أصحاب علي وأصحاب معاوية رضي الله عنهما في إقامة الحج فمشى في الصلح أبو سعيد الخدري على أن يقيم الموسم شيبة بن عثمان الحجبي أي من أهل حجابة الكعبة.
سنة أربعين
فيها توفي خوات بن جبير الأنصاري البدري أحد الشجعان المذكورين وأبو مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري. نزل بماء، وقيل على ماء بدر، فقيل له البدري، وهو ممن شهد العقبة. وأبو أسيد الساعدي مالك بن ربيعة بدري مشهور، وقيل بقي إلى سنة ستين ومعيقيب الدوسي هاجر إلى الحبشة وشهد بدراً على اختلاف. وفيها مات الأشعث بن قيس الكندي بالكوفة في ذي القعدة، وكان شريفاً مطاعاً جواداً شجاعاً وله صحبة، ثم إنه ارتد، ثم أسلم فحسن إسلامه، وكان من أجل أمراء علي رضي الله عنه، وتزوج أخت أبي بكر الصديق، وأمر غلمانه أن ينحروا ويذبحوا ما وجدوا من(1/88)
البهائم في شوارع المدينة، ففعلوا ذلك، فصاح الناس، وقالوا: ارتد الآشعث، اشرف عليهم من الدار، فقال: يا أيها الناس إني قد تزوجت عندكم ولو كنت في بلادي لأولمت وليمة مثلي ولكن قلت: اقتلوا ما حضر من هذه البهائم وكل من له منها شيءفليأتني أسلم له قيمته. وكان في أول الإسلام ممن هاجر من أهل اليمن في ثمانين رجلاً من قومه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعه عمرو بن معد يكرب الزبيدي من زبيد، رتدا معا بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أسلما في أيام أبي بكر وحسن إسلامهما، وشهد المشاهد المشهورة بهما هكذا ذكر الإمام ابن سمرة في كتابه الموسوم بطبقات فقهاء اليمن وعيون من أخبار رؤساء الزمن. وفي السنة المذكورة استشهد أمير المؤمنين سامي المفاخر والمناقب أبو الحسن علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، ولا زالت نفحات رحمته واصلة إليه، وثب عليه أشقى من أجرم عبد الرحمن بن ملجم الخارجي، فضربه في يافوخه بخنجر، فبقي يوما ثم قتل ابن ملجم وأحرق وما كان كفوءاً لشجاعة علي رضي الله عنه ولا عليه من ذوي الاقتدار لولا مساعدة الأقدار ولقد صدق فيه الذي قال:
وما كنت من أنداده يا ابن ملجم ... ولولا قضاء ما أطقت له عينا
وليس في الخلفاء الأربعة ولا في غيرهم من الصحابة من هو أقرب نسباً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم سواه، فإنه يجتمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عبد المطلب، بين كل واحد منهما وبينه أب واحد. فهو صلى الله عليه وآله وسلم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب وهو علي بن أبي طالب واسمه عبد مناف بن عبد المطلب القرشي الهاشمي ابن عم الرسول وزوج البتول، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف أول هاشمية ولدت الهاشمي، ويكنى أبا الحسن، وكناه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا تراب لما وجده نائماً في المسجد وقد علق التراب بجسمه، فأيقظه صلى الله عليه وآله وسلم وقال: " قم أبا تراب " ويلقب أيضاً حيدرة، كانت أمه قد أسلمت وهاجرت وتوفيت بالمدينة، فخلع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قميصه وألبسه إياها وتولى دفنها، وقال: " كانت أحسن خلق الله صنيعاً إلي بعد أبي طالب "، وكان قتله رضي الله عنه صبيحة ليلة الجمعة لسبع عشرة خلت من رمضان وقد نيف على ستين. وقيل ابن ثلاث وستين. وقيل ثمان وخمسين، وصلى عليه ابنه الحسن، ودفن في قصر الإمارة عند الجامع وغيب قبره، وكانت خلافته أربع سنين وأربعة أشهر وأياماً، وكان إسلامه وهو ابن ثمان سنين. وقيل تسع، وقيل غير ذلك.(1/89)
ومن مناقبه رضي الله عنه: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم خيبر: " لأعطين هذه الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه، يجب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله " الحديث الصحيح. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم له: " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى
غير أنه لا نبي بعدي " الحديث الصحيح، وفيه خلف رسوله الله صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب في غزوة تبوك، قال يا رسول الله أتخلفني في النساء والصبيان؟ فقال: " أما ترضى " الحديث. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه ". رواه الإمام أحمد. وروى مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال له: ما منعك إن تسب أبا تراب؟ فقال: اما ما ذكرت ثلاث قالهن له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلن أسبه، لأن يكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم، سمعت رسول الله عليه وآله وسلم يقول: وذكر ما تقدم من تخليف النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ". وقوله " يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ". ولما نزلت هذه الآية " فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم " - آل عمران: 61 - دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال: " اللهم هؤلاء أهلي ". وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " وأقضاكم علي " ودعاؤه صلى الله عليه وآله وسلم له لما بعثه إلى اليمن قاضياً، ففي رواية عن علي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا له فقال: " اللهم اهد قلبه ولسانه " فقال علي: فما شككت في قضاء قضيته بين اثنتين. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في دعائه له: " اللهم ادر الحق معه حيث دار " رواه الترمذي. قلت وناهيك بفضائله ما اشتهر به من براعته في الشجاعة والعلوم، واهتمامه بنصرة الحق، واظهار شعائر الإسلام على العموم، وفيه أقول في هذا المنظوم.
ورابع السادة المولى أبو حسن ... سيف القضاء وبحر العلم زخار
ومعدن الجود والدنيا مطلقها ... بتاً ثلاثاً فتى بالفضل مشهار
قلت ومناقبه رضي الله عنه، وماله من المفاخر يخرج في التعداد عن حصر الحاضر، وإلى شيء من فضائله الشهيرات أشرت أيضاً في بعض القصيدات بهذه الأبيات.(1/90)
ونائب وارث علم النبوة عن ... رسوله البدر ماحي الظلمة الجالي
وحامل الراية البيضا لسنته ... الغراء والبدعة العوجا لها قالي
وكاشف عن محيا كل غامضة ... خمارها المجتلي للحسن والحال
وعاء مكنون أسرار مخدرة ... ذي المنهل المستطاب المشرب الحالي
ان قيل من ذابلته قل أبوحسن ... عالي المعالي على الضيغم الكالي
حازالثلاث التي سعد الرضي روى ... عن سيد الرسل لم يوصف بإرسال
مع أنت مني يحب الله ثالثها ... أو لا في أهل ولا يؤتي بأمثال
يكفيك في فضائله ما صح مسنده ... فنسجه العالي لم ينسج بأمثال
من بعد تفضيلنا الشيخين معتقدي ... نفضله قبل في النورين في بال
تفضيل صحب لعثمان عليه أتى ... حال البداية لا في طول آجال
ففي النهاية كم حازت محاسنه ... فضائل كان عنها قبلها خال
كالروض من بعد محل يانع خضر ... مذيح الوشى بسيفي ويل هطال
هذا اعتقادي الذي ما شابه غرض ... ولا تعصب بدعات وإضلال
والأكثرون من الأعلام مذهبهم ... تفضيل عثمان عن إطلاق إجمال
ومال جمع كبار من أئمتنا ... إلى علي بترجيح وإجلال
وفيها من التفاضل بعض قدوتنا ... توافقوا عن شكوك ذات اشكال
فاروقهم مسند يروي توقفه ... في ستة في البخاري إسنادها عال
والظاهر الآن عندي ما أقول به ... والله أعلم ما في باطن الحال
إن الإمام شهيد الدار خاشعهم ... الناسك الجامع القرآن والتالي
القانت المنفق الأموال حيث رضي ... مولاه مولى عفيفاً طاهر أذيال
مجلل منه تستحيي ملائكة ... ذوحياء وحلم غير مذلال
ليست فضائل ذي النورين مذكرة ... لكن كم قوم حاوى لفضل مفضال
ليس الذي ينفق الأموال محتسباً ... في نصرة الدين سمحا فيه بالمال
كباذل نفسه في الله محتسباً ... في كل هيجا جنود الكفر قتال
كل حميد ولكن ليس جود فتى ... بالمال كالجود بالروح الزكي الغالي
وليس تالي كتاب الله جامعه ... كناشر لمعالم دينه العالي
وبعد هذه الأبيات قولي:
ونائب وارث علم النبوة عن ... رسوله البدر ماحي الظلمة الجال
الأبيات المتقدمة إلى قول بدعات وإضلال، لأني بديت من وسط أبيات القصيدة(1/91)
الموسومة بحادي الأظغان في تفضيل علي على عثمان، رضي الله تعالى عنهما ومطلعها:
يا سائق الظعن تحدوها بترحال ... ارفق بها أنت بين الشيخ والضال
انزل بروض الحمى ما بين ذي سلم ... وبين سلع بقرب المنهل الحال
واقرأ السلام على أهل الخيام وبح ... بحب سلما وباهي حسنها الغال
وعم بالحب والمدح ولا تحب ... بعضاً وبعضاً مبغضاً قالي
كل الصحابة سادات نجوم هدى ... من يخل عن حب كل عن هدى خال
وأفضل الغر صديق سبوق عل ... وبعده المساجد الفاروق جاتال
أما الإمامان رأس القوم بعدهما ... ففيهما من خلاف بعض أقوال
وبعد هذه الأبيات ما تقدم من قولي، والأكثرون من الأعلام مذهبهم إلى آخر ما تقدم، ثم ختمت القصيدة بقوله:
ثم الصلاة على أعلى الأنام علي ... المرتضى دون قاب المنصب العالي
وآله الغر والصحب الكرام معاً ... ما غنت الورق أو ناحت بأطلال
وقد أفهمت ترتيبها كل من أراد أن يكتبها كلها، جملتها خمسة وثلاثون بيتاً. وفي قتل علي رضي الله تعالى عنه قصة مشهورة، وذلك أن الخوارج اجتمعوا وقالوا: إن علياً ومعاوية وعمرو بن العاص قد أفسدوا أمر هذه الأمة، فلو قتلناهم لعاد الأمر إلى حقه، وزال كل فساد لاحقه، فالتمسوا حيلة يتوصلون بها إلى قتلهم، ودبروا أمرهم بأن يكون قتل الثلاثة في ليلة واحدة، ثم تراجعوا في ثلاثة رجال ينتدبون لقتل الثلاثة، فقال عبد الرحمن بن ملجم: انا أقتل علياً، قالوا: وكيف لك بذلك؟ قال: اغتاله. وقال الحجاج بن عبد الله الضميري: وأنا أقتل معاوية. وقال دادويه العنبري: انا أقتل عمراً واتفقوا على أن يكون ذلك في سبع عشرة من رمضان فدخل ابن ملجم الكوفة وعلي رضي الله تعالى عنه بها، فاشترى سيفاً بألف درهم، وسقاه السم، وكمن لعلي رضي الله تعالى عنه، فلما خرج علي رضي الله عنه لصلاة الصبح ضربه على رأسه، وقيل كان ذلك في صلاة الجمعة. وأما الذي تكفل بقتل معاوية فدخل دمشق وضربه وهو في الصلاة فجرح إليته، ويقال إنه قطع عرق النسل فما أحبل بعدها. وأما رفيق عمرو بن العاص، فإنه دخل مصر وأراد قتله، وكان من قضاء الله في سلامة عمرو أنه استخلف خارجة بن حذافة في صلاة الصبح، وظن دادويه الخارجي أنه عمرو(1/92)
فقتله، فأخذ وأدخل على عمرو بن العاص. فقال: من هذا الذي أدخلتموني عليه؟ فقالوا عمرو بن العاص. فقال: فمن قتلت؟ قالوا خارجة فقال: اردت عمراً وأراد الله خارجة. وقيل إن عمراً هو الذي قال ذا القول، فصار هذا مثلاً لمن أراد شيئاً ففعل غيره غلطاً، وذكر أهل النسب والأخبار أن عمرو بن العاص أرسل من مصر إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، يستمده بثلاثة آلاف فارس، فأمده بالزبير بن العوام والمقداد بن الأسود وخارجة بن حذافة المذكور، وذكر شجاعة الثلاثة مشهور، وهذا الذي قتل خارجة أعني دادويه على وزن خالويه، يل: هو من بني العنبر بن عمرو بن تميم وقيل مولى لهم. وقيل إن خارجة الذي قتله الخارجي على ظن أنه عمرو بن العاص، نه من بني سهم رهط عمرو بن العاص. وقيل ليس بصحيح، وقيل إن عمرو بن العاص إنما تخلف عن الصلاة واستنابه لأجل وجع أصابه في بطنه وكان عمرو يقول: ما نفعني وجع بطني قط إلا تلك الليلة، وإلى قتل خارجة وسلامة عمرو أشار عبد الحميد بن عبدون الأندلسي في قصيدة من جملتها هذا البيت:
وليتها إذ فدت عمراً بخارجة ... فدت علياً بما شاءت من البشر
وكان عمرو بن العاص من دهاة العرب وشجعانها. وأما شجاعة علي رضي الله عنه فشائعة في كل مصر وريف، ولا يحتاج في شهرتها إلى تعريف، وكم له من مشاهد يستوجب فيها عظيم الثناء وجميل المحامد عند اضطرام الملاحم وانتهام المعالم، فهو هزبر غاياتها وحبر غامضاتها صارف عن وغاها نارها وكاشف عن حلاها خمارها. قلت: وقد أوضحت في كتاب المرهم في علم الأصول كيفية صفة بيعة أبي بكر واستخلافه عمر، وصفة قتل عمر بطعن الشيطان أبي لؤلؤة له وهو إمام في صلاة الصبح في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجعله الأمر بعده شورى بين ستة عثمان، وعلي وطلحة - والزبير - وسعد - وعبد الرحمن بن عوف، رجوع الأمر إلى تقديم عثمان وصفة والبيعة له، وكذلك صفة البيعة لعلي بعد قتل عثمان، وكذلك صفة خروج عائشة رضي تعالى الله تعالى عنها وطلحة والزبير إلى البصرة، وخروج علي بعدهم، ونباح كلاب الحوأب وهمها بالرجوع عند ذلك لذكرها ما قال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك على ما هو معروف في الحديث. وكذلك صفة خروج الخوارج على علي رضي الله تعالى عنه، وقتاله وقتله لهم بعد إرساله ابن عباس إليهم، ومناظرته إياهم، ورجوع الخوارج(1/93)
بعضهم، وذكر عددهم وها أنا أشير إلى شيء من ذلك.
ذكر شيء من قصة الخوارج
وما جرى بينهم وبين علي رضي الله تعالى عنه ذكر بعض أهل التواريخ أنهم لما استقروا في حروراء وهم في ستة آلاف مقاتل، وقيل ثمانية آلاف،، مضى إليهم علي بنفسه وخطبهم متوكئاً على قوسه، وقال هذا يوم من فلح فيه يعني من ظهرت حجته فلح يوم القيامة، انشدكم الله هل تعلمون أن لا أحد أكره مني للحكومة، قالوا: اللهم نعم: قال: فهل علمتم أنكم أكرهتموني عليها؟ قالوا: اللهم نعم: قال: فعلام خالفتموني ونابذتموني؟ قالوا: اتينا ذنباً عظيماً، فتبنا إلى الله تعالى منه، فتب أنت إليه منه واستغفر نعد إليك، قال: فإني أستغف الله من كل ذنب فرجعوا معه، فلما استقروا بالكوفة أشاعوا أن علياً رجع عن التحكيم، وتاب منه، ورآه ضلالاً، فأتاه الأشعث بن قيس، وقال له: يا أمير المؤمنين إن الناس قد تحدثوا أنك، قد رأيت الحكومة ضلالاً والإقامة عليها كفراً، وأنك قد بدا لك، ورجعت عنها، فخطب الناس وقال: من زعم أني رجعت عن الحكومة فقد كذب، ومن رآها ضلالاً فهو أضل منها، فلما سمعت الخوارج منه هذا خرجت من المسجد، فقيل إنهم خارجون، فقال: لا أقاتلهم حتى يقاتلوني، وسيفعلون، فوجه إليهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فلما أتاهم رحبوا به وأكرموه، وقالوا ما جاء بك يا ابن عباس؟ قال: جئتكم من عند صهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابن عمه، وأعلمنا بربه وسنة نبيه، ومن عند المهاجرين والأنصار. قالوا: يا ابن عباس إنا أتينا ذنباً عظيماً حين حكمنا الرجال في دين الله تعالى، فإن تاب كما تبنا ونهض لمجاهدة عدونا رجعنا إليه، فقال لهم ابن عباس: انشدكم الله إلا ما صدقتم، اما علمتم أن الله تعالى أمر بتحكيم الرجال في أرنب تساوي ربع درهم يصاد في الحرم؟ فقال عز من قائل: " يحكم به ذو عدل منكم هدياً بالغ الكعبة ". - المائدة: 95 - وكذا في شقاق رجل امرأته بقوله تعالى: " فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما " - النساء: 35 - فقالوا: اللهم نعم. قال: فأنشدكم الله هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمسك عن القتال للهدنة بينه وبين قريش في الحديبية؟ قالوا اللهم نعم ولكن علياً سما نفسه عن الخلافة بالتحكيم. قال ابن عباس: ليس ذلك يزيلها عنه، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محا اسم النبوة يوم الصحيفة، فلم يزل ذلك عنه اسم النبوة، حيث قال لعلي: " اكتب الشرط بيننا بسم الله الرحمن الرحيم " هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال المشركون: لو علمنا أنك رسول الله(1/94)
لاتبعناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فأمر علياً أن يمحوها، فقال غلي: والله لا أمحوها فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " أرني مكانها "، فأراه مكانها، فمحاها، وكتب: ابن عبد الله فلما سمع الخوارج منه ذلك رجع منهم ألفان، وبقي أربعة آلاف أو ستة على الخلاف فأجمع رأيهم على البيعة لعبد الله بن وهب الراسبي، فبايعوه وخرج بهم إلى النهروان، فتبعهم علي رضي الله عنه، فأوقع بهم فقتل منهم ألفين وثمان مائة رجل. ومنهم ذو الثدية الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علامة على الفرقة التي تمرق مروق السهم من الرمية بعد أن قال لهم علي رضي الله عنه: ارجعوا أو ادفعوا إلينا قاتل عبد الله بن خباب قالوا: كلنا قتله وشرك في دمه: وذلك أنهم لما خرجوا إلى النهروان لقوا مسلماًونصرانياً فقتلوا المسلم وأطلقوا النصراني، وأوصوا به خيراً، وقالوا احفظوا وصية نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم، ثم لقوا بعده عبد الله بن خباب بن الأرت صاحب رسول صلى الله عليه وآله وسلم أعني خباباً وفي عنقه المصحف ومعه جاريته وهي حامل، قالوا: ان هذا الذي في عنقك يأمرنا بقتلك فقال: احيوا ما أحيا القرآن وأميتوا ما أمات القرآن. قلت. يعني أحيوا ما حكم القرآن بإحيائه وأميتوا ما حكم بإماتته فقالوا حدثنا عن أبيك قال لهم نعم حدثني أبي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول تكون فتنة بموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه، يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، فكن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل، قالوا: فما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى خيراً، قالوا: فما تقول في علي قبل التحكيم وفي عثمان قبل الحديث؟ فأثنى خيراً أيضاً قالوا: فما تقول في الحكومة والتحكيم؟ قال: اقول: ان علياً أعلم بالله منكم وأشد توقياً على دينه، قالوا: انك لست بمتبع الهدى، فأخذوه وقربوه إلى شاطىء النهر، فذبحوه فاندفق دمه على الماء يجري مستقيماً، وقتلوا جاريته رحمة الله عليهما، وكانت خلافة علي في الظاهر كلها خلاف وكدر، وخلافة عمر على عكس ذلك كلها اتفاق وصفاء، وأول خلافة أبي بكر كدر وآخرها صفاء، وعلى عكس ذلك خلافة عثمان أولها صفاء وآخرها كدر على ما جرى به القلم وسبق به القدر. ومن الأجوبة المعجبة المقحمة ما روي أنه قيل لعلي رضي الله عنه: ما بال خلافة أبي بكر وعمر كانت صافية وخلافتك أنت وعثمان منكدرة؟ فقال: رضي الله عنه للسائل: لأني كنت أنا وعثمان من أعوان أبي بكر وعمر، وكنت أنت وأمثالك من أعوان عثمان وأعواني. ومنها أنه لما قال له بعض اليهود: ما أتي عليكم يا معشر المسلمين بعد موت نبيكم، إلا كذا وكذا من زمان ذكره، حتى علا بعضكم بالسيف رأس بعض. قال له علي رضي الله(1/95)
عنه: فإنكم ما جفت أقدامكم من البحر حتى قلتم معشر اليهود يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة. ثم بعد وفاة علي بويع لابنه الحسن رضي الله عنهما، وتمت بخلافته ثلاثون سنة، وتحقق ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً " الحديث.
سنة إحدى وأربعين
في ربيع الآخر منها سار أمير المؤمنين الحسن بن علي في جيوشه، وسار معاوية في جيوشه، يقصد كل منهما صاحبه للقتال، فالتقوا في ناحية الأنبار فوفق الله تعالى الحسن لحقن الدماء. والتحقيق بما أشار إليه جده المطلع على الأنباء صلى الله عليه وآله وسلم: " إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين ". فصالح معاوية، فأخرج نفسه عن أمر الخلافة بعد أن شرط عليه شروطاً، وبرز بين الصفين، وقال: اني قد اخترت ما عند الله وتركت هذا الأمر لك، فإن كان لي فقد تركته لله، وإن كان لك فما ينبغي لي أن أنازعك، فكبر الناس واختلطوا في تلك الساعة وسميت تلك السنة سنة الجماعة. فقيل له: يا مذل المؤمنين فقال: بل أنا معز المؤمنين. هكذا نقل بعض أهل العالم. وروينا في صحيح البخاري عن الحسن البصري قال: سمعت أبا موسى يقول: استقبل والله الحسن بن علي إلى معاوية بكتائب أمثال الجبال، فقال عمرو بن العاص: اني لأرى كتائب لا تتولى حتى تقتل أقرانها، فقال معاوية: وكان والله خير الرجلين، اي عمر وإن قتل هؤلاء هؤلاء، وهؤلاء هؤلاء من لي بأمور المسلمين من لي بنسائهم؟ من لي بضعفتهم؟ فبعث معاوية رجلين من قريش من بني عبد شمس عبد الله بن سمرة وعبد الله بن عامر، فقال: اذهبوا إلى هذا الرجل فاعرضوا عليه، وقولا له واطلبا إليه، فأتيا فدخلا عليه وتكلما، فقالا له وتطلبا إليه فقال الحسن بن علي: انا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال، وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها قالا فإنه يعرض كذا وكذا ويطلب إليك ويسألك، قال: فمن لي بهذا؟ قالا: نحن لك به. فما سألهما شيئاً إلا قالا نحن لك به فصالحه. قال الحسن: ولقد سمعت أبا بكرة يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه، وهو يقبل على الناس تارة وعليه أخرى، ويقول: " إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين ". قلت فهذا الحديث الصحيح كما نرى. ورووا في التواريخ: ان أهل العراق بايعوا الحسن، وسار بهم نحو الشام وجعل على مقدمته قيس بن(1/96)
سعد، وأقبل معاوية حتى نزل منبج، فبينما الحسن بالمداين إذ نادى مناد في عسكره: قتل قيس بن سعد، فشد الناس على خيمة الحسن فنهبوها، وطعنه رجل بخنجر، فتحول إلقصر الأبيض وسبهم وقال: لا خير فيكم قتلتم أبي بالأمس واليوم تفعلون بي هذا. ثم ذكروا أمورأ أخرى في الصلح رأيت حذفها أصلح ومن إثباتها أملح.
وفي السنة المذكورة توفيت أم المؤمنين حفصة بنت عمر. وقيل توفيت سنه خمس وأربعين. وصفوان بن أمية الجمحي، وكان قد شهد اليرموك أميراً وله رواية في صحيح مسلم. فهو من أشراف قريش وأعيانهم قيل ملك قنطاراً من الذهب.
وقيل توفي فيها لبيد بن ربيعة العامري الشاعر المشهور الذي قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " أصلق كلمة قالتها العرب كلمة لبيد ألاكل شيء ما خلا الله باطل "، وفد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحسن إسلامه. وقيل: مات في إمرة عثمان بالكوفة ابن مائة وخمسين سنة.
سنة اثنتين وأربعين
فيها توفي عثمان الحجبي، وغزا عبد الرحمن بن سمرة سجستان فافتتح بعضها، وسار راشد بن عمرو وشن الغارات وتوغل في بلاد السند.
سنة ثلاث وأربعين
فيها افتتح عقبة بن نافع بعض بلاد السودان، وسبي بسر بن أبي أرطأة بأرض الروم وتوفي عمرو بن العاص السهمي أمير مصر ليلة عيد الفطر، وكان من الدهاة أولي الحزم والرأي، وولي امرة جيش ذات السلاسل. وذكر أبو العباس المبرد في كتاب الكامل أن عمرو بن العاص لما حضرته الوفاة دخل عليه ابن عباس رضي الله عنهم فقال: يا أبا عبد الله كنت أسمعك كثيراً ما تقول: وددت لو رأيت رجلاً حضرته الوفاة حتى أسأله عن ما يجد. فكيف تجد؟ قال: اجد كأن السماء مطبقة على الأرض، وكأني بينهما، وكأنما وأتنفس من خرم ابنة ثم قال: اللهم خذ مني حتى ترضى، فدخل عليه ولده عبد الله فقال له: يا ولدي خذ ذلك الصندوق. فقال: لا حاجة لي به. فقال: انه مملوء مالاً. فقال: لا حاجة لي به، ليته مملوء بعراً، ثم رفع يده وقال: اللهم إنك أمرت فعصينا، ونهيت فارتكبنا فلا بري فاعتذر، ولا قوي فانتصر، ولكن لا إله إلا(1/97)
أنت. ثم فاضت روحه. وتوفي عبد الله بن سلام الإسراتيلي رضي الله عنه الذي شهد له النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والذي قالت فيه اليهود قبل أن تعلم إسلامه: خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا. والمرجوع إلى ما قال في أحكام التوراة. والمراد عند بعض المفسرين بقوله تعالى: " ومن عنده علم الكتاب " - الرعد: 43 -. وتوفي محمد بن مسلمة الأنصاري بالمدينة في صفر، وكان بدرياً اعتزل الفتنة، واتخذ سيفاً من خشب.
سنة أربع وأربعين
في ذي الحجة منها توفي أبو موسى الأشعري اليمني المقري الأمير عبد الله بن قيس. استعمله النبي صلى الله عليه وآله وسلم على عدن، واستعمله عمر على الكوفة والبصرة، وفتحت على يديه عدة أمصار، وهو الذي استمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى قراءته وقال: " لقد أوتي مزماراً من مزامير آل داود " وقال صلى الله عليه وآله وسلم فيه وفي قومه الأشعريين: " هم مني وأنا منهم " بعد أن وصفهم بأوصاف جميلة وأبو موسى المذكور ممن هاجر من اليمن إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع اثنين وخمسين رجلاً من قومه من أهل زمع وزبيد فوافى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين افتتح خيبر، فقسم لهم ولم يقسم لأحد، لم يشهد الفتح غيرهم وغير أصحاب السفينة التي قدموا فيها مع جعفر بن أبي طالب، وكان أبو موسى قد ركب هو وأصحابه في البحر فألقتهم الريح إلى بلاد الحبشة، وكانوا مع جعفر بن أبي طالب ومن معه من المسلمين إلى أن جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم جميعاً، فوجدوه قد افتتح خيبر، ووصف عمر أبا موسى فقال: كيس ووصفه علي فقال: صبغ بالعلم صبغة، وكان قد بعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو ومعاذاً إلى اليمن، ثم قال يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا.
وفي السنة المذكورة افتتح عبد الرحمن بن سمرة مدينة كابل. وغزا المهلب في أرض الهند، والتقى العدو فهزمهم، وفيها توفيت أم حبيبة بنت أبي سفيان أم المؤمنين رضي الله عنها.
سنة خمس وأربعين
وفيها غزا معاوية بن خديج إفريقية، وتوفي أبو خارجة بن ثابت الأنصاري المقري الفرضي الكاتب رضي الله عنه، وله ست وخمسون سنة، وكان عمر رضي الله عنه يستخلفه على المدينة إذا حج، وقيل بقي إلى سنة أربع وخمسين، ومن مناقبه قوله صلى الله عليه وآله(1/98)
وسلم: " أفرضكم زيد " وكونه من الأربعة الذين حفظوا القرآن من الأنصار، وما اجتمع له من شرف العلم والصحبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وروي أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يأتي بابه وينتظره حتى يخرج ليسمع منه العلم، فإذا خرج قال: يا ابن عباس هلا كنت لتيك أنا فيقول: العلم يؤتى ولا يأتي فإذا ركب أخذ بركابه فيقول: ما هذا يا ابن عباس؟ فيقول: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا فأخذ زيد كفه ويقبلها ويقول: هكذا أمرنا وعلى الجملة فزيد بن ثابت غصن مجده في أعلى ذروة المعالي نابت. وفيها توفي عاصم بني عدي سيد بني العجلان، وكان قد رده النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بدر في شغل، وضرب له بسهم، وقتل أخوه معن يوم اليمامة.
سنة ست وأربعي
فيها ولي الربيع بن زياد الحارثي سجستان، زحف كابل شاه في جمع من الترك وغيرهم، فالتقوا فهزمهم وفيها توفي عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وكان شريفاً جواداً محدوحاً مطاعاً، وعليه كان لواء معاوية يوم صفين.
سنة سبع وأربعين
فيها غزا رويفع بن ثابت الأنصاري أمراء طرابلس المغرب إفريقية، فدخلها ثم انصرف، وفيها حج بالناس عنبسة بن أبي سفيان.
سنة ثمان وأربعين
فيها استشهد عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي، مات الحارث بن قيس الجعفي صاحب ابن مسعود رضي الله عنه.
سنة تسع وأربعين
في ربيع الأول منها توفي سيد شباب أهل الجنة وريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبو محمد الحسن بن علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي، رضي الله تعالى عنهما، على ما ذكره الواقدي وغيره. والأكثرون قالوا في
سنة خمسين.
ومن مناقبه رضي الله تعالى عنه: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن ابني هذا سيد(1/99)
وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين " وحمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم له على عاتقه وهو صغير. وإعلامه صلى الله عليه وآله وسلم بأنه وأخاه ريحانتاه وقطعه صلى الله عليه وآله وسلم الخطبة، ونزوله إليهما، ورفعه لهما ووضعه بين يديه قلت ومن أعظمهما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " اللهم إني أحبهما فأحبهما وأحب من يحبهما ".
سنة خمسين
فيها توفي الحسن بن علي المذكور رضي الله تعالى عنهما على الخلاف المذكور في المدينة الشريفة، وعمره سبع وأربعون سنة، قلت ومناقبه بالأنساب والاكتساب والقرابة والنجابة والمحاسن في الظاهر والباطن معروفة مشهورة، وفي تعدادها غير محصورة، وكان مع نهاية الشرف والارتفاع، في غاية التلطف والاتضاع، ومن ذلك ما روي أنه حج ماشياً على رجليه، والنجائب تقاد بين يديه خمساً وعشرين عمرة وحجة.
ومن زهده ما روي أنه خرج لله تعالى، عن ماله ثلاث مرات، وشاطره مرتين حتى في نبله. ومن جوده أنه سأله إنسان فأعطاه خمسين ألف درهم وخمس مائة دينار وقال: ابيت بجمال يحمل لك فأتي بجمال، فأعطاه طيلسانه، قال يكون كراء الجمال من قبلي. ومن جوده أيضاً وشدة تواضعه: ما ذكره جماعة من العلماء في تصانيفهم أنه مر بصبيان معهم كسر خبز فاستضافوه، فنزل من فرسه فأكل معهم، ثم حملهم إلى منزله وأطعمهم وكساهم، وقال اليد لهم لأنهم لم يجدوا غير ما أطعموني وأنا نجد أكثر منه. ومن توكله ما روي أنه بلغه أن أبا ذر يقول الفقر أحب إلي من الغنا والسقم أحب من الصحة، فقال: رحم الله أبا ذر أما أنا فأقول: من اتكل على حسن اختيار الله تعالى له لم يختر غير ما اختار الله له ويروى أيضاً أن هذا الكلام قول أخيه الحسين رضي الله تعالى عنهما. وفيها توفي عبد الرحمن بن سمرة بن جندب بن ربيعة العبسي، كعب بن مالك السلمي أحد الثلاثة الذين خلفوا، والمغيرة بن شعبة الثقفي، وكان من رجال العزم والحزم والرأي والدهاء، ويقال: انه أحصن ثلاث مائة امرأة وقيل ألف امرأة. وفيها توفيت أم المؤمنين صفرة بنت حيي رضي الله عنها.(1/100)
سنة إحدى وخمسين
فيها توفى سعيد بن زيد بالمدينة يعني سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل القرشي العدوي المجاب الدعوة في القصة المشهورة في المرأة التي ادعت عليه أنه غصب شيئاً من أرضها، احد العشرة الكرام المشهود لهم بالجنة على لسان سيد الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام، اسلم قبل عمر وهو ابن عمه وتحته أخته فاطمة بنت الخطاب، وبسببها كان إسلام عمر رضي الله عنه وعن الجميع، وضرب صلى الله عليه وآله وسلم له ولطلحة سهميهما يوم بدر، وكان قد أرسلهما إلى طريق الشام يتجسسان الأخبار ذكر ذلك الواقدي. وفي السنة المذكورة وقيل في التي تليها توفي أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد، كان عقبياً بدرياً، كثير المناقب رضي الله عنه. قلت ومن أعظمها قدراً وأشرفها فخراً، انه نزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيته أول قدومه المدينة، وناهيك بها مكرمة ومنقبة معظمة. وفي منزله المذكور بنيت المدرسة المعروفة بالشهابية، وفيها بيت يقال له المبروكة، وبه يتبرك ويذكر أنه موضع مبرك ناقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبروك ناقته صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك المكان من أعظم الدلائل على فضله وفضل من حوله من السكان: وفيها توفيت ميمونة، قلت هكذا قال بعضهم ميمونة وأطلق وقد تقدم وفاة ميمونة أم المؤمنين في، سنة سبع وثلاثين. وفيها قتل حجر بن عدي الكندي وأصحابه، يقال بأمر معاوية. وله صحبة ووفادة وجهاد، وعبادة وفيها توفي زيد بن ثابت بخلف.
سنة اثنتين وخمسين
فيها توفي عمران بن حصين الخزاعي، عثه عمر رضي الله عنهما يفقه أهل البصرة، وولي قضاءها، وكان الحسن البصري يحلف ما قدم البصرة خير لهم من عمران، وكان يسمع تسليم الملائكة عليه حتى يكتوي بالنار، فانحبس ذلك عنه عاماً ثم أكرم الله تعالى برد ذلك عليه، وهو الراوي لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في وصف المتوكلين: " الذين لا(1/101)
يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ". وفيها توفي كعب بن عجرة الأنصاري من أهل بيعة الرضوان، ومعاوية بن خديج الكندي التجيبي الأمير، له صحبة ورواية وفيها توفي أبو بكرة الثقفي نفيع بن الحارث، وقيل: ابن مشروح تدلى من حصن الطائف ببكرة فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسلماً، وفيها توفي سيد بجيلة جرير بن عبد الله البجلي على القول الأصح من كرام قومه. ومن مناقبه دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم له: " اللهم اجعله هادياً مهدياً " وقوله ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم وندبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتخريب الكعبة اليمانية وهو بيت أصنام يقال له ذو الخلصة فخربها وحرقها حتى صارت كما قال: كأنها جمل أجرب يعني مطلياً بالقطران، وكان معه من جيل من أحمس مائة وخمسون، دعا لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في انتدابهم لما أمرهم به صلى الله عليه وآله وسلم عما حكاه بقوله وبرك على جيل أحمس خمس مرات، وكان جرير جميلاً باهج الحسن سماه عمر يوسف هذه الأمة، وكان يخضب لحيته بالزعفران، وقد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ستة عشر، وأسلم وسكن الكوفة إلى خلافة علي رضي الله عنه، وكان طويلاً ونعله ذراع.
سنة ثلاث وخمسين
توفي فيها عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وكان من الزهاد الشجعان قتل يوم اليمامة سبعة، وفيها توفي الأمير زياد ابن أبيه الذي استلحقه معاوية وزعم أنه ولد أبي سفيان، قالوا: وكان لبيباً فاضلاً يضرب المثل بدهائه جمع له معاوية إمرة العراقين. وفيها وقيل قبلها توفي عمرو بن حزم الأنصاري الخزرجي، لي العمل على نجران وله سبع عشرة سنة.
وفيها توفي فيروز الديلمي قاتل الأسود العنسي، له صحبة ورواية وفيها عند بعضهم توفي فضالة بن عبيد الأنصاري قاضي دمشق لمعاوية وخليفته عليها، وقيل توفي سنة تسع.
سنة أربع وخمسين
توفي فيها أسامة بن زيد بن حارثة الكلبي حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابن حبه، ومن مناقبه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدمه أميراً على جيش، فيهم الأكابن والسادات من المهاجرين والأنصار، وثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(1/102)
بحمص، وفيها توفي جبير بن مطعم بن عبد الله بن نوفل بن عبد مناف، وكان من سادة قريش وحلمائها، فيها توفي حسان بن ثابت الشاعر الأنصاري، وله مائة وعشرون سنة، نصفها في الجاهلية ونصفها في الإسلام، قيل: وكذا أبوه وجده عاش كل منهما هذا القدر. ومن مناقبه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " اهجم وجبرائيل معك " وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الله يؤيد حسان ما نافح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو فاخر ". وكان ينصب المنبر له في المسجد، ومن شعره يخاطب أبا سفيان بن الحارث في قصيدة طويلة منها قوله شعراً:
هجوت محمداً فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
اتهجوه ولست له بكفر ... فشر كما لخير كما فداء
فإن أبي ووالدتي وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء
ومنها:
عدمنا خيلنا إن لم نراها ... تثير النقع موردها كداء
يبارين الأعنة مصعدات ... على أكتافها الأسل الظماء
ولم يزل يقول إلى أن قال: وكان الفتح وانكشف الغطاء. وكان كما قال: وفيها توفي حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد يخلف تقدم، وكان أحد الأشراف الأجواد، باع داراً بستين ألفاً من معاوية فتصدق بها، وأعتق مائة نسمة في الجاهلية ومائة في الإسلام، ثم دخل الكعبة المعظمة المباركة. وقال لابن الزبير: كم ترك أبوك من الدين؟ قال ألف ألف درهم قال علي.
ثكلت بنيتي إن لم تروها ... تثيرالنقح من كنفي كداء
صحيح مسلم نصفها وكانت والدته ولدته داخل الكعبة المعظمة المباركة وفيها توفي أبو قتادة الأنصاري السلمي الحارث بن ربيع فارس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، شهد أحداً والمشاهد وفيها توفي مخرمة بن نوفل الزهري.
سنة خمس وخمسين
فيها توفي أبو إسحاق سعد بن أبي وقاص الزهري القرشي أحد العشرة ومقدم جيوش الإسلام في فتح العراق، وأول من رمى بسهم في سبيل الله تعالى، ومناقبه كثيرة شهيرة.(1/103)
ومن مناقبه أنه كان مجاب الدعوة من ذلك قول الذي دعا عليه: اصابني دعوة سعد في الحديث الصحيح. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم " ليت رجلاً صالحاً يحرسني الليلة " فوفق الله تعالى سعداً لذلك، فجاء وبات يحرس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك قبل نزول قوله تعالى: " والله يعصمك من الناس " - المائدة: 67 -. ومنها ما روي عن علي رضي الله تعالى عنه، قال: ما جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبويه لأحد غير سعد بن مالك، فإنه جعل يقول " ارم فداك أبي وأمي ". وتوفي أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري السلمي الذي أسر العباس يوم بدر، وتوفي الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي أحد السابقين، وقيل توفي في سنة ثلاث وخمسين.
سنة ست وخمسين
فيها استشهد قثم بن العباس بن عبد المطلب في جهة سمرقند مع سعيد بن عثمان بن عفان المولى على خراسان بتولية معاوية بن أبي سفيان، وكان قثم يشبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خلق صورته، وهو آخر من طلع من لحد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفيها توفيت أم المؤمنين جويرية بنت الحارث المصطلقية، رضي الله عنها.
سنة سبع وخمسين
فيها عزل سعيد بن عثمان بن عفان عن خراسان، وأضيفت إلى عبد الله بن زياد، وتوفي عبد الله بن السعدي العمري، له صحبة وفيها وقيل في ثمان وخمسين وفي رمضان توفيت أم المؤمنين الصديقة ابنة الصديق الفقيهة المحدثة الفصيحة ذات التحقيق. ومن مناقبها نزول القرآن الكريم في براءتها، ونزول جبرائيل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في لحافها، وكونها أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما ورد في الحديث الصحيح.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الأطعمة " وعرضها في الحرير على النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يتزوجها. وقوله صلى الله عليه وآله لابنته فاطمة رضي الله عنها: " إن كنت تحبيني فأحبي هذه "(1/104)
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " إنها ابنة أبي بكر " يعني في فهمها وحسن نظرها، وقولها قبضه الله بين سحري ونحري، تعني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومات صلى الله عليه وآله وسلم في يومها. وقوله صلى الله عليه وسلم لها: " إن جبرائيل يقرىء عليك السلام " ونزول آية التيمم عند انحباس الناس عن السفر بسببها لالتماس، عقدها حين ضاع، ولم يتزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكراً غيرها. وفيها آيات الكتاب المبين تتلى إلى يوم الدين، وإلى ذلك أشرت بقولي في بعض القصائد مخصصاً لابنة الصديق عائشة رضي الله تعالى عنهما، من صورة النور تعلو تلك الأنوار، ذات المحاسن الحميدة والمناقب العديدة، عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما. وتوفي أبو هريرة الدوسي الحافظ عند بعضهم، وعند جماعة في سنة ثمان، وعند آخرين في سنة تسع وخمسين، وكان كثير الذكر والعبادة حسن الأخلاق، ولي امرة المدينة في أيام معاوية، وتحمل يوماً حزمة حطب على ظهره، وقال طرقوا للأمير. وروي عنه أنه كان يصلي خلف علي رضي الله عنه، ويأكل من سماط معاوية ويعتزل القتال، فسأل عن ذلك وقال: الصلاة خلف علي أفضل، وسماط معاوية إذ سم وترك القتال أسلم، هكذا حكي عنه رضي الله عنه.
سنة ثمان وخمسين
توفي جبير بن مطعم عند بعضهم، وشداد بن أوس الأنصاري نزيل بيت المقدس وعقبة بن عامر الجهني الأمير بمصر لمعاوية، وكان مقرئاً فصيحاً مفوهاً من فقههاء الصحابة وعبيد الله بن عباس بن عبد المطلب، وله صحبة ورواية، وكان أحد الأجواد، لي اليمن العلي رضي الله عنه. ومن جوده أنه كاده بعض الناس وأشاع عنه بأنه يدعو الناس إلى وليمة فحضر الناس وامتلأت داره فقال: ما الخبر؟ فأخبر أنه قيل إنك دعوتهم، فأمر غلمانه أن تهيؤوا طعاماً ويحضروه، فأحضروه، حتى تغدى جميع من حضر، ثم التفت إلى غلمانه وقال: ايمكن أن تهيؤوا لنا كل يوم مثل هذا؟ فقالوا: نعم فأمر أن ينادي في الناس أن يحضروا عنده كل يوم للغداء.(1/105)
سنة تسع وخمسين
توفي أبو محذورة الجمحي المؤذن، وله صحبة ورواية وفيها، وقيل في التي قبلها توفي شيبة بن عثمان الحجبي العبدري المتولي فتح الكعبة. وتوفي سعيد بن العاص التي ولي إمرة الكوفة لعثمان رضي الله عنه، وافتتح طبرستان، وكان ممدوحاً كريماً عاقلاً حليماً، اعتزل يوم الجمل وصفين. وتوفي أبو عبد الرحمن بن عامر بن كريز العبشمي أمير عثمان رضي الله عنهما.
سنة ستين
توفي معاوية بن أبي سفيان في رجب منها بدمشق، وله ثمان وسبعون سنة، ولي الشام لعمر ولعثمان رضي الله عنه عشرين سنة، وولي الملك بعد علي رضي الله عنه عشرين سنة أخرى. وتوفي سمرة بن جندب الفزاري في أولها، وبلال بن الحارث المزني وعبد الله بن المغفل المزني من أهل بيعة الرضوان، وفيها أوفى ما قبلها أبو حميد الساعدي.
سنة إحدى وستين
استشهد فيها يوم عاشوراء ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسبطه وسلالة النبوة مقر المحاسن والمناقب والفتوة أبو عبد الله الحسين بن علي بكربلاء، عمره خمس وستون سنة، وكان قد أنف من إمرة يزيد بن معاوية، فلم يبايعه وكان قد بايعه المسلمون كلهم إلا أربعة: عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر وهو رابعهم رضي الله عنهم، وجاءته كتب أهل الكوفة يحضونه على القدوم عليهم فاغتر، وسار في أهل بيته حتى بلغ كربلاء، فعرض له أعداء الله وقتلوه في قصة طويلة، وقتل معه ولداه علي الأكبر وعبد الله وإخوته جعفر ومحمد وعتيق والعباس الكبير. وابن أخيه قاسم بن الحسن. وأولاد عمه محمد وعون، وابنا عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وابناه عبد الله وعبد الرحمن، فإنا لله وإنا إليه راجعون.(1/106)
قلت هذا ما نقل بعضهم على وجه الإجمال، وها أنا أذكر ما فصل بعضهم على وجه الاختصار، وحاصل ما ذكروا أن يزيد أرسل إلى الوليد بن عتبة أن يأخذ له البيعة على الناس، فأرسل إلى الحسين بن علي وإلى عبد الله بن الزبير ليلاً فأتى بهما، فقال: بايعا فقالا مثلنا لا يبايع سراً، ولكن نبايع على رؤوس الأشهاد إذا أصبحنا، فرجعا إلى بيوتهما وخرجا من ليلتهما إلى مكة، وذلك لليليتين بقيتا من رجب، فأقام الحسين بمكة شهر شعبان ورمضان وشوال وفي القعدة، وخرج يوم التروية يريد الكوفة، فبعث عبيد الله بن زياد ابن أبيه خيلاً وأمرعليهم أميراً سموه من أولاد بعض الصحابة أكره ذكره فأدركه بكربلاء، وما زال عبيد الله بن زياد يزيد العساكر إلى أن بلغوا اثنين وعشرين الفاً، ووعد الأمير المذكور أن يملكه مدينة الري، فباع الفاسق الرشد بالغي وفيه يقول:
أأترك ملك الري والري بغيتي ... وارجع مأثوماً بقتل حسين
قلت ولو قال:
أأترك ملك الري بل هو بغيتي ... وإن عدت مأثوماً يقتل حسين
لكان هذا الإنشاد أدل على المراد، فضيق عليه الفاسق أشد تضييق، وسد بين يديه واضح الطريق إلى أن قتله يوم الجمعة وقيل يوم السبت وقيل يوم الأحد، واتفقوا على أنه يوم عاشوراء بقرب الكوفة بموضع يقال له كربلاء، وعليه جبة خز بعد أن حموه عن الماء وفي ذلك يقول الشاعر.
فدونك يا ماء العذيب تعرضت ... مياه رحيمات عن الوصل صدت
حميت كما كان الحسين بكربلا ... عن الماء يحمي مثل حالته التي
وقتل معه اثنان وثمانون من أصحابه مبارزة، ثم قتل جميع بنيه إلا علي بن الحسين المعروف بزين العابدين، فإنه كان مريضاً وأخذ أسيراً بعد قتل أبيه وقتل أكثر إخوة الحسين وأقاربه، وفيهم يقول القائل:
عيني أبكي بعبرة وعويل ... أو اندبي إن ندبت آل رسول
سبعة كلهم لصلب علي ... قد أصيبوا وستة لعقيل
ورووا عن جعفر الصادق رضي الله عنه أنه وجد بالحسين ثلاث وثلاثون طعنة وأربع وثلاثون ضربة واختلفوا في قاتله رضي الله تعالى عنه اختلافاً كثيراً وذكر بعضهم أنه قتل معه من أولاد فاطمة رضي الله تعالى عنها سبعة عشر رجلاً.(1/107)
وذكر أبو عمر بن عبد البر عن الحسن البصري قال أصيب مع الحسين بن علي ستة عشر رجلاً من أهل بيته ما على وجه الأرض لهم شبيه، وقيل إنه قتل مع الحسين بن علي من ولده وإخوته وأهل بيته ثلاثة وعشرون رجلاً غير من قتل منهم من غيرهم كما تقدم، وقيل إن ابن زياد كان قد بعث على الجيش أميراً وهو الحارث بن يزيد التميمي، لما حقت له الحقائق ورأى الأمر يؤول إلى ما آل تاب، وانحاز إلى فئة الحسين، وقاتل معهم حتى قتل، وجز رأس الحسين بعض الفجرة الفاسقين، وحمله إلى ابن زياد، ودخل به عليه وهو يقول:
أقر ركابي فضة وذهباً ... أنا قتلت الملك الحمجبا
قتلت خير الناس أماً وأباً ... وخيرهم إذ يذكرون النسبا
فغضب ابن زياد من قوله، وقال: اذا علمت أنه كذلك فلم قتلته، والله لا نلت مني خيرا أبداً، ولألحقنك به، ثم قدمه فضرب عنقه، وقيل إن يزيد بن معاوية هو الذي قتل القاتل. وروى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك قال: اتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين، فجعل في طست، فجعل ينكت فني فيه، وقال في حسنه شيئاً، قال أنس كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان مخضوباً بالوسمة قلت وهذا الفعل يدل على عظيم الزندقة والفجور. وذكر الإمام القرطبي في كتاب التذكرة عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال حدثنا حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم نصف النهار أشعث أغبر ومعه قارورة فيها دم يلتقطه، قال: فقلت: يا رسول الله ما هذا؟ قال " دم الحسين وأصحابه لم أزل أتبعه منذ اليوم "، قال عمار: فحفظنا ذلك اليوم، فوجدناه قتل في ذلك اليوم. وأخرج الإمام أحمد أيضاً في مسنده بسنده إلى أنس رضي الله عنه أن مالك المطر استأذن أن يأتي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأذن له، فقال لأم سلمة املكي علينا الباب لا يدخل علينا أحد، قال: وجاءه الحسين ليدخل فمنعته، فوثب فدخل فجعل يقعد على ظهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم: وعلى منكبيه وعلى عاتقه قال فقال الملك للنبي صلى الله عليه وسلم: اتحبه؟ قال: نعم قال أما أن أمتك ستقتله، وإن شئت لأريتك المكان الذي يقتل فيه، فضرب بيده فجاء بطينة حمراء فأخذتها أم سلمة، فصيرتها في خمارها. وقيل وضعتها في قارورة، فلما قرب وقت قتل الحسين نظرت في القارورة فإذا الطين قد(1/108)
استحال دماً. ولما قتل الحسين وأصحابه سيقت حريمهم كما تساق الأسارى قاتل الله فاعل ذلك، وفيهن جمع من بنات الحسين، وبنات علي رضي الله عنهما، وعن الجميع ومعهن زين العابدين مريضاً. روي أنه لما قتل السادة الأخيار، مال الفجرة الأشرار إلى خيام الحريم المصؤنة، وهكتوا الأستار، فقال بعض من حضر: ويلكم إن لم تكونوا أتقياء في دينكم، فكونوا إحراراً في دنياكم، وذكروا مع ذلك ما يعظم من الزندقة والفجور؛ وهو أن عبيد الله بن زياد أمر أن يقور الرأس المشرف المكرم حتى ينصب في الرمح، فتحامى الناس عن ذلك، فقام من بين الناس رجل يقال له طارق بن المبارك بل هو ابن المشؤم المذموم، فقوره ونصبه بباب المسجد الجامع، وخطب خطبة لا يحل ذكرها. ثم دعا بزياد بن حر بن قيس الجعفي فسلم إليه رأس الحسين، ورؤوس اخوته وبنيه وأصحابه، ودعا بعلي بن الحسين، فحمله وحمل عماته وأخواته إلى يزيد على محامل بغير وطاء، والناس يخرجون إلى لقائهم في كل بلد ومنزل حتى قدموا دمشق، ودخلوا من باب توما، وأقيموا على درج باب المسجد الجامع حيث يقام السبي، ثم وضع الرأس المكرم بين يدي يزيد، فأمر أن يجعل في طست من ذهب وجعل ينظر إليه ويقول مفتخراً بما إليه من الخزي نقل يؤول.
صبرنا وكان الصبر منا عزيمة ... وأسيافنا يقطعن كفاً ومعصما
يعلق هاماً من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أغر وأظلما
وأمر بالرأس أن يصاب بالشام، واختلف الناس أين حمل الرأس المكرم من البلاد وأين دفن، فذكر الحافظ أبو العلاء الهمداني أن يزيد حين قدم عليه رأس الحسين بعث إلى المدينة فأقدم عليه عدة من موالي بني هاشم، وضم إليهم عدة من موالي أبي سفيان، ثم بعث ينتقل رأس الحسين ومن بقي من أهله، وجهزهم بكل شيء ولم يدع لهم حاجة إلا أمر لهم بها، وبعث برأس الحسين إلى عمرو بن سعيد بن العاص وهو إذ ذاك عامله على المدينة، فقال عمرو: وددت أنه لم يبعث به إلي ثم أمر عمرو بن سعيد برأس الحسين رضوان. الله عليه فكفن ودفن في البقيع عند قبر أمه فاطمة رضي الله عنها. قال: هذا أصح ما قيل فيه، وكذلك قال الزبير بن بكار وأن الرأس حمل إلى المدينة.(1/109)
وما ذكر أنه نقل إلى عسقلان أو القاهرة لا يصح، وقد قتل الله تعالى قاتله صبرأ ولقي حزناً طويلاً وذعراً، ووضع رأس الخبيث المذمم حيث وضع رأس الحسين الطيب المكرم. وروى الترمذي بسنده إلى عمارة بن عمير قال: لما جيء برأس عبيد الله بن زياد وأصحابه نصبت في المسجد في الرحبة، فانتهيت إليه وهم يقولون قد جاءت قد جاءت فإذا حية يتخلل الرؤوس حتى دخلت في منخري عبيد الله، فمكثت هنية ثم خرجت، فذهبت حتى تغيبت، ثم قالوا قد جاءت قد جاءت فدخلت ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثاً. قال العلماء وذلك مكإفأة لفعله برأس الحسين رضي الله عنه، وهي من آيات العذاب الظاهرة عليه. قلت هذا تلخيص ما ذكروا في ذلك مختصرأ وأما حكم قاتل الحسين والأمر بقتله، فمن استحل منها قتله فهو كافر، وإن لم يستحل ففاسق فاجر، وكان الحسين رضي الله تعالى عنه يفرعن مبايعة معاوية فضلاً عن مبايعة يزيد. وقد ذكروا أنه لما حج معاوية، وأراد الرجوع إلى الشام، كلم الحسن أخاه الحسين رضي الله عنهما أن يذهبا إليه ويودعاه، فامتنع الحسين من ذلك، وذهب إليه الحسن وودعه، وأعطاه مالاً جزيلاً، وقد علم أنه صالحه على شروط وحقن دماء المسلمين، فتحقق بما أشار إليه سيد المرسلين بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين ". وفي السنة المذكورة توفي حمزة بن عمرو الأسلمي وله صحبة ورواية، وكذلك أم المؤمنين هند بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومية المعروفة بأم سلمة رضي الله عنها. وقيل توفيت سنة تسع وخمسين رضي الله عنها، وهي آخر أمهات المؤمنين وفاة. ومن مناقبها أنه صلى الله عليه وآله وسلم خطبها فاعتذرت بأعذار كونها كبيرة السن وذلت أولاد وفيها الغيرة فذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها أنه أيضاً كبير وذو أولاد. وأما المغيرة فقال صلى الله عليه وآله وسلم: " أنا أدعو الله أن يذهبها عنك " وكانت امرأة عاقلة جميلة، امرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحديبية أن ينحر ويحلق، وقالت له: اذا فعلت ذلك تابعك أصحابك. قالت له ذاك لما امتنعوا منه، ودخل عليها وهو(1/110)
مغضب، لما فعل ما أشارت بادر الصحابة إلى فعل ذلك.
ومن مناقبها أيضاً رؤيتها جبرائيل عليه السلام في صورة دحية الكلبي، المذكورات من أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه التواريخ سبع، ولم أرهم تعرضوا لتاريخ موت اثنين منهن، وهما أم حبيبة وسودة رضي الله تعالى عنهما.
سنة اثنتين وستين
فيها توفي بريدة بن الحصيب الأسلمي، وعبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي، وله صحبة ورواية وكذلك على الأصح علقمة بن قيس النخعي الكوفي الفقيه صاحب ابن مسعود، وكان يشبهه في هدية ودله وسمته، وكان غير واحد من الصحابة يستفتونه. وتوفي أبو مسلم الخولاني بن مخلد السيد الجليل ذو المناقب والمحاسن في الظاهر واالباطن والكرامات العديدة والسيرة الحميدة اليمني من سادات التابعين لا يكاد يوجد له منهم نظير إلا نادراً جداً قليلاً، وقد اشتهر أن الأسود العنسي أمر بنار عظيمة، وألقى أبا مسلم فيها، فلم يضره، فنفاه لئلا يضطرب اتباعه ويحصل فيهم ارتياب، ويرجع بهم الشكل في أمره عن متابعته. وفد رضي الله عنه على أبي بكر مسلماً فقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من فعل به مثل ما فعل بابراهيم الخليل عليه السلام، وله كرامات أخرى منها أنه لما استبطأ السرية في بعض الغزوات بينما هو يصلي راكز رمحه جاء طير فوقع على رأس الرمح، وخاطبه مبشراً له أن السرية سالمة غانمة، وهي تقدم في وقت كذا وكذا، وكان الأمر كذلك.
سنة ثلاث وستين
فيها كانت وقعة الحرة: وذلك أن أهل المدينة خرجوا على يزيد لقلة دينه لحربهم(1/111)
جيشاً أميره مسلم بن عقبة، فالتقوا بظاهر المدينة لثلاث بقين من ذي الحجه، فقتل من أولاد المهاجرين والأنصار ما نيف على ثلاث مائة، وقتل من الصحابة معقل بن سنان الأشجعي وعبد الله بن خنظلة بن الغسيل الأنصاري وعبد الله بن زيد بن عاصم المازني الذي حكى وضوء النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وممن قتل يومئذ محمد بن ثابت بن قيس بن شماس، ومحمد بن عمرو بن حزم ومحمد بن أبي جهم بن حذيفة ومحمد بن أبي كعب ومعاذ بن الحارث أبو حليمة الأنصاري الذي أقامه عمر يصلي التراويح بين الناس ويعقوب من نسل طلحة بن عبيد الله التيمي وكثير بن أفلح أحد كتاب المصاحف الذي أرسلها عثمان وأبوه أفلح مولى أبي أيوب. وفي السنة المذكورة توفي مسروق بن الأجدع الهمداني الفقيه العابد المشهور المحمود صاحب عبد الله بن مسعود، وكان يصلي حتى تورم قدماه، وحج فما نام إلا ساجداً. وعن الشعبي قال ما رأيت أطلب للعلم منه، كان أعلم بالفتوى من شريح.
سنة أربع وستين
في أولها هلك مسلم بن عقبة الذي استباح المدينة، عجل الله قصمه، والعجب أنه شهد الوقعة وهو مريض في محفة كأنه مجاهد في سبيل الله، وكذلك عجل الله تعالى يزيد بن معاوية فمات بعد نيف وسبعين يوماً منها، وله ثمان وثلاثون سنة، بايع له أبوه الناس في حياته، ويقال إنه قال له: قد أسست لك الأمر ومهدته، وبايعت لك الناس، ولم يبق منهم إلا أربعة: الحسين بن علي وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر. فأما الحسين فاستوص به خيراً المكانة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وأما عبد الله بن عمر فقد وقذته العبادة، فليس له في الملك حاجة. وأما عبد الرحمن بن أبي بكر فمغرم بالنساء، فأرغبه في المال. وأما الذي يكمن لك ويثب عليك وثبة الأسد فكذا وكذا، وذكروا كلاماً معناه التحذير منه والتحريض على قتاله، والله أعلم بصحة ذلك. وكانت مدة ولايته ثلاث سنين وثمانية أشهر، وعهد بالأمر من بعده إلى ابنه معاوية بن(1/112)
يزيد، فبقي في الولاية شهرين آو أقل، ومات، وكان يذكر فيه الخير، عاش إحدى وعشرين سنة، ولما احتضر قالوا له ألا تستخلف؟ فامتنع وقال: لم أصب حلاوتها فلا أتحمل مرارتها، وقد تقدم أن عبد الله بن الزبير لم يبايع ليزيد، وكان قد آوى إلى مكة، فحاصره عسكر يزيد، فنصبوا المنجنيق على الكعبة ورموها بالأحجار وبالنار قيل ومما احترق بالنار فيها قرناً كبش إسماعيل عليه السلام. وقتل في الحصار بحجر المنجنيق المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري له صحبة ورواية وشرف، وجاء نعي يزيد، فترحل عسكره وبايع أهل الحرمين ابن الزبير، ثم أهل العراق وأهل اليمن وغيرهم، حتى كاد تجتمع الأمة عليه، وغلب على دمشق الضحاك بن قيس الفهري، في صحبته خلاف، فدعا إلى ابن الزبير، م تركه، ودعا إلى نفسه، وانحاز عنه مروان بن الحكم في بني أمية إلى أرض حوران، فوإفاهم عبيد الله بن زياد ابن أبيه من الكوفة منهزماً من أهلها، فوفى عزم مروان على طلب الملك الذي ذكره صلى الله عليه وآله وسلم بعد الثلاثين وسموهم خلافة، فالتقى هو والضحاك بعد أن جرت قصة طويلة، فقتل الضحاك وقتل معه نحو ثلاثة آلاف، وانتصر مروان، سار أمير حمص يومئذ النعمان بن بشير الأنصاري الصحابي لينصر الضحاك، فقتله أصحاب مروان. وفيها توفي بالطاعون الوليد بن عتبة بن أبي سفيان بن حرب، وقد كان جواداً حليماً، عين للخلافة بعد يزيد، وولي امرة المدينة غير مرة. وفيها توفي ربيعة الجرشي بضم الجيم وفتح الراء وكسر الشين المعجمة وكان فقيه الناس في زمن معاوية. وفيها نقض أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير الكعبة، وبناها على قواعد ابراهيم صلى الله عليه وآله وسلم، وأدخل الحجر في البيت، وكان قد تشقق أيضاً من المنجنيق واحترق سقفه.
سنة خمس وستين
فيها توجه مروان إلى مصر فتملكها، واستعمل عليها ابنه عبد العزيز، ومهد قواعده،(1/113)
ثم عاد إلى دمشق ومات في رمضان، فعهد إلى ابنه عبد المللك بن مروان، وكان مروان من الفقهاء، وكان كاتب السر لابن عمه عثمان، وفيها ولي خراسان المهلب بن أبي صفرة لابن الزبير. وفيها خرج سليمان بن صرد الخزاعي والمسيب الفزاري صاحب علي في أربعة آلاف يطلبون بدم الحسين، وكان مروان قد جهز ستين ألفاً مع عبيد الله بن زياد ليأخذ العراق، فالتقى مقدمة عبيد الله وعليهم شرحبيل بن ذي الكلاع هم وأولئك بالجزيرة، فانكسروا وقتل سليمان والمسيب وطائفة، وكان لسليمان صحبة ورواية رضي الله عنه. وفيها مات على الصحيح عبد الله بن عمرو بن العاص السهمي، وكان أصغر من أبيه بإحدى عشرة سنة، وكان دينا صالحاً كبير القدر ذا عبادة واجتهاد وورع، يلوم أباه على القيام في الفتنة. وفيها توفي الحارث بن عبد الله الهمداني الكوفي الأعور الفقيه صاحب علي وابن مسعود رضي الله عنهم وحديثه في السنن الأربعة.
سنة ست وستين
فيها توفي جابر بن سمرة السوائي بالكوفة، وقيل بل في سنة أربع وسبعين وأبوه صحابي أيضاً وزيد بن أرقم الأنصاري. وقيل في سنة ثمان وقد غزا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبع عشرة غزوة، وقتل عمر بن سعد بن أبي وقاص، والذين قتلوا الحسين بن علي قاتلهم الله، وجهز المختار بن أبي عبيد جيشاً ضخماً مع ابراهيم بن الأشتر النخعي، وكانوا ثمانية آلاف لحرب عبيد الله بن زياد، وكانت وقعة الجارز بأرض الموصل، وقيل كانت في سبع وستين وصححه بعض المعتمدين، وكان ملحمة عظيمة. وفي السنة المذكورة قويت شوكة الخوارج واستولى نجدة الحروري على اليمامة والبحرين.
سنة سبع وستين
قيل كانت وقعة الجارز في المحرم وفيه الخلاف المقدم. وفيها حصل الاصطلام لعسكر أهل الشام وكانوا أربعين ألفاً ظفر بهم ابراهيم بن الأشتر، فقتلت امراؤهم عبيد الله بن(1/114)
زياد ابن أبيه وحصين بن نمير السكوني الذي حاصر ابن الزبير رضي الله عنهما وشرحبيل بن ذي الكلاع، وقيل قتلوا في السنة التي قبلها، وبعث برؤوسهم فنصبت بمكة والمدينة.
وفيها وقيل في التي قبلها توفي عدي بن حاتم الطائي رئيس طيىء وله مائة وعشرون سنة رضي الله عنه، ولما أسلم سنة سبع أكرمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وألقى إليه وسادة، وقال: " إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه ". ولما تحقق عبد الله بن الزبير كذب المختار بن أبي عبيد الثقفي، بعث أخاه مصعب بن الزبير على العراق، فدخل البصرة وتاهب منها وسار على ميمنته المهلب بن أبي صفرة وعلى ميسرته عمرو بن عبد الله التيمي، فجهز المختار لحربهم جيشاً عليهم احمر بن شميط بالشين المعجمة والمثناة من تحت بين الميم والطاء المهملة وأبو عمرة كيسان، فهزمهم مصعب. وقتل احمر وكيسان، وقتل من عسكر مصعب محمد بن الأشعث بن قيس الكندي ابن أخت الصديق وعبيد الله بن علي بن أبي طالب، وقتل من جند المختار عمر الأكبر ابن علي بن أبي طالب، ثم ساق عسسكر مصعب بن الزبير فدخلوا الكوفة وحصروا المختار بقصر الإمارة أياماً إلى أن قتله الله تعالى في رمضان، وكان كذاباً يزعم أن جبرائيل عليه السلام ينزل عليه، وصفت العراق لمصب رحمة الله عليه.
سنة ثمان وستين
توفي فيها بحر العلوم. حبر الأمة على العموم، الذي دعا له صلى الله عليه وآله وسلم بالفقه والدين وعلم التأويل: عبد الله بن العباس الهاشمي الفقيه المحدث المفسمر البارع في العلوم، وكان وفاته رضي الله عنه بالطائف وله إحدى وسبعون سنة رضي الله عنه. ومن مناقبه دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم له بالفقه وعلم التأويل، وادخال عمر له مع المشايخ الكبار الجلة، وما تميز به من العلوم والفضائل والقرابة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان قد ذهب بصره في آخر عمره، فقال فيما نقل بعضهم عنه.
إن يأخذ الله من عيني بنورهما ... ففي لساني وقلبي منهما نور
قلبي زكي وذهني غير ذي دخل ... وفي فمي صارم كارم كالسيف مطرور
وفيها عزل ابن الزبير أخاه مصعباً، وولى ابنه حمزة، وفيها توفي أبو شريح الخزاعي وأبو واقد الليثي، وكان ممن شهد فتح مكة، وعاش بضعاً وسبعين سنة وفيها قتل عبد الله بن(1/115)
عمر وزيد بن أرقم وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهم.
سنة تسع وستين
فيها كان طاعون الجارف بالبصرة وكان ثلاثة أيام مات في كل يوم نحو من سبعين ألفاً على ما رواه المدائني عمن أدرك ذلك. وروى غيره قال مات لأنس بن مالك رضي الله عنه في الجارف سبعون ابناً وقيل مات في طاعون الجارف عشرون ألف عروس، وأصبح الناس في اليوم الرابع، ولم يبق منهم إلا اليسير، وصعد ابن عامر يوم الجمعة وما في الجامع إلا سبعة ومن النساء امرأة فقال ما فعلت الوجوه؟ فقالت المرأة: تحت التراب أيها الأمير. وفيها قتل نجدة الحروري، تله أصحابه واختلفوا عليه، وقيل بل ظفروا به أصحاب ابن الزبير، قيل وفيها مات بطاعون الجارف قاضي البصرة أبو الأسود الديلي صاحب النحو انشاء وترتيباً بعد اشارة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وتأسيسه رضي الله عنه على ما ذكر بعض أئمة النحو، وكان من سادات التابعين وأعيانهم، وقيل بل مات في خلافة عمر بن عبد العزيز سنة تسع وتسعين، وهناك تبسط الكلام فيما يتعلق بترجمته مما هو من صفته. وفيها مات قبيصة بن جابر الأسدي، كان فصيحاً مفوهاً روى عبد الملك بن عمير عنه قال: قال لي عمر أراك شاباً فصيح اللسان فسيح الصدر وفيها أعاد ابن الزبير مصعباً على الفراق، وعزل ابنه حمزة بن عبد الله، فقصد هو وعبد الملك كل منهما الآخر، ثم فصل بينهما الشتاء فوثب على دمشق في غيبة عبد الملك عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق مريداً للغلافة، جاء عبد الملك وجرى بينهما قتال وحصار، ثم نزل إليه بالإيمان.
سنة سبعين
فيها قيل غدر عبد الملك بعمرو بن سعيد، وذبحه صبراً بعد أن آمنه وحلف له وجعله ولي عهده من بعده، وفيها توفي عاصم بن عمر بن الخطاب العدوي وكان مولده في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفيها مات ملك السكسك صاحب معاذ رضي الله عنه.(1/116)
وقال ابن جرير: وفيها ثارت الروم وقووا على المسلمين، فصالح عبد الملك بن مروان ملك الروم على أن يؤدي إليه في كل جمعة ألف دينار خوفاً منه على المسلمين، قيل: وهذا أول وهن دخل على الإسلام، وما ذاك إلا لاختلاف الكلمة ولكون الوقت فيه خليفتان يتنازعان الأمر، وما شاء الله كان.
سنة إحدى وسبعين
فيها توفي عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي أحد من بايع تحت الشجرة وله روايات أحاديث في غير الكتب الستة.
سنة اثنتين وسبعين
فيها توفي البراء بن عازب أبو عمارة الأنصاري الحارثي، وكان من أقران ابن عمر استصغر يوم بدر، ومعبد بن خالد الجهني وكان صاحب لواء جهينة يوم الفتح، له حديث عن أبي بكررضي الله عنهم. وفيها على الصحيح عند الذهبي، وقال ابن خلكان في سبع وستين على الأشهر توفي أبو البحر الضحاك بن قيس التميمي المعروف بالأحنف أحد الأشراف ومن يضرب بحلمه المثل المتفق على جلالته بلا خلاف، كان من سادات التابعين، ادرك عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يصحبه وقال ابن قتيبة في كتاب المعارف: لما أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بني تميم يدعوهم إلى الإسلام كان الأحنف فيهم، فلم يجيبوا إلى اتباعه، فقال الأحنف: انه ليدعوكم إلى مكارم الأخلاق، وينهاكم عن ملاءئمها، أسلموا وأسلم الأحنف ولم يفد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما كان زمان عمر وفد عليه، قلت ما ذكره من كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتي بني تميم يدعوهم إلى الإسلام يوهم أنه صلى الله عليه وآله وسلم سافر إليهم، وهذا غير معروف، ومعروف أنه خرج إليهم بعد ما وفدوا عليه، وقالوا: يا محمد اخرج إلينا: فإن مدحنا زين وذمنا شين، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: " ذلكم الله " الحديث وفي ذلك نزل قوله تعالى " إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون " - الحجرات: 4 - وكان الأحنف المذكور من جلة التابعين وأكابرهم سيد قومه موصوفاً بالعقل والدهاء والحلم، روى عن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. وروى عن الحسن البصري وأهل البصرة، وشهد مع علي رضي الله عنه وقعة صفين ولم يشهد وقعة الجمل مع أحد من الفريقين، ولما استقر الأمر لمعاوية دخل عليه يوماً فقال(1/117)
له معاوية: والله يا أحنف ما أذكر يوم صفين إلا كانت حزارة في قلبي إلى يوم القيامه. وقال له الأحنف: والله يا معاوية إن القلوب التي أبغضناك بها لفي صدورنا، وإن السيوف اك قاتلناك بها لفي أغمادنا، وإن تدن من الحرب فتدانونا منها شبراً، وإن تمش إليها نهرول نحوها، او قال إليها، ثم قام وخرج. وكانت أخت معاوية من وراء الحجاب تسمع كلامه، فقالت: يا أمير المؤمنين من هذا الذي يتهدد ويتوعد؟ فقال: هذا الذي إذا غضب غضب لغضبه مائة ألف فارس من بني تميم، لا يدرون فيهم غضب. وروي أن معاوية لما نصب ولده يزيد في ولاية العهد، اقعده في قبة حمراء، فجعل الناس يسلمون على معاوية: ثم يميلون إلى يزيد، حتى جاء رجل ففعل ذلك ثم رجع إلى معاوية، فقال: يا أمير المؤمنين لو لم تول هذا أمور المسلمين لأضعتها. والأحنف بن قيس جالس. فقال له معاوية: ما بالك لا تقول يا أبا بحر؟ فقال: اخاف الله إن كذبت، وأخافكم إن صدقت، فقال له معاوية: جزاك الله خيراً عن الطاعة وأمر له بألوف، فلما خرج لقيه ذلك الرجل، فقال: يا أبا بحر إني لأعلم كذا وكذا وذم يزيد ولكنهم قد استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب والاقفال فليس يطمع في استخراجها إلا بما سمعت، فقال الأحنف: ان ذ الوجهين خليق أن لا يكون عند الله وجهياً، او قال: لا يكون له عند الله وجه. وقال الأحنف كثرة الضحك تذهب الهيبة، وكثرة المزاح تذهب المروة، من لزم شيئاً عرف به، قلت كلامه هذا من الحكمة الغريبة، وذمه كثرة الضحك مع تلقيه بالضحاك دليل على أنه لقب معروف يعرف به لا صفة متصف بها. وسئل عن الحلم ما هو؟ فقاك: العفو عن الذل مع الصبر، وكان يقول إذا عجب الناس من حلمه. اني لأجد ما تجدون ولكني صبور، وقال: ما تعلمت الحلم إلا من قيس بن عاصم المنقري. قيل: وما بلغ من حلمه؟ قال: قتل ابن أخ له بعض بنيه فأتي بالقاتل مكتوفاً يقاد إليه، قال: ذعرتم الفتى: ثم أقبل عليه، وقال: يا بني بئس ما صنعت نقصت عددك وأوهنت عضدك وأشمت عدوك وأسأت بقومك. خلوا سبيله، واحملوا إلى أم المقتول ديته فإنها غريبة. فانصرف القاتل، وما حل قيس حبوته ولا تغير وجهه، قلت وقيس هذا هو الذي قال الشاعر في مرثيته: شعراً.
فما كان قيسى هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما
وروي أنه دخل الأحنف بن قيس على أمير العراق في زمانه، وجلس معه على سريره، فغضب الأمير من ذلك، فقال الأحنف عجباً لمن يغسل القذرة بيده كل يوم مرتين، كيف(1/118)
يتكبر؟! ومناقبه رحمه الله كثيرة أشهر من أن تذكر وأكثر من أن تحصر. وررى الحسن البصري أنه قال: ما رأيت شريف قوم أفضل من الأحنف. وقد يتوهم بعض الناس أن الأحنف بن قيس أخ الأشعث بن قيس، وهو غلط، فإن الأحنف من تميم، والأشعث كندي كما هو مشهور في ترجمة كل واحد منهما، وكل منهما شريف رئيس في قومه، ولكن الأحنف متميز بفضل الحلم وغيره من المحاسن الدينية. وفي السنة المذكورة توفي عبيدة السلماني المرادي الفقيه المفتي فيها على الصحيح تفقه بعلي وابن مسعود. قال الشعبي: كان يوازي شريحأ في القضاء: وفيها وقعة دير الجاثليق بالجيم ثم المثلثة بين الألف واللام ثم المثناة من تحت ثم القاف تجهز عبد الملك ومصعب كل منهما يطلب صاحبه، فالتقى الجمعان هناك، فخان مصعباً بعض جيشه ولحقوا بعبد الملك، وكان عبد الملك قد كتب إليهم يمنيهم ويعدهم حتى أفسدهم، وجعل مصعب كلما قال لمقدم من امرأته: تقدم. لا يطيعه، فاستظهر عبد الملك، ثم أرسل إلى مصعب يبذل له الأمان، فقال إن مثلي لا ينصرف عن هذا الموطن إلا غالباً أو مغلوباً، ثم إنهم أثخنوه بالرمي، ثم شد عليه زياد بن عمرو - وكان من جيشه - فخانه وطعنه، وقال بالثارات المختار، وذهب إلى عبد الملك، وقتل مع مصعب ولداه عيسى وعروة، وإبراهيم بن الأشتر سيد النخع وفارسها ومسلمة بن عمر الباهلي، استولى عبد الملك على العراق وما يليها، فأقر أخاه بشراً على العراق، وبعث الأمراء على الأعمال، وجهز الحجاج بن يوسف الثقفي إلى مكة لحرب بن الزبير، قلت وفي ولاية بشر المذكور ينشد البيت المشهور:
تد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق
سنة ثلاث وسبعين
فيها توفي عوف بن مالك الأشجعي المشهور المشكور، وأبو سعيد بن العلاء الأنصاري، وله صحبة ورواية وربيعة بن عبد الله التميمي عم محمد بن المنكدر. وفيها نازل الحجاج ابن الزبير فحاصره، ونصب المنجنيق على أبي قبيس، ودام القتال أشهراً إلى أن قتل عبد الله بن الزبير بن العوام الأسدي أمير المؤمنين فارس قريش وابن حواري رسول الله صلى الله عليه وآله رسلم، وأول مولود ولد فى الإسلام بعد الهجرة،(1/119)
وحنكه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان اول ما دخل بطنه ريق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسماه عبد الله، وكان صواماً قواماً منطاقاً فصيحاً بطلاً شجاعاً.
قيل: كان حجر المنجنيق يصيب ثوبه وهو ساجد فلا يرفع رأسه، ويأكل أكلة واحدة ما بين مكة والمدينة، ولما طال الحصار على أصحابه وتفرقوا عنه، دخل على أمه أسماء بنت الصديق رضي الله عنهم فأخبرها أن أصحابه قد تفرقوا عنه وأن خصومه قالوا له: ان شئت سلم نفسك لعبد الملك بن مروان يرى فيك رأيه ولك الأمان، واستشارها في ذلك، فقالت له: يا ولدي إن كنت قاتلت لغير الله فقد هلكت وأهلكت، وإن كنت قاتلت لله فلا تسلم نفسك لبني أمية يلعبون بك، فإن قلت: لم يبق معي معين على القتال، فلعمري إنك معذور، ولكن شأن الكرام أن يموتوا على ما عاشوا عليه، فخرج من عندها حينئذ إلى أن التقى جيوش عبد الملك في أعلى مكة فحمل عليهم. وقال رضوان الله تعالى عليه ولو كان قرني واحداً لكفيته فأجابه واحد منهم نعم وألفاً يا غلام، ولم يزل يقاتل إلى أن أصابه في رأسه رمية فراخ رأسه ووقع، فصاحت مولاة لآل الزبير واأميراه! فعرفوه، ولم يكونوا عرفوه في ذلك الحال لما عليه من لباس الحرب، فقصدوه في كل مكان، فقتلوه، قاتلهم الله ثم وقف عليه أميرهم الحجاج وأمير آخر معه، قال ذلك الأمير: ما ولدت بنات آدم أذكر من هذا الرجل يعني أفحل منه فقال له الحجاج: اتقول فيه هذا القول وقد خالف أمير المؤمنين وخرج عن طاعته؟ يعني عبد الملك بن مروان. فقال: ان هذا لا عذر لنا عند أمير المؤمنين، وإلا فما عذرنا في قتلنا له؟ اشهراً وهو يربي علينا فيها بالغلبة. قال الشيخ محيي الدين النواوي رحمة الله عليه في شرح مسلم فذهب لحل الحق: ان ابن الزبير كان مظلوماً، وإن الحجاج ورفقته كانوا خوارج عليه وروي أنه لما ولد كبر الصحابة، ولما قتل كبر أهل الشام، فقال ابن عمر: الذين كبروا على مولده خير من الذين كبروا على قتله، وكان قد ملك الحجاز واليمن والعراق. وقال الشيخ أبو إسحاق: بويع على الخلافة ولا يبايع على الخلافة إلا من كان فقيها " مجتهدا "، واستعمل ابن الزبير على اليمن الضحاك بن فيروز سنة ثم عزله، وولى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي على صنعاء، ثم استعمل جماعة واحداً بعد واحد. ولما قتله الحجاج صلبه بين القبور في موضع هناك معروف إلى الآن ببناء بني هناك علامة، ثم أرسل الحجاج إلى أمه أسماء بنت أبي بكر أعوانه، وقال لهم قبحه الله: هاتوها(1/120)
فكلموها في أن تمشي معهم إليه، فأبت وقالت: ان كان أمركم أن تسحبوني فاسحبوني، فلما رجعوا إليه بغير مطلوبه لبس نعليه ومشى حتى جاءها، فقال لها: كيف رأيت ما صنعت با بنك؟ فقالت: يا مسكين أي شيء صنعت؟ افسدت عليه دنياه، وأفسد عليك أخرتك، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " أن في ثقيف كذاباً ومبيرأً " فأما الكذاب فرأيناه، وأما المبير فلا أخالك إلا إياه، تعني بقولها: رأيناه المختار بن أبي عبيد. والمراد بالمبير المهلك. يقال أباه الله أي أهلكه ويقال أيضاً رجل جائر بائر. قال في الصحاح: البور بضم الباء الموحدة: الرجل الفاسد الهالك الذي لا خير فيه. قلت ومن هذا قوله تعالى " وكنتم قوماً بوراً " - الفتح: 120 - وقد اتفق العلماء على أن المراد بالكذاب هنا هو المختار بن أبي عبيد، والمبير هو الحجاج بن يوسف، وكان المختار المذكور شديد الكذب، يزعم أن جبرائيل عليه السلام ينزل عليه كما تقدم ذكر ذلك. وقتل مع ابن الزبير عبد الله بن صفوان بن أمية الجمحي من رؤوس مكة، لما حج معاوية قدم له ابن صفوان المذكور ألفي شاة وقيل قتل معه بحجر المنجنيق عبد الله بن مطيع بن الأسد العدوي، وقتل معه أيضاً عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي ممن أسلم يوم الحديبية. وتوفيت أسماء بنت أبي بكر الصديق أم عبد الله بن الزبير بعد مصاب ابنها بيسير، وهي في عشر المائة وهي من المهاجرات الأول، وتلقبت بذات النطاقين، وسبب ذلك معروف في الحديث، وهو أنه لما هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم شقت نطاقها نصفين، فربطت بأحدهما وعاء زاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر رضي الله عنه. وفي السنة المذكورة قوي سلطان عبد الملك بن مروان لقتل ابن الزبير وأنشد لسان حاله: خلا لك الجو فبيضي واصفري
وولي الحجاج إمرة الحجاز، فنقض من الكعبة جهة الحجر، وأعادها إلى ما كانت عليه من بناء قريش، فسد بابها الغربي ورفع الشرقي وصيرها على ما هي عليه الآن، مخرجاً من الحجر ما جاء في الحديث أنه من البيت، وهو ستة أذرع أو ستة ونصف أو جميعه على اختلاف روايات وردت في الحديث الصحيح.(1/121)
قلت هذا هو الصواب الذي ذكره العلماء أنه إنما نقض الحجاج من جهة الحجر خاصة، وأما قول الذهبي: فنقض الكعبة وأعادها إلى بنائها في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فظاهره أنه نقض الكعبة كلها، وليس بصحيح. قلت وقد روي أن عبد الملك بن مروان لما حج طاف، وهو متكىء على كتف بعض من عنده معروف، جناء الكعبة حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك فقال: ما أظن أبا خبيب: يعني ابن الزبير سمع من عائشة ما يزعم أنه سمع منها. فقال: انا سمعت ذلك منها، فقال سمعتها تقول ماذا قال، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لي: " إن قومك استقصروا في النفقة، ولولا حدثان وروى حداثة عهد قومك بالكفر لأعدت البيت على ما كان عليه من زمن إبراهيم " قال فنكت عبد الملك بعود كان بيده في الأرض، وقال: وددت أني تركته وما تحمل، وكان قد كتب إليه الحجاج أن أبا خبيب قد أحدث في البيت، او قال في الكعبة ما لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم استأذنه في ردها إلى ما كانت عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأذن له في ذلك، وكان ابن الزبير قد استشار أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بناء، لما توهن بناء قريش بما تقدم ذكره من الرمي بالمنجنيق، وقيل جمرت فطارت الشرور واحترق بعض خشبها فتوهنت، وأشار عليه أكثرهم أن لا يفعل ذلك ومنهم ابن عباس وغيره من كبارهم، وقالوا: تخشى أن يفعل ذلك كل من ولي الأمر فيما بعد، ويذهب حرمة هذا البيت من قلوبهم، ونحو ذلك من المقال، وأشار عليه القليل منهم بنقضها، فلما عزم على ذلك خرجوا من مكة خشية أن ينزل بهم عقوبة بسبب ذلك، بعضهم خرج إلى الطائف، وبعضهم إلى منى، وأنكر العمال عن نقضها، فعلاها ابن الزبير بنفسه وأخذ في هدمها. قيل واستعمل في ذلك عبداً حبشياً دقيق الساقين بأن يكون ذلك هو ما جاء في الحديث من كونها " يهدمها ذو السويقين من الحبشة "، ولم يرجع من خرج من مكة إليها حتى أخذ في بنائها، وبعضهم حتى أكمل بناؤها، وكان أراد أن يجعل طينها من الورس، قيل له: انه لا يقيم ولا يستمسك البناء كالجص، فأرسل في جص فبعث به إليه من صنعاء اليمن. فلما فرع من بنائها قال من لي عليه طاعة فليخرج يعتمر شكراً لله عز وجل، فخرج في السابع والعشرين من رجب ماشياً، وخرج الناس معه فلم يروا يوم أكثرعتقاً ونحراً وذبحاً وصدقة من ذلك اليوم، قيل نحرهو فيه مائة من الإبل كل ذلك في جهة التنعيم وطرف الحل الذي يحرم منه للحمرة، ومن هاهنا صار كثير من الناس يعتمرون في اليوم المذكور من كل(1/122)
سنة ولا بأس بذلك إذا سلم من بدع قد أحدثوها في هذه الأزمان من الأجتماع هنالك على وجه التنزه وخروج النسوان متزينات باللباس والحلي واختلاف الألوان، وقد أوضحت ذلك في " الدررالمستحسنة في استحباب العمرة في سائر السنة ". وأما سبب اخراج الحجرمن البيت في بناء قريش فإنه قصر ما عندهم من الحلال عن اكمال بنائها بادخال الحجر فيها، وذلك إن بناءها كان قد توهن في زمانهم فزموا علىنقضها وبناءها، فمنعتهم الحية المشهورة، وهي حية كانت تحرس البيت خمس مائة سنة، رأسها مثل رأس الجدي، وسببها أن أربعة من جرهم تسلقوا جدار الكعبة ليأخذوا ما يهدى إليها من الجواهرولم يكن لها سقف يومئذ فأصابتهم عقوبة في ذلك الوقت، بعضهم سقط فاندقت عنقه فمات، فبعث الله من يومئذ تلك الحية تمنع الناس من دخول الكعبة، لا تزال على بابها، فلما منعت قريشاً من نقضها اجتمع عقلاؤهم وقالوا: اللهم إنا لا نريد ببيتك إلا خيراً فان كانت الخيرة في ذلك فاصرف هذه الحية عنا، فانقض في ذلك الوقت طائر من الجو، فاحتملها ورمى بها في أجياد، ويقال إنه الدابة التي تخرج عند اقتراب الساعة والله أعلم بذلك. ثم إن قريشاً اجتمعوا وقالوا: لا ينبغي أن يبنى بيت الله إلا بالحلال فجمعوا ما عندهم من الحلال فلم يف بإكمالها على ما كانت عليه من زمن ابراهيم صلى الله عليه وآله وسلم، وأخرجوا الحجر منها كما أشار إليه في الحديث. واختلفوا في الكعبة كم بنيت من مرة؟ فقيل: سبعاً وقيل: خمساً ومنشأ الخلاف
هل بنيت قبل بناء ابراهيم أم هو أول من بنائها؟ واحتج للقول الأول بما روي أنه لما حج آدم صلى الله عليه وآله وسلم قالت الملائكة عليهم السلام: حجك يا آدم قد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام وللقول الثاني بظاهرالقرآن وما ورد أن ابراهيم قال لإسماعيل عليهما السلام: ان الله قد أمرني أن أبني له بيتاً فهل أنت معين لي على ذلك؟ فقال: نعم، او كما قال: وكان ابراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة. قلت قد أطلت الكلام في بيان ما يتعلق ببناء الكعبة لاستشراف كثير من الناس إلى معرفة ذلك، ولم أرالاقتصارعلى ما ذكروا في التاريخ من قولهم بناها ابن الزبير وهدمها الحجاج، ولم أرلهم زيادة على هذا وهذا الذي ذكرته اعتمادي في إملائه على ما في ذهني مما رويناه في كتاب الأزرقي وغيره عمن بالعلم تقدم، والله سبحانه بكل شيء عليم، رجعنا إلى ذكر أن الزبير قتل في جمادى الأولى نيف برأسه في مصر وغيرها. بنيت قبل بناء ابراهيم أم هو أول من بنائها؟ واحتج للقول الأول بما روي أنه لما حج آدم صلى الله عليه وآله وسلم قالت الملائكة عليهم السلام: حجك يا آدم قد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام وللقول الثاني بظاهرالقرآن وما ورد أن ابراهيم قال لإسماعيل عليهما السلام: ان الله قد أمرني أن أبني له بيتاً فهل أنت معين لي على ذلك؟ فقال: نعم، او كما قال: وكان ابراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة. قلت قد أطلت الكلام في بيان ما يتعلق ببناء الكعبة لاستشراف كثير من الناس إلى معرفة ذلك، ولم أرالاقتصارعلى ما ذكروا في التاريخ من قولهم بناها ابن الزبير وهدمها الحجاج، ولم أرلهم زيادة على هذا وهذا الذي ذكرته اعتمادي في إملائه على ما في ذهني مما رويناه في كتاب الأزرقي وغيره عمن بالعلم تقدم، والله سبحانه بكل شيء عليم، رجعنا إلى ذكر أن الزبير قتل في جمادى الأولى نيف برأسه في مصر وغيرها.(1/123)
سنة أربع وسبعين
فيها توفي السيد الجليل، الفقيه المحدث، القدوة ذو الأوصاف الملاح، الذي شهد له النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصلاح، ابو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي رضي الله عنهما، وكان قد عين للخلافة يوم الحكمين مع وجود علي وكبار من الصحابة رضي الله عنهم. ومن مناقبه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " أرى عبد الله رجلاً صالحاً والصالح هو القائم بحقوق الله تعالى وحقوق العباد " وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل " ثم لما سمع ذلك واظب على الصلاة بالليل ومنها محافظته على اتباع السنة وكثرة تعبده حتى روي أنه اعتمر أكثر من ألف عمرة ولما حضرته الوفاة أمرهم أن يدفنوه ليلاً، ولا يعلم الحجاج لئلا يصلي عليه قال الأزرقي في تاريخ مكة قبره في ذات اذخر يعني فوق القرية التي يقال لها المعايدة وبعض الناس يزعم أنه في الجبل الذي فوق البستان قريباً من السور على يمين الخارج من مكة، متوجهاً إلى المحصب، هو خلاف قول الأزرقي المذكور. قال الإمام المهذب سعيد بن المسيب يوم مات ابن عمر رضي الله عنهما: ما في الأرض أحد أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منه.
وقوله ابن المسيب: هذا نحو ما قال علي في عمر يوم مات، وقال أبو داود مات ابن عمر بمكة أيام الموسم، يعني سنة ثلاث وسبعين. وتوفي بعده أبو سعيد الخدري وهو سعد بن مالك الأنصاري، وكان من فقهاء الصحابة وأعيانهم، شهد الخندق وبيعة الرضوان وغير ذلك. وسلمة بن الأكوع الأسلمي، كان بطلاً شجاعاً رامياً يسبق الفرس شدا، وله مشاهد محمودة، وهو ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الموت يوم الحديبية وأبو جحيفة السوائي وقيل تأخر إلى بعد الثمانين. وتوفي محمد بن حاطب بن الحارث الجمحي وله صحبة ورواية، وهو أول من دعى(1/124)
محمداً في الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتوفي رافع بن حديج الأنصاري، اصابه يوم أحد سهم فنزعه، وبقي النصل في جسمه إلى أن مات، وعاصم بن حمزة السلولي، وفي مالك بن عامر الأصبحي جد الإمام مالك، وتوفي عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي بالمدينة، وكان كثير الحديث والفتيا، وتوفي عبد الله بن عمر الليثي رضي الله عنهم.
سنة خمس وسبعين
فيها حج عبد الملك بن مروان، وخطب على منبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعزل الحجاج عن الحجاز، وأمره على العراق. وفيها توفي العرباض بن سارية السلمي وأبو ثعلبة الخشني وعمرو بن ميمون الأودي قدم مع معاذ من اليمن فنزل الكوفة، وكان قانتاً صالحاً لله قال بعض الأئمة حج مائة حجة وعمرة وكان إذا رؤي ذكر الله، والأسود بن يزيد النخعي الكوفي الفقيه العابد، وورد أنه كان يصلي في اليوم والليلة سبع مائة ركعة، وهو الذي استسقى به معاوية بن أبي سفيان فقال: اللهم إنا نستسقي إليك بخيرنا وأفضلنا الأسود بن يزيد. ثم قال: ارفع يديك. فرفع يديه فدعا، فسقوا وتوفي بشر بن مروان الأموي أمير العراقين بعد مصعب، وسليم التجيبي قاضي مصر وناسكها.
سنة ست وسبعين
فيها وجه الحجاج زائدة بن قدامة الثقفي ابن عم المختار لحرب شبيب بن قيس الخارجي الشيباني، وكان خروجه في ولاية عبد الملك بن مروان، والحجاج بن يوسف يومئذ مولىعليها، فاستظهر شبيب وقتل زائدة، واستفحل أمره وهزم العساكر مرات.
سنة سبع وسبعين
فيها بعث الحجاج لحرب شببب عتاب بن ورقاء الرياحي بالموحدة والحاء المهملة، فالتقى شبيباً بسواد الكوفة، فقتل أيضا عتاباً وهزم جيشه، فجهز الحجاج لقتاله الحارث بن معاوية الثقفي فقتل أيضاً الحارث بن معاوية، فوجه الحجاج أبا الورد البصري فقتل أيضاً فوجه طهمان مولى عثمان فقتل أيضاً، ففرق الحجاج وسار بنفسه، فالتقوا واشتد القتال،(1/125)
وتكاثروا على شبيب فانهزم فقتلت غزالة امرأة شبيب، ونجا هو بنفسه في فوارس من أصحابه، وكانت بحيث يضرب بشجاعتها المثل وكانت نذرت أن تدخل مسجد الكوفة فتصلي فيه ركعتين تقرأ فيها سورة البقرة وآل عمران، فأتوا الجامع في سبعين رجلاًِ، فصلت فيه وخرجت عن نذرها، وحجز بينهم الليل، وسار شبيب إلى ناحية الأهواز وبها محمد بن موسى بن علي التيمي، فخرج لقتال شبيب، ثم بارزه فقتله شبيب، وسار إلى كرمان فتقوى ورجع إلى الأهواز فبعث الحجاج لحربه سفيان بن الأبرد الكلبي وحبيب بن عبد الرحمن الحكمي، فالتقوا واشتد القتال حتى حجز بينهم الظلام. ثم ذهب شبيب وعبر على جسر دجيل، لما سار على الجسر قطع به فغرق، وقيل: بل نفر به فرسه، وعليه الحديد الثقيل، من درع ومغفر وغيرهما فألقاه في الماء، فقال له بعض أصحابه: اغرقاً يا أمير المؤمنين؟ قال: ذلك تقدير العزيز العليم. فألقاه دجيل ميتاً في ساحله، فحمل على البريد إلى الحجاج، فأمر بشق بطنه، فاستخرج قلبه فإذا هو كالحجر إذا ضرب به الأرض بناء عليها، فشق فإذا في داخله قلب صغير، كالكرة الصغيرة، فشق أيضاً فوجد في داخله علقة دم، ولما غرق أحضر إلى عبد الملك بن عتبان، فقال له: الست القائل يا عدو الله:
فإن يك منكم كان مروان وابنه ... وعمرو ومنكم هاشم وحبيب
فقال لم أقل هكذا يا أمير المؤمنين، وإنما قلت:
فمنا حصين والبطين وقنب ... ومنا أمير المؤمنين شبيب
فاستحسن قوله وأمر بتخلية سبيله، وكان إليه المنتهى في الشجاعة والبأس وأكثر ما يكون في مائتي نفس من الخوارج فيهزمون الألوف. وفيها غزا عبد الملك بنفسه، فدخل في الروم وافتتح مدينة هرقلة قلت وسيأتي أيضاً أنها فتحت في خلافة بني العباس، ويحتمل أن الكفار ملكوها بعد هذا ثم فتحت ثانية في الدولة العباسية. وفي السنة المذكورة توفي أبو تميم الجيشاني، قرأ القرآن على معاذ، وكان من عباد مصر وعلمائهم.(1/126)
سنة ثمان وسبعين
فيها ولي خراسان المهلب بن أبي صفرة، وتوفي جابر بن عبد الله السلمي الأنصاري، وهو آخر من مات من أهل العقبة، وعاش أربعاً وتسعين سنة، وكان كثير العلم ومن أهل بيعة الرضوان، وبشره النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما استشهد أبوه يوم أحد " مازلت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع ". وفيها على الأصح توفي زيد بن خالد الجهني من مشاهيرالصحابة، وعبد الرحمن بن غنم الأشعري، كان قد بعثه عمر يفقه الناس، وكان من رؤوس التابعين. وفيها وقيل في سنة ثمانين توفي أبو أمية شريح بن الحارث الكندي القاضي، ولي قضاء الكوفة لعمر فمن بعده وعاش أكثر من مائة سنة، وولي القضاء خمساً وسبعين سنة، واستعفى من القضاء قبل موته بعام فأعفاه الحجاج، وكان فقيهاً شاعراً محسناًَ صاحب مزاح، وكان أعلم الناس بالقضاء، ذا فطنة وذكاء، ومعرفة وعقل وإصابة، وهو أحد السادات الطلس، وهم أربعة: عبد الله بن الزبير - وقيسى بن سعد بن عبادة - والأحنف بن قيس الكندي الذي يضرب به المثل في الحلم والقاضي شريح المذكور والأطلس: الذي شعر في وجهه. وحكي عن بعض أصحاب قيس بن سعد أنه قال: لو كانت اللحى تشترى بالدراهم، او قال بالدنانير، او كما قال، لاشترينا لقيس بن سعد لحية. ومن مزاح شريح المذكور: انه دخل عليه عدي بن أرطأة، فقال له: اين أنت أصلحك الله؟ قال بينك وبين الحائط، قال اسمع مني، قال قل أسمع، قال: اني رجل من أهل الشام قال: مكان سحيق، قال: وتزوجت عندكم قال بالرفاء والبنين، قال وأردت أن أرحلها قال الرجل أحق بأهلها، قال وشرطت لها دارها قال: الشرط لها دارها، او قال: المؤمنون عند شروطهم، قال: فاحكم الآن بيننا قال قد فعلت، من حكمت قال فعلى ابن أمك، قال بشهادة من قال، بشهادة ابن أخت خالتك.(1/127)
وحكي أن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه دخل مع خصم ذمي الى القاضي شريح، فقام له فقال: هذا أول جورك، ثم أسند ظهره الى الجدار وقال لو أن خصمي كان مسلماً لجلست بجنبه. وروي عنه ايضاً كرم الله وجهه أنه قال: اجمعوا إلي القراء، فاجتمعوا في رحبة المسجد، فقال: اني أوشك أن أفارقكم، فجعل يسألهم ما تقولون في كذا؟ وشريح ساكت، ثم سأله، فلما فرغ منهم قال: اذهب فأنت من أفضل الناس أو قال: من أفضل العرب، وتزوج شريح امرأة من تميم تسمىزينب، فنقم عليها شيئاً فضربها ثم ندم وقال:
رأيت رجالاً يضربون نساءهم ... فشلت يميني لو أضرب زينبا
أأضربها من غير ذنب أتت به ... فما العدل في ضرب من ليس مذنبا
وزينب شمس والنساء كواكب ... اذا طلعت لم تبصر العين كوكبا
ذكر الحكاية صاحب العقد. ويحكى أن زياد ابن أبيه كتب إلى معاوية: يا أمير المؤمنين إني قد ضبطت العراق لشمالي، وفرغت يميني لطاعتك، فولني الحجاز، فبلغ ذلك عبد الله بن عمر وكان بمكة مقيماً فقال: اللهم اشغل يمين زياد، فأصابه الطاعون، او قال الآكلة في يمينه فجمع الأطباء واستشارهم فأشارواعليه بقطعها، فاستدعى القاضي شريحاً المذكور وعرض عليه ما أشار به الأطباء فقال له: لك أجل معلوم ورزق مقسوم وإني لأكره إن كان لك مدة أن تعيش في الدنيا بلا يمين، وان كان قد دنا أجلك أن تلقى ربك مقطوع اليد، فإذا سألك لم قطعتها قلت بغضاً في لقائكك وفراراً من قضائك. قلت يعني قال له لسان حالك، ويحتمل أنه لسان المقال اذا ختم على الأفواه يوم الخزي والنكال، نسأل الله الكريم العفو والسلامة ونعوذ به من الخزي والندامة. قالوا ومات زياد من يومه، فلام الناس شريحاً على منعه من القطع لبغضهم في زياد، فقال: انه استشارني والمستشار مؤتمن، ولولا الأمانة في المشورة لوددت أنه قطعت يده يوماً ورجله وما وسائر جسده يوماً وفي السنة المذكورة قتل أبو المقدام شريح، ابن هاني المدلجي صاحب علي وله مائة وعشرون سنة.
سنة تسع وسبعين
فيها وقيل في التي قبلها قتل رأس الخوارج قطري بن فجأة التميمي، ثر به فرسه فأهلك، وأتي الحجاج برأسه، وكان الحجاج يستنفر جيشاً بعد جيش وهو يستظهر عليهم،(1/128)
وكان المباشرلقتله سوادة وقيل سودة بن أبجر الدارمي، وكان رجلاً شجاعاً مقداماً كثير الحروب والوقائع قوي النفس لا يهاب الموت، وفي ذلك يقول مخاطباً نفسه.
أقول لها وقد طارت شعاعاً ... من الأبطال ويحك لا تراعي
فانك لو سألت بقاء يوم ... على الأجل الذي لك لم تطاعي
فصبراً من مجال الموت صبراً ... فما نيل الخلود بمستطاع
سبيل الموت غاية كل حي ... وداعيه لأهل الأرض داعي
مع أبيات أخرى وهو معدود في جملة خطباء العرب المشهورين بالبلاغة والفصاحة. وتوفي عبيد الله بن أبي بكرة، وكان قد بعثه الحجاج أميراً على سجستان في العام الماضي، وكان جواد ممدوحاً يعتق في كل عيد مائة عبيد. وفيها مات عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود الهذلي، رحمه الله تعالى.
سنة ثمانين
فيها بعث الحجاج على سجستان عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الكندي، فلما استقربها خلع الحجاج وخرج، ثم كانت بينهما حروب يطول شرحها، وفيها مات عبد الله بن جعفر بن أبي طالب الهاشمي، وهو أحد من رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم صغره من بني هاشم، ولد بالحبشة، ويقال لم يكن أحد في الإسلام في جوده، وسخائه، وكان يسمى الجواد.
ومن فضائله ومكارمه قرابته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما روي في الصحيح أنه قال لابن الزبير: اتذكر إذ تلقينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا وأنت وابن عباس؟ قال: نعم. فحملنا وتركك. وفيها مات أبو ادريس الخولاني عائذ الله بن عبد الله فقيه أهل الشام وقاضيهم، سمع من أبي الدرداء وطبقته، وقال عمر بن عبد البر سماع أبي إدريس عندنا من معاذ صحيح.(1/129)
وفيها مات أسلم مولى عمرو كان فقيهاً نبيلاً، وفيها مات أبو عبد الرحمن جبير بن نفير الحضرمي، عبد الرحمن بن عبد القاري، وفيها صلب عبد الملك معبد الجهني في القدر، وقيل بل عذبه الحجاج بأنواع العذاب، وقتله. وفيها توفي ملك عرب الشام حسان بن النعمان بن المنذر الغاني غازياً للروم، وحاصر المهلب بن أبي صفرة بلاد العجم.
سنة إحدى وثمانين
فيها قام مع ابن الأشعث عامة أهل البصرة من العلماء والعباد، فاجتمع له جيش عظيم، والتقوا عسكر الحجاج يوم الأضحى فانكشف عسكر الحجاج وانهزم هو، وتمت بينهم عدة وقعات حتى قيل كان بينهما أربع وثمانون وقعة في مائة يوم، ثلاث وثمانون على الحجاج والآخرة كانت له. وفيها وقيل في التي بعدها توفي أبو القاسم محمد بن علي بن أبي طالب الهاشمي المعروف بابن الحنفية وخولة بنت جعفر بن قيس، يقال كانت من بني حنيفة من سبي اليمامة، وصارت إلى علي رضي الله عنه، وقيل بل كانت سندية سوداء أمه لبني حنيفة، ولم تكن منهم، وإنما صالحهم خالد بن الوليد على الرقيق من الجواري والعبيد ولم يصالحهم على أنفسهم، وعاش سبعين سنة إلا وتكنيته بأبي القاسم، قيل رخصة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنه قال لعلي رضي الله عنه: " سيولد لك غلام وقد نحلته اسمي وكنيتي ولا يحل لأحد من أمتي بعده ". قلت وقد جمع بين الكنية والاسم المذكورين جماعة كثيرة من أهل الفضل، وفي ذلك مذاهب للعلماء مشهورة، واختار جماعة من العلماء أن النهي عن الجمع بين التسمي باسمه والتكني بكنيته كان مخصوصاً بزمانه صلى الله عليه وآله وسلم، وعلله بأن اليهود كانوا يقولون يا أبا القاسم فإذا سمعهم صلى الله عليه وآله وسلم التفت إليهم، فيقولون ما عنينك، وكان يحصل منهم في ذلك ايذاء له صلى الله عليه وآله وسلم، فنهى حينئذ عن التكني بأبي القاسم، وقد زالت هذه العلة بعده، فارتفع النهي.(1/130)
وكان ابن الحنفية المذكور كثير العلم والورع، وقد ذكره أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الفقهاء: وكان شديد القوة، وله في ذلك أخبار عجيبة، منها: ما حكاه المبرد في الكامل: ان أباه علياً رضي الله عنه استطال درعاً كانت له فقال له: انقص منها كذا وكذا حلقه، فقبض محمد إحدى يديه على ذيلها والأخرى على فضلها، ثم جذبها فانقطع من الموضع الذي حده أبوه، قال: وكان عبد الله بن الزبير إذا حدث بها غضب واعترته الرعدة، قيل لأنه كان يحسده على قوته، وكان ابن الزبير أيضاً شديد القوة. ومن قوة ابن الحنفية أيضاً ما حكاه المبرد: ان ملك الروم وجه إلى معاوية أن الملوك قبلك كانت تراسل الملوك منا وتجهد بعضهم أن يغلب على بعض أفتأذن في ذلك؟ فأذن له، فوجه إليه برسولين أحدهما طويل جسيم والآخر أيد فقال معاوية لعمرو بن العاص: اما الطويل فقد أصبنا كفوه وهو قيس بن سعد بن عبادة، وأما الآخر فقد احتجا إلى رأيك. فقال عمرو: ها هنا رجلان كلاهما إليك بغيض؛ محمد ابن الحنفية وعبد الله بن الزبير. قال معاوية: من هو أقرب إلينا على حال أو قال على كل حال؟ فلما دخل الرجلان للذان بشهما ملك الروم وجه معاوية إلى قيس بن سعد يعلمه، فدخل قيس، فلما مثل بين يدي معاوية نزع سراويله، فرمى بها إلى العلج فلبسها فبلغت ثندوته فأطرق مغلوباً، قيل إن قيساً لاموه في ذلك وقيل له: لما تبذلت هذا التبذل بحضرة معاوية؟ هلا وجهت إليه غيرها؟ فقال:
أردت لكيما يعلم الناس أنها ... سراويل قيس والوفود شهود
وأن لا يقولوا غاب قيس وهذه ... سراويل عاد ثمة وثمود
وأني من القوم اليمانين سيد ... وما الناس إلا سيد ومسود
وبد جميع الخلق أصلي ومنصبي ... وجسمي به أعلو الرجال سديد
ثم وجه معاوية إلى ابن الحنفية رضي الله عنه فحضر، فخبر بما دعى إليه فقال: قولوا له إن شاء فليجلس وليعطني يده حتى أقيمه أو يقعدني، وإن شاء فليكن القاعد وأنا القائم، فاختار الرومي الجلوس فأقامه محمد وعجز هو من إقعاده، ثم اختار أن يكون محمد هو القاعد فجذبه محمد فأقعده، وعجز الرومي عن اقامته فانصرفا مغلوبين، وكان الراية يوم صفين بيده.(1/131)
ويحكى أنه توقف أول يوم في حملهما لكونه قتال المسلمين، ولم يكن قبل ذلك شهد مثله، فقال له علي: وهل عندك شك في جيش مقدمه أبوك؟ فحملها قلت هكذا ذكر بعضهم. وذكر غيره أنه قال له أبوه يوم الجمل: تقدم بالراية وقد ازدحمت الأقران والرؤوس تقطع عن الأبدان، فقال: إلى أين أتقدم؟ والله إن هذه هي المصيبة العمياء. فقال له علي: ثكلتك أمك أتكون
مصيبة وأبوك قائدها؟ وقيل لمحمد كيف كان أبوك يقحمك المهالك، ويولجك المضائق، دون أخويك الحسن والحسين؟ فقال: لأنهما كانا عينيه، وكنت يديه، وكان يقي عينيه بيديه. ولما دعا ابن الزبير إلى نفسه، وبايعه أهل الحجاز بالخلافة، دعا عبد الله بن العباس ومحمد ابن الحنفية إلى البيعة، فأبيا وقال لانبايعك حتى يجتمع لك البلاد والعباد، فتهددهما وجرى ما يطول شرحه وكان الشيعة قد لقبته المهدي، وتزعم شيعته أنه لم يمت وأنه بجبل رضوى مختفيأ عنده عسل وماء، وإلى ذلك أشار كثير عزة وكان كيسانياً حيث قال:
ألا إن الأئمة من قريش ... ولاة الحق أربعة سواء
علي والثلاثة من بنيه ... هم الأسباط ليس بهم خفاء
فسبط سبط إيمان وبر ... وسبط غيبته كربلاء
وسبط لا يذوق الموت حتى ... يقود الخيل يقدمها اللواء
نراه مخيماً بجبال رضوى ... مقيماً عنده عسل وماء
وفيها توفي سويد بن غفلة الجعفي بالكوفة، ومولده عام الفيل فيما قيل، وكان فقيهاً إماماً عابداً قانعاً كبير القدر، رحمة الله عليه. وفيها حجت أم الدرداء الوصابية اليمنية الحميرية، وكان لها نصيب وافي من العلم والعمل، ولها حرمة زائدة بالشام، وقد خطبها معاوية بعد أبي الدرداء فامتنعت وقتل مع ابن الأشعث ليلة دجيل أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود الهذلي، وعبد الله بن شداد بن الهاد الليثي(1/132)
ابن خالة خالد بن اللوليد، وكان فقيهاً كثير الحديث، لقي كبار الصحابة، وأدرك معاذ بن جبل رضي الله عنهم.
سنة اثنتين وثمانين
كانت الحروب تشتعل بين الحجاج وابن الأشعث، وكاد ابن الأشعث أن يغلب على العراق، وبلغ جيشه ثلاثة وثلاثين ألف فارس ومائة وعشرين ألف راجل، ولم يختلف عنه كثير قاموا على الحجاج لله. وفيها توفي المهلب بن أبي صفرة الأزدي أمير خراسان صاحب الحروب والفتوحات قال وإسحاق السبيعي: لم أر أمير اليمن نقبة ولا أشجع لقاء، ولا أبعد مما يكره، ولا أقرب مما يحب من المهلب. وقال بعض المؤرخين: روي أنه قدم على عبد الله بن الزبير أيام خلافته بالحجازوالعراق وتلك النواحي، وهو يومئذ بمكة، فخلا به عبيد الله يشاوره، فدخل عليه عبد الله بن صفوان بن أمية الجمحي، فقال: من هذا الذي شغلك يا أمير المؤمنين يومك هذا؟ فقال: او ما تعرفه؟ قال: لا. قال: هذا سيد أهل العراق: قال: فهو المهلب بن أبي صفرة؟ قال: نعم. فقال المهلب: من هذا يا أمير المؤمنين؟ قال هذا سيد قريش. قال فهو عبد الله بن صفوان؟ قال نعم وكان الذي استعمله على خراسان عبد الملك بن مروان، وكان له كلمات لطيفة واشارات مليحة تدل على مكارمه، وخلف المهلب عدة أولاد نجباء كرام أجواداً أمجاداً قال ابن قتيبة يقال إنه وقع إلى الأرض من صلب المهلب ثلاث مائة ولد، وله آثار حميدة وفضائل عديدة، ولما مات أكثر الشعراء فيه من المراثي من ذلك قول بعضهم:
ألا ذهب العز المقرب للفتى ... ومات الندى والجود بعد المهلب
أقاما بمرو الروذ لا يبرحانها ... وقد عدلا عن كل شرق ومغرب
وفيها توفي زر بن حبيش الأسدي القاري، وله مائة وعشرون سنة، وكان عبد الله بن مسعود يسأله عن العربية فيما قيل، وقتل الحجاج كميل بن زياد النخعي صاحب علي، وكان شريفاً مطاعاً. وفيها قتل أبو الشعثاء مع ابن الأشعث بظاهر البصرة، وفيها قتل الحجاج محمد بن سعد بن أبي وقاص لقيامه مع ابن الأشعث.(1/133)
وفيها توفي جميل بن عبد الله بن معمر الشاعر المشهور من بني عذرة صاحب بثينة أحد عشاق العرب، تعلق قلبه بها وهو غلام فلما كبر خطبها، فرد عنها، فقال الشعر فيها. قال المؤرخون ومنهم الحافظ ابن عساكر، وكان يأتيها ومنزلها بوادي القرى وله ديوان شعر كثير ذكره لها فيه فقيل له: لو قرأت القرآن كان أعود عليك من الشعر؟ فقال: هذا أنس بن مالك أخبرني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " إن من الشعر لحكمة " وبثينة أيضاً من بني عذرة وكانت تكنى أم عبد الملك والجمال والعشق في بني عنرة، قيل لرجل منهم ممن أنت؟ قال: من قوم إذا أحبوا ماتوا، فقالت جارية سمعته: هذا عذري ورب الكعبة وقيل لآخر: ما بال قلوبكم كأنها قلوب طير ينماع كما ينماع الملح في الماء؟ اما تتجلدون؟ فقال: انا ننظر إلى محاجرعيون لا تنظرون إليها. وذكر صاحب كتاب الأغاني أن كثيرعزة راوية جميل، وجميل راوية هدبة، وهدبة راوية الحطيئة، والحطيئة راوية زهير بن أبي سلمى وابنه كعب بن زهير، ومن شعر جميل:
وجزعاني أن تبماء منزل ... لليلى إذا ما الصيف ألقى المراسيا
فهذي شهور الصيف إن قد انقضت ... فما للنوى يرمي بليلى المراميا
قال ابن خلكان ومن الناس من يدخل هذه الأبيات في قصيدة مجنون ليلى، وليست له، وتيماء خاصةً منزل لبني عذرة، وفي هذه القصيدة يقول جميل:
وما زلتم تأبون حتى لو أنني ... من الشوق أستبكي الحمام بكى ليا
وما زادني الواشون إلا صبابة ... ولا كثرة الناهين إلا تماديا
ومن شعره أيضاً
يقضي الديون وليس ينجز موعدا ... هذا الغريم لنا وليس بمعسر
ما أنت بالوعد الذي تعدينني ... إلا كبرق سحابة لم تمطر
قلت والبيت الأول منهما وقول كثيرعزة، قضى كل في دين فوفى غريمه. وبيته المعروف، احدهما يستمد من الآخر، ومن شعر جميل:
وإني لأستحيي من الناس أن أرى ... رديفاً لوصل أوعلى رديف
وإني للماء المخالط للقذى ... إذا كثرت وراده لعيوف
قلت والبيت الثاني من هذين غير مناسب للأول منهما، فإنه في الأول كره لأن يكون(1/134)
رديفا وأن يكون الذي قبله واحداً، اذ الرديف يصدق على ذلك وفي الثاني قيد العيوف بكثرالوارد. قلت ومما ذكره المؤرخون ما يكره المتدين ذكره، استغفر الله من ذكره واسأل العافية من مثله، قالوا: قال كثيرة عزة لفتى مرة جميل بثينة فقال من أين أقبلت؟ فقلت من عند الحبيبة يعني بثينة، قال: الى أين تمضي؟ فقلت إلى الحبيبة يعني عزة، فقال لابد أن ترجع عودك على بدنك فتتخذ لي موعداً من بثينة، فقلت: عهدي بها الساعة وأنا أستحي أن أرجع، فقال: لا بد من ذلك. فقلت: ومتى عهدك ببثينة؟ فقال من أول الصيف وقعت سحابة بأسفل واد الروم، فخرجت ومعها جارية لها تغسل ثياباً، فلما أبصرتني أنكرتني فضربت يدها إلى ثوب في الماء فالتحفت به، وعرفتني الجارية فأعادت الثوب إلى الماء، وتحدثنا ساعة حتى غابت الشمس، وسألتها الموعد فقالت: اهلي سائرون، وما لقيتها بعد ذلك، ولا وجدت أحداً منه فأرسله إليها. قال كثير فقلت هل لك أن آتي الحي فأتعرض بأبيات شعر أذكر فيها هذه العلامة إن لم أقدرعلىالخلوة بها؟ قال: ذلك هو الصواب، قال فخرجت حتى أنخت بهم. فقال أبوها: ما ردك يا ابن أخي؟ قال قلت أبيات عرضت فأحببت أن أعرضها عليك. قال: هات. قال: فأنشدته شعراً، وبثينة تستمع، فقلت لها:
يا عز أرسل صاحبي ... إليك رسولاً والرسول موكل
بأن تجعلي بيني وبينك موعداً ... وأن تأمريني ما الذي فيه أفعل
وآخرعهدي منك يوم لقيتني ... بأسفل واد الروم والثوب يغسل
قال فضربت بثينة خدرها، وقالت: اخسأ اخسأ. فقال لها أبوها: مهيم: يا بثينة قالت: كلب يأتينا إذا نوم الناس من وراء الرابية، ثم قالت للجارية: ابغينا من الدومات حطباً لنذبح لكثير شاةً ونشويها له، فقال كثير: انا أعجل من ذلك وراح إلى جميل فأخبره، فقال له جميل موعدنا الدومات، وخرجت بثينة وصواحبها إلى الدومات، وجاء جميل وكثير إليهن فما برحوا حتى برق الصبح، وكان كثير يقول ما رأيت مجلساً قط أحسن من ذلك المجلس ولا مثل علم أحدهما بضمير الآخر ما أدري أيهما كان أفهم. وقال الحافظ أبو عيسى ابن عسكرفي تاريخه الكبير قال ابن الأنباري أنشدني أبي هذه الأبيات لجميل:
ما زلت أبغي الحي أطلب أهلهم ... حتى دفعت إلى رؤيبة هودج
فدنوت مختفياً ألم ببيتها ... حتى ولجت إلى حفى المولج(1/135)
فتناولت رأسي لتعرف سنه ... لمخضب الأطراف غير مشيخ
قالت وعيش أخي ونعمة والدي ... لأنبهن القوم إن لم تخرج
فخرجت خيفة قولها فتبسمت ... فسلمت أن يمينها لم تلحج
قلت وبعد هذا بيت حذفته كراهية ذكره. وقال هارون بن عبد الله القاضي قدم جميل بن معمر مصر على عبد العزيز بن مروان ممتدحاً له، فأذن له وسمع مدائحه وأحسن جائزته، وسأله عن حبيبته بثينة فذكر، وحمد كثيراً فوعده في أمرها وأمره بالمقام، وأمر له بمنزل وما يصلحه فأقام قليلاً حتى مات هناك. وذكر الزبير بن بكار عن عباس بن سهل الساعدي قال: بينا أنا بالشام إذ لقيني رجل من أصحابي، فقال هل لك في جميل؟ فإنه ثقيل نعوده، فدخلنا عليه وهو يجود بنفسه، فنظر إلي ثم قال: يا ابن سهل ما تقول في رجل لم يشرب الخمر قط، ولم يزن ولم يقتل النفس ولم يسرق يشهد أن لا إله إلا الله؟ قلت: اظنه قد نجا، وأرجو له الجنة. فمن هذا الرجل؟ قال: انا قنت والله ما أحسبك سلمت وأنت تشبب منذ عشرين سنة ببثينة. فقال: لا نالتني شفاعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإني في أول يوم من أيام الآخرة آمر يوم من أيام الدنيا إن كنت وضعت يدي عليها لريبة. قال: فما برحنا حتى مات. وذكر في الأغاني عن الأصمعي قال: حدثني رجل شهد جميلاً لما حضرته الوفاة بمصر أنه دعا به فقال: هل لك إن أعطيتك كل ما أخلفه على أن تفعل شيئاً أعهده إليك؟ قال فقلت نعم قال إذا نامت فخذ حلتي هذه وأعز لها جانباً وكل ما سواها، لك وادمل إلى رهط بثينة فإذا صرت إليها فارتحل ناقتي هذه واركبها، ثم البس حلتي هذه واشققها، ثم اعل على شرف وصح بهذين البيتين:
صرح البغي وما كنا بجميل ... وثوى بمصر ثوى بغير قفول
قومي بثينة فاندبي بعويل ... وابكي خليلاًدون كل خليل
قال فقلت ما أمرني به فما تممت الإنشاد حتى خرجت بثينة كأنها بدر في دجنة، وهي تنثني في مرطها حتى أتتني، فقالت: يا هذا والله إن كنت صادقاً لقد قتلتني، وإن كنت كاذباً فقد فضحتني، فقلت: والله ما أنا لا صادقاً وأخرجت حلته، فلما رأتها صاحت بأعلى صوتها وصكت وجهها، واجتمع نساء الحي يبكين معها ويندبنه حتى صعقت، فمكثت مغشياً عليها ساعة ثم قامت وهي تقول:
وإن سكتموني عن جميل لساعة ... من الدهر ما حانت ولا حان حينها
سواء علينا يا جميل بن معمر ... إذا مت بأساء الحياة ولينها(1/136)
سنة ثلاث وثمانين
فيها في قول غير واحد وقعة دير الجماجم وكان شعار الناس يادبارات الصلاة لأن الحجاج كان يميت الصلاة ويؤخرها حتى يخرج وقتها. وقتل مع ابن الأشعث البحتري والطائي مولاهم، كان من كبار فقهاء الكوفة، وغرق مع ابن الأشعث عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي الفقيه المقري. قال ابن سيرين رأيت أصحابهم يعظمونه كانه أمير. وتوفي فيها أبو الجوزاء الربعي البصري، وقاضي مصر عبد الرحمن الخولاني، وكان عبد العزيز بن مروان يرزقه في السنة ألف دينار فلا يدخرها.
سنة أربع وثمانين
فيها فتحث المصيصة على يد عبد الله بن عبد الملك بن مروان. وفيها قتل أيوب بن زيد الهلالي المعروف بابن القرية بكسر القاف وبالراء والمثناة من تحت وتشديدهما في آخرها اسم جدته، كان اعرابياً أمياً وهو معدود من جملة خطباء العرب المشهورين بالفصاحة والبلاغة، وكان عامل الحجاج يغدي كل يوم ويعشي، فوقف ابن القرية ببابه فرأى الناس يدخلون، فقال أين يدخل هؤلاء قالوا: الى طعام الأمير، فدخل فتغذى وقال: اكل يوم صنع الأمير ما أرى؟ فقيل: نعم، فكان كل يوم يأتيه للغداء والعشاء الى أن ورد كتاب من الحجاج على العامل، وهو عربي غريب لا يدري ما هو فأمر لذلك طعامه فجاء ابن القرية فلم ير العامل يتغذى، فقال ما بال الأمير اليوم لا يأكل ولا يطعم؟ فقالوا: غم لكتاب ورد عليه من الحجاج عربي غريب لا يدري ما هو، فقال: ليريني الأمير الكتاب وأنا أفسره إن شاء الله تعالى، وكان خطيباً لسناً بليغاً فذكر أن للوالي فدعي به، فلما قرىء عليه الكتاب عرف الكلام وفسره للوالي حتى عرف جميع ما فيه. فالتمس الوالي منه أن يكتب له الجواب، فقال: لست أقرأ ولا أكتب ولكن أقعد عندي كاتباً يكتب ما أمليه ففعل فكتب جواب الكتاب، فلما قرىء الكتاب على الحجاج رأى كلاماً غريباً فعلم أنه ليس من كلام كتاب الخراج فدعى برسائل عامل عين اليمن فنظر فيها فإذا هي ليست ككتاب ابن القرية فكتب الحجاج إلى العامل.(1/137)
أما بعد فقد أتاني كتابك بعيداً من جوابك بمنطق غيرك، فإذا نظرت في كتابي هذا فلاتضعه من يدك حتى تبعث إلي بالرجل الذي سطر لك الكتاب والسلام. فقرأ العامل الكتاب على ابن القرية، فقال له تتوجه نحوه، وقال لا بأس عليك، وأمر له بكسوة، ونفقة وحمله إلى الحجاج، فلما دخل عليه قال ما اسمك؟ قال: ايوب. قال اسم نبي وأظنك أمياً تحاول البلاغة؟ ولا يستصعب عليك المقال وأمر له بنزل ومنزل، فلم يزل يزداد به عجباً حتى أوفده على عبد الملك بن مروان. فلما خلع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي الطاعة بسجستان وهي واقعة مشهورة، بعثه الحجاج إليه فلما دخل عليه قال لتقومن خطيباً ولتخلعن عبد الملك ولتشتمن الحجاج أو لأضربن عنقك. قال: ايها الأمير إنما أنا رسول. قال: هو ما أقول لك فقام وخطب، وخلع عبد الملك وشتم الحجاج، وقام هناك فلما انصرف ابن الأشعث منهزماً كتب الحجاج إلى عماله بالري وأصبهان وما يليها يأمرهم أن لا يمر بهم أحد من قيل أو قال من أصحاب ابن الأشعث إلا بعثوا به أسيراً إليه، وأخذ ابن القرية في من أخذ فلما دخل على الحجاج قال أخبرني عما أسألك عنه. قال: سلني عمن شئت. قال أخبرني عن أهل العراق؟ قال: اعلم الناس بحق وباطل. قال: فأهل الحجاز؟ قال: اصرع الناس إلى فتنة وأعجزهم فيها قال: فأهل الشام؟ قال أطوع الناس لخلفائهم. قال فأهل مصر؟ قال عبيد من خلب يعني من خدع. قال فأهل البحرين؟ قال: بسط استعربوا قال: فأهل عمان؟ قال: عرب استنبطوا قال: فأهل الموصل؟ قال: اشجع فرسان وأقبل للأقران، قال فأهل اليمن؟ قال أهل أهواء أو قال أهواء ونقاء، واصبر عند اللقاء. قال: فأهل اليمامة؟ قال: اهل جفاء واختلاف وريف كثير وقرى يسير. قال: اخبرني عن العرب قال: سلني. قال: قريش؟ قال: اعظمها أحلاماً واكرمها مقاماً. قال: فبنو عامر بن صعصعة؟ قال: اطولها رماحاً وأكرمها صباحاً. قال: فبنو سليم؟ قال: اعظمها مجالس وأكرمها محاسن. قال: فثقيف؟ قال أكرمها جدوداً وأكثرها وفوداً. قال: فبنو زيد؟ قال ألزمها للرايات وأدركها للثارات. قال: فقضاعة؟ قال: اعظمها أحطاراً رأكرمها نجاراً وأبعدها آثاراً يعني النجار بالنون والجيم والراء بعد الألف الأصل والحسب. قال فالأنصار؟ قال أثبتها مقاماً وأحسنها إسلاماً، وأكرمها أياماً. قال: فتميم؟ قال: اظهرها جلداً وأثراها عدداً. قال: فبكر بن وائل؟ قال أثبتها صفوفاً واحدها سيوفاً..قال فعبد القيس؟ قال أسبقها إلى الغايات وأصبرها تحت الرايات. قال فبنو أسد؟ قال أهل عدد وجلد وعز ونكد. قال فلخم؟ قال ملوك وفيهم نوك يعني بالنوك بفتح النون الحمق. قال فجذام؟ قال يسعرون الحرب ويوقدونها ويلحقونها ثم يمرونها. قال فبنو الحارث؟ قال رعاة للقديم حماة عن الحريم. قال فمك؟ قال ليوث جاهدة في قلوب(1/138)
فاسدة قال فثعلب؟ قال يصدقون إذ ألقوا ضرباً ويسعرون الأعداء حرباً. قال فغسان؟ قال أكرم العرب أحساباً وأبينها أنساباً. قال فأي العرب في الجاهلية كانت أمنع من أن يضام؟ قال قريش أهل رهوة لا يستطاع ارتقاؤها
وهضبة لا يرام انتزاؤها في بلدة حمى الله دمارها ومنع جارها. قال فأخبرني عن مآثر العرب في الجاهلية؟ قال: كانت العرب تقول حمير أرباب الملك وكندة لباب الملوك، ومذحج أهل الطعان، وهمدان أحداس الخيل يعني يفتنونها ويلزمون ظهورها. والأزدآسات الناس. قال: فأخبرني عن الأرضين قال: سلني. قال: الهند قال بحر هادر، وجبلها ياقوت، وشجرها عود، وورقها عطر، وأهلها طعام يقطع الحمام، او قال للقطع الحمام. قال فخراسان قال ماؤها جامد وعدو هنيئاً جاحد. قال فعمان؟ قال حرها شديد وصيدها عتيد. قال فالبحرين؟ قال كماشة بين المصريين. قال فاليمن؟ قال أصل العرب وأهل البيوتات والحسب. قال فمكة؟ قال رجالها على علماء جفاة ونساؤها كساة عراة. قال والمدينة؟ قال رسخ العلم فيها وظهر منها. قال فالبصرة؟ قال شتاؤها جليد وحرها شديد وماؤها ملح وحربها صلح. قال فالكوفة؟ قال ارتفعت عن حرالبحر وسفلت عن برد الشام فطاب ليلها وكثر خيرها. قال فواسط؟ قال جنة بين حماة وكنة قال وما حماتها وكنتها. قال البصرة والكوفة يحسدانها، وما ضراها ودجلة يتجاريان بإفاضة الخير عليها، قال فالشام؟ قال عروس بين نسوة جلوس. قال: ثكلتك أمك يابن القرية، لولا اتباعك أهل العراق وكنت أنهاك عنهم أن تتبعهم فتأخذ من تفاقم. ثم دعا بالسيف وأومى إلى السياف أن أمسك، فقال ابن القرية ثلاث كلمات أصلح الله الأمير كأنهن ركب وقف تكن مثلاً بعدي، قال: هات قال لكل جواد كبوة ولكل صارم نبوة ولكل حليم هفوة. قال الحجاج ليس هذا وقت المزاح يا غلام رحب جرحه فضرب عنقه. قيل لما أراد قتله قال له العرب تزعم أن لكل شيء آفة، قال: صدقت العرب أصلح الله الأمير. قال فما آفة الحليم؟ قال الغضب. قال: فما آفة العقل؟ قال العجب. قال فما آفة العلم؟ قال النسيان. قال فما آفة السخاء؟ قال المن عند البلاء. قال فما آفة الحديث؟ قال الكذب. قال فما آفة الكرام؟ قال مجاورة اللئام قال فما آفة الشجاعة؟ قال البغي. قال فما آفة العبادة؟ قال العترة. قال فما آفة الذهن؟ قال حديث النفس. قال فما آفة المال؟ قال سوء التبذير. قال فما آفة الكامل من الرجال؟ قال العدم. قال فما آفة الحجاج بن يوسف؟ قال أصلح الأمير: الآفة لمن كرم حسبه وطاب نسبه وزكى فرعه، قال: امتلأت شقاقاً وأظهرت شقاق ثم قال اضربوا عنقه، فلما رآه قتيلاً ندم. ذكر هذا كله بعض المؤرخين في تاريخه ناقلاً له. وفي السنة المذكورة ظفر أصحاب الحجاج بعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي وقتلوه بسجستان وطيف برأسه في البلدان. وتوفي عبد الله بن الحارث بن نوفل الهاشمي حنكه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند ولادته والأسود بن هلال المحاربي. وتوفي عمران بن حطان السدوسي المصري أحد رؤوس الخوارج وشاعرهم البليغ. وتوفي عتبة بن النذر السلمي، روح الجذامي سيد جذام أمير فلسطين وكان منظماًعند عبد الملك لا يكاد يفارقه وكان عنده بمنزلة وزير وكان ذا علم وعقل ورأي ودين. هضبة لا يرام انتزاؤها في بلدة حمى الله دمارها ومنع جارها. قال فأخبرني عن مآثر العرب في الجاهلية؟ قال: كانت العرب تقول حمير أرباب الملك وكندة لباب الملوك، ومذحج أهل الطعان، وهمدان أحداس الخيل يعني يفتنونها ويلزمون ظهورها. والأزدآسات الناس. قال: فأخبرني عن الأرضين قال: سلني. قال: الهند قال بحر هادر، وجبلها ياقوت، وشجرها عود، وورقها عطر، وأهلها طعام يقطع الحمام، او قال للقطع الحمام. قال فخراسان قال ماؤها جامد وعدو هنيئاً جاحد. قال فعمان؟ قال حرها شديد وصيدها عتيد. قال فالبحرين؟ قال كماشة بين المصريين. قال فاليمن؟ قال أصل العرب وأهل البيوتات والحسب. قال فمكة؟ قال رجالها على علماء جفاة ونساؤها كساة عراة. قال والمدينة؟ قال رسخ العلم فيها وظهر منها. قال فالبصرة؟ قال شتاؤها جليد وحرها شديد وماؤها ملح وحربها صلح. قال فالكوفة؟ قال ارتفعت عن حرالبحر وسفلت عن برد الشام فطاب ليلها وكثر خيرها. قال فواسط؟ قال جنة بين حماة وكنة قال وما حماتها وكنتها. قال البصرة والكوفة يحسدانها، وما ضراها ودجلة يتجاريان بإفاضة الخير عليها، قال فالشام؟ قال عروس بين نسوة جلوس. قال: ثكلتك أمك يابن القرية، لولا اتباعك أهل العراق وكنت أنهاك عنهم أن تتبعهم فتأخذ من تفاقم. ثم دعا بالسيف وأومى إلى السياف أن أمسك، فقال ابن القرية ثلاث كلمات أصلح الله الأمير كأنهن ركب وقف تكن مثلاً بعدي، قال: هات قال لكل جواد كبوة ولكل صارم نبوة ولكل حليم هفوة. قال الحجاج ليس هذا وقت المزاح يا غلام رحب جرحه فضرب عنقه. قيل لما أراد قتله قال له العرب تزعم أن لكل شيء آفة، قال: صدقت العرب أصلح الله الأمير. قال فما آفة الحليم؟ قال الغضب. قال: فما آفة العقل؟ قال العجب. قال فما آفة العلم؟ قال النسيان. قال فما آفة السخاء؟ قال المن عند البلاء. قال فما آفة الحديث؟ قال الكذب. قال فما آفة الكرام؟ قال مجاورة اللئام قال فما آفة الشجاعة؟ قال البغي. قال فما آفة العبادة؟ قال العترة. قال فما آفة الذهن؟ قال حديث النفس. قال فما آفة المال؟ قال سوء التبذير. قال فما آفة الكامل من الرجال؟ قال العدم. قال فما آفة الحجاج بن يوسف؟ قال أصلح الأمير: الآفة لمن كرم حسبه وطاب نسبه وزكى فرعه، قال: امتلأت شقاقاً وأظهرت شقاق ثم قال اضربوا عنقه، فلما رآه قتيلاً ندم. ذكر هذا كله بعض المؤرخين في تاريخه ناقلاً له. وفي السنة المذكورة ظفر أصحاب الحجاج بعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي وقتلوه بسجستان وطيف برأسه في البلدان.(1/139)
وتوفي عبد الله بن الحارث بن نوفل الهاشمي حنكه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند ولادته والأسود بن هلال المحاربي. وتوفي عمران بن حطان السدوسي المصري أحد رؤوس الخوارج وشاعرهم البليغ. وتوفي عتبة بن النذر السلمي، روح الجذامي سيد جذام أمير فلسطين وكان منظماًعند عبد الملك لا يكاد يفارقه وكان عنده بمنزلة وزير وكان ذا علم وعقل ورأي ودين.
سنة خمس وثمانين
فيها توفي عبد العزيز بن مروان بن الحكم أمير مصر والمغرب، عند جماعة وقال بعضهم في السنة التي قبلها، وولي مصر عشرين سنة وكان ولي العهد بعد عبد الملك عقد لهما أبوهما كذلك فلما مات عقد عبد الملك من بعده العهد لولده، وبعث لي عامله إلى المدينة، هشام بن إسماعيل المخزومي ليبايع له الناس بذلك، فامتنع عليه سعيد بن المسيب، وصمم، فضربه هشام بن إسماعيل بستين سوط، وطوف به. وفيها توفي واثلة بن الأسقع الليثي أحد فقراء الصفة، وله ثمان وتسعون سنة وكان فارساً شجاعاً ممدوحاً فاضلاً، شهد غزوة تبوك رضي الله عنه. وفيها توفي عمرو بن حريث المخزومي، هـ صحبة ورواية، ومولده في زمن الهجرة. وفيها توفي عمرو بن سلمة الجرمي البصري، في قول ويقال إن له صحبة، وهو الذي صلى بقومه في عهد النبي صلى الله وآله وسلم، وعمرو بن سلمة الهمداني، وعبد الله بن عامر بن ربيعة العنبري حليف آل عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، وروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديثاً ليس بمتصل، خرجه أبو داود له رواية عن الصحابة.(1/140)
وفيها توفي خالد بن يزيد بن معاوية بن أي سفيان الأموي، قيل كان له معرفة بفنون من العلم، منها علم الطب والكيمياء كان متقناً لهما: قال ابن خلكان: وله رسائل دالة على علمه ومعرفته وبراعته، اخذ الصناعة من رجل رومي من الرهبان، وله أشعار مطولات ومقاطع دالة على حسن تصرفه، ومن شعره:
تجول خلاخيل النساء ولا أرى ... لرملة خلخالاً تجول ولا قلبا
أحب بني العوام من أجل حبها ... ومن أجلها أحببت أخوالها
من قصيدة له طويلة في زوجته رملة بنت الزبيربن العوام، وشكا إلى عبد الملك بن مروان، فقال: يا أمير المؤمنين، ان الوليد بن عبد الملك قد احتقر ابن عمه عبد الله واستصغره، يعني أخاه، فقال عبد الملك: " إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون " - النمل: 34 - فقال خالد: " وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً " - الإسراء: 16 - فقال عبد الملك: أفي عبد الله تكلمني؟ والله لقد دخل علي فما أقام لسانه لحناً، فقال له خالد: افعلى الوليد تقول؟ فقال: عبد الملك: ان كان يلحن فإن أخاه سليمان، يعني أنه كان فصيحاً زكياً كما سيأتي ترجمته، فقال خالد: ان كان عبد الله يلحن فإن أخاه خالد، فقال له الوليد: اسكت يا خالد فوالله ما تدعي في العير ولا في النفير، فقال خالد: ويحك ومن للعير والنفير غيري؟ وجدي أبو سفيان صاحب العير، وجدي عتبة بن ربيعة صاحب النفير، ولكن لو قلت غنيمات والطائف رحم الله عثمان لقلنا صدقت، قلت وأشار بذلك إلى العير التي خرج لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ليأخذوها، وخرج المشركون من مكة ليقاتلوا دونها، وكان في العير أبو سفيان هو المقدم وهو جده من جهة أبيه، وفي النفير عتبة بن ربيعة مقدم على القوم وهو جده من جهة الأم، فإن ابنته هند أم معاوية.
وأما الغنيمات: فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفى الحكم جد الوليد إ لىالطائف وكان يرعى الغنم، ولم يزل كذلك إلى أن ولي عثمان بن عفان فرده. وروي أن عثمان كان قد شفع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في رده، فأنعم له بذلك، وأذن له في رده، وفي ذلك تبكيت للوليد لما صدر منه من الاحتقار له ولأخيه والله أعلم.
سنة ست وثمانين
فيها ولي قتيبة بن مسلم الباهلي خراسان، وافتتح بلاد صاغان من الترك صلحاً،(1/141)
وتوفي أبو إمامة الباهلي رضي الله عنه وله مائة وست وستون سنة. وفيها وقيل في سنة ثمان توفي عبد الله بن أبي أوفى الأسلمي رضي الله عنه، وهو آخر من مات بالكوفة من الصحابة رضي الله عنهم، وآخر من شهد بيعة الرضوان. وفيها توفي على الصحيح وقيل سنة ثمان عبد الله بن الحارث بن جزء بفتح الجيم وسكون الزاي مع الهمزة الزبيدي رضي الله عنه، اخر من مات بمصر من الصحابة، وتوفي قبيصة بن ذويب الخزاعي الفقيه بدمشق، روى عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهم، قال: مكحول: ما رأيت أعلم منه. وقال الزهري: كان من علماء الأمة. وفي شوال مات خليفتهم عبد الملك بن مروان وله ستون سنة، وكانت ولايته المجمع عليها بعد ابن الزبير ثلاث عشرة سنة وأشهراً، وقد عده أبو الزناد في طبقة ابن المسيب، وقال نافع رأيت أهل المدينة وما بها شاب أشد تشميراً ولا أفقه ولا أقرأ لكتاب الله من عبد الملك، وولي بعده ابنه الوليد بن عبد الملك. ومن المشهور أن عبد الملك المذكور رأى في منامه كأنه بال في المحراب أربع مرات، فوجه إلى سعيد بن المسيب من يسأله عن ذلك، فقال: يملك من ولده لصلبه أربعة، وكان كما قال: فإنه ولي الوليد وسليمان وهشام ويزيد أولاد عبد الملك. وقيل رأى أنه بال في زوايا المسجد الأربع، فقال ابن المسيب يلد أربعة أولاد يملكون الأرض.
سنة سبع وثمانين
فيها استعمل الوليد على المدينة عمربن عبد العزيز، وفيها ابتدأ ببناء جامع دمشق، ودام العمل والجد والاجتهاد في بنائه وزخرفته أكثر من عشر سنين، وكان فيها اثنا عشر ألف صانع. وفيها توفي عتبة بن عبد السلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وله أربع وتسعون سنة، والمقدام بن معد يكرب الكندي الصحابي، وهو ابن إحدى وتسعين سنة، رضي الله عنهما.(1/142)
سنة ثمان وثمانين
فيها زحفت الترك، وأهل فرغانة والصفد، عليهم ابن أخت ملك الصين في جمع عظيم، يقال كانوا مائتي ألف، فالتقاهم قتيبة بن مسلم وهزمهم، وفيها توفي عبد الله بن بسر المازني، وهو آخر من مات من الصحابة بحمص، قلت هكذا ينبغي أن يقال: وأما قول الذهبي أنه أخر من مات من الصحابة مقتصراً على هذا فغير صحيح، وكلامه بعد هذا ينقصه، توفي سهل بن سعد الساعدي في
سنة إحدى وتسعين، وأنس بن مالك في سنة ثلاث وتسعين على القول الراجح الذي قطع به هو في مختصر، وذكر أيضا أن عبد الله بن بسر المذكور أرخه عبد الصمد بن سعيد في سنة تسع وتسعين. قلت وهذا يمكن أن يقال على هذا القول إنه آخر الصحابة موتاً، لكن ينبغي النظر في شيء آخر، وهو: ان الصحابي من هو؟ فعلى أحد الأقوال أنه من رأى النبي صلى اللهء وآله وسلم مسلماً، وكذا في حكم الإسلام متى يصح من الإنسان فإن محمود بن الربيع عقل في مجة مجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بير في دارهم وهو ابن أربع سنين، وموته كان في سنة تسع وتسعين. وأبو الطفيل الكناني نقل العلماء أنه آخر من رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا يعنون آخرهم موتاً، وموته في سنة مائة، لكن لا أدري هل رآه مسلماً أم لم يسلم بعد؟ فليبحث عن ذلك. وقد علم أيضاً أن الصغيريحكم بإسلامه تبعاً كما هو معروف في كتب الفقه، هذا ما أردت من التنبيه على ذلك فليعلم، والله تعالى بكل شيء أعلم.
سنة تسع وثمانين
فيها توفي على القول الصحيح عبد الله بن ثعلبة العذري، مسح النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأسه، ودعا له فوعى ذلك، وسمع من عمر رضي الله عنهما.
سنة تسعين
فيها ولي امرة مصرقرة بن شريك، وكان جباراً ظالماً. وفيها ظفر قتيبة بأهل(1/143)
الطالقان، قتل منهم صبرا مقتلة لم يسمع بمثلها، وطلب سماطين طول أربعين فراسخ في نظام واحد: يعني طلب تحصيل تسبحين مما يمد عليه السماط لأكل العساكر الممدود عليه. وفيها توفي أبو ظبيان جبير بن جندب الجهني الكوفي والد قابوس. وفيها توفي على الصحيح خالد بن يزيد بن معاوية، وكان موصوفاً بالعلم والدين والعقل، وهو الذي تقدم الكلام بينه وبين عبد الملك بن مروان خاله، وظهر عليه ببلاغة اللسان. وتوفي عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة الزهري الفقيه، وأبو الخير مرثد بن عبد الله اليزني مفتي أهل مصر في وقته، تفقه على عقبة بن عامر.
سنة إحدى وتسعين
توفي فيها أبو العباس سهل بن سعد الساعدي الأنصاري، وقد قارب المائة، وهو آخرمن مات بالمدينة من الصحابة، رضي الله عنهم. وفيها توفي وقيل في سنة ثمان وثمانين السائب بن يزيد الكندي، قال حج بي أبي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجة الوداع وأنا ابن سبع سنين، ورأيت خاتم النبوة بين كتفيه.
سنة اثنتين وتسعين
فيها افتتح اقليم الأندلس على يد طارق مولى موسى بن نصير، تمم موسى فتحه في سنة ثلاث. وتوفي مالك بن أوس بن الحدثان، ادرك الجاهلية، ورأى أبا بكر رضي الله عنهما. وفيها توفي ابراهيم بن يزيد التيمي الكوفي العابد المشهور، قتله الحجاج ولم يبلغ أربعين سنة، روى عن عمرو بن ميمون الأوثي وجماعة. وفيها توفي طويس المغني. قال ابن قتيبة في كتاب المعارف: طويس مولى أروى بنت(1/144)
كريز، وهي أم عثمان بن عفان رضي الله عنه، واسمه عبد الملك. قال أبو الفرج في كتاب الأغاني: اسمه عيسى بن عبد الله، وقال الجوهري في الصحاح: اسمه طاوس فلما ثخنث أو قال خنث سمي طويس، وكان من المبرزين في الغناء المجيدين فيه، وممن يضرب به الأمثال، وإياه عنى الشاعر بقوله في مدح معبد المغني.
يغني طويس والشريحي بعده ... وما قصبات السبق إلآ لمعبد
وطويس المذكور هو الذي يضرب به المثل في الشوم، فيقال أشأم من طويس، لأنه ولد في اليوم النمي قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفطم في اليوم الذي مات فيه الصديق رضي الله تعالى عنه، وختن في اليوم الذي قتل فيه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وقيل بل بلغ الحلم في ذلك اليوم، وتزوج في اليوم الذي قتل فيه عثمان رضي الله تعالى عنه، وولد مولود له في اليوم الذي قتل فيه علي رضي الله تعالى عنه، وقيل بل في يوم مات الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما، فلذلك تشاءموا به. قلت وهذا إن صح من عجائب الاتفاقات، وكان مفرطاً في طوله مضطرباً في خلقه أحول العين، سكن المدينة، ثم انتقل عنها إلى السويداء على مرحلتين من المدينة في طريق الشام، وبها توفي، وطويس تصغير طاوس بعد حذف الزيادات.
سنة ثلاث وتسعين
فيها افتتح قتيبة عدة فتوح، وهزم الترك، ونازل سمرقند في جيش عظيم، ونصب المجانيق، فجاءت نجدة الترك، فأكمن لهم كميناً، فالتقوا في نصف الليل فاقتتلوا قتالاً عظيماً، فلم يفلت من الترك إلا اليسير، وافتتح سمرقند صلحاً، وبنى بها الجامع والمنبر وقيل صالحهم على مائة ألف رأس وعلى بيوت النار وحلية الأصنام فسلبت ثم وضعت قدامه، وكانت كالقصر العظيم يعني الأصنام فأمر بتحريقها. ثم جمعوا من بقايا ما كان فيها من مسامير الذهب والفضة خمسين ألف مثقال. وفيها توفي من سادات الصحابة ذو الفضائل والإنابة خادم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الموهل لذلك السيد الجليل أبو حمزة أنس بن مالك الأنصاري. وقيل توفي سنة تسعين، وقيل في سنة إحدى وتسعين، وقيل في سنة اثنتين وتسعين، قدم النبي صلى عليه وآله وسلم المدينة وهو ابن عشر سنين، ومن فضائله: دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم له بالبركة فيما أعطي حتى أنه دفن من أولاده قبل مقدم الحجاج بن يوسف مائة(1/145)
وعشرين، وكان نخله يثمر في السنة مرتين. وتوفي فيها بلال بن أبي الدرداء روى عن أبيه، وقد ولي امرة دمشق. وأبو الشعثاء جابر بن زيد الأزدي الفقيه بالبصرة. قال ابن عباس: لو أن أهل البصرة نزلوا عند قول أبي الشعثاء لأوسعهم علماً عما في كتاب الله عز وجل.
وفيها توفي أبو الخطاب عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة القرشي المخزومي الشاعر المشهور، قيل لم يكن في قريش أشعر منه، وهو كثير الغزل والنوادر والوقائع والمجون والخلاعة، وله في ذلك حكايات مشهورة، وكان يتغزل في شعره بالثريا ابنة علي بن عبد الله ابن الحارث بن أمية بن عبد شمس الأموية: قال السهيلي في الروض الأنق: وجدتها قتيلة بضم القاف وفتح المثناة من فوق وتسكين المثناة من تحت ابنة النضر بن الحارث التي أنشدت عقب وقعة بدر الأبيات التي من جملتها.
ظلت يهوف بني أمية يبسة ... لله أرحام هناك تمزق
أمحمد ولأنت نجل نجيبة ... من قومها والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت وربما ... من الفتى وهو المغيظ المخنق
فالنضر أقرب من تركت وصيلة ... وأحقهم إن كان عتق يعتق
ويروى فالنضر أقرب أن أردت قرابة. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: " لو سمعت شعرها قبل أن أقتله لما قتلته ".
قلت وهذا مما احتج به للقول الصحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان له أن يجتهد في الأحكام، وكان النضر المذكور شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان من جملة أسارى بدر، فلما توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبلغ الصفراء أمرعلياً وقيل المقداد بن الأسود رضي الله تعالى عنه بقتله، فقتله صبراً بين يديه، وممن قتل معه عدو الله الآخرعتبة بن أبي معيط، فقال يا محمد من للصبية؟ فقال صلى عليه وآله وسلم: " النار ". وكانت الثريا المذكورة موصوفة بالجمال، فتزوجها سهل بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، ونقلها إلى مصر، وكان عمر المذكور يضرب المثل في زواجه بالثريا وسهيل النجمين المعروفين في هذين البيتين المشهورين.
أيها المنكح الثريا سهيلاً ... عمرك الله كيف يلتقيان؟
هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يمان(1/146)
ومن شعر عمر المذكور:
أي طيف من الأحبة زارا ... بعدما صرى الكرى السمارا؟
طارقاً في المنام تحت دجى الليل ... ضنيناً بأن يزور نهارا
قلت ما بالنا خفينا وكنا ... قبل ذاك الأسماع والأبصارا؟
قال ما كنا عهدنا ولكن ... شغل الحلي أهل أن يعارا
قلت ومن شعره أيضاً: ما ذكره الفقهاء في كتب الفقه في قتال المشركين مستشهدين به على كون المرأة لا تقتل، اعني قوله:
إن من أكبر الكبائرعندي ... قتل بيضاء جوده عيطول
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جر الذيول
وكانت ولادته في الليلة التي قتل فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، وكان الحسن البصري رحمه الله يقول: اذا ذكرت الليلة التي قتل فيها عمر وولد فيها عمر أي حق رفع وأي باطل وضع، وكان جده أبو ربيعة يلقب ذا الرمحين، وكان أبوه عبد الله أخا أبي جهل بن هشام المخزومي.
قلت ومما يحكى من ذكائه وخلاعته والله أعلم بكذب ذلك وصحته أنه أتته امرأة وقالت له أن امرأة تريد مسامرتك، وكان ذلك بالليل، فقام معها، فغطت عينيه بشيء شدته عليهما حتى لا يعرف البيت الذي يدخل ولا المرأة التي أرادت أن تسمع كلامه، وكانت ذوات المناصب، فأخذ حناه وقيل زعفراناً وعجنه وحمله بيده، فلما وصلت به إلى باب الدار التي المرأة فيها لطخ خارج الباب بالحناء ثم دخل، فبات يتحدث معها وينشدها الأشعار إلى ما شاء الله من الليل، ثم خرج، فلما أصبح قال لغلامه: اذهب وطف بالشوارع وتصفح الأبواب وانظرأي باب فيه حناء أو قال زعفران، وطاف الغلام حتى وجد الباب المذكور فأعلمه بذلك الباب وذكروا لمن هو، ولكني أكره أن أعين ذلك، وكان موته بحرق، غزا في البحر فأحرقت السفينة فاحترق وعمره مقدار سبعين، وقيل ثمانين سنة وتوفي أبو العالية رفيع بن مهران الرياحي مولاهم البصري المقري المفسر وقد دخل علىأبي بكروقرأ القرآن على أبي. قال أبو العالية: كان ابن عباس يرفعني على السرير وقريش أسفل، وقال أبو بكر بن أبي داود: ليس أحد بعد الصحابة أعلم بالقرآن من أبي العالية وبعده سعيد بن جبير.(1/147)
وفيها توفي زرارة بن أوفى العامري قرأ في الصبح: " فإذا نقر في الناقور " - المدثر: 8 - فخر ميتاً. وفيها توفي عبد الرحمن بن يزيد بن جارية الأنصاري المدني، روى عن الصحابة، وولي قضاء المدينة، وعن الأعرج قال: ما رأيت بعد الصحابة أفضل منه.
سنة أربع وتسعين
فيها توفي السيد المجمع على جلالته وديانته وإمامته الذي سما كل سيد تابعي بعد السيد العارف بالله أويس القرني أبو محمد سعيد بن المسيب المخزومي المدني مفتي الأنام أحد الأئمة الأعلام، وقيل توفي في سنة ثلاث، قال مكحول وقتادة والزهري وغيرهم: ما رأينا أعلم من ابن المسيب. وقال ابن عمر لأصحابه: لو رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لسره. وقال الزهري أخذ سعيد علمه عن زيد بن ثابت، وجالس ابن عباس وابن عمر وسعد بن أبي وقاص، ودخل على أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم عائشة وأم سلمة، وسمع عثمان وعلياً وصهيباً ومحمد بن مسلمة، وجل روايته المسند عن أبي هريرة، وسمع من أصحاب عمر وعثمان، وكان يقال ليس أحد أعلم بكل ما قضى عمروعثمان منه، قال القاسم بن محمد: هو سيدنا وأعلمنا، وقال قتادة: ما جمعت علم الحسن إلى علم أحد من العلماء إلا وجدت له عليه فضلاًغيرأنه كان إذا أشكل عليه شيء كتب إلى سعيد بن المسيب يسأله. وقال زين العابدين علي بن الحسين: سعيد بن المسيب أعلم الناس بما تقدمه من الآثار، وأفضلهم في روايته، وسئل الزهري ومكحول من أفقه من أدركتما؟ فقالا: سعيد بن المسيب. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لما مات العبادلة عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو بن العاص، ثار الفقه في جميع البلدان إلى الموالي. ففقيه مكة عطاء، وفقيه اليمن طاوس، وفقيه اليمامة يحيى بن كثير، وفقيه البصرة الحسن، وفقيه الكوفة ابراهيم النخعي، وفقيه الشام مكحول، وفقيه خراسان عطاء الخراساني إلا المدينة فإن الله تعالى خصها بقرشي فيه غير مدفع سعيد بن المسيب رضي الله(1/148)
عنهم، ذكر هذه النقولات الشيخ أبو إسحاق في الطبقات. قلت وهو المتقدم في فقهاء المدينة السبعة، جمع بين الحديث والفقه والورع والعبادة، وقال ابن عمر فيه: وقد أفتي في مسألة ألم أخبركم بأنه أحد العلماء، وروي أنه قال: حججت أربعين حجة، وعنه أيضاً أنه قال: ما فاتتني التكبيرة الأولى منذ خمسين سنة، وما نظرت إلى قفاء رجل في الصلاة منذ خمسين سنة يعني المحافظة على الصف الأول. قيل إنه صلى الصبح بوضوء العشاء خمسين سنة، وكان قد أخذ من أزواج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأكثر روايته عن أبي هريرة، وكان زوج ابنته، والمسيب بفتح المثناة من تحت مشددة وروي عنه أنه كان يقول بكسرها ويقول إنه سيب الله من يسيب أبي وفضائله كثيرة معروفة شهيرة وقد أورد بعض العلماء في مناقبه مجلداً مستقلاً، ومن محاسنه وتواضعه وزهادته في الدنيا ومحبته للفقراء دون الأمراء ما اشتهر عنه أنه خطب ابنته بعض ملوك بني أمية فامتنع من تزويجه بها، وزوجها من بعض الفقراء المشتغلين عليه بالعلم، فذكر ذلك الفقير ذلك لأمه فقالت له البعيد مجنون سعيد بن المسيب يزوجك وبنته يخطبها الملوك، فسكت عنها، فلما كان الليل إذا بالباب يدق، فقال من هذا؟ قال سعيد فخرج اليه فإذا هو سعيد بن المسيب وبنته تحت ثوبه، فقال له: خذ إليك أهلك فإني كرهت أن ابنيك عزباً فأخذ زوجته وأدخلها البيت، فقالت أمه والله ما تقربها حتى تصلح من شأنها فأعلمت جارتها فاجتمعن وهيأن لها ما يصلح للعروس على حسب ما تيسر في ذلك الوقت: ثم زادها أبوها بعد ذلك، وبرهما بشيء من الدنيا رضي الله عنه.
قلت ومما يناسب هذه القصة: قصة أبي القواس شاه شجاع الكرماني فإنه لما زاد في الملك زهد في الملك، ودخل في طريق القوم خطبت ابنته بعض الملوك فلم يزوجها منه، وطاف في المساجد فوجد فقيراً يحسن صلاته، فقال له: الك زوجة؟ قال: لا. قال: فهل لك في زوجة جميلة تقرأ القرآن؟ فقال أنا رجل فقير ما يزوجني أحد. قال: اما تقدرعلى درهمين؟ قال: بلى. قال: فاشتر بدرهم خبزاً وبدرهم طيباً، فقد تم الأمر، ففعل فزوجه بابنته، فلما دخلت بنته بيت الفقير المذكور رأت قرصاً في البيت رجعت على ورائها، فسألها عن رجوعها فذكرت كلاماً معناه أني لا أرضى أبيت على معلوم، فأما أخرجه وإلا خرجت، فاخرج الرغيف فطابت نفسها، فاستقرت عنده. هذا مختصر القصة وقد أوضحتها في غير هذا الكتاب، رضي الله عنها وعن أبيها وعن سائر الصالحين، ونفعنا الله ببركاتهم أجمعين آمين. وفي السنة المذكورة توفي أيضاً من الفقهاء السبعة السيد الجليل أبو محمد عروة بن الزبيرالجامع بين السيادة والعلم والعبادة، كان حافظاً للعم صواماً قواماً حتى روي أنه مات(1/149)
وهوصائم، ومما اشتهر عنه أنه قطعت رجله وهو في الصلاة لآكلة وقعت بها ولم تشعر بذلك. وقال الإمام الزهري: رأيت عروة بحراً لا ينزف، ويروى بحراً لا تكدره الدلا، وهذه السنة تسمى سنة الفقهاء، لأنه مات فيها جماعة منهم، وإنما قيل الفقهاء السبعة لأنهم كانوا بالمدينة في عصر واحد. ومنهم انتشر العلم والفتيا. وقيل لأن الفتوى بعد الصحابة صارت إليهم وشهروا بها، وسيأتي ذكر كل واحد منهم في موضعه، وقد جمعهم لعض العلماء فى بيتين فقالى:
ألا كل من لا يقتدى بأئمة ... فقسمته ضيزى عن الحق خارجه
وخذهم عبيد الله عروة قاسم ... سعيد أبو بكر سليمان خارجه
وكان في عصرهم جماعة من العلماء التابعين مثل سالم بن عبد الله بن عمر وأمثاله، ولكن الفتوى لم يكن إلا لهؤلاء السبعة، هكذا قال الحافظ السلفي. ووالدا عروة كلاهما ذو الجلالة والقدر، فأبوه الزبير بن العوام الصحابي أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، رضي الله عنهم ابن صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما وعروة شقيق أخيه عبد الله الزبير بخلاف أخيهما مصعب فإن أمه أخرى سمع عروة من خالته عائشة رضي الله عنها. وروى عنه ابن شهاب الزهري وغيره، وكان عالماً صالحاً ولما قطعت رجله من الأكلة لم يشعر الوليد بن عبد الملك بقطعها، وهو حاضر عنده لعدم تحركه حتى كويت، فوجد رائحة الكي على ما ذكر ابن قتيبة. قال: ولم يترك ورده تلك الليلة، وعاش بعد قطع رجله ثماني سنين ولما قتل أخوه عبد الله قال لعبد الملك بن مروان: اريد أن تعطيني سيف أخي. فقال: هو بين السيوف ولا أميزه فقال عروة: اذا حضرت السيوف فأنا أميزه فأمر عبد الملك باحضارها، فلما حضرت أخذ عروة منها سيفاً مقلل الحد، وقال: هذا سيف أخي. فقال عبد الملك: كنت تعرفه قبل الآن؟ فقال: لا فقال: كيف عرفته؟ فقال: بقول النابغة الذبياني:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
وعروة هو الذي احتفر البير المسماة ببير عروة في المدينة الشريفة، وليس فيها بير(1/150)
أعذب ماء منها، وكان ولادته سنة اثنتين، وقيل سنة ست وعشرين. قال ابن خلكان وتوفي في قرية له دون المدينة، يقال لها فرع بضم الفاء وسكون الراء من ناحية الربذة بينها وبين المدينة أربع ليال، وهي ذات نخل ومياه. وذكر العتبي أن المسجد الحرام جمع بين عبد الله بن الزبير وأخويه عروة ومصعب وعبد الملك بن مروان أيام تألفهم بعد موت معاوية، فقالوا: هلم فلنمنه، فقال عبد الله بن الزبير: منيتي أن أملك الحرمين ويقال الخلافة، وقال مصعب: منيتي أن أملك العراقين فأجمع بين جميلتي قريش سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة، وقال عبد الملك: منيتي أن أملك الأرض كلها وأخلف معاوية. فقال عروة: ليست في شيء مما أنتم فيه، منيتي الزهد في الدنيا والفوز بالجنة في الأخرى، وإن أكون ممن يروى عنه العلم، فقال: فما ماتوا حتى بلغ كل واحد منهم إلى أمله، وكان عبد الملك بن مروان لذلك يقول: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى عروة بن الزبير. وفيها توفي أيضاً من الفقهاء السبعة أبو بكرعبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي الملقب براهب قريش لعبادته وفضله، وكان مكفوفاً، وأبوه الحارث من جملة الصحابة، وهو أخو أبي جهل.
