نظم الحكم والإدارة في عصر الأيوبين والمماليك
...
بسم الله الرحمن الرحيم
نظم الحكم والإدارة في عصر الأيوبيين والمماليك:
أدى ضعف الدولة العباسية، وتدهور نفوذ السلطة المركزية، في بغداد عاصمة الخلافة، إلى انقسام الدولة الإسلامية الكبرى على نفسها، وقيام عديد من الدول التي انتشرت على حسابها في المشرق والمغرب سواء، والتي ربطتها بالخلافة روابط, قد لا تتعدى خيوط واهية في ظل العامل الروحي.
ومن بين الدول المرموقة التي عرفتها مصر والشام في تلك الحقبة من العصور الوسطى دولتا الأيوبيين والمماليك، اللتان حكمتا هذه المنطقة الهامة في قلب العالم العربي مدةً تقرب من ثلاثة قرون ونصف، أي: منذ سقوط الخلافة الفاطمية سنة 567هـ-1171م, حتى الغزو العثماني للشام ومصر سنة 922هـ-1516م. وتحتل هاتان الدولتان بالذات أهميةً بالغةً في تاريخ الأمة الإسلامية، في الشرق الأدنى أواخر العصور الوسطى، لا بسبب ما تحقق في تلك العصور، وهما الخطر الصليبي والخطر التتري، فحسب، بل أيضًا لما شهده ذلك الدور من تطورات داخلية تركت أثرًا عميقًا في صورة المجتمع وحياة الناس من ناحية، وفي نظم الحكم والإدارة من ناحية أخرى.
ولتفصيل ذلك نقول: أنه من المعروف أن الأيوبيين نشأوا في كنف دائرة ترتبط في صورةٍ أو أخرى بالأتراك السلاجقة، وظهروا على مسرح الحوادث(1/239)
في وقت انسابت عناصر غير عربية, معظمها حديث عهد نسبيًّا بالإسلام -من أتراك وتركمان وأكراد- إلى قلب الوطن الإسلاميّ، لتغذيه بدماء فتية جديدة، وتتحمل العبء الأكبر في مسئولية الحكم من ناحية، والجهاد والذود عنه من ناحية أخرى. وإذا كانت الدولة الأيوبية قد ظهرت وليدة الخطر الصليبي الذي هدد منطقة الشرق الأدنى في أواخر القرن الخامس الهجري-الحادي عشر للميلاد, واستمدت وجودها من مواجهة هذا الخطر، ومواصلة الكفاح بهدف التغلب عليه، فإن ملوك هذه الدولة من بني أيوب اضطروا إلى اتخاذ عناصر من المماليك -الترك وغير الترك- وتكوين فرقة حربية من هذه العناصر تشد أزرهم في معاركهم الداخلية ضد بعضهم البعض من ناحية، وفي صراعاتهم ضد القوى الخارجية، التي هددت كيانهم وكيان المنطقة من ناحية أخرى. ولم يلبث هؤلاء المماليك أن استأثروا بالحكم دون سادتهم من بني أيوب، وذلك حوالي منتصف القرن السابع الهجري-الثالث عشر للميلاد, وأقاموا لأنفسهم دولة في مصر والشام، استمرت في الحكم حتى الغزو العثماني للوطن العربي في أوائل القرن العاشر الهجري-السادس عشر للميلاد.
والغريب في أمر هؤلاء المماليك الذين وجدوا بأعداد كبيرة، ترجع إلى أصول وجنسيات متباينة، أنهم حرصوا على الاحتفاظ بكيانهم خشية الذوبان في المجتمع العربي الكبير الذي استقروا وسطه، فلم يختلطوا جنسيًّا بأهل البلاد، وظلوا طبقة قائمة بذاتها, لها شخصيتها الفريدة الخاصة بها.
ولا يعنينا هنا ما صحب حكم الأيوبيين والمماليك من انثيال عادات اجتماعية جديدة، وألوان مستحدثة من الزيِّ والطعام، فضلًا عن مئات الألفاظ والكلمات الأعجمية، التي غدت شائعة الاستعمال في الحياة اليومية عند العامة والخاصة, بقدر ما يعنينا أثر هذه العناصر الجديدة في نظم الإدارة والحكم. ذلك أن الأيوبيين أدخلوا من النظم الجديدة ما يختلف إلى(1/240)
حدٍّ بعيدٍ عما كان سائدًا ومعروفًا أيام أسلافهم الفاطميين, وكانت هذه العناصر الحضارية الجديدة التي أتى بها الأيوبيون أكثر ارتباطًَا بما هو معروف عند السلاجقة وأتباعهم من الأتابكة الزنكيين والنوريين. ويعبر القلقشندي عن هذه الظاهرة تعبيرًا دقيقًا بقوله: "اعلم أن الدولة الأيوبية لما طرأت على الدولة الفاطمية وخلفتها في الديار المصرية, خالفتها في كثير من ترتيب المملكة، وغيَّرت غالب معالمها، وجرت على ما كانت عليه الدولة الأتابكية عماد الدين زنكي بالموصل، ثم ولده الملك العادل نور الدين محمود بالشام, وما معه..".
وهذه القواعد والأسس الجديدة للحكم والإدارة التي أرسى قواعدها الأيوبيون، قُدِّرَ لها أن تستمر وتظل سائدةً في عصر سلاطين المماليك، مع بعض التطورات والتعديلات المتفاوتة كمًّا وكيفًا. وهذا هو السر في أننا عند علاجنا نظم الحكم والإدارة نعتبر دولة سلاطين المماليك استمرارًا لما كان عليه الحال في دولة الأيوبيين, وبعبارة أخرى: فإننا نعتبر دولتي الأيوبيين والمماليك -فيما يتعلق بنظم الحكم والإدارة- وحدةً واحدة متكاملة, وقد أدرك هذه الحقيقة المعاصرون من صفوة العلماء الذين عالجوا تلك الحقبة، والذين نعتمد عليهم اعتمادًا أساسيًّا، ونستقي منهم معلوماتنا عن هذا الجانب, وعلى رأس هؤلاء يأتي القلقشندي، الذي كتب كتابه صبح الأعشى في الربع الأول من القرن التاسع الهجري-الخامس عشر للميلاد, أي: أيام نضج دولة سلاطين المماليك واكتمال نظمها، فإذا به يستهلُّ كلامه عن النظم المطبقة على أيامه بعبارة نصها: "ذكر ما استقر عليه الحال من ابتداء الدولة التركية، وإلى زماننا على رأس الثمانمائة، مما أكثره مأخوذ من ترتيب الدولة الأيوبية التي هي أصل الدولة التركية -دولة المماليك".
وإذا أردنا أن نرسم صورة واقعية واضحة لنظم الحكم والإدارة في عصر الأيوبيين والمماليك، فإن المدخل الطبيعي لهذه الصورة يتمثل في(1/241)
النظام الإقطاعي الذي طُبِّقَ على نطاقٍ واسعٍ في ذلك العصر، والذي شكَّل الإطار الرئيسي الذي تطورت داخله الصورة الحقيقية لنظم الحكم والإدارة عندئذ. ذلك أن الخطأ الكبير الذي يقع فيه كثيرون هو أنهم يظنون أن النظام الإقطاعي بخصائصه المعروفة المرتبطة أساسًا بالأرض ليس إلَّا ظاهرةً اقتصاديةً لا أكثر، في الوقت الذي أثبتت الدراسة الواعية الجادة أن النظام الإقطاعي -كما عرفته وطبقته العصور الوسطى- يمثل ظاهرة سياسية اقتصادية حربية اجتماعية إدارية, ولا عبرة هنا بمفهوم لفظ الإقطاع في الشطر الأول من تاريخ الدولة الإسلامية، عندما نسمع أن الخليفة أقطع فردًا أو عشيرةً أو قبيلةً قطعة من الأرض أو إقليمًا محددًا، أو أن مدينة جديدة -مثل القطائع- اختطت، فاتخذت كل طائفة قطيعة خاصةً بها؛ فالإقطاع هنا لا يعدو المعنى اللغوي الضيق للفظ، أي: مجرد قطعة من الأرض منحت لأمير أو قائد أو جماعة على سبيل المكافأة أو التقدير، لتعيش عليها, وتستفيد مما تدره من خيرات، دون أن تستهدف هذه العملية نوعًا من الالتزامات أو الواجبات. أما الإقطاع الذي نقصده في دراستنا، والذي عرفته الدولة الإسلامية أواخر العصور الوسطى، وانتقل بأركانه من السلاجقة إلى الأيوبيين ثم المماليك، فيعني نظامًا محدد الأركان، يقوم في جوهره على أساس فكرة الاستفادة من الأرض مقابل الالتزام بواجبات معينة. وبعبارةٍ أخرى: فإن النظام الإقطاعي الذي نقصده يعطي فردًا معينًا حقَّ الاستفادة من مساحة محددة من الأرض داخل إطار مجموعة من الحقوق والواجبات المتبادلة بين الْمُقطِع والْمُقطَع.
ولتفسير ذلك نقول: إنه حدث في أواخر العصور الوسطى أن ظهر عجز العنصر العربي عن الاستمرار في الدفاع عن الكيان الإسلامي ضد الأخطار الكبرى التي هددته من مختلف الجهات المحيطة به, وكان ذلك العجز نتيجة طبيعية للجهد الكبير الذي بذله العرب منذ فجر الإسلام في الجهاد(1/242)
وحمل لواء حركة الفتوح العربية الإسلامية من بحر الظلمات -أو المحيط الأطلسي- غربًا، حتى بلاد السند الهند وحدود الصين شرقًا. وفي الوقت الذي كان العنصر العربي قد استنفد طاقته، ولم يعد يقوى على مزيد من البذل، كانت عناصر أخرى -وخاصة من الترك- قد دخلت الإسلام في وقت متأخر نسبيًّا، وغدت عن طريق أو آخر جزءًا من الدولة الإسلامية الكبرى، مما أتاح لهذه الدولة فرصة التزود بدماء فتية نشطة جديدة، تفيض حماسةً للعقيدة التي آمنت بها وتغلغلت في قلوب أبنائها.
وقد قُدِّرَ لقبيلة بالذات، من هؤلاء الأتراك -هي قبيلة الأتراك السلاجقة- أن تظهر على مسرح الحوادث في صورة دولة قوية حلت محل البويهيين في فرض وصايتها وسيطرتها على الخلافة العباسية المتداعية في بغداد.
وكانت دولة سلاطين السلاجقة دولة حربية، قامت على أساس التوسع الحربي، واعتمدت في بقائها على الحرب، وفي الذود عن كيانها ضد جيرانها من الخصوم والأعداء، على قوة جيوشها, ولما كان احتفاظ سلاطين السلاجقة بجيش كبير يدافعون به خصومهم في الداخل، وأعداءهم في الخارج، يتطلب نفقات ضخمة تنوء بحملها ميزانيتهم، فإنهم لجأوا -شأن كثير من حكام العصور الوسطى في الغرب والشرق- إلى نظام الإقطاع الحربي، بمعنى: أن يوزع السلطان الأراضي والبلاد على أمرائه, على هيئة إقطاعات متفاوتة المساحة حسب درجة كلٍّ منهم، ليستثمروها ويتعيشوا من خيراتها، مقابل تعهدهم بالخدمة العسكرية، بحيث يأتي الواحد منهم وقت الحرب، ومعه عدد معين من الفرسان والمقاتلين، حسب ارتفاع إقطاعه -أي: مساحته وقيمته, وما يدره من دخل- وينهض بواجب الحرب كاملًا، متحملًا كافة نفقاته ونفقات أتباعه وجنده، فإذا أخلَّ بهذا الواجب فَقَدَ حقَّه في التمتع بالإقطاع. وهكذا أتيح للدولة والحاكم توفير جيش من المقاتلين بأقل قدر ممكن من النفقات في عصور شَحَّ فيها النقد المتداول، وجرى(1/243)
القسم الأكبر من النشاط الاقتصادي على أساس عيني.
ومن الدول التي تفرعت عن دولة السلاجقة, الدولة الأتابكية الزنكية -نسبةً إلى عماد الدين زنكي أتابك الموصل- ثم الدولة النورية -نسبةً إلى ابنه نور الدين محمود، وقد مد الأخير نفوذه من حلب إلى دمشق, ثم إلى القاهرة، حتى إذا ما توفي خلفه في ملكه في مصر والشام صلاح الدين الأيوبي قائد قواته في مصر, ومؤسس الدولة الأيوبية, وهكذا يبدو كيف تسرب الكثير من النظم السلجوقية عبر هذه القناة إلى مصر والشام، حيث قُدِّرَ لها أن تتفاعل مع طبيعة الزمان من ناحية، وطبيعة المكان من ناحية أخرى، ثم مع ما كان سائدًا في هذه الأرض -أرض مصر والشام- من نظم سابقة من ناحية ثالثة.
أما عن طبيعة الزمان فلا ننسى أن دولتي الأيوبيين والمماليك شهدتا أخطر حلقات الحركة الصليبية، وهي الحركة التي اتخذت شكل هجمات ضارية شنَّهَا الغرب الأوربي المسيحي، واستهدفت ضرب الإسلام والمسلمين، واتخذت من أرض مسرحًا لها حينًا، ومن أرض الشام المسرح الرئيسي أحيانًا, وكان على هاتين الدولتين أن تنهضا بمسئولية الدفاع عن البلاد والعباد ضد هذا الخطر النابع من الغرب، فضلًا عن خطر آخر أتى من الشرق, وتمثَّل في غزوات التتار الوثنيين, الذين دهموا بلاد الشام في القرن السابع للهجرة-الثالث عشر للميلاد- حتى وصلوا إلى جنوب فلسطين, هذا من الناحية الخارجية، أما من الناحية الداخلية، فقد كان ذلك العصر عصر عصبيات، اعتمد كل حاكم فيه على عصبية عسكرية ارتبطت به, ونسبت إليه, وكرست ولاءها له، في حين اتخذ هو منها أداةً للبقاء والحفاظ على مصالحه ضد خصومه ومنافسيه, وهذا وذاك كانا من الأسباب الأساسية التي أدت إلى التمسك بنظام الإقطاع الحربي وتطويره والتوسع في تطبيقه طوال عصري الأيوبيين والمماليك.(1/244)
هذا من ناحية الزمان، أما عن المكان: فلا يخفى عنا أن مصر والشام -اللتين تألفت منهما كل من الدولتين الأيوبية ثم المماليكية- تضمان من المدن والأقاليم والأراضي الزراعية, وغير الزراعية, القابلة للإقطاع الشيء الكثير، والمساحات الواسعة، مما ضمن النظام الاقطاعي في هذه البلاد المادة الأساسية الخام اللازمة لصناعته وتشكيله، ووفر له ركنًا أساسيًّا وشرطًا جوهريًّا من شروط وجوده وانتعاشه.
وأخيرًا، فإننا عندما نتكلم عن نظم الحكم والإدارة في مصر والشام على الأيوبيين والمماليك، فإن علينا أن ندرك أن هذه البلاد عريقة في تاريخها وحضارتها، وأن لها تراثًا إدرايًّا وتنظيميًّا يتفق وأصولها الحضارية، وتطور على مَرِّ الزمن ليلائم طبيعتها وحاجاتها من ناحية, ويتفق مع تطور الزمان من ناحيةٍ أخرى.
وكان من المعتذر على دولة جديدة تقوم على أرض مصر والشام -مثل الدولة الأيوبية ومن بعدها الدولة المماليكية، أن تتنكر لهذا التراث الذي هو ثمرة خبرة الأيام وحصيلة تجارب الدهور، وإنما كانت مضطرة إلى الإبقاء على عناصر أساسية منه، وتعديل عناصر أخرى، ثم لا مانع من إدخال عناصر جديدة؛ كل ذلك مع عدم قطع الجذور الأصيلة الممتدة في أعماق التاريخ.
وهكذا أقام الأيوبيون دولتهم ليجدوا للفاطميين نظامًا وضعوه لحكم البلاد وإدارتها، له معالمه وأركانه الثابتة، ممثلةً في عديد من الموظفين, وفي كثير من الدواوين, ومن هذه الدواوين كان ديوان الجيش الذي أشرف على إقطاعات الجند والعسكر -بل الأمراء- مما يثبت أن الإقطاع الحربيّ كان معروفًا بمصر -في صورة أو أخرى- قبل قيام دولة بني أيوب, وكان ما فعله صلاح الدين هو أنه طوَّرَ النظام الإقطاعي الذي وجده في مصر ليتفق والقواعد التي عهدها, ونشأ في ظلها, في كنف الدولة النورية قبل حضوره إلى مصر.(1/245)
ومن المتواتر في كتب التاريخ أن نجم الدين أيوب -والد صلاح الدين- حصل على إقطاع كبير من سيده نور الدين ببلد دمشق، وأن أخاه أسد الدين شيركوه, كان إقطاعه في حمص والرحبة وأعمالهما، ومثلهما صلاح الدين، وذلك قبل قدومهم جميعًا إلى مصر, وقد لمس هؤلاء ما كان عليه نور الدين محمود من اهتمام بأمر الإقطاع، حرصًا على بناء جيشه، فكان كلُّ مَن يتمتع بإقطاع من الأمراء يلتزم بما هو مقرر عليه من العدد، أي: عدد الجند الذي يتفق وارتفاع إقطاعه، والذين يتعهد باحضارهم تحت إمرته إذا دعا داعي الحرب. ويقال: أن نور الدين محمود كان يردد: "نحن كل وقت بصدد النفير، فإذا لم يكن أجناد كافة الأمراء كاملي العَدَدِ والعُدَدِ، دخل الوهن على الإسلام". ولكي يجيب نور الدين أمراءه في نظام الإقطاع الحربي، لجأ أحيانًا إلى توريث الإقطاع إلى أبناء المقطعين، وإن كان هذا الإجراء لا يمثل القاعدة السائدة، بقدر ما يعتبر خروجًا عليها؛ فكان إذا توفي أحيانًا أحد الأمراء الأجناد، أقَرَّ نور الدين ابنه على إقطاع أبيه، وإن كان صغيرًا عَيَّنَ وصيًّا عليه إلى أن يكبر، وينهض بأمور الإقطاع, مقابل نهوضه بالواجبات والالتزامات المفروضة عليه، الأمر الذي ترتب عليه تعلق الأمراء والجند بالخدمة العسكرية، فكانوا يرددون: "هذه أملاكنا يرثها الولد عن الوالد، فنحن نقاتل عليها...."
وهكذا تجمعت كافة العوامل اليت جعلت صلاح الدين يتمسك بالنظام الإقطاعي ليتخذه دعامة لجيشه من ناحية، ولإدارة دولته الجديدة من ناحية أخرى. وقد أعاد صلاح الدين توزيع الإقطاعات أكثر من مرة، وكذلك فعل خلفاؤه، سواء من الأيوبيين أو من سلاطين المماليك الذين خلفوا بني أيوب في حكم مصر والشام. وفي جميع الحالات ظلت القاعدة العامة الغالبة هي أن يكون الإقطاع شخصيًّا بحتًا، لا دخل لحقوق الملكية أو لأحكام الوراثة فيه، وإنما يستغله المقطع بدل السلطان، ثم يؤول كله إلى السلطان-(1/246)
في عصر المماليك, أو إلى الملك الأيوبي-قبل قيام الدولة المماليكية- بمجرد انتهاء مدة الإقطاع المتفق عليها، أو بسبب وفاة المقطَع, أو عزله, أو إخلاله بشروط العقد القائم, واقتصرت الإقطاعات على نوعين: أولهما: أن يكون للمقطَع الحق المطلق في استغلاله، وثانيهما: أن يكون المقطَع مقيدًا بشروط خاصة يلتزمها أثناء باستغلال الإقطاع.