وفيها توفي زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم. روى عن جماعة من السلف إنهم قالوا: ما رأينا أورع وبعضهم قالوا أفضل منه منهم سعيد بن المسيب، وقال أيضاً: بلغني أن علي بن الحسين كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة إلى أن مات، قال: وسمي زين العابدين لعبادته، وقال بعضهم كان عبد الملك بن مروان يحبه ويحترمه، وكان الحسين يوم قتل والده مريضاً فلم يتعرض له، وأمه سلافة بنت يزدجرد آخر ملوك فارس. وذكر أبو القاسم الزمخشري في كتاب ربيع الأبرار: ان الصحابة لما أتوا المدينة بسبي فارس في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيهم ثلاث بنات ليزدجرد، فأمر ببيعهن فقال له علي رضي الله عنه إن بنات الملوك لا تعاملهن معاملات غيرهن، فقال: فكيف الطريق إلى بيعهن؟ فقال: تقومهن ومهما بلغ ثمنهن يقوم به من يختارهن، فقومهن وأخذهن علي بن أبي طالب، فدفع واحدة لعبد الله بن عمر، وأخرى لولده الحسين، وأخرى(1/151)
لمحمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم، فأولد عبد الله من التي آخذ سالماً، وأولد الحسين زين العابدين، وأولد محمد ولده القاسم، فهؤلاء الثلاثة بنو خالة، وأمهاتهم بنات ملك الفرس المذكور. وحكى المبرد في كتاب الكامل أن رجلاً من قريش لم يسمه قال: كنت أجالس سعيد بن المسيب، فقال لي يوماً: من أخوالك؟ فقلت: امي فتاة وكأني نقصت من عينه فأمهلت حتى دخل سالم بن عبد الله بن عمر، فلما خرج من عنده قلت يا عم من هذا؟ قال سبحان الله أتجهل مثل هذا من قومك؟! هذا سالم بن عبد الله بن عمر. قلت: فمن أمه؟ قال: فتاة ثم أتاه القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، فجلس ثم نهض قلت يا عم من هذا؟ قال أتجهل من أهلك مثله؟ ما أعجب هذا هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق قلت فمن أمه؟ قال فتاة. قال فأمهلت شيئاً حتى جاء علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فسلم عليه ثم نهض فقلت: يا عم من هذا؟ قال هذا الذي لا يسع مسلماً أن يجهله، هذا علي بن الحسين بن أبي طالب، قلت: من أمه. قال فتاه قلت يا عم رأيتني نقصت من عينك لما علمت أني لأم ولد فما لي في هؤلاء أسوة، قال فجللت في عينه جداً، وكان أهل المدينة يكرهون اتخاذ السراري حتى نشأ فيهم هؤلاء الثلاثة، وفاقوا أهل المدينة فقهاً وورعاً فرغب الناس في السراري، وقيل إن أم زين العابدين يقال لها غزالة، وقيل سلامة من بلاد السند والله أعلم. وروي أن زين العابدين كان كثير البر بأمه فقيل له إنا نراك من أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة، فقال أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها. وروي أيضاً أنه كان إذا توضأ اصفر لونه، وإذا قام إلى الصلاة أخذته رعدة، فقيل له ما لك؟ فقال ما تدرون بين يدي من أقوم؟ وكان إذا هاجت الريح سقط مغشياً عليه وقع حريق في بيت هو فيه، وهو ساجد، وجعلوا يقولون له: يا ابن رسول الله النار، فما رفع رأسه. فقيل له في ذلك فيما بعد: فقال ألهتني عنها النار الأخرى. وكان يقول: ان قوماً ما عبدوا الله عز وجل رهبة فتلك عبادة العبد، وآخرين عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وآخرين عبدوه شكراً فتلك عبادة الأحرار، وكان لا يحب أن يعينه على طهوره أحد، كان يسقي الماء لطهوره ويخمره قبل أن ينام، فإذا قام من الليل بدأ بالسواك ثم يتوضأ ويأخذ في صلاته، ويقضي ما فاته من ورد النهار. وروي أنه تكلم رجل فيه وافترى عليه فقال له زين العابدين: ان كنت كما قلت(1/152)
فاستغفرالله، وإن لم تكن كما قلت فغفر الله لك، فقام إليه الرجل وقبل رأسه وقال: جعلت فداك لست كما قلت فاغفر لي. قال غفر الله لك، فقال الرجل الله أعلم حيث يجعل رسالته. وسيأتي الأبيات التي قالها فيه الفرزدق لما جاء يستلم الحجر الأسود أعني قوله:
هذا ابن خيرعباد الله كلهم ... هذا التقي النقي الطاهر العلم
الأبيات الآتية في سنة عشر ومائة، ومناقبه ومحاسنه كثيرة شهيرة، اقتصرت منها على هذه النبذة اليسيرة. وفيها توفي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري أحد الأئمة الكبار، رحمة الله تعالى عليهم أجمعين.
سنة خمس وتسعين
فيها أراح الله المسلمين بقلعه الحجاج بن يوسف الثقفي في ليلة مباركة لسبع وعشرين من رمضان، وله ثلاث وقيل أربع وقيل خمس وخمسون سنة، قالوا: وكان شجاعاً مقداماً مهيباً فصيحاً مفوهاً بليغاً سفاكاً للدماء عاملاً لعبد الملك بن مروان، ولي الحجاز سنتين ثم العراق وخراسان عشرين سنة، ولما توفي عبد الملك، وتولى ولده الوليد، اقره على ما بيده. وذكر في كتاب التعبير أنه أتي رجل ابن سيرين فقال: اني رأيت على شرفات مسجد المدينة حمامة بيضاء فعجبت من حسنها، فجاء صقر فاختطفها، فقال له ابن سيرين: إن صدقت رؤياك تزوج الحجاج ابنة عبد الله بن جعفر الطيار. فما مضى إلا يسير حتى تزوجها، فقيل له: يا أبا عبد الله كيف تخلصت إلى ذلك؟ فقال: ان الحمامة امرأة وبياضها نقاء حسنها، والشرفات شرفها، فلم أجد في المدينة امرأة أنقى حسناً ولا أشرف نسباً من ابنة عبد الله بن جعفر، ونظرت في الصقر فإذا هو سلطان ظالم غشوم، فلم أر في السلاطين أصقر من الحجاج بن يوسف. وذكر المسعودي في كتاب مروج الذهب أن أم الحجاج الفارعة بالفاء والراء والعين المهملة بنت همام بن عروة بن مسعود الثقفي كانت تحت الحارث بن كلدة الثقفي الطائفي حكيم العرب، فدخل عليها ذات ليلة في السحر فوجدها تخلل أسنانها، فبعث إليها بطلاقها، فأرسلت إليه: لم فعلت ذلك الشيء رابك مني؟ قال: نعم دخلت عليك في السحر وأنت تخللين، فإن كنت بادرت في الغداء فأنت شرهة، وإن كنت بت والطعام بين أسنانك فأنت قذرة، فقالت: كل ذلك لم يكن، لكني تخللت من شظايا السواك، فتزوجها بعده(1/153)
يوسيف بن أبي عقيل الثقفي، فولدت له الحجاج لا دبر له فنقب عن دبره، وأبى أن يقبل ثدي أمه وغيرها، فأعياهم أمره، فيقال إن الشيطان تصور لهم في صورة الحارث بن كلدة حكيم العرب المذكور، فقال: ما خبركم؟ فقالوا: ابن ولد ليوسف من الفارعة وقد أبى أن يقبل ثدي أمه، فقال: اذبحوا جدياً وألقوه، او قال والعقوه دمه فإذا كان في اليوم الثاني فافعلوا به كذلك، واذبحوا له في الثالث تيساً أسود وافعلوا بدمه كما تقدم، ثم اذبحوا له أسود سالخاً. قلت: كأنه يعني ثعبان أسود قد سلخ جلده واستبدل آخر، وأمرهم أن يطعموه دمه، ويطلوا به وجهه، وأخبرهم أنهم إذا فعلوا ذلك فإنه يقبل الثدي في اليوم الرابع، ففعلوا به ذلك فكان لا يصبر عن سفك الدماء لما كان عنه في أول أمره. وكان الحجاج يخبر عن نفسه: ان أكبر لذاته سفك الدماء وارتكاب أمور لا يقدر عليها غيره. وقيل إن الحجاج خطب يوماً، فقال في أثناء كلامه: ايها الناس إن الصبر عن محارم الله أهون من الصبر على عذاب الله، فقام له رجل وقال: ويحك يا حجاج ما أصفق وجهك وأقل حياؤك، فأمر به فحبس، فلما نزل عن المنبر دعا به فقال له اجترأت علي، فقال له: اتجترىء على الله فلا تنكره، وتجترىء عليك فتنكره؟! فخلي سبيله. وذكر أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب تلقيح فهوم أهل الأثرة أن الفارعة أم الحجاج كانت تحت المغيرة بن شعبة، وإن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه طاف ليلة في المدينة، فسمع امرأة تنشد فيه خدرها.
هل من سبيل إلى خمر فاشربها ... أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج
فقال عمر لا أرى معي في المدينة رجلاً يهتف به العواتق من خدورهن، علي بنصر بن الحجاج، فأتي به فإذا هو أحسن الناس وجهاً وأحسنهم شعراً بفتح الشين والعين. فقال عمر عزيمة من أمير المؤمنين لتأخذن من شعرك فأخذ منه فخرج له وجنتان كأنهما فلقتا قمر فقال له: اعتم فاعتم ففتن الناس بعينيه، فقال عمر: والله لا يساكنني ببلدة، فقال ما ذنبي يا أمير المؤمنين: قال: هو ما أقول لك، وسيره إلى البصرة. وأخبار الحجاج كثيرة هو الذي بنى مدينة واسط، وسميت بذلك لتوسطها بين البصرة والكوفة. قالوا ولما حضرته الوفاة دعا منجماً فقال له: هل ترى في علمك ملكاً يموت؟ فقال نعم ولست، فقال ولم؟ قالط: لأن الذي يموت اسمه كليب فقال الحجاج: والله بذلك سمتني أمي فأوصى عند ذلك وكان ينشد في مرض موته ما قاله عبيد بن سفيان العكلي.(1/154)
يا رب قد حلف الأعداء واجتهدوا ... ايمانهم أنني من ساكني النار
أيحلفون على عمياء ويحهم ... ماظنهم بعظيم العفوغفار
وكان مرضه بالآكلة وقعت في بطنه، فدعا بالطبيب فأخذ لحماً وعلقه في خيط وسرحه في حلقه وتركه ساعة ثم أخرجه وقد علق به دود كبيرة، وسلط الله عليه بها الزمهريرة، وكانت الكوانين تجعل حوله مملوءة ناراً وتدني منه حتى يحرق جلده وهو لا يحس بها، فشكا ما يجده إلى الحسن البصري فقال له: قد نهيتك أن تتعرض للصالحين. وقيل إن الحسن سجد يشكر الله تعالى لما مات الحجاج، فقال: اللهم كما أمته فأمت عنا سنته، وكان قد رأى الحجاج أن عينيه قلعتا، وكانت تحته هند بنت المهلب وهند بنت أسماء بن خارجة فطلق الهندين ظناً منه أن رؤياه تتأول بهما، فلم يلبث أن جاءه نعي أخيه محمد بن يوسف من اليمن في اليوم الذي مات فيه ابنه محمد، فقال هذا والله تأويل رؤياي محمد ومحمد في يوم واحد إنا الله وإنا إليه راجعون ثم قال من يقول شعراً ليسليني فقال الفرزدق.
إن الرزية لا رزية مثلها ... فقدان مثل محمد ومحمد
ملكان قد خلت المنابر منهما ... أخذ الحمام عليهما بالمرصد
وكان أخوه محمد بن يوسف المذكور والياً على اليمن، وكانت وفاة الحجاج في رمضان كما تقدم. قلت فقصته السم القاتل والشوم العاجل بقتل السيد الفاضل سعيد بن جبير كما سيأتي ذكر قتله له في شعبان من السنة المذكورة فأراح الله العباد والبلاد من الحجاج وما كان فيه من الإفساد. وذكرابن عبد ربه في العقد أن الفارعة كانت زوجة المغيرة بن شعبة فطلقها من أجل التخلل المذكور في الحكاية والله أعلم، وإن الحجاج وأباه كانا يعلمان الصبيان بالطائف، ثم لحق الحجاج بروح الجذامي وزير عبد الملك بن مروان وكان في عديد شرطته إلى أن رأى عبد الملك انحلال عسكره، وإن الناس لا يرتحلون برحيله، ولا ينزلون بنزوله، فشكا ذلك إلى وزيره المذكور، فقال لهم: ان في شرطتي رجلاً لو قلده أمير المؤمنين أمر عسكره لأرحل الناس برحيله وأنزلهم بنزوله يقال له الحجاج، قال: فإنا قد قلدناه ذلك، فقال لا(1/155)
يقدر أحد أن يتخلف عن الرحيل والنزول إلا أعوان الوزير المذكور، فوقف عليهم يوماً وقد أرحل الناس وهم على طعام يأكلون، فقال لهم: ما منعكم أن ترحلوا برحيل أمير ألمؤمنين؟ فقالوا له: انزل يا ابن اللخناء وكل معناه. فقال لهم: هيهات ذهب ذلك ثم أمرهم فجلدوا بالسياط، وطوف بهم في العسكر، وأمر بفساطيط الوزير فأحرقت بالنار، فدخل الوزير على عبد الملك شاكياً باكياً، فقال: علي به، فلما دخل عليه قال ما حملك على ما فعلت؟ فقال: انا ما فعلت شيئاً، قال: فمن فعل؟ قال أنت فعلت أنا يدي يدك وسوطي سوطك وما على أمير المؤمنين أن يعوض عن ذلك ولا يكسرني فيما قدمني له فعوض الوزير ما ذهب له، وكان ذلك أول ما عرف من كفاية الحجاج وسطوته، ثم كان له في سفك الدماء والعقوبات غرائب لم يسمع بمثلها.
ويقال إن زياد ابن أبيه أراد أن يتشبه بعمر بن الخطاب في ضبطه الأمور والقيام بالسياسات فاسرف وتجاوز الحد، وأراد الحجاج أن يتشبه بزياد فأهلك ودمر، فأهلكه الله ودمره. وفي السنة المذكورة توفي الإمام الكبير السيد الشهير العبد الصالح سعيد بن جبدر الأسدي مولاهم المقري الفقيه المحدث المفسر، قتله الحجاج كما تقدم في شهر شعبان. وكان أحد علماء التابعين، اخذ العلم عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر، فقال له ابن عباس: حدث. فقال: احدث وأنت هاهنا؟! فقال: اليس من نعمة الله عليك أن تحدث وأنا هاهنا: فإن أصبت فداك، وإن أخطأت علمتك، وكان لا يستطيع أن يكتب مع ابن عباس في الفتيا، فلما عمي ابن عباس كتب وأخذ عنه أيضاً القراءة عرضا وسمع منه التفسير، وأكثر روايته عنه، وروي أنه قرأ القرآن في ركعة في البيت الحرام، وعن بعض السلف قال: كان سعيد بن جبير يؤمنا في شهر رمضان فيقرأ ليلة بقراءة ابن مسعود وليلة بقراءة زيد بن ثابت وليلة بقراءة أخرى وهكذا أبداً. وقال وفاء بن إياس قال لي سعيد بن جبير في رمضان أمسك علي القرآن فما قام من مجلسه حتى ختم، وقال بعضهم كان أعلم التابعين بالطلاق سعيد بن المسيب، وبالحج عطاء، وبالحلال والحرام طاوس، وبالتفسير مجاهد، وأجمعهم لذلك سعيد بن جبير، رحمة الة عليهم. وذكر الإمام أبو نعيم الأصفهاني في تاريخ أصفهان أنه دخلها وأقام بها مدة، ثم ارتحل منها إلى العراق، وروى محمد بن حبيب أنه كان بأصفهان يسألونه عن الحديث ولا يحدث،(1/156)
فلما رجع إلى الكوفة حدث، فقيل له في ذلك، فقال: انشر يدك حيث تعرف، وقيل للحسن البصري أن الحجاج قد قتل سعيد بن جبير، فقال: اللهم أنت على فاسق ثقيف، والله لو أن من أهل المشرق والمغرب اشتركوا في قتله لكبهم الله في النار. وقال الإمام أحمد بن حنبل قتل الحجاج سعيد بن جبير وما على وجه الأرض أحد إلا وهو مفتقر إلى علمه، ولم يسلطه الله بعده على قتل أحد. وذكر بعضهم أنه لما أراد أن يقتله قال له: ما اسمك. قال: سعيد قال ابن من؟ قال: ابن جبير قال الحجاج: بل أنت شقي بن كثير قال: الله أعلم بي إذ خلقني قال: وجهوا به القبلة واقتلوه، فلما فعلوا به ذلك قال وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً، وما أنا من المشركين. قال: حولوا وجهه عن القبلة فحولوه، فقال: فأينما تولوا فثم وجه الله. ولما قتله سال منه دم كثير، فاستدعى الحجاج الأطباء وسألهم عن ذلك، وعمن كان قبله فإنهم كان يسيل منه دم قليل، فقالوا: لأن هذا قتلته ونفسه معه والدم تبع النفس، وغيره قتلتهم وأنفسهم ذاهبة من الخوف فلذلك دمهم قليل. وقيل إن الحجاج لما حضرته الوفاة كان يغيب ثم يفيق ويقول: ما لي؟ ولسعيد بن جبير وأنه قيل له في النوم بعد موته ما فعل الله تعالى بك؟ قال قتلني بكل قتيل قتلة واحدة وقتلني بسعيد بن جبير سبعين قتلة، فإنه كان في مدة مرضه إذا نام رأى سعيد بن جبير أخذ بمجامع ثوبه يقول يا عدو الله فبم قتلتني؟ فيستيقظ مذعوراً ويقول ما لي ولسعيد؟ كان عمر بن جبير تسعاً وتسعين سنة، وقبره يزار في واسط، رضي الله عنه. وفي السنة المذكورة توفي أبو إسحاق ابراهيم بن عبد الرحمن بن عوف روى عن أبيه وسعيد وجماعة. وفيها توفي السيد الجليل الصفوة الفقيه العابد المجاب الدعوة مطرف بن عبد الله بن الشخير بكسر الشين والخاء المعجمتين والتشديد وسكون الياء المثناة من تحت وفي آخره راء العامري البصري روى عن علي وعمار. وفيها توفي فقيه العراق الإمام بالاتفاق أبو عمران ابراهيم بن يزيد النخعي، اخذ عن علقمة والأسود ومسروق، ورأى عائشة وهو صبي، ولما حضرته الوفاة جزع جزعاً شديداً فقيل له في ذلك فقال: وأي خطر أعظم مما أنا فيه؟ أتوقع رسولاً يرد علي إما بالجنة وأما بالنار والله لوددت أنها تجلجل في حلقي إلى يوم القيامة يعني نفسه والنخع بفتح النون والخاء المعجمة وبعدها عين مهملة قبيلة كبيرة من مذحج باليمن سميت باسم الجد لأنه(1/157)
انتخع من قومه أي بعد عنهم. وفيها توفي حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، سمع من خاله عثمان وهو صغير، وكان عالماً فاضلاً مشهوراً مشكوراً.
سنة ست وتسعين
فيها قلع الله قرة بن شريك القيسي أمير مصر، قيل كان ظالماً فاسقاً إذا انصرف الصناع من بناء جامع مصر دخله فدعا بالخمر والملاهي، ويقول لنا الليل ولهم النهار. وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله فيما روي عنه الوليد بالشام والحجاج بالعراق وقرة بمصر وعثمان بن حيان بالحجاز امتلأت والله الأرض جوراً. وفيها توفي خليفتهم الوليد بن عبد الملك، وكان مع ظلمه كثير التلاوة للقرآن، قيل كان يختم في ثلاث، ويقرأ في رمضان سبع عشرة ختمة، وعظمت سعادته في الدنيا، ونجاح أشياء من أمور الدين منها: أنشأؤه جامع دمشق وافتتاح بلاد الهند في أيامه وبلاد الترك والأندلس وكثرة الصدقات، وجاء عنه أنه قال: لولا ذكر الله فعل قوم لوط في القرآن ما ظننت أن أحداً يقتله. وفي آخرها قتل قتيبة بن مسلم الباهلي أمير خراسان بعدما وليها عشر سنين، قبل خلع سليمان بن عبد الملك فقتلوه، وكان بطلاً شجاعاً شهماً مقداماً هزم الكفار غير مرة وافتتح خوارزم وسمرقند وبخارى وقد كانوا كفروا، وكذلك فتح فرغانة بالفاء والغين المعجمة والنون، فلما مات الوليد بن عبد الملك وتولى أخوه سليمان، خافه قتيبة، فخرج عليه وأظهر الخلاف، وكان قتيبة قد عزل وكيع بن أبي الأسود عن رياسة بني تميم، فحقد عليه وكيع وسعى في تأليب الجند سراً ثم عرج عليه فقتله مع أحد عشر من أهله وفي قتله يقول جرير.
ندمتم على قتل الأعز ابن مسلم ... وأنتم إذا لاقيتم الله أندم
لقد كنتم في غزوة في غيمة ... وأنتم لمن لاقيتم اليوم مغنم
على أنه أفضي إلي حور جنة ... ويطبق بالبلوى عليكم جهنم
والباهلي نسبة إلى باهلة القبيلة المشهورة، وكانت العرب تستنكف من الانتساب إليها حتى قال الشاعر:(1/158)
وما ينفع الأصل من هاشم ... إذا كانت النفس من باهلة
وقال الآخر:
ولوقيل للكلب يا باهلي ... عوى الكلب من لوم هذا النسب
وقال قتيبة بن مسلم لهبيرة بن مسروح: اي رجل أنت؟! لو كانت أخوالك من سلول، فلو بادلت: فقال: اصلح الله الأمير بادل بهم من شئت من العرب وجنبني باهلة.
سنة سبع وتسعين
فيها توفي سعيد بن مرجانة صاحب أبي هريرة والفقيه طلحة بن عبد الله بن عوف الزهري قاضي المدينة، وهو أحد الطلحات الموصوفين بالجود وفيها أو في سنة ثمان توفي قيس بن أبي حازم الأحمسي البجلي الكوفي وقد جاوز المائة، سمع أبا بكرة وطائفة من البدريين، كان من علماء الكوفة. وفيها أو في سنة ست توفي محمود بن لبيد الأنصاري الأشهلي. قال البخاري له صحبة، وذكره مسلم غيره في التابعين، وله عدة أحاديث. قال بعض المحدثين حكمها لارسال، وحج فيها بالناس خليفتهم سليمان بن عبد الملك، وتوفي معه بوادي القرى أبو عبد الرحمن موسى بن نصير الأعرج الأمير الذي افتتح الأندلس وأكثر المغرب، وكان من رجال العالم حزماً وعزماً ورأياً وهمة ونيلا وشجاعة واقداماً لم يهزم له جيش قط. قلت وكان والده نصير على جيوش معه، ومنزلته عنده مكينة، وكان عبد الله بن مروان أخو عبد الملك بن مروان والياًعلى مصر وإفريقية، فبعث ابن أخيه الوليد بن عبد الملك أيام خلافته يقول له: ارسل معي موسى بن نصير إلى إفريقية، وذلك في سنة تسع وثمانين من الهجرة، وقيل سبع وسبعين، فلما قدمها ومعه جماعة من الجند بلغه أن بأطراف البلاد جماعة خارجين عن الطاعة، فوجه ولده عبد الله فأتاه بمائة ألف رأس - قلت، هكذا هو في نسخة الأصل - وبعده قال الليث فبلغ الخمس ستين ألف رأس، وهذا لا يوافق قوله مائة ألف، ولا بد أن يكون أحد اللفظين غلطاً، فأما أن يكون الصحيح قول الليث ويكون الجملة ثلاث مائة ألف، وأما أن يصح رواية مائة ألف فيكون الخمس عشرين ألفاً، او يكون غلطه الكاتب في قوله ستين ألف رأس، وإنما هي ستون ألف دينار أو درهم على حسب ارتفاع(1/159)
القيم وانخفاضها والله سبحانه أعلم. وقال أبو شبيب الصدفي لم يسمع في الإسلام بمثل سبايا موسى بن نصير، وكانت البلاد في قحط شديد فأمر الناس بالصلاة والصوم وإصلاح ذات البين، وخرج بهم إلى الصحراء ومعه سائر الحيوانات، وفرق بينها وبين أولادها، فوقع البكاء والصراخ والضجيج، فأقام على ذلك إلى منتصف النهار، ثم صلى وخطب الناس، ولم يذكر الوليد ابن عبد الملك، فقيل له ألا تدعو لأمير المؤمنين؟ فقال هذا مقام لا يدعى فيه لغير الله عز وجل، فسقوا حتى رووا.
وقتل من البربر خلقاً كثيراً، وسبى سبياً عظيماً، حتى انتهى إلى السوس الذي لايدافعه أحد، ونزل بقية البربر على الطاعة، وطلبوا الأمان، وولي عليهم والياً، واستعمل على طنجة وأعمالها مولاه طارق بن زياد البربري، ومهد البلاد ولم يبق له منازع من البربر ولامن الروم، وترك خلقاً كثيراً من العرب يعلمون البربر القرآن وفرائض الإسلام، فلما تقرر القواعد كتب إلى طارق وهو بطنجة يأمره بغزو بلاد الأندلس في جيش من البربر، ليس فيه من العرب إلا قدر يسير، فامتثل طارق أمره وركب البحرمن سنته إلى الجزيرة الخضراء من الأندلس، وصعد إلى جبل يعرف اليوم بجبل طارق، لأنه نسب إليه لما حصل عليه وذكر عن طارق أنه كان نائماً في المركب وقت التغدية، وأنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء الأربعة رضي الله عنهم يمشون على الماء حتى مروا، وبشره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالفتح، وأمره بالرفق بالمسلمين والوفاء بالعهد. وكان صاحب طليطلة ومعظم بلاد الأندلس ملكاً يقال له الذريق، ولما نزل طارق من الجبل بالجيش الذي معه كتب نائب للذريق يقال له تذمير؛ أنه قد وقع بأرضنا قوم لا ندري من السماء هم أم من الأرض فأقبل الذريق في سبعين ألف فارس ومعه العجل يحتمل الأموال والمتاع، وهو على سريره بين دابتين عليه قبة مكللة بالدر والياقوت والزبرجد. فلما دنا من طارق وعسكره قال طارق لمن معه أين المفر والبحرمن ورائكم والعدو أمامكم فليس عليكم والله إلا الصدق والصبر، وليس لكم وزير إلا سيوفكم، فلما التقوا(1/160)
حمل طارت على سرير الذريق وقد رفع على رأسه رواق ديباج يظله، وهو في غاية من النبوة والأعلام، وبين يديه المقاتلة والسلاح، وحمل أصحاب طارق معه، فتفرقت المقاتلة من بين يدي الذريق، فخلص إليه طارق فضربه بالسيف على رأسه فقتله على سريره، فلما رأى أصحابه مصرع ملكهم اقتحم الجيشان وكان النصر للمسلمين ولم يزل طارق يفتح البلاد ووموسى بن نصير التحق به إلى أن بلغ ساحل البحر المحيط.
سنة ثمان وتسعين
فيها غزا المسلمون قسطنطينية وعلى المسلمين مسلمة بن عبد الملك، وفيها افتتح يزيد بن المهلب جرجان. وتوفي أبو عمرو الشيباني الكوفي وله مائة وعشرين سنة، روى عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما: وكان يقرىء الناس بمسجد الكوفة. وفيها توفي أبو هاشم عبد الله بن محمد ابن الحنفية الهاشمي، رحمة الله عليها. وفيهاأوفي التي بعدها توفي عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد النخعي الفقيه العابد، أدرك عمر وسمع من عائشة رضي الله عنهما. وفيها على الصحيح توفي عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي الضريرأحد فقهاء المدينة السبعة، وفيها توفي كنزالعلم كريب مولى ابن عباس، كان كثيرالعلم كبيرالقدر، قال موسى بن عقبة، وضع عندنا كريب عدل بعيرمن كتب ابن عباس، وفيها توفيت الفقيهة عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية، وكانت في حجرعائشة رضي الله عنهما، فاكثرت في الرواية عنها.
سنة تسع وتسعين
فيهاعلى اختلاف تقدم ذكره توفي أبوالأسود ظالم بن عمروالديلي، بكسر الدال المهملة وبعدها مثناة من تحت مهموزة من فوق، ويقال: بضم الدال بعدها واو مهموزة من فوق نسبة إلى الديل قبيلة من كنانة بفتح الهمزة في النسبة قال وإنما فتحت لئلا يتوالى الكسرات كما قالوا في النسب إلى نمرة نمري بالفتح وهي قاعدة مطردة والدال اسم دابة بين(1/161)
ابن عرس والثعلب. وفي اسمه ونسبه اختلاف كثير، كان من سادات التابعين وأعيانهم، وصاحباً لعلي أبي طالب رضي الله عنه، معه شهد وقعة صفين، وهو بصري من أكمل الرجال رأياً وأرجحهم عقلاً، وهو أول من وضع النحو، وفي سبب ذلك اختلاف كثير. قيل: ان علياًرضي الله عنه وضع له: الكلام كله ثلاثة اسم، وفعل وحرف، ثم دفعه إليه وقال: وتم على هذا، وقيل إنه كان يعلم أولاد زياد ابن أبيه وهو والي العراقين يومئذ، فجاء يوماً ماوقال له: اصلح الله الأمير إني أرى العرب قد خالطت هذه الأعاجم وتغيرت ألسنتهم أفتأذن لي أن أضع للعرب ما يعرفون أو يقيمون به كلامهم؟ قال: لا فجاء رجل إلى زياد، وقال: اصلح الله الأمير توفي أبونا وترك بنين فقال: ادعوا أبا الأسود، فلما حضر قال ضع للناس الذي نهيتك أن تضع لهم. وقيل إنه دخل يوماً بيته فقال له بعض بناته يا أبة ما أحسن السماء وذكرت ذلك برفع النون من أحسن وجرت الهمزة من السماء، فقال: يا بنية نجومها فقالت إني لم أرد أي شيء منها، احسن إنما تعجبت من حسنها، فقال اذن قولي ما أحسن السماء وحينئذ وضع النحو قلت وإنما رد عليها لأنها رفعت النون من أحسن، وجرت الهمزة من آخر السماء، ومثل هذا يقع استفهاماً عن أي شيء في السماء أحسن؟ فلما فهم منها أنها لم ترد ذلك وإنما أرادت التعجب من حسن السماء أمرها أن تفتح النون والهمزة المذكورتين معاً، كما هو المعروف من وضع العربية في التعجب. وحكى ولده أبو حرب: قال أول باب رسم والدي التعجب. وقيل لأبي الأسود: من أين لك هذا العلم يعنون النحو؟ قال: تلقنت حدوده من علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقيل إن أبا الأسود كان لا يخرج شيئاً أخذه عن علي بن أبي طالب حتى بعث إليه زياد المذكور أن أعمل شيئاً يكون للناس إماماً ويعرف به كتاب الله عز وجل، فاستعفاه أبو الأسود من ذلك حتى سمع أبو الأسود قارئاً يقرأ إن الله بريء من المشركين ورسوله بالكسر، قال ما ظننت أن أمر الناس يؤول إلى هذا، فرجع إلى زياد فقال أفعل ما أمر به الأمير، فليعني كاتباً لقناً يفعل ما أقول، فأتي بكاتب من عبد القيس فلم يرضه، فأتي بآخر فقال له أبو الأسود إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحررف فانقط بين نقطة فوق، وإن ضممت فمي فانقط بين يدي الحروف، فإن كسرت فاجعل النقط من تحت، ففعل ذلك وإنما سمي النحو نحو الآن أبا الأسود المذكور، قال استأذنت علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن أضع نحو ما وضع، فسمي لذلك نحواً والله أعلم. وكان لأبي الأسود بالبصرة داراً وله جاراً يتأذى منه في كل وقت، فباع الدار فقيل له:(1/162)
بعت دارك؟! فقال: بل بعت جاري. فأرسلها مثلاً قلت يعني سار لفظه هذا مثلاً لمن باع الدار هرباً من الجار، فيقول ما بعت داري بل بعت جاري أو بعت جاري لا داري. ومن كلام أهل المعرفة الجار قبل الدار أي اعرف جوارك قبل أن تشتري دارك. ودخل أبو الأسود يوماً على عبيد الله بن أبي بكرة نقيع بن الحارث بن كلدة الثقفي، وقيل على المنذر بن جارود، وعليه جبة رثة كان يكثر لبسها، فقال يا أبا الأسود أما تمل لبس هذه الجبة؟ فقال رب مملوك لا يستطاع فراقه، فلما خرج من عنده سير إليه مائة ثوب، فكان ينشد بعد ذلك:
كساني ولم أستكسه فحمدته ... أخ لك يعطيك الجزيل وناصر
وان أحق الناس إن كنت شاكراً ... بشكرك من أعطاك والعرض وافر
ويروى وناصر بالنون وياصر بالياء المثناة، من تحت ولكل واحد منها معنى فمعناه بالنون ظاهر لأنه عن النصرة وبالياء من التعطف والحنو يقال فلان ياصر على فلان إذا كان يعطف عليه ويمن وله أشعار كثيرة فمن ذلك قوله:
وما طلب المعيشة بالتمني ... ولكن ألق دلوك في الدلاء
يجيء بملئهاطوراً وطورا ... يجيء بحمأة وقليل ماء
ومن شعره أيضاً وله ديوان شعر:
صبغت أمية في الدماء أكفنا ... وطوت أمية دوننا دنياها
قلت كأنه يعني بني أمية أوردونا معارك القتال وبخلوا علينا بالمال. ويحكى أنه أصابه فالج فكان يخرج إلى السوق يجر رجله، وكان موسراً ذا عبيد واماء، فقيل له قد أغناك الله سبحانه عن السعي في حاجتك، فلو جلست في بيتك، قال لا ولكني أخرج وأدخل، فيقول الخادم: قد جاء، ويقول الصبي: قد جاء ولو جلست في البيت فبالت الشاة علي ما منعها أحد عني، قلت يحتمل قوله قد جاء معنيين أحدهما الاشارة إلى أنه يجيء بشيء يفرحون به من السوق فيكون في ذلك تجدد فرح لهم بعد فرح، والثاني أنهم يخافون منه فمجيئه يجدد لهم خوفاً بعد خوف ويكون ذلك وسيلة إلى التأدب به والحذرمنه، وآخر كلامه يدل على المعنى الثاني والله أعلم. وحكى خليفة بن خياط أن عبد الله بن عباس كان عاملاً لعلي رضي الله عنهما على البصرة، فلما شخص إلى الحجاز استخلف أبا الأسود عليها، فلم يزل حتى قتل علي رضي الله عنه، وسمع رجلاً يقول من يعشي الجائع؟ فقال: علي به فعشاه، ثم ذهب ليخرج،(1/163)
فقال أين تريد؟ قال: اهلي، قال: هيهات ما عشيتك إلا على أن لا تؤذي المسلمين الليلة ثم وضع في رجله القيد حتى أصبح، وتوفي أبو الأسود بالبصرة. وفيها توفي محمود بن الربيع الأنصاري الخزرجي، كان قد عقل مجة مجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وجهه من بير في دارهم وهو ابن أربع سنين. وفيها توفي نافع بن جبير بن مطعم النوفلي، وكان هو وأخوه محمد من علماء قريش وأشرافهم، توفي قريباً من أخيه. وفيها توفي عبد الله بن محيريز الجمحي المكي نزيل بيت المقدس، وكان عابد الشام في زمانه رحمةالله عليه. وقال رجاء بن حيوة إن تفخر علينا أهل المدينة بعابدهم ابن عمر، فإنا نفخر عليهم بعابدنا ابن محيريز، وإن كنت لأعد بقاءه أماناً لأهل الأرض. وفي عاشر صفر توفي خليفتهم سليمان بن عبد الملك الأموي، وله خمس وأربعون سنة، وكانت خلافته أقل من ثلاث سنين، وكان فصيحاً فهماً محباً للعدل والغزو ذا همة عالية، جهز الجيوش لحصار القسطنطينية، وسافر فنزل على قنسرين رداً لهم، وقرب ابن عمه عمر بن عبد العزيز وجعله وزيره ومشيره، ثم عهد إليه بالخلافة، وكان أبيض مليح الوجه مقرون الحاجبين يضرب شعره منكبيه. قلت حكي أنه قدم عليه من بلاد الهند حكيم فقال له: بم جئتني؟ قال: جئتك بثلاث قال: ما هي؟ قال: تأكل ولا تشبع، وتنكح ولا تفتر، وتسود شعرك ولا تبيض، فقال له: كلهن يرغب العاقل عنهن. أما كثرة الأكل فأقل ما في ذلك كثرة دخول إلى المرحاض وشم الروائح الخبيثة، وأما كثرة النكاح فأقل ما في ذلك أنه يقبح لمثلي خليفة يبقى أسيرامرأة، وأما تسويد الشر فقبيح أن يسود المرء نوراً أكرم الله تعالى به عبده المسلم مشيراً إلى الحديث من شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة الحديث.(1/164)
سنة مائة
فيها توفي أبو إمامة أسعد بن سهل بن حنيف الأنصاري، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وروى عن عمر وجماعة، وكان من علماء المدينة. وفيها وقيل في سنة عشر ومائة توفي أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني الليثي بمكة، وهوآخر من رأى النبي صلى الله عليه وآله رسلم موتاً، ويروى عنه هذا البيت.
وما شاب رأسي عن سنين تنابعت ... علي ولكن شيبتني الوقائع
وتوفي بسر بن سعيد المدني الزاهد العابد المجاب الدعوة، روى عن عثمان وزيد بن ثابت، وفيها وقيل بعدها بعام أو قبلها توفي سالم بن أبي الجعد الكوفي من مشاهير المحدثين. وفيها توفي خارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري المدني المفتي أحد الفقهاء السبعة، تفقه على والده. وتوفي أبو عثمان النهدي عبد الرحمن بن مل بالبصرة، وكان قد أسلم وأدى الزكاة الى عمال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وحج في الجاهلية، وعاش مائة وثلاثين سنة، صحب سلمان الفارسي اثنتي عشرة سنة. وفيها توفي شهر بن حوشب الأشعري، قرأ القرآن على ابن عباس، وكان كثير الرواية حسن الحديث. وفيها توفي مسلم بن يسار روى عن ابن عمر وغيره، وكان من عباد البصرة وفقهائها، قال ابن عون: كان لا يفضل عليه أحد في ذلك الزمان، وقال غيره: كان ثقة فاضلاً عابداً ورعاً. وفيها توفي عيسى بن طلحة بن عبيد الله التيمي أحد أشراف قريش وحكمائها وعقلائها، وروى عن أبيه وجماعة.
سنة إحدى ومائة
في رجب منها توفي السيد الفاضل الإمام العادل أميرالمؤمنين وخامس الخلفاء الراشدين أبو حفص عمر بن عبد العزيز بن مروان الأموي بدير سمعان من أرض المعرة،(1/165)
وفي موته المذكور يقول جرير نظمه المشهور:
لو كنت أملك والأقدار غالبة ... تأتي رواحاً تبياتاً وتتبكر
رددت عن عمر الخيرات مصرعه ... بدير سمعان لكن يغلب القدر
وجملة عمره أربعون سنة، وخلافته سنتان وخمسة أشهر كأيام مدة خلافة الصديق، وكان أبيض جميلاً نحيف الجسم حسن اللحية بجبهته أثر حافي فرس شجه وهو صغير، وكان يقال له أشج بني أمية، حفظ القرآن في صغره، فبعثه أبوه من مصر فتفقه في المدينة حتى قيل إنه بلغ رتبة الاجتهاد. ومن كلامه المنقول عنه أنه قال: ينبغي أن يكون في القاضي خمس خصال: العلم بما يتعلق به، والحلم عند الخصومة، والنزهة عند الطمع، والاحتمال للأئمة، والاستشارة لذوي العلم. ومناقبه كثيرة شهيرة، وقد صنف فيها غير واحد من العلماء تصانيف مستقلات مشتملات على كثير من المحاسن الغراب، وجده لأمه عاصم بن عمر بن الخطاب، وجدته هي البنية التي سمعها عمربن الخطاب في الليل تقول لأمها المقالة المشهورة في قصة اللبن، لما أمرتها أمها أن تخلط الماء في اللبن فقالت لها البنية أما سمعت منادي عمر بالأمس ينهي عن ذلك؟ فقالت أمها مقالاً معناه أن عمرلا يدري عنك، فقالت البنية: والله ما كنت لأطيعه علانية وأعصيه سراً. وعمر رضي الله عنه يسمع كلامهما، فأعجبه عقل هذه البنية ودينها، فزوجها من ابنه المذكور. وقال السيد الجليل رجاء بن حيوة بت ليلة عند عمر بن عبد العزيز: فهم السراج أن يطفأ فقمت إليه لأصلحه، فأقسم علي عمر أن أقعد، فقام هو وأصلحه، فقلت له: تقوم أنت يا أمير المؤمنين: فقال: قمت وأنا عمر، ورجعت وأنا عمر. وقال قومت ثياب عمربن عبد العزيز وهو يخطب باثني عشر درهماً، كانت قباء وعمامة وقميصاً وسراويل ورداء وخفين وقلنسوة. وروي أنه كان يؤتي بالحلة قبل أن يلي الخلافة بألف درهم، فيقول ما أحسنها لولا خشونة فيها: ويؤتي بالحلة حين ولي الخلافة بأربعة أو خمسة دراهم، فيقول: ما أحسنها لولا نعومة فيها فسئل عن ذلك فقال: إن لي نفساً ذواقة تواقة، كلما ذاقت شيئاً تاقت إلى ما فوقه، فلم تزل تذوق وتتوق إلى أن ذاقت الخلافة فتاقت إلى ما فوقها، ولم يكن في الدنيا شيء فوقها فتاقت إلى ما عند الله تعالى في الدار الآخرة، وذلك لا ينال إلا بترك الدنيا.(1/166)
وروي أنه دخل عليه مسلمة بن عبد الملك وهو مريض فرأى ثوبه وسخاً، فقال لزوجته فاطمة بنت عبد الملك: اغسلوا ثوب أمير المؤمنين، فقالت: نفعل إن شاء الله تعالى، ثم كذلك لم يزل يدخل عليه والثوب على حاله، فخاصم أخته فقالت له: إنه ليس ثوب غيره، إذا غسلناه لم يجد ثوباً يلبسه. وروي أن سليمان بن عبد الملك استشار في مرض موته السيد الجليل رجاء بن حيوة فيمن يعهد إليه بأمر الخلافة بعده، فأشار إليه بعمر بن عبد العزيز، فقال: كيف يمكن ذلك وأولاد عبد الملك لا يطيعون؟ فقال: افعل ما آمرك به والأمر يتصلح إن شاء الله تعالى. فقال: ما تأمرني؟ فقال: اكتب كتاب العهد له واختمه. ففعل ذلك ثم قال له: مر منادياً فليناد بالناس يحضرون عندك، فإذا حضروا فمرهم فليبايعوا لمن عهدت له فيه، ففعل ذلك. قال رجاء بن حيوة: فلما انصرفنا من عنده إذا بمركب خلفي فالتفت فإذا بهشام بن عبد الملك، فقال لي يا رجاء: اعلمني من صاحب العهد فإن أكن أنا هو عرفت ذلك، والا تكلمت قبل أن يفرط الأمر. قال: فأجبته بجواب أطمعته فيه من غير تصريح، فسكت وانصرف، ثم التفت: فإذا أنا بعمر بن عبد العزيز. فقال لي: يا رجاء اعلمني لمن كتب هذا العهد فإن لمن لغيري سكت، وإن يكن لي تكلمت في صرفه عني ما دام في الأمر سعة. قال: فأوهمته مراده فلما توفي سليمان أمرت من عنده يكتم موته، وقلت مروا منادياً فليناد بالناس ليبايعوا أمير المؤمنين ثانياًعلى السمع والطاعة لمن في الكتاب، ففعلوا ذلك، فلما حضروا وبايعوا قلت أعظم الله أجوركم في أمير المؤمنين، ثم فتح الكتاب فإذا صاحب العهد عمر بن عبد العزيز، فوخم لذلك بنو عبد الملك ولم يقدروا يفعلون شيئاً. ثم أخرجت جنازته فخرج بنو عبد الملك ركباناً، وخرج عمر بن عبد العزيز ماشياً. فلما رجعوا من دفنه أرسل عمر إلى نسائه رسولاً يقول لهن من أرادت منكن الدنيا فلتلحق بأهلها، فإن عمر قد جاءه أمر يشغله، قال: فسمعت النوائح يومئذ في بيت عمر بن عبد العزيز وعدله رضي الله عنه وحسن سيرته الحسناء وأوصافه الجميلة قد ملأت الوجود شهرة، رحمة الله تعالى ورضوانه عليه. وفيها توفي أبو صالح السمان ذكوان صاحب أبي هريرة رحمه الله. وفيها أو في التي قبلها توفي ربعي بن حراش أحد علماء الكوفة وعبادها، وقيل إنه لم يكذب قط، قال: قد آلى أن لا يضحك حتى يعلم أفي الجنة هو أو في النار. وفيها
وقيل في سنة خمس وتسعين توفي الحسن بن محمد ابن الحنيفة الهاشمي العلوي، ورد أنه صنف كتاباً في الأرجاء ثم ندم عليه، وكان من عقلاء قومه وعلمائهم. وفيها استعمل يزيد بن عبد الملك أخاه مسلمة على امرة العراقين وأمره بمحاربة يزيد بن المهلب، وكان قد خرج واستقل بالدعوة لنفسه، فحاربه حتى قتل يزيد المذكور في السنة الآتية كما سيأتي. وممن توفي بعد المائة ابراهيم بن عبد الله بن جبير المدني، وابراهيم بن عبد الله بن سعيد بن عياش الهاشمي المدني، والقطامي الشاعر المشهور، ومعاذة العدوية الفقيهة العابدة بالبصرة، وبشير بن يسار المدني الفقيه، وعبد الرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري وحفصة بنت سيرين، وعائشة بنت طلحة التيمية التي أصدقها مصعب بن الزبير مائة ألف دينار، وكانت من أجمل النساء، وهي إحدى عقيلتي قريش اللتين تمناهما مصعب فنالهما كما تقدم، والثانية سكينة بنت الحسين، وذو الرمةالشاعر المشهور، وأبو الأشعث الصنعاني الشامي، وزياد الأعجم الشاعر، وأبو بكر بن أبي موسى الأشعري القاضي. يل في سنة خمس وتسعين توفي الحسن بن محمد ابن الحنيفة الهاشمي العلوي، ورد أنه صنف كتاباً في الأرجاء ثم ندم عليه، وكان من عقلاء قومه وعلمائهم.(1/167)
وفيها استعمل يزيد بن عبد الملك أخاه مسلمة على امرة العراقين وأمره بمحاربة يزيد بن المهلب، وكان قد خرج واستقل بالدعوة لنفسه، فحاربه حتى قتل يزيد المذكور في السنة الآتية كما سيأتي. وممن توفي بعد المائة ابراهيم بن عبد الله بن جبير المدني، وابراهيم بن عبد الله بن سعيد بن عياش الهاشمي المدني، والقطامي الشاعر المشهور، ومعاذة العدوية الفقيهة العابدة بالبصرة، وبشير بن يسار المدني الفقيه، وعبد الرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري وحفصة بنت سيرين، وعائشة بنت طلحة التيمية التي أصدقها مصعب بن الزبير مائة ألف دينار، وكانت من أجمل النساء، وهي إحدى عقيلتي قريش اللتين تمناهما مصعب فنالهما كما تقدم، والثانية سكينة بنت الحسين، وذو الرمةالشاعر المشهور، وأبو الأشعث الصنعاني الشامي، وزياد الأعجم الشاعر، وأبو بكر بن أبي موسى الأشعري القاضي.
سنة اثنتين ومائة
وفيها توفي يزيد بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي، وكان أمير البصرة لسليمان بن عبد الملك، فلما ولي عمر بن عبد العزيز عزله وسجنه، فلما توفي عمر أخرجه خواصه من السجن، فوثب على البصرة وفر منه عاملها. عدي بن أرطأة الفزاري، ونصب يزيد رايات سوداً وتسمى بالقحطاني، وقال ادعو إلي سيرة عمر بن الخطاب، فجاء مسلمة وحاربه، ثم قتل يزيد بن المهلب في صفر، وكان جواداً ممدوحاً كثير الغزو والفتوح. قال ابن خلكان وأجمع علماء التاريخ أنه لم يكن في دولة بني أمية أكرم من بني المهلب، كما لم يكن في دولة بني العباس أكرم من البرامكة، وقال بعضهم لما حمل رأس يزيد بن المهلب إلى يزيد بن عبد الملك نال منه بعض جلسائه، فقال مه، إن يزيد طلب جسيماً وركب عظيماً ومات كريمأ. وذكر ابن الجوزي في كتاب الأذكياء أن يزيد بن المهلب وقعت عليه حية فلم يرفعها عن نفسه، فقال أبوه ضيعت العقل من حيث حفظت الشجاعة. وفيها توفي يزيد بن أبي مسلم الثقفي مولاهم، وكان مولى الحجاج بن يوسف الثقفي(1/168)
كاتبه، وكان فيه كفاية ونهضة، وقدمه الحجاج بسبب ذلك، ولما حضرته الوفاة استخلفه بالعراق، وأقره الوليد بن عبد الملك، وقيل إن الوليد هو الذي ولاه بعد موت الحجاج، وقال الوليد: يوماً مثلي ومثل الحجاج ويزيد بن أبي مسلم كرجل ضاع له درهم فوجد ديناراً. قلت مثل في هذا الحجاج بالدرهم ويزيد بالدينار، فلما مات الحجاج خلفه يزيد فكأنه وجد ديناراً بعد ضياع الدرهم لما رأى من فضل يزيد وحسن عقله وبلاغة لسانه، ولم مات الوليد وتولى أخوه سليمان عزل يزيد المذكور، واستحضره فرآه دميماً كبير البطن قبيح الوجه فقال لعن الله من أشركك في أمانته وحكمك في دينه، فقال: يا أمير المؤمنين، لا تقل فإنك رأيتني والأمور مدبرة عني، ولو رأيتني وهي مقبلة علي لاستعظمت ما استصغرت ولاستجللت ما احتقرت، فقال سليمان: قاتله الله ما أشد عقله وأعذب لسانه. ثم قال سليمان: يا يزيد أترى صاحبك الحجاج يهوي بعد في نار جهنم أم قد استقر في قعرها، فقال: لا تقل ذلك يا أمير المؤمنين، فإن الحجاج عاد عدوكم ووالى وليكم وبذل مهجته لكم، فهو في يوم القيامة عن يمين عبد الملك وعن يسار الوليد، فاجعله حيث أحببت. وفي رواية أخرى: يحشر بين اثنين أبيك وأخيك فضعهما حيث شئت. قال سليمان: قاتله الله أوفى لصاحبه إذا اصطنعت الرجال فلتصطنع مثل هذا. فقال: بعض الحاضرين: اقتله يا أميرالمؤمنين فقال يزيد: من هذا؟ قالوا فلان ابن فلان، فقال: والله لقد بلغني أن أمه ما كان يوراي شعرها أذنيها، فما تمالك سليمان إن ضحك وأمر بتخليته، ثم كشف عنه سليمان فلم يجد له خيانة في دينار ولا درهم، فهم باستكتابه، فقال له عمر بن عبد العزيز: أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن تحيي ذكر الحجاج باستكتابك كاتبه، فاعلمه سليمان أنه لم يخن قط في دينار ولا في درهم، فأجابه عمر بأن إبليس لم يخن فيهما وقد أهلك هذا الخلق، فتركه سليمان. وفيها توفي بخراسان الضحاك بن مزاحم الهلالي صاحب التفسير فقيه مكتب عظيم فيه ثلاثة آلاف صبي، وكان يركب حماراً يدورعليهم إذا أعيى. وفيها لما قتل يزيد بن المهلب في المعركة عمد ابنه معاوية فأخرج من الجيش عدي بن أرطأة وجماعة فذبحهم صبراً فقال الأصمعي: إن الحجاج قبض على يزيد وأخذه بسوء العذاب يعني في زمن ولاية الحجاج على العراق، قال فسأله أن يخفف عنه العذاب على أن يعطيه كل يوم مائة ألف درهم، فإن أداها ولا عذبه في الليل، أوقال إلى الليل فجمع يوماً مائة ألف درهم ليشتري بها نفسه من عذاب ذلك اليوم، فدخل عليه الأخطل الشاعر فقال:(1/169)
أبا خالد نادت حراسان بعدكم ... وقال ذووالحاجات أين يزيد
فلا نظر الراؤون بعدك منظراً ... ولا اخضر بالمروين بعدك عود
فما السرير الملك بعدك بهجة ... ولا الجواد بعد جودك جود
قال: فأعطاه المائة الألف، فبلغ ذلك الحجاج فدعى به وقال: أكل هذا الكرم وأنت بهذه الحالة؟! قد وهبت لك عذاب يومك وما بعده.
سنة ثلاث ومائة
فيها توفي عطاء بن يسار المدني الفقيه مولى ميمونة أم المؤمنين، كان إماماً روى عن كبار الصحابة، وفيها توفي الإمام أبو الحجاج مجاهد بن جبر المكي عن نيف وثمانين سنة، قيل: وكان أعلمهم بالتفسير، قال: قرأت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة، وقال لي ابن عمر: وودت أن نافعاً يحفظ حفظك، وقال سلمة بن كهيل: ما رأيت أحداً أراد لهذا العلم وجه الله إلا عطاء وطاوساً ومجاهداً. وفيها توفي مصعب بن سعد بن أبي وقاص الزهري، كان فاضلاً كثير الحديث. وفيها توفي موسى بن طلحة بن عبيد الله التيمي، روى عن عثمان ووالده، وقال أبوحاتم: هو أفضل إخوته بعد محمد، وكان يسمى في زمانه المهدي. وفيها توفي مقرئ الكوفة يحيى بن وثاب الأسدي مولاهم، اخذ عن ابن عباس وطائفة، قال الأعمش: اذا رأيته قد جاء قلت هذا قد وقف للحساب يعد ذنوبه، رحمهما الله تعالى. وفيها توفي يزيد بن الأصم العامري ابن خالة ابن العباس، روى عن خالته عن ميمونة وطائفة.
سنة أربع ومائة
توفي فيها وقيل في التي قبلها وقيل بعدها فجأة الحبر العلامة أبو عمرو، وعامر بن(1/170)
شراحيل السعبي الكوفي، وله بضع وثمانون سنة. قال ابن المديني: ابن عباس في زمانه والشعبي في زمانه وسفيان الثوري في زمانه، قيل جد الشعبي من إقبال اليمن من حمير، وهو تابعي جليل القدر وافي العلم، روي أن ابن عمر مر به يوماً وهو يحدث بالمغازي وقال: شهدت القوم وهو أعلم بها مني. وحكى الشعبي قال أنفذني عبد الملك بن مروان إلى ملك الروم، فلما وصلت جعل لا يسألني إلا أجبته، وكانت الرسل لا تطيل عنده فحبسني أياماً كثيرة حتى استحببت خروجي، فلما أردت الانصراف قال لي من أهل بيت المملكة أنت؟ فقلت: لا ولكنني رجل من العرب في الجملة، فهمس بشيء، فرفعت إلي رقعة وقال: اذا أديت الرسائل إلى صاحبك فأوصل إليه هذه الرقعة، قال: فأديت الرسالة عند وصولي إلى عبد الملك، ونسيت الرقعة، فلما صرت في بعض الدار أريد الخروج تذكرتها، فرجعت فأوصلتها إليه، فقال: قرأها وقال لي: اقال لك شيئاً قبل أن يدفعها إليك، قلت: نعم. قال لي: من أهل بيت المملكة أنت؟ قلت: لا ولكني من العرب في الجملة ثم خرجت من عنده، فلما بلغت الباب رددت، قال لي: اتدري ما في الرقعة؟ قلت: لا. قال: فاقرأها، فقرأتها، فإذا فيها عجبت من قوم فيهم مثل هذا كيف ملكوا غيره، فقلت: والله لو علمت ما حملتها، وإنما قال هذا لأنه لم يرك. قال: افتدري لم كتبها قلت: لا. قال: حسدني عليك، وأراد أن يغريني بقتلك، فتأدى ذلك إلى ملك الروم وقال: ما أردت إلا ما قال. قلت وقول الشعبي وإنما قال هذه لأنه لم يرك صدر عن بلاغة فهم ثاقب، واق من الوقوع في المغاضب أعني أنه مدح عبد الملك بما سكن به ثوران الغضب المؤدي عنذ هيجانه إلى سفك الدماء والعطب، وذلك أن مدح ملك الروم للإمام الشعبي مشتمل على أمرين خطيرين: احدهما أنه رفعه رفعاً ينحط به فضل عبد الملك، وحينئذ يكره أن يبقى مرفوعاً، ويقتضي أن يكون في جنبه موضوعاً، فلما مدحه الشعبي فكأنه قال: لو رأى فضلك لاحتقر فضلي في جنب فضلك، وكان ذلك سبباً لتسكين عبد الملك وحقن دم الشعبي. والثاني أن الرومي أوهم عبد الملك أن الشعبي أحق بالملك منه، فخشي أن يؤول الأمر إلى انتقال الملك منه إليه، كما خشي هارون الرشيد أن ينتقل ملكه إلى الأمام الشافعي لما جرى من الفضائل فجرى له معه ما جرى كما هو معررف في سيرة الشافعي. فلما مدح الشعبي عبد الملك، وخلع عن نفسه خلعة الفضل وألبسها إياه، وكأنه قال: تاج الملك لا(1/171)
يصلح إلا لك، فعند ذلك سحكنت نفس عبد الملك، وسلم الشعبي من الوقوع في المهالك. وقال الزهري: العلماء أربعة ابن المسيب بالمدينة، والحسن بالبصرة، والشعبي بالكوفة، ومكحول بالشام. وذكر بعض المؤريخين أن الحجاج قال له يوماً: كم عطاك في السنة؟ قال: الفين، فقال: كم عطاؤك؟ قال: الفان. فقال: كيف لحنت أولاً؟ قال: لحن الأمير فلحنت، فلما أعرب أعربت، وما أمكن أن يلحن الأمير وأعرب أنا، فاستحسن ذلك منه وأجازه، قلت وأراد بقوله لحن الأمير: قول الحجاج.
ولاكم عطاك أولا
بغير واو ولا مد بين الألف والكاف وكان مزحاً. وقد اشتهر عن الشعبي أنه قال: ما أروي شيئاً أو قل ما أحفظ أقل من الشعر، ولوشئت أن أنشده شهراً ولا أعيد بيتاً لفعلت. وقال أبو بكر الهذلي للشعبي: اتحب الشعر؟ قال: نعم. فقال: اما إنه يحبه فحول الرجال ويكرهه مؤنثهم. وقال الشعبي ما أودعت قلبي شيئاً فخانني، وقال الشعبي: انما الفقيه من ورع عن محارم الله تعالى، والعالم من خاف الله عز وجل، وقال: اتقوا الفاجر من العلماء والجاهل من المتعبدين. قال: ولقد أدركت خمس مائة أو أكثر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منهم عمر وعلي رضي الله عنهم. وحكي أنه دخل على عبد الملك بن مروان، فقال له: انشدني أحكم ما قالته العرب وأوجزه، فقال قول امرىء القيس:
صبت عليه وما تنصب عن أمم ... إن الشفاء على الأشقين مكتوب
وقول زهير:
ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يقره ومن لا يتقي الشتم يشتم
وقول النابغة:
ولست بمستبق أخاً لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب(1/172)
وقول عدي بن زيد:
عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه ... فإن القرين بالمقارن مقتد
وقوله طرفة بن العبد:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وقول الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوائزه ... لا يذهب الخير بين الله والناس
مع أبيات أخرى من أشعار العرب، رغبت في حذفها أختصاراً. وقال الشعبي: وقد قيل له: ما تقول في النابغة؟ فقال: خرج عمر بن الخطاب وببابه وفد غطفان، فقال يا معشرغطفان أي شعرائكم الذي يقول:
حلفت قلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب
لأن كنت قد بلغت عني رسالة ... لمبلغك الواشي أغش وأكذب
ولست بمستبق أخاً لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب
قالوا: النابغة يا أمير المؤمنين. قال: فأيكم الذي يقول:
وإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
مع أبيات أخرى سأل عن قائلها، فقالوا: النابغة يا أمير المؤمنين، فقال: هذا أشعر شعرائكم. انتهى مختصراً. وقال أبو العيناء: دخل الشعبي على الحجاج فقال: يا شعبي أدب وافر وعقل فاخر. قال: صدقت أيها الأمير، العقل عزيزة والأدب تكلف، ولولا أنتم معشر الملوك ما تأدبنا، قال: فالمنة لنا في ذلك دونكم، قال: صدقت أيها الأمير. قال: وكنا مع المغيرة بظهرالكوفة، فقيل له هذا دير هند، فقال: لو دخلناه فدخلنا فإذا هي جالسة عليها ثياب صوف سود لم أر قط أجمل منها، فقال لها المغيرة: هل لك فيما أحل الله تعالى؟ فقالت: كأنك أردت أن يقال تزوج المغيرة هند ابنة النعمان، ان ذلك غير كائن إليك فاخرج. قال: وخرجنا مع زياد بعد ذلك إلى ظاهر الكوفة، فمر بدير هند، فقيل له هذا دير هند، فقال: ادخلوا بنا فدخلنا فإذا هند وأختها جالستان عليهما ثياب صوف سود. قال الشعي فما أنسى جمالها فقال زياد: يا هند حدثيني عن ملككم، وما كنتم فيه، فقالت: اجمل أم أفسر؟ قال: اجملي قالت: اصبحنا وكل من رأيت لنا عبيد، وأمسينا وعدونا يرحمنا.
قلت لقد أبدعت في بلاغة هذا الإيجاز، وضمنت بمختصره المعاني الكثيرات الغزار،(1/173)
فانظر إلى ما أدرجت تحت مملكة انقاد لها الإنام عبيداً وطوت تحت زوال نعم يرثي من زوالها من كان حسوداً، وقصرت طول زمان ملك طال أشهراً وسنينا يقولها عند وصف ذلك: فأصبحنا وأمسينا فانظر إلى بعد التفاوت بين هذه الأطراف وما جمعت في ذلك من الحسن المقابل بالاعتراف، ولعل مراد الإمام الشعبي رحمه الله تعالى بقوله: فما أنسى جمالها أي في هذا الخطاب المشتمل على أحسن الجواب، ومما يدل على ذلك أن انسياق الكلام كان في حكاية الشعبي: الإيجاز في الخطاب وحسن النظام، وقد صرحت في بعض قصائدي أن المحاسن المعنوية تفضل على المحاسن الجسمية. وقال المغيرة استقضى الشعبي والحسن في أيام عمر بن عبد العزيز، فشكيا جميعاً فعزلا: قلت هذا النقل غريب لا يكاد يعرف، والشعبي نسبة إلى شعب بفتح الشين المعجمة وسكون العين المهملة، قال ابن خلكان بطن من همدان، وقال الجوهري في الصحاح هذه النسبة إلى جبل باليمن نزله حسان بن عمرو الحميري هو وولده ودفن به، قلت: وشعب في بلاد اليمن مكان معروف بالقرب من موضعنا، والله اعلم أي لك هو. وفي السنة المذكورة توفي خالد بن معدان الكلاعي الفقيه العابد، قيل إنه كان يسبح في اليوم أربعين ألف تسبيحة، وأنه قال لقيت سبعين من الصحابة. وفيها وقيل قبل المائة توفي عامر بن سعد بن أبي وقاص، وكان ثقة كثير العلم. وفيها وقيل في سنة سبع توفي أبو قلابة الجرمي عبد الله بن زيد الإمام البصري وقد طلب للقضاء فهرب، وقدم الشام فنزل بداريا، وكان رأساً في العلم والعمل، وفيها وقيل في التي قبلها وقيل في ست أو سبع ومائة توفي أبو بردة عامر بن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري قاضي الكوفة، كان أبوه صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قدم علمه من اليمن مع الأشعريين فأسلموا، وهو الذي قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صوته: " لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود " وقد تقدم هذا مع غيره في ترجمته، ثم صار ابنه المذكور قاضياً على الكوفة، وليها بعد القاضي شريح على ما ذكر بعضهم في الطبقات، وله مكارم ومآثر مشهورة، وتولى ولده بلا قضاء البصرة، وهم الذين يقال فيهم ثلاثة قضاة في نسق. وفيهم قلت:
ثلاثة أمجاد قضاة جميعهم ... على نسق للاشعري انتسابهم
وأعي أبا موسى الصحابي ذا العلا ... فتى صوته مزمارهم وربابهم
وبيان النسق المذكور أن أبا موسى قضى بالبصرة لعمر. ثم بالكوفة لعثمان رضي الله(1/174)
تعالى عنهم، وولده وولده في الكوفة والبصرة كما ذكرنا، وفي بلال المذكور يقول ذو الرمة:
سمعت الناس ينتجعون غيثاً ... فقلت لصيدح انتجعي بلا لا
وصيدح اسم ناقته، وأبو برده بن أبي موسى الأشعري قاضي الكوفة.
سنة خمس ومائة
فيها توفي كثيرعزة عبد الرحمن الخزاعي، كان شيعياً غالياً يؤمن بالرجوع بالدنيا بعد الموت، وهو أحد عشاق العرب المشهورين به صاحب عزة بنت جميل بن حفص من بني حاجب بن غفار، وله معها حكايات نوادر وأمور مشهورة، وأكثر شعره فيها، وكان يدخل على عبد الملك بن مروان وينشده، وكان كثير التعصب لآل طالب. حكى ابن قتيبة في طبقات الشعراء أن كثير أدخل على عبد الملك فقال له عبد الملك: بحق علي بن أبي طالب هل رأيت أحد أعشق منك؟ قال: يا أمير المؤمنين لو نشدتني بحقك لأخبرتك، قال: نشدتك بحقي إلا ما أخبرتني قال: نعم بينا أنا أسير في بعض الصلوات أذا أنا برجل قد نصب حبالة، فقلت: ما أجلسك هاهنا؟ قال: اهلكني وأهلي الجوع، فنصبت حبالتي هذه لأصيد لهم شيئاً ولنفسي ما يكفينا ويعصمنا يومنا هذا، قلت: ارأيت إن أقمت معك فأصبت صيداً، اتجعل لي منه جزء؟ قال: نعم فبينا نحن كذلك إذ وقعت ظبية في الحبالة، فخرجنا نبتدر، فبدرني إليها، فحلها وأطلقها، فقلت له: ما حملك على هذا؟ قال دخلتني لها رأفة لشبها بليلى، وأنشأ يقول:
يا شبه ليلى لا تراعي فإنني ... لك اليوم من وحشية لصديق
أقول وقد أطلقتها من وثاقها ... فأنت لليلى ما حييت طليق
ولما عزم عبد الملك على الخروج إلى محاربة مصعب بن الزبير ناشدته زوجته عاتكة بنت يزيد بن معاوية أن لا يخرج بنفسه، وأن يستنيب غيره في حربه، ولم تزل تلح عليه في المسألة وهو يمتنع من الإجابة، فلما يئست أخذت في البكاء حتى بكى من كان حولها من جواريها وحشمها، فقال عبد الملك: قاتل الله ابن أبي جمعة، يعني كثيراً كأنه رأى موقفنا هذا حين قال:
إذا ما أراد الغزو لم تثن عزمه ... حسان عليها نظم در بزينها
نهته فلما لم ترالنهي عاقه ... بكت فبكى من ماشجاها قطينها(1/175)
القطين: الخدم والاتباع. ثم عزم عليها أن تقصر فاقتصرت، وخرج لقصده. قلت هكذا هو في الأصل المنقول عنه حصان بالصاد وحاء مكسورة، وما أراه صحيحاً بل إن كان بالصاد فهو بفتح الحاء، ويحسن أن يكون بالسين والحاء المكسورة جمع حسن، ويقال إن عزة دخلت على أم البنين ابنة عبد العزيز وهي أخت عمر بن عبد العزيز تزوجها الوليد بن عبد الملك الأموي فقالت لها: ارأيت قول كثير:
قضى كل ذي ديني فوفى غريمه ... وعزة ممطول معنى غريمها
ما كان ذلك الدين؟ فقلت: وعدته قبله فتحزجت منها، فقالت أم البنين: انجزيها وعلي إثمها. قلت وذكر بعض العلماء في بعض التصانيف: ان أم البنين المذكورة أعتقت كذا وكذا من رقبة عن هذه الكلمة التي صدرت منها، وقولها فتحرجت منها بالحاء بعد الفاء من الحرج وله معان منها الضيق ومنها الاثم يقال فلان يتحرج من كذا أي تركه خوف الاثم. وكان لكثير غلام عطار بالمدينة وربما باع نساء العرب بالنسأة، فأعطى عزة وهو لا يعرفها شيئاً من العطر، فمطلته أياماً وحضرت إلى حانوته في نسوة، فطالبها فقالت له: حباً وكرامة ما أقرب الوفاء وأسرعه فأنشد متمثلاً.
قضى كل في دين فوفى غريمه ... وعزة ممطول معنى غريمها
فقالت النسوة تدري من غريمك؟ فقال: لا والله، فقلن: هي والله عزة، فقال: اشهد الله إنها في حلى من مالي في قبلها، ثم مضى إلى سيده فأخبره بذلك، فقال: وأنا أشهد الله أنك حر لوجهه، ووهبه جميع ما في حانوت العطر، وكان ذلك من عجائب الاتفاق وغرائب المحبين العشاق. ولكثير في مطالها بالوعد شعر كثير، فمن ذلك قوله:
أقول لها عزيز مطلت ديني ... وشر الغانيات ذوو المطال
قالت: ويح غيرك كيف أقضي؟ ... غريماً ما ذهبت له بمال
وذكر صاحب كتاب الأغاني أن كثيراً خرج من عند عبد الملك بن مروان وعليه مطرف، فاعترضته عجوز في الطريق اقتبست ناراً فى روثة، فتافق كثير من وجهها، فقالت: من أنت؟ قال: كثير عزة. فقالت: الست القائل؟:
فما روضة زهراء طيبة الثرى ... تمج الندا حثحاثها وعرارها(1/176)
باطيب من أراد أن عزة موهنا ... إذا أوقدت بالمندل الرطب نارها
فقال كثير نعم. فقالت: لو وضع المندل الرطب على هذه الروثة لطيب ريحها هلا قلت كما قال امرؤ القيس؟.
ألم تراني كلما جئت زائراً ... وجدت بها طيباً وإن لم تطيب
فناولها المطرف، وقال أشتري على هذا قالت، وقوله نعم بعد قولها: الست القائل؟ فما روضة البيتين صوابه أن يقول بلى، كقوله عز وجل: " ألست بربكم قالوا بلى " - الأعراف: 172 - ولو قالوا نعم لكان كفراً، لأنه تقرير للنفي والحثحاث بالحاء المهملة والراء والثاء المثلثة مكررتين: نبت طيب الرائحه والعرار بالعين المهملة والراء المكررة: بهار البر، وهو طيب أيضاً وإليه أشار الشاعر في قوله:
تمتع من شميم عرارنجد ... فما بعد العشية من عرار
وكان كثير ينسب إلى الحمق، ويروى أنه دخل يوماً على يزيد بن عبد الملك، فقال يا أمير المؤمتين ما يعني الشماخ بقوله:
إذ الأرطا توسدا برديه ... خدود جواري بالرمل عين
فاقال يزيد: ما يضرني أن لا أعرف ما عنى هذا الأعرابي الجلف واستحمقه وأمربإخراجه ودخل كثير على عبد العزيز بن مروان والد عمر يعود في مرضه، وأهله يتمنون أن يضحك، وهو يومئذ أمير مصر، فلما وقف عليه قال: لولا أن سرورك لا يتم بأن تسلم واسقم لدعوت ربي أن يصرف ما بك إلي، ولكني أسأل الله عز وجل لك العافية، ولي في كنفك النعمة، فضحك عبد العزيز، وأنشد كثير:
ونعود سيدنا وسيد غيرنا ... ليت التشكي كان بالعواد
لوكان يقبل فديتي لفديته ... بالمصطفى من طارقي وتلادي
قلت يعني بقوله المصطفى إلى آخر البيت: الذي يختاره من المال الحادث والقديم. ومما يستجاد من شعركثير: قصيدته النائية التي يقول من جملتها:
وإني وتهيامي لعزة بعدما ... تسليت من وجد بها وتسلت
لك المرتجى ظل الغمامة كلما ... تبوأ منها للمقيل اضمحلت
وكان كثير بمصر وعزة بالمدينة، فاشتاق إليها، فسافر للاجتماع بها، فلقيها في الطريق(1/177)
وهي متوجهه إلى مصر وجرى بينهما كلام يطول شرحه، ثم إنها تمت في سفرها إلى أن قدمت مصر، وتأخر كثير بعدها مدة ثم عاد إلى مصر، فوفاها والناس منصرفون عن جنازتها، وكثير تصغير كثير، وإنما صغر لأنه كان شديد القصر: وفي السنة المذكورة توفي خليفتهم أبو خالد يزيد بن عبد الملك بن مروان، وجده لأمه يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، عاش أربعاً وثلاثين، وولي أربع سنين وشهراً، وكان أبيض جسيماً مدور الوجه، قيل لما استخلف قال سيروا سيرة عمر بن عبد العزيز، فأتوه بأربعين شيخاً شهدوا له أن الخلفاء لا حساب عليهم ولا عذاب، نعوذ بالله مما سيلقى الظالمون من شدة العذاب. وحكى الحافظ ابن عساكر أنه لما حج يزيد بن عبد الملك طلب حالقاً، فجاء فحلق رأسه، فأمر له بألف درهم، فتحير ودهش وقال هذه الألف أمضي بها إلى أمي فلانة أسرها بها، فقال: اعطوه ألفاً أخرى، فقال: امرأتي طالق إن حلقت رأس أحد بعدك فقال: اعطوه ألفين آخرين. قلت هكذا هو في الأصل المنقول عنه ليزيد بن عبد الملك، ولكن هذه القصة وقعت في أثناء ترجمة يزيد بن المهلب، فلا أدري هو غلط من الكاتب أو أدخل حكاية من حكايات ابن عبد الملك مع حكايات ابن المهلب. وفيها وقيل في التي قبلها، وقيل في التي بعدها، وقيل في سنة سبع، وقيل في سنة خمس عشرة، توفي عكرمة مولى ابن عباس أحد الأعلام المستضيء بها الأنام، اصله من البربر من أهل المغرب، وهب لابن عباس فاجتهد في تعليمه القرآن والسنين، وسماه بأسماء العرب. حدث عن مولاه عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري والحسن بن علي وعائشة رضي الله عنهم، وهو أحد فقهاء مكة من التابعين فيها، وكان كثير النقل في الأقاليم، خل اليمن وأصفهان وخراسان ومصر والمغرب وغيرها، وكانت الأمراء تكرمه وتصله، قال عكرمة طلبت العلم أربعين سنة. وروي أن عباس قال له: انطلق فأفت الناس، وقيل لسعيد بن جبير: هل تعلم أحداً أعلم منك؟ قال: عكرمة، وروى عنه الزهري وعمرو بن دينار والشعبي غيرهم. ولما مات مولاه، باعه ولده علي بن عبد الله بن عباس بن خالد بن يزيد بن معاوية بأربعة آلاف دينار، فقال له عكرمة: بعت علم أبيك بأربعة آلاف دينار. فاستقاله، فأقاله، ثم أعتقه.(1/178)
وروى الواقدي بسنده أنه مات عكرمة وكثير عزة في يوم واحد، وصلى عليهما جميعاً، فقال الناس: مات أفقه الناس وأشعر الناس، وكان موتهما بالمدينة الشريفة. وفي السنة المذكورة على الصحيح توفي أبو رجاء العطاردي بالبصرة، وله مائة وعشرون سنة أو أقل، اسلم في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأخذ عن عمر رضي الله عنه وطائفة. وفيها توفي الأخوان عبيد الله وعبد الله ابنا عبد الله بن عمر بن الخطاب، وأبان بن عثمان الأموي المدني الفقيه، روى عن أبيه.
سنة ست ومائة
فيها استعمل هشام بن عبد الملك على العراق خالد بن عبد الله القسري، فدخلها وقبض على متوليها عمر بن هبيرة الفزاري وسجنه، فعمد غلمانه فنقبوا سرباً إلى السجن وآخرجوه منه، وهرب إلى الشام فأجاره مسلمة بن عبد الملك، ثم مات قريباً من ذلك. وفيها توفي القاضي عبد الملك بن عمير، كان قاضياً على الكوفة بعد الشعبي، من كبار التابعين وثقاتهم، رأى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وروى عن جابر عبد الله، ومن أخباره؛ قال: كنت عند عبد الملك بن مروان بقصر الكوفة حين جيء برأس مصعب بن الزبير فوضع بين يديه، فرأني قد ارتعت لذلك، فقال لي: ما لك؟ فقلت: اعيذك بالله يا أمير المؤمنين، كنت بهذا القصر مع عبيد الله بن زياد، فرأيت رأس الحسين بن علي أبي طالب بين يديه في هذا المكان، ثم كنت فيه مع المختار بن أبي عبيد الثقفي، فرأيت رأس عبيد الله بن زياد بين يديه، ثم كنت فيه مع مصعب بن الزبير هذا، فرأيت رأس المختار فيه بين يديه، ثم هذا رأس مصعب بين يديك، قال: فقام عبد الملك من موضعه، وأمر بهدم ذلك الطاق. وفي السنة المذكورة توفي سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي المدني الفقيه القدوة، كان خشن العيش يلبس الصوف ويخدم نفسه، قال مالك: لم يكن أحد في زمانه أشبه بمن مضى من الصالحين في الفضل والزهد منه. وقال أحمد وإسحاق: اصح الأسانيد(1/179)
الزهري عن سالم عن أبيه قلت ورجع غيرهما من المحدثين روايه مالك عن نافع عن ابن عمر، وسيأتي أن رواية الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر يسميها المحدثون سلسلة الذهب، وقال بعض المؤرخين دخل سليمان بن عبد الملك الكعبة، فرأى سالماً واقفاً، فقال: سلني حوائجك. فقال: والله لا سألت في بيت الله غير الله. وفيها توفي الفقيه الإمام آخر سادات الأعلام علماً وعملاً طاوس بن كيسان اليماني الجندي بفتح الجيم والنون الخولاني بمكة. في ذي الحجة، اخذ عن أبي هريرة وابن عباس وعائشة وطائفة، وكان فقيهاً جليل القدر نبيل الذكاء، قال عمرو بن دينار: ما رأيت أحداً قط مثل طاوس، ولما ولى عمر بن عبد العزيز الخلافة كتب إليه طاوس: ان أردت أن يكون عملك خيراً كله فاستعمل أهل الخير، فقال عمر: كفى بها موعظة، وتوفي حاجاً بمكة قبل يوم التروية بيوم، وصلى عليه هشام بن عبد الملك في ولايته، قلت كان هشاماً، كان في ذلك الوقت بمكة قادماً للحج، قال بعض العلماء: لم يتهيأ آخراج جنازته لكثرة الناس حتى وجه أمير مكة بالحرس. ولقد رأيت عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب واضعاً السرير على كاهله، وقد سقطت قلنسوة كانت على رأسه ومزق رداؤه من خلفه. قلت والمشهور عن طاوس رحمه الله تعالى أنه سأل عن مسألة، فقال: اخاف إن تكلمت، وأخاف إن سكت، وأخاف أن اخذ بين الكلام والسكوت. وذكر بعضهم: انه تولى قضاء صنعاء والجند، وأخذ عنه عمرو بن دينار والزهري وابنه عبد الله بن طاوس، وتولى ابنه المذكور القضاء بعده، وكان فقيهاً جليلاً. وفيها توفي أبو مجلز لاحق بن حميد البصري أحد علماء البصرة، لقي كباراً من الصحابة كأبي موسى وابن عباس رضي الله عنهم، قال هشام بن حسان: كان قليل الكلام، فإذا تكلم كان من الرجال.
سنة سبع ومائة
توفي سليمان بن يسارالمدني أحد فقهاء المدينة السبعة، اخذ عن ابن عباس وأبي هريرة وعائشة وأم سلمة، وروى عن الزهري وجماعة، وكان سعيد بن المسيب إذا استفتاه أحد يقول اذهب إلى سليمان بن يسار، فإنه أعلم من بقي اليوم، وله إخوة مشهورون منهم عطاء بن يسار. وفيها وقيل في سنة ثمان. وقيل في سنة اثنتي عشرة ومائة. وقيل إحدى وقيل اثنتين ومائة توفي القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق التيمي المدني الإمام، نشأ في حجر عمته عائشة، فأكثرمنها، قال يحيى بن سعيد: ما أدركنا أحداً تفضله بالمدينة على القاسم، وعن(1/180)
أبي الزناد قال: ما رأيت فقيهاً أعلم منه، وقال ابن عيينة، كان القاسم افضل زمانه، وعن عمر بن عبد العزيز قال: لو كان أمر الخلافة إلي لما عدلت عن القاسم، واتفقوا على أنه من كبار سادات التابعين، وأحد فقهاء المدينة السبعة الجلة. وقال محمد بن إسحاق: جاء رجل إلى القاسم بن محمد فقال: انت أعلم أم سالم؟ يعني سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، فقال ذاك مبارك، قال ابن إسحاق: كره أن يقول هو أعلم فيكذب، او يقول أنا أعلم فيزكي نفسه.
سنة ثمان ومائة
فيها توفي أبو عبد الله المزني، البصري الفقيه، روى عن المغيرة بن شعبة وجماعة، وفيها وقيل في سنة ست توفي أبو بصرة العبدي المنذر بن مالك أحد شيوخ البصرة، اعا علياً وطلحة والكبار، وقيل في سنة تسع ويزيد بن عبد الله بن الشخير، عاش نحواً من تسعين سنة، وكان ثقة جليل القدر، لقي عمران بن حصين وجماعة، وقيل بقي إلى سنة إحدى عشرة ومحمد بن كعب القرظي، روى عن كبار الصحابة، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان كثير العلم موصوفاً بالعلم والورع والصلاح.
سنة تسع ومائة
فيها توفي أبو نجيح يسار المكي مولى ثقيف، روى عن أبي سعيد وجماعة، قال الإمام أحمد: كان من خيار عباد الله، وفيها توفي أبو الحارث بن أبي الأسود الديلي البصري، روى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وجماعة.
سنة عشر مائة
فيها توفي الإمام القدوة المجمع على جلالله وصلاحه وزهادته وفضله وأمانته أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن البصري، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر، وسمع خطبة عثمان رضي الله تعالى عنهما، وشهد يوم الدار، وكثرة شهرته تغني عن مدحته، قال بعض أهل(1/181)
الطبقات كان جامعاً عالماً رفيعاً فقيهاً حجة مأموناً عابداً ناسكاً كثير العلم فصيحاً جميلاً وسيماً، رحمة الله عليه. وقال غيره: كان من سادات التابعين وكبرائهم، وجمع من كل من علم وزهد وورع وعبادة، وأبوه مولى زيد بن ثابت الأنصاري، وأمه مولاة أم سلمة، زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وربما غابت أمه في حاجة، فيبكي، فتعطيه أم سلمة ثديها تعلله به إلى أن تجيء أمه، فتدر عليه فيروى، ان تلك الحكمة والفصاحة من بركة ذلك. قال أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت أفصح من الحسن البصري ومن الحجاج بن يوسف الثقفي. فقيل له: فأيهما كان أفصح؟ قال: الحسن. وكان من أجمل أهل البصرة، ولما ولي عمرو بن هبيرة الفزاري العراق، وأضيفت إليه خراسان في أيام يزيد بن عبد الملك، استدعى الحسن البصري ومحمد بن سيرين والشعبي، وذلك في سنة ثلاث ومائة، فقال لهم: ان يزيد خليفة الله استخلفه على عباده، وأخذ عليه الميثاق بطاعته، وأخذ عهودنا بالسمع والطاعة، وقد ولاني ما ترون، فيكتب إلي بالأمر من أموره فأقلده ما يقلده من ذلك الأمر، فقال ابن سيرين والشعبي: قولاً فيه تقية. فقال ابن هبيرة: ما تقول يا حسن؟ فقال: يا ابن هبيرة خف الله في يزيد، ولا تخف يزيد في الله، فإن الله يمنعك من يزيد، ولا يمنعك يزيد من الله، ويوشك أن يبعث إليك ملكاً فيزيلك عن سريرك، ويخرجك من سعة قصر إلى مضيق قبر، ثم لا ينجيك إلا عملك. يا ابن هبيرة، اياك أن تعصي الله، فإنما جعل الله هذا السلطان ناصر الدين الله وعباده، فلا تتركن دين الله وعباده بهذا السلطان، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فأجازهم ابن هبيرة، وأضعف جائزة الحسن، فقال محمد بن سيرين والشعبي: سفسفنا فسفسف لنا. قلت: السفاف الردي من العطية. وروي أنه كتب عمربن عبد العزيز إلى الحسن رضي الله عنهما يقول له: اني قد ابتليت بهذا الأمر، فانظر لي أعواناً يعينوني عليه، فكتب إليه الحسن كتاباً يقول في أثنائه: اما أبناء الدنيا فلا تريدهم، وأما أبناء الآخرة فلا يريدونك، فاستعن بالله والسلام. ورأى الحسن يوماً رجلاً وسيماً حسن الهيئة، فسأل عنه، فقيل: انه يتمسخر للملوك ويحبونه، فقال: لله أبوه أو قال: لله دره ما رأيت أحداً يطلب الدنيا بما يشبهها إلا هذا، قلت يعني أن الدنيا رذيلة، فأخذها بالرذائل أنسب من أخذها بالفضائل، وكان أكثر كلامه حكماً وبلاغة. ولما حضرته الوفاة أغمي عليه قبل موته، ثم أفاق فقال: لقد نبهتموني من جنات وعيون ومقام كريم، وقال رجل كريم قبل موته لابن سيرين: رأيت كأن طائراً أخذ حصاة بالمسجد، فقال: ان صدقت رؤياك مات الحسن، فلم يكن إلا قليلاً حتى مات الحسن، فتبع الناس جنازته، فلم تقم صلاة العصر بالجامع، وما علم أنها تركت فيه مذ كان الإسلام(1/182)
إلا يومئذ، لأنهم تبعوا الجنازة حتى لم يبق من يصلي في المسجد، قلت وله مع الحجاج وقعات عظيمة واجهه فيها بكلام صادع، وسلمه الله من شره، ومما روي من تفحيم الحجاج أنه جاء ذات يوم راكباً على برذون أصفر، فأم الجامع، فلما دخله رأى فيه حلقات متعددة فأم حلقة الحسن، فلم يقم له بل وسع في المجلس، فجلس إلى جنبه. قال الراوي: فقلنا: اليوم ننظر إلى الحسن، هل يتغير من عادته في كلامه وهيئته؟ فلم يغير شيئاً من ذلك بل أخذ على نسق وأخذ عادته من غير زيادة ولانقص. فلما كان في آخر المجلس قال الحجاج: صدق الشيخ عليكم بهذه المجلس، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا ". ولولا ما ابتلينا من هذا الأمر لم تغلبونا عليها، او قال لم تسبقونا إليها، ثم افترعن لفظ أعجب به الحاضرون، ثم نهض فمشى طريقه. وذكر أهل علم التعبير أن الحسن رأى كأنه لابس صوف وفي وسطه كستيج بضم الكاف وسكون السين المهملة وكسر المثناة من فوق وسكون المثناة من تحت وفي آخره جيم، وفي رجله قيد وعليه طيلسان عسلي، وهو قائم على مزبلة وفي يده طنبورة يضربه، وهو مستند إلى الكعبة، فقصت رؤياه على ابن سيرين، فقال: اما لبسه الصوف فزهده، وأما كستيجه فقوته في دين الله، وأما عسيلته فحبه للقرآن وتفسيره للناس، وأما قيده فثباته في ورعه، وأما قيامه على المزبلة
فدنياه جعله تحت قدميه، اما ضرب طنبوره فنشره حكمته بين الناس، وأما استناده إلى الكعبة فالتجاؤه إلى الله تعالى. وأرى أيضاً في المنام كأنه عريان جرد لا يستحي من الناس، وبيده سيف له بريق يضربه على أحجار وهو يشقها، فأرسل من يقص رؤياه على ابن سيرين، فقال أما تجرده فقلة ذنوبه واخلاصه بين الناس، وأما سيفه فلسانه وكلمته، وأما الأحجار فقلوب الناس، وأما شقها فدخول موعظته وحكمته في قلوبهم والحسن البصري منسوب إلى البصرة، والبصرة في الأصل بفتح الموحدة وكسرها وسكون الصاد المهملة حجارة رخوة ترجع إلى البياض، وبها سميت البصرة بصرة فإذا أسقطت الهاء قيل بصر بالكسر، وإنما قالوا بالنسب بصري كذلك قاله ابن قتيبة وغيره. والبصرتان: البصرة والكوفة، والكوفة قديمة جاهلية والبصرة حادثة إسلامية بناها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في سنة أربع عشرة من الهجرة على يد عتبه بن غزوان. وفيها توفي يوم الجمعة في شوال شيخ البصرة مع الحسن في أوانه وإمام المعبرين في زمانه أحد الجلة الورعين محمد بن سيربن، كان إماماً يقتدى به، سمع من أبي هريرة وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعمران بن حصين وأنس بن مالك رضي الله تعالى عنهم. وروى عنه جماعة من الأئمة، منهم قتادة وخالد الحذاء وأيوب السختياني وغيرهم من الأئمة، قال أيوب: اريد على القضاء، ففر إلى الشام وإلى اليمامة. وقال بعض السلف: ما رأيت أفقه في ورعه من محمد بن سيرين، وقال هشام بن حسان: حدثني أصدق من رأيت من البشر، او قال من العالمين محمد بن سيرين وقال ابن عون: لم أر مثل محمد بن سيرين. وكان الشعبي يقول عليكم بذاك الأصم، يعني ابن سيرين، فإنه كان في إذنه صمم، كان أبوه عبد أنس بن مالك رضي الله عنه، كاتبه على أربعين ألف درهم وقيل عشرين ألفاً فأدى ما كوتب عليه، وكانت أمه مولاة لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، طيبها ثلاث من أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودعون لها، وحضر أملاكها ثمانية عشر بدرياً فيهم أبي بن كعب، وكان ولادته لسنتين بقيتا من خلافة عثمان رضي الله عنه، وتوفي بعد الحسن بمائة يوم، وكان قد حبس بدين كان عليه، ذكر المعبرون أنه جاءه رجل يقال رأيت على ساقي رجل شعراً كثيراً فقال: يركبه دين ويموت في السجن، فقال له الرجل: لك رأيت هذه الرؤيا، فاسترجع. قيل: ومات في السجن وعليه أربعون ألف درهم قضى عنه ذلك بعض الصالحين، وقيل كان عليه ثلاثون ألف درهم فقضاها ولده عبد الله، فما مات عبد الله حتى قوم ماله ثلاث مائة ألف درهم، وولد لابن سيرين ثلاثون ولداً من امرأة واحدة عربية، ولم يبق منهم إلا عبد الله. وحكي إن امرأة جاءت إلى ابن سيرين وهو يتغدى، فقالت: يا أبا بكر رأيت رؤيا، فقال لها: تقصين أو تتركين حتى آكل؟ فقالت: بلى أتركك، فلما فرغ، قال لها: قصي رؤياك. فقالت: رأيت القمر قد دخل في الثريا، فناداني مناد أن أمضي إلى ابن سيرين، فقصى عليه هذا، قال: فقبض ابن سيرين يده، وقال: ويلك كيف رأيت؟ فأعادت عليه، فاصفر وجهه، وقام وهو آخذ ببطنه، فقالت له أخته: ما لك؟ قال: قد زعمت هذه المرأة أني أموت إلى سبعة أيام، قال فعدوا من ذلك اليوم سبعة أيام فدفن في اليوم السابع. وحكي أنه جاء رجل فقال له: اني رأيت طائراً سميناً، ما أعرف ما هو، وقد تدلى من السماء، فوقع على شجرة، وجعل يلتقط الزهر، ثم طار، فتغير وجه ابن سيرين، وقال: هذا، اموت العلماء، فمات في ذلك العام الحسن البصري ومحمد بن سيرين رحمة الله علبهما. اه جعله تحت قدميه، اما ضرب طنبوره فنشره حكمته بين الناس، وأما استناده إلى الكعبة فالتجاؤه إلى الله تعالى. وأرى أيضاً في المنام كأنه عريان جرد لا يستحي من الناس، وبيده سيف له بريق يضربه على أحجار وهو يشقها، فأرسل من يقص رؤياه على ابن سيرين، فقال أما تجرده فقلة ذنوبه واخلاصه بين الناس، وأما سيفه فلسانه وكلمته، وأما الأحجار فقلوب الناس، وأما شقها فدخول موعظته وحكمته في قلوبهم والحسن البصري منسوب إلى البصرة، والبصرة في الأصل بفتح الموحدة وكسرها وسكون الصاد المهملة حجارة رخوة ترجع إلى البياض، وبها سميت البصرة بصرة فإذا أسقطت الهاء قيل بصر بالكسر، وإنما قالوا بالنسب بصري كذلك قاله ابن قتيبة وغيره. والبصرتان: البصرة والكوفة، والكوفة قديمة جاهلية والبصرة حادثة إسلامية بناها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في سنة أربع عشرة من الهجرة على يد عتبه بن غزوان. وفيها توفي يوم الجمعة في شوال شيخ البصرة مع الحسن في أوانه وإمام المعبرين في زمانه أحد الجلة الورعين محمد بن سيربن، كان إماماً يقتدى به، سمع من أبي هريرة وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعمران بن حصين وأنس بن مالك رضي الله تعالى عنهم.(1/183)
وروى عنه جماعة من الأئمة، منهم قتادة وخالد الحذاء وأيوب السختياني وغيرهم من الأئمة، قال أيوب: اريد على القضاء، ففر إلى الشام وإلى اليمامة. وقال بعض السلف: ما رأيت أفقه في ورعه من محمد بن سيرين، وقال هشام بن حسان: حدثني أصدق من رأيت من البشر، او قال من العالمين محمد بن سيرين وقال ابن عون: لم أر مثل محمد بن سيرين. وكان الشعبي يقول عليكم بذاك الأصم، يعني ابن سيرين، فإنه كان في إذنه صمم، كان أبوه عبد أنس بن مالك رضي الله عنه، كاتبه على أربعين ألف درهم وقيل عشرين ألفاً فأدى ما كوتب عليه، وكانت أمه مولاة لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، طيبها ثلاث من أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودعون لها، وحضر أملاكها ثمانية عشر بدرياً فيهم أبي بن كعب، وكان ولادته لسنتين بقيتا من خلافة عثمان رضي الله عنه، وتوفي بعد الحسن بمائة يوم، وكان قد حبس بدين كان عليه، ذكر المعبرون أنه جاءه رجل يقال رأيت على ساقي رجل شعراً كثيراً فقال: يركبه دين ويموت في السجن، فقال له الرجل: لك رأيت هذه الرؤيا، فاسترجع. قيل: ومات في السجن وعليه أربعون ألف درهم قضى عنه ذلك بعض الصالحين، وقيل كان عليه ثلاثون ألف درهم فقضاها ولده عبد الله، فما مات عبد الله حتى قوم ماله ثلاث مائة ألف درهم، وولد لابن سيرين ثلاثون ولداً من امرأة واحدة عربية، ولم يبق منهم إلا عبد الله. وحكي إن امرأة جاءت إلى ابن سيرين وهو يتغدى، فقالت: يا أبا بكر رأيت رؤيا، فقال لها: تقصين أو تتركين حتى آكل؟ فقالت: بلى أتركك، فلما فرغ، قال لها: قصي رؤياك. فقالت: رأيت القمر قد دخل في الثريا، فناداني مناد أن أمضي إلى ابن سيرين، فقصى عليه هذا، قال: فقبض ابن سيرين يده، وقال: ويلك كيف رأيت؟ فأعادت عليه، فاصفر وجهه، وقام وهو آخذ ببطنه، فقالت له أخته: ما لك؟ قال: قد زعمت هذه المرأة أني أموت إلى سبعة أيام، قال فعدوا من ذلك اليوم سبعة أيام فدفن في اليوم السابع. وحكي أنه جاء رجل فقال له: اني رأيت طائراً سميناً، ما أعرف ما هو، وقد تدلى من السماء، فوقع على شجرة، وجعل يلتقط الزهر، ثم طار، فتغير وجه ابن سيرين، وقال: هذا، اموت العلماء، فمات في ذلك العام الحسن البصري ومحمد بن سيرين رحمة الله علبهما.
وفيها توفيت فاطمة بنت الحسين بن علي رضي الله عنهم، التي أصدقها الديباج عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان ألف ألف درهم، قلت وقد تقدم أن أختها سكينة تزوجها(1/184)
مصعب بن الزبير هي وعائشة بنت طلحة، وأنه أصدق عائشة المذكورة مائة ألف دينار. وفيها توفي جرير والفرزدق الشاعران الشهيران، قال ابن خلكان: كان جرير من فحول شعراء الإسلام، وكانت بينه وبين الفرزدق مهاجاة، قال وهو أشعر من الفرزدق عند أكثرأهل العلم بهذا الشأن. وقال أجمعت العلماء أنه ليس في شعراء الإسلام أشعر من ثلاثة: جرير والفرزدق والأخطل. قال: ويقال: ان بيوت الشعر أربعة فخر ومديح وهجاء وتشبيب، وفي الأربعة فاق جرير غيره، في الفخر قوله:
إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت الناس كلهم غضابا
ويروى وجدت الناس. وفي المديح قوله:
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
وفي الهجاء قوله:
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا
وفي التشبيب قوله:
إن العيون التي في طرفها حور ... يقتلننا ثم لا يحيين قتلابا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك له ... وهن أضعف خلق الله أركانا
قلت قوله: قد أجمعت العلماء على أنه ليس في شعر الإسلام مثل ثلاثة جرير والفرزدق والأخطل، ليس بصحيح، بل الخلاف بينهم واقع، وقد رجح كثير من المتآخرين بل أكدرهم قول ثلاثة آخر على الثلاثة المذكورين، وهم أبو تمام والبحتري - والمتنبي -، ثم اختلفوا أيضاً اختلافاً كثيراً في الثلاث المتآخرين، ايهم أرجح؟ وفصل بعضهم في التفضيل بينهم في أشياء يطول ذكرها، وقد أوضحت ذلك في الشرح الموسوم بمنهل المفهوم المروي من صداء الجهل المذموم في شرح ألسنة العلوم، وسيأتي إن شاء الله تعالى في ترجمة المتنبي إيضاح ذلك مشبعاً موصولاً ومفرعاً. ومن أخبار جرير ما حكى صاحب الجليس والأنيس في كتابه أنه قيل لجرير: ما كان أبوك صائغاً؟ حيث يقول:
لو كنت أعلم أن آخرعهدهم ... يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل(1/185)
قال: كان يقلع عينيه، ولا يرى مظعن أحبابه. وذكر أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغانى في ترجمة جرير أنه قال مسعود بن بشر لابن مناذر بمكة: من أشعر الناس؟ قال: من إذا شبب لعب، وإذا طلب جد، فإذا لعب أطمعك لعبه، وإذا رميته أو قال رمته بعد عنك وإذا جد فيما قصدته آيسك من نفسه، قال: مثل من. قال: مثل جرير حيث قال:
إن الذين غد وابليلي غادروا ... وشدا بعينك ما يزال معينا
غيضن من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا
ثم قال حين جد شعراً:
إن الذي حرم المكارم تغلبا ... جعل النبوة والخلافة فينا
مضر أبي وأبو الملوك فهل لكم ... يا خزر تغلب من أب كأبينا
هذا ابن عمي في دمشق خليفة ... لو شئت ساقكم إلي قطينا
قال: فلما بلغ عبد الملك بن مروان قوله، قال: ما زادا ابن كذا وكذا على أن جعلني شرطياً له، اما أنه لو قال: لو شاء ساقكم إلي قطينا لسقتهم إليه كما قال. قلت وهنا الانكار الذي أنكره عليه عبد الملك ظاهر حتى لقد أدركه ولدي عبد الرحمن وهو صغير حين أمليته على الكاتب ووصلت إلى قوله لو شئت أنكره وقال لو شاء، ثم قال أرى أنه يحب أنه عنده عزيز يفعل له ما يشاء، فأعجبني ذلك من نباهته بارك الله تعالى فيه، ووفقنا جميعاً لما يرضيه. وأبيات جرير المذكورات في مهاجاة الشاعر المذكور المشهور المعروف بالأخطل التغلبي وقوله: جعل النبوة والخلافة فينا لأنه تميمي النسب وتميم ترجع إلى مضر بن نزار بن معد بن عدنان جد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقوله يا خزر تغلب خزر بضم الخاء المعجمة وسكون الزاي وبعدها راء هو جمع أخزر مثل أحمر وحمر والأخزر الذي في عينه ضيق وصغر، وهذا الوصف موجود في العجم أو في بعضهم كما هو معروف في الترك، وكأنه نسبه إلى غير العرب. قالوا: وهذا عند العرب من النقائص الشنيعة وقوله: هذا ابن عمي في دمشق يريد بذلك عبد الملك بن مروان والقطين بفتح القاف الخدم والاتباع.
ومن أخبار جرير أيضاً أنه دخل على عبد الملك بن مروان فأنشده قصيدة أولها:
أتصحو أم فؤادك غير صاح ... عشية هم صحبك بالرواح
تقول العاذلات علاك شيب ... لهذا الشيب يمنعني مزاحي(1/186)
تغرب أم حزرة ثم قالت ... رأيت الموردين ذوي اللقاح
ثقي بالله ليسى له شريك ... ومن عند الخليفة يا لنجاح
سأشكر إن رددت إلي رئيتي ... وأثبت القوادم من جناح
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
قال جرير: فلما انتهيت إلى هذا البيت كان عبد الملك متكئاً فاستوى جالساً، وقال من مدحنا منكم فليمدحنا بمثل هذا أو فليسكت، ثم التفت إلي وقال يا جرير أترى أم حزرة ترويها مائة ناقة من نعم بني كلب؟ فقلت يا أمير المؤمنين: ان لم تروها فلا أرواها الله. قال: فأمر بها لي كلها سود الحدق. قلت: يا أمير المؤمنين نحن مشايخ وليس بأحدنا فضل عن راحلته، والإبل أباق فلو أمرت لي بالرعاء، فأمر لي بثمانية، وكان بين يديه صحاف من الذهب وبيده قضيب، فقلت: يا أمير المؤمنين، والمحلب وأشرت إلى أحد الصحاف، فنبذها إلي بالقضيب، وقال: خذها لنفسك. قالوا ولما مات الفرزدق بكى. وقال أما والله إني لأعلم أني قليل البقاء بعده، ولقد كان نجمنا واحداً وكل واحد منا مشغول بصاحبه، وقال ما مات ضد أو صديق إلا وتبعه صاحبه، وكذلك كان، وتوفي في سنة عشر ومائة التي فيها مات الفرزدق، وكانت وفاته باليمامة ونيف في عمره على ثمانين سنة، وهو جرير بن عطية ويكنى أبا حزرة بفتح الحاء المهملة وسكون الزاي وفتح الراء وبعدها هاء. وعن أبي عمرو قال: حضرت الفرزدق وهو يجود بنفسه فما رأيت أحسن ثقة بالله منه. فلم أنشب أن قدم جرير من اليمامة فاجتمع إليه الناس فما أنشدهم ولا وجدوه كما عهدوه، فقلت له في ذلك، فقال: اطفأ موت الفرزرق والله جمرتي، وأسأل عبرتي، وقرب مني منيتي، ثم شخص إلى اليمامة فنعى لنا في شهر رمضان من تلك السنة، وقيل كان عمر بن عبد العزيز لا يأذن لأحد من الشعراء أن يدخلوا عليه إلا لجرير. وذكروا أنه أدينهم وأن أبا عمرو بن العلاء رأى في يده سبحة فقل له: ويحك يا جرير أليس هذا خير لك من المهاجاة؟ فقال: والله ما هجوت أحداً ابتداء. وأما الفرزدق فهو أبو الأخطل همام بن غالب من جلة قومه وسراتهم يرجع في نسبه إلى مجاشع بن دارم وأمه ليلى بنت حابس أخت الأقرع بن حابس. قيل له ولأبيه مناقب مشهورة ومحامد مأثورة. من ذلك أنه أصاب أهل الكوفة مجاعة وهو بها فخرج أكثر الناس إلى البوادي، وكان هو رئيس قومه، وكان آخر يقال له سحيم بن وثيل بعد المثلثة مثناة من تحت الرياحي بالياء المثناة من تحت من بعد الراء رئيس قومه أيضاً، فخرجوا إلى مكان على(1/187)
مسيرة يوم من الكوفة، فعقر غالب لأهله ناقة وصنع منها طعاماً، وأهوى إلى قوم من بني تميم لهم جلالة جفانا من ثريد، ووجه إلى سحيم جفنة، فكفأها، وضرب الذي أتاه بها، وقال: انا مفتقر إلى طعام غالب؟ اذا نحر ناقة نحرت أنا آخرى، فعقر ناقة لأهله. فلما كان من الغد عقر لهم غالب ناقتين، فعقر سحيم لأهله ناقتين، فلما كان اليوم الثالث عقر غالب ثلاثة، فعقر سحيم ثلاثاً، فلما كان اليوم الرابع عقر غالب مائة ناقة ولم يكن عند سحيم هذا القدر فلم يعقر شيئاً. وأسرها في نفسه. فلما انقضت المجاعة ودخل الناس الكوفة، قال بنو رياح لسحيم: جررت علينا عار الدهر هلا نحرت مثل ما نحروا كنا نعطيك مكان كل ناقة ناقتين، فاعتذر أن ابله كانت غائبة وعقر ثلاث مائة، وقال للناس: شأنكم ولا أكل كان ذلك على خلافة علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، فاستفتى في حل الأكل منها فقضى بحرمتها، وقال: هذي ذبحت لغير مأكلة، ولم يكن المقصود منها إلا المفآخرة والمباهاة، فألقيت لحومها على كناسة الكوفة فأكلتها الكلاب والعقبان والرخم. وهي قصة مشهورة عمل فيه الشعراء أشعاراً كثيرة من ذلك قول جرير يهجو الفرزدق في قصيدة منها مذا البيت:
تعدون عقر الذيب أفضل مجدكم ... بني ضعطر هلا الكمى المقنعا
يقول تفتخرون بالكرم هلا افتخرتم بالشجاعة؟ وبينهما من المهاجاة والتجاوب ما شاع في المشرق والمغرب. وينسب إلى الفرزدق مكرمة يرتجي له بها الرحمة في دار الآخرة؛ وهي أنه لما حج هشام بن عبد الملك في أيام أبيه طاف وجهد أن يصل إلى الحجر الأسود ليستلمه، فلم يقدر عليه لكثرة الزحام، فنصب له منبر، فجلس عليه ينظر إلى الناس ومعه جماعة من أعيان أهل الشام، فبينهما هو كذلك إذا أقبل زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم أجمعين وكان من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم ريحاً، قلت بل أطيبهم وأشرفهم ذاتاً وطبعاً وأصلاً وفرعاً، وطاف بالبيت، فلما انتهى إلى الحجر تنحى له الناس حتى استلم، فقال رجل من أهل الشام: من هذا الذي هابه الناس هذه الهيبة؟ فقال هشام: لا أعرفه مخافة أن يرغب فيه أهل الشام وكان الفرزدق حاضراً فقال: انا أعرفه فقال الشامي من هذا يا أبا فراس؟ فقال:
هذا الذي يعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا النقي التقي الطاهر العلم
إذا رأته قريش قال قائلها ... إلى مكارم هذا ينتهي الكرم(1/188)
ينمي إلى ذروة العز الذي قصرت ... عن نيلها عرب الإسلام والعجم
يكاد يمسكه عرفان راحته ... عند الحطيم إذا ما جاء يستلم
في كفة خيزران ريحه عبق ... من كف أروع في عرنينه شمم
يغضي حياء ويغضي من مهابته ... فما يكلم إلا حين يبتسم
يبين نور الهدى عن بدر غرته ... كالشمس ينجاب عن إشراقها القتم
منشقة عن رسول الله نبعته ... طابت عناصره والخيم والشيم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله ... بجده أنبياء الله قد ختموا
الله شرفه قد ما وعظمه ... جرى بذاك له في لوحه القلم
فليس قولك من هذا بضايره ... العرب تعرف من أنكرت والعجم
كلتا يديه غياث عم نفعهما ... تستوكفان ولا يعروهما عدم
سهل الخليقة لا تخشى بوادره ... يزينه اثنان حسن الخلق والشيم
حمال أثقال أقوام إذا قد حوا ... حلو الشمائل يحلو عنده نعم
لا يخلف الوعد ميمون نقيبته ... رحب الفناء أريب حين يعترم
عم البرية بالإحسان فانقشعت ... عنه العناية والإملاق والعدم
من معشر حبهم دين وبغضهم ... كفر وقربهم منجأ ومعتصم
إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم ... أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم
لا يستطيع جواد يعد غايتهم ... ولا يداينهم قوم وإن كرموا
هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت ... والأسد أسد الشرى الباس محتدم
مقدم بعد ذكر الله ذكرهم ... في كل بدء مختوم به الكلم
يأبى لهم أن ينحل الذم ساحتهم ... خيم كريم وأيد بالندى هضم
من يعرف الله يعرف أولية ذا ... والدين من بيت هذا ناله الأمم
ما قال لاقط إلا في تشهده ... لولا التشهد كانت لاؤه نعم
فلما سمع هشام هذه القصيدة غضب وحبس الفرزدق، فأنفذ له زين العابدين اثني عشر ألف درهم فردها، وقال: ما مدحته إلا لله تعالى لا للعطاء، فقال زين العابدين: " إنا أهل البيت إذا وهبنا شيئاً لا نستعيده " فقبلها الفرزدق. وقوله في الأبيات ميمونة النقيبة أي مظفر بالمطلوب. قالوا: وصعد الوليد بن عبد الملك فسمع صوت ناقوس، فقال: ما هذا؟ فقيل: البيعة، فأمر بهدمها وتولى نقض ذلك بيده، فتتابع الناس يهدمون، فكتب إليه الأخرم ملك الروم: ان هذه البيعة قد أقرها من كان قبلك، فإن يكونوا أصابوا فقد أخطأت، وإن تكن أصبت فقد أخطأوا، فقال: من يجيبه؟ فقال الفرزدق: يكتب إليه " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا(1/189)
آتينا حكماً وعلماً " - الأنبياء: 78و79 -. قلت وحكي أنه سأل بعض أهل العلم عن السبايا المزوجات من الكفار هل يحل لمن سباها وطيبها؟ فأبطأ المسؤول في الجواب فأجاب الفرزدق بقوله:
وذات خليل أنكحتها رماحنا ... حلالاً لمن يبني بها لم يطلق
وأخبار الفرزدق كثيرة ذات اشتهار، والأولى عند خوف الإملال الاختصار وتوفي بالبصرة قبل جرير بأربعين وقيل ثمانين يوماً، قال قتيبة: وقد قارب المائة. وقال المبرد: التقى الحسن البصري والفرزدق في جنازة، فقال الفرزدق للحسن أتدري ما يقول الناس يا أبا سعيد؟ يقولون اجتمع في هذه الجنازة خير الناس وشر الناس، فقال الحسن: كلا لست بخيرهم ولست بشرهم، ولكن ما أعددت لهذا اليوم؟ قال شهادة أن لا إله إلا الله مذ ستين سنة. وقيل إن الفرزدق لقي علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، والله أعلم بحقائق الأمور أوائلها وعواقبها وفي السنة المذكورة توفي سليم بن عامر الكلاعي الحمصي، وقد أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، روى عن أبي الدرداء وغيره، وتوفي فيها عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أخو الفقيه عبد الله، امام زاهد قانت واعظ كثير العلم، لقي ابن عباس والكبار.
سنة إحدى عشرة ومائة
فيها توفي عطية بن سعد العوفي الكوفي، روى عن أبي هريرة وطائفة، وضربه الحجاج أربع مائة سوط على أن يشتم علياً رضي الله تعالى عنه فلم يشتم. وتوفي القاسم بن مخيمرة الهمداني الكوفي، روى عن أبي سعيد وعلقمة، وكان عالماً نبيلاً زاهداً نجيباً.
سنة اثنتي عشرة ومائة
فيها توفي أبو المقدام رجاء بن حيوة الكندي الشامي الفقيه، كان شريفاً نبيلاً كامل السؤدد، قال مطر الوراق: ما رأيت شامياً أفقه منه: وقال مكحول: هو سيد أهل الشام. وقال مسلمة: الأمير في كندة رجاء بن حيوة وعبادة بن نسي وعدي بن عدي، ان الله لينزل بهم الغيث، وينصر بهم على الأعداء انتهى وكان رجاء بن حيوة يجالس عمر بن عبد العزيز، وكان يوماً عند عبد الملك بن مروان، وقد ذكر عنده شخص بسوء، فقال عبد الملك: والله(1/190)
إن أمكنني الله منه لأفعلن به ولأصنعن، فلما أمكنه الله منه هم بإيقاع الفعل به، فقام إليه رجاء بن حيوة المذكور، وقال: يا أمير المؤمنين، قد صنع الله لك ما أحببت، فاصنع ما يحب الله من العفو، فعفا عنه وأحسن إليه، وقد تقدم أنه هو الذي أشار على سليمان بن عبد الملك في مرض موته أن يجعل ولي العهد بعده عمر بن عبد العزيز، ففعل، وكتب ذلك في كتاب ثم ختمه، وجمع الناس وأمرهم أن يبايعوا المذكور في باطن الكتاب فبايعوا وهم لا يدرون من فيه، ثم كذلك لما مات سليمان جمع الناس قبل أن يعلموا بموته فقال لهم أمير المؤمنين يأمركم أن تبايعوا لمن في هذا الكتاب فبايعوا، ثم قال لهم أعظم الله أجركم في أمير المؤمنين، ثم فتحوا الكتاب فعرفوا أن المبايع فيه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، كل ذلك بإشارة رجاء بن حيوة ونصيحته وتوفيقه للصواب وهدايته، رحمة الله تعالى. وفيها توفي القاسم بن عبد الرحمن الدمشقي الفقيه. قال أبو إسحاق الحواني: كان خياراً فاضلاً، ادرك أربعين من المهاجرين والأنصار. وفيها توفي طلحة بن مصرف الهمداني الكوفي، وكان يسمى سيد القراء. وقال فيها أبو معشر: ما يرى بعده مثله.
سنة ثلاث عشرة ومائة
فيها توفي فقيه الشام أبو عبد الله مكحول مولى بني هذيل، سمع من طائفة من الصحابة، وأرسل عن طائفة منهم، قال أبو حاتم: ما أعلم بالشام أفقه من مكحول. وقال سعيد بن عبد العزيز: اعطوا مكحولاً عشرة آلاف دينار، وكان يعطي الرجل خمسين وقال الزهري: العلماء أربعة سعيد بن المسيب بالمدينة، والشعبي بالكوفة، والحسن بالبصرة، ومكحول بالشام. ولم يكن في زمنه أبصر منه بالفتيا، وكان لا يفتي حتى يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، هذا رأي والرأي يخطىء ويصيب.
وفيها وقيل في العام القابل توفي أبو إياس معاوية بن قرة المزني المصري، وفيها توفي في شهر بن حوشب.
سنة أربع عشرة ومائة
فيها توفي فقيه الحجاز ذو الأوصاف الملاح الإمام أبو محمد عطاء بن أبي رباح(1/191)
المكي مولى قريش، سمع من عائشة وأبي هريره وابن عباس وجابر بن عبد الله وابن الزبير وخلق كثير من الصحابة رضي الله تعالى عنهم. وروى عنه عمرو بن دينار والزهري وقتادة ومالك بن دينار والأعمش والأوزاعي وخلق كثير، وإليه والي مجاهد انتهت فتوى مكة في زمانهما. وقال إبراهيم بن كيسان: وكان في زمان بني أمية يأمرون في الحاج صائحاً يصيح: لا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح. وقال أبو حنيفة رحمه الله: ما رأيت أفقه منه. وقال ابن جريج: كان المسجد فراش عطاء عشرين سنة، وكان من أحسن الناس صلاة. وقال الأوزاعي: مات عطاء يوم مات وهو أرضى أهل الأرض عند الناس، وقال إسماعيل بن أمية: كان عطاء يطيل الصمت فإذا تكلم يخيل إلينا أنه يؤيد، وقال غيره: كان لا يفتر من الذكر. قلت وأما ما نقل في بعض كتب الفقه أنه كان يرى إباحة وطي الجواري بإذن أربابهن، وما نقل بعضهم أنه كان يبعث جواريه إلى ضيفانه، فقد قال بعض أهل العلم الذي أعتقد أن هذا بعيد، فإنه لو رأى الحل كانت المروة والغيرة تأبى ذلك، فكيف يظن هذا بمثل ذلك السيد الإمام والله. سبحانه العلام. قلت وينبغي أن يحمل ذلك على بعث الجواري لسماع القول منهن على تقدير صحة ذلك عنه، فنحو من هذا ما نقل المشايخ في كتب التصوف في باب السماع أنه كان يأمر جواريه يسمعن أصحابه عند اجتماعهم، وفي ذا ما فيه أيضاً، فإن صح فينبغي أن يحمل على ما إذا لم يخش فتنة بحضورهن وسماع أصواتهن، وإذا قلنا إن صوت المرأة ليس بعورة. وفي السنة المذكورة وقيل في سنة تسع عشرة وقيل في ثماني عشرة وهو الذي إليه مال
جماعة من المؤرخين - توفي أبو محمد علي بن عبد الله بن عباس جد السفاح والمنصور. كان سيداً شريفاً بليغاً، وكان أصغر أولاد أبيه وأجمل قرشي على وجه الأرض وأوسمه وأكثره صلاة، وكان يدعى السجاد لذلك له خمس مائة أصل، وكان يصلي كل يوم إلى كل أصل ركعتين، فيجتمع من الجميع ألف ركعة.(1/192)
وروي أنه لما ولد أتى، علي بن أبي طالب إلى أبيه رضي الله عنهما فهنأه وقال شكرت الواهب وبورك لك في الموهوب ما سميته؟ قال: او يجوز لي أن أسميه حتى تسميه؟ فأمر به وأخرج إليه فحنكه ودعا له، ثم رده إليه، وقال خذ إليك أبا الأملاك، ويروى أبا الخلائف، قد سميته علياً، وكنيته أبا الحسن، فلما كان زمن ولاية معاوية قال: ليس لكم اسمه وكنيته، وقد كنيته أبا محمد فجرى عليه، هكذا قال المبرد في الكامل. وقال الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في حلية الأولياء لما قدم على عبد الملك بن مروان قال له: غير اسمك وكنيتك فلا صبر لي عليهما، فقال أما الاسم فلا وأما الكنية فأكنى بأبي محمد، فغير كنيته انتهى. قيل وإنما قال عبد الملك هذه المقالة لبغضه في علي بن أبي طالب رضي الله عنه. إذ اسمه وكنيته كذلك. وذكر الطبري في تاريخه أنه دخل على عبد الملك بن مروان فأكرمه وأجلسه على سريره، وسأله عن كنيته فأخبره، فقال لا يجمع في عسكري هذا الاسم وهذه الكنية لأحد، وسأله هل له من ولد فأخبره بولده محمد، وكناه أبا محمد. وقال الواقدي ولد أبو محمد يعني علي بن عبد الله المذكور في الليلة التي قتل فيها علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والله أعلم بالصواب. قلت هذا يناقض ما تقدم من أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه حنكه ودعا له، ولا يصح أن يقال فعل ذلك، ثم قتل من ليلته، اذ ورد أنه حنكه بعد صلاة الظهر. وقال المبرد: ضرب علي المذكور بالسياط مرتين كلتاهما ضربه الوليد بن عبد الملك. إحداهما في تزويجه لبابة بنت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وكانت عند عبد الملك، فعض تفاحة ثم رمى بها إليها وكان أبخر، فدعت بسكين فقال: ما تصنعين بها؟ فقالت أميط عنها الأذى، فطلقها، وتزوجها علي بن عبد الله المذكور، فضربه الوليد، وقال: انما يتزوج بأمهات الخلفاء ليضع منهم، ان مروان بن الحكم إنما تزوج بأم خالد بن يزيد بن معاوية ليضع منه، فقال علي بن عبد الله: انما أرادت الخروج من هذا البلد وأنا ابن عمها فتزوجتها لأكون لها محرماً. وأما ضربه إياه في المرة الثانية: فقد حدث محمد بن شجاع بإسناد متصل. قال: رأيت علي بن عبد الله مضروباً بالسوط، يدار به على بعير، ووجهه مما يلي ذنب البعير، وصائح يصيح هذا علي بن عبد الله الكذاب، فأتيته. وقلت: ما هذا الذي نسبوا إليك من الكذب؟ قال: بلغهم أني قلت إن هذا الأمر سيكون في ولدي، والله ليكونن فيهم حتى يملكهم عبيدهم الصغار العيون العراض الوجوه، واختلفوا في الذي تولى ضرب علي، وذكر بعضهم أنه مات مقتولاً.(1/193)
وروي أن علي بن عبد الله دخل على هشام بن عبد الملك ومعه ابنا ابنه الخليفتان السفاح والمنصور، فأوسع له على سريره، وسأله عن حاجته، فقال: ثلاثون ألف درهم علي دين، فأمر بقضائها. قال ويستوصي بابني هذين خيراً، ففعل فشكره، وقال وصلتك رحم فلما ولي قال هشام لأصحابه إن هذا الشيخ قد اختل وخلط فصار يقول إن هذا الأمر سينقل إلى ولده، فسمعه علي وقال: والله ليكونن ذلك وليملكن هذان وكان عظيم المحل عند أهل المحجاز، حتى روي أنه كان إذا قدم مكة حاجاً أو معتمراً عطلت قريش مجالسها في المسجد الحرام، وهجرت مواضع حلقها، ولزمت مجلسه إعظاماً وإجلالاً وتبجيلاً، فإن قعد قعدوا وإن نهض نهضوا وإن مشى مشوا جميعاً حوله حتى يخرج من الحرم، وكان طويلاً جسيماً ذا لحية طويلة وقدم عظيم جداً لا يوجد له نعل ولا خف حتى يستعمله مفرطاً في طوله، اذا طاف كأنما الناس حوله مشاة وهو راكب، وكان مع هذا الطول إلى منكب أبيه عبد الله، وكان عبد الله إلى منكب أبيه العباس، وكان العباس إلى منكب أبيه عبد المطلب ذكر هذا كله المبرد. وذكر أيضاً أن العباس كان عظيم الصوت، جاءته مرة غارة وقت الصبح، فصاح بأعلى صوته. واصباحاه فلم تسمعه حامل في الحي إلا وضعت. وذكر الحازمي ما تقدم وأن العباس كان يقف على سلع وهو جبل عند المدينة فينادي غلمانه وهم بالغابة فيسمعهم، وذلك من آخر الليل وبين الغابة وسلع ثمانية أميال. وفيها توفي علي بن عبد الله رحمه الله ابن ثمانين سنة، وكانت ولادته ليلة الجمعة سابع عشر رمضان سنة
أربعين، وقيل غير ذلك. وذكر الطبري في تاريخه أن الوليد بن عبد الملك أخرج علي بن عبد الله من دمشق، وأسكنه الميمة ولم يزل ولده بها إلى أن زالت دولة بني أمية، وولد له بها نيف وعشرون ولداً ذكراً. وفيها توفي أبو جعفر الباقر محمد بن زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم، احد الأئمة الاثني عشر في اعتقاد الإمامية، وهو والد جعفر الصادق، لقب بالباقر لأنه بقر العلم أي شقه وتوسع فيه، ومنه سمي الأسد باقر البقرة بطن فريسة وفيه يقول الشاعر: بعين، وقيل غير ذلك. وذكر الطبري في تاريخه أن الوليد بن عبد الملك أخرج علي بن عبد الله من دمشق، وأسكنه الميمة ولم يزل ولده بها إلى أن زالت دولة بني أمية، وولد له بها نيف وعشرون ولداً ذكراً. وفيها توفي أبو جعفر الباقر محمد بن زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم، احد الأئمة الاثني عشر في اعتقاد الإمامية، وهو والد جعفر الصادق، لقب بالباقر لأنه بقر العلم أي شقه وتوسع فيه، ومنه سمي الأسد باقر البقرة بطن فريسة وفيه يقول الشاعر:(1/194)
يا باقر العلم لأهل التقى ... وخير من ركب على الأجبل
وقال عبد الله بن عطاء ما رأيت العلماء عند أحد أصغر علماً منهم عند محمد بن علي ومن كلامه رضي الله عنه: من دخل قلبه صافي خالص دين الله شغله عما سواه، وما عسى أن تكولن الدنيا؟ هل هو إلا مركب ركبته، او ثوب لبسته، او امرأة أصبتها، او أكلة أكلتها. وقال إن أهل التقوى أيسر أهل الدنيا مؤنة وأكدرهم معونة، ان نسيت ذكروك، وإن ذكرت أعانوك، قوالين بحق الله تعالى قوامين بأمر الله عز وجل، فأنزل الدنيا كمنزل نزلت به وارتحلت عنه، او كما أصبته في منامك فاستيقظت وليس معك منه شيء، وقال الغناء والعز يجولان في قلب المؤمن فإذا وصل إلى مكان فيه التوكل استوطنا. قلت يعني وإن لم يجدا فيه توكلا رحلاً عنه، وفي معنى ذلك قلت:
يجول الغنا والعز في قلب مؤمن ... فإن الذيا جوف القلوب توكلا
أقاما فأمسى العبد بالله ذاعناً ... عزيز وإن لم يلقياه ترحلا
وقال رضي الله عنه: كان لي أخ في عيني عظيماً، وكان الذي عظمه في عيني صغر الدنيا في عينيه، عاش رضي الله تعالى عنه ستاً وخمسين سنة، ودفن في البقيع مع أبيه وعم أبيه الحسن بن علي والعباس رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
وفي السنة المذكورة توفي أبو عبد الله وهب بن منبه اليماني الصنعاني الإمام العلامة، وله ثمانون سنة. روي عن ابن عباس، وقيل عن أبي هريرة وغيره من الصحابة، وولي القضاء لعمر بن عبد العزيز، وكان شديد الاعتناء بكتب الأولين وأخبار الأمم وقصص الماضيين بحيث كان يشبه بكعب الأحبار في زمانه. وحكى عنه ابن قتيبة قال: قرأت من كتب الله اثنتين وسبعين كتاباً وله تصنيف ترجمة بذكر الملوك المتوجه من حمير وأخبارهم وقصصهم وقبورهم وأشعارهم في مجلد واحد وهو من الكتب المفيدة. وكان له إخوة منهم همام بن منبه كان أكبر من وهب. وروى عن أبي هريرة رضي الله
تعالى عنه، وهو معدود من جملة الأبناء، ومعنى قولهم فلان من جملة الأبناء: ان أبا مرة سيف بن ذي يزن الحميري صاحب اليمن لما استولت الحبشة على ملكه توجه إلى كسرى أنوشروان ملك الفرس يستنجده عليهم، وقصته في ذلك مشهورة وخبره طويل وخلاصة الأمر أنه سير معه سبعة آلاف وخمس مائة فارس من الفرس وجعل مقدمهم وهوز، هكذا قاله ابن قتيبة. وقال محمد بن إسحاق: لم يسر معه سوى ثمان مائة فارس فغرق منهم في(1/195)
البحر مائتان وسلم ست مائة. قال أبو القاسم السهيلي: والقول الأول أشبه بالصواب إذ يبعد مقاومة الحبشة بست مائة فارس، فلما وصل الجيش إلى اليمن جرت الوقعة بينهم وبين الحبشة فاستظهرت الفرس عليهم وأخرجوهم من البلاد، وملك سيف بن ذي يزن ووهوز وأقاموا أربع سنين، وكان سيف بن ذي يزن قد اتخذ من أولئك الحبشة خدماً، فخلوا به يوماً وهو في مصيد له فرموه بحرابهم فقتلوه، وهربوا في رؤوس الجبال، وطلبهم أصحابه فقتلوهم جميعاً، وانتشر الأمر باليمن، ولم يملكوا عليهم أحداً غير أن كل ناحية ملكوا عليهم رجلاً من حمير، فكانوا ملوك الطوائف حتى أتى الله بالإسلام، ويقال إنها بقيت في أيدي الفرس ونواب كسرى فيها، وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وباليمن من قواد ملكهم عاملان، احدهما فيروز الديلمي والآخر دادويه، فأسلما، وهما اللذان دخلا على الأسود العنسي مع قيس بن المكشوح لما دعى الأسود النبوة باليمن وقتلوه، والمقصود من هذا كله إن جيش الفرس لما استوطنوا اليمن تأهلوا ورزقوا الأولاد، فصار أولادهم وأولاد أولادهم يدعون الأبناء لأنهم من أبناء أولئك الفرس، وكان طاوس العالم المقدم ذكره في سنة ست ومائة منهم، وتوفي وهب المذكور بصنعاء اليمن وعمره تسعون سنة، رحمة الله عليه.
سنة خمس عشرة ومائة
فيها وقيل في التي قبلها توفي الفقيه أبو محمد الحكم بن عتيبة الكوفي مولى كندة، كان إذا قدم المدينة أخلوا سارية النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي إليها، قال الأوزاعي: قال لي عبدة بن أبي لبابة ألقيت الحكم؟ قلت: لا قال: فألقه فما بين لابتيها أفقه منه. وفيها توفي القاضي أبو سهل عبد الله بن بريدة الأسلمي، روى عن عائشة وطائفة، وفيها توفي الضحاك بن فيروز الديلمي من أبناء الفرس الذين سكنوا اليمن، صحب ابن الزبير وعمل له على بعض بلاد اليمن، وروى عن أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم.
سنة ست عشرة ومائة
فيها توفي عدي بن ثابت الأنصاري الكوفي وعمرو بن مرة المرادي، وكان حجة حافظاً. قال معمر: ما أدركت أحداً أفضل منه، وفيها توفي محارب بن دثار الدوسي قاضي الكوفة، سمع ابن عمر وجابر أو طائفة رضي الله عنهم.(1/196)
سنة سبع عشرة ومائة
فيها توفي أبو الجناب سعيد بن يسار المدني مولى ميمونة، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وعبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة التيمي المدني، ولى القضاء لابن الزبير، وكان مؤذناً في الحرم. وفيها توفي فقيه أهل دمشق عبد الله بن أبي زكريا الخزاعي، وكان عمر بن عبد العزيز يجلسه معه على السرير، وقال أبو مسهر: كان سيد أهل المسجد أو قال أهل دمشق قيل: بم سادهم؟ قال بحسن الخلق. وفيها وقيل في سنة ثمان عشرة توفي الحافظ أبو الخطاب قتادة بن دعامة الدوسي عالم أهل البصرة، قال أقمت عند سعيد بن المسيب ثمانية أيام، فقال في اليوم الثالث: ارتحل أعمى فقد أبرمتني. وقال قتادة: ما قلت لمحدث قط أعده على ما سمعت شيئاً إلا وعاه قلبي. وفيها توفي قاضي الجزيرة ميمون بن مهران، وكان من العلماء العاملين، روى عن عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما.
وفيها توفي فقيه المدينة أبو عبد الله نافع مولى عبد الله بن عمر، كان نبيلا من كبار التابعين، سمع مولاه وأبا سعيد الخمري. وروى عنه الزهري وأيوب السختياني ومالك بن أنس، وهو من المشهورين بالحديث، ومن الثقات الذين يؤخذ عنهم الضابطين الإثبات وكان قد بعثه عمر بن عبد العزيز إلى مصريعلمهم السنن، ومعظم حديث ابن عمر عليه دار، قال مالك: كنت إذا سمعت حديث نافع عن ابن عمر لا أبالي أن لا أسمعه من أحد، وأهل الحديث يقولون رواية الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر سلسلة الذهب بجلالة كل واحد من هؤلاء الرواة.
وفيها توفيت السيدة سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم، وقيل اسمها أمينة وقيل أميمة وهو الراجح، وسكينة لقب لها، وأمها الرباب ابنة امرئ(1/197)
القيس بن عدي، وكانت سكينة المذكورة من أجمل النساء وأظرفهن وأحسهن أخلاقا، تزوجها مصعب بن الزبير فهلك عنها ثم تزوجها عبد الله بن عثمان بن عفان ثم عبد الله بن حكيم بن حزام ثم تزوجها زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان، فأمره سليمان بن عبد الملك طلاقها ففعل، وقيل في ترتيب أزواجها غير هذا.
ولها نوادر وحكايات ظريفة: من ذلك أنها سمعت بعض أشعار عروة بن أذينة، وكان من اعيان العلماء وكبار الصالحين وله أشعار رائقة، فانكرت عليه أشياء بلطافة وظرافة، لا أطول الكتاب بذكرها وكان لعروة المذكور أخ اسمه بكر فرثاه عروة بقوله:
سرى همي وهم المرء يسري ... وغاب النجم إلا قيد فتر
أراقب في المجرة كل نجم ... تعرض أو على المجارة تجري
لهم ما أزال له قريناً ... كأن القلب أبطن حر جمر
على بكر أخي فارقت بكراً ... وأي العيش يصلح بعد بكر
فلما سمعت سكينة هذا الشعر قالت: ومن هو بكر هذا؟ فوصف لها، فقالت: اهو ذاك الأسيود الذي كان يمر بنا؟ قالوا: نعم قالت: لقد طاب بعده كل شيء حتى الخبز والزيت.
ويحكى أن بعض المغنين غنى بهذه الأبيات عند الوليدبن يزيد الأموي وهو في مجلس أنسه، فقال للمغني: من يقول هذا الشعر؟ قال: عروة بن أذينة، فقال الوليد: اي العيش يصلح بعد بكر؟ هذا العيش الذي نحن فيه. والله لقد تحجر واسما.
وكان عروة المذكور كثير القناعة وله في ذلك أشعار سائرة، وكان قد وفد من الحجاز على هشام بن عبد الملك بالشام في جماعة من الشعراء، فلما دخلوا عليه عرف عروة، فقال: الست القائل:
ولقد علمت وما الإسلاف من خلقي ... أن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى له فيمييني تطلبه ... ولوقعدت أتاني لايعنيني
وما أراك فعلت كما قلت، فإنك أتيت من الحجاز إلى الشام في طلب الرزق. فقال: لقد وعظت يا أمير المؤمنين فما بلغت في الوعظ، وأذكرت ما أنسانيه للدهر، وخرج من فوره إلى راحلته فركبها وتوجه راجعاً إلى الحجاز، فمكث هشام يومه غافلا عنه، فلما كان فى الليل استيقظ من منامه وذكره، وقال: هذا رجل من قريش قال حكمة، ووفد إلي فجبهته(1/198)
ورددته عن حاجته، وهو مع هذا شاعر لا اّمن لسانه، فلما أصبح سأل عنه، فأخبر بانصرافه. فقال: لا جرم ليعلم أن الرزق يأتيه ثم دعا بمولى له وأعطاه الذي دينار، وقال له: الحق بهذا عروة بن أذينة فأعطه إياها. قال: فلم أدركه إلا وقد دخل في بيته، فقرعت عليه الباب فخرج فأعطيته المال، فقال أبلغ أمير المؤمنين السلام وقل له: كيف رأيت قولي؟ سعيت فاكذبت ورجعت إلى بيتي فأتاني فيه الرزق، وهذه الحكاية وإن كانت دخيلة ليست مما نحن فيه لكن حديث عروة ساقها. ولبعض الشعراء وهو محمد بن ادريس الأندلسي في معنى هذين البيتين وأحسن فيه.
مثل الرزق الذي تطلبه ... مثل الظل الذي يمشي معك
أنت لاتدركه متبعاً ... فإذا وليت عنه تبعك
وتوفيت سكينة بالمدينة الشريفة رحمها الله تعالى. قلت: هكذا ذكر موتها بالمدينة في كل تاريخ، وقفت عليه خلاف ما يقوله العامة من أنها مدفونة خارج مكة في القبة التي في الزاهر في طريق العمرة. وفي السنة المذكورة توفي ذو الرمة أبو الحارث غيلان بن عقبة الشاعر المشهور أحد فحول الشعراء، ويقال إنه كان ينشد شعره في سوق الإبل، فجاء الفرزدق فوقف عليه وسمعه، فقال ذو الرمة: كيف ترى ما تسمع يا أبا فراس؟ فقال: ما أحسن ما تقول: قال: فما لي لا أذكر مع الفحول؟ قال قصرتك عن غايتهم بكاؤك في الدمن ووصفك للأباعر والعطن. وهو أحد عشاق العرب المشهورين بذلك ومعشوقته مية ابنة مقاتل بن طلبة بن قيس بن عاصم المنقري الذي قال فيه الشاعر يرثيه:
وما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما
والذي مدحه الأحنف بن قيس بالحلم كما تقدم، وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " هذا سيد أهل الوبر " لما قدم عليه في وفد بني تميم، وهو أول من وأد البنات غيرة وانفة، وكان ذو الرمة كثير التشبيب بمية المذكورة في شعره وإياها عني أبو تمام الطائي بقوله في قصيدة له:
ما ربع مية معمورا يطوف به ... غيلان أبهى ربى من ربعها الخرب
وقال ابن قتيبة في طبقات الشعراء: قال أبو ضرار الغنوي، رأيت مية وإذا معها بنون(1/199)
لها، فقلت: صفها لي، فقال: مستوية الوجه طويلة الخد شماء الأنف عليها وسم جمال. قلت: اكانت تنشدك شيئا مما قال فيها ذو الرمة؟ قال نعم. ومن شعره السائر:
إذا هبت الأرواح من نحو جانب ... فقد هاج في قلبي تشوق هبوبها
هوى تذرف العينان منه وإنما ... هوى كل نفس حيث حل حبيبها
وكان ذو الرمة يشبب أيضا بخرقاء، وهي من بني عامر بن صعصعة، وسبب تشبيبه بها أنه مر في سفر ببعض البوادي فإذا خرقاء خارجة من خباء، فنظر إليها فوقعت في قلبه، فخرق أدواته ودنا منها يستطعم كلامها، فقال: اني رجل على ظهر سفر وقد تخرقت أداوتي فأصلحها لي. فقالت: اني والله لا أحسن العمل، وأني لخرقاء، والخرقاء التي لا تعمل شغلا لكرامتها على أهلها، فشبب بها ذو الرمة وسماها خرقاء.
قلت الخرق في اللغة ضد الرفق، ومنه قول الإمام الشافعي في الطهارة بالماء قد يرفق بالقليل فيكفي ويخرق بالكثير لا يكفي، ومن شعره المشار به إلى خرقاء بطريق المبالغة المفرطة قوله:
وما شبنا خرقاء واهبة الكلا ... سقى بهما ساق ولم يتبلل
باضيع من عينيك للدمع كلما ... تذكرت ربعا أو توهمت منزل
اوقال أبو الفضل العتبي كنت أنزل على بعض الأعراب إذا حججت، فقال لي يوما هل لك أن أريك خرقاء صاحبة ذي الرمة؟ فقلت: ان فعلت فقد بررتني فتوجهنا جميعا نريدها، فعدل بي عن الطريق بقدر ميل، ثم أتينا أبيات شعر واستفتح بيتا ففتح له فخرجت علينا امرأة طويلة حسناء بها قوة، وسلمت وجلست تحدثنا ساعة، ثم قالت لي: هل حججت قط؟ قلت غير مرة فقالت أما سمعت قول ذي الرمة:
تمام الحج أن تقف المطايا ... على خرقاء كاشفة اللثام
أما علمت أني من مناسك الحج؟ مع كلام آخر حذفت ذكره. وإنما قيل لها ذو الرمة لقوله في الوتد أشعث باقي رمة التقليد والرمة بضم الراء الحبل وبكسرها العظم البالي. ومن قول ذي الرمة يمدح بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه مخاطبا ناقته:
إذا ابن أبي موسى بلالاً بلغته ... فقام بفأس بين وصليك حارز
وهذا المعنى أخذه من قول الشماخ في عرابة الأوسي يخاطب ناقته:(1/200)
إذا بلغتني وحملن رحلي ... عرابة فاشرقي بدم الوتين
وجاء بعدهما أبو نواس فأوضح هذا المعنى بقوله في الأمير محمد بن هارون الرشيد:
وإذا المطي بنا بلغن محمدا ... فظهورهن على الرجال حرام
فأحسن في هذا المعنى لأنهما أوعدا ناقتيهما بالذبح، وأبو نواس وعدهما بتحريم الركوب على ظهرها وأراحها من الكد في الأسفار، وقابلها بالاحسان لكونها بلغته إلى احسان استغنى به عن الأسفار، وإن كان هذا الاستغناء مفهوماً من قولهما قبله لكن هما جازاها بالذبح والانعطاب، وهو بالاستراحة من الأسفار وما فيها من العذاب.
سنة ثمان عشرة ومائة
فيها توفي علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب جد الخلفاء العباسية بأرض البلقاء. ولد ليلة قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان من أجمل قريش وأجلها، قال الأوزاعي وغيره: كان يسجد كل يوم ألف سجدة ولذلك يقال له السجاد قلت وقد تقدم هذا مع غيره. وفيها توفي عمرو بن شعيب، وأبو عشانة بالعين المهملة والشين المعجمة والنون.
سنة تسع عشرة ومائة
فيها توفي إياس بن سلمة بن الأكوع، وحبيب بن أبي ثابت فقيه الكوفة ومفتيها، وقيس بن سعد المكي صاحب عطاء وكان المفتي بمكة في وقته.
سنة عشرين ومائة
فيها توفي أنس بن سيرين، وفقيه الكوفة أبو إسماعيل حماد بن أبي سليمان صاحب إبراهيم النخعي، روى عن أنس بن مالك وسعيد بن المسيب وطائفة، وكان سريا محتشما يفطر كل ليلة في رمضان خمس مائة إنسان، وقال شعبة: كان صدوق اللسان، وعاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان الأنصاري شيخ محمد بن إسحاق، وكان اخبارياً علامة بالمغازي، وأبو معبد عبد الله بن كثير الكناني مولاهم الفارسي الأصل قارىء أهل مكة وقاضي الجماعة فيها، وهو من الطبقة الثانية من التابعين، قرأ على عبد الله بن السائب المخزومي وعلى مجاهد، وحدث عن أبي الزبير وغيره.(1/201)
وفيها توفي علقمة بن مرثد الحضرمي الكوفي، كان نبيلاً في الحديث، وقيس بن مسلم، ومحمد بن إبراهيم التيمي المدني الفقيه.
سنة احدى وعشرين ومائة
فيها توفي مسلمة بن عبد الملك بن مروان، وكان موصوفاً بالشجاعة والاقدام والرأي والدهاء، قتل زيد بن علي بن الحسين بن علي بالكوفة، وكان قد بايعه خلق كثير، وحارب متولي العراق يومئذ الأمير يوسف بن عمر الثقفي فقتله يوسف المذكور وصلبه، قلت وقد يتوهم بعض الناس أن يوسف بن عمر الثقفي هذا أبو الحجاج، وليس كذلك بل الحجاج بن يوسف عم أبيه، فإنه يوسف بن عمر بن محمد بن يوسف، هكذا ذكر بعض المؤرخين نسبه، ولما خرج زيد أتته طائفة كثيرة وقالوا له تبرأ من أبي بكر وعمر حتى نبايعك، فقال: بل أتبرأ ممن يتبرأ منهما. فقالوا: اذن نرفضك فمن ذلك الوقت سموا الرافضة وسميت شيعة زيد زيدية.
سنة اثنتين وعشرين ومائة
فيها توفي قاضي البصرة إياس بن معاوية بن قرة المزني اللسن البليغ والألمعي المطيب والمعدوم مثلاً في الذكاء والفطنة ورأساً لأهل البيان والفصاحة، كان صادق الظن لطيفاً في الأمور مشهوراً بفرط الذكاء، وإياه عنى الحريري بقوله في المقامة السابعة: فإذا ألمعيتي ألمعية ابن عباس، وفراستي فراسة إياس أحد من يضرب به المثل في الذكاء، وهو المشار إليه في قول أبي تمام:
إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس
ولي قضاء البصرة في خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، وقيل لوالده معاوية بن قرة: كيف ابنك لك؟ قال: نعم. الابن كفاني أمر دنياي، وفرغني لآخرتي، وكان إياس المذكور أحد العقلاء الفضلاء الدهاة. ويحكى من فطنته أنه كان في موضع، فحدث فيه ما يقتضي الخوف، وهناك ثلاث نسوة لا يعرفهن، فقال: ينبغي أن يكون هذه حاملاً وهذه مرضعاً وهذه عذراء، فكشف عن ذلك فكان كما تفرس، فقيل له من أين لك هذا؟ فقال: عند الخوف لا يضع الإنسان يده إلا على أعز ما له ويخاف عليه، فرأيت الحامل وضعت يدها على جوفها فاستدللت بذلك على(1/202)
حملها، والمرضع وضعت يديها على ثديها فعلمت أنها مرضع، والعذراء وضعت يدها بين رجليها أوكما قال فعلمت أنها بكر. وسمع يهودياً يقول: ما أحمق المسلمين يزعمون أن أهل الجنة يأكلون ولا يحدثون، فقال له: افكلما تأكله تحدثه؟ قال: لا لأن الله تعالى يجعله غذاء، قال: فلم تنكر أن تعالى يجعل كل ما يأكله أهل الجنة غذاء. ونظر يوماً إلى آجرة بالرحبة وهو بمدينة واسط، فقال: تحت هذه الآجرة دابة. فرفعوا الآجرة فإذا تحتها حية منطوية، فسألوه عن ذلك فقال: اني رأيت ما بين الآجرتين ندياً من بين تلك الرحبة، فعلمت أن تحتها شيئاً يتنفس. وقال رأيت في المنام كأني وأبي على فرسين، فجريا معاً فلم أسبقه ولم يسبقني، وعاش أبي ستاً وسبعين سنة وها أنا فيها، فلما كانت آخر لياليه قال: هذه ليلة استكمل فيها عمر أبي، ونام، فأصبح ميتاً رحمه الله تعالى. وله من ذا غرائب وعجائب يعجز عن حصرها الكاتب. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى نائبه بالعراق عدي بن أرطأة أن أجمع بين إياس بن معاوية والقاسم بن ربيعة الجرشي قبول قضاء البصرة أنفذهما، فجمع بينهما، فقال إياس: ايها الأمير سل عني وعنه فقيهي المصر الحسن وابن سيرين، وكان القاسم يأتيهما وإياس لا يأتيهما، فعلم القاسم أنه إن سألهما أشارا به، فقال: لا تسأل عنه ولا عني، فوالله الذي لا إله إلا هو إنه أفقه وأعلم بالقضاء مني. فإن كنت كاذباً فما يحل لك أن توليني وأنا كاذب، وإن كنت صادقاً فينبغي لك أن تقبل قولي، فقال له إياس إنك جئت برجل أوقفته على شفير جهنم فنحى نفسه عنها بيمين كاذبة يستغفر الله تعالى منها وينجو مما يخاف فقال عدي بن أرطأة: اما إذ فهمتنا فأنت لها فاستقضاه. وروي عن إياس إنه قال ما غلبني أحد قط سوى رجل واحد، وذلك أني كنت في مجلس القضاء فدخل علي رجل شهد عندي أن البستان الفلاني وذكر حدوده هو ملك فلان، فقلت له كم عدد شجره فسكت، ثم قال: لي منذ كم يحكم سيدنا القاضي في هذا المجلس؟ فقلت: منذ كذا. فقال: كم عدد خشب سقفه؟ فقلت: الحق معك، وأجزت شهادته.
وكان يوماً في برية فأعوزهم الماء وسمع نباح كلب، فقال: هذا على رأس بير فاستقرؤوا النباح فوجدوه كما قال، فقيل له في ذلك فقال: لأني سمعت الصوت كالذي يخرج من بير أو قال كأنه يخرج من بير.(1/203)
سنة ثلاث وعشرين ومائة
فيها توفي بالبصرة السيد الجليل الولي الكبير الفاضل الشهير ثابت البناني من سادات التابعين علماً وشغلاً وعبادة وزهداً، وفيها توفي سماك بن حرب الهذلي الكوفي أحد الكبار، قال أدركت ثمانين من الصحابة وذهب بصري فدعوت الله عز وجل فرده علي. وفيها توفي السيد الجليل الولي الحفيل محمد بن واسع الأزدي الملقب زين القراء ذو الفضائل المشهورة والسيرة المشكورة الذي قال فيه بعضهم: كنت إذا وجدت فترة أو قال قسوة نظرت في وجه محمد بن واسع فاعمل على ذلك جمعة وقال شهراً، والذي قال له مالك بن دينار: ما أحوج مثلي بمعلم مثلك لما نبهه على بعض دقائق الورع في قضية ذكرتها في غير هذا الكتاب.
سنة أربع وعشرين ومائة
فيها توفي في رمضان الإمام أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري أحد الفقهاء والمحدثين والأعلام التابعين، حفظ علم الفقهاء السبعة، ورأى عشرة من الصحابة رضي الله عنهم، سمع من سهل بن سعد وأنس بن مالك وخلائق، وروى عنه جماعة من الأئمة منهم مالك بن أنس وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة. قال ابن المديني: له نحو الذي حديث، وكان قد حفظ علم الفقهاء السبعة، وقال عمر بن عبد العزيز: لم يبق اعلم بسنة ماضية من الزهري، وكذا قال مكحول. وقال الليث. قال ابن شهاب: ما استودعت قبي علماً فنسيته. وقال غيره: من أهل العلم كان معظماً وافر الحرمة عند هشام بن عبد الملك أعطاه مرة سبعة آلاف دينار. وقال عمرو بن دينار ما رأيت الدينار والدرهم عند أحد أهون منه عند الزهري، كأنها عنده بمنزلة البعر، وكان إذا جلس في بيته وضع كتبه حوله فيشتغل بها عن كل شيء من أمور الدنيا، فقالت له امرأته: والله لهذه الكتب أشد علي من ثلاث ضرائر، ولم يزل مع عبد الملك، ثم مع هشام بن عبد الملك، واستقضاه يزيد بن عبد الملك. وحضر يوماً مجلس هشام وعنده أبو الزناد عبد الله بن ذكوان، فقال هشام: اي شهر كان يخرج العطاء فيه لأهل المدينة؟ فقال الزهري: لا أدري. فسأل أبا الزناد فقال: في المحرم. فقال هشام للزهري: يا أبا بكر هذا علم استفدته اليوم، فقال: مجلس المؤمنين(1/204)
أهل أن يستفاد منه العلم وقيل له الزهري بضم الزاي نسبة إلى زهرة ين كلاب بن مرة: فخذ من أفخاذ قريش. ومنهم آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعبد الرحمن بن عوف كما تقدم وخلق كثير من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
سنة خمس وعشرين ومائة
فيها توفي أبو الوليد هشام بن عبد الملك الأموي خليفتهم، وكانت ولايته عشرين سنة إلا شهراً، وكانت داره عند الحوامر بدمشق، فعمل منها السلطان نور الدين مدرسة، وكان ذا رأي وحزم وحلم وجمع للمال، عاش أربعاً وخمسين سنة، وكان أبيض جميلاً يخضب بالسواد. ومما يحكى عن هشام بن عبد الملك أنه خرج ذات يوم إلى الصيد، فنظر إلى ظبي فتبعه، فأحالته الكلاب إلى أن وصل به إلى صبي يرعى غنماً، فقال له: يا صبي دونك الظبي أيتني به. فقال له الصبي: فقدت الحياة لو نظرت إلي باستصغار وعاشرتني باحتقار وكلامك كلام جبار وفعلك فعل حمار. قال: يا غلام أو لم تعرفني قال بلى قد عرفني بك سوء أدبك إذ بدأتني بكلامك قبل سلامك. قال له: وأنا هشام بن عبد الملك. قال: لا قرب الله دارك ولا حيا قرارك. قال: فوألله ما استتم كلامه حتى أحدقت به الخيول والجيوش من كل جانب ومكان، كل له يقول السلام عليك يا أمير المؤمنين، السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال: اقصروا من السلام واحفظوا بالغلام، والحقوني به، قال: ثم ركب مغضباً إلى داره، فلما وصل إلى داره وركب على سرير ملكه أقبلت إليه الحرفاء والوزراء والأمراء والكتاب، كل يقول السلام عليك يا أمير المؤمنين السلام عليك يا أمير المؤمنين، وذلك الصبي ساكت، قد أرسل ذقنه على صدره، وقرن عينيه وسكت عن الكلام وامتنع عن السلام. فقال له بعض الوزراء: يا كلب العرب ما منعك أن تسلم على أمير المؤمنين؟ قال: يا بردعة الحمار منعني من ذلك طول الطريق ونهر الدرجة. فقال له بعض الحرفاء: يا جحش العرب بلغ من فضولك أن تخاطب أمير المؤمنين كلمة بكلمة. فقال: رمتك الجندل ولامك الهبل أو ما سمعت قول الله عز وجل في كتابة المنزل على نبيه المرسل " يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها " - النحل: 111 - فإذا كان الله تعالى يجادل جدالاً، فمن هشام حتى لا يخاطب خطاباً فعند ذلك اغتاظ الملك من كلامه، وقال: علي برأس الغلام فقد أكثر الكلام، فوضع ذلك(1/205)
الصبي في نطع الدم، وخرد سيف النقمة ليضرب عنقه، فقال له الضراب: يا سيدي عبدك المذل بنفسه المنقلب إلى رمسه أضرب عنقه وأنا بريء من دمه. قال: اضرب عنقه: فاستأذنه ثانية فأذن له، ثم استأذنه ثالثة فأذن له، فضحك ذلك الصبي وهو في نطع الدم، فقال أقيموه، ثم قال له: يا غلام أنت تضحك في الممات، وتجادل في الحياة، اتستهزىء بنا أم بنفسك؟ قال: يا أمير المؤمنين اسمع مني كلمتين وأفعل ما بدا لك قال: قل قال: فوالله إن هذا أول أوقاتي من الآخرة وآخر أوقاتي من الدنيا، فوالله لئن كان من المدة تقصير وفي الأجل تأخير لا يضرني من كلامك هذا لا قليل ولا كثير، ولكن يا أمير المؤمنين أبيات من الشعر حضرتني اسمعها مني قل: قال: فقال:
نبئت أن الباز خلف مرة ... عصفور برساقه المقدور
فتكلم العصفور في أظفاره ... والباز منهمك عليه يطير
ما في ما يغني لمثلك شبعة ... ولئن أكلت فأنني لحقير
فتعجب الباز المدل بنفسه ... عجباً وأفلت ذلك العصفور
قال فخر هشام بن عبد الملك على وجهه ضاحكاً، وقال: والله لو تلفظ بهذا الكلام في وقت من أول أوقاته وطلب ما دون الخلافة لأعطيته إياه، يا غلام احش فاه دراً وجوهراً، قال: فحشى فاه دراً وجوهراً وأعطاه الجائزة والكسوة وراح إلى أهله مسروراً. وفي السنة المذكورة توفي أبو سعيد بن أبي سعيد المقبري، روى عن سعد بن أبي وقاص، وأكثر عن أبي هريرة رضي الله عنه. وفيها توفي أشعث بن أبي الشعثاء المحاربي الكوفي. وتوفي أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي والد السفاح والمنصور، عاش ستين سنة، وكان وسيماً جميلاً مهيباً نبيلاً، وكانت دعاة بني العباس يكاتبونه يلقبونه بالإمام، وكان سبب انتقال الخلافة إلى بني العباس أن محمد ابن الحنفية كانت الشيعة تعتقد إمامته بعد أخيه الحسين، فلما توفي محمد ابن الحنفية انتقل الأمر إلى ولده أبي هاشم، وكان عظيم القدر وكانت الشيعة تتولاه، فحضرته الوفاة بالشام ولا عقب له، فأوصى إلى محمد بن علي المذكور وقال له أنت صاحب هذا الأمر وهو في ولدك، ودفع إليه كتبه وصرف الشيعة نحوه، ولما حضر محمد الوفاة أوصى إلى ولده إبراهيم(1/206)
المعروف بالإمام، فلما حبسه مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية وتحقق أن مروان يقتله أوصى أخيه السفاح، وهو أول من ولي الخلافة من أولاد العباس. هذه خلاصة الأمر والشرح فيه طويل. وفيها وقيل في سنة أربع توفي يزيد بن أبي أنيسة الجزري الرهاوي بضم الراء الحافظ أحد علماء الجزيرة، عاش أربعين سنة، روى عن جماعة من التابعين. وفيها أو بعدها توفي زيادة بن علاقة الثعلبي الكوفي، روى عن طائفة وكان معمراً، ادرك ابن مسعود وسمع من جرير بن عبد الله وصالح مولى التوأمة المدني.
سنة ست وعشرين ومائة
فيها في جمادى الآخرة قتل خليفتهم الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وكانت ولايته سنة وثلاثة أشهر، وكان من أجمل الناس وأقواهم وأجودهم نظماً، ولكن ذكروا عنه أشياء قبيحة في الدين والعرض أكره ذكرها، والله أعلم بذلك، قالوا: ولذلك قاموا عليه مع ابن عمه يزيد بن الوليد الملقب بالناقص لكونه نقص الجند عطياتهم، وبويع ليزيد بن المذكور، فمات في العشرين من ذي الحجة في السنة المذكورة وله ست وثلاثون سنة، وكان فيه زهد وعدل وخير ولكن كان قدرياً. قال الإمام الشافعي رضي الله: ولي يزيد بن الوليد فدعا الناس إلى القدر، وحملهم عليه. وفيها وقيل في سنة تسع، وقيل في سنة خمس وعشرين ومائة، توفي عمرو بن ديناراليمني الصنعاني عن ثمانين سنة، من أبناء الفرس الذين أرسلوا مع سيف بن ذي يزن وتوالدوا في اليمن، تفقه عمرو بن دينار عن ابن عباس وابن عمر وجابر بن عبد الله زيد وطاوس والزهري وسعيد بن جبير، وسكن مكة، وعده الشيخ أبو إسحاق هو وعطاء في فقهاء التابعين بمكة، اخذ عنه سفيان بن عيينة الهلالي المكي أحد شيوخ الشافعي، وأبو الوليد بن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، قال سفيان بن عيينة: قيل لعطاء: بمن تأمر قال بعمرو بن دينار، وقال طاوس لابنه: يا بني إذا قدمت مكة فجالس عمرو بن دينار فإن أذن قمع العلماء، يعني القمع بكسر القاف وسكون الميم وبعدها عين مهملة، إناء واسع الأعلى ضيق الأسفل يصب فيه الدهن ونحوه فينزل في إناء تحته لئلا يتبدد. وفيها توفي عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر المدني الفقيه، كان إماماً(1/207)
ورعاً كثير العلم، وفيها توفي سعيد بن مسروق والد سفيان الثوري رحمه الله. وفيها هلك تحت العذاب الشاق خالد بن عبد الله القسري الدمشقي أمير العراق، تولى من قبل هشام بن عبد الملك، وولي قبل ذلك مكة، وكان معدوداً من خطباء العرب المشهورين بالفصاحة والبلاغة، وكان جواداً كثير العطاء، خل فيه عليه شاعر يوم جلوسه للشعراء، وكان قد أراد مدحه ببيتين، فلما رأى اتساع الشعراء في القول، استصغر قوله فسكت حتى انصرفوا، فقال له خالد: ما حاجتك؟ قال: مدحت الأمير فلما سمعت قول الشعراء احتقرت بيتي، فقال: وما هما؟ فأنشدته:
تبرعت لي بالجود حتى تعيشني ... وأعطيتني حتى حسبتك تلعب
فأنت الندى وابن الندى وأبو الندى ... حليف الندى، ما للندى عنك مذهب
فقال: ما حاجتك؟ فقال علي دين. فأمر بقضائه وأعطاه مثله. وكتب إليه هشام بن عبد الملك: بلغني أن رجلاً قام إليك فقال: ان الله جواد وأنت جواد، وإن الله كريم وأنت كريم، حتى عد عشر خصال، والله لئن لم تخرج من هذا لأستحلن دمك. فكتب إليه خالد: نعم يا أمير المؤمنين، قام إلي فلان فقال: ان الله كريم يحب الكريم فأنا أحبك بحب الله إياك ولكن أشد من هذا مقام ابن سقي البجلي إلى أمير المؤمنين، فقال خليفتك أحب إليك أم رسولك؟ فقال: بل خليفتي. فقال: انت خليفة الله ومحمد رسول الله، والله لقتل رجل من بجيلة أهون على العامة والخاصة من كفر أمير المؤمنين، هكذا ذكره الطبري في تاريخه، ان هشاماً عزل خالداً عن العراقين وولي يوسف بن عمر الثقفي ابن عمر الحجاج مكانه، وأمر بمحاسبة خالد وعماله، فأخذ خالداً وعماله وحبسه، وعذبه بأن وضع قدميه بين خشبين وعصرهما حتى انقصفا، ثم إلى وركيه ثم إلى صلبه فلما انقصفت صلبه ومات وهو في ذلك لا يتأوه ولا ينطق، وكان ذلك في الحيرة منزل نعمان بن المنذر أحد ملوك العرب على فرسخ من الكوفة، ولما كان خالد في السجن مدحه أبو الأشعث العبسي بهذه الأبيات:
ألا أن خير الناس حياً وميتاً ... أسير ثقيف عندهم في السلاسل
لعمري لقد عمرتم السجن خالداً ... وأوطأتموه وطأة المتثاقل
لقد كان نهاضاً بكل ملمة ... ومعطي اللها غمراً كثير النوافل
وقد كان يبني المكرمات لقومه ... ومعطي اللها في كل حق وباطل
يعني باللها العطية. يقال فلان يعطي اللها: اذا كان جواداً يعطي الشيء الكثير. وكان يوسف قد جعل على خالد في كل يوم حمل مال معلوم أن لم يقم به من يومه(1/208)
عذبه، فلما مدحه العبسي بهده الأبيات كان قد حصل من قسط يومه سبعين ألف درهم، فأنفذها إليه، فقال اعذرني فقد ترى ما أنا فيه فردها، وقال لم أمدحك لمال وأنت على هذه الحالة ولكن لمعروفك وافضالك، فأنفذها إليه ثانياً، فاقسم عليه لتأخذنها فأخذها، وبلغ ذلك يوسف، فدعاه وقال ما جرأك على فعلك ألم تخش العذاب؟ فقال لئن أموت عذاباً أسهل علي من كفي، لاسيما على من مدحني. وذكر أبو الفرج الأصفهاني أن خالداً كان من ولد شق الكاهن، وذكروا أنه كان شق ابن خالة سطيح الكاهن، وكان شق وسطيح من أعاجيب الدنيا. أما سطيح فكان جسداً ملقى لا جوارح له، وكان وجهه في صدره، ولم يكن له رأس ولا عنق، وكان لا يقدر على الجلوس إلا إذا غضب انتفخ فجلس، وقيل كان يطوى مثل الأديم وينقل من مكان إلى مكان إذا أراد الانتقال، وكان شق نصف إنسان، وكانت له يد واحدة ورجل واحدة، وفتح عليهما في الكهانة ما هو مشهور عنهما، وكان ولادتهما في يوم واحد. وفي ذلك اليوم توفيت ظريفة الكاهنة الحميرية زوجة عمر، ومزيقيا بن عامر ماء السماء. ولما ولد ادعت لكل واحد منهما وتفلت في فيه، وزعمت أنه سيخلفها في كهانتها، ثم ماتت لساعتها ودفتت في الجحفة، وعاش كل واحد من شق وسطيح. وسطيح هو الذي بشر بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقصته في تأويل الرويا مشهورة وذكرها مستوفي في السيرة. وفي السنة المذكورة توفي الكميت الأسدي الشاعر.