ويعنينا في هذا البحث أن نؤكد الصفة الإدارية، للإقطاع؛ إذ كان على المقطَع -أو صاحب الإقطاع- أن يعمل على حماية القرى الداخلة ضمن إقطاعه من إغارات البدو والعربان، وتوطيد الأمن بين ربوعها، والضرب على أيدي العابثين والمفسدين، ورعاية الجسور والترع والقنوات الداخلة في دائرة الإقطاع، وإقرار العدالة بين الفلاحين وإنصاف المظلومين، وجمع الأموال المستحقة؛ وخاصةً الخراج وأموال الزكاة ونحوها، فضلًا عن المكوس والضرائب المتنوعة. وكانت الدولة أيام قوتها ونفاذ كلمتها تحول دون بطش الأمراء الإقطاعيين بالفلاحين وسوء استغلالهم، وتجبرهم على الالتزام بالقواعد والأصول المنصوص عليها في المناشير والتوقيعات التي كانت تصدر عن الديوان المختص، والتي كانت تشتمل على وصفٍ للإقطاع, وبيان لحدوده وأبعاده من ناحية، ثم تقديم النصح للمقطَع بالعناية بعمارة الإقطاع, ومعاملة أهله بالعدل, وتوفير الأمن لهم من ناحية أخرى.
ونخرج من هذا بأن إدارة البلاد -خارج نطاق العواصم والمدن، أي: الإدارة المحلية- تمت في صورة أو أخرى من خلال النظام الإقطاعي, وليس معنى هذا أن الإدارة الإقليمية جرت في صورةٍ لا مركزية مطلقة، بمعنى: أن الأمراء المقطَعين غدوا مستقلين أو شبه مستقلين عن السلطة المركزية في العاصمة، وأنهم كانوا أحرارًا فيما يفعلون وفيما لا يفعلون, دون أن يخضعوا في تصرفاتهم لإشرافٍ من حكومة البلاد, أو دون أن تربطهم روابط واضحة(1/247)
بتلك الحكومة. ذلك أننا نلاحظ أن النظام الإقطاعي في مصر والشام زمن الأيوبيين والمماليك، لم يحدث من الآثار في الجانب الإداري مثلما أحدث في الغرب الأوروبي في العصور نفسها؛ ففي الغرب: تطور الإقطاع إلى نظام التوريث، ومن ثَمَّ وجدت بيوت وأسر اقترنت أسماؤها بالإقطاع الواحد مئات السنين، مما جعل لها كيانًا ثابتًا واستقلالًا ذاتيًّا في إدارة شؤون البلاد والعباد، حتى صار لكل إقطاع من الاقطاعات الكبيرة قوانينه الخاصة به، وعملته المتداولة داخله، ونظامه الضرائبي المطَبَّق فيه.
أما في مصر والشام زمن الأيوبيين والمماليك, فإن الإقطاع لم يورث إلّا في حالات نادرة ومعدوده، ومن ثَمَّ ظلَّ الإقطاع ينتقل من مقطَعٍ إلى آخر لا يمت له بصلة، مما لم يتح الفرصة لبيت معين أن يرسخ أقدامه في منطقة بذاتها ليستقل بإدارة شئونها, يضاف إلى ذلك أن السلطة المركزية في العاصمة حرصت على أن تحقق إشرافها على كافة أنحاء البلاد عن طريق نظام إداري محكم, يتمثل في عدد من الأجهزة التي امتدت اختصاصاتها إلى مختلف أركان الدولة، وعدد من الموظفين الذين انتشروا في كل زاوية من زواياها, وفق نظام تسلسلي محكم، بدأ بالعاصمة وانتهى بالقرية.
وعند الكلام عن جهاز الحكم زمن الأيوبيين والمماليك، نجد السلطان على رأس هذا الجهاز, ويلاحظ أن استخدام حكام مصر والشام لهذا اللقب جاء أمرًا جديدًا، استحدثه الأيوبيون لأول مرة, والمعروف عن الشام ومصر أنهما ظلتا منذ الفتح العربي تشكلان ولايتين تخضعان للخلافة الإسلامية الكبرى في المدينة أو دمشق أو بغداد, ولكن حدث في عصر الطولونيين والإخشيديين أن ظهرت النعرة الاستقلالية عند الولاة الذين صاروا أمراء مستقلين -أو شبه مستقلين- ربطتهم بالخلافة العباسية روابط وصلات قد تقوى حينًا وتضعف أحيانًا. وهكذا حتى فتح الفاطميون مصر سنة 358هـ(1/248)
-969م، وشيدوا مدينة القاهرة؛ لتصبح حاضرة خلافة قوية مستقلة, مدت نفوذها -ضمن ما سيطرت عليه من بلاد- على جزء كبير من بلاد الشام، وأخذت تناطح الخلافة العباسية في بغداد, واستمرت الخلافة الفاطمية تقوم بدورها في المنطقة نحوًا من قرنين من الزمان, حتى سقطت على يد صلاح الدين، الذي استطاع عقب وفاة سيده نور الدين سنة 569هـ-1174م, أن يقيم دولة جديدة، حلَّت محل الدولة الفاطمية في مصر والشام، واتخذ رأسها لقب سلطان، وهو لقب جديد استحضره الأيوبيون معهم من الشرق، من جملة ما استحضروه من نظم عرفها السلاجقة وطبقوها.
على أنه يلاحظ أن صلاح الدين الأيوبي -مؤسس الدولة الأيوبية في مصر والشام- لم يتخذ لقب سلطان، ولا يوجد دليل يشير إلى أنه اتخذ هذا اللقب ونعت به نفسه، وإنما الغالب أن معاصريه -من المؤرخين وغير المؤرخين- هم الذين لقبوه بلقب سلطان تعظيمًا له، واعترافًا بمكانته, وتقديرًا لدوره الخالد في الجهاد, وبعد ذلك تمسَّك خلفاء صلاح الدين بلقب سلطان، حتى غدا اللقب الرسمي للحاكم الأعلى للدولة طوال عصري الأيوبيين والمماليك.
وكان أن أقام صلاح الدين دولته على أساس إقطاعي -كما سبق أن أشرنا؛ فقسَّم دولته الواسعة بين أبنائه وإخوته وبقية أهل بيته؛ بحيث يحكم كل منهم جزءًا يتناسب مع مكانته وقرابته من رأس الدولة, وقد اتخذ كبار ابناء البيت الأيوبي الذين اقتسموا الدولة لقب: "ملك"، فكان يقال -مثلًا- ملك حلب, وملك حمص, وملك حماه ... وهؤلاء الملوك الذين تقاسموا الدولة كان مفروضًا فيهم أن يدينوا بالولاء والطاعة للحاكم الأعلى للدولة، وهو الذي تلقب بلقب سلطان، وكان مقره الرسمي القاهرة، وربطتهم به روابط ترواحت بين القوة والضعف، وبين الصفاء والعداء؛ باختلاف الظروف والعوامل.
وفي تتبعنا لنظم الحكم زمن الأيوبيين والمماليك، نلاحظ فارقًا خطيرًا(1/249)
بين هاتين الدولتين؛ ذلك أن الدولة الأولى نسبت إلى بيتٍ بعينه, وأسرة بذاتها، واستمدت اسمها في التاريخ من فردٍ محدد، في حين نسبت الدولة الثانية إلى طائفة, وليس إلى بيت أو فرد, ونخلص من هذا أن الحكم في الدولة الأيوبية -سواء على مستوى السلطان رأس الدولة, أو على مستوى الملوك في مختلف أجزائها- كان أسريًّا، أي: وَقْفًا على بني أيوب, من أهل بيت صلاح الدين مؤسس الدولة، واتخذ طابعًا وراثيًّا في ذلك البيت طوال العصر الأيوبي.
أما في عصر سلاطين المماليك: فقد كان للحكم ونظامه وطابعه شأن آخر؛ ذلك أنه من المعروف أن المماليك لم ينتموا إلى أصل واحد، وإنما كان منهم المغولي والصقلي والأسباني والرومي، بل الإلماني والسكندناوي، وذلك إلى جانب الغالبية من الترك الذين تألفت منهم دولة المماليك الأولى أو البحرية، والجركس الذين تألفت منهم دولة المماليك الثانية أو البرجية, وهؤلاء جميعًا أحضروا إلى مصر والشام صغارًا صحبة لتجار الرقيق، الذين وجدوا تشجيعًا لنشاطهم, وإقبالًا على بضاعتهم, وبمجرد شراء المملوك، كان أستاذه -أي: سيده الذي اشتراه- يحرص على توفير نوع معين من التأديب والتربية والتعليم والتنشئة له، بحيث يلم بتعاليم الإسلام وآدابه، ويشب لا يعرف دينًا غير الإسلام، ولا أبًا إلّا أستاذه الذي اشتراه وسهر على تربيته وتنشئته، ولم يضن عليه بعطف أو مال، حتى إذا ما بلغ مرحلة الشباب حرص على تدريبه على الفروسية واستعمال النشاب والسيف، ليخلق منه فارسًا قويًّا يدافع عن أستاذه وعن نفسه وقت الحاجة. وفي مرحلة معينة يتم تحرير المملوك وعتقه؛ ليصبح بدوره كيانًا مستقلًّا، فيرتقي تدريجيًّا في سلم الإمارة، ويصير له الحق في أن يقتني عددًا من المماليك, يتناسب ودرجته، فإذا كان أمير خمسة, صار من حقه اقتناء خمسة مماليك، وإذا ارتقى إلى أمير عشرة, صار من حقه أن يزيد عدد مماليكه إلى عشرة، حتى إذا ما بلغ رتبة أمير(1/250)
مائة, مقدم ألف -وهي أعلى درجات الإمارة- صار من حقه أن يقتني مائة مملوك، ويوقد ألف جندي زمن الحرب.
وفي ظل هذا النظام نشأت بين المماليك -على اختلاف أصولهم- روابط خاصة، أهمها رابطتان: رابطة الأستاذية، ورابطة الخشداشية؛ أما رابطة الأستاذية فهي -كما سبق أن أشرنا- الرابطة التي تربط المملوك بسيده، أي: أستاذه الذي اشتراه رقيقًا في صغره، ثم تعهده بالتربية حتى كبر وأعتقه, وأما رابطة الخشداشية - أي الزمالة- فكانت أقوى الروابط بين المماليك جميعًا، وتعني ما هنالك من عاطفة بين مجموعة من المماليك، نشأوا في كنف أستاذ واحد ونسبوا إليه -كالمماليك الأشرفية نسبة إلى الأشرف، أو الظاهرية نسبة إلى الظاهر، أو الصالحية نسبة إلى الصالح- وصاروا كالإخوة يربط بينهم أب واحد.
ومن الواضح أن طبيعة المماليك وأصلهم وتربيتهم ونشأتهم، جعلتهم جميعًا يشعرون بالمساواة؛ بحيث لا تكون هناك ميزة أو فضل لأحدهم على آخر, فكلهم كانوا رقيقًا في يوم من الأيام، جلبوا من بلاد بعيدة ليعيشوا أغرابًا في بيئة جديدة، ويربون تربية متشابهة, حتى يتحرروا ويشقوا طريقهم؛ ليظهروا على سطح الحوادث بأسلوب يكاد يكون واحدًا. وهذا الإحساس بالمساواة انعكس على نظام الحكم طوال عصر المماليك، فآمن كل أمير منهم بأن له حقًّا في تولي منصب السلطنة، وتمسَّك كل واحد من كبار الأمراء بما ظنه حقًّا مشروعًا له في السلطنة، اعتقادًا منهم بأن السلطان ليس إلّا واحدًا منهم، ساعدته الظروف على إعلاء دست السلطنة، ولكنه ليس أفضلهم.
وهذا هو السر في أن المماليك لم يؤمنوا مطلقًا بمبدأ الوراثة في الحكم, وكفى أن أحدهم توصل بفضل ذكائه وقوته -فضلًا عن الظروف المواتية-(1/251)
إلى منصب السلطنة، ورضوا -مختارين أو مجبرين- بالخضوع لحكمه، فلا مبرر للخضوع لابنه من بعده، وخاصةً أن هذا الابن لم ينشأ نشأتهم، فلم يكن مملوكًا في يوم من الأيام مثلما كانوا، ولم يمر في حياته ونشأته بنفس الأدوار التي مروا بها في حياتهم ونشأتهم. حقيقةً أننا نرى في تاريخ المماليك أمثلة لتنصيب ابن السلطان الراحل محل أبيه، وموافقة أمراء المماليك على هذا الإجراء في ظاهر الأمر، ولكن كبار الأمراء لم يقروا ذلك إلّا كإجراء مؤقت إلى أن ينجلي موقف المنافسة فيما بينهم عن ظهور الأمير الأقوى الذي يستطيع أن يتفوق على منافسيه, ويستأثر بالسلطنة لنفسه, ولم يشذّ عن هذا الوضع طوال عصر سلاطين المماليك سوى أسرة قلاون، التي استطاعت أن تبقى في الحكم مدةً طويلةً أربت على قرن من الزمان، وذلك لظروف خاصة، لا موضع للتطرق إليها في هذا البحث, وحتى بالنسبة لبيت قلاون، فإننا نجد أن السلاطين الذين ولوا منصب السلطنة من أفراد هذا البيت لم يسلموا من مؤامرات كبار الأمراء، فتعرضوا للعزل بين حينٍ وآخر، بمعنى: أن السلاطين من سلالة قلاون لم يحتفظوا بالسلطنة بصفة منتظمة طوال عصر هذه الأسرة، وإنما كان توليهم هذا المنصب في صورة حلقات مقطعة غير موصولة.
وقد نتج عن عدم وجود نظام ثابت لتولي منصب السلطنة في عصر سلاطين المماليك، وتطلع كل أمير من أمرائهم إلى ذلك المنصب بوصفه حقًّا مشروعًا له، كثرة الاضطرابات في جسم هذه الدولة طوال تاريخها, بل إن نسبة كبيرة من سلاطين المماليك انتهى أمرهم بالقتل على أيدي منافسيهم من الأمراء المتطلعين إلى تولي منصب السلطنة, ويروي المؤرخ ابن إياس أنه عندما قتل السلطان العادل طومان باي الأول, سنة 1501م تمنع الغوري -رغم كونه أكبر الأمراء- عن قبول منصب السلطنة خوفًا من أن ينتهي مصيره بالقتل مثل أسلافه، ولكن الأمراء أصروا على اختياره، فسحبوه(1/252)
وأجلسوه، وهو يمتنع من ذلك ويبكي. وكان أن نزل على رأيهم بشرط: ألَّا تقتلوني، بل إذا أردتم خلعي وافقتكم!! هذا إلى أنه من الظواهر المألوفة في تاريخ دولة سلاطين المماليك, أنه لا يكاد يتم إعلان أحدهم سلطانًا حتى يثور ضده بعض كبار الأمراء -من ركن ما من أركان الدولة- ممتنعًا عن إعلان ولائه للسلطان الجديد، اعتقادًا منه بأنه أحق منه بالمنصب، أو على الأقل, فإنه ليس دون السلطان استحقاقًا لهذا المنصب.
وهكذا، فإن منصب السلطنة لم يحظ بالقدر المناسب من الاستقرار في عصر سلاطين المماليك, ومهما يقال من أن سلاطين بني أيوب تعرضوا لمتاعب وأخطار ومنافسات، فإن علينا أن ندرك أن هذه المتاعب والأخطار والمنافسات كانت داخلية، مصدرها: أقرباؤهم من أبناء البيت الأيوبي نفسه، مما أعطاها طابع المنازعات العائلية الأسرية, أما سلاطين المماليك، فقد تعرضوا لمتاعب من جانب زملاء لهم، لا تربطهم بهم رابطة الدم، وإنما ربطتهم جميعًا رابطة النظام الذي شبوا في ظله.
وصفوة القول هي: أنه إذا كان مبدأ الوراثة في تولي منصب السلطنة هو المبدأ الشرعي المسلم به في عصر الأيوبيين، فإنه كان يمثِّل خروجًا على القاعدة العامة التي أخذ بها المماليك, وحرصوا على تطبيقها، والتي تتفق وإيمانهم الراسخ, بأنهم جميعًا متساوون، وبأن هذا المنصب حقٌّ مشروع لمن يستطيع أن يفرض نفسه عليه من كبار الأمراء.
أما مركز السلطنة وقاعدة الحكم في عصر الأيوبيين والمماليك؛ فكان قلعة الجبل -جبل المقطم، وهي القلعة التي شرع صلاح الدين الأيوبي في بنائها، والتي لم تكتمل عمارتها إلّا في عهد السلطان الكامل الأيوبي سنة 604هـ-1207م. ومنذ ذلك الوقت غدت القلعة موضع السلطة المركزية في الدول، ومقر السلاطين، ومجمع الأجهزة الرئيسية التي توجه(1/253)
شئون البلاد والعباد, وحسب القلعة أن قال فيها المقريزي: إن سلطنة أي حاكم لا تتم إلا بدخوله قلعة الجبل، وعلى هذا الأساس, فإن القلعة لم تكن مجرد بناء حربي -كما يفهم من اسمها- قُصِدَ به حماية القاهرة من الهجمات الخارجية والفتن الداخلية، وإنما كانت بمثابة مدينة خاصة صغيرة، تحيط بها أسوار عالية, لها أبواب عديدة، وبداخلها ديار وقصور وحمامات وأحواش وطباق للماليك السلطانية, بلغ عددها اثنتا عشرة طبقة، تتسع كل منها لألف مملوك, وكان بالقلعة كذلك دور لخواص الأمراء ونسائهم وأولادهم ومماليكهم ودواوينهم، فضلًا عن دار الوزارة التي اشتملت على مقر الدواوين وبيت المال ونحوها، وكذلك الإصطبلات الشريفة التي بها الخيول السلطانية, وساحات الأغنام والطيور والحيوانات الغريبة -من فيلة وأسود وغزال- يتخلل كل ذلك البساتين والأشجار, والمياه الجارية التي ترفعها السواقي من النيل إلى القلعة، برغم ارتفاعها ما يقرب من خمسمائة ذراع.
وسارت الحياة في قلعة الجبل حسب نظم خاصة من رسوم الملك في العصور الوسطى, منها دق الكوسات عند أبوابها، وهي صنجات من نحاس يدق بها مع طبول وشبابة مرتين كل ليلة، ويدار بها في جوانب القلعة مرة بعد العشاء ومرة في الفجر -قبل التسبيح على المآذن- وتسمى كل منهما الدورة, ومنها الزفة بالطبخاناه، وهي طبول متعددة، معها أبواق وزمر، تختلف أصواتها على إيقاع مخصوص، تدق كل يوم بالقلعة صباحًا, وبعد صلاة المغرب، فيصير لها دويٌّ عظيم، يعرف به موعد فتح أبواب القلعة وغلقها من مسافة بعيدة. وجرت العادة أن يحفظ السلطان عنده مفاتيح أبواب القلعة، فيحضرها إليه المتولون على الأبواب كل مساء.
وإذا كانت الدولة الأيوبية من الناحية الزمنية بين دولتين اتصفتا بالثراء والترف والبذخ، فإن العصر الأيوبي نفسه اشتهر بأنه عصر جهاد، مما جعل(1/254)
الطابع العام للحياة الاجتماعية -سواء على مستوى الحكام أو المحكومين- يغلب عليه عدم الإسراف والمغالاة. ولكن ثمة تطورات اقتصادية عالمية في عصر سلاطين المماليك أتاحت لهم ثروةً ضخمةً, ظهر أثرها في حياتهم الخاصة والعامة, ولا نريد أن نتطرق إلى ما حفلت به حياة سلاطين المماليك داخل القلعة وخارجها من إسراف وبذخ، وإنما تكفي الإشارة إلى أن القلعة توافرت بها صنابير المياه الباردة والساخنة حسب الحاجة، بل لقد بلغ الأمر بالسلاطين أن جلبوا الثلج من جبال الشام لتبريد الماء زمن الحر صيفًا، وذلك لكمال الرفاهية والأبهة على قول القلقشندي، فقرروا له هجنًا تحمله في البر, وسفنا تحمله في البحر, حتى يصل إلى القلعة حيث يحفظ بالشرابخاناه.
على أن الذي يعنينا بدرجة أكبر في موضوعنا, صورة الحياة الرسمية في البلاط السلطاني داخل القلعة، نظرًا لارتباطاها الوثيق بنظم الحكم. وهنا نلاحظ أن الحياة الرسمية في البلاط السلطاني ظلت في تطور مستمر، حتى بلغت درجة شديدة من التعقيد في عصر سلاطين المماليك, وليس معنى هذا أن تلك الحياة بدأت من نقطة الصفر في العصر الأيوبي؛ إذ لا يخفى عنا أن الخلافة الفاطمية تركت للدولة الأيوبية تراثًا كبيرًا لا يمكن إغفاله من التقاليد والنظم الراسخة, ولم يستطع الأيوبيون أن يهملوا هذا التراث، فأفادوا منه, وأبقوا على جزء كبير من عناصره, وقد أخذت هذه التقاليد تتطور بالتعديل والإضافة، حتى بلغت الحياة الرسمية في البلاط المماليكي درجة من التعقيد، وأحيطت بقدر من مظاهر التفخيم والتعظيم، جعلت بعض المؤرخين الأوروبيين المحدثين يقولون عنها: إنها تطلبت من قواعد البروتوكول ما يفوق أعظم بلاط في عصورنا الحديثة.
فعلى رأس البلاط كان السلطان، وله من صفات العظمة، والألقاب(1/255)
العديدة، ما يصعب حصره, وأحاط بالسلطان عدد كبير من الأمراء أرباب الوظائف، لكلٍّ منهم رتبته ولقبه ومنزلته ووظيفته؛ فهناك أمير جاندار، وهو الذي يستأذن على دخول الأمراء للخدمة، ويدخل أمامهم إلى الديوان، كما كان من اختصاصات هذا الأمير أن يدور بالزفة حول السلطان في سفره صباحًا أو مساءً. وهناك الإستادار، وإليه أمر البيوت السلطانية كلها؛ من المطبخ والشرابخاناه والفراشخاناه ... وغيرها, وهناك أمير سلاح مقدم السلاحدارية, والمتولي لحمل سلاح السلطان, وهناك الدوادار, ومهمته إبلاغ الرسائل عن السلطان, وتقديم القصص والشكاوى وعامة الأمور إليه ... وغيرهم كثيرون.
وجرت العادة أن يخرج السلطان صباحًا من أحد قصوره الجوانية إلى القصر الكبير المشرف على إصطبلاته؛ حيث يجلس على تخت الملك، ويدخل عليه خواصه وأمراؤه, أما الغرباء: فليس لهم عادة بحضور هذا المجلس إلّا في حالة الضرورة, ويظل السلطان بذلك القصر حتى الساعة الثالثة من النهار، ثم يدخل بعدها إلى أحد قصوره الجوانية للنظر في مصالح ملكه، وعندئذ يحضر إليه أرباب الوظائف -مثل الوزير وكاتب السر وناظر الخاص وناظر الجيش- لعرض شئون الدولة عليه.
ويتضح من عبارة الخدمة السلطانية المتواترة كثيرًا في المصادر المعاصرة، مثل: "جليس كبار الأمراء قبل دخولهم إلى الخدمة" أو من عبارة: "إذا وقف الأمراء بالخدمة" أو "الأمراء عند السلطان بالخدمة" ... أن المقصود بالخدمة الحضرة السلطانية, وربما يفهم أحيانًا من هذا اللفظ معنى التحية, وتقديم فروض الولاء والاحترام، مثلما يتضح من عبارة: "وتقدم الأمراء للسلطان وخدموه". فإذا جمعنا بين المعنيين, وقلنا: إن الخدمة السلطانية هي مثول الأمراء بين يدي السلطان لتقديم فروض الولاء, وعرض أمر من أمور الدولة عليه، فإن الخدمة بهذا المعنى جرت بانتظام في عصر سلاطين(1/256)
المماليك عدة مرات في الأسبوع, وفي المواعيد المقررة لها انتظر الأمراء في رحبة باب القصر، بحيث لا يسمح لأحدهم بدخول القصر السلطاني إلّا بمملوك واحد فقط، فإذا دخل الأمراء على السلطان؛ فإنهم يبدأون بتقبيل الأرض إظهارًا للولاء والخضوع؛ بحيث إذا أراد أحدهم غير ذلك امتنع عن تقبيل الأرض للسلطان. وهذه العادة الخاصة بتقبيل الأرض أدخلها الخليفة المعز, أول الخلفاء الفاطميين في مصر، ومن ثَمَّ ظلت سائدة في العصور التالية، لا يعفى منها وزير أو أمير أو مملوك، حتى أبطلها السلطان برسباي, فمنع الناس من تقبيل الأرض له, واكتفى بتقبيل يده, وقد جرت العادة عندما يتقدم الأمراء لتقبيل يد السلطان بأن يتأخر الكبير ويتقدم قبله الصغير, هذا فضلًا عن أن الأمراء حافطوا -وهم بالخدمة السلطانية- عل آداب خاصة، فيقف كل أمير في مكانه المعروف الذي يتفق مع مكانته ورتبته، ولا يجرؤ أحدهم أن يتكلم مع غيره أو يلتفت نحوه خوفًا من مراقبة السلطان.
وتمثل الاستقبالات والمجالس الرسمية جزءًا كبيرًا هامًّا من الحياة السلطانية، مما جرى المصطلح على تسميته المواكب، وهي كثيرة متعددة. على أننا نستطيع تقسيم هذه المواكب السلطانية إلى قسمين: قسم داخل أسوار القلعة, والقسم الآخر جرى خارجها. أما النوع الأول: فأشهره موكب استقبال الرسل والسفراء الأجانب، وموكب الإيوان وموكب الإسطبل, وقد حرص سلطان المماليك عند استقبال رسول أجنبيٍّ على الظهور في أعظم مظهر، فيرتدي أفخر الملابس, ويحيط به الأمراء في أبهى الحلل ... ويجلس السلطان على سرير الملك، وهو منبر من الرخام بصدر الإيوان, على هيئة منابر الجوامع، إلّا أنه يستند إلى الحائط, ومغطى بالمخمل الأخضر. وقبل أن يتشرف السفير بالمثول بين يدي السلطان ينبهه رجال الحاشية إلى قواعد(1/257)
البروتوكول السلطاني؛ من ضرورة تقبيل الأرض، وعدم البصق في حضرة السلطان.
وقد وفد إلى مصر سنة 1422م برانكاتشي Brancacci مبعوث فلورنسا؛ لعمل اتفاق تجاري مع السلطان برسباي، فوصف الإجراءات والمراحل العديدة التي مر بها حتى توصل إلى رؤية السلطان, ذلك أنه بدأ بمقابلة الدوادار, وقدَّم له خطاب اعتماده، فقابله الدوادار بترحاب, وبعد ذلك قابل كاتب السر ليتحقق من شخصه، فقابله بالأسلوب نفسه, وأخيرًا حدد له وقت لمقابلة السلطان، فذهب مبكرًا إلى القلعة في اليوم المحدد، وهناك أخذ يمر بين صفوف لا تنتهي من المماليك والأمراء، حتى وصل أخيرًا إلى القاعة الفسيحة التي يجلس فيها السلطان, وكان السلطان متربعًا في صدر القاعة، يحيط به عدد كبير من الأمراء المدججين بالسلاح، في أركان القاعة بعض المنشدين والموسيقيين يعزفون في هدوء على مختلف الآلات الموسيقية من رباب وعود وغيرها, وظل برانكاتشي يسير في تلك القاعة في اتجاه السلطان حتى غدا في مقربة خمس وعشرين ذراعًا منه، وعندئذ أمر بالوقوف، وكفت الموسيقى عن العزف، فقبل الرسول الأرض, وقَدَّمَ مطالبه إلى السلطان.
ومن مواكب داخل القلعة جلوس السلطان بالإيوان الكبير, المسمى: دار العدل؛ للنظر في المظالم، وهي القضايا التي لم يرض أصحابها بأحكام القضاة فيها، فرفعوها إلى السلطان من باب الاستئناف، أو القضايا التي اختص السلطان بالنظر فيها مباشرة, وقد خصص كثير من السلاطين يومًا أو يومين في الأسبوع لهذا الغرض، فيجلس السلطان في الإيوان الكبير على كرسيٍّ من الخشب المغشى بالحرير، عن يمينه قاضيان من القضاة الأربعة -هم الشافعي والمالكي- وعن يساره قاضيان- هما الحنفي والحنبلي, ويلي القاضي المالكي(1/258)
من الجانب الأيمن, قضاة العسكر الثلاثة؛ الشافعي فالحنفي فالمالكي, ويليهم مفتو دار العدل؛ مثل: وكيل بيت المال, ثم الناظر في الحسبة، ومن الجانب الأيسر يجلس بعد القاضي الحنبلي الوزير وكاتب السر، وهكذا حتى تستدير الحلقة, فيصير الجالس بها مستدبرًا باب الإيوان, ويقف وراء السلطان مماليك صغار عن يمينه ويساره، من السلاحدارية والجمدارية، في حين يجلس على بعد خمس عشرة ذراعًا تقريبًا ذوو السن من أكابر أمراء المئين، وهم أمراء المشورة. أما أرباب الوظائف وباقي الأمراء فيظلون وقوفًا, وخلف هذه الحلقة المحيطة بالسلطان يقف الحجاب والدودارية لعرض أوراق القضايا المطلوب النظر فيها, ثم تقرأ على السلطان القصص، فما احتاج منها إلى مراجعة القضاة شاورهم السلطان فيها, ورجع إلى ما يقولون. وما تعلق منها بالعسكر تحدث السلطان فيها مع الحاجب وناظر الجيش، ويأمر في الباقي بما يراه.
ومن المواكب السلطانية بالقلعة كذلك, موكب الإسطبل مرتين في الأسبوع، والغرض منه النظر في شئون الأمراء والمماليك والاقطاعات, وفي هذا الموكب يجلس السلطان في صدر المكان وحوله الأمراء مقدمو الألوف يمينًا ويسارًا على مقاعد من حرير، ولا يحضر القضاة هذا المجلس, وبعد أن يقرأ ناظر الجيش ما يتعلق بالإقطاعات, يمضي السلطان منها ما يشاء, ثم يدخل كاتب السر ويقدم العلامة فيعلم السلطان ما أمضاه. وأخيرًا يدخل الجيش طائفة بعد طائفة لتقديم واجب الولاء والطاعة للسلطان، ثم يمد سماط عند انتهاء هذا الموكب.
أما المواكب السلطانية خارج القلعة؛ فمنها: سرحات الصيد, أو مواكب العيدين الفطر والأضحى، أو موكب كسر الخليج, واعتاد سلاطين المماليك أن يخرجوا في هذه المواكب بشعائر السلطنة, على أن هذه المواكب لم تكن كلها واحدة في ترتيبها ومظاهرها، بل تفاوتت في المظهر حسب أهمية كل منها(1/259)
ووفق ما جرت به العادة فيه, وكذلك الأسفار السلطانية، تباينت مراسيمها ومظاهرها باختلاف طبيعة السفر والغرض منه، سواء كان للحرب أو للحج أو للصيد ... أو غير ذلك.
وإذا كان السلطان في العصر الأيوبي اعتمد في ولاية منصبه, وفي مباشرة سلطاته, على حقٍّ موروث مكتسب بوصفه وريث صلاح الدين في دولته وسياسته وحقوقه، فإن السلطان في عصر المماليك كان أميرًا من الأمراء, وزعيمًا مكنته قوته ودهاؤه من التفوق على أقرانه, والوصول إلى منصب السلطنة.
وعندما أحسَّ سلاطين المماليك أنهم في حاجة إلى دعامة يبررون بها وجودهم في الحكم واستيلاءهم على السلطة، تمسحوا بالشعور الديني، فحرص السلطان الظاهر بيبرس على إحياء الخلافة العباسية في مصر، بعد أن سقطت على أيدي التتار في بغداد سنة 1258م, واعترف المماليك بأحد بني العباس خليفةً في القاهرة, مقابل قيام الخليفة الجديد بتفويض السلطان في حكم البلاد والعباد, ومن الألقاب العديدة التي تلقَّبَ بها سلاطين المماليك في مصر لقب "سلطان الإسلام والمسلمين" ولقب "قسيم أمير المؤمنين", ويشير اللقب الأولى إلى حرص سلاطين المماليك على التمسح بالإسلام, ومحاولة إضفاء صبغة شرعية على حكمهم، في حين يلقي اللقب الثاني ضوءًا على العلاقة الصورية بين سلطان المماليك والخليفة العباسي في القاهرة، بوصفهما شريكين في حكم المسلمين، أحدهما: يمثل الجانب السياسي والحربي, والآخر: يمثل الجانب الديني.
والواقع: إن الخلافة العباسية التي تَمَّ إحياؤها بالقاهرة في عصر سلاطين المماليك, كانت مجرد رمزًا لا روح فيه ولا حياة لها, ذلك أن الوضع بالنسبة للخلفاء العباسيين في القاهرة استقر على أن يفوض الخليفة الأمور العامة إلى السلطان، ويكتب له عنه عهدًا بالسلطنة، ويدعى له قبل السلطان على(1/260)
المنابر، وفيما عدا ذلك يستبد السلطان بكافة شئون الدولة. وحسب الخلفاء العباسيين أن يترددوا على أبواب السلاطين والأمراء لتهنئتهم بالشهور والأعياد, وكثيرًا ما لجأ بعض سلاطين المماليك إلى تحديد إقامة الخليفة، فيظل في بيته بعيدًا عن الاختلاط بالناس، مثلما فعل الظاهر بيبرس مع الخليفة الحاكم بأمر الله العباسي، ومثلما فعل السلطان الناصر محمد مع الخليفة المستكفي بالله, ولذا لم يكن المقريزي مبالغًا عندما وصف وضع الخليفة العباسي في مصر في عصر المماليك بقوله: "إن خلافته ليس فيها أمر ولا نهي، وحسبه أن يقال له أمير المؤمنين".
وهكذا ظلت السلطة الفعلية في الدولة -بعد إحياء الخلافة العباسية في مصر سنة 659هـ-1261م, في قبضة سلطان المماليك، فهو المهيمن على الأمراء ومماليكهم، بوصفه زعيمهم ورأس دولتهم، فيرفع من يختار من المماليك إلى مرتبة الإمارة، ويمنح الإقطاعات حسب نظام معين، ويباشر سلطاته الواسعة في توزيع المناصب وتعيين كبار الموظفين.
ولكن ليس معنى هذا أن السلطان تمتع بنفوذ مطلق لا حدود له؛ فالمعروف في العصر الأيوبي عن صلاح الدين أنه كثيرًا ما كان يستشير أهل الرأي ممن يثق فيهم من أفراد بيته وأمرائه وخاصته من العلماء, وكذلك فعل خلفاؤه من سلاطين الأيوبيين، وإن كانوا غير ملزمين باتباع ما يُقَدَّمُ لهم من آراء. أما طبيعة نظام المماليك، وإحساسهم بالمساواة، وبأن السلاطين حتى وقت قريب كانوا أمراء لا يتميزون على غيرهم من الأمراء، فقد فرضت عليهم استشارة كبار الأمراء ورجال الدولة، قبل الإقدام على أية خطوة خطيرة, وكانت هذه الاستشارة تتم في مشور -أي: مجلس المشورة- الذي يكون برئاسة السلطان, وعضوية أتابك العسكر والخليفة العباسي والوزير وقضاة المذاهب الأربعة، فضلًا عن أمراء المئين، وعددهم أربعة وعشرون(1/261)
أميرًا, فإذا كان السلطان قاصرًا, تولى رئاسة هذا المجلس الوصي عليه أو نائب السلطنة، وجرت العادة أن لا يتكلم السلطان بنفسه في هذا المجلس, خوفًا من أن ينقض الأمراء رأيه، فينتقص ذلك من هيبته وجلال مركزه، ولذلك قام المشير بالكلام عن السلطان, وقد تعددت اختصاصات مجلس المشورة في عصر سلاطين المماليك، فنظر في شئون الحرب والصلح، وناقش شغل المناصب، وخاصة مناصب النيابات والوظائف الكبرى في الدولة, ومع ذلك, فقد بقيت الحقيقة الكبرى, وهي أن السلطان لم يكن ملزمًا بدعوة مجلس المشورة أو الأخذ برأيه، أي: أن السلطان كان صاحب الرأي الأخير في جميع الأمور، مما جعل منه حاكمًا مطلقًا.
هذا عن نظام الحكم في عصر الأيوبيين والمماليك، أما النظم الإدارية: فقد أخذت تتطور منذ أيام صلاح الدين, وحتى نهاية عصر السلاطين والمماليك تطورًا مطردًا سريعًا, حتى بلغت درجة كبيرة من الدقة والإحكام, وكان أن وجدت إدارة مركزية مقرها القاهرة، عمادها مجموعة من الدواوين وكبار الموظفين، وإدارة قمة هذا الهرم الإداري وجد السلطان يوجه أمور البلاد والعباد، ويتلقى أخبار القريب والبعيد، ويتصل بأطراف دولته عن طريق شبكة محكمة من خطوط البريد.
وقد انقسم الموظفون في ذلك العصر إلى قسمين كبيرين: أرباب السيوف وأرباب القلم, أما أرباب السيوف فكانوا من الأمراء، في حين كان أرباب القلم من طائفة المعممين, أي: من المشتغلين بالكتابة والعلم, ويبدو أن الموظفين -كبارهم وصغارهم- لم يتمتعوا بقدر كبير من الاستقرار في عصر المماليك بالذات، فكثيرًا ما كان يتعرض الموظف للعزل أو الحبس أو الإعدام، أو المصادرة، لمجرد ظنون وأوهام، أو لعدم قدرته على إرضاء أولي(1/262)
الأمر, فإذا أعفي الموظف من عمله فرضت عليه رقابة، وربما ألزم بالإقامة في مدينة بعيدة مثل القدس أو قوص أو مكة، خشية أن يسبب متاعب للحكام.