سنة سبع وعشرين ومائة
فيها سار مروان بن محمد بن مروان من أرمينية إلى دمشق يطلب الأمر لنفسه لما بلغه وفاة يزيد الناقص، فجهز إبراهيم الخليفة أخويه بشراً ومسروراً بالجيش فكسرهما مروان وحبسهما، ثم نزل بمرج دمشق فحاربه سليمان بن هشام بن عبد الملك، ثم انهزم سليمان فعسكر خليفتهم ابن الوليد بظاهر دمشق وبذل الخزائن فخذلوه، فهرب وبايع الناس مروان، فأتاه إبراهيم فخلع نفسه وبايع مروان.(1/209)
وفي السنة المذكورة قتل يوسف بن عمر الثقفي الذي كان أمير العراق في السجن بدمشق، ذكر بعض المؤرخين أنه ولى هشام بن عبد الملك يوسف بن عمر اليمن، فلم يزل والياً بها حتى كتب له هشام أن سر إلى العراق فقد وليتك إياه، وإياك أن يعلم بك، واشفني من ابن النصرانية يعني خالد بن عبد الله القسري، وكان والياً عل العراق فاستخلف يوسف ابنه الصلت على اليمن، وسار إلى العراق في سبعة عشر يوماً، ودخل المسجد مع الفجر، فأمر المؤذن بالإقامة، فقال: حتى يأتي الإمام، فانتهره فأقام وتقدم يوسف فصلى وقرأ إذا وقعت الواقعة وسأل سائل، ثم أرسل إلى خالد وخليفته طارق وأصحابهما، وكان طارق قد ختن ابنه فأهدي إليه ألف عتيق وألف وصيف وألف وصيفة سوى المال والثياب، فحبس يوسف خالداً، فصالحه أبان بن الوليد عنه وعن أصحابه بتسعة آلاف ألف درهم، ثم ندم يوسف وقيل له لو لم تقبل هذا المال لأخذت منه مائة ألف ألف درهم، وقيل غير ذلك مع قصص يطول ذكرها، وعاقبة ذلك أنه مات خالد المذكور تحت العذاب الشاق وقد تقدم ذكر ذلك في ترجمته في سنة ست وعشرين.
ثم آل الأمر بعد أمور يطول ذكرها إلى أن تولى يزيد بن الوليد بن عبد الملك، واطاعة أهل الشام وانبرم له الأمر، فولى منصور بن جمهور العراق، فبلغ خبره يوسف بن عمر، فهرب وسلك طريق السماوة حتى أتى إلى البلقاء فاستخفى بها، وكان أهله مقيمين فيها، فلبس زي النساء وجلس بينهن، فبلغ يزيد بن الوليد خبره، فأرسل إليه من يحضره، فوصل إليه وأخذه بعد أن فتش عليه كثيراً فوجده جالساً على تلك الهيئة بين نسائه وبناته، فجاءوا به في وثاق، فحبسه يزيد عند الحكم وعثمان ابني الوليد بن يزيد، وكان يزيد بن الوليد قد حبسهما عند قتله أباهما في الحضراء وهي دار بدمشق مشهورة قبل جامعها. قال ابن خلكان وقد خربت ومكانها معروف عندهم فأقام يوسف بن عمر في السجن إلى أن مات يزيد بن الوليد، وتولى بعده أخوه إبراهيم بن الوليد، ومن بعده عبد العزيز بن الحجاج، ثم تولى بعد الكل مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية، وغلب على الأمر، خافت جماعة إبراهيم بن الوليد أن يدخل مروان دمشق فيخرج الحكم وعثمان ابني الوليد من السجن ويجعل لهما الأمر فيفتكان فيهم، فأجمع رأيهم على قتلهما، فأرسلوا يزيد بن خالد القسري ليتولى ذلك، فانتدب في جماعة من أصحابه لذلك، فدخلوا السجن، وشدخوا(1/210)
الغلامين بالعمد وأخرجوا يوسف بن عمر، فضربوا عنقه لكونه قتل خالد بن عبد الله القسري والد يزيد المذكور. ولما قتلوه أخذوا رأسه عن جسده وشدوا أرجله، وقتل في مذاكيره حبل وهو يجر في ذلك الموضع نعوذ بالله من جميع الشرور ونسأله حسن عاقبة الأمور. وفيها توفي الحكم وعثمان ولدا الوليد بن عبد الملك المذكوران. وفيها توفي عبد الله بن دينار. مولى ابن عمر، وعمير بن هاني العنسي بالنون بعد العين المهملة الداراني، روى عن أبي هريرة وعن معاوية قال له عبد الرحمن بن يزيد بن جابر: اراك لا تفتر من الذكر فكم تسبح؟ قال: مائة ألف إلا أن يخطي الأصابع رحمه الله تعالى. وفيها توفي عبد الرحمن بن مالك الحراني الحافظ، ووهب بن كيسان، وقاضي المدينة سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري. قال شعبة: كان يصوم الدهر ويختم كل يوم، وقيل مات في سنة ست والإمام السدي المفسر الكوفي المشهور. وفيها وقيل في سنة ثمان توفي أبو إسحاق السبيعي شيخ الكوفة وعالمها، عاش نحو المائة. وفيها توفي السيد الكبير الولي الشهير ذو الإيمان الوثيق والورع الدقيق والمناقب العديدة والسيرة الجميلة الجليل الفضل والمقدار: ابو يحيى مالك بن دينار صاحب الهمة العلية والفضائل السنية، روي أنه أقام أربعين سنة لم يأكل من رطب البصرة ولا من تمرها. وروي أنه قد وقع حريق في البصرة، فقال شباب الحي بيت أبي يحيى مالك بن دينار، فخرج متزراً ببارية وبيده مصحف وقال: فاز المخففون أو قال: نجا المخففون، وكان عالماً زاهداً ورعاً لا يأكل إلا من كسبه، وكان يكتب المصاحف بالأجرة. وحكى أبو القاسم بن خلف الأندلسي في كتابه قال: بينا مالك بن دينار يوماً جالساً إذ جاءه رجل، فقال: يا أبا يحيى ادع الله لامرأة حبلى منذ أربع سنين قد أصبحت في كرب شديد، فغضب المالك وأطبق المصحف ثم قال: ما يرى هؤلاء القوم إلا أننا أنبياء، ثم قرأ ثم دعا فقال: اللهم هذه المرأة إن كان في بطنها جارية فأبدلها بها غلاماً فإنك تمحو ما يشاء وتثبت وعندك أم الكتاب، ثم رفع مالك يده فما حطها حتى طلع الرجل من باب المسجد(1/211)
وعلى رقبته غلام ابن أربع سنين، قد استوت أسنانه وما قطعت جراره. وقال مالك: لو قيل ليخرج شر من في المسجد ما سبقني إلى الباب أحد وقيل له: الا تستسقي له؟ فقال: انتم تنتظرون المطر وأنا أنتظر الحجارة قلت وقد اقتصرت من ذكر فضائله الكثيرة على هذه الألفاظ اليسيرة.
سنة ثمان وعشرين ومائة
فيها ظهر الضحاك بن قيس الخارجي وقتل متولي الموصل واستولى عليها، وكثرت جموعه وأغار على البلاد، فخافه مروان فسار بنفسه فالتقى الجيشان بنصيبين، وكان قد أشار على الضحاك أمراؤه أن يتقهقر، فقال: ما لي في ديناكم من حاجة، وقد جعلت لله علي إن رأيت هذا الطاغية أن أحمل عليه حتى يحكم الله بيننا وعلي دين سبعة دراهم معي منها ثلاثة دراهم، فدار الحرب إلى آخر النهار وقتل الضحاك في المعركة في نحو ستة آلاف من الفريقين، اكدرهم من الخوارج، وانهزم مروان ولكن ثبت أمير الميمنة وجاء بعض الخوارج فملك مخيم مروان وقعد على سريره، فنظف، نحو ثلاثة آلاف فأحاطت بذلك الخارجي فقتل، وقام بأمر الخوارج شيبان فتحيز بهم فخندقوا على نفوسهم وجاء مروان فنازلهم وقاتلهم عشرة أشهر كل يوم راية مروان مكسورة، وكانت فتنة هائلة تشبه فتنة الأشعث من الحجاج، ثم رحل شيبان نحو شهرزور، ثم توجه إلى كرمان، ثم كر إلى ناحية البحرين، فقتل هناك، وفيها ولي العراقين يزيد بن عمر بن هبيرة.
وفيها توفي عاصم بن أبي النجود الأزدي مولاهم قارىء الكوفة في زمانه وأحد القراء السبعة، وكان صالحاً حجة للقرآن صدوقاً في الحديث، قرأ على عبد الرحمن السلمي وزر بن حبيش رضي " الله عنهم. وفيها توفي يحيى بن يعمر العدواني البصري كان تابعياً، لقي عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس. وغيرهما من الصحابة، وروى عنه قتادة السدوسي وإسحاق العدوي، وهو أحد القراء بالبصرة، وانتقل إلى خراسان وتولى القضاء بمرو، وكان عالماً بالقرآن(1/212)
الكريم والنحو ولغات العرب، اخذ النحو عن أبي الاسود الديلي، وكان يحيى المذكور من الذين يقولون بتفضيل أهل البيت على غيرهم من غير تنقيض لذي فضل من غيرهم. وحكى عاصم بن أبي النجود المقري إن الحجاج بن يوسف الثقفي كتب إلى قتيبة بن مسلم وإلى خراسان أن أبعث إلي يحيى بن يعمر، فبعث به إليه، فلما قام بين يديه قال: انت الذي تزعم أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله والله لآلقين الأكثر منك شعراً أو لتخرجن من ذلك. فقال: فهو أماني إن خرجت؟ قال: نعم قال فإن الله جل ثناؤه يقول " ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين " - الأنعام: 84 - وزكريا ويحيى وعيسى الآية وما بين عيسى وإبراهيم أكثر مما بين الحسن والحسين ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم. فقال له الحجاج ما أراك إلا قد خرجت، والله لقد قرأتها وما عملت بها قط، وهذا من الاستنباطات البديعة الغريبة المجيبة، فلله دره ما أحسن ما استنبط مع شدة التهديد من ما في وعيده أفرط، قال عاصم: ثم إن الحجاج قال له: اين ولدت؟ قال: بالبصرة قال: ايزننشأت؟ قال: بخراسان قال: فهذه العربية إني مع ذلك قال: رزق قال: خبرني عني هل ألحن؟ فسكت. فقال: اقسمت عليك. قال: اما إذا سألتني أيها الأمير فإنك ترفع ما يوضع وتضع ما يرفع. قال: ذلك والله اللحن السيىء، وقال ثم كتب إلى قتيبة إذا جاءك كتابي هذا فاجعل يحيى بن يعمرعلى قضاءك والسلام. وعن يونس بن حبيب قال: قال الحجاج ليحيى بن يعمر: اتسمعني ألحن؟ قال في حرف واحد، قال في أي؟ قال في القرآن، قال ذلك أشنع ما هو؟ قال تقول: قل إن كان أباؤكم وأبناؤكم إلى قوله أحب إليكم، فتقرأها بالرفع، قال الراوي: كأنه لما طال الكلام نسي ما ابتدأ به، قال الحجاج: لا جرم لا تسمع لحناً أبداً، وقال: خالد الحذاء: كان لابن سيرين مصحف منقوط، نقطه يحيى بن يعمر، وكان ينطق بالعربية المحضة واللغة الفصحاء، طبعه فيه غير متكلف، وأخباره ونوادره كثيرة. وفيها توفي أبو عمران الجوني البصري، وأبو الزبير المكي محمد بن مسلم أحد العقلاء والعلماء، وفيها فقيه مصر وشيخها أبو رجاء بن أبي حبيب الأزدي مولاهم، قال لليث: هو مولانا وسيدنا.(1/213)
سنة تسع وعشرين ومائة
في رمضان منها كان ظهور أبي مسلم الخراساني صاحب الدعوة لبني العباس بمرو. وفيها توفي عالم المغرب وعابدها خالدبن أبي عمران التجيبي التونسي قاضى إفريقية. وفيها توفي على الصحيح يحيى بن أبي كثير أبو نصر أحد الأعلام في الحديث، وفيها توفي قاري المدينة الزاهد العابد أبو جعفر يزيد بن القعقاع، اخذ عن أبى هريرة وابن عباس، وقرأ عليه نافع، وله ذكر في سنين أبي داود.
سنة ثلاثين ومائة
فيها وقيل فى السنه الآتية توفي السيد الفقيه القدوة الحافظ القانت الزاهد محمد بن المنكدر، وسمع من عائشة وأبي هريرة، وكان بيته مأوى الصالحين ومجتمع المفلحين من الزاهدين والعابدين. وتوفي فيها يزيد بن رومان المدني، احد شيوخ نافع في القراءة، رحمه الله.
سنه إحدى وئلاثين ومائه
فيها استولى أبو مسلم صاحب الدعوة على ممالك خراسان، وهزم الجوش، وأقبلت دولة بني العباس، وولت دولة بني أمية. وفيها توفي فقيه أهل البصرة أيوب السختياني أحد الأعلام قال شعبة: كان سيد الفقهاء، وقال ابن عيينة: لم ألق مثله، وقال حماد بن زيد: كان أفضل من جالسته وأشد اتباعاً للسنة، وقال ابن المديني: له نحو ثمان مائة حديث. وفيها توفي أبو الزناد الفقيه أحد علماء المدينة، وهو أبو عبد الرحمن عبد الله بن ذكوان، لقي عبد الله بن جعفر وأنساً. قال الليث: رأيت أبا الزناد حلقه ثلاث مائة تابع من(1/214)
طالب فقه وعلم وشعر وصوف، تم لم يلبث أن بقي وحده، وأقبلوا على ربيعه، وكذا ربيعة أقبلوا على مالك وتركوه، صدق الله العظيم: " وتلك الأيام نداولها بين الناس " - آل عمران: 140 - قال أبو حنيفة: وكان أبو الزناد أفقه من ربيعة. وفيها توفي واصل بن عطاء المعتزلي المعروف بالغزال أحد أئمة المعتزلة، كان من البلغاء المتكلمين في العلوم، وكان ألثغ يبدل الراء غيناً. قال المبرد: كان أحد الأعاجيب، وذلك أنه كان قبيح اللثغة في الراء وكان يخلص كلامه من الراء، ولا يلقن لذلك لقتداره على الكلام وسهولة ألفاظه، وفي ذلك يقول بعض الشعراء:
عليهم بإبدال الحروف وقامع ... لكل خطيب يغلب الحق باطله
وقال آخر:
ويجعل البر قمحاً في تصرفه ... وخالف الراء حتى احتال للشعر
ولم يطق مطراً والقول يجعله ... فعاد بالغيث إشفاقاً من المطر
وذكر السمعاني في كتاب الأنساب: ان واصل بن عطاء كان يجلس إلى الحسن البصري، فلما ظهر الاختلاف: وقالت الخوارج بتكفير مرتكب الكبائر، وقالت الجماعة بأنهم مؤمنون وإن فسقوا بالكبائر، خرج واصل بن عطاء من الفريقين وقال: ان الفاسق من هذه الأمة لا مؤمن ولا كافر منزلة بين منزلتين، فطرده الحسن عن مجلسه، واعتزل عنه، وجلس إليه عمرو بن عبيد، فقيل لهم المعتزلة. قال وكان واصل بن عطاء يضرب به المثل في اسقاطه حرف الراء من كلامه، واستعمل الشعراء ذلك في شعرهم كثيراً، فمنهم قول أبي محمد الخازن في قصيدة يمدح بها الصاحب بن عباد.
نعم تجنبت لايوم العطاء كما ... تجنب ابن عطاء لفظة الراء
وقال آخر:
أعد لثغة لو أن واصل حاضر ... يسمعها ما أسقط الراء واصل
وقال آخر:
أجعلت وصل الراء لم ينطق به ... وقطعتني حتى كأنك واصل
ولقد أحسن في قوله: وقطعتني حتى كأنك واصل، حسبنا بالغاً عند من يفهم المعاني(1/215)
الحسان، وقد عمل الشعراء في هذه اللثغة كثيراً، ففي ابدال ااثاء من السين ما يعزى إلى أبي نواس من قوله:
وشادن سألته عن اسمه ... فقال لي: اثمي مرداث
بات يعاطبني سخامية ... فقال لي: قد هجع الناث
أما ترى حيشاً كليلتنا ... زينها الذيران والآث
فعدت من لثغة الثغا ... فقلت: اين الطاث والكاث
قوله سخامية هو بضم السين المهملة والخاء المعجمة وبعد الميم مثناة من تحت وهي: الحمر اللينة السلسلة. قلت وما سمعت من بعض شيوخنا في هذا المعنى:
والثغ سألته عن اسمه ... فقال لي إثمي عباث
فعدت من لثغة الثغا ... فقلت: اين الطاث والكاث
وقال المبرد في كتاب الكامل: لم يكن واصل بن عطاء غزالاً ولكن كان يلقب بذلك، لأنه كان يلزم الغزالين ليعرف المنقطعات من النساء فيجعل صدقته لهن، قال: وكان طويل العنق وله عدة تصانيف في علم الكلام وغيره، وأقواله في الا! عتقاد في كتب الأصول. وفي السنة المذكورة توفي عبد الله بن يحيى بن أبي يحيى المكي المقري صاحب مجاهد.
وفيها توفي السيد الكبير الوالي الشهير أحد زهاد البصرة العابدين الشيوخ المباركين من السلف الصالح فرقد السبخي، كان هو ومحمد بن واسع ومالك بن دينار وحبيب العجمي وثابت البناني وصالح المري متصاحبين، رحمهم الله، حدث عن أنس رضي الله عنه. وفيها توفي متصور بن زاذان شيخ البصرة وزاهدها وعابدها، روى عن أنس وجماعة، وكان يصلي من بكرة إلى العصر، ثم يسبح إلى الغروب. وفيها توفي همام بن منبه اليماني صاحب أبي هريرة، قال أحمد: كان يعرف بمجالس أبي هريرة، وكان يشتري الكتب لأخيه وهب.
؟؟؟؟؟؟؟؟
سنة اثنتين وثلاثين ومائة
فيها، ابتداء دولة بني العباس حتى بويع السفاح أبو العباس عبد الله بن محمد بالكوفة(1/216)
، وجهز عمه عبد الله بن علي لمحاربة مروان فزحف إليه مروان إلى أن نزل بقرب الموصل، فالتقوا في جمادى الآخرة، فانكسر مروان، واستولى عبد الله بن علي على الجزيرة، وطلب الشام فهرب مروان إلى مصر، وخذل وانقضت أيامه. فنزل عبد الله على دمشق وحاصرها وبها ابن عم مروان الوليد بن معاوية بن مروان، فأخذت بالسيف وقتل بها من الأمويين عدة ألوف منهم أميرها الوليد وسليمان بن هشام بن عبد الملك وسليمان بن يزيد بن عبد الملك. وفيها توفي عبد الله بن طاوس اليماني النحوي، روى عن أبيه قال معمر: كان من أعلم الناس بالعربية وأحسنهم خلقاً، ما رأيت ابن فقيه مثله. وروي أن أمير المؤمنين أبا جعفر المنصور استدعى عبد الله بن طاوس ومالك بن أنس، فلما دخل عليه أطرق ساعة ثم التفت إلى ابن طاوس، فقال له: حدثني عن أبيك، فقال حدثني أبي أن أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل أشركه الله في سلطانه فأدخل عليه الجور في حكمه، فأمسك أبو جعفر ساعة قال مالك قصرت ثيابي خوفاً أن يصيبني دمه، ثم قال له المنصور: ناولني تلك الدواة. ثلاث مرات فلم يفعل، فقال: لم لا تناولني؟ فقال: اخاف أن تكتب بها معصية فأكون قد شاركتك بها، فلما سمع ذلك قال: قوما عني، قال: ذلك ما كنا نبغي، قال مالك: فما زلت أعرف لابن طاوس فضيلة من ذلك اليوم. وفيها توفي الإمام الحافظ أبو عتاب منصور بن المعتمر السلمي الكوفي أحد العلماء، أخذ من أبي وائل وكبار التابعين، وقال ما كتبت حديثاً قط، وقال عبد الرحمن بن مهدي: لم يكن بالكوفة أحفظ منه. وقال زائدة: صام منصور أربعين سنة، وقام ليلها. وكان يبكي الليل كله، وقيل كان قد عمش من البكاء، وأكره على قضاء الكوفة فقضى شهرين، ومناقبه كثيرة شهيرة. وتوفي بالمدينة إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري الفقيه، وكان مالك لا يقدم عليه أحداً. وفيها توفي أبو عبيد الله صفوان بن سليم المدني الفقيه القدوة، روى عن ابن عمرو جابر وجماعة، قال أحمد بن خنبل: ثقة من خيار عباد الله يستنزل بذكره القطر. وفيها توفي يونس بن ميسرة المقري الأعمى، عاش مائة وعشرين سنة روى عن الكبار، وكان موصوفاً بالفضل والزهد كبير القدر، وقتل الأمير محمد بن عبد الملك بن مروان، والأمير أبو خالد يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري أمير العراقين لمروان، وله خمس وأربعون سنة، وكان شهماً شجاعاً خطيباً مفوهاً مفرط الأكل، واقع بني العباس فهزموه،(1/217)
وتحصن بواسط فحاصره أبو جعفر المنصور أخو السفاح مدة ثم أمنه وغدر به، وقال لا يغير ملك وهذا فيه، فقتله، وهو معدود من جملة من جمع له العراقان، فكان أولهم زياد ابن أبيه، استخلفه معاوية، وآخرهم يزيد المذكور، ولم يجمعا لأحد بعده. وقيل بل أن أبا مسلم الخراساني وصل إلى السفاح، يحضه على قتله، ويقول: طريق السهل لا يصلح أن يكون فيها حجر، وكان يركب في موكب كبير وعسكر كثر إذا جاء إلى أبي جعفر المنصور، فمنع من ذلك، فصار يأتي في نفر يسير، ثم صار يأتي في ثلاثة، ولما قتل رثاه أبو عطاء السندي بقوله:
ألا إن عينا لم تجد يوم واسط ... عليك يجاري دمعها بجمود
عشية قام النائحات وشققت ... جيوبها بأيدي مأتم وخدود
وكان قد قاتل دونه ولده داود، فقتل مع جماعة من أصحابه، ثم قتل هو ساجد لله تعالى. وذكر بعض المؤرخين أنه لما طال حصار ابن هبيرة ثبت معن بن زايدة معه، وكان أبو جعفر المنصور يقول: ابن هبيرة يخندق على نفسه مثل النساء، وبلغ ابن هبيرة ذلك، فأرسل أليه المنصور: انت القائل كذا؟ ابرز إلي لترى فأرسل إليه ما أجد لي ولك مثلاً إلا كالأسد لقي خنزيراً فقال له الخنزير بارزني: فقال الأسد ما أنت بكفؤ لي، فإن بارزتك فنالذي منك سوء كان عاراً علي، وإن قتلتك قتلت خنزيراً فلم أحصل على حمد ولا في قتلك فخر، فقال الخنزير: لئن لم تبارزني لأعرفن السباع أنك جبنت عني، فقال الأسد: احتمالي لذلك أيسر من تلطيخ براثني بدمك. ثم إن المنصور كاتب القواد، وفهم ابن هبيرة، فطلب الصلح، فأجابه. وقال له ابن هبيرة يوماً إن دولتكم بكر فأذيقوا الناس حلاوتها وجنبوهم مرارتها تصل محبتكم إلى قلوبهم، ويعذب ذكركم على ألسنتهم، وما زلنا منتظرين لدعوتكم. وكان بينهما ستر فرفعه المنصور وقال في نفسه: عجباً لمن يأمرني بقتل هذا، فصار ابن هبيرة يتردد إليه ويتغذى ويتعشى عنده، وبالغ السفاح في حث أبي جعفر في قتله وعنف عليه إن لم يفعل، وهو يمتنع من ذلك، فلم يزل به إلى أن أمر بقتله كما تقدم بإشارة أبي مسلم الخراساني صاحب الدعوة العباسية. قال ابن عساكر: كان ابن هبيرة إذا أصبح أتي بقدح كبير من لبن قد حلب على عسل أحياناً بسكر، فيشربه بعد طلوع الشمس، ويدعوا بالغداء فيأكل دجاجتين وفرخي حمام ونصف جدي وألواناً من اللحم، ثم يخرج فينظر في أمور الناس إلى نصف النهار، ثم يدخل(1/218)
فيدعوا بالغداء فيأكل ويعظم اللقم ويتابعها ومعه جماعة من الأعيان، فإذا فرغوا من الأكل تفرقوا، ثم دخل إلى نسائه ثم يخرج إلى صلاة الظهر، وينظر في أمور الناس، فإذا صلى العصر وضع له سرير ووضعت للناس كراسي، فإذا أخذوا مجالسهم أتوهم بأقداح اللبن والعسل وأنواع الأشربة، ثم يوضع الأطعمة والسفرة للعامة، ويوضع له ولأصحابه خوان مرتفع، فيأكل معه الوجوه إلى المغرب، ويسامره سماره حتى يذهب عامة الليل، وكان يسأل كل ليلة عشر حوائج، فإذا أصجح قضيت، وكان رزقه ست مائة ألف، وكان يقسم في كل شهر في أصحابه ووجوه الناس وأهل البيوتات. وفيها قتل مروان بن محمد بن مروان الخليفة، وهو الملقب بالجعد، عبر الذيل طالباً الحبشة، فلحقه صالح بن علي عم السفاح وبيته ببوصير، فقاتل حتى قتل وكان بطلاً شجاعاً ظالما أشهل العينين كثير اللحية أبيض ربعة، عاش بضعاً وخمسين سنة، ذكره بعضهم فقال: لله دره ما كان أحزمه وأسوسه وأعفه عن الغي. وقتل معه أخ لعمر بن عبد العزيز كان أحد الفرسان، ولكن تقنطر به فرسه فقتله. وفيها توفي الأمير سليمان بن كثير الخزاعي المروزي أحد نقباء بني العباس، قتله أبو مسلم الخراساني، وقتل بمصر عبد الله بن أبي جعفر الليثي مولاهم البصري الفقيه أحد العلماء وا لزهاد. وفيها وقيل في سنة ثمان وعشرين، وقيل ثلاثين ومائة، توفي أبو جعفر يزيد ابن القعقاع القارىء مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي، اخذ القراءة عرضاً عن ابن عباس، وعن مولاه عبد الله بن عياش، وعن أبي هريرة وسمع عبد الله بن عمر، ويقال قرأ على زيد بن ثابت، وروى القراءة عنه عرضاً نافع بن عبد الرحمن وسليمان بن مسلم وغيرهما، وكان يقرأ بالمدينة الشريفة، وقيل هو مولى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان من أفضل الناس، وكان بياض بين نحره وفؤاده قيل هو نور القرآن، ورؤي بعد موته في المنام وهو على ظهر الكعبة بخبر أنه من الشهداء الكرام رحمة الله عليهم.(1/219)
سنة ثلاث وثلاثين ومائة
فيها بعث أبو مسلم الخراساني مرار الضبي فقتل الوزير أبا مسلمة السبيعي مولاهم الكوفي وفيه قيل هذا البيت:
إن الوزير وزير آل محمد ... أودى فمن يسأل كان وزيرا
وفيها توفي أبو أيوب بن موسى الأموي المكي الفقيه، روى عن عطاء ومكحول. وفيها مات بمكة الأمير داود بن علي بن عبد الله بن عباس، وكان فصيحاً مفوهاً. وفيها أو في الماضية توفي يحيى بن يحيى بن قيس الغساني سيد أهل دمشق في وقته. وفيها توفي مغيرة بن مقسم الضبي مولاهم الكوفي الفقيه الأعمى أحد الأئمة وعمر بن أبي سلمة على ما ذكر بعضهم.
سنة أربع وثلاثين ومائة
فيها تحول الخليفة السفاح عن الكوفة ونزل الأنبار، وفيها توفي الفقيه يزيد بن يزيد بن جابر الأزدي الدمشقي، روى عن مكحول وطائفة، وقال أبو داود: اجازه الوليد بن يزيد مرة بخمسين ألف دينار، وذكر القضاء فإذا هو أكبر من القضاء، وفيها توجه من العراق موسى بن كعب إلى حرب منصور بن جمهور الكلبي الدمشقي، فالتقى منصوراً في اثني عشر ألفاً فهزم منصور ومات في البرية عطشاً وكان قدرياً.
سنة خمس وثلاثين ومائة
فيها توفي أبو العلاء برد بن سنان الدمشقي نزيل البصرة، وأبو عقيل زهرة بن معبد التيمي بالاسكندرية، قال الدارمي زعموا أنه من الأبدال. وفيها توفي عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني شيخ مالك والسفيانين. روى عن أنس وجماعة، وكان كثير العلم. وفيها توفي عطاء الخراساني نزيل بيت المقدس، وهو كثير الارسال عن الصحابة، قال ابن جابر كنا نغزو معه، وكان يحيي الليل صلاة إلا نومة السحر، وكان يعظنا ويحضنا على التهجد.(1/220)
وفيها توفيت السيدة الولية ذات المقامات العلية والأحوال السنية رابعة ابنة إسماعيل العدوية الشهيرة الفضل البصرية، على ما ذكره ابن الجوزي في شذور العقود وقال غيره: توفيت في سنة خمس وثمانين يعني ومائة، قلت وليس صحيحاً قول من ذكر لها حكاية مع السري السقطي، فإنه عاش حتى نيف على خمسين ومائتين من الهجرة. قال الأستاذ أبو القاسم القشيري في رسالته كانت تقول في مناجاتها: الهي تحرق بالنار قلباً يحبك فهتف بها هاتف مرة: ما كنا نفعل هذا، فلا تظنني بنا ظن السوء. وقال عندها يوماً سفيان الثوري: واحزناه، فقالت: لا تكذب بل قل: واقلة حزناه. لو كنت محزوناً لم يتهيأ لك أن تتنفس. وروي أنها سمعته مرة يقول: اللهم إنا نسألك رضاك. فقالت: اما تستحي أن تسأل رضا من لست عنه براض؟. قلت ومثل هذا ما أخبرني بعض أهل العلم قال: سمعني الشيخ عمر الهوري وأنا أقول في الملتزم: الهي إني أسألك رضاك، فقال لي: يا فقيه، لقد تجرأت، انا منذ ثلاثين سنة ما جسرت أدعو الله تعالى بهذا الدعاء. وقالت رابعة: استغفارنا هذا يحتاج إلى استغفار وقال بعضهم كنت أعود الرابعة العدوية، فرأيتها في المنام تقول: هداياك تأتينا على أطباق من نور مخمر بمناديل من نور، وكانت تقول: ما ظهر من أعمالي لا أعده شيئاً. ومن وصاياها اكتموا حسناتكم كما تكتمون سيآتكم، وأورد لها الشيخ شهاب الدين السهروردي في عوارف المعارف.
إني جعلتك في الفؤاد محمدي ... وأبحت جسمي من أراد جلوسي
فالجسم مني للجليس مؤانس ... وتجيب قلبي في الفؤاد أنيسي
قال ابن خلكان قبرها على رأس جبل يسمى الطور بظاهر القدس. قلت وسمعت من بعض أهل بيت المقدس يذكر أن المدفونة في الجبل المذكور رابعة أخرى غير العدوية، والله أعلم. وروى ابن الجوزي بسند له متصل إلى عبدة خادمة رابعة العدوية، قالت: كانت رابعة تصلي الليل كله، فإذا طلع الفجر هجعت في مصلاها هجعة خفيفة حتى يسفر الفجر، فكنت(1/221)
أسمعها تقول إذا وثبت من مرقدها ذلك وهي فزعة يا نفس إلى كم تنامين؟ وإلى كم تقومين؟ يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا لصرخة يوم النشور، وكان هذا دأبها دهرها حتى ماتت. ولما حضرتها الوفا دعتني وقالت: يا عبدة لا تؤذني بموتي أحداً، وكفني في جبتي هذه جبة من شعر كانت تقوم فيها إذا هدأت العيون، قالت: فكفناها في تلك الجبة وفي خمار صوف كانت تلبسه، ثم رأيتها بعد ذلك بسنة أو نحوها في منامي عليها حلة استبرق وخمار من سندس أخضر لم أر قط شيئاً أحسن منه، فقلت: يا رابعة ما فعلت الجبة التي كفناك فيها وخمار الصوف؟ قالت: انه والله نزع عني وأبدلت به ما ترينه علي، وطويت أكفاني وختم عليها، ورفعت في عليين يكمل لي بها ثوابها يوم القيامة، فقلت لها: لهذا كنت تحملين أيام الدنيا؟ فقالت وما هذا عند ما رأيت من كرامة الله عز وجل لأوليائه فقلت لها: وما فعلت عبيدة بنت أبي كلاب؟ فقالت: هيهات هيهات. والله سبقتنا إلى الدرجات العلى. فقلت: وبم وقد كنت عند الناس أكبر منها؟ قالت: انها لم تكن تبالي على أي حال أصبحت على الدنيا أو أمست، فقلت لها ما فعل أبو مالك أعني ضيغما؟ قالت: يزور الله عز وجل متى شاء. فقلت فما فعل بشربن منصور؟ قالت: بخ بخ أعطي والله فوق ما كان يؤمل. قلت فمريني بأمر أتقرب به إلى الله عز وجل قالت: عليك بكثرة ذكره، يوشك أن يعطي بذلك في قبرك.
سنة ست وثلاثين ومائة
فيها توفي حصين بن عبد الرحمن السلمي الكوفي الحافظ عن ثلاث وتسعين سنة، وربيعة بن أبي عبد الرحمن الفقيه أبو عثمان عالم المدينة، ويقال له ربيعة الرأي، سمع أنساً وابن المسيب، وكانت حلقة الفتوى أخذ عنه مالك. قال عبيد الله بن عمر العمري: هو صاحب معضلاتنا وعالمنا وأفضلنا، وذكروا أنه أدرك جماعة من الصحابة. وقال بكر بن عبد الله الصنعاني أتيت مالك بن أنس فجعل يحدثنا عن ربيعة، فكنا نستزيده من حديث ربيعة، فقال لنا يوماً: ما تصنعون بربيعة؟ وهو، او قال: ها هو نائم في ذلك الطاق، فأتينا ربيعة وقلنا له: انت ربيعة؟ قال: نعم قلنا: انت الذي يحدث عنك مالك بن أنس؟ قال: نعم قلنا، كيف حظي بك مالك وأنت لم تحظ بنفسك؟ قال أما علمتم أن مثقالاً من دولة خير من حمل علم. وكان يوماً يتكلم في مجلسه، فوقف عليه أعرابي، فأطال الوقوف والإنصات إلى(1/222)
كلامه فظن ربيعة أنه قد أعجبه كلامه فقال: يا أعرابي عندكم؟ قال: الإيجاز مع اصابة المعنى، فقال: وما المعنى؟ قال ما أنت فيه منذ اليوم، فخجل ربيعة. وتوفي في الهاشمية مدينة بناها السفاح بأرض الأنبار وكان يسكنها ثم ينتقل إلى الأنبار. قال مالك بن أنس في ما حكى ابن خلكان: ذهبت حلاوة الفقه منذ مات ربيعة الرأي، رحمة الله عليه. وفيها توفي زيد بن أسلم العدوي مولاهم الفقيه العابد، لقي ابن عمر وجماعة وكانت له حلقة الفتوى والعلم بالمدينة. قال أبو حازم: لقد رأينا في حلقة زيد بن أسلم أربعين فقيهاً، ادنى خصلة فينا التواسي بما في أيدينا ونقل البخاري: ان زين العابدين علي بن حسين بن علي كان يجلس إلى زيد بن أسلم. وفيها توفي أبو العباس السفاح عبد الله بن محمد الخليفة العباسي أول خلفاء بني العباس، كانت دولته خمس سنين، وكان طويلاً أبيض جميلاً حسن اللحية مات بالجدري في الأنبار. وفيها توفي العلاء بن الحارث الحضرمي الفقيه الشامي صاحب مكحول، روى عن عبد الله بن بسر بضم الموحدة وسكون المهملة وطائفة، وكان ثقة نبيلاً مفتياً جليلاً. وفيها توفي عطاء بن السائب الثقفي الكوفي الصالح، روى عن عبد الله بن أبي أوفى الصحابي وطائفة، قال أحمد بن حنبل: هو رجل صالح، كان يختم كل ليلة من سمع منه قديماً كان صحيحاً.
سنة سبع وثلاثين ومائة
في أولها بلغ عبد الله بن علي موت ابن أخيه السفاح، فدعا إلى نفسه بالإسلام وعسكر، وزعم أن السفاح عهد إليه بالأمر وأقام شهوداً بذلك، فجهز أبو جعفر المنصور لحربه أبا مسلم الخراساني، فالتقى الجمعان بنصيبين في جمادى الآخرة، فاشتد القتال، ثم انهزم جيش عبد الله، وهرب هو إلى البصرة وبها أخوه، وحاز أبو مسلم خزائنه، وكانت خزائن عظيمة، لأنه كان قد استولى على جميع أموال بني أمية، فبعث المنصور إلى أبي مسلم أن احتفظ بما في يدك، فصعب ذلك على أبي مسلم وعزم على خلع المنصور، وسار نحو خراسان فأرسل إليه المنصور يستعظمه ويمنيه، وما زال به حتى ظفر به فقتل في(1/223)
شعبان، ولما حج أبو مسلم المذكور أمر منادياً في طريق مكة: برئت الذمة من رجل أوقد ناراً في عسكر الأمير. فلم يزل يغديهم ويعشيهم حتى بلغ مكة، وأوقف في المسعى خمس مائة وصيف على رقابهم المناديل، يسقون الأشربة من سعى من الحاج بين الصفا والمروة، ولما وصل الحرم نزل وخلع نعليه ومشى حافياً تعظيماً للحرم، وهو أبو مسلم عبد الرحمن بن مسلم صاحب دعوة بني العباس منشىء دولتهم، خل خراسان وهو شاب فما زال يتحيل بإعانة وجوه شيعة بني العباس ونقبائهم حتى وثب على مرو فملكها. وحاصل الأمر أنه خرج من خراسان بعد أن حكم عليها وضبطها، فقاد جيشاً هائلاً، ومهد لبني العباس بعد أن قتل خلقاً لا يحصون محاربة وصبراً قيل كان حجاج زمانه.
وذكروا أن أباه رأى في المنام أنه جلس للبول فخرج من إحليله نار، وارتفعت في السماء وسدت الآفاق وأضاءت الأرض ووقعت بناحية المشرق، فقص رؤياه على عيسى بن معقل فقال: ان في بطن جاريتك غلاماً يكون له شأن أو كما قال، ثم فارقه ومات، فوضعت الجارية أبا مسلم، ونشأ عند عيسى فلما ترعرع اختلف مع ولده إلى المكتب، فخرج أديباً لبيباً يشار إليه في صغره، ثم إنه اجتمع على عيسى بن معقل وأخيه ادريس جد أبي دلف العجلي بقايا من الخراج تقاعدا من أجلها من حضور مؤدي الخراج بأصفهان، فأنهى عامل أصفهان خبرهما إلى خالد بن عبد الله القسري وإلى العراقين، فأنقذ من الكوفة من حملهما إليه، فتركهما في السجن، فصادفا فيه عاصم بن يونس العجلي محبوساً ببعض الأسباب، وقد كان عيسى بن معقل أرسل أبا مسلم إلى قرية من رستاق. فابق لاحتمال غلتها، فلما بلغه أن عيسى حبس باع ما كان احتمله من الغلة وأخذ ما اجتمع عنده من ثمنها ولحق بعيسى، فأنزله عيسى في بني عجل، وكان يختلف إلى السجن، ويتعهد عيسى وإدريس ابني معقل، وكان قد قدم الكوفة جماعة من نقباء الإمام محمدبن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب مع عدة من شيعته، فدخلوا على العجليين السجن مسلمين، فصادفوا أبا مسلم عندهم، فأعجبهم عقله ومعرفته وأدبه وكلامه، ومال هو إليهم، ثم إنه عرف أمرهم وأنهم دعاة، واتفق مع ذلك هرب عيسى وادريس من السجن، فعدل أبو مسلم من دور بني عجل إلى هؤلاء النقباء، ثم خرج معهم إلى مكة حرسها الله تعالى، فأورد النقباء على إبراهيم بن محمد بن علي، وقد تولى الإمامة بعد وفاة أبيه عشرين دينار ومائتي ألف درهم، وأهدوا إليه أبا مسلم، فأعجب به وبمنطقه وعقله وأدبه فأقام أبو مسلم عنده يخدمه حضراً أو سفراً.(1/224)
ثم إن النقباء عادوا إلى إبراهيم الإمام وسألوه رجلاً يقوم بأمر خراسان فقال: إني قد جربت هذا الأصفهاني وعرفت ظاهره وباطنه، فوجدته حجر الأرض. ثم دعا أبا مسلم وقلده الأمر وأرسله إلى خراسان، وكان من أمره ما كان، وكان أبو مسلم يدعو الناس إلى رجل من بني هاشم، وأقام على ذلك سنين وفعل في خراسان وتلك البلاد ما هو مشهور، فلا حاجة للإطالة بذكره. وكان مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية يحتال على الوقوف على حقيقة الأمر، وإن أبا مسلم إلى من يدعو، فلم يزل على ذلك حتى ظهر له أن الدعاء لإبراهيم الإمام، وكان مقيماً عند أهله وإخوته، فأرسل إليه وقبض عليه وأحضر مالي حران، فأوصى إبراهيم بالأمر بعده لأخيه السفاح، ولما وصل إبراهيم إلى حران حبسه مروان بها، ثم غمه بجراب طرح فيه نؤرة، وجعل فيه رأسه، وسد عليه إلى أن مات. ثم سار أبو مسلم يدعو الناس إلى أبي العباس السفاح، وكان بنو أمية يمنعون بني هاشم من نكاح الحارثيات لما رأوا في ذلك عن سلفهم أن هذا الأمر يتم لابن الحارثيه، فلما قام عمر بن عبد العزيز بالأمر أتاه محمد وقال: اني أردت أن أتزوج ابنة خالي من بني الحارث بن كعب، افتأذن لي؟ قال تزوج من شئت فتزوج ريطة بنت عبد الله منهم فأولدها السفاح فتولى الخلافة. وذكر الزمخشري في كتاب ربيع الأبرار أن أبا مسلم نهض بالدعوة وهو ابن ثمان عشرة سنة، وقيل هو ابن ثلاث وثلاثين، فإنه كان عظيم القدر يلقاه القاضي ابن أبي ليلى المشهور فقبل يده، فقيل له في ذلك فقال: قد لقي أبو عبيدة بن الجراح عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما وقبل يده، فقيل له: اتشبه أبا مسلم بعمر؟ فقال: اتشبهونني بأبي عبيدة. وكان أول ظهور أبي مسلم بمرو من خراسان في سنة تسع وعشرين ومائة والوالي بها يومئذ من جهة مروان نصر بن سيار الليثي وكتب إليه قول ابن هريم البجلي الكوفي.
أرى خلل الرماد وبيص نار ... ويوثسك أن يكون لها ضرام
فإن النار بالزندين توري ... وإن الحرب أولها كلام(1/225)
لئن لم يطفها عقلاء قوم ... يكون وقودها جثث وهام
أقول من التعجب ليت شعري ... أأيقاظ أمية أم نيام
فإن كانوا لحينهم نياماً ... فقل قوموا فقد حان القيام
فهذا مثل ما يحكى من قول بعضهم لما خرج محمد بن عبد الله بن الحسن وأخوه إبراهيم علي أبي جعفر المنصور.
أرى ناراً أنست على يفاع ... لها في كل ناحية شعاع
وقد رقدت والعباس عنها ... وباتت وهي آمنة رتاع
كمارقدت أمية ثم هبت ... تدافع حين لا يغنى الدفاع
وفي سنة اثنتين وثلاثين ومائة وثب أبو مسلم على مقدم خراسان فقتله، وقعدا في الدست، وسلم عليه بالأمرة وخطب ودعا للسفاح، وانقطعت ولاية بني أمية عن خر اسان. ولما مات السفاح وتولى أخوه أبو جعفر المنصور صدرت عن أبي مسلم إساءات وقضايا غيرت قلب المنصور عليه فعزم على قتله وقتله كما تقدم. وقيل إن منصوراً قال لسالم بن قتيبة بن مسلم الباهلي: ما ترى أبي مسلم؟ فقال: " لوكان فيهما الهة إلا الله لفسدتا " - الأنبياء: 22 - فقال: حسبك يا بن قتيبة لقد أودعتها أذناً واعية. وكان أبو مسلم ينظر في كتب الملاحم ويجد خبره فيها، وأنه مميت دولة ومحيي دولة، وأنه يقتل ببلاد الروم، كان المنصور يومئذ برومية المدائن التي بناها كسرى ولم يخطر لأبي مسلم أنها موضع قتله، بل راح وهمه إلى بلاد الروم، وكانت رومية المذكورة قد بناها الإسكندر ذو القرنين لما أقام بالمدائن، وكان قد طاف الأرض شرقاً وغرباً ولم يختر منها منزلاً سوى المدائن، فنزلها وبنى رومية المذكورة على ما ذكروا والله أعلم. فلما عاد أبو مسلم من سفر حجه المتقدم ذكره دخل على المنصور، فرحب به ثم إمره بالانصراف إلى مخيمه، وانتظر المنصور فيه الغرض والغوائل، ثم إن أبا مسلم ركب إليه مراراً فأظهر له التحني، ثم جاءه يوماً فقيل له أنه يتوضأ للصلاة، فقعد تحت الرواق، ورتب له المنصور جماعة يقفون وراء السرير فإذا عاتبه وضرب يداً على يد ظهروا وضربوا عنقه، ثم جلس المنصور وأذن له فدخل وسلم فرد، وأمره بالجلوس وحادثه ثم عاتبه، وقال: فعلت وفعلت فقال أبو مسلم: ما يقال هذا بعد بيعتي واجتهادي، وما كان مني، فقال له: يا ابن الخبيثة إنما فعلت ذلك تحرياً وحفظاً ولو كان مكانك أمة سوداء لعملت عملك. ألست(1/226)
الكاتب إلي تبدأ بنفسك قبلي؟ ألست الكاتب يخطب عني آسية وتزعم أنك من ولد سليط بن عبد الله بن عباس، لقد ارتقيت لا أم لك مرتقى صعباً، فأخذ أبو مسلم بيده يعركها ويقبلها ويعتذر إليه، فقال له المنصور: وهو آخر كلامه قتلني الله إن لم أقتلك، ثم صفق بإحدى يديه على الأخرى فخرج إليه القوم وخبطوه بسيوفهم، والمنصور يصيح اضربوا قطع الله أيديكم، وكان أبو مسلم قد قال عند أول ضربة استبقني يا أمير المؤمنين لعدوك، فقال لا أبقاني الله أبداً وأي عدو أعدى منك؟ ولما قتله أدرجه في بساط، فدخل عليه جعفر بن حنظلة، فقال له المنصور: ما تقول في أمر أبي مسلم؟ فقال: يا أمير المؤمنين إن كنت أخذت من رأسه شعرة فاقتل ثم اقتل ثم اقتل، فقال له المنصور وفقك الله ها هو في البساط، فلما نظر إليه قتيلاً قالى: يا أمير المؤمنين عد هذا اليوم أول خلافتك، ثم أقبل المنصور على من حضره وأبو مسلم طريح بين يديه وأنشد.
زعمت أن الدين لا يقتضى ... فاستوف بالكيل أبا مخرم
اشرب بكأس كنت تسقي ... بها أمر في الحلق من العلقم
وكان المنصور بعد قتله كثيراً ما ينشد جلساؤه نظماً لبعضهم من جملته.
وأقدم لما لم يجد عنه مذهباً ... ومن لم يجد بداً من الأمر أقدما
قيل ومن ها هنا أخذ البحتري قوله في مدح الفتح بن خاقان صاحب المتوكل على الله، ولقد لقي أسداً على طريقه فلم يقدم عليه، ثم أقدم عليه فقتله الفتح، والمقصود منها قوله:
فأحجم لما لم يجد فيك مطمعاً ... وأقدم لما لم يجد منك مهربا
واختلف في نسب أبي مسلم: فقيل من العرب، وقيل من العجم، وقيل من الأكراد، وفي ذلك يقول أبو دلامة:
أبا مخرم ما غير الله نعمة ... على عبده حتى يغيرها العبد
أفي دولة المنصور حاولت غدرة ... ألا إن أهل الغدر أباؤك الكرد
أبا مخرم خوفت بالقتل فاتحاً ... عليك بما خوفتني الأسد الورد
ووصف المدائني أبا مسلم فقال كان قصير السمر جميلاً حلواً أنقى البشرة أحور العين عريض الجبهة حسن اللحية وافرها طويل الشعر قصير الساق والفخذ خافض الصوت فصيحاً بالعربية والفارسية حلو المنطق راوية للشعر عالماً بالأمور، ولم يرى ضاحكاً ولا مازحاً إلا في وقته، ولا يكاد يقطب في شيء من أحواله، تأتيه الفتوحات العظام فلا يظهر عليه أثر(1/227)
السرور، وتنزل به الحوادت القادحة فلا يرى مكتئباً، وإذا غضب لم يستقره الغضب، ولا يأتي النساء في السنة إلا مرة، وكان من أشد الناس غيرة، وقيل له: بم بلغت ما بلغت؟ فقال: ما أخرت أمر يومي إلى غد قط. وفيها قتل أحد الأشراف بدمشق وهو عثمان بن سراقة الأزدي، وكان قد وثب عند موت السفاح وسب بني العباس على منبر دمشق، وأقام قي الخلافة هاشم بن يزيد بن خالد بن يزيد بن معاوية، فبعثهم يحيى بن صالح عم السفاح، فلم يقووا لحربه، واختفى هاشم، وضرب عنق ابن سراقة.
سنة ثمان وثلاثين ومائة
فيها أقبل طاغية الروم قسطنطين في مائة ألف حتى نزل بدابق بكسر الموحدة بعد الألف، فالتقاه صالح بن علي عم المنصور، فهزمه والحمد لله على ظهور دين الإسلام على كل دين. وفيها توفي العلاء بن عبد الرحمن، وليث بن أبي سليم يخلف فيه، وزيد بن واقد.
سنة تسع وثلاثين ومائة
فيها توفي يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي المدني الفقيه الأعرج يروي عن شرحبيل بن سعد وطبقته من التابعين، ويونس بن عبيد شيخ البصرة، رأى أنساً وأخذ عن الحسن وطبقته، قال سعيد بن عامر: ما رأيت رجلاً قط أفضل منه، وأهل البصرة على ذا. قال أبو حاتم: هو أكبر من سليمان التيمي، ولا يبلغ سليمان منزلته، وقال يونس: ما كتبت شيئاً قط يعني لحفظه وذكائه. وفيها توفي خالد بن يزيد المصري الفقيه، يروي عن عطاء والزهري وطبقتهما.
سنة أربعين ومائة
فيها نزل جبريل بن يحيى الأمير من جهة صالح بن علي بالمصيصة مرابطاً فأقام بها سنة حتى بناها وحصنها. وفيها توفي أبو حازم سلمة بن دينار الفارسي المدني الأعرج عالم أهل المدينة(1/228)
وزاهدهم وواعظهم، قال ابن خزيمة: لم يكن في زمانه مثله، له حكم ومواعظ. وفيها توفي داود بن أبي هند البصري الفقيه الحافظ المفتي النبيل السيد الجليل، وففيه واسط أبو العلاء أيوب بن أبي مسكين، وسهل بن أبي صالح السمان، روى عن أبيه وطبقته وأخذ عنه مالك والكبار. وفيها توفي عمرو بن قيس الكندي السكوني، عاش مائة تامة، وروى عن عبد الله بن عمر والكبار، وقيل إنه أدرك سبعين صحابياً.
سنة إحدى وأربعين ومائة
قال بعضهم فيها ظهر قوم خراسانيون، يقولون بتناسخ الأرواح وإن ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم المنصور، وإن الهيثم بن معاوية جبرائيل، فأتوا قصر المنصور وطافوا به، فقبض على مائتين من كبارهم وحبسهم، فغضب الباقون وحفوا بنعش وحملوا هيئة جنازة ثم مروا بالسجن، فشدوا على الناس وفتحوا السجن، وأخرجوا أصحابهم، وقصدوا المنصور في ست مائة مقاتل، فأغلقوا باب البلدة وحاربهم العسكر مع معن بن زائدة، ثم وضعوا السيف فيهم وأصيب عثمان بن نهيك الأمير، فاستعمل المنصور مكانه على الحرمين أخاه عيسى وكان ذلك بالهاشمية قال المدائني: فحدثني أبو بكر الهذلي قال: اطلع المنصور فقال رجل إلى جانبي: هذا رب العزة الذي يطعمنا ويرزقنا، تعالى الله الملك الحق المبين عن مقالة أهل الضلالة الملحدين. وفي السنة المذكورة توفي موسى بن عقبة المدني صاحب المغازي، قال الواقدي: كان موسى فقيهاً يفتي رحمه الله. وفيها توفي أبان بن تغلب الكوفي القارىء المشهور، رحمه الله. وفيها توفي موسى بن كعب التميمي المروزي أحد نقباء بني العباس. وفيها أو في التي يليها توفي أبو إسحاق الشيباني الكوفي سليمان بن فيروز، وقيل ابن خاقان.
سنة اثنتين وأربعين ومائة
وفيها توفي خالد الحذاء البصري الحافظ، يروي عن كبار التابعين، وقد رأى أنساً،(1/229)
وكان يجلس بالحذائين فلقب بالحذاء، وفيها توفي عاصم بن سليمان، احد حفاظ البصرة، رحمة الله عليهم. وفيها أو في التي بعدها توفي عمرو بن عبيد البصري الزاهد العابد المعتزلي القدري، صحب الحسن ثم خالفه واعتزل خلقته، فلذا قيل المعتزلة. وفيها توفي محمد بن أبي إسماعيل الكوفي، روى عن أنس وجماعة قال شريك: رأيت أولاد أبي إسماعيل أربعة، ولدوا في بطن واحد، وعاشوا.
وفيها توفي أبو هانىء حميد بن هانىء الخولاني المصري، روى عن علي بن رباح وعدة، وأدركه ابن وهب.
سنة ثلاث وأربعين ومائة
وفيها ثارت الديلم وقتلوا خلائق من المسلمين، فانتدب أهل الإسلام لغزوهم. وفيها سار الأمير محمد بن الأشعث إلى المغرب، فالتقى الاباضية فهزمهم، وقتل زعيمهم أبو الخطاب في المصاف، وفيها توفي حجاج بن أبي عثمان أحد حفاظ البصرة المعروف بالصواف، روى عن الحسن وغيره. وفيها على الصحيح توفي حميد الطويل أحد ثقات التابعين البصريين، كان فيها قائماً يصلي فسقط ميتاً سمع أنساً وطائفة. وكنيته أبو عبيدة. وفي ذي القعدة توفي سليمان بن طرخان أبو المعتمر التيمي أحد علماء البصرة وعبادها سمع أنساً وطائفة. قال شعبة: كان إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تغير لونه، وما رأيت أصدق منه، وقال المعتمر: مكث أبي أربعين سنة يصوم يوماً ويفطر يوماً ويصلي الفجر بوضوء العشاء، وعاش سبعاً وتسعين سنة. وفيها توفي مطرف بن طريف الكوفي الزاهد، وفيها توفي يحيى بن سعيد الأنصاري المدني الفقيه أحد الأعلام، ولي قضاء المنصور، ومات بالرصافة قبل أن يبني بغداد. قال ايوب السختياني: ما رأيت بالمدينة أفقه منه، وكان يحيى القطان يقدمه على الزهري، وقال الثوري: كان من الحفاظ.(1/230)
وفيها توفي على الأصح ليث بن أبي سليم الكوفي أحد الفقهاء. قال الفضيل بن عياض: كان أعلم أهل زمانه في المناسك.
سنة أربع وأربعين ومائة
فيها حج بالناس المنصور، وأهمه شان محمد بن عبد الله بن الحسن وأخيه إبراهيم لتخلفهما عن الحضور عنده، فوضع عليها العيون وبذل الأموال وبالغ في طلبهما لأنه عرف مرامهما، وجرت أمور يطول شرحها، وقبض على أبيهما فسجنه، وجهز جيش العراق والجزيرة لغزو الديلم وعلى الناس محمد بن السفاح. وفيها توفي سعيد بن إياس محدث البصرة، وعبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بالمدينة في حبس المنصور. قال الواقدي: كان من العباد، وله شرف وهيبة ولسان شديد بالشين المعجمة على ما ضبط في الأصل المنقول منه. وفيها توفي عمرو بن عبيد المعتزلي المتكلم الزاهد المشهور ومولى بني عقيل، كان أبو يختلف إلى أصحاب الشرط بالبصرة، فكان الناس إذ رأوا عمراً مع أبيه قالوا: هذا خير الناس من شر الناس فيقول أبوه صدقتم هذا إبراهيم وأنا آزر. وإذا قيل لأبيه عبيد إن ابنك يختلف إلى الحسن البصري ولعله أن يكون منه خير، فقال: وأي خير يكون من ابني وأمه؟ اصبتها من غلول وأنا أبوه، ثم صار عمرو شيخ المعتزلة في وقته. وسئل الحسن البصري عنه فقال للسائل: سألت عن رجل كأن الملائكة أدبته، وكأن الأنبياء ربته، ان قام بأمر قعد به، وإن قعد بأمر قام به، وإن أمر بشيء كان ألزم الناس له، وإن نهى عن شيء كان أترك الناس له، ما رأيت ظاهراً أشبه بباطن ولا باطناً أشبه بظاهر منه. ودخل يوماً على الخليفة أبي جعفر المنصور وكان صديقاً له قبل الخلافة، فقربه وقال عظني، فقال: ان هذا الأمر الذي في يدك لو بقي في يد أحد ممن كان قبلك لم يصل إليك، فاحذر من ليلة تمحض بيوم لا ليلة بعده، وغير ذلك من المواعظ فلما أراد النهوض قال: قد أمرنا لك بعشرة آلاف درهم قال: لا حاجة لي فيها. قال: والله تأخذها. قال: والله لا آخذها، وكان المهدي حاضراً فقال يحلف أمير المؤمنين وتحلف أنت؟ فالتفت عمرو إلى المنصور وقال: من هذا الفتى؟ قال: هذا المهدي ولدي وولي عهدي. فقال: اما فقد ألبسته(1/231)
لباساً ما هو لباس الأبرار وسميته باسم ما استحقه ومهدت له أمراً أمنع ما يكون به أشغل ما يكون عنه، ثم التفت إلى المهدي وقال: نعم يا ابن أخي إذا حلف أبوك اخشه، لأن أباك أقوى على الكفارات من عمك، فقال له المنصور: هل من حاجة؟ قال: لا تبعث إلي حتى آتيك، فقال المنصور: اذن لا نلتقي. قال عمرو: هي حاجتي فاتبعه المنصور نظره، وقال:
كلكم يمشي رويدا ... كلكم يطلب صيدا
غير عمرو بن عبيد
ولما حضرته الوفاة قال لصاحبه: نزل بي الموت ولم أتأهب، ثم قال: اللهم إنك تعلم أنه لم يسنح لي أمران في أحدهما رضى لك، وفي الآخر هوى لي إلا اخترت رضاك على هوائي فاغفر لي، وتوفي وهو راجع من مكة بموضع يقال له مران بفتح الميم وبعدها راء مشددة، وفيه دفن أيضاً تميم بن مر الذي ينسب إليه بنو تميم القبيلة المشهورة، ورثا المنصور عمراً المذكور بقوله:
صلى الإله عليك من متوسد ... قبراً به قبرعلى مران
قبراً تضمن مؤمناً متحنفاً ... صدق الإله ودان بالعرفان
لو أن هذا الدهر أبقى صالحاً ... أنقى لنا عمراً أبا عثمان
قالوا ولم يسمع بخليفة رثى من هو دونه سواه، ولعمرو المذكور رسائل وخطبات، وكتاب التفسير عن الحسن البصري، وكتاب الرد على القدرية، قلت هكذا قال بعض المؤرخين، والذي حكى أصحابنا عنه في كتب الأصول: قول شنيع وكفر فظيع في نفيه المقدر، وهو ما روى الإمام الطبري أنه قال: ان كان تبت يدا أبي لهب في اللوح المحفوظ، فما على أبي لهب من لوم. وذكر الإمام الطرسوسي المالكي في كتابه، في الخلاف عنه، أنه لما ذكر حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه الذي رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن حبان، المشتمل على قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الجنين: " ويؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد ". قال: لو سمعته من الأعمش لكذبته، ولو سمعته من أن مسعود لما صدقته، ولو سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقلت: ما بهذا بعثت الرسل، ولو سمعته من الله عز وجل ما على هذا أخذت مواثيقنا، قال أئمتنا: وليس يزيد على كفره كفر.(1/232)
وفيها توفي فقيه الكوفة أبو شبرمة عبد الله بن شبرمة الضبي القاضي، روى عن أنس والتابعين، وكان عفيفاً عارفاً عاقلاً، يشبه النساك، شاعراً جواداً. وفيها توفي عقيل بضم العين المهملة مولى بني أمية، وكان حافظاً حجة، ومجالد بالجيم ابن سعيد الهمداني الكوفي صاحب الشعبي.
سنة خمس وأربعين ومائة
قالوا فيها ظهر محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن الحسني، وخرج في مائتين وخمسين نفساً بالمدينة، وهو راكب على حمار وذلك في أول رجب، فوثب على متولي المدينة فسجنه، وتتبع أصحابه، ثم خطب الناس، وبايعه بالخلافة أهل المدينة قاطبة طوعا وكرهاً، وأظهر أنه قد خرج غضباً لله عز وجل، وما تخلف عنه من الوجوه إلا نفر يسير، واستعمل على مكة عاملاً وعلى اليمن وعلى الشام، فلم يتمكن عماله وندب المنصور لحربه ابن عمه عيسى بن موسى، وقال: لا أبالي أيهما قتل صاحبه، وإنما قال ذلك لأن عيسى المذكور كان ولي العهد بعد المنصور على ما عهد في ذلك السفاح. قيل: وكان المنصو يود هلاكه ليولي ولده المهدي مكانه، فسار عيسى في أربعة آلاف، وكتب إلى الاشراف يستميلهم ويمنيهنم، فتفرق عن محمد ناس كثير، وأشير عليه بالمسير إلى مصر ليتقوى منها، فأبى وتحصن في المدينة وعمق خندقها، فلما وصل عيسى تفرق عن محمد أصحابه حف بقي في طائفة قليلة، فراسله عيسى يدعوه إلى الإنابة ويبذل له الأمان فلم يسمع، ثم أنذر عيسى أهل المدينة ورغبهم ورهبهم أياماً، ثم زحف على المدينة فظهر عليها، ونادى محمداً وناشده الله ومحمد لا يرعوي. قال عثمان بن محمد بن خالد أني لأحسب محمداً قتل بيده يومئذ سبعين رجلاً وكان معه ثلاث مائة مقاتل، ثم قتل في المعركة، وبعث عيسى برأسه إلى المنصور. وفي السنة المذكورة خرج أخوه إبراهيم بن عبد الله إلى البصرة، وكان قد سار إليها من الحجاز فدخلها سراً في عشرة أنفس، فجرت له أمور غريبة في اختفائه، ربما يقع به بعض الأعوان فيصطنعه، ثم دعى إلى نفسه سراً بالبصرة حتى تابعه نحو أربعة آلاف، وجاء خير أخيه وما جرى له بالمدينة فوجم واغتم. ولما بلغ المنصور خروجه تحول فنزل الكوفة حتى يأمن غايلة أهلها، وألزم الناس(1/233)
لبس السواد، وجعل يقتل كل من اتهمه أو يحبسه، وكان بالكوفة ابن عامر يبايع لإبراهيم سراً وتهاون متولي البصرة في أمر إبراهيم حتى اتسع الخرق وخرج أول ليلة من رمضان، وتحصن منه متولي البصرة، وأقبل الخلق إلى إبراهيم ما بين ناصر وناظر، ونزل متوليها بالأمان، ووجد إبراهيم في الحواصل ست مائة ألف ففرقها بين أصحابه خمسين خمسين، وبعث عاملاً إلى الأهواز ليفتحها، وبعث آخر إلى فارس، وآخر إلى واسط، فجهز المنصور لحربه خمسة آلاف، ثم التقوا فكان بين الفريقين عدة وقعات، وقتل خلق من أهل البصرة وواسط، وبقي إبراهيم سائر رمضان يفرق العمال على البلدان ليخرج على المنصور من كل جهة، فأتاه مصرع أخيه بالمدينة قبل الفطر بثلاث، فعيد الناس وهم يرون فيه الانكسار، وكان المنصور في جمع يسير وعامة جيوشه في النواحي، فالتزم بعد ذلك أن لا يفارقه ثلاثون ألفاً، فلم يبرح إلى أن رد من المدينة عيسى بن موسى، فوجهه إلى إبراهيم، ومكث المنصور لا يقر له قرار، وجهز العساكر ولم يأو إلى فراش خمسين ليلة، وكان كل يوم يأتيه فتق من ناحية هذا ومائة ألف سيف كامنة له بالكوفة، قالوا: ولولا السعادة لسل عرشه بدون ذلك إلى أن هدم عزه وذهث وهو بالمثلثة، وكان مع ذلك صقراً أحوذياً مشمراً ذا عزم ودهاء.
وعن داود بن جعفر قال: احصى ديوان إبراهيم بالبصرة فبلغوا مائة ألف، وقال غيره: بل قام معه عشرة آلاف، فلو هجم الكوفة لظفر بالمنصور، ولكنه كان فيه دين، قال: اخاف إن هجمتها أن يستباح الصغير والكبير، فقيل له: فخرجت على مثل المنصور، وتتوقى قتل الصغير والكبير، وكان أصحابه مع قلة رأيه يختلفون عليه، وكل يشير برأي، إلى أن التقى الجمعان على يومين من الكوفة، فاشتد الحرب وظهر أصحاب إبراهيم، وكان على مقدمة جيوش المنصور حميد بن قحطبة فانهزم، وجعل عيسى بن موسى يثبت الناس، وقد بقي في مائة من حاشية، فأشاروا عليه بالفرار، فقال: لا أزول حتى أظفر أو أقتل، وكان يضرب المثل بشجاعته، ثم دار أبناء سليمان بن علي في طائفة، وجاءوا من وراء إبراهيم، وحملوا على عسكره، قال عيسى لولا أبناء سليمان لافتضحنا، ومن صنع الله عز وجل أن أصحابنا انهزموا فاعترض لهم نهر ولم يجدوا مخاضة، فرجعوا، فوقعت الهزيمة على أصحاب إبرأهيم حتى بقي في سبعين، وأقبل حميد بن قحطبة فحمل بأصحابه واشتد القتال حتى تفانى خلق تحت السيف طول النهار، وجاء سهم غرب لا يدرى من رمى به في حلق إبراهيم، فأنزلوه وهو يقول وكان أمر الله قدراً مقدوراً أردنا أمراً وأراد الله غيره، واجتمع(1/234)
اصحابه يحمونه، فأنكر حميد اجتماعهم، فحمل عليهم فتفرقوا عن إبراهيم، فنزل جماعة واحتزوا رأسه وبعث به إلى المنصور في الخامس والعشرين من ذي القعدة وعمره ثمان وأربعون سنة، وكان قد أذاه يومئذ الحرب وحرارة الزردية فحسروها عن صدره فأصيب في ليته، ووصل إلى المنصور خلق كثير منهزمين، وهيىء النجائب ليهرب إلى الري، وكان يتمثل.
ونصبت نفسي للرماح درية ... إن الرئيس لمثل ذاك فعول
قال: الأصمعي الدرية غير مهموز وهي دابة يستتر بها الصائد فإذا أمكنه الصيد رمى، وقال أبو زيد هو مهموز لأنها تدرأ نحو الصيد أي تدفع قال الأخطل:
فإن كنت قد أقصدتني إذ رميتني ... بسهمك فالرامي يصيب ولا يدرا
أي لا يستتر ولا يختل يقال: اقصد السهم: اي أصاب فقتل، فلما أسرعوا إليه بالبشارة وبالرأس تمثل بقول البارقي:
فألقت عصاها واستقرت لها النوى ... كما قر عيناً بالإياب المسافر
قال خليفة: خرج مع إبراهيم هيثم وأبو خالد الأحمر وعيسى بن يونس وعباد بن العوام ويزيد بن هارون، وكان أبو حنيفة يجاهر في أمره ويأمر بالخروج معه، قال أبو نعيم: فلما وصل قتل إبراهيم، هرب أهل البصرة براً وبحراً واستخفى الناس. وفي السنة المذكورة أمر المنصور فأسست بغداد وابتدأ بإنشائها ورسم هيئتها وكيفيتها أولاً بالرماد، وفرغت في أربعة أعوام بالجانب الغربي، قيل وبغداد في وقتنا اكثرها من الجانب الشرقي. وفي السنة المذكورة وقيل في سنة ست توفي إسماعيل بن أبي خالد البجلي مولاهم الكوفي الحافظ، احد أعلام الحديث، وكان صالحاً ثبتاً حجة. وفيها توفي عمرو بن ميمون بن مهران الجزري الفقيه، وكان يقول: لو علمت أنه بقي علي حرف من السنة باليمن لأتيتها.
وفيها توفي عبد الملك بن أبي سليمان الكوفي الحافظ أحد المحدثين الكبار، كان شعبة مع جلالته يتعجب من حفظ عبد الملك.(1/235)
وفيها توفي محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي المدني، كان حسن الحديث كثير العلم مشهوراً، اخرج له البخاري، وفيها توفي أبو حيان يحيى بن سعيد التيمي الكوفي، وكان ثقة إماماً صاحب سنة.
سنة ست وأربعين ومائة
في صفر منها تحول المنصورإلى بغداد قبل تمام بنائها، وكان لا يدخلها أحد راكباً، حتى إن عمه عيسى اشتكى إليه المشي فلم يأذن له. وفيها توفي الأشعث بن عبد الملك الحمراني مولى الحمران مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكان ثقة ثبتاً حاقظاً. وفيها توفي محمد بن السائب الكلبي، الكوفي صاحب التفسير والأخبار والأنساب، قال: انما سميت العرب شعوباً لأنهم قيل لهم ذلك حين تفرقوا من ولد إسماعيل صلى الله على نبينا وعليه وآله وسلم ومن ولد قحطان وتشعبوا، وقال: العرب كلهم بنو إسماعيل إلا اربع قبائل السلف والأوزاع وحضرموت وثقيف، وأول من تكلم العربية يعرب بن الهميسع ابن بنت ابن إسماعيل، قال: وكل نبي ذكر في القرآن فهو من ولد إبراهيم غير ادريس ونوح ولوط وهود وصالح، قلت وكأنه لم يستثن آدم صلى الله على نبينا وعليه وآله وسلم لشهرة كونه أباً للكل، وقال: لم يكن في العرب في الأنبياء إلا هود وصالح وإسماعيل ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وروي عن ابن عباس أن أصحاب سفينة نوح كانوا ثمانين رجلاً، نزلوا فمكثوا حتى كثروا، وملكهم نمرود بن كنعان بن حازم بن نوح، فلما كفروا ابدل الله ألسنتهم وتفرقوا على الاثنين وسبعين لساناً، وفهم الله العربية عمليق واميم وطسم بني لاوذ بن سام، وعاد وعبيل بن عوص بن آرم بن سام، وثمود وجديش ابني جابر بن أرم بن سام، وبني قنطور بن عامر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، صلى الله على نبينا وعليه وآله وسلم، قلت وقع في كلام الكلبي تناقض، فإنه ذكر أن اللغة العربية فمها الله تعالى عمليقاً، وذكر من بعده من ذرية نوح، بعدما ذكر أن أول من تكلم بالعربية يعرب من ذرية إسماعيل، وهذا أيضاً مخالف لما جاء إن إسماعيل عليه السلام تعلم العربية من جرهم لما نشأ بينهم. والكلبي المذكور فيه مطاعن من جهة المذهب وغيره. وقد قيل إنه لما نزل نوح صلى الله على نبينا وعليه وآله وسلم ومن معه من السفينة،(1/236)
وكانوا ثمانين، خلق الله تعالى في قلوبهم لغات مختلفة فأصبح كل واحد منهم يتكلم بلغة، والله تعالى أعلم. وفيها توفي هشام بن عروة بن الزبير الفقيه أبو المنذر أحد أثمة الحديث، ادرك عمه عبد الله بن الزبير، وقال: مسح ابن عمر برأسي ودعا لي، قال وهيب: قدم علينا هشام بن عروة وكان مثل الحسن، وابن سيرين وكان من المكثرين من الحديث المعدودين في أكابر العلماء وجلة التابعين، ورأى جابر بن عبد الله الأنصاري وأنس بن مالك وسهل بن سعد، وقيل إنه سمع من عمه عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر، روى عنه جماعة من جلة المحدثين منهم يحيى بن سعيد القطان ووكيع، وقدم الكوفة في أيام أبي جعفر المنصور فسمع منه الكوفيون، وقيل ولد عمر بن عبد العزيز وهشام بن عروة والزهري وقتادة والأعمش ليالي قتل الحسين بن علي، وكان قتله يوم عاشوراء سنة إحدى وستين من الهجرة، وقدم هشام بغداد على المنصور، وتوفي بها، فصلى عليه المنصور، ودفن بمقبرة الخيزران، رحمه الله تعالى.
سنة سبع وأربعين ومائة
فيها ألح المنصور وأكثر وتحيل بكل ممكن على ولي العهد عيسى بن موسى بالرغبة والرهبة حتى خلع نفسه كرهاً، وقيل بل عوضه عشرة آلاف درهم على أن يكون ولي العهد بعده المهدي بن منصور. وفيها توفي رؤبة بن العجاج البصري التميمي السعدي، هو وأبوه راجزان مشهوران، كل منهما له ديوان رجز ليس فيه شعر. قلت هكذا قال بعضهم مع أن الصحيح أن الرجز شعر وهو مذهب سيبويه والصحيح عند المحققين خلافاً للأخفش وتابعيه، وهما مجيدان في رجزهما، وكان رؤبة بصيراً باللغة عارفاً بوحشيها وعريبها. حكى يونس بن حبيب النحوي، قال: كنت عند أبي عمرو بن العلاء فجاءه شبيل بن عزرة الضبعي، فقام إليه أبو عمرو وألقى إليه لبد بغلته فجلس عليه، ثم أقبل عليه يحدثه، فقال: يا أبا عمر، وسألت رؤبتكم عن اشتقاق اسمه فأعرفه يعني رؤبة. قال يونس: فلم أملك نفس عند ذكره فقلت له لعلك تظن أن معد بن عدنان أفصح منه ومن أبيه؟ افتعرف ما الرؤبة والرؤبة والرؤية والرؤبة والرؤبة غلام رؤبة؟ فلم يخرج جواباً، فقام مغضباً وأقبل على أبي عمرو، وقال: هذا رجل شريف يزور مجالسنا ويقضي حقوقنا، وقد أسأت فما فعلت(1/237)
مما واجهته به، فقلت: لم املك نفسي عند ذكر رؤبة، فقال: او قد سلطت على تقويم الناس ثم فسر يونس ما قاله فقال الرؤبة خميرة اللبن والرؤبة قطعة من الليل والرؤبة الحاجة، يقال فلان لا يقوم برؤبة أهله أي بما أسند إليه من خوائجهم، والرؤبة حمام ماء الفحل، والرؤبة بالهمز القطعة التي يشعث بها الإناء والجميع بسكون الواو وضم الراء التي قبلها إلا رؤبة فإنه بالهمز، وكان رؤبة مقيماً بالبصرة. فلما ظهر إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم، وخرج على أبي جعفر المنصور، وجرت الواقعة المشهورة، خاف رؤبة على نفسه فخرج إلى البادية ليجتنب الفتنة، فلما وصل إلى الناحية التي قصدها أدركه أجله بها، فتوفى هناك وكان قد اسن، ورؤبة بضم الراء وسكون الهمزة وفتح الموحدة في آخرها هاء وهي في الأصل قطعة من الخشب يشعث بها الإناء وجمعها رياب وباسمها سمي الراجز المذكور. وفيها توفي عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز بن مروان الأموي، كان فقيهاً عالماً، وفيها انهزم الجيش على الأمير عبد الله ابن عم المنصور الذي هزم مروان وافتتح دمشق، وكان من رجال الدهر رأياً ودهاء وشجاعة وحزماً. وفيها توفي الإمام أبو عثمان عبيد الله بن عمربن حفمص بن عاصم بن عمربن الخطاب، وكان أفضل إخوته وأكثرهم علماً وصلاحاً وعبادة، وروى عن القاسم وسالم ونافع. وفيها توفي هشام بن حسان الأزدي الحافظ محدث البصرة.
سنة ثمان وأربعين ومائة
فيها توفي الإمام السيد الجليل سلالة النبوة ومعدن الفتوة أبوعبد الله جعفر الصادق ابن أبي جعفر محمد الباقر بن زين العابدين علي بن الحسين الهاشمي العلوي، وأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر، فهو علوي الأب بكري الأم، ولد سنة ثمانين في المدينة الشريفة، وفيها توفي ودفن بالبقيع في قبر فيه أبوه محمد الباقر وجده زين العابدين وعم جده الحسن بن علي رضوان الله عليهم أجمعين، وأكرم بذلك القبر وما جمع من الأشراف الكرام أولي المناقب، وإنما لقب بالصادق لصدقه في مقالته، وله كلام نفيس في علوم التوحيد وغيرها، وقد ألف تلميذه جابر بن حيان الصوفي كتاباً يشتمل على ألف ورقة يتضمن رسائله وهي خمس مائة رسالة. وذكر بعض المؤرخين أنه سأل أبا حنيفة فقال: ما تقول في محرم كسر رباعية ظبي؟ فقال يا ابن رسول الله ما أعلم ما فيه فقال له: انت ابتداء ولا تعلم أن الظبي لا يكون له(1/238)
رباعية وهو ثني أبداً، يعني من الدهاء في قوة الفهم وجوعة النظر، وجعفر المذكور معدود عند الإمامية الاثني عشرية من أئمتهم الاثني عشر، وكل واحد منهم مذكور في موضعه. وفيها توفي الإمام محدث الكوفة وعالمها أبو محمد سليمان بن مهران الأسدي الكاهلي مولاهم الأعمش. روي عن ابن ابي أوفى وأبي وائل والكبار، قال يحيى القطان: هو علامة الإسلام، وقال وكيع: بقي الأعمش قريباً من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى. وقال غيره: الأعمش الكوفي الإمام المشهور كان ثقة عالماً فاضلاً، وقال السمعاني كان يقارب بالزهري في الحجاز، ورأى أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، وكلمه لكنه لم يسمع عليه وما يرويه عنه فهو ارسال أخذه عن أصحابه ولقي كبار التابعين. وروى عنه سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج وحفص بن غياث وخلق كثير من جلة العلماء، وكان لطيف الخلق مزاحاً، جاءه أصحاب الحديث يوماً ليسمعوا عليه فخرج إليهم وقال لولا أن في منزلي من هو أبغض إلي منكم ما خرجت إليكم. وجرى بينه وبين زوجته كلام يوماً فدعا رجلاً ليصلح بينهما، فقال لها الرجل: لا تنظرين إلى عموشة عينيه وخموشة ساقيه فإنه إمام وله قدر، فقال له ما أردت إلا أن تعرفها عيوبي، وقال له داود بن عمر الحايك ما تقول في شهادة الحائك؟ فقال تقبل مع عدلين، وعاده جماعة في مرضه، فأطالوا الجلوس عنده، فأخذ وسادته وقام وقال: شفى الله مريضكم بالعافية.
وقيل عنده يوماً: قال صلى الله عليه وآله وسلم: " من نام عن قيام الليل بال الشيطان في أذنه " فقال: ما عمشت عيني إلا من بول الشيطان في أذني. وقال أبو معاوية الضرير بعث إليه هشام بن عبد الملك أن أكتب إلي مناقب عثمان ومساوىء علي، فأخذ الأعمش القرطاس وأدخله في فم شاة فلاكته، وقال للرسول: قل له هذا جوابك، فقال له الرسول: انه قد آلى أن يقتلني إن لم آته بجوابك، وتحمل عليه باخوانه، وقالوا له: يا أبا محمد نجه من القتل، فلما ألحوا عليه كتب: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فلو كانت لعثمان مناقب أهل الأرض ما نفعتك، ولو كانت لعلي مساوىء أهل الأرض ما ضرتك، فعليك بخويصة نفسك والسلام، وقيل إنه ولد يوم قتل الحسن رضي الله عنه يوم عاشوراء سنة إحدى وستين، رحمة الله عليه(1/239)
وفيها توفي شبل بن عباد قارىء أهل مكة وتلميذ ابن كثير، وفيها توفي أبو حاتم الرازي، احفظ الناس في زمانه. وفيها توفي أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصارية الفقيه قال أحمد بن أبي يونس: كان أفقه أهل الدنيا، تولى القضاء بالكوفة، وأقام حاكماً ثلاثاً وثلاثين سنة، ولي لبني أمية ثم لبني العباس، وكان فقيهاً مفتياً، تفقه بالشعبي وأخذ عنه الثوري، وقال دخلت على عطاء فجعل يسالذي فأنكر بعض من عنده وكلمه في ذلك، فقال: هو أعلم مني، وفيها توفي محمد بن عجلان المدني، وكان عابداً ناسكاً صادقاً له حلقة بمسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم للفتوى.
؟ سنة تسع وأربعين ومائة فيها توفي المثنى بن الصباح اليماني بمكة، يروي عن مجاهد وعمرو بن شعيب وطائقة، وكان من أعبد الناس. وفيها توفي كهمس بن الحسين البصري يروي عن أبي الطفيل وجماعة. وفيها توفي زكريا بن أبي زائدة، وفيها توفي أبو عمر عيسى بن عمر الثقفي النحوي البصري، قيل كان مولى خالد بن الوليد ونزل في ثقيف، فنسب إليهم وكان صاحب تقعير في كلامه استعمال للغريب فيه وفي قراءته، وكانت بينه وبين أبي عمرو بن العلاء صحبة، ولهما مسائل ومجالس، وأخذ سيبويه عنه النحو، وله الكتاب الذي سماه الجامع في النحو، ويقال إن سيبويه أخذ هذا الكتاب وبسطه وحشى عليه من كلام الخليل وغيره، ولما كمل بالبحث والتحشية نسب إليه وهو كتاب سيبويه المشهور. والذي يدل على صحة هذا القول: ان سيبويه لما فارق عيسى بن عمر المذكور ولازم الخليل بن أحمد سأله الخليل عن مصنفات عيسى فقال صنف نيفاً وسبعين مصنفاً في النحو، وأن بعض أهل اليسار جمعها وأتت عنده عليها آفة فذهبت، ولم يبق منها في الوجود سوى كتابين، احدهما اسمه الإكمال وهو بأرض فارس عند فلان، والآخر الجامع وهو هذا الكتاب الذي استعمل فيه وأسألك عن غوامضه، فأطرق الخليل ساعة، ثم رفع رأسه. وقال رحم الله عيسى وأنشد:
ذهب النحو جميعاً كله ... غير ما أحدث عيسى بن عمر(1/240)
ذاك إكمال وهذا جامع ... وهما للناس شمس وقمر
أشار بالإكمال إلى الغائب، وبالجامع إلى الحاضر الكتابين المذكورين، وكان الخليل قد أخذ عنه أيضاً، ويقال إن أبا الأسود الديلي لم يضع في النحو إلا باب الفاعل والمفعول فقط، وإن عيسى بن عمر وضع كتاباً على الأكثر، وبوبه وهذبه وسمي ما شذ على الأكثر لغات، وكان يطعن على العرب، ويخطىء المشاهير منهم مثل النابغة في بعفر أشعاره وغيره، روى الأصمعي قال: قال عيسى بن عمر لأبي عمرو بن العلاء: انا أفصح من معد بن عدنان، فقال له أبو عمر: ولقد تعديت فكيف تنشد هذا البيت:
قد كن يخبئن الوجوه تسترا ... فاليوم حين بدأن للنظار
أو بدين للنظار فقال عيسى بدأن، فقال له أبو عمرو: اخطأت يقال بدأ يبدوا إذا ظهر، وبدأ يبدأ إذا أسرع في المشي.
ومن جملة تقعيره في الكلام: ما حكاه الجوهري في الصحاح، انه سقط عن حمار له فاجتمع عليه الناس، فقال: ما لكم تكأكأتم علي تكأكؤكم على ذي جنة أفرنقعوا عني معناه ما لكم تجمعتم علي كتجمعكم على مجنون انكشفوا عني ويروى أن عمر بن هبيرة الفزاري والي العراقين كان قد ضربه بالسياط وهو يقول وقد أخذه الجزع: والله إن كانت إلا اثباتاً في اسقاط فنصبها عشاروك وقيل إن الذي ضربه كان يوسف بن عمر أمير العراقين. وكان سبب ضربه إياه أنه لما تولى العراقين بعد خالد بن عبد الله القسري تتبع أصحابه، وكان بعض جلسائه قد أودع عند عيسى المذكور وديعة، فتنهى الخبر إلى يوسف فكتب إلى نائبه بالبصرة يأمره أن يحمل إليه عيسى بن عمر مقيداً، فدعا حداداً أو أمر بتقييده، فلما قيده قال له الوالي لا بأس عليك إنما أرادك الأمير لتأديب ولده، قال فما بال القيد اذن؟ فبقيت هذه الكلمة مثلاً بالبصرة. قلت يعني مثلاً لمن توهم أنه يراد به خير ويفعل به ما يدل على الشر كالقيد المذكور، ووصل إلى يوسف فسأله عن الوديعة فأنكر، فأمر به فضرب، فقيلت المقالة المذكورة.
؟ سنة خمسين ومائة
فيها توفي أبو الحسن مقاتل بن سليمان الأزدي بالزاي الخراساني، كان مشهوراً بتفسير كتاب الله العزيز، وله التفسير المشهور، اخذ الحديث عن مجاهد بن جبر(1/241)
وعطاء بن أبي رباح وأبي إسحاق السبيعي والضحاك بن مزاحم ومحمد بن مسلم الزهري وغيرهم، وروى عنه بقية وعبد الرزاق الصنعاني وحرمي بن عصارة وعلي بن الجعد، وكان من العلماء الأجلاء. حكي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال: الناس كلهم عيال على ثلاثة: على مقاتل بن سليمان في التفسير، وعلى زهير بن أبي سلمى في الشعر، وعلى أبي حنيفة في الكلام. وروي أن أبا جعفر كان جالساً فسقط عليه الذباب فطيره، فعاد إليه فألح عليه وجعل يقع على وجهه وأكثر من السقوط عليه مراراً حتى أضجره، فقال المنصور: انظروا من بالباب، فقيل له مقاتل بن سليمان، فقال علي به، فأذن له فلما دخل عليه، قال هل تعلم لماذا خلق الله الذباب؟ قال: نعم ليذل الله عز وجل به الجبابرة فسكت المنصور. وقال مرة مقاتل سلوني عن ما دون العرش، فقيل له من حلق رأس آدم عندما حج، فقال ليس هذا من علمكم، ولكن الله تعالى أراد أن يبتليني لما أعجبتني نفسي. وقال له آخر الذرة أو النملة معاؤها في مقدمها أو مؤخرها؟ فبقي لا يدري ما يقول له. قال الراوي: فظننت أنها عقوبة عوقب بها. وقد اختلف العلماء في أمره، فمنهم من وثقه في الرواية، وطعن فيه خلق كثير من الأئمة، ونسبوه إلى الكذب. وفيها توفي فقيه العراق الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، مولى بني تيم الله بن ثعلبة، ومولده سنة ثمانين، رأى أنساً، وروى عن عطاء بن أبي رباح وطبقته، وتفقه على حماد بن أبي سليمان، وكان من الأذكياء جامعاً بين الفقه والعبادة والورع والسخاء، وكان لا يقبل جوائز الولاة، بل ينفق ويؤثر من كسبه، له دار كبيرة لعمل الخز وعنده صناع الخز. قال الثمافعي: كل الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة، وقال يزيد بن هارون: ما رأيت أورع ولا أعقل من أبي حنيفة، رضي الله عنه. وعن أبي يوسف قال: بينما أنا أمشي مع أبي حنيفة إذ سمعت رجلاً يقول لآخر: هذا أبو حنيفة لا ينام الليل، فقال والله لا يتحدث عني بما لم أفعل، فكان يحيي الليل صلاة ودعاء وتضرعاً. وقيل إن المنصور سقاه سما فمات شهيداً رحمه الله، سمه لقيامه مع إبراهيم بن عبد الله بن حسن، وكان قد أدرك أربعة من الصحابة، هم أنس بن مالك بالبصرة وعبد الله بن أبي أوفى بالكوفة وسهل بن سعد الساعدي بالمدينة وأبو الطفيل عامر بن واثلة بمكه رضي الله عنهم.(1/242)
قال بعض أصحاب التواريخ: ولم يلق أحداً منهم ولا اخذ عنه، واصحابه يقولون لقي جماعة من الصحابة وروى عنهم، قال: ولم يثبت ذلك عند النقاد. وذكر الخطيب في تاريخ بغداد: انه رأى أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه كما تقدم، وأخذ الفقه عن حماد بن أبي سليمان، وسمع عطاء بن أبي رباح وأبا إسحاق السبيعي ومحارب بن دثار والهيثم بن حبيب الصواف ومحمد بن المنكدر ونافعاً مولى عبد الله بن عمرو وهشام بن عروة وسماك بن حرب، روى عنه عبد الله بن المبارك ووكيع بن الجراح والقاضي أبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني وغيرهم، وكان عالماً عاملاً زاهداً ورعاً تقياً كثير الخشوع دائم التضرع إلى الله تعالى. ونقله أبو جعفر المنصور من الكوفة إلى بغداد على أن يوليه القضاء فأبى، فحلف لتفعلن وحلف أبو حنيفة أنه لا يفعل، فقال الربيع بن يونس الحاجب: الا ترى أمير المؤمنين يحلف؟ فقال أبو حنيفة أمير المؤمنين على كفارة أيمانه قد رمني على كفارة أيماني، وأبى أن يبلى فأمر به إلى الحبس في الوقت، والعوام يدعون أنه تولى أياماً ولم يصح هذا من جهة النقل. وقال الربيع رأيت المنصور يكلم أبا حنيفة في أمر القضاء وهو يقول اتق الله ولا تدع في أمانتك إلا من يخاف الله، والله ما أنا مأمون الرضى، فكيف أكون مأمون الغضب؟ ولو اتجه الحكم علي ثم تهددتني أن تغرقني في الفرات أو إلى الحكم لاخترت أن أغرق، ولك حاشية يحتاجون إلى من يكرمهم، ولا أصلح لذلك، فقال له: كذبت أنت تصلح، فقال قد حكمت لي على نفسك، فكيف يحل لك أن تولي قاضياً على أمانتك وهو كذاب؟. قال الخطيب أيضاً في بعضى الروايات: ان المنصور لما بنى مدينة ونزلها، ونزل المهدي في الجانب الشرقي وبنى مسجد الرصافة، ارسل إلى أبي حنيفة فجيء به، فعرض عليه قضاء الرصافة فأبى، فقال له: ان لم تفعل ضربتك بالسياط. قال: او تفعل؟ نعم، فقعد في القضاء يومين فلم يأته أحد، فلما كان
في اليوم الثالث أتاه رجل صفار ومعه آخر، فقال الصفار: لي على هذا درهمان وأربعة دوانق ثمن تور صفر. فقال أبو حنيفة: اتق الله وانظر فيما يقول الصفار، فقال ليس علي شيء، فقال أبو حنيفة للصفار: ما تقول؟ فقال: استحلفه لي فقال أبو حنيفة: قل والله الذي لا إله إلا هو، فجعل يقول، فلما رآه أبو حنيفة مقداماً على اليمين قطع عليه وأخرج من صرة في كمه درهمين ثقيلتين، وقال للصفار خذ هذا عوض ما لك عليه، فلما كان بعد يومين اشتكى أبو حنيفة فمرض ستة أيام ثم مات. وكان يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري أمير العراقين أرده للقضاء بالكوفة أيام مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية، فأبى عليه، وضربه مائة سوط وعشرة سواط، كل يوم عشرة أسواط. وهو على الامتناع، فلما رأى ذلك خلى سبيله، وكان الإمام أحمد بن حنبل إذا ذكر ذلك بكى وترحم على أبي حنيفة، وذلك بعد إن ضرب الإمام أحمد على ترك القول بخلق القرآن، يعني البكاء والترحم. وذكر الخطيب في تاريخه أيضاً أن أبا حنيفة رضي الله عنه رأى في المنام أنه ينبش قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فبعث من سأل محمد بن سيرين، فقال ابن سيرين: صاحب هذه الرؤيا يثور علماً لم يسبقه إليه أحد. وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه قيل لمالك هل رأيت أبا حنيفة؟ قال نعم رأيت رجلاً لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهباً لقام بحجته وروى حرملة ين يحيى عن الشافعي، قال: الناس عيال على هؤلاء الخمسة من أراد أن يتبحر في الفقه فهو عيال على أبي حنيفة، ومن أراد أن يتبحر في التفسير فهو عيال على مقاتل ين سليمان، ومن أراد أن يتبحر في النحو فهو عيال على الكسائي ومن أراد أن يتبحر في الشعر فهو عيال على زهير بن أبي سلمى، ومن أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على بن محمد بن إسحاق. وفيها توفي وقيل في التي قبلها وقل في التي بعدها أبو الوليد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح القرشي مولاهم المكي، كان أحد العلماء المشهورين، ويقال إنه أول من صنف الكتب في الإسلام، قال رحمه الله: كنت مع معن بن زائدة باليمن فحضر وقت الحج، فلم يخطر لي نية، فخطر ببالي قول عمرو بن ربيعة: اليوم الثالث أتاه رجل صفار ومعه آخر، فقال الصفار: لي على هذا درهمان وأربعة دوانق ثمن تور صفر. فقال أبو حنيفة: اتق الله وانظر فيما يقول الصفار، فقال ليس علي شيء، فقال أبو حنيفة للصفار: ما تقول؟ فقال: استحلفه لي فقال أبو حنيفة: قل والله الذي لا إله إلا هو، فجعل يقول، فلما رآه أبو حنيفة مقداماً على اليمين قطع عليه وأخرج من صرة في كمه درهمين ثقيلتين، وقال(1/243)
للصفار خذ هذا عوض ما لك عليه، فلما كان بعد يومين اشتكى أبو حنيفة فمرض ستة أيام ثم مات. وكان يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري أمير العراقين أرده للقضاء بالكوفة أيام مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية، فأبى عليه، وضربه مائة سوط وعشرة سواط، كل يوم عشرة أسواط. وهو على الامتناع، فلما رأى ذلك خلى سبيله، وكان الإمام أحمد بن حنبل إذا ذكر ذلك بكى وترحم على أبي حنيفة، وذلك بعد إن ضرب الإمام أحمد على ترك القول بخلق القرآن، يعني البكاء والترحم. وذكر الخطيب في تاريخه أيضاً أن أبا حنيفة رضي الله عنه رأى في المنام أنه ينبش قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فبعث من سأل محمد بن سيرين، فقال ابن سيرين: صاحب هذه الرؤيا يثور علماً لم يسبقه إليه أحد. وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه قيل لمالك هل رأيت أبا حنيفة؟ قال نعم رأيت رجلاً لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهباً لقام بحجته وروى حرملة ين يحيى عن الشافعي، قال: الناس عيال على هؤلاء الخمسة من أراد أن يتبحر في الفقه فهو عيال على أبي حنيفة، ومن أراد أن يتبحر في التفسير فهو عيال على مقاتل ين سليمان، ومن أراد أن يتبحر في النحو فهو عيال على الكسائي ومن أراد أن يتبحر في الشعر فهو عيال على زهير بن أبي سلمى، ومن أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على بن محمد بن إسحاق. وفيها توفي وقيل في التي قبلها وقل في التي بعدها أبو الوليد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح القرشي مولاهم المكي، كان أحد العلماء المشهورين، ويقال إنه أول من صنف الكتب في الإسلام، قال رحمه الله: كنت مع معن بن زائدة باليمن فحضر وقت الحج، فلم يخطر لي نية، فخطر ببالي قول عمرو بن ربيعة:
بالله قولي له من غيرمعتبة ... ماذا أردت بطول المكث في اليمن
إن كنت حاولت ذنباً أونعمت بها ... فما أخذت بترك الحج من ثمن
قال فدخلت على معن فأخبرته أتي قد عزمت على الحج، فقال لي: ما يدعوك إليه؟ ولم تكن تذكره، فقلت: وذكرت بيتين لعمرو بن أبي ربيعة، وأنشدته إياهما فجهزني وانطلقت.
سنة إحدى وخمسين ومائة
فيها توفي شيخ البصرة وعالمها الإمام عبد الله بن عون، والإمام محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي مولاهم المدني صاحب السيرة، وكان بحراً من بحور الحلم ذكياً حافظاً طلابة للعلم اخبارياً نسابة ثبتاً في الحديث عند أكثر العلماء، وأما في المغازي والسير فلا يجهل إمامته.(1/244)
قال ابن شهاب الزهري: من أراد المغازي فعليه بابن إسحاق وذكره البخاري في تاريخه. وروي عن الشافعي أنه قال: من أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على ابن إسحاق. وقال سفيان بن عيينة ما أدركت أحداً يتهم ابن إسحاق في حديثه. وقال شعبة بن الحجاج محمد بن إسحاق أمير المؤمنين يعني في الحديث.
وحكي عن يحيى بن معين وأحمد بن حنبل ويحيى بن سعيد القطان أنهم وثقوا محمد بن إسحاق واحتجوا بحديثه، وإنما لم يخرج البخاري عنه وقد وثقه وكذلك مسلم بن الحجاج لم يخرج عنه إلا حديثاً واحداً في الزجر من أجل طعن مالك بن أنس فيه وإنما طعن فيه مالك لأنه بلغه عنه أنه قال هاتوا حديث مالك فأنا طبيب لعلله. وتوفي ببغداد رحمه الله تعالى، ودفن في مقبره الخيزران بالجانب الشرقي، وهي منسوبة إلى الخيزران أم هارون الرشيد وأخيه الهادي، وإنما نسبت إليها لأنها مدفونة فيها، وهي أقدم المقابر التي في الجانب الشرقي، ومن كتب ابن إسحاق المذكورأخذ عبد الملك بن هشام سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك كل من تكلم في هذا الباب فعليه اعتماده وإليه استناده. وفيها قتلت الخوارج غيلة الأمير معن بن زائدةالشيباني أمير سجستان أحد الأبطال والأجوا د. ومن أخباره ما حكى عنه مروان بن أبي حفصة قال: اخبرني معن بن زائدة وهو يومئذ متولي بلاد اليمن أن المنصورجد في طلبه وجعل لمن يحمله إليه مالاً قال: فاضطررت لشدة الطلب إلى أن تعرضت للشمس حتى لوحت وجهي، وخفعت أوقال وخففت عارضي، ولبست جبة صوف وركبت جملاً متوجهاً إلى البادية لأقيم بها، فلما خرجت من باب حرب، وهو أحد أبواب بغدادتبعني أسود متقلداً بسيف، حتى إذا غبت عن الحرس قبض على خطام الجمل فأناخه، وقبض على يدي، فقلت ما لك؟ فقال: أنت طلبة - أميرالمؤمنين، فقلت ومن أنا حتى أطلب؟ قال: انت معن بن زائدة، فقلت: يا هذا اتق الله عز(1/245)
وجل أين أنا من معن، فقال: دع هذا فو الله اني لأعرف منك بك، قال: فلمارأيت منه الجد قلت له: هذا عقد جواهرقد حملته معي بأضعاف ما جعله المنصور لمن يأتيه بي فخذه ولا تكن سبباً في سفك دمي، قال: هاته فأخرجته إليه، فنظر إليه ساعة وقال: صدقت في قيمته، ولست قابله حتى أسألك عن شيء فإن صدقتني أطلقتك، فقلت قل قال: إن الناس قد وصفوك بالجود فأخبرني هل وهبت مالك كله قط؟ قلت: لا قال: فنصفه؟ قلت لا. قال: فثلثه؟ قلت: لا حتى بلغ العشر فاستحييت وقلت أظن أني قد فعلت هذا، فقال ما ذاك بعظيم أنا والله رجل ورزقي من المنصور كل شهر عشرون درهماً، وهذا الجوهر قيمته ألوف دنانير، وقد وهبته لك، ووهبتك لنفسك ولجودك المأثوربين الناس، ولتعلم أن في الدنيا أجود منك فلا تعجبك نفسك، ولتحتقر بعد ذلك كل شيء تفعله ولا تتوقف عن مكرمة، ثم رمى العقد في حجري وترك خطام البعير وولى منصرفاً، فقلت له: يا هذا قد والله نصحتني، ولسفك دمي أهون علي مما فعلت، فخذ ما دفعته لك فأني عنه غني، فضحك وقال أردت أن تكذبني في مقالتي هذه فو الله لا آخذ به ولا آخذ بمعروف ثمناً أبداً ومضى لسبيله. قال: فوالله لقد طلبت بعد أن أمنت، وبذلت لمن يجيء به ما شاء، فما عرفت له خبراً وكأن الأرض ابتلعته، وإنما كان معن خائفاً من المنصور لأنه كان في أيام بني أمية منتقلاً في ولايتهم موالياً لابن هبيرة، فلما انتقلت الدولة إلى بني العباس قاتل معن مع ابن هبيرة المنصور، فلما قتل ابن هبيرة خاف معن من المنصور فاستتر عنه، قال الراوي ولم يزل معن مستتراً حتى كان يوم الهاشمية، وهو يوم مشهور ثار فيه جماعة من أهل خراسان على المنصور، ووثبوا عليه وجرت مقتلة بينهم وبين أصحاب المنصور بالهاشمية التي بناها السفاح بالقرب من الكوفة، وقد تقدم ذلك في سنة احدى وأربعين وكان معن متوارياً بالقرب منهم، فخرج متنكراً معتماً ملثماً، وتقدم إلى القوم وقاتل قتالأ بان فيه عن نجدة وشهامة، وفرقهم، فلما أفرج عن المنصور قال له من أنت ويحك فكشف لثامه وقال: أنا طلبتك يا أمير المؤمنين معن بن زائدة، فأمنه المنصور وأكرمه وحباه وكساه وزينه، أو قال: ورتبه وصار من خواصه. ثم دخل بعد ذلك عليه في بعض الأيام، فلما نظر إليه قال: هيه يا معن تعطي مروان ابن أبي حفصة مائة ألف درهم على قوله:
معن بن زائدة الذي زيدت به ... شرفاً على شرف بنو شيبان
فقلت: كلا يا أمير المؤمنين إنما أعطيته على قوله في هذه القصيدة:
مازلت يوم الهاشمية معلناً ... بالسيف دون خليفة الرحمن(1/246)
فمنعت حوزته وكنت وقايةً ... من وقع كل مناهل وسنان
فقال أحسنت يا معن، وقال له يوماً يا معن ما أكثر وقوع الناس في قومك؟ فقال أمير المؤمنين:
إن العراقين تلقاها محسدة ... ولا ترى للئام الناس حسادا
ودخل عليه يوماً قد اسن، فقال له: لقد كبرت يا معن، فقال: في طاعتك يا أميرالمؤمنين. فقال: انك المجلد. فقال: على أعدائك يا أمير المؤمنين. فقال: وفيك تقية. فقال: هي لك يا أمير المؤمنين. وعرض هذا الكلام على عبد الرحمن بن زيد زاهد أهل البصرة، فقال: ويح هذا ما ترك لربه شيئاً. وحكى الأصمعي قال وفد اعرابي على معن بن زائدة فمدحه وطال مقامه على بابه ولم تحصل له جائزة، فعزم على الرحيل، فخرج معن راكباً إليه فقام وأمسك عنان دابته فقال:
وما في يديك الخيريا معن كله ... وفي الناس معروف وعنك مذاهب
ستدرين بنات العم ما قد أتيته ... إذا فتشت عند الإياب الحقائب
فأمر معن باحضار خمس نوق من كرام ابله وأوقرهن له ميرة وبراً وثياباً، وقال انصرف يا ابن أخي في حفظ الله إلى بنات عمك فلئن فتشن الحقائب لتجدن فيها ما يسترهن، فقال: صدقت وبيت الله. ومما يحكى عن معن بن زائدة أنه كان ذات يوم من الأيام جالساً على سرير مملكته، وحوله الوزراء والأمراء والحرفاء والكتاب والمذاكرون في النوادر والغرائب، إذ أقبل أعرابي يتخطى الصفوف صفاًصفاً حتى وقف بين يديه، وقال:
أتعرف إذ قميصك جلد كبش ... وإذ نعلاك من جلد البعير
قال نعم اعرف ذلك. قال:
فسبحان الذي أعطاك ملكاً ... وعلمك الجلوس على السرير
قال ذاك بحمد الله لا بحمدك قال:
فلست مسلماً لوعشت دهراً ... على معن بتسليم الأمير
قال إذن والله لا أبالي بك قال:
ولا آتي بلاداً أنت فيها ... ولو جار الزمان على الفقير(1/247)
قال أفتعلم لك موضعاً تختفي فيه؟ قال:
فمرلي يا بن زائدة بمال ... وزاد إذ عزمت على المسير
قال يا غلام أعطه ألف درهم قال:
قليل ما أمرت به وأني ... لأطمع منك بالشيء الكثير
قال: يا غلام زيادة ألف درهم.
كأنك إذ ملكت الملك زرنا ... بلا عقل ولا جاه خطير
قال يا غلام زيادة ألف درهم قال:
ملكت الجود والأفضال جميعاً ... فبذل يديك كالبحر الغزير
قال ضاعف له الحسنات، فضاعف له الحسنات بستة آلاف، ولمعن تروى أشعار جيدة، فمن ذلك قوله في خطاب ابن أخي عبد الجبار وقد رآه يتبختر بين السماطين بعدما لقي الخوارج وفر منهم:
هلا مشيت كذا غداة لقيتهم ... وصبرت عند الموت يا خطاب
نجاك خوار العنان كأنه ... تحت العجاج إذ كان تحت عقاب
وتركت صحبك والرماح تنوشهم ... وكذاك من قعدت به الأحساب
ومما روى الخطيب في تاريخه عن أبي عثمان المازني النحوي قال: حدثني صاحب شرطة معن قال: بينما أنا على رأس معن إذا هو براكب يوضع، فقال معن ما أحسب الرجل يريد غيري، ثم قال لحاجبه لا تحجبه، قال فجاء حتى مثل بين يديه وأنشد.
أصلحك الله قل ما بيدي ... فما أطيق العيال إن كثروا
ألح دهر ألقى بكلكلة ... فأرسلوني إليك وانتظروا
فقال معن وأخذته أريحية: لا جرم والله لأعجلن أوبتك. ثم قال: يا غلام الناقة الفلانية وألف دينار، فدفعها إليه وهو لا يعرفه، قلت وهذا كله مما يدل على عظم جود معن وشجاعته. ومما يدل على حلمه وشماحته: ما حكي أنه لما طلب أبو جعفر المنصور الإمام سفيان الثوري لينتقم منه بزعمه لما كان سفيان ينكر عليه ويغلظ له القول، سافر إلى أرض اليمن متغيباً عن شره، فلم يزل ينتقل في اليمن من بلد إلى بلد ومن قرية إلى قرية، وكان يقرأ عليهم حديث الضيافة ليضيفوه ويسلم من سوء الهم، فلما أوى بعض القرى ذات ليلة(1/248)
سرق فيها لبعض الناس شيء، فاتهموا سفيان لكونه غريباً عندهم، وأتوا به إلى معن بن زائدة وقالوا له: اصلح الله الأمير، هذا سرق متاعنا وأنكر، فقال له معن: ما تقول؟ قال ما أخذت لهم شيئاً. فقال لمن حوله: فقوموا فلي معه كلام، فلما بعدوا عنه قال ما اسمك؟ قال: أنا عبد الله، قال ابن من؟ قال: ابن عبد الله، قال: قد علمت أن الناس كلهم عبد الله وأبناء عبيد الله، قال ما اسمك الذي سمتك به أمك؟ قال سفيان، قال: ابن من؟ قال ابن سعيد، قال الثوري قال: أبغية أمير المؤمنين؟ قال: فنكت بعود بيده في الأرض ساعة، ثم رفع رأسه لي وقال: اذهب حيث شئت فلو كنت تحت قدمي هذه ما حركتك هذا معنى ما حكي في ذلك إن لم يكن لفظه بعينه، والله تعالى أعلم. وأخبار معن ومحاسنه كثيرة، وكان قد ولي سجستان في آخر أمره، وله آثار وقصده الشعراء بها، فلما كان سنة إحدى وخمسين وقيل سنة اثنتين وخمسين وقيل ثمان وخمسين ومائة بينما هو في داره والصناع يعملون له شغلاً، اندس بينهم قوم من الخوارج فقتلوه وهو يحتجم، ثم تبعهم ابن أخيه يزيد بن مرثد بن زائدة فقتلهم بأسرهم. ولما قتل معن رثاه الشعراء بأحسن المراثي، فمن ذلك قول مروان بن أبي حفصة:
مضى لسبيله معن وأبقى ... مكارم لن تبيد ولن تنالا
كأن الشمسس يوم أصيب معن ... من الإظلام ملبسة جلالا
هوالجيل الذي كانت نزار ... تهد من العدو به الجبالا
فعطلت الثغور لفقد معن ... وقد يروى بها الأسل النهالا
وأظلمت العراق وأوترتنا ... مصيبه المخللة اختلالا
وظل الشام يرجف جانباه ... ويركن العز حين وهي فمالا
وكانت من تهامة كل أرض ... ومن نجد تزول غداة زالا
فإن تعل البلاد له خشوع ... فقد كانت تطول به اختيالا
أصاب الموت يوم أصاب معناً ... من الأحياء أكرمهم فعالا
وكان الناس كلهم لمعن ... إلى أن زار حفرته عيالا
إلى آخر ما قاله من قصيدة فيه طويلة من أولها هذه العشرة الأبيات. وقال عبد الله بن المعتز في كتاب طبقات الشعراء: ادخل مروان بن أبي حفصة على جعفر البرمكي، فقال له: ويحك أنشدتي مرثيتك في معن بن زائدة. فقال: بل أنشدك(1/249)
مدحي فيك، فقال جعفر: أنشدني مرثيتك في معن، فانشأ يقول القصيدة المشهورة الى أن قال:
وكان الناس كلهم لمعن ... إلى أن زار حفرته عيال
واستمر حتى فرغ منها، وجعفر يرسل دموعه على خده، فلما فرغ قال له جعفر: هل أثابك على هذه المرثية أحد من ولده وأهله شيئاً؟ قال: لا. قال: فلو كان معن حياً، ثم سمعها كم كان يثيبك عليها؟ قال: أصلح الله الوزير ربع مائة دينار. قال جعفر: فإنا نظن أنه كان لا يرضى لك بذلك، قد أمرنا لك عن معن رحمه الله الضعف بما ظننت، وزدناك مثل ذلك، فاقبض من الحارث ألفاً وست مائة دينار قبل أن تنصرف إلى رحلك، فقال مروان يذكر جعفراً وما سمع به عن معن:
نفخت مكافياًعن قبرمعن ... لنامما تجود به سجالا
فعجلت العطية يا بن يحيى ... لراثيه ولم ترد المطال
فكأني عن صداء معن جواد ... بأجود راحة بذل النوال
بنى لك خالد وأبوك يحيى ... بناء في المكارم لن تنال
كأن البرمكي بكل مال ... يجود به نداه يفيد مال
ثم قبض المال وانصرف. وحكى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني عن محمد البيذق النديم: أنه دخل على هارون الرشيد قال له: أنشدني مرثية مروان بن أبي حفصة في معن بن زائدة، فأنشده بعضها فبكى الرشيد. ويقال إن مروان بعد هذه المرثية لم ينتفع بشعره، فإنه كان إذا مدح خليفة أو من دونه قال له أنت قلت مرثيتك:
وقلنا أين نرحل بعد معن ... وقد ذهب النوال فلا نوالا
فلا يعطيه الممدوح شيئاً ولا يسمع ما يقوله فيه من المدح. وحكى الفضل بن الربيع قال: رأيت مروان بن أبي حفصة وقد دخل على المهدي بعد موت معن بن زائدة في جماعة من الشعراء، فأنشده مديحاً، فقال له: من أنت؟ فقال شاعرك مروان بن أبي حفصة. فقال: ألست القائل: فقلنا أين نرحل بعد معن البيت المذكور؟ وقد جئت تطلب نوالنا وقد ذهب النوال لا شيء عندنا جروه برجله. قال فجروه برجله حتى آخرجوه.(1/250)
فلما كان من العام المقبل، تلطف حتى دخل مع الشعراء، وإنما كانت الشعراء تدخل على الخلفاء كل عام مرة، فمثل بين يديه وأنشد قصيدته التي أولها:
طرقتك زائرة فجاء خيالها
فأنصت لها المهدي، ولم يزل يرجف كلما سمع شيئاً منها حتى زال عن البساط اعجاباً بما سمع، ثم قال له: كم بيتاً هي فقال: مائة ألف، فأمر له بمائة ألف درهم. ويقال إنها أول مائة ألف أعطيها شاعر في خلافة بني العباس. قال الفضل بن الربيع: فلم يلبث من الأيام إلى أن أفضت الخلافة إلى هارون الرشيد، فأنشده شعراً، فقال له: من أنت؟ فقال: شاعرك مروان بن أبي حفصة. فقال: ألست القائل كذا؟ وأنشده البيت، ثم قال خذوه بيده فأخرجوه فإنه لا شيء له عندنا، ثم تلطف حتى دخل بعد ذلك، فأنشده وأحسن جائزته. ومن المراثي النادرة أيضاً أبيات الحسين بن مطير بن الأشيم الأسدي في معن بن زائدة أيضاً وهي من أبيات الحماسة:
ألما على معن وقولاً لقبره ... سقتك الغوادي مربعاً ثم مربعا
فيا قبر معن كيف واريت جوده ... وقد كان منه البر والبحر مترعا
مع أبيات أخرى. وقال الصاحب بن عباد: قرأت في أخبار معن بن زائدة أن رجلاً قال له: احملني أيها الأمير، فأمر له بناقة وفرس وبغل وحمار وجارية، ثم قال: لوعلمت أن الله سبحانه خلق مركوباً غير هذه لحملتك عليه، وقد أمرنا لك من الخز بجبة وقميص وعمامة ودراعة وسراويل ومنديل ومطرف ورداء وكساء وجورب، ولو علمنا لباساً آخر يتخذ من الخز لأعطيناكه. قال بعض المؤرخين: ولولا خوف الإطالة لا تبت من محاسنه بكل نادرة بديعة.
سنة اثنتين وخمسين ومائة
فيها توفي عباد بن منصور. روى عن عكرمة وجماعة، وفيها توفي يونس بن يزيد صاحب الزهري، روى عن القاسم وسالم وجماعة. وفيها توفي واصل بن عبد الرحمن البصري، روى عن الحسن وطبقته.
سنة ثلاث وخمسين ومائة
فيها غلبت الخوارج الإباضية على إفريقية، وهزموا عسكرها، وقتلوا متوليها عمر بن(1/251)
حفص الأزدي، وكانت الإباضية في مائة وعشرين ألف فارس وأمم لا يحصون من رجالة. وفي السنة المذكورة ألزم المنصور الناس لبس القلانس المفرطة الطول، وكانت تعمل من كاغذ ونحوه على قصب، ويعمل عليها السواد. وفيها توفي أبو خالد ثور بن يزيد الكلاعي الحافظ محدث حمص. قال يحيى القطان: ما رأيت شامياً أوثق منه، قال أحمد: كان يرى القدر ولذلك نفاه أهل حمص.
وفي رمضان منها توفي معمر بن راشد الأزدي مولاهم البصري الحافظ قال أحمد ليس يضم معمر إلى أحد إلا وجدته فوقه، وقاك غيره كان صالحاً خيراً، وهو أول من ارتحل في طلب الحديث إلى اليمن، فلقي بها همام بن منبه اليمني، فسمع منه ومن الزهري وهشام بن عروة، وارتحل إليه الثوري وابن عيينة وابن المبارك وغندر وهشام بن يوسف قاضي صنعاء، وأخذ عنه عبد الرزاق فقيه اليمن ومحدث صنعاء، وله الجامع المشهور والمنسوب إليه في السنن، وهو أقدم من الموطأ. وفيها توفي هشام بن عبد الله الدستوائي البصري الحافظ، قال أبو داود الطيالسي كان أمير المؤمنين في الحديث، وقال غيره بكى هشام حتى فسدت عينه. وفيها توفي وهيب بن الورد المكي الولي الكبير السيد الشهير صاحب المواعظ والرقائق والمعارف والحقائق: قلت وكان يحكى عنه في الورع أمر عظيم، وكان لا يأكل مما في الحجاز شيئاً، فسأل عن سبب ذلك فقال: فيه المصافي. يعني أن ولاة الأمر اصطفوا منه مواضع لا تفهم ولمن شاء من حاشيتهم فقيل له: ومن الشام ومصر أيضاً كذلك؟ فوجم من ذلك حتى غشي عليه، فلما أفاق قال الفضيل لو درينا أنه يبلغ بك هذا المبلغ ما حركناك، أو كما قيل رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
سنة أربع وخمسين ومائة
فيها أهم المنصور أمر الخوارج واستيلاؤهم على بلاد المغرب، فسار إلى الشام وزار القدس، وجهز يزيد بن حاتم في خمسين ألف فارس وعقد له على المغرب فقيل إنه أنفق على ذلك الجيش ثلاثة وستين ألف ألف درهم. وفيها توفي وزير المنصور سليمان بن مخلد، وقيل ابن داود المورياني، كان وزير(1/252)
أبي جعفر المذكور، تولى وزارته بعد خالد بن برمك جد البرامكة، وتمكن منه تمكناً بالغاً، وسبب ذلك أنه كان في ابتداء أمره يكتب لسليمان بن حبيب بن المهلب الأزدي وكان المنصور قبل الخلافة ينوب عن سليمان المذكور في بعض كور فارس، فاتهمه أنه أخذ المال لنفسه، فضربه بالسياط ضرباً شديداً، وغرمه المال، فلما ولي الخلافة ضرب عنقه، وكان سيمان قد عزم على قتله عقب ضربه، فخلصه منه كاتبه أبو أيوب المذكور، فاعتدها المنصور له واستوزره، ثم إنه فسدت نيته فيه ونسبه إلى أخذ الأموال، وهم أن يوقع به، فتطاول ذلك فكان كلما دخل عليه ظن أنه سيوقع به، ثم يخرج سالماً، فقيل إنه كان معه شيء من الدهن قد عمل فيه سحراً وكان يدهن به حاجبيه إذا دخل على المنصور فصار في العامة دهن أبي أيوب وصار مثلاً.
ومن ملح أمثاله ما ذكر خالد بن يزيد بن الأرقط قال: بينا أبو أيوب المذكور جالس في أمره ونهيه، اتاه رسول منصور فتغير لونه، فلما رجع تعجبنا من حالته، فضرب مثلا لذلك، وقال: زعموا أن البازي قال للديك: ما في الأرض حيوان أقل وفاء منك. قال وكيف ذلك؟ قال أخذك أهلك بيضة فحضنوك، ثم خرجت على أيديهم، وأطعموك في أكفهم، ونشأت بينهم حتى إذا كبرت صرت لا يدنو منك أحد إلا طرت هاهنا وهاهنا وصدت، وأخذت أنا مسيباً من الجبال فعلموني وألقوني ثم تخلى عني فأخذ صيداً في الهواء وأجيء به إلى صاحبي. فقال له الديك: انكم لو رأيتم من البزاة في سفافيد هم المعدة للشيء مثل الذي رأيت من الديوك لكنتم أنفر مني، يعني أيها البزاة ولكنكم أنتم لو علمتم أعلم لم يتعجبوا من خوفي مع ما ترون من تمكن حالي ثم إنه وقع به في سنة ثلاث وخمسين ومائة وعذبه وأخذ أمواله. ثم مات في السنة التي تليها والمورياني بضم الميم وسكون الواو وكسر الراء وبالمثناة من تحت وبعد الألف نون ثم ياء النسبة إلى موريان وهي قرية من قرى الأهواز. وفيها توفي الحكم بن أبان العدني، روى عن طاوس وجماعة، وكان شيخ أهل اليمن وعالمهم بعد معمر، وكان إذا هدأت العيون وقف في البحر إلى ركبتيه يذكر الله حتى يصبح. وفيها توفي مقرىء البصرة أبو عمرو بن العلاء بن عمار التميمي المازني البصري أحد السبعة القراء وعمره أربع وثمانون سنة، قرأ على أبي العالية وجماعة وروى عن أنس وغيره. قال أبو عمرو كنت رأساً والحسن حي ونظرت في العلم قبل أن أختن. وقال أبو عبيدة: كان أبو عمرو أعلم الناس بالقرآن والعربية، والشعر وأيام العرب. قال: وكانت دفاتره ملء بيت(1/253)
إلى السقف، ثم تنسك فأحرقها، وهو في النحو من الطبقة الرابعة من علي بن ابي طالب رضي الله عنه. قال الأصمعي سألت أبا عمرو عن ألف مسألة فأجابري فيها بألف حجة. وكان أبو عمرو رأساً في حياة الحسن البصري مقدماً في عصره، وكانت كتبه التي كتب عن العرب الفصحاء قد ملأت بيتاً له إلى قريب من السقف كما تقدم. ثم ذكر إحراقه لها. قال: فلما رجع إلى علمه الأول لم يكن عنده إلا ما حفظه يقلبه، وكانت عامة أخباره عن إعراب قد أدركوا الجاهلية.
قال الأصمعي جلست إلى أبي عمرو بن العلاء عشر حجج، فلم أسمعه يحتج ببيت إسلامي قال وفيه يقول الفرزدق:
ما زلت أغلق أبواباً وأفتحها ... حتى أتيت أبا عمرو بن عمار
والصحيح أن كنيته اسمه وكان رحمه الله تعالى إذا دخل شهر رمضان لم ينشد بيت شعر حتى ينقضي. وعنه أنه قال ما زدت في شعر العرب قط إلا بيتاً واحداً وهو أنكرتني وما كان الذي أنكرت من الحوادث إلا الشيب والصلعا. وهذا البيت يوجد في جملة أبيات للأعشى مشهورة. قال أبو عبيدة دخل أبو عمرو بن العلاء على سليمان بن علي وهو عم السفاح، فسأله عن شيء، فصدقه، فلم يعجبه ما قال، فوجد أبو عمرو في نفسه فخرج وهو يقول:
أنفت من الذل عند الملوك ... وإن أكرموني وإن قربوا
إذا ما صدقتم خفتهم ... ويرضون مني بأن أكذب
قلت وهذا يعرفك بجواز الإقواء المعروف في علم القافية لوقوعه من هذا الإمام الذي هو للاحتجاج من أقوى دليل أعني رفعه للباء من: اكذب لموافقة القافية المتقدمة، مع دخول أن الناصبة للفعل المضارع، وقد اعتذر عنه بعضهم ذاهباً إلى ألن أن هاهنا وقعت مخففة من الثقيلة، او أنها ملغاة من العمل. وفي قوله هذا نظر، فإن كونها مخففة من الثقيلة يحتاج إلى شروطه: منها أن يكون الفعل بمعنى العلم أو الظن على أحد الوجهين، وشرط بعضهم السين في الفعل كقوله تعالى علم أن سيكون. وحكي عن ابن محمد النوفلي قال: سمعت أبي يقول: قلت لأبي عمرو بن العلاء: اخبرني عما وضعت مما سميته عربية لم يدخل فيه كلام العرب كله، فقال: لا. فقلت: فكيف تصنع؟ فيما خالفتك فيه العرب وهو حجة قال: اعمل على الأكثر واسمي ما خالفني لغات.(1/254)
قلت وذكر شيخنا الإمام الرضي الطبري رحمة الله عليه في كتاب شهاب القبس عن أبي عمرو بن العلاء، انه قال: اول العلم الصمت، والثاني حسن الاستماع، والثالث حسن السؤال، والرابع حسن اللفظ، والخامس نشره عند أهله. وذكر عن أبي عبيدة أنه فاخر مصري يميناً بحضرة أبي عمرو، فاستعلاه اليمني، فقال أبو عمرو المصري: قل له لنا النبوة والخلافة والكعبة والسدانة وزمزم والسقاية واللواء والرفادة والشورى والندوة والسبق بالإيمان والهجرة، ولنا فتوح الآفاق وتفرقة الأرزاق، وبنا سميت الأنصار أنصاراً، ومنا أول من تنشق عنه الأرض وصاحب الحوض وأول شافع ومشفع وأول من يدخل الجنة وسيد ولد آدم وكرم الناس أباً وأماً صلى الله عليه وسلم. ومنا الأسباط والأنبياء عليهم السلام، وجبابرة الملوك العظماء، فمن عزمنكم فنحن أعززناه، ومن ذل فنحن أذللناه، قال: فعجب الناس من كلامه حتى أنه لو كان قد أعده أو قرأ، من كتاب ما زاد على ذلك، وقال فوت الحاجة خير من طلبها من غير أهلها، وقال: ما تساب اثنان إلا غلب ألامهما، وقال: اذا تمكن الإخاء فتح الثاء، وقال ما ضاق مجلس بين متحابين، وما اتسعت الدنيا بين متباغضين، وقال: احسن المراثي ابتداء قول فضالة بن كندة العبسي:
أيتها النفس اجملي جزعا ... إن الذي تحذرين قد وقعا
بان الذي جمع السماحة ... والنجدة والبر والتقى جمعا
الألمعي الذي يظن بك الظن ... كأن قد رأى وقد سمعا
وقال ما قالت العرب بيتاً أبدع من قول النابغة:
والنفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع
وقال الأصمعي: سمع أبو عمرو رجلاً ينشد، وكان مستتراً من الحجاج.
اصبرالنفس عند كل مهم ... إن في الصبر حيلة المحتال
لاتضيقن في الأمور فقد ... تكشف غماؤها بغير احتمال
ربما تجزع النفس في الأمر ... ماله فرجة كحل العقال
سمعها بسحره وكان ... قد خرج يريد الانتقال
فقال له ما الأمر؟ فقال: مات الحجاج. فلم أدر بأيهما أنا أفرح بموت الحجاج أم(1/255)
بقوله فرجة وكنا نقول فرجة من الفرج وغيره وبالضم فرجة الحائط وفي رواية قال يقال فرجة بالفتح بين الأمرين وبالضم بين الجبلين يعني بالفتح والضم في الفاء وقال أبو عمرو: وحججنا سنة فمررنا ذات ليلة بواد، فقال لنا المكري: ان هذا واد كثير الجن فأقلوا الكلام حتى تقطعوه، قال: مررنا بهم في الرمل مخبتين يتبين منهم الرؤوس واللحى، نسمع حسهم ولا نراهم، فسمعنا منهم هاتفاً يقول:
وإن امرءاً دنياه أكبر همه ... لمستمسك منها بحبل غرور
قال فوالله لقد ذهب عنا ما كنا فيه من الغم، وأخبار أبي عمرو كثيرة وفضائله شهيرة، وكانت ولادته سنة سبعين وقيل ثمان وستين وقيل خمس وستين من الهجرة بمكة، وتوفي سنة أربع وقيل ست وقيل تسع وخمسين ومائة بالكوفة، وقال ابن قتيبة مات في طريق الشام ونسب في ذلك إلى الغلط، فقد ذكر بعض الرواة أنه رأى قبر أبي عمرو بالكوفة مكتوباً عليه هذا قبر أبي عمرو بن العلاء، فلما حضرته الوفاة كان يغشى عليه ويفيق، فأفاق من غشيته فإذا ابنه بشر يبكي، فقال: وما يبكيك وقد أتت على أربع وثمانون سنة، ورثاه بعضهم بقوله:
رزينا أبا عمرو ولا حي مثله ... فلله ريب الحادثات بمن فجع
فإن تك قد فارقتنا وتركتنا ... ذوي حلة ما في انسداد لها طمع
فقد جز نفعاً فقدنا لك أننا ... أمنا على كل الرزايا من الجزع
قيل رثاه بها عبد الله بن المقنع، وقيل يحيى بن زياد الشاعر المشهور خال السفاح، وقيل غير من ذكر.
سنة خمس وخمسين ومائة
فيها فتح يزيد بن حاتم إفريقية، واستعادها من الخوارج، وهزمهم وقتل كبارهم، ومهد قواعدها أميراً من جهة المنصور.
وفيها توفي الراوية حماد بن أبي ليلى الديلمي الكوفي، وقال ابن قتيبة: انه مولى لابن زيد الخيل الطائي الصحابي، كان من أعلم الناس بأيام العرب وأخبارها وأشعارها وأنسابها ولغاتها، هو الذي جمع السبع الطوال، فيها ذكره أبو جعفر بن النحاس، وكانت ملوك بنى أمية تقدمه وتؤثره وتستزيره، فيفيد عليهم وينال منهم، ويسألونه عن أيام العرب وعلومها. وقال له الوليد بن يزيد الأموي يوماً وقد حضر مجلسه: بما استحققت هذا الاسم فقيل(1/256)
لك الراوية؟ فقال: اني أروي لكل شاعر تعرفه يا أمير المؤمنين أو سمعت به، ثم أروي الأكثر منهم ممن تعرف أنك لا تعرفه ولا أسمعت به، ثم لا ينشدني أحد شعراً قديماً ولا حديثاً إلا ميزت القديم من الحديث، فقال له: فكم مقدار ما تحفظ من الشعر؟ فقال: كثير، ولكنني أنشدك على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة كبيرة سوى المقطعات من شعر الجاهلية دون شعر الإسلام، فقال: سأمتحنك في هذا، وأمره بالإنشاد فأنشد حتى ضجر الوليد، ثم وكل به من استخلفه إن يصدقه عنه ويستوفي عليه، فأنشده ألفين وتسع مائة قصيدة جاهلية، فأخبر الوليد بذلك، فأمر له بمائة ألف درهم. وذكر الحريري صاحب المقامات في كتابه درة الغواص ما مثاله: قال حماد الراوية: كان انقطاعي إلى يزيد بن عبد الملك بخلافته، وكان أخوه هشام يحقدني لذلك، فلما مات يزيد وتولى هشام خفته، ومكثت في بيتي سنة لا أخرج إلا إلى من أثق به من إخواني سراً فلما لم أسمع أحداً ذكرني في السنة أمنت فخرجت يوماً أصلي الجمعة بالرصافة، فإذا شرطيان قد وقفا علي، وقالا يا حماد، اجب الأمير، فقلت في نفسي: من هذا كنت أخاف، ثم قلت لهما: هل لكما أن تدعاني حتى آتي أهلي فأودعهم وداع من لا يرجع إليهم ثم أسير معكما؟ فقالا: ما إلى ذلك سبيل، فاستسلمت في أيديهما، فمثلت إلى الأمير على العراق، وهو في الإيوان الأحمر، فسلمت عليه، فرد علي السلام، ورمى إلي كتاباً فيه بسم الله الرحمن الرحيم من عند هشام أمير المؤمنين إلى فلان ابن فلان أمير العراق. أما بعد فإذا قرأت كتابي هذا فابعث إلى حماد الراوية من يأتيك به من غير ترويع، وادفع له خمس مائة دينار وجملاً مهرياً يسير عليه اثنتي عشرة ليلة إلى دمشق، قال: فأخذت الدنانير، ونظرت فإذا جمل مر حول، فركبته وسرت، حتى وافيت دمشق في اثنتي ليلة، فنزلت على باب هشام واستأذنت فأذن لي، فدخلت عليه في دار قوراء مفروشة بالرخام وبين كل رخامتين قضيب ذهب، وهشام جالس على طنفسة حمراء، وعليه ثياب حمر من الخز، وقد تضمخ بالمسك والعنبر، فسلمت عليه فرد علي السلام، فاسدناني فدنوت منه حتى قبلت رجله، فإذا جاريتان لم أر مثلهما قط في أذن كل جارية حلقتان فيهما لؤلؤتان تتقدان، فقال: كيف أنت يا حماد؟ وكيف حالك؟ فقلت: بخير يا أمير المؤمنين، فقال: اتدري فيما بعثت إليك؟ قلت: لا فقال: بسبب بيت خطر ببالي لا أعرف قائله،(1/257)
قلت: وما هو؟ قال:
ودعوا بالصبوح يوماً فجاءت ... قينة في يمينها إبريق
قلت يقوله عدي بن يزيد العبادي في قصيدة، فقال: انشدنيها، فأنشدته:
بكر العاذلون في وضح الصبح ... يقولون لي أما تستفيق
ويلومون فيك يا ابنة عبد ... الله والقلب عندكم موثوق
لست أدري إذا كثر العذل فيها ... أعدو يلومني أم صديق
قال: فأنشدته حتى انتهيت إلى قوله:
ودعوا بالصبوح يوماً فجاءت ... قينة في يمينها إبريق
مع أبيات أخر يطول ذكرها، قال: فطرب هشام، ثم قال: احسنت يا حماد. قال ابن خلكان: وفي هذه الحكاية زيادة قال اسقيه يا جارية فسقتني، قال: وهذا ليس بصحيح، فإن هشاماً لم يشرب، ثم قال: يا حماد سل حاجتك، فقلت كائنة ما كانت، قال: نعم. قلت: احدى الجاريتين، قال: هما جميعاً لك بما عليهما وما لهما، وأنزله في داره، ثم نقله إلى دار أعدها له، فوجد فيها جاريتين وكل ما لهما وكل ما يحتاج إليه، وأقام عنده مدة، وصله بمائة ألف درهم، ولما مات حماد رثاه عبد الأعلى المعروف بابن كناسة:
لو كان نجي من الردى حذر ... نجاك مما أصابك الحذر
يرحمك الله من أخي ثقة ... لم يك في صفو وده كدر
فهكذا يفسد الزمان ويفنى ... العلم وتدرس الأثر
ودفن بقرية من أعمال ماسبدان، وفي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة شعراً منه هذا البيتان، وقد غيرت المصراع الأول من الأول منهما ليكون عدولاً عما لا يجوز من لفظ:
سقى الله قبراً من سحائب رحمة ... ثوى فيه حماد بماسبدان
عجبت لأيد هالت الترب فوقه ... ضحى، كيف لم ترجع بغير بنان
ولفظه الذي غيرته هو قوله:
وأكرم قبر بعد قبر محمد ... نبي الهدى قبر بما سبدان
فقد فضله كما ترى على جميع الأولياء، بل على جمع الأنبياء غير نبينا، صلى الله عليه(1/258)
وآله وسلم، على ما نقله عنه أهل التواريخ، وبئس القول والقائل. وفيها توفي مسعر بن كدام الهلالي الكوفي، وصفوان بن عمرو السكسكي، وعث ابن أبي العاتكة الدمشقي.
سنة ست وخمسين ومائة
فيها توفي شيخ البصرة وعالمها، وأول من دون العلم بها، الإمام أبو النضر سعيد ابن أبي عروبة العدوي، وشيخ إفريقية وقاضيها الزاهد الواعظ عبد الرحمن بن زياد الشعباني الإفريقي. وفيها وقيل في سنة ثمان توفي قارىء الكوفة أبو عمارة حمزة بن حبيب التيمي، مولى تيم بن ربيعة الكوفي الزيات السيد الجليل، احد القراء السبعة، قرأ على التابعين، وتصدر للإقراء فقرأ عليه جل أهل الكوفة، وكان رأساً في القرآن والفرائض قدوة في الورع، وقال القرآن ثلاث مائة ألف حرف وثلاثة وسبعون ألف حرف ومائتان وخمسون حرفاً، وقصته في رؤيته الحق سبحانه في المنام وتضميخه له بالغالية وما ذكر فيها من وعده تعالى بالكرامة لأهل القرآن مشهورة.
سنة سبع وخمسين ومائة
فيها توفي الفقيه القدوة العلامة إمام الشاميين أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، روى عن الزهري وعطاء وخلق كثير من التابعين، وروى عنه الثوري وأخذ عنه ابن المبارك وجماعة كثيرة، وكان رأساً في العلم والعمل كثير المناقب بارعاً في الكتابة والترسل. قال الفضل بن زياد: اجاب الأوزاعي في سبعين ألف مسألة. وقال إسماعيل بن عياش سمعت الناس سنة أربعين ومائة يقولون: الأوزاعي اليوم عالم الأمة، وقال الوليد بن مسلم: ما رأيت أكثر اجتهاداً في العبادة من الأوزاعي. وقال أبو مسهر: كان يحيي الليل صلاة وقرآناً وبكاء، ومات في الحمام أغلقت عليه امرأته باب الحمام ونسيته فمات رحمه الله يوم الأحد لليلتين بقيتا من صفر، وقيل في شهر(1/259)
ربيع الأول من السنة المذكورة، ورثاه بعضهم بقوله:
جاد الحيا بالشام كل عشية ... قبراً تضمن لحده الأوزاعي
قبر تضمن فيه طود شريعة ... سقياً له من عالم نفاع
عرضت له الدنيا فأعرض مقلعاً ... عنها بزهد أيما إقلاع
قلت ولو كان في البيت الأول سقى عوض جاد، كان صواباً لأنه حينئذ ينصب قبراً وتقديره أسقى الحبا قبراً وأما نصبه بجاد فلا يحسن بل لا يصح إلا بتعصب يعيد وإضمار محذوف يكون تقديره جاد فسقى قبراً وكذلك قوله في البيت الثاني تضمن فيه كان يعني قوله تضمن عن فيه فقوله فيه من التكرر المذموم العاري عن تضمن فائدة من تأكيد وغيره ورأى أن يكون بالمثناة من تحت أصح من المثناة من فوق وحينئذ يكون تضمن للحال ولا يكون لفظ فيه مذموماً على هذا بل يكون معناه يودع فيه بخلاف المثناة من فوق فإن معناه تضمن هو فلفظ في هذا بعد مستقبح والأوزاعي نسبة إلى الأوزاعي وهي بطن من ذي الكلاع من اليمن وقيل الأوزاع قرية بدمشق على طريق باب الفراديس ولم يكن منهم وإنما نزل فيه فنسب إليهم وقيل غير ذلك. وقال بعض المعبرين: قال يعلى بن عبيد: كنت عند سفيان الثوري فقال له رجل: رأيت البارحة كأن ريحانة رفعت إلى السماء من ناحية المغرب حتى توارت في السماء، فقال سفيان: ان صدقت رؤياك فقد مات الأوزاعي، فوجده قد مات في تلك الليلة. وروي أن الإمام سفيان الثوري المذكور والمشهور السيد المشكور لما حج الأوزاعي خرج حتى لقيه بذي طوى فحل سفيان الحبل المقود به رأس بعيره ووضعه على رقبته، ومشى وهو يقول الطريق للشيخ. وفيها توفي الحسن بن واقد المروزي قاضي مرو ومحمد بن عبد الله ابن أخي الزهري.
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
سنة ثمان وخمسين ومائة
فيها صادر المنصور خالد بن برمك وأخذ منه ثلاثة آلاف درهم، ثم رضي عنه، وأمره(1/260)
على الموصل. وفيها في ذي القعدة بمكة توفي المنصور أبو جعفر عبد الله بن محمد العباسي وله ثلاث وستون سنة، وكانت خلافته اثتين وعشرين سنة، وكان ذا حزم وعزم ودهاء ورأي وشجاعة وعقل، وفيه جبروت وظلم، ولي بعده ولده المهدي، ولما عزم المنصور على قتل أبي مسلم الخراساني صاحب الدعوة لبني العباس كتب إليه ابن عمه عيسى بن موسى:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا روية ... فإن فساد الرأي أن تتعجلا
وكتب إليه المنصور.
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة ... فإن فساد الرأي أن تترددا
ومن أخبار المنصور: ما رووا عن أبي بكر الهذلي الشاعر المشهور، قال: قال لي المنصور: قد بلغت أربعين سنة وأريد الحج، وأنا داخل على أبي العباس أكلمه أن يعينني على سفري، يعني أخاه السفاح، فأعني بالقول، قال: قلت: افعل فلما دخل عليه ودخلت كلمه واستغنى عن كلامي، فحج، فما كان ببعض الطريق أتاه نعي أبي العباس، فأقبل على كل صعب وسهل حتى أتى دار الخلافة فظفر بالأموال. قال الراوي فلما توفيت امرأة الهذلي المذكور، وكانت أم ولده والقيمة في منزله، وجد عليها، فبلغ ذلك المنصور، فأمر حاجبه الربيع أن يأتيه ويعزيه ويقول له: ان أمير المؤمنين متوجه إليك الليلة بجارية نفيسة لها أدب وطرب وهيئة ومعرفة تسليك عن امرأتك، وتسد موضعها وتقوم بأمر منزلك، ويأمر لك مع ذلك بفرش وكسوة، قال: فلم يزل الهذلي يتوقع ذلك فلم يره، ونسيه المنصور فلم يذكره، ولم يذكره بذلك أحد ثم إن المنصور لما حج وكان الهذلي منه قال وهو بالمدينة الشريفة: اني أحب أن أطوف الليلة في المدينة، فأنظروا إلي رجلا يعرف منازل أهل المدينة ومساكنها ورباعها وطرقها وأخبارها يكون معي فيعرفني ذلك، فقالوا له: ما نعلم أحداً أعلم بذلك ولا أعرف به من أبي بكر الهذلي، فأمره بالحضور، فلما كان في الليل خرج المنصور على حمار يطوف في سكك المدينة وهو معه، فجعل يسأله عن ربع ربع وسكة سكة وموضع وموضع فيخبره بمن هو ولمن كان، يقص قصة الحال فيه حتى مر ببيت عاتكة، فسأل عنه فقال: يا أمير المؤمنين، هذا بيت عاتكة(1/261)
الذي قال فيه الأحوص بن محمد الأنصاري:
يا بيت عاتكة التي أتعزله ... حذر العدى وبه الفؤاد موكل
وأنشد القصيدة حتى بلغ قوله:
وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق الحديث يقول ما لا يفعل
فقال المنصور له: ويحك يا أبا بكر وفي الدنيا أحد يعد ولا ينجز ويقول ما لا يفعل؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، اذا نسي. قال: فضحك المنصور وقال: صدقت أذكرتني ما كنت وعدتك، لا جرم والله لا تصبح حتى يأتيك ذلك، قال: فلم يصبح حتى وجه إلي بجارية نفيسة بفرشها وأثاثها وآلاتها ووصلني بمال. قلت ذكر بعضهم إن العاتكة المذكورة هي بنت عبد الله بن أبي سفيان الأموي، وذكروا أيضاً في بني أمية عاتكة بنت يزيد بن معاوية زوجة عبد الملك بن مروان، وروي عن الهذلي أيضاً أنه قال: طلبت الإذن على المنصور فوعدت بيوم أدخل عليه فيه، فوافيت ذلك اليوم فوجدت أبا حنيفة وعمرو بن عبيد قد سبقاني، فقعدا قليلاً ثم خرج الأذن لنا فدخلنا، وقد كنت هيأت كلاماً ألقى به المنصور، وهيأ أبو حنيفة مثل ذلك، فلما رأيناه ارتج علينا، وكان جهدنا أن أقمنا التسليم فسلمنا فأومى برأسه وأقبلت ألاحظ أبا حنيفة أعجبه مما نالني وناله من الدهش، فرفع عمرو رأسه فقال. بسم الله الرحمن الرحيم " والفجر وليال عشر " - الفجر: 1 - إلى قوله تعالى: " فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد " - الفجر: 13و14 - يا أمير المؤمنين: بالمرصاد، لمن عمل مثل عملهم إن ينزل به مثل ما نزل بهم، فاتق الله يا أمير المؤمنين فإن وراءك نيراناً تأجج من الجور ما يعمل بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم. قلت أرى في هذا الكلام شيئاً ساقطاً في موضعين. أحدهما قوله: ان ينزل به يحتمل أن يكون فليحذر أن ينزل به، والثاني قوله تأجج من الجور ما يعمل، يحتمل أن يكون من الجور لمن يعمل، فقال: يا أبا عثمان، انا لنكتب إليهم في الطوامير نأمرهم بالعمل بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فإن لم يفعلوا فما عسى أن نصنع، فقال: يا أمير المؤمنين، مثل أذن فأر يجزيك من الطوامير، تكتب إليهم في حاجة نفسك فينفذونها، وتكتب إليهم في حاجة الله فلا تنفذ، انك والله لو لم ترض من عمالك إلا بالعدل، اذن ليقرب إليك من لانية له فيه.(1/262)
ثم ذكر سليمان بن مجالد ومعارضته لعمرو، فقال له عمرو: يا ابن مجالد، خزنت نصيحتك عن أمير المؤمنين، ثم أردت أن تحول بينه وبين من أراد أن ينصحه يا أمير المؤمنين، ان هؤلاء اتخذوك سلماً لشهواتهم، فأنت كالآخذ بالقرنين وغيرك يحلب، فاتق الله يا أمير المؤمنين، فإنك ميت وحدك، ومبعوث وحدك ومحاسب وحدك، لن يغني عنك هؤلاء من الله شيئاً، قال: فأطرق أبو جعفر يفكر في كلامه، ثم دعا خادماً على رأسه فسار بشيء، فأتاه الخادم بمنديل فيه دنانير، فقال: يا أبا عثمان بلغني ما الناس فيه من الشدة، فاصرف هذه حيث شئت، قال ما كنت لآخذها، قال لتأخذها والله قال لا آخذها، قال والله لتأخذنها، قال والله لا آخذها، فقال له المهدي وكان حاضراً، يحلف أمير المؤمنين لتأخذه وتحلف أنت لا تأخذه؟! قال عمرو: يا ابن أخي إن أمير المؤمنين أقدر على الكفارة مني، فقال أبو جعفر للمهدي اسكت فإن عمك بناء واثق، قال: فسكت وقعد قليلاً ثم قمنا، فقلت لأبي حنيفة عند خروجنا: انا نسينا ما أردنا من الكلام، فكيف ذهب عنا أن نجيء بما جاء به عمرو ومن كتاب الله؟!. قلت عمرو بن عبيد المشهور بالزهادة والعبادة من المعتزلة، وله في الاعتقاد أقوال شنيعة في الابتداع مضيعة في الأسماع، ذكرت بعضها في الكتاب الموسوم بالمرهم، ولما اعتزل هو وأصحابه حلقة الحسن البصري وباينوا أهل السنة، سموا معتزلة من يومئذ. وقال الهذلي المذكور: قال السفاح: بأي شيء بلغ حسنكم ما بلغ؟ يعني الحسن البصري. قلت: يا أمير المؤمنين، جمع كتاب الله وهو ابن اثنتي عشرة سنة فلم يجارز سورة إلى غيرها حتى يعرف تأويلها وفيما أنزلت، ولم يقلب درهماً في تجارة، ولم يل للسلطان امارة ولم يأمر بشيء فيهم حتى يفعله، ولا يترك شيئاً حتى بدعه، او كما قال، فقال: بهذ بلغ الشيخ ما بلغ. وقال الأصمعي: قال لي الرشيد: قال المنصور للمهدي: يا عبد الله إن الخليفة لا يصلحه إلا التقوى، والسلطان لا يصلحه إلا الطاعة، والرعية لا يصلحها إلا العدل، وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة، وأنقص الناس عقلاً من ظلم من هو دونه. وذكر في المقتبس أيضاً: انه لما أتم المنصور بناء مدينة السلام بغداد، وأراد النقلة إلى قصره بباب الذهب، وقف على باب القصر يتأمله، فإذا على الحائط مكتوب.(1/263)
ادخل القصر لا تخاف زوالا ... بعد ستين من سنيك رحيل
فوقف ملياً، وتغرغرت عينه، ثم قال: بقية لعاقل وفسحة لجاهل، كأنه حسب ما بقي من عمره من السنين، وكان قد مكث قبل بنائها سنة يتردد ليرتاد موضعاً يبنيه، فبينا هو كذلك إذا براهب قد أشرف عليه من بنيان مقيم فيه، فقال: اراك منذ شهور تدور وتكثر الترداد في هذا الموضع، فقال: اريد أن أبني فيه مدينة، فقال له الراهب: لست صاحبها، انا نجد أن صاحبها يقال له مقلاص. فقال أبو جعفر: انا والله صاحبها، كنت أدعى وأنا صبي في الكتاب بمقلاص، فأمر حينئذ ببنائها، وكتب إلى البلدان أن يوجه إليه ما يحتاجه ويتوقف عمارتها عليه، ثم قال لنوبخت بالنون ثم بالموحدة بعد الواو ثم الخاء المعجمة والمثناة من فوق في آخره المنجم: اختر لي موضعاً أضع له فيه الأساس والبناء، فاختار له فوضع الأساس، ثم قال له: احكم الآن فقال: يتم بناؤها وتكون مدينة ليس في شرق ولا غرب لها نظير، ويعمرعمراناً لم ير مثله، قال أبو جعفر: ثم ماذا؟ قال: ثم تخرب بعد موتك خراباً ليس بصحراء ولكن دون العمران، ووزنت لبنة سقطت من السور فكان وزنها اثنتين وثمانين رطلاً، وكان قد وضع المنصور أول لبنة بيده، وقال: بسم الله والحمد لله إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين. وفي السنة المذكورة على الصحيح توفي حيوة بن شريح التجيبي المصري أحد العلماء السادة الزهاد أولى التوفيق والسعادة وكان مجاب الدعوة. وفيها توفي الإمام زفر بن الهذيل صاحب الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنهم.
سنة تسع وخمسين ومائة
فيها ألح المهدي على ولي العهد عيسى بن موسى بكل ممكن وبالترغيب والترهيب في خلع نفسه ليولي العهد ولده موسى الهادي، فأجاب خوفاً على نفسه، فأعطاه المهدي عشرة آلاف ألف درهم وإقطاعات، وفيها توفي السيد الجليل عبد العزيز بن أبي رواد. ومما يحكى من فضائله أن امرأة بمكة تقرأ القرآن رأت كأن حول الكعبة وصائف عليهن معصفرات وبأيديهن ريحان، وكأنها قالت: سبحان الله هذا حول الكعبة، يعني هذا التزين المتخذ للهو، فقيل لها: اما علمت أن عبد العزيز بن أبي رواد زوج الليلة، فانتبهت(1/264)
فإذا عبد العزيز بن أبي رواد قد مات رحمه الله. وفيها توفي الإمام أبو الحارث محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن أبي يزيد القرشي المدني، روى عن عكرمة ونافع وخلق، قال الإمام أحمد: كان يشبه بسعيد بن المسيب وما خلف مثله، قال: وكان أفضل من مالك إلا أن مالكاً كان أشد تنقية للرجال.
وقال الواقدي كان يصلي الليل أجمع ويجتهد في العبادة، فلو قيل له أن القيامة تقوم غداً ما كان فيه مزيد من الاجتهاد، وقال أخوه كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ثم سرده، وكان شديد الحال يتعشى بالخبز والزيت، وكان من رجال العلم صواماً قوالاً بالحق، وقال أحمد: ادخل ابن أبي ذئب على أبي جعفر يعني المنصور، فلم يهله من الهول أن قال: ان الظلم ببابك فاش وأبو جعفر قلت يعني في الهيبة والغلظة والانتقام، ومعناه: مدح ابن أبي ذئب بهذا الاقدام. وفيها توفي مالك بن مغول البجلي الكوفي، روى عن الشعبي وطبقته، وكان كثير الحديث ثقة حجة، قال ابن عيينة: قال له رجل: اتق الله، فوضع خده بالأرض.
سنة ستين ومائة
في أولها كان خلع عيسى بن موسى، وفيها افتتح المسلمون مدينة كبيرة بالهند، وفيها فرق المهدي في الحرمين أموالاً عظيمة، فيل ثلاثين ألف ألف درهم، وفرق من الثياب مائة ألف وخمسين ألف ثوب، وحمل محمد بن سليمان الأمير الثلج للمهدي حتى وافاه به مكة، قيل: وهذا شيء لم يتهيأ لأحده. وفيها توفي الإمام أبو بسطام العتكي مولاهم الواسطي شعبة بن الحجاج بن الورد شيخ البصرة وأمير المؤمنين في الحديث، روى عن معاوية بن قرة وعمرو بن مرة وخلق من التابعين؛ قال الشافعي: لولا شعبة ما عرف الحديث بالعراق. وقال ابن المديني: له نحو ألفي حديث، وقال سفيان لما بلغه موت شعبة: مات الحديث، وقال أبو زيد الهروي: رأيت شعبة يصلي حتى يدمي قدماه، وأثنى جماعة من كبار الأئمة عليه ووصفوه بالعلم والزهد والقناعة والرحمة والخير، وكان رأساً في العربية والشعر سوى الحديث، رحمة الله عليه. وفيها توفي المسعودي عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الكوفي، روى(1/265)
عن الحكم بن عتيبة وعمرو بن مرة وخلق، وقال ابو حاتم: كان أعلم زمانه بحديث ابن مسعود، رضي الله عنه.
سنة إحدى وستين ومائة
فيها ظهر عطاء الساحر الشيطان الذي ادعى الربوبية بناحية مرو، واستغوى خلائق لا يحصون، وأري الناس قمراً ثانياً فيئ السماء، كان يرى ذلك إلى مسيرة شهرين. وفيها توفي أبو دلامة بن زند بن الجون، وكان صاحب نوادر وحكايات وأدب ونظم، ذكر ابن الجوزي أنه توفيت لأبي جعفر المنصور ابنة عم فحضر جنازتها وحو متألم لفقدها كئيب، فاقبل أبو دلامة وجلس قريباً فقال له المنصور: ويحك ما أعددت لهذا المكان؟ وأشار إلى القبر، فقال: ابنة عم أمير المؤمنين، فضحك المنصور حتى استلقى، ثم قال له: ويحك فضحتنا بين الناس. ولما قدم المهدي بن منصور من الري إلى بغداد، خل عليه أبو دلامة للسلام والتهنية بقدومه، فقال له المهدي: كيف أنت يا أبا دلامة؟ فأنشد:
إني حلفت لئن رأيتك سالماً ... بقرى العراق وأنت ذو وفر
لتصلين على الرسول محمد ... ولتملأن دراهماً حجري
فقال له المهدي: اما الأولى فنعم، وأما الثانية فلا، فقال: جعلني الله فداك، انهما كلمتان لا تفرق بينهما، فقال: يملأ حجر أبي دلامة دراهم، فقعد وبسط حجره فملأه دراهم، وقال له: قم الآن يا أبا دلامة، فقال: ينحرق قميصي يا أمير المؤمنين، فردها إلى الاكياس، ثم قام. ومن أخباره: انه مرض ولده فاستدعى طبيباً ليداويه، وشرط له جعلا معلوماً، فلما برأ قال له والله ما عندنا شيء نعطيك، ولكن ادع على فلان اليهودي، وكان ذا مال كثير بمقدار الجعل، وأنا وولدي نشهد بذلك، فمضى الطبيب إلى القاضي يومئذ، وحمل اليهودي إليه، وادعى عليه بذلك المبلغ، فأنكر اليهودي، فقال: ان لي عليه بينة وخرج لاحضار البينة، فأحضر أبا دلامة وولده، فدخلا إلى المجلس، وخاف أبو دلامة أن يطالبه القاضي بالتزكية فأنشد في الدهليز قبل دخوله إلى القاضي بحيث يسمع القاضي:
إن الناس غطوني تغطيت عنهم ... وإن بحثوا عني ففيهم مباحث
وإن ينبثوا بيري نبثت بيارهم ... ليعلم قوم كيف تلك البثائث
ثم حضر بين يدي القاضي وأديا الشهادة، فقال له القاضي: كلامك مسموع وشهادتك(1/266)
مقبولة، ثم غرم القاضي المبلغ من عنده، واطلق اليهودي، وما امكنه أن يرد شهادتهما خوفاً من لسانه، فجمع بين المصلحتين بتحمل الغرم من ماله، وكان القاضي محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وقيل عبد الله بن شبرمة. وفي كتاب أخبار البصرة أن أبا دلامة كتب إلى سعيد بن دعلج، وكان يومئذ يتولى الأحداث بالبصرة، وأرسل الكتاب من بغداد مع ابن عم له.