وأول الموظفين الكبار في الدولة الذين ساعدوا السلطان في شئون الحكم والإدارة هو نائب السلطنة, وكان أول من استحدث هذه الوظيفة هو صلاح الدين؛ لأن انشغاله بأمر الجهاد جعله كثير التغيب عن مصر، فكان لزامًا عليه أن يترك شخصًا يعتمد عليه في حكم مصر وإدارة شئونها أثناء غيابه بالشام, لذلك استحدث صلاح الدين -لأول مرة- وظيفة نائب السلطنة، وهي الوظيفة التي ظلت قائمة بعد ذلك طوال عصري الأيوبيين والمماليك, ومن الواضح أن الاختصاص الأول لنائب السلطنة -وفق الهدف الأساسي من إنشاء هذه الوظيفة على أيام صلاح الدين- هو أن ينوب هذا الموظف الكبير عن السلطان أثناء غيابه, ولكن هذه الوظيفة تطورت تدريجيًّا حتى غدت على نوعين في عصر سلاطين المماليك، فهناك النائب الكافل أو نائب الحضرة, وهو الذي ينوب عن السلطان أثناء غيبته فقط، في حرب أو حج أو غير ذلك, ومن الواضح أن نائب الحضرة كان أعلى مقامًا ودرجةً من نائب الغيبة؛ لأنه كان يستطيع أن يتصرف في حضرة السلطان. ولعل مكانة نائب السلطان من ناحية، وإحساس أمراء المماليك بالمساواة من ناحية أخرى، جعلت كثيرًا من نواب السلطنة في عصر الماليك يتطلعون إلى منصب السلطنة, ويشكلون خطرًا على السلاطين أنفسهم.
ومهما يكن الأمر، فإن نائب السلطنة -أي: النائب الكافل- كان على درجة واسعة من النفوذ، فهو يحكم في كل ما يحكم فيه السلطان، ويعلّم في التقاليد والتواقيع والمناشير على كل ما يعلّم عليه السلطان، ويكاتبه جميع(1/263)
كبار موظفي الدولة فيما يكاتبون فيه السلطان، ويراجعونه فيما يراجعون السلطان, بل إن له أن يستخدم الجند من غير مشاورة السلطان، ويعيِّن أرباب الوظائف؛ كالوزارة وكتابة السر ... وغيرها. وصفوة القول: أنه على حدِّ تعبير القلقشندي: "سلطان مختصر, بل هو السلطان الثاني". وشتان بين هذه السلطة الواسعة التي تمتع بها النائب الكافل -أو نائب الحضرة- وبين ما كان عليه نائب الغيبة من نفوذ ضيق، لا يتعدى إخماد الثوار وخلاص الحقوق في حال تغيب السلطان والنائب الكافل.
أما الوزير، فكان يلي نائب السلطنة في المرتبة, ومن الواضح أن إنشاء وظيفة نائب السلطان في العصر الأيوبي أضعف من أهمية الوزير، فالوزير كان الرجل الثاني -بعد الخليفة- في العصر الفاطمي، حتى أصبح للخلفاء الفاطميين نوعان من الوزارة؛ وزارة تفويض, ووزارة تنفيذ, وقد أطلق على العصر الفاطمي نوعان من الوزارة: وزارة تفويض, ووزارة تنفيذ, وقد أطلق على العصر الفاطمي الثاني اسم عصر الوزراء العظام، عندما غدا الوزراء هم أصحاب السلطة الفعلية، حتى حجر بعضهم على الخلفاء وأخضعوهم لمشيئتهم, ولكن جاء إنشاء وظيفة نائب السلطنة في العصر الأيوبي ليجعل من نائب السلطان الرجل الثاني في الدولة، مما ترك الوزير بلا نفوذ أو سلطات, وإذا كان صلاح الدين قد اعتمد على وزيره القاضي الفاضل، ووثق فيه وعهد إليه بكثير من الأمور، فإننا نسمع عن بعض خلفاء صلاح الدين أنهم استغنوا أحيانًا عن وظيفة الوزير؛ من ذلك أن السلطان العادل الأول -أو الكبير- استوزر الصاحب صفي الدين بن شكر، ولكنه لم يلبث أن تغير عليه، فأقاله من الوزارة, وترك المنصب خاليًا دون أن يعين فيه وزيرًا حتى مات, وازدادت مكانة الوزير انحطاطًا في عصر سلاطين المماليك، حتى عَبَّر عنها ابن خلدون عندئذ بأنها غدت "مرؤوسة ناقصة". ذلك أن نفوذ الوزير عندئذ لم يتعد تنفيذ تعليمات السلطان ونائبه، وربما الإشراف على شئون الدولة المالية, وفي بعض الأحيان عين سلطان المماليك وزيرين في(1/264)
وقت واحد، أحدهما: من أرباب الأقلام أو المعممين, وأطلق عليه اسم وزير الصحبة، والثاني: من أرباب السيوف أو الأمراء, وأطلق عليه اسم الوزير فقط, ولا أدل على تناقص أهمية الوزارة في عصر سلاطين المماليك، من أن هذه الوظيفة كانت تلغى في بعض الأحيان، أو تظل شاغرة دون أن يحدث أي خلل في الجهاز الإداري للدولة, بل لقد حدث أن ألغيت وظيفة الوزارة سنة 727هـ-1327م, وظل منصب الوزير شاغرًا سبعة عشر عامًا, إلى أن أعيدت سنة 744هـ-1343م.
وبالإضافة إلى وظيفة الوزارة، وجدت وظائف أخرى سامية، في الدولتين الأيوبية والمماليكية، قسمهم القلقشندي إلى أرباب سيوف وحملة أقلام، وينقسم كل قسم من هذين القسمين إلى نوعين: من هو بحضرة السلطان، ومن هو خارج عن الحضرة السلطانية, ولا يعنينا كثيرًا في بحثنا من هذه الوظائف ما لا دور مباشر له في شئون الحكم والإدارة، مثل وظيفة الحاجب الذي يقوم بإدخال الناس على السطان، ووظيفة الإستادرار الذي ينظر في إدارة البيوت السلطانية, ووظيفة الدوادار الذي يقوم بابلاغ الرسائل, ورفع القصص إلى السلطان, والحصول على توقيعه على المراسيم والمناشير السلطانية، ووظيفة ناظر الخاص, المكلف برعاية شئون السلطة المالية ...
أما وظائف ذات الصلة المباشرة بشئون الحكم والإدارة، فمن أهمها وظيفة الولاية, وكان الولاة يختارون دائمًا من بين الأمراء؛ ليقوموا بوظيفة المحافظ اليوم في الأقسام الإدارية, ومن الطبيعي أن يكون أكبر هؤلاء شأنًا والي القاهرة, الذي عهد إليه بالإشراف على العاصمة وصيانتها، وحماية أهلها من عبث المفسدين واللصوص ومثيري الفتن, فإذا شَبَّ حريق في العاصمة, بادر الوالي على رأس رجاله لإطفائه، وإذا كثرت مناسر اللصوص تعقبهم(1/265)
الوالي للقضاء عليهم، وإذا تفشَّى شرب الخمور أسرع الوالي إلى البحث عن مناطق عصر الخمور لمعاقبة أصحابها, ومصادرة خمورهم، وإذا فشا تعاطي الحشيش كافح الوالي مزارع المخدرات بجهة باب اللوق وأحرق منتجاتها, وهكذا تصور لنا المصادر المعاصرة والي القاهرة ورجاله في صورة حركة دائمة، ففي النهار يطوف معهم الأسواق والدروب لمنع الفسق ومكافحته، وفي الليل يتصيد السكارى واللصوص والعابثين للقبض عليهم ومحاكمتهم, هذا كله فضلًا عن مراقبة أبواب القاهرة، والإشراف على إغلاقها ليلًا، حتى لا يتسرب إلى المدينة عدو أو مفسد, ونظرًا لأهمية وظيفة الوالي وخطورة مسئولياته، فإنه كان لا يستطيع النوم خارج المدينة إلّا بمرسوم، خوفًا من حريق, أو منسر, أو كسر حاصل, أو فتح, أو غير ذلك. وقد ساعد والي القاهرة ولاة آخرون، أهمهم والي الفسطاط، ويشرف على مصر -الفسطاط والعسكر والقطائع، ثم والي القرافة؛ للإشراف على شئون القرافة ومنع المسافر فيها, وأخيرًا يأتي والي القلعة أو نائبها، ومن مهامه الإشراف على فتح أبوابها في الصباح وإغلاقها في المساء.
ويكمل المحتسب عمل الوالي، وإن كانت وظيفة الحسبة من الوظائف ذات الصبغة الدينية التي يليها أرباب الأقلام, وبعبارة أخرى: فإن المحتسب كان أكثر ارتباطًا بالقاضي منه بالوالي، حتى إنه كان يحدث في بعض الأحوال أن يسند القضاء والحسبة إلى فرد واحد, ولكن إذا كان عمل القاضي يتطلب قدرًا من البطء والروية للتثبت من صحة الوقائع، فإن عمل المحتسب قام على أساس سرعة البت في المخالفات التي تتعلق بالآداب العامة, ونظام الأسواق, والمعاملات التجارية, وآداب الطريق, ونحوها. لذلك دأب المحتسب ونوابه على المرور بطرقات المدينة وأسواقها؛ لمراقبة الموازين والمكاييل والمقاييس، وللتفتيش على نظافة الحوانيت، والتأكد من سلامة ما يقدمه الباعة من طعام للجماهير، هذا فضلًا عن مراقبة الخانات والفنادق(1/266)
والحمامات، فمن وجده المحتسب قد غشَّ مسلمًا, أو أكل بباطل درهمًا، أو أخبر مشتريًا بزائد، أو أخرج من معهود العوائد، شهره بالبلد، وأركب تلك الآلة قفاه، حتى يضعف منه الجلد....". وجدير بالذكر أنه كان بالديار المصرية، ثلاثة محتسبين، أحدهم بالقاهرة, وله التصرف بالحكم في القاهرة والوجه البحري بأكمله، ومحتسب مصر -الفسطاط- وله التصرف بمصر والوجه القبلي كله، ومحتسب الإسكندرية, ونفوذه قاصر على الثغر, ولكلٍّ منهم نواب منتشرون في كافة أنحاء الأقاليم التابعة له.
أما الإدارة الإقليمية في أعمال الوجهين البحري والقبلي -خارج القاهرة والإسكندرية- فأشرف عليها مجموعة من الولاة, وكان الوجه البحري مقسمًا إلى عشرة أعمال، هي: القليوبية والشرقية والدقهلية -المرتاحية, ودمياط والغربية والمنوفية وأبيار والبحيرة وفوة والنستراوية، وحكم كلًّا منها والي، ما عدا البحيرة فكان يحكمها نائب, ولعل السبب في زيادة اهتمام السلاطين بأمر البحيرة هو تخوفهم من كثرة الأعراب، وما يقومون به فيها من فتن وثورات بين حين وآخر, وكانت ولاية الغربية أعظم ولايات الوجه البحري، ومقر واليها المحلة الكبرى، وهي من حيث زعامتها كانت تضاهي ولاية قوص في الوجه القبلي.
فإذا انتقلنا إلى الوجه القبلي, وجدنا أعماله ثمانية، لكل منها واليها، هي الجيزة والفيومية، والأشمونية والأخميمية والأطغيمية، والبهنساوية، والأسيوطية والقوصية، وكانت أسوان تابعة لعمل قوص، ولكنها استقلت وصارت عملًا قائمًا بنفسه منذ عهد السلطان الناصر محمد؛ كذلك حدث في ذلك العهد أنه عين بميناء عيذاب -على البحر الأحمر- والٍ أقل درجة، كان يتبع والي قوص, ويراجعه في الأمور الممهمة. والمعروف أن ميناء عيذاب نهض عندئذ بدور خطير في تجارة مصر في البحر الأحمر من ناحية، وفي سفر(1/267)
الحجاج من ناحية أخرى, وكان الحجاج والبضائع يتحركون منها إلى قوص, ثم في النيل شمالًا إلى القاهرة والإسكندرية ودمياط، وبالعكس, وقد قال القلقشندي عن ولاية قوص: إنها كانت أعظم ولايات الوجه القبلي, حتى إن واليها كان يركب بالشبابة أسوة النواب بالمماليك".
ولتحقيق نوع من الإشراف على الولاة -فضلًا عن مراعاة التسلسل الإداري- عُيِّنَ كاشف لكل من الوجهين البحري والقبلي، أطلق عليه اسم: "والي الولاة", واستمر الأمر على ذلك حتى النصف الأخير من القرن الثامن الهجري-الرابع عشر للميلاد، عندما تمت تطورات إدارية واضحة. ذلك أنه حدث سنة 767هـ-1365م, أن حولت مدينة الإسكندرية من مجرد ولاية يحكمها والٍ إلى نيابة يحكمها نائب, ويبدو أن السبب في ذلك ليس مجرد ازدياد الأهمية التجارية لثغر الإسكندرية عندئذ، وازدياد أعداد الجاليات الأجنبية بها، بعد أن غدت لثغر مصر الأول على البحر المتوسط في ذلك الدور، وإنما علينا أن نضع في الاعتبار أن مدينة الإسكندرية تعرضت في السنة السابقة الذكر إلى حملةٍ صليبية بحرية ضارية، قام بها بطرس لوزجنان ملك جزيرة قبرص؛ فطرقها الفرنج وفتكوا بأهلها, وقتلوا ونهبوا وأسروا. وكان أن اهتم سلاطين المماليك بأمر الإسكندرية، وبذلوا جهدًا كبيرًا في حمايتها, وحولوها إلى وحدة إدارية كبرى لها شخصيتها، فغدت، "نيابة جليلة، نائبها من الأمراء المقدمين"، بها مجموعة من كبار الموظفين، بل كان بها كرسي سلطنة بدار النيابة، له مراسيم معينة في الخدمة والمواكب وغيرها ... تتبع عندما يزور السلطان الثغر.
أما التطور الثاني الكبير في النظم الإدارية في أواخر القرن الرابع عشر، فكان عندما استحدث السلطان الظاهر برقوق نيابتين، إحداهما للوجه(1/268)
البحري, والأخرى للوجه القبلي, وكان مقر نيابة الوجه البحري دمنهور بالبحيرة، ويحكم نائبها -على جميع بلاد الوجه البحري خلا الإسكندرية. أما نيابة الوجه القبلي، فكان مقرها مدينة أسيوط، ونائبها -حكمه على جميع بلاد الوجه القبلي، وهي في الترتيب والرتبة على ما تقدم من نيابة الوجه البحري، غير أنها أعظم خطرًا في النفوس. وعند إنشاء هاتين النيابتين، صار الكاشفان تحت إمرتهما، وجعل كاشف آخر للبهنساوية والفيوم، وعطل الفيوم من الوالي، وباقي الوجه القبلي أمره راجع إلى نائبه، وللجيزية كاشف يتحدث في جسورها وسائر متعلقاتها، ولا يتعدى أمره إلى غيرها من النواحي ... ".
وكان من الطبيعي أن يعتمد هذا الجهاز الإداري الضخم الذي عرفته دولتا الأيوبيين والمماليك على مجموعة من الدواوين الكبيرة -وهي أشبه بالوزارات في عصرنا- لإدارة مرافق الدولة, وثمَّةَ موظف كبير عاش في العصر الأيوبي هو ابن مماتي المصري, المتوفى سنة 606هـ-1209م، ألَّفَ كتابًا شهيرًا أسماه: "قوانين الدواوين"، تناول فيه نظام الحكومة وقوانينها في عصر الدولة الأيوبية. ونخرج من دراسة هذا المصدر أنه كان بمصر عدد كبير من الدواوين, لكل منها ناظر أو رئيس وميزانية خاصة، وعدد من الموظفين يتبعون الناظر وينفذون أوامره, وكان ابن مماتي نفسه ناظرًا لديوان بيت المال في أوائل العصر الأيوبي.
وقد استمرت هذه الدواوين في النمو والتطور طوال عصر سلاطين المماليك، حتى صارت لها أوضاعها الثابتة ونظمها الراسخة, وتقاليدها المتفق عليها, ومن أهم هذه الدواوين كان ديوان الجيش وديوان الإنشاء وديوان الأحباس، وديوان النظر، وديوان الخاص، وغيرها ... ومن الطبيعي أن(1/269)
يتمتع ديوان الجيش بأهمية كبيرة في ذلك العصر الذي غلبت عليه روح الجهاد ضد الصليبيين حينًا والتتار أحيانًا، والذي استمدت فيه الدولتان الأيوبية والمماليكية وجودهما وبقاءهما من فكرة الجهاد والذود عن الوطن الإسلامي في الشرق الأدنى ضد الأخطار الكبرى التي هددته, وأشرف هذا الديوان على كل ما يتعلق بالجند بمختلف طوائفهم، فكانت تحفظ فيه الأوراق الخاصة بهم, كذلك صار من اختصاصات ديوان الجيش المسائل المتعلقة بالإقطاعات، ففيه سجل خاص لكل إقطاع يمنحه السلطان، واسم المقطَع, ومساحة إقطاعه ونوعه. أما ناظر هذا الديوان، فقد عرف باسم ناظر الجيش, ووظيفته من أهم الوظائف في الدولة، وكان يعاونه بعض كبار الموظفين، مثل: صاحب ديوان الجيش, وينوب عن الناظر في تصريف شئون الديوان، ومستوفي الجيش ويقوم بتحديد الر واتب التي تصرف للجند وتسجيلها في كشوف خاصة بمساعدة مستوفي الإقطاعات. ومستوفي الرزق, ويشرف على صرف مرتبات الأجناد وأرزاقهم العينية, واشترط في هؤلاء الموظفين جميعًا الأمانة التامة والكفاية المطلقة.
أما ديوان الإنشاء: فكان على جانب خطير من الأهمية في شئون الحكم والإدارة, ذلك أن مهمته كانت تبادل المكاتبات الرسمية الخاصة بالدولة، وهي المكاتبات التي ترد إلى السلطان من خارج الدولة وداخلها، أي: من حكام الدول الأخرى المجاورة وغير المجاورة، ومن النواب وكبار موظفي الدولة, وكان ديوان الإنشاء يطلع السلطان على هذه المكاتبات, ويعد له الردود عليها, وقد حفظ التاريخ أسماء مجموعة من أعلام الأدباء الذين ولوا ديوان الإنشاء في العصر الأيوبي والمماليكي؛ ومن هؤلاء: القاضي الفاضل, الذي ولي ديوان الإنشاء أيام صلاح الدين الأيوبي، وذلك إلى جانب قيامه بأعباء الوزارة؛ فكان فيهما جميعًا, وفي أواخر الدولة الأيوبية- على عهد السلطان الصالح نجم الدين أيوب- تولى الصاحب بهاء الدين زهير(1/270)
أمر ديوان الإنشاء, أما في عصر سلاطين المماليك: فكان من ألمع الشخصيات التي وليت ديوان الإنشاء القاضي محي الدين بن عبد الظاهر، والقاضي فتح الدين بن عبد الظاهر، والقاضي محيي الدين بن فضل الله ... وغيرهم.
وقد أفاض القلقشندي في مكانة صاحب ديوان الإنشاء عند السلاطين والملوك: "ولم يزل صاحب هذا الديوان معظمًا عند الملوك في كل زمن، مقدمًا لديهم على من عداه، يلقون إليه أسرارهم، ويخصونه بخفايا أمورهم، ويطلعونه على ما لم يطَّلِع عليه أخص الأخصاء -من الوزراء والأهل والولد- وناهيك برتبة هذا محلها ... ". أما الخالدي فيقول عنه في كتابه "المقصد الرفيع": "إن السلاطين كانوا يطلعونه على ما لا يطلعون عليه أولادهم, ولا أخص الأخصاء من الأمراء والوزراء وغيرهم". ولذا روعي في صاحب هذا المنصب أن يكون أمينًا على السر, فصيح الألفاظ، طلق اللسان، أصيلًا في قومه، وقورًا حليمًا..". على قول القلقشندي.
ولم تلبث أن اتسعت دائرة اختصاصات صاحب ديوان الإنشاء؛ إذ كان عليه أن يبلغ السلطان بما يصله من أخبار داخلية أولًا فأول، ويحضر -بحكم منصبه- اليمين التي يؤديها الولاة والحكام والأمراء عند تعيينهم في مناصبهم، ويكتب المراسيم الخاصة بتولي هذه المناصب, ولم تكن هذه المهمة الأخيرة بالسهولة التي يتصورها البعض، وخاصة في عصر عرف برعاية قواعد البروتوكول والتمسك بهذه القواعد، فلكل مقامٍ مقالٌ، ولكل حاكمٍ أو أميرٍ أو موظفٍ تقليدٌ خاصٌّ يخاطب به حسب درجته ورتبته, بل إن الرسائل التي صدرت عن ديوان الإنشاء باسم السلطان اختلفت في نوع الورق المدونة عليه، وحجم ذلك الورق، وطريقة الخط ... كل ذلك باختلاف مكانة الشخص المرسل إليه، وهو ما أفرد له القلقشندي أبوابًا وفصولًا طويلة في كتابه صبح الأعشى.(1/271)
ولما كان من الصعب على فرد واحد أن يقوم بكل هذا العبء الثقيل، وُجِدَ لصاحب ديوان الإنشاء أعوان أولهم "نائب كاتب السر"، الذي ينوب عن ناظر الديوان في الرد على المكاتبات الواردة في حالة تغيب الناظر أو تخلفه لحضور مجالس السلطان, ويلي نائب كاتب السر في المرتبة كتاب الدست الشريف، وهم كتاب ديوان الإنشاء, والذين أطلق عليهم اسم "الموقعين"؛ لأنهم كانوا يجلسون مع رئيسهم كاتب السر بمجلس السلطان بدار العدل، ويوقعون على الشكاوي والقصص المرفوعة إليه.
وتوزعت أعمال ديوان الإنشاء على كتاب الدست؛ فكان منهم مَنْ يقوم بصياغة الرسائل الموجهة إلى ملوك المسلمين وأمرائهم، واشترط فيه الدراية الخاصة بألقابهم, ومنهم من يقوم بصياغة المكاتبات الموجهة إلى ملوك الفرنجة، أو ترجمة الرسائل الموجهة من هؤلاء الملوك إلى السلطان, ويشترط في هذا النوع من المكاتبات دراية باللغات الأجنبية، ومنهم من اشتهر بحسن الخط على أنواعه, وارتبط بكاتب السر في عمله موظف كبير اسمه الدوادار، وهو الذي يقوم بتبليغ الرسائل عن السلطان وإليه, ولما كان صاحب هذه الوظيفة يطلع على كل ما يصدر من ديوان الإنشاء، وما يرد عليه من مكاتبات، لأنه هو الذي يختمها بخاتم الدولة ويقيدها في سجلات خاصة، فإن وظيفته كانت من الوظائف الخطيرة، كما روعي في اختياره دائمًا أن يكون من بين كبار الأمراء.
وهناك إدارة تمتعت بقسط كبير من الأهمية في عصر الأيوبيين والمماليك -كانت تتبع ديوان الإنشاء- هي إدارة البريد، التي تولت ربط مختلف أطراف الدولة بعضها ببعض, وكان البريد على نوعين: برّي وجوّي. فالبريد البري تَمَّ بواسطة الخيل، وله عدة طرق تفرعت من قلعة الجبل إلى قوص وعيذاب والإسكندرية ودمياط وغزة, وعلى امتداد هذه الطرق جميعًا أقيمت محطات متقاربة, تزود البريديين وخيولهم بما احتاجوا إليه من طعام وعلف(1/272)
وماء ومأوى, وقبل أن يخرج البريديّ حاملًا رسالة إلى جهة ما، ينبغي أن يزود بخطاب اعتماد، ويكتب له ورقة طريق بالتوجه إلى جهة قصده, ويترك اسمه وتاريخ سفره والجهة التي يتوجه إليها، والشغل الذي توجه بسببه, وذلك بدفتر الديوان, ومن الواضح أن مهمة هؤلاء البريديين كانت جسيمة؛ إذ صار عليهم توصيل التعليمات من السلطان إلى النواب والأمراء، وحمل أخبار هؤلاء إلى السلاطين, وربما كانت هذه التعليمات شفوية، ولذا روعي في البريديّ أن يكون بصيرًا بمخارج الكلام وأجوبته، مؤديًا للألفاظ عن الملك بمعانيها، صدوقًا، بريئًا من الطمع ... ".
أما البريد الجويّ، فقد استخدمه صلاح الدين في إدارة شئون دولته، فضلًا عن حروبه ضد الصليبيين, ونعرف من المصادر المعاصرة أنه حدث أثناء حصار الصليبيين -في الحملة الثالثة- لعكا, سنة 587هـ-1191م, أن دار الاتصال بين صلاح الدين وحامية عكا الإسلامية المحاصرة عن طريق الحمام الزاجل, ولكن الفضل يرجع إلى السلطان الظاهر بيبرس -المؤسس الحقيقي لدولة المماليك في مصر والشام- في تنظيم البريد الجوي، واستخدام الحمام الزاجل على نطاقٍ واسع في الربط بين أنحاء الدولة، واتخاذ قلعة الجبل بالمقطم مركزًا رئيسيًّا لأبراجه, وقد روعي في الرسائل التي يحملها الحمام الزاجل أن تكون من نوعٍ خاصٍّ من الورق الخفيف، وأن تكون مختصرة تحوي ما قَلَّ ودَلَّ، حتى لا تعوق الحمامة عن الطيران السريع, وكانت الرسالة توضع تحت جناح الحمامة أو ذيلها بطريقة خاصة, فإذا كان الرسالة هامة وخطيرة كتبت من نسختين، وأرسلت مع حمامتين، حتى إذا ضلت إحداهما الطريق أو قتلت، أو افترستها الجوارح، أمكن الاعتماد على وصول الرسالة الأخرى.
ومن الواضح أن الحمام الزاجل كان يخصص لنقل الرسائل العاجلة(1/273)
الخطيرة، بحيث إذا وصلت رسالة مع حمامة إلى القلعة، حملت مباشرة إلى السلطان وعرضت عليه, وقد شيدت للحمام الزاجل أبراج على امتداد طرق البريد لتكون بمثابة محطات، ولهذه الأبراج موظفون مدربون، بحيث إذا وصلت حمامة من هذا النوع إلى البرج عنوا بأمرها، وتسلموا منها الرسالة ليبعثوا بها إلى البرج التالي، في حين تستريح الحمامة الأولى قبل أن يسمح لها بالعودة إلى قاعدتها.
أما الديوان الثالث في الجهاز الإداري, فكان ديوان الأحباس -أي الأوقاف- ويقوم صاحبه برعاية شئون المؤسسات الدينية والخيرية -من جوامع ومساجد ومدارس وربط وزوايا وخانقاوات وسبل- وغيرها, كما يشرف على الأراضي والعقارات المحبوسة عليها. وكانت شئون الأحباس في العصر الأيوبي من اختصاص القاضي، ولكن المماليك قسموا هذه الشئون إلى عدة أقسام، منها قسم للأوقاف المحبوسة على الحرمين، وفداء أسرى المسلمين -وتسمى الأوقاف الحكيمة- ويقال لمن يتولاها: ناظر الأوقاف، وهو غالبًا قاضي القضاة الشافعية, ومنها ما اختص بالأوقاف الأهلية، ولكل وقف منها ناظر خاص يوليه السلطان أو القاضي، ويختار غالبًا من أولاد الواقف ونسله, ومنها الأحباس الخاصة بالمساجد والزوايا، وكان ينفق من ريعها على هذه المؤسسات الدينية، ثم يوزع الفائض على شكل صدقات وعطايا على المحتاجين، وأشرف على هذا القسم الدوادار وناظر الخاص. ولم تقتصر الأوقاف في عصر الأيوبيين والمماليك على الحوانيت والخانات والفنادق والأراضي الزراعية الواسعة -مثلما كان الحال في العصور السابقة- وإنما اتسعت الأوقاف في ذلك العصر لتشمل كثيرًا من الأعيان الموقوفة، مثل: معاصر الزيت والقصب والحمامات والطواحين والأفران والمصابن ومصانع النسيج، ومخازن الغلال، ومعامل ترقيد الفروج، وغيرها.(1/274)
أما ديوان النظر، فاختص بمراقبة حسابات الدولة، والإشراف على إيراداتها ومصروفاتها، وما يتبع ذلك من القيام بصرف مرتبات الموظفين. وكان جانب من هذه المرتبات أو الأرزاق يصرف نقدًا، في حين صرف الجانب الآخر عينًا، من غلات ولحوم وتوابل وسكر وشمع، عدا الكسوة, ومن الواضح أن أصنافًا مثل الخبز واللحوم كانت توزع على الموظفين والمستحقين يوميًّا، في حين كان السكر والزيت والشمع ونحوها توزع شهريًّا، أما الكسوة فكانت سنوية, ووصف المقريزي ناظر هذا الديوان بأنه أكبر موظفي الدولة وأهمهم عملًا وأعلاهم قدرًا، إذ صار له أمر ونهي وحال جليلة، لكثرة الحمول الواردة، وخروج الأموال المصروفة في الرواتب لأهل الدولة، وكانت أمرًا عظيمًا ... ". لذلك قام بمساعدته جملة من الموظفين، أهمهم مستوفي الصحبة -وهو بمثابة وكيل الديوان- وشهود بيت المال، وصيرفيّ بيت المال، عدا الكتبة وهم كثيرون.
وتفرع عن ديوان النظر منذ القرن الثامن للهجرة-الرابع عشر للميلاد, ديوان خاص بالسلاطين, ذلك أن السلطان الناصر محمد بن قلاون أنشأ ديوانًا أطلق عليه اسم: "ديوان الخاص"؛ للإشراف على شئون السلطان المالية، ومراقبة الخزانة السلطانية، وعهد للإشراف على هذا الديوان إلى موظف كبير, أطلق عليه "ناظر الخاص"، وهو اللقب الذي حُوِّرَ إلى "ناظر الخاصة" في بعض الدول الملكية في العصور الحديثة.
وهناك دواوين أخرى كثيرة, أسهمت في صورة أو أخرى في تنظيم مسيرة الحكم والإدارة في عصر الأيوبيين والمماليك، وذكرها الكتاب المعاصرون -وخاصة ابن مماتي والقلقشندي والخالدي والعمري والمقريزي- مثل: ديوان الطواحين الذي يشرف صاحبه على طحن الغلال، وديوان الأهراء ويشرف على مخازن الغلال السلطانية، وديوان المرتجعات, وينظر في كل ما يتعلق بتركات الأمراء, ويبدو أن لفظ "ديوان" صار مع مرور الوقت يطلق على(1/275)
الإدارات الصغيرة، مثل ديوان الإصطبلات، وديوان العمائر، وديوان المواريث الحشرية, ويشرف الديوان الأخير على أموال من يموت وليس له وريث, وغير ذلك من الدواوين الأقل أهمية.
ويلاحظ أننا في كلامنا عن أجهزة الحكم والإدارة في عصر الأيوبيين والمماليك, ركزنا عنايتنا بصفة خاصة على مصر، مع أن كل دولة من هاتين الدولتين كانت تضم بلاد الشام إلى جانب مصر, والواقع أن بلاد الشام الكبرى بمعناها الجغرافي، مع كونها جزءًا أساسيًّا من كل من الدولتين الأيوبية والمماليكية، إلّا أن خصائص هذه البلاد الجغرافية، والأوضاع التي عاشتها في ذلك العصر -وخاصة فيما يتعلق بالأخطار الخارجية التي هددتها، وطبيعة كل من دولتي الأيوبيين والمماليك بالذات- هذه العوامل جعلت لبلاد الشام وضعًا إداريًّا خاصًّا داخل الإطار العام للدولة.
ولتفصيل ذلك نعود فنشير إلى ما سبق أن ذكرناه من أن صلاح الدين أقام دولته في مصر والشام على أسس إقطاعية, وقد حَرَصَ صلاح الدين قبل وفاته على أن يقسِّم هذه الدولة بين أبناء بيته، وخاصةً أبناءه وأخوته وأبناء إخوته, وكان من الطبيعي أن يستأثر أبناء صلاح الدين بالأجزاء المختارة من الدولة، فاحتفظ ابنه الأفضل نور الدين عليّ بدمشق والساحل وبيت المقدس، فضلًا عن عدد من القلاع والمدن الصغيرة, وأخذ الابن الثاني لصلاح الدين -وهو الملك العزيز عثمان- مصر، في حين أخذ الابن الثالث- وهو الملك الظاهر غازي- حلب وشمال الشام, أما الملك العادل سيف الدين أبو بكر -أخو صلاح الدين وساعده الأيمن- فقد أخذ الكرك والأردن، فضلًا عن الجزيرة وديار بكر، وكلها إقطاعات ثانوية متفرقة، لا تتناسب مع أهمية العادل في الدولة, وأما بقية أبناء صلاح الدين وإخوته.(1/276)
وأقاربه، فكانت لهم إقطاعات ثانوية صغيرة، مثل الظافر خضر بن صلاح الدين الذي أخذ بصرى وحوران، والأمجد بهرام شاه -ابن شقيق صلاح الدين- الذي أخذ بعلبك، والمجاهد شيركوه الصغير -الثاني- ابن محمد بن شيركوه الكبير, عم صلاح الدين الذي أخذ حمص، والمنصور الأول محمد بن تقي الدين عمر، وقد أخذ حماه ...
ولم تلبث بلاد الشام -بعد وفاة صلاح الدين سنة 589هـ-1193م- أن مرت بفترة عصيبة، اضطربت فيها أحوال البلاد، وتصادمت مصالح أبناء البيت الأيوبي, وكثرت حروبهم، وتغيرت الأوضاع السياسية والجغرافية لممالكهم تغيرًا سريعًا, ويعنينا من الناحية الإدارية أن كل وحدة من الوحدات الكبرى التي انقسمت إليها بلاد الشام أطلق عليها اسم مملكة، وأطلق على صاحبها اسم ملك، فكان يقال في العصر الأيوبي: مملكة حلب، ومملكة حمص، ومملكة حماه ... وكافة هذه المماليك الأيوبية كان من المفروض أن ترتبط بصورة أو أخرى بالسلطان الأيوبي الذي يأتي على رأس الدولة، والذي كان مفروضًا فيه أن يكون خليفة صلاح الدين في زعامتها, وعند وفاة صلاح الدين كانت السلطنة لابنه الأفضل صاحب دمشق، وكان مفروضًا أن تكون له السلطة العليا في بقية أنحاء الدولة الأيوبية, ولكن الملاحظ في العصر الأيوبي أن هذه السيادة العليا على كافة ممالك الدولة وأقاليمها لم تتحقق لأي سلطان، لاعتقاد مختلف الملوك من بني أيوب في أن كلًّا منهم اكتسب حقه في الملك عن طريق الوراثة، وبحكم صلة القربى التي ربطته وربطت آباءه بصلاح الدين، دون أن يكون للسلطان القائم فضل عليه فيما ينعم به من ملك، مما أوقعهم جميعًا في منازعات لم تنته إلّا بنهاية دولة بني أيوب.
وإذا كان ثمة دافع لصلاح الدين جعله يتخذ من بلاد الشام مقرًّا له -وذلك منذ أن غادر مصر للمرة الأخيرة سنة 578هـ-1182م- ليكون(1/277)
على المسرح الرئيسي للجهاد ضد الصليبيين، فإن خلفاءه وقفوا من الخطر الصليبي موقفًا بليدًا تنقصه الحماسة لفكرة الجهاد. وربما كان ملوك بني أيوب بعد صلاح الدين أكثر اهتمامًا بالمنازعات والمنافسات فيما بينهم وبين بعض، منهم بالخطر الصليبي القابع في أكثر من ركن من أركان بلاد الشام, لذا لم يتوافر الحافز لحرص سلاطينهم على اتخاذ دمشق قاعدة لهم، وآثروا الانتقال إلى القاهرة, بوصفها المنطلق الأول للدولة الأيوبية، ومركز الثقل الحقيقيّ لتلك الدولة، وحاضرة الجناح الرئيسي الأوفر قوةً وثراءً وأمنًا, وفي الأدوار التي تَمَّ فيها لسلاطين بني أيوب الجمع بين دمشق والقاهرة في قبضتهم، فإنهم كانوا يتنقلون بين الحاضرتين، حتى انتهى الأمر بالوضع الطبيعي، وهو اتخاذ القاهرة مركزًا رسميًّا للسلطنة. وقد سبق أن أشرنا إلى أن قلعة الجبل التي شرع صلاح الدين في بنائها، والتي استكملت عمارتها في عهد السلطان الكامل الأيوبي، غدت منذئذ المقر الرسمي للحكم.
ثم كان نجاح المماليك في انتزاع الحكم في مصر من سادتهم بني أيوب، بعد ما أظهروه من قوة وثبات في التغلب على الحملة الصليبية السابعة بزعامة لويس التاسع ملك فرنسا سنة 647هـ-1250م. ولم يرض ملوك بني أيوب بالشام عن هذا التطور، فحاولوا غزو مصر واستردادها من المماليك، ولكن محاولاتهم باءت بالفشل, ولم يلبث أن تعرض الشام لغزو التتار، وعندئذ تخاذل ملوك بني أيوب بالشام عن صد هذا الخطر في حين اتيحت الفرصة مرة أخرى للماليك في مصر ليثبتوا قدرتهم على حماية المسلمين وديارهم من خطر التتار الوثنيين, وكان أن خرجت جيوش المماليك من مصر بقيادة المظفر قطز لتنزل هزيمة كبرى بالتتار الوثنيين في موقعة عين جالوت سنة 658هـ-1260م. ولا ترجع أهمية هذه الموقعة إلى ما ترتب عليها من طرد التتار من بلاد الشام فحسب، بل أيضًا إلى زوال نفوذ ملوك بني أيوب عن بلاد الشام, بعد أن اتضح عدم أهليتهم لحكم ما تحت أيديهم(1/278)
من بلاد. أما المماليك فقد جنوا انتصارهم في عين جالوت, ومدوا نفوذهم -بعد موقعة عين جالوت- على بقية بلاد الشام، حتى غدت سلطنتهم تضم مصر والشام, وهكذا دخلت بلاد الشام دورًا جديدًا في تاريخها، يتناسب وأهميتها الجغرافية والسياسية والاقتصادية من ناحية، فضلًا عن أهميتها التاريخية والدينية ووضعها بوصفها اليد اليمنى -الممتدة جهة الشمال- لدول المماليك، من ناحية أخرى, وفي هذا الدور الجديد صارت بلاد الشام تتبع السلطة المركزية في القاهرة تبعية فعلية، ويحكمها أمراء وموظفون يعينهم ويعزلهم السلطان المقيم في قلعة الجبل.