إذا جئت الأمير فقل سلام ... عليك ورحمة الله الرحيم
وأما بعد ذاك فلي غريم ... من الأعراب قبح من غريم
له ألف علي ونصف أخرى ... ونصف النصف في صك قديم
دراهم ما انتفعت بها ولكن ... وصلت بها شيوخ بني تميم
فسير له دعلج ما طلب: وكان روح بن حاتم المهلبي والياً على البصرة، فخرج إلى حرب الجيوش الخراسانية ومعه أبو دلامة، فخرج من صف العدو مبارزاً فخرج إليه جماعة، فقتلهم واحداً بعد واحد، فتقدم روح إلى أبي دلامة لمبارزته، فامتنع، فألزمه ذلك فاستعفاه، فلم يعفه، فأنشد:
إني أعوذ بروح أن يقدمني ... إلى القتال فيخزي بي بنو أسد
إن المهاب حب الموت أورثكم ... ولم أورث قط حب الموت من أحد
إن الدنو إلى الأعداء أعلمه ... مما يفرق بين الروح والجسد
فاقسم عليه ليخرجن، وقال: لماذا تأخذ رزق السلطان؟ قال: لأقاتل عنه. قال: فما بالك الآن لا تبرز إلى العدو؟ فقال: ايها الأمير إن خرجت إليه لحقت بمن مضى، وما الشرط أن أقتل عن السلطان بل أقاتل عنه، فحلف روح ليخرجن إليه فتقتله أو تأسره أو تقتل دون ذلك، فلما رأى أبو دلامة الجد منه قال: ايها الأمير تعلم أن هذا أول يوم من أيام الآخرة ولا بد فيه من الزوادة، فأمر له بذلك فأخذ رغيفاً على دجاجة ولحم وسطيحة من شراب وشيئاً من بقل، وشهر سيفه وحمل، وكان تحته فرس جواد فأقبل يجول ويلعب بالرمح وكان مليحاً في الميدان والفارس لا يلحظه، ويطلب منه غرة حتى إذا وجدها حمل عليه، والغبار كالليل فأغمد أبو دلامة سيفه وقال للرجل: لا تعجل، واسمع مني عافاك الله كلمات ألقيهن إليك، فإنما أتيتك في مهم، فوقف مقابله، وقال: ما هو المهم؟ قال أتعرفني؟ قال: لا. قال: انا أبو دلامة. قال: قد سمعت بك، حياك الله، فكيف برزت إلي وطمعت في بعد من قتلت من أصحابك ممن رأيت؟ قال: ما خرجت لأقتلك ولا أقاتلك ولكني رأيت لياقتك وشهامتك فاشتهيت أن تكون لي صديقاً، وإني لأدلك على ما هو أحسن(1/267)
من قتالنا، قال: قل على بركة الله تعالى، قال: أراك قد تعبت وأنت سقيان ظمآن قال: كذلك هو، قال: فما علينا من خراسان والعراق. إن معي خبزاً ولحماً وشراباً وبقلاً كما يتمنى المتمني، وهذا غدير ماء تميز بالقرب منا، فهلم بنا إليه نصطبح، وأترنم إليك بشيء من إحدى الأعراب، فقال: هذا غاية أملي، قال: فها أنا انتظر ذلك فاتبعني حتى تخرج من حلقة النضال، ففعلا وروح يتطلب صاحبه. فلا يجده، والخراسانية تتطلب فارسها فلا تجده، فلما طابت نفس الخراساني قال له أبو دلامة: ان روحاً كما علمت من أبناء الكرام، وحسبك يا بن المهلب جوداً، وأنه يبذل لك خلعة فاخرة وفرساً جواداً ومركباً مفضضاً وسيفاً محداً ورمحاً طويلاً وجارية بربرية، وأنه ينزلك في أكبر العطاء وهذا خاتمه معي لك بذلك، فقال: ويحك وما أصنع بأهلي وعيالي، قال: استخر الله تعالى وأسرع معي ودع أهلك فالكل يخلف عليك، فقال سر بنا على بركة الله تعالى فسارا حتى قدما من وراء العسكر، فهجما على روح، فقال يا أبا دلامة، اين كنت؟ قال في حاجتك، اما قتل الرجل فما أطيقه، وأما سفك دمي فما طبت به نفساً وأما الرجوع خائباً فلم أقدم عليه، وقد تلطفت وأتيتك بالرجل أسير كرمك، وقد بذلت له عنك كيت وكيت، فقال: يمضي إذا وثق لي. قال بماذا؟ قال: ينقل أهله فقال الرجل: اهلي على بعد ولا يمكنني نقلهم الآن، ولكن أمدد يديك أصافحك وأحلف لك متبرعاً بطلاق الزوجة أني لا أخونك، فإن لم أف إذا حلفت بطلاقها لم ينفعك نقلها، قال: صدقت، فحلف له وعاهده ووفى بما ضمنه أبو دلامة وزاد عليه، وانقلب الخراساني معهم يقاتل الخراسانية وينكأ فيهم أشد نكاية، وكان أكثر أسباب ظفر روح وكان المنصور قد أمر بهدم دور كثيرة منها دار أبي دلامة فكتب إلى المنصور:
يا ابن عم النبي دعوة شيخ ... قد دنا هدم داره وبواره
فهو كالماخض الذي اعتادها ... الطلق، وما تقر قراره
لكم الأرض كلها فأعيروا ... عبدكم ما أحتوى عليه جداره
وفي شعبان منها توفي الإمام العالم أبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري الكوفي الفقيه سيد أهل زمانه علماً وعملاً وورعاً وزهداً وعمره ست وستون سنة. روى عن عمرو بن مرة وسماك بن حرب وخلق كثير. قال ابن المبارك: كتبت عن ألف ومائة شيخ ما فيهم أفضل من سفيان. وقال شعبة ويحيى بن معين وغيرهما: سفيان أمير المؤمنين فى الحديث، وقال أحمد بن حنبل لا يتقدم سفيان في قلبي أحد، وقال يحيى بن سعيد القطان: ما رأيت أحداً احفظ من الثوري وهو فوق مالك في كل شيء، وقال سفيان ما استودعت قلبي شيئاً قط فخانني، وقال ورقاء لم ير الثوري مثل نفسه، وقال الشيخ أبو اسحاق في الطبقات: قال عبد الله بن المبارك: لا نعلم على وجه الأرض أعلم من سفيان، قال: وقال علي بن(1/268)
المديني: سألت يحيى بن سعيد فقلت أيما أحب إليك؟ رأي مالك أو رأي سفيان؟ فقال: سفيان لا نشك في هذا، ثم قال يحيى: سفيان فوق مالك في كل شيء. قال وقال أحمد بن حنبل: دخل الأوزاعي وسفيان على مالك فلما خرجا قال مالك: احدهما أكبر علماً من صاحبه، ولا يصلح للإمامة، والآخر يصلح للإمامة، فسأل من الذي عنى مالك أنه علم الرجلين، اهو سفيان؟ قال: نعم. سفيان أوسعهما علماً. وعن أبي صالح شعيب بن حرب المدائني، وكان أحد السادة الأئمة الكبار في الحفظ والدين أنه قال: اني لأحسب يجاء سفيان الثوري يوم القيامة حجة من الله على الخلق، يقال لهم إن لم تدركوا نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم فقد أدركتم سفيان الثوري ألا اقتديتم به. وكان سفيان كثير الحظ على المنصور، فهم به وأراد قتله، فما أقدره الله تعالى على ذلك قلت وقصتهم معه مشهورة أعني في أمر المنصور يلزم سفيان في مكة لما قرب المنصور من دخولها، واقسام سفيان رضي الله تعالى عنه في الملتزم برب الكعبة أنه لا يدخلها، فلم يدخلها، بل مات خارجاً عنها، وقد اجتمع الناس على جلالة سفيان وإمامته وصلاحه وزهادته وورعه وعبادته. ويقال كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رأس الناس في زمانه، وكان بعده ابن عباس في زمانه، وكان بعده الشعبي في زمانه، وكان بعده الثوري في زمانه، سمع الحديث من أبي إسحاق السبيعي والأعمش ومن في طبقتهما من الجلة، وسمع منه الجلة كمالك وسفيان بن عيينة وابن المبارك والأوزاعي وابن جريج ومحمد بن اسحاق ومن في طبقتهم. وذكر المسعودي في مروج الذهب ما مثاله قال القعقاع بن الحكم: كنت عند المهدي فأتى سفيان الثوري فلما دخل عليه سلم تسليم العامة، ولم يسلم عليه بالخلافة، والربيع قائم على رأسه، متكىء على سيفه، يرقب أمره، فاقبل عليه المهدي بوجه طلق، وقال: يا سفيان تفر منا هاهنا وهاهنا، وتظن أنا لو أردناك بسوء لم نقدر عليك، فقد قدرنا عليك الآن، فما عسى أن نحكم فيك بهواناً، فقال سفيان: ان تحكم في يحكم فيك ملك قادرعادل، يفرق في حكمه بين الحق والباطل. فقال له الربيع: يا أمير المؤمنين ألهذا الجاهل أن يستقبلك بمثل هذا؟ ائذن لي أضرب عنقه، فقال له المهدي: اسكت ويحك، وهل يريد هذا وأمثاله إلا أن تقتلهم فتشقى بسعادتهم أو قال لسعادتهم؟ اكتبوا عهده على قضاء الكوفة على أن لا يعترض عليه في حكم، فكتب عهده ودفعه إليه فأخذوه وخرج، فرمى به في دجلة وهرب، فطلب في كل بلد فلم يوجد، ولما امتنع من قضاء الكوفة وتولاه(1/269)
شريك بن عبد الله النخعي قال الشاعر:
تحرز سفيان وفز بدينه ... وأمسى شريك مرصداً للدراهم
وحكي عن أبي صالح شعيب بن حرب المدائني وكان أحد الأئمة الكبار السادة المشهورين بالحفظ والدين أنه قال: اني لأحسب يجاء بسفيان الثوري يوم القيامة حجة من الله تعالى على الخلق. توفي رحمه الله تعالى بالبصرة سنة إحدى. وقيل اثنتين وستين ومائة متوارياً من السلطان، ومولده في سنة خمس. وقيل ست. وقيل سبع وتسعين من الهجرة، وله رضي الله تعالى عنه من المناقب والمحاسن الجميلات ما لا يسعه إلا مجلدات، قلت وهو القائل رضي الله عنه لمن رآه بعد موته فسأله عن حاله فيما رآه كثير من الشيوخ العارفين والأئمة الهادين:
نظرت إلى ربي عياناً فقال لي ... هنياً رضاي عنك يا بن سعيد
لقد كنت قواماً إذا ظلم الدجى ... بعبرة مشتاق وقلب عميد
فدونك فاختر أي قصر تريده ... وزرني فإني عنك غير بعيد
وفي أول السنة المذكورة توفي أبو الصلت زائدة بن قدامة الثقفي الكوفي الحافظ. قيل وفي السنة المذكورة توفي أبو بشر عمرو بن عثمان المعروف بسيبويه إمام النحو الحارثي مولاهم، اخذ النحوعن عيسى بن عمر ويونس بن حبيب وخليل بن أحمد، واللغة عن أبي الخطاب الأخفش وغيره، وقال المبرد: لم يقرأ أحد كتاب سيبويه عليه، وإنما قرىء بعده على ابن الحسين سعيد بن مسعدة الأخفش، وكان ممن قرأه على الأخفش صالح بن إسحاق الجرمي. وقال أبو زيد النحوي: كلما حكى سيبويه في كتابه بقوله أخبرني الثقة فأنا أخبرته، يفتخر بذلك، وقال الأخفش: جاءنا الكسائي إلى البصرة، وسألني أن أقرئه كتاب سيبويه، ففعلت، فوجه إلي خمسين ألف ديناراً، قيل وكان الأخفش أسن من سيبويه، وقال ابن سلام: سألت سيبويه عن قوله عز وجل: " فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس " - يونس: 98 - على أي شيء نصبت إلا؟ قال: الا إذا كانت بمعنى لكن نصبت.(1/270)
وقال ابن دريد: مات سيبويه بشيراز، وقبره بها. وقال ابن قانع: مات بالبصرة سنة احدى وستين ومائة، وقال المرزباني وهم فيهما جميعاً، يعني المكان والزمان، قال: وعمره ثمان وثلاثون سنة، وقيل له في علته التي مات فيها ما تشتهي؟ قال: اشتهي أن أشتهي. قلت: كأنه يشير إلى أن المرض حال بينه وبين الشهوات، ولكن قيل لبعض الصالحين في وقت الصحة ما تشتهي: فقال: اشتهي أن أشتهي لأترك ما أشتهي فلا أشتهي، وهذا يشير إلى أن صحة قلبه واشتغاله بالله ومحبته له حال بينه وبين اشتهاء الشهوات، فهو يشتهي شيئاً منها ليخالف نفسه، ويتركها الله عز وجل، فلا يشتهي شيئاً.
سنة اثنتين وستين ومائة
فيها توفي السيد الكبير الولي الشهير ذو السيرة الزاهرة والآيات الباهرة العارف بالله المقرب المكرم أبو إسحاق إبراهيم بن أدهم، قلت: وهذا اشارة إلى قطرة من بحر مناقبه ومحاسنه وما يليق بوصفه في ظاهره وباطنه. وأما قول بعض المؤرخين: الذهبي وغيره: وفيها توفي إبراهيم بن أدهم البلخي الزاهد واقتصارهم في وصفهم له في الزهد الذي هو من أوائل مقامات المريدين المبتدين في مقامات السالكين فذلك غض من قدره وعلو مرتبة، وحط له عن رفيع منزلته، كذلك فعلوا في غيره من السادات العارفين الأولياء المقربين، فالعجب منهم في ذلك كل العجب في اقتصارهم في وصفهم على وصف من هو بالنسبة إلى جلالة قدرهم حقير مع وصفهم لمن هو حقير بالنسبة إليهم ومدحهم له بمدح كثير، والعجب الأكبر قول الذهبي روي عن منصور ومالك بن دينار وطائفة وثقه النسائي وغيره. يا للعجب كل العجب ممن يستشهد على التوثيق والتعديل يقول معدل للمولى المعظم الذي اشتهرت فضائله وكراماته في العرب والعجم. وأغنى من مدحته تلفظ مادحه بابن أدهم. كأنه فيما يخبر به منهم. وهو القائل رضي الله تعالى عنه.
تركت الخلق طراً في رضاكا ... وأيتمت العيال لكي أراكا
فلو قطعتني في الحب إرباً ... لما حن الفؤاد إلى سواكما
وقد ذكرت في غير هذا الكتاب نبذة من مناقبه وكراماته ومحاسن سيرته وسياحاته، وكيف كان أول خروجه وسماعه الهاتف من قربوس سرجه، وها أنا هنا أقتصر على ذكر(1/271)
كرامة واحدة من كراماته مما نقلها العلماء والاولياء منهم الأستاذ أبو القاسم القشيري في رسالته. قال محمد بن المبارك الصوري: كنت مع إبراهيم بن أدهم في طريق بيت المقدس، فنزلنا وقت القيلولة تحت شجرة رمان، فصلينا ركعات، وسمعت صوتاً من أصل تلك الرمانة: يا أبا إسحاق أكرمنا بأن تأكل منا شيئاً فطأطأ رأسه ثلاث مرات ثم قال: يا محمد كن شفيعاً إليه ليتناول منا شيئاً، فقلت: يا أبا إسحاق، لقد سمعت، فقام وأخذ رمانتين فأكل واحدة وناولني الأخرى فأكلتها وهي حامضة، وكانت شجرة قصيرة، فلما رجعنا من زيارتنا إذا هى شجرة عالية ورمانها حلو، وهي تثمر في كل عام مرتين، وسموها رمانة العابدين، ويأوي إلى ظلها العابدون. وفي السنة المذكورة وقيل في سنة ستين توفي السيد الجليل الولي الفضيل البارع في العلم والعمل زهداً وورعاً وعبادة لله عز وجل: داود بن نصير الطائي الكوفي. ومن كلامه رضي الله عنه: صم عن الدنيا، واجعل فطرك الموت، وفر من الناس فرارك من الأسد. وفيها توفي قاضي السراق أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي شبرمة القرشي العامري المدني، وولي القضاء بعده القاضي أبو يوسف. وفيها توفي أبو المنذر بن زهير بن محمد المروزي الخراساني.
سنة ثلاث وستين ومائة
فيها بالغ سعيد الجرشي في حصار عطاء المقنع الساحر الفاجر، فلما أحس الشيطان بالغلبة استعمل سماً وسقى نساءه فمتن، ثم سقى نفسه، فهلك الجميع، ودخل المسلمون الحصن، فقطعوا رأسه ووجهوا به إلى المهدي، وكان يقول بالتناسخ، وأن الله تعالى عن قوله تحول إلى صورة آدم ولذلك سجدت له الملائكة، ثم تحول إلى صورة نوح، ثم إلى غيره من الأنبياء والحكماء، ثم إلى صورة أبي مسلم الخراساني، ثم إلى صورته هو الفاجر، تعالى الله العظيم الشأن عما يقول الظالمون علواً كبيراً وكل شيطان وكل مفتر ذي بهتان وعن كل ما لا يليق بجلال كماله من حدث ونقصان، وكان لا يسفر عن وجهه، فلذلك قيل له المقنع، اتخذ وجهاً من ذهب فتقنع به كي لا يرى وجهه وقبح صورته، وكان قد عبده خلق وقاتلوا دونه مع ما عاينوا من عظيم ادعائه وقبح صورته وإنما غلب على عقولهم(1/272)
بالتمويهات التي أظهرها من ذلك صورة قمر يطلع ويراه الناس من مسافة شهرين من موضعه ثم يغيب وإليه أشار المعزي بقوله:
أفق أيها البدر المقنع رأسه ... ضلال وغي مثل بدر المقنع
وكان في قلعة في ما وراء النهر. وفيها توفي إبراهيم بن ظهران الخراساني، وفيها عيسى بن علي عم المنصور.
سنة أربع وستين ومائة
فيها توفي الماجشون يعقوب سمع ابن عمرو عمر بن عبد العزيز، ومحمد بن المنكدر، وروى عنه ابناه يوسف وعبد العزيز وابن أخيه عبد العزيز عبد الله، وقال ابن الماجشون: عرج بروح الماجشون فوضعناه على سرير الغسل فدخل غاسل إليه يغسله فرأى عرقاً يتحرك في أسفل قدميه، فلم يعجل بغسله، فمكث ثلاثاً على حاله، والناس يترددون إليه ليصلوا عليه، ثم استوى جالساً، وقال: ائتوني بسويق، فأتي به فشربه، فقلنا له: خبرنا ما رأيت فقال: نعم عرج بروحي فصعد بي الملك حتى إلى سماء الدنيا، فاستفتح فقتح له، ثم عرج هكذا في السموات حتى انتهى إلى السماء السابعة، فقيل له: من معك؟ قال الماجشون. قيل: لم يأن له بعد بقي من عمره كذا وكذا سنة وكذا وكذا شهراً وكذا وكذا ساعة، ثم هبطت فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر عن يمينه وعمر عن يساره وعمر بن عبد العزيز بين يديه، فقلت للملك الذي معي: من هذا؟ قال عمر بن عبد العزيز، قلت إنه لقريب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: انه عمل بالحق في زمن الجور وإنهما عملا بالحق في زمن الحق، ذكر هذا يعقوب بن أبي شيبة في ترجمة الماجشون هكذا ذكر ابن خلكان وفاته ووفاة عمه في السنة المذكورة، ولم يذكر الذهبي عمه المذكور. وفيها عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون المدني الفقيه، وكان إماماً مفتياً صاحب حلقة. وفيها توفي مبارك بن فضالة البصري مولى قريش، كان من كبار المحدثين والنساك. قال: جالست الحسن ثلاث عشرة سنة، قال أحمد: ما رواه عن الحسن يحتج به.(1/273)
سنة خمس وستين ومائة
فيها غزا المسلمون غزوة مشهورة، وعليهم هارون الرشيد وهو صبي أمرد، فساروا حتى بلغوا خليج قسطنطينية، وقتلوا وسبوا وفتحوا ماجدة، وغنموا مالاً لا يحصى حتى بيع الفرس بدرهم، وصالحتهم ملكة الروم على مال جليل. وفيها توفي عبد الرحمن بن ثابت الدمشقي الزاهد المجاب الدعوة ومعروف بن مشكان قارىء أهل مكة، سمع من عطاء وغيره، والحافظ وهيب بن خالد البصري، وخالد بن برمك وزير السفاح جد جعفر البرمكي.
سنة ست وستين ومائة
فيها توفي صدقة بن عبد الله السمين من كبار محدثي دمشق، ومعقل بن عبد الله الجزري من كبار علماء الجزيرة، روى عن عطاء بن أبي رباح وميمون بن مهران والكبار.
سنة سبع وستين ومائة
فيها أمر المهدي بالزيادة في المسجد الحرام، وغرم على ذلك أموال عظيمة ودخلت فيه دور كثيرة. قلت ذكر الأزرقي في تاريخ مكة كلاماً معناه أنه: لما حج المهدي رأى الكعبة في شق المسجد غير متوسطة فيه، فقال: ما ينبغي أن يكون بيت الله هكذا، وأمر بشراء دور كثيرة من جهة أجياد فاشتريت بثمن كثير، وأدخلت فيه، وهو الذي عمر المسجد الحرام بأساطين الرخام، والله تعالى أجل وأعلم. وفيها توفي عالم البصر الحافظ حماد بن سلمة، سمع قتادة وأبا جمرة الضبعي وطبقتهما وكان سيد وقته: قال ابن المدائني: كان عند يحيى ابن فلان سماه عن حماد بن سلمة عشرة آلاف حديث. وقال عبد الرحمن بن مهدي: لو قيل لحماد بن سلمة إنك تموت غداً ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً، وقال غيره: كان فصيحاً مفوهاً إماماً في العربية صاحب سنة له تصانيف في الحديث، وقيل كان يعد من الابدال. وقال موسى بن إسماعيل: لو قلت ما رأيت حماد بن سلمة ضاحكاً لصدقت، كان يحدث أو يسبح أو يقرأ أو يصلي قد قسم النهار على ذلك.(1/274)
وفيها توفي الحسن بن صالح الهمداني فقيه الكوفة وعابدها، قال وكيع: كان يشبه سعيد بن جبير، كان هو وأخوه علي وأمهما قد جزءا الليل ثلاثة أجزاء، فماتت أمهما فقسما الليل بينهما، فمات علي، فقام الحسن الليل كله. وفيها توفي فقيه الشام بعد الأوزاعي أبو محمد سعيد بن عبد العزيز التنوخي، عاش نحواً من ثمانين سنة، كان صالحاً قانتاً خاشعاً، قال الحاكم: هو لأهل الشام كمالك لأهل المدينة. وفيها توفي أبو حمزة محمد بن ميمون المروزي السكري، كان شيخ بلده ؤ والفضل والعبادة. وفيها وقيل في التي تليها، قتل بشار بن برد، العقيلي مولاهم الشاعر المشهور، كان أكمه جاحظ العينين قد تغشاها لحم أحمر، وكان ضخماً عظيم الخلق طويلاً، وهو في أول مرتبة المحدثين من الشعراء والمجيدين في الشعر، ومن شعره المشهور:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... بحزم نصيح أو نصاحة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ... قريش الخوافي تابع قوة للقوادم
وما خير كف أمسك الغل أختها ... وما خير سيف لم يؤيد بقائم
وفي شعره أيضاً:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة ... والأذن تعشق قبل العين أحيانا
قالوا لمن لا ترى تبدي فقلت لهم ... الأذن كالعين تؤتي القلب ما كان
أخذ معنى البيت الأول أبو حفص المعروف بابن الشحنة الموصلي في قوله قصيدة يمدح بها السلطان صلاح الدين:
وإني امرؤ أحببتكم لمكارم ... سمعت بها والأذن كالعين تعشق
وشعر بشار كثير سائر شاهد ببلاغته، فلا حاجة إلى التطويل بالاكثار من كتابته، وكان يمدح المهدي بن المنصور أمير المؤمنين العباسي فرمي عنده بالزندقة، فأمر بضربه، فضرب سبعين سوطاً، فمات من ذلك في البطيحة بالقرب من البصرة، فجاء بعض أهله فحمله إلى البصرة فدفنه بها، وقد نيف على التسعين وقيل والله أعلم به أنه كان يفضل النار على الأرض يعني الطين، ويصوب رأى إبليس في امتناعه عن السجود لآدم صلى الله عليه وآله(1/275)
وسلم، وينسب إليه من الشعر في التفضيل المذكور هذا البيت:
الأرض مظلمة والنار مشرقة ... والنار معبودة مذ كانت النار
يقال إن هذا قوله والله أعلم، ولهذا قلت: وينسب إليه هذا البيت. وأما قول ابن خلكان: وينسب إليه في ذلك قوله: فمختل المعنى، لأنه إذا كان قوله لا يصح أن يقول وينسب إليه، ولكن يقال ويدل على ذلك قوله: وقيل إنه فتشت كتبه فلم يوجد فيها شيء مما كان يرمي به. وقال الطبري في تاريخه إن سبب قتل المهدي له أن المهدي ولى صالحاً أخا يعقوب بن داوود وزير المهدي ولاية، فهجاه بشار بقوله ليعقوب:
هم حملوا فوق المنابر صالحاً ... أخاك فضجت من أخيك المنابر
فبلغ يعقوب، فجاء فدخل على المهدي فقال له: ان بشاراً هجاك، قال ويحك ماذا قال؟ قال: يعفيني أمير المؤمنين من إنشاء ذلك، فقال لا بد فأنشده:
خليفة يزني بعماته ... يلعب بالبيوق والصولجان
إبدلنا الله به غيره ... ودس موسى في زيارة حر الخيزران
ثم ذكر كلمة فظيعة في آخر هذا البيت أكره ذكرها غير أني أذكر حرفاً حرفاً هجاها وهما ح ر وبعدهما لفظ الخيزران وهي امرأة المهدي وإليها ينسب دار الخيزران بمكة، فطلبه المهدي، فخاف يعقوب أن يدخل عليه فيمدحه فيعفو عنه، فوجه إليه من تلقاه في البطيحة وقتله والله أعلم.
سنة ثمان وستين ومائة
فيها مات السيد الأمير أبو محمد الحسن بن يزيد بن السيد الحسن بن علي بن أبي طالب شيخ بني هاشم في زمانه وأمير المدينة للمنصور ووالد الست نفيسة، خافه المنصور فحبسه، ثم أخرجه المهدي وقربه. وفيها توفي أبو الحجاج خارجة بن مصعب من كبار المحدثين بخراسان وقيس بن الربيع الأسدي الكوفي الحافظ، وفيها توفي الأمير عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن(1/276)
عبد الله بن عباس، ولي عهد السفاح بعد أخيه المنصور، وقد مضى ذكر خلعه.
سنة تسع وستين ومائة
فيها عزم المهدي على أن يقدم هارون في العهد، ويؤخر موسى الهادي، فطلبه وهو بجرجان فلم يقدم، وفيها توفي المهدي أبو عبد الله بن أبي جعفر المنصور وهو في طلب الصيد، وذلك أنه ساق خلف صيد فدخل خربة، فتبعه المهدي فوقع به صدمة في باب الخربة لشدة سوقه فتلف لساعته، وقيل بل أكل طعاماً سمته جاريته لضرتها، فلما وضع يده فيه ما جسرت تقول هيأته لضرتي، وكانت خلافته تنيف على عشرين سنة، وكان ممدوحاً محباً إلى الناس وصولاً لأقاربه قصاماً للزنادقة طويلاً أبيض مليحاً جواداً، يقال إن المنصور خلف في الخزائن ألف ألف وستين ألف ألف درهم، ففرقها المهدي كلها، ولم يل الخلافة أحد أكرم منه ولا أبخل من أبيه، ويقال إنه أعطى شاعراً مرة خمسين ألف دينار. وذكر بعض المؤرخين أن المهدي خرج إلى الأنبار متنزهاً، فدخل عليه الربيع بن يونس ومعه قطعة من جراب فيه كتابة برماد وخاتم من طين قد عجن بالرماد وهو مطبوع بخاتم الخلافة، فقال: يا أمير المؤمنين، ما رأيت أعجب من هذه الرقعة، جاءني بها أعرابي وهو ينادي: هذا كتاب أمير المؤمنين، لوني على هذا الرجل الذي يسمى الربيع، فقد أمرني أن أدفعها إليه، فأخذها المهدي وضحك وقال: صدق، هذا خطي وهذا خلقي، افلا أخبركم بالقصة كيف كانت؟ قلنا: يا أمير المؤمنين أعلى رأياً في ذلك، فال: خرجت أمس إلى الصيد في غير سيمائي فلما أصبحت هاج علينا ضباب شديد، وفقدت أصحابي حتى ما رأيت منهم أحداً، وأصابني من البرد والجوع والعطش ما الله به أعلم، فتحيرت عند ذلك، فذكرت دعاء سمعته من أبي يحكيه عن أبيه عن جده عن ابن عباس رضي الله عنهم يرفعه قال: من قال إذا أصبح وإذا أمسى: بسم الله وبالله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وقي وكفي وهدي وشفي من الحرق والغرق والهدم وميتة السوء، فلما قلتها رفع الله لي ضوء نار، فقصدتها فإذا بهذا الأعرابي في خيمة له، وإذا هو يوقد ناراً بين يديه، فقلت: ايها الأعرابي هل من ضيافة؟ قال: انزل فنزلت، فقال لزوجته هاتي ذلك الشعير، فأتت به، فقال: اطحنيه فابتدأت بطحنه، فقلت: اسقني ماء، فإني بسقاء فيه مذقة من لبن أكثرها ماء، فشربت منها شربة ما شربت شيئاً قط إلا وهي أطيب منه، وأعطاني حلساً له يعني كساء رقيقاً وهو بالحاء والسين المهملتين وبينهما لام ساكنة قال: فوضعت رأسي عليه ونمت نومة ما نمت أطيب منها وألذ، ثم انتبهت فإذا هو قد وثب إلى شويهة فذبحها، وإذا امرأته تقول له:(1/277)
ويحك قتلت نفسك وصبيتك، انما كان معاشكم من هذه الشاة فذبحتها، فبأي شيء نعيش؟ قال: فقلت: لا عليك هات الشاة، وشققت جوفها، واستخرجت كبدها بسكين كانت في خفي، فشرحتها ثم طرحتها على النار فأكلتها، ثم قلت له: هل عندك شيء أكتب فيه؟ فجاءني بهذه القطعة من جراب، وأخذت عوداً من الرماد الذي بين يديه، وكتبت له هذا الكتاب، وختمته بهذا الخاتم، وأمرته أن يجيء ويسأل عن الربيع فيدفعها إليه، فإذا فيها خمس مائة ألف درهم فقال: والله ما أردت إلا خمسين ألف درهم، ولكن جدت بخمس مائة ألف درهم لا أنقص والله منها درهماً واحداً، ولم يكن في بيت المال غيرها، احملوها معه، قال فما كان إلا قليل حتى كثرت إبله وشاءه وصار منزله من المنازل ينزله الناس من أراد الحج وسمي منزل مضيف أمير المؤمنين المهدي. ولما مات المهدي أرسلوا بالخاتم والقضيب إلى الهادي فأسرع على البريد وقدم بغداد. وفيها خرج الحسين بن علي بن الحسن بن الحسين بن علي بالمدينة، وبايعه عدد كثير، وحارب العسكر الذي بالمدينة، وقتل مقدمهم خالد بن اليزيد ثم تأهب وخرج في جمع إلى مكة، فالتفت عليه خلق كثير فأقبل ركب العراق معهم جماعة من أمراء بني العباس في عدة وخيل المهدي فالتقوا بفخ. قلت هذه اللفظة سمعتها من بعض عوام مكة بالفاء والخاء المعجمة ورأيتها في بعض التواريخ فيها نقطة الجيم وهو اسم مكان على يسار الخارج من مكة للعمرة وهو إلى أدنى الحل أقرب منه إلى مكة، فقتل في الموضع المذكور الحسين المذكور في مائة من أصحابه، وقتل الحسن بن محمد بن عبد الله الذي خرج أخوه على المنصور، وهرب ادريس بن عبد الله بن الحسن إلى المغرب، فقام معه أهل طنجة، ثم تخيل الرشيد وبعث من بينهم ادريس فقام بعده ادريس بن ادريس. وفيها توفي نافع بن أبي نعيم أبو عبد الرحمن الليثي مولاهم قارىء أهل المدينة وأحد القراء السبعة، قال موسى بن طارق: سمعته يقول قرأت على سبعين من التابعين، وقال مالك: نافع إمام
الناس في القراءة، وقال ابن أبي أويس: قال لي مالك قرأت على نافع ومن المشهور أنه كان له راويان: ورش وقالون. الناس في القراءة، وقال ابن أبي أويس: قال لي مالك قرأت على نافع ومن المشهور أنه كان له راويان: ورش وقالون.(1/278)
سنة سبعين ومانة
وفيها توفي الخليفة الهادي موسى بن المهدي محمد بن المنصور عبد الله، قيل مات من قرحة أصابته، وقيل قتلته أمه الخيزران لما هم بقتل أخيه هارون الرشيد. وفيها توفي أبو النضر جرير بن حازم الأزدي البصري، احد فصحاء البصرة ومحدثيها، روى عن الحسن والكبار. وفيها توفي أبو معشر السندي صاحب المغازي والأخبار، وفيها مات كاتب المهدي ووزيره معاوية بن عبد الله، وكان من خيار الوزراء، صاحب علم وفضل وعبادة وصدقات. وفيها توفي الربيع بن يونس حاجب المنصور، كان كثير الميل إليه، حسن الاعتماد عليه، فقال له يوماً: يا ربيع سل حاجتك، قال: حاجتي أن تحب ابني، فقال: ويحك إن المحبة تقع بأسباب، فقال: قد أمكنك الله من ايقاع سببها، قال: وما ذاك؟ قال: تفضل عليه فإنك إذا فعلت ذلك أحبك، وإذا أحبك أحببته، قال: والله قد أحببته وقد حببته إلي قبل إيقاع السبب، ولكن كيف اخترت له المحبة دون كل شيء؟ قال لأنك إذا أجبته كبرعندك صغير إحسانه، وصغرعندك كبير إساءته، وكانت ذنوبه كذنوب الصبيان، وحاجته إليك كحاجة الشفيع العريان، قيل: اشار بذلك إلى قول الفرزدق:
ليس الشفيع الذي يأتيك متزراً ... مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا
وهذا البيت من جملة أبيات له في عبد الله بن الزبير بن العوام، لما طلب الخلافة لنفسه، واستولى على الحجاز والعراق واليمن في أيام خلافة عبد الملك بن مروان، وكان قد اختصم الفرزدق هو وزوجته النوار، فمضيا من البصرة إلى مكة ليفصل الحكم بينهما عبد الله بن الزبير، فنزل الفرزدق عند ابنه حمزة، ونزلت النوار عند زوجته، وشفع كل واحد منهما لنزيله، فقضى عبد الله للنوار، وترك الفرزدق، فقال الأبيات المذكورة، فصار الشفيع العريان مثلاً يضرب لكل من قبلت شفاعته. قلت وهذا يرد قول من يزعم أن هذا المثل في هذا النظم من اختراع أبي نواس مخاطباً(1/279)
به هارون الرشيد كما سيأتي في ترجمته. وقال المنصور له يوماً: ويحك يا ربيع ما أطيب الدنيا لولا الموت، فقال: ما طابت إلا بالموت، قال: وكيف ذلك؟ قال: لولا الموت لم تقعد هذا المقعد، قلت يعني أنه لو لم يمت الخليفة الذي قبلك لما وصلت الخلافة إليك، بل لو لم يمت أول ملك من ملوك الدنيا لما ملك أحد بعده، قال: صدقت، وقال له المنصور لما حضرته الوفاة: يا ربيع بعنا الآخرة بنومه. وقال ربيع: كنا يوماً وقوفاً على رأس المنصور، وقد طرحت للمهدي، وهو ولي عهده وسادة، اذا أقبل صالح بن المنصور، وكان قد رسخه لتولية بعض أموره، فقام بين السماطين والناس على قدر أنسابهم ومراتبهم، فتكلم فأجاد، فمد المنصور يده إليه، وقال يا بني، واعتنقه، ونظر إلى وجوه الناس، هل فيهم من يذكر مقامه ويصف فضله، وكلهم كرهوا ذلك بسبب المهدي خيفة منه، فقام شبة بضم الشين المعجمة وفتح الباء الموحدة ابن عقال التميمي، فقال: لله در خطيب قام عندك يا أمير المؤمنين: ما أفصح لسانه وأحسن بيانه وأمضى جنانه وأبل ريقه وأسهل طريقه! وكيف لا يكون كذلك، وأمير المؤمنين أبوه، والمهدي أخوه، وهو كما قال الشاعر:
هو الجواد فإن يلحق بشأوهما ... على تكاليفه فمثله لحقا
أويسبقاه على ما كان من مهل ... فمثل ما قد، ما من صالح سبقا
فعجب من حضر لجمعه بين المدحين وإرضائه المنصور وخلاصه من المهدي. قال الربيع: فقال لي المنصور: لا يخرج التميمي إلا بثلاثين ألف درهم، فلم يخرج إلا بها. وقال الطبري: مات الربيع في سنة تسع وستين ومائة خلاف ما قدمناه وقيل: ان الهادي سمه، وقيل: بل مرض ثمانية أيام، والله سبحانه العلام. وفي السنة المذكورة توفي يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي، كان والياً على إفريقية خمس عشرة سنة وثلاثة أشهر، وكان جواداً سرياً ممدوحاً، قصده جماعة من الشعراء فأعطاهم عطايا سنية، وهو الذى قصده ربيعة بن ثابت الأسدي الرقي فأحسن إليه، وكان ربيعة المذكور قد مدح يزيد بن أسيد بضم الهمزة السلمي، فقصر يزيد في حقه، فقال يمدح يزيد بن حاتم ويهجو يزيد السلمي بقصيدته التي من جملتها:
لشتان ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد سليم والأعز بن حاتم
فهم الفتى الأزدي إتلاف ماله ... وهم الفتى القيسي جمع الدراهم
فلا تحسب التمتام أني هجوته ... ولكنني فضلت أهل المكارم(1/280)
هوالبحر إن كلفت نفسك خوضه ... تهالكك في أمواجه بالتلاطم
وقد قيل إن يزيد بن حاتم المذكور توفي سنة خمس وثمانين ومائة، وسنعيد ذكر ترجمته هناك مع زيادات على ترجمته هنا، ان شاء الله تعالى، ويزيد بن حاتم المذكور أخوه روح بضم الراء وسكون الواو قبل الحاء المهملة ابن حاتم من الكرماء الأجواد، ولي لخمسة من الخلفاء: السفاح والمنصور والمهدي والهادي والرشيد، ويقال: انه لم يتفق مثل هذا إلا لأبي موسى الأشعري الصحابي، رضي الله تعالى عنه، فإنه ولي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولأبي بكروعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم. وكان روح والياً على السند بتولية المهدي بن أبي جعفر المنصور في سنه تسع وخمسين، وقيل ستين ومائة، وكان قد ولاه في أول خلافته الكوفة، ثم عزله عن السند سنة إحدى وستين ومائة، ثم ولاه البصرة. فلما توفي أخوه يزيد في السنة المذكوره بإفريقية في مدينة القيروان، وكان قد قال أهل إفريقية: ما أبعد ما يكون بين قبري هذين الأخوين: فإن هذا هنا وأخاه بالسند، فاتفق أن الرشيد عزل روحاً عن السند، وسيره إلى موضع أخيه يزيد، فوصل إلى إفريقية في أول رجب سنة إحدى وسبعين ومائة، ولم يزل والياً عليها إلى أن توفي بها، فدفن مع أخيه في قبر واحد، فعجب الناس من هذا الاتفاق بعد ذلك التباعد والافتراق، وكان تولية المنصور يزيد المذكور على إفريقية عندما قتلت الخوارج عامله فيها، وجهز معه خمسين ألف مقاتل حين زار المنصور بيت المقدس، وكان قد ولاه قبل ذلك على مصر. وفي السنة المذكورة توفي إمام اللغة والعروض والنحو الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي، وقيل في سنة خمس وسبعين ومائة، وقيل في ستين ومائة، وقيل ثلاثين ومائة، وغلط ناقل هذا القول الأخير، وممن نقله ابن الجوزي والواقدي، وهو الذي استنبط علم العروض وحصر أقسامه في خمس دوائر، استخرج منها خمسة عشر بحراً، ثم زاد فيه الأخفش بحراً، سقاه المجتث، قلت وله أسماء أخرى ذكرتها في علم العروض، وقيل إن الخليل دعا بمكة أن يرزق علماً لم يسبق إليه أحد، فلما رجع من حجه فتح عليه بعلم العروض، وله معرفة بالايقاع والنغم، وتلك المعرفة أحدثت له علم العروض، فإنهما متقاربان في المأخذ. وقال حمزة بن الحسن الأصفهاني في كتابه المسمى بالتنبيه على حدوث التصحيف: وبعد فإن دولة الإسلام لم تخرج أبدع العلوم التي لم يكن لها عند علماء العرب أصول إلا(1/281)
من الخليل، وليس على ذلك برهان أوضح من علم العروض الذي لا عن حكيم أخذه ولا على مثال تقدمه احتذاه، وإنما اخترعه من ممر له بالقصارين من وقع مطرقة على طست، وقيل: وهو في اختراعه عالم العروض الذي هو لصحة الشعر وفساده ميزان كارسطاطاليس الحكيم في اختراعه علم المنطق الذي هو ميزان المعاني وصحة البرهان، وفي ذلك أقول على طريق التشبيه والبيان:
بميزان حبر بارع كن بما أتى ... يجيء أرسطاطاليس صنعاً ويبدعا
بحيث سما علياً النجابة واضعاً ... عروضاً حكت روضاً زها متنوعا
يظل به من يهتدي الحسن مولعاً ... ومن لايحسن يهتدي متولعا
كأن بها الحسن من تلك بدرة ... بدا من سما مجد الخليل مشعشعا
ومن تأسيس الخليل بناء كتاب العين الذي يحضر فيه لغة أمة من الأمم، ثم من إمداد سيبويه من علم النحو بما صنف منه كتابه المشهور، ومن براعة ذكائه: ما ذكر في كتاب المقتبس أنه كان للناس رجل يعطي دواء لظلمة العين ينتفع الناس به، فمات، فاحتيج إلى ذلك الدواء، ولم يعرف ما هو، فذكر ذلك للخليل فقال: اله نسخة معروفة؟ قالوا: لم نجد نسخته. قال: فهل كانت له آنية يعمل فيها؟ قالوا: نعم إناء كان يجمع فيه الأخلاط، قال: فأتوني به، فجاءوه به، فجعل يتشممه ويخرج نوعاً نوعاً حتى ذكر خمسة عشر نوعاً، ثم عمله وأعطاه الناس فشفوا به، ثم وجدت النسخة والأخلاط المذكورة فيها ستة عشر، لم يغفل إلا واحداً. قلت ومما يناسب هذا الفهم العظيم ما حكي عن حكيم، وذلك أنه عمي بعض الحكماء في بلاد الشام، ولم يدر ما سبب عماه حتى يعالجه بما يناسبه من أضداد العلة المفذهبة للبصر، فسمع بحكيم في بلاد الهند، فارتحل إليه، فلما قدم عليه عرض عليه ما أصاب عينيه، فنظر فيهما ذلك الحكيم، ثم قال له: العلة في ذهاب نور بصرك أنك بلت في يوم حار على حية ميتة في سبخة من الأرض، فطلع في عينيك بخارها، ثم استدعى بغلامه، فأتي بكحل، فكخل به عينيه، فأبصر في الحال، ثم رجع إلى بلاده فأراد أن يختبر صحة ما قاله الحكيم، فتتبع موضع الحياث حتى ظفر بحية فقتلها، ثم رمى بها في سبخة تشرق عليها الشمس، وتهب عليها الريح مدة من الزمان، ثم أتى فبال عليها فعمي في الحال، ثم قال لغلامه: الرحيل فرحل إلى ذلك الحكيم، وتنكر جهده حتى لا يعرفه، وقال لغلامه: اذا رفع المرود ليكحل به عيني فخذه من يده وضعه في فمي، فقال: نعم إن شاء الله، فلما وصل إليه قال له: انا رجل غريب وقد ذهب بصري، عسى من أجل الله تعالى أن تعالجه بما يرد(1/282)
عليه نوره، فقال له: كأني قد رأيتك قبل هذا اليوم، فغالطه فاستدعى ذلك الحكيم بالدواء الذي كحله به أولاً، فلما وضع طرفي المرود فيه ورفعه إلى عينيه خطف غلامه المرود من يده ووضعه في فم سيده فطعمه وشمه، فعرف فيه تسعاً وتسعين نوعاً من الأدوية، وغرب عنه نوع منها تمام المائة لم يعرف، فعرف ذلك الحكيم، فسأله فأخبر بذلك الذي لم يدركه، فرجع إلى بلاده وجمع تلك الأدوية من العقاقير، واكتحل فعاد إليه بصره، فسبحان اللطيف الخبير، الذي هو على كل شيء قدير، مسبب الأسباب، وميسر الأمور الصعاب. رجعنا إلى ذكر الخليل، والخليل أول من جمع جميع الحروف في بيت واحد حيث قال:
صف خلق جود كمثل الشمس إذ بزغت
يخطي الضجيع بها بخلاء معطار
وقال النضر بن شميل جاء رجل من أصحاب يونس، فسأله عن مسألة، فأطرق الخليل يفكر، وأطال إلى أن انصرف الرجل، فعجبنا منه وعاتبناه، فقال لنا: ما كنتم أنتم قائلين فيها؟ قلنا: كذا وكذا، قال: فإن قال لكم كذا؟ قلنا: كنا نقول كذا. قال: فيزيدكم كذا فلم يزل يعترض على قولنا إلى أن انقطعنا وأقبلنا نتفكر، فقال: ان المجيب إذا ابتدأ في الجواب قبح به أن يفكر بعد ذلك، ثم قال: ما أجبت بجواب قط إلا وأنا أعرف ما علي فيه، يعني من الاعتراضات والمؤاخذات. وقال بعض المؤرخين: كان الخليل رجلاً صالحاً عاقلاً حليماً وقوراً، وقال تلميذه النضر بن شميل: اقام الخليل في خص من أخصاص البصرة لا يقدر على فلس، وأصحابه يكسبون بعلمه الأموال، قال ولقد سمعته يوماً يقول: اني لأغلق علي بابي فما يجاوزه همي، وكتب إليه سليمان بن حبيب بن المهلب يستدعي حضوره، وكان في ولايته أرض فارس والأهواز، فكتب إليه الخليل جوابه:
أبلغ سليمان أني عنه في سعة ... وفي غنى غيرأني لست ذا مال
شحاً بنفسي أني لا أرى أحداً ... يموت هزلاً ولا يبقى على حال
والرزق عن قمر لا الضعف ينقصه ... ولا يزيدك فيه حول محتال
والفقر في النفس لا في المال تعرفه ... ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال
وقيل: اجتمع الخليل وابن المقنع ليلة يتحدثان إلى الغداة، فلما تفرقا قيل للخليل: كيف رأيت ابن المقنع؟ فقال: رأيت رجلاً علمه أكثر من عقله، وقيل لابن المقنع: كيف رأيت الخليل؟ فقال: رأيت رجلاً عقله أكثر من علمه. وللخليل عدة تصانيف. وقال الخليل(1/283)
كان يتردد إلى شخص يتعلم العروض، وهو بعيد الفهم، فأقام مدة، ولم يعلق على خاطره شيء منه، فقلت له يوماً: قطع هذا البيت:
إذا لم تستطع شيئاً فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
فشرع في تقطعيه على قدر معرفته، ثم نهض ولم يجىء بعد إلي، فعجبت من فطنته لما قصدته في ذلك البيت مع بعد فهمه. ويقال إن أبا الخليل أول من سمي بأحمد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ذكره صاحب كتاب المقتبس نقلاً عن أحمد بن أبي خيثمة، ومن النظم المنسوب إلى الخليل قوله:
وما هي إلا ليلة تم يومها ... وحول إلى حول وشهر إلى شهر
مطايا يقربن الجديد إلى البلى ... ويدنين أرحال الكرام إلى القبر
ويتركن أزواج الغيور لغيره ... ويقسمن ما يحوي الشحيح من الوفر
وقوله:
ألا ينهاك شيبك عن صباكا ... ويترك ما أضلك من هواكا
أترجو أن يعطيك قلب سلمى ... وتزعم أن قلبك قد عصاك
وغير ذلك من الأشعار التي يطول ذكرها، وكان كثيراً ما ينشد قول الأخطل:
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذخراً يكون كصالح الأعمال
وسأل الأخفش الخليل: لم سميت بحر الطويل طويلاً؟ قال: لأنه تمت أجزاؤه. قال فالبسيط؟ قال: لأنه انبسط على يدي الطويل. قال فالمديد؟ قال: لتمدد سباعيه حول خماسيه. قال فالوافر؟ قال: لوفورالأجزاء وتداً بوتد. قال فالكامل؟ قال لأن فيه ثلاثين حركة، لم يجتمع في غيره. قال فالرجز؟ قال: لاضطرابه كاضطراب قوائم الناقة الرجزاء. قال فالرمل؟ قال: لأنه يشبه رمل الحصير بضم بعضه إلى بعض. قال فالهزج؟ قال: لأنه يضطرب شبه هزج الصوت. قال فالسريع؟ قال: لأنه يسرع على اللسان. قال فالمنسرح؟ قال: لانسراحه وسهولته قال فالخفيف؟ قال: لأنه أخف السباعيات. قال فالمقتضب؟ قال: لأنه اقتضب من الشعر لقلته. قال فالمضارع؟ قال لأنه ضارع المقتضب. قال والمجتث؟ قال: لأنه اجتث أي قطع من طول دائرته. قال فالمتقارب؟ قال لتقارب أجزائه، وإنها خماسية كلها يشبه بعضها بعضاً. وقيل: لما دخل الخليل البصرة عزم على مناظرة أبي عمرو، فجلس في حلقته، ثم(1/284)
انصرف ولم ينطق، فقيل له: ما منعك؟ قال: نظرت فإذا هو رائس من خمسين سنة، فخفت أن ينقطع فيفتضح في البلد فلن أكلمه.
سنة إحدى وسبعين ومائة
فيها توفي أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم العمري الذي روى عن نافع، كان محدثاً صالحاً، قلت وهو الذي وعظ هارون الرشيد، وهو في السعي على الصفا، فقال له: يا هارون، قال: لبيك يا عم، قال: انظر إليهم هل تحصيهم يعني الحجيج؟ فقال: ومن يحصيهم؟ قال: اعلم أن كلاً منهم يسأل عن خاصة نفسه، وأنت مسؤول عنهم كلهم، ثم قرعه بكلام قال في آخره: والله إن الرجل يسرف في ماله فيستحق الحجر عليه، فكيف من يسرف قي أموال المسلمين؟ وسمي العمري لانتسابه إلى عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو ممن واجه الرشيد بالموعظة الغليظة البالغة، وكذلك الفضيل بن عياض رضي الله عنه، وقد ذكرت موعظته البالغة الدامغة في كتابي روض الرياحين، وممن وعظه أيضاً ابن السماك وبهلول المجنون، رضي الله عنهم. وفي السنة المذكورة توفي أبو دلامة الشاعر المشهور، وكان عبداً حبشياً فصيحاً صاحب نوادر ومزاح، وقد تقدم شيء من ذلك.
سنة اثنتين وسبعين ومائة
فيها توفي الإمام أبو محمد سليمان بن بلال المدني مولى آل أبي بكر الصديق، كان حسن الهيئة عاقلاً مفتياً بالمدينة. وفيها توفي عم المنصور الفضل بن صالح بن علي أمير دمشق، وهو الذي أنشأ القبة العربية التي بجامع دمشق، وتعرف بقبة المال. وفيها توفي صاحب الأندلس أبو المطرف عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك الأموي، فر إلى المغرب عند زوال ولايتهم، فقامت معه اليمانية، فتولى الأندلس بعد أن هزم صاحبها يوسف، وولي بعده ولده هشام، وبقيت الأندلس لعقبه إلى حد الأربع مائة. قلت والمراد باليمانية من دخل بلاد المغرب من عرب اليمن، وقد تقدم ذكر سبب دخول من دخل منهم فيها مستنجداً بهم للنصرة.(1/285)
وفيها أو في سنة ست وسبعين توفي حادي قلوب المشتاقين القارىء الواعظ تحفة الزاهدين وطرفة العابدين الصالح الولي صالح المري البصري، روى عن الحسن وجماعة، وكان شديد الخوف من الله، اذا وعظ كأنه ثكلى.
سنة ثلاث وسبعين ومائة
فيها توفي الإمام أبو خيثمة زهير بن معاوية الجعفي الكوفي نزيل الجزيرة، روى عن سماك بن حرب وطبقته، وكان أحد الحفاظ الأعلام. وفيها توفي عبد الرحمن بن أبي الموال المدني، مولى آل علي، رضي الله عنه، روى عن أبي جعفر الباقر وطائفة، وضربه المنصور على أن يدله على محمد بن عبد الله بن حسن، فلم يدله، وكان من شيعته. وفيها توفي جويرية بن أسماء بن عبيد الضبعي البصري، روى عن نافع والزهري، وكان ثقة كثير الحديث.
سنة أربع وسبعين ومائة
فيها توفي الإمام الحافظ أبو عبد الرحمن عبد الله بن لهيعة الحضرمي، روى عن الأعرج وعطاء بن أبي رباح وخلق كثير، وقد ولي قضاء مصر في خلافة المنصور.
سنة خمس وسبعين ومائة
فيها توفي شيخ الديار المصرية وعالمها، سامي المجد والعلا بالعلم والسخاء، الذي سما بها الملا، ابو الحارث ذو المجد والسعد، المشهور بالليث بن سعد الفهمي مولاهم وأصله فارسي أصفهاني، روى عن عطاء وابن أبي مليكة ونافع وخلق كثير، توفي يوم الجمعة يوم النصف من شعبان، وله إحدى وثمانون سنة، قال الشافعي الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به، وقال يحيى بن بكير: الليث أفقه من مالك، لكن الحظوة لمالك، وقال محمد بن رمح: كان دخل الليث في السنة ثمانين ألف دينار وما وجبت عليه زكاة قط، وكان من الكرماء الأجواد، روي أنه كان لا يتغدى كل يوم حتى يطعم ثلاث مائة وستين مسكيناً. وحكى بعضهم أنه ولي القضاء بمصر، وأن الإمام مالكاً أهدى إليه صينية فيها تمر،(1/286)
فأعادها مملوءة ذهباً، وأنه كان يتخذ لأصحابه الفالوذج، ويعمل فيه الدنانير ليحصل لكل من أكل من أصحابه كثير، وكانت وفاته يوم الخميس منتصف شعبان، ودفن يوم الجمعة بمصر في القرافة الصغرى، وقبره أحد المزارات رحمة الله عليه، وقد أراده المنصور لإمرة مصر، فامتنع.
سنة ست وسبعين ومائة
فيها فتحت مدينة ريسة من أرض الروم، واشتد البلاء والقتل بين القيسية واليمانية في الشام، واستمرت بينهم إحن وأحقاد ودماء يهيجون لأجلها في كل وقت إلى اليوم. وفي السنة المذكورة توفي قاضي بغداد الرشيد أبو عبد الله سعيد بن عبد الرحمن الجمحي المدني، وكان من أولي العلم والصلاح، وتوفي أبو عوانة الوضاح مولى يزيد بن عطاء الواسطي البزار أحد الحفاظ الأعلام. وفيها توفي حماد بن أبي حنيفة، كان على مذهب أبيه، وكان من أهل الصلاح والخير، وكان ابنه إسماعيل قاضي البصرة، فعزل عنها بالقاضي يحيى بن أكثم، فلما وصل يحيى إلى البصرة فسافر إسماعيل نشيعه القاضي يحيى المذكور. وحكى إسماعيل المذكور قال: كان لنا جار طحان رافضي، وكان له بغلان، سمي أحدهما قاتله الله أبا بكر والآخر عمر، فرمح ذات ليلة أحد البغلين فقتله، فأخبر جدي أبو حنيفة به، فقال: انظروا فإني أخال أن البغل الذي سماه عمر هو الذي رمحه، فنظروا، فكان كما قال.
سنة سبع وسبعين ومائة
وفيها توفي الولي الكبير السيد الشهير عبد الواحد بن زيد البصري الذي قيل إنه صل الغداة بوضوء العشاء أربعين سنة. وقد ذكرت في كتاب روض الرياحين بعض حكاياته المشتملة على كراماته ومحاسن صفاته.(1/287)
وفيها توفي شريك بن عبد الله النخعي الكوفي القاضي أحد الأعلام وله نيف وثمانون سنة.
سنة ثمان وسبعين ومائة
فيها توفي جعفر بن سليمان الضبعي وكان أحد علماء البصرة، روى عن أبي عمران الجوني وطائفة، وأخذ عنه الشيخ عبد الرزاق اليماني.
سنة تسع وسبعين ومائة
فيها كانت فتنة الوليد بن طريف الشيباني الخارجي الذي قالت أخته المسماة بالفارعة لما قتل:
أيا شجر الخابور ما لك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف
فتى لا يحب الزاد إلا من التقى ... ولا المال إلا من قنا وسيوف
ولا الذخر إلا كل جردا هلدم ... معاودة للكد بين صفوف
كأنك لم تشهد هناك ولم تقم ... مقاماً على الأعداء غير خفيف
حليف الندى ما عاش يرضى به الندى ... فإن مات لا يرضى الندى بحليف
فقدناك فقدان الشباب وليتنا ... فديناك من دهمائنا بألوف
وما زال حتى أزهق الموت نفسه ... شجا لعدو أو ملجأ لضعيف
ألا يا لقومي للحمام وللبلى ... وللأرض همت بحلى برجوف
ألا يا لقومي للنوأئب والردى ... ودهر ملج بالكرام عنيف
وللبدر من بين الكواكب إذ هوى ... وللشمس لما أزمعت بكسوف
هو الليث كل الليث إذ يحملونه ... إلى حفرة ملحودة وسقيف
ألا قاتل الله الحثا حيث أضمرت ... فتى كان بالمعروف غير عنوف
فإن يك أراده يزيد بن مرثد ... فرب رجوف لفها برجوف
عليه سلام الله وقفا فإنني ... أرى المرت وقاعاً بكل شريف
وأول هذه المرثية:
بتل نباثي رسم قبر كأنه ... على جبل فوق الجبال منيف
تضمن مجداً عد مكياً وسؤددا ... وهمة مقدام ورأي خصيف(1/288)
والعد مكي بالعين والدال المهملتين: المديم، ولها فيه مراثي كثيرة، قالوا: وكان يوم المصاف ينشد:
أنا الوليد بن الطريف الشاري ... قسورة لا يصطلي بناري
ويقال إنه لما انكسر جيشه وانهزم، تبعه يزيد بنفسه حتى لحقه على مسافة بعيدة، فقتله وأخذ رأسه، ولما علمت بذلك أخته المذكورة لبست عدة حربها وحملت على جيش يزيد، فقال يزيد: دعوها، ثم خرج فضرب بالرمح فرسها. وقال أعرابي: عرب الله عليك، فقد فضحت العشيرة، فاستحيت وانصرفت، والخابور نهر معروف يصب في الفرات، وعلى هذا النهر مدن صغار تشبه الكبار في عمارة بلادها وأسواقها وكثرة خيراتها، وطريف بفتح الطاء المهملة وكسر الراء وسكون الراء المثناة من تحت وبعدها فاء، وتل نباثي معروف مضاف إلى نباتي بضم النون وبعدها موحدة وبعد الألف مثلثة مفتوحه في برية الموصل والحثا في قولها ألا قاتل الله الحثا جمع حثية وقولها:
فتى لا يريد الزاد إلا من التقى ... ولا المال إلا من فتى وسيوف
قلت هذا البيت ظاهرة التناقض، فإن القائل يقول إن حصول المال بالقنا والسيوف ظاهره القتل والقتال ونهب الأموال، وهذا مناف للتقوى والجواب فيما يظهر والله تعالى أعلم: ان هذا لا تناقض فيه على مذهب الخوارج الذين يكفرون المسلمين بالذنب ويرون الخروج عليهم، والدليل على كونه منهم قوله أنا الوليد بن الطريف الشاري، فنسب نفسه إلى الشراة، وهم الخوارج المتسمون بهذا الاسم بكونهم بزعمهم باعوا نفوسهم بالجنة، وقد أبدعت أخته في شعرها المذكور، وبلغت في بلاغته نهاية من النظم المشكور، وما سمعت من أشعار النساء أبلغ من شعرها وشعر الخنساء، كلتاهما رثت أخاها، ومن شعر الخنساء البليغ فيه:
وإن صخرا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
أبدعت في التشبيه وناسبت بين طرفي البيت، لأنها لما جعلته هادي الهداة شبهته بدليل على دليل، وهما الجبل والنار، وأخت ابن طريف أيضاً أبدعت في مواضع من هذه الأبيات ومنها: تبكيتها لشجر الخابور، ومعاتبتها له على عدم تساقط ورقه لاحتراقه بنار الحزن على قتل أخيه الوليد المذكور، فاستعارت استعارة بالغة مشعرة بكون الكون جديراً بأن يحزن ويأسى على فقد من اتصف بالأوصاف الجميلة الثناء حيث قالت:
أيا شجر الخابور ما لك مورقاً ... كأنك لم تحزن على ابن طريف(1/289)
وقال بعضهم: أظنه في بلد نصيبين، وهو موضع الوقعة والشاري بفتح الشين المعجمة وبعد الألف راء واحدة، الشراة بضم الشين وهم الخوارج سموا بذلك لقولهم: شرينا أنفسنا في طاعة الله أي بعناها بالجنة حين فارقنا الأئمة الجائرة. وكان الوليد المذكور أحد الشجعان الأبطال، وكان رأس الخوارج، خرج في خلافة هارون الرشيد وبغى وحشد جموعاً كثيرة، فأرسل إليه هارون جيشاً كثيفاً مقدمه أبو خالد يزيد بن مرثد بن زائدة الشيباني، فجعل يخاتله ويماكره وكانت البرامكة منحرفة عن يزيد، فأغروا به الرشيد، وقالوا إنه يراعيه لأجل الرحم وإلا فشوكة الوليد يسيرة، وهو يواعده وينتظر ما يكون من أمره، فوجه إليه الرشيد كتاب مغضب، وقال: لو وجهت أحد الخدام أو قال أصغر الخدم لقام بأكثر ما تقوم به، ولكنك مداهن متعصب، وأمير المؤمنين يقسم بالله لئن أخرت مناجزة الوليد ليبعثن إليك من يحمل رأسك إلى أمير المؤمنين، فالتقيا فظهر على الوليد فقتله، وذلك في سنة تسع وسبعين ومائة في شهر رمضان، وهي وقعة مشهورة مسطورة في التاريخ. وفي السنة المذكورة توفي إمام دار الهجرة وشيخ الأئمة الجلة أبو عبد الله مالك بن أنس الأصبحي، نسبة إلى بطن من حمير، يقال له ذو أصبح، ولد سنة أربع وتسعين، وسمع من نافع والزهري وطبقتهما وأخذ القراءة عرضاً عن نافع بن أبي نعيم، قال الإمام الشافعي: اذا ذكر العلماء فلمالك النجم. وكان مالك طويلاً جسيماً عظيم الهامة أبيض الرأس واللحية، وقيل تبلغ لحيته صدره، وقيل كان أشقر أزرق العينين يلبس الثياب العدنية الرفيعة البيض. وقال أشهب: كان مالك إذا أعتم جعل منها تحت ذقنه، ويسدل طرفيها بين كتفيه، وقال خالد بن خداش: رأيت على مالك طيلساناً وثياباً مروية جياداً، قيل: وكان يكره خلق الثياب، يعيبه ويراه من المثلة ولا يغير شيبه. وقال ابن عيينة لما بلغه موت مالك: ما ترك على وجه الأرض مثله. وقال أبو مصعب: سمعتعت مالكاً يقول: ما أفنيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك وعنه أنه قال: قل رجل كنت أتعلم منه ومات حتى يجيئني ويستفتيني. قلت أخبر رضي الله عنه بنعمة الله تعالى عليه، وقد يقع مثل هذه الغيرة وقد والحمد لله وقع لي ذلك، فبعض شيوخي التمس مني أن يقرأ علي بعض العلوم وبعضهم سألني عن بعض الأحكام الفقهية، وبعضهم رجع عن بعض ما أفتى به لما وقف على ما أفتيت به(1/290)
مخالفاً لفتياه، وبعضهم جاء بمسائل عديدة من بلاد بعيدة اشكلت عليه، وسالني أن أنظرفيها رجاء وضوحها وزوال إشكالها، وهو شيخنا وسيدنا وبركتنا الإمام العالم العامل العابد، الخاشع الصالح الورع الزاهد حليف المحراب وبركة الأصحاب، بل بركة الزمن. ونور اليمن، جمال الدين محمد بن أحمد الذهيبي بضم الذال المعجمة وبالموحدة المثناتين من تحت المشهور بالنصال، قدس الله روحه ونور ضريحه، وزاده من الأنعام والأفضال. وبعض شيوخي المتصدرين للقضاء والتدريس وغيرهما من الفضائل الشرعية والمناصب العلية، لما قرأت عليه كتاب الحاوي في الفقه قال بعد ما أكملته للحاضرين به اشهدوا على أنه شيخي فيه، وقال لي لقد استفدت منك فيه أكثر ما استفدت مني وهو الامام الفاضل، ذو المحاسن والفضائل والأوصاف الحميدة، الجميلة العديدة، القاضي نجم الدين الطبري، رحمه الله تعالى. وبعض الفضلاء النجباء العلماء الألباء قال: لي ما نتكلم في فن إلا حسب سامعك أن ذلك فنك دون غيره، وبعضهم كان يسميني الفرضي لكونه حضر عندنا يوماً في حساب الفرائض مع أن اشتغالي بعلم الفرائض كان أقل من اشتغالي بغيره من العلوم، واشتغالي بالعلوم كان أقل من نصف عشر اشتغال غيري من العلماء، وكنت آتي جماعة من شيوخ الفقراء والفقهاء والصلحاء وأتبرك بهم، فلم يمض كثير من الزمان حتى جاءوني زائرين، وقد كانوا من العلماء المقتدين بهم والشيوخ المشار إليهم، وأنا إذ ذلك أمي لا أقرأ ولا أكتب، والحمد لله ذو الجلال والإكرام على ما عود فضله من الجميل والأنعام. رجعنا إلى ذكر الإمام مالك، قال ابن وهب: سمعت منادياً ينادي بالمدينة ألا لايفتي الناس إلا مالك بن أنس وابن أبي ذئب، وكان مالك إذا أراد أن يحدث توضأ وجلس صدر فراشه، وسرح لحيته وتمكن في جلوسه بوقار وهيبة، ثم حدث، فقيل له في ذلك، فقال: احب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان يكره أن يحدث على الطريق أو قائماً أو مستعجلاً، ويقول: احب أن أفقههم ما أحدث به عن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم، وكان لا يركب في المدينة مع ضعفه وكبر سنه، ويقول لا أركب في مدينة فيها جثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مدفونة. وقال الشافعي: قال لي محمد بن الحسن: ايهما أعلم؟ صاحبنا أم صاحبكم، يعني الإمامين أبا حنيفة ومالكاً رضي الله عنهما، قال: قلت: على الأنصاف؟ قال: نعم قال: فقلت: ناشدتك الله من أعلم بالقرآن أو قال بكتاب الله صاحبنا أم صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم. قال: قلت: فأنشدك الله من أعلم بالسنة صاحبنا أم صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم، قال قلت: فأنشدك الله من أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صاحبنا أم صاحبكم؟ قال اللهم صاحبكم، قال الشافعي: فلم يبق إلا القياس، والقياس لا يكون إلا على هذه الأشياء فعلى أي شيء يقيس. وقال الواقدي: كان مالك يأتي المسجد، ويشهد الصلوات والجمعة والجنائز، ويعود المرضى، ويقضي الحقوق، ويجلس في المسجد، ويجتمع إليه أصحابه، ثم ترك الجلوس في المسجد، وكان يصلي وينصرف إلى مجلسه، وترك حضور الجنائز، وكان يأتي أصحابها فيعزيهم، ئم ترك ذلك كله، فلم يكن يشهد الصلوات في المسجد ولا الجمعة، ولا يأتي أحد يعزيه، ولا يقضي له حقاً، واحتمل الناس له ذلك حتى مات عليه، وكان ربما قيل له في ذلك فيقول: ليس كل الناس يقدر أن يتكلم بعذره. وسعى به إلى جعفر بن سليمان بن علي عم أبي جعفر المنصور، وقالوا له إنه لا يرى إيمان بيعتكم هذه شيئاً، فغضب جعفر ودعا به وجرده وضربه بالسياط، ومدت يده حتى انخلعت كتفه، وارتكب منه أمراً عظيماً، فلم يزل بعد ذلك الضرب في علو ورفعة، وكأنما كانت تلك السياط حلياً حلي بها. وذكر ابن الجوزي في كتاب صدور العقول أنه ضرب مالك بن أنس تسعين سوطاً لأجل فتوى لم توافق غرض السلاطين، وقد تقدم أنه ولد سنة أربع وتسعين، وقيل خمس وتسعين، فعاش أربعاً وثمانين سنة، وقال الواقدي مات وله تسعون سنة، والله أعلم با لصواب. وحكى الحافظ أبو عبد الله الحميدي في كتاب جذوة المقتبس قال: حدث القعنبي قال: دخلت على مالك في مرضه الذي مات فيه، فسلمت عليه، ثم جلست، فرأيته يبكي، فقلت يا أبا عبد الله ما الذي يبكيك؟ فقال: يا ابن قعنب وما لي لا أبكي، ومن أحق بالبكاء مني؟ والله لوددت أني ضربت لكل مسألة أفتيت بها برائي بسوط، ولقد كانت لي السعة فيما سبقت إليه، وليتني لم أفت بالرأي أو كما قال، وكانت وفاته بالمدينة الشريفة، ودفن بالبقيع، ورثاه أبو محمد جعفر بن أحمد بن الحسين السراج بقوله: عليه وآله وسلم، وكان لا يركب في المدينة مع ضعفه وكبر سنه، ويقول لا أركب في مدينة فيها جثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مدفونة. وقال الشافعي: قال لي محمد بن الحسن: ايهما أعلم؟ صاحبنا أم صاحبكم، يعني الإمامين أبا حنيفة ومالكاً رضي الله عنهما، قال: قلت: على الأنصاف؟ قال: نعم قال: فقلت: ناشدتك الله من أعلم بالقرآن أو قال بكتاب الله صاحبنا أم صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم. قال: قلت: فأنشدك الله من أعلم بالسنة صاحبنا أم صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم، قال قلت: فأنشدك الله من أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله(1/291)
وسلم صاحبنا أم صاحبكم؟ قال اللهم صاحبكم، قال الشافعي: فلم يبق إلا القياس، والقياس لا يكون إلا على هذه الأشياء فعلى أي شيء يقيس. وقال الواقدي: كان مالك يأتي المسجد، ويشهد الصلوات والجمعة والجنائز، ويعود المرضى، ويقضي الحقوق، ويجلس في المسجد، ويجتمع إليه أصحابه، ثم ترك الجلوس في المسجد، وكان يصلي وينصرف إلى مجلسه، وترك حضور الجنائز، وكان يأتي أصحابها فيعزيهم، ئم ترك ذلك كله، فلم يكن يشهد الصلوات في المسجد ولا الجمعة، ولا يأتي أحد يعزيه، ولا يقضي له حقاً، واحتمل الناس له ذلك حتى مات عليه، وكان ربما قيل له في ذلك فيقول: ليس كل الناس يقدر أن يتكلم بعذره. وسعى به إلى جعفر بن سليمان بن علي عم أبي جعفر المنصور، وقالوا له إنه لا يرى إيمان بيعتكم هذه شيئاً، فغضب جعفر ودعا به وجرده وضربه بالسياط، ومدت يده حتى انخلعت كتفه، وارتكب منه أمراً عظيماً، فلم يزل بعد ذلك الضرب في علو ورفعة، وكأنما كانت تلك السياط حلياً حلي بها. وذكر ابن الجوزي في كتاب صدور العقول أنه ضرب مالك بن أنس تسعين سوطاً لأجل فتوى لم توافق غرض السلاطين، وقد تقدم أنه ولد سنة أربع وتسعين، وقيل خمس وتسعين، فعاش أربعاً وثمانين سنة، وقال الواقدي مات وله تسعون سنة، والله أعلم با لصواب. وحكى الحافظ أبو عبد الله الحميدي في كتاب جذوة المقتبس قال: حدث القعنبي قال: دخلت على مالك في مرضه الذي مات فيه، فسلمت عليه، ثم جلست، فرأيته يبكي، فقلت يا أبا عبد الله ما الذي يبكيك؟ فقال: يا ابن قعنب وما لي لا أبكي، ومن أحق بالبكاء مني؟ والله لوددت أني ضربت لكل مسألة أفتيت بها برائي بسوط، ولقد كانت لي السعة فيما سبقت إليه، وليتني لم أفت بالرأي أو كما قال، وكانت وفاته بالمدينة الشريفة، ودفن بالبقيع، ورثاه أبو محمد جعفر بن أحمد بن الحسين السراج بقوله:
سقى الله جدثاً بالبقيع لمالك ... من المزن مرعاد السحائب مبراق
إمام موطأه الذي طبقت به ... أقاليم في الدنيا فساح وآفاق
أقام به شرع النبي محمد ... له حذر من أن يضام وإشفاق
له مسند عال صحيح وهيبة ... فللكل منه حين يرويه إطراق
وأصحابه بالصدق تعلم كلهم ... إنهم إن أنت سألت حذاق(1/292)
ولو لم يكن إلا ابن ادريس وحده ... كفاه على أن السعادة أرزاق
وفي السنة المذكورة توفي خالد بن عبد الله الواسطي الحافظ المعروف بالطحان، قال إسحاق الأزرق: ما أدركت أفضل منه، وقال أحمد كان ثقة صالحاً، بلغني أنه اشترى نفسه من الله ثلاث مرات. وفيها توفي سلام بن سلم، احد الحفاظ الأثبات، وفي رمضان منها توفي امام أهل البصرة أبو إسماعيل حماد بن زيد بن درهم الأزدي مولاهم، سمع أبا عمران الجوني وأنس بن سيرين وطبقتهما. وقد تقدم قول عبد الرحمن بن مهدي: ائمة الناس أربعة: الثوري بالكوفة ومالك بالحجاز وحماد بن زيد بالبصرة والأوزاعي بالشام. وقال يحيى بن يحيى التميمي: ما رأيت شيخاً أحفظ من حماد بن زيد، وقال أحمد العجلي حماد بن زيد ثقة، كان حديثه أربعة آلاف حديث يحفظها، ولم يكن له كتاب. وقال ابن معين: ليس أحد أثبت من حماد بن زيد.
سنة ثمانين ومائة
فيها كانت الزلزلة العظمى التي سقط منها رأس منارة الاسكندرية، وفيها نزل الرشيد الرقة، واتخذها وطناً. وفيها توفي حفمى بن سليمان قارىء الكوفة وتلميذ عاصم، وقد حدث عن علقمة بن مرثد وجماعة، وعاش تسعين سنة، رحمة الله عليه. وفيها توفي محدث البصرة بعد حماد بن زيد عبد الوارث بن سعيد الحافظ، اخذ عن أيوب السختياني وطبقته، رحمة الله عليهم. وفيها توفي مبارك بن سعيد، اخو سفيان الثوري، وفقيه مكة: ابو خالد مسلم بن خالد الزنجي أحد شيوخ الإمام الشافعي، عاش ثمانين سنة، روى عن ابن أبي مليكة والزهري وطائفة، قال أحمد بن محمد الأزرقي كان فقيهاً عابداً يصوم الدهر، يلقب بالزنجي في صغره، وكان أشقر. وفيها توفيت الولية الكبيرة العارفة بالله الشهيرة ذات المقامات العلية والأحوال السنية:(1/293)
رابعة العدوية البصرية، على خلاف ما تقدم في سنة خمس وثلاثين ومائة، وذكر شيء مما يتعلق بفضلها.
سنة احدى وثمانين ومائة
فيها توفي الإمام محدث الشام ومفتي أهل حمص إسماعيل بن عياش بالشين المعجمة العنسي قال يزيد بن هارون: ما رأيت شامياً ولا عراقياً أحفظ من إسماعيل بن عياش، ما أدري ما الثوري، وقال أبو اليمان: كان إسماعيل جارنا وكان يحيي الليل كله. وقال داود بن عمرو: ما حدثنا إسماعيل إلا من حفظ، وكان يحفظ عشرين ألف أو قال أكثر من عشرين ألف حديث. وفيها توفي قاضي مصر أبو معاوية، ومفضل بن فضالة القتباني كان زاهداً ورعاً قانتاً مجاب الدعوة عاش أربعاً وسبعين سنة. وفيها في شهر رمضان توفي الإمام العالم العامل مقر المحاسن والفضائل أبوعبد الرحمن عبد الله بن المبارك الحنظلي مولاهم المروزي الفقيه الحافظ الزاهد العابد ذو المناقب العديدة والسيرة الحميدة، تفقه بسفيان الثوري ومالك بن أنس، وروى عنه الموطأ، وكان كثير الانقطاع محباً للخلوة شديد التورع، كذلك كان أبوه ورعاً. يحكى عنه أنه كان يعمل في بستان لمولاه، اقام فيه زماناً طويلاً، ثم إن مولاه جاءه يوماً وقال له: اريد رماناً حلواً، فمضى إلى بعض الشجر وأحضر منها رماناً وكسره فوجده حامضاً، فحرد عليه وقال: اكلت الحلو وأحضرت لي الحامض، هات حلواً، فمضى وقطع من شجرة آخرى، فلما كسره وجده حامضاً، فاشتد حرده عليه، ثم كذلك مرة ثالثة، فقال له بعد ذلك: انت ما تعرف الحلو من الحامض؟ فقال: لا فقال: وكيف ذلك؟ فقال: لأني ما أكلت منه شيئاً حتى أعرفه، فقال: ولم لا تأكل؟ فقال: لأنك ما أذنت لي، فكشف عن ذلك فوجد قوله حقاً، فعظم في عينه وزوجه ابنته، قيل إن عبد الله بن المبارك من تلك الابنة فظهرت عليه بركة أبيه. قلت هكذا ذكر بعض أصحاب التواريخ، والذي كنا نعرفه، وذكرته في بعض كتبي
أن سبب زواجه إياها: ان سيده استشاره، وكانت له بنت قد خطبت إليه، ورغب فيها كثير من الناس، فقال له: يا مبارك، من ترى أن تزوجه هذه البنية؟ فقال له: يا سيدي الناس مختلفون في الأغراض فأما أهل الجاهلية فكانوا يزوجون للحسب، وأما اليهود فيزوجون(1/294)
للمال، وأما النصارى فيزوجون للجمال، وأما هذه الأمة فيزوجون للدين، يعني الأخيارمنهم الدينين قلت والى هذه الأربع الخصال أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله " تنكح المرأة لأربع " وذكرها ثم قال: " فاظفر بذات الدين " الحديث الصحيح، فلما سمع منه ذلك أعجبه عقله، فقال لأمها: والله ما لها زوج غيره، فزوجها منه، فجاءت له بهذه الدرة الفاخرة المشتملة على نفائس المحاسن الباطنة والظاهرة، وفي شيء من مناقبه المشتملة على فضائله ومحاسنه في ظاهره وباطنه، كتاب مستقل لبعض العلماء، وإلى وصفه الحسن أشار القائل وصدق وأحسن:
إذا سار عبد الله من مرو ليلة ... فقد سار عنها نورها وجمالها
وقد تتبع أصحابه ما ظهر لهم من مناقبه، فبلغت خمساً وعشرين من العلوم والصلاح والكرم والشجاعة في سبيل الله وحسن الخلق والعبادة والنجابة والفصاحة وحسن اللفظ في النثر والنظم. ومن شجاعته وصلاح سريرته ما روي عنه: خرج مرةً في بعض الغزوات، فبرز بعض العلوج ودعا المسلمين إلى المبارزة، فخرج إليه جماعة من المسلمين واحد بعد واحد، فقتل الجميع، فبرز إليه إنسان مثلهم، فقتل ذلك العلج، قال الراوي: فدنوت منه وتأملته، فإذا هو ابن المبارك، رضي الله عنه. ومن كرمه وشفقته على إخوانه وحسن صحبته ما اشتهر عنه أنه كان إذا أراد الحج يأتيه اخوانه، ويكلمونه في الصحبة، فينعم لهم، ويقول هاتوا ما أعددتم لذلك من النفقة، فاذا أتوه بها قبضها وكتب على كل نفقة اسم صاحبها، وأقفل على الجميع في صندوق، ثم يحج بهم وينفق عليهم ذهاباً وإياباً من أطيب الأطعمة، ويشتري لهم الهدية من مكة والمدينة، زادهما الله شرفاً، ثم إذا وصل إلى الموطن صنع لهم طعاماً نفيساً، ومد سماطاً عظيماً، قيل عد ما في سماط له من جفان الفالوذج وحده فبلغت خمساً وعشرين جفنة، ثم يناديهم من شاء الله من الفقراء والصلحاء فإذا فرغوا من. أكل الطعام جمع إخوانه الذين حجوا معه، فكساهم لباساً جديداً، ثم استدعى بالصندوق ففتحه، ورد إلى كل واحد منهم نفقته التي عليها اسمه. قلت وهذا مختصر ما روي في ذلك، معنى القصة إن لم يكن لفظ جميعه والفالوذج بالفاء والذال المعجمة وهو نوع من الحلواء ويحتمل أنه الخبيصة قال في الصحاح وقيل الأعرابي أتعرف الفالوذج قال اصفر رعديد. وذكر الجوهري أن الرعديد الرخص ويقال ذلك للمرأة الرخصة ويقال أيضاً للجبان(1/295)
ومنه قول المتنبي:
إن ترمني نكبات الدهر عن كثب ... ترام امرأًغير رعديد ولا نكس
والرعديد بكسر الراء المهملة وسكون العين المهملة وكسر الدال والمثناة من تحت بين الدالين المهملتين والكثب بفتح الكاف والمثلثة وفي آخره موحدة القرب والنكس بكسر النون: الرجل الضعيف قلت ويحتمل أنهم أرادوا ضعيف الجسم ويحتمل ضعيف القلب. وأما ما ورد في الحديث: " أن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف " فالأصح عند أئمة الحديث أن المراد به قوة القلب كما أن الغني المطلوب في الحديث هو غني النفس عندهم. وقد ورد عن بعض السلف أن الفالوذج لباب الحنطة يطبخ بالعسل، وقد اقتصرت على هذا القدر من محاسن ابن المبارك البحر، وعمره ثلاث وستون سنة، وسمع من هشام بن عروة وحميد الطويل ومن في طبقتهما، وصنف التصانيف الكثيرة، وحديثه نحو من عشرين ألف حديث. قال أحمد بن حنبل لم يكن في زمان ابن المبارك أطلب للعلم منه، وقال شعبة: ما قدم علينا مثله، وقال أبو إسحاق الفزاري: ابن المبارك إمام المسلمين. وعن شعيب بن حرب: ما لقي ابن المبارك مثل نفسه، وقال غيره: كانت له تجارة واسعة، وكان ينفق على الفقراء في السنة مائة ألف درهم، وكان يحج سنة ويغزو سنة. وروي عن الإمام سفيان الثوري أنه قال: رددت أن عمري كله بثلاثة أيام من أيام ابن المبارك، وموته قيل في هيت عند انصرافه من الغزو في شهر رمضان من السنة المذكورة، وقيل توفي في بعض البراري سائحاً مختاراً للعزلة والخمول بعد الشهرة والجاه العظيم الذي شرحه يطول، والله أعلم بحقيقة الأمور.
سنة اثنتين وثمانين ومائة
فيها سملت الروم عيني طاغيتهم قسطنطين، وملكوا عليهم أمه وفيها توفي عبد الله بن عبد الرحمن الكوفي الحافظ، وفيها توفي عمار بن محمد الثوري الكوفي ابن أخت سفيان، قال ابن عرفة: وكان لا يضحك، وكنا لا نشك أنه من الأبدال.
وفيها على الأصح توفي عالم أهل الكوفة يحيى بن زكريا بن أبي زائدة الحافظ، عاش(1/296)
ثلاثا وستين سنة، قال ابن المديني: انتهى العلم في زمانه إليه ما كان بالكوفة بعد الثوري أثبت منه. وفيها توفي الحافظ اللبيب يزيد بن زريع، قال يحيى القطان: ما كان هنا أثبت منه، وقال أحمد بن حنبل: كان ريحانة بالبصرة، وقال نصر بن علي الجهضمي: رأيته في المنام، فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: دخلت الجنة. قلت: بماذا؟ قال: بكثرة الصلاة. وفيها توفي أبو يوسف القاضي يعقوب بن إبراهيم الكوفي قاضي القضاة، وهو أول من دعي بذلك، تفقه على الإمام أبي حنيفة، وسمع من عطاء بن السائب وطبقته. قال يحيى بن معين: كان القاضي أبو يوسف يصلي بعدما ولي القضاء كل يوم مائتي ركعة. وقال يحيى بن يحيى الذيسابوري: سمعت أبا يوسف يقول عند وفاته: كل ما أفتيت به فقد رجعت عنه إلا ما وافق الكتاب والسنة، سمع جماعة من كبار الأئمة، وجالس محمد بن أبي ليلى، ثم جالس أبا حنيفة، وكان الغالب عليه مذهبه، وخالفه في مواضع كثيرة، وروى عنه محمد بن الحسن الشيباني الحنفي والإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وآخرون. وكان قد تولى القضاء لثلاثة من الخلفاء: المهدي وابنه الهادي والرشيد، وكان الرشيد يكرمه ويجله، وكان عنده حظياً مكيناً، وسأله الرشيد يوماً عن إمام شاهد رجلاً يزني، هل يحده؟ قال أبو يوسف، فقلت: لا. فحين قلتها سجد الرشيد، فوقع لي أنه قد رأى بعض أهله على ذلك، ثم قال لي: من أين قلت هذا؟ قلت: لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " ادرؤوا الحدود بالشبهات " وهذه شبهة فسقط الحد معها، فقال: وأي شبهة في المعاينة؟ قلت ليس يوجب المعاينة لذلك أكثر من العلم بما جرى، والحدود لا تكون بالعلم، وليس لأحد أخذ حقه بعلمه، فسجد مرة آخرى، وأمر لي بمال جزيل وأن ألزم الدار، فما خرجت حتى جاءتني هدية ممن شوهد منه ذلك، وهدية من أمه وجماعته، وصار ذلك أصلاً للنعمة، ولزمت الدار، فصار هذا يستفتيني وهذا يشاورني، ولم يزل حالي يقوى حتى قلدني القضاء. قال ابن خلكان وهذا يخالف ما نقلوا: انه ولي القضاء لثلاثة من الخلفاء والله أعلم، انتهى كلام ابن خلكان. قلت وقول أبي يوسف وليس لأحد أخذ حقه بعلمه غير مسلم، بل إذا كان له حق على أحد، ولم يكن له من يشهد بذلك، وظفر بماله فله أن يأخذ قدر حقه، ولو قال وليس للقاضي أن يقضي في حدود الله بعلمه، كان صواباً.(1/297)
قال هو أول من نشرعلم أبي حنيفة في أقطار الأرض، وقال أبو يوسف: سألني الأعمش عن مسألة فأجبته فيها، فقال لي: من أين لك هذا؟ فقلت: من حديثك الذي حدثتنا به أنت، ثم ذكر له الحديث، فقال لي: يا يعقوب إني لأحفظ من هذا الحديث قبل أن يجتمع أبواك، وما عرفت تأويله إلا الآن. وذكر بعضهم أنه كان يحفظ التفسير والمغازي وأيام العرب، وكان أول علومه الفقه، ولم يكن في أصحاب أبي حنيفة مثل أبي يوسف، رحمه الله. وقال حماد بن أبي حنيفة: رأيت أبا حنيفة يوماً، وعن يمينه أبو يوسف، وعن يساره زفر، وهما يتجادلان في مسألة، فلا يقول أبو يوسف قولاً إلا أفسده زفر، ولا يقول زفر شيئاً إلا أفسده أبو يوسف، الى وقت الظهر. فلما أذن المؤذن رفع أبو حنيفة يده، فضرب بها فخذ زفر، وقال: لا تطمع في رئاسة ببلدة فيها أبو يوسف، وقضى لأبي يوسف على زفر. وقيل كان يجلس إلى أبي يوسف رجل يطيل الصمت، فقال أبو يوسف ألا تتكلم؟ فقال بلى، متى يفطر الصائم؟ قال: اذا غابت الشمس، فقال: فإن لم تغب إلى نصف الليل؟ فضحك أبو يوسف، وقال أصبت في صمتك، وأخطأت أنا في استدعاء نطقك، ثم تمثل وأنشد:
عجبت لإرزاء الغبي بنفسه ... وصمت الذي قد كان بالقول أعلما
وفي الصمت ستر للغبي وانما ... صحيفة لب الأمر أن يتكلما
ومن كلام أبي يوسف: صحبة من لا يخشى العار عار يوم القيامة. وقيل كان يقول أبو يوسف: العلم شيء لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، وأنت إذا أعطيته كلك كنت من أعطاه البعض على غرر. وقال بشر بن الوليد الكندي: قال لي القاضي أبو يوسف بينما أنا البارحة قد أويت إلى فراشي، وإذا داق يدق الباب دقاً شديداً، فأخذت علي إزاري وخرجت فإذا رسول الرشيد. فقال أجب أمير المؤمنين، فقلت: يا فلان هذا وقت كما ترى، ولست آمن أن يكون أمير المؤمنين قد دعاني لأمر من الأمور، فإن أمكنك أن تدفع ذلك إلى غد، فلعله يحدث له رأي، فقال ما إلى ذلك سبيل قلت: كيف كان السبب؟ قال: خرج إلي مسرور الخادم، فأمرني أن آتي بك أمير المؤمنين، فقلت: تأذن لي أن أصب علي ماء؟ وأتحفظ، فإن كان لأمر من الأمور كنت قد أحكمت شأني، لهان رزق الله العافية فلن يضرني، فأذن، فدخلت(1/298)
فلبست ثياباً جدداً، وتطيبت بما أمكن من الطيب، ثم خرجنا فمضينا حتى أتينا دار أمير المؤمنين هارون الرشيد، فإذا هو واقف، فقال الرسول: قد جئت به، فقلت للمسرور: يا أبا هاشم، افتدري لم طلبني أمير المؤمنين؟ قال: لا. قلت: فمن عنده؟ قال: عيسى بن جعفر، قلت: ومن؟ قال: ما عندهما ثالث، ثم قال لي مر فإذا صرت في الصحن فإنه في الرواق، وهو جالس، فحرك رجلك، فإنه سيسألك، فقل: انا فلان. قال أبو يوسف: فجئت ففعلت ذلك، فقال: من هذا؟ فقلت يعقوب، قال: ادخل، فدخلت، وهوجالس وعن يمينه عيسى بن جعفر، فسلمت عليه فرد علي السلام، قال: اظننت روعناك فقلت اي والله، كذلك من خلفي، فقال: اجلس فجلست حتى سكن روعي، ثم التفت إلي وقال: اتدري يا يعقوب لم دعوتك؟ قلت: لا، قال دعوتك لأشهدك على هذا أن عنده جارية سألته أن يهبها إلي فامتنع، وسألته أن يبيعها فأبى، ووالله لئن لم يفعل لأقتلنه، قال أبو يوسف: فالتفت إلى عيسى، فقلت: وما بلغ الله جارية تمنعها أمير المؤمنين، وتنزل نفسك هذه المنزلة، قال: فقال: لي: عجلت علي في القول قبل أن تعرف ما عندي، قلت: وما في هذا من الجواب؟ قال: ان علي يميناً بالطلاق والعتاق وصدقة ما أملك أن لا أبيع هذه الجارية ولا أهبها، فالتفت الي الرشيد، فقال: هل له من ذلك من مخرج؟ قلت: نعم قال: وما هو؟ قلت: يهب لك نصفها ويبيعك نصفها، فيكون لم يهب ولم يبع، قال عيسى ويجوز ذلك؟ قلت: نعم. قال: فأشهدك أني قد وهبت ته نصفها وبعته نصفها الباقي بمائة ألف دينار، ثم قال: الجارية، فأتي بالجارية وبالمال، فقال: خذها يا أمير المؤمنين بارك الله لك فيها. فقال الرشيد: يا يعقوب بقيت واحدة، قلت: وما هي؟ قال: هي مملوكة ولا بد أن تستبرأ، ووالله لئن لم أبت معها ليلتي هذه إني لأظن أن نفسي ستخرج، فقلت يا أمير المؤمنين، تعتقها وتزوجها فإن الحرة لا تستبرأ، فقال: اني قد أعتقتها فمن يزوجنيها؟ افقلت: انا فدعي بمسرور وحسين، فخطبت وحمدت الله تعالى ثم زوجته إياها على عشرين ألف دينار، ودعا بالمال فدفعه إليها، ثم قال لي يا يعقوب انصرف ورفع رأسه إلى مسرور، فقال يا مسرور، قال: لبيك، فقال: احمل إلى يعقوب مائتي ألف درهم وكذا وكذا من الثياب، فحمل ذلك معي، قال بشر بن الوليد: فالتفت إلي أبي يوسف وقال، هل رأيت بأسا فيما فعلت؟ فقلت: لا. قال خذ حقك منها، قلت: وما حقي؟ قال: العشر، قال بشر: فشكرته ودعوت له وذهبت لأقوم، فاذا بعجوز قد دخلت فقالت: يا أبا يوسف إن بنتك تقرئك السلام وتقول لك: والله ما وصل إلي في ليلتي هذه من أمير المؤمنين إلا المهر الذي قد عرفته، وقد حملت إليك النصف منه وخلفت الباقي لما احتاج إليه. فقال: رديه ووالله لا أقبلها أخرجتها من الرق وزوجتها أمير المؤمنين وترضى لي بهذا؟ قال بشر فلم نزل نتلطف(1/299)
به أنا وعمومتي حتى قبلها، وأمر لي منها بألف دينار، وقال أبو عبد الله اليوسفي بأن أم جعفر زبيدة ابنة جعفر زوجة الرشيد كتبت إلى أبي يوسف ما ترى في كذا؟ وأحبا الأشياء إلى أن يكون الحق فيه كذا فأفناها بما أحبت، فبعثت بجفن فضة فيه حقان مطبقان في كل واحد لون من الطيب، وفي جام دراهم وسطها جام فيه دنانير، فقال له جليس له: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " أهديت له هدية فجلساؤه شركاؤه فيها " فقال أبو يوسف ذ لك حين كانت الهدايا بالتمر واللبن. وقال يحيى بن معين كنت عند أبي يوسف القاضي، وعنده جماعة من أصحاب الحديث، وغيرهم، فوافته هدية أم جعفر احتوت على تخوت ديبقي ومصمت وشرب وطيب وثماثيل ند وغير ذلك، فذاكرني رجل بحديث رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم: " من أتته هدية وعنمه قوم جلوس فهم شركاؤه فيها ". فسمعه أبو يوسف، فقال لي: اتعرف ذلك إنما قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم والهدايا يومئذ الاقط والتمر والزبيب ولم يكن الهدايا ما ترون، يا غلام أمثل إلى الخزائن. وذكر بعضهم أن قاضي المبارك بلدة بين بغداد وواسط على شاطىء دجلة بلغه خروج الرشيد إلى البصرة، ومعه أبو يوسف القاضي في الحرافة فقال عبد الرحمن القاضي لأهل المبارك: اثبتوا علي عند أميرالممؤمنين وعند القاضي أبي بوسف، فأبوا عليه ذلك، فلبس ثيابه: وقلنسوة طويلة وطيلساناً أسود وجاء إلى الشريعة، فلما أقبلت الحرافة رفع صوته وقال: يا أمير المؤمنين، نعم القاضي قاضينا، قاضي صدق، ثم مضى إلى شريعة أخرى، فقال مثل مقالته الأول فالتفت الرشيد إلى أبي يوسف وقال: يا يعقوب، هذا شرقاض في الأرض في موضغ ص لا يثني عليه إلا رجل واحد، فقال له أبو يوسف: وأعجب من هذا يا أمير المؤمنين هو القاضي يثني على نفسه، قال: فضحك هارون وقال هذا أظرف الناس، هذا لا يعزل أبداً وكان الرشيد إذا ذكره يقول: هذا لا يعزل أبداً. وقال محمد بن سماعة سمعت أبا يوسف في اليوم الذي مات فيه يقول: اللهم إنك تعلم أني لم أؤخر في حكم حكمت فيه بين اثنين، من عبادك تعمداً، ولقد اجتهدت في الحكم بما وافق كتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وآله وسلم، وكل ما أشكل علي جعلت أبا حنيفة بيني وبينك، وكان عندي والله من يعرف أمرك، لا يخرج عن الحق وهو يعلمه. قال ابن خلكان: وأكثر العلماء على تفضيله وتعظيمه، قال:، وقد نقل الخطيب البغدادي في تاريخه ألفاظاً عن عبد الله بن المبارك ووكيع بن الجراح ويزيد بن هارون ومحمد بن إسماعيل البخاري وهارون بن يزيد وأبي الحسن الدارقطني وغيرهم، ينبو السمع عنها، فتركت ذكرها، والله أعلم بحالة، وأخباره كثيرة، عاش قريباً من سبعين سنة رحمة الله عليه. وفيها وقيل في التي قبلها، وقيل في التي بعدها، توفي يونس بن حبيب النحوي، كان مولى، قيل عاش مائة سنة وسنتين، وأخذ الأدب عن أبي عمرو بن العلاء وحماد بن أبي سلمة، وكان النحو أغلب عليه، وسمع من العرب، وروى سيبويه عنه كثير أو سمع منه الكسائي والفراء وكان من الطبقة الخامسة في الأدب. قال أبو عبيد معمربن المثنى: اختلفت إلى يونس أربعين سنة، قال أبو زيد: جلست إلى يونس بن حبيب عشر سنين، وجلس إليه خلف الأحمر عشرين سنة، وله عدة تصانيف. وقال يونس: والعرب تقول فرقة الأحباب سقم الألباب وأنشد: " من أتته هدية وعنمه قوم جلوس فهم شركاؤه فيها ". فسمعه أبو يوسف، فقال لي: اتعرف ذلك إنما قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم والهدايا يومئذ الاقط والتمر والزبيب ولم يكن الهدايا ما ترون، يا غلام أمثل إلى الخزائن. وذكر بعضهم أن قاضي المبارك بلدة بين بغداد وواسط على شاطىء دجلة بلغه خروج الرشيد إلى البصرة، ومعه أبو يوسف القاضي في الحرافة فقال عبد الرحمن القاضي لأهل المبارك: اثبتوا علي عند أميرالممؤمنين وعند القاضي أبي بوسف، فأبوا عليه ذلك، فلبس ثيابه: وقلنسوة طويلة وطيلساناً أسود وجاء إلى الشريعة، فلما أقبلت الحرافة رفع صوته وقال: يا أمير المؤمنين، نعم القاضي قاضينا، قاضي صدق، ثم مضى إلى شريعة أخرى، فقال مثل مقالته الأول فالتفت الرشيد إلى أبي يوسف وقال: يا يعقوب، هذا شرقاض في الأرض في موضغ ص لا يثني عليه إلا رجل واحد، فقال له أبو يوسف: وأعجب من هذا يا أمير المؤمنين هو القاضي يثني على نفسه، قال: فضحك هارون وقال هذا أظرف الناس، هذا لا يعزل أبداً وكان الرشيد إذا ذكره يقول: هذا لا يعزل أبداً. وقال محمد بن سماعة سمعت أبا يوسف في اليوم الذي مات فيه يقول: اللهم إنك تعلم أني لم أؤخر في حكم حكمت فيه بين اثنين، من عبادك تعمداً، ولقد اجتهدت في الحكم بما وافق كتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وآله وسلم، وكل ما أشكل علي جعلت أبا حنيفة بيني وبينك، وكان عندي والله من يعرف أمرك، لا يخرج عن الحق وهو يعلمه. قال ابن خلكان: وأكثر العلماء على تفضيله وتعظيمه، قال:، وقد نقل الخطيب البغدادي في تاريخه ألفاظاً عن عبد الله بن المبارك ووكيع بن الجراح ويزيد بن هارون(1/300)
ومحمد بن إسماعيل البخاري وهارون بن يزيد وأبي الحسن الدارقطني وغيرهم، ينبو السمع عنها، فتركت ذكرها، والله أعلم بحالة، وأخباره كثيرة، عاش قريباً من سبعين سنة رحمة الله عليه. وفيها وقيل في التي قبلها، وقيل في التي بعدها، توفي يونس بن حبيب النحوي، كان مولى، قيل عاش مائة سنة وسنتين، وأخذ الأدب عن أبي عمرو بن العلاء وحماد بن أبي سلمة، وكان النحو أغلب عليه، وسمع من العرب، وروى سيبويه عنه كثير أو سمع منه الكسائي والفراء وكان من الطبقة الخامسة في الأدب. قال أبو عبيد معمربن المثنى: اختلفت إلى يونس أربعين سنة، قال أبو زيد: جلست إلى يونس بن حبيب عشر سنين، وجلس إليه خلف الأحمر عشرين سنة، وله عدة تصانيف. وقال يونس: والعرب تقول فرقة الأحباب سقم الألباب وأنشد:
ثنتان لوبكت الدماءعليهما ... عيناي حتى تؤذنا بذهاب
لم تبلغا المعشار من حقيهما ... شرخ الشباب وفرقة الأحباب
وقال أبو عبيد: قدم جعفر بن سلمان العباسي من عند المهدي الخليفة، فبعث الى يونس بن حبيب، فقال: اني وأمير المؤمنين اختلفنا في هذا البيت.
والشيب ينهض في السواد كأنه ... ليل يصيح بجانبيه نهار
فما الليل والنهار؟ فقال: اليل الذي لا يعرف، والنهار الذي يعرف. وحكي عنه أنه قال: اصل المثل في قولهم الصيد كل الصيد في جوف القرى أنه خرج رجال يتصيدون، فاصطاد رجل منهم حمار وحش، واصطاد الآخرون ما بين ضب وأرنب، واجتمعت نساؤهم، فجعلت المرأة تقول اصطاد زوجي كذا فيقول صاحبة الحمار: كل الصيد في جوف الفرى.
سئل يونس المذكور عن مجير أم عامر في قول القائل:
ومن يصنع المعروف في غير أهله ... يلاقي الذي لاقى مجير أم عامر
أعد لها لما استجارت ببيته ... قراها من ألبان اللقاح البهازر
فأشبعها حتى إذا ما تيظرت ... فرته بأنياب لها وأظافر(1/301)
فقل لبني المعروف هذا جزاء من ... يجود لمعروف إلى غير شاكر
فقال أصل ذلك أنه خرج فتيان من العرب إلى الصيد، فأثاروا ضبعاً، فانقلبت من أيديهم ودخلت خباء بعض الأعراب، فخرج إليهم فقال: والله لا تصلون إليها قد استجارت بي فخلوها، فلما انصرفوا عمد إلى خبز ولبن وسمن فثرده وقربه إليها، فأكلت حتى شبعت، وتمددت في جانب الخباء، فغلب الأعرابي النوم، فلما استثقل وثبت عليه فقرضت حلقه وبقرت بطنه وأكلت حشوته وخرجت تسعى، فجاء أخو الأعرابي فلما نظر إليه أنشأه يقول الأبيات المذكورات. وفيها وقيل في التي قبلها توفي مروان بن أبي حفصة الشاعر المشهور من أهل اليمامة قدم بغداد، ومدح المهدي وهارون الرشيد، وهو من الشعراء المجيدين والفحول المقدمين. حكي أنه لما أنشد المهدي قصيدته التي يقول فيها:
إليك قسمنا النصف من صلواتنا ... مسيرة شهر بعد شهر نواصله
فلا نحن نخشى أن يخيب رجاؤنا ... إليك ولكن أهنأ الخيرعاجله
قال له المهدي: بحثت أنت كم في قصيدتك هذه من بيت؟ قال: سبعون بيتأ، قال: فلك سبعون ألف درهم، لا يتم إنشادك حتى يحضر المال، فأحضر المال وأنشد القصيدة وقبضه وانصرف. وذكره ابن المعتز في كتاب طبقات الشعراء فقال في حقه: وأجود ما قال مروان قصيدته الغراء اللامية، وهي التي فضل بها على شعراء زمانه، يمدح فيها معن بن زائدة الشيباني، ويقال إنه أخذ منه عليها مالاً كثيراً لا يقدر قدره، ولم ينل أحد من الشعراء الماضين ما ناله مروان بشعره، فما ناله صرة واحدة ثلاث مائة ألف درهم من بعض الخلفاء بسبب بيت واحد، انتهى كلام ابن المعتز، وقصيدته اللامية المذكورة تتناهى بستين بيتاً، ومن أبياتها:
بنو مطريوم اللقاء كأنهم ... أسود لهم في بطن خفان أشبل
هم يمنعون الجبار حتى كأنما ... لجارهم بين السماكين منزل
بها ليل في الإسلام سادوا ولم يكن ... كأولهم في الجاهلية أول
هم القوم إن قالوا أصابوا وان دعوا ... أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
وله في مدائح معن المذكور ومراثيه كل معنى بديع، وبعض ذلك مذكور في ترجمة(1/302)
معن، في سنة احدى وخمسين ومائة.
وحكى ابن المعتز أيضاً عن شراحيل بن معن بن زائدة أنه حج يحيى بن خالد البرمكي هو والقاضي أبو يوسف الحنفي متعادلين، فعرض رجل من بني أسد ليحيى بن خالد، فأنشده شعراً، فقال له يحيى: يا أخا بني أسد، اذا قلت الشعر فقل كقول الذي يقول، فأنشد أبيات مروان اللامية في معن بن زائدة، فقال له أبو يوسف وقد أعجبته جداً: من قائل هذه الأبيات يا أبا الفضل؟ فقال يحيى: قالها مروان يمتدح بها أبا هذا الفتى، قال شراحيل: وأشار إلي وأنا على فرس أسير تحت قبة هما فيها، فرمقني أبو يوسف بعينيه، وقال: من أنت يا فتى؟ حياك الله قلت: انا شراحيل بن معن بن زائدة الشيباني، قال شراحيل؟ فو الله ما أنت علي قط ساعة كانت أقر بعيني من تلك الساعة ارتياحأ وسروراً. ويحكى أن ولداً لمروان بن أبي حفصة المذكور دخل على شراحيل المذكور فأنشده:
أيا شراحيل بن معن زائدة ... يا أكرم الناس من عجم ومن عرب
أعطى أبوك أبي مالاً فعاش به ... فأعطني مثل ما أعطى أبوك أبي
ما حل أرضاً أبي ثاو أبوك بها ... إلا وأعطاه قنطاراً من الذهب
قلت هكذا صواب هذا البيت، وإن كان بعض ألفاظه يخل وزنه، في الأصل المنقول منه: فأعطاه شراحيل قنطاراً من الذهب. ومما يقارب هذه الحكاية، ما روي: انه لما حبس عمر رضي الله عنه الحطيئة الشاعر المشهور لبذاءة لسانه وكثرة هجوه الناس، كتب إليه الحطيئة.
ماذا تقول لأفراخ بني مرخ ... حمر الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فارحم هداك مليك الناس يا عمر
أنت الإمام الذي من بعد صاحبه ... ألقت إليك مقاليد النهي البشر
ما آثروك بها إذا ما قدموك لها ... لكن لأنفسهم قد كانت الأثر
فأطلقه وشرط عليه أن يكف لسانه عن الناس، فقال له: يا أمير المؤمنين، اكتب لي كتاباً إلى علقمة بن علاثة لأقصده به، فقد منعتني التكسب بشعري، فامتنع عمر من ذلك، فقيل له: يا أمير المؤمنين، ما عليك من ذلك، فعلقمة ليس هو من عمالك، وقد تشفع بك إليه، فكتب له بما أراد فمضى الحطيئة بالكتاب، فصادف علقمة قد مات والناس منصرفون عن قبره وابنه حاضر، فوقف عليه ثم أنشد:
لعمري لنعم من آل جعفر ... يجوز إن أمسى علقته الحبائل(1/303)
فإن أححى لا أملك حياتي وإن تمت ... فما في حياة بعد موتك طائل
وما كان بيني لو لقيتك سالماً ... وما بين الغنى إلا ليال قلائل
فقال له ابنه كم ظننت أن علقمة كان يعطيك لو وجدته حياً؟ قال: مائة ناقة يتبعها مائة من أولادها، فأعطاه ابنه إياها، والبيتان الأخيران يوجدان في ديوان النابغة الذبياني، في قصيدة له يرثي بها اليعمر بن أبي شعير الغساني، وأخبار مروان بن أبي حفصة كثيرة، ونوادرة شهيرة.
سنة ثلاث وثمانين ومائة
فيها خرج أعداء الله الخزر بالخاء المعجمة والزاي والراء ومن قصتهم أن سبتت بنت ملك الترك خاقان خطيها الأمير الفضل بن يحيى البرمكي، وحملت إليه في عام أول، فماتت في الطريق، فرد من كان معها في خدمتها من العساكر، وأخبروا خاقان أنها قتلت غيلة، فاشتد غضبه، وتجهز للشر وخرج بجيوشه من الباب الحديد، وأوقع بأهل الإسلام وأهل الذمة، وقتل وسبى وبدع، وبلغ السبي مائة ألف، وعظم ما أصيب به المسلمون، انا لله وإنا إليه راجعون، فانزعج هارون الرشيد واهتم لذلك، وجهز البعوث، فاجتمع المسلمون وطردوا العدو عن أرمينية، ثم سدوا الباب الذي خرجوا منه. وفي السنة المذكورة توفي الإمام أبو معاوية هشيم بن بشير السلمي الواسطي، محدث بغداد، روى عن الزهري وطبقته، قال يعقوب الدورقي: كان عند هشيم عشرون ألف حديث، وقال يحيى القطان: هو أحفظ من رأيت بعد سفيان وشعبة قلت والمراد بسفيان إذا أطلقوه الثوري وعن عمرو بن عون قال: مكث هشيم يصلي الفجر بوضوء العشاء عشرين سنة قبل موته. وفيها توفي السميد الجليل المشكور محمد بن السماك الكوفي الواعظ المشهور مولى بني عجل، روى عن الأعمش وجماعة، وروى عن الإمام أحمد ونظراؤه، ومن كلامه: من جزعته الدنيا حلاوتها لميله إليها، جزعته الآخرة مرارتها لتجافيه عنها، وكان كبير القدر، خل على الرشيد فوعظه وخوفه، وكان هارون الرشيد قد حلف أنه من أهل الجنة، فاستفتى العلماء فلم يفته أحد أنه من أهل الجنة، فقيل له: سل عن ابن السماك، فاستحضره وسأله، فقال له: هل قدر أمير المؤمنين على معصية فتركها خوفاً من الله تعالى؟ فقال: نعم، كان لبعض الناس جارية فهويتها وأنا إذ ذاك شباب، ثم أني ظفرت بها مرة،(1/304)
وعزمت على ارتكاب الفاحشة منها، ثم إني فكرت في النار وهولها، وأن الزنا من الكبائر، فأشفقت من ذلك، وكففت عن الجارية مخافة من الله تعالى، قال ابن السماك: قال الله عز وجل: " وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأةى " - النازعات: 40 - فسر هارون بذلك، قلت هذا الاستذلال فيه ما فيه، فإن الظاهر والله أعلم أن المراد بذلك استمرار الخوف من الله، والنهي للنفس عن ارتكاب الكبائر إلى الموت، فأما إذ وقع ذلك، ثم أعقبه الوقوع في الكبائر، ولقي الله تعالى عاصياً، فهو في خطر المشية مع الموت على الإسلام، فان لم يمت على الإسلام والعياذ بالله، فهو من أهل النار قطعأ، وعليه يحمل أول الآية: فأما من طغى إلى آخرها، نسأل الله التوفيق والغفران، ونعوذ به من الزيغ والخذلان، وقيل وعظ ابن السماك يوماً فأعجبه وعظه، ثم رجع إلى منزله ونام فسممع قائلاً يقول:
يا أيها الرجل المعلم غيره ... هذا لنفسك كان ذا التعليم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فاذا انتهت عنه فأنت حكيم
وأردت تلقح بالرشاد عقولنا ... قولاً وأنت من الرشاد عديم
تصف الدواء الذي السقام من الضنى ... ومن الضنى والداء أنت سقيم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
فانتبه وآلى على نفسه أن لا يعظ، شهراً. وفيها توفي السيد أبو الحسن موسى الكاظم ولد جعفر الصادق، كان صالحاً
عابداً جواداً حليمأ كبير القدر، وهو أحد الأئمة الاثني عشر المعصومين في اعتقاد الإمامية، وكان يدعى بالعبد الصالح من عبادته واجتهاده، وكان سخيأ كريمأ، كان يبلغه عن الرجل أن يؤذيه فيبعث إليه بصرة فيهما ألف دينار، وكان يسكن المدينة، فأقدمه المهدي بغداد فحبسه، فرأى في النوم أعني المهدي علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يقول يا محمد " فهل عسيتم ان توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ". قال الربيع وأرسل الي المهدي ليلاً، فراعني ذلك، فجئته فإذا هو يقرأ هذه الآية، وكان أحسن الناس صوتاً، وقال علي بموسى بن جعفر، فجئته به فعانقه وأجلسه إلى جانبه وقال: يا أبا الحسن إني رأيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في النوم يقرأ علي كذا، فتؤمنني أن تخرج علي أو على أحد من أولادي، فقال: والله لا فعلت ذلك، وما هو من شأني، قال: صدقت أعطوه ثلاثة آلاف دينار، ورده إلئ أهله إلى المدينة، قال الربيع: فأحكمت أمره ليلاً، فما أصبح إلا وهو في الطريق، خوف العوائق ثم إن هارون(1/305)
الرشيد حبسه في خلافته إلى أن توفي في حبسه. وروي أن هارون لما زار النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال السلام عليك يا ابن عم مفتخر بذلك، فقال موسى الكاظم السلام عليك يا أبة، فتغير وجه هارون، وروي أن هارون الرشيد قال: رأيت في المنام كأن حسيناً قد أتاني ومعه حربة، وقال إن خليت عن موسى بن جعفر الساعة وإلا نحرتك بهذه الحربة، فاذهب فخل عنه، وأعطه ثلاثين ألف درهم، وقل له إن أحببت المقام قبلنا فلك ما تحب، وإن أحببت المضي إلى المدينة فالإذن في ذلك لك، فلما أتاه وأعطاه ما أمره به قال له موسى الكاظم: رأيت في منامي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، اتاني فقال: " يا موسى حبست مظلوماً فقل هذه الكلمات فإنك لا تبيت هذه الليلة في الحبس " فقلت بأبي وأمي ما أقول؟ قال لي: قل " يا سامع كل صوت. ويا سابق الفوت، ويا كاسي العظام لحماً، ويا منشرها بعد الموت، اسألك بأسمائك الحسنى وباسمك الأعظم الأكبر المخزون المكنون الذي لم يطلع عليه أحمد من المخلوقين يا حليماً ذا أناءة لا يقوى على أناءته، يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبداً ولا يحصى عدداً فرج عني ". وله أخبار شهيرة ونوادر كثيرة.
وفيها توفي شيخ أصفهان وعالمها أبو المننر النعمان بن عبد السلام التيمي تيم الله بن ثعلبة، كان فقيهاً إماماً زاهداً عابداً صاحب تصانيف، اخذ عن الثوري وأبي حنيفة وطائفة، رحمهم الله تعالى. وفيها توفي الفقيه أبو عبد الرحمن بن يحيى بن حمزة الحضرمي السلمي قاضي دمشق ومحدثها، عاش ثمانين سنة.
سنة أربع وثمانين ومائة
فيها توفي السيد الجليل الزاهد العمري عبد الله بن عبد العزيز، كان إماماً فاضلاً رأساً في الزهد والورع، وفيها فقيه المدينة عبد العزيز بن أبي حازم.
سنة خمس وثمانين ومائة
وفيها توفي أو في التي تليها الإمام الغازي القدوة أبو إسحاق الفزاري، كان إماماً قانتاً مجاهداً مرابطاً اماراً بالمعروف، اذا رأى بالشعر مبتدعاً أخرجه. وفيها توفي يوسف بن يعقوب بن أبي سلمة الماجشون المدني ابن عم عبد العزيز الماجشون. وقيل وفيها توفى أبو خالد يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن صفرة الأزدي، ولاه(1/306)
أبو جعفر المنصور مصر في سنة ثلاث وأربعين ومائة، ثم زار ابو جعفر المدكور بيت المقدس في سنة أربع وخمسين ومائة، ومن هناك سير يزيد بن حاتم المذكور إلى إفريقية لحرب الخوارج الذين قتلوا عامله عمر بن حفص، وجهز معه خمسين ألف مقاتل، واستقر يزيد المذكور والياً بإفريقية من يومئذ، وكان جواداً سرياً مقصوداً ممدوحاً، وقصده جماعة من الشعراء فأحسن جوائزهم، وهو الذي قال فيه أبو أسامة ربيعة بن ثابت الأزدي الرقي وفي يزيد بن أسيد بضم الهمزة السلمي وكان والياً على أرمينية من جهة أبي جعفر المنصور، وكان يزيد المذكور من أشراف الناس وشجعانهم، ومن ذوي الآراء الصائبة، فمدحه أبو أسامة المذكور بشعر أجاد فيه، وقصر هو في جائزته، فقال فيهما هذه الأبيات، وقد ذكرتها في غير هذا الموضع.
لشتان ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد سليم والأغر بن حاتم
يزيد سليم سالم المال والغنى ... أخو الأزد للأموال غير مسالم
فهم الفتى الأزدي إتلاف ماله ... وهم الفتى القيسي جمع الدراهم
قيل لبعض الشعراء: من أشعركم؟ فقال: ايسرنا بيتاً. قال: من هو؟ قال: الذي يقول:
لشتان ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد سليم والأغر بن حاتم
ولما عقد أبو جعفر ليزيد المهلبي المذكور على بلاد إفريقية، وليزيد المذكور على ديار مصر، خرجا معاً، فكان يزيد المهلبي يقوم بكفاية الجيش، فقال ربيعة الرقي: وقدم أشعب المشهور بالطمع على يزيد وهو بمصر، فجلس في مجلسه، فدعا يزيد بغلامه فساره بشيء، فقام أشعب، فقبل يده، فقال له يزيد: لم فعلت هذا؟ فقال: اني رأيتك تسار غلامك، فظننت أنك قد أمرت لي بشيء، فضحك منه وقال: ما فعلت، ولكني أفعل، ووصله وأحسن إليه. قلت ومما يحكى من طمع أشعب المذكور أنه رأى في المنام كأن له كباشاً، وكأن إنساناً ساومه فيها، وقال له: بكم تبيع كل واحد منها؟ فقال: بكذا وكذا، وذكر قيمة كثيرة، فقال له: بل بدرهمين. فقال: لا ثم استيقظ ولم يجد الكباش ولا الدراهم، فتغمض عينيه وتناوم، ومد يده وقال هات، يعني الدراهم في كل واحد. ومما يحكى أيضاً عن أشعب أنه كان يدخل وقت الفطور في شهر رمضان مع جماعة يفطرون عند بعض القضاة، وكان القاضي يضع كل ليلة فوق الطعام كبشاً مشوياً، وكان الجماعة يأكلون من حواليه ولا يجتري أحد منهم يمد يده إلى الشواء إلى أن كان بعض(1/307)
الليالي، فقصد أشعب الشوي وسلخه بيده، فحرزه القاضي بعينيه، ثم قال: يا جماعة أعلموني من يصلي بالمحبوسين في هذا الشهر؟ قال يا سيدي: ما أحد يصلي بهم، فقال: المصلحة أن يذهب أشعب يصلي بهم في هذا الشهر، فقال أشهب: او المصلحة في غير ذلك، اصلح الله القاضي، قال: وما هي؟ قال: اتوب، فسكت عنه القاضي وضحك من فهم ذلك، ولم يعد إلى جذب الشواء يعدها. وقال الطرسوسي في كتاب سراج الملوك قال سحنون بن سعيد كان يزيد بن حاتم حكيماً يقول: والله ما هبت شيئاً قط هيبتي لرجل لطمته وأنا أعلم أنه لا ناصر له إلا الله، فيقول: حسبك الله بيني وبينك. وقيل وفد التميمي الشاعر على يزيد بن حاتم بإفريقية، فأنشده هذين البيتين:
إليك قصرنا النصف من صلواتنا ... مسيرة شهر ثم شهر نواصله
فلا نحن نخشى أن يخيب رجاؤنا ... لديك ولكن أهنأ البر عاجله
فأمريزيد بوضع العطاء في جنده، وكانوا خمسين ألف مرتزق كما تقدم، فقال: من أحب أن يسرني فليضع لزائري هذا من عطائه بدرهمين، فاجتمع له مائة ألف درهم، وضم يزيد إلى ذلك مائة ألف أخرى، ودفعهما إليه. قال ابن خلكان ثم وجدت البيتين المذكورين لمروان بن أبي حفصة، والله أعلم، انتهى كلامه. قلت وقد تقدم ذكرهما في ترجمة مروان المذكور في سنة اثنتين وثمانين ومائة في مدحه للمهدي. وذكر ابن عساكر في تاريخ دمشق: ان يزيد المذكور قال لجلسائه: استبقوا إلى ثلاثة أبيات. فقال صفوان بن صفوان: افيك؟ قال: فيمن شئتم، وكأنها كانت في فمه فقال:
لم أدر ما الجود إلا ما سمعت به ... حتى لقيت يزيداً عصمة الناس
لقيت أجود من يمشي على قدم ... مفضلاً برداء الجود والبأس
ولو نيل بالجود مجد، كنت صاحبه ... وكنت أولى به من آل عباس
ثم كف وقال أتمم، فقال: لا يصلح، وقال: يسمع هذا منك أحد. وفي يزيد بن حاتم أيضاً قال الشاعر:
وإذا تباع كريمة أو تشترى ... فسواك بايعها وأنت المشتري(1/308)
وإذا تخيل من سحابك لامع ... صدقت مخيلته لدى المستمطر
وإذا الفوارس عددت أبطالها ... عدوك في أبطالهم بالخنصر
يعني عدوك أولهم. وقال فيه آخر:
يا واحد العرب الذي ... أضحى وليس له نظير
لو كان مثلك آخر ... ما كان في الدنيا فقر
فدعا يزيد بخازنه، وقال، وكم في بيت مالي؟ قال: فيه من العين والورق ما مبلغه عشرون ألف دينار، فقال: ادفعها إليه، ثم قال: يا أخي المعذرة إلى الله تعالى ثم إليك، والله لو كان في ملكي غيرها لما أدخرتها عنك. وفيها توفي المطلب بن زياد، والمعافى بن عمران. وفيها عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس رضي عنهم. وذكر أبو الفرج بن الجوزي أنه كانت فيه عجائب منها: انه ولد في سنة أربع ومائة، وولد أخوه محمد السفاح والمنصور سنة ستين، فبينهما ست وخمسون سنة، ومنها أنه حج يزيد بن معاوية في سنة خمسين، وحج عبد الصمد بالناس سنة خمسين ومائة، وهما في النسب إلى عبد مناف سواء، ومنها إنه أدرك السفاح والمنصور هما ابنا أخيه، ثم أدرك المهدي وهوعم أبيه، ثم أدرك الهادي وهو عم جده، ثم أدرك الرشيد، وفي أيامه مات. وقال يوماً للرشيد: هذا مجلس فيه أمير المؤمنين وعمه وعم عمه وعم عم عمه، وذلك أن سليمان بن أبي جعفر هو عم الرشيد، والعباس عم سليمان، وعبد الصمد عم العباس. ومنها أنه مات بأسنانه التي ولد بها ولم يثغر، يقال ثغر الصبي يثغر فهو مثغر ومثغور إذا سقطت أسنانه، وأثغر إذا نبتت، وأثغر بالمثلثة وبالمثناة من فوق مع التشديد أيضاً. وفيها توفي يزيد بن مزيد ابن أخي معن بن زائدة الشيباني، وكان من الأمراء المشهورين والشجعان المعروفين، كان والياً بأرمينية وآذربيجان، ولاه الرشيد ووجهه لحرب الوليد بن طريف الشيباني الخارجي لما خرج على هارون ببلاد الجزيرة بعدما وجه(1/309)
إليه موسى بن حازم التيمي في جيش كثيف، فهزمهم الوليد وقتله، فوجه الرشيد معمر بن عيسى العبدي وكانت بينهما وقائع، وكثرت جموع الوليد، فوجه إليه الرشيد يزيد المذكور في عسكر ضخم، فقصده وجعل الوليد يراوغه، وكان ذا مكر ودهاء، وكانت بينهما حروب صعبة ثم بعث الرشيد خيلاً بعد خيل إلى يزيد، وأرسل إليه يعنفه على ترك جده في حربه، فالتقيا ودعاه يزيد إلى المبارزة فبرز إليه الوليد، ووقف العسكران فتطاردا ساعة، ولم يقدر أحداً منهما على صاحبه حتى مضت ساعات من النهار، فأمكنت يزيد فيه الفرصة فضرب رجله، فسقط وضاح بخيله، فبادروا إليه واجتزوا رأسه، فوجه به إلى الرشيد، ورثت الوليد أخته بأبيات تقدمت في ترجمة الوليد في سنة تسع وسبعين ومائة. وروي أن هارون لما جهز يزيد المذكور إلى حرب الوليد أعطاه ذا الفقار سيف النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال خذه يا يزيد فإنك ستنصر به، فأخذه ومضى، وكان من قتله الوليد ما ذكروا في ذلك يقول مسلم بن الوليد الأنصاري في قصيدة يمدح فيها يزيد المذكور:
أذكرت سيف رسول الله، سنته ... وبأس أول من صلى ومن صاما
يعني بالبأس علي بن أبي طالب رضي الله عنه، اذ كان هو الضارب به. وذكر بعضهم أن ذا الفقار كان مع العاصي بن نبيه في يوم بدر، فقتل هو وأبوه نبيه وعمه منبه ابنا الحجاج، وكانا سيدي بني سهم في الجاهلية، وكانا من المطعمين، وكان الذي قتل العاصي هو علي، فأخذ منه ذا الفقار. وذكر بعضهم أن ذا الفقار كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأعطاه علياً. وكان سبب وصول السيف المذكور إلى هارون فيما ذكره أبو جعفر الطبري بإسناد متصل أنه تلقاه من أخيه الهادي، والهادي من أبيه المهدي، والمهدي من جعفر بن سليمان العباسي، وجعفر من رجل من التجار، والتاجر من محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، فعه إليه يوم قتل بأربع مائة دينار كانت له عليه وعن الأصمعي قال: رأيت في ذي الفقار ثماني عشرة فقارة. وذكر الخطيب أن الرشيد قال ليزيد من الذي يقول فيك؟:
لا يعبق الطيب كفيه ومفرقه ... ولا تمسح عينيه من العجل
قد عود الطير عادات وثقن بها ... فهن يتبعنه في كل مرتحل
فقال لا أدري يا أمير المؤمنين، فقال يقال فيك مثل هذا ولا تعرف قائله؟! فانصرف(1/310)
خجلاً، فاجتمع به الوليد بن مسلم، وأنشده هذه القصيدة فقال لوكيله: بع ضيعتي الفلانية وأعطه نصف ثمنها، واحبس نصفه لنفقتنا، فباعها بمائة ألف درهم، فأعطى مسلماً خمسين ألفاً، فبلغ ذلك الرشيد فأعطاه مائتي ألف درهم، وقال: استرجع الضيعة بمائة ألف، وزد الشاعر خمسين ألفاً، واحبس لنفسك خمسين ألفاً، وللشعراء فيه أشعار يطول ذكرها، وفي معنى البيت الذي ذكر فيه أن الطير تتبعه أشعار لجماعة من الشعراء منها قول أبي تمام:
وقد ظللت عقبان راياته ضحى ... بعقبان طير في الدماء تواحل
أقامت على الرايات حتى كأنها ... من الجيش إلا أنها لم تقاتل
وقال يزيد استدعى بي الرشيد يوماً فأتيته لابساً سلاحي، فضحك، وقال: من الذي تقول فيك.
تراه من الأمن في درع مضاعفة ... لا يأمن الدهر أن يدعى على عجل
فقلت: لا أعرفه يا أمير المؤمنين، فقال: سوأة لك من سيد قوم، تمدح بمثل هذا ولا تعرف قائله؟ وقد بلغ أمير المؤمنين، فرواه ووصل قائله وهو مسلم بن الوليد. قال فانصرفت فدعوت به ووصلته. وروي أن عمه معن بن زائدة كان يقدمه على أولاده فعاتبته امرأته لذلك، فقال لها: إني لأجد عندهم من الغنى ما ليس عنده، فلو كان ما يصنع به يزيد بعيداً لصار قريباً، أو عدواً لصار حبيباً، وسأريك في هذه الليلة ما تبسطين به عذري، ثم قال: يا غلام اذهب فادع لي حساناً وزائدة وعبد الله وفلاناً وفلاناً حتى أتى على جميع ولده، فجاؤوا في العلالي الطيبة والنعال السندية بعد ليل، فسلموا وجلسوا، ثم قال معن: يا غلام ادع يزيد، فجاء عجلاً وعليه سلاحه، فوضع رمحه بباب المجلس ودخل،، فقال له معن: ما هذه الهيئة يا أبا الزبير؟ فقال: جاء في رسول الأمير فسبق إلى وهمي أنه يريدني وهمتي، فلبست سلاحي، فقال معن: انصرفوا في حفظ الله، فلما خرجوا قالت له زرجته: قد تبين لي عذرك.
سنة ست وثمانين ومائة
فيها توفي الحافظ خالد بن الحارث البصري، وفقيه المدينة بعد مالك أبو هشام المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي، قيل عرض عليه الرشيد قضاء المدينة فامتنع.(1/311)
سنة سبع وثمانين ومائة
فيها خلعت الروم من الملك السبت ايريني، وهلكت بعد أشهر وأقاموا عليهم تقفور، والروم تزعم أنه من ولد حفصة الغساني الذي تنصر، وكتب تقفور إلى هارون الرشيد من تقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب أما بعد فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها، ذلك لضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فأردد ما حصل قبلك، وافتد نفسك، وإلا فالسيف بيننا وبينك، فلما قرأ الرشيد الكتاب اشتد غضبه وتفرق جلساؤه خوفاً من بادرة تقع منه، ثم كتب بيده على ظهر الكتاب: من هارون أمير المؤمنين إلى تقفور كلب الروم، قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون ما تسمعه، ثم ركب من يومه وأسرع حتى نزل على مدينة هرقلة، وأوطأ الروم ذلاً وبلاءً فقتل وسبى، وذل تقفور وطلب الموادعة على خراج يحمله، فلما رد الرشيد إلى الرقة نقض تقفور العهد، فلم يجسر أحد أن يبلغ الرشيد، حتى عملت الشعر أبياتاً يلوحون بذلك، فقال: او قد فعل بها، فكر راجعاً في شقة الشتاء حتى أناخ بفنائه ونال منه مراده، وفي ذلك يقول أبو العتاهية:
ألا نادت هرقلة بالخراب ... من الملك الموفق للصواب
غدا هارون يرعد بالمنايا ... يبرق بالمذكرة العضاب
ورايات يحل النصر فيها ... تمر كأنها قطع السحاب
وفي السنة المذكورة أو التي قبلها توفي بشر بن المفضل أحد حفاظ البصرة، قال الإمام علي بن المديني: كان يصلي كل يرم أربع مائة ركعة، ويصوم يوماً ويفطر يوماً. وفيها توفي عبد العزيز بن عبد الصمد العمي الحافظ، وعبد العزيزبن محمد الدراوردي المدني، وكان فقيهاً صاحب حديث، وتوفي عبد السلام بن حرب الكوفي الحافظ. وفيها توفي أبو الخطاب السدوسي البصري المكفوف الحافظ، والإمام أبو محمد معتمر بن سليمان بن طرخان التيمي الحافظ أحد شيوخ البصرة. وقال بعضهم: كان عابداً صالحاً حجةً. رفيها توفى معاذ بن مسلم الكوفي النحوي شيخ الكسائي، عاش نحو مائة سنة وفيها(1/312)
غضب الرشيد على البرامكة وضرب عنق جعفر بن يحيى البرمكي الوزير أحد الأجواد والفصحاء، قال بعض المؤرخين: كان من علو القدر ونفاذ الأمر وبعد الهمة وعظم المحل وجلالة المنزلة عند هارون الرشيد بمنزلة الفرد بها، ولم يشاركه فيها أحد، وكان سمح الأخلاق طلق الوجه ظاهر البشر، وأما جوده وسخاؤه وبذله وعطاؤه فكان أشهر من أن يذكر، وكان من ذوي الفصاحة والمشهورين باللسن والبلاغة، ويقال إنه وقع ليلة بحضرة الرشيد زيادة على ألف توقيع، ولم يخرج في شيء منها عن موجب الفقه، وكان أبوه قد ضمه إلى القاضي أبي يوسف حتى علمه وفقهه. ومما يحكى عنه أنه وقع إلى بعض العمال وقد شكا منه. فقال: كثر شاكوك فأما اعتذرت واما عتزلت. ومما ينسب إليه من الفطنة أنه بلغه أن الرشيد مغموم من أجل أن يهودياً زعم أن الرشيد يموت تلك السنة، فركب جعفر إلى الرشيد فرآه شديد الغم، فقال لليهودي: أنت تزعم أن أمير المؤمنين يموت إلى كذا أو كذا يوماً؟ قال: نعم. قال: وأنت كم عمرك؟ قال كذا وكذا. ذكر مدى طويلاً، فقال للرشيد اقتله حتى تعلم أنه كذب في أمدك كما كذب في أمده، فقتله فذهب ما كان بالرشيد من الغم، وشكره على ذلك، وأمر بصلب اليهودي، فقال أشجع السلمي في ذلك.
سل الراكب الموفي على الجزع هل رأى ... براكبه نجماً بدا غير أعورا
ولو كان نجم مخبراً عن منية ... لأخبره عن رأسه المتحيرا
يعرفنا موت الإمام كأنه ... يعرفه أبناء كسرى وقيصرا
أيخبرعن نحس لغيرك شؤمة ... ويحمل بادي النحس يا شر مخبرا
وكان جعفر من الكرم وسعة العطاء كما هو مشهور، ويقال إنه لما حج اختار في طريقه بالعقيق، وكانت سنة مجدبة، فأعرضت امرأة وأنشدت:
إني عبرت على العقيق وأهله ... يشكون من مطر الربيع تزورا
ما ضرهم إذ جعفر جاز بهم ... أن لا يكون ربيعه ممطورا
فأجزل للمرأة المذكورة العطاء، وقيل والبيت الثاني مأخوذ من قول الضحاك بن عقيل الجناحي من جملة أبيات له:
ولو جاوزتنا العام سمراء لم ينل ... على جدبنا أن لا يصوب ربيع(1/313)
قال بعضهم: لله دره ما أحلى هذه الحشوة، وهي قوله على جدبنا، ومن مكانته عند الرشيد ونفوذ كلمته: ما ذكر صاحب كتاب الأماثل والأعيان عن جعفر في قصة ذكر في آخرها أن جعفر بن يحيى قال لعبد الملك بن صالح الهاشمي: اذكر حوائجك، قال: ان في قلب أمير المؤمنين موجدة علي فتخرجها من قلبه وتعيده إلى جميل رأيه في، قال: قد رضي عنك أمير المؤمنين وزال ما عنده منك، فقال: وعلي أربعة آلاف ألف درهم ديناً، فقال يقضي عنك وانها لحاضرة ولكن كونها من أمير المؤمنين أشرف لك وأدل على حسن ما عنده منك، قال: وإبراهيم ابني أحب أن أرفع قدره بصهر من ولد الخلافة، فقال قد زوجه أمير المؤمنين العالية ابنته، قال: وأوثر التنبيه على موضعه برفع لواء على رأسه، قال: قد ولاه أمير المؤمنين مصر، قال الراوي: وهو إبراهيم بن المهدي، فخرج عبد الملك ونحن متعجبون من قول جعفر وإقدامه على ذاك من غير استئذان فيه، ثم ركبنا من الغد إلى باب الرشيد ودخل جعفر، ووقفنا فما كان أسرع من أن دعي بأبي يوسف القاضي ومحمد بن الحسن وإبراهيم بن عبد الملك، ولم يكن بأسرع من خروج إبراهيم والخلع عليه واللواء بين يديه. وقد عقد له على العالية بنت الرشيد، وحملت إليه ومعها المال إلى منزل عبد الملك بن صالح، وخرج جعفر فتقدم إلينا بأتباعه إلى منزله، وصرنا معه، فقال: اظن قلوبكم تعلقت بأول أمر عبد الملك فأصبتم علم آخره، قلنا هو كذا وكذا، قال: وقلت بين يدي أمير المؤمنين وعرفته ما كان من أمر عبد الملك من ابتدائه إلى انتهائه، وهو يقول أحسن أحسن، قلت: يعني قضيته وقعت له معه كرهت ذكرها لاشتمالها على خلاعات ومنادمات ومحرمات لا يليق ذكرها بأرباب الديانات، واسترسال عبد الملك المذكور مع جعفر على طريق المو فقة بأشياء ليست له، بإعادته حيز القلب واسعاً، قال باريه وتوسد استمالته وتوصل إلى قضاء حاجته، وهي معروفة عند من له إلمام بمطالعة ما سطر في تواريخ الملوك والوزراء، واطلاع على أخبار الوقائع والأمراء. رجعنا إلى ذكر ما ذكره عن الرشيد قال: ثم قال فما صنعت معه فعرفته ما كان من قولي له فاستصوبه وأمضاه، وكان ما رأيتم، قال الراوي فوالله ما أدري أيهم أعجب فعلا، عبد الملك في تعاطيه ما ليس له بعادة، وكان رجل جد وتعفف ووقار وناموس، او إقدام جعفر على الرشيد بما أقدم، او إمضاء الرشيد ما حكم به عليه جعفر. وحكي أنه كان عنده أبو عبيدة الثقفي فقصدته خنفساتة، فأمر جعفر بازالتها، فقال أبو عبيدة: دعوها حتى يأتي بقصدها لي خيراً، فإنهم يزعمون ذلك فأمر له جعفر بألف دينار، وقال: تحقق زعمهم، وأمر بتنحيتها، ثم قصدته ثانياً فأمر له جعفر بألف دينار أخرى.(1/314)
وحكى ابن القادسي في أخبار الوزراء أن جعفراً اشترى جارية بأربعين ألف دينار، فقالت لبائعها: اذكر ما عاهدتني عليه أنك لا تأكل لي ثمناً، فبكى مولاها وقال: اشهدوا أنها حرة وقد تزوجتها، فوهب له جعفر المال، ولم يأخذ منه شيئاً، وأخبار كرمه كثيرة، وكان أبلغ أهل بيته. قالوا: وكان الفضل أجود منه، وأول من وزر من آل برمك خالد بن برمك لأبي العباس السفاح، ولم يزل خالد على وزارته حتى توفي السفاح، وتولى أخوه أبو جعفر المنصور فأقر خالد على وزارته سنة وشهوراً، وكان أبو أيوب المورياني بالمثناة من تحت بين الراء والألف وفي آخره قيل ياء النسبة نون قد غلب على المنصور، فاحتال على خالد باشارته على المنصور أن يوليه أمرة بعض البلدان البعيدة، فلما بعد عن الحضرة استبد أبو أيوب بالأمر. وقال الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق: ولد خالد سنة تسعين من الهجرة وتوفي سنة خمس وستين ومائة، وكان جعفر متمكناً من عند الرشيد غالباً على أمره، واصلاً منه بالغاً علو والمرتبة عنده ما لم يبلغ سواه، حتى أن الرشيد اتخذ ثوباً له زيقان، وكان يلبسه هو وجعفر جملة، ولم يكن للرشيد صبر عنه، وكان الرشيد أيضاً شديد المحبة لأخته العباسة ابنة المهدي، وهي من أعز النساء عليه، لا يقدر على مفارقتها، كان متى غاب جعفر وهي، لا يتم للرشيد سرور، فقال: يا جعفر إنه لا يتم لي سرور إلا بك وبالعباسة، واني سأزوجها منك ليحل لكما أن تجتمعا. يعني عندي، لكن إياكما أن تجتمعا يعني اجتماع الرجال بالنساء، فتزوجها على هذا الشرط، ثم تغير الرشيد عليه وعلى البرامكة كلهم آخر الأمر، وملهم وقتل جعفراً، واعتقل أخاه الفضل وأباه يحيى بن خالد كما سيأتي في ترجمتهما إن شاء الله تعالى. وقد اختلف
أهل التاريخ في سبب تغير الرشيد عليهم، فمنهم من ذهب إلى أن الرشيد لما زوج أخته من جعفر على الشرط المذكور، بقي مدة على تلك الحالة، ثم اتفق أن أحبت العباسة جعفراً، وأرادت أن تجتمع به، فأبى وخاف، فلما أعيتها الحيلة عدلت الى الخديعة، فبعثت إلى عنابة أم جعفر أن أرسلني إلى جعفر كأني جارية من جواريك اللاتي ترسلين إليه، وكانت أمه ترسل إليه كل يوم جمعة جارية بكراً، فأبت عليها أم جعفر، فقالت: لئن لم تفعلي لأذكرن لأخي أنك خاطبتني بكيت وكيت، ولئن اشتملت من ابنك على ولد ليكون لكم الشرف، وما عسى أن يفعل أخي إن علم أمرنا، فأجابتها أم جعفر وجعلت تعد ابنها أن ستهدي إليه جارية عندها حسناء من هيئتها ومن صفتها، وهو يطالبها بالوعد المرة بعد المرة حتى علمت أنه قد اشتاق اليها، فأرسلت إلى العباسة أن تهيىء الليلة ففعلت، وأدخلت على جعفر، وكان لا يثبت صورتها لأنه كان عند الرشيد لا يرفع طرفه إليها مخافة، فلما قضى منها وطره قالت له: كيف رأيت خديعة بنات الملوك؟ فقال: وأي بنت ملك أنت؟ فقالت: انا مولاتك العباسة، فطاش عقله، وأتى إلى أمه، فقال لها: بعتني والله رخيصاً، وحملت العباسة منه، وجاءت بولد، فوكلت به غلاماً ما اسمه رياش، وحاضنة يقال لها مرة، ولما خافت ظهور الأمر بعثتهم إلى مكة، وكان أبو جعفر يحيى بن خالد ناظراً على قصر الرشيد وحرمه، ويغلق أبواب القصر وينصرف بالمفاتيح معه حتى ضيق على حرم الرشيد، فشكته زبيدة إلى الرشيد، وكان الرشيد يدعوه أبا فقال له: يا أبة الزبيدة تشكوك، فقال: امتهوم أنا في حرمك يا أمير المؤمنين؟ قال: لا. قال: فلا تقبل قولها علي، وازداد يحيى عليها غلظة وتشديداً، فقالت زبيدة للرشيد مرة أخرى في شكوى يحيى، فقال الرشيد لها: يحيى عندي غير متهم في حرمي، فقالت لم لم يحفظ ابنه مما ارتكبه؟ قال: وما هو؟ فخبرته بخبر العباسة، فقال: وهل على هذا دليل؟ قالت: وأي دليل أدل من الولد؟ قال: وأين هو؟ قالت: كان هنا نقلاً، فلما خافت ظهوره وجهته إلى مكة، قال: فهل علم بذلك سواك؟ فقالت: ليس بالقصر جارية إلا وقد علمت به، فسكت عنها وأظهر إرادة الحج، فخرج ومعه جعفر، فكتبت العباسة إلى الخادم والداية بالخروج بالصبي إلى اليمن، فوصل الرشيد مكة، فوكل من يثق به بالبحث عن أمر الصبي فوجده صحيحاً، فأضمر السوء للبرامكة، ذكر ذلك ابن بدرون في شرح قصيدة ابن عبدون التي رثى بها بني الأفطس التي أولها: أهل التاريخ في سبب تغير الرشيد عليهم، فمنهم من ذهب إلى أن الرشيد لما زوج أخته من جعفر على الشرط المذكور، بقي مدة على تلك الحالة، ثم اتفق أن أحبت العباسة جعفراً، وأرادت أن تجتمع به، فأبى وخاف، فلما أعيتها الحيلة عدلت الى الخديعة، فبعثت إلى عنابة أم جعفر أن أرسلني إلى جعفر كأني جارية من جواريك اللاتي ترسلين إليه، وكانت أمه ترسل إليه كل يوم جمعة جارية بكراً، فأبت عليها أم جعفر، فقالت: لئن لم تفعلي لأذكرن لأخي أنك خاطبتني بكيت وكيت، ولئن اشتملت من ابنك على ولد ليكون لكم الشرف، وما عسى أن يفعل أخي إن علم أمرنا، فأجابتها أم جعفر وجعلت تعد ابنها أن ستهدي إليه جارية عندها حسناء من هيئتها ومن صفتها، وهو يطالبها(1/315)
بالوعد المرة بعد المرة حتى علمت أنه قد اشتاق اليها، فأرسلت إلى العباسة أن تهيىء الليلة ففعلت، وأدخلت على جعفر، وكان لا يثبت صورتها لأنه كان عند الرشيد لا يرفع طرفه إليها مخافة، فلما قضى منها وطره قالت له: كيف رأيت خديعة بنات الملوك؟ فقال: وأي بنت ملك أنت؟ فقالت: انا مولاتك العباسة، فطاش عقله، وأتى إلى أمه، فقال لها: بعتني والله رخيصاً، وحملت العباسة منه، وجاءت بولد، فوكلت به غلاماً ما اسمه رياش، وحاضنة يقال لها مرة، ولما خافت ظهور الأمر بعثتهم إلى مكة، وكان أبو جعفر يحيى بن خالد ناظراً على قصر الرشيد وحرمه، ويغلق أبواب القصر وينصرف بالمفاتيح معه حتى ضيق على حرم الرشيد، فشكته زبيدة إلى الرشيد، وكان الرشيد يدعوه أبا فقال له: يا أبة الزبيدة تشكوك، فقال: امتهوم أنا في حرمك يا أمير المؤمنين؟ قال: لا. قال: فلا تقبل قولها علي، وازداد يحيى عليها غلظة وتشديداً، فقالت زبيدة للرشيد مرة أخرى في شكوى يحيى، فقال الرشيد لها: يحيى عندي غير متهم في حرمي، فقالت لم لم يحفظ ابنه مما ارتكبه؟ قال: وما هو؟ فخبرته بخبر العباسة، فقال: وهل على هذا دليل؟ قالت: وأي دليل أدل من الولد؟ قال: وأين هو؟ قالت: كان هنا نقلاً، فلما خافت ظهوره وجهته إلى مكة، قال: فهل علم بذلك سواك؟ فقالت: ليس بالقصر جارية إلا وقد علمت به، فسكت عنها وأظهر إرادة الحج، فخرج ومعه جعفر، فكتبت العباسة إلى الخادم والداية بالخروج بالصبي إلى اليمن، فوصل الرشيد مكة، فوكل من يثق به بالبحث عن أمر الصبي فوجده صحيحاً، فأضمر السوء للبرامكة، ذكر ذلك ابن بدرون في شرح قصيدة ابن عبدون التي رثى بها بني الأفطس التي أولها:
الدهريفجع بعد العين بالأثر ... فما البكاء على الأشباح والصور
ولأبي نواس أبيات تدل على طرف من الواقعة التي ذكرها ابن بدرون.
ألا قل لأمين الله ... وابن القارة الساسه
إذا ما ناكث سرك ... أن يفقده رأسه
فلا تقتله بالسيف ... وزوجه بعباسه
وذكره غيره: أن الرشيد سلم إلى جعفر يحيى بن عبد الله بن الحسن، وكان قد خرج على خلفاء بني العباس، وأمره بحبسه عنده، فقال يحيى لجعفر: اتق الله في أمري، ولا تتعرض أن يكون خصمك جدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم. فرق له جعفر وقال: اذهب حيث شئت من البلاد، فقال أخاف أن أوخذ فأرد، فبعث معه من أوصله إلى مأمنه، وبلغ الخبر الرشيد فدعا به، وقال: يا جعفر ما فعل يحيى؟ قال:(1/316)
يحيا له قال: بحياتي، فوجم وأحجم وقال لا وحياتك أطلقته حيث علمت أن لا سوء عنده، قال نعم الفعل وما عددت ما في نفسي، فلما نهض جعفر اتبعه بصره، قال قتلني الله إن لم أقتلك، وقيل: ما كان من البرامكة جناية توجب غضب الرشيد، ولكن طالت أيامهم وكل طويل مملول، ولقد استطال الناس الذي هم خير الناس أيام عمر بن الخطاب وما رأوا مثلها عدلاً وأماناً وسعة أموال وفتوح، وأيام عثمان فقتلوهما، ورأى الرشيد مع ذلك أنس النعمة بهم، وكثرة حمد الناس لهم، وآمالهم فيهم، ونظرهم إليهم دونه، او كما قيل وللملوك تنافس بأقل من هذا، فتعنت عليهم، وتجنى، وطلب مساويهم، ووقع منهم بعض الإزلال خصوصاً جعفر والفضل دون يحيى فإنه أحكم خبرة وأكثر ممارسة للأمور، ولاز بهم قوم من أعدائهم بالرشيد كالفضل بن الربيع وغيره فستروا منهم المحاسن وأظهروا القبائح حتى كان ما كان، وكان الرشيد بعد ذلك إذا ذكروا عنده بسوء أنشد ما معناه وغالب ألفاظه هذا:
أقول ملا ما لا أبا لأبيكم ... عن القوم أو سدوا المكان الذي سدوا
وقيل السبب أنه رفعت إلى الرشيد قصة لم يعرف رافعها، وفيها هذه الأبيات:
قل لأمين الله في أرضه ... ومن إليه الحل والعقد
هذا ابن يحيى قد غدا ملكاً ... مثلك، وما بينكما حسد
أمرك مردود إلى أمره ... وأمره ليس له رد
وقد بنى الدار التي ما بنى ... الفرس لها مثلا ولا الهند
الدر والياقوت حصباؤها ... وتربها العنبر والند
ونحن نخشى أنه وارث ... ملكك إن غيبك اللحد
ولن يباهي العبد أربابه ... إلا إذا ما بطر العبد
فوقف الرشيد عليها، وأضمر له السوء. وحكى بعضهم أن علية بنت المهدي قالت للرشيد بعد ايقاعه بالبرامكة: يا سيدي ما رأيت لك يوماً سروراً تاماً منذ قتلت جعفراً، فلأي شيء قتلته؟ فقال لها: لو علمت أن قميصي يعلم السبب في ذلك لمزقته. وقال السندي بن شاهك: كنت ليلة نائماً في غرفة الشرطة في الجانب الغربي، فرأيت في منامي جعفر بن يحيى واقفاً بإزائي، وعليه ثوب مصبوغ بالعصفر وهو ينشد:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها وأبا دنا ... صروف الليالي واللحود العواثر(1/317)
قلت ويروى هذا البيت السنون العواثر، يروى أنه أنشده عمرو بن مضاض الجرهمي بعد أن أخرج قومه من مكة، ونزلوا بلاد اليمن. قال: فانتبهت فزعاً وقصصتها على أحد خواصي، فقال: اضغاث أحلام، وليس كل ما يراه الإنسان يجب أن يفسر فعاودت مضجعي فلم تمتلي عيناي غمضاً حتى سمعت صيحة الرابطة والشرط وقعقعة نجم البريد ودق باب الغرفة، فأمرت بفتحها فصعد سلام الأبرش الخادم، وكان الرشيد يوجهه في المهمات، فانزعجت وأرعدت مفاصلي، وظننت أنه أمرني بأمر، فجلس إلى جانبي وأعطاني كتابأ، فقرأته وإذا فيه: هذا كتابنا بخطنا مختوم، بالخاتم الذي في يدنا، وموصله سلام الأبرش، فإذا قرأته فقبل أن تضعه من يدك امض إلى دار يحيى بن خالد لاحاطه الله، وسلام الأبرش معك حتى تقبض عليه، وتوقره حديداً، وتحمله إلى الحبس في مدينة المنصور المعروف بحبس الزنادقة، وتتقدم إلى بآدام بن عبد الله، وتأمره أو كما قال بالمسير إلى الفضل ابنه، مع ركوبك إلى دار يحيى، وقبل انتشار الخبر تفعل به مثل ما تقدم إليك في يحيى، وأن تحمله أيضا إلى حبس الزنادقة، ثم ابعث بعد فراغك من أمر هذين أصحابك في القبض على يحيى وأولاده وإخوته وقراباته، وذكر أشياء أخرى يطول ذكرها اقتضى الاقتصار حذفها. قال الراوي: ثم دعا السندي بن شاهك فأمره بالمضي إلى بغداد والتنكيل بالبرامكة وكتاباتهم وقراباتهم، وأن يكون ذلك سراً، ففعل السندي، ذلك، وكان الرشيد بالأنبار بموضع يقال له العمر بضم العين المهملة ومعه جعفر بمنزله، وقد دعا أبا زكار بالزاي قبل الكاف والراء في آخره وجواريه، ونصب الستائر وأبو زكار يغنيه.
ما يريد الناس منا ... ما ينام الناس عنا
إنما همهم أن ... يظهرواما قد دفنا
ودعا الرشيد ياسراً غلامه، وقال له: لقد انتخبتك لأمر، ولم أر له محمداً ولا عبد الله ولا القاسم، فحقق ظني، واحذر أن تخالف فتهلك، فقال: لو أمرتني بقتل نفسي لفعلت، فقال: اذهب إلى جعفر بن يحيى، وجئني برأسه الساعة، فوجم لا يجيب جواباً، فقال مالك: ويلك، قال: الأمر عظيم، وددت أني مت قبل وقتي هذا، فقال: امض لأمري، فمضى حتى دخل على جعفر، وأبو زكار يغنيه:
فلا تبعد فكل فتى سيأتي ... عليه الموت يطرق أويغادي
وكل ذخيرة لا بد يوماً ... وأن بقيت يصير إلى نفاد
ولو فديت من حديث الليالي ... فديتك بالطريف وبالتلاد
فقال! له: يا ياسر، سررتني بإقبالك، وسوأتني بدخولك من غير إذن، قال: الأمر أكبر(1/318)
من ذلك، قد أمرني أمير المؤمنين كذا وكذا، فأقبل جعفر يقبل قدمي ياسر قال: دعني أدخل وأوصي، قال: لا سبيل إليه أوص بما شئت، فقال: لي عليك حق ولا تقدر على مكافاتي إلا الساعة، قال: تجدني سريعاً إلا في ما يخالف أمير المؤمنين، قال: فارجع وأعلمه بقتلي، فإن ندم كانت حياتي على يدك وإلا أنفذت أمره في، قال: لا أقدر، قال: فأسير معك إلى مضربه وأسمع كلامه ومراجعتك، فإن أصر فعلت، قال: اما هذا فنعم. ثم انه صار إلى مضرب الرشيد، فلما جمع حسه قال له: ما وراءك؟ فذكر له قول جعفر فيه، وقال: والله لئن راجعتني لأقدمنك قبله، فرجع فقتله وجاء برأسه، فلما وضعه بين يديه أقبل عليه ملياً ثم قال: يا ياسر جئني فلان وفلان، فلما أتى بهما قال لهما: اضربا عنق ياسر، فلا أقدر أن أرى قاتل جعفر، وقيل الذي هجم عليه مسرور الخادم بإرسال الرشيد له، وبعد ضرب عنقه صلب على الجسر ببغداد. وحكي أن جعفر آخر أيامهم أراد الركوب، فدعا بالاصطرلاب ليختار وقتاً وهو في داره على دجله، فمر رجل في سفينة وهو لا يرى جعفر ولا يدري ما يصنع، وهوينشد هذا البيت:
مريد بالنجوم وليس تدري ... ورب النجم يفعل ما يريد
فضرب بالاصطرلاب الأرض وركب. وحكي أنه رأى على باب قصر علي بن ماهان بخراسان صبيحة الليل التي قتل فيها جعفر كتاباً بقلم جليل فيه هذان البيتان.
إن المساكين بني برمك ... صتت عليهم غيرالدهر
إن لنا في أمرهم عبرة ... فليعتبر ساكن ذا القصر
ولما بلغ سفيان بن عيينة قتل جعفر وما نزل بالبرامكة، حول وجهه إلى القبلة، وقال: اللهم إنه كان قد كفاني مؤنة الدنيا فاكفه مؤنة الآخرة، فلما قتل جعفر أكثر الشعراء في ورثائه ورثاء آله فقال الرقاشي:
هدى الخالون من شجوي فناموا ... وعيني لا يلائمها منام
وما سهرت لأني مستهام ... إذا سهر المحب المستهام
ولكن الحوادث أرقتني ... فلي سهر إذا هجع الأنام
أصبت بسادة كانوا نجوماً ... بهم نسقي إذا انقطع الغمام
ولم يزل يقول إلى أن قال:(1/319)
على المعروف والدنيا جميعاً ... لدولة آل برمك السلام
فلم أر قط قبلك يا ابن يحيى ... حساماً فله السيف الحسام
وأما والله لولا خوف واش ... وعين للخليفة لا تنام
لطفنا حول جذعك واستلمنا ... كما للناس بالحجر استلام
وقال أيضاً يرثيه وأخاه الفضل.
ألا ان سيفاً برمكياً مهندا ... أصيب بسيف هاشمي مهند
فقل للمطايا بعد فضل تعطلي ... وقل للرزايا كل يوم تجددي
وقال آخر:
ولما رأيت السيف صبح جعفرا ... ونادى مناد للخليفة في يحيى
بكيت على الدنيا وأيقنت إنما ... قصارى الفتى فيها مفارقة الدنيا
وغير ذلك مما رثوه من الأشعار مما يخرج عن حيز الاختصار إلى حيز الإكثار مع أن ترجمة جعفر، من أطال الكلام فيها فقد قصر. قال بعض المؤرخين ومن أعجب ما يؤرخ من تقلبات الدنيا بأهلها ما حكى بعضهم قال: دخلت على والدتي في يوم عيد الأضحى وعندها امرأة في ثياب رثة، فقالت لي والدتي أتعرف هذه؟ قلت: لا قالت لي: هذه أم جعفر البرمكي، فأقبلت عليها وتحادثنا زمانأ ثم قلت يا أمه، ما أعجب ما رأيت؟ فقالت: لقد أتى علي يا بني عيد مثل هذا وعلى رأسي أربع مائة وصيفة، واني لأعد ابني عاقاً لي، ولقد أتى علي يا بني هذا العيد وما منازي إلا جلدا شاتين، افترش أحدهما وألتحف بالآخر، قال: فدفعت لها خمس مائة درهم، وكادت تموت فرحاً بها، سبحان مقلب الدهور ومدبر الأمور. وفي السنة المذكورة توفي السيد الجليل الولي الخليل الإمام أبو علي المعروف بالفضيل أحد الأعلام الذين يقتدي بهم الأنام، قال ابن المبارك: ما على ظهر الأرض أفضل من الفضيل بن عياض، قالوا: وكان قد قدم الكوفة شاباً، فحمل عن منصور وطبقته، وقال القاضي شريك الفضيل حجة لأهل زمانه. ويحكى أن الرشيد قال للفضيل يوماً: ما أزهدك؟ فقال: الفضيل: انت أزهد مني فقال: وكيف ذلك؟ فقال لأني أزهد في الدنيا، وأنت تزهد في الآخرة، والدنيا فاتنة، والآخرة باقية، قلت: وللفضيل مع هارون حكاية عجيبة ذكرتها في غيرهذا الكتاب.(1/320)
ومن كلام الفضيل: اذا أحب الله تعالى عبداً أكثر غمه، وإذا أبغض الله عبداً وسع عليه دنياه، وقال: لو أن الدنيا بحذافيرها عرضت علي لأحاسب عليها، لكنت أتقذرها كما يتقذر أحدكم الجيفة إذا مر بها أن يصيب ثوبه، وقال ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجل الناس شرك، وقال لو كانت لي دعوة مستجابة لم أجعلها إلا في إمام، لأنه إذا صلح الامام أمن البلاد والعباد. وقال أبو علي الرازي: صحبت الفضيل ثلاثين سنة، ما رأيته ضاحكاً ولا متبسماً الا يوم مات ابنه علي، فقلت له في ذلك: فقال: ان الله تعالى أحب أمراً فأحببت ذلك الأمر، وكان ولده المذكور شاباً محبباً من كبار الصالحين. وقيل للفضيل: ان ابنك علياً يقول: وددت أني في مكان أرى الناس من حيث لا يروني، فبكى وقال: يا ويح علي، ليته أتمها فقال: لا أراهم ولا يروني. وكان ابن المبارك يقول: اذا مات الفضيل ارتفع الحزن من الدنيا، وهو معدود من الجماعة الذين شغفتهم محبة الله. ومناقب الفضيل كثيرة مشهورة، وسيرته بين الخلق جميلة مشكورة، ومولده بسمرقند، وقيل بغيرها من بلاد العجم وقدم الكوفة، وسمع الحديث بها، ثم انتقل إلى مكة فجاور بها إلى أن مات، وقبره فيها مزور مشهور. قلت: والمشهور من كلام المشايخ في كتب السلوك أنه كان في أول أمره شاطراً يقطع الطريق، وكانت سبب توبته أنه عتق جارية فبينا هو يرتقي الجدار إليها سمع تالياً: " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر ال " - الحديد: 16 - فقال: بلى يا رب قد آن، فرجع وأواه الليل إلى خربة، فاذا فيها رفقة، فقال بعضهم: نرتحل وقال بعضهم: حتى نصبح فان فضيلاً على الطريق يقطع علينا، فتاب الفضيل وأمنهم. وروي أنه قال للرشيد: يا حسن الوجه، انت الذي أمر هذه الأمة في يدك وعنقك
لقد تقلدت أمراً عظيماً، فبكى الرشيد ثم أعطى كل واحد من الأولياء والعلماء الحاضرين بدرة، فكل قبلها إلا الفضيل، فقال له الرشيد: يا أبا علي، ان لم تستحل أخذها فأعطها ذا دين، او أشبع بها جائعاً، او إكس بها عارياً، فاستعفاه منها: قال الراوي وهو سفيان بن عيينة: فلما خرجنا قلت له: يا أبا علي أخطأت أن لا أخذتها وصرفتها في أبواب البر، فأخذ بلحيتي ثم قال، يا أبا محمد، انت فقيه البلد والمنظور إليه، وتغلط مثل هذا الغلط، لو(1/321)
طابت لأولئك لطابت لي. وفي السنة المذكورة توفي يعقوب بن داود السلمي، كان كاتب إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، الذي خرج هو وأخوه علي أبي جعفر المنصور بالبصرة ونواحيها، وقتلا في سنة خمس وأربعين ومائة، وقصتهما مشهورة، وقد تقدم ذكرهما هنالك، وكان قد نشأ يعقوب المذكور في صنوف من العلوم، ولما ظهر المنصور على إبراهيم بن عبد الله المذكور، ظفر بيعقوب المذكور فحبسه في المطبق، وكان يعقوب سمحاً جواداً كثر البر والصدقة واصطناع المعروف مقصوداً ممدوحاً، مدحه أعيان شعراء عصره، فلما مات المنصور وقام بالأمر ولده المهدي، جعل يتقرب إليه حتى أدناه، واعتمد عليه وعلت منزلته عنده وعظم شأنه حتى خرج كتابه إلى الدواوين: ان أمير المؤمنين قد آخى يعقوب بن داود، فقال في ذلك سالم بن عمرو:
قل للإمام الذي جاءت خلافته ... يهدى إليه بحق يخر مردود
نعم القرين على التقوى أعنت به ... أخوك في الله يعقوب بن داود
فلم يكن ينفذ شيء من الكتب للمهدي حتى يرد كتاب من يعقوب، الى أن تكلم فيه الواشون والعذال، واكثر فيه الأعداء المقال، وذكروا خروجه على المنصور مع إبراهيم بن عبد الله، فوجد المهدي عليه، فأراد أن يمتحنه في ميله إلى العلوية، فقال له: هذا البستان، وأشار إلى بستان فيه صنوف من الأشجار، وهذه الجارية، وأشار إلى جارية عنده، لك وأمرت لك بمائة ألف درهم، ولي إليك حاجة أحب أن تضمن لي بقضائها. فقال: السمع والطاعة، فقال: والله؟ قال: والله ئلاث مرات. فقال له: ضع يدك على رأسي واحلف به، ففعل ذلك، فلما استوثقه قال له: هذا فلان ابن فلان رجل من العلوية أحب أن تكفيني مؤنته، وتريحني منه، يعني نقتله، فأمره بتحويل الجارية وما في المجلس من الأثاث والمال المذكور، فاشتد سروره بالجارية، وجعل فلان العلوي عنده في مجلس، فقال له العلوي ويحك يا يعقوب، تلقى الله بدم رجل من ولد فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له يعقوب: خذ هذا المال، وخذ أي طريق شئت، فقال: طريق كذا آمن لي، فقال: امض مصاحباً بالسلامة، او كما قال، فسمعت الجارية الكلام كله، ووجهت مع بعض خدمها إلى الخليفة تعلمه بذلك، وقالت: هذا جزاء من آثرته بي على نفسك، فوجه المهدي في تلك الطريق من لحق العلوي، فرده إليه ومعه المال، وجعله في مجلس، ووجه إلى يعقوب، فلما حضر قال له: ما فعل الرجل؟ قال أراح الله منه أمير المؤمنين، قال: مات؟ قال: نعم، فحلفه على ذلك. فحلف وأقسم برأسه، فقال: يا غلام آخرء إلينا من في(1/322)
هذا البيت، ففتح بابه عن العلوي والمال بعينه، فبقي يعقوب متحيراً لا يدري ما يقول، فقال له المهدي: لقد حل دمك ولو آثرت إراقته لأرقته، ولكن احبسوه في المطبق، فحبسوه، وأمر بأن يطوى خبره عن كل واحد، فأقام فيه سنتين وشهوراً في أيام المهدي والهادي وخمس سنين في أيام الرشيد، ثم شفع فيه يحيى بن خالد البرمكي، فأمر هارون بإخراجه، فخرج وقد ذهب بصرة، فأحسن إليه الرشيد ورد ماله، وخيرة المقام حيث يريد، فاختارمكة، فأذن له في ذلك، فأقام بها حتى مات، رحمه الله تعالى. وفي رواية عن أبيه قال: اخبرني أبي أن المهدي حبسه في بير، وبنى عليه قبة مكث فيها خمس عشرة سنة، وكان يدلي إليه كل يوم برغيف وكوز ماء، ويؤذن بأوقات الصلوات، قال فلما كان في رأس ثلاث عشرة أتاني آت في منامي فقال:
حنا على يوسف رب فأخرجه ... من قعر جب وبيت حوله غمم
قال فحمدت الله تعالى، وقلت أتاني الفرج، ثم مكثت حولاً لا أدري شيئاً فلما كان في رأس الحول الثاني أتاني ذلك الآتي فأنشدني:
عسى فرج يأتي به الله إنه ... له كل يوم في خليقته أمر
قال ثم مكثت حولاً آخر ثم أتاني ذلك فقال:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب
فيأمن خائف ويفك عان ... ويأتي أهله النائي والغريب
قال: فلما أصبحت نوديت، فظننت أن أوذن بالصلاة، فدلي لي حبل وقيل لي: اشدد به وسطك، ففعلت فأخرجوني، فلما قابلت الضوء غشي بصري، فانطلقوا بي، فأدخلت على الرشيد، فقيل لي: سلم على أمير المؤمنين، فقلت السلام على أمير المؤمنين المهدي ورحمة الله تعالى وبركاته، فقال لست به، فقلت السلام على أمير المؤمنين الهادي، فقال: لست به، فقلت: السلام على أمير المؤمنين الرشيد، فقال: يا يعقوب بن داود، والله ما شفع فيك إلي أحد، غير أني حملت الليلة صبيةً لي على عنقي، فذكرت حملك إياي على عنقك، فوثبت لك من المحل الذي كنت فيه، فأخرجتك، وكان يعقوب يحمل الرشيد وهو صغير.