وقد قسَّم المماليك بلاد الشام -من الناحية الإدارية- إلى ستة أقسام, تسمى: نيابات، بمعنى: أن كل قسم منها يحكمه نائب عن السلطان بالقاهرة، وتخضع كلها لحكومة السلطان المركزية بالقاهرة, أما هذه النيابات فهي نيابة دمشق, ونيابة حلب, ونيابة طرابلس, ونيابة حماه, ونيابة صفد, ونيابة الكرك. ويبدو أن هذا التقسيم في حدِّ ذاته كان ضروريًّا وطبيعيًّا؛ لأنه يتفق مع طبيعة بلاد الشام الجغرافية, حتى أن معظم النيابات التي نراها في بلاد الشام على عصر سلاطين المماليك، كانت في حقيقة أمرها أقسامًا إدارية واضحة في العصور السابقة، بل لقد وصل بعضها فعلًا -قبل قيام دولة سلاطين المماليك- إلى درجة الدول المستقلة، مثل دمشق وحلب وطرابلس. على أنه ينبغي من باب الدقة التاريخية أن نشير إلى أثر الحروب الصليبية بالذات في إبراز أهمية بعض أقاليم الشام، مما تطلب جعلها نيابات، مثل نيابة الكرك ذات الموقع الهام على ملتقى الطرق البرية بين مصر والشام والحجاز، مما جعلها تقوم بدور خطير بالنسبة لمواصلات المسلمين على عصر الحروب الصليبية.
وثمة ملحوظة أخرى هي أن تلك النيابات الست لم تنشأ في وقت واحد(1/279)
أو سنة واحدة؛ لأن طبيعة انتشار النفوذ المماليكي على بلاد الشام اتسمت بالتدرج، الأمر الذي جعل التقسيم الإداري لبلاد الشام في عصر سلاطين المماليك يظهر على مراحل, من ذلك أن نيابتي دمشق وحلب ترجع نشأتهما إلى سنة 1260م, عقب موقعة عين جالوت مباشرة. أما حماة، فقد اختار المماليك عقب عين جالوت أن يتركوها في قبضة بني أيوب، فعفا السلطان قطز عن الملك المنصور الثاني الأيوبي صاحب حماة، وأقره على حكمها، وبذلك لم تصبح حماه نيابة في عصر المماليك إلا سنة 1341، بعد وفاة المؤيد علي، آخر ملوكها من بني أيوب, وأما نيابة الكرك, فيبدأ تاريخها في عصر المماليك سنة 1263 على عهد السلطان الظاهر بيبرس، ومثلها نيابة صفد, التي ترجع إلى سنة 1266. هذا في حين ترجع نشأة نيابة طرابلس إلى عهد السلطان المنصور قلاون الذي استولى على هذه المدينة من الصليبيين سنة 1289.
وكان لكلِّ واحدة من هذه النيابات الشامية وضع خاصٌّ من الناحية الإدارية، فضلًا عن تباينها في مساحة الأرض التي تتبع كلًّا منها، وفي عدد المدن والمواني والقلاع الهامة التي تدخل في دائرتها الإدارية؛ لذلك روعي أن تقسم كل نيابة منها إلى أقسام إدارية صغيرة، هي التي أطلق عليها القلقشندي اسم: "النيابات الصغار". ولكي تتضح صورة كل نيابة من هذه النيابات من ناحية نظم الحكم والإدارة، يحسن أن نشير إلى كل منها على حدة إشارة موجزة:
أولًا: نيابة دمشق، هي كبرى نيابات الشام في عصر سلاطين المماليك، حتى أطلق عليها القلقشندي اسم: "نيابة الشام" أو "مملكة الشام"، ووصفها بأنها "أجل نيابات المملكة الشامية وأرفعها في الرتبة" وقاعدة هذه النيابة مدينة دمشق التي اختصها سلاطين المماليك بعنايتهم, وأقاموا فيهاكثيرًا من المنشآت.(1/280)
وكان يتولى أمر مدينة دمشق والٍ ينظر في شئون المدينة, ويتحدث في أمر الشرطة، في حين تولى أمر ضواحي دمشق -وهو الإقليم الذي عرف باسم البر- والٍ آخر, وتبع نيابة دمشق عدة نيابات صغرى وولايات, أما النيابات الصغرى، فأهمها: غزة والقدس وصرخد وعجلون وبعلبك وحمص والرحبة، مع ملاحظة أن غزة صارت أحيانًا نيابة قائمة بنفسها في القرن الثامن للهجرة-الرابع عشر للميلاد. أما ولايات نيابة دمشق فعديدة، أهمها: الرملة وبيسان والبقاع وبيروت وصيدا وقارا وغيرها.
ثانيًا: نيابة حلب، وكانت تتمتع هي الأخرى بأهمية خاصة في عصر سلاطين المماليك، نظرًا لخطورة موقعها على الأطراف الشمالية للدولة، مما جعلها محورًا لكثير من الحوادث التي صحبت العلاقات المضطربة بين المماليك من ناحية, وجيرانهم؛ مثل: التتار والتركمان والعثمانيين من ناحية أخرى؛ لذلك احتوت نيابة حلب عددًا كبيرًا من النيابات الصغرى، ليس له مثيل في بقية نيابات الشام. ومن هذه النيابات الصغرى التابعة لنيابة حلب، نيابة قلعة الروم -أو قلعة المسلمين- غربي الفرات في مواجهة البيرة، ونيابات الكختا وكركر وبهسنى وسميساط وعينتاب ودربساك والراوندان وبغراس والقصير والشغر وبكاس. هذا فضلًا عن عدد آخر من النيابات الصغرى كانت تقع خارج حدود الشام، ولكنها تبعت نيابة حلب بحكم ملكية دولة المماليك لها. ومعظم هذه النيابات الصغرى الأخيرة كانت داخلة في بلاد الأرمن، مثل ملطية ودبركي ودرنده، والأبلسنتين وإياس وطرسوس وأذنة، وغيرها.
أما ولايات النيابة الحلبية فأهمها بر حلب، وكفر كاب، وعزز، وتل باشر، ومنبج، وتيزين والباب وبزاعا وأنطاكية.
ثالثًا: نيابة طرابلس, وكانت تشمل من النيابات الصغرى نيابة حصن(1/281)
الأكراد ونيابة حصن عكار، ونيابة بلاطنس، ونيابة صهيون، ونيابة اللاذقية، هذا فضلًا عن ست نيابات صغرى أسماها القلقشندي: "نيابات قلاع الدعوة"، أي: أنها كانت مراكز جماعة الإسماعيلية الباطنية، وهي نيابة الرصافة، ونيابة الخوابي، ونيابة القدموس، ونيابة الكهف، ونيابة المنيقة، ونيابة القلعة.
أما الولايات التابعة لنيابة طرابلس فعددها ست، هي: أنطرطوس، وجبة المنيطرة، والظنين، وبشرية، وجبلة، وأنفة.
رابعًا: نيابة حماة، ومركز هذه النيابة مدينة حماة، ولا يتبعها نيابات صغرى، وإنما تتبعها ثلاث ولايات هي: ولاية بَرّ حماة، وولاية بارين، وولاية المعرة.
خامسًا: نيابة صفد، وهي المدينة الحصينة التي ترتفع عن سطح البحر نحوًا من ألف وستمائة قدم، والتي جدد بيبرس قلعتها بعد أن استولى عليها من الصليبيين, وليس لهذه النيابة نيابات صغرى -مثل غيرها من نيابات الشام السابق ذكرها- وإنما تتبعها إحدى عشرة ولاية، هي ولاية بر صفد، وولاية الناصرة، وولاية طبرية، وولاية تبنين وهونين، وولاية عثليت، وولاية عكا، وولاية صور، وولاية الشاغور، وولاية الإقليم، وولاية الشقيف، وولاية جينين.
سادسًا: نيابة الكرك، وليس لها هي الأخرى نيابات صغرى، وإنما تتبعها أربع ولايات، هي ولاية بَرِّ الكرك، وولاية الشبوك، وولاية زغر، وولاية معان.
هذه هي نيابت الشام، أو أقسامه الإدارية الكبرى.
أما عن نظم الحكم والإدارة فيها، فأول ما يلاحظ عليها هو أن كلًّا(1/282)
منها كانت صورة مصغرة لسلطنة المماليك الكبرى في مصر، حتى لقد أطلق القلقشندي على تلك النيابات اسم: "الممالك الشامية"، وقال: "إن كل مملكة منها قد صارت نيابة سلطنة مضاهية للملكة المستقلة".
ولتفصيل ذلك نقول: إن كل نائب من حكام النيابات الشامية كان في حقيقة أمره سلطانًا مختصرًا, مع تبعيته لسلطان مصر، فكان لكل نائب حاشيته ومماليكه وأتباعه، وأطلق عليه أحيانًا اسم: "ملك الأمراء" لقيامه مقام السلطان في التصرف، وقيام الأمراء على خدمته، مثلما يخدم السلطان.
وكان لكل نائب من نواب الشام بيوت خدمة، مثل بيوت خدمة السلطان، كالشراب خاناه، والفراش خاناه، والزرد خاناه، والطبلخاناه.. وغيرها، واحتوت بيوت نواب الشام على وظائف مثل: وظائف البيوت السلطانية الشريفة، كوظيفة رأس نوبة، وأمير مجلس، وأمير أخور، وأمير جاندار ... وغير ذلك. كذلك كان لكل نيابة من النيابات الشامية وزير يتمتع بما تمتع به الوزير في مصر, هذا وإنه لم يسمح للوزير في نيابات الشام بلقب وزير، إلّا إذا كانت قد سبقت له ولاية الوزارة في مصر، أما إذا لم يكن قد سبق له تولى منصب الوزارة في مصر، فإنه كان يلقب: "ناظر النظار".
كذلك كان في كل نيابة من نيابات الشام أربعة قضاة يمثلون المذاهب الأربعة، مثلما كان الحال تمامًا في مصر منذ أيام السلطان الظاهر بيبرس, هذا فضلًا عن الوظائف الأخرى المتعددة التي وجدت في كل نيابة من نيابات الشام، والتي كان بعضها يتعلق بأرباب السيوف، والبعض الآخر يتعلق بأرباب القلم، والقسم الثالث يشمل الوظائف الدينية.
أما الدواوين التي وجدت في كل نيابة من نيابات الشام، فكان أهمها ديوان الإنشاء, وديوان النظر, وديوان الجيش, وقد اختص ديوان الإنشاء(1/283)
بكافة المراسلات التي ترد إلى النائب أو تصدر عنه, ولُقِّبَ متولي ديوان دمشق بصاحب ديوان الإنشاء بالشام، أما متولي ديوان حلب, فلُقِّبَ بصاحب ديوان المكاتبات في حلب, هذا في حين أطلق على متولي الديوان في غزة والكرك وغيرها من النيابات الصغار اسم كاتب الدرج، ولم يطلق عليه اسم كاتب السر، وهو اللقب الذي تميز به أصحاب ديوان الإنشاء في القاهرة وفي النيابات الكبرى.
ويبدو أن كاتب السر في النيابات الشامية كان يقوم أيضًا بمهمة التجسس على النائب لحساب السلطان، ويطلع الأخير على ما قد يخفيه النائب عنه, وأما ديوان النظر فكان يمثل الإدارة المالية في النيابة، بحيث له الإشراف التام على الإيرادات والمصروفات, وكذلك ديوان الجيش كان يشرف على جيش النيابة وتوزيع الإقطاعات، وترتيب الجوامك الخاصة بالمماليك.
وإذا كان هذا هو الوضع بالنسبة لكافة النيابات الشامية في عصر سلاطين المماليك، فإننا نؤكد مرة أخرى أن نائب دمشق بالذات تمتع بأهمية خاصة، فاقت ما كان لبقية النواب في بلاد الشام، حتى لقد قال القلقشندي عن نائب دمشق إنه: "قائم بدمشق مقام السلطان في أكثر الأمور المتعلقة بنيابته، ويكتب عنه التواقيع الكريمة، ويكتب عنه المربعات بتعيين إقطاعات الجند, وتجهز إلى الأبواب الشريفة، فيشملها الخط السلطاني الشريف ... ".
ومن الواضح أن هذه المكانة الضخمة التي تمتع بها نائب دمشق في عصر المماليك، كان من الممكن أن تصبح مصدر خطر على السلطان نفسه، مثلما حدث فعلًا في بعض الحالات؛ لذلك حرص سلاطين المماليك على فرض رقابة خفية على نوابهم بالشام عامة، وبدمشق خاصة، فكان السلطان يحرض أحيانًا على التدخل في شئونهم لإشعارهم بوجوده فوق رءوسهم, هذا إلى أن السلطان لم يكتف بأن يكون صاحب ديوان الإنشاء عينًا له على(1/284)
النائب، وإنما كان السلاطين يحرصون على أن يجعلوا من نائب القلعة -أي: قلعة مركز النيابة- عينًا لهم على النائب، بحيث يقاومه إذا حدثته نفسه بالخروج على السلطان، ولهذا السبب كان لنائب القلعة أجناد يقيمون معه، ولا يتصلون بدار النيابة في المدينة.
والواقع أنه على الرغم مما تمتع به نواب النيابات الشامية من حكمةٍ وافرةٍ ونفوذ كبير، إلّا أنهم كانوا قبل كل شيء تابعين لسلطة المماليك في القاهرة، وبالتالي, فإنهم لم يكونوا مطلقي التصرف في كثير من النواحي. من ذلك أن سلطان المماليك احتفظ بحقه في شغل الوظائف الكبرى بالنيابات الشامية، فكان النواب يملأون وظائف أرباب السيوف الصغرى في نياباتهم، في حين كان التعيين في الوظائف الكبرى من حق السلطان, أما وظائف أرباب القلم، فكان النواب لا يعينون إلّا صغار الموظفين، مثل كتاب الدرج، في حين دأب السلاطين على تعيين كبار الموظفين في النيابات، مثل الوزير وكاتب السر وناظر الجيش وناظر المال وغيرهم, كذلك في الوظائف الدينية كان من حق السلطان وحده أن يعين كبار الموظفين, مثل قضاة القضاة، في حين ترك للنواب تعيين صغار الموظفين، كالذين يقومون بالخطابة في الجوامع الصغيرة.
وهكذا ظل سلطان المماليك يمثل القوة الكبرى التي تسيطر على مصر والشام، وتشرف إشرافًا دقيقًا تامًّا على أجهزة الحكم والإدارة في مختلف أرجاء الدولة المماليكية الواسعة, وهذا يخالف ما كان عليه الوضع في عصر الأيوبيين، عندماكان ملوك المماليك الشامية من بني أيوب مستقلين في شئونهم الداخلية -بل في سياستهم الخارجية- عن السلطان الأيوبي؛ بحيث لم تكن هناك وحدة تنتظم أجزاء الدولة الأيوبية الواسعة التي خلفها صلاح الدين، اللهم سوى أن حكام هذه الدولة انتموا أساسًا إلى بيت واحد، وتمسحوا جميعًا بفكرة كونهم من بني أيوب.(1/285)
وبعد، فإن أجهزة الحكم والإدارة في عصر الأيوبيين والمماليك لم تخل من مساوئ وعيوب، بل أمراض تفشت في جوانبها, ولعل أخطر هذه الأمراض كانت الرشوة والاختلاسات، وهي ظاهرة مبكرة بدت أعراضها على عهد صلاح الدين نفسه؛ من ذلك ما رواه أبو شامة وابن واصل من أن صلاح الدين أجرى تحقيقًا سنة 572هـ-1176م, مع متولي أحد الدواوين بعد أن اكتشف عجزًا لديه بلغ سبعين ألف دينار, كذلك حدث سنة 613هـ-1216م, أن أدين الوزير الصاحب الأعز، وقرر السلطان العادل الأيوبي نفيه إلى قلعة بصرى، بعد أن ثبت عليه ارتكاب عدة مخالفات مالية, وفي عهد السلطان الكامل الأيوبي صدر الأمر بالقبض على الظهير الطمبزاوي حاكم إقليم الوجه البحري والقاهرة -ومرؤسيه- بتهمة أنهم باعوا أحد عشر ألف إردب قمح وفول من متحصلات الوقف الجيوشي، وقبضوا الثمن لأنفسهم, أما النابلسي صاحب كتاب "تاريخ الفيوم" الذي ألف في أواخر العصر الأيوبي، فيحكي أن بعض الأهالي القريبين من حراج السنط, كانوا يقومون بقطع أخشابها ويهربونها إلى ساحل مصر، حيث يبيعونها لحسابهم الخاص، بعد دفع رشوة للمسئولين.
ويبدو أن ظاهرة الرشوة ازدادات تفشيًا في أجهزة الحكم والإدارة في عصر سلاطين المماليك, عندما بلغت درجة من الخطورة تمثلت في شراء وبيع وظائف الدولة, وقد ذكر المؤرخ المقريزي في القرن التاسع الهجري- الخامس عشر للميلاد, أن أصل الفساد في عصره هو تحكم الرشوة في ولاية الخطط السلطانية, والمناصب الدينية، كالوزارة والقضاء وولاية الأقاليم، وولاية الحسبة، وسائر الأعمال؛ بحيث لا يمكن التوصل إلى شيء منها إلّا بالمال الجزيل. وفي مصادر العصر المماليكي أمثلة عديدة لقضاة ومدرسين بلغوا مناصبهم عن طريق الرشوة، فإذا استقروا في تلك المناصب استمروا في رشوة أهل الدولة بالأوقاف، وتأجيرها لهم بأبخس الأثمان حتى يضمنوا(1/286)
بقاءهم في مناصبهم، وقد حدث سنة 809هـ أن تولى منصب الحسبة في مصر أربعة في شهر واحد؛ لأنهم فرضوا على المنصب مالًا مقررًا، فكان من قام في نفسه أن يليه يزيد المبلغ ويخلع عليه، ثم يقوم آخر فيصرف الذي قبله. وتغاضي بعض أصحاب الحسبة عن الباعة الذين يغشون الناس ويغبنونهم، وذلك نظير ضرائب مقررة، يجمعها المحتسب، لكي يؤدي منها ما استدانه من المال الذي دفعه رشوة عند ولايته، ويؤخر البقية لمهاداة أتباع السلطان ليكونوا أعوانًا له على بقائه ... ".
وكان أن أدرك عامة الناس هذا الطريق لقضاء حوائجهم، فإذا سمعوا أن شخصًا له مكانة ووجاهة عند السلطان, أسرعوا إليه يقدمون الرشاوي ويساومونه على قضاء مطالبهم, بل لقد وصف المؤرخ المعاصر ابن تغري بردي، زوجة السلطان إينال بأنها: "صار لها نصيب وافر مع السلطان في كل هدية ورشوة"!!. وهكذا ولي الوظائف غير أهلها؛ فصارت الوظائف مثل الأموال المملوكة، يبيعها صاحبها إذا شاء، ويرثها بعده صغار ولده، وسرى ذلك حتى في التداريس الجليلة، وفي نظر الجوامع والمدارس ومشيخة التصوف, فيا نفس جدي إن دهرك هازل....!! ". ولعل هذه العبارة التي ذكرها المؤرخ المقريزي في القرن التاسع الهجري-الخامس عشر للميلاد, تصور لنا مدى إحساسه بذلك الخطر الذي هدد جهاز الحكم والإدارة في أواخر عصر سلاطين المماليك.