سنة ثمان وثمانين ومائة
فيها توفي محدث الري الحافظ أبو عبد الله جرير بن عبد الحميد الضبي، وفيها على(1/323)
الصحيح توفي الإمام أبو عمرو عيسى بن يونس بن أبي إسحاى السبيعي. وفيها أو في السنة الماضية توفي مرحوم بن عبد العزيز العطار بالبصرة، وكان محدثاً عابداً صالحاً. وفيها توفي أبو إسحاق إبراهيم بن ماهان التميمي مولاهم المعروف بالنديم الموصلي، ولم يكن من الموصل وإنما سافر إليها وأقام بها مدة، وهو من بيت كبير في العجم، وأول خليفة سمعه المهدي بن منصور، ولم يكن في زمانه مثله في الغناء واختراع الألحان. وحكي أن هارون الرشيد كان يهوى جارية هوى شديداً، فتغاضبا مرة ودام بينهما الغضب، فقال جعفر البرمكي للعباس بن الأحنف: احب أن تعمل في ذلك شيئاً فعمل:
راجع أحبتك الذين هجرتهم ... إن المتيم قل ما يتجنب
إن التجنب إن تطاول منكما ... رب السلو له فعز المطلب
وأمر إبراهيم الموصلي يغني به الرشيد، فلما سمعه بادر فترضاها، فسألت عن السبب فأخبرت بذلك، فأمرت لكل واحد من العباس بن الأحنف وإبراهيم بعشرة آلاف درهم، وسألت الرشيد أن يكافيهما، فأمر لهما بأربعين ألف درهم، وتوفي إبراهيم المذكور في السنة المذكورة بالقولنج وقيل في سنة ثلاث عشرة ومائتين، والأول أصح.
سنة تسع وثمانين ومائة
فيها الفداء الذي لم يسمع بمثله، حتى لم يبق في أيدي الروم مسلم إلا فودي به، وفيها توفي شيخ القراءات والنحو الإمام أبو الحسن علي بن حمزة الأسدي مولاهم الكوفي المعروف بالكسائي، احد القراء السبعة، كان إماماً في النحو واللغة والقراءات، ولم يكن له في الشعر يد حتى قيل: ليس من علماء العربية أجهل بالشعر من الكسائي، وكان يؤدب الأمين بن هارون الرشيد ويعلمه الأدب، وقيل والرشيد أيضاً، ولم يكن له زوجة ولا جارية فكتب إلى الرشيد يشكو العزبة في هنه الأبيات:
قل للخليفة ما تقول لمن ... أمسى إليك بحرمة بذلي؟
ما زلت مذ صار الأمير معي ... عبدي يدي، ومطيتي رجلي
وعلى فراشي من ينبهي ... من نومة، وقيامه قبلي(1/324)
أسعى برجل منه بالية ... موقودة مني بلا رجل
وإذ ركبت أكون مرتدفاً ... قد أم سرجي راكب مثلي
فامنن علي بما يسكنه ... عني وأهدي الغمد للنصل
فأمر له الرشيد بعشرة آلاف درهم وجارية حسناء بجميع آلاتها، وخادم وبرذون بجميع آلاته. واجتمع يوماً بمحمد بن الحسن الفقيه الحنفي في مجلس الرشيد، فقال الكسائي من يتجر في علم يهدي إليه جميع العلوم، فقال له محمد: ما تقول فيمن سها في سجود السهو؟ هل يسجد مرة أخرى؟ قال الكسائي: لا قال: لم ذا؟ قال: لأن النحاة تقول المصغر لايصغر.
وذكر الخطيب في تاريخ بغداد أن هذه القضية جرت بين محمد بن الحسن المذكو والفراء، وهما ابنا خالة، قال ابن خلكان: وجدت هذه الحكاية على القول الأول في عدة مواضع، والله أعلم بالصواب. رجعنا إلى بقية الحكاية، فقال محمد: فما تقول في تعليق الطلاق أيصح؟ قال: لا يصح قلت يعني لا يصح وقوعه؟ قبل وجود الصفة المعلق عليها؟ قال: لم قال: لأن السيل لا يسبق المطر، وله مع سيبويه وأبي محمد اليزيدي مجالس ومناظرات وسيأتي ذكر بعضها في تراجم أربابها إن شاء الله تعالى. روى الكسائي عن أبي بكر بن عياش وحمزة الزيات وابن عيينة وغيرهم، وروى عن الفراء وأبو عبيد القاسم بن سلام وغيرهما، وتوفي بالري، وكان قد خرج إليها بصحبة هارون الرشيد، وقال السمعاني: وفي ذلك اليوم توفي محمد بن الحسن بالري أيضاً بزيتونة، قرية من قرى الري كذا قال ابن الجوزي في شذور العقود، وقيل إن الكسائي مات بطوس والله أعلم، ويقال إن الرشيد كان يقول: دفنت العربية والفقه بالري. قلت وقد تقدم قول الشافعي: من أراد أن يتبحر في النحو فهو عيال على الكسائي، وإنما قيل له الكسائي لأنه دخل الكوفة وجاء إلى حمزة بن حبيب الزيات، وهو ملتف بكساء، فقال حمزة: من يقرأ؟ فقيل له: صاحب الكساء، فبقي عليه هذا اللقب. وقيل بل أحرم في كساء فنسب إليه، رحمه الله تعلى. وفيها توفى قاضي القضاة وفقيه العصر محمد بن الحسن الكوفي منشأ الشيباني، مولى(1/325)
أصله من قرية على باب دمشق فقدم أبوه من الشام إلى العراق وأقام بواسط، فولد محمد ونشأ بالكوفة، قال الشافعي لو أشاء أن أقول نزل القرآن بلغة محمد بن الحسن لقلت، لفصاحته. وقال أيضاً ما رأيت أحداً يسأل عن مسألة فيها نظر إلا تبينت في وجهه الكراهة إلا محمد بن الحسن. وقال غيره: لقي جماعة من أعلام الأئمة، وحضر مجلس أبي حنيفة سنتين، ثم تفقه على أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، وصنف الكتب الكبيرة النادرة، ومنها الجامع الكبير والجامع الصغير وغيرهما، وله في مصنفاته المسائل المشكلة خصوصاً المتعلقة بالعربية ونشر علم أبي حنيفة، وكان أفصح الناس، اذا تكلم خيل إلى سامعه أن القرآن نزل بلغته، ولما دخل الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه بغداد كان بها، وجرى بينهما مجالس ومسائل فظهر علو شأن الشافعي وبراعته في العلوم. وقد ذكرت شيئاً من ذلك في مختصر مناقب الإمام الشافعي، وروي عن الشافعي أنه قال: ما رأيت سميناً ذكياً إلا محمد بن الحسن. وحكى محمد بن الحسن أنه أتى أبو حنيفة بامرأة ماتت وفي جوفها ولد يتحرك، فأمرهم فشقوا جوفها واستخرجوا الولد، وكان غلاماً فعاش حتى طلب العلم، وكان يتردد إلى مجلس محمد بن الحسن رحمه الله، وسمي ابن أبي حنيفة. قلت وقد حكيت هذه الحكاية على غير هذا الوجه، فقيل إن الإمام الشافعي هو الذي أفتى بشق بطن أمه واخراج الولد، وكان بعض العلماء قد أفتى بالدفن مع الحمل، فنشأ الولد وتسلم العلم فسأل عن الذي كان قد أفتى بدفنه مع أمه فقال الإمام الشافعي هذا الذي أفتيت بقتله، والله أعلم أي ذلك كان ويحتمل أن تكونا قضيتين. قال محمد بن الحسن خلف أبي ثلاثين ألف درهم فأنفقت نصفها على النحو والشعر وأنفقت الباقي على الفقه ولما توفي هو والكسائي قال الرشيد دفنا الفقه والنحو بالري كما تقدم، ومحمد بن الحسن هو ابن خالة الفراء صاحب النحو واللغة.
سنة تسعين ومائة
فيها فتح هرقلة واستعد الرشيد وأمعن في بلاد الروم، ودخلها في مائة ألف وبضع وثلاثين ألف سوى المجاهدين تطوعاً، وبث جيوشه تغير وتغنم وتخرب، فلما فتح هرقلة(1/326)
أخذها وسبى أهلها، وكان مقامه عليها شهراً وبلغ السبي من قبرس سته عشر الفاً، وكان فيهم اسقف قبرس، فنودي عليه فبلغ ألفي دينار وبعث تقفور جزية عن رأسه وامرأته وخواصه، وكان ذلك خمسين ألف دينار، واشترط عليه الرشيد أن لايعمر هرقلة، وأن يحمل في العام ثلاث مائة ألف دينار، وكتب تقفور إليه أما بعد فلي إليك حاجة أن تهب لابني جارية من سبي هرقلة كنت خطبتها له فاستعفني بها فأحضر الرشيد الجارية فزينت، وأرسل معها سرداقاً وتحفاً فأعطى تقفور للرسول خمسين ألفاً وثلاث مائة ثوب وبراذين وبزاة. وفيها توفي أبو عبيدة الحداد البصري. وعبيدة بن حميد الكوفي الحذاء الحافظ، وكان صاحب قرآن وحديث ونحو، ادب الأمين بعد الكسائي. وفيها توفي حميد بن عبد الرحمن الرواسي الكوفي، ويحيى بن خالد البرمكي توفي في سجن الرشيد، وبرمك من مجوس بلخ ولا يعلم هل أسلم أم لا قلت: ولأجل كون أصلهم مجوسياً أتهم الرشيد جعفر على ما حكي أنه استشاره في هدم إيوان كسرى، فأشارعليه بترك ذلك، فما طاب ذلك على هارون، وظن أنه أراد بها مشرف آثار المجوس، وربما قيل إنه شافهه بذلك مبكتاً له، فقال له: اهدموا فلم شرعوا في هدمه صعب الهدم، وتعسر لقوة أحكام بنائه، فاستشاره ثانياً في ترك الهدم، فأشار عليه بأن لا يترك ما شرع فيه من الهدم، فقال له: سبحان الله، اشرت أولاً بترك الهدم وأشرت ثانياً بالهدم، فقال ما معناه: اني إنما أشرت بترك الهدم ليعرف شرف الإسلام وعلوه وقوة تأييده كل من رأى تلك الآثار التي ظهر عليها الإسلام وأذل أهلها وأزال ملكهم الذي زواله لا يرام وعزة لا يضام، فلما لم تقبل مشورتي وشرعتم في هدمه واستشرتني في ترك ذلك، اشرت عليك بعدم الترك لئلا يدل ذلك على ضعف الإسلام، ويقال: عجز المسلمون عن هدم ما بناه المخالفون لدينهم، فعند ذلك عرف صواب رأيه وغزارة عقله، وقد كان غرم على هدم قطعة يسيرة أموالاً كثيرة. رجعنا إلى ذكر أولاد برمك: وساد ابنه خالد، وتقدم في الدولة العباسية، وتولى الوزارة لأبي العباس السفاح، وقال أبو الحسن المسعوعي في كتاب مروج الذهب: لم يبلغ مبلغ خالد بن برمك أحد من ولده في جوده ورأيه وبأسه وعلمه وجميع حاله، لا يحيى في رأيه ووفور عقله، ولا الفضل بن يحيى في جوده ونزاهته، ولا جعفر في كتابته وفصاحة لسانه، ولا محمد بن يحيى في شرفه وبعد همته، ولا موسى في شجاعته وبأسه.(1/327)
ولما بعث أبو مسلم الخراساني قحطبة بن شبيب الطائي لمحاربة يزيد بن هبيرة الفزاري عامل مروان بن محمد على العراقين، وكان خالد بن برمك في جملة من كان معه، فنزلوا في طريقهم بقربة بينما هم على سطح بعض دورها يتغدون، اذ نظروا إلى الصحراء وقد أقبلت منها أقاطيع الوحوش من الظباء وغيرها حتى كادت تخالط العسكر، فقال خالد لقحطبة: ايها الأمير ناد في الناس ومرهم يسرجوا ويلجموا قبل أن يهجم عليهم الخيل، فقام قحطبة مذعوراً فلم ير شيئاً يروعه، فقال: يا خالد ما هذا الرأي؟ فقال: قد نهز إليك العدو أما ترى أقاطيع الوحش قد أقبلت إن وراءها لجمعاً كثيفاً، فما ركبوا حتى رأوا الغبار، ولولا خالد لهلكوا، وأما يحيى فإنه كان من النبل والعقل وجميل الخلال على أكمل حال، وكان المهدي قد ضم إليه ولده هارون الرشيد وجعله في حجره، فلما استخلف هارون عرف له حقه، وقال له: يا أبت أجلستني في هذا المجلس وببركتك ويمنك وحسن تدبيرك وقد قلدتك الأمر، ودفع له خاتمه، وفي ذلك يقول المولى الموصلي:
ألم تر أن الشمس كانت سقيمة ... فلما ولي هارون أشرق نورها
بيمن أمين الله هارون ذي الندا ... فهارون واليها ويحيى وزيرها
وكان يعظمه إذا ذكره، ويجعل إصدار الأمور وإيرادها إليه، الى أن نكب البرامكة، فغضب عليه وخلده في الحبس إلى أن مات فيه، وقتل ابنه جعفر حسب ما تقدم شرحه في ترجمته، وكان من العقلاء الكرماء البلغاء. ومن كلامه ثلاثة أشياء تدل على عقول أربابها: الهدية والكتاب والرسول، وكان يقول لولده: اكتبوا أحسن ما تسمعون، واحفظوا أحسن ما تكتبون، وتحدثوا بأحسن ما تحفظون. وقال الفضل بن مروان: سمعت يحيى بن خالد يقول من لم أحسن إليه فأنا مخير
فيه، ومن أحسنت إليه فأنا مرتهن له. وقال القاضي يحيى بن أكثم: سمعت المأمون يقول: لم يكن ليحيى بن خالد ولولده أحد كفؤاً في الكتابة والبلاغة والجود والشجاعة، ولقد صدق القائل حيث يقول:
أولاد يحيى أربع كأربع الطبائع ... فيهم إذا اختبرتهم طبائع الصنائع
قال القاضي: فقلت له يا أمير المؤمنين، اما الكتابة والبلاغة والسماحة فتعرفها بقي الشجاعة، فقال: في موسى بن يحيى، ولقد رأيت أن أوليه ثغر السند. وحكى إسحاق النديم، قال كانت صلاة يحيى بن خالد إذا ركب لمن تعرض له مائتي(1/328)
درهم، فركب ذات يوم فتعرض له شاعر وأنشد:
باسمي الحضور يحيى أبيحت ... لك من فضل ربنا جنتان
كل من مر في الطريق عليكم ... فله من نوالكم مائتان
مائتا درهم لمثلي قليل ... هي منكم للقابس العجلان
قال له يحيى: صدقت، وأمر بحمله إلى داره، فلما رجع من دار الخليفة سأله عن حاله، فذكر أنه قد تزوج، وقد أخذ بواحدة من ثلاث: اما أن يؤدي المهر وهو أربعة آلاف، وإما أن يطلق، وإما أن يقيم للمرأة منزلاً وخادماً وما يكفيها إلى أن يتهيأ له نقلها، فأمر له يحيى بأربعة آلاف للمهر وأربعة آلاف لثمن منزل وأربعة آلاف للكفاية وأربعة آلاف للخدمة وما يتعلق بها، او كما قال وأربعة آلاف يستظهر بها، فانصرف بعشرين ألفاً. وذكر الخطيب في تاريخ بغداد في ترجمة أبي عبد الله محمد بن عمر الواقدي أنه قال: كنت خياطاً بالمدينة في يدي مائة ألف درهم للناس أضارب بها، فتلفت الدراهم، فشخصت إلى العراق، فقصدت يحيى بن خالد، فجلست في دهليزه وأنست الخدم والحجاب وسألتهم أن يوصلوني إليه، فقالوا: اذا قدم الطعام إليه لم يحجب عنه أحداً، ونحن ندخلك إليه ذلك الوقت، فلما حضر طعامه أدخلوني فأجلسوني معه على المائدة فسألني من أنت وما قصتك؟ فأخبرته، فلما رفع الطعام غسلنا أيدينا دنوت منه لأقبل رأسه فاشمأز من ذلك، فلما صرت إلى الموضع الذي نزلت فيه لحقني خادم معه كيس فيه ألف دينار، وقال: الوزير يقرأ عليك السلام ويقول لك: استعن بهذا على أمرك وعد إلينا من الغد، فأخذته وعدت إليه في اليوم الثاني فجلست معه على المائدة، فأنشأ يسألني كما سألني في اليوم الأول، فلما رفعوا الطعام دنوت منه لأقبل رأسه فاشمأز مني، فلما صرت إلى الموضع الذي نزلت فيه لحقني خادم معه كيس فيه ألف دينار، فقال له: كما قال في الأول ثم عاد إليه في اليوم الثالث، ثم كذلك إلى اليوم الرابع كل يوم يعطيه كيساً فيه ألف دينار، ثم بعد إعطاء الأربعة الأكياس مكنه من تقبيل رأسه وقال له: انما منعتك ذلك قبل هذا لأنه لم يكن وصل إليك من معروفي ما يقتضي هذا، والآن قد لحقك بعض النفع مني يا غلام أعطه الدار الفلانية يا غلام افرشه الفراش الفلاني يا غلام أعطه مائتي ألف درهم، يقضي دينة بمائة ألف، ويصلح شأنه بمائة ألف، ثم قال الزمني فكن في داري فقلت: اعز الله الوزير لو أذنت لي بالشخوص إلى المدينة لأقضي الناس أموالهم ثم أعود إلى حضرتك كان ذلك أرفق بي، قال: قد فعلت وأمر بتجهيزي فشخصت إلى المدينة وقضيت ديني ثم رجعت إليه فلم أزل في ناحيته.(1/329)
ودخل عليه يوماً أبو قابوس الحميري فأنشده:
رأيت يحيى، اتم الله نعمته ... عليه يأتي الذي لم يأته أحد
ينسى الذي كان من معروفه ... أبداً إلى الرجال ولا ينسى الذي بعدا
ولمسلم بن الوليد الأنصاري:
أجدك هل تدرين أن رب ليلة ... كأن دجاها من قرونك ينشر
صبرت لها حتى تجلت بغرة ... كغرة يحيى حين يذكر جعفر
فقضى حوائجه ووصله بجملة من المال. قلت رفي جوده وجود عقبة ينشد هذان البيتان.
سألت الندى والجود حران أنتما ... فقالا كلانا عبد يحيى بن خالد
فقلت شرى ذلك الملك قال لا ... ولكن ورثنا والداً بعد والد
قلت هكذا قسم الكرم إلى الندى والجود والمعروف إنهما شيء واحد قال في الصحاح: والندى الجود وكان يحيى يقول إذا أقبلت الدنيا فأنفق فإنها لا تفنى، وإذا أدبرت فأنفق فإنها لا تبقى، وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
ولا الجود يفني المال والجد مقبل ... ولا البخل يبقي المال والعبد مدبر
ونادى إسحاق بن إبراهيم الموصلي أحد غلمانه فلم يجبه، فقال: سمعت يحيى بن خالد يقول: يدل على حلم الرجل سوء أدب كلمانه، وكان يحيى يساير الرشيد يوماً، فوقف له رجل، فقال: يا أمير المؤمنين، عطبت دابتي، فقال الرشيد: يعطي خمس مائة درهم، فغمزه يحيى، فلما نزلوا قال له الرشيد: يا أبة أومأت إلي بشيء فلم أعرفه، فقال: مثلك لا يجري هذا القدر على لسانه إنما يذكر مثلك خمسة آلاف عشرة آلاف، فقال: فإذا سأل مثل هذا كيف أقول؟ قال: تقول تشترى له دابة وأخبارهم كثيرة ومكارمهم شهيرة، فلنقتصر على هذا المقدار رغبة في الاختصار. ولم يزل يحيى في الحبس إلى أن مات كما تقدم، ودفن في شاطىء الفرات، فوجدت في جنبه رقعة فيها مكتوب بخطه: قد تقدم الخصم والمدعى عليه في الأثر والقاضي هو الحكم العدل الذي لا يجوز فلا يحتاج إلى بينة، وحملت الرقعة إلى الرشيد فلم يزل يبكي يومه كله، وبقي أياماً يتبين الأسى في وجهه.(1/330)
سنة إحدى وتسعين ومائة
فيها توفي محمد بن الحسين الأزدي المهلبي البصري، وكان من عقلاء زمانه وصلحائه، ومعمر بن سليمان الرقي، وكان من أجلاء المحدثين ومحمد بن سلمة الحراني الفقيه محدث حران ومغنيها، وفيها توفي أبو أيوب مطرف بن مازن الكناني بالولاء، وقيل القيسي بالولاء اليماني الصنعاني ولي القضاء بصنعاء اليمن. وحدث عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج وجماعة كثيرة، وروى عنه الإمام الشافعي وخلق كثير، وطعن في روايته خلق كثير من المحدثين، وقال بعضهم: كان رجلاً صالحاً.
سنة اثنتين وتسعين ومائة
وفيها أول ظهور الخرمية، ثاروا بجبال آذربيجان، فغزاهم حازم بن خزيمة، فقتل وسبى. وفيها توفي الإمام الكبير أبو محمد عبد الله بن ادريس الأزدي الكوفي الحافظ العابد. وفيها توفي مفتي الأندلس وخطيب قرطبة، صعصعة بن سلام الدمشقي، اخذ عن الأوزاعي والكبار. وفيها توفي الأمير الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي، مات في السجن وقيل في السنة التي تليها، وقد ولي أعمالاً جليلة، وكان أندى كفاً من أخيه جعفر، وله أخبار في السخاء المفرط حتى أنه وصل مرة بعض أشراف العرب بخمسين ألف دينار، وكان جعفر أبلغ في الرسائل والكتابة منه، وكان هارون الرشيد قد ولاه الوزارة قبل جعفر فأراد أن ينقلها إلى جعفر فقال لأبيهما يحيى: يا أبة وكان يدعوه كذلك، اني أريد أن أجعل الخاتم الذي لأخي الفضل لجعفر، وكان يدعو الفضل بأخي فإنهما متقاربان في المولد وكانت أم الفضل قد أرضعت الرشيد واسمها زبيدة من مولدات المدينة، قال وقد احتشمت من الكتاب إليه في ذلك فاكتب أنت إليه فكتب والده إليه قد أمر أمير المؤمنين بتحويل الخاتم من يمينك إلى شمالك فكتب إليه الفضل: سمعت مقالة أمير المؤمنين في أخي، وأطعت وما انتقلت عني عن نعمة صارت إليه، ولا غربت عنى، وقال شمس رتبة طلعت عليه فقال جعفر لله أخي،(1/331)
ما أنفس نفسه وأبين دلائل الفضل عليه وأقوى العقل منه وأوسع في البلاغة درعه، وكان الرشيد قد ولاه خراسان، فأقام بها مدة، فوصل كتاب صاحب البريد بخراسان ويحيى جالس بين يديه، ومضمون الكتاب أن الفضل بن يحيى متشاغل بالصيد وإدمان اللذات عن النظر في أمور الرعية، فلما قرأه الرشيد رمى به إلى يحيى، وقال له: يا أبة اقرأ هذا الكتاب، واكتب إليه ما يردعه عن هذا، فكتب يحيى على ظاهر كتاب صاحب البريد: حفظك الله يا بني وأمنع بك، قد انتهى إلى أمير المؤمنين ما أنت عليه من التشاغل بالصيد ومداومة اللذات عن النظر في أمور الرعية ما أنكره، فعاود ما هو أزين بك، فإن من عاد إلى ما يزينه أو يشينه لم يعرفه أهل دهره إلا به والسلام. وكتب في أسفله أبياتاً مضمونها التحريض على التستر في الليل بما لا ينبغي إظهاره، والظهور بالنهار بما ينبغي اشتهاره، كرهت ذكرها في هذا الكتاب، فحذفتها، لتضمنها التحريض على التستر بالذات، وإيهام التنسك مع إخفاء تناول الشهوات المحرمات، وكان الرشيد ينظر إلى ما يكتب، فلما فرغ قال: ابلغت يا أبة، فلما ورد الكتاب على الفضل لم يفارق المسجد نهاراً إلى أن ينصرف عن عمله، وقيل له ما أحسن كرمك لولايته فيك فقال: تعلمت الكرم والتيه من عمارة بن حمزة، فقيل له: وكيف ذلك؟ فقال: كان أبي عاملاً على بعض بلاد فارس فانكسرت عليه جملة مستكثرة، فحمل إلى بغداد وطولب بالمال، فدفع جميع ما يملكه، وبقيت عليه ثلاثة آلاف درهم لا يعرف لها وجهاً، والطلب عليه حثيث، فبقي حائراً في أمره، وكانت بينه وبين عمارة بن حمزة منافرة ومواحشة لكنه علم أنه لا يقدر على مساعدته إلا هو، فقال لي يوماً وأنا صبي امض إلى عمارة وسلم عليه عني، وعرفه الضرورة التي صرنا إليها، واطلب منه هذا المبلغ على سبيل القرضة إلى أن يسهل الله سبحانه وتعالى، فقلت له أنت تعلم ما بينكما، وكيف أمضي إلى عدوك بهذه الرسالة؟ وأنا أعلم أنه لو قدر على إتلافك لأتلفك، فقال: لا بد أن تمضي إليه، لعل الله يسخره ويوقع في قلبه الرحمة، قال الفضل: فلم يمكني معاودته وخرجت وأنا أقدم رجلاً وأؤخر أخرى حتى أتيت داره، واستأذنت عليه في الدخول فأذن لي، فلما دخلت وجدته على صدر إيوانه متكئاً على مفارش وثيرة، وقد غلف شعر رأسه ولحيته بالمسك، ووجهه إلى الحائط، وكان من شدة بهته لا يقعد إلا كذلك، قال الفضل: فوقفت أسفل الإيوان وسلمت عليه فلم يرد السلام، فسلمت عليه عن أبي وقصصت عليه القصة فسكت ساعة، ثم قال: حتى ننظر، فخرجت من عنده نادماً على نقل خطواتي إليه. موقناً بالحرمان عاتباً على أبي كونه كلفني إذلال نفسه ونفسي بما لا فائدة فيه، وعزمت على أن لا أعود إليه غيظاً منه، فغبت عنه ساعة، ثم جئته وقد سكن ما عندي، فلما وصلت إلى الباب وجدت بغالاً محملة، فقلت: ما هذه؟ فقيل إن عمارة قد سير المال فدخلت على أبي(1/332)
ولم أخبره بشيء مما جرى لي معه كي لا أكدر عليه إحسانه، فمكثنا قليلاً، وعاد أبي إلى الولاية وحصلت له أموال كثيرة فدفع لي ذلك المبلغ وقال تحمله إليه، فجئت به ودخلت عليه فوجدته على الهيئة الأولى فأسلمت عليه فلم يرد، وسلمت
عليه عن أبي وشكرت إحسانه وعرفته بوصول المال، فقال لي: ويحك أقسطاراً كنت لأبيك؟ يعني صيرفياً له اخرج عني لا بارك الله فيك. فخرجت ورددت المال إلى أبي وعجبنا من حاله فقال لي يا بني والله ما تسمح نفسي لك بذلك، ولكن خذ ألف ألف درهم واترك لأبيك ألفي ألف درهم قال: فتعلمت منه الكرم والتيه، وعمارة المذكور من أولاد عكرمة مولى ابن عباس، قال: وكان كاتب أبي جعفر المنصور ومولاه، وكان بهياً كريماً بليغاً فصيحاً، وكان المنصور وولده المهدي يقدمانه ويحتملان أخلاقه لفضله وبلاغته ووجوب حقه، وولي لهما الأعمال الكبار، وله رسائل مجموعة. ويحكى أن الفضل دخل عليه حاجبه يوماً، فقال: ان بالباب رجلاً زعم أن له سبباً يمن به إليك، فقال: ادخله، فأدخله فإذا هو شاب حسن الوجه رث الهيئة، فسفم، فأومى إليه بالجلوس فجلس، فقال له بعد ساعة: ما حاجتك؟ قال: اعلمتك بها رثاثة ملبسي، قال: نعم فما الذي يمن به؟ قال ولادة بقرب من ولادتك، وجوار يدنو من جوارك، واسم مشتق من اسمك، قال الفضل: اما الجوار فقد يمكن وقد يوافق الاسم الاسم ولكن من أعلمك بالولادة؟ قال: اخبرتني أمي أنها لما ولدتني قيل لها: ولد هذه الليلة ليحيى بن خالد غلام، وسمي الفضل فسمتني أمي فضيلاً إكباراً لاسمك أن يلحقني به، وصغرته لقصور قدري عن قدرك، فتبسم الفضل وقال: كم أتى عليك من السنين؟ قال: خمس وثلاثون سنة، قال: صدقت هذا المقدار الذي أعد، قال: فما فعلت أمك؟ قال: ماتت قال فما منعك من اللحاق بنا متقدماً؟ قال: لم أرض نفسي للقائك لأنها كانت في عامية معها حداثة تقعدني عن لقاء الملوك، وعلق هذا بقلبي منذ أعوام فشغلت نفسي بما يصلح للقائك حتى رضيت نفسي، قال: فما يصلح له؟ قال: الكبير من الأمر والصغير، قال يا غلام: اعطه لكل عام مضى من سنيه ألف درهم، وأعطه عشرة آلاف درهم يحمل بها نفسه إلى وقت استعماله، وأعطه مركوباً سرياً. قلت ومن المستغربات أيضاً ما حكي عن الفضل بن يحيى محمد بن يزيد الدمشقي الشاعر قال: ما شعرت في بعض الليالي إلا وإذا بقارع يقرع الباب قال: فخرجت إليه، وقلت: من؟ قال: اجب الأمير، قلت ومن الأمير؟ قال: الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك، قال: فقلت: لعلك غلطت في الرسالة، قال: الست محمد بن يزيد الدمشقي؟ قلت: بلى، قال: فإليك أرسلت، قال: فأخذت أطماراً كانت لي وخرجت أقفو أثره حتى وصل بي إلى دار فأجلسني على بابها وقال: اجلس يا محمد حتى أخرج إليك. قال: فما لبثت إلا يسيراً حتى خرج وقال: ادخل يا محمد فدخلت وطلعت فإذا أنا بمكان واسع وفوقه مرتبة وجمع كثير فيهم يحيى بن خالد والفضل وجعفر وسائر أهل الدولة. قال: فأخرج مولود من باب عن يمين الفضل، وكانت ليلة سابعة ولا علم لي به، فأقبلوا يقرؤون ومجامر الندى تختلف بينهم، والشماع المعنبرة تضيء بأيدي الخدم، فلما فرغوا من ختمتهم قام الشعراء، كل يهنيه بطلعته ويبشره برؤيته، فنثرت عليهم الدنانير مطيبة بالمسك، فما بقي أحد إلا أخذ في كمه، وأخذت معهم، وخرج الناس والشعراء، وخرجت معهم، فلحقني خادمان، وقالا: ارجع يا محمد، فرجعت فلقيت الفضل وهو جالس مع ابنه أو قال مع أبيه بالمثناة من تحت بعد الموحدة، فقال: يا محمد قد سمعت ما كان من هذه الليلة والله ما أعجبني من أشعارهم لا قليل ولا كثير، وقد أحببت أن تسمعني في المولود شيئاً، قال فقلت: يا سيدي هيبتك تمنعني من قول الشعر وغيره، قال: لا بد لك ولو بيتاً واحداً فقليلك كثير، فأطرقت ساعة، ثم قلت: يا سيدي، حضرني بيتان، قال: هاتهما فأنشأت أقول: هـ عن أبي وشكرت إحسانه وعرفته بوصول المال، فقال لي: ويحك أقسطاراً كنت لأبيك؟ يعني صيرفياً له اخرج عني لا بارك الله فيك. فخرجت ورددت المال إلى أبي وعجبنا من حاله فقال لي يا بني والله ما تسمح نفسي لك بذلك، ولكن خذ ألف ألف درهم واترك لأبيك ألفي ألف درهم قال: فتعلمت منه الكرم والتيه، وعمارة المذكور من أولاد عكرمة مولى ابن عباس، قال: وكان كاتب أبي جعفر المنصور ومولاه، وكان بهياً كريماً بليغاً فصيحاً، وكان المنصور وولده المهدي يقدمانه ويحتملان أخلاقه لفضله وبلاغته ووجوب حقه، وولي لهما الأعمال الكبار، وله رسائل مجموعة. ويحكى أن الفضل دخل عليه حاجبه يوماً، فقال: ان بالباب رجلاً زعم أن له سبباً يمن به إليك، فقال: ادخله، فأدخله فإذا هو شاب حسن الوجه رث الهيئة، فسفم، فأومى إليه بالجلوس فجلس، فقال له بعد ساعة: ما حاجتك؟ قال: اعلمتك بها رثاثة ملبسي، قال: نعم فما الذي يمن به؟ قال ولادة بقرب من ولادتك، وجوار يدنو من جوارك، واسم مشتق من اسمك، قال الفضل: اما الجوار فقد يمكن وقد يوافق الاسم الاسم ولكن من أعلمك بالولادة؟ قال: اخبرتني أمي أنها لما ولدتني قيل لها: ولد هذه الليلة ليحيى بن خالد غلام، وسمي الفضل فسمتني أمي فضيلاً إكباراً لاسمك أن يلحقني به، وصغرته لقصور قدري عن قدرك، فتبسم الفضل وقال: كم أتى عليك من السنين؟ قال: خمس وثلاثون سنة، قال: صدقت هذا المقدار الذي أعد، قال: فما فعلت أمك؟ قال: ماتت قال فما منعك من اللحاق بنا متقدماً؟ قال: لم أرض نفسي للقائك لأنها كانت في عامية معها حداثة تقعدني عن لقاء الملوك، وعلق هذا بقلبي منذ أعوام فشغلت نفسي بما يصلح للقائك حتى رضيت نفسي، قال: فما يصلح له؟ قال: الكبير من الأمر والصغير، قال يا غلام: اعطه لكل عام مضى من سنيه ألف درهم، وأعطه عشرة آلاف درهم يحمل بها نفسه إلى وقت استعماله، وأعطه مركوباً سرياً. قلت ومن المستغربات أيضاً ما حكي عن الفضل بن يحيى محمد بن يزيد الدمشقي الشاعر قال: ما شعرت في بعض الليالي إلا وإذا بقارع يقرع الباب قال: فخرجت إليه، وقلت: من؟ قال: اجب الأمير، قلت ومن الأمير؟ قال: الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك، قال: فقلت: لعلك غلطت في الرسالة، قال: الست محمد بن يزيد الدمشقي؟ قلت: بلى، قال: فإليك أرسلت، قال: فأخذت أطماراً كانت لي وخرجت أقفو أثره حتى(1/333)
وصل بي إلى دار فأجلسني على بابها وقال: اجلس يا محمد حتى أخرج إليك. قال: فما لبثت إلا يسيراً حتى خرج وقال: ادخل يا محمد فدخلت وطلعت فإذا أنا بمكان واسع وفوقه مرتبة وجمع كثير فيهم يحيى بن خالد والفضل وجعفر وسائر أهل الدولة. قال: فأخرج مولود من باب عن يمين الفضل، وكانت ليلة سابعة ولا علم لي به، فأقبلوا يقرؤون ومجامر الندى تختلف بينهم، والشماع المعنبرة تضيء بأيدي الخدم، فلما فرغوا من ختمتهم قام الشعراء، كل يهنيه بطلعته ويبشره برؤيته، فنثرت عليهم الدنانير مطيبة بالمسك، فما بقي أحد إلا أخذ في كمه، وأخذت معهم، وخرج الناس والشعراء، وخرجت معهم، فلحقني خادمان، وقالا: ارجع يا محمد، فرجعت فلقيت الفضل وهو جالس مع ابنه أو قال مع أبيه بالمثناة من تحت بعد الموحدة، فقال: يا محمد قد سمعت ما كان من هذه الليلة والله ما أعجبني من أشعارهم لا قليل ولا كثير، وقد أحببت أن تسمعني في المولود شيئاً، قال فقلت: يا سيدي هيبتك تمنعني من قول الشعر وغيره، قال: لا بد لك ولو بيتاً واحداً فقليلك كثير، فأطرقت ساعة، ثم قلت: يا سيدي، حضرني بيتان، قال: هاتهما فأنشأت أقول:
ويفرح بالمولود من آل برمك ... ولا سيما إن كان من ولد الفضل
ويعرف فيه الخير عند ولادة ... ببذل الندى والجود والمجد والفضل
قال: فتهلل وجهه فرحاً وقال: ما سررت قط بمثل هذا، وأمر لي بعشرة آلاف دينار وقال: خذها يا محمد فهو أول حقك، فأخذت المال وخرجت وأنا من أشد الناس فرحاً، واشتريت به أرضاً وعقاراً وفتح الله علي وكثر مالي وعظم جاهي، فما أقمت إلا يسيراً حتى دارت على البرامكة الدائرة وكان عندي حمام بإزاء داري، فأمرت قيم الحمام أن ينظفه ولا يدخله أحد، ثم دخلت فيه وقضيت ما أحتاج إليه وأرسلت إلي قيم الحمام أطلب منه أن يرسل إلي بمن يدلكني ويغمزني، فأرسل إلي بصبي حسن الوجه فدلكني وغمزني، فلما استلقيت على قفاي ذكرت أيام البرامكة، ان جميع ما أملكه من فضل الله تعالى هو على يد الفضل وذكرت البيتين فقلت:
ويفرح بالمولود من آل برمك ... ولا سيما إن كان من ولد الفضل
ويعرف فيه الخير عند ولادة ... ببذل الندى والجود والمجد والفضل
قال فرأيت الصبي الذي كان يدلكني قد انقلبت عيناه وانتفخت أوداجه وسقط مغشياً عليه، فظننت أنه مجنون فأخذت ثيابي ومضيت إلى منزلي وأمرت إلى قيم الحمام، فلما حضر قلت: ارسلت إلي المجنون يدلكني ويغمزني الحمد لله على السلامة منه، قال والله يا سيدي ما به جنون، وإان له عندي سنا كثيرة ما رأيت منه شيئاً، فقلت: علي به الساعة، فلما حضر أنسته من نفسي حتى اطمأنت نفسه وقلت: وما ذلك العارض الذي رأيته منك؟ قال لي(1/334)
ما رأيت مني قلت رأيت منك ما استحيي من ذكره، فقال: رأيت أني جننت؟ قلت: نعم. قال فما كنت تنشد في ذلك الوقت؟ قلت: بيتين من الشعر قال: ومن قائلهما؟ قلت: أنا قال: ففي من قلتهما؟ قلت: في ولد الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك قال ومن ولد الفضل بن يحيى بن خالد؟ قلت: لا أدري قال: انا ولد الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك، وأنا صاحب ذلك السابع، وفي قلت البيتين، كنت قد سمعتهما من قبل، فلما سمعتهما منك ضاقت علي الأرض بأجمعها، ورأيت مني ما رأيت، قال فقلت له: يا ولدي أنا والله شيخ كبير ولا لي قرابة يرثني وأرثها وقد عزمت أن أحضر شاهدين وأشهدهما أن جميع ما أملكه من فضل الفضل أبيك وعلى يديك فتأخذ المال وكون أعيش في فضلك إلى أن أموت، فتغرغرت عيناه بالدموع، وقال: والله لا انثنيت عليك في هبة وهبها لك والدي، وإن كنت محتاجاً إلى ذلك. قال: فحلفت عليه أن يأخذ الكل أو البعض فكره، وكان آخر عهدي به. ومما حكي في كتاب طرف الألباب وتحف الأحباب من حكايات بعض الشعراء والأعراب أنه خرج الفضل بن يحيى البرمكي يوماً إلى الصيد ومعه الأصمعي ومحمد بن يزيد العقيلي والحسن بن هاني، فلما قضى وطره من صيده ورجع يريد مضربه اعترضه أعرابي على راحلة له، فلما رأى الأعرابي المضارب تضرب والخيام تنصب والعسكر الكثير والجم الغفير، نزل عن راحلته وتقدم حتى مشى بين يديه وقال السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال: ويلك احفظ عليك ما تقول يا أخا العرب، فقال: السلام عليك أيها الوزير، قال: ويحك دون هذا، فقال: السلام عليك أيها الأمير، قال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته الآن قاربت فاجلس، فجلس بين يديه، فلما مثل بين يديه، قال: يا أخا العرب، من أين أقبلت؟ قال: من أرض قضاعة، قال: من أدناها أو من أقصاها؟ قال: بل من أقصاها، قال الأصمعي: فالتفت إلي الفضل وقال يا أصمعي، كم بين أقصى أرض قضاعة إلى العراق؟ قال قلت: ثمان مائة فرسخ، قال يا أخا العرب مثلك من يقصد من ثمان مائة فرسخ إلى العراق فلأي شيء قصدت؟ قال: قصدت هؤلاء الأنجاد الذين صار معروفهم شائعاً في البلاد، قال: من هم؟ قال: البرامكة. فقال: يا أخا العرب إن البرامكة خلق كثير وكلهم جليل خطير ولكل منهم خاصة وعامة، فهل اخترت من قصدته لنفسك وابتديته لحاجتك؟ قال: اجل. قال: من هو؟ قال: اطر لهم باعاً واسمحهم كفاراً أظهرهم أو قال وأشهرهم كرماً. قال: من هو؟ قال: الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك. قال: يا أخا العرب، ان الفضل جليل المقدار عظيم الخطر إذا جلس للناس مجلساً عاماً لم يحضر مجلسه إلا العلماء والفقهاء والأدباء والشعراء والكتاب والمذاكرون، افعالم أنت؟ قال: لا.(1/335)
قال: فأديب أنت؟ قال: لا. قال: افعالم أنت بأخبار العرب وبأشعارها ونوادرها؟ قال: لا. قال: فوردت على الفضل بكتاب وسيلة؟ قال: لا. قال يا أخا العرب، لقد غرتك نفسك مثلك من يقصد الفضل وهو على ما عرفتك من جلاله بلا ذريعة ولا وسيلة؟ قال: والله يا أمير ما قصدته إلا لحسبه المعروف ولكرمه المألوف، وببيتين من الشعر قلتهما. قال: يا أخا العرب، اسمعني البيتين فإن كانا مما يصلح أن تلقى بهما الفضل أشرت عليك بلقائه، وإن كانا مما لا يصلح أن تلقى بهما الفضل بررتك بشيء من مالي ورجعت إلي ناديتك، ولم يخف نفسك، ولم يستخف شعرك، قال وتفعل ذلك لي أيها الأمير، قال: نعم. قال: فإني والله الذي يقول:
ألم تر أن الجود من لدن آدم ... نجود حتى صار يملكه الفضل
فلو أم طفل مسها جوع طفلها ... وغذته باسم الفضل لاستعصم الطفل
قال أحسنت والله: يا أخا العرب، قال: فإن قال لك الفضل هذان البيتان قد مدحنا بهما شاعر غيرك وأخذ الجائزة عليهما: فأنشد غيرهما ما كنت قائلاً؟ قال: اذن والله أقول يا أيها الأمير:
قد كان آدم حين حان وفاته ... أوصاك وهو يجود بالحواء
ببنيه أن ترعاهم فرعيتهم ... فكفيت آدم غيلة الأبناء
قال أحسنت والله يا أخا العرب، فإن قال لك الفضل وهذان البيتان أيضاً مسروقان ما كنت قائلاً؟ قال: اذن والله أقول أيها الأمير.
ملت جهابذ فضل دون نائله ... ومل كاتبه إحصاء ما يهب
لولاك فضل لم يمدح بمكرمة ... خلق ولم يرتفع مجد ولا حسب
قال: احسنت والله يا أخا العرب، فإن قال لك الفضل: وهذان البيتان أيضاً أخذتهما من أفواه الناس، انشدني غيرهما، وقد رمقتك الأدباء بأبصارهم، وامتدت إليك الأعناق فتحتاج أن تناضل عن نفسك، ما كنت قائلاً؟ قال: اذن والله أقول أيها الأمير:
وللفضل صولات على صلب ماله ... يرى المال فيه بالمذلة مذعنا
ولو أن رب المال أبصر جوده ... لصلى على مال الأمير وأذنا
قال: احسنت والله يا أخا العرب، فإن قال لك الفضل: وهذان البيتان أيضاً مسموعان، انشدني غيرهما، ماذا كنت قائلاً؟ قال: اذن والله أقول أيها الأمير:
ولو قيل للمعروف ناد أخا الندى ... لنادى بأعلى الصوت يا فضل يا فضل(1/336)
ولو أن ما أنفقت من رمل عالج ... لأصبح من جدواك قد نفد الرمل
قال: احسنت والله يا أخا العرب، فإن قال لك الفضل: وهذان البيتان أيضاً مقولان، انشدني غيرهما، ما كنت قائلاً؟ قال: اذن والله أقول أيها الأمير:
وما الناس إلا اثنان صب وباذل ... وإني لذاك الصب، والباذل الفضل
على أن لي مثلاً إذا ذكر الهوى ... وليس لفضل في سماحته مثل
قال: احسنت والله يا أخا العرب، فإن قال لك الفضل: وهذان البيتان أيضاً مذكوران أنشدني غيرهما، ما كنت قائلاً؟ قال: اذن والله أقول أيها الأمير:
حكى الفضل عن يحيى سماحة خالد ... فقاربه التقوى وقاربه البذل
وقام به المعروف شرقاً ومغرباً ... ولم يك للمعروف بعد ولا قبل
قال: احسنت والله يا أخا العرب، فإن قال لك الفضل ضجرنا من الفضل والفضل أنشدني بيتين على الكنية لا على الاسم، ما كنت قائلاً؟ قال: اذن والله أقول أيها الأمير.
ألا يا أبا العباس يا أوجه الورى ... ويا ملكاً جد الملوك له نمل
إليك يسير الناس شرقاً ومغرباً ... فرادى وأزواجاً كأنهم غل
قال: احسنت والله يا أخا العرب، فمان قال لك الفضل أنشدني بيتين بغير الكنية وبغير الاسم وعلى غير القافية، ما كنت قائلاً؟ قال: اذن والله أقول يا أيها الأمير:
يا جبل الله المنيف الذي ... تسعى إليه في الملمات الورى
تؤم أبوابك طلاب الغنى ... كما يؤم البيت حجاج منى
قال: احسنت والله يا أخا العرب، فإن قال لك الفضل: وهذان البيتان أيضاً مسروقان، انشدني غيرهما، ما كنت قائلاً؟ قال: والله لئن زاد امتحاني الفضل لأقولن أربعة أبيات، ما سبقني إليها عربي ولا أعجمي، ولئن زاد امتحاني لأدخلن قوائم ناقتي هذه في كذا من أم الفضل، ولأرجعن إلى قضاعة خائباً خاسراً، ولا أبالي، قال: فنكس الفضل رأسه ملياً، ثم رفعه وقال: يا أخا العرب أسمعني الأبيات، فقال:
ولائمة لامتك يا فضل في الندى ... فقلت لها هل يقدح اللوم في البحر
أرادت لتنهي الفضل عن بذل ماله ... ومن ذا الذي ينهي السحاب عن القطر
كأن نوال الناس من كل وجهة ... تحدر صوب المزن في مهمة قفر
كأن وقود الناس من كل بلدة ... إلى الفضل، لاقوا عنده ليلة القدر(1/337)
قال فخز الفضل على وجهه ضاحكاً ثم رفع رأسه وقال: يا أخا العرب، انا والله الفضل فقل ما شئت، قال: عزمت عليك يا أيها الأمير أنت الفضل؟ قال: انا الفضل قال: فأقلني على ما مضى من الكلام مني إليك، قال: اقالك الله، اذكر حاجتك، قال: عشرة آلاف دينار. قال: يا أخا العرب أزريت بنا وبنفسك لك عشرة ومثلها. قال: فحسده بعض الجلساء، وقال له: يا أمير تعطي شاعراً عشرين ألف دينار كان يقنع بالقليل عن الكثير، بالله يا أمير ألا ما ربيت عليه فإن دفع عن نفسه بيت من الشعر وإلا أخذت النصف، وكان في النصف الكفاية، قال: فسمع كلامه وأوتر القوس وركب السهم وقال يا أخا العرب ادفع عن نفسك ببيت من الشعر وإلا أخرجت هذا السهم من عينيك، فأنشأ الأعرابي يقول:
فقوسك قوس المجد والوتر الندي ... وسهمك سهم الجود فاقتل به فقري
فقال: زيدوه عشرين على العشرين. رجعنا إلى ذكر ما نزل بالبرامكة من البلاء، واستحالة تلك السراء إلى الضراء وتلك النعم إلى النقم وبهجة السرور إلى بؤس الشرور، قال أهل التاريخ: ثم إن الرشيد لما قتل جعفراً على ما تقدم في ترجمته، قبض على أبيه بيحيى وأخيه الفضل المذكور، وكانا بالرقة، فسجنهما بها، واستصغى أموال البرامكة، ويقال: ان الرشيد سير مسرور الخادم إلى السجن فجاءه وقال للموكل بهما: اخرج إلي الفضل، فأخرجه إليه، فقال له: ان أمير المؤمنين يقول لك إني قد أمرتك أن تصدقني عن أموالكم، فزعمت أنك قد فعلت وقد صح عندي أنك أبقيت لك مالاً كثيراً، وقد أمرني إن لم تطلعني على المال أن أضربك مائتي سوط، وأرى لك أن لا تؤثر مالك على نفسك، فرفع الفضل رأسه إليه وقال: والله ما كذبت فيما أخبرت به، ولو خيرت بين الخروج من ملك الدنيا وبين أن أضرب سوطاً واحداً لاخترت الخروج، وأمير المؤمنين يعلم ذلك، وأنت تعلم أنا نصون أعراضنا بأموالنا، فكيف صرنا نصون أموالنا بأنفسنا؟ فان كنت قد أمرت بشيء فامض له، فأخرج مسرور سوطاً كان معه في منديل فضربه مائتي سوط، وتولى ضربه بنفسه، فضربه أشد الضرب، وهم لا يحسبون الضرب، وكاد أن يتلفه، وكان هناك رجل بصيراً بالعلاج فطلبوه لمعالجته، فلما رآه قال: يكون قد ضربوه خمسين سوطاً، فقيل له: بل مائتي سوط، فقال: ما هذا إلا أثر خمسين لا غير، ولكن يحتاج أن ينام على ظهره على بارية وعدوس على صدره، ثم أخذ بيده فجذبه على البارية فتعلق بها من لحم ظهره شيء كثير، ثم أقبل يعالجه إلى أن نظر يوماً إلى ظهره فخر المعالج ساجداً، فقيل له: ما بالك؟ قال: قد برىء وقد نبت في ظهره لحم حي، ثم(1/338)
قال: الست قلت هذا قد ضرب خمسين سوطاً؟ فقال: اما والله لو ضرب ألف سوط ما كان أثرها بأشد من هذا، وإنما قلت هذا حتى يقوى بنفسه فيعنني على علاجه، ثم إن الفضل اقترض من بعض أصحابه عشرة آلاف درهم وسيرها إليه، فردها عليه، فاعتقد أنه استقلها، فاقترض عليها عشرة آلاف أخرى وسيرها إليه، فأبى أن يقبلها، وقال: ما كنت لآخذ على معالجة فتى من الكرام كراء، والله لو كانت عشرين ألف ديناراً ما قبلتها، فلما بلغ الفضل ذلك قال: والله إن الذي فعله هذا بلغ من الذي فعلناه في جميع أيامنا من المكارم، وكان قد بلغه أن ذلك المعالج في شدة وفاقة، وكان الفضل ينشد وهو في السجن هذه الأبيات، قيل كأنها لأبي العتاهية:
إلى الله في ما نالنا نرفع الشكوى ... ففي يده كشف المضرة والبلوى
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها ... فلا نحن في الأموات فيها ولا الأحيا
إذا جاءنا: السجان يوماً لحاجة ... عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
وكان الفضل كثير البر بأبيه، وكان أبوه يتأذى من استعمال الماء البارد في زمن الشتاء، فيحكى أنه لما كان في السجن لم يقدر على تسخين الماء، وكان يأخذ إبريق النحاس وفيه الماء فيلصقه إلى بطنه زماناً عساه ينكر برودته بحرارة بطنه أو قال باطنه حتى يستعمله أبوه، وأخباره كثيرة وغرائبه غزيرة. وكانت ولادته لسبع بقين من ذي الحجة سنة تسع وأربعين ومائة، وتوفي في السجن في السنة المذكورة، وقيل بل في سنة ثلاث وتسعين ومائة في المحرم، ولما بلغ الرشيد موته قال: امري قريب من أمره، وكذا كان فإنه توفي في سنة ثلاث وتسعين ومائة. وفي السنة المذكورة وقيل قبلها وقيل بعدها توفي العباس بن الأحنف اليمامي الشاعر المشهور، ومن شعره:
إذا أنت لم يعطفك إلا شفاعة ... فلا خير في ود يكون بشافع
فأقسم ما تزكي عتابك عن قلبي ... ولكن لعلمي أنه غير نافع
وإني إذا لم ألزم الصبر طائعاً ... فلا بد منه مكرهاً غير طائع
حكى عمر بن شبة قال: ثم مات إبراهيم الموصلي المعروف بالنديم، ومات في ذلك اليوم الكسائي النحوي والعباس بن الأحنف، فرفع ذلك إلى الرشيد فأمر المأمون أن يصلي عليهم، فخرج فصفوا بين يديه فقال: من هذا؟ قالوا: ابراهيم الموصلي فقال: اخروه وقدموا العباس بن الأحنف، فقدم فصلى عليه، فلما فرغ وانصرف، نا منه هاشم بن عبد الله الخزاعي فقال: يا سيدي كيف آثرت العباس بن الأحنف بالتقدمة على من حضر؟ فأنشد بيتين من نظم العباس، ثم قال أليس من قال هذا الشعر أولى بالتقدمة.(1/339)
قلت وهذا فيه اعتراض من وجهين: احدهما أن الكسائي كان أولى بالتقديم لفضائله المشهورة ولو لم يكن إلا كونه إماماً في قراءة الكتاب العزيز العربي ولسان اللغة العربية، والثاني أن في موته خلافاً، اين كان من البلاد، وقد قيل إنه مات بالري، وفي ذلك أيضاً إشكال، فإن بعضهم حكى أنه رأى العباس بعد موت هارون الرشيد، وبعضهم حكى أنه توفي قبل هذه السنة، وقد قدمنا ذكر ذلك فالله أعلم أي ذلك كان.
سنة ثلاث وتسعين ومائة
فيها سار الرشيد إلى خراسان ليمهد قواعدها، وكان في العام الماضي قد بعث من قبض الأمير علي بن عيسى بن ماهان، واستصفى أمواله وخزائنه، فبعث بها إلى الرشيد على ألف وخمس مائة جمل، فوافقته بجرجان. وفيها توفي الإمام العالم أبو بشر إسماعيل ابن علية البصري الأسدي مولاهم، قال شعبة ابن علية: سيد المحدثين، وقال يزيد بن هارون: دخلت البصرة وما بها أحد يفضل في الحديث على ابن علية. وتوفي بعده بأيام الحافظ محمد بن محمد بن جعفر المعروف بغندر، قال ابن معين: كان من أصح الناس كتاباً، وقال غيره: مكث خمسين سنة يصوم يوماً ويفطر يوماً. وفيها توفي السيد الجليل الإمام أبو بكر بن عياش الأسدي، مولاهم شيخ الكوفة في القراءة والحديث، قال بعضهم: كان لا يفتر من التلاوة قرأ اثني عشر ألف ختمة، وقيل أربعة وعشرين ألف ختمة، وعمره بضع وتسعون سنة، قال رحمه الله رأيت أعرابياً واقعاً بالكناسة على نجيب له ينشد:
خليلي عوجا من صدور الرواحل ... بمهجور جزوى فأبكيا بالمنازل
لعل انحدار الدمع يعقب راحة ... من الوجد أو يشفى عليل البلابل
فخلوت بنفسي فبكيت فاسترحت من مصيبة أصابتني، هذا ما رواه المبرد عنه. وفيها توفي الخليفة أبو جعفر هارون الرشيد بن المهدي محمد بن المنصور بطوس، وكانت خلافته ثلاثاً وعشرين سنة.(1/340)
ومولده بالري سنة ثمان وأربعين ومائة، روى عن أبيه وجده، ومبارك بن فضالة، وحج مرات في خلافته، وغزا عدة غزوات حتى قيل فيه:
فمن يطلب لقاءك أو يرده ... فبالحرمين أو أقصى الثغور
وكان شهماً شجاعاً حازماً جواداً ممدوحاً، فيه دين وسنة وتخشع، وقيل: كان يصلي في اليوم مائة ركعة، ويتصدق كل يوم من صلب ماله بألف درهم، وكان يخضع للكبار ويتأدب معهم، ووعظه الفضيل وابن سماك وبهلول وغيرهم، وله مشاركة قوية في الفقه وبعض العلوم والأدب، وفيه انهماك على الذات ولقيان الجواري الفائقات الجمال وسماع أشعار مغازلاتهن بلسان الحال مما نظمه الشعراء من الأبيات النفائس، وسيأتي ذكر شيء من ذلك في ترجمة أبي نواس، وكذلك سيأتي في ترجمة الأصمعي ذكر أشياء كثيرة جرت له معه ومع غيره، فيها غرائب وعجائب.
سنة أربع وتسعين ومائة
فيها مبدأ الفتنة بين الأمين والمأمون، وكان الرشيد أبوهما قد عقد العهد للأمين ثم من بعده للمأمون، وكان المأمون على أمرة خراسان، فشرع الأمين في العمل على خلعه ليقوم ولده وهو ابن خمس سنين، وأخذ يبذل الأموال للقواد ليقوموا معه في ذلك، ونصحه أولو الرأي فلم يرعو حتى آل الأمر إلى قتله. وفيها توفي يحيى بن سعيد بن أبان الأموي الكوفي الحافظ، والشيخ العارف بالله السيد الجليل شقيق البلخي شيخ خراسان، وشيخ حاتم الأصم. وفيها على خلاف ما تقدم توفي إمام أئمة العربية حامل راية النحو الراقي فيه المرتبة العلية: ابو بشر عمر بن عثمان، الملقب بسيبويه الحارثي مولاهم، قيل: كان في علم النحو أعلم المتقدمين والمتأخرين، لم يوضع فيه مثل كتابه، وذكره الجاحظ يوماً فقال: لم يكتب الناس في النحو كتاباً مثله، وجميع كتب الناس عليه عيال. وقال الجاحظ: اردت الخروج إلى محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم، ففكرت في أي شيء أهديه له، فلم أجد شيئاً أشرف من كتاب سيبويه، فلما وصلت إليه قلت له: لم أجد شيئاً أهديه لك مثل هذا الكتاب، وقد اشتريته من ميراث الفراء، فقال:(1/341)
والله ما أهديت إلي أحب إلي منه. وفي بعض التواريخ أن الجاحظ لما وصل إلى ابن الزيات بكتاب سيبويه أعلمه به قبل إحضاره إليه، فقال له ابن الزيات: او ظننت أن خزائننا خالية من هذا الكتاب؟ فقال الجاحظ: ما ظننت ذلك، ولكنها بخط الفراء ومقابلة الكسائي وتهذيب عمرو بن بحر الجاحظ، يعني نفسه، فقال ابن الزيات: هذه أجل نسخة توجد وأعزها، فأحضرها إليه، فسر بها، وقعت منه أجل موقع. أخذ سيبويه النحو من الخليل بن أحمد وعن عيسى بن عمرو ويونس بن حبيب وغيرهم، وأخذ اللغة عن أبي الخطاب المعروف بالأخفش الأكبر وغيره. وقال ابن النطاح: كنت عند الخليل بن أحمد فأقبل سيبويه فقال الخليل مرحباً بزائر لا يمل. قال أبو عمرو المخزومي، وكان كثير المجالسة للخليل: ما سمعت الخليل يقولها لأحد إلا سيبويه، وكان قد ورد إلى بغداد من البصرة والكسائي يومئذ يعلم الأمين بن هارون الرشيد، فجمع بينهما وتناظرا وجرى مجلس يطول شرحه، وزعم الكسائي أن العرب تقول كنت أظن أن الزنبور أشد لسعة من النحلة، فإذا هو إياها، فقال سيبويه: ليس المثل كذا، بل فإذا هو هي، وتشاجرا طويلاً واتفقا على مراجعة عربي خالص لا يشوب كلامه شيء من كلام الحضر، وكان الأمين شديد العناية بالكسائي لكونه معلمه، فاستدعى عربياً وسأله، فقال كما قال سيبويه، فقال له يزيد أن يقول كما قالى الكسائي، فقال: ان لساني لا تطاوعني على ذلك، فانه ما يسبق إلا على الصواب، فقرروا معه: ان شخصاً يقول قال سيبويه كذا وقال الكسائي كذا فالصواب مع من منهما؟ فيقول العربي مع الكسائي، فقال هذا يمكن، ثم عقد لهما المجلس واجتمع أئمة هذا الشأن وحضر العربي، فقيل له ذلك، فقال: الصواب مع الكسائي، وهو كلام العرب، فعلم سيبويه أنهم تحاملوا عليه وتعصبوا للكسائي، فخرج من بغداد وقد حمل في نفسه لما جرى عليه، وقصد بلاد فارس، فتوفي بقرية من قرى شيراز، يقال لها البيضاء، وقيل بل توفي بالبصرة، وقيل بل بمدينة ساوة. وفي السنة التي توفي فيها وفي مقدار عمره خلاف كثير، والذي ذكره الحافظ أبو الفرج بن الجوزي أنه توفي في السنة المذكورة وعمره اثنتان وثلاثون سنة، قيل وكان قلمه أبلغ من لسانه، وهو أثبت من حمل عن الخليل، وقال أبو زيد الأنصاري: كان سيبويه غلاما يأتي مجلسي وله ذوابتان وإذا سمعته يقول حدثني من أثق به فإنما يعينني، وقال إبراهيم(1/342)
الحربي: سمي سيبويه لان وجنتيه كانتا كأنهما تفاحتان، وكان في غاية الجمال، وقال غيره: هو لقب فارسي معناه بالعربي رائحة التفاح.
سنة خمس وتسعين ومائة
فيها تسمى المأمون بإمام المؤمنين لما تيقن أن الأمين خلعه، وجهز الأمين علي بن عيسى بن ماهان في جيش عظيم أنفق عليهم أموالاً لا تحصى وأخذ معه قيد فضة ليقيد به المأمون بزعمه، فبلغ إلى الري وأقبل طاهر بن الحسين الخزاعي في نحو أربعة آلاف، فأشرف على جيش عيسى بن ماهان - وهم يلبسون السلاح، وقد امتلأت بهم الصحراء بياضاً وصفرة في العدد المذهبة، فقال طاهر: هذا ما لا قبل لنا به، ولكن اجعلوها خارجية واقصدوا القلب، ثم قيل ذلك ذكروا ابن ماهان البيعة التي في عنقه للمأمون فلم يلتفت وبرز فارس من جند ابن ماهان، فحمل عليه طاهر بن الحسين فقتله، وشد داود على علي بن عيسى بن ماهان فطعنه طعنة صرعه بها وهو لا يعرفه، ثم ذبحه بالسيف فانهزم جيشه، وحمل رأسه على رمح قلت: هكذا في الأصل رشد داود ولم يتقدم له ذكر، ولا بين من هو وأعتق طاهر مماليكه شكراً لله عز وجل. قلت: وقد ذكرت في غير هذا الكتاب ما حكى بعضهم أن الوزير علي بن عيسى المذكور ركب في موكب عظيم، فصار الغرباء يقولون من هذا؟ فقالت امرأة، الى كم تقولون من هذا من هذا؟ هذا عبد سقط من عين الله تعالى فابتلاه بما ترون، فسمعها علي بن عيسى فرجع إلى بيته واستعفى من الوزارة، ولحق بمكة فجاور بها إلى أن توفي رحمه الله، وهذان النقلان مختلفان، والله أعلم أي ذلك كان. وشرع أمر الأمين في سفال وملكه في زوال، قيل إنه بلغه قتل ابن ماهان وهزيمة جيشه، وكان يتصيد سمكاً فقال للبريد: ويلك دعني لكوثر، قد صاد سمكتين وأنا ما صدت شيئاً بعد، وندم في الباطن على خلع أخيه، وطمع فيه أمراؤه، وفرق عليهم أموالاً لا تحصى حتى فرغ الخزائن وما نفعوه، وجهز جيشاً فالتقاهم طاهر أيضاً بهمدان، وقتل في المصاف خلق كثير من الفريقين، وانتصر طاهر بعد وقعتين أو ثلاث، وقتل مقدم جيش الأمين عبد الرحمن الأنباري أحد الفرسان المذكورين بعد أن قتل جماعة، وزحف طاهر حتى نزل بحلوان. وفي السنة المذكورة ظهر بدمشق أبو العميطر السفياني، فبايعوه بالخلافة، واسمه علي بن عبد الله بن خليل ابن الخليفة يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، فطرد عاملها الأمير(1/343)
سليمان بن المنصور، فسير الأمين عسكر الحربة، فنزلوا الرقة ولم يقدموا عليه. وفيها توفي إسحاق بن يوسف الأزرق محدث واسط، روى عن الأعمش وطبقته، وكان شيخاً حافظاً عابداً، يقال إنه بقي عشرين سنة لم يرفع رأسه إلى السماء. وفيها توفي أبو معاوية الضرير الكوفي الحافظ، وعبد الرحمن بن محمد المحاربي الحافظ. وفيها أو في التي قبلها توفي محمد بن فضيل بن غزوان الضبي مولاهم الكوفي الحافظ، ومحدث الشام أبو العباس الوليد بن مسلم الدمشقي، توفي بذي المروة راجعاً من الحج، روى عن ابن أبي مريم وخلائق، وصنف التصانيف، قال بعضهم: لم نزل نسمع أنه من كتب مصنفات الوليد، صلح أن يلي القضاء، وهي سبعون كتاباً. وفيها توفي مروج بن عمرو السدوسي النحوي البصري، اخذ العربية عن الخليل بن أحمد، وروى الحديث عن شعبة بن الحجاج وأبي عمرو بن العلاء وغيرهما وكان الغالب عليه الفقه والشعر، وله عدة تصانيف وشعر ومنه:
وفارفت حتى ما أراعي ما النوى ... وإن غاب جيران علي كرام
فقد جعلت نفسي على الناس تنطوي ... وعني على هجر الصديق تنام
سنة ست وتسعين ومائة
فيها توفي الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان ببغداد، فخلع الأمين في رجب وحبسه، ودعا إلى بيعة المأمون، فلم يلبث أن وثب الجند عليه فقتلوه، وأخرجوا الأمين وجرت أمور طويلة وفتنة كثيرة. فيها توفي قاضي البصرة أبو المثنى معاذ بن العنبري، وكان أحد الحفاظ. وفيها توفي قاضي شيراز ومحدثها سعد بن الصلت، روى عن الأعمش وطبقته وكان حافظاً. وفيها توفي أبو نواس الحسن بن هانىء الشاعر المشهرر، وذكر محمد بن داود بن الجراح أن أبا نواس ولد بالبصرة ونشأ بها، ثم خرج إلى الكوفة، ئم سار إلى بغداد. وقال(1/344)
غيره: ولد بالأهواز، ونقل منها وعمره سنتان، وأمه هوزانية، وكان أبوه من جند مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية، وكان من أهل دمشق، فانتقل إلى الأهواز وتزوج وأولد عدة أولاد منهم أبو نواس وأبو معاذ، فأما أبو نواس فأسلمته أمه إلى بعض العطارين، فرآه أبو أسامة بن الحباب، فاستخلاه وقال له: ارى فيك مخائل أرى لا تضيعها، وستقول فاصحبني أخرجك فقال له: ومن أنت؟ قال أبو أسامة بن الحباب. قال: نعم أنا والله في طلبك، ولقد أردت الخروج إلى الكوفة بسببك لآخذ عنك وأسمع منك شعرك، فصار أبو نواس معه، وقدم به بغداد، وأول ما قاله من الشعر وهو صبي.
حامل الهوى تعب، يستخفه الطرب ... إن بكى بحق له، ليس مابه لعب
تضحكين لاهية، والمحب ينتحب ... تعجبين من سقمي، صحتي هي العجب
قالوا وهو في الطبقة الأولى من المولدين، وشعره عشرة أنواع، وهو مجيد في العشرة، وقد اعتنى بجمع شعره جماعة، فلهذا يوجد ديوانه مختلفاً. وحكي في بعض الكتب أن المأمون كان يقول: لو وصفت الدنيا نفسها لما وصفت بمثل قول أبي نواس:
ألا كل حي هالك وابن هالك ... وذو نسب في الهالكين غريق
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق
وإنما قيل له أبو نواس لذوابتين كانتا له تنوسان على عاتقه، وعن ابن عيينة أنه قال: هو أشعر الناس، وقال الجاحظ: ما رأيت أعلم باللغة منه، وقال أبو حاتم السجستاني: كانت المعاني مدفونة حتى أثرها أبو نواس، وقال: لولا أن العامة استبذلت هذين البيتين لكتبتهما بماء الذهب، وهما لأبي نواس:
ولو أني استزدتك فوق مالي ... من البلوى لأعوذك المزبد
ولو عرضت على الموتى حياتي ... بعيش مثل عيشي لم يريدوا
قلت: ويحكى له من النوادر والغرائب والمخترعات العجائب ما يطول في تعداد الحاسب، من ذتك ما حكي عن هارون الرشيد أنه كان ذات ليلة من الليالي يطوف في داره، فلقي جارية من جواريه، وكان يجد بها وجداً ويلتمس منها حاجته فتأبى عليه، فوجدها في تلك الليلة سكرى، فجمشها، فانحل إزارها وسقط خمارها عن منكبيها، فقالت: امهلني تلك الليلة يا أمير المؤمنين، فغداً أسير إليك، فخلاها، فلما كان الصبح أرسل إليها خادماً وقال: اجيبي أمير المؤمنين، فقالت: ارجع عليه وقل له: كلام الليل يمحوه النهار، فرجع إليه وعرفه بذلك، فقال له: انظر من على الباب من الشعراء، فلقى الرقاشي وأبا مصعب(1/345)
وأبا نواس، فرجع إليه وعرفه بهم، فقال أدخلهم إلي، فلما حضروا بين يديه، قال لهم: عرفتم لم طلبتكم يا شعراء؟ قالوا: لا يا أمير المؤمنين، قال: اشتهي من كل واحد منكم شعراً في آخره كلام لليل يمحوه النهار فقال الرقاشي:
متى تصحو وقلبك مستطار؟ ... وقد منع القرار فلا قرار
وقد تركتك صباً مستهاماً ... فتاة، لا تزور، ولا تزار
إذا وعدتك صدت ثم قالت ... كلام الليل يمحوه النهار
وقال أبو مصعب:
أما والله لو تجدين وجدي ... لأذهب للكرى عنك الشرار
فكيف وقد تركت العين عبرى ... وفي الأحشاء من ذكراك نار
فقالت: انت مغرور بوعدي ... كلام الليل يمحوه النهار
وقال أبو نواس:
وليلاً أقبلت في القصر سكرى ... ولكن زين السكر الوقار
وهز الريح أردافاً ثقالاً ... وغصناً فيه رمان صغار
وقد سقط الردا عن منكبيها ... من التجميش وانحل الإزار
مددت يدي لها أبغي التماساً ... فقالت: في غد منك المزار
فقلت الوعد سيدتي؟ فقالت: ... كلام الليل يمحوه النهار
فأمر لكل واحد من الاثنين بألف دينار، وقال علي بسيف ونطع واضربوا فيه رقبة أبي نواس، فقال: ولم تضرب رقبتي يا أمير المؤمنين؟ فقال: كأنك كنت معنا البارحة، فقال: والله يا أمير المؤمنين ما بت إلا في داري، وإنما استدللت على ما قلت بكلامك، فقبل منه وأمر له بعشرة آلاف دينار. ومما يحكى من غرائب أبي نواس وعجائب اختراعاته أيضاً ما معناه: ان هارون الرشيد طرقه ذات ليلة قلق وسهاد منع الراحة منه والرقاد، ففكر فيما يزيل عنه ذلك، ويجلب له الانشراح، ودار في مواضع فيها النزهة والارتياح فما حصل له الغرض من ذلك حتى دخل على بعض سراريه، فوجدها نائمة وجواريها يضربن بالمعازف على رأسها، فلما دخل تفرقن من حولها، فكشف عن وجهها وقبل موضع خال في خدها، فانتبهت ذات فزع وقالت: من هذا؟ فقال: ضيف، فقالت: نكرم الضيف بسمعي والبصر فلما أصبح استدعى بأبي نواس، فقال: ابو نواس قل له إن ثيابي مرهونة عند الخمارة بست مائة درهم، ان استنفكها لي لبست وجئت، فالتزم الرشيد ذلك القدر فجاء فقال له أحب أن تنظم لي أبياتاً(1/346)
على هذا اللفظ: نكرم الضيف بسمعي والبصر فقال:
طال ليلي عاودني السهر ... ثم فكرت وأحسنت النظر
جئت أمشي في زوايات الخبا ... ثم طوراً في مقاصير الحجر
إذ توجه فمر قد لاح لي ... آية الرحمن من بين البشر
ثم أقبلت إليه مسرعاً ... ثم طاطيت فقبلت الأثر
فاستقامت فزعاً قائلة ... يا أمين الله ما هذا السفر
قلت ضيف طارق في داركم ... هل تضيفوني إلى وقت السحر؟
فأجابت بسرور سيدي ... نكرم الضيف بسمعي والبصر
فقال هارون: يا تارك كنت البارحة تحت السرير تسمع كلامنا اضربوا عنقه، فحلف ما كان هذا، وشفعوا فيه، فقال: ان كنت صادقاً فقل في شيء أنا أبصره في هذه الساعة، وكانت جارية قبالة الرشيد تضرب شذراً في ظل شذرتين، لابسة في إحدى كفيها خاتمين، وهي في مكان لا يراها أبو نواس ولا أحد غير الرشيد من سائر الناس فقال:
نظرت عيني لحيني واشتكى ... وجدي لبني عند في السدرتين
شحنا مثل اللجين تضرب الشذر ... بكف وبأخرى خاتمين
فقال الرشيد أنت تبصرها يا فاعل اقتلوه، فحلف ما يبصر شيئاً، وتشفع فيه فلم يقبل، فقالت جارية بالقرب من الرشيد لا يبصرها غيره، ولا إلى سواها يبلغ كلامه بالله يا سيدي خله يروح، فقال لها الرشيد سراً إليها: ما أخليه حتى تمشي إلي عريانة فخلت ثيابها ومشت حتى جاءته، فخلاه فلما صار أبو نواس عند الباب قال إي والله يا سيدي:
ليس الشفيع الذي يأتيك متزراً ... مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا
فقال له يا شيطان، فخرج هارباً من ذلك بعدما أبدع فيما يقول، واخترع ما سحر به العقول. قلت وهذا البيت للفرزدق وهو مذكور في موضع آخر من هذا الكتاب في قضية مختصرها أنه اختصم هو وامرأته النوار إلى عبد الله بن الزبير، ونزل الفرزدق على حمزة بن عبد الله، ونزلت امرأته على امرأته، فتشفع كل واحد منهما لنزيله، فقبل ابن الزبير شفاعة امرأته دون شفاعة ابنه، فقال الفرزدق: ليس الشفيع إلى أخر البيت المذكور. ومما نحن بصدده مناسباً لما ذكرنا من حب الجواري الغانيات وأشعار أبي نواس الرائقات ما حكى الأصمعي قال: كنت عند الرشيد فأتي بجارية ليبتاعها فأعجبته، فقال(1/347)
لمولاها: بكم الجارية؟ فقال: بمائة: الف درهم، فقال: ادفع المال إليه يا غلام، فلما ولى قال: ردوا الجارية، فردت، فقال: يا جارية أبكر، انت أم ثيب؟ فقالت: بل ثيب. فقال: ردوها على مولاها ثم أنشد.
قالوا عشقت صغيرةً فأجبتهم ... أشهى المطي إلي ما لم تركب
كم بين حبة لؤلؤ مثقوبة ... لبست وحبة لؤلؤ لم تثقب
فقالت الجارية: يا أمير المؤمنين أتأذن لي في الجواب؟ قال: نعم فأنشدت:
إن المطية لا يلد ركوبها ... حتى تذلل بالزمان وتركبا
والحب ليس بنافع أربابه ... حتى يفضل بالنظام ويثقبا
قال فضحك الرشيد، وقال يا غلام ادفع ثمنها إلى مولاها، وأمر لها بمائة ألف درهم في خاصة نفسها، قلت: والبيتان اللذان أنشدهما الرشيد هما من شعر أبي نواس، واللذان أنشدتهما الجارية هما من شعر مسلم بن الوليد الأنصاري. قلت ولي قصيدة في الحكم بين هذين المختلفين، وفي تفضيل ألوان الغواني بعضها على بعض، ووصف أعضائها ومحاسنها الحسناء، وذكر غرور الدنيا منها هذه الأبيات:
يا مسرعاً نحو الحسان لتخطبا ... تأن واختر مورداً مستعذبا
هذا الأجيرع والعوير مورد ... ماء العذيب الخالي المستعذبا
ودع المويلج والأزيلم جانباً ... يا من غدا بالغانيات معذبا
من بيض مجد عاليات الحسن أو ... من خضر سعد إن نشا أن تخطبا
أو صفر وجد من هوى راقي العلى ... حامي الذمار الماجد المستنجبا
عند الغواني والمعالي أيما ... تشأ فاختر بعد وصفي مذهبا
سلطان ألوان الغواني أبيض ... وله وزير أصفر قد قربا
والأخضر الميمون أضحى عنده ... أيضاً أميراً بالسعادة مخضبا
لم يبق إلا جندي أو سائس ... فاختر لما يهواه طبعك فاصحبا
كل امرء بالطبع يهوى مشرباً ... يحلو ولو أضحى أجاجاً مشربا
لكن بيض الغانيات تفاوتت ... ألوانها فاسمع مقالاً صوبا
أبهى أزهاها بياض مشرب ... من صفرة يحكي لجيناً مذهبا
إن عذب ما للظما جاء مذهبا ... فظمي الهوى تلقى له ذا مذهبا
ذاك الذي ما زلت أهوى والذي ... أختار من بين المذاهب مذهبا
دري لون معجب في ناهج ... في كفه العناب يزهو معجبا(1/348)
في خده تفاح روض يحببا ... وبصدره رمانً مرة أرطبا
والدر منثوراً يرى في لفظه ... ومنظماً في بسمه مترتبا
والسفل في لحظ بأكحل فاتر ... ويرى مريضاً بالجفون محجبا
طرف المهمامع جيد ريم نفرت ... وتميزت بالحسن من بين الظبا
من بين نحري بدر حسن حاجز ... كالسيف لم يجر بحر يسكبا
والمسك مع شهد الماء حايم ... في درة ظلم المفلج أشيبا
في فرد بيت حدثاني ما حوى ... بعدها بيت أتى مستنجبا
ودعص رمل غصن بان مثقل ... على عمودي وبردي قد ركبا
وطول جعد كالغراب مجاور ... وجهأ حكى بدر الدياجي مذهبا
ولون بيض من نعام شبه ... المولى به الحور الحسان مرغبا
لكن على مقدار أفهام الورى ... قد شبه الرحمن تلك مقربا
هيهات ابن البيض ممن لو بدت ... في مشرق ليلاً أضاءت مغربا
أو في الأجاج البحر تبرق أودجا ... تبسمت ذا ضاء وذاك استعذابا
والمخ في ساق تراه من ورا ... سبعين من جلبابها لن يحجبا
وعجبت من قوم صفر رجحوا ... منها وممن مدح خضر أطيبا
مع أن لون الحور أقوى حجة ... للبيض لا تلقى بذلك مكذبا
والكل ذموا لون جص لم يكن ... ما رونق أو لون در أشربا
ولسمع لما في فضل بكر أنشدوا ... لأبي نواس في قولاً هذبا
قالوا عشقت صغيرة فأجبتهم ... أشهى المطي إلي ما لم تركبا
كم بين حبة لؤلؤ مثقوبة ... ليست، وحبة لؤلؤ لم تثقبا
مع قول هادي العيس أعني مسلما ... بخل الوليد المستنجد المغربا
إن المطية لا يلذ ركوبها ... حتى تذلل بالزمام وتركبا
والحب ليس بنافع أربابه ... حتى يفضل بالنظام ويثقبا
وجوابا جلد يافعي في الحمى ... أبداً مع التفضيل تفضيل النبا
أبدا قريضا في يراع حاكما ... ومبينا فضلا لكل مطيبا
أولى مطايا العبد ما لم يمتطي ... لن يعد روض ما يرى مستصعبا
والدر سهل الانتفاع تقية ... وغير ممغوث سهى جربا
هذا لعمري في الحكومة قد كفى ... فضلاً وإن فضلاً ترم يا مرحبا
فالبسط في نظم وشر عادة ... لي حببت والقلب مع ما حببا
مستثنياً قل في روض هجت ... محبوبة تلك الرعات تحببا(1/349)
ما تهتدي فيه ثواني سهلة ... وتريك ما لا تهتديه مطربا
في الكل فضل معجب لكنه ... في غير ممغوث تراه أعجبا
هذا إذا ما في الجمال تساويا ... ما اختص بعض منهلاً مستطيبا
أما إذا إحداهما في حسنها ... فاقت فلن فيما سواها ترغبا
إلا إذا اختصت ببعض مرغب ... كالدين أو مال وجاه أو صبا
مهلاً هديت الرشد يا من قلبه ... نحو الغواني والأغاني قد صبا
اعلم بأناكم نفيس مطية ... قد امتطينا واختبرنا المركبا
فالكل الفينا سراباً كالهبا ... في قاع دنيا حين جر الهبا
وإليه عن حصب رأى كم سالك ... في سفره ملنا تام المجدبا
فلا سراباً فيه ألقينا ولا ... سرنا فألقينا البهيج المخصبا
مع ما ارتكبنا من مخوف كالتي ... عن ركبها مالت اليه لتشربا
ظنته ماء فانتحته فلم تجد ... شيئاً وخافت عنده أن ينهبا
وهكذا الأيام تنهب عمرنا ... في غير خير يختشى أن تذهبا
سنة سبع وتسعين ومائة
فيها حوصر الأمين ببغداد وأحاط به طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين وزهير بن المسيب في جيوشهم، وقاتلت مع الأمين الرعية وقاموا معه قياماً لا مزيد عليه، ودام الحصار سنة، واشتد بالبلاء وعظم الخطب. وفيها توفي قاضي صنعاء هشام بن يوسف من أبناء الفرس، سمع معمراً وابن جريج، وأخذ عنه ابن المدائني، وهو من رواة الصحيحين.
وفيها توفي محدث الشام الإمام أبو محمد بقية بن الوليد الكلاعي الحمصي الحافظ رحمه الله. وفيها توفي شعيب بن حرب المدائني الزاهد، احد علماء الحديث. وفيها توفي الإمام العالم أبو سفيان وكيع بن الجراح، روى عن الأعمش قال أحمد: ما رأيت أوعى للعلم ولا أحفظ من وكيع، قلت وهو الذي أشار إليه القائل بقوله:(1/350)
شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأوصاني إلى ترك المعاصي
وعلله بأن العلم فضل ... وفضل الله لا يحويه عاصي
قال يحيى بن أكثم: صحبت وكيعاً، وكان يصوم الدهر، ويختم القرآن كل ليلة، وقال أحمد: ما رأت عيني مثل وكيع.
وفيها توفي الإمام أحد الأئمة الأعلام عبد الله بن وهب الفهري مولاهم الفقيه المالكي المصري، صحب الإمام مالك عشرين سنة، وصنف الموطأ الكبير والموطأ الصغير، وقال أحمد بن صالح: حدث بمائة ألف حديث، وقال مالك في حقه: عبد الله بن وهب إمام، وكان مالك يكتب إليه إذا كتب في المسائل: الى عبد الله بن وهب المفتي، ولم يكن يفعل هذا مع غيره. وذكر ابن وهب وابن القاسم عند الامام مالك فقال: ابن وهب عالم وابن القاسم فقيه، وقال يونس بن عبد الأعلى: كتب الخليفة إلى عبد الله بن وهب في قضاء مصر، فخير نفسه ولزم بيته، فاطلع عليه بعضهم يوماً وهو يتوضأ في صحن داره، فقال له ألا تخرج الى الناس فتقضي بينهم بكتاب الله وسنة رسوله؟ فرفع إليه رأسه وقال: الى هاهنا انتهى عقلك أما علمت أن العلماء يحشرون مع الأنبياء والقضاة مع السلاطين، وكان صالحاً جامعاً بين الفقه والرواية والعبادة، وله تصانيف معروفة، وسبب موته أنه قرىء عليه كتاب الأهوال من جامعه فأخذه شيء كالغشيان، فحمل إلى داره فلم يزل كذلك إلى أن قضى نحبه، رحمه الله.
سنة ثمان وتسعين ومائة
فيها ظفر طاهر بن الحسين بعد أمور يطول شرحها بالأمين فقتله، وصلب رأسه رمح، وكان مليحاً أبيض اللون جميل الوجه طويل القامة، عاش سبعاً وعشرين سنة، واستخلف ثلاث سنين وأياماً، وخلع في رجب سنة ست وتسعين، وحارب سنة ونصفاً، وهو ابن زبيدة بنت جعفر بن المنصور. وفي أول رجب منها توفي شيخ الحجاز وأحد الأعلام أبو محمد سفيان بن عييبة الهلالي مولاهم الكوفي الحافظ نزيل مكة، وله أحد وتسعون سنة، وحج سبعين حجة، قال الشافعي: لولا مالك وابن عيينة لذهب علم الحجاز، وقال ابن وهب: لا أعلم أحداً أعلم(1/351)
بالتفسير من ابن عيينة، وقال أحمد بن حنبل: ما رأيت أحداً أعلم بالسنن من ابن عيينة. وقال غيرهم من العلماء: كان إماماً عالمأ ثبتاً ورعاً مجمعاً على صحة حديثه وروايته. روى عن الزهري وأبي إسحاق السبيعي وعمرو بن دينار ومحمد بن المنكدر وأبي الزناد وعاصم بن أبي النجود المقري والأعمش وعبد الملك بن عمير وغير هؤلاء من أعيان العلماء. وروى عنه الإمام الشافعي وشعبة بن الحجاج ومحمد بن إسحاق وابن جريج والزبير بن بكار وعمرو بن مصعب وعبد الرزاق بن همام الصنعاني ويحيى بن أكثم القاضي وغير هؤلاء من العلماء الأعلام ممن يكثر عددهم من الأنام. وقال الشافعي: ما رأيت أحداً فيه من آلة الفتيا ما في سفيان، وما رأيت أكف عن الفتيا منه، وقال سفيان: دخلت الكوفة ولم يتم لي عشرون سنة، فقال أبو حنيفة لأصحابه ولأهل الكوفة: جاءكم حافظ علم عمرو بن دينار، قال فجاء الناس يسألوني عن عمرو بن دينار، فأول من صيرني محدثاً أبو حنيفة، فذاكرته فقال لي يا بني ما سمعت من عمرو إلا ثلاثة أحاديث يضطرب في حفظ تلك الأحاديث توفي سفيان رحمة الله عليه بمكة، قلت: وقبره معروف مكتوب عليه بالخط الكوفي اسمه. وفي جمادى الآخرة منها توفي الإمام أبو سعيد عبد الرحمن بن مهدي البصري اللؤلؤي الحافظ أحد أركان الحديث بالعراق، وله ثلاث وستون سنة. وفيها توفي الإمام أبو يحيى معن بن عيسى المدني القزاز صاحب مالك، وفي صفر توفي الإمام أبو سعيد يحيى بن سعيد القطان البصري الحافظ أحد الأعلام، قال بندار: اختلفت إليه عشرين سنة فما أظن أنه عصى الله قط، قال أحمد بن حنبل: ما رأيت مثله، وقال ابن معين: اقام يحيى القطان عشرين سنة يختم في كل ليلة، ولم يفته الزوال في المسجد أربعين سنة.
سنة تسع وتسعين ومائة
فيها توفي يونس بن بكير الشيباني الكوفي الحافظ صاحب المغازي. وفيها توفي سليمان بن إسحاف الرازي، وكان عابدأ خاشعاً، يقال إنه من الأبدال.(1/352)
وفيها توفي حفص بن عبد الرحمن البلخي، كان ابن المبارك يزوره ويقول، اجتمع فيه الفقه والوقار والورع.
سنة مائتين
فيها توفي أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل بن مسلم المدني الحافظ رحمه الله تعالى. وفيها على القول الصحيح توفي الولى الكبير العارف بالله الشهير المجتبي المقرب الترياق المجرب مطلع الأنوار ومنبع الأسرار مظهر الآيات ومقر الكرامات العلية والأحوال السنيه أبو محفوظ معروف الكرخي، من موالي علي بن موسى الرضا وكان أبواه نصرانيين فأسلماه إلى مؤدب وهو صبي وكان المؤدب يقول له: قل ثالث ثلاثة فيقول معروف: بل هو الله الواحد القهار، فضربه المعلم يوماً على ذلك ضرباً مبرحاً فهرب منه، وكان أبواه يقولان ليته يرجع إلينا على أي دين شاء فنوافقه عليه، ثم إنه أسلم على يدي علي بن موسى الرضا، ورجع إلى أبويه، فدق الباب فقيل له: من بالباب؟ فقال: معروف، فقل: على أي دين؟ فقال: على الإسلام، فأسلم أبواه، وكان مشهوراً بإجابة الدعوة، وأهل بغداد يستسقون بقبره، ويقولون: قبر معروف ترياق مجرب. وكان السري تلميذه، فقال له يوماً: اذا كانت لك حاجة إلى الله تعالى فأقسم عليه بي. وأتاه مرة بإنسان إلى دكانه وأمره أن يكسوه فكساه، فقال معروف بغض الله اليك الدنيا، فقام من مجلسه ذلك وقد بغضت إليه الدنيا. وأتت امرأةً إلى معروف في بغداد وهي حزينة على ولد لها صغير ضاع، وقد سألته أن يدعو لها بردة عليها، فقال: اللهم إن السماء سماؤك، والأرض أرضك، وما بينهما لك فاحفظه واردده على أمه، او كما قال في دعائه، فإذا به قد جاء، فقالت له أمه: اين كنت؟ فقال: كنت الساعة في باب الأنبار. وقال السري: رأيت معروفاً في النوم كأنه تحت العرش، والباري جلت قدرته يقول للملائكة: من هذا؟ وهم يقولون: انت أعلم يا رب منا، فقال هذا معروف الكرخي، سكر من حبي، فلا يفيق إلا بلقائي.(1/353)
وقال محمد بن الحسين: سمعت أبي يقول: رأيت معروفاً الكرخي في النوم بعد موته، فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي، فقلت: بزهدك وورعك؟ قال: لا بل بقبول موعظة ابن السماك ولزومي الفقر ومحبتي للفقراء. وكانت موعظة ابن السماك قوله: من أعرض عن الله بكليته أعرض الله عنه جملته ومن أقبل على الله بقلبه أقبل الله برحمته عليه، وأقبل بوجوه الخلق إليه، ومن كان مرة ومرة فالله يرحمه وقتاً ما، قال فوقع كلامه في قلبي وأقبلت على الله تعالى وتركت جميع ما كنت عليه. وذكر بعضهم، انه سمع مشايخ بغداد يحكون أن عون الدين بن هبيرة كانت سبب وزارته أنه قال: قد ضاق ما بيدي. حتى فقدت القوة أياماً، فأشار علي بعض أهلي أن أمضي إلى قبر معروف الكرخي رضي الله تعالى عنه، واسأل الله عنده، فإن الدعاء عنده مستجاب، قال: فأتيت قبر معروف الكرخي، فصليت عنده، ودعوت، ثم خرجت لأقصد البلد يعني بغداد، فاجتزت بمحلة من محال بغداد، فرأيت مسجداً مهجوراً، فدخلله لأصلي فيه كعتين، فإذا بمريض ملقى على بارية، فقعدت عند رأسه وقلت له: ما تشتهي؟ فقال: سفرجلة، قال: فخرجت إلى بقال هناك، فرهنت ميزرتي على سفرجلتين وتفاحة وأتيته بذلك، فأكل من السفرجلة ثم قال أغلق باب المسجد فأغلقته فتحنى عن البارية، وقال: احفرها هنا، فحفرت فإذا بكوز، فقال: خذ هذا فأنت أحق به، فقلت أما لك وارث؟ قال: لا إنما كان لي أخ، وعهدي به بعيد، وبلغني أنه مات، ونحن من الرصافة، قال: فبينما هو يحدثني إذ قضى
نحبه، فغسلته وكفنته ودفنته، ثم أخذت الكوز وفيه مقدار خمس مائة ينار، وأتيت إلى دجلة لأعبرها، وإذا بملاح في سفينة عتيقة وعليه ثياب رثة، فقال: معي معي، فنزلت معه وإذا به من أكبر الناس شبهاً بذلك الرجل، فقلت: من أين أنت؟ فقال: من الرصافة ولي بنات، وأنا صعلوك، فقلت: ما لك أحد؟ قال: لا وكان لي أخ ولي عنه زمان وما أدري ما فعل الله به، فقلت: ابسط حجرك، فبسط فصببت المال فيه، فبهت فحدثته الحديث، فسألني أن آخذ نصفه، فقلت: والله ولا حبة، ثم صعدت إلى دار الخليفة، وكتبت رقعة، فخرج عليها أشراف المخزن، ثم تدرجت إلي الوزارة، ومناقب معروف كثيرة، وفضائله شهيرة، وموضع ذكر شيء منها كتب السلوك. وفيها توفي أبو البختري وهب بن وهب القرشي الأسلي المدني، حدث عن العمري وجعفر الصادق وهشام بن عروة وغيرهم. وروى عنه غير واحد، وكان متروك الحديث، ينسب إلى وضعه، وتولى القضاء(1/354)
بالمدينة وغيرها، ثم عزل وأقام ببغداد إلى أن توفي بها، وكان فقيهاً أخبارياً نسابةً جواداً سرياً سخياً يحب المديح ويثيب عليه الجزيل، وكان إذا أعطى قليلاً أو كثيراً أتبعه عذراً إلى صاحبه، وكان يتهلل عند طلب الحاجة إليه حتى لو رآه من لا يعرفه لقال: هذا الذي قضيت حاجته، وكان جعفر الصادق وقد تزوج أمه. وذكره الخطيب في تاريخ بغداد وبالغ في مدحه، وقال دخل شاعر فأنشده:
إذا افتر وهب خلته برق عارض ... ينعق في الأرضين أسعده السكب
وما ضر وهباً ذم من خالف الملا ... كما لا يضر البدر ينبحه الكلب
لكل أناس من أبيهم ذخيرة ... وذخرتي، فهو عقيد الندى وهب
فاستهل ضاحكاً وأمر له بصرة فيها خمس مائة دينار، وقوله ينعق أي ابتعج السحاب بالمطر، وقوله عقيد الندى وهو بمعنى قولهم فلان عقيد الكرم، وفي البخل يقولون عقيد اللؤم إذا بالغوا في المدح والذم، قلت ولعله مأخوذ من عقد العسل إذا أثخن، قال الجوهري يقال عقد الرب وغيره إذا غلظ فهو عقيد. وحكى الخطيب أن أبا البختري قال: لأن أكون في قوم أعلم مني أحب إلي من أن أكون في قوم أنا أعلم منهم، لأني إن كنت أعلمهم لم أستفد وإن كنت مع من هو أعلم مني استفدت. قلت: والتعليل بغير هذا أحسن وأصوب، وهو أنه إذا كان أعلم منهم تقلد الأمور الخطيرة، وأسندت إليه الخطوب المضرة التي لعله لا يكمل للقيام بها، ولا يأمن الوقوع في عطبها، وإذا كانوا أعلم منه انتفى عنه ذلك المحذور، وأمن من الخوف في عواقب الأمور، وله تصانيف، منها كتاب فضائل الأنصار، وأخباره ومحاسنه كثيرة، وأقوال المحدثين في الطعن فيه شهيرة.(1/355)
/إحدى ومائتين فيها عهد المأمون إلى علي بن موسى الرضا العلوي بالخلافة من بعده، وأمر الدولة بترك السواد، ولبس الخضرة، وأرسل إلى العراق بهذا، فعظم على بني العباس الذي ببغداد، ثم خرجوا عليه، وأقاموا منصور بن المهدي، ولقبوه بالمرتضى، وسيأتي ذكر ذلك، مع غيره في تاريخ موت علي بن موسى المذكور، في سنة ثلاث ومائتين إن شاء الله تعالى.
وفي السنة المذكورة أعني الأولى بعد المائتين أول ظهور بابك الخرمي، من الفرق الباطنية الزنادقة، فعاث وأفسد، وكان يقول بتناسخ الأرواح.
وفيها توفي حماد بن أسامة الكوفي الحافظ مولى بني هاشم، قال أحمد: ما كان أثبت، لا يكاد يخطىء، روى عن الأعمش والكبار.
وفيها توفي أبو الحسن الواسطي محدث واسط، روى عن الحسين بن عبد الرحمن، وعطاء بن السائب والكبار، وكان يحضر مجلسه ثلاثون ألفاً، فقال وكيع: أدركت الناس، والحلقة لعلي بن عاصم بواسط. وقال بعض المؤرخين: كان إماماً ورعاً صالحاً جليل القدر، وضعفه غير واحد لسوء حفظه.
اثنتين ومائتين
فيها توفي الإمام المقرىء النحوي اللغوي صاحب التصانيف الأدبية يحيى بن المبارك العدوي المعروف باليزيدي،، لصحبته يزيد بن منصور خال المهدي. كان نحوياً لغوياً شاعراً فصيحاً، أخذ عن الخليل من الغريب واللغة، وكتب عنه العروض، وله " كتاب النوارد في اللغة " ودخل مكة في رجب، فأقبل على العبادة والاجتهاد والصدقة الكثيرة، وقد حدث بها عن أبي عمرو بن العلاء وابن جريج.
وروى عنه محمد ابنه، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وإسحاق بن إبراهيم الموصلي،(2/3)
وجماعة من أولاده، وأبو عمر الدوري، وأبو شعيب السوسي، وأبو حمدون الطيب بن إسماعيل، وأبو خلاد سليمان بن خلآد وغيرهم.
وخالف أبا عمرو في حروف يسيرة من القرآن، وكان يؤدب أولاد يزيد بن منصور خال المهدي، وإليه كان ينسب كما تقدم، ثم اتصل بهارون الرشيد، فجعل ولده المأمون حجره،. فكان يؤدبه، وكان ثقة، وهو أحد الفصحاء العالمين بلغات العرب، وله التصانيف الحسنة والنظم الجيد.
وأخذ علم العربية وأخبار الناس عن أبي عمرو الخليل بن أحمد كما مر، ومن كان معاصرهما، وكان يجلس في أيام الرشيد مع الكسائي في مجلس واحد، ويقرآن الناس، أن الكسائي يؤدب الأمين، ويأخذ عليه حرف حمزة، وهو يؤدب المأمون، ويأخذ عليه حرف أبي عمر، وقال: وجه إليه يوماً بعض خدمه فأبطأ عليه، فوجه إليه آخر فكذلك، قال: فقلت إن هذا الفتى ربما اشتغل بالبطالة.
فلما خرج مرت بحلة، وقومته، أو كما قال لتدلك عينه من البكاء، إذ قيل: هذا جعفر بن يحيى قد أقبل، فأخذ منه منديلاً فمسح عينيه، وجمع ثيابه عليه، وقام إلى فراشه، مد عليه متربعاً، ثم قبل ليدخل فدخل، وقمت عن المجلس، وخفت أن يشكوني إليه، فألقى منه ما أكره. قال: فأقبل عليه بوجهه، وحدثه حتى أضحكه، وضحك إليه.
فلما هم بالحركة دعا بدابتة، وأمر غلمانه فسعوا بين يديه، ثم سأل عني فجئت، فقال: خذ على ما بقي من حزبي، فقلت: يا أيها الأمير أطال الله بقاءك لقد خفت أن تشكوني إلى جعفر، فقال: حاشا لله، أتراني يا أبا محمد كنت أطلع الرشيد على هذا. فكيف بجعفر يطلع على أني محتاج إلى الأدب؟ يغفر الله لك، لقد بعد ظنك، خذ في أمرك، فقد خطر ببالك ما لا يكون أبداً، ولو عدت في كل يوم مائة مرة.
وحكى المرزباني وغيره قالوا: سأل المأمون اليزيدي عن شيء فقال: لا، وجعلني الله فداك يا أمير المؤمنين، فقال: لله درك، ما وضعت واواً قط موضعاً أحسن من موضعها في لفظها. انتهى.
قلت: وإنما حسن وضع الواو في لفظه المذكور، لأنه لو حذفها منه لاستحق بذلك الأدب من الملوك، بل القتل، لأنه حينئذ يكون نافياً لجعله فداء له، وإثباتها يثبت جعله فداء نفسه الكريمة مقدماً بقاءه على بقاء نفسه عند نزول النوائب، وذلك من أعظم الآداب وأحسن التخاطب.(2/4)
وقال بعضهم: دخل اليزيدي يوماً على الخليل بن أحمد، وهو جالس على وسادة، فأوسع له وأجلسه معه، فقال له اليزيدي: أحسبني ضيقت عليك، فقال الخليل: ما ضاق موضع على متحابين، والدنيا لا تسع متباغضين.
وقال اليزيدي: دخلت على المأمون والحنيا غضة وعنده " نعم " تغنيه، وكانت من أجمل أهل دهرها، فأنشدت.
وزعمت أني ظالم فهجرتني ... ورميت في قلبي بسهم نافذ
فنعم هجرتك فاغفري وتجاوزي ... هذا مقام المستجير العائذ
ولقد أخذتم من فؤادي أنسه ... لا مثل ربي كف ذاك الآخذ
فاستعادها المأمون الصوت ثلاث مرات، ثم قال: يا يزيدي، أيكون شيء أحسن مما نحن فيه؟. قلت: نعم يا أمير المؤمنين، فقال: وما هو؟ قلت: الشكر لمن خولك هذا الإنعام العظيم فقال: أحسنت وصدقت. ووصلني وأمر بمائة ألف درهم يتصدق بها، وحكي: أنه وقع بين اليزيدي والكسائي تنازع في هذا البيت:
لا يكون العير مهراً ... لا يكون المهر مهر
فقال الكسائي: يجب أن يكون مهراً منصوباً على أنه خبر كان، ففي البيت على التقدير أقوال، وقد علم كون حرف الروي فيما قبله مرفوعاً، فقال اليزيدي: الرفع صواب، لأن الكلام قد تم عند قوله: لا يكون الثانية، وهي مؤكدة للأولى ثم استأنف وقال: المهر مهر، وضرب بقلنسوته الأرض، وقال: أنا أبو محمد، فقيل له: اتكتني بحضرة أمير المؤمنين. والله إن خطأ الكسائي مع حسن أدبه، لأحسن من صوابك مع سوء أدبك. فقال: إن حلاوة الظفر أذهب عني حسن التحفظ.
وفيها: توفي الفضل بن سهل وزير المأمون أبو العباس السرخسي أخو الحسن بن سهل وعم بوران التي تزوجها المأمون، قالوا: لما وزر للمأمون، استولى عليه حتى ضايقه في جارية أراد شراءها، وكانت فيه فضائل. وتلقب بذي الرياستين، وكان من أخبر الناس بعلم النجوم وأكبرهم إصابة في أحكامه فيها.
حكى أبو الحسين السلامي في تاريخ ولاة الخراسان أنه لما عزم المأمون على إرسال(2/5)
طاهر بن الحسين إلى محاربة أخيه الأمين، نظر الفضل بن سهل في مسألته، فوجد الدليل في وسط السماء،. وكان ذا عينين، فأخبر المأمون بأن طاهراً يظفر بالأمين. وتلقب بذي اليمينين، فكان الأمر كذلك. فتعجب المأمون من إصابة الفضل، ولفب طاهراً بذلك. وولع المأمون بالنظر في علم النجوم، قال السلامي: ومما أصاب الفصل بن سهل فيه من أحكام النجوم، أنه اختار للطاهر بن الحسين حين سمي للخروج إلى الأمين وقتاً عقد فيه لواء، فسلمه إليه ثم قال له: لقد عقدت لك لواء لا يحل خمساً وستين سنة. وكان بين خروج طاهر بن الحسين إلى وجه علي بن عيسى بن هامان مقدم جيش الأمين وقبض يعقوب بن الليث بنيسابور، خمساً وستين سنة.
ومن إصاباته أيضاً ما حكم به على نفسه. وذلك أن المأمون طالب والدة الفضل بما خلفه، فحملت إليه سكة مختومة مقفلة، ففتح قفلها فإذا صندوق صغير مختوم، فإذا فيه درج، وفي الدرج رقعة حرير مكتوب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما قضى الفضل بن سهل على نفسه، قضى أنه يعيش ثمان وأربعين سنة، ثم يقتل بين ماء ونار، فعاش هذه المدة ثم قتله غالب " خال المأمون " في حمام بسرخس كما سيأتي إن شاء الله تعالى وله غير ذلك إصابات كثيرة.
ويحكى أنه قال يوماً لثمامة بن الأشرس: ما أدري ما أصنع في طلاب الحاجات، فقد كثروا علي وأضجروني. فقال له: زل عن موضعك، وعلي أن لا يلقاك أحد منهم، قال: صدقت. وانتصب لقضاء أشغالهم. وكان قد مرض بخراسان، وأشفى على التلف. فلما أصاب العافية، جلس للناس، فدخلوا عليه، وهشوا بالسلامة، وتصرفوا في الكلام، فلما فرغوا من كلامهم، أقبل على الناس وقال: إن في العلل لنعماً، لا ينبغي للعاقل أن يجهلها بمحيص الذنوب والتعرض لثواب الصبر، والإيقاظ من الغفلة، والإذكار بالنعمة في حال الصحة، واستدعاء التوبة، والحض على الصدقة، وقد مدحه جماعة من أعيان الشعراء، وفيه يقول بعضهم، وقيل ابن أيوب التيمي:
لعمرك ما الأشراف في كل بلدة ... وإن عظموا للفضل إلا ضائع
ترى عظماء الناس للفضل خشعاً ... إذا ما بدا والفضل لله خاشع
تواضع لما زاده الله رفعة ... وكل جليل عنده متواضع
وقال فيه مسلم بن وليد الأنصاري من جملة قصيدة:(2/6)
أقمت خلافة، وأزلت أخرى ... جليل ما أقمت، وما أزلتا
قالوا: ولما ثقل أمره على المأمون، دس عليه خاله غالباً، فدخل عليه الحمام بسرخس، ومعه جماعة فقتلوه مفاوضة، وذلك يوم الجمعة ثاني شعبان من السنة المذكورة، وقيل في التي تليها، وعمره أربعون، وقيل إحدى وأربعون سنة وخمسة أشهر والله أعلم ولما قتل مضى المأمون إلى والدته، ليعزيها، فقال لها: لا تأسي عليه، ولا تجزعي لفقده، فإن الله قد أخلف عليك مني ولداً به يقوم مقامه، فمهما كنت تنشطين إليه فيه، فلا تنصصي عني منه. فبكت ثم قالت: يا أمير المؤمنين، وكيف لا أحزن على ولد النسبي، ولد مثلك " وسرخس " المذكور بالسين المهملة مكررة قبل الراء وبعد الخاء المعجمة الساكنة مدينة بخراسان.
ثلاث ومائتين
فيها استوثقت الممالك للمأمون، وقدم بغداد في رمضان، من خراسان، واتخذها سكناً. وتوفي الإمام المقرىء الحافظ حسين بن علي الجعفي مولاهم الكوفي، روى عن الأعمش وجماعة، قال أحمد: ما رأيت أفضل منه ومن سعد بن عامر الضبعي، وقال يحيى بن يحيى النيسابوري: إن بقي أحد من الأبدال، فحسين الجعفي، وقال بعضهم: كان مع تقدمة في العلم رأساً في الزهد والعبادة.
وفيها: توفي زيد بن الحباب أبو الحسين الكوفي، كان حافظاً صاحب حديث، واسع الدخل، صابراً على الفقر والفاقة.
وفيها توفي محمد بن بشر العبدي الكوفي الحافظ، قال أبو داود: هو أحفظ ممن كان بالكوفة في وقته.
وفيها: توفي أبو أحمد الزبيري محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي مولاهم الكوفي، قال أبو حاتم: كان ثقة حافظاً عابداً مجتهداً.
وفيها توفي أبو جعفر محمد بن جعفر الصادق، الملقب بالديباج، مات(2/7)
بجرجان، ونزل المأمون في لحده. وكان عاقلاً شجاعاً متنسكاً. كان الديباج يصوم يوماً ويفطر يوماً.
وفيها: توفي الإمام أبو الحسن النضر بن شميل المازني البصري. كان رأساً في الحديث واللغة والنحو، والفقه والغريب والشعر وأيام العرب، صاحب سنة. وهو من أصحاب الخليل بن أحمد. ذكره أبو عبيدة وقال: ضاقت المعيشة على النضر بن شميل البصري بالبصرة، فخرج يريد خراسان فتبعه من أهل البصرة نحو ثلاثة آلاف رجل، ما فيهم إلا محدث أو نحوي أو لغوي أو عروضي أو اخباري، فلما صار بالمربد، جلس فقال: يا أهل البصرة، يعز علي فراقكم، والله لو وجدت كل يوم كيلجة باقلاً ما فارقتكم. قال: فلم يكن فيهم أحد يتكلف ذلك، وسار حتى وصل خراسان، وجمع بها مالاً، وكانت إقامته بمرو ونظير ضيق المعيشة عنه على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في ترجمة القاضي عبد الوهاب المالكي، وضيق معيشته ببغداد، وانتقاله إلى مصر، سمع النضر بن هشام بن عروة واسماعيل بن أبي خالد، وحميد الطويل، وعبد الله بن عون، وهشام بن حسان، وغيرهم من التابعين.
وروى عنه يحيى بن معين، وعلي بن المديني، وكل من أدركه من أئمة عصره. ودخل نيسابور فسمع عليه أهلها، وله مع المأمون نوادر، منها: أن المأمون روى عن هشيم بسنده المتصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنه إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها، كان فيها سداد من عود. ورواه بفتح السين من سداد، فرواه النضر من طريق آخر، عن عوف بن أبي جميلة بسنده المتصل: سداد، بكسر السين، فقال له المأمون تلحنني؟ فقال: إنما لحن هشيم.
قال: فما الفرق بينهما. قال: السداد: بالفتح: القصد في الدينه والسبيل. والسداد بالكسر: البلغة. وكل ما سددت به شيئاً، فهو سداد. قال: أو تعرف العرب ذلك. قال: نعم، هذا العرجى يقول:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر(2/8)
فقال المأمون: قبح الله من لا أدب له. ثم أخذ القرطاس وكتب، ولا يدري ماذا كتب، ثم قال: إذا أمرت أن تترب يعني الكتاب كيف تقول؟ قال: أترب. قال: فهو ماذا قلت: مترب. قال: فمن الطين؟ قال: طين. قال: فهو ماذا؟ قال: مطين: فقال هذه أحسن من الأولى. ثم قال: يا غلام أتربه وطينه، ثم أرسل بالكتاب إلى وزيره الفضل بن سهيل مع غلامه، وبعث معه النضر بن شميل، فلما قرأ الفضل الكتاب قال: يا نضر: إن أمير المؤمنين أمر لك بخمسين ألف درهم، فما كان السبب فيه؟ فأخبره، فقال: لحنت أمير المؤمنين قال: كلا، إنما لحن هشيم، فتبع أمير المؤمنين لحانه. فأمر له بثلاثين ألف درهم أخرى، فأخذ ثمانين ألف درهم بحرف استفيد منه. والبيت الذي استشهد به هو لعبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان الأموي العرجي الشاعر المشهور، وهو من جملة أبيات، منها قوله:
أضاعوني، وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر
وصبر عند معترك المنايا ... وقد شرعت أسنتها بنحر
وسبب عمله لهذه الأبيات أنه حبسه محمد بن هشام المخزومي خال هشام بن عبد الملك، وكان والياً على مكة. وأقام في حبسه تسع سنين حتى مات في الحبس، من أجل أنه كان يشبب بأمه، ولم يكن ذلك عن محبة له فيها، بل ليفضح ولدها المذكور، وعاش ثمانين سنة.
وفيها: توفي الإمام الحبر أبو زكريا يحيى بن آدم الكوفي المقرىء الحافظ الفقيه صاحب التصانيف.
وفيها: توفي أزهر بن سعد الباهلي مولاهم البصري. روى الحديث عن حميد الطويل، وروى عنه أهل العراق، وكان صحب أبا جعفر المنصور قبل أن يلي الخلافة، فلما وليها جاءه مهنئاً، فحجبه المنصور فترصد له في يوم جلوسه العام وسلم عليه، فقال له المنصور: ما جاء بك؟ قال: جئت مهنئاً بالأمر، فقال المنصور: أعطوه ألف دينار، وقولوا له: قد سمعت أنك مريض، فجئت عائداً، فقال: أعطوه ألف درهم، وقال: قد قضيت وظيفة العيادة، فلا تعد إلي فإني قليل الأمراض. فمضى وعاد في قابل، فحجبه، فدخل عليه في مثل ذلك المجلس، فسلم عليه، فقال له المنصور: ما جاء بك؟ فقال: سمحت منك دعاء، فجئت لأتعلمه منك، فقال له: يا هذا إنه غير مستجاب، إني في كل سنة أدعو الله تعالى به أن لا تأتيني وأنت تأتيني.
وله وقائع وحكايات مشهورة، قلت: وهذا من المنصور حلم، وطول روح، وهو(2/9)
غريب بالنسبة إلى سطوته، ولو وقع مثل هذا التكرار والمعاودة مع الحجاج لكان يفضي إلى قتل أو عقوبة شديدة، ووقوع مثل هذا مع المنصور مع بذل هذه الأموال أمر عجيب.
وفيها: توفي الإمام الجليل المعظم سلالة السادة الأكارم أبو الحسن علي بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أحد الأئمة الأثني عشر، أولي المناقب الذين انتسبت الإمامية إليهم، وقصروا بناء مذهبهم عليه. وكان المأمون قد زوجه ابنته أم حبيية، وجعله ولي عهده، وضرب اسمه على الدينار والدرهم. وكان السبب في ذلك أنه استحضر أولاد العباس الرجال منهم والنساء، وهو بمدينة مرو من بلاد خراسان، وكان عددهم ثلاثة وثلاثين ألفاً بين كبير وصغير، واستدعى علياً المذكور، فأنزله أحسن منزل، وجمع خواص الأولياء، وأخبرهم أنه نظر في أولاد العباس وأولاد علي بن أبي طالب، فلم يجد أحداً في وقته أفضل، ولا أحق بالخلافة من علي الرضا فبايعه، وأمر بإزالة السواد من اللباس والأعلام، وإبدال ذلك بالخضرة.
ونمي الخبر إلى من بالعراق من أولاد العباس، فعلموا إن في ذلك خروج الأمير عليهم، فخلعوا المأمون، وبايعوا منصور بن المهدي عم المأمون، ولقبوه بالمرتضى، فضعف عن الأمر وقال: إنما أنا خليفة المأمون. فتركوه وعدلوا إلى أخيه إبراهيم بن المهدي، بايعوه بالخلافة، ولقبوه بالمبارك، وذلك يوم الجمعة لخمس خلون من المحرم من السنة المذكورة، وقيل سنة اثنتين وثلاث مائة.
وجرت بالعراق حروب شديدة وأمور مزعجة، والشرح في ذلك يطول.
وكانت ولادة علي الرضا يوم الجمعة في بعض شهور سنة ثلاث وخمسين ومائة بالمدينة، وقيل: بل ولد في سابع شوال، وقيل: ثامنه، وقيل سادسه سنة إحدى وخمسين ومائة، وتوفي: خامس ذي الحجة، وقيل: ثالث عشر ذي القعدة سنة ثلاث، وقيل: في آخر يوم من صفر سنة اثنتين ومائتين بمدينة طوس، وصلى عليه المأمون، ودفنه ملتصق قبر أبيه الرشيد.
وكان سبب موته على ما حكوا، أنه كل عنباً فكثر منه، وقيل: بل مات مسموماً،(2/10)
وفيه يقول أبو نواس لما عتب عليه بعض أصحابه، وقال له: ما رأيت أوقح منك، ما تركت خمراً ولا معنى إلا قلت فيه شيئاً، هذا علي بن موسى الرضا في عصرك، ما قلت فيه شيئاً، فقال: والله ما تركت ذلك إلا إعظاماً له، وليس قدر مثلي يستحسن أن يقول في مثله، ثم أنشد بعد ساعة:
قيل لي أنت أحسين الناس طراً ... قي فنون من المقال النبيه
لك من جيد القريض مديح ... يثمر الدر في يدي مجتنيه
فعلى ما تركت مدح ابن موسى ... والخصال التي ذهبت هي فيه
قلت لا أستطيع مدح إمام ... كان جبريل خادماً لأبيه
قلت: وفي هذه الأبيات لفظان أصلحتهما، لاختلال وزنهما من جهة الكاتب. وقال فيه أيضاً أبو نواس:
مطهرون بقبات حياتهم ... تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا
من لم يكن علوياً حين تنسبه ... فما له في قديم الدهر مفتخر
الله لما برا خلقاً فأتقنه ... صفاكم واصطفاكم أيها البشر
فأنتم الملأ الأعلى وعندكم ... علم الكتاب وما جاءت به السور
وقال المأمون يوماً لعلي بن موسى المذكور: ما يقول بنو أبيك في جدنا العباس بن عبد المطلب؟ فقال: ما يقولون؟ رجل فرض الله طاعة بنيه على خلقه فأمر له بألف ألف درهم.
وكان قد خرج أخوه زيد بن موسى بالبصرة على المأمون، وفتك بأهلها، فأرسل إليه المأمون أخاه علياً المذكور، يرده عن ذلك، فجاءه وقال له: ويلك يا زيد، فعلت بالمسلمين بالبصرة ما فعلت وتزعم أنك ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والله، لأشد الناس عليك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يا زيد، ينبغي لمن أخذ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أن يعطي به، فبلغ كلامه المأمون، فبكى وقال: فكذا ينبغي أن يكون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قيل: هذا الكلام مأخوذ من كلام زين العابدين، فقد قيل: إنه كان إذا سافر كتم نسبه، فقيل له في ذلك فقال: أنا أكره أن آخذ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لا أعطي به.
أربع ومائتين
فيها توفي إمام الأنام، وحيد الدهر وفقيه العصر أبو عبد الله محمد بن إدريس بن(2/11)
فأسر العباس بن العثمان بن شلفع بن السائب بن عبيد بن يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف القريشي المطلبي الشافعي، يجتمع نسبه مع نسب رسول الله عليه وسلم في عبد مناف وهو رابع آباء رسول الله صلي الله عليه وسلم وعاشر آباء الشافعي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، والشافعي نسبه كما تقدم قريباً، وكونه مطلبياً، هو من جهة الأب، وهو أيضاً هاشمي من جهات أمهات أجداده، وأزدي من جهة أمة. وقد أوضحت ذلك في اختصار مناقبه منقولاً عن العلماء الأعلام الأئمة الحفاظ منهم الحاكم أبو عبد مناف جد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات وذلك لأن أم السائب هي الشفا بنت الأرقم بن هاشم بن عبد مناف، وأم الشفا هي خليدة " بفتح الخاء المعجمة والدال المهمله وكسر اللام وسكون المثناة من تحت بينها وبين الدال " ابنة أسد بن هاشم بن عبد مناف، وأم عبد يزيد هي الشفا بنت هاشم بن عبد مناف، وذلك أن المطلب زوج ابنه هاشماً الشفا بنت هاشم بن عبد مناف، فولدت له عبد يزيد، فالشافعي ابن عم رسول الله عليه وسلم، وابن عمته، لأن المطلب عم رسول الله عليه وسلم، والشفا بنت هاشم بن عبد مناف أخت عبد المطلب، عمة رسول الله عليه وسلم.
وأيضاً قد نقل عن الشافعي أنه كان يقول: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ابن عمي وابن خالتي. وأما كونه ابن عم له فواضح، لكونه ثبت أنه مطلبي من طريق عديدة، منها قول الإمام ابن دريد في الأبيات الآتي ذكرها.
ترى ابن إدريس ابن عم محمد ... ضياء إذا ما أظلم الخطب ساطع
وقول الإمام المسلم بن الحجاج القشيري قال: عبد الله بن السائب والي مكة هو أخو شافع بن الشائب جد محمد بن إدريس الشافعي. قال بعض الأمة: ولا أن عبد الله بن السائب كان من بني المطلب، وقال الإمام داود بن علي الأصفهاني وقد ذكر بعض أقوال الشافعي قال: هذا قول المطلبي الذي علا الناس بنكته، وقهرهم بأدلته، وباينهم بشهامته، وظهر عليهم بديانته، التقي في دينه، النقي في حسبه، الفاضل في نفسه، المتمسك بكتاب ربه، المقتدي بسنة رسوله، الماحي لأرباب أهل البدع، الذاهب بخبرهم، الطامس لسيرهم، حتى أصبحوا كما قال الله تعالى: " فأصبح هشيماً تذروه الرياح ".
ومن ذلك إقرار الخليفة هارون الرشيد في ذلك قوله: أما علم محمد بن الحسن أنه إذا ناظر رجلاً من قريش أنه يقطعه لما بلغله أن الشافعي قطعه؟ وقوله؟ أيضاً: ألا إن بني(2/12)
المطلب ما فارقوا آل رسول الله صلى الله عليه وسلم في شرف ولا في سخاء حين بلغه أن الشافعي فرق جميع ما أعطاه من الدنانير الألف وقول الرشيد لأبي يوسف أيضاً: ومحمد لن توازياه ولن تعادلاه، والله، قد أثبت الله له حق القرابة من رسوله صلى الله عليه وسلم، وحق الشرف وحق القرآن وحق العلم وقوله أيضاً للشافعي: كثر الله في أهلي مثلك. كل هذا مما نقله العلماء في مناقبه.
ومن ذلك شيوع ذلك واستفاضته، قالوا: وقد ثبت بالتواتر أن الشافعي كان يفتخر بهذا النسب، وأما كونه ابن خاله علي فلأنه قد تقدم أن أم السائب بن عبيد جد الشافعي هي الشفا بنت الأرقم بن عبد مناف، وأم هذه المرأة هي خليدة بنت أسد بن هاشم، وأم علي هي فاطمة بنت أسد بن هاشم.
قلت: وقد رويت السند الصحيح المتصل إلي الشيخ الكبير العارف بالله الشهير أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه أنه قال: ما مات الشافعي حتى قطب. رواه الشيخ الأمام العارف بالله شهاب الدين بن المليق عن الشيخ الفقيه الأمام العارف بالله تاج الدين بن عطاء الله، عن شيخه الشيخ الكبير المعظم ذي النون القدسي العارف بالله أبي العباس المرسي عن شيخه الشيخ الكبير العارف بالله ذي المقام العالي المشهود له بالقطبية أبي الحسن الشاذلي قدس الله أرواح الجميع.
وسبب رواية الشيخ ابن المليق لذلك أنه قال: قد جئت إلي الشيخ إمام تاج الدين بن عطاء الله الشاذلي المالكي، يا سيدي، أريد أن أصحبك بشرط أن تتركني على مذهبي، فإني أحب مذهب الشافعي، فقال: نعم، وأزيدك زويدة وهي أنه: ما مات الشافعي حتى قطب، روى ذلك بالسند المذكور إلى الشيخ القطب أبي الحسن الشاذلي رحمه الله.
قلت: وأرى لهذه القطبية احتمالين: أحدهما: القطبية التي تنتقل من واحد إلى واحد، وإليها الإشارة بقول بعضهم: محجوبة لن يراها اثنان في زمن.
الثاني: أن يكون للعلماء قطب للأولياء قطب والله أعلم.
قلت: ومن المشهور المذكور في رسالة الأستاذ أبي القاسم القشيري وغيرها عن الشيخ الكبير العارف بالله، الشهير ببلال الخواص رضي الله عنه أنه سأل الخضر عليه السلام عن الإمام الشافعي رضي الله عنه فقال: هو من الأوتاد.
قلت: وذلك قبل أن يرتقي إلي مقام القطبية.
رجعنا: إلى ذكر نسب الشافعي رضي الله عنه، قال العلماء: وجده " شافع " لقي رسول الله عليه وسلم، وهو متزعزع وكان السائب صاحب راية بني هاشم يوم بدر،(2/13)
فأسر وفدى نفسه، ثم أسلم، فقيل له: لم لم تسلم قبل أن تفدي نفسك؟ فقال: ما كنت لأحرم المؤمنين طمعاً لهم في.
وباقي نسب الشافعي إلى معد بن عدنان معروف، وكان الشافعي رضي الله عنه كثير المناقب، جم المفاخر، عديم النظير، منقطع القرين، اجتمع فيه العلوم لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وكلام الصحابة رضي الله عنهم وآثارهم واختلاف أقاويل العلماء وكلام العرب من النحو واللغة والشعر وغير ذلك ما لم يجتمع في غيره، حتى أن الأصمعي مع جلالة قدره في هذا الشأن قرأ عليه أشعار الهذليين، وحتى أن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه وعن الجميع قال: ما عرفت ناسخ الحديث ومنسوخه حتى جالست الشافعي.
وقال له إسحاق بن راهويه وهو بمكة أكثر من عشر مرات: تعال أريك رجلاً ما رأت عيناك مثله، فأوقفه على الشافعي قلت: وحتى الزمخشري من أئمة المعتزلة أثنى على الإمام الشافعي، وعظمه، ورجح قوله، وقوى حجته، وجعله من أئمة اللغة المعتبرين، ومدحه مدحاً حسناً كما سيأتي ذكره.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: كا رأيت رجلاً قط أكمل من الشافعي، وقال الإمام أحمد: الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للبدن، هل لهذين من خلف أو عنهما عوض. وقال يحيى بن معين: كان الإمام أحمد نهانا عن الشافعي، ثم استقبلته يوماً، والشافعي راكب بغلته، وهو يمشي خلفه، فقلت: يا أبا عبد الله، تنهي عنه، وتمشي خلفه، قال: اسكت، لو لزمت البغلة انتفعت.
وحكى الخطيب في تاريخ بغداد عن ابن الحكم أنه قال: لما حملت أم الشافعي به، رأت كأن المشتري قد خرج من فرجها، حتى انقض بمصر، ثم وقع في كل بلد منه شظية فتأؤل أصحاب الرؤيا أنه يخرج منها عالم يخص علمه أهل مصر ثم يتفرق سائر البلدان.
وذكر الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله في مناقب الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه أول من صنف في أصول الفقه، وقال: اتفق الناس على ذلك، وأنه الذي رتب أبوابه، وميز بعض أقسامه عن بعض، وشرح مراتبها في الضعف والقوة، قيل وما مثل الشافعي ومثل غيره إلا كما قال القائل:
نزلوا بمكة في قبائل نوفل ... ونزلت بالبيداء أبعد منزل
وذكر هو وغيره من الأئمة ما هو مشهور في مناف الشافعي، وهو أن إمام الحديث في،(2/14)
زمانه المشكور المشهور عبد الرحمن بن مهدي التمس من الإمام الشافعي وهو شاب أن يضع له كتاباً يذكر فيه شرائط الإستدلال بالقرآن والسنة والإجماع والقياس وبيان الناسخ والمنسوخ ومراتب العموم والخصوص، فوضع الشافعي له كتاب الرسالة، وبعثها إليه، فلما قرأها قال: ما ظننت أن الله خلق مثل هذا الرجل، قلت: يعني من أئمة العلماء.
وكان الإمام أحمد يقول في الشافعي: فيلسوف في أربعة أشياء: في اللغة وإختلاف الناس والمعاني والفقه. وقال في الحديث الوارد: في أحداث الله من يجدد لهذه الأمة دينها على رأس كل مائة سنة، إنه كان على رأس المائة الأولى عمر بن عبد العزيز، وعلى رأس المائة الثانية محمد بن الحرشي الشافعي، وقد أوضحت في " كتاب المرهم في الأصول " من ذكر الأئمة المعتبرين من بعده على رؤوس المئين يكونون.
وقال الشافعي: رأيت في زمان الصبا بمكة رجلاً ذا هيئة، يؤم الناس في المسجد الحرام، فلما فرع، أقبل على الناس يعلمهم، قال: فدنوت منه، وقلت: علمني، فأخرج ميزاناً من كمه، فأعطانيه، وقال: هذا لك. قال: وكان هناك معبر، فعرضت عليه الرؤيا فقال: إنك ستصير إماماً في العلم، وتكون على السنة، لأن إمام المسجد الحرام أفضل الأئمة كلهم، وأما الميزان فإنك تعلم حقيقة الشيء في نفسه.
قلت: لا جرم أن الإمام الشافعي استنبط علوماً لم يستبق إليها، كاستنباطه علم أصول الفقه، وتلخيصه باب القياس تلخيصاً سنياً، ووضعه للخلق قانوناً كلياً، يرجع إليه في معرفة مراتب أدلة الشرع، كما سيأتي ذكر ذلك، فهو كما ذكر بعض العلماء أن نسبته إلى علم الأصول كنسبة أرسطا طاليس الحكيم إلى وضع المنطق في معرفة تركيب الحدود والبراهين، وكنسبة الخليل بن أحمد إلى علم العروض والأصول في معرفة وزن الشعر، والتمييز بين صحيحه وفاسده، وسيأتي ذكر مقامات أخرى له، رضي الله تعالى عنه.
وقال محمد بن عبد الحكم: ما رأيت مثل الشافعي، كان أصحاب الحديث يجيئون إليه، ويعرضون عليه غوامض علم الحديث، وكان يوقفهم على أسرار لم يقفوا عليها، فيقومون وهم متعجبون منه، وأصحاب الفقه الموافقون والمخالفون لا يقومون إلا وهم مذعنون له، وأصحاب الأدب يعرضون عليه الشعر، فيبين لهم معانيه. وكان يحفظ عشرة آلاف بيت لهذيل بإعرابها ومعانيها، وكان من أعرف الناس بالتواريخ، وكان ملاك أمره إخلاص العمل لله تعالى.(2/15)
وكان لمزني يقول: لو وزن عقل الشافعي بعقل نصف أهل الأرض رجح. قلت: هكذا قال: أرض بالتنكير، فليعلم ذلك، وقال: لو رأيتم الشافعي لقلتم في كتبه أنها ليست من تصانيفه، والله إن لسانه كان أكثر من كتبه.
وقال القاسم بن سلام: ما رأيت رجلاً قط أضل ولا أورع ولا أفصح ولا أبسل من الشافعي، وكان أبو حاتم الرازي يقول: لولا الشافعي لكان أصحاب الحديث في عمى.
وقال بعض الأئمة: كان أئمة الحديث مأسورين في أيدي المعتزلة. حتى ظهر الإمام الشافعي، وقال الحسن بن محمد الزعفراني: إن محمد بن الحسن يعني صاحب الإمام أبي حنيفة قال: إن تكلم أصحاب الحديث يوماً فبلسان الشافعي.
وقال بشر المريسي من أئمة المبتدعة لما رجع من مكة إلى بغداد: رأيت شاباً بمكة من قريش ما أخاف على مذهبنا إلا منه، وكان الجاحظ من أئمتهم يقول: نظرت في كتب هؤلاء التابعة الذين اتبعوا في العلم يعني أهل السنة فلم أر أحسن تأليفاً من المطلبي، أن لسانه ينظم الدرر، وكذلك الزمخشري من أئمتهم، ومكانه من علم العربية معروف، صدر منه الإعتراف في كتابه " الكشاف " للشافعي: بالتقدم في علم العربية وإرتقائه في الفضل لدرجة العلية في تفسير قوله تعالى: " ذلك أدنى أن لا تعولوا ") النساء: 13، (وذكر فيه الوجوه المروية عن الشافعي، ثم بين وجه تصحيحها، ثم قال: وكلام مثل الشافعي من أعلام العلم وأئمة الشرع ورؤوس المجتهدين حقيق بأن يحمل على الصحة والسداد. قال: كفى بكتابنا المترجم " كتاب شافي العي من كلام الشافعي " شاهداً بأنه كان أعلى كعباً أطول باعاً في كلام العرب من أن يخفى عليه مثل هذا.
قلت: يعى في قول الشافعي معناه: يكثر عيالكم، وقول المفسرين معناه، تعيلوا وتجوروا، وإنه يقال: أعال، لا عال، إذا أريد كثرة العيال. قيل: إلا أن يحمل على العقبى، لأن المعيل قد يعول. وأنشد بعضهم على قول المفسرين:
وميزان حق لا يعول شعيره ... ووزان صدق، وزنه غير عائل
وأنشد أيضاً على قول الشافعي:
وإن الموت يأخذ كل حي ... بلا شك وإن أثرى وعالاً
وقال الأصمعي: قرأت شعر الشنفري " بفتح الشين المعجمة وسكون النون وفتح الفاء والراء " الأزدي على محمد بن إدريس الشافعي.
وقال المازني: قول محمد بن إدريس حجة في اللغة، وذكر نحوه عن ثعلب(2/16)
والأزهري، ولما استدعى به هارون الرشيد قال: بعد قصص كثيرة: ما علمك بكتاب الله؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن علوم القرآن كثيرة، أفتسألني عن محكمه ومتشابهه؟. أو عن تقديمه وتأخيره؟ أو عن ناسخه ومنسوخه. أو عما ثبت حكمه وارتفعت تلاوته. أو عن عكس ذلك. أو عما ضرب الله به مثلاً. أو عن ما جعله الله اعتباراً؟ . أو عن أخباره، أو عن أحكامه، أو عن مكية ومدنية؟. أو عن ليلية ونهارية؟ أو عن سفرية وحضرية؟. أو عن تنسيق رصفه أو تسوية سوره؟. أو نظائره أو إعرابه؟. أو وجوه قراءته أو حروفه؟ أو معاني لغاته أو عدد آياته؟. قال الراوي: فما زال الشافعي يعدد هذه حتى عدد ثلاثة وسبعين نوعاً من أنواع علوم القرآن.
قال هارون: لقد أوعيت من القرآن علماً عظيماً، فقال: المحنة على الرجل كالنار على الذهب. وكذلك سأله عن السنة، فأجابه أنه يعرف منها ما خرج على وجه الإيجاب، وعلى وجه الخطر، وعلى وجه الخصوص، وعلى وجه العموم، وما خرج جواب سائل، وما خرج لإزدحام العلوم في صدره صلى الله عليه وآله وسلم، وما فعله فاقتدى به غيره، وما خص به صلى الله عليه وآله وسلم فقال الرشيد أجدت ووضعت كل قسم في مكانه، فقال: ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، فقال: كيف بصرك بالعربية؟ فقال: هي مبدأنا طباعنا وألسنتنا، فقال: كيف معرفتك بالشعر. فقال: إني لأعرف الجاهلي منه والمخضرم والمحدث وطويله ومديده وكامله وسريعه ومجتثه ومنسرحة وخفيفه ورجزه وهزجه ومتقاربه وغزله وحكمته، وكذلك سأله عن الطب، فأجابه بأنه يعرف ما قاله علماؤه، وعددهم وغير ذلك من العلوم.
وكان شيوخ مكة يصفون الشافعي من أول صغره بالذكاء والعقل والصيانة، ويقولون: لم يعرف له صبوة.
وقال الشافعي: قدمت على مالك بن أنس، وقد حفظت الموطأ، فقال لي: أحضر من يقرأ لك، فقلت: أنا القارىء، فقرأت عليه الموطأ حفظاً، فقال: إن يك أحد يفلح، فهذا الغلام.
وروى الإمام أبو نعيم الأصفهاني أنه قال صلى الله عليه وآله وسلم: " لا تؤموا قريشاً، وأتموا بها الحديث "، قال فيه فإن عالم قريش يملأ طباق الأرض علماً، وكان سفيان بن عيينة إذا جاء شيء من التفسير أو من الفتيا، التفت إلى الشافعي فقال: سلوا هذا.
وقال الحميدي: سمعت مسلم بن خالد الزنجي، يعني شيخ الشافعي يقول للشافعي: أفت يا أبا عبد الله، فقد والله لآن لك أن تفتي. وهو إذاك ابن. خمس عشرة سنة.(2/17)
وقال محفوظ بن أبي توبة البغدادي: رأيت الإمام أحمد عند الإمام الشافعي في لمسجد الحرام، فقلت: يا أبا عبد الله، هذا سفيان بن عيينة في ناحية المسجد يحدث، قال: إن هذا يفوت، وذلك لا يفوت.
وقال أبو حسان الزيادي: ما رأيت محمد بن الحسن يعظم أحداً من أهل العلم تعظيمه للشافعي.
وقال الشافعي: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال لي: يا غلام، من أنت. قلت: من رهطك يا رسول الله، فقال: ادن مني، فدنوت منه، فأخذ من ريقه المبارك، فتحت فمي، فأمر من ريقه على لساني وفمي وشفتي، وقال: امض، بارك الله فيك.
قال: ورأيت علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في النوم أيضاً، فسلم، فصافحني، وخلع خاتمه وجعله في إصبعي، وكان لي عم، ففسرها لي فقال: أما مصافحتك لعلي فهو أمان من العذاب، وأما خلعه خاتمه وجعله في أصبعك، فسيبلغ اسمك ما بلغ اسم علي في المشرق والمغرب.
قلت: ومن التحدث بنعم الله، مما يقرب من مناسبته، هذا ما رأيت، والحمد لله، كأني أطوف بالكعبة، ومعي الملك الناصر، وفي إصبعي خاتم علي، فعسى أن يكون تأويلها إن شاء الله تعالى البركة والهدى والنصر والعلو في الدين.
وكذلك رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مراراً عديدة، دعا لي في بعضها، وفي بعضها أعطاني من ثمار الفاكهة الخضراء، وفي بعضها شكوت عليه شيئاً بلسان الحال، فتبسم وقال: أنا ظهرك، وأنا سندك، وسماني شيخاً وإماماً وفقيهاً، وأكلت من طبق رطب بين يديه، وحرص بعض الأخيار على حضور مجلس، وحملني صلى الله عليه وآله وسلم، فوضعني على منبر، وأركبت فرساً، وحملت الغاشية بين يدي. رأى كل هذا لي جماعة من الأولياء السادات.
ورأيت بعضه، ورأى بعضهم أني جالس على سجادة بيضاء مفروشة تجاه وجهه صلى
الله عليه وآله وسلم وناس من خلفي، والحمد لله على جميع الآلاء والأفضال، وعلى كل، حال من الأحوال.
رجعنا إلى ذكر الإمام الشافعي رضي الله عنه وذكر غير واحد من الأئمة ما تقدم من إن الشافعي أول من تكلم عن أصول الفقه، وهو الذي استنبطه، وأول من علل الحديث،(2/18)
وكان حاذقاً في الرمي يصيب تسعة من عشرة، وروي عنه أنه قال: استعملت اللبان سنة للحفظ فأعقبني صب الدم.
وقال يونس بن عبد الأعلى: لو جمعت أمة لوسعهم عقل الشافعي.
وقال أبو ثور: من زعم أنه رأى مثل محمد بن إدريس في علمه وفصاحته ومعرفته وثباته وتمكنه فقد كذب، كان منقطع القرين في حياته، فلما مضى لسبيله لم يعتض منه.
وقال الإمام أحمد: ما أحد ممن بيده محبرة أو ورق إلا وللشافعي في رقبته منة.
وقال الزعفراني: كان أصحاب الحديث رقوداً، حتى جاء الشافعي، فأيقظهم، فتيقظوا، وفضائله أكثر من أن تعد، ومناقبه أجل من أن تحد فقد صنف الأئمة الجلة كالبيهقي وفخر الدين الرازي وداود الظاهري وغيرهم من العلماء فيها تصانيف قيل: ثلاثاً عشر مصنفاً.
وقد ذكرت نبذة مختصرة من مناقبه، وما جرى له في العراق من المناظرات وغيرها بحضرة الرشيد، وتصنيف كتبه المشتملة على قوله القديم في العراق وفي مصر المشتملة على فتيا " القول الجديد الموسوم بمنهل الفهوم " المروي من صدى الجهل المذموم في شر ألسنة العلوم، عند ذكر المراجعة في فن البديع بقولي:
فقلت لها: ما العلم. قالت: دراية ... وما ذاك في محض الروايات مسمعاً
وما الفقه؟. قالت: وصفا الفهم، ليس في ... مجرد ثقل صادق من له وعى
ويكفيك قول المصطفى، رب حامل ... دليلاً إذا ما فيه نودي: وتوزع
وعرف صلاح علم أحكام شرعنا ... بكسب وتفصيل الدليل تفرع
ومن جهة الإجمال علم أصوله ... دعا الله خيراً ذلك النهج أبدعا
إمام الهدى السامي على أو براعة ... ونور الوجود الباهج المتشعشعا
وبحر العلوم الزاخر الطامي الخضم ... تاج العلى الراقي المقام المرفعا
فتى نجل إدريس الرضا لأئمة ... بدور الدياجي قدوة الدين متبعا
فضائله تزهو الوجود بحسنها ... بها سارت الركبان غرباً ومطلعا
وما لخصال المدح في ذكر بعضها ... مجال نعتها الكتب، ضاقت لها وعا
إلى ذكره أتجر الكلام، ولم أرم ... مناقب ذي العلياء أمدح متبعا
ترى هل حصاني حين أرخى عنانه ... عتيقاً جواداً شافع السر سلفعا
ترى قاطعاً في شاوة من مساحة ... تطول لفضل الشافعي القطب إصبعا
كذاك بإسناد صحيح مقطب ... له قبل ما ناعى منيته نعى(2/19)
عن الشاذلي المشهور شيخ زمانه ... إمام الهدى القطب الرضي المتورعا
وأيضاً من الأوتاد من قبل ذا إلى ... شهير روايات عن الخضر مسمعا
عليه سلام الله أكرم سيد ... حضيض اصطفى في قلبه السر أودعا
ومولده: سنة خمسين ومائة، وقد قيل أنه ولد في اليوم الذي توفي فيه الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه.
قلت: وبيننا وبين الحنفية مقاولة على سمبيل المزاح، فهم يقولون إمامكم كان مخفياً حتى ذهب إمامنا، ونحن نقول: لما ظهر إمامنا هرب إمامكم. وكان مولده رضي الله تعالى عنه في بلاد غزة، وقيل بعسقلان، وقيل باليمن، والأول أصح. وحمل إلى مكة وهو ابن سنتين، ونشأ بها وقرأ القران الكريم.
وحديث رحلته مشهور فلا نطول بذكره، وقدم بغداد، فأقام بها سنتين، وصنف بها كتبه القديمة، ووقع بينه وبين محمد بن الحسن مناظرات كثيرة، وبارتفاع شأن الشافعي عند هارون الرشيد شهير، وقد أوضحت ذلك في غير هذا الكتاب.
وذكر بعضهم: أنه لما ظهر عليه الإمام الشافعي في بعض مناظراته، أمر الرشيد الشافعي بجر رجل محمد بن الحسن، فأخذ الشافعي عند ذلك يمدح محمد بن الحسن، ويقول: يا أمير المؤمنين، ما رأيت سمينا أفقه منه، فخلع الخليفة عليهما، وحمل كل واحد منهما على مركوب، وأمر للإمام الشافعي بخمسين ألف درهم، فما وصل الشافعي بيته، حتى تصدق بجميع ذلك، ووصل به الناس. ثم رجع إلى مكة، ثم عاد إلى بغداد، فأقام بها شهراً ثم خرج إلى مصر، وصنف بها كتبه الجديدة، ولم يزل بها إلى أن توفي في اليوم الجمعة آخر يوم من رجب، ودفن بعد العصر من يومه بالقرافة الكبرى، وقبره يزار بها، وعليه ضربت قبة عظيمة.
قال: الربيع المزادي: رأيت هلال شعبان وأنا راجع من جنازته، قال: ورأيت في المنام قبل موت الشافعي بأيام، كأن آدم صلى الله عليه وآله وسلم مات، والناس يريدون أن يخرجوا بجنازته، فلما أصبحت سألت بعض أهل العلم عن ذلك، فقال: هذا موت أعلم أهل الأرض، لأن الله تعالى علم آدم الأسماء كلها، فما كان إلا يسيراً، حتى مات الشافعي رحمه الله عليه.(2/20)
قال: ورأيته بعد موته في المنام، فقلت له: يا أبا عبد الله، ما صنع الله بك. فقال: أجلسني على كرسي من ذهب، ونثر علي اللؤلؤ الرطب.
وقال شيخنا الكبير العارف بالله الخبير نور الدين علي بن عبد الله المعروف بالطواشي نسباً، الشافعي ثم الصوفي مذهباً، قدس الله روحه: رأيت الشافعي رضي الله تعالى عنه تحت سدرة المنتهى، وأشك، هل ذلك في المتام. أو في حال ورد عليه. وقد اتفق العله قاطبة من أهل الفقه والحديث والأصول واللغة والنحو وغير ذلك على جلالته وبراء وفضيلته وإمامته وتقواه وديانته وورعه وزهادته وجوده وسماحته ومروؤته ونزاهته وحسن سيرته ولطافته. وله من الأشعار ما يخرج عن حيز الإنحصار، وقد ذكرت شيئاً من ذلك كتابي المذكور قريباً، ومن القول المنسوب إليه:
بقدر الكد تكتب المعالى ... ومن رام العلى سهر الليالي
وقوله:
تغرب عن الأوطان في طلب العلى ... وسافر، ففي الأسفار خمس فوائد
تفرج هم، واكتساب معيشة ... علم وآداب وصحبة ماجد
وقوله:
أخي، لن تنال العلم إلا بستة ... سأنبيك عن مكنونها بيان
ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة ... وإرشاد أستاذ وطول زمان
ولما مات رثاه خلق كثير بمرات كثيرة. من ذلك قول بعض أئمة اللغة وهو ابن دريد:
ألم تر آثار ابن إدريس بعده ... دلائلها في المشكلات لوامع
معالم يفنى الدهر وهي خوالد ... وتنخفض الأعلام وهي قوارع
مناهج فيها للورى متصرف ... موارد فيها للرشاد شرائع
ظواهرها حكم ومستنبطاتها ... لما حكم التفريق فيها، جوامع
ترى ابن إدريس ابن عم محمد ... ضياء إذا ما أظلم الخطب ساطع
إذا المعضلات المشكلات تشابهت ... سما منه نور في دجاهن لامع
وقول نفطويه: مثل الشافعي في العلماء مثل البدر في نجوم السماء.
قلت: وذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي رحمه الله أن الإمام الورع الزاهد أبا جعفر محمد بن أحمد الترمذي رحمه الله تعالى، رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام المدينة في مسجده صلى الله عليه وآله وسلم عام حج، فسأله عمن يأخذ بقوله من أئمة(2/21)
المذاهب، في كلام طويل قال في آخره: قلت: فأخذ يقول: الشافعي، قال ما هو له، يقول: إنه أخذ بسنتي ورد على من خالفها.
فكذلك ذكر الإمام الشيخ أبو إسحاق أيضاً في الطبقات، عن الإمام أبي عبد الله محمد بن نصر المروزي، أنه كان قاعداً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأغفى إغفاءة، فرأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فسأله عمن يأخذ بقوله كما تقدم، فعد إماماً بعد أمام، حتى جاء إلى الإمام الشافعي، قال: فقلت كتب رأي الشافعي؟ ، فطأطأ صلى الله عليه وآله وسلم رأسه. شبه الغضبان، وقال: تقول رأي ليس بالرأي، وهو رد على من خالف سنتي.
وشيوخ الشافعي الذين أخذ عنهم جماعة منهم: مسلم بن خالد الزنجي وسفيان بن عيينة، كلاهما في مكة، ومالك بن أنس في المدينة.
وأما أصحابه الذين أخذوا عنه، فمنهم الذين رووا كتبه القديمه في العراق، وهم جماعة منهم: الإمام أحمد بن حنبل، والزعفراني والكرابيسي وأبو ثور، ومنهم الذين رووا كتبه الجديدة بمصر وهم جماعة أيضاً، منهم المزني والبويطي وحرملة وابن عبد الأعلى وابن عبد الحكم، والربيعان المرادي، والحيري. ثم رجع ابن عبد الحكم بعد موت الشافعي إلى مذهب أبيه، وكان مالكياً، قيل: إنما فعل ذلك لما عدل الشافعي عن استخلافه وتقديمه في حلقته بعد موته، وقد كان استشرف بها إلى يعقوب البويطي، فإن الشافعي سئل: من يخلفك؟ فقال: سبحان الله، أيشك في هذا؟ يخلفني أبو يعقوب البويطي، فراعى الشافعي النصيحة والمصلحة محافظة على الدين، ولم يمل عن ذلك إلى محمد بن عبد الحكم مع كونه محبباً ومحسناً إليه.
وفي السنة المذكورة توفي فقيه الديار المصرية أشهب بن عبد العزيز العامري، صاحب الأمام مالك، وكان ذا مال وحشمة وجلالة. قال الشافعي: ما أخرجت مصر أفقه من أشهب، لولا طيش فيها، وذكروا أن المناقشة كانت بينه وبين ابن القاسم، وانتهت الرئاسة بمصر، بعد ابن القاسم. وقال ابن عبد الحكم: سمعت أشهب يدعو على الشافعي بالموت، فذكر ذلك للشافعي فقال متمثلاً:
تمنى رجال أن أموت وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى ... تزود بأخرى غيرها، وكأن قد..
قال: فلما مات الشافعي، اشترى أشهب من تركته عبداً، ثم مات أشهب، فاشتريت أنا ذلك العبد، وذكروا أنه كان موت أشهب بعد الشافعي بشهر وقيل بثمانية عشر يوماً.(2/22)
وفيها: توفي الإمام أبو علي الحسن بن زياد اللؤلؤي قاضي الكوفة صاحب أبي حنيفة رضي الله عنهما، وكان يقول: كتبت عن ابن جريج اثني عشر ألف حديث وكان رأساً في الفقه.
وفيها: توفي الإمام أبو داود الطيالسي سليمان بن داود البصري الحافظ صاحب المسند، وكان يسرد من حفظه ثلاثين ألف حديث.
وفيها: توفي شجاع بن الوليد أبو بدر السكوني الكوفي، كان من صلحاء المحدثين وعلمائهم.
وفيها: وقيل في سنة ست توفي هشام بن محمد بن السائب الحلبي الأخباري النسابة، صاحب كتاب الجمهرة في النسب، وكان حافظاً علامة، إلا أنه متروك الحديث عند المحدثين، قيل فيه رفض، وتصانيفه تزيد على مائة وخمسين تصنيفاً في التاريخ والأخبار، وأحسنها وأنفعها كتاب الجمهرة في معرفة الأنساب، لم يصنف في بابه مثله.
خمس ومائتين
توفي فيها أبو محمد روح بن عبادة القيسي البصري الحافظ.
وفيها توفي الشيخ الكبير العارف بالله الشهير أبو سليمان الداراني العنسي بالنون بعد العين كان كبير الشأن، وله كلام رفيع معتبر في التصوف والمواعظ والعبر. ومن كلامه من أحسن في نهاره كوفىء في ليله، ومن أحسن في ليله كوفىء في نهاره، ومن صدق في ترك شهوة، ذهب الله سبحانه بها من قلبه، والله أكرم من أن يعذب قلباً بشهوة تركت له، وأفضل الأعمال خلاف هوى النفس.
وقال رضي الله تعالى عنه: نمت ليلة عن وردي، فإذا الحوراء تقول: أتنام وأنا أربى لك في الخيام منذ خمسمائة عام؟ والداراني نسبة إلى داريا بتشديد الياء وفتح الراء في أوله دال مهملة وهي قرية بغوطة دمشق، والنسبة إليها على هذه الصورة شافة والعنسي نسبة إلى عنس بن مالك، رجل من مذحج، قلت: وللشيخ أبي سليمان كرامات وحكايات عجيبات، ذكرت شيئاً منها في كتاب " روض الرياحين في حكايات الصالحين ".
وفي السنة المذكورة توفي محمد بن عبيد الطنافسي الكوفي الحافظ، وفيها توفي(2/23)
قارىء أهل البصرة يعقوب بن إسحاق الحضرمي مولاهم المقرىء النحوي، أحد الأعلام من أهل بيت العلم والفقه المقرىء الثامن، له من القراءات رواية مشهورة، أخذ عنه جماعة من حرمين والعراقين والشام وغيرهم، وأخذ هو القراءة عوضاً عن سلام بن سليمان، ومهدي بن ميمون، وأبي الأشهب العطار وغيرهم، وروى عن حمزة حروفاً، لحروف من أبي الحسن الكسائي، وسمع من جده زيد بن عبد الله وشعبة.
أما إسناده في القراءة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه قرأ على سلام المذكور، وقرأ سلام على عاصم، وعاصم على أبي عبد الرحمن السلمي، وأبو عبد الرحمن كرم الله وجهه، وعلي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
روى القراءة عن يعقوب المذكور عرضاً جماعة منهم: روح بن عبد المؤمن، بن المتوكل، وأبو حاتم السجستاني وغيرهم، وسمع منه الزعفراني، واقتدى به في عامة البصريين بعد أبي عمرو بن العلاء، فهم وأكثرهم على مذهبه، وقال أبو حاتم السجستاني: كان يعقوب الحضرمي أعلم من أدركنا، ورأينا بالحروف والإختلاف في القرآن وتعليله ومذاهبه ومذاهب النحويين في القرآن الكريم، وله كتاب سماه " الجامع " جمع فيه عامة اختلاف وجوه القراءات، ونسب كل حرف إلى من قرأ به، وبالجملة فإنه كان، البصرة في عصره في القراءة.
ست ومائتين
فيها استعمل المأمون على بغداد إسحاق بن إبراهيم الخزاعي، فوليها مدة طويلة، وهو الذي امتحن الناس بخلق القرآن في أيام المأمون والمعتصم والواثق.
وفيها توفي أبو علي محمد بن المستنير النحوي اللغوي البصري المعروف بقطرب، أخذ الأدب عن سيبويه وجماعة من العلماء البصريين، وكان حريصاً على الإشتغال وكان يبكر إلى سيبويه قبل حضور أحد من التلامذة، فقال له يوماً: ما أنت إلا قطرب، فبقى عليه هذا اللقب، وقطرب: اسم دويبة لا تزال تدب، ولا تفتر، وهو بضم الراء وسكون الطاء المهملة بينهما، وكان من أئمة عصره.
من التصانيف: " كتاب فعاني القران "، و " كتاب الإشتقاق "، و " كتاب القوافي "، " كتاب النوادر "، و " كتاب الأزمنة "، و " كتاب الأصوات "، و " كتاب الصفات "، و " كتاب النحو "، و " كتاب الأضداد "، و " كتاب خفق الفرس "، و " كتاب خلق الإنسان "، " كتاب غريب الحديث "، و " كتاب الثمر "، و " كتاب فعل وأفعل "، و " كتاب الرد على الملحدين في متشابه القرآن " وغير ذلك، قيل: وهو أول من وضع المثلث في اللغة، وكتابه(2/24)
وإن كان صغيراً فله فضيلة السبق، وبه اقتدى عبد الله ابن السيد البطليوسي، وكتابه كبير، وهناك مثلث آخر للخطيب أبي زكريا التبريزي، وهو كبير أيضاً اقتصر فيه على ما قيل، وكان قطرب معلم أولاد أبي دلف العجلي.
وفي السنة المذكورة توفي العباس بن وهب الأزدي البصري الحافظ.
وفيها توفي السيد الجليل الإمام الحفيل أبو خالد يزيد بن هارون الواسطي الحافظ، وروى عن عاصم الأحول والكبار، قيل: هو أحفظ من وكيع وعنه أنه قال: أحفظ أربعة وعشرين ألف حديث بأسنادها، ولا فخر، وقيل: إنه كان يحضر في مجلسه سبعون ألفاً.
وفيها وقيل في التي بعدها توفي الهيثم بن عدي الطائي، وكان راوية أخبارياً، نقل من كلام العرب وعلومها وأشعارها ولغاتها الكثير، وله عدة تصانيف، واختص بمجالسة المنصور والمهدي والهادي والرشيد، وروى عنهم.
قال الهيثم: قال لي المهدي: ويحك يا هيثم، إن الناس يخبرون عن الأعراب سخاء ولؤماً وكرماً وسماحاً، وقد اختلفوا في ذلك، فما عندك؟ قال: فقلت: على الخبير سقطت، خرجت من عند أهلي أريد ديار فرائد لي، ومعي ناقة أركبها، إذ ندت، فذهبت، فجعلت أتبعها حتى أمسيت فأدركتها، ونظرت فإذا خيمة أعرابي فأتيتها، فقالت رتة الخباء، من أنت. فقلت: ضيف، فقالت: وما يصنع الضيف عندنا. إن الصحراء لواسعة، ثم قامت إلى بر وطحنته وخبزته، ثم عجنته، ثم قعدت فأكلت، ولم ألبث أن أقبل زوجها، ومعه لبن، فسقم ثم قال: من الرجل؟ فقلت: ضيف، فقال: حياك الله، ثم قال: يا فلانة، ما أطعمت ضيفك شيئا؟ فقالت: نعم، فدخل الخباء، وملأ قعباً من لبن، ثم أتاني به، فقال اشرب فشربت شراباً هنياً، فقال: ما أراك أكلت شيئاً. وما أراها أطعمتك، فقلت: لا والله، فدخل عليها مغضباً، فقال: ويلك، أكلت وتركت ضيفك؟ قالت: ما أصنع به؟ أطعمه طعامي. وأخزاها الكلام حتى شجها، ثم أخذ شفرة، وخرج إلى ناقة، فنحرها. فقلت: ما صنعت عافاك الله. قال: لا والله ما يبيت ضيفي جائعاً، ثم جمع حطباً وأجج ناراً وأقبل يكبب ويطعمني، ويأكل ويلقي إليها، ويقول: كلي لا أطعمك الله حتى إذا أصبح، تركني ومضى، فقعدت مغموماً، فلما تعالى النهار أقبل، ومعه بعير ما يسأم الناظر، أن ينظر إليه، فقال: هذا مكان ناقتك، ثم زودني من ذلك اللحم، ومما حضره، فخرجت من عنده، فضمني الليل إلى خباء، فسلمت، فردت صاحبة الخباء السلام، وقالت: من الرجل؟ فقلت: ضيف،(2/25)
فقالت: مرحبا بك، حياك الله، وعافاك الله، فنزلت، ثم عمدت إلى بر وطحنته وعجنته، ثم خبزته، ثم نبضته قبضة روتها بالزبد واللبن، ثم وضعتها بين يدي وقالت: كل ذا غدر، فلم، أن أقبل أعرابي كريه الوجه، فسلم، فرددت عليه السلام، فقال: من الرجل. فقلت: ضيف، فقال: وما يصنع الضيف عندنا؟ ثم دخل إلى أهله فقال: أين طعامي. فقالت: أطعمته الضيف، فقال: أتطعمين طعامي الأضياف؟. فتحاربا الكلام، فرفع عصاه، وضرب رأسها فشجها، فجعلت أضحك، فخرج إلي وقال: ما يضحكك. فقلت: خير، فقال: والله لتخبرني، فأخبرته بقصة المرأة والرجل اللذين نزلت عليهما قبله، فأقبل علي وقال: إن هذه التي عندي، أخت ذلك الرجل، وتلك التي عنده أختي، فبت متعجباً وانصرفت.
وحكى الهيثم أيضاً قال: صار سيف عمرو بن معد يكرب الزبيدي الذي كان يسمى الصمصامة، إلى " موسى الهادي " فجرد الصمصامة وجعله بين يديه، وأذن للشعراء، فدخلوا عليه، ودعا بمكتل فيه بدرة، وقال: قولوا في هذا السيف، فبدر ابن يامين البصري، وأنشد:
حاز صمصامة الزبيدي عمرو ... من بين جميع الأنام موسى الأمين
سيف عمرو، وكان فيما سمعنا ... خير ما أغمدت عليه الجفون
أخضر اللون بين خديه برد ... من دباج، يمس فيه المنون
أوقدت فوقه الصواعق ناراً ... ثم شابت به الذعاف المنون
فإذا سللته بهر الشمس ... ضياء فلم تكد تستبين
ما يبالي من انتضاه لضرب ... أشمال سطت به أم يمين؟.
وكأن الفرند والجوهر الجا ... ري في صفحته ماء معين
مع أبيات أخرى، فقال الهادي: أصبت والله ما في نفسي، واستخفه السرور، فأمر له كتل والسيف، فلما خرج، قال للشعراء: شأنكم بالمكتل، ففي السيف عناني، قال في مروج الذهب: فاشتراه الهادي منه بخمسين ألفاً.
سبع ومائتين
فيها توفي طاهر بن الحسين الخزاعي وقيل: مولاهم الملقب ذا اليمينين، كان من أعوان المأمون، فسيره إلى محاربة أخيه الأمين من خراسان، لما خلع الأمين بيعته، تقدم ذكر ذلك، وما جرى له في كسر الجيش الذي سيره الأمين مع علي بن عيسى بن ماهان وأخذه بغداد وقتله للأمين، وكان المأمون يرعى له خدمته ومناصحته، وكان أديباً(2/26)
شجاعاً جواداً، ركب يوماً ببغداد في حراقته، فاعترضه مقدس بن صيفي الشاعر فقال: أيها الأمير، إن رأيت أن تسمع مني أبياتاً، فقال: قل، فأنشد يقول:
عجبت لحراقة ابن الحسين ... لا غرقت كيف لا تغرق
وبحران: من فوقها واحد ... وآخر من تحتها مطبق
وأعجب من ذاك أعوادها ... وقد مسها، كيف لا تورق
فقال طاهر: أعطوه ثلاثة آلاف درهم على هذه الثلاثة الأبيات، وقال: قولوا له: في زدنا حتى نزيدك، فقال: حسبي، وتواعد طاهر المذكور بالقتل الكاتب خالد بن جيلويه بالجيم والمثناة من تحت مكررة بعد الواو على وزن حمدويه فبذل له خالد من المال شيئاً كثيراً، فلم يقبل منه، فقال خالد قلت شيئاً فأسمعه، ثم شأنك وما أردت، فقال طاهر وكان يعجبه الشعر قل فأنشده:
زعموا بأن الصقر صادف مرة ... عصفور بر ساقه المقدور
فتكلم العصور فوق جناحه ... والصقر منقض عليه يطير
ما كنت يا هذا لمثلك لقمة ... ولئن سويت فإني لحقير
فتهاون الصقر المذل بصيده ... كرماً فأفلت ذلك العصفور
فقال طاهر أحسنت وعفا عنه.
قلت: هذه الأبيات قد ذكرها بعضهم في قضية جرت لإنسان مع هشام بن عبد الملك، فأنشده إياها لما تهدده بالقتل، وقد تقدم ذكرها في ترجمة هشام مع اختلاف في ألفاظ يسيرة من هذه الأبيات.