على أن هذا كله لا ينبغي أن يصرفنا عن الاعتراف بأن المسئولين في العصر الأيوبي والمماليكي أجهدوا أنفسهم في وضع إطار محكم لنظام سياسي وإداري متكامل، يتفق والأوضاع والظروف التي أحاطت بذلك العصر، فضلًا عن طبيعة العصر نفسه، وإذا وجدت بهذا النظام ثغرات، فليس معنى هذا قصور النظم السائدة عن مسايرة متطلبات العصر، ومواكبة متغيرات الزمن, وما زالت أجهزة الحكم والإدارة في كل زمان ومكان تشكو(1/287)
من عيوب وأمراض تصعب ملاحقتها واستئصالها والقضاء عليها.
وحسب نظم الحكم والإدارة في العصر الأيوبي والمماليكي أنها نجحت في مواجهة متطلبات الدولة, وتوجيه كافة مرافقها في فترة من أشد فترات تاريخ مصر والشام حساسية، نظرًا لما تعرضت له البلاد والعباد من أخطار خارجية، وتطورات داخلية.(1/288)
مصادر ومراجع:
1- ابن مماتي: قوانين الدواوين.
2- القلقشندي: كتاب صبح الأعشى.
3- الخالدي: كتاب المقصد الرفيع.
4- العمري: التعريف بالمصطلح الشريف.
5- المقريزي: أ- المواعظ والاعتبار.
ب- كتاب السلوك.
6- العريني: مصر في عصر الأيوبيين.
7- حسنين محمد ربيع: النظم المالية في مصر زمن الأيوبيين.
8- سعيد عبد الفتاح عاشور:
أ- الأيوبيون والمماليك في مصر والشام.
ب- العصر المماليكي في مصر والشام.
جـ- المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك.
د- مصر في العصور الوسطى.(1/289)
المرأة في الحضارة العربية:
الرأي السائد في كتب التاريخ هو أن المرأة لم تحظ بمكانة لائقة في مجتمع شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، وأن كل ماحظيت به المرأة عندئذ هو قدر من الإعجاب بوصفها أداة للمتعة، فتفنن شعراء الغزل في ذكر محاسنها؛ من جمال القوام والعينين والشعر والأنف والفم ... وغيرها، وفيما عدا ذلك, فإن المرأة ظلت مهضومة الحقوق، واتسمت معاملتها بنوعٍ من التحقير والإقلال من شأنها. ويدلل أصحاب هذا الاتجاه على رأيهم بأنه من الكنى التي أطلقت على المرأة قبل الإسلام: العتبة والنعل والنعجة، وبأن المرأة في الحياة الزوجية كانت تمثل الشريك المغبون المغلوب على أمره، فالزواج كان بلا حدود، وكثيرًا ما كان الهدف من ورائه مجرد قضاء الشهوة، وليس إنشاء كيان أسري عائلي، والطلاق كان بلا ضوابط, وربما كان الدافع إليه مجرد الرغبة في المكايدة وابتزاز أموال الزوجات, أو حرمانهن من حقوقهن.
هذا إلى أن العرب قبل الإسلام لم يرحبوا بمولد البنت، الأمر الذي عبَّر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} ... بل لقد لجأ بعضهم إلى وأد البنات فرارًا من مسئوليتهن، وخشية العار والإملاق {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ} واشتهرت بهذه العادة الذميمة قبائل ربيعة وكندة وتميم. وفي جميع(1/293)
الحالات لم يكن للمرأة حق ثابت في الإرث أو في الكسب، أو حتى في حرية التصرف فيما لها من مال، سواء كانت بنتًا أو زوجةً أو أختًا, وأسوأ من هذا, أن المرأة كانت تورث، فإذا مات الرجل, فإن ولده يرث نساءه ضمن ما يرثه من متاعه، ويتمتع بهن مثلما كان يفعل أبوه.
ولا شك في أن وضع المرأة العربية في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام تأثر ببعض مؤثرات إسرائيلية ونصرانية. فالمرأة في شريعة إسرائيل ملك لأبيها ثم لزوجها -ملكية تامة- بمعنى: أنها تباع وتورث وتؤجر لموعد, وهو ما عرف باسم زواج المتعة، بل كان للأب أن يبيع ابنته القاصر بيع الرقيق, وأن يتخلص منها بالقتل إذا شاء. وقد وصفت المرأة في التوراة بأنها أمر من الموت, أما المؤثرات النصرانية فيما يتعلق بوضع المرأة؛ فكانت متناقضة؛ لأنه في حين كرمت المسيحية المرأة بوصفها تتمثل في شخصية مريم العذراء، إذ بها من ناحية أخرى تعتبرها السبب في خطيئة آدم, وأنها دون الرجل في المكانة -لأن الرجل مخلوق على صورة، وأما المرأة فإنها مخلوقة من جنب الرجل- ... مثلما جاء في الإنجيل.
والغالب أن مركز المرأة العربية قبل الإسلام لم ينحدر إلى المستوى المتدني الذي كان عليه عند اليهود، وفي الوقت نفسه لم يرتفع إلى المستوى المثالي الذي كفل لها حقوقها ووضعها على قدم المساواة بالرجل، وإنما كان على درجة من الرقي النسبي, ليس لها نظير في كثير من المجتمعات القديمة. وفي ذلك يقول المستشرق تيكلسون في كتابه "تاريخ العرب الأدبي": "كانت مكانة المرأة في الحياة الاجتماعية قبل الإسلام على مستوى كبير من العُلُوِّ والرفعة، فقد تمتعت بالحرية في اختيار زوجها، وبحق العودة إلى أهلها إذا أساء الزوج معاملتها، وربما كانت العصمة بيدها، بمعنى: أن حق الطلاق كان لها، وبالجملة فقد كانت ندًّا أو شريكًا للرجل أكثر منها مملوكة له أو أسيرة لإرادته" ...(1/294)
ويبدو أن بيئة شبه الجزيرة الصحراوية، أسهمت في تشكيل شخصية المرأة العربية، فعرفت بالأنفة والكرامة والحزم وعلو النفس. هذا إلى أن بيئة البادية أَمْلَتْ على أهلها قدرًا من الانطلاق والانفتاح ساعد على تحطيم القيود التي تحد من حرية حركة المرأة؛ من ذلك أن الاختلاط قبل الإسلام -بين الرجال والنساء- كان شائعًا، والحجاب بين الطرفين كان غير سائد، وكثيرًا ما كان يجتمع الطرفان في السلم والحرب، وفي المناقشة والمسامرة، كما كانت تستشار المرأة أحيانًا في مهامٍّ الأمور. كل ذلك مع التمسك بقدر من قواعد الشرف والعفة ورعاية العرض، مما يتفق وطبيعة أهل البادية, أما عن ظاهرة وأد البنات عند العرب قبل الإسلام، فلا يصح أن نبالغ فيها لنجعل منها ظاهرة عامة, ذكر الميداني عن الهيثم بن عدي أن الوأد في قبائل العرب عامة كان يستعمله واحد ويتركه, خشية الإملاق ونتيجة للعوز والفقر، لا ينبغي أن يفسر على أنه مظهر لاحتقار المرأة وانحطاط مكانتها في المجتمع, ونعرف في التاريخ عن كثير من المجتمعات -مثل بلاد اليونان وغيرها- أنهم كانوا يتخلصون من أطفالهم تحسبًا من الفقر.
والغالب أن حقوق المرأة كانت تتعرض للنكران والامتهان إذا كانت فقيرة، رقيقة الحال، ضعيفة العصبية, أما إذا كانت ذات حسب ونسب وعصبية، فإنها كانت تجد في عشيرتها وقبيلتها درعًا يوفر لها قدرًا من الحماية، ويضمن لها رعاية الزوج واحترامه, ومن ناحية أخرى، فإن المرأة قبل الإسلام في الحضر كانت فيما يبدو أسعد حالًا من أختها في البادية؛ لأن طبيعة الحضر ومستوى المعيشة فيه، جعل للمرأة حظًّا أوفر من الحرية الشخصية والحرية العامة، والقدرة على المشاركة في نشاط متعددة الألوان, وفي الوقت نفسه، فإن هذه الحرية تفاوتت من مجتمع إلى آخر في الحضر، يدل على ذلك ما روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: كنا معشر قريش(1/295)
نغلب النساء، فلما قدمنا على الأمصار، إذا قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأمصار، فصخبت عليَّ امرأتي، فراجعتني، فأنكرت أن تراجعني, فقالت: ولم تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبي ليراجعنه ... هذا إلى أن المرأة في الحضر تمتعت بنصيب أوفر من الترف، فعرفت من أنواع الملبس وأساليب الزينة ما لم تعرفه المرأة البدوية، وإن كانت طبيعة المرأة في جميع الحالات -في البادية والحضر سواء- أملت عليها قدرًا من الرغبة في التزين وإظهار محاسنها، فكانت تعنى بشعرها، وتتفنن في تسريحه وتمشيطه بالعطر والطيب والدهن، كما عنيت باستخدام الوشم وتخضيب الكفين والقدمين, وتجميل الحواجب وإزالة الشعر من الوجه، واستعمال الحليّ كالقلائد والخلخال والسوارين ونحوها، وذلك بقدر ما تسمح به حالتها وظروفها المادية والاجتماعية, بل لقد وجدت في المجتمع العربي قبل الإسلام من احترفن تجميل النساء وتزيينهن. يقال: إن إحداهن وفدت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقالت له: يا رسول الله، إني امرأة مقينة، أقين النساء وأزينهن لأزواجهن، فهل هو حوب فأثبط عنه؟ فقال: يا أم رعلة, قينهن وزينتهن إذا كسدن. ويقال: إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما اشترى صفية من دهية الكلبي، دفعها إلى أم سليم حتى تهيئها، فمشطتها وعطرتها ونمصتها.
وهكذا, فإن الصورة القاتمة التي حرص البعض على وضعها للمرأة العربية قبل الإسلام ليست حقيقية أو سليمة، تتنافى مع ما نلمسه إذا تعمقنا قليلًا في دراسة المجتمع العربي عندئذ، لنجد أن كثيرًا من العرب أحبوا بناتهن، وتكنوا بأسمائهن، واستمعوا لمشورتهن، وأنه إذا كانت المرأة العربية قد حرمت قبل الإسلام من قدر محدد ثابت في الإرث, فليس معنى ذلك أنها حرمت منه دوامًا كقاعدة عامة، أو أنه لم يكن من حقها أن تملك المال وتتصرف فيه. وبمقارنة وضع المرأة العربية قبل الإسلام بالوضع الذي عاشت فيه أختها في ظل أرقى الحضارات القديمة -كالحضارة اليونانية أو(1/296)
الحضارة الرومانية, وغيرهما من الحضارات المعاصرة- لوجدنا أن المرأة العربية عاشت في حال أفضل بكثير. ولم يخل مسرح شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام من نساء عربيات خلَّدْنَ أسماءهن في ميادين الأدب والسياسة والحكم والحرب والتجارة, وغيرها من ألوان النشاط، واستطعن أن يفرضن احترامهن على معاصريهن. بل من الظواهر التي نلمسها في المجتمع العربي قبل الإسلام, أن بعض النساء صرن مضرب الأمثال في الخير والشر سواء، فمن الأمثال السائرة عندهم قولهم: "عطر منشم"، ومنشم هذه امرأة تبيع الطيب، كانوا إذا اتجهوا إلى الحرب غمسوا أيديهم في طيبها متعاهدين عليه في الثبات في الحرب، فصاروا إذا استحكم بينهم العداء وتأزمت الحرب قيل: "دقوا بينهن عطر منشم". وفي التشاؤم ضرب المثل بالبسوس، وهي المرأة التي تسببت في حرب دامية بين بكر وتغلب امتدت أربعين عامًا، وهلك فيها كثيرون، حتى قيل: شؤم البسوس.
ويبدو أن المرأة العربية في بادية الشام أصابت حظًّا من الاعتبار في المجمتع قبل الإسلام لم تحظ به أختها داخل شبه الجزيرة، وربما ساعد على ذلك التأثير الحضاري في القبائل العربية التي عاشت على تخوم الدولة الرومانية الشرقية, ومن المعروف أن المرأة الرومانية التي عاشت في وضع غير كريم طوال القرون الأولى منذ نشأة ونمو الدولة الرومانية، أخذت تتبوأ مكانًا بارزًا في المجتمع في أواخر عصر الإمبراطورية، وخاصة في الشطر الشرقي الذي عرف باسم دولة الروم أو الدولة البيزنطية، الأمر الذي تشدد عليه مجموعة قوانين الإمبراطور جستنيان 527-565م, وقادته وفقهاء ومشرعو ذلك العصر.
وممن اشتهرن في الحكم من نساء العرب في بادية الشام قبل الإسلام الزباء -أو زنوبيا- ملكة تدمر, والمعروف أن سادة تدمر عرب من بقايا العمالقة, نزحوا من الصحراء وغلبوا السكان الأصليين، واتخذوا(1/297)
الأرامية لغة رسمية لهم، وإن كانوا قد أدخلوا فيها بعض عناصر عربية, واشتهر من حكام تدمر أذينة وزوجته زنوبيا، في القرن الثالث للميلاد، وقد حظيا بتكريم الإمبراطورية الرومانية لموقفهما المساند ضد الفرس. وعندما تولت زنوبيا مكلة تدمر عقب وفاة زوجها سنة 267م، استأنفت سياسة زوجها في التوسع, معتمدة على رجالها من العنصر العربي، فلم تكتف بالسيطرة على الشام، وإنما بسطت نفوذها على مصر والعراق وشطر من آسيا الصغرى، الأمر الذي أوقعها في صراع مع الإمبراطورية الرومانية، حتى تمكن الإمبراطور أورليان من الاستيلاء على تدمر سنة 272م, وكسر شوكة زنوبيا. وقد أجمعت الروايات والمصادر على عظمة زنوبيا -أو الزباء- وقوة شخصيتها وشجاعتها وقدرتها في السيطرة على الرجال, هذا فضلًا عن بعد نظرها وصدق حاستها وسداد رأيها واتساع أفقها ومهارتها في شئون السياسة والحرب جميعًا.
وليس معنى ذلك أننا نعدم داخل شبه الجزيرة أمثلة لنساء تولين الملك, وباشرن الحكم قبل الإسلام, فها هي بلقيس ملكة اليمن التي وصفت في القرآن الكريم بأنها: {أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النحل] ونستدل من القصص الدين -وغير الديني- المحيط بها, أنها كانت على درجة عظيمة من الهمة وعلو الكلمة واتساع النفوذ. ومع ذلك, فقد أقامت حكمها على أساس الشورى, والرجوع إلى شبعها قبل اتخاذ أي قرار خطير {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} . هذا إلى أنها تمتعت بقدر من قوة الشخصية. جعل لها تأثيرًا قويًّا على رعاياها، فأخلصوا في الطاعة والولاء لها، وأولوها ثقتهم، في الوقت الذي اعتدوا بقوتهم وبأسهم: {قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} . ومع ذلك فقد كانت تجيد فن السياسة, وتجنح إلى حل المشاكل بالطرق الديبلوماسية دون الالتجاء إلى القوة، فآثرت أن ترسل هدية إلى(1/298)
سليمان لتسترضيه وتأمن خطره، وترى ماذ يكون من أمره {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} .
وإذا كانت بلقيس هذه قد حكمت في القرن التاسع قبل الميلاد، فإن هذه القضية نفسها في جنوب شبه الجزيرة العربية شهدت حكم ملكات أُخَر بعد ذلك, وحتى ظهور الإسلام، مثل: الفارعة, في القرن الرابع للميلاد، ولميس بنت أسعد اتّبع، وغيرهما ممن تتردد أسماؤهن في الطقوس والروايات أو في الشعر العربي.
أما في مجال الأدب, فقد اشتهرت من نساء العرب خطيبات مفوهات، منهن: الزرقاء هند بنت الخس، وجمعة بنت حابس, ومع قلة المرويّ من شعرهن, فقد نبغت بين نساء العرب قبل الإسلام عدة شواعر خَلَّدْنَ أسماءهن بين فطاحل الشعراء، نذكر منهن: ليلى العفيفة, المتوفاة سنة 483م، وجليلة بنت مرة, المتوفاة سنة 538م، وخانق بنت بدر, المتوفاة سنة 570م, وكانت بعض النساء الشواعر يرتدن سوق عكاظ, يدخلن المباريات الشعرية لمنافسة الرجال من الشعراء, وقد نظمت شواعر العرب في مختلف الأغراض؛ مثل: الفخر والمديح، واستثارة الحماسة للثأر, على أن أبرز هذه الأغراض جميعًا كان الرثاء، وقد نبغت فيه أوسعهن صيتًا وأقواهن شعرًا، وهي: الخنساء, المتوفاة سنة 646م, وقد أدركت الإسلام وهي عجوز, فشهدت حرب القادسية, وحثت أولادها الأربعة على الثبات حتى استشهدوا جميعًا, وللخنساء شعر غني قبل الإسلام في رثاء أخيها صخر الذي قتل في يوم الكلاب من أيام العرب, كذلك يقال: إنها تبارت مع حسان بن ثابت ودخلت معه في منافسة شعرية، كان النابغة الذبياني حكمًا فيها, وعندما أنشدت شعرها النابغة في عكاظ أعجب بها، وقال: "لولا أن هذا الأعمى -يقصد الأعشى- أنشدني قبلك، لفضلتك على شعراء هذا الموسم".(1/299)
وفي الحزم والكبرياء اشتهرت النيميات من نساء قريش, حتى إنهن وصفن بالقسوة على رجالهن. ويروى عن سلمة بنت عمرو - ... بن عدي النجار- أنها كانت لا تتزوج الرجال إلّا وأمرها بيدها، فإذا لم يعجبها شيء فيه بعد ذلك تركته.
واشتغلت المرأة العربية قبل الإسلام ببعض الأعمال العامة والحرف النافعة ذات الصبغة العلمية؛ مثل الطب. والأخبار كثيرة عن خروج نساء العرب بصحبة الرجال إلى ساحة الحرب لمداواة المرضى وتضميد جراح الجرحى, هذا فضلًا عما يتردد من أسماء طبيبات نبغن قبل الإسلام في ممارسة مهنة الطب، منهن زينب طبيبة بني عواد، وكانت تعالج الأبدان والعيوان والجراح، ورفيدة الأنصارية التي أدركت الإسلام وأسلمت، وصارت تداوي جرحى المسلمين في مسجد الرسول بيثرب, هذا فضلًا عن القابلات، وهن كثيرات.
كذلك مارست المرأة العربية قبل الإسلام هوايتها التقليدية في ممارسة الغزل والنسيج، فكان لكل امرأة -في الغالب- مغزل تغزل به الصوف والأقمشة، وبعضهن كن ينسجن الحصر ويزخرفنها.