ويحكى أن إسماعيل بن جرير البجلي، كان مداحاً لطاهر المذكور، فقيل له: إنه يسرق الشعر ويمدحك به، فأراد أن يمتحنه في ذلك، وكان طاهر بفرد عين، فأمره أن يهجوه، فامتنع، فألزمه ذلك، فكتب إليه:
رأيتك لا ترى إلا بعين ... وعينك لا ترى إلا قليلاً
فأما إذا أصبت بفرد عين ... فخذ من عينك الأخرى كفيلاً
فقد أيقنت أنك عن قريب ... بظهرالكف تلتمس السبيلا
فلما وقف عليه قال له: احفر أن ينشد هذا أحد، ومزق الورقة، وأخبار طاهر كثيرة، وسيأتي ذكر ولده عبد الله في سنة ثلاثين، وولد ولده في سنة ثلاث مائة.
وحكي: أنه دخل طاهر على المأمون في، فقضاها وبكي، فقال له طاهر: يا(2/27)
أمير المؤمنين، لم تبكي، لا أبكى الله عينك وقد دانت لك الدنيا وبلغت الأماني؟ فقال: كي لا عن ذل ولا حزن، ولكن لا تخلو نفسي عن شجن، فاغتنم طاهر وقال لحسين الخادم، حب المأمون في خلواته: أريد أن تسأل أمير المؤمنين عن موجب بكائه لما رآني، ثم أنفذ طاهر للخادم المذكور مائتي ألف درهم. فلما كان في بعض خلوات المأمون، سأله عن ذلك فقال: مالك ولهذا؟ ويلك، فقال: غمني بكاؤك، فقال: هو أمر إن خرج من رأسك أخذته، فقال: يا سيدي، ومتى أبحت لك سراً؟ فقال: إني ذكرت أخي محمداً وما ناله من الزلة، فخنقتني العبرة، ولن يفوت طاهراً مني ما يكره، فأخبر الخادم طاهراً بذلك، فركب طاهر إلى أحمد بن خالد، فقال له: إن الثناء مني ليس برخيص، وإن المعروف عندي ليس بضائع، فغيبني عن المأمون، فقال: مه، سأفعل، فبكر إلى غداء، وركب ابن خالد إلى المأمون فقال: لم أنم البارحة، فقال: ولم. قال: لأنك وليت خراسان غساناً وهو من أكلة رأس، وأخاف أن يصطلمه مصطلم، قال: فمن ترى. قال: طاهراً، فقال: هو جائع، قال: أنا ضامن له، فدعا به المأمون، وعقد له على خراسان، وأهدى له خادماً كان رباه، مره إن رأى ما يريبه أن يسمه، فلما تمكن طاهر من ولاية خراسان، قطع الخطبة للمأمون يوم الجمعة، فأصبح يوم السبت ميتاً، فقيل: إن الخادم سمه في كامخ، ثم إن المأمون استخلف ولد طاهر طلحة، وقيل: جعله بها نائباً لأخيه عبد الله بن طاهر، والله أعلم.
وفيها توفي الواقدي أبو عبد الله محمد بن عمر بن واقد الأسلمي المدني العلامة قاضي بغداد، كان يقول: حفظي أكثر من كتبي، وكانت كتبه مائة وعشرين جملاً في وقت انتقل فيه، لكن أئمة الحديث ضعفوه، وكان إماماً عالماً صاحب تصانيف في المغازي لمجرها، ومنها " كتاب الرعة " ذكر فيه ارتداد العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حاربة الصحابة رضي الله تعالى عنهم بطلحة بن خويلد الأسدي، والأسود العنسي ومسيلمة الكذاب، وما أقص في الكتاب المذكور.
سمع من ابن أبي ذئب، ومعمر بن راشد، ومالك بن أنس، والثوري وغيرهم، وروى
عنه كاتبه محمد بن سعد الزهري وجماعة من الأعيان، وتولى القضاء بشرقي بغداد، وضعفوه في الحديث، وتكلموا فيه، وكان المأمون يكرم جانبه، ويبالغ في رعايته، فكتب إليه مرة يشكو ضائقة لحقته ودنيا ركبته يسبها، وعين مقداره في قضة، فرفع المأمون فيها بخطه: فيك خلتان، سخاء وحياء، فالسخاء أطلق يديك بتبذير ما ملكت، والحياء حملك أن ذكرت لنا بعض دينك، وقد أمرت لك بضيف ما سألت، فإن كنا قصرنا عن بلوغ حاجتك، فبجنايتك على نفسك، وإن كنا بلغنا بغيتك، فزد في بسط يدك، فإن خزائن الله(2/28)
مفتوحه، ويده بالخير مبسوطه، وأنت حدثتني حين كنت على قضاء الرشيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال للزبير: يا زبير: إن مفاتيح الرزق بإزاء العرش، ينزل الله سبحانه للعباد أرزاقهم على قدر نفقاتهم، فمن كثر كثر له، ومن قلل قلل عنه، قال الواقدي وكنت نسيت الحديث، فكانت مذاكرته إياي أعجب إلي من صلته، وروى عنه بشر الحافي رضي الله عنه أنه يكتب للحمى يوم السبت على ورقة زيتون، والكاتب على طهارة " جهنم غرثى "، وعلى ورقة أخرى " جهنم عطشى "، وعلى أخرى: " جهنم مقزورة "، ثم يجعل في خرقة وتشد في عضد المحموم الأيسر، قال الواقدي: جربته فوجدته نافعاً، هكذا نقل أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب أخبار بشر الحافي.
وروى المسعودي في كتاب مروج الذهب أن الواقدي قال: كان لي صديقان، أحدهما هاشمي، وكنا كنفس واحدة، فنالتني ضائقة شديدة، فكتبت إلى صديقي الهاشمي أسأله التوسعة علي، فوجه إلي كيساً مختوماً، ذكر أن فيه ألف درهم، فما استقر قراري حتى كتب إلي الصديق الآخر يشكو مثل ما شكوت إلى صديقي الهاشمي، فوتجهت إليه، الكيس بحاله، وخرجت إلى المسجد، فأقمت فيه ليلتي مستحياً عن امرأتي، فلما دخلت عليها استحسنت ما كان مني، ولم تعنفني عليه، وبينا أنا كذلك إذ وافاني صديقي الهاشمي ومعه الكيس كهيئته، فقال لي: أصدقني عما فعلته فيما وجهت به إليك، فعرفته الخبر على وجهه، فقال لي: إنك وجهت إلي وما أملك على الأرض إلا ما بعثت به إليك، فكتبت إلى صديقنا أسأله المواساة، فوجه كيسي بخاتمي.
قال الواقدي: فيواسينا الألف فيما بيننا، فأخرجنا للمرأة مائة درهم قبل ذلك، ونما الخبر إلى المأمون، فدعاني فشرحت له الخبر، فأمر لنا بسبعة آلاف دينار، لكل واحد منا ألفا دينار، وللمرأة ألف دينار.
وذكر الخطيب أيضاً هذه الحكاية في تاريخ بغداد مع اختلاف يسير بين الزوايتين.
وفيها توفي الإمام البارع النحوي يحيى بن زياد الفراء الكوفي أجل أصحاب الكسائي، كان رأساً في النحو واللغة، أبرع الكوفيين وأعلمهم بفنون الأدب على ما ذكر بعض المؤرخين.
وحكي عن أبي العباس ثعلب أنه قال: لولا الفراء لما كانت عربية، لأنه خلصها وضبطها، ولولاه لسقطت العربية، لأنها كانت تتنازع، ويدعيها كل واحد. أخذ الفراء النحو عن أبي الحسن الكسائي، وهو الأحمر من أشهر أصحابه وأخصهم به.(2/29)
وحكي عن ثمامة بن الأشرس النميري المعتزلي وكان خصيصاً بالمأمون أنه صادف الفراء، على باب المأمون يروم الدخول عليه، قال: فرأيت أبهة أديب، فجلست إليه، ففاتشته عن اللغة، فوجدته بحراً، وفاتشته عن النحو، فشاهدته نسيج وحده، وعن الفقه فوجدته رجلاً فقيهاً عارفاً باختلاف القوم، وبالنجوم ماهراً، وبالطب خبيراً، وبأيام العرب وأشعارها حاذقاً، فقلت: من تكون؟. وما أظنك إلا الفراء؟. قال: أنا هو، فدخلت فأعلمت أمير المؤمنين المأمون، فأمر بإحضاره لوقته، وكان ذلك سبب إيصاله به.
وقال قطرب: دخل الفراء على الرشيد، فتكلم بكلام لحن فيه مرات، فقال جعفر بن يحيى بن البرمكي: إنه قد لحن يا أمير المؤمنين، فقال الرشيد: أتلحن؟ فقال الفراء: يا أمير المؤمنين، إن طباع أهل البدو الأعراب، وطباع أهل الحضر اللحن، فإذا تحفظت لم ألحن، وإذا رجعت إلى الطبع لحنت، فاستحسن الرشيد قوله.
قلت: وأيضاً فإن عادة المنتهين في النحو لا يتشدقون بالمحافظة على إعراب كل كلمه عند كل أحد، قد يتكلمون بالكلام الملحون تعمداً على جاري عادة الناس، وإنما يبالغ في النحو والتحفظ عن اللحن في سائر الأحوال، فالمبتدئون إظهاراً لمعرفتهم بالنحو وكذلك يكثرون البحث والتكلم بما هم مترسمون به من بعض فنون العلم، ويضرب لهم مثل في ذلك، فيقال، الإناء إذا كان ملآن كان عند حمله ساكناً، وإذا. كان ناقصاً اضطرب، وتخضخض بما فيه.
وحكى الخطيب: أن المأمون أمر الفراء أن يؤلف ما يجمع أصول النحو، وما سمع من العربية، وأمر أن يفرد في حجرة من حجر الدار، وأن يوصل إليه كل ما يحتاج إليه،، فأخذ في جمع ذلك والوراقون يكتبون حتى فرغ من ذلك في سنتين، وسماه " كتاب الحدود " وأمر المأمون بكتبه في الخزائن، وبعد الفراغ خرج من ذلك إلى الناس، وابتدأ " بكتاب المعاني ".
قال الراوي: فأردنا أن نعد الناس الذين اجتمعوا لإملاء كتاب المعاني، فلم يضبطهم عدد، فعددنا القضاة وكانوا ثمانين قاضياً، لم يزل يمليه إلى أن أتمه.
ولما فرغ من " كتاب المعاني " خزنه الوراقون عن الناس ليكتبوا، وقالوا: لا نخرجه إلا من أراد أن ينسخه على خمس أوراق بدرهم، فشكا الناس إلى الفراء، فدعا الوراقين فقال لهم في ذلك، فقالوا: إنا صحبناك لننتفع بك، وكل ما صنفته فليس بالناس إليه من الحاجة، ما بهم إلى هذا الكتاب، فدعنا نعيش به، قال: فقاربوهم ينتفعوا وتنتفعوا، فأبوا عليه، فأراد أن ينشىء للناس كتاباً أحسن من ذلك، فجاء الورقون إليه، ورضوا بإن يكتبوا للناس كل(2/30)
عشرة أوراق بدرهم، وقال لأصحابه: اجتمعوا حتى أملي عليكم كتاباً في القرآن، فلما حضروا أمر قارئاً أن يقرأ فاتحة الكتاب، فقرأها ففسرها حتى مر في القرآن كله على ذلك.
وكتابه المذكور نحو ألف ورقة، وهو كتاب لم يعمل مثله.
وكان المأمون قد وكله يلقن ابنيه النحو، فلما كان يوما أراد النهوض لبعض حوائجه، فابتدرا إلى نعليه، أيهما يسبق بتقديم النعلين إليه، فتنازعا ثم اصطلحا، على أن يقدم كل واحد منهما نعل إحدى رجليه، وكان للمأمون على كل شيء صاحب خبر برفع الخبر إليه، فأعلمه بذلك، فاستدعى بالفراء وقال له: من أعز الناس؟ قال ما أعز من أمير المؤمنين، قال: بلى، من إذا نهض يقاتل على تقديم نعليه وليا عهد المسلمين، قال: يا أمير المؤمنين، لقد أردت منعهما عن ذلك، ولكن خشيت أن أدفعهما عن مكرمة سبقا إليها، أو كسر نفوسهما عن شريعة حرصًا عليها. وقد روي عن ابن عباس، أنه أمسك للحسن والحسير رضي الله تعالى عنهم ركابيهما حين خرجا من عنده، فقيل له في ذلك، فقال: لا يعرف الفضل إلا أهل الفضل، فقال المأمون لو منعتهما عن ذلك لأوجعتك لوماً وعتباً، وألزمتك ذنباً، وما وضع ما فعلاه من شرفهما، بل رفع من قدرهما، وبين عن جوهرهما، فليس يكسر الرجل وإن كان كبيراً عن ثلاث: عن تواضعه بسلطانه، ووالده ومعلمه، وقد عوضتهما مما فعلاه عشرين ألف دينار، ولك عشرة آلاف درهم على حسن أدبك لهما.
وقال الخطيب: كان محمد بن الحسن الفقيه ابن خالة الفراء، فقال الفراء يوماً له، قل رجل أمعن النظر في باب من العلم، فأراد غيره، إلا سهل عليه، فقال له محمد: يا أبا زكريا، قد أمعنت النظر في العربية، فنسألك في باب من الفقه، فقال: هات على بركة الله، قال: ما تقول في رجل سها في السجود السهو؟ ففكر الفراء ساعة ثم قال: لا شيء عليه، فقال له: ولم؟ فقال: لأن المصغر لا يصغر ثانياً، وإنما السجدتان تمام الصلاة، فليس للتمام تمام، فقال محمد: ما ظننت آدمياً يلد مثلك. قلت: وهذه الحكاية مذكورة في ترجمة الكسائي، وإنه هو صاحب هذا الجواب، والله تعالى أعلم.
وقال سلمة بن عاصم: إني لأعجب من الفراء، كيف كان يعظم الكسائي وهو أعلم بالنحو منه، وقال الفراء: أموت، وفي نفسي شيء من " حتى "، لأنها تخفض وترفع وتنصب، وله من التصانيف كتاب الحدود، وكتاب المعاني، وكتابان في المشكل، وكتاب اللغات، وكتاب المصادر في القرآن، وكتاب الوقف والإبتداء، وكتاب النوادر، وكتب أخرى.
وقال سلمة بن عاصم: أملى الفراء كتبه كلها حفظاً، لم يأخذ بيده نسخة إلا في كتابين: كتاب ملازم وكتاب نافع، وإنما قيل له الفراء ولم يكن يعمل الفراء ولا يبيعها(2/31)
لأنه كان يفري الكلام، ذكر ذلك الحافظ السمعاني في كتاب الأنساب.
وذكر أبو عبيد الله المرزباني أن والد الفراء كان أقطع، لأنه حضر وقعة الحسين بن علي رضي الله عنهما، فقطعت يده في تلك الحرب.
ثمان ومائتين
فيها توفي أبو عبد الله هارون بن علي بن يحيى بن أبى منصور المنجم البغدادي الأديب الفاضل، كان حافظاً راوية الأشعار، وحسن المنادمة، لطيف المجالسة، صنف " كتاب البارع " في أخبار الشعراء، والذي جمع فيه مائة وإحدى وستين شاعراً، وافتتحه بذكر بشار وختمه بمحمد بن عبد الملك بن صالح واختار في من شعر كل واحد عيوبه، وأثبت منها الزبد دون الزبد، إلى غير ذلك من الكتب.
وفيها توفي سعيد بن عامر الضبعي البصري أحد الأعلام في العلم والعمل.
وفيها توفي الأمير الفضل بن الربيع، صاحب الرشيد لما أراد أن يروم التشبه بهم ومعارضتهم، ولم يكن له من القدرة ما يدرك به اللحاق بهم، وكان في نفسه منهم أحناء وشحناء.
ويحكى أن الفضل بن الربيع دخل يوماً على يحيى بن خالد البرمكي وقد جلس لقضاء حوائج الناس، وبين يديه ولده جعفر يوقع في القصص، فعرض عليه الفضل عشر رقاع للناس، فتعلل يحيى في كل رقعة بعلة، ولم يوقع في شيء منها البتة، فجمع الفضل الرقاع وقال: ارجعن خائبات خاسئات، ثم خرج وهو يقول:
وعسى يثني الزمان عنانه ... بتصريف حال، والزمان عبور
فتقضى لبانات وتسعى حسائف ... ويحدث من بعد الأمور أمور
قوله حسائف: جمع حسيفة " بالحاء والسين المهملتين والفاء " وهي: الطفيفة. فسمعه يحيى، وهو ينشد ذلك، فقال له: عزمت عليك يا أبا العباس إلا رجعت، فرجع، فوقع له في جميع الرقع، ثم ما كان إلا قليلاً حتى نكبوا على يديه، وكان أبوه وزيراً للمنصور،(2/32)
وتولى هو بعد البرامكه وزاره الرشيد، وفي ذلك يقول أبو نواس:
ما دعى الدهر آل برمك لما ... أن رمى ملكهم بأمر فظيع
إن دهراً لم يرع عهداً ليحيى ... غير راع ذمام آل ربيع
ومات الرشيد، والفضل مستمر على وزارته، فكتب إليه أبو نواس يعزيه بالرشيد ويهنئة بولاية ولده الأمين:
تعز أبا العباس عن خير هالك ... بأكرم حي كان، أو هو كائن
حوادث أيام، يدور صروفها ... لهن مساوي مرة ومحاسن
وفي الحي بالميت الذي غيب الثرى ... فلا أنت مغبون ولا الموت غابن
وفي السنة المذكورة توفيت السيدة الكريمه صاحبة المناقب الجسيمة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم، صاحبة المشهد الكبير المفخم الشهير بمصر، دخلت إليها مع زوجها إسحاق بن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه وعن الجميع، وقيل: بل مع أبيها الحسن، وكانت نفيسة من النساء الصالحات. ويروى أن الإمام الشافعي لما دخل مصر، حضر عندها، وسمع عنها الحديث، ولما توفي، أدخلت جنازته إليها، فصلت عليه في دارها، وكانت في موضع مشهدها اليوم، ولم تزل به إلى أن توفيت في شهر رمضان من السنة المذكورة، ولما ماتت عزم زوجها إسحاق بن جعفر على حملها إلى المدينة ليدفنها هناك، فسأله المصريون بقاءها عندهم، فدفنت في الموضع المعروف بها اليوم بين القاهرة ومصر، وكان يعرف ذلك المكان بدرب السباع، فخرب الدرب ولم يبق هناك سوى المشهد، وقبرها معروف مزور مشهور، قيل: الدعاء عنده مستجاب رضي الله تعالى عنها.
قلت: وقد قصدت زيارة مشهدها، فوجدت عنده عالماً من الرجال والنسوان والصحاح والعميان، ووجدت الناظر جالساً على الكرسي، ققام لي، وأنا لا أعرفه، فمضيت للزيارة، ولم ألتفت إليه، ثم بلغني أنه عتب علي، فأجبته بما معناه: إني غير راغب في الميل إلى أولي الحشمة والمناصب.
تسع ومائتين
فيها توفي عثمان بن عمر بن فارس العبدي البصري الرجل الصالح ويعلى بن(2/33)
عبيد الطنافسي، والحسن بن موسى الأشيب بالشين المعجمة وبعدها مثناة من تحت ثم
وفي السنة المذكورة، وقيل في سنة إحدى عشرة، وقيل ثلاث عشرة، وقيل ست عشرة مائتين، توفي الإمام العلامة معمر بن المثنى التيمي، تيم قريش مولاهم أبو عبيدة. قال الحافظ: لم يكن في الأرض خارجي ولا جماعي أعلم بجميع العلوم منه، وقال ابن قتيبة في العوارف: كان الغريب وأخبار العرب وأيامها أغلب عليه، وكان مع معرفته، ربما لم يقم لبيت من الشعر، بل يكسره، وذكر فيه أشياء مما تقدح فيه، قال: وكان يرى رأي الخوارج.
وذكر غيره أن هارون الرشيد أقدمه من البصرة إلى بغداد سنة ثمان وثمانين ومائة، وقرأ عليه بها شيئاً من كتبه، وأسند الحديث إلى هشام بن عررة وغيره، وروى عن علي بن المغيرة، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وأبو عثمان المازني، وأبو حاتم السجستاني، وعمر بن شعبة النميري وغيرهم، وقال أبو عبيدة: أرسل إلي الفضل بن الربيع إلى البصرة في الخروج إليه، فقدمت عليه، وكنت أخبر عن تحيره، فأذن لي، فدخلت عليه وهو في جلس طويل عريض، فيه بساط واحد قد ملىء وفي صدره فرش عالية لا يرتقى عليها إلا كرسي، وهو جالس على الفرش، فسلمت عليه بالوزارة، فرد وضحك إلي، واستدناني من فرشه، ثم سألني وبسطني وتلطف بي وقال: فأنشدني، فأنشدته من عيون أشعار جاهلية أحفظها، فقال: قد عرفت أكثر هذه، وأريد من مليح الشعر، فأنشدته، فطرب وضحك وزاد شاطاً، ثم دخل رجل في زي الكتاب، وله هيئة حسنة، فأجلسه إلى جانبي، وقال: أتعرف هذا؟ قلت: لا، فقال: هذا أبو عبيدة، علامة أهل البصرة، قدمنا لنستفيد من علمه، فدعا له لرجل، ثم التفت إلي وقال لي: كنت إليك مشتاقاً، وقد سألت عن مسألة، أفتأذن لي أن أعرفك إياها؟. قلت: هات، فقال: قال الله تعالى: " طلعها كأنه رؤوس الشياطين ":) الصافات: 65، (وإنما وقع الوعد والإيعاد بما قد عرف، وهذا لم يعرف، قال، فقلت: إنما كلم الله العرب على قدر كلامهم، أما سمعت قول امرىء القيس:
أتقتلني، والشر في مضاجعي ... ومسنونه زرق كأنياب أغوال
وهم لم يروا الغول قط، ولكنه لما أمر الغول بهولهم أو عدوا به، فاستحسن الفضل والسائل في ذلك، وأزمعت منذ ذلك اليوم أن ضع كتاباً في القرآن لمثل هذا وأشباهه، وما يحتاج إليه من علمه، فلما رجعت إلى البصرة، عملت كتابي الذي سميته " المجاز "، وسألت عن الرجل، فقيل لي: هو من كتاب الوزير وجلسائه.(2/34)
وبلغ أبا عبيدة أن الأصمعي يعيب عليه كتاب المجاز، وقال يتكلم في كتاب الله برأيه، فسأل عن مجلس الأصمعي، في أي يوم هو، فركب حماره في ذلك اليوم، ومر بحلقته، فنزل عن حماره وسلم عليه، وجلس عنده، وحادثه، ثم قال له: يا أبا سعيد ما تقول في الخبز، أي شيء هو. فقال: هو الذي نخبزه ونأكله، فقال أبو عبيدة: فقد فسرت كتاب الله برأيك، فإن الله تعالى قال حكاية " أحمل فوق رأسي خبزاً ") يوسف: 36، (فقال الأصمعي: هذا شيء بان لي فقلته، ولم أفسر برأي، فقال أبو عبيدة، والذي تغيب علينا كله شيء بان لنا فقلناه، ولم نفسره برأينا، وقام يركب حماره وانصرف.
وزعم الباهلي صاحب كتاب المعاني، أن طلبة العلم كانوا إذا أتوا مجلس الأصمعي، اشتروا البعر في سوق الدر، وإذا أتوا مجلس أبي عبيدة اشتروا الدر في سوق البعر، لأن الأصمعي كان حسن الإنشاد والزخرفة لردي الأخبار والأشعار، حتى يحسن عنده القبيح، والفائده عنده مع ذلك قليلة، وأن أبا عبيدة كان معه سوء عبارة مع فوائد كثيرة وعلوم جمة.
قال المبرد: كان أبو زيد الأنصاري أعلم من الأصمعي وأبي عبيدة بالنحو، وكانا بعده يتقاربان.
وكان أبو عبيدة كمل القوم، لا يحكي عن العرب إلا الشيء الصحيح، وحمل أبو عبيدة الأصمعي إلى مجلس هارون للمجالسة، فاختار الأصمعي لأنه كان أصلح للمنادمة. وقيل لأبي نواس: ما تقول في الأصمعي. فقال: بلبل في قفص، قيل: فما تقول في أبي عبيدة. قال: ذاك أديم وطغوى علم، قيل: فما تقول في خلف الأحمر؟ قال: جمع علوم الناس وفهمها.
ولما قدم أبو عبيده على موسى بن عبد الرحمن الهلالي، وطعم من طعامه، صب بعض الغلمان على ذيله مرقة، فقال موسى: قد أصاب ثوبك مرق، وأنا أعطيك عوضه عشرة ثياب، فقال أبو عبيدة: لا عليك، فإن مرقكم لا يؤذي، أي: ما فيه دهن، ففطن لها موسى وسكت.
وكان الأصمعي إذا أراد دخول المسجد قال: انظروا لا يكون فيه ذاك، يعني أبا عبيدة، خوفاً من لسانه، وقيل: كان مدخول النسب، مدخول الدين، يميل إلي مذهب الخوارج، وإلى بعض الأمور القبيحة والله أعلم، وكانت تصانيفه تقارب مائتي مصنف.(2/35)
عشرة ومائتين
في السنة المذكورة، كان بني المأمون ببوران بواسط، فقام بضعة عشر يوماً، فقام أبوها الحسن بن سهل فقام أمير المؤمنين بمصالح الجيش تلك الأيام، وغرم خمسين ألف ألف درهم، وكان العسكر خلقاً لا يحصى، فلم يكن فيهم من اشترى لنفسه ولا لدوائه حتى على الحمالين والمكارية والملاحين وكل من حضر في ذلك العسكر، فأمر له عند منصرفه بعشرة آلاف درهم، وكان عرساً لم يسمع بمثله في الدنيا، نثر فيه على الهاشميين والقواد والوجوه والكتاب بنادق مسك فيها رقاع بأسماء ضياع، وأسماء جوار ودواب وغير ذلك، وكل من وقع في حجره شيء منها ملك ما هو مكتوب فيها من هذه المذكورات، سواء كانت ضيعة أو فرساً أو جارية أو مملوكاً أو ملكاً أو غير ذلك، ثم نثر بعد ذلك على سائر الناس الدنانير والدراهم ونوافج المسك وبيض العنبر، وفرش للمأمون حصير منسوج بالذهب، فلقا وقف عليه نثرت على قدميه لالىء كثيرة، فلقا رأى تساقط اللآلىء المختلفة على الحصير المنسوج بالذهب، قال: قاتل الله أبا نواس كأنه شاهد هذه الحالة حين قال في صفة الخمر والحباب الذي تعلوها عند المزج:
كأن صغرى وكبرى من مواقعها ... حصباء در على أرض من الذهب
وقد غلطوا أبا نواس في هذا البيت المذكور لكونه ذكر فعلي أفعل التفضيل من غير إضافة ولا تعريف.
ثم إن المأمون أطلق له خراج فارس والأهواز مئة سنة وقالت الشعراء والخطباء فأطنبوا في ذلك. ومما يستطرف فيه قول محمد بن حازم الباهلي:
بارك الله للحسن ... ولبوران في الختن
يا ابن هارون قد ظفر ... ت ولكن ينت من
فلما نمي هذا الشعر إلى المأمون قال: والله ما ندري خيراً أراد أم شراً.
قال الطبري: دخل المأمون على بوران الليلة الثالثة من وصوله، فلما جلس نثرت عليها جدتها ألف درة، وكانت في طبقة ذهب، فأمر المأمون أن يجمع، وسألها عن عدد الدر كم هو؟. فقالت ألف حبة، فوضعها في حجرها، فقال لها: هذه تحيتك وسلي(2/36)
حوائجك قالت لها جدتها كلمي سيدك، فقد أمرك، فسألته الرضى عن إبراهيم بن المهدي، فقال: قد فعلت، وأوقدوا في تلك الليلة شمعة عنبر، وزنها أربعون مناً في تور من ذهب، فأنكر المأمون عليهم ذلك وقال: هذا سرف.
وقال غير الطبري: لما طلب المأمون الدخول عليها، دافعوه لعذرها، فلم يندفع، فلما أدنيت إليه وجدها حائضاً فتركها، فلما قعد للناس من الغد دخل عليه أحمد بن يوسف الكاتب، وقال: يا أمير المؤمنين، هناك الله بما أخذت من الأمير باليمن والبركة وشدة الحركة والظفر بالمعركة، فأنشده المأمون:
فارس ماض بحرمته ... صادق بالطعن في الظلم
رام أن يدمي فريسته ... فأتقته من دم بدم
تعرض محيضها وهو من أحسن الكنايات، حكى ذلك أبو العباس الجرجاني في كتاب الكنايات.
وفي السنة المذكورة توفي أبو عمرو الشيباني إسحاق بن مرار الكوفي اللغوي صاحب التصانيف وله تسعون سنة، وكان ثقة خيراً فاضلاً.
وفيها توفي علي بن جعفر الصادق، وكان من جلة السادة الأشراف، ومحمد بن صالح الكلابي أمير عرب الشام وسيد قيس وفارسها وشاعرها والمقاوم للسفياني والمحارب له، حتى شتت جموعه فولاه المأمون دمشق، وفيها توفي مروان بن محمد الدمشقي صاحب سعيد بن عبد العزيز، كان إماماً صالحاً خاشعاً من جلة الشاميين.
وفيها توفي أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي البصري اللغوي العلامة الأخباري صاحب التصانيف، روى عن هشام بن عروة وأبي عمرو بن العلاء وكان أحد أوعية العلم، وقيل توفي في سنة إحدى عشرة.
إحدى عشرة ومائتين
فيها توفي أبو العتاهيه، إسماعيل بن هشام العنزي الشاعر المشهور، ومن شعره ما حكى أشجع الشاعر المشهور، قال: أذن الخليفة المهدي للناس في الدخول عليه، فدخلنا، وأمرنا بالجلوس، فاتفق أن جلس بجنبي بشار بن برد " بضم الموحدة " يعني الشاعر المشهور، قال: وسكت المهدي، فسكت الناس، فسمع بشاراً فقال لي: من هذا؟ فقلت: أبو العتاهية، قال: أتراه ينشد في هذا المحفل؟ فقلت: أحسبه سيفعل، قال: فأمره المهدي(2/37)
أن ينشد فأنشد:
ألا ما لسيدتي ما لها ... أدلت فأحمل إدلالها؟
قال: فنخشني بشار بمرفقه وقال: ويحك، أرأيت من ينشد مثل هذا الشعر في هذا الموضع؟ حتى بلغ إلى قوله:
أتته الخلافة منقادة ... إليه تجر جرأ ذيالها
فلم تك تصلح إلا له ... ولم يك يصلح إلا لها
ولو رامها أحد غيره ... لزلزلت الأرض زلزالها
قال فقال لي بشار: انظر ويحك يا أشجع، هل طار الخليفة عن فرشه. قال: فو الله ما انصرف من ذلك المجلس بجائزة غير أبي العتاهية، ومن شعره أيضاً هذه الأبيات في عمرو بن العلاء.
إني أمنت من الزمان وصرفه ... لما علقت من الأمير حبالاً
لو بست طبع الناس من إجلاله ... تحذو له خشية الحدود فعالاً
إن المطايا تشتكيك لأنها ... قطعت إليك أسبابها ورمالاً
فإذا وردن بنا وردن خفائفاً ... وإذا صدرن بنا صدرن ثفالاً
قال: فأعطاه سبعين ألفاً، وخلع عليه، فغار الشعراء لذلك، فجمعهم وقال: يا معشر الشعرا، عجباً لكم، ما أشد حسدكم بعضكم بعضا، إن أحدكم يأتينا يمدحنا بقصيدة يشبب فيها بصديقه بخمسين بيتاً، فما يبلغها حتى تذهب لذاذة مدحه ورونق شعره، وقد أتى أبو العتاهية يشبب بأبيات يسيرة، ثم قال كذا وكذا وأنشد الأبيات المذكورة، فما لكم منه تغارون. انتهى الكلام، وهو من مقدمي المولدين في طبقة بشار وأبي نواس وتلك الطائفة.
ويحكى أنه لقي أبا نواس، فقال له: كم تعمل في يومك من الشعر. فقال البيت والبيتين، فقال أبو العتاهية: لكني أعمل في اليوم المائة والمائتين، فقال أبو نواس: لأنك تعمل مثل قولك.
يا عتب مالي ولك ... يا ليتني لم أرك
ولو أردت مثل هذا الألف والألفين لقدرت عليه وإنما أعمل مثل قولي، ثم أنشد شيئاً أبدع فيه، وقال: لو أردت مثل هذا لأعجزك الدهر، قلت: والذي أنشده كرهت ذكره ولا شتماً له على خلاعة وضيعة.
وحكى صاحب النصوص في اللغة أن أبا العتاهية زار يوماً بشار بن برد فقال له أبو(2/38)
العتاهية: إني لا أستحسن قولك إعتذراً من البكاء إذ تقول:
كم من صديق سار لي ... فيه البكاء من الحياء
فإذا اتعظن لا منى ... فأقول ما بي من بكاء
لكن ذهبت لأرتدي ... فطرقت عيني بالرداء
فقال له: أيها الشيخ ما عرفته إلا من بحرك، ولا يحبه إلا من دخل، وأنت السابق حيث تقول:
وقالوا قد بليت، قلت كلا ... وهل يبلى من الجزع الخليل
فقالوا ما ولد معها سواء ... أقلت مقلتيك أصاب عود؟.
وحكي أن أبا العتاهية كان قد امتنع من الشعر، فأمر المدي بحبسه في سجن الجرائم، فلما دخل دهش، ورأى فنظر ما أهاله، فطلب موضعاً يأوي إليه فإذا هو يلهك حسن البزة، والوجه عليه سيماء الخير، فقصده وجلس إليه من غير سلام عليه شغلاً بما هو فيه من الجزع والحيرة، فمكث كذلك ليالي وإذا بالرجل ينشده:
تعود في الضر حتى ألقته ... أسلمني حسن العزاء إلى الصبر
وصرت في بأسي من الناس واثقاً ... بحسن صنع الله من حيث لا أدري
قال: فاستحسنت البيتين، وتبركت بهما، وثاب إلي عقلي، فقلت له: تفضل أعزك الله علي بإعادتهما، فقال: يا إسماعيل، ويحك ما أسوأ دبك وأقل عقلك ومروءتك، دخلت فلم تسلم علي تسليم المسلم على المسلم، ولا سألتني مسألة الراد على المقيم، حتى سمعت مني بيتين من الشعر الذي لم يجعل الله فيك خيراً ولا أدباً ولا معاشاً غيره، فطفقت تستنشدني ابتداء كان بيتاً لأنسها، وسالف مودة توجب بسط القبض، ولم تذكر ما كان منك، ولا اعتذرت، غير ما ترى بدا من إساءة أدبك، فقلت: اعذرني متفضلاً، فدون ما أنا فيه مدهش، قال: وفيم أنت تركت الشعر الذي هو جاهك عندهم، وسبيلك إليهم، لا يدرون بقوله، فتطلق، وأنا يدعى الشفاعة بي، فأطلب بعيسى بن زيد ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن ذللت لقيت الله بدمه، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خصمي فيه، وإلا قتلت، فأنا أولى بالحيرة منك.، وأنت ترى صبري؟ فقلت: يكفيك الله، وخجلت منه، فقال: لا أجمع عليك التوبيخ والمنع، اسمع البيتين، ثم أعادهما علي مراراً حتى حفظتهما، ثم دعي به وبي، فقلت له: من أنت أعزك الله؟ قال: أنا حاضن صاحب عيسى بن زيد، فأدخلنا على المهدى، فلما وقفنا بين يديه قال للرجل: أين عيسى بن زيد. فقال: وما أدري أين عيسى بن زيد، طلبته فهرب منك في البلاد وحبستني، فمن أين أقف(2/39)
على خبره؟ قال له: أين كان متوارياً؟. ومتى آخر عهدك به؟. وعند من لقيته؟. منذ توارى، ولا عرفت له خبراً، قال: والله لتدلن عليه أو لأضربن عنقك الساعة، قال: اصنع ما بدا لك، فو الله لا أدلك على ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فألقى الله ورسوله بدمه، ولو كان بين ثوبي وجلدي ما كشفت لك عنه، قال: اضربوا عنقه، فأمر به فضربت عنقه، ثم دعاني وقال: أتقول الشعر أو ألحقك به؟ فقلت: بل أقول، قال: أطلقوه، فأطلقت.
ولما حضرت وفاة أبي العتاهية قال: أشتهي أن يجيء فلان المغني ويغني عند رأسي.
إذا ما انقضت علي من الدهر ... مدتي فإن عزاء الباكيات قليل
سيعرض عن ذكري وينسى مودتي ... ويحدث بعدي للخليل خليل
وفي السنة المذكورة توفي الحافظ العلامة المرتحل إليه من الآفاق الشيخ الإمام عبد الرزاق بن همام اليمني الصنعاني الحميري صاحب المصنفات عن ست وثمانين، روى عن معمر وابن جريج والأوزاعي وطبقتهم، ورحل إليه الأئمة إلى اليمن، قيل: ما رحل إلى أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثلما دخل الناس إليه، روى عنه خلائق من أئمة الإسلام، منهم: الإمام سفيان بن عيينة والإمام أحمد ويحيى بن معين وإسحاق بن راهويه وعلي بن المديني ومحمود بن غيلان.
وفيها توفي عبد الله بن صالح العجلي الكوفي المقرىء المحدث والد الحافظ أحمد بن عبد الله العجلي نزيل المغرب.
اثنتي عشرة ومائتين
فيها أظهر المأمون القول بخلق القرآن مع ما أظهر في السنة الماضية من التشييع، فاشمأزت منه القلوب.
فيها توفي أسد بن موسى الأموي الملقب بأسد السنة والحافظ أبو عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني محدث البصرة والحافظ أبو عبد الله محمد بن يوسف الفريابي، رحل إليه الإمام أحمد، فلم يدركه، بل بلغه موته بحمص، وإسماعيل بن حماد ابن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنهم، وكان موصوفاً بالزهد والعبادة والعدل في الأحكام، ولي القضاء ببغداد ثم بالبصرة، وعبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون صاحب الإمام مالك رحمه الله وكان فصيحاً مفوهاً وعليه دارت الفتيا في زمانه بالمدينة، ومفتي الأندلس " الغافقي " كان صالحاً ورعاً مجاب الدعوة مقدماً في الفقه على يحيى بن يحيى.(2/40)
ثلاث عشرة ومائتين
فيها توفي علي بن جبلة الشاعر المشهور أحد فحول الشعراء المبرزين، من الموالي، ولد أعمى، قيل: بل عمي من جدري أصابه وهو ابن سبع سنين، وكان أسود أبرص. قال ابن خلكان ومن فضائله الفائقة القصيدة التي يقول فيها:
إنما الدنيا أبو دلف ... بين مغزاه ومختضره
فإذا ولى أبو دلف ... ولت الدنيا على أثره
كل من في الأرض من عرب ... بين باديه إلى حضره
يستعير منك مكرمة ... مكتبها يوم مفتخره
قلت: وحكى بعض أهل المعاني والبيان أن المأمون قال لأبي دلف الأمير المشهور:
أنت الذي قال فيك الشاعر: إنما الدنيا أبو دلف، وأنشد الأبيات، قال: لا يا أمير المؤمنين، بل أنا الذي قال في علي بن جبلة أو قال الشاعر:
أبا دلف، يا أكذب الناس كلهم ... سواي فإني في مديحك أكذب
فأعجب المأمون ذلك منه، ورضي عنه، لقه عزه في ظرافته وسرعة فهمه المنجي له من الردىء بما اتقى به من الهجاء، فلم يمشه البلاء، بل دفع حيلة باتقائه بهجاء ابن جبلة. ويحكى أن ابن جبلة المذكور مدح حميد بن عبد الحميد الطوسي بعد مدحه لأبي دلف بالقصيدة المذكورة، فقال له حميد: ما عسى أن تقول فينا بعد قولك في أبي دلف كذا وكذا. فقال: أصلح الله الأمير، قد قلت فيك ما هو أحسن من هذا، قال: وما هو. فأنشد:
إنما الدنيا حميد وأياديه الجسام ... فإذا ولى حميد فعلى الدنيا السلام
فتبسم ولم يرد جواباً، فأجمع من حضر المجلس من أهل العلم والمعرفة بالشعر أن هذا أحسن مما قاله في أبي دلف، فأعطاه، وأحسن جائزته، وقال ابن المعتز في طبقات الشعراء: ولما بلغ المأمون خبر هذه القصيدة غضب غضباً شديداً، وقال: اطلبوه حيثما كان، وأتوني به، فطلبوه فلم يقدروا عليه، لأنه كان مقيماً بالجبل، فلما اتصل به الحزب هرب إلى الجزيرة الفراتية، وقد كانوا كتبوا إلى الآفاق أن يؤخذ حيث كان، فهرب من(2/41)
الجزيرة حتى توسط البلدان الشاميات، فظفروا به فأخذوه وحملوه مقيداً إلى المأمون، فلما صار بين يديه قال له: يا ابن اللخناء أنت القاتل في قصيدتك للقاسم بن عيسى، يعني أبا دلف " كل من في الأرض من عرب "، وأنشد البيتين، جعلنا ممن يستعير المكارم والإفتخار به. قال: يا أمير المؤمنين، أنتم أهل بيت لا يقدس بكم، لأن الله تعالى أحبكم لنفسه على عباده، وآتاكم الكتاب والحكم ملكاً عظيماً، وإنما ذهبت في قولي إلى أقران القاسم بن عيسى من هذه الناس وأشكاله، قال: والله ما أبقيت أحداً، ولقد أدخلتنا في الكل، وما استحل دمك بكلمتك هذه، ولكن استحله بكفرك في شعر، حيث قلت في عبد ذليل مهين، فأشركت بالله العظيم، وجعلت معه ملكاً قادراً، وهو قولك:
أنت الذي تنزل الأيام منزلها ... وتنقل الدهر من حال إلى حال
وما مددت مدى طرف إلى أحد ... إلا قضيت بأرزاق وآجال
ذاك الله عز وجل يفعله، أخرجوا لسانه من قفاه، فمات، وذكره صاحب كتاب الأغاني، كما ذكر ابن المعتز في قضيته مع المأمون.
قال ابن خلكان: ورأيت في " كتاب البارع " في أخبار الشعراء المولدين تأليف ابن المنجم هذين البيتين لخلف بن مرزوق مولى علي بن ريطة والله أعلم بالصواب مع بيت ثالث وهو:
تزور سخطاً فتمسي البيض راضية ... ويستهل فتبكي أعين المال
لقد أبدع في هذا البيت بمدحه جامعاً وصفين محمودين عند العرب مع حسن صنيعه في كليهما، وهما الشجاعة والكرم، فالشجاعة في قوله: " تزور سخطاً فتمسي البيض راضية "، يعني: يقصد الأعداء فتمسي السيوف راوية بدمائهم، فكنى عن ربها برضائهما والكرم في قوله: " ويستهل فتبكي أعين المال " يعني: يضحك استبشاراً بالضيفان، فيعقر ويذبح لهم السمان، وفي ضمن ذلك بكاؤها بما عرض لها من الأحزان.
ومن مدحه لحميد:
ويكفي سابهن الدنيا حميد ... فقد أضحوا له فيها عيالاً
كأن أباه آدم حين أوصى ... إليه أن يعولهم فعالاً
ولما مات حميد المذكور في يوم عيد الفطر سنة عشر ومائتين رثاه بقصيدة من جملتها:
فآدابنا ما أدب الناس قبلنا ... ولكنه لم يبق للصبر موضع(2/42)
ورثاه أبو العتاهية بقوله:
أبا غانم أما فناك فواسع ... وقبرك معمور الجوانب محكم
وما ينفع المقبور عمران قبره ... إذا كان فيه جسمه يتهدم
قلت: لفظ فناك في البيت الأول ليس هو في الأصل المنقول منه، وإنه فيه " دارك " وهو لا يتزن فأبدله " بفناك ".
وفي السنة المذكورة توفي صاحب المسائل الأسدية التي كتبها عن ابن القاسم.
وفيها توفي الحافظ الزاهد العابد عبد الله بن داود، سمع الأعمش والكبار، وكان من أعبد أهل زمانه.
وفيها توفي إسحاق بن مرار " بكسر الميم وبالراء قبل الألف وبعدها " النحوي اللغوي الشيباني منزلاً، كان من الأئمة الأعلام أخذ عنه جماعة كبار منهم الإمام أحمد وأبو عبيد القاسم بن سلام ويعقوب بن السكيت، وقال في حقه: عاش مائة وثماني عشرة سنة، وكان يكتب بيده إلى أن مات.
وقال ابن كامل: مات في اليوم الذي مات فيه أبو العتاهية وإبراهيم النديم الموصلي.
وقيل توفي في سنة ست ومائتين، وعمره مائة وعشر سنين. قال ابن خلكان: وهو الأصح، وله مصنفات عديدة في اللغة وغريب الحديث والخيل والإبل وخلق الإنسان والنوادر وأشعار العرب ونحو ذلك، وكان الغالب عليه النوادر وحفظ الغريب وأراجيز العرب، وقال ولده لما جمع أشعار العرب ودونها كانت نبفاً وثمانين قبيلة، وكان كلما عمل منها قبيلة وأخرجها إلى الناس كتب مصحفاً وجعله في مسجد الكوفة حتى كتب نيفاً وثمانين مصحفاً.
وفي السنة المذكورة توفي عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي الحافظ، وكان إماماً في الفقه والحديث والقرآن، موصوفاً بالعبادة والصلاح لكنه من رؤوس الشيعة.
وفيها توفي الهيثم بن جميل البغدادي الحافظ نزيل أنطاكية، كان من صلحاء المحدثين وإثباتهم، رحمة الله عليهم.
أربع عشرة ومائتين
فيها التقى محمد بن حميد الطوسي وبابك الخزمي، وهزم بابك، وقتل(2/43)
الطوسي، وفيها تقدم عبد الله بن طاهر بن الحسين أميراً على خراسان، وأعطاه المأمون خمسمائة ألف دينار.
وفيها توفي أبو عمر معاوية بن عمرو الكندي البغدادي الحافظ المجاهد، روى عن زائدة وطبقته، وأدركه البخاري، وكان بطلاً شجاعاً معروفاً بالإقدام كثير الرباط.
وفيها توفي أبو محمد عبد الله بن عبد الحكم الفقيه المالكي البصري انتهت إليه رئاسة الطائفة المالكية بعد أشهب، روى عن مالك الموطأ سماعاً، وكان من ذوي الأموال والرياع، وله جاه عظيم وقدر كبير، ويقال أنه دفع للإمام الشافعي عند قدومه إلى مصر ألف دينار من ماله، وأخذ له من تاجر ألف دينار، ومن رجلين آخرين ألف دينار، وهو والد أبي عبد الله محمد صاحب الإمام الشافعي وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى وأجل ما روى بشر بن بكير قال: رأيت مالك بن أنس في النوم بعدما مات بأيام، فقال: إن ببلدكم رجلاً يقال له ابن عبد الحكم خذوا عنه فإنه ثقة والله أعلم.
خمس عشرة ومائتين
فيها توفي الحافظ إسحاق بن عيسى بن الطباع البغدادي، وفيها توفي العلامة أبو زيد سعيد بن أوس الأنصاري البصري اللغوي، قال أصحاب التاريخ: كان من أئمة الأدب، وغلبت عليه اللغات النوادر والغريب، وكان ثقة في روايته.
وقال أبو عثمان المازني: رأيت الأصمعي، وقد جاء إلى حلقة أبي زيد المذكور، فقبل رأسه، وجلس بين يديه، وقال: أنت أديبنا وسيدنا منذ خمسين سنة.
وكان الإمام سفيان الثوري يقول: أما الأصمعي فأحفظ الناس، وأما أبو عبيدة فأجمعهم، وأما أبو زيد الأنصاري فأوثقهم.
وكان النضر بن شميل يقول: كنا ثلاثة في كتاب واحد، أنا وأبو زيد الأنصاري وأبو محمد اليزيدي، وكان أبو زيد المذكور له في الأدب مصنفات مفيدة منها: " كتاب اللغات "، و " كتاب النوادر "، و " كتاب خلق الإنسان "، و " كتاب الإبل "، و " كتاب الوحوش "، و " كتاب المصادر "، و " كتاب الفرق "، و " كتاب المياه "، و " كتاب حسن في البيان "، جمع فيه أشياء غريبة و " كتاب غريب الأسماء " وغير ذلك جميعها يقارب عشرين مصنفاً.(2/44)
وحكى بعضهم قال: كنت في حلقة شعبة بن الحجاج، فضجر من إملاء الحديث، فرمى بطرفه، فرأى أبا زيد الأنصاري في أخريات الناس، فقال: يا أبا زيد، فجاءه، فجعلا يتحدثان ويتناشدان الأشعار، فقال بعض أصحاب الحديث: يا أبا بسطام، نقطع إليك ظهور الإبل لنسمع منك حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فتدعنا وتقبل على الأشعار؟ قال: فغضب شعبة غضباً شديداً ثم قال: يا هؤلاء، أنا أعلم بالأصلح إلي أنا والله الذي لا إله إلا هو في هذا أسلم مني في ذلك، قلت: كأنه والله أعلم يشير إلى ترويح القلب بالشعر عند سأمته، كما قال أبو الدرداء: إني لاحم نفسي بشيء من الباطل لأستعين به على الحق، ولأنه عند شرح الأحكام نخشى من الوقوع في خطر يؤدي إلى الأنام، وعمر رحمه الله تعالى حتى قارب المائة وقال بعض العلماء: كان الأصمعي يحفظ ثلث اللغة، وكان أبو زيد يحفظ ثلثها، وكان صدوقاً صالحاً، رحمة الله عليه.
وفيها، وقيل: في سنة سبع عشرة ومائتين توفي أبو الفضل عمرو بن مسعدة بن سعيد الكاتب، أحد وزراء المأمون وكان كاتباً بليغاً جزل العبارة وخيرها، شديد المقاصد والمعاني، أمره المأمون أن يكتب كتاباً إلى بعض العمال بالوصية عليه والإعتناء بأمره، فكتب له: كتابي إليك كتاب واثق ممن كتب إليه معتبي لمن كتب له، ولن يضيع بين الثقة والعتابة بوصله والسلام، وقيل هذا من كلام الحسن بن وهب، والأول أصح وأشهر، وله كل معنى بديع، وله رسالة بديعة كتبها إلى بعض الرؤساء، وقد تزوجت أمه فساءه ذلك، فلما قرأها ذلك الرئيس تسلى بها، وذهب عنه ما كان يجده، وهي الحمد لله الذي كفر عنا شر الخيرة، وهدانا لستر العورة، وجدع بما شرع من الحلال أنف الغيرة، ومع من عضل الأمهات، كما منع من وأد البنات استنزلاً للنفوس الأبية عن الحمية، حمية الجاهلية، ثم عرض بجزيل الأخذ من استسلم لواقع قضائه، وعرض جليل الذخر من صبر على نازل بلائه، وهناك الذي شرح للتقوى صدرك، ووسع في البلوى صبرك، وألهمك التسليم لمشيئته والرضا بقضيته.
قلت: هذا بعض الرسالة المذكورة، وقيل أنها لأبي الفضل ابن الحميد.
وقال أحمد بن يوسف الكاتب: وصلت إلى المأمون وهو ممسك كتاباً بيده، وقد أطال النظر فيه زماناً، وأنا ملتفت إليه، فقال: يا أحمد، أراك مفكراً فيما تراه مني، قلت: نعم، وقى أمير المؤمنين المكاره وأعاده من المخلوف، قال: فإنه لا مكروه فيه، ولكني قرأت كلاماً وجدته نظير ما سمعته من الرشيد، يقول في البلاغة، كان يقول: البلاغة التباعد عن الإطالة والتقرب من معنى البغية، والدلالة بالقليل من اللفظ على المعنى، أو قال: على الكثير من المعنى، وما كنت أتوهم أن أحداً يقدر على المبالغة في هذا المعنى، حتى قرأت(2/45)
هذا الكتاب، قال: ورمى به إلي، وقال: هذا الكتاب من عمرو بن مسعده إلي، فإذا فيه كتابي إلى أمير المؤمنين، ومن قبلي من قواده وسائر أخياره في الأنقياد والطاعة على أحسن ما يكون عليه طاعة جند تأخرت أرزاقهم وانقياد كفاة تراخت عطياتهم، واختلت، كذلك أحوالهم، والثابت معهم أمورهم، فلما قرأته قال: إن استحساني إياه بعثني على أن أمرت للجند بعطياتهم بسبعة أشهر، وأنا على مجازاة الكاتب لما يستحقه من جل محله في صياغته أو صناعته.
وفيها توفي الأخفش الأوسط، إمام العربية، أبو الحسن سعيد بن مسعدة النحوي البلخي المجاشعي، أحد نحاة البصرة.
وأما الأخفش الأكبر فهو أبو الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد، وكان نحوياً لغولاً، وله ألفاظ لغوية انفرد بها عن العرب، وعنه أخذ أبو عبيدة وسيبويه وغيرهما، فمن في طبقتهما، ووقت وفاته مجهول فلهذا لم يفرد بترجمة.
وأما الأخفش الأصغر، وهو أبو الحسن علي بن سليمان البغدادي النحوي، أخذ عن ثعلب والمبرد، وسيأتي ترجمته إن شاء الله تعالى في سنة خمس عشرة وثلاث مائة، فبين موت أخفش الأوسط الأصغر مائة سنة، والأوسط المذكور كان من أئمة العربية، أخذ النحو عن سيبويه، وكان يقول: ما وضع سيبويه في كتابه شيئاً إلا وعرضه علي، وكان يرى أنه أعلم مني وأنا اليوم أعلم به، وهذا الأخفش المذكور، وهو الذي زاد في العروض واحداً من البحر على ما وضعه الخليل المشهور.
وحكى أبو العباس ثعلب عن أبي سعيد بن سلمة قال: دخل الفراء على سعيد بن مسعدة المذكور، فقال لنا: جاءكم ممتد أهل اللغة العربية، فقال الفراء: أما ما دام الأخفش يعيش فلا، وللأخفش المذكور عدة تصانيف، منها " الكتاب الأوسط " في النحو و " كتاب تفسير معاني القرآن "، و " كتاب الإشتقاق "، و " كتاب العروض "، و " كتاب القوافي "، و " كتاب معاني الشعر "، و " كتاب الملوك "، و " كتاب الأصوات "، و " كتاب المسائل الكبير "، و " كتاب المسائل الصغير " وغير ذلك، وكان أخلع " وهو الذي لا تنضم شفتاه على أسنانه "، " والأخفش " هو الصغير العينين مع سوء بصرهما، وكان يقال له الأخفش الأصغر حتى ظهر علي بن سليمان المعروف بالأخفش الأصغر فصار هذا وسطاً " ومسعدة " بفتح الميم وسكون السين وفتح الدال والعين المهملات وبعدهن هاء ساكنة " والمجاشعي " بضم الميم وقبل الألف جيم وبعدها شين معجمة مكسورة مهملة ثم عين ثم ياء النسبة إلى(2/46)
الشاعر المشهور:
فوا عجباً حتى كليب يشينني ... كأن أباها مغهل أو جاشع
وفيها توفي محمد بن عبد الله الأنصاري قاضي البصرة وعالمها وسيدها، وهو من كبار شيوخ البخاري، عاش سبعاً وتسعين سنة.
وفيها توفي محمد بن المبارك الصوري أبو عبد الله الحافظ صاحب سعيد بن عبد العزيز، قلت: وهذا الإسم نسبة لمحمد بن المبارك الصوري تشفعت به شجرة الرمان إلى إبراهيم بن أدهم أن يتناول منها شيئاً أو بأقل من رمانها شيئاً، وقد تقدم ذكر ذلك، ومحمد بن المبارك هذا كان صحب إبراهيم بن أدهم، وإبراهيم بن أدهم توفي قبل هذا التاريخ بثلاث وخمسين سنه، فإنه توفي سنة اثنتين وستين ومائة، ويحتمل أنه هو والله أعلم.
وفيها: توفي أبو السكن " مكي بن إبراهيم البلخي الحافظ "، وأبو عامر قبيصة بن عقبة الكوفي الحافظ العابد الذي يقال له راهب الكوفة، وكان هناد بن السرفي إذا ذكره دمعت عيناه وقال: الرجل الصالح.
وفيها توفي محدث مرو علي بن الحسن كان حافظاً كثير العلم، كتب الكثير، حتى كتب التوراة والإنجيل، وجادل اليهود، وفيها توفي الحافظ يحيى بن حماد البصري الحافظ.
سنة ست عشرة ومائتين
فيها غزا المأمون، فدخل بلاد الروم، وأقام بها ثلاثة أشهر، وافتتح آخره عدة حصون، وأغار جيشه، فغنموا وسبوا، ثم رجع إلى دمشق، ودخل الديار المصرية.
وفيها توفيت زبيدة بنت جعفر بن المنصور أم محمد الأمين بن هارون الرشيد، وكان لها معروف كثير وفعل خير شهير، وقصتها في حجتها وما اعتمدته في طريقها شهيرة، وذكر ابن الجوزي أنها سقت أهل مكة الماء بعد أن كانت الرواية عندهم بدينار، وأنها أسالت الماء عشرة أميال بحط الجبال، ويجوب الصخرة، حتى عللت من الحل إلى الحرم، عملت عقبه البستان، فقال لها دليلها: يلزمك نفقة كثيرة، فقالت: اعمل ولو كانت ضربة(2/47)
فاس بدينار.
قلت: وهذه العين المذكورة التي أجرتها، أثارها باقية مشتملة على عمارة عظيمة عجيبة مما يتنزه " برؤيتها على يمين الذاهب إلى منى من مكة، ذات بنيان محكم في الجبال، تقصر العبارة عن وصف حسنه، وينزل الماء منه إلى موضع تحت الأرض عميق ذي درج كثيرة جداً لا يوصل إلى قراره إلا بهبوط " كالبير يسمونه " لظلمته، يفزع بعض الناس إذا ترك فيه وحده نهاراً، فضلاً عن الليل.
قالوا: وكان لها مائة جارية يحفظن القرآن، لكل واحدة ورد عشر القرآن، وكان يسمع في قصرها كدوي النحل في قراءة القرآن، وأسمها أمة العزيز، ولقبها جدها المنصور زبيدة لبياضها ونضارتها، وقال الطبري: أعرس بها هارون في سنة خمس وستين ومائة. قلت: لعل هذه عاشت بعد الرشيد فوق عشرين سنة.
وفي السنة المذكورة توفي الإمام العلامة أبو سعيد عبد الملك بن قريب الباهلي الأصمعي المشهور اللغوي الأخباري البصري المشبه بنغمات بلبل الألفاظ المطربة على فتن بوجه فنون النوادر المعجمة، سمع ابن عون والكبار وأكثر عن أبي عمرو بن العلاء، وكانت الخلفاء تجالسه وتحب منادمته، عاش ثمانياً وثمانين سنة، وله عدة مصنفات، وكان إماماً في اللغة والأخبار والنوادر والمالح والغرائب والأشعار، وهو من أهل البصرة، ثم قدم بغداد في أيام هارون الرشيد. قيل لأبي نواس: قد حضر أبو عبيدة والأصمعي عند الرشيد، فقال: أما أبو عبيدة فإنهم إن أمكنوه قرأ عليهم أخبار الأولين والأخرين، وأما الأصمعي فبلبل يطربك بنغمات.
وعن الأصمعي أنه قال: أحفظ ستة عشر ألف أرجوزة، ويروى: أربعة عشر ألف أرجوزة، منها المائة والمائتان.
وقال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي يقول: ما عبر أحد من العرب بأحسن من عبارة الأصمعي، وقال إسحاق الموصلي: لم أر الأصمعي يدعي شيئاً من العلم، فيكون أحد أعلم به منه.
وقال أبو أحمد العكبري: لقد حرض المأمون على الأصمعي، وهو بالبصرة أن يصير إليه، فلم يفعل، واحتج بضعفه وكبره، وكان المأمون يجمع المشكل من المسائل، ويثير ذلك إليه، فيجيب عنه.
وذكر في كتاب المقتبس عن ابن عريد أو أبي حاتم قال: كنا عند الحسن بن سهل، وبالحضرة جماعة من أهل العلم، منهم جرير بن حازم، ومعمر بن المثنى، والأصمعي، والهيثم بن علي، في جماعة من هذا السن، وحاجب الحسن يعرض عليه قصصاً، وهو يوقع في كل قصة ما ينبغي لها، حتى مر بخمسين قصة، فلما نفض ما بين يديه أقبل علينا، فقال: قد فعلنا في يومنا خيراً كثيراً، ورفعنا في هذه القصص بما فيه فرح لأهلها، ونرجوا أن نكون في كل ذلك مثابين مشكورين، فأفيضوا بنا في حق أنفسنا نتذاكر العلم، فتكلم أبو عبيدة والأصمعي(2/48)
والهيثم إلى أن بلغوا من ذكر ألفاظ من أصحاب الحديث، فأخذوا في الزهري والشعبي وقتادة وشعبة وسفيان، فقال أبو عبيدة: وما الحاجة إلى ذكر هؤلاء الجلة. وما ندري: أصدق الخبر عنهم أم كذب. إن بالحضرة رجلاً يزعم أنه ما نسي شيئاً، وأنه ما يحتاج أن يعيد نظره في دفتر، إنما هي نظرة، ثم قد حفظ ما فيه، " يقصد الأصمعي " فقال الحسن: نعم يا أبا سعيد، تخبر من هذا إنما ينكر جداً، فقال الأصمعي: نعم أصلحك الله ما أحتاج أن أعيد النظر في دفتر، وما أنسيت شيئاً قط، فقال الحسن: فنحن نجرب هذا القول بواحدة، يا غلام، هات الدفتر الفلاني، فإنه يجمع كثيراً مما قد أنشدتناه، وحدثتناه، قال: فأدبر الغلام ليأتي بالدفتر، فقال الأصمعي: أعزك الله وما الحاجة إلى هذا. أنا أريك ما هو أعجب منه، أنا أعيد القصص التي مرت وأسماء أصحابها وتوقيعاتها كلها، فامتحن ذلك بالنظر إليها، وقد كان الحسن قد عارض بتلك التوقيعات، وأثبتها في دفتر البيت، قال: فأكبر ذلك من حضر، وعجبوا واستضحكوا، فقال الحسن: يا غلام، اردد القصص، فردت وقد شدت في خيط كي يتحفظ، فابتدأ الأصمعي، فقال: القصة الأولى لفلان ابن فلان قصة كذا وكذا، ووقعت أعزك الله بكذا وبكذا - حتى أنفذ على هذا السبيل سبعاً وأربعين قصة، فقال الحسن بن سهل: يا هذا حسبك الساعة، والله أقبلك بعين، يعني أصبتك بعيني، يا غلام، أحضر خمسين ألفاً، فأحضرها بحراً، ثم قال: يا غلمان، احملوا معه إلى منزله، قال: فتبادر الغلمان بحملها، فقال: أصلحك الله تنعم بالحامل كما أنعمت بالمحمول. قال: هم لك، ولست منتفعاً بهم، واشتريتهم منك بعشرة آلاف درهم، احمل يا غلام مع أبي سعيد ستين ألفاً، قال: فحملت معه، وانصرف الباقون بالخيبة، فقال أبو حاتم: ما رأيت رجلاً أحسن ترجمة من الأصمعي، وسألته: لأي شيء قدم جرير بن قدامة. قال: كان أعرفهم وأعز لهم وأقدمهم رقة، وأتحمهم هجاء، قال أبو حاتم: معنى التحكم " بالمثناة من فوق والحاء المهملة " التي أنصبتهم.
وروى الرياشي عن الأصمعي قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن ثمانية آلاف مسألة، وما مات حتى أخذ وفي رواية أخرى: ما مات حتى كتب: أو رد عليه الحرف الذي لا يعرفه، فيقبله مني ويتعقد ثقة.
وذكر في " المقتبس " أنه لما قدم الرشيد البصرة، قال جعفر بن يحيى للصباح بن(2/49)
عبد العزيز: قد عزم أمير المؤمنين على الركوب في زلال في نهر الأبلة ثم يخرج إلى دجلة، ويرجع في نهر معقد، وأحب أن يكون معه رجل عالم بالقصور والأنهار والقطائع، ليصفها له، فقال: لا أعرف من يفي بهذا، ويصلح له غير الأصمعي، قال: فأتني، فأتيته فتحدث بين يدي جعفر، فأضحكه وأعجبه، فأدخله إلى الرشيد، فركب معه، فجعل لا يمر بنهر ولا أرض إلا أخبر بأصلها وفرعها، وسمى الأنهار، ونسب القطائع، فقال الرشيد لجعفر: ويحك، ما رأيت مثل هذا قط، من أين غصت عليه؟ فلما قارب البصرة قال للرشيد: يا أمير المؤمنين والذي شرفني بخطابك، إن لي من كل ما مررت به موضع قدم، فضحك الرشيد وقال: اشتر يا جعفر أرضاً، فاشترى له بنهر الأبلة أربعة عشر جريباً بألف وأربع مائة دينار، وكان جعفر قد نهاه عن سؤاله، ووعده بكل ما يريد، فقال له: أما نهيتك عن سؤاله؟ قال: انتهزت الفرصة، فأخبرته خبري فكرم.
وقال الأصمعي: كنت بالبادية. كتب كل شيء أسمعه، فقال أعرابي منهم: أنت كمثل الحفظة، تكتب اللفظة، فكتبه أيضاً، قال: خرجت مع صديق لي بالبادية، فبينا نحن نسير، إذ ضللنا الطريق،، ثم نزلنا فإذا خيمة، فقصدناها فسلمنا، فإذا امرأة ترد علينا السلام، وقالت: ما أنتم؟ قلنا: قوم مارون أضللنا الطريق، فرأيناكم، فأنسنا بكم، فقالت: ولوا وجوهكم حتى أقضي من زمانكم ما أنتم له أهل، ففعلنا، فطرحت لنا مسحاً وقالت: اجلسا حتى يجيء ابني، فيقوم بما يصلحكم، فجلسنا، فجعلت ترفع طرف الخيمة وتنظر، إلى أن نظرت فقالت: أسألك الله بركة المقبل، أما البعير فبعير ابني، وأما الراكب فليس بابني، فجاء الراكب حتى وقف عليها، فقال: يا أم عقيل عظم أجرك في عقيل، قالت: ويحك، أمات ابني؟ قال: نعم، قالت: وما سبب موته؟ قال: ازدحمت الإبل على ابنك، فرمت به في البير، قالت: انزل، فاقض زمام القوم، فنزل فذبح لنا كبشاً وأصلحه مع ملح، وقربه إلينا، فأكلنا ونحن نتعجب من صبرها، فلما فرغنا خرجت إلينا فقالت: يا هؤلاء: هل، فيكم أحد يحسن من كتاب الله عز وجل شيئاً؟ قال: قلت نعم، قالت: فاقرأ علي آيات من كتاب الله أتعزى بها، قال: فقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون "، فقالت: الله إنها لفي كتاب الله هكذا؟ قلت: الله إنها لفي كتاب الله هكذا، قالت: فالسلام عليك، ثم قامت فصفت قدميها، ثم صلت ركعتين، ورفعت يديها، وهي تقول: إنا لله وإنا إليه راجعون وعند الله أحتسب عقيلاً، تقول ذلك ثلاثاً، ثم قالت: اللهم إتني قد فعلت ما أمرتني، فأجزل ما وعدتني.(2/50)
وقال: سهرت ليلة بالبادية، وأنا نازل على رجل من بني الصيد، وكان واسع الرحل كريم المحل، وأصبحت وقد عزمت على الرجوع إلى العراق، فأتيت أنا مثواي، فقلت له: إني قد هلعت من طول الغربة، واشتقت أهلي، ولم تفدني قدمتي هذه إليكم كبير علم، وإنما كنت أفتقر وحشة الغربة وجفاء البادية للفائدة، فقال: فأظهر توجعا، ثم أبرز غداء له، فتغديت معه، وأمر بناقة له مهرية، كأنها سبيكة لجين، فارتحلها واكتفلها، ثم ركب وأردفني وأقبلها مطلع الشمس، فما سرنا كثير مسير حتى لقينا شيخ على حمار، ذو جمة قد نعمها بالورس كأنها " قنبيطة " بالقاف المضمومة ثم النون المشددة ثم الموحدة ثم المثناة من تحت ثم الطاء المهملة وهو يترنم، فسلم صاحبي عليه، وسأله عن نسبه، فاعتزى أسدياً من بني ثعلبة، فقال له: يا ابن عم، أتنشد أم تقول؟ فقال: كلا قال: فأين تنزل؟ فأشار إلى ماء قريب، فأناخ الشيخ وقال لي: خذ بيد ابن عمك، فأنزله عن حماره، ففعله فألقى له كساء كان اكتفل به بعيره، فقال له: أنشدنا رحمك الله وتصدق على هذا الغريب بأبيات يعيهن عنك، ويذكرك بهن فأنشد:
لقد طال يا سوداء منك المواعد ... ودون الجدا المأمول منك الفوائد
تمنيتها غدواً وغيمكم غدا ... أصاب فلا صحواً ولا الغيم جامد
إذا أنت أعطيت الغنى ثم لم نجد ... بفضل الغنى ألقيت ما لك حامد
وقل غناء عنك مال جمعته ... إذا صار ميراثاً وواراك لأحد
إذا أنت لم يعزل بجنبك بعض ما ... تربت من الأدنى ورباك الأباعد
إذا العزم لم يفرج لك الشك لم تزل ... حبيباً كما استبلى لجيشة فائد
إذا أنت لم تترك طعاماً تحبه ... ولا مقعد أتدعى إليه السوائد
تجللت عاداً لا يزال بسبه ... سباب رجال نثرهم والقصائد
وأنشد:
تعز فإن الصبر بالحر أجمل ... وليس على شرب الزمان مقول
فإن تكن الأيام فينا تبدأت ... ببؤس ونعم والحوادث تفعل
فما لينت منا قناة صلابة ... ولا ذللتنا للذي ليس يحمل
ولكن نحلناها نفوساً كريمة ... فتجهل ما لا نستطيع فنجمل
وقينا بعزم الصبر منا نفوسنا ... فصحت لنا الأعراض والناس هزل(2/51)
قال الأصمعي: فنمت والله قد أنسيت أهلي، وهانت علي الغربة وشطف العيش " يعني خشونته " سروراً بما سمعته.
وقال: رأيت بالبادية شيخاً قد سقط حاجباه على عينيه، فسألته عن سنه فقال: مائة وعشرون سنة، فقلت: أرى فيك بقية، فقال: تركت الحسد فبقي علي الحسد، فقلت له: هل قلت شيئاً؟ فقال: بيتين في إخواني فاستنشدته فقال:
ألا أيها الموت الذي ليس تاركي ... أرحني، فقد أفنيت كل خليل
أراك بصيراً بالذين تبيدهم ... كأنك تنحو نحوهم بدليل
وقال وكان بالبصرة أعرابي من بني تميم، يطفل أو قال: يتطفل على الناس، فعاتبته على ذلك، فقال: والله ما بنيت المنازل إلا لتدخل، ولا وضع الطعام إلا ليؤكل، وما قدمت هدية إلا لتقبل، فأتوقع رسولاً، وما أكره أن أكون ثقلاً ثقيلاً على من أراه شحيحاً بخيلاً، وأقتحم عليه مستأنساً، وأضحك إن رأيته عابساً، وآكل برغمه، وأوذعه بغمه، فما أعد للهوات طعام أطيب من طعام لا ينفق عليه درهم، ولا يعنى فيه خادم، ثم أنشأ يقول:
كل يوماً دور في عرصة الحي ... اسم القتار ثم ألف باب
فإذا ما رأيت آثار عرس ... وختان ومجمع للصحاب
لم أودع دون التقحم لا ... أرهب دفعاً ونكرت البواب
مع أبيات أخرى، وقال عمرو بن الحارث الحمصي ما رأى الأصمعي مثل نفسه قط، لقد قال الرشيد يوماً: أنشدونا أحسن ما قيل في العقاب، فعذر القوم، ولم يأتوا بشيء، فقال الأصمعي من أحسنه:
باتت بورقها في وكرها شعب ... وناهض مخلص الأقرات من فيها
ثم استمر بها عزم فحذرها ... كأنما الريح هبت من خوافيها
ما كان إلا كرجع الطرف أو رجعت ... فلا تمطرن مما في أسافيها
ثم قال: وهذا امرؤ القيس يقول:
كأن قلوب الطير رطباً ويابساً ... لدى وكرها العناب والخشف البالي
فقال الرشيد: لله درك ما من شيء إلا وجدت عندك فيه شيئاً، وقال عمرو: دخل العباس بن أحنف على الرشيد، وعنده الأصمعي، فقال له: أنشدنا من مكحل العربية، فأنشده:(2/52)
إذا ما شئت أن تصنع شيئاً يعجب الناسا ... فصور هاهنا فوراً صور ثم عباسا
ودع بينهما شبراً، فإن زدت فلا بأسا ... وإن لم يدنوا حتى ترى رأسيهما رأسا
فكذبها وكذبه بما قاست وما قاسا
قال: فلما خرج قال الأصمعي: يا أمير المؤمنين؟ مسروق من العرب والعجم، فقال لي: ما كان من العرب. فقلت: رجل يقال له عمر، هوى جارية يقال لها قمراء:
إذا ما شئت أن تصنع شيئاً يعجب السرا ... فصور هاهنا قمراً وصورها هنا عمرا
فإن لم يدنوا حتى ترى بشريهما بشراً ... فكذبها بما ذكرت، وكذبه بما ذكرا
وقال: فما كان من العجم؟ قلت: رجل يقال له فلق " بسكون اللام بين الفاء المفتوحة والقاف " هوى جارية يقال لها روف، فقال:
إذا ما شئت أن تصنع شيئاً يعجب الخلقا ... فصور هاهنا روفا وصورها هنا فلقا
فإن لم يدنوا حتى ترى خلقيهما خلقا ... فكذبها بما لقيت وكذبه بما يلقى
قال: فبينا نحن كذلك إذ دخل الحاجب، فقال: عباس بالباب، فقال: ائذن له فدخلت فقال: يا عباس تسرق معاني الشعر، وتدعيه؟ فقال: ما سبقني إليه أحد، فقال هذا الأصمعي يحكيه عن العرب والعجم، ثم قال: يا غلام ادفع الجائزة إلى الأصمعي قال: فلما خرجنا قال العباس: كذبتني وأبطلت جائزتي، فقلت: أتذكر يوم كذا، ثم أنشأت أقول:
إذا ودندت امرؤاً فاحذر عداوته ... من يزرع الشوك لا يحصد به عنها.
قلت: وقد خطر لي حال إملائي على الكاتب أن أردف هذا البيت بيتين مما يناسب فقلت:
ومن من الخير لم يغرس بخيل علا ... لم يجتن من حسن الدنى رطبا
ومن بدنياه لم يتعب بطاعته ... فداركم يلقى لها تعبا
وقال الأصمعي: قال هارون الرشيد ليلة وهو يسير في قبة: يا أصمعي، حدثني، قلت: يا أمير المؤمنين، إن مزرد بن مرار كان شاعراً مليحاً ظريفاً، وإن أمه كانت تبخل عليه بزادها، وإنها غابت عن بيتها يوماً، فوثب مزرد على ما في بيتها فأكله وقال:
ولما غدت أمي تزوز بناتها ... أغرت على العلم الذي كان يمنع
خلطت بصاعي عجوة ... إلى صاع سمن فوقه يتردع(2/53)
ودلت بأمثال الأثافي كأنها ... رؤوس نقبا ذرفت لا تجمع
وقلت ليتني لسر اليوم أنه ... حمى أمنا مما يفيد ويجمع
فإن كنت مصفوراً فهذا دواؤه ... وإن كنت غرثاناً فذا يوم يشبع
قال: فضحك الرشيد، وقال: الدنيا ليس فيها مثلك حسن، قال: فدعوت له وفضلته على الملوك بحبه العلم وإحسانه أهله " قوله علم بكسر العين هو نمط تجعل فيه المرأة ذخيرتها "، وكان الرشيد يحب الوحدة، وكان إذا ركب عاد له الفضل بن الربيع، وكان الأصمعي يسير قريباً منه بحيث يحادثه، وإسحاق الموصلي يسير قريباً من الفضل، وكان الأصمعي لا يحدث الرشيد شيئاً إلا وسر به وضحك، فحسده إسحاق، فقال إسحاق للفضل: كل ما يقوله كذب، فقال الرشيد: أي شيء قال؟ فأخبره، فغضب الرشيد، فقال: والله إن كان ما يقوله كذباًً إنه لأظرف الناس، وإن كان حقاً إنه لأعلم الناس.
قال الأصمعي: قال لي الرشيد: أما ترى قبيح أسماء سكك بغداد، مثل قطيعة الكلاب ونهر الدجاج وأشباه ذلك، فهل للعرب مواضع قبيحة الأسماء؟ قلت: نعم، قد قال: الراجز: " ما ترى ملح بارف سقيت ماؤه بير فشر ورى فقر درى لحنونا فلحسه " فقال: ولله درك يا أصمعي، ما رأيت مثلك، خلقت لهذا الشأنه وحدك.
وقال: قدمت على الرشيد، فاستبطأني، فقلت: ما لاقتني أرض حتى رأيت أمير المؤمنين، فلما خرج الناس، قال: ما معنى ما لاقتني؟ قلت: ما ألصقتني بها، ولا قبلتني، فقال: هذا حسن، ولكن لا تكلمني بين يدي الناس إلا بما أفهمه، حتى أجد جوابه، فإذا خلوت فقل ما شئت، وإنه لقبيح بالسلطان أن يسمع ما لا يدري، فإما أن يسكت ويعلم الناس أنه ما فهم، أو يجيب بغير الجواب، فيتحقق عندهم ذلك، فقلت: قد والله أفسدت إفساداً في أمير المؤمنين عن التأدب أكثر مما أفسدته، وقال: قال لي المأمون أيام الرشيد: لمن هذا البيت؟
ما كنت إلا كلحم ميت ... دعا إلى أكله اضطرار
فقلت: لابن عيينة المهلبي، فقال: كلام شريف، ثم قال لي: يا أصمعي، كأنه من قول الشاعر:
وأن يقوم سوده كالفاقة ... إلى سيد لو يظفرون بسيد
فقلت له: والله جاؤا به الأمير، وعجبت من فهمه مع صغر سنه.(2/54)
قال: الأصمعي: كنت مع الرشيد في بعض أسفاره، فعطش، وقد تقدمته حمولة الثلج، فأتي بماء من ماء الرحل، فلما صار في فمه، مجه فقال له أبو البختري: يا أمير المؤمنين إني كنت ألتمس موضعاً لوعظك، فلا أقدر عليه، وقد وجدته، أفتأذن يا أمير المؤمنين. قال: نعم، قال: يا أمير المؤمنين، لو أكلت الطيب والخبيث وشربت الحار والقار، ولبست اللين والخشن، لكان أصلح لك، فإنك لا تدري ما يكون من صروف الزمان، قال: فانتفخ في ثوبه حتى خلته سمعت أرغته، ثم سكن فقال: يا أبا البختري، تلبس هذه النعمة ما لبسنا؟ فإذا أعوذ بالله زالت عنا رجعنا إلى عود غير حوار.
وسأل الرشيد يوماً أهل مجلسه عن صدر هذا البيت:
ومن يسأل الصعلوك أين مذاهبه، فلم يعرفه أحد، فقال إسحاق الموصلي: الأصمعي عليل، وأنا أمضي إليه وأسأله عنه، فقال الرشيد، احملوا إليه ألف دينار لنفقته، قال: فجاءت رقعة الأصمعي، وفيها أنشد في خلق الأحمر لأبي نسناس النهشلي.
وسائلته أين الرحيل وساءل ... ومن يسأل الصعلوك أين مذاهبه؟
ودوابه يخشى بها الري سرت ... بأبي النسناس فيها ركائبه
ليدرك ناراً أو ليكسب مغنماً ... جزيلاً وهذا الدهر جم عجائبه
وذكر القصيدة كلها، وقال الأصمعي: بينما أنا مع الرشيد بمكة، إذ عارضه العمري فقال: يا أمير المؤمنين، إني أريد أن أكلمك بكلام غليظ، احتمله لله عز وجل، فقال: أفعل، فو الله لقد بعث الله تعالى من هو خير منك إلى من هو شر مني، فقال: فقولا له ليناً.
قلت: ومما يناسب هذا الكلام ما شاع في بلاد اليمن بين العلماء والعوام، إن الإمام الكبير الولي الشهير إمام الفريقين وموضع الطريقين محمد بن إسماعيل الحضرمي، قدس الله روحه، كتب إلى الملك المظفر صاحب اليمن في سقيفة خزف: يا يوسف، فكتب المد يعاتبه ويقول: أرسل الله من هو خير منك إلى من هو شر مني.
وفي رواية: دع أنك موسى، ولست بموسى، وأني فرعون ولست بفرعون، وقد قال الله تز وحل: " فقولا له قولا ليناً " " طه: 44، " أما تكتب إلي في ورقة بفلس؟ قلت: وقدم ذكر وعظ العمري لهارون في ترجمته.
وقال الأصمعي: كنت عند الرشيد بالرقة، فبعث إلي فقمت وأنا وجل،. فدخلت هو جالس على بسط، وإذا كرسي خيزران إلى جانبه وجويرية خماسية جالسة على ذلك(2/55)
فسلمت فلم يرد علي، وجعل ينكت في الأرض، فأيست من الحياة، فقال: يا أصمعي؟ ألم تر هذا الكذاب عبد بني حنيفة يقول لمعن بن زائدة، وإنما هو عبد عبيدي:
أقمنا باليمامة إذ يئسنا ... مقاماً لا يزيد به وبالاً
وقلنا أين نذهب بعد معن ... وقد ذهب النوال فلا نوالاً
وكان الناس كلهم لمعن ... إلى أن زار حفرته عيالاً
فجعلني وحشمي عيالاً لمعن، وقال: إن النوال قد ذهب، فما تصنع بنا؟ فقلت: يا أمير المؤمنين عبد من عبيدك، أنت أولى بأدبه، وهو بالباب، فقال علي به، فأدخل، فقال: السياط، فأخذ الخدم يضربونه فضرب أكثر من ثلاثمائة سوط، وهو يصيح ويقول: يا أمير المؤمنين، استبقني، واذكر قولي فيك وفي أبيك، قال: وما قلت فينا. فأنشده قصيدته التي يقول فيها:
ما تطفئون من السماء نجومها ... أو تمحقون من السمع هلالها
أم ترفعون مقالة عن ربه ... جبريل بلغها النبي فقالها
شهدت من الأنفال أحزابه ... إن أتهم فأرتمو إبطالها
فدعوا الأسود خوادراً في غيلها ... ألا تولغ دماءكم أشبالها
وقال: فأمر له بثلاثين ألف درهم وخلاه، فلما خرج قال لي: يا أصمعي من هذه؟.
قلت: لا أدري، قال: هذه مواسية بنت أمير المؤمنين، قم فقبل رأسها، فقلت: أفلت من واحدة، ووقعت في أخرى، إن فعلت أدركته الغيرة فقتلني، فقمت، وما أعقل، فوضعت كمي على رأسها وفمي على كفي، فقال لي: والله لو أخطأتها لقتلتك، قلت: يعني لو أخطأت هذه الفعلة التي فعلتها بهذه الصفة، قال: ثم قال: أعطوه عشرة آلاف درهم.
وقال الأصمعي: حضرت أنا وأبو عبيدة عند الفضل بن الربيع، فقال لي: كم كتابك في الخيل؟ فقلت: مجلد واحد، فسأل أبا عبيدة عن كتابه فقال: خمسون مجلداً، فقال له: قم إلى هذا الفرس وأمسكه عضواً عضواً منه، فقال: لست بيطاراً، وإنما هذا شيء أخذته من العرب، فقال لي: قم يا أصمعي، وافعل ذلك، فقمت وأمسكت ناصيته، وشرعت أذكر عضواً عضواً، وأضع يدي عليه، وأنشده ما قالت العرب فيه إلى أن فرغت منه، فقال: خذه، فأخذته، وكنت إذا أردت أن أغيظ أبا عبيدة كتبته إليه.
وروي عن طريق أخرى أن ذلك عند هارون الرشيد، وأن الأصمعي لما فرغ من كلام في أعضاء الفرس، قال الرشيد لأبي عبيدة: ما تقول في ما قال؟ قال: أصاب في بعض، وأخطأ في بعض، فالذي أصاب فيه مني تعلم، والذي أخطأ فيه ما أدري من أين أتى به.(2/56)
وقال أبو العيناء: أنشدني أبو العالية الشامي:
لا در در بباب الأرض أن فجعت ... بالأصمعي لقد أبقت لنا أسفا
عش ما بدا لك في الدنيا فلست ترى ... في الناس منه ولا من علمه خلفا
قلت: وقد روي عن أبي العيناء في ذم الأصمعي، عن أبي قلابة بيتان يضادان ما مد في هذين البيتين، كرهت ذكرهما لكون ما مدح به معلوماً عند الخلق، وما ذمه به مجهولاً عندهم، وفهرست أسماء تصانيفه على ثلاثين كتاباً.
ومن مسنده عن عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " إياكم ومحقرات الذنوب، فإن لها من الله طالباً ".
وبإسناده عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في الكنز مر به الخضر عليه السلام، كان لوحاً من ذهب مضروباً مكتوباً فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، عجباً لمن يعرف الموت كيف يفرح، ولمن يعرف النار كيف يضحك، ولمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، ولمن يؤمن بالقضاء والقدر، كيف ينصب في طلب الرزق، ولمن يؤمن بالحساب كيف يعمل الخطايا، لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وبإسناده عن سلمة بن بلال قال: قال علي رضي الله تعالى عنه:
لا تصحب أخا الجهل وإياك وإياه ... فكم من جاهل أردى حليماً حين آخاه
وللشيء على الشيء مقاييس مقاييس ... يقاس المرء بالمرء إذا هو ما شاء
وبإسناده عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: هذا المال لا يصلحه إلا ثلاث: أخذه من فضله، ووضعه في حقه، ومنعه من السرف.
وقال: لقي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بطرف الجمرة رجلاً فقال له: ما اسمك؟ قال: طارق، قال: ابن من. قال: ابن شهاب، قال: ممن. قال: من الحرقة، قال: أين منزلك؟ قال بجمرة النار، قال: بأيها؟ قال: بذات لظى، قال: أدرك أهلك فقد حرقوا فرجع إلى أهله فرجع إلى أهله فوجدهم قد احترقوا.
وبإسناده قال صلى الله عليه وآله وسلم: " من أنعم الله عليه، فليحمد الله ومن استبطأ عليه الرزق، فليستغفر الله، ومن حزبه أمر، فليقل: لا حول ولا قوة بالله ".(2/57)
سبع عشرة ومائتين
وفيها توفي، وقيل في التي قبلها حجاج بن المنهال البصري الأنماطي الحافظ سمع شعبة، وطائفة رحمة الله عليهم.
وفيها توفي سريج بن النعمان البغدادي الحافظ وموسى بن داود الضبي الحافظ هشام بن إسماعيل الخزاعي الدمشقي الزاهد القدوة رحمة الله عليهم.
ثمان عشرة ومائتين
فيها: امتحن المأمون العلماء بخلق القرآن، وكتب إلى نائبه على بغداد، وبالغ في ذلك، وقام في هذه البدعة قيام متعبد بها، فأجاب أكثر العلماء على سبيل الإكراه، وتوقف طائفة، ثم أجابوا وناظروا، فلم يلتفت إلى قولهم، وعظمت المصيبة بذلك، وتهدد على ذلك بالقتل، فلم يقف، ولم يثبت من علماء العراق إلا أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح، قيل: وارسلا إلى المأمون، وهو بطرسوس، فلما بلغوا الرقة جاءهم الفرج بموت المأمون، وعهد بالخلافة إلى أخيه المعتصم.
وفيها: دخل كثير من أهل بلاد همدان في دين الخرمية وعسكروا فندب المعتصم لهم أمير بغداد إسحاق بن إبراهيم، فالتفاهم بأرض همذان، فكسرهم وقتل منهم ستين ألفاً، وانهزم من بقي إلى ناحية الروم.
وفيه: توفي أبو محمد عبد الملك بن هشام البصري الحميري الأصل المعافري اليمني النحوي صاحب المغازي، الذي هذب السيرة وتخصها، وكان أديباً أخبارياً نسابة، سكن مصر وبها توفي في شهر رجب.
وفيها توفي بشر المريسي رأس الضلالة الداعي إلى البدعة بالقول بخلق القرآن وغير ذلك من العقائد المخالفة لمذهب أهل الحق.
قيل: وكان مرجئاً، وإليه ينسب الطائفة المريسية من المرجئة، وكان يناظر الإمام شافعي، وهو لا يعرف النحو، بل يلحن لحناً فاحشاً، وقيل: كان أبوه يهودياً صباغاً(2/58)
بالكوفة. " والمريسي " منسوب إلى مريس، قيل: قرية من قرى مصر، وقيل: بين بلاد النوبة والسودان وقيل: بل منسوب إلى درب المريس ببغداد حيث كان يسكن.
وفي السنة المذكورة أيضاً توفي المأمون أبو العباس عبد الله بن الرشيد هارون بن المهدي بن المنصور العباسي، وله ثمان وأربعون سنة وكأن أبيض ربعة، حسن الوجه أعين، طويل اللحية ذا رأى وعقل ودهاء وشجاعة وكرم وحلم ومعرفة بعلم الأدب وعلوم أخرى، وكان من أذكر العالم وله همة عالية، ذا رأي في الجهاد وغيره، وكان يقول: معاوية لعمرو " بفتح العين المهملة " وعبد الملك لحجاجه، وأنا لنفسي، وكان في اعتقاده شيعياً استقل بالخلافة عشرين سنة بعد قتل أخيه الأمين لما خلعه.
ومما يحكى من ذكائه وحسن أدبه، أنه كان أبوه الرشيد يميل إليه أكثر من أخيه الأمين، وكانت أم الأمين زبيدة تغار من ذلك، وتوبخ الرشيد على ميله إلى ولد الجارية فقال لها على طريق الإعتذار، سأبين لك فضلهما، أو قال: فضله على أخيه، فاستدعى بالأمين وكانت عنده مساويك فقال له: ما هذه يا محمد. فقال: مساويك، فقال: اذهب، ثم استدعى بالمأمون، فلما أحضر قال: ما هذه يا عبد الله؟ فقال: ضد محاسنك أمير المؤمنين، أو كما قال له من العبارة، كل ذلك وزبيدة تسمع ليمهد عذره عندها.
قلت: وهذا ما اقتصرت عليه في ترجمته، وله ما يكثر ذكره من الفضائل، وقد وقع ذكر شيء منها في غير هذا المكان.
وفيها توفي ناصر السنة محمد بن نوح العجلي، المحمول مقيد مع الإمام أحمد، مرض ومات في الطريق وكان يثبت أحمد ويشجعه.
تسع عشرة ومائتين
فيها: وقيل في التي بعدها: امتحن المعتصم الإمام أحمد وضرب بين يديه بالسياط حتى غشي عليه، فلما صمم ولم يجبهم إلى مرادهم أطلقه وندم على ضربه، وقد أوضحت في كتاب " المرهم في الأصول " كيفية ذلك الإمتحان، ومن حرض عليه من علمائهم، لحق المتولين ذلك من العقوبة.
وفيها توفي أبو أيوب سليمان بن علي الهاشمي، كان إماماً فاضلاً شريفاً، روي أن الإمام أحمد بن حنبل أثنى على سليمان بن علي، وقال: يصلح للخلافة.(2/59)
وفيها توفي الإمام أبو نعيم الفضل بن دكين محدث الكوفة الحافظ. قال ابن معين: ما رأيت أثبت من أبي نعيم وعفان، وقال أحمد: كان يقظان في الحديث عارفاً، وقام في أمر الإمتحان بما لم يقم به غيره، وكان أعلم من وكيع بالرجال وأنسابهم، ووكيع أفقه منه، وقال غيره لما امتحنوه: قال: والله، عنقي أهون من زري هذا، ثم قطع زره ورمى به.
وفيها توفي أبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي الكوفي الحافظ رحمة الله تعالى عليه
عشرين ومائتين
فيها عهد المعتصم للأفشين على حرب بابك الخرمي الذي هزم الجيوش وخرب البلاد منذ عشرين سنة، فالتقى الأفشين بابك، فهزمه وقتل من الخرمية نحو الألف، وهرب بابك، ثم جرت لهما أمور يطول شرحها، وفيها أمر المعتصم بإنشاء مدينة يتخذها داراً للخلافة، وسميت سر من رأى.
وفيها غضب المعتصم على وزيره الفضل بن مروان وأخذ منه عشرة آلاف دينار.
وفيها توفي آدم بن أبي إياس الخراساني ثم البغدادي نزيل عسقلان، كان صالحاً قانتاً لله، ولما احتضر قرأ الختمة ثم قال: لا إله إلا الله. وفارق الدنيا، " وعبد الله " بن جعفر الرقي الحافظ، " وعفان " بن مسلم الحافظ البصري أحد أركان الحديث، قال يحيى بن معين: أصحاب الحديث خمسة: ابن جريج ومالك والثوري وشعبة وعفان. قال حنبل: كتاب المأمون إلى متولي بغداد يمتحن الناس، وكتب: إن لم يجب عفان فاقطع رزقه، وكان له في الشهر خمسمائة درهم، فلم يجبهم وقال: وفي السماء رزقكم وما توعدون.
وفيها: توفي الإمام قالون قارىء أهل المدينة، صاحب نافع.
وفيها: توفي الشريف أبو جعفر محمد الجواد بن علي الرضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر، أحد الإثني عشر إماماً الذين يدعي الرافضة فيهم العصمة، وعمره خمس وعشرون سنة، وكان المأمون قد نوه بذكره، وزوجه بابنته، وسكن بها المدينة، وكان المأمون ينفذ إليه في السنة ألف ألف درهم. قلت: وقد تقدم أن المأمون(2/60)
زوج ابنته من أبيه " علي الرضى " وكان زوج الأب والإبن بنتيه، كل واحد بنتاً، وقدم الجواد إلى بغداد وافدا على المعتصم، ومعه امرأته أم الفضل ابنة المأمون، فتوفي فيها، وحملت امرأته أم الفضل إلى قصر عمها المعتصم، فجعلت مع الحرم، وكان الجواد يروي مسنداً عن آبائه إلى علي بن أبي طالب رضوان الله تعالى عليهم أجمعين أنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن، فقال لي وهو يوصيني: يا علي، ما جار، أو قال: ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار، يا علي، عليك بالدلجة، فإن الأرض تطوي بالليل ما لا تطوي بالنهار، يا علي، أغد، فإن الله بارك لأمتي في بكورها، وكان يقول: من استفاد أخاً في الله، فقد استفاد بيتاً في الجنة. ولما توفي دفن عند جده موسى بن جعفر في مقابر قريش، وصلى عليه الواثق بن المعتصم.
إحدى وعشرين ومائتين
وفيها: توفي الإمام الرباني أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسلمة بن قعنب الحارثي المدني القعنبي الزاهد، سكن البصرة ثم مكة وبها توفي، وقيل بالبصرة، وهو أوثق من روى الموطأ، قال أبو زرعة: ما كتبت عن أحد أجل في عيني من القعنبي، وقال أبو حاتم: ثقة لم أر أخشع منه، وقال غيرهما من الأئمة هو والله عندي خير من مالك، وقال الفلاس: كان القعنبي مجاب الدعوة، وقال محمد بن عبد الوهاب الفراء: سمعتهم بالبصرة يقولون القعنبي من الإبدال.
قال عبد الله بن أحمد بن الهيثم: سمعت جدي يقول: كنا إذا أتينا عبد الله بن مسلمة القعنبي خرج إلينا كأنه مشرف على جهنم نعوذ بالله منها قلت: وقال الشيخ محيي الدين النووي في شرح البخاري: روينا عن أبي مرة الحافظ قال: قلت للقعنبي: حدث، ولم يكن يحدث، قال: رأيت كأن القيامة قد قامت، فصيح بأهل العلم، فقاموا فقمت معهم، فصيح. اجلس، فقلت: إلهي ألم أكن معهم أطلب؟ قال: بلى، ولكنهم نشروه وأخفيته، فحدث، قال النووي: وروينا عن الإمام مالك أن رجلاً جاءه فقال: قدم القعنبي، فقال مالك: قوموا بنا إلى خير أهل الأرض، وقال محيي الدين المذكور: سمع مالكاً والليث وحماد بن سلمة وخلائق لا يحصون من الأعلام وغيرهم. وروى عنه الذهلي والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي والخلائق من الأعلام، وأجمعوا على جلالته وإتقانه وحفظه وإخلاصه وورعه وزهادته، وكانت وفاته يوم الجمعة لست خلت من المحرم من السنة المذكورة.(2/61)
اثنتين وعشرين ومائتين
فيها التقى الأفشين والخرمية، فهزمهم ونجا بابك، فلم يزل الأفشين يتحيل عليه حتى أسره، وقد عاث هذا الشيطان وأفسد البلاد والعباد، وامتدت أيامه نيفاً وعشرين سنة، وأراد أن يقيم ملة المجوس، واستولي على كثير من البلدان.
وفي أيامه ظهر المازيار القائم بملة المجوس بطبرستان وبعث المعتصم إلى الأفشين بثلاثين ألف ألف درهم ليتقوى بها، وافتتحت مدينة بابك في رمضان بعد حصار شديد فاختفى بابك في غيضة وأسر جميع خواصة وأولاده، وبعث إليه المعتصم الأمان، فخرق به وسبه، وكان قوي النفس شديد البطش صعب المراس، فطلع من تلك الغيضة في طريق يعرفها في الجبل، وانفلت ووصل إلى جبال أرمينية، فنزل عند " البطريق سهل " فأغلق عليه، وبعث ليعرف الأفشين، فجاء الأفشينية فتسلموه، وكان المعتصم قد جعل لمن جاء به حياً ألفي ألف درهم، ولمن جاء برأسه ألف ألف درهم، وكان يوم دخل ببغداد يوماً مشهوداً.
وفيها توفي أبو اليمان الحكم بن نافع اليماني الحمصي الحافظ " وأبو عمرو " مسلم بن إبراهيم الفراهيدي مولاهم الحافظ محدث البصرة، سمع من ثمانية شيوخ بالبصرة، وكان يقول: ما أتيت حراماً ولا حلالاً قط.
ثلاث وعشرين ومائتين
فيها أتي المعتصم ببابك، فأمر بقطع رأسه وبصلبه.
وفيها توفي خالد بن خداش المهلبي البصري المحدث، وعبد الله بن صالح الجهني المصري الحافظ، وأبو بكر بن أبي الأسود قاضي همدان، وكان حافظاً مفتياً، وموسى بن إسماعيل البصري الحافظ أحد أركان الحديث رحمة الله عليهم.
أربع وعشرين ومائتين
فيها ظهر مازيار " بالزاي ثم الياء المثناة من تحت وفي آخره راء " بطبرستان، فسار لحربه عبد الله بن طاهر، وجرت له حروب وأمور، ثم اختلف عليه جنده، وكان قد ظلم وأسف وصادر وخرب أسوار بلدان منها: الري وجرجان وغير ذلك، وسيأتي ذكر قتله.
وفيها توفي الأمير إبراهيم بن المهدي العباسي، وكان فصيحاً أديباً شاعراً رأساً في معرفة الغناء وأبوابه، ولي أمرة دمشق لأخيه الرشيد، وبويع بالخلافة ببغداد، ولقب بالمبارك(2/62)
عندما جعل المأمون ولي عهده علي بن موسى الرضى، وحورب فانكسر مرة بعد أخرى، واختفى، وبقي مختفياً سبع سنين، ثم ظفروا به، فعفا عنه المأمون.
وفيها توفي قاضي مكة أبو أيوب سليمان بن حرب الأزدي الواشجي البصري الحافظ، حضر مجلسه المأمون من وراء ستر. وأبو الحسن علي بن محمد المدائني البصري الأخباري صاحب التصانيف والمغازي والأنساب، وكان يسرد الصوم.
وفيها توفي العلامة العالم أبو عبيد القاسم بن سلام " بتشديد اللام " البغدادي صاحب التصانيف، سمع شريكاً وابن المبارك وطبقتهما، وقال إسحاق بن راهويه الحق يحدث الله: أبو عبيد أفقه مني وأعلم. وقال أحمد: أبو عبيد أستاذ، ووصفه غيره بالدين والسيرة الجميلة وحسن المذهب والفضل البارع، وكان أبوه عبداً رومياً لرجل من أهل هراة، اشتغل أبو عبيد بالحديث والفقه والأدب.
وقال القاضي أحمد بن كامل: أبو عبيد فاضل في دينه وعلمه، متفنن في أصناف علوم الإسلام من القرآن والفقه والعربية والأخبار وحسن الرواية، صحيح النقل، لا أعلم أحداً من الناس ظفر عليه في شيء من أمر دينه.
وقال إبراهيم الحربي: كان أبو عبيد كأنه جبل نفخ فيه الروح، يحسن كل شيء، ولي القضاء بمدينة طرسوس ثماني عشرة سنة، وروى عن أبي زيد الأنصاري والأصمعي وأبي عبيدة وابن الأعرابي والكسائي والفراء وجماعة كثيرة وغيرهم. وروى الناس من كتبه المصنفة نيفاً وعشرين كتاباً في القرآن الكريم والحديث وغريبه والفقه، وله مصنف " في الغريب " و " كتاب الأمثال "، و " معاني الشعر والمقصور والممدود "، و " القراءات والمذكر والمؤنث "، و " كتاب النسب "، و " كتاب الأحداث "، و " أدب القاضي "، و " عدداي القرآن "، و " الأيمان والنذور "، و " كتاب الأموال "، وغير ذلك من الكتب النافعة، ويقال أنه أول من صنف في غريب الحديث، ولما وضع كتاب الغريب عرضه على عبد الله بن طاهر، فاستحسنه وقال: إن عاقلاً بعث صاحبه على عمل هذا الكتاب حقيق أن لا يخرج إلى طلب المعاش، وأجرى له عشرة آلاف درهم في كل شهر.
وقال محمد بن وهب المسعودي: سمعت أبا عبيد يقول: كنت في تصنيف هذا الكتاب أربعين سنة، وربما كنت أستفيد الفائده من أفواه الرجال، فأضعها في موضعها من(2/63)
الكتاب، فأبيت ساهراً فرحاً مني بتلك الفائدة، وأحدكم يجيئني، فيقيم أربعة أو خمسة أشهر، فيقول قد أقمت كثيراً.
وقال الهلال بن العلاء الرقي: من الله تعالى على هذه الأمة بأربعة في زمانهم: " بالشافعي " تفقه في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، " وبالإمام أحمد " ثبت في المحنة، ولولا ذلك لكفر الناس أو قال ابتدعوا، " ويحيى بن معين " نفى الكذب عن حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبأبي عبيد القاسم بن سلام، فسر غريب الحديث، ولولا ذلك لإقتحم الناس الخطأ.
وقال أبو بكر الأنباري: كان أبو عبيد يقسم الليل أثلاثاً: فيصلي ثلثه، وينام ثلثه، ويضع الكتاب ثلثه.
وقال أبو الحسن إسحاق بن راهويه: أبو عبيد أوسعنا علماً، وأكثرنا جمعاً، إنا نحتاج إلى أبي عبيد، وأبو عبيد لا يحتاج إلينا. وقال ثعلب: لو كان أبو عبيد في بني إسرائيل لكان عجباً، وكان يخضب بالحناء، أحمر الرأس واللحية، ذا وقار وهيبة، قدم بغداد فسمع الناس منه كتبه، ثم حج بمكة سنة اثنتين أو ثلاثاً وعشرين ومائتين، وقال البخاري: في سنة أربع وعشرين.
وذكر الإمام ابن الجوزي أنه لما قضى حجته، وعزم على الإنصراف، اكترى إلى العراق، فرأى في الليلة التي عزم على الخروج في صبيحتها في منامه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو جالس وعلى رأسه قوم يحجبونه، وأناس يدخلون، ويسلمون عليه ويصافحونه. قال: فكلما دنوت لأدخل منعت، فقلت: لم لا تخفون بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقالوا: والله، لا تدخل إليه، ولا تسلم عليه، وأنت خارج غداً إلى العراق، فقلت لهم: إني لا أخرج إذن، فأخذوا عهدي، ثم خلوا بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فدخلت وسلمت عليه، وصافحني، وأصبحت ففسخت الكري، وسكنت بمكة، قال: ولم يزل بها إلى أن توفي رحمة الله عليه.
قال أبو عبيد: كنت مستلقياً في المسجد الحرام، فجاءتني عائشة المكية، وكانت من العارفات، فقالت لي: يا أبا عبيدة يقال أنك من أهل العلم، اسمع مني ما أقوله لك: لا تجالسه إلا بالأدب وإلا محاك من ديوان العلماء، أو قالت: من ديوان الصالحين، أو كما قالت رضي الله تعالى عنها.(2/64)
خمس وعشرين ومائتين
فيها توفي الإمام المالكي اصبغ بن الفرج مفتي مصر، قال ابن معين: كان من أعلم خلق الله، يرى برأي مالك، أو قال: لمذهب مالك، يعرفه مسألة مسألة، متى قالها مالك؟ ومن خالفه فيها. وله تصانيف حسان.
وفيها توفي أبو عبيد بن فياض اليشكري البصري.
وفيها توفي الأمير أبو دلف القاسم بن عيسى العجلي صاحب الكرخ، أحد الأبطال المذكورين والأجواد المشهورين، وهو أحد أمراء المأمون ثم المعتصم، وله وقائع مشهورة وصنائع مأثورة، أخذ عنه الأدباء الفضلاء، وله صنعة في الغناء، وله من الكتب " كتاب البزة والصيد "، و " كتاب السلاح "، و " كتاب سياسة الملوك " وغير ذلك، ولقد مدحه أبو تمام الطائي بأحسن المدائح، وكذلك بكر بن النطاح وفيه يقول:
يا طالباً للكيمياء وعلمه ... وابن عيسى الكيمياء الأعظم
لو لم يكن في الأرض إلا درهم ... ومدحته لأتاك ذاك الدرهم
ويقال أنه أعطاه على هذين البيتين عشرة آلاف درهم فأغفله قليلاً ثم دخل عليه، وقد اشترى بتلك الدراهم قرية في نهر الأبلة فأنشده:
بك ابتعت في نهر الأبلة قرية ... عليها قصير بالرماح مشيد
إلى جنبها أخت لها يعر ضونها ... وعندك يا للهبات عقد معقد
فقال له: وكم ثمن هذه الأخت؟ فقال: عشرة آلاف درهم فدفعها له، ثم قال: تعلم أن نهر الأبلة عظيم، وفيه قرى كثيرة، وكل أخت إلى جانبها أخرى، وإن فتحت هذا الباب اتسع علي الخرق فامتنع بهذه، فدعا له وانصرف، وكان أبو دلف قد شهد معركة فطعن فيه فارساً فنفذت الطعنة إلى أن وصلت إلى فارس فار آخر وراءه، فنفذت فيه السنان، فقتلهما، وفي ذلك يقول بكر بن النطاخ.
قالوا وينظم فارسين بطعنة ... يوم الهياج، ولا تراه كليلاً
لا تعجبوا فلو أن طول قناته ... ميل إذن نظم الفوارس ميلاً
وكان أبو عبد الله أحمد بن أبي صالح مولى بني هاشم أسود سيء الخلق، وكان فقيراً فقالت له امرأة: يا هذا، أن الأدب أراه قد سقط نجمه وطاش سهمه، فاعمد إلى سيفك ورمحك وفرسك، وادخل مع الناس في غزواتهم، عسى الله أن ينفلك من الغنيمة شيئاً فأنشد:(2/65)
مالي ومالك قد كلفتني شططاً ... حمل السلاح وقول الدارعين، قف
أمن رجال المنايا خلتني رجلاً ... أمسي وأصبح مشتاقاً إلى التلف
تمسي المنايا إلى غيري فأكرهها ... فكيف أمشي إليها بارز الكتف
ظننت أن نزال الناس من خلقي ... أو أن قلبي في جنبي أبي دلف
فبلغ خبره أبا دلف، فوتجه إليه ألف دينار، وكان أبو دلف بكثرة عطائه، قد ركبته الديون، واشتهر ذلك عنه، فدخل عليه بعضهم وأنشده:
أيا رب المنائح والعطايا ... ويا طلق المحيا واليدين
لقد خبرت أن عليك دينا ... فزد في رقم دينك واقض ديني
فوصله وقضى دينه، ودخل عليه بعض الشعراء فأنشده:
الله أجرى من الأرزاق أكثرها ... على يديك العلم يا أبا دلف
ما خط لي كاتباه في صحيفته ... كما يخط لي في سائر الصحف
نادى الرماح فأعطى وهي جارية ... حتى إذا وقفت أعطى ولم يقف
وقد تقدم أنه حضر أبو دلف بين يدي المأمون فقال: يا أبا دلف، أنت الذي يقول فيك الشاعر:
إنما الدنيا أبو دلف ... بين بادية ومحتضره
فإذا ولى أبو دلف ... ولت الدنيا على أثره
قال: لست ذاك يا أمير المؤمنين ولكنني الذي يقول فيه علي بن جبلة.
أبا دلف ما كذب الناس كلهم ... سواي فإني في مديحك أكذب
فرضي عنه وتعجب من ذكائه، واستنشد أبو دلف أبا تمام القصيدة التي رثا بها محمد بن حميد، فلما بلغ قوله:
توفيت الآمال بعد محمد ... وأصبح في شغل عن السفر السفر
وما كان إلا مال من قلة ماله ... وذخر المراثي، وليس له زخر
تردى ثياب الموت حمراً فما أتى ... لها الليل إلا وهي من سندس خضر
كأن بني نبهان يوم وفاته ... نجوم سماء خر من بينها البدر
فبكى أبو دلف وقال: وددت أنها في، فقال أبو تمام: بل سيطيل الله عز وجل الأمير، فقال: لم يمت من، قيل، فيه هذا و " السفر " بفتح السين، وسكون الفاء، جمع سافر، مثل(2/66)
صاحب وصحب، يقال سفرت آسفر سفوراً أي خرجت إلى السفر، فأنا مسافر، وسفرت بين القوم أسفر سفاراً أي أصلحت، والسفير: الرسول، قلت: ولاشتقاق هذه اللفظه معان كثيرة، أوضحتها في " شرح المرسوم بمنهل الفهوم في شرح ألسنة العلوم ".
وحكى جماعة من أرباب التواريخ عن دلف " بضم الدال المهملة وفتح اللام وبعدها فاء "، ابن أبي دلف، قال: رأيت في المنام أتاني آت، فقال لي: أجب الأمير، فقمت معه فأدخلني داراً وحشة ذعرة، سوداء الحيطان مقلعة السقوف والأبواب، مشوهة البنيان وأصعدني على درج فيها، ثم أدخلني غرفة، في حيطانها أثر النيران، وإذا في أرضها أثر رمال، وإذا بأبي وهو عريان واضع رأسه بين ركبتيه كالحزين زماناً فقال لي، كالمستفهم: دلف. قلت: دلف، فأنشأ يقول:
أبلغن أهلنا ولا تخف عنهم ... ما لقينا في البرزخ الحيات
قد سئلنا عن كل ما قد فعلنا ... فارحموا وحشتي وما قد ألاقي
ثم قال فهمت قلت: نعم، ثم أنشد:
فلو كنا إذا متنا تركنا ... لكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ... ونسأل بعده عن كل شيء
ثم قال: أفهمت، قلت: نعم، انتهت الحكاية، قلت: وإذا كانت بهجة الدنيا عاقبتها هذه العاقبة فتجارتها خاسرة، وصفقتها خائبة، وأحسن أحوالها أن يصحبها تقوى الله في أقوال النفوس وأفعالها، ولما وقفت على هذا المنام وما تضمنه من هذه الأمور الهائلات عن لي إنشاء نظم نقلت هذه العشرة الأبيات.
تسمع من الأيام تخبرك بالذي ... قضى في جميع الكائنات قديماً
ستبديه شيئاً بعد شيء إلى الورى ... يسوق شقاء نحوهم ونعيماً
فيا سعد ذي عيش يدوم نعيمه ... وخيبة مقطوع يؤول جحيماً
ويا ليت لذات مضت لم تكن ويا ... ضياع كريم، كم أتاك كريماً
إذا ضاع من أنفاس عمر جواهر ... به جل خسران يراه مقيماً
وما نفع من أمسى بدنيا مرقعاً ... وما ضر من طوطا بها وعديماً
إذا انعكس الحال القديم فأصبح ... الذميم حميداً والحميد ذميماً
سألتك بالقرآن من رحمة مع ... اللطف يا من لا يزال رحيماً(2/67)
ووفق لما ترضى بجاه محمد ... وواصل له أزكى الصلاة مديماً
وللشمال أجمع غداً بأحبة ... يداولها نعم النديم نديماً
فنسأل الله الكريم التوفيق لسلوك منهج الهدى والسلامة من ارتكاب مسالك الزيغ الرديء، ومدائح أبي دلف كثيرة، وله أيضاً أشعار حسنة وكان أبوه شرع في عمارة مدينة الكرخ ثم أتمها هو وكان بها أهله وأولاده وعشيرته عفا الله عنه وعنا ورحمنا جميعاً وسامحنا.
وفيها توفي أبو عمرو إسحاق الجرمي العلامة النحوي، كان فقيهاً عالماً بالنحو واللغة، وهو من البصرة، فقدم بغداد، وأخذ النحو من الأخفش وغيره، ولقي يونس بن خبيب، ولم يلق سيبويه، أخذ اللغة من أبي عبيدة وأبي زيد الأنصاري والأصمعي وطبقتهم، وكان ديناً ورعاً حسن المذهب صحيح الإعتقاد، وله في النحو كتب جيدة، وناظر ببغداد الفراء، وروى الحديث، وحدث المبرد عنه. قال: قال لي أبو عمرو: قرأت ديوان الهذليين على الأصمعي، وكان أحفظ له من أبي عبيدة فلما فرغت منه قال لي: يا أبا عمرو، إذا فات الهذلي أن يكون شاعراً ورامياً أو ساعياً، فلا خير فيه، وقال المبرد: كان الجرمي أثبت القوم في كتاب سيبويه، وعليه قرأت الجماعة، وكان عالماً باللغة حافظاً لها، وله كتب انفرد بها، وكان جليلاً في الحديث والأخبار، وله كتب في السير عجيب و " كتاب غريب سيبويه "، و " كتاب العروض "، و " كتاب الأبنية "، و " مختصر في النحو ".
والجرمي: " بفتح الجيم وسكون الراء " نسبة إلى جرم، وفي العرب عدة قبائل، كل واحدة منها يقال لها جرم، منها من ينتسب إلى جرم بن علقمة بن أنمار، ومنهم من ينسب إلى جرم بن زبان، وذكر بعضهم أن الجرمي المذكور مولى جرم بن زبان.
ست وعشرين مائتين
فيها غضب المعتصم على أفشين، وسجنه وضيق عليه، ومنع من الطعام حتى مات أو خنق، ثم صلب إلى جانب بابك، قيل: أتي بأصنام من داره أتهم بعبادتها، فأحرقت، وكان أقلف متهماً في دينه، وخاف المعتصم منه أيضاً، وكان من أولاد الملوك الأكاسرة، واسمه حيدر بن كاؤس، وكان بطلاً شجاعاً مقداماً مطاعاً، ليس في الأمراء أكبر منه، وظفر المعتصم أيضاً بمازيار الذي فعل الأفاعيل بطبرستان وصلبه أيضاً إلى جانب بابك.(2/68)
وفيها توفي سعيد بن كثير أبو عثمان المصري الحافظ العلامة قاضي الديار المصرية، وكان فقيها أخبارياً نسابة شاعراً كثير الإطلاع، قليل المثل شهير الفضل.
وفيها توفي شيخ خراسان الإمام يحيى بن يحيى بن بكير التميمي النيسابوري، كان يشبه بابن المبارك في وقته طرفاً، وروى عن مالك والليث وطبقته.
قال ابن راهويه: ما رأيت مثل يحيى بن يحيى، ولا أحسبه رأى مثل نفسه، ومات وهو إمام لأهل الدنيا.
سبع وعشرين ومائتين
وفيها قدم أبو المغيث أميراً على دمشق، فخرجت عليه قيس وأخذوا خيل الدولة من المرج، لكونه صلب منه خمسة عشر رجلاً، فوجه إليهم جيشاً فهزموه وحاصروا دمشق، وجاءهم جيش من العراق مع أمير، فأنذرهم القتال يوم الأثنين ثم كبسهم يوم الأحد وقتل منهم ألفاً وخمسمائة.
وفيها توفي الشيخ الكبير الولي الشهير العارف الرباني معدن الأسرار والمعارف الموفق في الورع والزهد المعروف بالحافي، أبو نصر بشر بن الحارث، ذكروا أنه سمع من حماد بن زيد وإبراهيم بن سعد، واعتنى بالعلم، ثم أقبل على شأنه، ودفن كتبه، وحدث بشيء يسير، وكان في الفقه على مذهب الثوري، وقد صنف العلماء في مناقبه وكراماته تصانيف، وهو مروزي الأصل من أولاد الرؤساء والكتاب.
وسبب توبته أنه أصاب في الطريق ورقة، فيها اسم الله مكتوب، وقد وطيها الأقدام، فأخذها واشترى بدرهم كان معه غالية، فطيب بها الورقة، وجعلها في شق حائط، فرأى في النوم كأن قائلاً يقول: يا بشر، طيبت اسمي، لأطيبن اسمك في الدنيا والآخرة، فلما انتبه من نومه تاب.
ويحكى أنه كان في داره مع جماعة ندماء له في اللعب واللهو، فدق عليه الباب داق، فقال للجارية، اذهبي، فانظري من بالباب، فذهبت وفتحت، وإذا فقير على الباب، فقال لها: سيدك حرام عبد؟ فقالت: بل حر، فقال: صدقت، لو كان عبداً لاستعمل داب العبيد، ثم ذهب وخلاها، فرجعت فسألها بشر عمن وجدت بالباب، وما قال لها، فأخبرته، فخرج يعدو(2/69)
حافياً، وهو يقول: بل عبد فلم يلحقه، فرجع ولم يزل حافياً، فسئل عن ذلك فقال: الحالة التي صولحت وأبا عليها، لا أحب أن أغيرها.
ويحكى أنه أتى باب المعافي بن عمران، فدق عليه، فقيل: من هذا. فقال: بشر الحافي، فقالت بنت من داخل الدار لو اشتريت نعلاً بدانقين لذهب عنك اسم الحافي.
قيل: وإنما لقب بالحافي، لأنه جاء إلى إسكاف يطلب منه شسعاً لإحدى نعليه، وكان قد انقطع، فقال له الإسكاف: ما أكثر كلفتكم على الناس، فألقى النعل من يده، والأخرى من رجله، وحلف لا يلبس بعدها نعلاً، وقيل له: بأي شيء تأكل الخبز؟. فقال: اذكر العافية، فأجعلها إداماً، ومن دعائه. " اللهم إن كنت شهرتني في الدنيا لتفضحني في الآخرة، فاسلب ذلك عني "، " ومن كلامه "، عقوبة العالم في الدنيا أن ينمي بصر قلبه، وقال: من طلب الدنيا فتهيأ للذل.
وقال بعضهم: بعث بشر يقول لأصحاب الحديث: ما زكاة هذا الحديث؟ فقالوا: وما زكاته.، قال: اعملوا من كل مائتي حديث بخمسة أحاديث، وقيل له: لم لا تحدث؟ فقال: أني أحب أن أحدث، ولو أحببت أن اسكت لحدثت، يعني أخاف نفسي في هواها، وكان له رضي الله تعالى عنه ثلاث أخوات، كلهن زاهدات عابدات ورعات، مصنفة وهي الكبرى ومنحة وزبدة.
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: دخلت امرأة على أبي، وقالت له: يا أبا عبد الله، إني امرأة أغزل في الليل على ضوء السراج، وربما طفىء السراج، فأغزل على ضوء القمر، فهل علي أن أبين غزل السراج من غزل القمر؟ فقال لها: إن كان عندك بينهما فرق فعليك أن تبيني ذلك، فقالت: يا أبا عبد الله، أتبين المريض؟ هل هو شكوى؟ فقال لها: إني لأرجو أن لا يكون شكوى، ولكن هو اشتكى، وإلى الله قال عبد الله فقال لي أبي: يا بني ما سمعت قط إنساناً يسأل عن مثل ما سألت هذه المرأة فاتبعها، قال عبد الله: فتبعتها إلى أن دخلت دار بشر الحافي، فعرفت إنها أخت بشر، فأتيت أبي، فقلت: إن المرأة أخت بشر الحافي، فقيل: اتق الله، هذا هو الصحيح، محال أن يكون هذه إلا أخت بشر.
وقال عبد الله أيضاً: جاءت " منحة " أخت بشر الحافي إلى أبي، فقالت: يا أبا عبد الله، رأس مالي دانقان أشتري بها قطناً فأغزله وأبيعه بنصف درهم، فأنفق دانقاً من الجمعة إلى الجمعة، وقد مر الطائف ليلة ومعه مشعل، فاغتنمت ضوء المشعل، وغزلت طاقين في ضوء، فعلمت أن الله سبحانه مطالب لي، فخلصني من هذا خلصك الله(2/70)
فقال: تخرجين الدانقين، ثم تبقين بلا رأس مال حتى يعوضك الله خيراً منه، فقال عبد الله، فقلت لأمي: لو قلت لها حتى تخرج رأس مالها، قال: يا بني، سؤالها لا يحتمل التأويل، فمن هذه المرأة؟ قلت: هي منحة أخت بشر، فقال: من ها هنا أنت، قلت: وفي رواية أخرى: إن أخت بشر قالت له: إن مشاعيل الولاة تمر بنا، ونحن على سطوحنا، أفيحل لنا أن نغزل في شعاعها. فقال: من أنت رحمك الله؟ فقالت: أخت بشر الحافي، فقال: صدقت، من بينكم يخرج الورع الصافي، قال: الصادق، لا تغزلي في شعاعها. وتكلم بشر في الورع وعدم طيب المطاعم، فقيل له: ما نراك تكل إلا من حيث تأكل. فقال: ليس من يأكل وهو يبكي كمن يأكل وهو يضحك، وفي رواية: أكلتموها كباراً وأكلتها صغاراً.
وفي السنة المذكور توقني أبو عثمان سعيد بن منصور الخراساني الحافظ صاحب السنن.
وفي السنة المذكورة توفي الخليفة المعتصم محمد بن هارون الرشيد بن المهدي بن منصور العباسي، عهد إليه بالخلافة المأمون، وكان شجاعاً شهماً مهيباً، لكنه كثير اللهو مسرف على نفسه، وهو الذي افتتح عمورية من أرض الروم. ويقال له المثمن، لإنه ولد سنة ثمانين ومائة، في ثامن عشر منها، وهو ثامن الخلفاء من بني العباس، وفتح ثمان فتوحات، ووقف في خدمته ثمانية ملوك من العجم، ثم قتل ستة منهم، واستخلف ثماني سنين وثمانية أشهر وثمانية أيام، وخلف ثمانية بنين وثماني بنات، وخلف من الذهب ثمانية آلاف دينار، ومن الدراهم ثمانية عشر ألف ألف درهم، ومن الخيل ثمانين ألف فرس، ومن الجمال والبغال مثل ذلك، ومن الممالك ثمانية آلاف مملوك وثمانية آلاف جارية، وبنى ثمانية قصور، هكذا قيل في التواريخ، فان صحح هذا فهو من جملة العجائب. قالوا وكانت له نفس سبعية، إذا غضب لم يبال بمن قتل ولا بما فعل، وعمره سبع وأربعون سنة، وأقام بعده ابنه الواثق.
ثمان وعشرين ومائتين
فيها توفي عبد الله، وقيل: عبيد الله بن محقد بن حفص القريشي التيمي العائشي البصري الأخباري، أحد الفصحاء الأجواد، أمه عائشة بنت طلحة.
وقال مصعب بن عبد الله الزبيري: هي بنت عبد الله بن عبيد الله بن مغمر التيمي، قال يعقوب بن شبة: أنفق ابن عائشة على أخواته أربع مائة ألف دينار في الله، وقيل: جاءه وكيله(2/71)
يوماً يثمن له مائة دينار وثلاث مائة درهم، وهو في المسجد، فوافاه سائل، فأدخل يده في كم الوكيل، فأخرج منها شيئاً، فدفعه إليه، فلم يزل السؤال يوافونه، وهو يرفع إليهم، حتى أفنى الدنانير والدراهم، وقال عبد الله بن شبة: رأيت ابن عائشة، وقف على قبر ابن له قد دفن، فرفرف مرة ثم قال:
إذا ما دعوت الصبر بعدك والبكاء ... أجاب البكاء طوعاً ولم يجب الصبر
فإن ينقطع منك الرجاء فإنه ... سيبقى عليك الحزن ما بقي الدهر
وكان يقول: أو روي عن أبيه أنه كان يقول: جزعك في مصيبة صديقك أحسن من صبرك، وصبرك في مصيبتك أحسن من جزعك، وكذلك روي عنه أنه قال: لا يعرف كلمة بعد كلام الله، وبعد كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخصر لفظاً ولا أكمل وضعاً، ولا أعم نفعاً من قول أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه: قيمة كل امرىء ما يحسن، وقال ابن عائشة المذكور لرجل من العرب أعجبه: أنت والله كما قال الشاعر:
لسنا وإن أحسابنا كرمت ... يوماً على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا ... ونفعل مثل ما فعلوا
وقال العايشي: أول الفراعنة سنان بن غلوان بن عبيد بن عوج بن عمليق، وهو الذي نزل به البلاء لما مد يده إلى سارة زوجة إبراهيم الخليل، صلى الله عليه وآله وسلم، فوهب لها هاجر أم إسماعيل عليهما السلام.
والفرعون الثاني فرعون يوسف صلى الله عليه وآله وسلم، وهو خير الفراعنة، واسمه الريان بن الوليد، ويرجع في نسبه إلى عمرو بن عمليق، ويقال أنه أسلم على يده صلى الله عليه وآله وسلم.
والفرعون الثالث فرعون موسى صلى الله عليه وآله وسلم، وهو أخبث الفراعنة، واسمه الوليد بن مصعب بن معاوية، يرجع إلى عمرو بن عمليق.
والفرعون الرابع نويفل الذي قتله بخت نصر حين غزا.
والفرعون الخامس كان طوله ألفي ذراع، وكانت قصيراه جسراً لنيل مصر دهراً طويلاً.
وقال ابن عائشة: دخل خالد بن صفوان مسجد الجامع، فإذا هو بالفرزدق جالساً في الشمس، فقال: يا أبا فراس، والله لو أن نسوة يوسف رأينك لما أكبرنك ولا قطعن أيديهن، فقال: وأنت والله لو أن نسوة مدين رأينك: لما قلن: استأجره، إن خير من استأجرت القوي(2/72)
الأمين، وأنشد ابن أبي عائشة للزبير بن بكار:
ولو كان يستغني عن الشكر ماجد ... لغزة قدر أو علو مكان
لما أمر الله العباد بشكره ... فقال اشكروني أيها الثقلان
قلت: وهذا القول غير لائق بجلال الله تعالى ولا جائز في صفاته، فإنه يفهم أن الله سبحانه غير مستغن عن شكر العباد، وهو باطل تعالى الله عن ذلك بل غني عن كل شيء، كما قال تعالى: " ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " " عمران: 97، " ولما قد علم عند العقلاء العالمين أنه متصف تعالى بالكمال المطلق، دلت على ذلك قواطع البراهين.
وفي السنة المذكورة توفي أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الله بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان صخر بن حرب الأموي المعروف بالعتبي الأخباري الفصيح الأديب.
قال الأصمعي: الخطباء من بني أمية: عبد الملك بن مروان، وعتبة بن أبي سفيان.
قال العتبي محمد بن عبد الله المذكور: حججت فمررت بنسوة وإذا فيهن جارية تشتهي، ما رأيت أجمل منها، فقلت لها: ممن الجارية؟. فقالت: أما الأعمام فسليم، وأما الأخوال فعامر، فقلت:
رأيت غزالاً من سليم وعامر ... فهل لي إلى ذاك الغزال سبيل
فضحكت ثم قالت:
وماذا يرجى من غزال رأيته ... وحطك من ذاك الغزال قليل
ولو قالت: وليس إلى ذلك الغزال وصول، كان أبلغ في نفي مرامه، إلا أن تكون أرادت بالقلة المحادثة والنظر، فقولها في هذا الوجه معتبر.
وقال بعض المؤرخين: كان أديباً فاضلاً شاعراً مجيداً راوياً للأخبار وأيام العرب، روى عن ابن عيينة وغيره، وروى عنه أبو حاتم السجستاني وأبو الفضل الرياشي وإسحاق بن محمد النخغي، وله عدة تصانيف، وروى له ابن قتيبة في كتاب المعارف:
رأين العوافي الشيب لاح بعارضي ... فأعرضن عني بالخدود النواضر
وكن متى أبصرنني أو سمعن بي ... سعين فرفعن بالكوايا المحاجر
فإن عطفت عني أعنة أعين ... نظرن بأحداق المهاوي الأجازر
فإني من قوم كريم ثناؤهم ... لأقوامهم صيغت رؤوس المنابر
خلايف في الإسلام، في الشرك سادة ... بهم وإليهم فخر كل مفاخر(2/73)
وله أيضا:
لما رأتني سليماً قاصر البصر ... عنها، وفي الطرف عن أمثالها زور
قالت: عهدتك مجنوناً فقلت لها ... إن الشباب جنون برؤه الكبر
وله أيضا يرثي بعض أولاده:
أصبحت خدي للدموع رسوم ... أسفاً عليك وفي الفؤاد كلوم
والصبر يحمد في المواطن كلها ... إلا عليك فإنه مذموم
وفيها توفي مسدد بن مسرهد الحافظ أبو الحسن البصري.
تسع وعشرين ومائتين
فيها توفي الإمام أبو محمد خلف بن هشام شيخ القراء والمحدثين رحمهم الله.
وفيها توفي نعيم بن حماد بن المرزوي القرطبي الحافظ رحمهم الله.
وفيها توفي يزيد بن صالح الفراء النيسابوري العبد الصالح، وكان ورعاً قانتاً مجتهداً في العبادة رحمة الله عليه.
ثلاثين ومائتين
فيها توفي إبراهيم بن حمزة الزبيري المدني الحافظ " وأمير المشرق " عبد الله بن طاهر بن الحسين الخزاعي. وكان شجاعاً مهيباً عاقلاً جواداً كريماً، يقال أنه دفع على قصص صلات بلغت أربعة آلاف ألف درهم، وخلف من الدراهم خصوصاً أربعين ألف درهم، وكان قد تاب قبل موته، وكسر آلات الملاهي، وبعثه المأمون إلى خراسان، فلما دخلها مطرت مطراً كثيراً، وكان المطر قد انقطع عنها تلك السنة، فقام إليه رجل بزاز من حانوته وأنشد:
قد قحط الناس في زمانهم ... حتى إذا جئت جئت بالدرر
غيثان في ساعة لنا قدماً ... فمرحباً بالأمير والمطر
فاستفك أسارى بألفي درهم، وتصدق بأموال كثيرة، وكان أبو تمام الطائي قد قصده من العراق، فلما انتهى إلى قومس، وطالت به الشقة، وعظمت عليه المشقة قال:(2/74)
تقول في قومس صحبي وقد أخذت ... مني السرى وخطا المهرية القود
أمطلع الشمس تنوي أن تؤم بنا ... فقلت: كلآ ولكن مطلع الجود
وقيل: هذان البيتان أخذهما أبو تمام من أبي الوليد مسلم بن الوليد الأنصاري المعروف بصريع الغواني الشاعر المشهور حيث يقول:
يقول صحبي وقد جدوا على عجل ... والخيل يفتن بالركبان في اللحم
أمغرب الشمس تنوي أن توم بنا ... فقلت: كلا ولكن مطلع الكرم
فإنه أغار على اللفظ والمعنى جميعاً، ولما وصل أبو تمام إليه أنشده قصيدته الثانية البديعة التي يقول فيها:
وركب كأطراف الأسنة عرسوا ... على مثلها، والليل تستر غياهبه
وفي هذه السفرة ألف أبو تمام " كتاب الحماسة " وكان سبب ذلك أنه لما وصل إلى همدان أشتد البرد، فأقام ينتظر زواله، وكان نزوله عند بعض الرؤساء بها، وفي دار ذلك الرئيس خزانة كتب فيها دواوين العرب وغيرها، فتفرغ لها أبو تمام، وطالعها واختار منها ما ضمنه كتاب الحماسة، وكان ابن طاهر المذكور مع أوصافه المتقدمة أديباً ظريفاً، وله شعر مليح ورسائل ظريفة، ومما قال فيه بعض الشعراء:
يقول الورى لي أن مصر بعيده ... وما بعدت مصر، وفيها ابن طاهر
وأبعد من مصر رجال تراهم ... بحضرتنا، معروفهم غير حاضر
عن الخير موتى، ما تبالي أزرتهم ... على طمع أزرت أهل المقابر
قلت: والمصراع الأول من البيت الأول غيرته بعض الفضلاء لخلل الوزن في الأصل المنقول منه.
وذكر بعض المؤرخين أن البطيخ المسقى بعبد اللاوي الموجود في الديار المصرية منسوب إلى عبد الله المذكور، قيل ليلة كان يستطيبه، أو أنه أول من زرعه هناك، وقيل أنه وقومه خزاعيون بالولاء، فإن جدهم رزيق مولى أبي محمد طلحة بن عبد الله المعروف بطلحة الطلحات الخزاعي المتولي على سجستان من قبل سالم بن زياد بن أبيه، وفيه يقول ابن الرقتات:
رحم الله أعظماً دفنوها ... بسجستان طلحة الطلحات(2/75)
وفي السنة المذكورة توفي الإمام الحبر الحافظ أبو عبد الله محمد بن سعد كاتب الواقدي وصاحب الطبقات والتواريخ.
وفيها توفي الحافظ محدث بغداد أبو الحسن علي بن الجعد الهاشمي مولاهم، روى عن شعبة وابن أبي ذيب والكبار، وقيل: مكث سنين يصوم يوماً ويفطر يوماً.
إحدى وثلاثين ومائتين
فيها ورد كتاب الواثق على أمير البصرة يأمر بامتحان الأئمة والمؤذنين بخلق القرآن، وكان قد تبع أباه في امتحان الناس.
وفيها قتل أحمد بن نصر الخزاعي الشهيد، من أولاده أمراء الدولة، نشأ في علم وصلاح، وكتب عن مالك وجماعة، وحمل عن هشيم مصنفاته، قتله الواثق بيده لإمتناعه عن القول بخلق القرآن لكونه أغلظ للواثق في الخطاب، وقال له: يا صبي، وكان رأساً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقام معه خلق من المطوعة، واستفحل أمره، فخافت الدولة من فتن تحصل بذلك.
وروي أنه صلبه، فاسود وجهه، فتغيرت قلوب من راه بهذا الوصف، ثم ابيض وجهه بعد ذلك، فراه بعضهم في النوم، فسأله عن ذلك فقال: لما صلبت رأيت النبي صلى الله عليه، وآله وسلم قد أعرض عني بوجهه، فاسود وجهي من ذلك، فسألته صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، أي سبب إعراضه عني فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إنما أعرضت حياء منك إذا كان قتلك على يد واحد من أهل بيتي، فعندها زال ذلك السواد الذي رأيتم عني، وهذا معنى ما قيل في ذلك والله أعلم.
وفيها توفي الإمام العلامة أبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي الفقيه صاحب الشافعي، مات في السجن والقيد ببغداد، ممتحناً بخلق القرآن، وكان عابداً دائم الذكر كبير القدر. قال الشافعي: ليس في أصحابي أعلم من البويطي، حمل من مصر في أيام الواثق فني زمن الفتنة، فامتنع من القول بخلق القرآن، فحبس حتى مات، وكان صالحاً متنسكاً، رحمة الله عليه.
قال الربيع بن سليمان: رأيت البويطي على بغلة، وفي عنقه غل، وفي رجليه قيد، وبين الغل والقيد سلسلة من حديد فيها طوية وزنها أربعون رطلاً.
وقال الشيخ أبو إسحاق في طبقات الفقهاء: وكان أبو يعقوب البويطى إذا سمع(2/76)
المؤذن وهو في السجن يوم الجمعة، اغتسل ولبس ثيابه، ومشي حتى يبلغ باب السجن، فيقول السجان: أين تريد؟. فيقول: أجيب داعي الله، فيقول: ارجع عفاك الله فيقول: اللهم إنك تعلم أني قد أجبت داعيك فمنعوني.
وقال الربيع: كان الرجل ربما يسأل الشافعي عن المسألة فيقول: سل أبا يعقوب، فإذا أجابه أخبره، فيقول: هو كما قال: وقال الخطيب البغدادي: قال الشافعي: ليس أحد أحق بمجلس من يوسف بن يحيى، وقال الربيع: كنت عند الشافعي أنا والمزني وأبو يعقوب البويطي قال للبويطي: أنت تموت في الحديث، وقال لي: موتك في الحديث، وقال للمزني: هذا النواظر، الشياطين تطيعه.
وفيها توفي أبو تمام الطائي: حبيب بن أوس الحوراني، متقدم شعراء عصره في ديباجة لفظه وصناعة شعره وحسن أسلوبه، وله: كتاب الحماسة الدال على غزارة فضله واتقان معرفته وحسن اختياره، وله مجموع آخر سماه " فحول الشعراء " جمع فيه بين طائفة كثيرة من شعراء الجاهلية والمخضرمين والإسلاميين و " كتاب اختيارات من شعر الشعراء "، كان له من المحفوظات ما لا يلحقه فيه غيره قبل، كان يحفظ أربعة آلاف ديوان الشعر غير ألف أرجوزة للعرب غير القصائد والمقاطيع، ومدح الخلفاء، وأخذ جوائزهم، وجاب البلاد، وقصد البصرة، وبها عبد الصمد بن المعدل الشاعر، فلما سمع بوصوله وكان في جماعة من غلمانه وأتباعه خاف من قدومه أن يميل الناس إليه، ويعرضوا عنه، فكتب إليه قبل دخوله البلد:
أنت بين اثنين تبرز للناس ... وكلتاهما بوجه مذال
أيما يبقى لوجهك هذا ... بين ذل الهوى وذل السؤال
فلما وقف على هذا النظم أضرب عن مقصده ورجع، وقال: قد شغل هذا ما يليه، فلا حاجة لنا فيه، ولما قال ابن المعدل هذا النظم، كتبه ودفعه إلى وراق، وكان هو وأبو تمام يجلسان إليه، ولا يعرف أحدهما الآخر، وأمره أن يدفعه إلى أبي تمام، فلما قرأ الورقة أبو تمام قال:(2/77)
أتى ينظم قول الزور والفند ... وأنت أنقص من لا شيء في العدد
أسرجت قلبك من غيظ على خنق ... كأنها حركات الروح في الجسد
أقدمت ويلك من هجوي على خطر ... كالعير يقدم من خوف على الأسد
وحضر عبد الصمد، فلما قرأ البيت الأول قال: ما أحسن، علم بالجدل أوجب زيادة ونقصاناً على معدوم، ولما نظر إلى البيت الثاني قال: الإسراج من عمل الفراشين، ولا مدخل له ها هنا، ولما قرأ البيت الثالث عض " على شفته وقال: فيك قلت، يعني بقوله فيك: إشارة إلى قوله: " كالعير تقدم من خوف على الأسد "، لأنهم قد ذكروا في باب انقياد بعض المكولات لبعض الأكلات أن الحمار يرمي بنفسه على الأسد إذا شم ريحه.
وقال بعض العلماء: خرج من قبيلة طيىء ثلاثة، كل مجيد في بابه: حاتم الطائي في جوده، وداود بن نصير الطائي في زهده، وأبو تمام حبيب بن أوس في شعره، وقد اشتهر أنه لما قال في مدح بعض الخلفاء:
إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في علم أحنف في ذكاء إياس
قال له الوزير: أتشبه أمير المؤمنين بأجلاف العرب؟ فأطرق ساعة، ثم رفع رأسه وأنشد:
لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلاً سروداً في الندى والناس
فالله قد ضرب الأقل لنوره ... مثلاً من المشكاة والنبراس
الفتيلة: للمصباح والمعنى: يعني قوله: " الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح " " النور: 35، "، الآية والنبراس: الفتيلة للمصباح، والمعنى أنه لما أنكر عليه في تشبيه الخليفة بعمرو بن معد يكرب وبحاتم، استشعر منهم اللوم في ذلك وعدم الجائزة وانحطاطها، فافتتح التفكر ملتمساً عذراً في كلام العرب وأشعارهم وأمثالهم، فلم يجد ما يشفي، ولا ما يكفي، فضرب عنان فكرته إلى كتاب الله تعالى وجواهر آية من فاتحته، إلى أن وجد ما دفع عنه المحذور في سورة النور، وظفر من الدليل بما يشفي الغليل، فأعجب من حضره بانفاذ قريحته، وسرعة. قدح زناد فكرته، فقال الوزير للخليفة، أي شيء طلبه أعطيه إياه، فإنه لا يعيش أكثر من أربعين يوماً، لأنه قد ظهر في عينيه الدم من شدة الفكرة، وصاحب هذا لا يعيش إلا هذا القدر، فقال الخليفة: ما تشتهي، قال: الموصل، فأعطاه إياها، فتوجه إليها، وبقي هذه المدة المذكورة ومات، هكذا قيل: وقال بعض أصحاب التواريخ: هذه القصة لا صحة لها أصلاً، فقد ذكر أبو بكر(2/78)
الصولي في " كتاب أخبار أبي تمام " أنه لما أنشد هذه القصيدة لأحمد بن المعتصم، وانتهى إلى قوله، إقدام عمر والبيت المذكور، قال أبو يوسف يعقوب بن صباح الكندي الفيلسوف وكان حاضراً لأمر فوق من وصفت. فأطرق قليلاً ثم زاد البيتين المذكورين.
ولما أخذت القصيدة من يده لم يجدوا فيها هذين البيتين، فعجبوا من سرعة فطنته، قال أبو يوسف وكان فيلسوف العرب: هذا الفتى يموت قريباً، ثم قال بعد ذلك: وقد روي على خلاف ما ذكرته، وليس بشيء والصحح هو هذا، قال: وقد تبعتها، وحققت صورة ولاية الموصل، فلم أجد سوى أن الحسن بن وهب، ولآه يعني الموصل، فأقام أقل من سنتين ثم مات بها.
وذكر الصولحي: قال له ابن الزيات: يا أبا تمام، إنك لتجلي شعرك من جواهر لفظك وبديع معانيك ما يزيد حسناتها على الجوهر في أجياد الكواعب، وما يدخر لك شيء من جزيل المكافآت، إلا ويقصر عن شعرك في المواساة، وكان بحضرته فيلسوف فقال له: إن هذا الفتى يموت شاباً، فقيل له: ومن أين حكمت عليه بذلك. فقال: رأيت فيه من الحدة والذكاء والفطنة مع لطافة الحس وجودة الخاطر، ما علمت أن النفس والروحانية تأكل جسمه، كما يأكل السيف المهند غمده قالوا: وكذا كان. لأنه مات وقد نيف على ثلاثين سنة.
وقال بعضهم: هذا يخالف ما سيأتي في تاريخ مولده ووفاته، وذلك أن ولادته كانت في تسعين ومائة، وقيل ثمان وثمانين ومائة، وقيل اثنتين وسبعين ومائة، وقيل اثنتين وتسعين ومائة، في قرية من بلد الجيد، بين دمشق وطبرية ونشأ بمصر، وتوفي بالموصل في سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وقيل سنة ثمان وعشرين، وقيل تسع وعشرين سنة، وقيل اثنتين وثلاثين ومائتين.
قلت: وهذا الإعتراض ليس بصحيح، فإنه يصدق كونه نيف على ثلاثين على بعض هذه الروايات، فإنه على رواية ولادته في سنة اثنتين وتسعين، وموته في سنة ثمان وعشرين يكون عمره ستاً وثلاثين سنة.
قال ابن خلكان: رأيت قبره في الموصل، وإليه الإشارة بقول ابن عنين:
سقى الله روح الغوطتين، ولا أرى ... من الموصلي الفيحاء إلا قبورها
قال البحتري: وبنى عليه أبو نهشل بن حميد الطوسي قبة، وممن رثاه الحسن بن وهب بقوله:(2/79)
فجع القريض بخاتم الشعراء ... وغريد روضها حبيب الطائي
ماتا معاً فتجاورا في حفرة ... وكذاك كانا قبل في الأخباء
ورثاه محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم بقوله:
نبأ أتى من أعظم الأنباء ... لما ألم مقلقل الأحشاء
قالوا: حبيب قد توى، فأجبتهم ... ناشدتكم، لا تجعلوه الطائي
وفيها توفي إمام اللغة محمد بن زياد المعروف بابن الأعرابي من موالي بني العباس، وقيل: من موالي بني شيبان، والأول أصح، وكان راوية الأشعار واللغة، أخذ الأدب عن أبي معاوية الضرير والمفضل الضبي والكسائي وأخذ عنه من الأئمة: إبراهيم الحربي وثعلب وابن السكيت. وغيرهم، وناقش العلماء، واستدرك عليهم، وخطأ كثيراً من نقلة اللغة، وكان يزعم أن الأصمعي وأبا عبيدة لا يحسنان شيئاً، وكان يحضر مجلسه خلق كثير من المستفيدين.
قال ثعلب: كان يحضر مجلسه زهاء مائة إنسان، وكان يسأل ويقرأ عليه، فيجيب من غير كتاب، ولزمته بضع عشرة سنة، ما رأيت بيده كتاباً قط، ولقد أملى على الناس ما يحمل على أحمال، ولم ير أحد في علم الشعر أغزر منه، وله من التصانيف بضع عشر مصنفاً، منها كتاب النوادر، وكتاب الخيل، وكتاب تفسير الأمثال، وكتاب معاني الشعر.
ورأى يوماً في مجلسه رجلين يتحادثان، فقال لأحدهما: من أين أنت؟. فقال: من اسبيجاب " بكسر الهمزة وسكون السين المهملة وكسر الموحدة وسكون المثناة من تحت وقبل الألف جيم وبعدها موحدة "، مدينة في أقصى بلاد الشرق، وسأل الآخر فقال: من الأندلس وهي معروفة في أقصى بلاد المغرب، فتعجب من ذلك وأنشأ:
رفيقان شتى، ألف الدهر بيننا ... وقد يلتقي الشتاء فيما تلقان
ثم أملى على من حضر مجلسه بقية الأبيات وهي:
نزلنا على قيسية يمنية ... لها نسب في الصالحين هجان
فقالت وأرخت جانب الستر بيننا ... من أية أرضي أمنا الرجلان؟
فقلت لها: أما رفيقي فقوم ... تميم، وأما أسرتي فيمان
رفيقان شتى ألف بيننا ... وقد يلتقي الشتاء فيما تلقان(2/80)
اثنتين وثلاثين ومائتين
فيها توفي الواثق بالله أبو جعفر، وقيل أبو القاسم هارون بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي العباسي، وكان أديباً شاعراً أبيض تعلوه صفرة، حسن اللحية، دخل في القول بخلق القرآن، وامتحن الناس وقوى عزمه القاضي أحمد بن أبي داود ولما احتضر ألصق وجهه بالأرض، وجعل يقول: يا من لا يزول ملكه، أرحم من قد زال ملكه. واستخلف بعده أخوه المتوكل، وأظهر السنة، ودفع المحنة، وأمر بنشر أحاديث الروية والصفات.
وفيها وقيل: في سنة ستين توفي الشريف العسكري الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى الرضى بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم أحد الأئمة الإثني عشر على اعتقاد الإمامية وهو والد المنتظر صاحب السرداب.
وفيها توفي عبد الله بن عوف الخزاز الزاهد البغدادي المحدث، وكان يقال: إنه من الأبدال.
وتوفي الإمام أبو يحيى هارون بن عبد الله الزهري العوفي المالكي، وقال أبو إسحاق الشيرازي: هو أعلم من صنف الكتب في مختلف قول مالك.
ثلاث وثلاثين ومائتين
فيها كانت الزلزلة المهولة بدمشق، ودامت ثلاث ساعات، وسقطت الجدران، وهرب الخلق، إلى المصلى يجأرون إلى الله، ومات كثير من الناس تحت الردم، وامتدت إلى أنطاكية، وذكروا أنه هلك من أهلها عشرون ألفاً، ثم امتدت إلى الموصل، وزعم بعضهم أنه هلك بها تحت الردم خمسون ألفاً.
وفيها توفي سهل بن عثمان العسكري الحافظ أحد الأئمة " والإمام " أبو زكريا يحيى بن معين الحافظ أحد الأعلام، توفي بمدينة النبي صلى الله عليه وآله وسلم متوجهاً إلى الحج، وغسل على الأعواد التي غسل عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، سئل: كم كتبت من الحديث؟. فقال: كتبت بيدي هذه ست مائة ألف حديث، روى عنه كبار أئمة الحديث، منهم البخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم، وكان بينه وبين الإمام أحمد صحبة(2/81)
وإلفة، واشتراك في الإشتغال بعلوم الحديث، وكان ينشد:
المال يذهب حله وحرامه ... طراً ويبقى في غد آثامه
ليس التقي بمتق لإلهه ... حتى يطيب شرابه وطعامه
ويطيب ما يحوي ويكتب كفه ... ويكون في حسن الحديث كلامه
نطق النبي كتابه عن ربه ... فعلى النبي صلاته وسلامه
وقد ذكره الدارقطني فيمن روى عن الإمام الشافعي، وقد سبق في ترجمة الشافعي، ما جرى منه في حقه بينه وبين الإمام أحمد في مشية تحت ركاب بغلة الشافعي، وقول الإمام أحمد له: لو لزمت البغلة لانتفعت، وقيل: إنه لما خرج من المدينة سمع في النوم هاتفاً يقول: يا أبا زكريا أترغب عن جواري؟. فرجع وأقام بها ثلاثة، ثم توفي رحمة الله عليه.
وفي السنة المذكورة، وقيل في سنة سبع وأربعين، وهو اختيار الذهبي، توفي الإمام النحوي أبو عثمان بكر بن محمد المازني البصري، وكان إمام عصره في النحو والأدب، أخذ الأدب من أبي عبيدة والأصمعي وأبي زيد الأنصاري وغيرهم، وأخذ عنه أبو العباس المبرد، وانتفع به، وله تصانيف في فنون من العربية. قال أبو جعفر الطحاوي: سمعت القاضي بكار بن قتيبة قاضي مصر يقول: ما رأيت نحوياً يشبه الفقهاء إلا حيان بن هرمة المازني، وكان في غاية الورع بما روى عنه المبرد: أن بعض أهل الذمة قصده ليقرأ عليه كتاب سيبويه، وبذل له مائة دينار في تدريسه إياه، فامتنع أبو عثمان من ذلك، قال: فقلت: جعلت فداك، أترد هذه المنفعة مع فاقتك وشدة حاجتك. فقال: إن هذا الكتاب يشتمل على ثلاث مائة وكذا وكذا آية من كتاب الله عز وجل، ولست أرى أن أمكن منها ذمياً، غيرة على كتاب الله عز وجل وحمية له.
قال فاتفق أن غنت جارية بحضرة الواثق بقول العرجي " بفتح العين المهملة وسكون الراء وقيل ياء النسبة جيم ".
أظلوم أن مصابكم رجلاً ... رد السلام تحية ظليم
فاختلف من في الحضرة في إعراب " رجل "، فمنهم من نصبه وجعله اسم إن، ومنهم رفعه على أنه خبرها، والجارية مصرة على أن شيخها أبا عثمان المازني لقنها إياه بالنصب، فأمر الواثق بإشخاصه، قال أبو عثمان: فلما مثلت بين يديه قال: ممن الرجل؟ قلت: من بني مازن، قال: أي الموازن. أمازن تميم أم مازن قيس أم مازن ربيعة؟. ولم يذكر في الأصل مازن اليمن وهو مازن ابن الأزد بن الغوث، ونسبه معروف، إلى قحطان قال: قلت من مازن ربيعة، فكلمني بكلام قوم، فقال: ما إسمك؟ لأنهم كانوا يقلبون الميم باء،(2/82)
والعكس قال: فكرهت أن أجيبه على لغة قومي لئلا أواجهه بالمكر، فقلت: بكر، يا أمير المؤمنين، ففطن لما قصدته، وأعجب به، ثم قال: ما تقول في قول الشاعر، " أظلوم إن مصابكم رجلاً " أترفع رجلاً أم تنصبه؟ فقلت: بل الوجه النصب يا أمير المؤمنين، فقال: ولم ذلك؟ فقلت: لأن مصابكم مصدر بمعنى أصابتكم، فأخذ اليزيدي في معارضتي، فقلت: هو بمنزلة قولك إن ضربك زيداً الظلم، فالرجل مفعول مصابكم، وهو منصوب به، والدليل على أنه معلق إلى أن يقول: ظلم، فيتم، قال: فاستحسنه الواثق، وقال: هل لك من ولد؟ فقلت بنية لا غير، قال: ما قالت لك حين ودعتها؟ قلت: أنشدت قول الأعشى:
أيا أبتا لا ترم عندنا ... فإنا بخير؟ إذا لم ترم
أدانا إذا أضمرتك البلاد ... يخفى ويقطع منا الرحم
قال: فما قلت لها. قال: قلت قول جرير:
ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالنجاح
فقال ثق بالنجاح إن شاء الله تعالى وأمر لي بألف دينار، وردني مكرماً، ويروي أول البيت الأول، شعر: " أبانا فلا رمت من عندنا "، ويروي أيضاً " أبانا إلا لا ترم عندنا "، يقال: رام يريم ريماً أي برح يبرح، وقولها: فلا رمت أي: فلا برحت، وعلى رواية لا ترم بكسر الراء: لا تبرح، هذا من رام يريم ريماً، وأما رام يروم روماً. فإن معناه طلب يطلب طلباً، قال المبرد: فلما عاد إلى البصرة قال لي: كيف رأيت يا أبا العباس؟ رددنا لله مائة فعوضنا ألفاً.
قلت: هذا مختصر القصة وفيها كلام طويل، أنشد في آخره:
إن المعلم لا يزال مضعفاً ... ولرأيتني فوق السماء بناء
من علم الصبيان صبوا عقله ... حتى الخلفاء والأمراء
فقال لي: لله درك، كف لي بك؟. فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الغنم والفوز في قربك والنظر إليك، ولكني ألفت الوحدة، وأنست بالإنفراد، ولي أهل يوحشني البعد عنهم، ويضربهم ذلك، ومطالبة العادة أشد منه مطالبة الطبع، فأمر لي بألف دينار وكسوة وطيب وقال: لا تقطعنا.
وفي السنة المذكورة مات وزير المعتصم المعروف بابن الزيات أبو جعفر محمد بن عبد الملك بن أبان، كان جده أبان يجلب الزيت من مواضعه إلى بغداد، فدعي بابن(2/83)
الزيات، وكان من أهل الأدب الظاهر والفضل الباهر، أديباً فاضلاً بليغاً عالماً بالنحو واللغة، وكان أبو عثمان المازني، إذا اختلف أصحابه في مسألة يأمرهم أن يسألوه، ويعرفوا جوابه، فيجيب: إن الصواب الذي يرضاه أبو عثمان.
وقد ذكر فضله غير واحد من المؤرخين، وأوردوا له من شعره عدة مقاطيع، وكان في أول أمره من جملة الكتاب، فسأل المعتصم وزيره أحمد بن عمار البصري يوماً عن الكلأ، ما هو؟ قال: لا أعلم، وكان قليل المعرفة بالأدب، فقال المعتصم: خليفة أمي ووزير كلامي، وكان المعتصم ضعيف الكتابة، ثم قال: أبصروا من بالباب من الكتاب، فوجدوا ابن الزيات المذكور فأدخلوا إليه فقال: ما الكلأ. فقال: الكلأ العشب على الإطلاق، فإن كان رطباً فهو الخلا، وإن كان يابساً فهو الحشيش. وشرع في تقسيم أنواع النبات، فعلم المعتصم فضله فاستوزره وحكمه وبسط يده، وجرت بينه وبين القاضي أحمد بن أبي داود أشياء مذكورة في ترجمة ابن أبي داود المذكور.
وحكي أن أبا حفص الكرماني كاتب عمرو بن مسعدة، كتب إلى ابن الزيات: أما بعد: فإنك ممن إذا غرس سقى، وإذا أسس بنى، وبناؤك في وذي قد شارف الدروس، وغرسك عندي قد عطش وأشفى على البؤس، فتدارك بناء ما أسست وسقي ما غرست. فبلغ ذلك أبا عبد الرحمن العطوي فقال: في هذا المعنى يمدح محمد بن عمران بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك.
إن البرامكة الكرام تعلموا ... فعل الجميل وعلموه أناساً
كانوا إذا غرسوا سقوا وإذا بنوا ... لا يهدمون لما بنوه أساساً
وإذا هم صنعوا الصنائع في الورى ... جعلوا لها طول البقاء لباساً
فعلام تسقيني وأنت سقيتني ... كأس المودة من جفائك كأساً
آنسني منفصلاً أفلا ترى ... أن القطيعة توحش الإيناسا؟
قلت: يعني بالبيت الذي قبل الأخير: فعلام تسقيني من جفائك كأساً وأنت تسقيني كأس المودة.
ولإبن الزيات المذكور أشعار رائقة فمن ذلك قوله:
سماعاً يا عباد الله مني ... وكفوا عن ملاحظة الملاح
فإن الحب آخره المنايا ... وأوله يهيج بالمزاح
وقالوا دع مراقبة الثريا ... ونم فالليل مسود الجناح
فقلت وهل أفاق القلب حتى ... أفرق بين ليلي والصباح(2/84)
وله ديوان رسائل جيدة، ولأبي تمام وجماعة من الشعراء في عصره فيه مدائح، فمن ذلك قول إبراهيم بن العباس الصولي:
أخ كنت آوي منه عند ذكاره ... إلى ظل آياء من العز شامخ
سمعت نوب الأيام بيني وبينه ... فاقلعي منه عن ظلوم وصارخ
وكان ابن الزيات المذكور قد اتخذ تنوراً من حديد، وأطرافه مساميره المحددة إلى داخل، يعذب به المصادرين وأرباب الدواوين المظلومين، فكلما تحرك واحد منهم من حرارة العقوبة تدخل المسامير في جسمه، فيجد لذلك أشد الألم ولم يسبقه أحد إلى مثل ذلك وكان إذا قال له أحد منهم: أيها الوزير، ارحمني، يقول: الرحمة خور في الطبيعة، فلما اعتقله المتوكل أمر بإدخاله في التنور، وقيده بخمسة عشر رطلاً من الحديد، فقال، يا أمير المؤمنين ارحمني، فقال: الرحمة خور في الطبيعة كما كان هو يقول للناس فطلب دواة وبطاقة فأحضر إليه فكتب:
هي السبيل فمن يوم إلى يوم ... كأنه ما تريك العين في النوم
لا تجزعن، رويداً إنها دول ... دينا تنقل من قوم إلى قوم
وسيرها إلى المتوكل واشتغل عنها، ولم يقف عليها إلا في الغد، فلما قرأها أمر بإخراجه، فجاؤوا إليه فوجدوه ميتاً، وكانت مدة إقامته في ذلك التنور أربعين يوماً. ولما جعل في التنور قال له خادمه: يا سدي، قد صرت إلى ما صرت إليه، وليس لك حامد فقال: وما نفع البرامكة صنيعهم؟ فقال له: ذكراهم هذه الساعة. قال: نعم. قلت: فهذا ما لخصته مختصراً من ترجمة ابن خلكان له، كما هو عادتي في تراجمة لغيره.
أربع وثلاثين ومائتين
فيها توفي الحافظ أبو خيثمة زهير بن حرب، والحافظ: أبو الربيع سليمان بن داود الزهراني، والحافظ أبو الحسن علي بن بحر القطان ويحيى بن يحيى الليثي الإمام المالكي المعتمد عليه في رواية الموطأ من الإمام مالك، وكان مالك يسميه عاقل الأندلس.
وسبب ذلك ما روي أنه كان في مجلس مالك مع جماعة من أصحابه، فقال قائل: جاء الفيل، فخرج أصحاب مالك كلهم لينظروا إليه، ولم يخرج يحيى، فقال له مالك: لم لا تخرج فتراه، لإنه لا يكون بالأندلس. فقال: إنما جنت من بلدي لأنظر إليك، وأعلم من هديك وعلمك. فأعجب به مالك، فسماه عاقل الأندلس. ثم عاد إلى الأندلس وانتهت الرئاسة إليه فيها، وبه انتشر مذهب مالك.(2/85)
خمس وثلاثين ومائتين
فيها ألزم المتوكل جميع النصارى لبس الحلي فيميزوا به.
وفيها توفي إسحاق بن إبراهيم بن مالك التيمي الموصلي النديم. وكان رأساً في صناعة الطرب والموسيقى أديباً شاعراً أخبارياً عالماً ظريفاً نافق السوق عند الخلفاء إلى الغاية، وأول من سمعه المهدي، ولم يكن في زمانه مثله في الغناء واختراع الألحان، وكان من العلماء باللغة والأشعار وأخبار العرب والشعراء وأيام الناس. ذو فضائل جمة، وكان له يد طولى في الفقه والحديث وعلم الكلام.
قال محمد بن عطية الشاعر: كنت في مجلس القاضي يحيى بن كثم، فوافى إسحاق بن إبراهيم الموصلي، وأخذ يناظر أهل الكلام حتى اتصف منهم، ثم تكلم في الفقه فأحسن، وقاس واحتج، وتكلم في الشعر واللغة، ففاق من حضر، ثم أقبل على القاضي يحيى بن كثم فقال له: أعز الله القاضي، في شيء مما ناظرت فيه وحكيت نقص أو مطعن؟. قال: لا، قال: فما بالي أقوم بسائر هذه العلوم قيام أهلها، وأنسب إلى فن واحد قد اقتصر الناس عليه يعني الغناء! قال ابن عطية المذكور: فالتفت إلي القاضي يحيى وقال: الجواب في هذا عليك، وكان الراوي المذكور من أهل الجدل، فقال للقاضي يحيى: نعم أعز الله القاضي، الجواب علي. ثم أقبل على إسحاق وقال: يا أبا محمد، أنت كالفراء والأخفش؟. فقال: لا، فقال: أنت في اللغة ومعرفة الشعر كالأصمعي وأبي عبيدة؟. قال: لا، قال: فأنت في علم الكلام كأبي يزيد العلاف والنظام البلخي؟ قال: لا، قال: أنت في الفقه كالقاضي؟ وأشار إلى القاضي يحيى قال: لا، قال فأنت في قول الشعر كأبي العتاهية وأبي نواس؟ قال: لا، قال: فمن ها هنا مشيت إلى ما مشيت إليه، لأنه لا نظير لك فيه، وأنت في غيره دون رؤساء أهله فضحك وقام وانصرف، فقال القاضي لابن عطية: لقد وفيت الحجة حقها. وفيها ظلم قليل لإسحاق، وإنه ممن يقل في الزمان نظيره.
وذكر أبو المجد الموصلي أن إسحاق بن إبراهيم المذكور كان مليح المحاورة والنادرة، ظريفاً فاضلاً، كتب الحديث عن سفيان بن عيينة ومالك بن أنس، وهشيم بن بشير، وأبي معاوية الضرير، وأخذ الأدب عن الأصمعي وأبي عبيدة، وبرع في علم الغناء، فغلب عليه ونسب إليه، وكان الخلفاء يكرمونه ويقربونه، وكان المأمون يقول: لولا سبق لإسحاق على ألسنة الناس. واشتهر بالغناء لوليته القضاء، فإنه أولى وأعف وأصدق وأكثر(2/86)
ديناً وأمانة من هؤلاء القضاة، لكنه اشتهر بالغناء، وغلب على جمع علوم مع صغرها عنده ولم يكن له فيه نظير. وله نظم جيد وديوان شعر، فمن شعره ما كتبه إلى هارون الرشيد.
وآمرة بالبخل قلت لها اقصري ... فليس إلى ما تأمرين سبيل
أرى الناس خلال الجواد ولا أرى ... بخيلاً في العالمين خليل
وإني رأيت البخل يزري بأهله ... فكرمت نفسي أن يقال بخيل
ومن خير حالات الفتى لو علمت ... إذا نال خيراً أن يكون سبيل
عطائي عطاء المكثرين تكرماً ... ومالي كما قد تعلمين قليل
وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنا ... ورأي أمير المؤمنين جميل
وكان كثير الكتب حتى قال أبو العباس ثعلب: رأيت الإسحاق الموصلي ألف جزء من لغات العرب، كلها سماعه، وما رأيت اللغة في منزل أحد قط كثر منها في منزل إسحاق منزل ابن الأعرابي. وكان المعتصم يقول: ما أغنى في إسحاق بن إبراهيم قط إلا خيل، إلا أنه قد زيد في ملكي، وأخباره كثيرة، وحكاياته شهيرة، وكان قد عمي آخر عمره.
وفيها توفي الإمام أحد الأعلام أبو بكر بن أبي شيبة صاحب التصانيف الكبار. قال أبو زرعة: ما رأيت أحفظ منه، وقال أبو عبيد: فانتهى علم الحديث إلى أربعة: أبي بكر بن أبي شيبة، وهو أسردهم له، وابن معين، وهو أجمعهم له. وابن المديني وهو أعلمهم به وأحمد بن حنبل، وهو أفقههم فيه. وقال نفطويه: لما قدم أبو بكر بن أبي شيبة بغداد في أيام المتوكل، حذروا مجلسه بثلاثين ألفاً.
وفيها: وقيل في سنة سبع وعشرين توفي أبو الهذيل شيخ المعتزلة البصريين المعروف بالعلاف مولى عبد القيس، صاحب مقالات في مذهبهم، ومجالس ومناظرات حسن الجدال، قوي الحجة، كثير الإستعمال للأدلة والإلزامات، توفي وله نحو مائة سنة.
وفيها توفي سريج بن يونس البغدادي، العابد المشهور بالصلاح والأوصاف الملاح، أجد أئمة الحديث جد أبي العباس سريج.
ست وثلاثين ومائتين
فيها توفي الحافظ محدث المدينة إبراهيم بن المنذر، والحافظ النسابة الأخبار مصعب بن عبد الله بن مصعب الأسدي الزبيري. قال الزبير: كان عمي مصعب وجه(2/87)
قريش مروءة وعلماً وشرفاً وديناً وقدراً وجاهاً، وكان نسابة قريش.
وفيها توفي وزير المأمون الحسن بن سهل، وقد تقدم دخول المأمون بابنته بوران، الكلفة التي احتملها والدها، وكان أخوه الفضل وزيراً قبله، وكان الحسن عالي الهمة كثير فعطاء للشعراء وغيرهم، قصده بعض الشعراء وأنشده:
تقول خليلي لما رأيتني ... أشد مطيتي من حلل
أبو الفضل أين ترتحل المطايا ... فقلت نعم إلى الحسن بن سهل
قلت: لقد تناسب لفظ هذا البيت ومعناه، أعني، لفظ سهل، مع سهولة النظم سلاسته، وسهولة الخلق المذكور في نيل المقصود منه، مناسبة هذه السهولة لفظ اسمه، اجتمعت السهولة في ثلاث: في المدح واسم الممدوح وخلقه، فأعطى قائلها المذكور عطاء جزيلاً، وخرج يوماً مع المأمون يشيعه، فلما عزم على مفارقته قال له المأمون: يا أبا محمد ألك حاجة؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، تحفظه علي من قلبك ما لا أستطيع حفظه إلا بك.
وقال بعضهم: حضرت مجلس الحسن بن سهل، وقد كتب لرجل شفاعة، فجعل رجل يشكر، فقال الحسن: يا هذا علام تشكرنا. إنا نريد الشفاعات زكوة مروءتنا، بلغني أن الرجل يسأل في القيامة عن فضل جاهه، كما يسأل عن فضل ماله، ولم يزل على وزارة مأمون إلى أن ثارت عليه المرأة السوداء، لكثرة خدمة أخيه الفضل لما قيل، كما تقدم في ترجمته سنة اثنتين ومائتين.
وفي سنة ست وثلاثين أيضاً توفي هدبة " بالموحدة " ابن خالد العبسي البصري حافظ، قال عبدان: كنا لا نصلي خلف هدبة مما يطول، كان يسبح في الركوع والسجود نيفاً وثلاثين تسبيحة.
سبع وثلاثين ومائتين
فيها غضب المتوكل على أحمد بن أبي دؤاد القاضي وأهله، وصادرهم وأخذ منهم ستة عشر ألف درهم.
وفيها توفي الشيخ الجليل المكرم العارف بالله حاتم الأصم الناطق بالمعارف المواعظ والحكم، المكنى والملقب حين انفجرت فيه ينابيع الحكمة بأبي عبد الرحمن لقمان هذه الأمة. قلت: وقضته في الوعظ مع قاضي الري محمد بن مقاتل مشهورة،(2/88)
واستحسان الإمام أحمد كلامه، ومدحه له. وإنما سمي الأصم، ولم يكن به صمم، لأن امرأة جاءت تكلمه في شيء، فسمع منها صوتاً، فخجلت، فقال: أسمعيني ما تقولين، فإني أصم، فذهب عنها ما بها نزل من شدة الخجل.
وفيها توفي وثيمة " بفتح الواو وكسر المثلثة وسكون المثناة من تحت وفتح الميم في أخره هاء " ابن موسى الوشاء الفارسي. كان يتخير في الوشي، وصنف كتاباً في أخبار الرقة وذكر فيه القبائل التي ارتدت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والسرايا التي سيرها أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وصورة مقاتلتهم، وما جرى بينهم وبين المسلمين في ذلك، ومن عاد منهم إلى الإسلام، وقتال مانعي الزكاة، وما جرى لخالد بن الوليد المخزومي مع مالك بن نويرة اليربوعي أخي متمم بن نويرة الشاعر صاحب المراثي المشهورة في أخيه مالك، وصورة قتله، وما قاله متمم وغيره من الشعر في ذلك، وهو كتاب جيد يشتمل على فوائد كثيرة. وذكر الواقدي أنه صنف كتاباً في الردة أيضاً، أجاده في ذكر جماعة من أجلاء المؤرخين، وقالوا: كان يتخير في الوشي، وهو نوع من الثياب المعموله من الإبريسم، وبه عرف جماعة منها وثيمة المذكور، وإذا قد ذكرنا مالكاً وأخاه متمماً، فلنذكر نبذة مشتملة من خبرهما.
كان مالك المذكور رجلاً ثرثاً نبيلاً يردف الملوك والإرداف إردافان فإن ردف يركب بعدهم على مركوبهم، وردف بخلفهم في الحكم إذا قاموا من مجالسهم. ومالك المذكور هو الذي يضرب به المثل، فيقال: مرعى ولا كالسعدان، وماء ولا كصداء، وفتى ولا كمالك. كان فارساً شاعراً مطاعاً في قومه، وكان فيه خيلاء وتقدم ذاملة كبيرة، وكان يقال له الحفول، قدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوم من العرب، وأسلم فولاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم صدقة قومه.
ولما ارتدت العرب بعد موته عليه السلام بمنع الزكاة، كان مالك المذكور في جملتهم، ولما خرج خالد بن الوليد لقتالهم في خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، نزل على مالك وهو يقدم قومه بني يربوع وقد أخذ مركوبهم، وتصرف فيها، فكلمه خالد في فقال: أنا آتي الصلاة دون الزكاة، فقال له خالد: أما علمت: الصلاة والزكاة معاً، لا يلب واحد دون أخرى؟. فقال مالك: قد كان صاحبك يقول ذلك، قال خالد: وما تراه لا صاحباً، والله لقد هممت أن أضرب عنقك، ثم تحاولا في الكلام طويلاً، فقال له خالد إني قاتلك، قال أو بذلك أمرك صاحبك. قال: وهذه بعد تلك، والله لأقتلنك.(2/89)
وكان عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما وأبو قتادة الأنصاري حاضرين، فكلما خالداً في أمره، فكره كلامهما، فقال مالك: يا خالداً بعثنا إلى أبي بكر، فيكون هو الذي يحكم فينا، فقد بعث إليه غيرنا ممن جرمه أكبر من جرمنا، فقال خالد: لا أقالني الله إن لم أقتلك. وتقدم إلى ضرار بن الأزور الأسدي بضرب عنقه، فالتفت مالك إلى زوجته أم متمم، وقال لخالد: هذه التي قتلتني وكانت في غاية الجمال فقال له خالد: بل الله قتلك برجوعك عن الإسلام، فمال مالك: أنا على الإسلام، فقال خالد: لا ضرار اضرب عنقه، فضرب عنقه، وجعل رأسه أثفية لقدر، وكان من أكثر الناس شعراً، وكان القدر على رأسه تطبخ الطعام، وما خلصت النار إلى سواه من كثرة شعره. هكذا قيل، وقبض خالد إمرأته، وقيل إنه اشتراها من الفيء وتزوجها، وقيل: إنها اعتدت بثلاث حيضات، ثم خطبها إلى نفسها فأجابته.
وقال لإبن عمر وأبي قتادة: تحضران النكاح، فأبيا وقال له ابن عمر: تكتب إلى أبي بكر، وتذكر له أمرها، فأبى وتزوجها، فقال في ذلك أبو زهير السعدي أبياتاً، نسب فيها خالداً إلى البغي.
قلت: ومنصب الصحابة منزه عن ذلك، يلتمس لهم أحسن المخارج كما ذكر العلماء في قتال بعضهم بعضاً، وكما سيأتي من إعتذار أبي بكر رضي الله تعالى عنه لخالد في القضية، على ما ذكر بعض المؤرخين. ومن أبيات أبي زهير المذكور:
ألا قل لحي أوطئوا بالسنابك ... تطاول هذا الليل من بعد مالك
قضى خالد بغياً عليه لفرسه ... وكان له فيما هو قبل ذلك
فأمضى خالد غير عاطف ... عنان الهوى عنها ولا متمالك
وأصبح ذا أهل وأصبح مالك ... إلى غير شيء هالك في الهوالك
فمن لليتامى والأرامل بعده ... ومن للرجال المعدمين الصعالك
أصيبت تميم عنها وسميتها ... بفارسها المرجو سحت الحوارك
قلت: قوله: " وكان له في ما هو قبل ذلك ": هكذا هو في الأصل المنقول فيه، والصواب فيك، التفاتا إلى المرأة، لمصبح كسر الكاف من ذلك. والحوارك تطلق على كواهل الخيل.
قالوا: ولما بلغ الخبر أبا بكر وعمر، قال عمر: إن خالداً قد زنى فارجمته قال: ما كنت لأرجمه، فإنه تأول فأخطأ، قال: فإنه قتل مسلماً فاقتله، قال: ما كنت لأقتله به، إنه فأخطأ، قال: فاعز له، قال: ما كنت لأشيم سيفاً سله الله عليهم أبداً. يعني ما كنت(2/90)
لأغمده. هكذا ذكر هذه الواقعه الواقدي، والله أعلم، وممن رثاه به أخوه متمم قوله:
لقد لامني عند القبور على البكاء ... فبقي لتذراق الدموع السوافك
فقالوا: أتبكي كل قبر رأيته ... لقبر ثوى بين اللوى والدكادك
فقلت له: إن الشجي يبعث الشجى ... فدعني، فهذا كله قبر مالك
قلت: وقد تقدمت الإشارة إلى أن هذه الأبيات يستشهد بها المجنون وأرباب الشجون على أن الشجى يبعث الشجي، وكان قبر كل هالك قبر مالك، وكأن سائر الأشجان، على بابه شجون كل إنسان.
ثمان وثلاثين ومائتين
فيها: أقبلت الروم في البحر في ثلاث مائة مركب واهبة عظيمة، فكبسوا دمياط وسبوا وأحرقوا وأسرعوا الكرة في البحر، فأسروا ست مائة امرأة.
وفيها توفي الإمام عالم المشرق المحدث إسحاق بن راهويه الحنظلي المروزي النيسابوري الحافظ. روي أنه كان يحفظ سبعين ألف حديث، ويذاكر بمائة ألف ألف حديث، وقال: ما سمعت شيئاً قط إلا حفظته، ولا حفظت شيئاً فنسيته، وجمع بين الحديث والفقه والورع.
وذكره الدارقطني فيمن روى عن الشافعي، وعده البيقهي في أصحاب الشافعي، وقد ناظر الشافعي في جواز بيع دور مكة، وقد استوفى، فخر الدين الرازي صورة ذلك المجلس في كتابه " مناقب الشافعي "، فلما عرف إسحاق فضله نسخ كتبه وجميع مصنفاته بمصر.
وقال الإمام أحمد: إسحاق عندنا من أئمه المسلمين، وكان قد رحل إلى الحجاز والعراق واليمن والشام، وسمع من سفيان بن عيينة وطبقته، ومنه سمع البخاري ومسلم والترمذي، وعمر قريباً من ثمانين سنة، ولقب أبوه براهويه، لأنه ولد في طريق مكة، والطريق بالفارسية " راه ويه " معناه: وجده، فكأنه وجده في الطريق.
وفيها توقي أبو علي النيسابوري الحافظ، رحل وأكثر عن أبي بكر بن عياش وابن عيينة وطبقتهما، وعرض عليه قضاء نيسابور، فاختفى، ودعا الله فمات في اليوم الثالث رحمة الله عليه.
وفيها توفي عبد الملك بن حبيب، مفتي الأندلس، مصنف " الواضحة ".
وفيها توفني عبد الرحمن بن الحكم بن هشام صاحب الأندلس، وقد نيف على الستين وكانت أسامه إثنتين وثلاثين سنة وكان محمود السيرة عادلاً جواداً مفضلاً، له نظر(2/91)
في العقليات، ويهتم بالجهاد، ويقيم للناس الصلاة.
وفيها توفي أبو سعيد يحيى بن سليمان الجعفي الكوفي المقرىء الحافظ، نزيل مصر، وقيل في السنة التي قبلها.
تسع وثلاثين ومائتين
فيها غزا المسلمون حتى شارفوا القسطنطينية، فأغاروا وأحرقوا ألف قرية، وقتلوا وسبوا. وفيها عزل يحيى بن أكثم من القضاء، وصودر،، وأخذ منه ألف دينار، وفيها توفي الحافظ عثمان بن أبي شيبة العبسي الكوفي، وكان أسن من أخيه أبي بكر، رحل وطوف، وصنف التفسير والمسند، وحضر مجلسه ثلاثون ألفاً.
أربعين ومائتين
فيها توفي قاضي القضاة أحمد بن أبي دؤاد " بضم الدال المهملة مكررة في أوله وآخره، والهمزة والمد، بينهما على وزن فواد "، الإيادي عن ثمانين سنة، وكان فصيحاً مفوهاً جواداً ممدحاً، وكان من أصحاب واصل بن عطاء المعتزلي، وهو الذي شغب على، الإمام أحمد بن حنبل، وأفتى بقتله. وكان قد مرض بالفالج قبل موته نحو أربع سنين، ونكب وصودر. وهو أول من افتتح الكلام مع الخلفاء، وكان لا يبدؤهم أحد حتى يبدؤوه.
وقال أبو العيناء: كان ابن أبي دؤاد فصيحاً شاعراً مجيداً بليغاً، وما رأيت رئيساً قط أفصح ولا أنطق منه، وقد ذكره دعبل بن علي الخزاعي في كتابه الذي جمع فيه أسماء الشعراء، وروى له أبياتاً حساناً. وكان يقول: ثلاث ينبغي أن يبخلوا أقدارهم: العلماء وولاة العدل والإخوان. فمن استخفت بالعلماء أهلك دينه، ومن استخف بالولاة أهلك دنياه، ومن استخف بالإخوان أهلك مروءته.
وقال إبراهيم بن الحسن: كنا عند المأمون، فذكروا من بايع من الأنصار ليلة العقبة، واختلفوا في ذلك، ثم دخل. ابن أبي دؤاد فعدهم واحداً واحداً بأسمائهم، وكناهم وأنسابهم، فقال المأمون: إذا استجلس الناس فاضلاً، فمثل أحمد، فقال أحمد: بل إذا جالس العالم خليفة فمثل أمير المؤمنين الذي يفهم، وكان أعلم بما يقوله منه، ومن كلام أحمد:. ليس بكامل من لم يحمل وليه على منبر ولو أنه حارس، وعدوه على جذع ولو أنه وزير.(2/92)
وقال أبو العيناء: حسد أبو دلف القاسم بن عيسى العجلي، واحتيل عليه حتى شهد عليه بخيانة. وقيل عند أفشين، فأخذه ببعض أسبابه، وجلس له، وأحضر السياف ليقتله. فبلغ ابن أبي دؤاد الخبر، فركب في وقته مع من حضر من عدوله، ودخل على الأفشين، وقد جيء بأبي دلف ليقتل، ثم قال إني رسول أمير المؤمنين إليك، وقد أمرك أن لا تحدث في القاسم بن عيسى حدثاً حتى تسلمه إلي، ثم التفت إلى العدول، وقال: اشهدوا أني قد أديت الرسالة إليه، والقاسم حي معافى، فقالوا: شهدنا، وخرج فلم يقدر الأفشين على أن يحدث فيه مكروهاً، وسار ابن أبي دؤاد إلى المعتصم من وقته وقال: يا أمير المؤمنين، قد أديت عنك رسالة لم تقلها إني ما أعتد بعمل خير خيراً منها، وإني لأرجو لك الجنة بها. ثم أخبره الخبر فصوب رأيه، ووجه من أحضر القاسم، فأطلقه ووهب له، وعنف الأفشين فيما عزم عليه.
وكان المعتصم قد اشتد غيظه على محمد بن الجهم البرمكي، فأمر بضرب عنقه، فلما رأى ابن دؤاد ذلك وأن لا حيلة فيه، وقد شد برأسه وأقيم في النطع، وقد هزله السيف قال: ابن أبي دؤاد للمعتصم: وكيف تأخذ ماله إذا قتلته؟ قال: ومن يحول بيني وبينه؟ قال يأبى الله ذلك، ويأباه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويأباه عدل أمير المؤمنين، فإن المال للوارث، إذا قتلته، حتى تقيم البينة على ما فعله. وأمره بإستخراج ما أختانه أقرب عليك وهو حي، فقال: أجلسوه حتى نناظر، فتأخر أمره على ماله جملة وخلص بحمد الله تعالى.
وذكر الجاحظ أن المعتصم غضب على رجل من أهل الجزيرة، وأحضر السيف والنطع فقال له المعتصم: فعلت وصنعت وأمر بضرب عنقه، فقال له ابن أبي دؤاد: يا أمير المؤمنين، سبق السيف العدل، فتأن في أمره، فإنه مظلوم، فسكن قليلاً، قال ابن أبي دؤاد: وأرهقني البول فلم أقدر على حبسه، وعلمت أني إن قمت قتل الرجل، فجعلت ثيابي تحتي، وبلت فيها حتى خلصت الرجل، فلما قمت نظر المعتصم إلى ثيابي رطبة فقال: يا أبا عبد الله، كأن تحتك ماء؟ قلت: لا يا أمير المؤمنين، ولكنه كان كذا وكذا، فضحك ودعا لي وقال: أحسنت، بارك الله عليك. قال الراوي: وخلع عليه، وأمر له بمائة ألف درهم.
وقال أحمد بن عبد الرحمن الكلبي: ابن أبي دؤاد روح كله من قرنه إلى قدمه، وقال بعضهم: ما رأيت قط أطوع لأحد من المعتصم لإبن أبي دؤاد، وكان يسأل الشيء فيمتنع منه، ثم يدخل ابن أبي دؤاد، فيكلمه في أهله، وفي أهل الثغور وفي الحرمين وفي أقاصي أهل المشرق والمغرب، فيجيبه إلى كل ما يريد، ولقد كلمه يوماً في مقدار ألف ألف درهم ليحفر بها نهراً في أقاصي خرسان فقال له: ونا علي من هذا النهر؟ فقال: يا أمير(2/93)
المؤمنين، إن الله تعالى يسألك عن النظر في أقصى رعيتك كما يسألك عن النظر في أدناها، ولم يزل يرفق به حتى أطلقها.
وقال الحسين بن الضحاك الشاعر المشهور لبعض المتكلمين: ابن أبي دؤاد عندنا لا يعرف اللغة، وعندكم لا يحسن الكلام، وعند الفقهاء لا يدري الفقه، وهو عند المعتصم يعرف هذا كله.
وكان إبتداء أمر ابن أبي دؤاد بالمأمون أنه قال: كنت أحضر مجلس القاضي يحيى بن أكثم مع الفقهاء، وكنت عنده يوماً إذ جاء رسول المأمون وقال له: يقول لك أمير المؤمنين، إلينا أنت وجميع من معك من أصحابك. فلم يحب أن أحضر معه، ولم يستطع أن يؤخرني، فحضرت مع القوم، فتكلمت بحضرة المأمون، فأقبل المأمون ينظر إلي إذا شرعت الكلام، ويتفهم ما أقول، ويستحسنه، ثم قال لي: من تكون؟ فانتسبت له، فقال: ما أخرك عنا؟ فكرهت أن أحيل على يحيى، فقلت: حبس القدر وبلوغ الكتاب أجله. فقال: لا أعلمن يكون لنا مجلس إلا حضرته، قلت: نعم يا أمير المؤمنين، ثم اتصل الأمر.
وقيل: قدم يحيى بن أكثم قاضياً على البصرة من خراسان من قبل المأمون في آخر سنة
ومائتين وهو حدث، سنة نيف وعشرون سنة، فاستصحب جماعة من أهل العلم والمروءات منهم: ابن أبي دؤاد، فلما قدم المأمون بغداد في سنة أربع ومائتين قال ليحيى بن أكثم: اختر لي من أصحابك جماعة ليجالسونني، فاختار منهم عشرين، معهم ابن أبي داود. ثم قال اختر منهم خمسة فيهم ابن أبي دؤاد، واتصل أمره وأسند المأمون وصيته الموت إلى أخيه المعتصم، وقال فيها: وأبو عبد الله أحمد بن أبي دؤاد لا يفارقك، في المشورة في كل أمر، فإنه موضع ذلك، ولا تتخذن بعدي وزيراً. ولما ولي المعتصم الخلافة جعل ابن أبي دؤاد قاضي القضاة، وعزل يحيى بن أكثم، وخص به أحمد، كان لا يفعل فعلاً باطناً ولا ظاهراً إلا برأيه، وامتحن ابن أبي دؤاد الإمام وألزمه، وأطلق القول بخلق القرآن الكريم، وذلك في شهر رمضان من سنة عشرين ومائتين. قلت: في الأصل المنقول منه " ألزم الإمام وأطلق " وكأنه يعني الإمام أحمد ومعلوم أن الإمام أحمد لم يلتزم ذلك، ولا وافق عليه مع ما ناله من المكروه والضرر كما سيأتي في ترجمته.
ولما مات المعتصم وتولى بعده الواثق بالله حسنت حال ابن أبي دؤاد عنده، ولما مات وتولي أخوه المتوكل فلج ابن أبي دؤاد يعني، أصابه المرض المعروف بالفالج،، وذهب شقه الأيمن، فقلد المتوكل ولده محمد بن أحمد القضاء مكانه، ثم عزل محمد بن أحمد عن المظالم، وقلد يحيى بن أكثم، وكان الواثق قد أمر أن لا يرى أحد من الناس الوزير محمد بن عبد الملك الزيات إلا قام له، وكان ابن أبي دؤاد إذا رآه قام واستقبل القبلة(2/94)
يصلي فقال ابن الزيات.
صلى الضحى لما استقاد عداوتي ... ولذا ينسك بعدها ويصوم
لا تعد من عداوة مسمومة ... تركتك تقعد تارة وتقوم
ومدح ابن أبي دؤاد جماعة من شعراء عصره قال الراوي: رأيت أبا تمام الطائي عند ابن أبي دؤاد، ومعه رجل ينشد عنده قصيدة منها:
لقد أنست مساوىء كل دهر ... محاسن أحمد بن أبي دؤاد
وما سافرت في الآفاق إلا ... ومن جدواك راحلتي وزادي
ودخل أبو تمام عليه يوماً، وقد طالت الأيام في الوقوف ببابه، ولا يصل إليه، فعتب عليه مع بعض أصحابه فقال له ابن أبي دؤاد: أحسبك عاتباً يا أبا تمام، فقال، إنما يعتب على واحد، وأنت الناس، فكيف يعتب عليك؟ فقال له: من أين لك هذا يا أبا تمام. فقال: من قول الحاذق، يعني أبا نؤاس للفضل بن الربيع.
وليس من الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
ولما ولي ابن أبي دؤاد المظالم قال أبو تمام يتظلم إليه قصيدة من جملتها:
إذا أنت ضيعت القريض وأهله ... فلا عجب أن ضيعته الأعاجم
فقد هز عطفيه القريض ترفعاً ... بعدلك مذ صارت إليك المظالم
ولولا خلا فيها الشعر ما درى ... نعاه العلى من أين تؤتى المكارم
ومدحه أبو تمام أيضاً بقصيدة، ما ألطف وأبدع وأبلغ وأبرع قوله فيها:
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار في ما جاورت ... ما كان يعرف طيب نشر العود
قلت: ومما يناسب هذا المعنى ما حصل لعائشة رضي الله تعالى عنها من الشرف الأسنى والمجد المقيم، بما أنزل الله تعالى في براءتها من القرآن الكريم، لما تكلم فيها ما بين حاسد أثيم ومخطىء للصواب عديم، ومتوعد بعذاب عظيم، ومدحه بعض الشعراء بأبيات من جملتها:
لقد حازت نزار كل مجد ... ومكرمة على رغم الأعادي
فقل للفاخرين على نزار ... ومنهم خندف وبنو إياد
رسول الله والخلفاء منا ... ومنا أحمد بن أبي دؤاد(2/95)
ولما سمع هذا الشعر أبو هفان قال:
فقل للفاخرين على تزار ... وهم في الأرض ساداة العباد
رسول الله والخلفاء منا ... وتبرا من دعا لبني إياد
وما منا إياد إن أفوت ... بدعوة أحمد بن أبي دؤاد
فقال ابن أبي دؤاد: ما بلغ مني أحد ما بلغ مني هذا الغلام، لولا أني أكره أن أنبه عليه لعاقبته عقاباً لم يعاقب أحد بمثله، جاء إلى منقبة كانت لي فنقضها عروة عروة، قلت قوله: كره أن الله عليه، يعني: إذا عاقبت لعاقبته عقاباً لم يعاقب به الناس لقوله الذي ذمني فيه، وكان بين ابن أبي دؤاد وبين الوزير مناقشات وشحناء، فمنع الوزير بعض أصحاب القاضي المذكور من التردد إليه، فبلغ ذلك القاضي، فجاء إلى الوزير وقال: ما أتيتك متكثراً بك من قلة، ولا متعززاً من زلة، ولكن أمير المؤمنين رتبك رتبة أوجبت لقاءك، فإن لقيناك فله، وإن تأخرنا عنك فلك، ثم نهض من عنده " وهجا " بعض الشعراء الوزير ابن الزيات بقصيدة، عدد أبياتها سبعون، فبلغ خبرها القاضي ابن أبي دؤاد فقال:
أحسن من سبعين بيتاً هجا ... جمعك معناهن في بيت
ما أحوج الملك إلى قطرة ... تغسل عنه وضر الزيت
فبلغ ابن الزيات ذلك فقال:
يا ذا الذي يطمع في هجونا ... عرضت بي نفسك للموت
الزيت لا يزري بأحسابنا ... أحسابنا معروفة البيت
قبرتم الملك فلم تنقه ... حتى غسلنا القار بالزيت
واستمر ولد القاضي المذكور في مكانه لما فلج حتى سخط المتوكل على القاضي أحمد المذكور وولده محمد في سنة سبع وثلاثين ومائتين، فصرفه عن المظالم، ثم عن القضاء، وأخذ من ولده مائة ألف وعشرين ألف دينار، وجواهر بأربعين ألف دينار، وقيل: صالح على ضياعه وضياع أبيه بألف ألف دينار، وستره إلى بغداد وفوض القضاء إلى يحيى بن أكثم، قال أبو بكر بن دريد: كان ابن أبي دؤاد متألفاً لأهل الأدب من أي بلد كانوا وقد ضم منهم جماعة يعولهم ويمونهم، فلما مات حضر ببابه جماعة منهم، وقالوا: يدفن من كان على ساقة الكرم، وتاريخ الأدب، ولا يتكلم فيه إن هذا وهن وتقصير، فلما طلع سريره قام إليه ثلاثة منهم فقال أحدهم:(2/96)
اليوم مات نظام الملك والسنن ... ومات من كان يسعد على الزمن
وأظلمت سبل الأدب إذا حجبت ... شمس المكارم في غيم من الكفن
وتقدم الثاني فقال:
ترك المنابر والسرير تواضعاً ... وله منابر لو يسافر وسرير
وله المحامد، ولغيره يجبى الخراج ... وإنما يجبى إليه محامد وسرير
وتقدم الثالث فقال:
وليس فتيق المسك ريح حنوطه ... ولكنه ذاك الثناء المخلف
وليس صرير العرش ما تسمعونه ... ولكنه أصلاب قوم تقصف
قلت: ومحاسنه كثيرة، ومناقبه شهيرة، سارت بها الركبان، لولا ما صدر عنه عن الإمتحان بخلق القرآن.
وفي السنة المذكورة توفي في الفقيه الإمام أحد العلماء الأعلام أبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي البغدادي، تفقه بالشافعي، وسمع من ابن عيينة وغيره، وبرع في العلم، ولم يقلد أحداً، قال أحمد بن حنبل: هو عندي في مسلاخ سفيان الثوري، أعرفه بالسنة منذ خمسين سنة في تصنيفه في الأحكام بين الحديث والفقه، وكان أول اشتغاله في مذهب أهل الرأي حتى قدم الشافعي العراق فاختلف إليه واتبعه ورفض مذهبه الأول.
وقال له محمد بن الحسن يوماً: يا أبا ثور، حسبت هذا الحجازي قد غلبنا عليك، فقال: أجل، الحق معه، ولم يزل مائلاً إلى مذهب الشافعي إلى أن توفي.
وفي السنة المذكورة توفي الحسن بن عيسى النيسابوري، وكان ورعاً دينا أسلم على يد ابن المبارك، وسمع الكثير منه ومن ابن الأحوص وطائفة، ولما مر ببغداد حدث بها، وعدوا في مجلسه اثني عشر ألف محبرة.
وفيها توفي أبو العميثل " بفتح العين والميم والمثلثة وسكون المثناة من تحت قبل المثلثة " عبد الله بن خليل مولى جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، كان يعجم الكلام ويعربه، وكان كاتب عبد الله بن طاهر وشاعره، وكاتب أبيه طاهر من قبله، وكان مكثراً من ثقل اللغة، عارفاً بها شاعراً مجيداً، ومن شعره في عبد الله بن طاهر قوله:
يا من يحاول أن يكون صفاته ... كصفات عبد الله أنصت وأسمع
فلقد نصحتك في المشورة والذي ... حج الحجيج إليه فاسمع أودع(2/97)
أصدق وعن وبر واصبر واحتمل ... واصفح وكاف ودار واحلم واسجع
والطيف ولن وتأن وارفق وابتد ... واحرم وجد رجام واحمل وارفع
ولقد محضتك إن قبلت نصيحتي ... وهديت للنهج الأسد المهيع
قلت: وعدد كلمات بيته الثالث والرابع كل واحد عشر كلمات، ولي بيت جمعت فيه اثنتي عشرة كلمة في مخاطبة الله عز وجل بالدعاء. وهو قولي في بعض القصائد:
وسبحانك اللهم يا سامع الدعاء ... ويا منقذ الهلكى ويا راحم الورى
أقل واسترا جبروا رفق ارزق وعاف واهدهوالطف تجاوز واعطف وارحم لنا اغفرا والألف التي بعد الراء من " اغفر "، أبدل من نون التأكيد أي اغفرن، ولما حجب أبو العميثل عن الدخول على عبد الله المذكور، وقد وصل إلى بابه قال:
سأترك هذا الباب ما دام إذنه ... على ما أرى حتى يخف قليلاً
إذا لم أجد يوماً إلى الإذن سلما ... وجدت إلى ترك اللقاء سبيلاً
فبلغ ذلك عبد الله، فأمر بدخوله، وكان أبو العميثل يقول: النعمان اسم من أسماء الدم، ولذلك قيل شقائق النعمان نسبت إلى الدم لحمرتها. قال: وقولهم إنها منسوبة إلى النعمان بن المنذر ليس بشيء. وقال ابن قتيبة: إن النعمان بن المنذر، وهو آخر ملوك الحيرة من الحمير، خرج إلى ظهر الكوفة، وقد اعتم بناته من بين أصفر وأحمر وأخضر، وإذا فيه من الشقائق شيء كثير، فقال: ما أحسنها، إحموها فحموها، فسمي شقائق النعمان، وكذا اذكر الجوهري أنها منسوبة إلى النعمان.
ويحكى أن أبا تمام الطائي لما أنشد عبد الله بن طاهر قصيدة مدحه بها، كان أبو العميثل حاضراً فقال: يا أبا تمام، لم لا تقول ما يفهم؟ فقال: يا أبا العميثل: لم لا تفهم ما يقال؟ وقبل يوماً كف عبد الله بن طاهر فاستخشن شاربه فقال أبو العميثل في الحال: شوك القنفذ لا يؤلم كف الأسد فأعجبه كلامه، وأمر له بجائزة سنية، وصنف كتباً منها " ما اتفق لفظه واختلف معناه "، و " كتاب التشابه "، و " كتاب الأبيات السائرة "، و " كتاب معاني شعر ".
وفيها توفي مفتي القيروان وقاضيه أبو سعيد عبد السلام بن سعيد، المعروف بسحنون المغربي المالكي، صاحب المدونة، والمدونة أصلها مسائل أخذها عن ابن قاسم، وكانت غير مرتبة، فرتب سحنون أكثرها وبوبها على ترتيب التصانيف، واحتج لبعض مسائلها بالآثار، وأول من شرع في جمع المدونة أسد بن الفرات الفقيه المالكي بعد رجوعه من العراق من أسئلة سأل عنها ابن القاسم، وكتبها عنه سحنون، ثم رحل بها إلى ابن(2/98)
القاسم، فعرضها عليه، فاصلح فيها مسائل وحررها، ثم رجع بها إلى القيروان، وعلى نسخته يعتمدون. ولقب سحنوناً باسم طائر وحديد في المغرب يسمونه بذلك لحدة ذهنه وذكائه، أخذ عن أبي القاسم وابن وهب وأشهب.
وفيها توفي عبد العزيز بن يحيى الكناني المكي صاحب " كتاب الجيدة " سمع من سفيان بن عيينة، وناظر بشر المريسي فقطعه، وهو معدود من أصحاب الشافعي.
إحدى وأربعين ومائتين
فيها توفي إمام المحدثين في عصره السيد الكبير فريد دهره، ذو العلم والعمل والحق والتحقيق والزهد الصادق والورع الدقيق، المعظم المبجل أحمد بن حنبل الشيباني المروزي الأصل رضي الله تعالى عنه خرج من جماعة من الكبار، ورحل إلى اليمن وسمع من الإمام الحافظ عبد الرزاق في صنعاء، والإمام إبراهيم بن الحكم في عدن وغيرهما من شيوخ اليمن. وقيل: كان يحفظ ألف ألف حديث، وكان من أصحاب الإمام الشافعي وخواضه والمحبين له والمعتقدين فضله والمعظمين قدره والمبجلين محله. وقد تقدم في ترجمة الشافعي الإشارة إلى تفخيم الإمام أحمد له.
وكذلك كان الشافعي يفخمه، ولما ارتحل إلى مصر قال في حقه: خرجت من بغداد، وما خلفت بها أتقى ولا أفقه من ابن حنبل، ودعي بعد وفاة الشافعي لست عشرة سنة إلى خلق القرآن فلم يجب، وضرب فصبر مصراً على الإمتناع، وكان ضربه في العشر الأخير من شهر رمضان سنة عشرين ومائتين، أخذ عنه الحديث جماعة من الأماثل، منهم الإمامان الحافظان قدوتا المحدثين، محمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج النيسابوري، ولد سنة أربع وستين ومائة " وتوفي " ضحى نهار الجمعة لثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، وقيل: بل لثلاث عشرة بقين من الشهر المذكور، وقيل من ربيع الآخر، ودفن بمقبرة باب حرب، وقبره مشهور يزار رحمة الله عليه، وحزر من حضر جنازته من الرجال فكانوا ثمان مائة ألف، ومن النساء ستين ألفاً، وقيل: إنه أسلم يوم مات عشرون ألفاً من اليهود والنصارى والمجوس.
قلت: فإن صح ذلك فإسلامهم يحتمل سببين: أحدهما: أن يكون ذلك لكثرة من رأوا من الخلائق مجتمعين على فضله وتعظيمه والصلاة عليه والأسف على فراقه.
والثاني: أن يكون بعضهم رأى آية، كما رأى بعض اليهود في جنازة سهل بن عبد الله، وهي أنه لما نظر إلى جنازته قال: أترون ما أرى. قالوا: وما ترى؟ قال: أرى أقواماً ينزلون،(2/99)
من السماء يتبركون بالجنازة، ثم أسلم وحسن إسلامه.
وحكي أن إبراهيم الحربي قال: رأيت بشر بن الحارث الحافي في المنام كأنه خرج من مسجد الرصافة، وفي كمه شيء يتحرك، فقلت: ما فعل الله بك. فقال: غفر لي وأكرمني، فقلت: ما هذا الذي في كمك. فقال: قدم علينا روح أحمد بن حنبل فنثر عليه الدر والياقوت، فهذا مما التقطته. قلت: فما فعل يحيى بن معين وفلان سماه من أئمة الحديث. قال: تركتهما، وقد زارا رب العالمين، ووضعت لهما الموائد. قلت: فلم لم تأكل معهما أنت؟ قال: قد عرفت هوان الطعام علي، فأباحني النظر إلى وجهه الكريم، وكان رضي الله تعالى عنه حسن الوجه، ربعة يخضب بالحناء خضاباً ليس بالثاني، وفي لحيته شعرات سود قد جاوز سبعاً وسبعين سنة، وقد جمع ابن الجوزي أخباره في مجلد، ذلك البيهقي والهروي.
ومن مناقبه أيضاً ما ذكر بعض العلماء في مناقب الإمام الشافعي عن الربيع قال: لما خرج الشافعي إلى مصر وأنا معه كتب كتابأ وقال: يا ربيع، خذ كتابي هذا، وامض به إلى عبد الله أحمد بن حنبل، وأتني بالجواب. قال الربيع: فدخلت بغداد ومعي الكتاب فلقيت أحمد بن حنبل في صلاة الصبح، فصليت معه، فلما انتقل من المحراب سلمت إليه شاب وقلت: هذا كتاب الشافعي من مصر، فقال أحمد: نظرت فيه؟ قلت: لا، فكسر الختم وقرأ الكتاب فتغرغرت عيناه بالدموع فقلت له: إيش فيه؟. فقال: يذكر أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له: أكتب إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل، واقرأ عليه السلام وقل له: إنك ستمتحن وتدعي للقول بخلق القرآن، فلا تجبهم، فسترفع لك علم إلى يوم القيامة. قال الربيع: فقلت: البشارة فخلع قميصه الذي يلي جلده ودفعه إلي، وأخذت جواب الكتاب، وخرجت إلى مصر فسلمت الكتاب للشافعي وقال: يا ربيع، إيش الذي دفع إليك. قلت: القميص الذي يلي جلده، فقال الشافعي: لا نفجعك به، ولكن بله، وادفع إلي الماء حتى أكون شريكاً لك فيه.
وفيها توفي الإمام أبو علي الحسن بن حماد الحضرمي البغدادي، والحافظ أبو قدامة عبد الله بن سعيد رحمهم الله تعالى.
اثنتين وأربعين ومائتين
فيها توفي القاضي أبو حسان الزيادي الحسن بن علي بن عثمان، وكان إماماً ثقة، إخبارياً. مصنفاً كثير الإطلاع. وفيها توفي الإمام الرباني أبو الحسن محمد بن أسلم الطوسي الزاهد صاحب المسند في صاحب المسند والأربعين، وكان يشبه في وقته بابن المبارك. رحل وسمع من(2/100)
يزيد بن هارون وجعفر بن عون وطبقتهما، وروى عنه إمام الأئمة المعروف بابن خزيمة. وقال: لم تر عيناي مثله، وقال غيره: يعد من الإبدال رحمة الله عليه.
وفيها توفي الفقيه العلامة المفخم القاضي المشهور يحيى بن أكثم " بالمثلثة " التميمي. كان فقيهاً بارعاً عالماً بصيراً بالأحكام، سالماً من انتحال البدعة، قائماً بكل معضلة، غلب على المأمون حتى أخذ بمجامع قلبه، فقلده القضاء وتدبير مملكته، وكانت الوزراء لا تعمل شيئاً إلا بعد مطالعته، كذا قال طلحة الشاهد، وقال غيره: جعل المتوكل يحيى في مرتبة ابن أبي دؤاد، ثم غضب عليه، وقال أبو حاتم فيه نظر، قلت: وقد تقدم في ترجمة ابن أبي دؤاد أنه قال: كان ابتداء اتصالي بالمأمون أني كنت أحضر مجلس يحيى بن أكثم مع الفقهاء، وأنا عنده يوماً إذ جاء رسول المأمون فقال له: يقول لك أمير المؤمنين: أنتقل إلينا أنت وجميع من معك من أصحابك. قال: فلم يحدث أن أحضر معه، ولم يستطع أن يؤخرني، فحضرت مع القوم، فتكلمت بحضرة المأمون، فأقبل المأمون ينظر إلي إلى آخر كلامه المتقدم.
ومنه أنه لما ولي المعتصم الخلافة جعل ابن أبي دؤاد قاضي القضاة، وعزل يحيى بن أكثم، وأنه سخط المتوكل على القاضي ابن أبي دؤاد وولده وصادرهما، وفوض القضاء إلى يحيى بن أكثم على ما ذكره ابن خفكان في تاريخه، وهو واضح في تقدم يحيى بن أكثم بولايته القضاء في زمن المأمون، ثم عزله بابن أبي دؤاد في زمن المعتصم، ثم عزل ابن أبي دؤاد، ابنه بابن أكثم في زمن المتوكل، وكل ذلك ظاهر على ما تقدم والله أعلم.
رجعنا إلى ذكر ابن أكثم. قال طلحة بن محمد المذكور: ولا نعلم أحداً غلب على سلطانه في زمانه إلا يحيى بن أكثم، وأحمد بن أبي دؤاد وسئل رجل من البلغاء عنهما ليهما لنبل فقال: كان أحمد يجد مع جاريته وابنته ويحيى، ويهزل مع خصيمه وعدوه، وكان يحيى سليماً من البلدة، وينتحل مذهب أهل السنة، بخلاف ابن أبي دؤاد في إعتقاده وتعصبه للمعتزلة.
وذكر الفقيه أبو الفضل عبد العزيز بن علي في " كتاب الفرائض " في آخر المسائل الملقبات، وهي أربع عشرة المعروفة بالمأمونية التي هي: أبوان وابنتان، ولم يقسم التركة حتى ماتت إحدى البنتين، وخلفت من المسألة، الأولى سميت المأمونية لأن المأمون أراد أن يولي رجلاً على القضاء، فوصف له يحيى بن أكثم، فاستحضره، فلما دخل عليه وكان ذميم الخلق استحقره المأمون، فعلم ذلك يحيى فقال: يا أمير المؤمنين سلني إن كان القصد علمي لا خلقي، فسأله عن هذه المسألة فقال: الميت الأول رجل أو امرأة، فعلم المأمون أنه قد علم المسألة. وفي رواية أنه قال له: إذا عرفت الميت الأول فقد عرفت(2/101)
الجواب، وذلك أنه إن كان الميت الأول رجلاً فيصح المسألتان من أربعة وخمسين، وإن كان امرأة لم يرث الجد في المسألة الثانية، لأنه أب وأم، فتصبح المسألتان من ثمانية عشر سهماً. قال بعضهم، كان المأمون ممن برع في العلوم، فعرف من حال يحيى بن أكثم وما هو عليه من العلم والعقل.
وذكر الخطيب في تاريخ بغداد أن يحيى بن أكثم ولي قضاء البصرة وسنه عشرون سنة أو نحوها، فاستصغره أهل البصرة فقالوا: كم سن القاضي. فعلم أنه قد استضغر، فقال: أنا أكبر من عتاب بن أسيد الذي وجه به، أو قال: وجهه النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاضياً على أهل مكة يوم الفتح، وأنا أكبر من معاذ بن جبل الذي وجه به النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاضياً على أهل اليمن، وأنا أكبر من كعب بن سور " بضم السين المهملة " الذي وجهه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قاضياً على أهل البصرة فجعل جوابه احتجاجاً.
قلت: وقد روي أيضاً أنه كان سنة ثماني عشرة سنة، فقال: سني سن عتاب بن أسيد حين ولآه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على مكة ثمان عشر سنة، وكانت ولاية يحيى ابن أكثم على قضاء البصرة بعد إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة سنة اثنتين ومائتين.
وروى محمد بن منصور قال: كنا مع المأمون في طريق الشام، فأمر فنودي بتحليل المتعة، فقال يحيى بن أكثم لي ولأبي العيناء: بكراً غداً إليه. فإن رأيتما للقول وجهاً فقولا، وإلا فاسكتا إلى أن أدخل، قال: فدخلنا إليه وهو يستاك ويقول وهو مغتاظ: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وعلى عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وأنا أنهي عنهما، ومن أنت يا جعل حتى أنتهي عما فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو أبو بكر. قال محمد بن منصور وأومى أبو العيناء إلي إذا كان هذا القول يقوله في عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فكيف نكلمه نحن؟. فسكتنا حتى جاء يحيى بن أكثم فجلس وجلسنا. فقال المأمون ليحيى: ما لي أراك متغيراً فقال: يا أمير المؤمنين، لما حدث في الإسلام، قال: ما حدث في الإسلام؟ قال: النداء بتحليل الزنا. قال: نعم المتعة زنا، قال: ومن أين قلت هذا؟ قال: من كتاب الله تعالى وحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال الله تعالى: " قد أفلح المؤمنون "، إلى قوله: " والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون " " المؤمنون ا - 17 " يا أمير المؤمنين: زوجة المتعة ملك اليمين؟. قال: لا، قال: فهي الزوجة التي عند الله ترث وتورث، ويلحق منها الولد، ولها شرائطها. قال: لا؟ قال فقد صار متجاوز هذين من العادين. وهذا الزهري يا أمير المؤمنين روى عن عبد الله والحسن ابني محمد ابن الحنفية عن أبيهما عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم، قال: أمرني(2/102)
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أنادي بالنهي عن المتعة وتحريمها، بعد أن كان قد أمر بها، فالتفت إلينا المأمون وقال: أمحفوظ هذا من حديث الزهري. فقلنا: نعم، يا أمير المؤمنين، رواه جماعة منهم، مالك بن أنس فقال: أستغفر الله، بادروا بتحريم المتعة فبادروا بها.
وقال أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل الأزدي القاضي الفقيه المالكي البصري، وقد ذكر يحيى بن أكثم فعظم أمره وقال: كان له يوماً لم يكن لأحد مثله، وذكر هذا اليوم، وكانت كتب يحيى في الفقه " أجل كتب، فتركها الناس لطولها، وله كتب في الأصول، وله كتاب أورده على العراقيين وبينه وبين داود بن علي مناظرات كثيرة ".
قالوا: وكان يحيى من أدهى الناس وأخبرهم بالأمور قال يوماً وزير المأمون أحمد بن أبي خالد وهو واقف بين يدي المأمون وابن أكثم معه على طرف السرير يا أمير المؤمنين، إن القاضي يحيى صديقي، ومن أثق به في جميع أمري، وقد تغير عما عهدته منه، فقال المأمون: يا يحيى، إن فساد أمر الملوك بفساد خاصتهم، وما بعد لكما عندي عهد، فما هذه الوحشة فيكما؟. فقال له يحيى: يا أمير المؤمنين، والله إنه ليعلم أني له على أكثر مما وصف، ولكنه لما رأى منزلتي منك هذه المنزلة حتى خشي أن أتغير عليه يوماً فأقدح فيه عندك. فأحدث أن يقول لك هذا ليأمن مني، وإنه لو بلغ نهاية مساوىء، ما ذكرته بسوء عندك أبداً. فقال المأمون: أكذلك هو يا أحمد؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، فقال. نستعين الله عليكما، فما رأيت أتم دهاء ولا أعظم فتنة منكما. وكان يحيى إذا نظر إلى رجل يحفظ الفقه سأله عن حديث، وإذا رآه يحفظ الحديث سأله عن النحو، وإذا رآه يعرف النحو سأله عن الكلام ليقطعه.
وذكر الخطيب في تاريخه أنه ذكر لأحمد بن حنبل رضي الله عنه ما يرمي الناس به يحيى بن أكثم، وينسبونه إليه من الهنات فقال: سبحان الله من يقول هذا أنكر ذلك إنكاراً شديداً.
وذكر الخطيب أيضاً أن المأمون قال ليحيى المذكور: من الذي يقول:
قاضي يرى الحد في الزنا ... ولا يرى على من يلوط من بأس
قال: أو ما تعرف يا أمير المؤمنين. قال: لا، قال: يقوله أحمد بن أبي نعيم الذي يقول:
لا أحسب الجور ينقضي ... وعلى الأمة وال من آل عباس(2/103)
قال: فاقحم المأمون خجلاً وقال: ينبغي أن ينفى أحمد بن أبي نعيم إلى السند. وهذان البيتان من جملة أبيات له منها قوله:
لا أفلحت أمة، وحق لها ... يطول مكس، وطوله أنعاس
ترضى بيحيى يكون سائسها ... وليس يحيى لها بسواس
ومما يناسب إنشاد المأمون البيت المذكور وجواب ابن أكثم بالبيت المقحم له، ما يحكى أن معاوية بن أبي سفيان لما اشتد مرض موته، وحصل اليأس منه، دخل عليه بعض ذرية علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يعوده فوجده قد استند جالساً متجلداً، ثم ضعف عن القعود، فاضطجع وأنشد:
وتجلدي للشامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتضعضع
فأنشد العلوي عند ذلك:
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... الفيت كل تميمة لا تنفع
فتعجب الحاضرون من جوابه. وهذان البيتان من جملة قصيدة طويلة لأبي ذؤيب خويلد بن خالد الهذلي، يرثي بها بنيه، وكان قد هلك له خمس بنين في عام واحد بالطاعون في طريق مصر، وقيل في طريق إفريقية، وقيل في طريق المغرب، ثم هلك هو بعدهم.
ومما يناسب الجواب المذكور، ما يحكى أن بعض الشعراء وهو عبد الله بن إبراهيم المعروف بابن المؤدب القيرواني امتدح ثقة الدولة بقصيدة رجا فيها صلته فلم يصله بشيء يرضيه، وكان قد بلغ ثقة الدولة عنه شيء، فلم يزل يرسل الطلب بعد حتى ظفر به فقال له: ما الذي بلغني عنك. قال: المحال، أيد الله الأمير. فقال: من هو الذي يقول في شعره: " فالحر ممتحن بأولاد الزنا "؟ فقال: هو الذي يقول: " وعداوة الشعراء بئس المقتنى "، فتسمر ساعة، ثم أمر له بشيء، وأخرجه من المدينة كراهية أن تثور عليه نفسه فيعاقبه، بعد أن عفا عنه، فخرج منها. وهذا المستشهد به عجزا البيتين من شعر المتنبي في قصيدة مدح بها ابن عمار. وصدر الأول منهما:
وإنه المسير عليك في نصلة ... فالحر ممتحن بأولاد الزنا
وصدر الثاني:
ومكائد السفهاء واقعة بهم ... وعداوة الشعر بئس المقتنى
رجعنا إلى ذكر القاضي يحيى بن أكثم ولما توتجه المأمون إلى مصر في سنة(2/104)
خمس عشرة ومائتين، وكان معه القاضي يحيى، فولاه قضاء مصر، فحكم بها ثلاثة أيام، ثم خرج مع المأمون.
وروي عن يحيى أنه قال: اختصم إلي في " الرصافة " الجد الخامس يطلب ميراث ابن ابن ابن ابنه. قلت: ومثل هذا، وجد عندنا في يافع من بلاد اليمن، حتى كان يقول الإبن السافل: يا جد أجب جدك، وكان بعض الشعراء يتردد إليه ويغشى مجلسه، وكان بعض الأحيان لا يقدر على الوصول إليه، إلا بعد مشقة ومذلة يقاسيها، فانقطع عنه، فلامته زوجته في ذلك مراراً فأنشدها:
تكلفني إذلال نفسي لغيرها ... وكان عليها أن أهان لتكرما
تقول سل المعروف يحيى بن أكثم ... فقلت: سليه رب يحيى بن أكثما
ولم يزل الأحوال تختلف على ابن أكثم وتتقلب به الأيام إلى أن عزل محمد بن القاضي أحمد بن أبي دؤاد عن القضاء في أيام المتوكل، فولي ابن أكثم كما تقدم، وخلع عليه خمس خلع، ثم عزله وولي في رتبته جعفر بن عبد الواحد الهاشمي. فجاء كاتبه إلى القاضي يحيى فقال: سلم الديوان، فقال: شاهدان عادلان على أمير المؤمنين أنه أمرني بذلك، فأخذ الديوان منه قهراً، وغضب عليه المتوكل، فأمر بقبض أملاكه، وألزم بيته، ثم حج وحمل أخته معه، وعزم على أن يجاور، فلما اتصل به رجوع المتوكل له رجع يريد العراق، فلما وصل إلى الربذة توفي بها يوم الجمعة منتصف ذي الحجة من السنة المذكورة، وقيل في غيره سنة ثلاث وأربعين، ودفن هناك.
وحكى أبو عبد الله بن سعيد قال: كان يحيى بن أكثم القاضي صديقاً لي، وكان يودني وأوده، وكنت أشتهي أن أراه في المنام بعد موته، فأقول له: ما فعل الله بك. فرأيته ليلة، فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي إلا أنه وبخني، ثم قال لي: يا يحيى، خلطت علي في دار الدنيا، فقلت: يا رب إتكلت على حديث حدثني به أبو معاوية الضرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنك قلت: إني لأستحيي أن أعذب ذا شيبة بالنار، فقال: قد عفوت عنك يا يحيى، وصدق نبيي، إلا أنك خلطت علي في دار الدنيا. ذكر كذلك الأستاذ أبو القاسم القشيري في رسالته.
قلت: ومما يناسب هذه الحكاية أو يقرب منها أنه توفي شيخ كان عندنا في بلاد اليمن وكيلاً على باب القاضي في عدن. فلما توفي راه بعض الناس في المنام، فقال له: ما فعل الله بك. قال: أوقفني بين يديه وقال: يا شيخ السوء جئتني بموبقات الذنوب، أو قال(2/105)
بالذنوب الموبقات، فقال: قلت: يا رب، ما هكذا بلغني عنك. قال: وما الذي بلغك عني؟ قلت: العفو والكرم، قال: صدقت، أدخلوه الجنة أو كما قال.
ولما ذكرت هذه الحكاية عند ولد له وكيل أيضاً في الخصومات قال: نعم وهو وكيل ما يعجزه الجواب يعني أباه ما أجاب به. قلت: وكلامه هذا، إن كان مزاحاً فهو قبيح، وإن كان جداً فباطل غير صحيح، لأن الثبات في الآخرة ليس إلا بتوفيق الله، وما ينعم به من نوال لا بفصاحة اللسان وما يعرفه الإنسان في الدنيا من الجدال. نعوذ بالله من الإغترار والزيغ والضلال.
ثلاث وأربعين ومائتين
فيها توفي الشيخ الكبير العارف معدن الأسرار والحكم والمعارف وإمام الطريقة ولسان الحقيقة الحارث بن أسد المحاسبي " بضم الميم " البصري الأصل، ممن اجتمع له علم الظاهر والباطن، والفضائل الفاخرة، وجميل المحاسن. وله تصانيف في السلوك والمواعظ والأصول. ومن كتبه المشهورة النفيسة " كتاب الرعاية "، ومن دقيق ورعه أنه ورث من أبيه سبعين ألف درهم، فلم يأخذ منها شيئاً لأن أبان كان يقول بالقدر. قال: وقد صحت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " لا يتوارث أهل ملتين شتى "، ومات وهو محتاج إلى درهم، خلف أبوه ضياعاً وعقاراً، فلم يأخذ منه شيئاً.
ومن المشهور أنه كان محفوظاً إذا مد يده إلى طعام فيه شبهة يتحرك في إصبعه عرق، فيمتنع من تناوله، وكان يقول: فقدنا ثلاثة أشياء: حسن الوجه مع صيانة، وحسن القبول مع الأمانة، وحسن الإخاء مع الوفاء. وهو أحد شيوخ الجنيد.
وقيل له المحاسبي: لكثرة محاسبة نفسه، وهو من الخمسة الشيوخ الجامعين بين علم الظاهر والباطن في عصر واحد، وهم: " هو " و " أبو القاسم الجنيد "، و " أبو محمد رويم "، و " أبو العباس عطاء "، و " عمرو بن عثمان المكي " رحمهم الله تعالى.
وفيها توفي الفقيه الإمام أبو حفص حرملة بن يحيى التجيبي المصري الحافظ مصنف " المختصر والمبسوط " رحمه الله، روى عن ابن وهب مائة ألف حديث، وتفقه بالإمام الشافعي، قيل: وكان أكثر أصحابه اختلافاً إليه واقتباساً منه و " التجيبي ": بضم المثناة من فوق وكسر الجيم وسكون الياء المثناة من تحت وبعدها موحدة. نسبة إلى امرأة نسبت أولادها إليه.
وفيها توفني إبراهيم بن عباس الصولي الشاعر المشهور، كان من الشعراء المجيدين، وله ديوان شعر، كله نحت وهو صغير، ومن رقيق شعره:(2/106)
ثنت بانا من عزتنا زيارة ... وشط بليلي عن دنو مزارها
وإن مقيمات بمنسرج اللوى ... لأقرب من ليلى، وهاتيك دارها
وله:
ولرب نازلة يضيق بها الفتى ... ورعاً وعند الله منها مخرج
كلمت فلما استحكمت حلقاتها ... فرجت وكنا نظنها لا تفرج
أولى البرية طراً أن تواسيه ... عند السرور الذي واساك في الحزن
إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان بالفهم في المنزل الخشن
وله هذان البيتان، وقيل هما في ديوان الوليد الأنصاري مجردان:
لا يمنعك خفض العيش في دعة ... نزوع نفس إلى أهل وأوطان
تلقى بكل بلاد إن حللت بها ... أهلا بأهل وجيراناً بجيران
وفيها توفي محمد بن يحيى بن أبي عمرو العداني الحافظ صاحب المسند، روى عن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى.
وفي السنة المذكورة توفي ابن الراوندي أحمد بن يحيى بن إسحاق الراوندي، وله مقالة في علم الكلام، وينسب إلى الزيغ والإلحاد. وله مائة وبضع عشرة كتاباً، وله مجالس ومناظرات مع جماعة من علماء الكلام.
قال ابن خلكان بعدما أثنى على فضله، وقد انفرد بمذاهب نقلها عنه أهل الكلام في كتبهم قال: وكان من فضلاء عصره، ومن تصانيفه " كتاب فضيحة المعتزلة "، قلت: وهو رد عن المعتزلة، فأصحابنا ينسبونه إلى ما هو أضل وأفظع من مذهب المعتزلة. عاش نحواً من أربعين سنة. ونسبته إلى راوند. قرية من قرى قاسان بالسين المهملة بنواحي أصفهان غير التي بالشين المعجمة المجاورة لقم بضم القاف، و " راوند " أيضاً ناحية ظاهر نيسابور، وراوند هذه هي التي ذكرها أبو تمام في كتاب الحماسة في باب المراثي.
قلت: وذكر أصحابنا في باب النسخ من كتب الأصول أنة هو الذي لقن اليهود الإحتجاج على عدم جواز النسخ بزعمهم بنقل مفترى بأن قال لهم: قولوا أن موسى عليه السلام أمرنا أن نتمسك بالسبت، ما دامت السموات والأرض، ولا يجوز أن يأمر الأنبياء، إلا بما هو حق، وهذا القول بهت وافتراء على موسى صلى الله عليه وآله وسلم وعلى نبينا وعلى جميع النبيين والمرسلين.(2/107)
أربع وأربعين ومائتين
فيها وقيل في سنة ست وأربعين ومائتين مات دعبل " بكسر الدال وسكون العين المهملين وكسر الموحدة وبعدها لام " ابن علي الخزاعي الشاعر المشهور، يرجع في نسبه إلى عامر بن مريقياً، كان شاعراً مجيداً بذيء اللسان، مولعاً بالهجو والحط من أقدار الناس. هجا الخلفاء فمن دونهم، وعمل في إبراهيم بن المهدي أبياتاً من جملتها:
ثغر ابن شكلة بالعراق وأهله ... فهقاً إليه كل أطلس مائق
يقال: فلان أحمق مائق إذا كان فيه حمق وغباوة، والأطلس الذي لا لحية له. فدخل إبراهيم على المأمون فشكا إليه حاله وقال: يا أمير المؤمنين، هجاني دعبل فانتقم لي منه فقال: ما قال لعل قوله: " ثغر ابن شكلة بالعراق وأهله "، وأنشد الأبيات فقال: هذا من بعض هجائه وقد هجاني بما هو أقبح من هذا: فقال المأمون لك أسوة بي فقد هجاني واحتملته وقال في:
أيسومني المأمون حظة جاهل ... أو ما رأى بالأمس رأس محمد
إني من القوم الذين سيوفهم ... فللت أخاك وشرفتك بمقعد
سادوا لذكرك بعد طول خموله ... واستنقذوك من الحضيض الأوهد
فقال إبراهيم: زادك الله حلماً يا أمير المؤمنين وعلماً، فما ينطق أحدنا إلا عن فضل علمك ولا يحلم إلا اتباعاً لحلمك، وأشار دعبل في هذه الأبيات إلى قضية طاهر بن الحسين الخزاعي وحصاره بغداد وقتله الأمير محمد بن الرشيد، وبذلك ولي المأمون الخلافة، ودعبل خزاعي فهو منهم، وكان المأمون إذا أنشد قوله هذا يقول: قبح الله دعبلاً ما أوقحه، كيف يقول علي هذا وقد ولدت في الخلافة ورضعت ثديها وربيت في مهدها؟ ومن شعره في الغزل:
لا تعجبي يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى
يا ليت شعري كيف نومكما ... يا صاحبي إذا دمي سفكا
لا تأخذا بظلامتي أحداً ... قلبي طرفي في دمي اشتركا(2/108)
ومن شعره في مدح المطلب بن عبد الله الخزاعي أمير مصر:
زمني بمطلب سقيت زماناً ... ما صرت إلا روضة وجنانا
كل الندى إلا نداك تكلف ... لم أرض غيرك كائناً من كانا
أصلحتني بالبر يدك فسدتني ... وتركتني السخط الإحسانا
ومما حكاه دعبل قال: كنا يوماً عند فلان ابن فلان الكاتب البليغ، وسماه، ولكن كرهت ذكره لوصفه له بما يقبح ذكره قال: وكان شديد البخل فأطلنا الحديث، واضره الجوع إلى أن استدعى بغذائه فأتي بقصعة فيها ديك فرم لا يقطعه السكين، ولا يؤثر ضرس، فأخذ كسرة خبز فخاض بها مرقته، وقلب جميع ما في القصعة، ففقد الرأس ق مطرقاً ساعة، ثم رفع رأسه، وقال للطباخ: أين الرأس؟ قال: رميت به، قال: ولم؟ قال ظننت أنك لا تأكله، قال: لبئس ما ظننت، ويحك، والله لأمقت من يرمي رجليه، فكيف من يرمي رأسه، والرأس رئيس، وفيه الحواس الأربع، ومنه يصيح، ولولا صوته لما فضل وفيه عرقه الذي يتبرك به، وفيه عيناه اللتان يضرب بهما المثل، فيقال شراب كعين الديك ودماغه عجيب لوجع الكليتين، ولم ير عظم قط أحسن من عظم رأسه، أو ما علمت أنه. من طرف الجناح ومن الساق والعنق؟ فإن كان قد بلغ مني بتلك أنك لا تآكله فانظر رميت به؟ قال: لا أدري أين هو، قال: لكني أدري أين هو، رميت به في بطنك، فالله حسيبك.
ولما مات دعبل وكان صديق البحتري وكان أبو تمام قد مات قبله رثاهما البحتري بأبيات منها:
قد زاد في كلفي وأوقد لوعتي ... مثوى حبيب يوم مات ودعبل
جوى لازال السماء محيلة ... يغشا كما يماء مزن مسبل
حدث على الأهواز يبعد دونه ... مسيري النغى ورمسة بالموصل
وفيها توفي الإمام اللغوي النحوي أبو يوسف يعقوب بن إسحاق المعروف بابن السكيت " بكسر السين المهملة وتشديد الكاف وسكون المثناة من تحت وبعدها مثناة فوق "، صاحب كتاب " إصلاح المنطق " وغيره من التصانيف في علم اللغة والنحو معاني الشعر، وفسر دواوين الشعر، وجمع في ذلك قول البصريين والكوفيين، وأجاد وجاوز فيها تفسير كل من تقدمه على ما ذكر المرزباني فقال: ولم يكن بعد ابن الأعرابي أعلم منه، وكان(2/109)
عالماً بنحو الكوفيين وعلم القرآن واللغة والشعر راوية ثقة، قد أخذ عن البصريين، وسمع من الأعراب وقال: ابن عساكر: حكى أبو يوسف عن أبي عمرو وإسحاق بن مرار الشيباني محمد بن مهنا ومحمد بن صبيح بن السماك الواعظ. وروى عن الأصمعي وأبي عبيدة الفراء: وجماعة، وروى عنه أحمد بن فرج المقرىء ومحمد بن عجلان الأخباري، وأبو عكرمة الضبي، وأبو سعيد السكري، وميمون بن هارون الكاتب وغيرهم.
وقال، وقال محمد بن السماك: من عرف الناس داراهم، ومن جهلهم مارآهم، ورأس المداراة ترك المماراة، وكتبه جيدة صحيحة، وهو صحيح السماع، وله حظ من السنن والدين، وكان المتوكل قد ألزمه تأديب ولده المعتز بالله، فلما جلس عنده قال له: بأي شيء يحب الأمير أن نبدأ، يعني من العلوم؟ فقال: بالإنصراف، قال: فأقوم؟. قال المعتز: فأنا أحق نهوضاً منك، فقام المعتز واستعجل، فعثر بسراويله، وسقط، فالتفت إلى ابن السكيت كالخجل، قد احمر وجهه فأنشد ابن السكيت.
يصاب الفتى من عثرة بلسانه ... وليس يصاب المرء من عثرة الرجل
فعثرته في القول تذهب رأسه ... وعثرته في الرجل تترا على مهل
فلما كان من الغد، دخل ابن السكيت على المتوكل وأخبره، فأمر له بخمسين ألف درهم وقال: بلغني البيتان، وأمر له بجائزة.
قلت: ومن جناية اللسان على النفس المشار إليها في النظم الذي أنشده ما جرى له مع كونه محقاً مأجوراً شهيداً، وذلك ما ذكروا أنه بينما هو يوماً مع المتوكل، إذ جاء المعتز المؤيد، فقال المتوكل: يا يعقوب أنما أحب إليك، ابناي هذان أم الحسن والحسين؟. فغض ابن السكيت من ابنيه وذكر من محاسن الحسن والحسين ما هو معروف من فضلهما، أمر المتوكل الأتراك فداسوا بطنه، فحمل إلى داره ومات من الغد.
وفي رواية أخرى: إن المتوكل كان كثير التحامل على علي بن أبي طالب وابنيه حسن والحسين، رضوان الله عليهم، وكان ابن السكيت شديد المحبة لهم والميل إليهم، فقال تلك المقالة، فقال ابن السكيت: والله أن قنبر خادم علي رضي الله تعالى عنه، خير منك ومن ابنيك. فقال المتوكل: سلو لسانه من قفاه، ففعلوا به ذلك فمات، رحمه الله تعالى.
وقال ثعلب: أجمع أصحابنا أنه لم يكن بعد ابن الأعرابي أعلم باللغة من ابن السكيت، قلت: وهذا موافق لما تقدم من قول المرزباني، وقال أبو العباس المبرد: ما رأيت بغداديين كتاباً أحسن من كتاب ابن السكيت " إصلاح المنطق ". وقال غيره من العلماء:(2/110)
إصلاح المنطق كتاب بلا خطبة، وأدب الكاتب خطبة بلا كتاب، لأن خطبته مطولة مودعة فوائد، وعددوا له أيضاً من التصانيف المفيدات غير كثير.
خمس وأربعين ومائتين
وفيها توفي محمد بن هشام بن عوف التميمي السعدي، كان ممدوحاً بالحفظ وحسن الرواية. قال مورج " بكسر الراء المشددة والجيم " أخذ مني كتاباً فحبسه ليلة، ثم جاء به، وحفظه بالحفظ وحسن الرواية. قال محمد بن هشام المذكور: لما قدمت مكة لزمت مجلس ابن عيينة فقال لي يوماً: لا أراك تخطىء بشيء مما تسمع؟. قلت: وكيف ذلك. قال: لا أراك تكتب؟ فقلت: إني أحفظه. فاستعاد مني مجالس، فأعدتها على الوجه.
قال: حدثنا الزهري عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: يولد في كل سبعين سنة من يحفظ كل شيء قال: وضرب بيده على جنبي وقال: أراك صاحب سبعين أو قال: من أصحاب السبعين، وقيل لسعدي المذكور: مات الضعفاء في هذا الغد، وسلم الأقوياء فقال: أنا سمعت:
رأيت جلتها في الحدب باقية ... ينقي الجواسي عنها حين يزدحم
لأن الرياح إذا ما أعصفت قصفت ... عيدان نجد لم يعبأ بها السلم
وأنشد أيضاً:
وما يواسيك في ما ناب من حدث ... إلا أخو ثقة فانظر بمن تثق
وفي السنة المذكورة توفي الشيخ الكبير الولي الشهير العارف بالله الخبير أبو الفيض ثوبان، وقيل الفيض بن إبراهيم المصرفي المعروف بذي النون، أحد رجال الطريقة، كان لسان هذا الشأن، وأوحد وقته علماً وورعاً وحالاً وأدباً، وكان أبوه نوبياً، سئل عن سبب توبته فقال: خرجت من مصر إلى بعض القرى، فنمت في الطريق في بعض الصحارى، ففتحت عيني فإذا أنا بقنبرة؟ عمياء سقطت من وكرها، فانشقت الأرض، فخرج منها سكرجتان إحداهما ذهب، والأخرى فضة، وفي إحداهما سم، وفي الأخرى ماء، فجعلت تأكل من هذا، وتشرب من هذا، فقلت: حسبي قد تبت، ولزمت الباب إلى أن قبلني، وكان قد سعوا به إلى المتوكل، فاستحضره من مصر، فلما دخل عليه وعظه، فبكى المتوكل، ورده مكرماً، وكان المتوكل إذا ذكر أهل الورع بين يديه يبكي ويقول: إذا ذكر أهل الورع حي هلا بذي النون.(2/111)
ومن ورعه ما ذكروا أنه أهدي إليه طعام، وهو في سجن المتوكل، فأتاه رسول السجان فحمله إليه فامتنع من أكله، فقيل له في ذلك فقال: طعام أتاني على مائدة ظالم فلا آكله، أو كما قال، ويعني بمائدة الظالم كف السجان التي حملت الطعام إليه من باب السجن.
وقال إسحاق بن إبراهيم السرخسي: سمعت ذا النون يقول وفي يده الغل وفي رجله القيد، وهو يساق إلى المطبق، والناس يبكون حوله، وهو يقول: هذا من مواهب الله وعطاياه، وكل عذب حسن طيب، ثم أنشد:
لك من قلبي المكان المصون ... كل يوم علي فيك يهون
لك عزم بأن أكون قتيلاً ... فبك الصبر عنك ما لا يكون
ولما أخرج من السجن، وأدخل على المتوكل وعظه حتى بكى وخرج من عنده مكرماً. اجتمع إليه الصوفية في الجامع في بغداد، واستأذنوه في السماع، وحضر، القوال، وأنشد شعراً:
صغير هواك عذبني ... فكيف به إذا احتنك
وأنت جمعت من قلبي ... هوى قد كان مشتركاً
فتواجد ذو النون، وسقط فأنشج رأسه. وكان يقطر منه الدم، ولا يقع على الأرض، فقام شاب يتواجد، فقال ذو النون: الذي يراك حين تقوم، فقعد الشاب. قال بعض الشيوخ: كان ذو النون صاحب إشراف، والشاب صاحب إنصاف، يعني لما قيل منه، فقعد إذ لم يكن في قيامه كامل الصدق.
ومن كلام ذي النون: من علامة المحب لله متابعة حبيب الله صلى الله عليه وآله وسلم في أخلاقه وأفعاله وأوامره وسنته.
وسئل عن التوبة فقال: توبة العوام عن الذنوب، وتوبة الخواص من الغفلة. وله من الحكايات الغريبات والكرامات العجيبات ما يتعذر حصره، ولا يليق بهذا الكتاب.
وقد ذكرت شيئاً من ذلك في الكتب اللائقة ذكره بها، المحبوبة عند أهلها، ولكني أذكر من كراماته التي هي بفضله شاهدة ها هنا كرامة واحدة وهي ما ذكر خلائق من الصالحين، ورواه عنهم كثير من العلماء العاملين أن الشيخ الكبير المشهور أبا الفيض ذا النون المذكور كان مع بعض أصحابه في البراري في وقت القائلة، فقالوا: ما أحسن هذا(2/112)
المكان لو كان فيه رطب، فقال رضي الله تعالى عنه: لعلكم تشهون الرطب، فقالوا: نعم، فقام إلى شجرة، وقال: أقسمت عليك بالذي خلقك، وابتدأك شجرة إلا ما نثرت علينا رطباً جنياً، فنثرت عليهم رطباً جنياً، فأكلوا ثم ناموا، فلما استيقظوا حركوا فنثرت عليهم شوكاً.
ست وأربعين ومائتين
فيها توفي موسى بن عبد الملك الأصفهاني صاحب ديوان الخراج. كان من جملة الرؤساء وفضلاء الكتاب، وله ديوان رسائل، وله شعر رقيق، وخدم جماعة من الخلفاء ومن شعره:
لما وردت الفارسية ... جئت مجتمع الدقاق
وشممت من أرض الحجاز ... نسيم أنفاس العراق
أيقنت لي ولمن أحب ... بجمع شمل واتفاق
وضحكت من فرح اللقاء ... كما بكيت من الفراق
ولهذه الأبيات حكاية مستظرفة ذكرها الحافظ أبو عبد الله الحميدي وغيره من مؤرخي المغاربة، وهي أن أبا علي الحسن بن الأسكري " بضم الهمزة والكاف وسكون السين المهملة بينهما وكسر الراء " المصري قال: كنت من جلساء الأمير تميم بن أبي تميم، فأرسل إلى بغداد، فاشترى له جارية رائقة فائقة الغناء، فلما وصلت إليه دعا جلساءه قال: وكنت فيهم، ثم مدت الستارة وأمرها بالغناء فغنت:
وبدا له بعدما اندمل الهوى ... بريق تألق موهناً لمعانه
الأبيات المعروفة، وأحسنت الجارية الغناء، فطرب الأمير تميم ومن حضر، ثم غنت:
ستسليك عما فات دولة مفضل ... أوأيله محمودة وأواخره
ثنى الله عطفيه وألف شخصه ... على البر مذ شذت إليه الموازره
قال فطرب تميم ومن حضر طرباً شديداً، ثم غنت بيتاً من قصيدة محمد بن رزق الكاتب البغدادي.
أستودع الله في بغداد لي قمراً ... بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
فاشتد طرب الأمير المذكور، وأفرط جداً ثم قال لها: تمني ما شئت، فقالت: أتمنى عافية الأمير وسلامته، فقال: لا والله، لا بد أن تتمني. فقالت: على الوفاء أيها الأمير بما(2/113)
أتمنى؟ فقال: نعم، فقالت: أتمنى أن أغني ببغداد قال: فامتقع لون تميم وتغير وجهه، وتكدر المجلس وقام، وقمنا، ثم أرسل إلي فرجعت فوجدته جالساً ينتظرني، فسلمت عليه، وقمت بين يديه فقال: ويحك، أرأيت ما امتحنا به؟. فقلت: نعم أيها الأمير. فقال: لا بد من الوفاء، ولا أثق في هذا بغيرك، فتأهب للسير معها إلى بغداد، فإذا غنت هناك فاصرفها، فقلت: سمعاً وطاعة، ثم قمت وتأهبت، وأمرها بالتأهب، وأصحبها جارية له سوداء، تعادلها وتخدمها، وأمر بناقة ومحمل، فأدخلت فيه، فسرنا إلى مكة مع القافلة، فقضينا حجنا، ثم دخلنا في خلنا في قافلة العراق وسرنا، فلما وردنا القادسية اتتني السوداء فقالت: تقول لك سيدتي أين نحن. فقلت لها: نزول بالقادسية. فأخبرتها فسمعت صوتها قد ارتفع بالغناء بالأبيات المذكورة، فتصايح الناس: أعيدي بالله، أعيدي بالله، فما سمع لها كلمة. ثم نزلنا " الياسرية " بالياء المثناة من تحت وكسر السين المهملة والراء وبعدها ياء النسبة. وبينها وبين بغداد خمسة أميال في بساتين متصلة ينزل الناس بها ثم يبكرون الدخول إلى بغداد، فلما كان وقت الصباح، إذا بالسوداء قد أتتني مذعورة فقلت: مالك. قالت: إن سيدتي ليست بحاضرة، فقلت: ويلك، وأين هي؟ فقالت: والله ما أدري. قال: فلم أحس لها أثراً بعد ذلك، ودخلت بغداد وقضيت حوائجي بها، ثم انصرفت إلى تميم فأخبرته خبرها، فعظم ذلك عليه واغتم لها غماً شديداً، ثم ما زال ذاكراً لها. وفي السنة المذكورة توفي الشيخ الكبير العارف بالله الإمام أحمد بن أبي الحواري، ريحانة الشام. سمع أبا معاوية وطبقته، وكان من كبار المحدثين وأجلاء الصوفية العارفين، صحب الشيخ الكبير العارف بالله الشهير أبا سليمان الداراني رحمهما الله تعالى.
ومن كلامه رضي الله تعالى عنه: من نظر إلى الدنيا نظر إرادة وحب، أخرج الله نور
اليقين والزهد من قلبه، ومن عمل بلا اتباع السنة، فعمله باطل وأفضل البكاء بكاء العبد على ما فاته من أوقاته، على غير الموافقة، وقال: ما ابتلى الله بشيء أشد من القسوة والغفلة.
وكان سيد الطائفة أبو القاسم الجنيد رضي الله تعالى عنه يقول: أحمد بن أبي الحواري ريحانة الشام. وكانت زوجته رائفة الشامية تقول له: أحبك حب الإخوان لا حب الأزواج. وكانت تطعمه الطيب وتطيبه وتقول: اذهب بنشاطك إلى أزواجك، وتقول عند تقريب الطعام إليه: كل فما نضج إلا بالتسبيح، وتقول إذا قامت من الليل:
قام المحب إلى الموصل قومة ... كاد الفؤاد من السرور يطير
وفيها توفي العباس بن عبد العظيم البصري الحافظ، أحد علماء السنة.(2/114)
سبع وأربعين ومائتين
فيها توفي إبراهيم بن سعيد الجوهري البغدادي الحافظ صاحب المسند، المخرج في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه في نيف وعشرين جزءاً.
وفي شوال منها قتل المتوكل على الله أبو الفضل جعفر بن المعتصم محمد بن الرشيد العباسي. فكتوا به في مجلس لهوه بأمر ابنه المنتصر، وهو الذي أحيى السنة وأمات البدعة، غير أنه كان فيه انهماك على اللذات والمكاره، وفيه كرم وتبذير. وكان قد عزم على خلع ابنه المنتصر من العهد وتقديم المعتز عليه لفرط محبته لأمه، وبقي يؤذيه ويتهدده إن لم ينزل عن العهد. وكان المتوكل قد صادر بعض رؤساء الدولة، فعملوا عليه، ودخل عليه خمسة بالسيوف في جوف الليل.
ثمان وأربعين ومائتين
فيها توفي الإمام العالم أبو جعفر أحمد بن صالح الطبري الحافظ. قال بعض المحدثين: كتبت عن ألف شيخ حجتي فيما بيني وبين الله رجلان أحمد بن صالح وأحمد بن حنبل رحمهما الله تعالى.
وفيها توفي الإمام الفقيه المتكلم الحسين بن علي الكرابيسي البغدادي. تفقه على الإمام الشافعي، وسمع من إسحاق الأزرق وجماعة، وكان متضلعاً من الفقه والأصول والحديث ومعرفة الرجال والكرابيس: الثياب الغلاظ. وله عدة تصانيف، وأخذ عنه الفقه خلق كثير.
وفيها توفي أمير خراسان طاهر بن عبد الله الخزاعي، والمنتصر بالله أبو جعفر محمد بن المتوكل على الله. وكانت خلافته سبعة أشهر، وعمره ستاً وعشرين سنة، وكان مهيباً مليح الصورة كامل العقل محباً في الخير، قيل أن أمراء الترك خافوه، فلما حم دسوا إلى طبيبه ابن طيفور ثلاثين ألف دينار، فقصده بريشة مسمومة، وقيل ثم نم في تكثرات، وحكي أنه قال لأمه: يا أماه، ذهبت مني الدنيا والآخرة، عاجلت أبي فعوجلت.
تسع وأربعين ومائتين
فيها توفي الحسن بن الصباح، الإمام أبو علي البرار، كان الإمام أحمد يرفع قدراً ويجله ويحترمه.(2/115)
وفيها توفي عبد بن حميد الكشي الحافظ أبو محمد صاحب المسند والتفسير.
وفيها توفي أبو حفص عمرو بن علي الباهلي البصري الصيرفي الفلاس الحافظ، أحد الأعلام. قال أبو زرعة ذلك من فرسان الحديث.
خمسين ومائتين
فيها توفي أبو الحسن أحمد بن محمد البزي المقرىء، مؤذن المسجد الحرام وشيخ الإقراء به رحمه الله تعالى.
وفيها توفي وقيل في سنة خمس وخمسين ومائتين الإمام أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني النحوي اللغوي المقرىء، صاحب المصنفات. أخذ العربية عن أبي عبيدة الأصمعي، وقرأ القرآن على يعقوب، وكتب الحديث على طائفة من المحدثين. ولما مات حاتم بلغت قيمة كتبه أربعة عشر ألف دينار، فوجه ابن السكيت من اشتراها بدون هذا قليلاً، وحابوه فيها. قال أبو حاتم المذكور: مر رجل براهب فقال له: عظني، قال: أعظكم وفيكم القرآن، ومنكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم. قال: نعم، قال: فاتعظ ببيت شعر، قاله رجل منكم:
تجرد من الدنيا فإنك إنما ... خرجت إلى الدنيا وأنت مجرد
وفيها توفي عمرو بن بحر أبو عثمان الجاحظ البصري، وقيل بل في سنة خمس وخمسين، وهنالك يأتي ترجمته إن شاء الله تعالى.
وفيها توفي أبو عمرو نصر بن علي الجهضمي البصري الحافظ، أحد أوعية العلم. كان المستعين قد طلبه ليوليه القضاء فقال لأمير البصرة. حتى أرجع، فأستخر الله، فرجع وصلى ركعتين وقال: اللهم إن كان لي عندك خيراً فأقبضني إليك، ثم نام، فنبهوه فإذا هو ميت.
وفيها توفي الخليع الحسين بن الضحاك البصري الشاعر. كان حسن الإفتنان في ضروب الشعر وأنواعه، واتصل في مجالسه الخلفاء ما لم يتصل إليه أحد إلا إسحاق بن إبراهيم النديم الموصلي، فإنه قاربه في ذلك، وقيل ساواه. وأول من صحب منهم الأمين بن هارون الرشيد ثم هلم جراً إلى المستعين. وهو في الطبقة الأولى من الشعراء المجيدين،، بينه وبين أبي نواس مجازاة لطيفة ووقائع ظريفة، وسمي خليعاً لكثرة هجوته وخلاعته، ومن شعره:
أطلب بخدي وخديك تلق عجيباً ... من معان يحار فيها الضمير(2/116)
فبخديك للربيع رياض ... وبخدي للدموع غدير
وله:
إذا اخنتم بالغيب عهدي ... تدلون إدلال المقيم على العبد
صلوا وافعلوا فعل المدل بوصله ... وإلا فصدوا وافعلوا فعل ذي الضد
وفيها توفي الفضل بن مروان، وزير المعتصم، وله ديوان شعر، ومن كلامه: الكتاب كالدولاب، إذا تعطل تكسر. وكان قد جلس يوماً لقضاء حوائج الناس، فرفعت إليه قصص العامة، فرأى في جملتها ورقة فيها مكتوب:
تفرغت يا فضل بن مروان فاعتبر ... فقبلك كان الفضل والفضل والفضل
ثلاثة أملاك مضوا لسبيلهم ... بأيديهم الإقياد والحبس والقتل
فإنك قد أصبحت في الناس ظالماً ... ستودي كما أودى الثلاثة من قبل
أراد بالثلاثة: الفضل بن يحيى البرمكي، والفضل بن الربيع، والفضل بن سهل. ثم إن المعتصم تغير على الفضل بن مروان، وقبض عليه وقال: عصى الله في طاعتي، فسلطني عليه. ثم خدم بعد ذلك جماعة من الخلفاء.
إحدى وخمسين ومائتين
فيها توفي الإمام الحافظ أبو يعقوب إسحاق بن منصور المروزي.
اثنتين خمسين ومائتين
فيها توفي المستعين بالله أبو العباس أحمد بن المعتصم محمد بن الرشيد العباسي، بويع بعد المنتصر، وكان أمراء الترك قد استولوا على الأمر، وبقي المستعين مقهوراً معهم، فتحول من سامراً إلى بغداد غضبان، فوجهوا يعتذرون إليه، ويسألونه الرجوع، فامتنع، فعمدوا إلى الحبس، وأخرجوا المعتز بالله وخلفوا له. وجاء أخوه أبو أحمد لمحاصرة المستعين، فتهيأ المستعين ونائب بغداد ابن طاهر للحرب، وبنوا سور بغداد، ووقع القتال، ونصبت المجانيق، ودام الحصار أشهراً. واشتدت البلاء وكثرت القتلى، وجهد أهل بغداد حتى أكلوا الجيف، وجرت وقعات عديدة بين الفريقين، قتل في وقعة منها نحو الألفين من البغاددة، إلى أن كلوا وضعف أمرهم، وقوي أمر المعتز بالله. ثم تخلى ابن طاهر عن المستعين لما رأى من البلاء، فكاتب المعتز، ثم سعوا في المصالح على خلع المستعين فخلع نفسه على شروط مؤكدة، ثم نفذوه إلى واسط، فاعتقل تسعة أشهر، ثم أحضر إلى(2/117)
سامراء فقتلوه بقادسية سامراء في آخر رمضان، وكان مسرفاً في تبذير الجوائز والذخائر.
وفيها توفي بندار محمد بن بشار البصري الحافظ رحمه الله تعالى.
ثلاث وخمسين ومائتين
فيها وقيل في سنة ست، وقيل إحدى وخمسين ومائتين توفي الشيخ الكبير العارف بالله الشهير ذو المقامات العلية والأحوال السنية والكرامات الخارقة والأنفاس الصادقة، حب الفضل العديد والعزم السديد والورع الشديد السري السقطي أحد أولاء الطريقة، ومعادن أسرار الحقيقة، خال الأستاذ أبي القاسم الجنيد وأستاذه وتلميذ الشيخ العارف بالله المقرب المعروف في بغداد بالترياق المجرب معروف القرخي، يقال: أن السري كان في دكان، فجاء معروف يوماً ومعه صبي يتيم فقال: اكس هذا، قال السري: فكسوته ففرح بذلك معروف وقال: بغض الله إليك الدنيا. وزاد بعضهم في روايته: وأراحك مما أنت.، فقال السري: فقمت من الدكان، وليس شيء أبغض إلي من الدنيا وكل ما أنا فيه من تركات معروف.
ويحكى أنه قال: منذ ثلاثين سنة أنا في الإستغفار من قولي مرة الحمد لله، قيل له: وكيف ذلك؟ قال: وقع ببغداد حريق فاستقبلني إنسان وقال: سلم حانوتك، فقلت: الحمد لله. فأنا نادم من ذلك الوقت على ما فعلت، حيث أردت لنفسي خيراً من الناس. وقال أبو قاسم الجنيد: دفع إلي السري رقعة وقال: هذه خير لك من سبع مائة قصة، فإذا فيها:
ولما ادعيت الحب قالت كذبتني ... فما لي أرى الأعضاء منك كواشيا
فما الحب حتى يلصق الظهر بالحشا ... وتذبل حتى لا تجيب المناديا
وتنحل حتى ليس يبقي لك الهوى ... سوى مقلة تبكي بها وتناجيا
وقال أيضاً: دخلت على السري يوماً وهو يبكي فقلت: ما يبكيك. قال: جاءتني البارحة الصبية فقالت: يا أبت، هذه ليلة حارة، وهذا الكوز أعلقه ها هنا، ثم إني حملتني، فنمت فرأيت جارية من أحسن الخلق قد نزلت من السماء، فقلت: لمن أنت. قالت: لمن لا يشرب الماء المبرد في الكيزان، وتناولت الكوز فضربت به الأرض. قال الجنيد: فرأيت الخزف المكسورة لم يرفعها حتى عفي عليه التراب، وفضائل السري ومحاسنه معروفة، وأوصافه بالجميل والجمال موصوفة قدس الله أسراره.
وفيها توفي الأمير محمد بن عبد الله بن طاهر، وصيف التركي، وكان من أكبر أمراء الدولة. وأبو جعفر أحمد بن سعيد بن صخر الدارمي السرخسي، أحد الفقهاء والأئمة في الأثر، رحمة الله عليه.(2/118)
أربع وخمسين ومائتين
فيها توفي العسكري أبو الحسن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا بر موسى الكاظم بن جعفر الصادق العلوي الحسيني. عاش أربعين سنة، وكان متعبداً فقيهاً إماماً، استفتاه المتوكل مرة، ووصله بأربعة آلاف درهم وهو أحد الأثني عشر الذين تعتظ الشيعة الغلاة عصمتهم. وكان قد سعي به إلى المتوكل، وقيل له: إن في منزله سلاحاً وكتباً، وأوهموه أنه يطلب الخلافة، فوجه من هجم عليه وعلى منزله، فوجدوه وحده في بيت مغلق، وعليه مدرعة من شعر، وعلى رأسه ملحفة من صوف، وهو مستقبل القبلة، وليس بينه وبين الأرض بساط إلا الرمل والحصى، وهو يترم بآيات من القرآن في الوعد والوعيد، فحمل إليه على الصفة المذكورة، فلما رآه عظمه وأجلسه إلى جنبه. وكان المتوكل يشرب وفي يده كأس، فناوله الكأس الذي في يده فقال: يا أمير المؤمنين، ما خامر لحمي وعظمي قط، فاعفني عنه. فعفاه، وقال له: أنشدني شعراً أستحسنه، فقال: إني لقليل الزواية للشعر. قال: لا بد أن تنشدني، فأنشده:
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم ... غلب الرجال، فلم ينفعهم القلل
واستنزلوا بعد إعراض معاقلهم ... فأودعوا حفراً يا بئس ما نزلوا
ناداهم صارخ من بعدما قبروا ... أين الأسرة والتيجان والحلل
أين الوجوه التي كانت منغمة ... من دونها تضرب الأستار والكلل
فأفصح القبر عنهم حين سائلهم ... تلك الوجوه عليها الدود يقتتل
قال: فأشفق من حضر على العسكري، وظنوا أن بادرة تبدر إليه، فبكى المتوكل بكاء طويلاً حتى بلت دموعه لحيته، وبكى من حضره، ثم أمر برفع الشراب وقال: يا أبا الحسن، أعليك دين. قال: نعم أربعة آلاف، فأمر بدفعها إليه ورده إلى منزله مكرماً. وكانت ولادته في ثالث عشر رجب، وقيل في يوم عرفة سنة أربع، وقيل ثلاث عشرة ومائتين. وقيل له العسكري: لأنه لما كثرت السباية في حقه عند المتوكل أحضره من المدينة وكان مولده بها وأقره بسر من رأى، وهي تدعى بالعسكر، لأن المعتصم لما بناها انتقل إليها بعسكره فقيل له: العسكر، ثم نسب أبو الحسن المذكور إليها، لأنه أقام بها عشرين سنة وأشهراً، وتوفي بها، ودفن في داره رحمة الله عليه.
وفيها توفي العتبي صاحب العتبة في مذهب مالك، وهو محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن عتبة الأموي العتبي القطري الأندلسي الفقيه، أحد الأعلام ببلده. أخذ عن(2/119)
يحيى بن يحيى، ورحل فأخذ بالقيروان عن سحنون، وبمصر عن أصبغ.
خمس وخمسين ومائتين
فيها خرج العلوي بالبصرة ودعا إلى نفسه، فبادر إلى إجابة دعوته عبيد أهل البصرة والسودان، ومن ثم الزنج، والتفت إليه كل صاحب فتنة حتى استفحل أمره، وهزم جيوش الخليفة واستباح البصرة وغيرها، وفعل الأفاعيل، وامتدت أيامه إلى أن قتل في سنة سبع وسبعين.
وفيها توفي الإمام الحبر أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن التميمي الدارمي، صاحب المسند المشهور، ورحل وطوف وسمع النضر بن شميل ويزيد بن هارون وطبقتهما.
وفيها قتل المعتز بالله، أبو عبد الله محمد بن المتوكل، خلعوه وأشهد على نفسه كرهاً، ثم أدخلوه بعد خمسة أيام حماماً فعطس حتى عاين الموت، وهو يطلب الماء بمنع، ثم أعطوه ماء بثلج فشربه. فسقط ميتاً. واختفت أمه وكانت ذات أموال عظيمة، منها ياقوت وزمرد وغيرهما من الجواهر، قوموها بألفي ألف دينار، ولم يكن في خزاين خلافة شيء، فطلبوا من أمه مالاً فلم تعطهم، فأجمعوا على خلعه، ولبسوا السلاح، أحاطوا بدار الخلافة، وهجم على المعتز طائفة منهم فضربوه بالدبابيس، وأقاموه في الشمس حافياً ليخلع فيه نفسه فأجاب، وأحضروا محمد بن الواثق من بغداد، فأول من بايعه معتز بالله، ولقبوا محمداً بالمهدي بالله.
وفيها توفي ذو النوادر والغرائب والظرف والعجائب من حوادث الزمان العوارض، أبو عثمان عمرو بن بحر المعروف بالجاحظ الكناني الليثي المعتزلي البصري العالم المشهور صاحب التصانيف المفيدة في فنون عديدة، له مقالة في أصول الدين، وإليه تنسب الفرقة معروفة بالجاحظية من المعتزلة، وهو تلميذ إبراهيم بن سيار البلخي المتكلم المشهور، ومن أحسن تصانيفه وأوسعها " كتاب الحيوان "، لقد جمع فيه كل غريبة، وكذلك " كتاب بيان والتبيين ". وكان مع فضائله مشوه الخليفة. وإنما قيل له الجاحظ، لأن عينيه كانتا جاحظتين، أي ناتئتين، ومن جملة أخباره أنه قال: ذكرت للمتوكل لتأديب بعض ولده، فلما رآني استبشع منظري، فأمر لي بعشرة آلاف درهم وصرفني، فخرجت من عنده ولقيت محمد بن إبراهيم يعني إبراهيم بن المهدي، وهو يريد الإنصراف إلى مدينة السلام، فعرض(2/120)
علي الخروج معه والإنحدار في حراقته، وكان بسر من رأى، فركبنا في الحراقة، فلما انتهينا إلى فم نهر القاطوع نصب ستارة، وأمر بالغناء، فاندفعت عوادة فغنت:
كل يوم قطيعة وعتاب ... ينقضي دهرنا ونحن غضاب
ليت شعري أنا خصصت بهذا ... دون ذا الخلق أم كذا الأحباب
وسكتت فأمر الطنبور فغنت:
وارحمنا للعاشقين ... ما أن أرى لهم مغنيا
كم يهجرون ويصرمون ... ويقطعون ويضربونا
قال فقالت لها العوادة: فيصنعون ماذا. قالت: هكذا يصنعون، وضربت بيدها إلى الستارة فهتكتها، وبرزت كأنها فلقة قمر، فألقت نفسها في الماء، وعلى رأس محمد غلام يضاهيها في الجمال، وبيده مذبة، فأتى الموضع ونظر إليها وهي تصير بين الماء فأنشد:
أنت التي عرفتني ... بعد القضاء لو تعلمينا
وألقى نفسه في الماء في إثرها، فأدار الملاح الحراقة، فإذا بهما معتنقين، ثم غاصاً فلم يريا، فاستعظم محمد ذلك، وهاله أمره، ثم قال: يا عمرو لتحدثني ما يسليني عن فعل هذين، وإلا ألحقتك بهما، قال: فحضرني حديث يزيد بن عبد الملك، وقد قعد للمظالم وعرضت عليه القصص، فمرت به قصة فيها: إن رأى أمير المؤمنين أن يخرج إلى جارية حتى تغني ثلاثة أصوات فعل. فاغتاظ يزيد من ذلك، وأمر أن يخرج إليه، ويأتيه برأسه، أتبع الرسول رسولاً آخر، يأمره أن يدخل إليه الرجل، فأدخله، فلما وقف بين يديه قال له: ما الذي حملك على ما صنعت؟ قال: الثقة بحلمك والإتكال على عفوك. فأمره بالجلوس حتى لم يبق أحد من بني أمية إلا خرج، ثم أمر بالجارية فأخرجت ومعها عودها، فقال له الفتى: غني:
أفاطم مهلاً بعض هذا التدلل ... وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
فغنته، فقال له يزيد: قل، قال: غني:
تألق البرق نجدياً فقلت له ... يا أيها البرق إني عنك مشغول
فغنته، قال له يزيد: قل، قال: تأمر لي برطل شراب؟ فأمر له به، فما استتم شرابه حتى وثب وصعد على أعلى قبة ليزيد ورمى نفسه على دماغه فمات. فقال يزيد: إنا لله وإنا إليه راجعون، أتراه الأحمق الجاهلي ظن أني أخرج إليه جاريتى،. وأردها إلى ملكي؟ يا غلمان، خذوا بيدها، واحملوها إلى أهله إن كان له أهل وإلا فبيعوها وتصدقوا بثمنها(2/121)
عنه. فانطلقوا بها إلى أهله، فلما توسطت الدار نظرت إلى حفرة في وسط دار يزيد قد أعدت للمطر، فجذبت نفسها من أيديهم وأنشدت:
من مات عشقاً فليمت هكذا ... لا خير في عشق بلا موت
فألقت نفسها في الحفيرة على دماغها فماتت، فسري عن محمد، وأجزل صلتي، وقال أبو القاسم السيرافي: حضرنا مجلس الأستاذ أبي الفضل ابن العميد، فجرى ذكر جاحظ، فقص عنه بعض الحاضرين وأزرى به، وسكت الوزير عنه، فلما خرج الرجل قلت: اسكت أيها الأستاذ عن هذا الرجل في قوله مع عادتك في الرد على أمثاله، فقال: لم أجد في مقابلة مقالته أبلغ من تركه على جهله، ولو وافيته وبينت له النظر في كتبه صار لك إنساناً يا أبا القاسم. فكتب الجاحظ: تعلم العقل أولاً والأدب ثانياً. ولم أستصلحه لذلك، قلت: يعني لم أره أهلاً لذلك. وكان الجاحظ في أواخر عمره قد أصابه الفالج، وكان يطلي نصفه الأيمن بالصندل والكافور لشدة حرارته، والنصف الأيسر لو قرض مقاريض لما أحس به من خدره وشدة برده. وكان يقول في مرضه: اصطلحت على جسدي الأضداد: إن أكلت بارداً أخذ برجلي، وإن أكلت حاراً أخذ برأسي. أنا من جانبي الأيسر مفلوج، لو قرض بالمقاريض ما علمت، ومن جانبي الأيمن منقرس، فلو مر به. الذباب لتألمت، وبي حصاة لا ينشرح لي البول معها، وأشد ما علي ست وتسعون سنة. وكان ينشد:
أترجو أن تكون وأنت شيخ ... كما قد كنت أيام الشباب
لقد كربتك نفس لبس ثوب ... دريس كالجديد من الثياب
وحكى بعض البرامكة قال: كنت توليت السند، فأقمت بها ما شاء الله ثم اتصل بي، انصرفت عنها وكنت قد كسبت ثلاثين ألف دينار، فخشيت أن يفجأني الصارف فيسمع بمكان المال فيطمع فيه، فصنعته عشرة آلاف أهليلجة، وكل أهليلجة ثلاثة مثاقيل. ولم يمكث الصارف أن أتى، فركبت البحر وانحدرت إلى البصرة، فخبرت أن الجاحظ بها أنه عليل بالفالج، فأحببت أن أراه قبل وفاته، فصرت إليه، فأفضيت إلى باب دار لطيف، فقرعته فخرجت إلي خادمة صفراء فقالت: من أنت. فقلت رجل غريب، وأحب أن أسر بالنظر إلى الشيخ، فبلغته الخادمة ما قلته، فسمعته يقول: قولي له: وما تصنع بشق مائل ولعاب سائل ولون حابل؟ فقلت للجارية: لا بد من الوصول إليه، فلما بلغته قال: هذا رجل اجتاز بالبصرة وسمع بعلتي فأراد الإجتماع بي ليقول: قد رأيت الجاحظ. ثم أذن لي(2/122)
فدخلت فسلمت عليه فرد علي رداً جميلاً وقال: من تكون أعزك الله تعالى؟ فانتسبت له فقال: رحم الله أسلافك وآباءك السمحاء، فلقد كانت أيامهم رياض الأزمنة، ولقد انجيز بهم خلق كثير، فسقياً لهم ورعياً. فدعوت له وقلت له: أسألك أن تنشدني شيئاً من الشعر فأنشدني:
لئن قدمت قبلي رجال، فطالما ... شئت على رسلي فكنت المقدما
ولكن هذا الدهر تأتي صروفه ... فتبرم منقوضاً وتنقض مبرما
ثم نهضت، فلما قاربت الدهليز قال: يا فتى، أرأيت مفلوجاً ينفعه الإهليلج؟ قلت لا، قال: إن الإهليلج الذي معك ينفعني، فابعث لي منه، فقلت: نعم، وخرجت متعجباً من وقوفه على خبري مع كتماني. وبعثت إليه مائة إهليلجة، وقال أبو الحسن البرمكي أنشدني الجاحظ:
وكان لنا أصدقاء مضوا ... تفانوا جميعاً فما خلدوا
سقاهم جميعاً كؤوس المنون ... فمات الصديق ومات العدو
قلت: كان المناسب لقوله: " فمات الصديق ومات العدو " أن يذكر الأعداء الأصدقاء في البيت الأول، فيقال لنا: أصدقاء مضوا مع أعداء، فيكون قوله في آخر البيت الأخير: فمات الصديق ومات العدو مطابقاً لأول الأول.
ست وخمسين ومائتين
كان صالح بن وصيف التركي قد ارتفعت منزلته، وقتل المعتز وظفر بأمه، فصادر حتى استصفى نعمتها، وأخذ منها نحو ثلاثة آلاف ألف دينار، ونفاها إلى مكة، ثم صادر خاصة المعتز وكتابه، وقتل بعضهم.
فلما دخلت السنة المذكور أقبل موسى بن بغا وعبأ جيشه، ودخلوا سامراء ملبسين مجمعين على قتل صالح بن وصيف، وهم يقولون: قتل المعتز وأخذ أموال أمه وأموال الكتاب. وصاحت العامة: يا فرعون، جاءك موسى. ثم هجم بمن معه على المهتدي وأركبوه فرساً، وانتهبوا القصر، ثم أدخلوا المهتدي دار ناجور " بالنون والجيم والراء على ما ضبطه في الأصل المنقول منه "، وهو يقول: يا موسى، ويحك ما تريد؟ فيقول: وتربة المتوكل لا ينالك سوء. ثم حلفوه لا يمالىء صالح ابن وصيف عليهم، وبايعوه فطلبوا صالحاً ليناً، ظروه على أفعاله فأخرج، وردوا المهتدي إلى داره، وبعد شهر قتل صالح.(2/123)
وفي رجب قتل المهتدي بالله أمير المؤمنين محمد بن الواثق بالله هارون بن المعتصم محمد بن الرشيد العباسي. وكانت دولته سنة، وعمره نحو ثمان وثلاثين سنة. وكان مليح، الصورة ورعاً تقياً متعبداً عادلاً شجاعاً قوياً في أمر الله تعالى خليقاً للإمارة، لكنه لم يجد ناصراً ولا معيناً على الخير. وقيل: إنه سرد الصوم مدة أمرته، وكان يقنع بعض الليالي بخبز وخل، وزيت، وكان يشبه بعمر بن عبد العزيز، وورد أنه كان له جبة صوف وكساء يتعبد، فيهما لله، وكان قد سد باب الملاهي والغناء، وحسم الأمراء عن الظلم. وكان يجلس بنفسه، لعمل حساب الدواوين، ثم إن الأتراك خرجوا عليه، فلبس السلاح وشهر سيفه وحمل عليهم فأسروه وخلعوه، ثم قتلوه إلى رحمة الله، وأقاموا بعده المعتمد على الله.
وفيها توفي أبو عبد الله الزبير المعروف بابن بكار القرشي الأسدي الزبيري كان من أعيان العلماء، تولى قضاء مكة، وصنف الكتب النافعة منها " كتاب أنساب قريش " جمع فيه كثيراً، وعليه إعتماد الناس في معرفة أنساب القرشيين. وله مصنفات غيره دلت على فضله واطلاعه. روى عن ابن عيينة ومن في طبقته، وروى عنه ابن ماجة القزويني وابن أبي الدنيا وغيرهما، وتوفي بمكة وهو قاض عليها وعمره أربع وثمانون سنة.
وفي ليلة عيد الفطر منها توفي البخاري الحافظ الإمام قدوة الأنام وعالي المقام جامع أصح الكتب المصنفة في السنن والأحكام، إمام المحدثين وشيخ الإسلام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزية البخاري مولى الجعفيين صاحب الجامع الصحيح وغيره من التصانيف، ولد سنة أربع وتسعين ومائة، ورحل سنة عشرة ومائتين، فسمع مكي بن إبراهيم وأبا عاصم النبيل وخلائق عدتهم ألف شيخ، وكتب بخراسان والجبال والعراق والحجاز والشام ومصر، وقدم بغداد فاجتمع إليه أهلها واعترفوا بفضله بفضله وشهدوا بتفرده في علم الرواية والدراية.
وحكى أبو عبد الله الحميدي في كتاب " جذوة المقتبس " والخطيب في " تاريخ بغداد " البخاري لما قدم بغداد سمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا وأعدوا له مائة حديث، متونها وأسانيدها، وجعلوا متن كل واحد لإسناد آخر، ودفعوها إلى عشرة أنفس إلى كل واحد عشرة أحاديث، وأمروهم إذا حضروا المجلس يلقون ذلك على البخاري، وعين الموعد للمجلس، فحضر المجلس جماعة من أصحاب الحديث من الغرباء من أهل خرسان وغيرها. ومن البغداديين، فلما اطمأن المجلس بأهله انتدب أو قال: ابتدر واحد لعشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث فقال البخاري: لا أعرفه، فسأله عن آخر فقال: لا أعرفه، فما زال يلقي عليه واحد بعد واحد حتى فرغ من عشرة، ثم كذلك كل واحد من العشرة جعلوا يسألونه عن الأحاديث المذكورة واحد بعد واحد والبخاري يقول: لا(2/124)
أعرفه. وكان الفقهاء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعضهم، ويقولون: الرجل منهم. وما كان منهم ضد ذلك يقضي على البخاري بالعجز والتقصير وقلة الفهم، فلما علم البخاري أنهم فرغوا التفت إلى الأول منهم وقال: أما حديثك الأول فهو كذا، وأما الثاني فهو كذا، وكذلك الثالث والرابع وباقي أحاديثه إلى تمام العشرة على الولاء، يرد كل متن إلى إسناده وكل إسناد إلى متنه. ثم كذلك فعل بكل واحد من التسعة حتى رتب المائة جميعها كل واحد منها في موضعه إسناداً ومتناً، فأقر له الناس بالحفظ فاعترفوا له بالفضل. وكان ابن صاعد إذا ذكره يقول: الكيس النطاح. ونقل الفربري عنه أنه قال: ما وضعت في كتابي الصحيح حديثاً إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين. وعنه أنه قال: صنفت كتابي الصحيح لست عشرة سنة، خرجته من ست مائة ألف حديث، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى. قلت: وسيأتي إن شاء الله تعالى أن سنن أبي داود خرجها من خمس مائة ألف حديث.
وقال الفربري: سمع صحيح البخاري يعني عليه تسعون ألف رجل، فما بقي أحد يروي عنه غيري. وممن روى عنه أبو عيسى الترمذي. وكانت ولادة البخاري يوم الجمعة بعد الصلاة لثلاث عشرة، وقيل اثنتي عشرة خلت من شوال سنة أربع وتسعين ومائة. وتوفي ليلة السبت عند صلاة العشاء ليلة عيد الفطر، ودفن يوم العيد بعد صلاة الظهر، رحمة الله عليه ورضوانه.
سبع وخمسين ومائتين
فيها وثب العلوي قائد الزنج والسودان على الأيلة، فاستباحها وأحرقها، وقتل بها نحو ثلاثين ألفاً، فساق العسكر لحربه سعيد لحاجب فالتقوا فانهزم سعيد واستحر القتل بأصحابه، ثم دخلت الزنج البصرة، وخربوا الجامع، وقتلوا بها اثني عشر ألفاً، وهرب باقي أهلها بأسوأ حال فخربت.
وفي السنة المذكورة توفي الحافظ المعمر أبو علي الحسن بن عرفة العبدي البغدادي المؤذن، وله مائة وسبع سنين. " والحافظ " زهير بن محمد المروزي ثم البغدادي كان من أولياء الله، قال البغوي: ما رأيت بعد أحمد بن حنبل أفضل منه، كان يختم في رمضان تسعين ختمة رحمة الله عليهم.
وفيها توفي الحافظ صاحب التصانيف أبو سعيد الأشجع الكندي الكوفي.(2/125)
ثمان وخمسين ومائتين
فيها توفي الإمام أبو جعفر الباقي اليامي قاضي الكوفة ثم قاضي همدان، وكان صالحاً عادلاً في أحكامه، وكان يسمى راهب الكوفة بعبادته.
وفيها توفي الحافظ أحمد بن الفرات أحد الأعلام، صنف المسند والتفسير وقال: كتبت ألف ألف حديث وخمسمائة ألف حديث.
وفيها توفي الإمام الحافظ أحد الأعلام محمد بن يحيى الذهلي النيسابوري، سمع عبد الرحمن بن مهدي وطبقته، وأكثر الترحال، وصنف التصانيف، وكان الإمام أحمد يجله ويعظمه، وقال أبو حاتم: كان إمام أهل زمانه.
وفيها توفي الشيخ العارف بحر الحكم والمعارف واعظ عصره وحكيم زمانه بحيى بن معاذ الرازي، ومن كلامه: كيف يكون زاهداً من لا ورع له. تورع عما ليس لك ثم أزهد في مالك. وكان يقول: الجوع للمريدين رياضة، وللتائبين تجربة، وللزهاد سياسة، وللعارفين مكرمة. وقال: من لم ينظر في الدقيق من الورع لم يصل الجليل من العطاء. وفي هذا المعنى قلت:
جليل العطايا في دقيق التورع ... فدقق تنل عالي المقام المرفع
وتسلم من المحظور في كل حالة ... وتغنم من الخيرات في كل موضع
وتحمد جميل السعي بالفوز في غد ... فسارع إليه اليوم مع كل مسرع
ولا تك مثلي وابناً متخلقاً ... لجوهر عمر عن شر مضيع
تسع وخمسين ومائتين
فيها استفحل أمر يعقوب بن الليث الصفار، واستولى على اقليم خراسان وأسر محمد بن طاهر أمير خراسان، وفيها توفي الإمام الحافظ محمد بن يحيى الأسفرائني شيخ الحافظ أبي عوانة.
وفيها توفي أبو عبد الله محمد بن موسى بن شاكر أحد الإخوة الثلاثة الذين ينسب إليهم حيل بني موسى، وهم مشهورون بها، وأسماء إخوانه أحمد والحسن، وكانت لهم إليهم عالية في تحصيل العلوم القديمة وكتب الأوائل. وأتعبوا أنفسهم في شأنها، وكان الغالب عليهم من علوم الهندسة والحيل والحركات والموسيقى والنجوم، وهو الأقل. ولهم في الخيل كتاب عجيب نادر، يشتمل على كل غريبة، وهو مجلد واحد، وصفه ابن خلكان بكونه ممتعاً، ومما اختصوا به في ملة الإسلام، وأخرجوه من القوة إلى الفعل، وإن كان(2/126)
أرباب الأرصاد المتقدمون قد فعلوه، لكنه لم ينقل أن أحداً من أهل هذه الملة تصدى له وفعله الأهم، وهو ما سيأتي ذكره في ترجمة الصولي في سنة خمس وثلاثين وثلاث مائة، وهو إيضاح مساحة كرة الأرض أربعة وعشرين ألف ميل استخراجاً من ارتفاع القطب، وكون كل درجة من درج الفلك يقابلها من سطح الأرض ستة وستون ميلاً وثلثا ميل بالعمل، ومشيهم في الأرض المستوية في جهة الشمال، كما سيأتي واضحاً في السنة المذكورة إن شاء الله تعالى.
ستين ومائتين
فيها صال يعقوب بن الليث، وجال، وهزم الشجعان والأبطال، وترك الناس بأسوأ حال. ثم قصدا الحسن بن زيد العلوي صاحب طبرستان، فالتقوا فانهزم العلوي، وتبعه يعقوب في تلك الجبال، فنزل على أصحاب يعقوب بلاء سماوي نزل عليهم ثلج عظيم أهلكهم، مات فيه أربعون ألفاً، فذهب عامة خيله وأمواله.
وفيها توفي الإمام أبو علي الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني الفقيه الحافظ صاحب الإمام الشافعي. روى عن ابن عيينة، وطبقته مثل وكيع بن الجراح ويزيد بن هارون، وروى عنه البخاري في صحيحه وأبو داود السجستاني والترمذي وغيرهم. والزعفراني بفتح الزاي وسكون العين المهملة وفتح الفاء والراء نسبة إلى الزعفرانة وهي قرية بقرب بغداد. ودرب الزعفراني في بغداد منسوب إلى الإمام المذكور، قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الفقهاء: وفيه مسجد الشافعي، وهو المسجد الذي كنت أدرس فيه، ولله الحمد والمنة، يعني في درب الزعفراني، وكان الزعفراني: يتولى كتب الشافعي، وهو أحد رواة أقواله القديمة. ورواتها أربعة هو والإمام أحمد بن حنبل وأبو ثور والكرابيسي ورواة أقواله الجديدة ستة، المزني والبويطي وحرملة ويونس بن عبد الأعلى، والربيع بن سليمان الجيزي، والربيع بن سليمان المرادي، وكان الزعفراني من أذكياء العلماء، وبرع في الفقه والحديث، وصنف فيها كتباً، ولزم الإمام الشافعي حتى بحر وسار ذكره في الآفاق.
وفيها توفي الشريف العسكري أبو محمد الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا بن جعفر الصادق، أحد الأئمة الإثني عشر على اعتقاد الإمامية، وهو والد المنتظر عندهم صاحب السرداب، ويعرف بالعسكري، وأبوه أيضاً يعرف بهذه النسبة. توفي في يوم الجمعة سادس ربيع الأول، وقيل ثامنه. وقيل غير ذلك من السنة المذكورة، ودفن بجنب قبر أبيه بسر من رأى، وقد تقدم ذكر سبب هذه النسبة.
وفيها توفي حنين بن إسحاق العبادي الطبيب المشهور، كان إمام وقته في صناعة(2/127)
الطب، وكان يعرف لغة اليونانيين معرفة تامة، وهو الذي عرب كتاب إقليدس، ونقله من لغة اليونانيين إلى لغة العرب، ثم نقحه ثابت بن قرة، وهذبه كما تقدم في ترجمته، وكذلك كتاب المجسطي، وأكثر كتب الحكماء والأطباء كانت بلغة اليونانيين، فعربت، وكان حنين المذكور أشد اعتناء بتعريبها من غيره، وعرب غيره أيضاً بعض الكتب، ولولا ذلك التعريب لما انتفع أحد بتلك الكتب، لعدم المعرفة بلسان اليونان. لا جرم، كل كتاب لم يعربوه باق على حالا لا ينتفع به إلا من عرف تلك اللغة، وكان المأمون مغرياً بتعريبها وتحريرها وإصلاحها، ومن قبله جعفر البرمكي وجماعة أهل بيته أيضاً، لهم بها اعتناء. لكن عناية المأمون كانت أتم وأوفر، ولحنين المذكور مصنفات في الطب مفيدة. قال ابن خلكان: ورأيت في كتاب أخبار الأطباء أن حنيناً كان في كل يوم عند نزوله من الركوب يدخل الحمام، فيصب على رأسه الماء، ويخرج فيلتف قطيفة، ويشرب قدح شراب يعني من شراب الفساق ويأكل كعكة، ويتكىء حتى ينشف عرقه وربما نام ثم يقوم ويتبخر، ويقدم له طعام فروج كبير مسمن، قد طبخ بزبرباج، ورغيف وزنه مائتا درهم، فيحس من المرقة، ويأكل الفروج والخبز وينام. فإذا انتبه شرب أربعة أرطال شراباً عتيقاً يعني من الشراب المصحح للأبدان الهادم للأديان فإذا اشتهى الفاكهة الرطبة أكل التفاح الشامي والسفرجل، وكان ذلك دأبه إلى أن مات.
إحدى وستين ومائتين
فيها توفي الحافظ أحمد بن عبد الله بن صالح العجلي الكوفي، نزيل طرابلس المغرب صاحب التاريخ والجرح والتعديل.
وفيها توفي أبو شعيب السوسي صالح بن زياد مقرىء أهل الرقة وعالمهم، قرأ على يحيى اليزيدي، وروى عن عبد الله بن نمير وطائفة، وتصدر للإقراء، وحمل عنه طائفة.
وفيها توفي الشيخ الكبير الولي الشهير العارف بالله الخبير صاحب المقام العالي المشكور والحال الحالي المشهور أبو يزيد المسمى بطيفور بن عيسى، ذو الفضل السامي الفتى المعروف بالبسطامي، قيل له: بأي شيء وجدت هذه المعرفة؟ قال ببطن جائع، وبدن عار. وقيل: ما أشد ما لقيته في سبيل الله؟ فقال: لا يمكن وصفه. فقيل: ما أهون ما لقيت نفسك منك. فقال: أما هذا فنعم، دعوتها إلى شيء من الطاعات فلم تجب، فمنعتها الماء سنة. وكان يقول: لو نظرتم إلى رجل أعطى من الكرامات حتى يرتفع في الهوى، فلا تعتبروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وآداب الشريعة. وله مقالات علية، وكرامات سنية، ومجاهدات عظيمة، وشيم كريمة. توفي سنة إحدى، وقيل أربع وستين ومائتين.(2/128)
وبسطام بفتح الموحدة وسكون السين وبالطاء المهملتين وبعد الألف ميم بلدة مشهورة من أعمال قومس. ويقال أنه أول بلاد خراسان من جهة العراق والله أعلم ومن جلالته وعظم هيبته قضية مشهورة مع الشاب الذي قال له أبو تراب: لو رأيت أبا يزيد وقد ذكرتها في غير هذا الكتاب ومختصرها أنه لما رآه وقد خرج من غيضة مات الشاب، فقال أبو تراب لأبي يزيد: قتلت صاحبنا. فقال: لا، بل كان صاحبكم صادقاً، وكان مستوراً عنه حاله، فلما رآنا تجلى له حاله في مرآتنا، فلم يطق حمل بطاقة فمات. فقال أبو يزيد: أقمت في الزهد ثلاثة أيام، زهدت في اليوم الأول في الدنيا، وزهدت في اليوم الثاني في الآخرة، وزهدت في اليوم الثالث فيما سوى الله تعالى.
وفي السنة المذكورة توفي الإمام الحافظ مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، أحد أركان الحديث، وصاحب الصحيح وغيره. ومناقبه مشهورة، وسيرته مشكورة. رحل إلى العراق والحجاز والشام ومصر، وسمع يحيى بن يحيى النيسابوري، وأحمد بن حنبل. وإسحاق بن راهويه، وعبد الله بن مسلمة القعنبي وغيرهم، وقدم بغداد غير مرة، وروى عنه أهلها، وروي عنه أنه قال: صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة. وقد اختلف أئمة الحديث المتأخرون في تفضيل الصحيحين، فالأكثرون منهم فضلوا صحيح البخاري على صحيح مسلم، وبعضهم فضلوا صحيح مسلم، حتى قال أبو علي النيسابوري: ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم في علم الحديث. قلت: والمعروف أن كتاب البخاري أفقه، وكتاب مسلم أحسن سياقاً للروايات.
وقال الخطيب البغدادي: كان مسلم يناضل البخاري حتى أوحش ما بينه وبين محمد بن يحيى الذهلي بسببه، وقال أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ: لما استوطن البخاري بنيسابور أكثر مسلم من الإختلاف إليه، فلما وقع بين محمد بن يحيى والبخاري ما وقع في مسألة اللفظ نادى عليه، ومنع الناس من الإختلاف إليه حتى هجر وخرج من نيسابور. في تلك المحنة قطعه أكثر الناس غير مسلم، فإنه لم يتخلف عن زيارته، فأنهي إلى محمد بن يحيى أن مسلم بن الحجاج على مذهبه قديماً وحديثاً لم يرجع عنه. فقال: في مجلسه إلا من قال باللفظ: فلا يحل له أن يحضر مجلسنا. وأخذ مسلم الرداء فوق عمامته، وقام على رؤوس الناس، وخرج من مجلسه. وجمع كل ما كان كتب منه، وبعث به على ظهر حمال إلى باب محمد بن يحيى، فاستحكمت بذلك الوحشة، وتخفف عنه وعن زيارته.(2/129)
اثنتين وستين ومائتين
فيها لما عجز المعتمد على الله عن يعقوب بن الليث، كتب إليه بولاية خراسان وجرجان، فلم يرض يوافي باب الخليفة، وأضمر في نفسه الإستيلاء على العراق. وخاف المعتمد، فتحول عن سامراء إلى بغداد، وجمع أطرافه وتهيأ للملتقى. وجاء يعقوب في سبعين ألف فارس، فنزل واسط، فتقدم المعتمد، وقصده يعقوب، وقدم المعتمد أخاه الموفق يجهز الجيش، فالتقيا في رجب. واشتد القتال فوقعت الهزيمة على الموفق، ثم ثبت وشرعت الكسرة على أصحاب يعقوب، فولاه الأدبار واستبيح عسكرهم. وكسب أصحاب الخليفة ما لا يحد ولا يوصف، وخلصوا محمد بن طاهر الذي كان مع يعقوب في القيود، ودخل يعقوب إلى فارس، وخلع المعتمد على محمد بن طاهر أمير خراسان، ورده على عمله وأعطاه خمسمائة ألف درهم. وفي السنة المذكورة توفي الحافظ أحد الأعلام يعقوب بن شيبة الدوسي، صاحب المسند المعلل الذي ما صنف أحد أكبر منه، ولم يتمه.
ثلاث وستين ومائتين
فيها توفي الحافظ محمد بن علي بن ميمون الرقي العطار. قال الحاكم: كان إمام أهل الجزيرة في عصره.
والحسن بن أبي الربيع الجرجاني الحافظ.
والوزير عبد الله بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل.
أربع وستين ومائتين
وفيها أغارت الزنج على واسط، وهرب أهلها حفاة عراة، ونهبت ديارهم، وأحرقت فسار لحربهم الموفق.
وفيها غزا المسلمون الروم، وكانوا أربعة آلاف عليهم ابن كافور فلما نزلوا بعض المنازل تبعهم البطارقة وأخدقوا بهم، فلم ينج منهم إلا خمسمائة، واستشهد الباقون.
وفيها توفي أحمد بن يوسف السلمي النيسابوري الحافظ. كان ممن رحل إلى اليمن، وأكثر عن عبد الرزاق وطبقته، وكان يقول: كتبت عن عبد الله بن موسى ثلاثين ألف حديث.(2/130)
وفيها توفي أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم القرشي مولاهم الرازي الحافظ، الأئمة الأعلام، في آخر يوم من السنة. رحل وسمع من أبي نعيم والقعنبي وطبقتهما. قال أبو حاتم: لم يخلف بعده مثله علماً وفقهاً وصيانة وصدقاً. وهذا ممن لا يرتاب فيه، ولا أعلم من المشرق والمغرب من كان يفهم هذا الشأن مثله. وقال إسحاق بن راهويه: " حديث لا يحفظه أبو زرعة ليس له أصل.
وفيها توفي الإمام أبو موسى يونس بن عبد الأعلى المصري الفقيه المقرىء المحدث. روى عن ابن عيينة وابن وهب، وتفقه على الشافعي، وأخذ عنه الحديث. وكان الشافعي يصف عقله ويقول: ما رأيت بمصر أعقل منه، وقرأ القرآن على ورش، وتصدر للإقراء والفقه، وكان ورعاً صالحاً عابداً كبير الشأن، وروى القراءة عنه من الأئمة جماعة منهم محمد بن إسحاق بن خزيمة، ومحمد بن جرير الطبري الإمامان الجليلان وغيرهما وكان محدثاً جليلاً من أفاضل أهل زمانه، وكان من العقلاء، ذكر ذلك عنه أبو عبد الله القضاعي، وروى غير القضاعي أن يونس روى عنه الإمام مسلم بن الحجاج القشيري، وأبو عبد الرحمن النيسابوري، وأبو عبد الله بن ماجة وغيرهم من أئمة الحديث الكبار. وقال قاضي مصر محمد بن الليث: لما عزم القاضي بكار لما ولي، وقد استشاره في من يشاوره عليك برجلين: أحدهما عاقل وهو يونس بن عبد الأعلى، فإني سعيت في دمه، فقدر فحقن دمي. والآخر أبو هارون موسى بن عبد الرحمن بن القاسم، فإنه رجل زاهد، فقال بكار: صف لي الرجلين، فوصفهما، فلما دخل مصر ودخل عليه الناس عرفهما فرفهما وقيل: إن موسى المذكور اختص به القاضي بكار، وكان يتبرك به لزهده، فقال له يوماً: أبا هارون، من أين المعيشة؟. فقال: من وقف وقفه أبي، فقال له بكار: يكفيك، قال: تكفيت به. وقال: قد سألني القاضي فأريد أن أسأله، قال: سل، قال: هل ركب القاضي دين بالبصرة حتى تولى بسببه القضاء؟ قال: لا. قال: فهل رزق ولداً أحوجه إلى ذلك قال: لا، ما نكحت قط. قال: فلك عيال كثير؟. قال: لا، قال: فهل أجبرك السلطان وعرض عليك العذاب وخوفك؟ قال: لا. قال: فضربت آباط الإبل من البصرة لغير حاجة ولا ضرورة. قال: لله علي، لا دخلت عليك أبداً، فقال: يا أبا هارون، أقلني، قال: أنت بدأت بالمسألة ولو سكت لسكت، ثم انصرف عنه ولم يعد إليه بعدها.
وقال يونس: قال لي الشافعي: دخلت بغداد؟ فقلت: لا، فقال: ما رأيت الدنيا، ولا رأيت الناس.. وتوفي يونس بمصر، ودفن بالقرافة.(2/131)
وفيها توفي الفقيه الإمام أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني المصري الشافعي.
وكان زاهداً عابداً مجتهداً محجاجاً غواصاً على المعاني الدقيقة، اشتغل عليه خلق كثير، وقال الشافعي في صفة المزني: ناصر مذهبي. وهو إمام الشافعيين وأعرفهم بطريق الشافعي وفتاواه وما ينقله عنه. صنف كتباً كثيرة منها: " الجامع الكبير "، و " الجامع الصغير "، و " مختصر المختصر "، و " المنثور "، و " المسائل المعتبرة "، و " الترغيب في العلم "، " وكتاب الوثائق "، وغير ذلك. وكان إذا فرغ من مسألة وأودعها مختصره قام إلى المحراب، وصلى ركعتين شكراً لله تعالى. وقال أبو العباس بن شريح: يخرج مختصر المزني من الدنيا عذراء لم تفتض. وهو أصل الكتب المصنفة في مذهب الشافعي، وعلى مثاله رتبوا وبكلامه فسروا وشرحوا.
ولما ولي القضاء بكار بن قتيبة بمصر، وجاءها من بغداد، وكان حنفي المذهب، توقع الإجتماع بالمزني مئة فلم يتفق، واجتمعا يوماً في صلاة جنازة فقال القاضي بكار لبعض أصحابه: سل المزني شيئاً حتى أسمع كلامه، فقال له ذلك الشخص: يا أبا إبراهيم، قد جاء في الحديث تحريم النبيذ، وجاء تحليله، فلم قدمتم التحريم على التحليل؟. فقال المزني: لم يذهب أحد من العلماء إلى أن النبيذ كان حراماً في الجاهلية ثم حلل، ووقع الإتفاق على أنه كان حلالاً، فهذا يعضد صحة الأحاديث بالتحريم، فاستحسن ذلك منه وقيل: وهذا من الأدلة القاطعة.
وكان في غاية من الورع، وبلغ من احتياطه أنه كان يشرب في جميع فصول السنة من
كوز نحاس، فقيل له في ذلك فقال: بلغني أنهم يستعملون السرجين في الكيزان، والنار لا بطهر ذلك، وقيل: إنه إذا كان فاته الصلاة في جماعة، صلى منفرداً خمساً وعشرين صلاة استدراكاً لفضيلة الجماعة، مستنداً في ذلك إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين درجة "، وكان من الزهد على طريقة صعبة شديدة، وكان مجاب الدعوة، ولم يكن أحد من أصحاب الشافعي يحدث نفسه قدم عليه في شيء من الأشياء، وهو الذي تولى غسل الشافعي، وقيل: كان معه أيضاً الربيع، ومناقبه كثيرة. والمزني نسبة إلى مزينة بنت كلب، وفاته لست بقين من رمضان، ودفن بالقرب من تربة الشافعي بالقرافة الصغرى رحمة الله عليهما.
خمس وستين ومائتين
فيها توفي الشيخ الكبير العارف بالله الشهير أبو حفص الحداد النيسابوري، شيخ(2/132)
خراسان. كان كبير الشأن صاحب أحوال وكرامات وسمو في المقامات، وكان عجباً في الجود والسماحة. ويقول: ما استحق اسم السخاء من ذكر العطاء، أو لمحه بقلبه. وقد نفد مرة بضعة عشر ألف دينار يستفك بها أسارى، وبات وليس له عشاء، ومن كلامه: حسن أدب الظاهر عنوان حسن أدب الباطن. والفتوة أداء الإنصاف، وترك مطالبة الإنتصاف. وقال: من لم يزن أفعاله وأحواله كل وقت بالكتاب والسنة، ولم يتهم خواطره، فلا تعده في ديوان الرجال.
وفيها توفي محمد بن الحسن العسكري بن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق العلوي الحسيني، أبو القاسم الذي تلقبه الرافضة بالحجة وبالقائم وبالمهدي وبالمنتظر، وبصاحب الزمان. وهم ينتظرون ظهوره في آخر الزمان من السرداب، وهو عندهم خاتم الأثني عشر الإمام. وضلال الرافضة ما عليه مزيد، فإنهم يزعمون أنه داخل السرداب الذي بسر من، رأى، وأمه تنظر إليه، فلم يخرج إليها، وذلك في سنة خمس وستين، وقيل ست وخمسين ومائتين وهو الأصح، فاختفى إلى الآن، وكان عمره لما عدم تسع سنين، وقيل أربع سنين، وقيل غير ذلك في سنه، وفي السنة التي عدم فيها. وهم ينتظرون ضالته منذ خمس مائة سنة، وما وجدوها ولا يجدونها.
قلت: والمهدي الذي وردت به الأخبار، اسمه محمد بن عبد الله، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: " يواطي اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي "، وقد أوضحت فساد مذهبهم، وما هم عليه من الضلالة والخرافات والمحال في " كتاب المرهم في علم الأصول ".
وفي السنة المذكورة توفي الإمام العلامة محمد بن سحنون المغربي المالكي، مفتي القيروان، تفقه على أبيه، وكان بارعاً مناظراً كثير التصانيف، معظماً بالقيروان، خرج له عدة أصحاب، وما خلف بعده مثله.
وفيها توفي يعقوب بن الليث الصفار الذي غلب على بلاد المشرق، وهزم الجيوش. وقام بعده أخوه عمرو بن ليث، وكانا شابين صفارين فيهما شجاعة مفرطة، فصحبا صالح بن النضر الذي كان يقاتل الخوارج بسجستان، فآل أمرهما إلى الملك، ولما مات يعقوب قام بعده أخوه بالعدل والدخول في طاعة الخليفة، وامتدت أيامه. وكان موت يعقوب بالقولنج. وكتب على قبره: هذا قبر يعقوب المسكين. وقيل أن الطبيب قال: لا دواء لك إلا الحقنة، فامتنع منها وخلف أموالاً عظيمة من الذهب ألف ألف دينار ومن المراهم خمسين، ألف درهم.(2/133)
ست وستين ومائتين
فيها توفي الحافظ أحد أذكياء المحدثين أبو إسحاق إبراهيم بن أرومة الأصفهاني.
وفيها توفي محمد بن شجاع فقيه العراق، وشيخ الحنفية. تفقه بالحسن بن زياد اللؤلؤي، وصنف واشتغل، وتوفي ساجداً في صلاة العصر، وله نحو من تسعين سنة، رحمة الله عليه.
سبع وستين ومائتين
فيها برز قائد الزنج في ثلاثمائة ألف فارس وراجل، والمسلمون في خمسين ألفاً، وفصل النهر بين الجيشين، فلم يقع بينهم واقعة. وكان قبل ذلك قد هزم الموفق الزنج وقائدهم العلوي غائب عنهم فلما جاءته الأخبار بهزيمة جنوده إختلف إلى الكنيف مراراً وتقطعت كبده.
وفيها توفي يحيى بن محمد بن عبد الله الذهلي الحافظ شيخ نيسابور بعد أبيه، وكان أمير المطوعة المجاهدين.
وفيها توفي الحافظ أبو بشر إسماعيل بن عبد الله العبدي الأصفهاني.
ثمان وستين ومائتين
فيها توفي الحافظ أبو الحسن أحمد بن سيار المروزي، مصنف تاريخ مرو، وكان يشبه في عصره بابن المبارك علماً وزهداً، وكان صاحب وجه في مذهب الشافعي، أوجب الأذان للجمعة، والحافظ عيسى بن أحمد العسقلاني.
وفيها توفي الإمام أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري مفتي الديار المصرية، تفقه بالشافعي وأشهب، وروى عن ابن وهب وغيره من أصحاب الإمام مالك، فلما قدم الإمام الشافعي مصر، صحبه وتفقه عليه، وحمل في المحنة إلى القاضي أحمد بن أبي دؤاد الإيادي في بغداد، فلم يجب إلى ما طلب منه، فرد إلى مصر، وانتهت إليه الرئاسة بها. روى عنه أبو عبد الرحمن النسائي في سننه. وقال المزني: قال الشافعي: رددت لو أن لي ولداً مثله وعلي ألف دينار لا أجد لها قضاء.
وحكى عن محمد المذكور قال: كنت أتردد إلى الشافعي، فاجتمع قوم من أصحابنا(2/134)
إلى أبي، وكان على مذهب مالك، فقالوا:. يا أبا محمد، إن محمداً ينقطع إلى هذا الرجل، ويتردد إليه الناس، إن هذا رغبة عن مذهب أصحابنا، فجعل أبي يلاطفهم ويقول: هو حدث، ويحب النظر في اختلاف أقاويل الناس ومعرفة ذلك، ويقول: لي في السر: يا بني، الزم هذا الرجل، فإنك لو جاوزت هذا البلد فتكلمت في مسائل، فقلت فيها: قال أشهب، لقيل لك من أشهب. قال: فلزمت الشافعي، فلما قدمت بغد، قلت في مسألة: قال أشهب عن مالك، فقال القاضي بحضرة جلسائه كالمنكر: ما أعرف أشهب قال: ابن خزيمة، ما رأيت أعرف بأقاويل الصحابة والتابعين منه. وقال غيره: له مصنفات كثيرة.
تسع وستين ومائتين
توفي إبراهيم بن منقذ الخولاني المصري صاحب ابن وهب وتوفي الأمير عيسى بن شيخ الذهلي، وكان قد ولي دمشق، فأظهر الخلاف، وأخذ الخزائن، وغلب على دمشق، فجاء عسكر المعتمد، فالتقاهم ابنه ووزيره، فهزموا، فقتل ابنه، وصلب وزيره، وهزم عيسى، ثم استولي على آمل وديار بكر مدة.
سبعين ومائتين
فيها التقى المسلمون وقائد الزنج الخبيث، واجتمع مع الموفق نحو ثلاث ألف مقاتل، فالتقى الخبيث إلى جبل، ثم تراجع هو وأصحابه إلى مدينتهم، فحاربهم المسلمون فانهزم الخبيث وأصحابه، وتبعهم أصحاب الموفق يقتلون ويأسرون، ثم استقبل هو وفرسانه، وحملوا على الناس فأزالوهم، فحمل عليه الموفق والتحم القتال، فإذا بفارس قد أقبل ورأس الخبيث في يده، فلم يصدقه الموفق، فعرفه جماعة من الناس، فحينئذ ترتجل الموفق وابنه المعتضد والأمراء، فخروا سجداً لله، وكبروا، وسار الموفق فدخل بالرأس بغداد، وعملت القباب " بالموحدة أو قال القنان بالنون " وكان يوماً مشهوداً، وشرعوا يتراجعون الأمصار التي أخذها الخبيث. وكانت أيامه خمس عشرة سنة، قال بعض المؤرخين: قتل من المسلمين ألف ألف وخمس مائة ألف، وقتل في يوم واحد بالبصرة ثلاثمائة ألف، وكان الخبيث خارجياً يسب عثمان وعلياً ومعاوية وعائشة، رضي الله تعالى عنهم، وقيل كان زنديقاً يتستر بمذهب الخوارج.(2/135)
وفي السنة المذكورة توفي أمير الديار المصرية والشامية: أبو العباس أحمد بن طولون، وكان له أربعة عشر ألف مملوك، وكان كريماً جواداً شجاعاً مهيباً حازماً لبيباً، كان المعتز بالله قد ولاه مصر، ثم استولي على دمشق والشام أجمع وأنطاكية والثغور في مدة استعمال الموفق ابن المتوكل، وكان نائباً عن أخيه المعتمد على الله. وكان ابن طولون المذكور حسن السيرة ناقد البصيرة، يباشر الأمور بنفسه، ويعمر البلاد، ويتفقد أحوال الرعايا، ويصلح الفساد، ويحب أهل العلم ويحسن فيهم الإعتقاد. وكانت له مائدة يحضرها الخاص والعام في كل يوم من الأيام، وكان له في كل شهر ألف دينار للصدقة، فقال له وكيله: تأتيني المرأة وعليها الإزار وفي يدها خاتم الذهب، فتطلب مني فأعطيها، فقال، من مد يده إليه فاعطه، قال القضاعي: وكان طائش السيف، فأحصي من قتله صبراً ومن مات في سجنه، فكان عددهم ثمانية عشر ألفاً، وكان يحفظ القرآن الكريم، وكان كثير التلاوة حسن الصوت، وكان أبوه من مماليك المأمون. ملك أبو العباس المذكور الديار المصرية ست عشرة سنة، وبنى الجامع المنسوب إليه بين القاهرة ومصر في سنة تسع وخمسين ومائتين، على ما حكاه الفرغاني. وذكر القضاعي أنه شرع في عمارته في سنة أربع وستين، وفرغ منه في ستة وستين ومائتين، وأنفق على عمارته مائة ألف وعشرين ألف دينار، على ما حكاه بعضهم. وطولون بسكون الواوين وضم اللام بينهما والطاء المهملة وفي آخره نون وهو اسم تركي.
وفيها توفي أبو محمد الربيع بن سليمان المرادي مولاهم المؤذن المصري، صاحب الإمام الشافعي، روى أكثر كتبه القائل في حقه الشافعي: الربيع راويتي. وقال: ما أخذ مني أحد ما أخذ مني الربيع. وكان يقول له: يا ربيع، لو أمكنني أن أطعمك العلم لأطعمتك. وحكى الخطيب في تاريخه قال الربيع بن سليمان المرادي: كنا جلوساً بين يدي الشافعي، أنا والبويطي والمزني، فنظر إلى البويطي وقال: ترون هذا، إنه لن يموت إلا في الحديدة، ثم نظر إلى المزني فقال: ترون هذا، أما أنه سيأتي عليه زمان لا يفسر شيئاً فيخبطه، ثم نظر إلي وقال: إنه ما في القوم أحد أنفع لي منه، ولوددت أني حسوته العلم.
وفي رواية أخرى أنه قال لإبن عبد الحكم: وأما أنت يا فلان، فسترجع إلى مذهب مالك، والربيع هذا آخر من روى عن الشافعي بمصر، توفي في عشرة المائة، وكان إماماً ثقة صاحب حلقة بمصر. قال ابن خلكان: رأيت بخط الحافظ عبد العظيم المنذري شعراً للربيع(2/136)
المذكور وهو:
صبراً جميلاً ما أسرع الفرجا ... من صدق الله في الأمور نجا
من خشي الله لم ير له أذى ... ومن رجا الله كان حيث رجا
وفيها توفي أبو محمد الربيع بن سليمان الجيزي صاحب الإمام الشافعي، لكنه كان قليل الرواية عنه، وكان ثقة. روى عنه أبو داود والنسائي. وتوفي في ذي الحجة من السنة المذكورة بالجيزة، وقبره بها كذا قاله القضاعي.
وفيها توفي داود بن علي الفقيه، الإمام الأصبهاني الظاهري صاحب التصانيف، سمع القعنبي وسليمان بن حرب وطبقتهما، وتفقه على أبي ثور وابن راهوية وكان زاهداً وناسكاً متقللاً كثير الورع، وكان من كثر الناس تعصباً للإمام الشافعي، وصنف في فضائله والثناء عليه كتابين، وكان صاحب مذهب مستقل بنفسه، وتبعه جمع كثير يعرفون بالظاهرية. وكان ولده أبو بكر على مذهبه، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى وانتهت إليه رياسة العلم ببغداد، وقيل: كان يحضر مجلسه أربعمائة طيلسان أخضر، قال داود: حضر مجلسي يوماً أبو يعقوب البويطي، وكان من أهل البصرة، وعليه أخرقتان، فتصدر لنفسه من غير أن يجلسه أحد، وجلس إلي جانبي وقال: سل عما بدا لك؟. فكأني أغضبت منه فقلت له مستهزئاً: أسألك عن الحجامة، فبرك، ثم روى طريق " أفطر " الحاجم والمحجوم ومن أرسله ومن أسنده ومن وقفه، ومن ذهب إليه من الفقهاء. وروى اختلاف طريق احتجام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأعطى الحجام أجره، ولو كان حراً، ما لم يعطه. وروى بطريق أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم احتجم بقرن، وذكر الأحاديث الصحيحة في الحجامة، ثم ذكر الأحاديث المتوسطة. مثل: ما مررت بملأ من الملائكة، ومثل: شفاء أمتي في ثلاث، وذكر الأحاديث الضعيفة مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تحتجموا يوم كذا ولا ساعة كذا. ثم ذكر ما ذهب إليه أهل الطب من الحجامة في كل زمان، وما ذكروه فيها، ثم ختم كلامه بأن قال: أول ما خرجت الحجامة من أصفهان. فقلت له: والله لا أحقرن بعدك أحداً أبداً. وكان داود من عقلاء الناس، قال أبو العباس ثعلب في حقه: كان عقل داود كثر من علمه. وتوفي في ذي القعدة، وقيل في شهر رمضان، وقال ولده أبو بكر: رأيت أبي في المنام فقلت: ما فعل الله بك. فقال: غفر لي وسامحني. فقلت: غفر لك، فبم سامحك. فقال: يا بني، الأمر عظيم، والويل كل الويل لمن لم يسامح.
وفيها توفي محمد بن إسحاق الصاغاني البغدادي الحافظ الحجة.(2/137)
وفيها توفي القاضي بكار بن قتيبة الثقفي، يرجع في نسبه إلى الحارث بن كلدة الثقفي الصحابي، كان بكار حنفي المذهب، تولى القضاء بمصر، وله مع ابن طولون صاحب مصر وقائع، وكان يدفع إليه كل سنة ألف دينار، غير المقرر له، فيتركها بختمها، ولا يتصرف فيها، فدعاه إلى خلع الموفق ابن المتوكل من ولاية العهد، وهو والد المعتضد، فامتنع القاضي بكار من ذلك، فاعتقله ابن طولون، ثم طالبه بجملة المبلغ الذي كان يأخذه كل سنة، فحمله إليه بختمه، وكان ثمانية عشر كيساً، فاستحيي أحمد منه، وكان يظن أنه أخرجها، وأنه يعجز عن القيام بها، فلهذا طالبه، وأمره أن يسلم القضاء إلى محمد بن شاذان الجوهري، ففعل وجعله كالخليفة له، وبقي مسجوناً مدة سنين، وكان يحدث في السجن من طاق فيه، بعد أن استأذن أصحاب الحديث، وشكوا إلى ابن طولون انقطاع السماع، وكان ابن بكار أحد البكائين والتالين لكتاب الله عز وجل، وكان إذا فرغ من الحكم حاسب نفسه، وعرض عليه القصص التي حكم فيها، ويقول: يا بكار ما يكون جوابك غداً؟. وتوفي مسجوناً وهو باق على القضاء رحمة الله عليه.
إحدى وسبعين ومائتين
كان ابن طولون قد خلع الموفق من ولاية العهد ومات، وقام بعده ابنه خمارويه على ذلك، فجهز الموفق ولده أبا العباس المعتضد في جيش كثير، وولاه مصر والشام. فسار حتى نزل بفلسطين، وأقبل خمارويه، فالتقى الجمعان بفلسطين، وحمي الوطيس، حتى جرت الأرض بالدماء، ثم انهزم خمارويه إلى مصر، ونهبت خزائنه، وكان سعد الأعسر كميناً لخمارويه، فخرج على المعتضد وجيشه، وهم غازون، فأوقعوا به، فانهزموا حتى وصلوا طرسوس في نفر يسير، وذهبت أيضاً خزائنه، حواها سعد وأصحابه.
وفي السنة المذكورة توفي عباس بن محمد الحافظ أبو الفضل مولى بني هاشم. ومحمد بن حماد الظهراني الرازي الحافظ. ويوسف بن سعيد الحافظ محدث المصيصة.
وفيها توفيت بوران بنت الحسن بن سهل، زوجة المأمون، وقد تقدم ذكر زواجها منه، وما عمل أبوها من الولائم والنثار والإنفاق في عرسها في سنة اثنتين ومائتين، ولم تزل(2/138)
في صحبة المأمون إلى أن توفي عنها سنة ثمان عشرة ومائتين، وعاشت بعده إلى إحدى وسبعين ومائتين، وعمرها ثمانون سنة.
اثنتين وسبعين ومائتين
فيها توفي الحافظ أبو معين الرازي، الحسين بن الحسن. والحافظ سليمان بن يوسف محدث حران وشيخها. وأبو معشر المنجم، وكان بارعاً في فنه ماهراً فيه. وله عدة تصانيف، وكانت له إصابات عجيبة. حكي أنه كان متصلاً بخدمة بعض الملوك، وأن ذلك الملك طلب رجلاً من أكابر دولته ليعاقبه، فاستخفى، وعلم أن المنجم المذكور يدل عليه بالطريق الذي يستخرج به الخبايا، فأراد أن يعمل شيئاً لا يهتدي إليه، فأخذ طشتاً وعمل فيه دماً، وجعل في الدم هاون ذهب. وقعد على الهاون أياماً. وبالغ في طلبه الملك، فلم يجده، وعند العجز أحضر المنجم وسأله عن موضعه، فعمل العمل الذي يستخرج به في العادة، وسكت زماناً حائراً، فقال له الملك: ما سبب سكوتك وحيرتك. قال: أرى شيئاً عجباً، قال: وما هو؟ قال: أرى المطلوب على جبل من ذهب، والجبل في بحر من دم، ولا أعلم في العالم موضعاً على هذه الصفة. فقال له: أعد نظرك وجد، فأخذ الطالع، وفعل ثم قال: ما أراه إلا كما ذكرت. فلما أيس الملك من القدرة عليه بهذه الطريق، ناس في البلد بالأمان للرجل ولمن أجاءه. فلما وثق بأمانه ظهر وحضر، فسأله عن الموضع الذي كان فيه، فأخبره، فأعجبه حسن احتياله، ولطافة المنجم في استخراجه والفقيه الأديب الأوحد، أحد أوعية العلم محمد بن عبد الوهاب العبدي النيسابوري. والحافظ محمد بن عوف الطائي محدث حمص.
وفيها توفي سليمان بن وهب، كان شاعراً بليغاً مرسلاً فصيحاً، وله ديوان رسائل، وقد مدحه أبو تمام والبحتري، وحكي أنه بلغه يوماً أن الواثق نظر إلى أحمد بن الخطيب الكاتب فأنشد:
من الناس إنسانان ديني عليهما ... مليحان لو شاءا لقد صدقاني
خليلي أما أم عمر فإنها ... وأما عن الأخرى فلا تسألاني
فقال أحمد بن الخصيب بن عمرو، وأما الآخر فأنا. وكذلك كان. فإنه يكتبهما بعد أيام، ولما تولى سليمان بن وهب الوزارة وقيل تولاها ابنه عبد الله بن سليمان، كتب إليه عبد الله بن عبد الله بن طاهر:(2/139)
أبي دهرنا إسعافنا في نفوسنا ... وأسعفنا فيمن تحب وتعظم
فقلت له: نعماك فيهم أتمها ... ودع أمرنا إن المهم المقدم
ثلاث وسبعين ومائتين
فيها توفي حنبل بن إسحاق أبو علي الحافظ ابن عم الإمام أحمد وتلميذه.
والحافظ الكبير محمد بن يزيد بن ماجة القزويني، صاحب السنن والتفسير والتاريخ.
كان إماماً في الحديث، عارفاً بعلومه وجميع ما يتعلق به، ارتحل إلى العراق والبصرة والكوفة وبغداد ومكة والشام ومصر والري لكتب الحديث. وكتابه في الحديث أحد الكتب الستة التي هي أصول الحديث وأمهاته. قلت: هكذا قال الذهبي: وهو مذهب بعض المحدثين ومذهب بعضهم، وبه قال الشيخ محيي الدين النواوي رحمه الله، إن أمهات الحديث خمسة: صحيحا البخاري ومسلم، وسنن أبي داود والترمذي والنسائي. والذين قالوا هي ستة اختلفوا، فبعضهم يقول: السادس هي سنن ابن ماجة المذكور، وبعضهم يقول هو الموطأ.
وفيها توفي صاحب الأندلس محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام الأمير الأموي، وكانت ولايته خمساً وثلاثين سنة، وكان فقيهاً عالماً فصيحاً مفوهاً، رافعاً لعلم الجهاد، قال الإمام الحافظ، بقي بن مخلد: ما رأيت ولا سمعت أحداً من الملوك أفصح منه ولا أعقل، وقال أبو مظفر ابن الجوزي: وهو صاحب وقعة وادي سليط التي لم يسمع بمثلها، يقال أنه قتل فيها ثلاثمائة ألف فارس.
أربع وسبعين ومائتين
فيها توفي خلف بن محمد الواسطي الحافظ، وعبد الملك بن عبد الحميد الفقيه الميموني. ومحمد بن عيسى المدايني رحمة الله عليهم.
خمس وسبعين ومائتين
فيها توفي أبو بكر المروزي، وكان أجل أصحاب الإمام أحمد، وكان إماماً في(2/140)
الفقه والحديث كثير التصانيف، خرج مرة من الرباط فشيعه نحو خمسين من بغداد إلى سامراء.
وفيها توفي الإمام الكبير الحافظ سليمان بن الأشعث، أبو داود السجستانى الأزدي، أحد أئمة الحديث وحفاظه ومعرفة علمه وعلله، وكان في الدرجة العاليه من النسك والصلاح، طوف البلاد وكتب عن العراقيين والخراسانيين والشاميين والمصريين والحجازيين والحرميين، وجمع كتاب السنن، قديماً، فربما عرضه. على الإمام أحمد بن حنبل فاستجازه واستحسنه. وعده الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الفقهاء، من أصحاب الإمام أحمد بن حنبل. وقال إبراهيم الحربي: لما صنف أبو داود كتاب السنن ألين لأبي داود الحديث كما ألين لداود عليه السلام الحديد. وكان يقول: كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمسمائة ألف حديث، انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب يعني السنن، جمعت فيه أربعة آلاف وثمان مائة حديث، ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه، ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث: أحدها قول النبي صلى الله عليه وسلم: " الأعمال بالنيات "، والثاني قوله: " ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه "، والثالث قوله: " لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه "، والرابع قوله: " الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات ". الحديث بكماله، وجاءه الشيخ الكبير الوالي الشهير العارف بالله الخبير سهل بن عبد الله التستري، فقيل له: يا أبا داود، هذا شهل عبد الله، قد جاءك زائراً. قال فرحب به وأجلسه فقال: يا داود، لي إليك حاجة، قال: هي؟ قال: تقول قضيتها، قال: قضيتها مع الإمكان. قال: اخرج لسانك الذي حدثت به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أقبله، فأخرج لسانه فقبله، توفي رضي الله تعالى عنه يوم الجمعة منتصف شوال من السنة المذكورة. وكان رأساً في الحديث، رأساً الفقه، ذا جلالة وحرمة وصلاح وورع، حتى كان يشبه شيخه أحمد بن حنبل، رحمة الله عليهم.
ست وسبعين ومائتين
فيها توفي الإمام الحافظ أبو عبد الرحمن بقي بن مخلد الأندلسي، أحد الأعلام سمع يحيى بن يحيى، ويحيى بن بكير، وأحمد بن حنبل وطبقتهم، وصنف التفسير الكبير والمسند الكبير. قال ابن حزم أقطع. إنه لم يؤلف في الإسلام مثل تفسيره. وكان بقي بن(2/141)
مخلد علامة فقيهاً مجتهداً صواماً قواماً متبتلاً عديم المثل.
وفيها توفي الإمام الحافظ أحد العباد أبو قلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي البصري إنه كان يصلي في اليوم والليلة أربعمائة ركعة، ويقال إنه روى من حفظه ستين ألف حديث.
وفيها توفي محدث الأندلس قاسم بن محمد بن قاسم الأموي مولاهم الفقيه، تفقه على الحارث بن مسكين وابن عبد الحكم، وكان مجتهداً لا يقلد. قال رفيقه بقي بن مخلد: هو أعلم من ابن عبد الحكم. وقال ابن عبد الحكم: لم يقدم علينا من الأندلس أعلم من قاسم.
وفيها توفي محدث مكة أبو جعفر محمد بن إسماعيل الصائغ. ومحدث دمشق أبو القاسم يزيد بن محمد بن عبد الصمد. ومحدث الكوفة أبو عمرو ومحمد بن حازم الغفاري الحافظ.
وفيها توفي أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، وقيل المروزي الإمام صاحب " كتاب المعارف "، و " أدب الكاتب " كان فاضلاً ثقة، سكن بغداد وحدث بها عن إسحاق بن راهويه وأبي إسحاق إبراهيم بن سفيان الزيادي وأبي حاتم السجستاني وتلك الطبقة. وروى عنه ابنه أحمد وابن درستويه الفارسي، وله تصانيف كلها مفيدة، منها ما تقدم ومنها " غريب القرآن الكريم "، و " غريب الحديث "، و " عيون الأخبار "، و " مشكل القرآن "، و " مشكل الحديث "، و " طبقات الشعراء "، و " الأشربة "، و " إصلاح الغلط "، و " كتاب النفقة "، و " كتاب الخيل، و " كتاب إعراب القرآن "، و " كتاب الأنوار "، و " كتاب المسائل والجوابات "، و " كتاب الميسر والقداح " وغير ذلك. توفي في أول ليلة من رجب وقيل منتصف رجب من السنة المذكورة، وقيل سنة إحدى وسبعين، وقيل بل سنة سبعين، وكان موته فجأة، صاح صيحة سمعت من بعد، ثم أغمي عليه ومات، وقيل: أكل هريسة فأصابته حرارة، فصاح صيحة شديده ثم أغمي عليه إلى وقت الظهر، ثم اضطرب ساعة ثم هدأ، فما زال يتشهد إلى وقت السحر ثم مات. قلت: وقد تقدم ما قيل أن أكثر أهل العلم يقولون: " أدب الكاتب " خطبة بلا كتاب و " إصلاح المنطق "، كتاب بلا خطبة. قال ابن خلكان: وهذا فيه نوع تعصب عليه، فإن " أدب الكاتب " قد حوى على كل شيء، وهو مفنن، وما أظنهم حملهم على هذا القول، إلا أن خطبته طويلة، والإصلاح فيه قصير الخطبة، واسم كتابه المذكور " الاقتضاب في شرح أدب الكتاب ".(2/142)
سبع وسبعين ومائتين
فيها توفي حافظ المشرق أبو حاتم محمد بن إدريس الحنظلي الرازي في شعبان وكان بارع الحفظ واسع الرحلة، من أوعية العلم جارياً في مضمار البخاري وأبي الرازي رحمة الله عليهم.
ثمان وسبعين ومائتين
فيها مبدأ ظهور القرامطة بسواد الكوفة، وهم خوارج زنادقة مارقون من الدين وفيها توفي الموفق بن المتوكل، ولي عهد أخيه المعتمد، وكان ملكاً مطواعاً وشجاعاً ذا بأس وأيد ورأي وحزم، حارب الزنج حتى أبادهم، وقل طاغيتهم، وكان الجيوش إليه، ومحبباً إلى الخلق، وكان المعتمد مقهوراً معه، اعتراه نقرس فبرح به وأصاب رجله داء الفيل. وكان يقول: قد أطبق ديواني على مائة ألف مرتزق، وما أصبح، فيهم أسوأ حالاً مني، واشتد ألم رجله وانتفاخها إلى أن مات منها، وكان قد ضيق على أبنه أبي العباس وخاف منه. فلما احتضر رضي عنه، فلما توفي ولاه المعتمد ولاية العهد، ولقبه المعتضد، وكان بعض الأعيان يشبه الموفق بالمنصور في حزمه ودهائه ورأيه، قيل: وجميع الخلفاء الذين بعده من ذريته.
وفي السنة المذكورة توفي عبد الملك بن الهيثم الدير عاقولي.
تسع وسبعين ومائتين
فيها منع المعتضد من بيع كتب الفلاسفة والجدل، وتهدد على ذلك، ومنع المنجمين والقصاص من الجلوس.
وفيها توفي المعتمد على الله، وكانت خلافته ثلاثاً وعشرين سنة ويومين. ومات فجأة بين المغنين والندماء، فقيل: سم في رؤوس أكلها، وقيل: في كأس بالشراب. ودخل(2/143)
عليه القاضي والشهود فلم يروا به أثراً، وكان منهمكاً في اللذات، فاستولي أخوه على المملكة وحجر عليه في بعض الأشياء، فاستصحب المعتضد الخال بعد أبيه، وكان للمعتضد شعر متوسط، وأمه أم ولد.
وفيها توفي الحافظ ابن الحافظ زهير بن حرب النسائي. ثم البغدادي مصنف التاريخ، وله أربع وتسعون سنة، سمع أبا نعيم وعفان وطبقتهما.
وفيها توفي جعفر بن محمد بن شاكر الصائغ وله تسعون سنة، وكان زاهداً عابداً ثقة ينفع الناس ويعلمهم الحديث.
وفيها توفي الإمام الحافظ مصنف الجامع في السنن أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة السلمي الترمذي الأئمة المقتدى بهم في علم الحديث، وكان يضرب به المثل، وهو تلميذ محمد بن إسماعيل البخارى، وشاركه في بعض شيوخه، وكان ضريراً، قيل ولد أكمه. رحمه الله تعالى.
ثمانين ومائتين
فيها توفي القاضي أبو العباس أحمد بن محمد بن عيسى البوني الفقيه الحافظ صاحب المسند. كان بصيراً بالفقه عارفاً بالحديث وعلله، زاهداً عابداً كبير القدر من أعيان الحنفية. والإمام الحافظ أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي صاحب المسند والتصانيف، أخذ الفقه عن البويطي، والعربية عن ابن الأعرابي، والحديث عن ابن المديني، وكان قائماً بالسنة مغيظاً للمبتدعة.
إحدى وثمانين ومائتين
فيها توفي الإمام أبو بكر محمد بن عبيد بن أبي الدنيا القرشي مولاهم البغدادي، صاحب التصانيف والإمام أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي الحافظ، سمع أبا معمر وأبا نعيم وطبقتهما، وصنف التصانيف، وكان محدث الشام في زمانه.
وفيها توفي العلامة محمد بن إبراهيم الإسكندراني المالكي، صاحب التصانيف، كان إليه المنتهى في تفريع المسائل.(2/144)
اثنتين وثمانين ومائتين
فيها وقع الصلح بين المعتضد وخمارويه، وتزوج المعتضد بابنة خمارويه على مهر مبلغه ألف ألف درهم، فأرسلت إلى بغداد، وبني بها المعتضد، وقدم جهازها بألف ألف دينار، وأعطت الذي مشى في الدلالة مائة ألف درهم.
وفي السنة المذكورة توفي الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن إسماعيل الطوسي، سمع يحيى بن يحيى التميمي فمن بعده، وكان محدث الوقت وزاهده بعد محمد بن أسلم بطوس، صنف المسند الكبير في مائتي جزء.
وفيها توفي العلامة أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل الأزدي سمع مولاهم البصري الفقيه المالكي، مات ببغداد فجأة وله ثلاث وثمانون سنة. سمع الأنصاري ومسلم بن إبراهيم وطبقتهما، وصنف التصانيف في القراءة والحديث والفقه وأحكام القرآن والأصول، وتفقه على أحمد بن المعدل، وأخذ علم الحديث عن ابن المديني، وكان إماماً في العربية حتى قال المبرد: هو أعلم بالتصريف مني.
وفيها توفي الحافظ أبو الفضل جعفر بن محمد بن أبي عثمان الطيالسي البغدادي في رمضان، سمع عفان وطبقته، وكان ثقة متحرياً إلى الغاية.
وفيها توفي الحارث أبو محمد الحارث بن محمد بن أبي أسامة التميمي البغدادي صاحب المسند، يوم عرفة وله ست وتسعون سنة.
وفيها توفي الحسين بن الفضل بن عمير البجلي الكوفي المفسر، نزيل نيسابور، كان آية في معاني القرآن، صاحب فنون متعبداً، قيل إنه كان يصلي في اليوم والليلة ست مائة ركعة، وعاش مائة وأربع سنين. روى عن يزيد بن هارون والكبار.
وفيها توفي أبو الجيش خمارويه " بضم الخاء المعجمة وفتح الميم وبعدها ألف ثم راء ثم واو مفتوحتان ثم مثناة من تحت ثم هاء مكسورة "، ابن أحمد بن طولون.
لما كان سنة ست وسبعين ومائتين تحرك الأفشين بن محمد صاحب أرمينية والجبال في جيش عظيم، وقصد مصر، فلقيه خمارويه في بعض عمال دمشق، فانهزم الأفشين، واستأمن أكثر عسكره، وسار خمارويه حتى بلغ الفرات ودخل أصحابه الرقة، ثم عادوا، وقد ملك من الفرات إلى بلاد النوبة، ولما مات المعتمد وتولى المعتضد الخلافة، بادر إليه(2/145)
خمارويه بالهدايا والتحف، فأقره المعتضد على عمله، وسأل خمارويه المعتضد أن يزوج ابنته أسماء الملقبة بقطر الندى للمكتفي بالله بن المعتضد، وهو إذ ذلك ولي العهد، فقال المعتضد: بل أنا أتزوجها، فتزوجها في سنة إحدى وثمانين ومائتين، ودخل بها في هذه السنة، وقيل في سنة اثنتين وثمانين ومائتين والله أعلم.
وكان صداقها ألف ألف درهم، وكانت موصوفة بفرط الجمال والعقل، حكي أن المعتضد خلى بها يوماً للأنس في مجلس أفرده لها، ما حضره سواها، فأخذت منه الكأس، فنام على فخذها، فلما استثقلته وضعت رأسه على وسادة، وخرجت فجلست في ساحة القصر، فاستيقظ ولم يجدها فاستشاط غضباً، ونادى بها فأجابته على قرب فقال: لم أجلل إكراماً لك؟ ألم أدفع إليك بهجتي دون سائر خصائصي؟ فتضعين رأسي على وسادة، فتذهبين؟. فقالت: يا أمير المؤمنين، ما جهلت قدر ما أنعمت به علي، ولكن فيما أدبني به أبي إذ قال، لا تنامي مع الجلوس، ولا تجلسي مع النيام. ويقال إن المعتضد أراد بنكاحها إفتقار الطولونية، وكذا كان، فإن أباها جهزها بجهاز لم يعمل مثله حتى قيل: إنه كان لها ألف هاون ذهباً، وشرط عليه المعتضد أن يحمل كل سنة بعد القيام بجميع وظائف مصر وأرزاق أجنادها مائتي ألف دينار، فأقام على ذلك إلى أن قتله غلمانه بدمشق على فراشه، وعمره اثنتان وثلاثون سنة. وكان شهماً صارماً، وقيل قتل قاتلوه أجمعون، وحمل تابوته إلى مصر ودفن عند أبيه بسفح المقطم، وكان من أحسن الناس خطاً. ولفا حملت قطر الندى ابنة خمارويه إلى المعتضد خرجت معها عمتها العباسية ابنة أحمد بن طولون مشيعة لها إلى آخر أعمال مصر من جهة الشام، ونزلت هناك، وضربت فساطيطها، وبنت هناك قرية فسميت بإسمها وقيل لها " العباسية " قال ابن خلكان: وهي عامرة إلى الآن، وبها جامع حسن وسوق قائم. وماتت قطر الندى سنة سبع وثمانين ومائتين، ودفنت داخل قصر الرصافة.
وفي السنة المذكورة توفي الحافظ أبو محمد الفضل بن محمد الشعراني، طوف الأقاليم وكتب الكثير، وجمع وصنف.
وفيها توفي العلامة أبو العيناء محمد بن القاسم البصري الضرير اللغوي الأخباري، صاحب النوادر والشعر والأدب. سمع من أبي عبيدة والأصمعي وأبي زيد الأنصاري والعتبي وغيرهم، وكان من أحفظ الناس وأفصحهم لساناً، ومن ظرفاء العالم، وفيه من اللسن وسرعة الجواب والذكاء ما ليس في أحد من نظرائه، وله أخبار حسان وأشعار ملاح، وها أنا أذكر شيئاً يسيراً من ذلك.
حضر يوماً مجلس بعض الوزراء، فجرى حديث البرامكة وما كانوا عليه من الجود، فقال الوزير لأبي العيناء وقد بالغ في وصفهم: قد أكثرت من ذكرهم، وإنما هذا تصنيف(2/146)
الوراقين وكذب المؤلفين، فقال له أبو العيناء: فلم لا يكذب الوراقون عليك أيها الوزير؟ فكذبه الوزير، وعجب الحاضرون من إقدامه عليها. وشكا إلى الوزير عبيد الله بن سليمان سوء الحال فقال له: أليس قد كتبت إلى فلان من أمرك؟ قال: نعم، قد كتبت إلى رجل قد قصر من همته طول الفقر وذل الأسر ومعاناة الدهر، فأخفق سعي وخاب طلبي، فقال عبيد الله: أنت اخترته، فقال: وما علي أيها الوزير في ذلك، وقد اختار موسى من قومه سبعين رجلاً، فما كان فيهم رشد، واختار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن أبي سرح كاتباً، فرجع إلى المشركين مرتداً واختار علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أبا موسى الأشعري حاكماً له، فحكم عليه. وقوله: ذل الأسر يعني أنه أسره علي بن محمد صاحب الزنج بالبصرة، وسجنه فنقب السجن وهرب. ودخل أبو العيناء يوماً على الوزير أبي الصفر فقال: ما الذي أخرك عنا يا أبا العيناء. فقال: سرق حماري، قال: وكيف سرق " قال: لم أكن مع اللص فأخبرك، قال: فهل أتيتنا على غيره؟ فقال: أقعدني عن السير قلة يساري، وكرهت ذلة المكاري، ومنة العواري. وخاصم علوياً فقال العلوي: أتخاصمني وأنت تقول: اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد؟ فقال: لكنني أقول الطيبين الطاهرين ولست منهم.
ووقف عليه رجل من العامة فقال: من هذا؟ قال: رجل من بني آدم، فقال: مرحباً بك أطال الله بقاءك ما كنت أظن هذا النسل إلا قد انقطع. ومر بباب بعض من بغضه وهو مريض فقال لغلامه: كيف حاله. فقال: كما تحب، فقال: مالي لا أسمع الصراخ عليه وذكر له أن المتوكل قال: لولا أنه ضرير لنا دمناه، فقال: إن عفاني من روية الأهلة وقراءة نقش القصوص، فأنا أصلح للمنادمة. وقال له ابن مكرم يوماً يعرض به: كم عدة المكذبيين بالبصرة؟ فقال: مثل عدد البغائين ببغداد. وقال له المتوكل يوماً: ما تقول في دارنا هذه فقال: الناس بنوا الدار في الدنيا، وأنت بنيت الدار في دارك، فاستحسن كلامه.
ثلاث وثمانين ومائتين
فيها ظفر المعتضد برأس الخوارج هارون الشاري " بالشين المعجمة " وجيء به راكباً فيلاً، وزينت بغداد.
وفيها أمر المعتضد في سائر البلاد بتوريث ذوي الأرحام وإبطال دواوب المواريث في ذلك، وكثر الدعاء له. وكان قبل ذلك قد أبطل النيروز وقيد النيران وأمات(2/147)
ستة المجوس.
وفيها توفي أبو العباس علي بن العباس المعروف بابن الرومي مولى عبيد الله بن عيسى بن أبي جعفر المنصور العباسي الشاعر المجيد المشهور صاحب النظم العجيب والتوليد الغريب، يغوص على المعاني النادرة، ويستخرجها من مكامنها، ويبرزها بأحسن صورة، ولا يترك المعنى حتى يستوفيه إلى آخره، ولا يبقي فيه بقية، وكان شعره غير مرتب، فرتبه أبو بكر الصولي على الحروف، وجمعه وراق بن عبدوس من جميع النسخ، فزاد على كل نسخة مما هو على الحروف وغيرها نحو ألف بيت، وله القصائد المطولة والمقاطيع البديعة، وله في الهجاء والمديح كل طريق ومليح، من ذلك قوله:
كم ضن بالمال أقوام وعندهم ... وفر، وأعطى العطايا وهو يدان
أراكم ووجوهكم وسيوفكم ... في الحادثات إذا دجون نجوم
منها معالم للهدى ومصالح ... تجلو الدجى والأخريات رجوم
لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وإلا فما يبكيه منها وإنها ... لأوسع مما كان فيه وأرغد
وله من المعاني البديعة قوله:
وإذا امرؤ مدح أمرأ لنواله ... وأطال فيه فقد أراه هجاءه
لو لم يقدر فيه بعد المستقى ... عند الورود لما أطال رشاءه
وكذلك قوله في ذم الخضاب:
إذا دام للمرء السواد فما خلت ... شبيبة ظن السواد خضابا
فكيف يروم الشيخ أن خضابه ... يظن سواداً أو يخال شبابا
قال بعض علماء الأدب: ما سبقه إلى هذا المعنى أحد. وله في بغداد وقد غاب عنها.
بلد صحبت به الشبيبة والصبا ... ولبست ثوب العيش وهو جديد
فإذا تمثل في الضمير رأيته ... وعليه أغصان الشباب تميد
وكان سبب موته في بغداد أن الوزير القاسم بن عبد الله وزير المعتضد كان يخاف من هجوه، فدس عليه ابن فراس، فأطعمه خشكنانة مسمومة، وهي في مجلسه، فلما أكلها أحس بالسم، فقال له الوزير: إلى أين تذهب. فقال إلى الموضع الذي بعثتني إليه. فقال:(2/148)
سلم لي على والدي، فقال: ما طريقي على النار. فخرج من مجلسه وأتى منزله، وأياماً ثم مات. وكان الطبيب يتردد إليه ويعالجه بالأدوية النافعة للسم، فزعم أنه غلط عليه في بعض العقاقير.
قال إبراهيم بن محمد المعروف بنفطويه: رأيت ابن الرومي يجود بنفسه فقلت: ما حالك؟. فأنشد:
غلط الطبيب على غلط مورده ... عجزت موارده عن الإصدار
والناس يلجون الطبيب وإنما ... غلط الطبيب إصابة المقدار
وكان الوزير المذكور سفاكاً للدماء الصغير والكبير منه على وجل، لا يعرف أحد من أرباب الأموال منه نعمة، فلما توفي سنة إحدى وسبعين في خلافة المكتفي، وقد نيف الثلاثين، قال فيه عبد الله بن الحسين بن سعد.
شربنا عشية مات الوزير ... سروراً ونشرب في ثالثه
فلا رحم الله تلك العظام ... ولا بارك الله في وارثه
وفيها توفي قدوة السالكين، وحجة الله على العارفين، كريم المقامات وعظيم الكرامات، الولي الكبير المعظم الشهير أبو محمد سهل بن عبد الله التستري، قدس الله روحه، في شهر المحرم، وله نحو من ثمانين سنة، وله كلام جليل في السلوك والمواعظ وكان سبب سلوكه للطريق خاله محمد بن سوار، فإنه قال: كنت ابن ثلاث سنين، وكنت أقوم بالليل أنظر إلى صلاة خالي محمد بن سوار، وكان يقوم بالليل، وكان يقول: يا سهل اذهب ونم، فقد شغلت قلبي. وقال ليس يوماً خالي: ألا تذكر الله الذي خلقك؟. فقلت: كيف أذكر؟. فقال: قل بقلبك في الليل في فراشك ثلاث مرات من غير أن تحرك به لسان: الله معي، الله ناظري، الله شاهدي، فقلت ذلك عشر ليالي، ثم أعلمته فقال: قلها كل سبع مرات، فقلت ذلك، ثم أعلمته فقال: قلها كل يوم إحدى عشرة مرة. كذا قال بعضهم، وقال في الرسالة: قل في كل ليلة إحدى عشرة. وأرى هذا أصح وأنسب إذ الليل وقت الغفلة، والذكر فيه أفضل. قال: فقلت ذلك، فوقع في قلبي حلاوته. فلما كان بعد سنة قال لي: احفظ ما علمتك. ثم دم عليه إلى أن تدخل القبر، فإنه سينفعك في الدنيا والآخرة، قال: فلم يزل على ذلك سنين، فوجدت له حلاوة في سري، ثم قال لي يوماً خالي: كان الله معه وهو ناظره، وشاهده كيف يعصيه، إياك والمعصية. قال: فبعثوا بي إلى الكتاب فقلت: إني أخشى أن يفرق علي همي، ولكن شارطوا المعلم أني أذهب إليه ساعة، فأتعلم وأرجع. فحفظت القرآن وأنا ابن ست أو سبع، وكنت أصوم الدهر وقوتي خبز الشعير(2/149)
اثنتي عشرة سنة، فوقعت لي مسألة وأنا ابن ثلاث عشرة سنة، فسألت أن يبعثوا بي إلى بصرة أسأل عنها. فجئت البصرة، وسألت علماءها، فلم يشفني ما سمعت، فخرجت إلى عبادان إلى رجل يعرف بأبي حبيب حمزة بن عبد الله العبادي. فسألته عنها، فأجابني، أقمت عنده مدة أنتفع بكلامه، وأتأدب بأدبه. ثم رجعت إلى تستر فجعلت قوتي اقتصاراً على أن يشتري لي بدرهم، فرق من الشعير، فيطحن ويختبز، فأفطر عند السحر كل ليلة على أوقية واحدة بغير ملح ولا أدام. وكان يكفيني ذلك الدرهم سنة، ثم عزمت على أن أطوي ثلاث ليال، ثم جعلتها خمساً ثم سبعاً حتى بلغت خمسة وعشرين ليلة، وكنت على ذلك عشرين سنة ثم خرجت أسيح في الأرض سنين، ثم عدت إلى " تستر "، وكنت أقوم الليل كله.
قلت: وله من الكرامات الشهيرات ما يطول ذكره، بل يشق ويتعذر حصره، من ذلك قصته المشهورة مع يعقوب بن الليث حين أصابته علة أعضلت الأطباء، فقيل له: ولايتك رجل صالح، يقال له سهل بن عبد الله، فلو استدعيت به لعلة يدعو لك، فاستدعى به، فلما حضر قال: ادع لي، فقال: كيف يستجاب دعائي فيك، وفي سجنك محبوسون؟ . فأطلق كل من في السجن، فقال سهل: اللهم كما أريته ذل المعصية فأره عز الطاعة، فعوفي في وقته، فعرض مالاً على سهل، فأبى أن يقبل، فقيل له: لو قبلته وفرقته على الفقراء. فنظر إلى الحصى في الصحراء، فإذا هي جواهر فقال: من أعطي مثل هذا أيحتاج إلى مال يعقوب بن الليث؟ وفيها توفي قاضي القضاه أبو الحسن علي بن محمد بن أبي الشوارب الأموي بصري. وكان رئيساً معظماً ديناً خيراً، روى عن أبي الوليد الطيالسي.
أربع وثمانين ومائتين
قال محمد بن جرير: فيها عزم المعتضد على لعن معاوية على المنابر، فخوفه الوزير من اضطراب العامة، فلم يلتفت. ومنع القصاص من الكلام ومن اجتماع الخلق في جوامع، وكتب كتاباً فيه مصائب ومعائب. فقال القاضي يوسف بن يعقوب: يا أمير مؤمنين، أخاف الفتنة عند سماعه. فقال: إن تحركت العامة وضعت فيهم السيف. قال:(2/150)
فما تصنع بالعلوية الذين هم في كل ناحية قد خرجوا عليك؟. وإذا سمع الناس هذا من فضائل أهل البيت مالوا إليهم، وصاروا أبسط الألسنة. فأمسك المعتضد.
وفيها توفي محدث نيسابور ومفيدها الحافظ أحمد بن المبارك المستملي، سمع قتيبة وطبقته، وكان مع سعة روايته راهب عصره مجاب الدعوة.
وفيها توفي أبو عبادة البحتري " بضم الموحدة والمثناة من فوق وسكون الحاء " المهملة بينهما وكسر الراء "، منسوب إلى " بحتر " أحد أجداده. أمير شعراء العصر وحامل لواء القريض الوليد بن عبيد الطائي. أخذ عن أبي تمام الطائي، ولما سمع أبو تمام قال: نعيت إلى نفسي. وممن ذكره المبرد وقال: أنشدنا شاعر دهره ونسيج وحده أبو عبادة البحتري، ومدح براعته المؤرخون، وذكروا أنه ولد بمنبج ونشأ بها، ثم خرج إلى العراق ومدح جماعة من الخلفاء، أولهم المتوكل على الله وخلقاً كثيراً من الأكابر والرؤساء، ببغداد دهراً طويلاً ثم عاد إلى الشام. وله أشعار كثيرة ذكر فيها حلب وضواحيها، ويتغزل بها. وقد روي عنه أشياء من شعره أبو العباس المبرد، ومحمد بن أحمد الحليمي، وأبو بكر الصولي وغيرهم. قال صالح بن الأصبغ التنوخي المنبجي: رأيت البحتري ها هنا عندنا أن يخرج إلى العراق، اجتاز بنا في الجامع من هذا الباب، وأومى إلى جنبتي المسجد يمدح أصل البصل والباذنجان، وينشد الشعر في ذهابه ومجيئه، ثم كان منه ما كان. وحكي بكر الصولي في كتابه الذي وضعه في أخبار أبي تمام الطائي أن البحتري كان يقول: أول أمري في الشعر ونباهتي فيه أني ذاهب إلى أبي تمام وهو بحمص فعرضت عليه شعري وكان يجلس فلا يبقى شاعر إلا قصده، وعرض عليه شعره. فلما سمع شعري، أقبل وترك سائر الناس. فلما تفرقوا قال لي، أنت أشعر من أنشدني، فكيف حالك؟. فشكوت فكتب إلى أهل معرة النعمان، وشهد لي بالحذق، وشفع لي إليهم وقال: امتدحهم فصرت إليهم فأكرموني بكتابه، وقطعوا لي أربعة آلاف درهم، وكانت أول مال أصبته. وقال عبادة المذكور: أول ما رأيت أبا تمام، وما كنت رأيته قبلها، أني دخلت إلى أبي محمد بن يوسف فامتدحته بقصيدتي التي أولها.
لا فاق صب من هوى فأفيقا ... أم خان عهداً أم أطاع شفيقاً
فأنشدته، فلما أتممتها سر بها وقال لي: أحسن الله إليك يا فتى، فقال له رجل المجلس: هذا أعزك الله شعري بحلقته، فسبقني به إليك. فتغير أبو سعيد وقال لي: يا(2/151)
فتى، قد كان في نسبك وقرابتك ما يكفيك أن نمت به إلينا، ولا تحمل نفسك على هذا، فقلت: هذا شعري أعزك الله فقال الرجل: سبحان الله يا فتى، لا تقل هذا. ثم ابتدأ فأنشد القصيدة أبياتاً، فقال لي أبو سعيد: نحن نبلغك ما تريد ولا تحمل نفسك على هذا. فخرجت متحيزاً لا أدري ما أقول، ونويت أن أسأل عن الرجل من هو، فما أبعدت حتى ردني أبو سعيد ثم قال لي: جنيت عليك فاحتمل. أتدري من هذا؟ قلت: لا. قال لي: هذا ابن عمك حبيب بن أوس الطائي أبو تمام، قم إليه، فقمت إليه فعانقته، ثم أقبل يقرطني ويصف شعري وقال: إنما فرجت معك. فلزمته بعد ذلك، وكبر عجبي من سرعة حفظه. ومعنى يقرظني أي: يمدحني. قال في الصحاح: والتقريظ مدح الإنسان وهو حي والتأبين: مدحه ميتاً. وقولهم فلان يقرظ صاحبه تقريظاً " بالظاء والضاد المعجمتين جميعاً " عن أبي زيد إذا مدحه بباطل أو حق. وهما يتقارظان المدح، إذا مدح كل منهما صاحبه.
وقيل للبحتري: أيما أشعر أنت أم أبو تمام؟ فقال: جيده خير من جيدى، ورديئي خير من رديئه وقال: يقال لشعر البحتري: سلاسل الذهب. وهو في الطبقه العليا، ويقال أنه قيل لأبي العلاء المعري: أي الثلاثة أشعر، أبو تمام أم البحتري أم المتنبي. فقال: حكيمان، والشاعر البحتري. قيل وما أنصفه ابن الرومي في قوله:
والفتى البحتري يسوق ما قال ... ابن أوس في المدح والتشبيب
كل بيت له يجود معناه ... فمعناه لإبن أوس حبيب
وقال ابن البحتري: أنشدت أبا تمام شيئاً من شعرى، فأنشد بيت أوس بن حجر " بفتح الحاء والجيم ":
إذا مقرم منا ذرا حدنا به ... تحمط فينا تاب آخر مقرم
وقال: نعيت إلى نفسي، فقلت: أعيذك بالله من هذا، فقال: إن عمري ليس يطول، وقد نشأ لطي مثلك. أما علمت أن خالد بن صفوان المنقرى رأى شبيب بن شيبه وهو من رهطه يتكلم فقال: يا بني، نعي إلى نفسي بإحسانك في كلامك، لأنا أهل بيت، ما نشأ فينا خطيب إلا مات من قبله. قال: فمات أبو تمام بعد سنة من هذا. وقوله: ذر أحدنا به، أي: سقط، وذروت الشيء أي: طيرته وأذهبته. وذرت الريح التراب وغيره تذروه ذرواً وتذريه ذرياً أي سفته. وأذريت الشيء إذا ألقيته كإلقاء الحب للزرع. وطعنه فأذراه عن ظهر دابته أي ألقاه. وتخمط بالخاء المعجمه والطاء المهملة يقال في الفحل إذا هدر، وفي الإنسان إذا تغضب وتكبر، وفي البحر إذا التطم " والمقرم " بضم الميم وسكون القاف وفتح الراء: المكرم، وكذلك القرم بفتح القاف. ومنه قيل سيد قوم مقرم وقال البحتري: أنشدت أبا تمام شعراً في بني حميد ووصلت به إلى مال خطير، فقال لي: أحسنت، أنت أمير الشعراء(2/152)
بعدي، وكان قوله هذا أحب إلي من جميع ما حويته. وقال ميمون بن مهران: رأيت أبا جعفر أحمد بن يحيى البلاذري المؤرخ فسألته عن حاله فقال: كنت من جلساء المستعين بالله، يقصده الشعراء فقال: لست أقبل إلا ممن قال مثل البحتري في المتوكل.
لو أن مشتاقاً تكلف غير ما ... في وسعه لسعى إليك المنبر
قال فرجعت إلى بيتي وأتيته وقلت: قد قلت فيك أحسن مما قاله البحتري، فقال: هاته، فأنشدته:
ولو أن برد المصطفى إذ لبسته ... يظن لظن البرد أنك صاحبه
وقال فقد أعطيته ولبسته ... نعم، هذه أعطافه ومناكبه
فقال ارجع إلى منزلك وافعل ما آمرك به. فرجعت فبعث إلي بسبعة الألف دينار وقال ادخر هذه لحوادث من بعدي، ولكن على الجزاية والكفاية ما دمت حياً. قلت: ولا يخفى ما في بيتيه المذكورين من الخروج إلى حيز الكفر من تشيهه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وللمتنبي في معنى قول البحتري في المنبر.
لو تعقل الشجر التي قابلتها ... مدت محبتها إليك الأغصنا
وسبقهما أبو تمام بقوله:
لوسعت نفقة لإعظام نعمي ... لسعى نحوك المكان الجديد
والبيت الذي للبحتري من جملة قصيدة طويلة أحسن فيها يمدح بها المتوكل على الله ويذكر خروجه لصلاة عيد الفطر وأولها.
أخفي هوى في الضلوع وأظهر ... وألام من كمد عليك وأعذر
والأبيات التي يرتبط بها البيت المقدم ذكر للبحتري.
بالبر صمت وأنت أفضل صائم ... وبسنة الله الرضية تفطر
فانعم بيوم الفطر عيداً إنه ... يوم أعز من الزمان مشهر
أظهرت عز الملك فيه بجحفل ... لجب يحاط الدين فيه وينصر
خلنا الجبال تسير فيه وقد غدت ... عدداً يسيرها العديد الأكبر
فالخيل تصهل والفوارس تدعي ... والبيض تلمع والأسنة تزهر
والأرض خاشعة تميد بنقلها ... والجو معتكر الجوانب أغبر
والشمس طالعة توقد في الضحى ... طوراً ويطفئها العجاج الأكدر(2/153)
حتى طلعت بضوء وجهك فانجلى ... ذاك الدجى وانجاب ذلك العثير
وافتن فيك الناظرون فإصبع ... يومي إليك بها وعين تنظر
يجدون رؤيتك التي فازوا بها ... من أنعم الله التي لا تكفر
ذكروا طلعتك التي قد هللوا ... لما طلعت من الصفوف وكبروا
حتى انتهيت إلى المصلى لابساً ... نور الهدى يبدو عليك ويظهر
ومشيت مشية خاشع متواضع ... لله لا تزهو ولا تتكبر
فلو أن مشتاقاً تكلف غير ما ... في وسعه لمشى إليك المنبر
أبديت من فصل الخطاب بحكمة ... تنبي عن الحق المبين وتخبر
ووقفت في برد النبي مذكراً ... بالله تنذر تارة وتبشر
وقوله: وانجاب ذلك العثير هو بكسر العين المهملة وسكون المثلثة وفتح المثناة من تحت والمراد به: الغبار. قال بعض الفضلاء: وهذا الشعر هو السحر الحلال على الحقيقة، والسهل الممتنع، فلله دره ما أسلس قياده، وأعذب ألفاظه، وأحسن سبكه، وألطف مقاصده. وليس فيه من الحشو شيء، بل جميعه تحت، وديوانه موجود، وشعره سائر، فلا حاجة إلى الإكثار منه ها هنا لكن تذكر من وقائعه ما يستطرف.
فمن ذلك أنه كان بحلب شخص يقال له أحمد بن طاهر الهاشمي، مات أبوه وخلف له مقدار مائة ألف دينار، فأنفقها على الشعراء والوزراء وفي سبيل الله، فقصده البحتري من العراق. فلما وصل إلى حلب قيل له: إنه قد قعد في بيته لديون ركبته، فاغتم البحتري لذلك غماً شديداً، وبعث المدحة إليه مع بعض مواليه. فلما وصلته ووقف عليها بكى، ودعا بغلام له وقال له: بع داري، فقال له: لا تبع دارك، وتبقى على رؤوس الناس، فقال له: لا بد من بيعها، فباعها بثلاث مائة دينار وأنفذها إلى البحتري وكتب إليه معها هذه الأبيات:
لو يكون الحياء حسب ... أنت لدينا به محل وأهل
لحثيت اللجين والدر والياً ... قوت حثواً وكأن ذلك بقل
والأديب الأريب يسمع بالعذر ... إذا قصن الصديق المقل
فلما وصلت الرقعة للبحتري رد الدنانير وكتب إليه:
بأبي أنت أنت للبر أهل ... والمساعي بعد سعيك قبل
والنوال القليل يكثر إن شاء ... مرجيك والكثير يقل
غير أني رددت برك إذ كان ... ربا منك والربا لا يحل
فإذا ما جزيت شعراً بشعر ... قضي الحق والدنانير فضل(2/154)
فلما عادت الدنانير إليه حل الصرة وضم إليها خمسين ديناراً أخرى، وحلف إنه يردها عليه، وسيرها إليه، فلما وصلت إلى البحتري أنشأ يقول:
شكرتك إن الشكر للسيد نعمة ... ومن يشكر المعروف بالله زائده
لكل زمان واحد يقتدى به ... وهذا زمان أنت لا شك واحده
قلت: وحكي أن هذين البيتين كتبهما الشيخ الإمام محيي الدين النووي، وأرسل بهما إلى الشيخ الإمام تقي الدين ابن دقيق العيد، رضي الله تعالى عنهما، لما بلغه أنه قيل دقيق " العيد "، لم لا تصنف في الفقه؟ فقال: قد صنف الشيخ محيي الدين النووي ما فيه كفاية، أو كما قال: ومثل هذا ما حكي أيضاً أن الإمام حجة الإسلام أبا حامد الغزالي قيل له: لم لا تصنف في التفسير؟. فقال: يكفي ما صنف فيه شيخنا الإمام أبو الحسن الواحدي رحمة الله عليهما. وكان البحتري قد اجتاز بالموصل وقيل برأس عين، فمرض مرضاً شديداً. وكان الطبيب يختلف إليه ويداويه، فوصف له يوماً مزورة، ولم يكن عنده من يخدمه سوى غلامه، فقال الغلام: أصنع هذه المزورة؟. وكان بعض رؤساء البلد حاضراً عنده، وقد جاء يعوده فقال ذلك الرئيس: هذا الغلام ما يحسن يطبخها، وعندي طباخ من نعته وصفته كيت وكنت، وبالغ في حسن صفته، فترك الغلام عملها اعتماداً على قوله، البحتري ينتظر، واشتغل الرئيس عنها ونسي أمرها. فلما أبطأت عليه وفات وقتها وصولها إليه، كتب إلى الرئيس:
وجدت وعدك زوراً في مزورة ... حلفت مجتهداً إحكام طاهيها
فلا شفى الله من يرجو الشفاء ... ولا علت كفه ملق كفه فيها
فاحبس رسولك عني أن يجيء بها ... فقد حبست رسولي عن تقاضيها
قوله: طاهيها أي طابخها، فالطهي: الطبخ صرح به في ديوان الأدب. وأخباره ومحاسنه كثيرة، ولم يزل شعره غير مرتب حتى جمعه أبو بكر الصولي، ورتبه على الحروف. وجمعه أيضاً علي بن حمزة الأصبهاني، ولم يرتبه على الحروف، بل على الأنواع كما صنع بشعر أبي تمام.
وللبحتري أيضاً كتاب حماسة على مثال حماسة أبي تمام، وله " كتاب معاني الشعر " وكانت ولادته سنة ست وقيل خمس ومائتين. قال ابن الجوزي، وتوفي وهو ابن ثمانين سنة. وقال الذهبي: ابن بضع وسبعين سنة، وقيل توفي في السنة التي قبل هذه، وقيل في التي بعدها، وقيل في سنة ست وثمانين. وقال الخطيب: كان يكنى أبا الحسن وأبا عبادة(2/155)
، فأشير عليه في أيام المتوكل أن يقتصر على أبي عبادة، فإنها أشهر ففعل. قال ابن خلكان تاريخه: وأهل الأدب كثيراً ما يسألون عن قول أبي العلاء المعري: وقال الوليد: الينع ليس بمثمر، وأخطأ شرب الوحش من ثمر الينع. فيقولون: من هو الوليد المذكور؟ وأين قال: الينع ليس بمثمر؟ ولقد سألني عنه جماعة كثيرة. والمراد بالوليد هو البحتري المذكور، وله قصيدة طويلة منها:
وعبرتني سجال لعدم جاهلة ... والينع غير بان، ما في فرعه ثمر
وهذا البيت هو المشار إليه في بيت المعري.
خمس وثمانين ومائتين
فيها وثب صالح بن مدرك الطائي في طيىء، فانتهبوا الركب العراقي وبدعوا، وسبوا النساء وراح للناس ما قيمته ألف ألف دينار.
وفيها مات الإمام الحبر أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق بن بشر الحربي الحافظ أحد الأئمة الأعلام، وله سبع وثمانون سنة، سمع أبا نعيم وعفان وطبقتهما، وتفقه على الإمام أحمد، وبرع في العلم والعمل، وصنف التصانيف الكثيرة، وكان يشبه بأحمد بن حنبل في وقته.
توفي السنة المذكورة توفي إمام أهل النحو في زمانه، صاحب المصنفات النافعات: أبو العباس المبرد محمد بن يزيد الأزدي البصري، أخذ عن أبي عثمان المازني وأبي حاتم السجستاني، وتصدر للإشتغال ببغداد. وكان وسيماً مليح الصورة فصيحاً مفوهاً أخبارياً علامة ثقة، إماماً في النحو واللغة. وله التآليف النافعة في الأدب، منها " كتاب الكامل "، ومنها " الروضة "، و " المقتضب " وغير ذلك، وأخذ عنه نفطويه وغيره من الأئمة، وكان في المبرد المذكور أبو العباس الملقب بثعلب صاحب كتاب الفصيح عالمين فاضلين متعاصرين، قد ختم بهما تاريخ الأدباء. وفيهما يقول بعض أهل عصرهما، وهو أبو بكر بن الأزهر، أبياتاً من جملتها قوله:
أيا طالب العلم لا تجهلن ... وعد بالمبرد أو ثعلب
تجد عند هذين علم الورى ... فلا تك كالجمل الأجرب
علوم الخلائق مخزونة ... بهذين في الشرق والمغرب(2/156)
قالوا: وكان المبرد يحب الإجتماع بثعلب للمناظرة والإستكثار من ذلك، وكان ثعلب يكره ذلك ويمتنع منه.
وحكى أبو القاسم جعفر بن محمد بن حمدان الفقيه الموصلي قال: قلت لأبي عبد الله الدينوي ختن ثعلب:. لم يأبى ثعلب الإجتماع بالمبرد. فقال: لأن المبرد حسن العبارة، حلو الإشارة، فصيح اللسان، وثعلب مذهبه مذهب المعلمين، فإذا اجتمعا في محفل، حكم للمبرد على الظاهر، إلى أن يعرف الباطن. وكان المبرد كثير الأمالي حسن النوادر.
وحكي عن بعضهم أنه رأى المبرد في المنام، وجرى له معه قصة عجيبة. وذلك أنه كان عنده " كتاب الكامل " للمبرد، و " كتاب العقد " لإبن عبد ربه، وهو يطالع فيها، قال: فرأيت في العقد في فصل ترجمته، قوله: ما غلط فيه على الشعراء، وذكر أبياتاً نسب أصحابها فيها إلى الغلط، وهي صحيحة. وإنما وقع الغلط ممن استدرك عليهم لعدم إطلاعه على حقيقة الأمر فيها، ومن جملة من ذكر المبرد فقال: ومثله قول محمد بن يزيد النحوي في كتاب الروضة، ورده على الحسن بن هانىء، يعني أبا نواس، في قوله:
وما لبكر بن وائل عصم ... إلا بحمقائها وكاذبها
فزعم أنه بحمقائها رجلاً، ولا يقال في الرجل حمقاً، وإنما أراد " دغه " بضم الدال وفتح الغين المعجمة العجلية، وعجل في بكر، وبها يضرب المثل في الحمق. هذا كلام صاحب العقد، وغرضه أن المبرد نسب أبا نواس إلى الغلط، يتوهمه أنه قصد " هبنقة " بفتح الهاء والباء الموحدة والنون المشددة والقاف وبه يضرب المثل في الحمق، فيقال أحمق من هبنقة، ولم يقصده وإنما قصد المرأة المذكورة، فالغلط حينئذ من المبرد لا من أبي نواس، قال: فلما كان بعد ليال قلائل من وقوفي على هذه الفائدة، رأيت في المنام كأنا قد صلينا الظهر، فلما فرغنا من الصلاة، قمت لأخرج، فرأيت شخصاً واقفاً يصلي، فقال لي بعض الحاضرين: هذا أبو العباس المبرد، فجئت إليه وقعدت إلى جانبه انتظر فراغه، فلما فرغ سلمت عليه وقلت له: أنا في هذا الزمان أطالع في كتابك الكامل، فقال لي: رأيت كتابي الروضة؟ فقلت: لا، وما كنت رأيته قبل ذلك. فقال: قم حتى أريك إياه. وصعد بي إلى بيته، فرأيت فيه كتباً كثيرة، فقعد يفتش عليه، وقعدت أنا ناحية عنه، فأخرج منه مجلداً، فدفعه إلي ففتحته وتركته في حجري، ثم قلت: قد أخذوا عليك فيه، فقال: أي شيء أخذوا؟ فقلت: إنك نسبت أبا نواس إلى الغلط في البيت الفلاني، وأنشدته إياه، فقال: نعم، غلط في هذا. فقلت: إنه لم يغلط بل هو على الصواب، ونسبوك إلى الغلط في تغليطه. فقال: وكيف هذا؟. فعرفته ما قاله صاحب العقد، فعض على رأس سبابته، وبقي(2/157)
باهتاً ينظر إلي، وهو في صورته خجلان، ولم ينطق بشيء. ثم استيقظت من منامي، وهو على تلك الحال، قال: ولم أذكر هذا المنام إلا لغرابته.
وحكي أنه دخل على المبرد رجل، فأراد القيام، فقال: أنشدك الله أبا العباس، إن قمت، قال: فلم أخبا قيامي؟ وأنشد:
إذا ما بصرنا به مقبلاً ... حللنا الحبا وابتدرنا القياما
فلا تنكرون قيامي له ... فإن الكرام تجل الكراما
وكانت ولادة المبرد يوم الإثنين سنة عشر وقيل سبع ومائتين، وتوفي يوم الإثنين سنة خمس، وقيل ست وثمانين. فلما مات نظم فيه وفي ثعلب، ابن العلآف.
ذهب المبرد وانقضت أيامه ... وليذهبن إثر المبرد ثعلب
بيت من الآداب أصبح نصفه ... حزباً وباقي بيت تلك سيخبر
فابكوا لما سلب الزمان ووطنوا ... الدهر أنفسكم على ما يسلب
وتزودوا عن ثعلب فبكأس ما ... شرب المبرد عن قريب يشرب
وأرى لكم أن تكتبوا أنفاسه ... إن كانت الأنفاس مما يكتب
قلت: وهذه الألفاظ جميعاً لفظه، إلا لفظ " بيت تلك سيخرب " فإني أبدلته عن قوله: بيتها فسيخرب، كراهة لإدخال الفاء في سيخرب، وإن كان مما يتجوز فيه، فإن وزان لفظة، نحو قولك: زيد قائم وأبوه فسيقوم، ووزان لفظي: قام زيد وأخوه سيقوم، وهذا هو الجائز على قاعدة العربية، والرجل والمرأة المذكوران المنسوب إليهما الحمق، قيل: لأن الرجل شرد له بعير، فقال: من جاء به فله بعيران. فقيل له: أتجعل في بعير بعيرين؟ فقال إنكم لا تعرفون حلاوة الوجدان. فنسب إلى الحمق لهذا السبب، فسارت به الأشعار، واكتسب بذلك اشتهاراً، واستشهدوا على ذلك بما أثرت حذفه اختصاراً. وأما المرأة فسبب نسبتها إلى الحمق أنها ولدت، فصاح المولود، فقالت لامرأة: أيفتح الجعر فاه؟. فقالت المرأة: نعم، ويسب أباه، فصارت مثلاً والجعر بفتح الجيم وسكون العين المهملة وهو في الأصل روث كل ذي مخلب من السباع، وقد يستعمل في غيرها بطريق التجوز، فظنت بجهلها ولدت، أنه قد خرج منها المعتاد، فلما استهل المولود عجبت من ذلك وسألت عنه.
وكان سبب نسبتها إلى الحمق، وكانت مزوجة من بني العنبر بن عمرو بن تميم. فبنو العنبر يدعون لذلك بني الجعر. قال ابن خلكان: وهذا كله، وإن كان خارجاً عن المقصود، لكنها فوائد غريبة، فأحببت ذكرها.(2/158)
وفي السنة المذكورة ظهر بالبحرين أبو سعيد القرمطي، وقويت شوكته، وانضم إليه جمع من الأعراب والزنج واللصوص، حتى تفاقم أمره، وهزم جيوش الخليفة مرات، فعاث وأفسد، وقصد البصرة، فحصنها المعتمد قبل، وذبح أبو سعيد المذكور في حمام بقصره، وخلفه ابنه أبو طاهر، وهو في الحقيقة أبو النجس القرمطي، الذي أخذ الحجر الأسود، ولم يرجع إلا بعد سنين كثيرة، وقيل بعد عشرين سنة.
وفيها توفي علي بن عبد العزيز أبو الحسن اللغوي المحدث بمكة، وقد جاوز التسعين، سمع أبا نعيم وطبقته وعم البغوي عبد الله بن محمد.
ست وثمانين ومائتين
فيها وقيل في التي قبلها وقيل في التي بعدها توفي الشيخ الكبير العارف بالله الشهير أبو سعيد أحمد بن عيسى الخزاز، من أهل بغداد، صحب ذا النون وأبا عبد الله التستري والسري وبشر أو غيرهم. قال رحمة الله عليه: كل باطن يخالفه ظاهره فهو باطل. وقال: رأيت إبليس في النوم وهو يمر عني ناحية فقلت: تعال، فقال: أي شيء أعمل بكم؟ أنتم طرحتم عن نفوسكم ما أخادع به الناس. قلت: وما هو. قال: الدنيا. فلما ولى عني التفت إلي وقال: غير أن لي فيكم لطيفة. قلت: وما هي. قال: صحبة الأحداث. وقال: صحبت الصوفية ما صحت، فما وقع بيني وبينهم خلاف. قالوا: لم. قال: لأني كنت معهم على نفسي. وقال: مررت بشاب ميت في باب بني شيبة، ونظرت في وجهه فتبسم، فقلت: يا حبيبي. أحياة بعد الموت؟. فقال: أما علمت يا أبا سعيد أن الأحباء أحياء، وإنما ينقلون من دار إلى دار. قيل: وهو أول من تكلم في علم الفناء والبقاء. وقال الجنيد: لو طالبنا الله تعالى بحقيقة ما عليه أبو سعيد الخزاز لهلكنا. وقيل لبعض المشايخ: إن أبا سعيد الخراز كان كثير التواجد عند الموت، فقال: لم يكن بعجيب أن تطير روحه اشتياقاً، وكان رضي الله تعالى عنه ينشد أبياتاً ترجمتها:
فأجسادهم في الأرض قتلى بحبه ... وأرواحهم في الحجب نحو العلى تسري
قلوبهم جوالة بمعسكر ... به أهل ود الله، كالأنجم الزهر
فما عرسوا إلا بقرب حبيبهم ... وما عرجوا من مس بؤس ولا ضر
وفي سنة الست المذكورة توفي محمد بن وضاح، محدث قرطبة الإمام الحافط.(2/159)
وقيل: في التي قبلها.
سبع وثمانين ومائتين
فيها قصدت طيىء ركب العراق في رجوعه من الحج ليأخذه كالعام الماضي، وكانوا في ثلاثة آلاف وأمير الحجاج أو الأغر فواقعوهم يوماً وليلة، والتحم القتال، وجندلت الأبطال، ثم أيد الله الوفد، وقتل رئيس طيىء صالح بن مدرك وجماعة من أشراف قومه، وأسر خلق، وانهزم الباقوق، ثم دخل الركب بالأسرى والرؤوس على الرماح ببغداد.
وفيها سار العباس الغنوي في عسكر، فالتقى القرمطي، فأسر العباس وانهزم عسكره، وقيل: بل أسر سائر العسكر، وضربت رقابهم، وأطلق العباس وحده، فجاء إلى المعتضد برسالة القرمطي أن: كف عنا، واحفظ حرمتك.
وفيها توفي الإمام الحافظ أبو بكر بن عمرو بن عاصم الضحاك الشيباني البصري قاضي أصبهان، صاحب المصنفات. وأبو سعيد الهروي الحافظ، شيخ هراة ومحدثها وزاهدا.
ثمان وثمانين ومائتين
فيها توفي مفتي بغداد، الفقيه الإمام أبو القاسم عثمان بن سعيد البغدادي الأنماطي صاحب المزني. وهو الذي نشر مذهب الشافعي ببغداد، وعليه تفقه أبو العباس بن شريح.
وفيها توفي الحاسب الحكيم ثابت بن قرة الحراني. كان في مبتدأ أمره صيرفياً بحران، ثم انتقل إلى بغداد واشتغل بعلوم الأوائل، فمهر فيها، وبرع في الطب، وكان الغالب عليه الفلسفة. وله تآليف كثيرة في فنون من العلم، مقدار عشرين تأليفاً. وهذب " كتاب إقليدس " الذي عربه حنين بن إسحاق العبادي، ونقحه وأوضح منه ما كان مستعجماً. وكان من أعيان عصره في الفضائل. وجرى بينه وبين أهل مذهبه أشياء، أنكروها عليه في المذهب، فرفعوه إلى رئيسهم، فأنكر عليه مقالته، ومنعه من دخول الهيكل، فتاب ورجع عن ذلك، ثم عاد بعد مدة إلى تلك المقالة، فمنعوه من الدخول إلى المجمع، فخرج من حران، فلما قدم محمد بن موسى من بلاد الروم راجعاً إلى بغداد، اجتمع به، فرآه فاضلاً(2/160)
فصيحاً، فاستصحبه إلى بغداد، فأولد بها أولاداً. وكان له ولد سمي إبراهيم، بلغ رتبة أبيه في الفضل، وكان من حذاق الأطباء، ومقتدى أهل زمانه في صناعة الطب، وعالج مرة للسري الشاعر، فأصاب العافية، فعمل فيه أبياتاً، وهي أحسن ما قيل في طبيب:
هل للعليل سوى ابن قرة شافي ... بعد الإله، وهل له من كافي
أحيى لنا رسم الفلاسفة الذي ... أؤدى، وأوضح رسم طب عافي
مثلت له قارورتي فرأى بها ... ما اكتن بين جوانحي وشغافي
يبدو له الداء الخفي كما بدا ... للعين بصراً من غدير الضافي
قلت: وقد ذكرت في أبيات بيتاً طغى فيه، حيث قال: وبئس ما قال.
فكأنه عيسى ابن مريم ناطقاً ... يهب الحياة بأيسر الأوصاف
ومن حفدة ثابت المذكور: ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة، وكان ببغداد في أيام معز الدولة ابن بابويه. وكان طبيباً عالماً نبيلاً يقرأ عليه كتب أبقراط وجالينوس، وكان فكاكاً للمعاني، سلك مسلك جده في نظرة الطب والهندسة، وجميع الصناعات الرياضية للقدماء، وما تشتمل عليه الفلسفة. وله تصنيف في التاريخ أحسن فيه. وقد قيل إن الأبيات المذكورة أولاً من نظم الزنجي السري، عملها فيه والله سبحانه وتعالى أعلم. والحراني نسبة إلى حران، وهي مدينة مشهورة بالجزيرة. وذكر ابن جرير الطبري في تاريخه أن هاران عم إبراهيم الخليل صلى الله عليه وآله وسلم عمرها، فسميت بإسمه، ثم إنها عربت فقيل: حران. وهاران المذكور أبو سارة زوجة إبراهيم عليه السلام. وكان لإبراهيم أخ يسمى هاران أيضاً، وهو أبو لوط صلوات الله على نبينا وعليه، وعلى جميع النبيين. قال في الصحاح: حران اسم بلد، وهو فعال، ويجوز أن يكون فعلان، فالنسبة إليه حرناني، على غير قياس، والقياس حراني على ما عليه العامة.
تسع وثمانين ومائتين
فيها توفي المعتضد أبو العباس أحمد بن الموفق، وولي عهد المسلمين أبو أحمد طلحة بن المتوكل، جعفر بن المعتصم العباسي تغير مزاجه من إفراط الجماع، وعدم الحمية في مرضه.
قلت: وقد ذكرت في آخر المجلد الثاني من كتاب المرهم شيئاً مما جرى له في مرضه(2/161)
المذكور، وما عولج به، وما لاقى بعد إخراجه من التنور الموقد بحطب الزيتون. ولم يكن في اللبث فيه، ولا في ترك العود إليه بصبور، من أجل اشتداد الحرفية، والبرد عند الخروج منه، فلما أعيد فيه لأن لموته الحضور وبيان هذا وغيره أوضحته في الكتاب المذكور وكان شجاعاً مهيباً حازماً فيه تشيع.
وفيها توفي الحافظ حسين بن محمد العتابي النيسابوري، صاحب المسند والتاريخ.
وفيها توفي يحيى بن أيوب العلاف المصري، صاحب سعيد بن أبي مريم. والحافظ أبو جعفر صاحب سليمان بن حرب.
تسعين ومائتين
فيها حاصرت القرامطة دمشق، فقتل طاغيتهم يحيى بن زكرويه بالزاي في أوله فخلفه أخوه الحسين صاحب الشامة، فجهز المكتفي عشرة آلاف لحربهم، عليهم الأمير أبو الأغر في ألف نفس، فدخل حلب، وقيل تسعة آلاف. ووصل المكتفي إلى الرقة، وجهز الجيوش إلى أبي الأغر، وجاءت من مصر العساكر الطولونية، فهزموا القرامطة، وقتلوا منهم خلقاً، وقيل: بل كانت الوقعة بين القرامطة والمصريين بأرض مصر، وإن القرمطي صاحب الشامة انهزم إلى الشام مر على الرحبة، وبقي ينهب ويسبي الحريم حتى دخل الأهواز. وكان زكرويه القرمطي يكذب ويزعم أنه من آل الحسين بن علي رضي الله عنهما.
وفيها دخل عبد الله الملقب بالمهدي المغرب متنكراً، والطلب عليه من كل وجه، فقبض عليه متولي سجلماسة، وعلى ابنه، فحاربه أبو عبد الله السبعي داعي المهدي، فهزمه ومزق جيوشه، وجرت بالمغرب أمور هائلة، واستولي على المغرب المهدي المنتسب إلى الحسين بن علي، وكان باطل الإعتقاد، وهو الذي بنى المهدية في المغرب.
وفي السنة المذكورة توفي الحافظ أبو عبد الرحمن، عبد الله بن أحمد بن حنبل الشيباني، كان إماماً خبيراً بالحديث وعلله، مقدماً فيه.(2/162)
إحدى وتسعين ومائتين
فيها نهض جيش من طرسوس، فأدخلوا في الروم حتى نازلوا أنطاكية وافتتحوها عنوة، وقتلوا من الروم نحو خمسة آلاف، وغنموا غنيمة لم يعهد مثلها، بحيث بلغ سهم الفارس ألف دينار.
وأما القرمطي صاحب الشامة، فعظم خطبه، والتزم له أهل دمشق بمال عظيم، حتى يرحل عنهم وتملك حمص وصار إلى حماة والمعرة فقتل، فعظم خطبه، وسبى وعطف إلى بعلبك، فقتل أكثر أهلها، ثم سار فأخذ سلمية، وقتل أهلها قتلاً ذريعاً، حتى ما ترك بها عيناً تطرف. وجاء جيش المكتفي فالتقاهم بقرب حمص، وأسر خلقاً من جنده. وركب هو وابن عمه وآخر، واخترقوا ثلاثتهم البرية، فمروا بداليه ابن طوق فأنكرهم والي تلك الناحية، فقررهم، فاعترفهم صاحب الشامة، فحملهم إلى المكتفي فقتلهم وحرقهم.
وفي السنة المذكورة توفي الإمام علامة الأدب أبو العباس المشهور بثعلب، أحمد بن يحيى الشيباني، مولاهم الكوفي النحوي صاحب التصانيف المفيدة، انتهت إليه رئاس الأدب في زمانه. " قال ابن خلكان " في تاريخه: قال أبو بكر ابن المجاهد المقرىء: قال لي ثعلب: يا أبا بكر، اشتغل أصحاب القرآن بالقرآن ففازوا، واشتغل أصحاب الحديث بالحديث ففازوا، واشتغل أصحاب الفقه بالفقه ففازوا، واشتغلت أنا بزيد وعمر، وفليت شعري ماذا يكون حالي في الآخرة. قال: فانصرف من عنده، فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تلك الليلة في المنام، فقال لي: أقرىء أبا العباس عني السلام وقل له: أنت صاحب العلم المستطيل. وقال العبد الصالح أبو عبد الله. الرودباري: أراد أن الكلام به يكمل. والخطاب به يحمل، وإن جميع العلوم مفتقرة إليه.
صنف " كتاب الفصحاء " وهو صغير الحجم كثير الفائدة و " كتاب إعراب القرآن " و " كتاب القراءات "، و " كتاب حد النحو "، و " كتاب معاني الشعر " وغير ذلك، وهو بضعة عشر صنفاً. وكان إمام الكوفيين في النحو واللغة، سمع من ابن الأعرابي والزبير بن(2/163)
بكار، وروي عنه الأخفش الأصغر وابن الأنباري وأبو عمر والزاهد وغيرهم. وكان ثقة صالحاً مشهوراً الحفظ وصادق اللهجة والمعرفة بالعربية ورواية الشعر القديم، مقداماً عند الشيوخ منذ هو حدث. وكان أبن الأعرابي إذا شك في شيء قال له: ما تقول يا أبا العباس في هذا؟. لغزارة حفظه. قال ابن الأخباري: أنشدني ثعلب.
إذا كنت قوة النفسى ثم هجرتها ... فلم تلبث النفس التي أنت قوتها
ستبقى بقاء الضب في الماء أو كما ... يعيش لدى ديمومة البيت حوتها
قلت: هكذا حكاه عنه ابن خلكان. والذي نعرفه: " لو كما يعيش ببيداء المفاوزة حوتها ". وكان سبب وفاته أنه خرج يوم الجمعة من الجامع بعد العصر، وكان قد لحقه صمم لا يسمع إلا بعد تعب شديد، فكان في يده كتاب ينظر فيه في الطريق فصدمته فرس، فألقته في هوة، فأخرج منها هو كالمختلط، فحمل إلى منزله وهو على تلك الحال، وهو يتأوه من رأسه، فمات ثاني يوم. " والشيباني " نسبة إلى شيبان، حي من بني بكر بن وائل.
وفيها توفي مقرىء أهل دمشق هارون بن موسى المعروف بالأخفش صاحب ابن ذكوان، وفيها توفي قنبل قارىء أهل مكة عبد الرحمن المخزومي مولاهم المكي.
اثنتين وتسعين ومائتين
فيها خرج صاحب مصر هارون بن خمارويه الطولوني عن الطاعة، فسارت جيوش المكتفي بحربه، ووقعت لهم وقعات، ثم اختلف أمراء هارون واقتتلوا. فخرج ليسكنهم فجاءه سهم، فقتله. ودخل الأمير محمد بن سليمان قائد جيش المكتفي، فتملك الأقليم، واحتوى على الخزائن، وقتل من آل طولون بضعة عشر رجلاً، وحبس طائفة، وكتب بالفتح إلى المكتفي، وقيل إن هارون هم بالمضي إلى المكتفي فامتنع عليه امراؤه وسجنوه، فأبى فقتلوه غيلة.
وفيها توفي أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله البصري الحافظ صاحب السنن ومسند الوقت، وقد قارب المائة أو كملها، وكان محدثاً حافظاً محتشماً كبير الشأن، قيل إنه لما فرغوا من سماع السنن عليه عمل لهم مائدة، غرم عليها ألف دينار، وتصدق بجملة منها. ولما قدم بغداد ازدحموا عليه، حتى حزر على مجلسه بأربعين ألفاً وزيادة. وكان في(2/164)
المجلس سبعة مبلغون، كل واحد يبلغ الآخر.
وفيها توفي المقرىء المحدث إدريس بن عبد الكريم.
وفيها توفي محدث واسط الحافظ أبو الحسين، أسلم بن سهل. وقاضي القضاة أبو خازم، عبد المجيد بن عبد العزيز الحنفي، من القضاة العادلة له أخبار ومحاسن. ولما احتضر كان يقول: يا رب من القضاء إلى القبر، ثم يبكي..
وفيها توفي الإمام أبو العباس محمد بن أحمد الهروي، كان فقيهاً محدثاً صاحب تصانيف. رحل إلى الشام والعراق وحدث عن أبي حفص الفلاس " بالفاء " وطبقته رحمه الله تعالى.
وفيها توفي يحيى بن منصور، أبو سعيد الهروي، أحد الأئمة في العلم والعمل حتى قيل: إنه لم ير مثل نفسه، رحمه الله تعالى.
ثلاث وتسعين ومائتين
وفيها عاثت القرامطة بالشام، وقتلوا وسبوا وبدعوا " بحوران "، و " طبرية " و " بصرة "، ودخلوا " السماوة " وطلعوا إلى " هيت " واستباحوها، ثم وثبت هذه الفرقة الطاغية على زعيمها أبي غانم فقتلوه، ثم جمع رأس القوم زكرويه جموعاً، ونازل الكوفة وقاتله أهلها، ثم جاءه جيش الخليفة فالتقاهم وهزمهم، ودخل الكوفة يصيح قومه يا ثارات الحسين، يعنون: صاحب الحال الذي من شامة ولد زكرويه.
وفيها توفي عبدان بن محمد بن عيسى المروزي، وكان فقيهاً علامة في الفقه وغوامضه، زاهداً عابداً.
وفيها توفي عيسى بن محمد المروزي اللغوي، كان إماماً في العربية، روى عن إسحاق بن راهويه، وهو الذي رأى بخوارزم المرأة التي بقيت نيفاً وعشرين سنة لا تأكل ولا تشرب.(2/165)
قلت: وذكر الشيخ المشكور الولي المشهور صفي الدين بن أبي المنصور، أن امرأة بجيزة مصر أقامت ثلاثين سنة لا تأكل، ولا تشرب في مكان واحد، لا تتألم بحر ولا برد.
وفيها توفي محمد بن أسد المديني، أبو عبد الله الزاهد، ويقال أنه مجاب الدعوة، عمر أكثر من مائة سنة، رحمه الله تعالى.
وفيها توفي الحافظ محمد بن عبدوس.
أربع وتسعين ومائتين
وفيها أخذ ركب العراق زكرويه القرمطي، وقتل الناس قتلاً ذريعاً، وحوى ما قيمته ألف ألف دينار، وهلك من الحجيج عشرون ألف إنسان، ووقع البكاء والنوح في البلدان، وعظم هذا على المكتفي، فبعث الجيش لقتاله، فالتقوا فأسر زكرويه وخلق من أصحابه، وكان مجروحاً فمات، وأراح الله منه بعد خمسة أيام، وحمل ميتاً إلى بغداد، وقتل أصحابه، ثم أحرقوا وتمزق أصحابه في البرية.
وفيها توفي الحافظ الكبير أبو علي صالح بن محمد الأسدي البغدادي، محدث ما وراء النهر، نزل بخارى، وليس معه كتاب، فروى به الكثير من حفظه، رروى عن سعدويه الواسطي، وعلي بن الجعد وطبقتهما، ورحل إلى الشام ومصر والنواحي، وصنف وخرج وعدل. وكان صاحب نوادر ومزاح.
وفيها توفي الإمام إسحاق بن راهويه، روى عن أبيه وعلي بن المديني.
وفيها توفي الحافظ أيوب بن يحيى البجلي الرازي محدث الري يوم عاشوراء، وهو في عشر المائة.
وفيها توفي الإمام، أحد الأعلام محمد بن نصر المروزي، وكان رأساً في الفقه والحديث والعبادة. روي أنه كان يقع الذباب على أذنه وهو في الصلاة فيسيل الدم، ولا يذبه، كان ينتصب كأنه خشبة.
وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: كان من أعلم الناس بالإختلاف، وصنف كتباً وقال شيخه في الفقه محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: كان محمد بن نصر عندنا إماماً، فكيف بخراسان؟. وقال غيره: لم يك للشافعية في وقته مثله.(2/166)
فيها توفي الإمام موسى بن هارون أبو عمران البغدادي الحافظ، كان إمام وقف في حفظ الحديث وعلله، وقال بعضهم: ما رأيت في حفاظ الحديث أهيب، ولا أورع من موسى بن هارون.
خمس وتسعين ومائتين
فيها توفي الحافظ أحد أركان الحديث إبراهيم بن أبي طالب النيسابوري. قال بعضهم: إنما أخرجت نيسابور ثلاثة: محمد بن يحيى، ومسلم بن الحجاج، وإبراهيم بن أبي طالب.
وفيها توفي إبراهيم بن معقل، قاضي نسف، وعالمها ومحدثها، وصاحب التفسير والمسند، وكان بصيراً إماماً بالحديث، عارفاً بالفقه والإختلاف. روى الصحيح عن البخاري.
وفيها توفي الحكم بن معبد الخزاعي الفقيه، مصنف " كتاب السنة " بأصبهان، وكان من كبار الحنفية وثقاتهم.
وفيها توفي أبو علي بن عبد الله بن محمد الحافظ، أحد أركان الحديث، مصنف التاريخ والعلل.
وفيها توفي المكتفي بالله أبو الحسن علي بن المعتضد أحمد بن موفق بن المتوكل بن المعتصم بن هارون الرشيد العباسي، وكان جميلاً وسيماً، بديع الخلقة، معتدل القامة، دري اللون، أسود الشعر، استخلف بعد أبيه، وكانت دولته ست سنين ونصفاً، وولي بعده أخوه المقتدر وله ثلاث عشرة سنة وأربعون يوماً ولم يل أمر الأمة صبي قبله.
وفيها توفي عيسى بن مسكين قاضي القيروان وفقيه المغرب أخذ عن سحنون وعن الحارث بن مسكين، وكان إماماً ورعاً خاشعاً متمكناً من الفقه والآثار، ومستجاب الدعوة يشبه بسحنون في سمته وهديه. أكرهه ابن الأغلب الأمير على القضاء، فولي ولم يأخذ رزقاً، وكان يركب حماراً، ويتسقي الماء لبيته.(2/167)
وفيها توفي الإمام أبو جعفر محمد بن أحمد الترمذي كبير الشافعية في العراق قبل ابن شريح، وكان زاهداً ناسكاً، قانعاً باليسير. قال الدارقطني: لم يكن للشافعية بالعراق أرأس ولا أورع منه، وكان صبوراً على الفقر، حدث عن جماعة كثيرة، منهم يحيى بن بكير المصري، وروى عنه جماعة، منهم أحمد بن كامل، وكان ثقة من أهل العلم والفضل، والزهد في الدنيا، والتقلل في المطعم، على حال عظيمة فقراً وورعاً وصبراً. روى بالإسناد أنه كان يقوت في سبعة عشر يوماً خمس حبات أو ثلاث حبات، فقيل له: كيف عملت؟ فقال: لم يكن عندي غيرها، فاشتريت بها لفتاً، فكنت آكل كل يوم واحدة.
وذكر أبو إسحاق الزجاج النحوي أنه كان تجري عليه في كل شهر أربعة دراهم، وكان لا يسأل أحداً شيئاً، وكان يقول: تفقهت على مذهب أبي حنيفة، فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مسجد المدينة عام حججت فقلت: يا رسول الله، تفقهت بقول أبي حنيفة، فآخذ به؟ فقال: لا، فقلت: آخذ بقول مالك بن أنس. فقال: خذ منه ما وافق سنتي، قلت: فآخذ بقول الشافعي. فقال: ما هو يقوله. إلا أنه أخذ بسنتي، ورد علي من خالفها، قال: فخرجت في أثر هذه الرؤيا إلى مصر، وكتبت كتب الشافعي. هكذا ذكره جماعة من أهل الطبقات والتواريخ، منهم الشيخ الإمام أبو إسحاق الشيرازي، والقاضي الإمام ابن خلكان.
وقال الدارقطني: هو ثقة مأمون ناسك. وكان يقول: كتبت الحديث تسعاً وعشرين سنة.
وفيها توفي الحافظ أبو بكر محمد بن إسماعيل الإسماعيلي، أحد المحدثين الكبار بنيسابور. له تصانيف موجودة، ورحلة واسعة.
ست وتسعين ومائتين
فيها مات ابن المعتز، مات مخنوقاً، وذلك أنه لما دخلت هذه السنة، والملأ يستصعبون المقتدر، ويتكلمون في خلافته، فاتفق طائفة على خلعه، وخاطبوا عبد الله بن المعتز، فأجاب بشرط أن لا يكون فيها حرب. وكان رأسهم محمد بن داود الجراح، وأحمد بن يعقوب القاضي، والحسين بن حمدان، واتفقوا على قتل المقتدر، ووزيره العباس بن الحسين، وفاتك الأمير. فلما كان عاشر ربيع الأول، ركب الحسين بن حمدان والوزير والأمراء، فشد ابن حمدان على الوزير فقتله، فأنكر قتله فعطف على فاتك فألحقه بالوزير، ثم ساق ليثلث بالمقتدر وهو يلعب بالصوالجة، فسمع الهيعة فدخل الدار، وأغلقت الأبواب. ثم نزل ابن حمدان بدار سليمان بن وهب، واستدعى ابن المعتز، وحضر الأمراء(2/168)
والقضاة سوى خواص المقتدر، فبايعوه ولقبوه " الغالب بالله " وقيل: الراضي بالله، المرتضي بالله، فاستوزر ابن الجراح، واستحجب عن الخادم، ونفذت الكتب لخلافته إلى البلاد، وأرسلوا إلى المقتدر ليتحول من دار الخلافة، ولم يكن معه غير مؤنس الخادم ومؤنس الخازن، وخاله الأمير، وتحضنوا، وأصبح الحسين بن حمدان على محاصرتهم فرموه بالنشاب، وتناحوا ونزلوا على خيمته، وقصدوا ابن المعتز، فانهزم كل من حوله وركب ابن المعتز فرساً ومعه وزيره وصاحبه، وقد شهر سيفه وهو ينادي: معاشر العامة ادعوا لخليفتكم. وقصد سامراء ليثبت بها أمره، فلم يتبعه كثير أحد، وخذل فنزل عن فرسه، فدخل دار ابن الجصاص، واختفى وزيره، ووقع النهب والقتل في بغداد، وقتل جماعة من الكبار، واستقام الأمر للمقتدر. ثم أخذ ابن المعتز وقتل سراً، سلمه المقتدر إلى مؤنس الخادم، فقتله وسلمه إلى أهله ملفوفاً في كساء، وصودر ابن الجصاص. وقام بأعباء الخلافة الوزير ابن الفرات، ونشر العدل، واشتغل المقتدر باللعب.
وأما الحسين بن حمدان فأصلح أمره، وبعث إلى بعض الولايات، وابن المعتز المذكور وهو أبو العباس عبد الله بن المعتز بن المتوكل بن المعتصم بن هارون الرشيد العباسي. أخذ الأدب عن أبي العباس المبرد وأبي العباس ثعلب وغيرهما، وكان أديباً بليغاً شاعراً مطبوعاً مقتدراً على الشعر، قريب المأخذ، سهل اللفظ، جيد القريحة، حسن الإبداع للمعاني، مخالطاً للعلماء والأدباء، معدوداً من جملتهم، إلى أن جرت له الكاتبة المذكور في خلافة المقتدر، وله من التصانيف " كتاب الزهرة والرياض "، و " كتاب مكاتبات الشعر " و " كتاب الجوارح "، و " كتاب الصيد "، و " كتاب السرقات "، و " كتاب أشعار الملوك " و " كتاب الآداب "، و " كتاب حلي الأخبار "، و " كتاب طبقات الشعراء "، و " كتاب الجامع في العلم "، و " كتاب فيه أرجوزة في ذم الصبوح ". ومن كلامه: البلاغة البلوغ إلى المعنى وكان يقول: لو قيل لي ما أحسن شعر تعرفه؟. لقلت: قول العباس ابن الأحنف:
قد سحب الناس أذيال الطنون بنا ... وفرق الناس فينا قولهم فرقا
فكاذب قد رمى بالظن غيركم ... وصادق ليس يدري أنه صدقا
ورثاه علي بن محمد بن بسام يقول:
لله دره من ميت بمضيقة ... ناهيك في العلم والآداب والحسب
ما فيه لو، ولا لولا فتنقصه ... وإنما أدركته حرفة الأدب
ولإبن المعتز أشعار رائقة، وتشبيهات فائقة، من ذلك قوله:(2/169)
كأنا وضوء الصبح يستعجل الدجى ... نظير غراباً ذا قوادم جون
يعني بالجون بفتح الجيم الأبيض، ويطلق على الأسود أيضاً لأنه من أسماء الأضداد، فشبه ظلام الليل حين يظهر فيه ضوء الصباح بأشخاص الغربان، ثم شرط أن يكون قوادم ريشها بيضاً، لأن ذلك البياض يقع من الظلمة في حواشيها، من حيث يلي معظم الصبح. وعموده ولمع نوره يتخيل منها في العين كشكل قوادم بيض، وجعل ضوء الصبح، لقوة ظهوره ودفعه لظلام الليل كأنه يدفع الدجى ويستعجله، ولا يرضى بأن يتمهل في حركته.
وفيها السنة المذكورة توفي المحدث أبو جعفر محمد بن حماد.
وفيها توفي أحمد بن يعقوب القاضي، أحد من قام في خلع المقتدر، احتساباً ذبح صبراً.
وفيها توفي محمد بن داود بن الجراح الإخباري العلامة، صاحب المصنفات وكان أوحد زمانه في معرفة أيام الناس.
سبع وتسعين ومائتين
فيها توفي الحافظ ابن الحافظ ابن الحافظ: محمد بن أحمد بن زهير بن حرب كان أبوه يستعين به في تصنيف التاريخ.
وفيها توفي الشيخ الكبير العارف بالله الشهير إمام السالكين، وقدوة العارفين أبو عبد الله عمرو بن عثمان المكي، شيخ الصوفية، أحد الخمسة المقتدى بهم في زمانهم، الجامعين بين علم الباطن والظاهر، صاحب التصانيف في الطريقة، كبير الشأن في أسرار الحقيقة.
وفيها توفي الإمام البارع محمد بن داود بن علي الأصبهاني المعروف بالظاهري الفقيه أبو بكر، أحد أذكياء زمانه صاحب " كتاب الزهرة ". تصدر للإشتغال والفتوى. كان فقيها أديباً شاعراً ظريفاً وكان يناظر أبا العباس بن شريح. وسيأتي ذكر شيء من ذلك في ترجمة ابن شريح.
ولما توفي، أبوه داود جلس في حلقته، وكان على مذهبه، فاستصغروه فدشوا إليه(2/170)
رجلاً وقالوا: سله عن حد الشكر، فسأله: متى يكون الإنسان في داخلاً في حد السكران؟ فقال: إذا ضربت عنه الهموم، وباح بسره المكتوم، فاستحسن منه ذلك، وعلم موضعه العلم.
قلت: وهذا الذي ذكره في حد السكر هو الذي نقله أصحابنا عن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه وإن اختلفا في بعض اللفظ والعبارة، فعبارة الشافعي: إنه الذي اختل كلامه المنظوم، وانكشف سره المكتوم.
وروى الشيخ الإمام أبو إسحاق بسنده في الطبقات: إن ابن داؤد المذكور جاءته امرأة فقالت له: ما تقول في رجل له زوجة، لا هو يمسكها، ولا هو يطلقها؟. فقال: اختلف في ذلك أهل العلم، فقال قائلون: يؤمر بالصبر والإحتساب، وتبعث على التطلب والإكتساب وقال قائلون: تؤمر بالإتفاق، ولا يحمل على الطلاق. فلم تفهم المرأة قوله، وأعاد مسألتها فقال لها: يا هذه، قد أجبتك عن مسألتك، وأرشدتك إلى طلبتك، ولست بسلطان فأمضي، ولا قاض فأقضي، ولا زوج فأرضي، فانصرفت ولم تفهم جوابه.
وصنف ابن داود كتابه " الزهرة " المذكور في عنفوان شبابه، وهو مجموع أدب أتى فيه. بكل غريبة ونادرة وشعر رائق.
واجتمع يوماً، هو وأبو العباس بن شريح في مجلس الوزير ابن الجراح، فتناظرا في الإيلاء، فقال له ابن شريح: أنت تقول: من كثرت لحظاته دامت حسراته، أبصر منك بالكلام في الإيلاء. فقال له ابن داود: لئن قلت ذلك فإني أقول.
أنزه في روض المحاسن مقلتي ... وأمنع نفسي أن تنال محرما
وأحمل من ثقل الهوى ما لو أنه ... يصب على الصخر الأصم تهدما
وينطق طرفي عن مترجم خاطري ... فلولا اختلاسي ورده لتكلما
رأيت الهوى دعوى من الناس كلهم ... فما أن حيا صحيحاً مسلماً
فقال له ابن شريح: ولم تفخر علي؟. ولو شئت أنا أيضاً لقلت:
ومسامر بالفتح من لحظاته ... قد بث أمنعه لذيذ سناته
ظناً بحسن حديثه وغنائه ... وأكدر اللحظات في وجناته
حتى إذا ما الصبح لاح عموده ... ولي بخاتم ربه وبراته
فقال ابن داود: نحفظ الوزير عليه ذلك حتى يقيم شاهدي عدل، أنه ولي بخاتم ربه، فقال ابن شريح: يلزمني في ذلك ما يلزمك في قولك.(2/171)
أنزه في روض المحاسن مقلتي ... وأمنع نفسي أن تنال محرما
فضحك الوزير وقال: لقد جمعتم ظرفا ولطفاً وفهماً وعلماً. انتهى.
قلت: فإن اعترض معتوض وقال: لا يلزم ابن داود ما ادعاه ابن شريح في قول ابن داود: " أنزه في روض المحاسن مقلتي " البيت، لأن الروض الحقيقي لا يلزم بالنظر إليه ارتكاب محرم. قلت: القرينة دالة من لفظه، على أنه لم يرد بالروض حقيقته، وإنما أراد الإستعارة المجازية. والشاهد عليه قوله في عجز البيت: " وأمنع نفسي أن تنال محرما "، وهو مفهوم أيضاً من صدر البيت، أعني قوله: روض المحاسن، فأضاف الروض إلى المحاسن.
وكان ابن داود المذكور عالماً في الفقه، وله تصانيف عديدة منها: " كتاب الوصول إلى المعرفة الأصول "، و " كتاب الإنذار "، و " كتاب الأعذار "، و " كتاب الإنتصار " على محمد بن جرير، وعبد الله بن سرسير، وعيسى بن إبراهيم الضرير وغير ذلك.
توفي رحمه الله يوم الإثنين تاسع شهر رمضان من السنة المذكورة، وعمره إثنان وأربعون سنة. وفي يوم وفاته توفي القاضي يوسف بن يعقوب الأزدي.
قلت: ونقل ابن خلكان عنه حكاية لا تصح، فإنه قال: ويحكى أنه لما بلغته وفاة ابن شريح، كان يكتب شيئاً، فألقى الكراسة من يده وقال: ما كنت أحث نفسي وأجهزها على الإشتغال لمناظرته ومقاومته. فإن ظاهر هذا اللفظ أن ابن داود هو الذي بلغته وفاة ابن شريح، فقال هذا القول، وهذا لا يصح لأن ابن شريح مات بعده في سنة ست وثلاثمائة، اللهم إلا أن يكون أسقط الكاتب من اللفظ شيئاً، أعني: قال: بلغت وفاته، بإثبات التاء قبل الهاء، فأسقطها الكاتب. ومع هذا فهو بعيد أيضاً لكونه يقتضي أن الإمام المنتجب الملقب بالباز الأشهب أبا العباس بن شريح، ما كان يصنف إلا لمناظرة ابن داود الظاهري. نعم يحكى عنه أنه لما مات تأسف كيف تأكل الأرض مثله. والله أعلم بذلك.
وفي السنة المذكورة توفي الحافظ ابن الحافظ محمد بن عثمان بن أبي شيبة.
وفيها توفي القاضي يوسف بن يعقوب كما تقدم.
ثمان وتسعين ومائتين
فيها توفي السيد الجليل الشيخ العارف محمد بن مسروق الطوسي، أستاذ الجنيد.
وفيها توفي أستاذ الطريقة، وحامل لواء الحقيقة، سيد الطائفة، تاج العارفين،(2/172)
قطب العلوم أبو القاسم الجنيد بن محمد القواريري الخزاز " بالخاء المعجمة والزاي المشددة المكررة " قدس الله تعالى روحه. وقيل: سنة سبع، وقيل: ست صحب خاله السري السقطي، والحارث بن أسد المحاسبي وغيرهما من جلة المشايخ. وممن صحبه من جلة الأئمة وأعلام الأئمة أبو العباس بن شريح الفقيه الشافعي المنتخب في العلوم المقتحم للخصوم. كان إذا تكلم في الأصول والفروع بكلام يعجب الحاضرين يقول لهم: أتدرون من أين لي هذا؟. هذا من بركة مجالستي أبا القاسم الجنيد.
وأصل الجنيد من نهاوند، ومولده ومنشأه العراق. وكان شيخ وقته وفريد عصره وكلامه في الطريقة وأسرار الحقيقة مشهور مدون، تفقه على أبي ثور صاحب الإمام الشافعي، وقيل بل كان فقيهاً على مذهب سفيان الثوري. وسئل عن العارف من هو؟. فقال من نطق عن شركه وأنت ساكت، وكان يقول: مذهبنا هذا مقيد بالأصول والكتاب والسنة.
وروي يوماً وفي يده سبحة، فقيل له: أنت مع شرفك تأخذ في يدك سبحة. فقال طريق وصلت به إلى ربي لا أفارقه. وقال: قال لي خالي السري: تكلم على الناس وكان في قلبي حشمة من الكلام على الناس فإني كنت أتهم نفسي في استحقاق ذلك، فرأيت في المنام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت ليلة الجمعة. فقال لي: تكلم عل الناس، وأتيت باب السري قبل أن أصبح، فدققت الباب فقال لي: لم تصدق حتى قيل لك فقعدت في غد للناس بالجامع، وانتشر في الناس أن الجنيد قعد يتكلم على الناس، فوقف علي غلام نصراني متنكراً وقال: أيها الشيخ، ما معنى قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله "؟ فأطرقت ساعة ثم رفعت رأسي، وقلت له أسلم فقد حان وقت إسلامك، فأسلم الغلام.
قلت: والناس يعتقدون أن في هذا للجنيد كرامة، وأقول: فيه كرامتان: إحداهما: اطلاعه على كفر الغلام.
والثانية: اطلاعه على أنه سيسلم في الحال.
وكل ذلك باطلاع الله تعالى له تفضيلاً وإكراماً وتخصيصاً وإنعاماً، وإن لم يكن ذلك مطرداً، فقد يعطي الكرامة المفضول، ويمنع الفاضل وعن أبي القاسم الجنيد أنه قال: ما انتفعت بشيء انتفاعي بأبيات سمعتها، قيل له: وما هي؟ قال: مررت بدرب القراطين فسمعت جارية تغني من دار فأنصت لها، فسمعتها تقول:(2/173)
إذا قلت أبدى الهجر لي حلل البلا ... تقولين: لولا الهجر لم يطب الحب
وإن قلت هذا القلب أحرقه الهوى ... تقولي الهوى الذي تشرق القلب
فصفقت وصيحت، فبينا أنا كذلك، إذا أنا بصاحب الدار قد خرج فقال: ما هذا يا سيدي؟ فقلت: ما سمعت، فقال: أشهد أنها هبة مني لك، فقلت: وقد قبلتها وهي حرة لوجه الله تعالى. ثم دفعتها لبعض أصحابنا بالرباط، فولدت له ولداً نبيلاً، ونشأ أحسن نشوء، وحج على قدميه ثلاثين حجة على الوحدة.
وأخبار الجنيد كثيرة، ومناقبه شهيرة، وسيرته حميدة، وكراماته عديدة. قيل: توفي آخر ساعة من نهار الجمعة، وقيل غير ذلك، ودفن بالشونيزية عند خاله السري. وكان عند موته قد ختم القرآن، ثم ابتدأ بقراءته، فقرأ سبعين آية من البقرة ثم مات. وإنما قيل له الخزاز لأنه كان يعمل الخز، وإنما قيل له القواريري: لأن أباه كان قواريرياً.
قلت: وذكر بعض المشايخ أنه لما صنف عبد الله بن سعيد بن كلاب كتابه الذي رد فيه على جميع المذاهب قال: هل بقي أحد؟ قيل له: نعم بقي طائفة يقال لها الصوفية، قال: فهل لهم من إمام يرجعون إليه؟. قيل: نعم، الأستاذ أبو القاسم الجنيد. فأرسل إليه، فسأله عن حقيقة مذهبه، فرد عليه الجنيد الجواب، بأن مذهبنا إفراد القدم عن الحدث، وهجران الإخوان والأوطان، ونسيان ما يكون وما كان. فلما سمع ابن كلاب هذا الجواب تعجب من ذلك وقال: هذا شيء، أو قال: كلام لا يمكن فيه المناظرة. ثم حضر مجلس الجنيد وسأله عن التوحيد، فأجابه بعبارة مشتملة على معارف الأسرار والحكم فقال: أعد علي ما قلت، فأعاده لا بتلك العبارة، فقال: هذا شيء آخر. فأعده علي، فأعاده بعبارة أخرى فقال: ما يمكننا حفظ ما تقول، فأمله علينا، فقال: لو كنت أجريه كنت أمليه، فقال بفضله واعترف بعلو شأنه. قلت: وإلى قوله: لو كنت أجريه كنت أمليه، أشرت على لسان صاحب الحال الجاري على لسانه كلام بغير اختيار على طريق التغزل بسلمى، ويشبهها حيث أقول حاكياً لكلام شيخنا، قدس الله تعالى روحه. في حال غيبته بالحال الوارد عليه:
وما قلت قولاً، غير أني أعرتها ... لساني، فأومت للهوى يتكلم
فأسرارها منها علمت، وعندما ... شكرت جليسي شرها منه يعلم
أعني: يعلم الجليس السر الجاري على لسان المتكلم بواسطة الهوى المشار إليه بالتكلم من جهة المحبوب المكنى عنه سلمى تستر.
وروي عن بعض المشايخ الصوفية الجلة أنه قال: قال لي الكعبي من كبار أئمة المعتزلة رأيت لكم شيخاً ببغداد يقال له الجنيد، ما رأت عيني مثله، كانت الكتبة يحضرونه لألفاظه،(2/174)
والفلاسفة لدقة كلامه، والشعراء لفصاحته، والمتكلمون لمعانيه وكلامه، ناء عن فهمهم وكان رضي الله تعالى عنه من صغره منطقاً بالمعارف والحكم، حتى أن خاله السري سئل عن الشكر والجنيد يلعب مع الصفار فقال له: ما تقول يا غلام. فقال: الشكر أن لا تستعين بنعمة على معاصيه، فقال السري: ما أخوفني عليك أن يكون حظك في لسانك. قال الجنيد: فلم أزل خائفاً من قوله هذا حتى دخلت عليه يوماً، وجئته بشيء كان محتاجاً إليه فقال لي: أبشر فإني دعوت الله عز وجل أن يسوق لي ذلك على يد مفلح، أو قال: موفق، اللهم إنا نسألك التوفيق، ونعوذ بك من الخذلان والتعويق، بجاه نبيك الكريم، عليه أفضل الصلاة والتسليم.
وعن الأستاذ أبي القاسم المذكور أنه قال: دخلت الكوفة في بعض أسفاري، فرأيت داراً لبعض الرؤساء، وقد سف عليها النعيم، وعلى بابها عبيد وغلمان، وفي بعض رواشتها جارية تغني وتقول:
ألا يا دار لا يدخلك حزن ... ولا يعبث بساكنك الزمان
فنعم الدار أنت لكل ضيف ... إذا ما الضيف أعوزه المكان
قال: ثم مررت بعد مدة، فإذا الباب مسود، والجمع مبدد، وقد ظهر عليها كآبة الذل والهوان، وأنشد لسان الحال:
ذهبت محاسنها وبان شجونها ... والدهر لا يبقي مكاناً سالماً
فاستبدلت من أنسها بتوحش ... ومن السرور بها عزاء وغما
قال: فسألت عن خبرها، فقيل لي: مات صاحبها، فآل أمرها إلى ما ترى. فقرعت الباب الذي كان لا يقرع، فكلمتني جارية بكلام ضعيف، فقال لها: يا جارية، أين بهجة هذا المكان؟. وأين أنواره؟ وأين شموسه؟ وأين أقماره؟. وأين قصاده؟. وأين زواره؟ فبكت، ثم قالت: يا شيخ، كانوا فيه على سبيل العلوية، ثم نقلتهم الأقدار إلى دار القرار، وهذه عادة الدنيا، ترحل من سكن فيها، وتسيء إلى من أحسن إليها. فقلت لها: يا جارية، مررت بها في بعض الأعوام، وفي هذا الروشن جارية تغني: " ألا يا دار لا يدخلك حزن "، فبكت وقالت: أنا والله تلك الجارية، لم يبق من أهل هذه الدار أحد غيري، فالويل لمن غرته دنياه. فقلت لها: فكيف قربك القرار في هذا الموضع الخراب؟ فقالت لي: ما أعظم جفاءك، أما كان هذا منزل الأحباب؟ ثم أنشأت:
قالوا اتغتي وقوفاً في منازلهم ... وليس مثلك لا يغني بحملها
فقلت والقلب قد ضجت أضالعه ... والروح تنزع والأشواق تبدلها(2/175)
منازل الحب في قلبي معظمة ... وإن خلا من نعيم الوصل منزلها
فكيف أتركها، والقلب يتبعها ... حباً لمن كان قبل اليوم ينزلها
قال: فتركتها ومضيت، وقد وقع شعرها من قلبي موقعاً، وأزاد قلبي تولعاً.
قلت: ومن العبر العظيمات مما يناسب هذه الحكاية في سرعة الممات أنها قرئت علي هذه الترجمة لأبي القاسم الجنيد في منزلي، في بعض الليالي، وأنا حينئذ في المدينة الشريفة، وكانت زوجتي زينب بنت القاضي نجم الدين الطبري تسمع قراءتها، فذكرت في تلك الليلة شيئاً من هذه الحكاية، مما كان على ذهني منها. ثم أردت أن أكتبها، وألحقها بالترجمة المذكورة لنسمعها في ليلة أخرى زوجتي المشار إليها، فما تيسرت كتابتها إلا اليوم الثالث من موتها، ولا قرأنا شيئاً من هذا التاريخ في بيتها سوى ليلة، وقد نزل مرض الموت بها رحمها الله تعالى وأنزلها. داراً خيراً من دارها.
وفي السنة المذكورة توفي الشيخ الكبير العارف بالله تعالى الشهير أبو عثمان الحيري " بكسر الحاء المهملة والراء وسكون الياء المثناة من تحت بينهما " سعيد بن إسماعيل، شيخ نيسابور في زمانه، وواعظها وكبير الصوفية بها. صحب الشيخ الكبير الجليل أبا حفص النيسابوري، وكان كبير الشأن مجاب الدعوة.
تسع وتسعين ومائتين
فيها توفي شيخ نيسابور، أبو عمرو الخفاف، أحمد بن نصر الحافظ الزاهد. سمع إسحاق بن راهويه. وقال ابن خزيمة يوم وفاته: لم يكن بخراسان أحفظ للحديث منه.
وفيها توفي أبو الحسن محمد بن أحمد بن كيسان البغدادي النحوي، صاحب التصانيف في القراءة والجريب والنحو. وكان أبو بكر بن مجاهد يعظمه ويطريه ويقول: هو أنحى من الشيخين. يعني ثعلباً والمبرد.
ثلاث مائة
فيها توفي صاحب الأندلس: أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية الأموي. وكانت دولته خمساً وعشرين سنة. ولي بعد أخيه المنذر، وكان ذا صلاح وعبادة وعدل وجهاد، يلتزم الصلوات في الجامع، وله غزوات كبار، أشهرها غزوة ابن حفصون، وكان ابن حفصون في ثلاثين ألفاً، وهو في أربعة(2/176)
عشر ألفاً، فالتقيا فانكسر ابن حفصون، وتبعه عبد الله يأسر ويقتل حتى لم ينج منهم أحد. وكان ابن حفصون من الخوارج.
وفيها توفي أبو الحسن علي بن سعيد العسكري، أحد أركان الحديث. وأبو الحسين مسدد بن قطن النيسابوري. قال الحاكم: كان مربي عصره، والمقدم في الزهد والورع.
وفيها توفي أبو أحمد يحيى بن علي المعروف بابن المنجم. كان أول أمره نديم الموفق طلحة بن المتوكل على الله، وكان الموفق نائباً عن أخيه المعتمد على الله، ولم يل الخلافة، ثم نادم يحيى المذكور الخلفاء بعد الموفق، واختص بمنادمة المكتفي بالله، وعلت رتبته عنده، وتقدم على خواصه وجلسائه. وكان متكلماً معتزلي الإعتقاد، وله في ذلك كتب كثيرة. وكان له مجلس يحضره جماعة من المتكلمين بحضره المكتفي، وله مع المعتضد وقائع ونوادر. من ذلك أنه قال: كنت يوماً بين يدي المعتضد، وهو مغضب، فأقبل بدر مولاه وهو شديد الغرام به، فلما رآه من بعيد ضحك وقال: يا يحيى، من الذي يقول من الشعراء:
في وجهه شافع يمحو إساءته ... من القلوب، وجيه حيث ما شفعا
فقلت: يقوله الحكم بن عمر والشاري. فقال: لله دره، أنشدني هذا الشعر، فأنشدته:
ويلي على من أطار النوم فامتنعا ... وزاد قلبي على أوداجه وجعا
كأنما الشمس في أعطافه لمعت ... حسناً أو البدر من أزراره طلعا
مستقبل بالذي يهوى وإن كثرت ... منه الذنوب، ومعذور متى صنعا
في وجهه شافع يمحو إساءته ... من القلوب، وجيه حيث ما شفعا
وفي حدود الثلاث مائة توفي أحمد بن يحيى الراوندي الملحد. وكان يلازم الرافضة والزنادقة، قال ابن الجوزي: كنت أسمع عنه العظائم حتى رأيت في كتبه ما يخطر على قلب أن يقوله عاقل، فمن كتبه: " كتاب نعت الحكمة "، و " كتاب قضب الذهب "، و " كتاب الزمرد "، وقال ابن عقيل: عجبي كيف لم يقتل، وقد صنف " الدامغ " يدمغ به على القرآن، و " الزمردة " يزري به عيب النبوات.(2/177)
وذكر بعضهم أن له من التصانيف ما ينيف على مائة مصنف. قلت: والمشاهير من أهل الحق ينقلون عنه في كتب الأصول أشياء ينسبونه فيها إلى الزندقة والإلحاد، فلا اعتبار لمن يمدحه بالفضائل كابن خلكان وغيره.
إحدى وثلاث مائة
فيها قتل أبو سعيد القرمطي، صاحب هجر قتله خادم في الحمام " روادة "، ثم خرج فاستدعى رئيساً من خواض أبي سعيد القرمطي، فقال: السيد يطلبك، فلما دخل قتله، ثم آخر، ثم آخر كذلك، حتى قتل أربعة، يستدعيهم واحدا بعد واحد، ثم صاح النساء، فتكاثر الناس على الخادم، فقتلوه. وكان هذا الملحد قد تمكن وهزم الجيوش، ثم هادنه الخليفة، واسمه الحسن بن بهرام.
وفيها سار عبد الله المهدي المتغلب على المغرب على أربعين ألفاً ليأخذ مصر، حتى بقي بينه وبين مصر مسيرة أتام، فحجز أمير مصر النيل، وحال الماء بينه وبين مصر، ثم جرت بينهم وبين جيش المقتدر حروب، فرجع المهدي إلى برقة، بعد أن ملك الإسكندرية والفيوم.
وفيها توفي الحافظ العلامة جعفر بن محمد أبو بكر صاحب التصانيف. وكان من أوعية العلم.
وفيها توفي الحافظ أبو عبد الله محمد بن يحيى بن منده العبدي الأصبهاني، جد الحافظ الكبير محمد بن إسحاق بن منده.
وفيها توفي الأمير علي بن أحمد الراسي، أمير جند نيسابور، وخلف ألف فرس وألف ألف دينار أو نحو ذلك.
وفيها توفي البشامي علي بن محمد الشاعر المشهور. كان من أعيان الشعراء ومحاسن الظرفاء لسناً مطبوعاً في الهجاء. قالوا: لم يسلم منه أمير ولا وزير ولا صغير ولا(2/178)
كبير، حتى وقع ذلك منه في أبيه وإخوته وسائر أهل بيته. ونقلوا في ذلك أشعاراً ومن شعره في غير الهجاء قوله:
وكانت بالسراة لنا ليال ... سرقناهن من ريب الزمان
جعلناهن تاريخ الليالي ... وعنوان المسرة والأمان
ومن قوله في هجاء بعض الكتاب:
تعس الزمان لقد أتى بعجاب ... ومحا رسوم الظرف والآداب
وأتى بكتاب لو انبسطت يدي ... فيهم رددتهم إلى الكتاب
ودخل وزير المعتضد، والمعتضد ينشد هجاء فيه، فلما رآه المعتضد استحيى منه وقال: اقطع لسان ابن بشام. فخرج الوزير مبادراً لقطع لسانه، فاستدعاه المعتضد وقال: اقطع لسانه بالبر والشغل، ولا تعرض له بسوء، فولاه البريد وبعض الأعمال والبشامي نسبة إلى الجد والهجاء الذي دخل الوزير، والمعتضد ينشده هو:
قل لأبي القاسم المروزي ... قابلك الدهر بالعجائب
مات لك ابن وكان زيناً ... وعاش ذو الشين والمعائب
حياة هذا كموت هذا ... فليس تخلو من المصائب
يعني بأبي القاسم: أبا الوزير المذكور، وكان قد مات له ابن هو أخو الوزير. والمعنى أن حياة الوزير مصيبة، كما أن موت أخيه مصيبة.
وفيها توفي الوزير أبو الفضل جعفر بن الفضل بن جعفر، المعروف بابن الفرات وكان وزير بني الأختل بمصر مدة إمارة كافور، وبعد وفاة كافور. وكان عالماً ومحباً للعلماء، وحدث عن محمد بن هارون الحضرمي وطبقته، وعن جماعة آخرين، وكان يملي الحديث بمصر، وهو وزيره، وقصده الأفاضل من البلدان الشاسعة، وبسببه سار الحافظ الحسن الدارقطني من العراق إلى مصر، ولم يزل عنده حتى فرغ من تأليف مسند، وله تأليف في أسماء الرجال والأنساب وغير ذلك. ومدحه المتنبي مع كافور، وكان كثير الخير أهل الحرمين. واشترى بالمدينة داراً ليس بينها وبين الضريح النبوي سوى جدار واحد وأوصى أن يدفن فيها، وقرر مع الأشراف ذلك، ولما مات حمل تابوته، وخرجت الأشراف إلى لقائه وفاء بما أحسن إليهم، وحجوا به وطافوا، ووقفوا، ثم ردوه إلى المدينة، ودفنوه بالدار المذكور، وقيل: دفن بالقرافة، وعلى قبره مكتوب اسمه.(2/179)
أثنتين وثلاث مائة
فيها عاد المهدي إلى الإسكندرية، فوقعت وقعة كبيرة، قتل فيها نائبه، فرداً إلى القيروان.
وفيها أخذت طيىء الركب العراقي، وتمشرق الوفد في البرية، وأسروا من النساء مائتين وثمانين.
وفيها توفي العلامة فقيه المغرب أبو عثمان بن حداد الإفريقي المالكي. أخذ عن سحنون وغيره. برع في العربية والنظر. ومال إلى مذهب الشافعي، وجعل يسمي المدونة المزورة، فهجره المالكية، ثم أحبوه لما قام على أبي عبد الله السيفي، وناظره ونصر السنة.
وفيها توفي العلامة أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن الأصبهاني، إمام جامع أصبهان، أحد العباد والحفاظ.
ثلاث وثلاث مائة
فيها توفي الحافظ أحد الأئمة الأعلام، صاحب المصنفات، أبو عبد الرحمن أحمد بن علي النسائي، إمام عصره في الحديث، وله كتاب السنن وغيره، سكن مصر وانتشرت بها تصانيفه، وأخذ عنه الناس، وخرج إلى دمشق، فسئل عن معاوية وما روى من فضائله فقال: أما يرضى معاوية أن يخرج رأساً برأس حتى يفضل؟. وفي رواية أخرى: ما أعرف له فضيلة إلا: لا أشبع بطنك. وكان يتشيع، فما زالوا يدفعون في خطبته حتى أخرجوه من المسجد. وفي رواية أخرى: يدفعون في خطبته، وداسوه، ثم حمل إلى الرملة فمات بها.
وقال الحافظ أبو الحسن الدارقطني: لما امتحن النسائي بدمشق قال: احملوني إلى مكة، فحمل إليها فتوفي بها. وهو مدفون بين الصفا والمروة، وقال الحافظ أبو نعيم: لما داسوه بدمشق مات بسبب ذلك الدوس وهو مقتول.
قال: وكان قد صنف " كتاب الخصائص " في فضل علي رضي الله تعالى عنه، وأهل البيت. فقيل له: ألا تصنف كتاباً في فضائل الصحابة؟. فقال: دخلت دمشق، والمتحرف عن علي كثير، فأردت أن يهديهم الله تعالى بهذا الكتاب، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان موصوفاً بكثرة الجماع.(2/180)
قال الحافظ ابن عساكر: كان له أربع زوجات، يقسم لهن وجواري، وقال الدارقطني: أدرك الشهادة، وتوفي بمكة ونسبته إلى نسا مدينة بخراسان.
وفيها توفي الحافظ الكبير أبو العباس الحسين بن سفيان الشيباني بفقه على أبي ثور. وكان يفتي بمذهبه قال الحاكم: كان محدث خراسان في عصره، مقدماً بالثبت والكثرة والفهم والأدب.
وفيها توفي أبو علي الجبائي، محمد بن عبد الوهاب، شيخ المعتزلة.
وفيها توفي يموت بن المزرع بن يموت العبدي البصري، قال الخطيب هو ابن أخت أبي عثمان الجاحظ، قدم يموت المذكور بغداد في سنة إحدى وثلاث مائة، وهو شيخ كبير، وحدث بها عن أبي عثمان المازني، وأبي حاتم السجستاني، وجماعة كثيرة. وروى عنه أبو بكر الخرائطي، وأبو بكر بن مجاهد المقرىء، وأبو بكر الأنباري وغيرهم. وكان أديباً أخبارياً، وله ملح ونوادر، وكان لا يعود مريضاً خوفاً من أن يتطير من اسمه، ويقول: بليت بالأسم الذي سماني به أبي فإذا عدت مريضاً فاستأذنت عليه، فقيل: من هذا؟ قلت: أنا ابن المزرع، وأسقطت اسمي. وقيل إنه كان قد سمى نفسه محمداً، ومدحه منصور بن الضرير فقال:
أنت تجيء والذي ... يكره أن تجيء يموت
أنت ضوء النفس بل ... أنت لروح النفس قوت
أنت للحكمة بيت ... لا خلت منك البيوت
ومن أخباره ما رووه عن الأصمعي قال: كنت عند الرشيد، وقد أتي بعبد الملك صالح الباسي، وهو يرفل في قيوده. فلما نظر الرشيد إليه قال: هيه يا عبد الملك كأني والله أنظر إلى شؤبوبها قد همع وإلى عارضها قد تبلع، وكأني بالوعيد أقلع عن براجم بلا عاصم، ورؤوس بلا عاصم، مهلاً مهلاً بني هاشم، فتى والله سهل لكم الوعر، وصفى الكدر، وألقت إليكم الأمور أزمتها، فخذوا حذاركم مني قبل حلول داهية، خيوط باليد والرجل.
قال عبد الملك: أفرداً أتكلم أم توأماً؟ فقال: بل توأماً، فقال: اتق الله يا أمير المؤمنين(2/181)
فيما ولآك، وراقبه في رعاياك التي استرعاك، فقد سهلت والله لك الوعور، وجمعت على خوور، ورجا بك الصدور. وكنت كما قال أخو جعفر بن كلاب: ومقام ضيق فرجته بلسان وبيان، وجدل لو يقوم القيل أو قياك في مقام كمقامي لرجل، أو قال: نفسك فأراد يحيى بن خالد البرامكي أن يضع مقدار عبد الملك عند الرشيد فقال له: بلغني أنك حقود، فقال عبد الملك: إن يكن الحقد هو بقاء الخير والشر عندي فإنهما لباقيان في قلبي، قال. الأصمعي: فالتفت الرشيد إلي وقال: يا أصمعي، والله لو نظرت إلى موضع السيف من عنقه مراراً، يمنعني من ذلك إبقائي على قومي في مثله.
ومما روى يموت أيضاً أن أحمد بن محمد بن عبد الله المعروف بابن المدبر الكاتب أن إذا مدحه شاعر، ولم يرض شعره قال لغلامه: امض به إلى المسجد ولا تفارقه حتى يصلي مائة ركعة، ثم أطلقه. فتحاماه الشعراء من الأفراد المجيدين، فجاءه أبو عبد الله الحسن بن عبد السلام المعروف بالجمل، فاستأذنه في النشيد فقال: قد عرفت الشرط؟. قال: نعم، ثم أنشده.
أردنا في أبي حسن مديحاً ... كما بالمدح ينتجع الولاة
فقلنا: أكرم الثقلين طراً ... ومن كفاه دجلة والفرات
فقالوا: يقبل المدحات لكن ... جوائزه عليهن الصلاة
فقلت لهم: وما تغني صلاتي ... عيالي إنما الشأن الزكاة
فتأمرني بكسر الصاد منها ... وتصبح لي الصلاة هي الصلات
فضحك ابن المدبر واستطرفه، وقال: من أين أخذت هذا؟ فقال: من قول أبي تمام الطائي:
هن الحمام وإن كسرت عناقه ... من جابهن فإنهن حمام
فاستحسن ذلك، وأحسن صلته، وحدث ابن المزرع أيضاً عن خاله أبي عثمان الجاحظ أنه قال: طلب المعتصم جارية كانت لمحمود بن الحسن الشاعر المعروف بالوراق وكانت تسمى بشنوى، وكان شديد الغرام بها، وبذل في ثمنها سبعة آلاف دينار، فامتنع محمود من بيعها، لأنه كان يهواها أيضاً. فلما مات محمود بيعت الجارية للمعتصم تركته بسبعمائة دينار، فلما دخلت عليه قال لها: كيف رأيت تركتك حتى اشتريتك من سبعة آلاف دينار بسبعمائة دينار؟. فقالت: أجل. إذا كان الخليفة ينتظر لشهواته المواريث فإن سبعين ديناراً لكثيرة في ثمني، فضلاً عن سبعمائة، فخجل المعتصم.
وقال ابن المزرع: حدثني من رأى قبراً بالشام عليه مكتوب: لا يغترن أحد بالدنيا،(2/182)
فإني ابن من كان يطلق الريح إذا شاء ويحبسها. وبحذائه قبر عليه مكتوب: كذب الماص بظر أمه. لا يظن أحد أنه ابن سليمان بن داود عليه السلام، إنما هو حداد يجمع الريح في الزق، ثم ينفخ بها الجمر.. قال: فما رأيت قبرين قبلهما يتشابهان. قلت: وفي هذا المعنى خطر لي وقت وقوفي عليه إنشاء بيت على طريق اللغز معيراً بارتحاله عن لسان حاله نائباً عنه في مقاله:
أنا ابن الذي للريح يمسك إن يشا ... ويرسلها إن شاء للنفع ثارها
ومما يناسب هذا مقال اثنين، مشهور لغزهما، ضمنته نظماً وآخرين اخترتهما لغزاً لفظاً ومعنى، وعن لغز الأربعة أشرت في بعض القصيدات بهذه الأبيات.
من اللغز قول اثنين كل مجاوب ... لبعض ولاة ناظماً مترفعاً
أنا ابن الذي ذلت رقاب الورى له ... ومخزومها منهم وهاشمها معا
إلى نحوها تأتي لأمر مطيعة ... فمرد بها والمال يأخذ خضعا
وقال الفتى الثاني له في جوابه ... وقد شام برق المجد من ذاك شعشعا
أنا ابن الذي لا ينزل الأرض قدره ... وإن نزلت تغلو وتعلا بمشبعا
ترى الناس أفواجاً إلى ضوء ناره ... وقد ملؤوا الرحب الفسيح الموسعا
وخذ ثالثاً قال اعتز متفاخراً ... لمجد وجد كي يصان ويرفعا
أنا ابن الفتى دباج كل سمينة ... ومزهق أرواح تماض مصرعا
ومفن بشجعان القرون محصنا ... لسفرك أقران التسفك ضجعا
ورابعهم قال افتخار أمنا هيا ... بأصل وفصل للسناء متطلعا
أنا ابن الذي يكسو الأنام صنيعه ... بها وزينا من له الغير صنعا
يوصل وقطع مبرم في فعاله ... لما لم يصل في الدهر غير ويقطعا
عن الأولين استنجزوا وترحلوا ... وقد سمعوا المجد الأثيل المرفعا
فقيل ابن حجام وطباخ اعتزل ... إلى المجد كل باحتيال ليخدعا
وقل ثالثاً يحل الجزار فرية ... ومن حائك من للثلاثة ربعا
أعني أن الأولين وردا على بعض الولاة، فسألهما عن أصلهما، فأجابا بالجوابين المذكورين اللذين بين كثير من الناس مشهورين. ثم عبرت عن مقالهما بنظمي المذكور، ثم أنشأت على وجه الإختراع لغزاً لإثنين آخرين ليس له عند أحد من الناس سماع، وأشرت إلى ذلك بقولي: " وخذ ثالثاً إلى الآخر "، ثم أوضحت وصف الأربعة يكون الأولين ابني حجام وطباخ، والآخرين ابني جزار وحائك. وقصيدتي المذكورة هي الموسومة بنزهة النطار، مشتملة على ستة من العلوم، ثم شرحتها شرحاً موسوماً بمنهل الفهوم المروي من صدى(2/183)
الجهل المذموم في شرح ألسنة العلوم، وهي المعاني والبيان والبديع والعروض والقافية والسلوك، أعني سلوك منازل الطريقة للسائرين إلى الحضرة من أولي الحقيقة.
خمس وثلاث مائة
فيها قدم رسول ملك الروم يطلب الهدنة، فاحتفل للمقتدر بجلوسه له، وأقام الجيش بالسلاح، وكانوا عامة وستين ألفاً. ثم الغلمان وكانوا سبعة آلاف، وكانت الحجاب سبع مائة. وعلقت ستور الديباج، وكانت ثمانية وثلاثين ألف ستر من البسط وغيرها، ومما كان في الدار سبعمائة سلسلة. ثم أدخل الرسول دار الشجرة، وفيها بركة وفيها شجرة لها أغصان عليها طيور مذهبة، وورقه ألوان مختلفة، وكل طائر يصفر لوناً بحركات مصنوعة، ثم أدخل الفردوس، وفيها من الفرش والآلات ما لا يقوم. قلت: هذه التسمية بالفردوس تشبيهاً بما سماه الملك القدوس من الضلال وطغيان النفوس.
وفي السنة المذكورة توفي مسند العصر أبو حنيفة البصري الجمحي الفضل بن الحباب، وكان محدثاً متقناً أخبارياً عالماً.
ست وثلاث مائة
فيها أو قبلها: أمرت أم المقتدر في أمور الأمة، ونهت لركالة حال ابنها، فإنه لم يركب للناس ظاهراً منذ استخلف إلى سنة إحدى وثلاث مائة، ثم ولي ابنه علياً إمرة مصر وغيرها، وهو ابن أربع سنين، وهذا من الوهن والخلل الذي دخل على الأمة. ولما كان في السنة المذكورة أمرت أمه القهرمانة أن تجلس للمظالم، وتنظر في القصص كل جمعة بحضرة القضاة، وكانت تبرز التواقيع عليها خطها.
وفيها أقبل القائم محمد بن المهدي صاحب المغرب في جيوشه، فأخذ الإسكندرية وأكثر الصعيد، ثم رجع.
وفيها توفي القاضي الفقيه الإمام، علم الأعلام، الطراز المذهب الملقب بالباز الأشهب، حامل لواء مذهب الشافعي وناشره، ومؤيده في زمانه وناصره، أبو العباس أحمد بن عمر بن شريح، شيخ الشافعية، فقيه في زمانه، صاحب التصانيف الكثيرة(2/184)
والفضائل الشهيرة. يشمل فهرست كتبه على أربعمائة مصنف، أخذ الفقه عن أبي القاسم الأنماطي عن المزني، والمزني عن الشافعي. قيل وكان يفضل على جميع أصحاب الشافعي حتى على المزني. قال أهل الطبقات: وعنه أخذ فقهاء الإسلام من الشافعية، واشتهر مذهب الشافعي في الآفاف. وانتشر، وقام بنصرة المذهب والرد على المخالفين، وفرع على كتب محمد بن الحسن الحنفي وكان شيخ طريقة العراق أبو حامد الأسفراييني يقول: نحن نجري مع أبي العباس في ظواهر الفقه دون دقائقه.
قلت: وسمعت من بعض شيوخنا أنه سأله إنسان: كيف يلبي المحرم؟. فقال: يقول لبيك، اللهم لبيك، اللهم لبيك، إلى آخر التلبية المعروفة، فقال السائل. صرت محرماً فقال ابن سريج " تزببت حصرماً "، قلت: قاله تحكماً، لأن الحصرم لا يجيء منه زبيب وإنما قال السائل: صرت محرماً، لأنه قيل أن ابن سريج كان يقول: يلزم الحكم بالحكا والله أعلم، وكان يناظر محمد بن داود الظاهري. حكى أنه قال له ابن داود يوماً: أبلعني ريقي، قال ابن سريج أبلعتك دجلة. وقال له يوماً: أمهلني ساعة، فقال: أمهلتك الساعة إلى أن تقوم الساعة، وقال له يوماً: أكلمك من الرجل فتجيبني من الرأس. فقال هكذا البقر إذا خفيت أظلافها وهنت قرونها.
وقال الشيخ الإمام المعروف بالفقه والإتقان أبو علي بن خيران: سمعت أبا العباس سريج يقول: رأيت كأنا مطرنا كبريتاً أحمر، فملأت أكمامي وحجري منه، فعبر لي أن أرزق علماً عزيزا كعزة الكبريت الأحمر. وكان يقال له في عصره: إن الله تعالى بعث عمر عبد العزيز على رأس المائة من الهجرة، فأظهر كل سنة وأمات كل بدعة، ومن الله تعالى على رأس المائتين بالإمام الشافعي، حتى أظهر السنة وأخفى البدعة. ومن الله تعالى رأس الثلاثمائة بك حتى قويت كل سنة، وضعفت كل بدعة.
قلت: هكذا ذكر في التاريخ، ولكن الذي صرح به الحافظ الإمام أبو القاسم عساكر أن الصحيح أنه كان على رأس الثلاثمائة الإمام أبو الحسن الأشعري، لأنه الذي على أئمة المبتدعة، ونصر مذهب أهل الحق والسنة. والناس في ذلك الزمان إلى إقامة الحق والذب عن السنة وإبطال مذاهب البدعة بقواطع الأدلة والبراهين المقحمة المقررة في علم الأصول، أحوج منهم إلى معرفة الفروع. وكان الشيخ أبو الحسن الأشعري أولى بأن يكون من المجددين الذين على رأس كل مائة سنة المشار إليهم في الحديث على وجه الإبهام دون التعيين. وسيأتي ذكر من على رأس المائتين اللاتي بعد إن شاء تعالى.(2/185)
ولابن سريج المذكور مع فضائله نظم حسن، وفهم مشكور. عاش سبعاً وخمسين سنة وستة أشهر. وكان جده سريج رجلاً مشهوراً بالصلاح الوافر. وهو سريج بن يونس بن إبراهيم بن الحارث المروزي الزاهد العابد، صاحب الكرامات. وقد تقدم تاريخ موته في سنة خمس وثلاثين ومائتين، روى الحديث عن الحسن بن محمد الزعفراني.
وفي السنة المذكورة توفي الفقيه الإمام أبو الحسن منصور بن إسماعيل بن عمر التميمي المصري الفقيه الشافعي الضرير. أصله من " رأس عين " البلدة المشهورة بالجزيرة، وأخذ الفقه عن أصحاب الإمام الشافعي، وعن أصحاب أصحابه، وله مصنفات من المذهب مليحة، منها الواجب والمستعجل والمسافر والهداية، وغير ذلك من الكتب. وله شعر جيد ذكره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الفقهاء، وأنشد له:
عاب التفقه قوم لا عقول لهم ... وما عليه إذا عابوه من ضرر
ما ضر شمس الضحى والشمس طالعة ... أن لا يرى ضوءها من ليس ذا بصر
وحكي أنه أصابته مسغبة في سنة شديدة القحط، فرقي سطح داره، ونادى بأعلى صوته: الغياث، الغياث، نحن خلجاً لكم، وأنتم تجار، وإنما يحسن المواساة في الشدة، لا حين ترخص الأسعار. فسمعه جيرانه، فأصبح على بابه مائة جمل بر.
وفي السنة المذكورة توفي الشيخ الكبير أبو عبد الله بن الجلاء، أحمد بن يحيى. من أجل شيوخ الصوفية، صحب ذا النون المصري والكبار. كان قدوة أهل الشام، قال لأبويه: اشتهي أن تهباني لله عز وجل، فقال: قد وهبناك له فغاب عنهما مدة من الزمان، ثم جاء في ليلة ذات مطر وبرد، فقرع عليهما الباب، فقالا: من هذا. قال: ولدكما. قالا: ليس لنا ولد، وهبناه لله عز وجل، ونحن قوم عرب إذا وهبنا شيئاً لا نرجع فيه.
وفيها توفي الإمام الحافظ صاحب التصانيف أبو محمد عبدان بن أحمد الأهوازي الجوالقي.
سبع وثلاث مائة
فيها توفي أبو يعلى الموصلى التميمى الحافظ، صاحب المسند. والحافظ الكبير(2/186)
أبو بكر محمد بن هارون الروياني صاحب المسند، وله تصانيف في الفقه.
ثمان وثلاث مائة
فيها ظهر اختلال الدولة العباسية، وخشيت الفتنة ببغداد، فركبت الجند، وسبب ذلك كثرة الظلم من الوزير حامد بن العباس، فقصد العامة داره، فحاربتهم غلمانه، وكان له مماليك كثيرة، ودام القتال أياماً، فقتل خلق كثير، ثم استفحل البلاء، ووقع النهب ببغداد. وجرت فتن وحروب بمصر، وملك العبيديون جيزة الفسطاط، وخرج الخلق، وشرعوا الحرب والحفل.
وفيها توفي الفقيه الصالح راوي صحيح مسلم، إبراهيم بن محمد بن س النيسابوري. قيل كان مجاب الدعوة.
وفيها توفي الحافظ الكبير أبو محمد عبد الله بن محمد الدينوري، سمع الكثير وطوف الأقاليم.
وفيها توفي أبو الطيب، محمد بن المفضل الضبي الفقيه الشافعي من كبار الفقهاء ومتقدميهم. أخذ الفقه عن أبي العباس سريج، وكان موصوفاً بفرط الذكاء، وله تصانيف، وله في المذهب وجوه حسنة وأبوه أبو طالب المفضل الضبي اللغوي صاحب التصانيف المشهورة في فنون الأدب ومعاني القرآن. وجده سلمة بن عاصم صاحب الفراء وراويته، وهم أهل بيت كلهم علماء نبلاء مشاهير، رحمهم الله تعالى، وقيل أن ابن الرومي هجا المفضل المذكور فقال:
لو تلففت في كساء الكسائي ... وتفريت فروة الفراء
وتخللت بالخليل، وأضحى ... سيبويه لديك رهن ضياء
وتلونت من سواد أبي الأسود ... شخصاً يكنى أبا السوداء
إلا بالله أن يعدك أهل العلم ... إلا في جملة الأغبياء
فلما بلغ هذا الهجاء الوزير إسماعيل بن بلبل شق عليه، وحرم ابن الرومي عطاياه، لأن المفضل المذكور كان له اتصال بالوزير المذكور.
وفيها توفي الحافظ أبو العباس الوليد بن أبان بأصبهان، صاحب المسند والتفسير.
وفيها توفي المفضل الجندي " بفتح الجيم والنون " اليمني.(2/187)
وفيها توفي أبو الفرج يعقوب بن يوسف بن إبراهيم وزير العزيز بن المعتز العبيدي، صاحب مصر، قالوا: وكان يعقوب أولاً يهودياً يزعم أنه من أولاد هارون بن عمران، أخي موسى صلوات الله عليهما وقيل بل يزعم أنه من ولد السموأل بن عاديا اليهودي، صاحب الحصن المعروف بالأبلق، القائل على ما ذكره بعضهم نسبة إليه:
وما ضرنا أنا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل
في أبيات له منها:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداء يرتديه جميل
وإن هو لم يجمل على النفس ضمها ... فليس إلى حسن الثناء سبيل
وكان يعقوب قد قدم به أبوه من بغداد إلى مصر، وقد تعلم الكتاب والحساب، فجعله كافور الأخشيدي على عمارة داره، ثم لما رأى كافور نجابته وشهامته وصيانته ونزاهته وحسن إدراكه، ولم يقبل سوى قوته، فتقدم كافور إلى سائر الدواوين أن لا يمضي دينار ولا درهم إلا بتوقيعه، فوقع في كل شيء، وكان يبر ويصل من اليسير الذي يأخذه. كل هذا وهو على دينه، ثم إنه أسلم يوم اثنين لثماني عشرة ليلة مضت من شعبان سنة ست وخمسين وثلاثمائة، ولزم الصلاة ودراسة القرآن، ورتب لنفسه رجلاً من أهل العلم شيخاً عارفاً بالقرآن والنحو، حافظاً الكتاب السير، في مكان يبيت عندي، ويصلي به، ويقرأ عليه، ولم يزل حاله يتزايد مع كافور إلى أن توفي كافور في التاريخ المذكور، وكان ابن الفرات وزير كافور يحسده ويعاديه. ولما مات كافور قبض ابن الفرات على جميع الكتاب وأصحاب الدواوين، وقبض على يعقوب في جملتهم، ولم يزل يتوصل ويبذل المال حتى أفرج عنه. فلما خرج من الإعتقال توجه إلى بلاد المغرب، فلقي جوهراً الخادم، وهو متوجه بالعساكر والخزائن إلى الديار المصرية ليملكها، فرجع في صحبته، وقيل بل استمر على قصده، وانتهى إلى إفريقية، وتعلق بخدمة المعز، ثم رجع إلى الديار المصرية، فلم يزل يترقى إلى أن تولى الوزارة للعزيز، وعظمت منزلته، ومهد قواعد الدولة. وكان يعقوب يحب أهل العلم، ويجتمع عنده العلماء، ويقرأ عنده مصنفاته في ليلة كل جمعة، ويحضره القضاة والفقهاء والقراء وأصحاب الحديث والنحاة وجميع أرباب الفضائل وأعيان العدول وغيرهم من وجوه الدولة، فإذا فرغ من مجلسه قام الشعراء ينشدونه المدائح. وكان في داره قوم يتلون القرآن الكريم، وآخرون يتلون الحديث والفقه والأدب حتى الطب، وينصب كل يوم خواناً للخاصة وموائد عديدة لمن عداهم من أهل مجلسه. وكان يجلس كل يوم بعد صلاة الصبح ويعرض عليه رقاع الناس في الحوائج والظلامات. وكان في خدمته قواد من جملتهم(2/188)
القائد أبو الفتوح فضل بن صالح الذي تنسب إليه " منية؟ لا القائد " وهي بليدة من أعمال الجزيرة من الديار المصرية، وكانت هيبته عظيمة، وجوده وافراً. وأكثر الشعراء من مدائحه وكان له طيور سابقة، وللعزيز كذلك طيور سابقة، فسابقه يوماً ببعض طيوره بعض طيور العزيز، فسبق طائر الوزير، فعز ذلك على العزيز فقيل له: إنه قد اختار من كل شيء أجوده لنفسه وأعلاه، ولم يبق منه إلا أدناه حتى الحمام. وقصدوا بذلك الإغراء به حسداً منهم لعله يتغير عليه، فاتصل ذلك بالوزير، فكتب إلى العزيز:
قل لأمير المؤمنين الذي ... له العلا والنسب الثاقب
طائرك السابق لكنه ... جاء وفي خدمته حاجب
فأعجبه ذلك منه، وسرى عنه ما كان وجده عليه.
ذكر بعضهم أن هذين البيتين له، وذكر بعضهم أنهما لولي الدولة المعروف بابن خيران. ولما مرض عاده العزيز. وقال له: لو كنت تشترى اشتريتك بملكي، وفديتك بولدي، هل من حاجة توصي بها؟ فبكى وقبل يده وقال: أما فيما تحضني فأنت أرعى لحقي من أن أسترعيك إياه، وأرأف علي من أن أوصيك به، ولكني أنصح لك مما يتعلق بدولتك سالم الروم ما سالموك، واقنع من الحمداني بالدعوة والسكة، ولا تبق على مفرح بن دغفل إن عرضت لك فيه فرصة، ومات، فأمر العزيز أن يدفن في داره، وهي المعروفة بدار الوزارة بالقاهرة داخل باب النصر في قبة كان بناها، وصلى عليه العزيز وألحده بيده في قبره وانصرف حزيناً لفقده، وأمر بغلق الدواوين أياماً بعده. وكان إقطاعه من العزيز في كل سنة مائة ألف دينار، وذكر بعضهم أنه كفن خمسين ثوباً، ويقال أنه كفن وحنط بما مبلغه عشر آلاف دينار.
تسع وثلاث مائة
فيها أخذت الإسكندرية، واستردت إلى نواب الخليفة، ورجع العبيدي إلى المغرب.
وفيها قضية الحسين بن منصور الحلاج، وهو من أهل " البيضاء " بلدة بفارس ونشأ بواسط والعراق، وصحب سهل بن عبد الله، ثم صحب أبا الحسين النوري وأبا القاسم الجنيد وغيرهم، والناس مختلفون فيه، فمنهم من يبالغ في تعظيمه، ومنهم من يبالغ في(2/189)
تكفيره، ومنهم من يتوقف فيه. والمحققون اعتذروا عنه، وأجابوا عما صدر عنه بتأويلات، ومنهم القطب أستاذ العارفين الأكابر الذي خضعت لقدمه رقاب كل ولي من باد وحاضر، الشيخ الشريف الحسيب النسيب محي الدين عبد القادر الجيلي، والشيخ الكبير العارف بالله الشهير إمام الطريقة ولسان الحقيقة الشيخ شهاب الدين السهروردي، والإمام رفيع المقام حجة الإسلام أبو حامد محمد الغزالي وغيرهم ممن يطول ذكرهم، بل يتعذر حصرهم.
وممن قال به وقبله وصحح حاله وجعله أحد المحققين ولم يخرجه عن أئمة الصوفية العارفين السالكين المرشدين الشيوخ الجلة العارفين بالله الأئمة، الشيخ أبو العباس بن عطا، والشيخ أبو القاسم النصر أبادي، والشيخ أبو عبد الله بن خفيف المذكور بالحسين بن منصور، عالم رباني.
فمن كلام الشيخ عبد القادر رحمه الله فيه مما روى الشيخ أبو القاسم عمر البزار بالإسناد في مناقبه قال: سمعت سيدي الشيخ محمد الدين عبد القادر الجيلي رضي الله تعالى عنه يقول: عثر الحسين الحلآج، فلم يكن في زمنه من يأخذ بيده، ولو كنت في زمنه لأخذت بيده، وأنا لكل من عثر مركوبه من أصحابي ومريدي ومحبي إلى يوم القيامة آخذ: ومن كلامه فيه أيضاً قوله: فمن مناقبه المروية عنه: طار طائر عقل بعض العارفين عن وكره، سحره صورته، وعلا إلى السماء خارقاً صفوف الملائكة. كان بازياً من بزاة الملك، مخيط العينين بخيط وخلق الإنسان ضعيفا فلم يجد في السماء ما يحاول من الصيد، فلما لاحت له فريسة رأيت ربي زاد تحيره في قول مطلوبه: " أينما تولوا فثم وجه الله " " البقرة: 115، "، عادها بطاً إلى حظيرة خطة الأرض، طلب ما هو أعز من وجود النار في قعر البحار، تلفت بعين عقله فما شاهد سوى الآثار، فكر فلم يجد في الدارين مطلوباً سوى محبوبه، فطرب فقال بلسان شكر قلبه: أنا الحق، ترنم بلحن غير معهود من البشر، صغر في روضة الوجود صغراً لا يليق ببني آدم، لحن بصوته لحناً عرضه فخفقه، نودي في سره يا حلاج، اعتقدت أن قوتك بك؟ قال: لأن نيابته عن جميع العارفين حسب الواحد إفراد الواحد. قل يا محمد، أنت سلطان الحقيقة، أنت إنسان عين الوجود، على عتبة باب معرفتك تخضع أعناق العارفين، في حمى جلالتك توضع جباه الخلائق أجمعين.
ومن كلام الشيخ عبد القادر أيضاً في الحلاج مسطوراً عنده في مناقبه المروية بالأسانيد قال رضي الله تعالى عنه: طار واحد من العارفين إلى أفق الدعوى بأجنحة أنا الحق رأى روض الأبدية خالياً عن الحسيس والأنيس، صفر بغير لغة تعريضاً لخيفة، ظهر عليه عقاب الملك من مكمن أن الله لغني عن العالمين، أنشب في إهابه مخلاب كل نفس ذائقة الموت. قال له: شرع سليمان الزمان، لم تكلمت بغير لغتك، ثم ترنمت بلحن غير معهود من مثلك؟.(2/190)
ادخل الآن إلى قفص وجودك، ارجع من طريق غيرة القدم إلى مضيق ذلة الحديث، قل بلسان اعترافك ليسمعك أرباب الدعاوى: حسب الواحد إفراد الواحد، مناط خفض الطريق، إقامة وظائف خدمة الشرع.
ومن كلام الشيخ شهاب الدين السهروردي ما روينا عنه في كتابه " عوارف المعارف " بإسنادنا العالي أنه قال: وما يحكى عن أبي يزيد رحمه الله قوله: سبحاني، حاشا أن يعتقد في أبي يزيد أنه يقول ذلك إلا على معنى الحكاية عن الله تعالى. قال: وهكذا ينبغي أن يعتقد في الحلآج رحمه الله قوله: أنا الحق.
وأما كلام الإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي فقد ذكر في " كتاب مشكاة الأنوار "، فصلاً طويلاً في الإعتذار عن الألفاظ التي كانت تصدر عن الحلاج، مثل قوله: أنا الحق، وقوله: ما في الجبة إلا الله. وأمثال هذه الإطلاقات التي تنئو السمع عنها وعن ذكرها. قال ابن خلكان: وحملها كلها على محامل حسنة، وأولها قال: وقال هذا من فرط المحبة وشدة الوجد. قال: وجعل هذا مثل قول القائل:
أنا من أهوى، ومن أهوى أنا ... نحن روحان قد حللنا بدنا
فإذا أبصرته أبصرتني ... وإذا أبصرتني أبصرتنا
قلت: وهكذا اعتذر عنه وعن ما يصدر من الصوفية من الألفاظ الموهمة للحلول والإتحاد، في كتابه " المنقذ من الضلال ".
قلت: وأكثر المحققين حملوا على ما يقع منهم مخالفاً لظواهر الشرع من الأقوال على صدوره في حال سكرهم بواردات الأحوال. وإلى ذلك أشرت بالقصيدة المسماة بالدر المنضد في جيد الملاح، في بيان الإعتذار عن ما يصدر من المشايخ أرباب الأحوال الملاح.
وقتل الحلاج وما منه في ظاهر الشرع يستباح، وكونه شهيداً عند المشايخ لأن الغائب بالحال ما عليه جناح:
وبعض عن الأكوان فإن بعضهم ... به جاوز الإسكار حداً فعربدا
فسل عليه الشرع سيفاً حمى به ... حدوداً فرى الحلاج ماض محددا
فمات شهيداً عندكم من محقق ... وكم عندهم يخرج من النهج ملحدا
ولكن فتى بسطام رفقاً بحاله ... حمى عن عنايات عزيزاً ممجدا(2/191)
أشرت في هذا إلى أن الحلاج ظفر به سلطان الشرع الظاهر، وأبو يزيد تحصن بدرع حال الذي هو عن سلاح تسلط السلطان ساتر.
قلت: وما أحسن ما أشار بعض أرباب الأحوال في وقوع الحلاج دون أبي يزيد حيث قال: الحلاج خرج من بحر الحقيقة إلى الساحل، وظفر به فأسر، وأقيم عليه الحد. وأما أبو يزيد فإنه لم يخرج من بحر الحقيقة والتحقيق، فلم يكن لهم إلى الظفر به طريق، هذا معنى كلامه والإشارة، وإن اختلف منا العبارة.
ومن كلام الشيخ العارف بالله تعالى السيد الجليل أبي الشموس أبي الغيث ابن جميل قدس الله روحه فيما نحن بصدده من السكر لمحبة الله تعالى والفناء عما سوى الله تعالى، لإشارة إلى من صدر منه مثل المقال في سكر وواردات الأحوال، قوله: هداك الله إلى شراب ماء عين، من حسا منها حسوة واحدة عدم عقله، فإن أكثر مما ذكرناه ادعى الربوبية، ودل على ضعفه لأن من كان قبلنا كان بهذا الوصف، لكن لباس ثوب العبودية لنا أكمل وأجمل، وذلك أقصى ما نروم ونطلب. فقد صرح في كلامه هذا بأن مثل هذا إنما يقع عمن سكر بالمشرب المذكور، وضعف عن احتمال تجلي الجمال والنور.
قلت: ومما يختشى من مثل هذا الضعف ما يروى عن غير واحد منهم أنهم كانوا يدافعون الأحوال الواردة عليهم، لئلا يقعوا في مثل هذا.
وكان بعضهم إذا ورد عليه الحال يدخل السوق، ويسمع كلام الناس، وما هو فيه من اللفظ. وبعضهم كان يأتي زوجته عن ذلك، وبعضهم كان يركب الفرس ويركض ويلهو به، وغير ذلك من اللهو في الأفعال التي تنافي الأحوال. رجعنا إلى ذكر الحلاج: قيل أنه سئل عن التصوف، وهو مصلوب فقال: هي نفسك إن لم تشغلها شغلتك. قلت: في لا بد لها من أن تشغل، فإن لم تشغلها بالطاعات ووظائف العبادات شغلتك بالخواطر المذمومات الموقعات في الهوى والآفات. ومن الشعر المنسوب إليه على اصطلاحهم:
سكوت ثم صمت ثم خرس ... وعلم ثم وجد ثم رمس
فطين ثم نور ثم نار ... وبرد ثم ظل ثم شمس
وحزن ثم سهل ثم قفر ... ونهر ثم بحر ثم يبس
وسكر ثم صحو ثم شوق ... وقرب ثم وصل ثم أنس
وقبض ثم بسط ثم محو ... وفرق ثم جمع ثم طمس
وأخذ ثم رد ثم جذب ... ووصف ثم كسف ثم لبس
عبارات لأقوام تساوت ... لديهم هذه الدنيا وقلس(2/192)
وأصوات وراء الباب لكن ... عبارات الورى في القرب همس
وآخر ما يؤول إليه عبد ... إذا بلغ المداحيض نفس
لأن الخلق خدام الأماني ... وحق الحق في التحقيق قدس
ومما نظمه أيضاً على اصطلاحهم وإشاراتهم قوله:
لا كنت إن كنت أدري كيف كنت ولا
لا كنت إن كنت أدري كيف لم أكن
أرسلت تسأل عني كيف بت وما ... لاقيت بعدك من هم ومن حزن
وقوله أيضاً:
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له ... إياك إياك أن تبتل بالماء
وقوله أيضاً في كتابه إلى أبي العباس بن عطاء:
كتبت ولم أكتب إليك وإنما ... كتبت إلى نفسي بغير كتاب
وذاك لأن الروح لا فرق بينها ... وبين محبيها بفصل خطاب
وكل كتاب صادر منك وارد ... إليك فلا يحتاج رد جواب
وغير ذلك مما يجري هذا المجرى: ومن كلام الحلاج: المدبر وهو الخارج عن أسباب الدارين. وقال: من أسكرته أنوار التوحيد حجبت عن عبادة التجريد بل من أسكرته حقائق التجريد نطق عن حقائق التجريد. لأن السكران هو الذي ينطق لكل مكتوم، وقال بعضهم: لقيت الحلاج يوماً في حال رثة، فقلت له: كيف حالك؟. فأنشأ يقول:
لئن أمسيت في ثوب عديم ... لقد بلي على حر كريم
فلا يحزنك أن أبصرت حالاً ... يغيرني عن الحال القديم
فلي نفس ستتلف أو سترقى ... لعمر الله في أمر جسيم
قال بعضهم: سمعت الحسين بن منصور وهو على الخشبة يقول:
طلبت المستقر بكل أرض ... فلم أر لي بأرض مستقراً
أطعت مطامعي فاستعبدتني ... فلو أتي قنعت لكنت حراً
قلت: وله كلام فائق، وشعر رائق، فيهما الكثير من الناس في مسألك المؤاخذة، مضائق، وإيراد كل ذلك في هذا المختصر غير لائق، وحاصل الأمر أنه أفتى كثر علماء عصره بإباحة دمه.(2/193)
ويقال: أن العباس بن سريج كان إذا سئل عنه يقول: هذا رجل خفي عليه حاله، وما أقول فيه شيئاً. قلت: هكذا قيل مع ابن سريج، توفي قبل قتل الحلاج بثلاث سنين. ويحتمل أن يكون قال ذلك في حياته لما سئل عنه قبل أن يقتل بمدة طويلة.
وكذلك ما قيل أن الجنيد وابن داود الظاهري من جملة من أفتى بقتله لا يصح، لأن الجنيد توفي سنة ثمان وتسعين ومائتين، قبل قتل الحلاج بإحدى عشرة سنة. ومحمد بن داود توفي قبل قصة الحلاج باثنتي عشرة سنة.
رجعنا إلى ذكر الحلاج. قالوا: وكان قد جرى منه كلام في مجلس حامد بن العباس وزير المقتدر بحضرة القاضي أبي عمر، فأفتى بحل دمه، وكتب خطه بذلك، وكتب معه من حضر المجلس من الفقهاء. وقال لهم الحلاج: ظهري حمى، ودمي حرام، وما يحل لك أن تناولوا علي بما يبيده، وأنا اعتقادي الإسلام، ومذهبي السنة وتفضيل الأئمة الأربعة والخلفاء الراشدين وبقية العشرة من الصحابة، ولي كتب في السنة موجودة في الوراقين، فالله الله في دمي. ولم يزل يردد هذا القول، وهم يكتبون خطوطهم، إلى أن استكملوا ما احتاجوا إليه. وانفضوا من المجلس، وحمل الحلاج إلى السجن. وكتب الوزير إلى المقتدر بخبره بما جرى في المجلس، وسير الفتوى، فعاد جواب المقتدر بأن القضاة إذا كانوا قد أفتوا بقتله فليسلم إلى صاحب الشرطة، وليتقدم فليضربه ألف سوط، فإن مات وإلا اضربه ألف سوط أخرى، ثم يضرب عنقه، فسلمه الوزير إلى الشرطي، وقال له ما رسم به المقتدر، وقال له: إن لم يتلف بالضرب فبقطع يدى ثم رجله، ثم تجز رقبته، وتحرق جثته. وإن خدعك وقال لك: أنا أجري لك الفرات ودجلة ذهباً وفضة فلا تقبل ذلك منه، ولا ترفع العقبربة عنه، فتسلمه الشرطي ليلاً وأصبح يوم الثلاثاء لسبع بقين من ذي الحجة من السنة المذكورة، فأخرجه إلى عند " باب الطاق "، وهو يتبختر في قيوده.
واجتمع من العامة خلق لا يحصى عددهم، وضربه الجلاد ألف سوط، ولم يتأوه، بل قال للشرطي لما بلغ الستمائة: ادع لي عندك، فإن لك عندي نصيحة تعدل فتح القسطنطينية. فقال له: قد قيل لي عنك أنك تقول هذا وكثر منه، وليس إلى رفع الضرب عنك سبيل. ولما فرغ من ضربه قطع أطرافه الأربعة. ثم جز رأسه، ثم أحرقت جثته. ولما صار رماداً ألقاه في الدجلة، ونصب الرأس ببغداد على الجسر.
وقيل: أن أصحابه جعلوا يعدون أنفسهم برجوعه بعد أربعين يوماً. واتفق أن دجلة زاد تلك السنة زيادة وافرة، فادعى أصحابه أن ذلك سبب إلقاء رماده فيها، وادعى بعض أصحابه(2/194)
أنه لم يقتل، ولكن ألقي شبهه على عدو من أعداء الله. وشرح هذه القصة يطول، وفيما ذكرناه كفاية وعبرة لأولي العقول.
قلت وقد اقتصرت مع ما ذكرت عن المشايخ في هذه القضية على نقل ابن خلكان وهو أهون وكلامه في الصوفية أقرب وأنسب لما ذكرناه من تأويل أكابر المشايخ عنه. على المحامل التي تقدم ذكرها.
وأما ما نقل الذهبي، فذكر فيه أشياء فظيعة، وكثر التشنيع عليه، وبالغ مبالغة لا يناسب ما قدمنا عن المشايخ، بل يناسب اعتقاد الطاعنين عليه في شطحيات الصوفية، وما يصدر " عنهم من الأحوال مشتبهاً بمضمون العقيدة التفاشية، وما يناسبه من عقائد الحشوية في السادات من أولي الأحوال السيئة.
وفي السنة المذكورة توفي الشيخ الكبير العارف بالله الشهير أبو العباس بن عطاء، وكان من أجلاء المشايخ أكابر الجامعين بين علمي الباطن والظاهر.
عشر وثلاث مائة
فيها ببغداد توفي الحبر البحر الإمام أحد العلماء الأعلام صاحب التفسير الكبير والتاريخ الشهير والمصنفات العديدة والأوصاف الحميدة أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، كان مجتهداً لا يقلد أحداً.
قال إمام الأئمة المعروف بابن خزيمة: ما أعلم على وجه الأرض أفضل من محمد بن جرير، ولقد ظلمته الحنابلة.
وقال الفقيه الإمام مفتي الأنام أبو حامد الأسفراييني: لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل تفسير محمد بن جرير لم يكن كثيراً.
قلت: وناهيك بهذا الثناء العظيم والمدح الكريم من هذين الإمامين الجليلين البارعين النبيلين. ومولده بطبرستان سنة أربع وعشرين ومائتين، ركان ذا زهد وقناعة.
توفي في أواخر شوال من السنة المذكورة، وكان إماماً في فنون كثيرة، منها التفسير(2/195)
والحديث والفقه والتاريخ وغير ذلك، وله مصنفات مليحة في فنون عديدة، يدل على سعة علمه وغزارة فضله، وكان ثقة في نقله وتاريخه. قيل: تاريخه أصح التواريخ وأثبتها، وذكره الشيخ أبو إسحاق في طبقات الفقهاء من جملة المجتهدين.
وفيها أو في التي قبلها توفي الفقيه الكبير الإمام الشهير محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، كان فقيهاً مطلعاً، ذكره الشيخ أبو إسحاق في طبقات الفقهاء ومال: صنف في اختلاف العلماء كتباً لم يصنف أحد مثلها، واحتاج إلى كتبه الموافق والمخالف، ومن كتبه المشهورة قي اختلاف العلماء " كتاب الأشراف "، وهو كتاب كبير يدل على كثرة وقوفه على مذاهب الأثمة، وهو من أحسن الكتب وأنفعها.
وفيها: وقيل في إحدى عشرة، وقيل في ست عشرة وثلاث مائة، توفي أبو إسحاق الزجاج إبراهيم بن محمد النحوي، كان من أهل العلم بالأدب والدين المتين، وله من التصانيف في معاني القرآن وعلوم الأدب والعربية والنوادر وغير ذلك بضع عشرة مصنفاً. أخذ الأدب عن المبرد وثعلب، وكان يخرط الزجاج، ثم تركه واشتغل بالأدب ونسب إليه، وعنه أخذ أبو علي الفارسي النحوي، وإليه ينسب أبو القاسم عبد الرحمن الزجاجي، صاحب كتاب الجمل في النحو.
وفيها توفي الإمام النحوي محمد بن العباس اليزيدي، كان إماماً في النحو والأدب ونقل النوادر وكلام العرب.
ومما رواه أن أعرابياً هوى أعرابية، فأهوى إليها ثلاثين شاة وزقاً من خمر مع عبد له أسود، فأخذ العبد شاة في الطريق، فذبحها وأكل منها، وشرب بعض الزق. فلما جاءها بالباقي عرفت أنه خانها في الهدية، فلما عزم على الإنصراف سألها: هل لك حاجة. فأرادت إعلام سيده بما فعله فقالت له: اقرأ عليه السلام وقل له: إن المرثوم كان عندنا محاقاً، وإن شحيماً راعي غنمنا جاء مرثوماً. فلم يدر العبد ما أرادت بهذه الكتابة. فلما بلغ سيده ذلك فطن لما أرادت، فدعا له بالهراوة وقال: لتصدقني وإلا ضربتك بهذه ضرباً، فأخبره الخبر فعفا عنه، وهذه من لطيف الكنايات وظريف الإشارات. والمرثوم بفتح الميم وسكون الراء وضم المثلثة: الملطخ بالدم، وهو في الزق مستعمل على وجه الإستعارة. والمحاق بكسر الميم: ثلاث ليالي من آخر الشهر.
وفيها توفي الطبيب الماهر أبو بكر محمد بن زكريا الرازي المشهور، ألف في الطب كتباً كثيرة، وكان إمام وقته في علم الطب، والمشار إليه في ذلك العصر، متقناً لهذه الصناعة، يشد إليه الرحال في أخذها عنه.(2/196)
ومن تصانيفه: " كتاب الحاوي "، وهو من الكتب النافعة، و " كتاب الأقطاب "، و " كتاب المنصور ": وهو على صغر حجمه نافع، جمع فيه بين العلم والعمل. وغير ذلك من التصانيف المحتاج إليه.
ومن كلامه: مهما قدرت أن تعالج بالأغذية فلا تعالج، ومهما قدرت أن تعالج بدواء مفرد فلا تعالج بمركب.
ومن كلامه: إذا كان الطبيب عالماً، والمريض مطيعاً، فما أقل لبث العلة ومن كلامه: عالج في أول العلة بما لا يسقط القوة.
وحكي أن غلاماً من بغداد قدم الري، وكان ينفث الدم، وكان قد لحقه ذلك في طريقه. فاستدعى أبا بكر الرازي الطبيب وأراه ما ينفث، ووصف له ما يجد، فأخذ الرازي مجسة ورأى قارورة، واستوصف حاله، فنظر فيه أبو بكر الرازي، فأفكر فلم يظهر له دليل على علته، فاستنظره لقيام دليل يظهر، فقامت على العليل القيامة، ويئس من الحياة، فولد الفكر للرازي: سؤاله عن المياه التي شربها في طريقه، فأخبره أنه شرب من مستنقعات وصهاريج، فقال في نفس الرازي نجدة حذمه وجودة فطنته أن علقة علقت به من شرب بعض تلك المياه، وأن ذلك الدم بسببها، وقال له: إذا جئت غداً بيتك عالجتك بما يكون سبباً لبرئك، بشرط أن تأمر غلمانك بطاعتي، قال: نعم فانصرف الرازي وجمع له مركنين من طحلب، وأحضرهما من الغد معه وقال له: ابلع، فامتنع، فأمر غلمانه أن يضجعوه فألقوه على قفاه، وفتحوا فمه، فجعل الرازي يدس الطحلب في حلقه ويكبسه كبساً شديداً، ويطالبه ببلعه، ويهدده بالضرب إلى أن بلع ما في أحد المركنين، ثم قذف ما ابتلعه، وتأمل الرازي فإذا بالعلقة في الطحلب الذي قذفه، فنهض العليل معافى، فلم يزل رئيس هذا الشأن. وكان اشتغاله به بعد الأربعين من عمره.
إحدى عشرة وثلاث مائة
فيها دخل أبو طاهر القرمطي البصرة في الليل في ألف وسبعمائة فارس نصب السلاليم على السور، ونزلوا فوضعوا السيف في البلد، وأحرقوا الجامع، وهرب خلق إلى الماء فغرقوا، وسبوا الحريم. قاتل الله تعالى كل شيطان رجيم.
وفيها توفي الحافظ الزاهد المجاب الدعوة أبو جعفر أحمد بن حمدان بن علي بن سنان النيسابوري مصنف الصحيح على شرط مسلم، والفقيه الحبر أبو بكر الخلال البغدادي،(2/197)
ونحوي العراق أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج. وإمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري الحافظ صاحب التصانيف. رحل إلى الحجاز والشام والعراق ومصر وتفقه على المزني وغيره. قال أبو علي الحافظ: كان ابن خزيمة يحفظ الفقهيات من حديثه كما يحفظ القارىء السورة. وقال ابن حبان: لم أر مثل ابن خزيمة في حفظ الأسناد والمتن، وقال الدارقطني: كان إماماً معموم النظير.
اثنتي عشرة وثلاث مائة
فيها عارض أبو طاهر القرمطى ركب العراق، ومعه ألف فارس وألف راجل، فوضعوا السيف واستباحوا الحجيج، وساقوا الجمال بالأموال والحريم، وهلك الناس جوعاً وعطشاً، ونجا من نجا بأسوأ حال، ووقع النوح والبكاء ببغداد وغيرها، وامتنع الناس من الصلوات في المساجد، ورجم الناس الوزير ابن الفرات، وصاحوا عليه أنت القرمطي الكبير. فأشار على المقتدر أن يكاتب مؤنساً الخادم وهو على الرقة قد سعى ابن الفرات في إعادته إليها خوفاً منه فقدم مؤنس الخادم، فركب إلى دار ابن الفرات للسلام عليه، ولم يتم مثل هذا من وزير، أو قال الوزير: فأسرع مؤنس إلى باب داره، وقبل يده وخضع. وكان في حبس المحسن ولد الوزير جماعة في المصادرة، فخاف العزل، وأن يظهر عليه ما أخذ منهم فسم علي بن عيسى، وذبح مؤنساً خادم حامد بن العباس وعبد الوهاب ابن ما شاء الله، فكثر الضجيج من المقتولين على بابه، ثم قبض المقتدر على ابن الفرات وسلمه إلى مؤنس، فعاتبه مؤنس، وتذلل هو له، فقال له مؤنس: الساعة تخاطبني بالأستاذ، وأمس تبعدني إلى الرقة، واختفى المحسن، ثم ظفر به في زي امرأة قد خضبت يديها بالحناء، فعذب وأخذ خطه بثلاثة آلاف دينار. وولي الوزارة عبد الله بن محمد الخاقاني، فعذب ابن الفرات، واصطفى أموالهم، فيقال أخذ منهم ألفي دينار، ثم ألح مؤنس ونصر الخادم وهارون ابن خال المقتدر على المقتدر حتى أذن في قتل ابن الفرات وولده المحسن، فذبحا.
عاش ابن الفرات إحدى وسبعين سنة، وكان جباراً فاتكاً سائساً كريماً متمولاً يقدر على عشرة آلاف دينار، وقد ورد للمقتدر ثلاث مرات وقتل، وكان يدخل عليه من أملاكه في العام ألف ألف دينار. فكان القرمطي قد أسر طائفة من الحجاج، منهم الأمير أبو الهيجا عبد الله بن حمدان، فأطلقه وأرسل معه يطلب من المقتدر البصرة، والأهواز، فذكر أبو الهيجاء أن القرمطي قتل من الحجاج ألفي رجل ومائتين، ومن النساء ثلاثمائة، وفي الأسر(2/198)
مثلهم بهجر.
وفي السنة المذكورة ذبح ابن الفرات وولده المذكوران، ويقال عنه أنه كانت الأعراب كبسوا بغداد، ولما ولي الوزارة في سنة أربع وثلاثمائة خلع عليه سبع خلع، كان يوماً مشهوداً بحيث أته سقى من داره في ذلك اليوم والليلة أربعين ألف رطل ثلج.
وفيها توفي سلمة بن عاصم الضبي الفقيه صاحب ابن سريج، أحد الأذكياء. صنف الكتب، وهو صاحب وجه، وكان يرى تكفير تارك الصلاة. وأبوه وجده من أئمة العربية.
ثلاث عشرة وثلاث مائة
فيها سار الركب العراقي ومعهم ألف فارس، فاعترضهم القرمطي بزبالة، وناوشهم القتال، فرد الناس ولم يحجوا، ونزل القرمطي على الكوفة، فقاتلوه فغلب على البلد ونهبه، فندب المقتدر مؤنساً وأنفق في الجيش ألف ألف دينار.
وفيها توفي الإمام اللغوي العلامة أبو القاسم ثابت بن حزم السرقسطي. قال ابن الفرضي: كان مفتياً بصيراً بالحديث والنحو واللغة والغريب والشعر، عاش خمساً وتسعين سنة.
وفيها توفي عبد الله بن زيدان، قال محمد بن أحمد بن حماد الحافظ: لم تر عيني مثله، كان أكثر كلامه في مجلسه: يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على طاعتك. وروي أنه مكث نحو ستين سنة، لم يضع جنبه على مضربه.
وفيها توفي الحافظ أبو العباس محمد بن إسحاق الثقفي مولاهم السراج، صاحب التصانيف. قال أبو إسحاق المزكي: سمعته يقول: ختمت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اثنتي عشرة ألف ختمة، وضحيت عنه اثنتي عشرة ألف أضحية، قال محمد بن أحمد الدقاق: رأيت السراج يضحي كل أسبوع أو أسبوعين أضحية، ثم يجمع أصحاب الحديث عليها، ولقد ألف السراج مستخرجاً على صحيح مسلم، وكان أماراً بالمعروف ونهاء عن المنكر، عاش سبعاً وتسعين سنة.
أربع عشرة وثلاث مائة
لم يحج فيها أحد من العراق خوفاً من القرامطة، ونزح أهل مكة عنها خوفاً منهم،(2/199)
وفيها توفي أبو الليث نصر بن القاسم البغدادي الفرائضي، وكان ثقة.
خمس عشرة وثلاث مائة
فيها نازلت القرامطة الكوفة، فسار يوسف ابن أبي الساج، فالتقاهم، فأسر يوسف، وانهزم عسكره، وقتل منهم عدة. وسار القرمطي إلى أن نزل غربي الأنبار، فقطع المسلمون الجسر، فأخذ يتحيل في العبور، ثم عبر، وخرج نصر الحاجب ومؤنس، فعسكروا بباب الأنبار، وخرج أبو الهيجا ابن حمدان وإخوته، ثم رده القرامطة، فما صبر العسكر عليهم، ووقع عليهم الخذلان، وما كانت القرامطة سوى ألف وسبعمائة من فارس وراجل، والعسكر كانوا أربعين ألف فارس. ثم إن القرمطي قتل ابن أبي الساج وجماعة معه، وأشار إلى " هيت "، فبارز العسكر، ودخل الوزير علي بن عيسى على المقتدر وقال: قد تمكنت هيبة هذا الكافر من القلوب، فخاطب السيدة في مال تنفقه في الجيش، وإلا فمالك إلا أقاصي خراسان، فأخبر أمه بذلك، فأخرجت خمسمائة ألف دينار، وأخرج المقتدر ثلاث مائة ألف دينار. ونهض ابن عيسى في استخدام العساكر، وجددت على بغداد بخنادق، وعدمت هيبة المقتدر من القلوب، وشتمته الجند.
وفيها توفي الحافظ صاحب التصانيف أحمد بن علي بن الحسين الرازي النيسابوري.
وفيها توفي أبو الحسن الأخفش الصغير علي بن سليمان البغدادي النحوي، أخذ عن ثعلب والمبرد، وروى عنه المرزباني وأبو الفرج المعاني وغيرهما. وكان ثقة، قال المرزباني: لم يكن بالمتسع في الرؤية للأخبار، والعلم بالنحو، وما علمته صنف شيئاً البتة، ولا قال شعراً، وكان إذا سئل عن مسألة في النحو ضجر وانتهر من يسأله.
وقال أبو الحسن بن سنان: كان يواصل المقام عند أبي علي بن مقلة، وأبو علي يراعيه ويبره، فشكا في بعض الأيام ما هو فيه من شدة الفاقة، فسأله أن يعلم الوزير علي بن عيسى حاله، ويسأله إقرار رزق في جملة من يرتزق من أمثاله، فعرف الوزير أبو علي اختلال حاله، وتعذر الوقوف عليه في أكثر أيامه، وسأله أن يجري عليه رزقاً فانتهره الوزير انتهاراً شديداً في مجلس حافل، فشق على ابن مقلة ذلك، وقام من مجلسه، وصار إلى منزله لإيماء نفسه. ووقف الأخفش على الصورة المذكورة فاغتنم بها، وانتهت به إلى الحال التي(2/200)
أكل الشحم، فقيل: إنه قبض على فؤاده، فمات فجأة في التاريخ المذكور. نسأل الله الكريم العفو والعافية واللطف الجميل واليسر الحصين في الدين والدنيا والآخرة، وقد تقدم ذكر الأخفش الأكبر والأوسط في سنة خمس عشرة ومائتين.
ست عشرة وثلاث مائة
فيها دخل القرمطي الزوحية بالسيف واستباحها ثم نازل الرقة، وقتل جماعة، وتحول إلى هيت، فرموه بالحجارة، وقتلو صاحبه أبا الدرداء، فسار إلى الكوفة، ثم انصرف وبني داراً سماها دار الهجرة، ودعا إلى المهدي وسار إليه كل مرتب، ولم يحج أحد هذه السنة، واستعفي ابن عيسى من الوزارة، وولي بعده علي بن مقلة، وهو كاتب. قلت: وهذا مشكل، وقد تقدم في سنة اثنتي عشرة وثلاث مائة أن علي بن عيسى سم ولكن يحتمل أنه سم ولم يمت بذلك السم.
وفيها توفي الشيخ الكبير الولي الشهير أبو الحسن بنان الحمال نزيل مصر وشيخها، كان ذا منزلة جليلة وأحوال جميلة وكرامات عديدة، صحب الجنيد، وحدث عن الحسن بن محمد الزعفراني وجماعة. توفي في رمضان وخرج في جنازته أكثر أهل مصر. ومن كراماته أنه جاءه إنسان، وذكر أنه ضاع له قرطاس فيه تنزيل، له صورة من المال، وسأله أن يدعو له بحفظه، فقال له: أنا رجل كبير وأشتهي الحلواء، اشتر لي كذا وكذا منها، فذهب واشترى له منها الذي طلب، فلما جاءه بها تناول منها شيئاً يسيراً ثم قال: اذهب وأطعمها صبيانك فلما ذهب بها إلى بيته وجد ذلك القرطاس هو الذي ضاع له.
ومنها أنه ألقاه بعض الخلفاء بين يدي الأسد في حال غضبه عليه، فصار الأسد يشمه، ولم ينله بسوء، فقيل له: كيف كنت في وقت شم الأسد لك؟ فقال: كنت أفكر في اختلاف العلماء في طهارة لعاب السباع.(2/201)
ومنها أنه انبسط إلى إخوانه في شراء جارية فقالوا: يقدم النفر، فإذا قدم اشترينا له جارية تصلح له. فلما قدم النفر أجمع رأيهم على جارية أنها تصلح له، فكلموا صاحبها في بيعهم إياها فامتنع، فألحوا عليه فقال: إنها ليست للبيع، إنها أهدتها امرأة من سمرقند للشيخ بنان الجمال، فحملت إليه.
وفيها توفي الحافظ عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني.
وفيها توفي الحافظ أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الأسفرايني، صاحب المسند الصحيح، رحل إلى الشام والحجاز واليمن ومصر والجزيرة والعراق وفارس وأصبهان، روى عن يونس بن عبد الأعلى، وعلي بن حرب، ومحمد بن يحيى الذهلي، ومسلم بن الحجاج، والمزني والربيع والحسن الزعفراني وغيرهم ممن في طبقتهم. وعلى قبره مشهد بأسفرايين، وكان مع حفظه فقيهاً شافعياً إماماً، روى عنه جماعة، منهم أبو بكر الإسماعيلي، وحج خمس حجج وقال: كتب إلى محمد بن إسحاق:
فإن نحن التقينا قبل موت ... سقينا النفس من غصص العناب
وإن سبقت بنا أيدي المنايا ... فكم من غائب تحت التراب
وقال أبو عبد الله الحاكم: أبو عوانة من علماء الحديث وأثباتهم، ومن الرجالة في أقطار الأرض.
وفيها توفي محمد بن السري النحوي المعروف بابن السراج، كان أحد الأئمة المشاهير، مجمعاً على فضله وجلالة قدره في النحو والأدب، أخذ الأدب عن أبي العباس المبرد وغيره، وأخذ عنه جماعة من الأعيان، منهم السيرافي والرماني وغيرهما.
ونقل عنه الجوهري في الصحاح في مواضع عديدة، وله التصانيف المشهورة في النحو منها: " كتاب الأصول "، وهو من أجود الكتب المصنفة في هذا الشأن، وإليه المرجع عند اضطراب النقل واختلافه. " وشرح كتاب سيبويه "، و " كتاب الشعر والشعراء "، و " كتاب الرياح والهواء والنار " مع كتب أخرى، ومن الشعر المنسوب إليه.
ميزت بين جمالها وفعالها ... فإذا الملاحة بالخيانة لا تفي
حلفت لنا أن لا تخون عهودها ... وكأنما حلفت لنا أن لا تفي(2/202)
قلت: وهذان البيتان يحسن استعارتهما لوصف الدنيا، وقيل أنهما لإبن المعتز وقيل: لعبيد الله بن عبد الله بن طاهر معهما بيت ثالث وهو:
والله لا كلمتها ولو أنها ... كالبحر أو كالشمس أو كالمكتفي
فأنشدها وزير المكتفي له فقال: لمن هي؟ قال: لعبيد الله بن عبد الله بن طاهر. فأمر له بألف دينار، فوصل إليه فقال ابن الزنجي: ما أعجب هذه القصة، يعمل ابن السراج أبياتاً تكون سبباً لوصول الرزق لإبن طاهر.
سبع عشرة وثلاث مائة
فيها هجم مؤنس الخادم وأكثر الجيش على دار الخلافة، وأخرج المقتدر وأمه وخالته وحرمه إلى دار مؤنس، وأحضروا محمد بن المعتضد من الحبس وبايعوه، ولقبوه القاهر بالله، وقلدوا لابن مقلة وزارته، ووقع النهب في دار الخلافة ببغداد، وأشهد المقتدر على نفسه بالخلع، وجلس القاهر من الغد، وصار " نازوك " حاجبه، فجاءت إلى ودخلوا، وطلبوا رزق البيعة ورزق سنة، وعظم الصياح، ثم وثب جماعة على نازوك فقتلوه، وقتلوا خادمه، ثم صاحوا فالمقتدر يا منصورة فهرب الوزير والحجاب والقاهر وساروا ووصلوا إلى مؤنس ليرد المقتدر، وسدت المسالك على القاهر وأبي الهيجاء، ثم جاشت نفسه فقال: يا آل ثعلب، فرمي بسهم فيما بين ثدييه وأخرى في نحره ثم جز رأسه وأحضروا المقتدر، وألقي بين يديه الرأس، ثم أسر القاهر، وأتي به إلى المقتدر، فاستدناه وقبل جبينه وقال: أنت لا ذنب لك يا أخي وهو يقول الله الله يا أمير المؤمنين في نفسي فقال: والله لا ينالك مني سوء، فطيف برأس نازوك، ورأس أبي الهيجا، ثم أتى مؤنس والقضاة، وجددوا البيعة للمقتدر، فبذل في الجند أموالاً عظيمة، وباع في بعضها ضياعاً وأمتعة، وماتت القهرمانة التي كانت تجلس للناس بدار العدل.
وحج بالناس منصور الديلمي فدخلوا مكة سالمين، فوافاهم يوم التروية عدو الله تعالى أبو طاهر القرمطي، فقتل الحاج قتلاً ذريعاً في المسجد وفي فجاج مكة، وقتل أمير مكة ابن محارب، وقلع باب الكعبة، واقتلع الحجر الأسود، فأخذه إلى " هجر " ولم يرد إلا في سنة تسع وثلاثين وثلاث مائة كما سيأتي، وكان معه تسعمائة أنفس، فقتلوا في المسجد ألفاً وسبعمائة نسمة، وقيل ثلاثة عشر ألفاً، وصعد على باب البيت وصاح:(2/203)
أنا بالله وبالله أنا ... أنا أخلق الخلق وأفنيهم أنا
وقيل: إن الذين قتلوا بفجاج مكة، فظاهرها ثلاثون ألفاً، وسبي من النساء والصبيان نحو ذلك. وأقام بمكة ستة أيام ولم يحج أحد.
وقال محمود الأصبهاني: دخل القرمطي وهو سكران، فصفر لفرسه، فبال عند البيت. وقتل جماعة،. ثم ضرب الحجر الأسود بدبوس، فكسر منه، ثم قلعه وبقي الحجر الأسود بهجر نيفاً وعشرين سنة. ولما قلع الحجر الأسود قال شعراً يدل على عظيم زندقته حيث يقول:
فلو كان هذا البيت لله ربنا ... لصب عليا النار من فوقنا صباً
لأنا حججنا جاهلية ... محللة لم تبق شرقاً ولا غرباً
وإنا تركنا بين زمزم والصفا ... جبابر لا نبقي سوى ربها رباً
وشعر هذا الزنديق مشهور في التواريخ، قلت: وقد أوضحت في كتاب المرهم ظهور هؤلاء القرامطة الزنادقة في أي السنين، وفي أي البلاد، ومدة ظهورهم، وإمامهم ودعاته.
وكانت فتنتهم قد عمت كثيراً من الآفاق منها اليمن والشام والعراق، وكان من دعاتهم في اليمن الشيطان الزنديق علي بن فضل، ما زال يدعو إلى مذهبهم سراً مظهراً مذهب الرفض، وفي قلبه الكفر المحض، ويزعم أنه يدعو إلى مذهب أهل البيت وحبهم، إلى أن أفسد خلقاً كثيراً، وملك حصون اليمن شيئاً فشيئاً، ثم ملك مدنها منها عدن وزبيد وصنعاء. فطرد الناصر بن الهادي إمام الزيدية من " صعده "، واستولى على جبال اليمن وتهامة، وقتل خلائق لا يحصون من أهلها، فلما تمهد له الملك، وتمكن في الأرض، أظهر الزندقة والكفر المحض، وأمر جواريه أن يغنين بالدفوف على منبر الجند بشعره الذي تزندق فيه وألحد، وأنكر دين الإسلام وجحد وهو:
خذ الدف يا هذه واضربي ... وغني هزاريك ثم اطربي
توفي نبي بني هاشم ... وهذا نبي بني يعرب
فقد حط عنا فروض الصلا ... ة وحط الزكاة ولم يتعب
إذا الناس صلوا فلا تنهضي ... وإن صوموا فكلي واشربي
ولا تطلبي السعي عند الصفا ... ولا زورة القبر في يثرب
وشعر طويل وكله في إباحة محارم الله تعالى والتحليل، وجحد الفروض التي جاء بها محكم التنزيل، محرضاً اللعين على نبذ دين الإسلام والتضليل ثم قتل اللعين الشيطان(2/204)