ومن النساء من احترفن الكهانة والعرافة والأخبار بالغيب، مثل عفيراء الحميرية، وزبراء، وطريفة الكاهنة التي ينسبون إليها التنبؤ بسيل العرم. والمعروف أن الكهان -رجالًا ونساءً- كانوا يتمتعون بمكانة خاصة في المجتمع العربي؛ لأن القوم كانوا يحتكمون إليهم ويأخذون برأيهم, وإذا كان العرب قد اعتقدوا بالكواهن من النساء مثلما اعتقدوا بالكهان من الرجال، فإن بعضهم كان أكثر ثقة في النساء أنهن في الكهانة أعمق, وأن أخبارهن أصدق.
أما ممارسة رعي الإبل والأغنام، فقد أكسبت المرأة العربية خبرة ودراية(1/300)
بالمرعى وأنواعها وقيمها، وأثرها في السائمة ولبنها.
وإذا كانت بعض النساء قد احترفن الغناء في المجتمع العربي قبل الإسلام، فإن غالبية هؤلاء كن من الإماء والقيان، غير عربيات الأصل, ومن الأسماء التي ترددت في هذا الباب: بنت عفزر، وحمامة، وأرنب.
على أن دور المرأة العربية في الحياة قبل الإسلام، لم يقتصر على أوقات السلم فحسب، وإنما امتد إلى أوقات الحرب أيضًا، والمعروف أن الحروب كانت لا تنقطع بين القبائل العربية بسبب التنافس حول الزعامة، أو النزاع حول المرعى، أو الحرص على أخذ الثأر أو الرغبة في الغنم. وفي هذه الحروب أسهمت المرأة العربية بدور بارز، سواء في استثارة حماسة الرجال, وشحذ هممهم, وتضميد جراحهم، أو في حمل السلاح والمؤن، بل في قيادة الرجال. ويذكر التاريخ من أسماء نساء العرب في هذا المضمار: رقاش من طيئ، وكانت تقود قومها في الغزو، فينصاعون لها، ويأتمرون بأمرها، ويستجيبون لرأيها, وهناك فاطمة بنت ربيعة بن زيد الفزاري -المعروفة بأم قرفة- والتي ضرب بها المثل، فقيل "أمنع من أم قرفة", وقد اشتهرت بعدائها للإسلام, ومناوئتها للرسول -صلى الله عليه وسلم, وكان قومها ينصاعون لها ويسيرون خلفها، حتى إنها بعثت إلى النبي أربعين رجلًا من بطنها ليغزوه في المدينة، فأوفد النبي في السنة السادسة للهجرة زيد بن حارثة في خيلٍ، فلقيها بوادي القرى فهزمته. وما زالت تستنفد من المسلمين جهدًا كبيرًا، حتى تم سبيها وقتلها، وإن كانت ابنتها سلمى قد شاركت في حركة الردة عن الإسلام بعد ذلك، وقامت بالدور نفسه الذي سبق أن قامت به أمها، فكانت تقود جموع المرتدين وتتزعمهم في المعركة، وتشرف على القتال بنفسها, وقد اعتلت الجمل نفسه الذي كانت تركبه أمها من قبل، حتى حلَّت بها الهزيمة, ولقيت المصير نفسه. ومثل هذا يقال عن سجاح -المكناة أم صادر- وقد ادعت النبوة، ودان لها جمع غفير من الرجال والنساء سواء، ثم تزوجت مسيلمة الكذاب،(1/301)
حتى حلّت بهما الهزيمة، وقتل زوجها, فاضطرت إلى الفرار إلى العراق.
وقد بلغ الأمر ببعض النساء أن تشبهن بالرجال في طلب الثأر, وتحريم متاع الدنيا على أنفسهن حتى يثأرن لذويهن, وها هي هند بنت عتبة، حرمت على نفسها أن تبكي قتلاها الأربعة في يوم بدر حتى تثأر لنفسها من النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين، وحرمت على نفسها الطيب, ولم تقرب فراش أبي سفيان، حتى كانت موقعة أحد.
وأخيرًا، فإنه ليس أدل على مكانة المرأة في المجتمع العربي قبل الإسلام، من الإشارة إلى خديجة بنت خويلد زوج النبي -صلى الله عليه وسلم، فقد عرف عنها أنها سيدة موسرة من نساء قريش، لقبت في الجاهلية، بالطاهرة وسيدة قريش، وعرف عنها أنها مارست نشاطًا اقتصاديًّا واسعًا، فكانت لها تجارة مع الشام، استعانت في مباشرتها بالنبي -صلى الله عليه وسلم، حتى إذا ما تضاعف ربح هذه التجارة على يديه، وأعجبت بأمانته وكريم خلقه، خطبته لنفسها وتزوجته, ولعل في هذه السيرة العطرة ما يشير إلى حرية المرأة في المجتمع العربي قبل الإسلام في مباشرة نشاط اقتصادي واسع، فضلًا عن حريتها في أن تخطب لنفسها من تأنس فيه الزوج الصالح ...
وكان الفخر بالأم معروفًا عند العرب قبل الإسلام، ليثبت الرجل أنه ينحدر من أصل حر صريح، وأن دمه نقي من شبهة الهجنة, من ذلك قول المقدام بن زيد, سيد بني حي بن خولان:
وأمي ذات الخير بنت ربيعة ... ضريّة من عيص السماحة والمجد
ويقول القتال الكلابي في فخره بأمه عمرة بنت حرقة من ربيعة:
لقد ولدتني حرّة ربيعية ... من اللاء لم يحضرن في القيظ دندنا
ويقول الشنفرى، وهو من عامة القوم:(1/302)
أنا ابن خيار الحجر بيتًا ومنصبًا ... وأمي ابنة الأحرار لو تعرفينها
بل لقد كان من دواعي الفخر أن ينسب الشخص نفسه إلى أمه، وإن كان أبوه ملكًا، ومن ذلك قول امرئ القيس:
ألا هل أتاها والحوادث جمة ... بأن امرأة القيس بن تَمْلِكَ بيْقرا
فهو هنا يفخر بنسبته لأمه تملك، التي بيقرت، أي هجرت البادية واختارت الإقامة في الحضر.
أما عن مكانة المرأة كزوجة في المجتمع العربي قبل الإسلام, فلا ينبغي الإقلال من شأنها, وأمامنا كثير من الأمثلة تشهد على مكانة الزوجة عند زوجها، وتقديره لها بوصفها شريكة حياته، وحبه لها باعتبارها القلب الحنون عليه، وكثير من شعراء العرب قبل الإسلام تغزلوا في زوجاتهم، وعبَّروا عن حبهم المفرط لهن؛ من ذلك قول امرئ القيس في زوجته أم جندب:
خليليّ مرّا بي على أم جُنْدُب ... لنقضي حاجات الفؤاد المعذب
فإنكما إن تنظراني ساعة ... من الدهر تنفعني لدى أم جندب
ألم ترياني كلما جئت طارقًا ... وجدت بها طيبًا وإن لم تطيب
عقيلة أتراب لها لا دميمة ... ولا ذات خلق إن تأملت جانب
ولا أدل على تقدير العرب قبل الإسلام لرابطة الزوجية، وما يربط بين الزوجين من رباط وثيق يتمثل في الأبناء، من حرصهم في كثير من الحالات على تكنية الزوجة باسم ابنها، فيناديها زوجها بأم فلان تكريمًا لها، وإشارة إلى ما بينهما من رباط وثيق؛ من ذلك قول أوس بن حجر التميمي مخاطبًا زوجته:
ألم تعلمي أم الجلاس بأننا ... كرام لدى وقع السيوف الصوارم(1/303)
وقول عروة بن الورد في امرأته سلمى:
ذكرت منازلًا من أم وهب ... محل الحي أسفل ذي النقير
لذلك لا عجب إذا حرص كثير من الأزواج على استشارة زوجاتهم في مهام الأمور، وكثيرًا ما كان الزوج يرتضي هذه المشورة ويعمل بها، لا في خصائص أمورهما -مثل تزويج البنات فحسب- وإنما في بعض المسائل العامة التي تتعلق بالصلح والحرب بين القبائل.
وأما عن مكانة المرأة -كابنة- عند العرب قبل الإسلام، فقد سبق أن أشرنا إلى حقيقة المبالغة في ظاهرة وأد البنات، والي أن هذه العادة الذميمة لم تكن فاشية عند كافة قبائل العرب مثلما يتصور البعض، بل على العكس, نسمع عن حب بعض العرب لبناتهم، وعطفهم عليهن، وحرصهم على تعداد مزاياهن, وربما بلغ من اعتزاز العربي بابنته أنه كان يتعمد استشارتها في بعض أموره، والأخذ برأيها، قال حسان بن الغدير:
رأيت رجالًا يكرهون بناتهم ... وهن البواكي والجيوب النواصح
وكثيرًا ما كان يكنى الأب باسم ابنته، مثلما يكنى باسم ابنه, وأمثلة هذا عديدة في أخبار العرب وأشعارهم، فالنابغة الذبياني كان يكنى أبا أمامة، وحذيفة بن المغيرة كان يكنى أبا أمية، وعمرو بن عبد الله الجمحي كان يكنى أبا عزة ...
ومن هذا العرض لأوضاع المرأة العربية قبل الإسلام، نخرج بحقيقة هامة, خلاصتها أن الدور الضخم الذي نهضت به المرأة مع مولد الإسلام وفي ظله، لم يكن مفاجئًا، وإنما لابد وأن له جذوره الممتدة إلى ما قبل الإسلام في أعماق المجتمع العربي. ولا نستطيع أن نتصور أو ندعي أن المرأة العربية قفزت فجأة -قبل أن تمر سنوات قليلة معدودة على بعث الرسول -صلى الله عليه وسلم- لتبدو في تلك الصورة الجريئة التي نجدها عليها في صدر(1/304)
الإسلام, فهذه امرأة تجادل النبي -صلى الله عليه وسلم- وتحاوره في أمر زوجها حوارًا استدعى نزول الآية الكريمة: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} . وهذه أخرى -مثل امرأة أبي لهب- تسهم قولًا وفعلًا في الحياة العامة, وتعمل على إيذاء الرسول بلسانها ويديها، وتمارس من الضغوط على زوجها وولديها ليتخذوا موقفًًا معينًا من قضية معروفة، ما معروف في كتب التاريخ ...
هذه الأمثلة وغيرها تدل على أن الإسلام ظهر على المسرح، والمرأة العربية لها دور تمارسه فعلًا في الحياة العامة, وجلي أن القدرة -أو الجرأة- على ممارسة مثل هذا الدور لا يمكن أن تكون وليدة يوم وليلة، وإنما هي امتداد لوضع سائد متوارث، له جذوره الممتدة في المجتمع, وحسبنا أننا بالتأمل في الحوادث التي صحبت مولد الإسلام وظهوره، نجد المرأة شريكة للرجل في حركاته وسكناته؛ فالمشركة شاركت في إيذاء المسلمين وفي حربهم. والمؤمنة شاركت في نصرة الإسلام والمسلمين، وهاجرت مثلما هاجر الرجال، وصمدت مثلما صمد الرجال.
والحق إن الإسلام جاء ليوطد مكانة المرأة، ويحدد تحديدًا دقيقًا ثابتًا مكانها الكريم في المجتمع, ذلك أن الإسلام جاء دينًا ودنيا، فرسم صورة متكاملة لحياة المسلم، ووضع إطارًا سليمًا لمجتمع مثالي متكامل, وبعبارة أخرى: فإن الإسلام ليس مجرد شعارات ترفع أو طقوس تؤدى، وإنما هو أسلوب للحياة في أسمى صورها وأنقى معالمها, ومن أجل تحقيق هذه الثورة الاجتماعية، لجأ الإسلام إلى أساليب ثلاثة، سارت في وقت واحد جنبًا إلى جنب، أولها: تحريم الأوضاع الخاطئة التي فشت في المجتمع العربي قبل الإسلام والنهي عنها، وثانيهما: تعديل الأوضاع المنحرفة, وتقويمها وتنقيتها مما فيها من شوائب، وثالثها: الإتيان بتعاليم جديدة وسنن وتشريعات مستحدثة(1/305)
تستهدف وضع إطار سليم للمجتمع الجديد.
وفي الثورة الاجتماعية الضخمة التي أحدثها الإسلام، حظيت المرأة بنصيب مرموق من الرعاية, ومنذ اللحظة الأولى لمولد الإسلام احتلت المرأة مكانتها في فكر الديانة الجديدة، فكانت للنساء بيعة مثل بيعة الرجال {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . وبعبارة أخرى: فإنه إذا كان للمرأة دور في المجتمع قبل الإسلام، فإن الإسلام جاء ليهذب هذا الدور ويطهره، ويوضح حدوده وأبعاده، فأكد الحقوق المشروعة للمرأة -أمًّا وزوجًا وابنةً- وأحاطها بسياج من العفة والاحترام, يحول دون العبث بكرامتها والحَطِّ من شأنها.
حقيقة إن القرآن الكريم نصَّ على أن الرجال قوَّامون على النساء, ولكن هذه القوامة والأفضلية لا تعني مطلقًا الانتقاص من وضع المرأة في المجتمع والحَطِّ من شأنها، وإنما هو مبدأ قُصِدَ به الخير وصلاح المجتمع, بتحديد مكانة كل ركن من أركانه بما يتفق وطبيعة هذا الطرف أو ذاك, ولا ينبغي تفسير هذا المبدأ تفسيرًا خاطئًا يترتب عليه حرمان المرأة من حقها المشروع في المساواة مع الرجل في الحقوق والواجبات الأساسية التي حرص الإسلام على تقريرها, وكما أن وجود ربان للسفينة ليس معناه الانتقاص من كرامة طاقمها، فكذلك لا ينبغي أن يفسر وجود رب للأسرة أو للبيت, على أنه انتقاص من مكانة المرأة, ثم إنه إذا كان الإسلام قد نَصَّ على أفضلية الرجال وقوامتهم على النساء، فإنه لم يترك هذا الأمر مفتوحًا بلا حدود، وإنما حدده, وجعل الأفضلية غير مطلقة، فجاء في القرآن الكريم {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَة} . وهكذا تحدد الوضع في أسبقية الرجال على النساء بدرجة(1/306)
واحدة لا أكثر، أما حدود هذه الدرجة، فقد رسمها الشرع في جوانب عدة، منها الإرث والشهادة ... وغيرها.
ولا أدل على حرص الإسلام على تحقيق المساواة في جوانب الحياة العامة بين الرجل والمرأة من قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} والخطاب هنا موجه إلى البشر جميعًا -ذكورًا أو إناثًا سواء. هذا إلى أننا نجد الخطاب فيما يتعلق بالحدود الشرعية والأمر بالحلال، والنهي عن الحرام، مطلقًا، مثل قوله: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} .
وهذا الجمع في الخطاب يتضمن المساواة في الواجبات والتكاليف، وهو أمر لابد وأن يرتبط بالمساواة في الحقوق، حيث إن كل حقٍّ يقابله واجب, يضاف إلى ذلك أن ذكر المرأة في القرآن الكريم جاء قرينًا لذكر الرجل في كافة جوانب الخير، مثل قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} .
ويميل بعض المتطرفين إلى تعمد إساءة فهم روح الإسلام، فيدَّعون أن الإسلام انتقص من قدر المرأة عندما أغفل المساواة بينها وبين الرجل في الشهادة والإرث. حقيقةً إن الإسلام جعل شهادة امرأتين معادلة لشهادة الرجل {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} ، ولكن علينا أن نذكر أن الشهادة أمر خطير، قد يترتب عليها حياة وموت، أو سلم وحرب، أو قصاص وردع، فلابد من الروية فيها والتأكد منها, ومهما يبلغ تقديرنا للمرأة ولدورها الكبير في بناء المجتمع، فإن(1/307)
علينا أن نعترف بأن تكوين المرأة النفسي والفسيولوجي والجسماني غير تكوين الرجل؛ فالمرأة أكثر رقةً, وأرهف حسًّا, وأميل إلى الانقياد والرضوخ من الرجل، وهذه كلها ظواهر يمكن أن تتحول إلى ضعف في بعض المواقف. ولعل هذا هو المقصود من الحديث المنسوب إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم: "استوصوا بالنساء خيرًا، فإنهن خلقن من ضلع أعوج"، وهو الحديث الذي أساء البعض فهمه, وظنوا أن فيه حطًّا من شأن المرأة ومكانتها، ونسوا أن الحديث يبدأ بالأمر بالإحسان إلى المرأة, ويوصي بها خيرًا، أما كونها خلقت من ضلعٍ أعوجٍ فإنما هي إشارة إلى ما تتصف به النساء عادةً من لينٍ في الطباع والتكوين النفسي والجسماني, ومثل هذا يقال في تفسير الآية الكريمة: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} . فإن مثل هذا التحديد لا يقصد به حرمان المرأة والإقلال من شأنها، بقدر ما قصد به تقدير أعباء الرجل في الحياة, ومسئوليته, وطبيعة رسالته على مستوى الأسرة والمجتمع.
وحسب الإسلام أنه حدد للمرأة نصيبًا مفروضًا في الميراث, بعد أن كان حَقَّها في الإرث غير ثابت, وربما غير معترف به. نعم، حسب الإسلام أنه كفل للمرأة أهلية تامة لمباشرة كافة الحقوق المدنية والشخصية. فأعطاها حق حيازة المال والتصرف فيه، وتملك العقار، والتعاقد، والتصرف في مالها بالبيع والتنازل والهبة والوصية ... وغير ذلك من الحقوق المدنية التي تجعل منها إنسانًا كاملًا له كيانه وشخصيته واستقلاله وحريته وكرامته, بل لقد أجاز بعض الفقهاء ولاية المرأة للقضاء، فشرع أبو حنيفة قضاءها في الأموال، في حين رأى الإمام الطبري جواز قضائها وحكمها في كل شيء، سواء الأموال أو غيرها.
وصفوة القول أنه إذا كانت المرأة العربية قبل الإسلام تمتعت بقدرٍ من الحقوق والاحترام, فاق ما كان لنظيراتها في المجتمعات القديمة والمعاصرة-(1/308)
باستثناء المرأة المصرية- فإن الإسلام جاء ليزيد من تلك الحقوق وينقيها مما علق بها من شوائب، ومما شابها، ويضفي عليها صبغةً شرعيةً، ويقنن لها قواعد ثابتة, وبعد أن كانت حقوق المرأة خاضعة للعرف والتقاليد، ووضعها قابل للتفاوت والتعديل -بين قبيلة وأخرى- إذا بالإسلام يرسم لها إطارًا ثابتًا يكفل لها وضعًا كريمًا على مستوى البشر كافة في كل زمان ومكان، وحسب المرأة في ظل الإسلام قول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "ألا فاستوصوا بالنساء خيرًا". ولا أقل من إلقاء نظرة سريعة على وضع المرأة كأم وزوجة وأخت وابنة في ظل الإسلام؛ لندرك ما حظيت به من رعاية وعناية.
أما المرأة كأمٍّ, فقد كرَّمها الإسلام تكريمًا لم يحظ به غيرها, فإذا كان القرآن الكريم قد أمر برعاية الوالدين واحترامهما والإحسان بهما، وساوى في هذه الرعاية وذلك الاحترام بين الأب والأم دون تمييز لأحدهما عن الآخر، مثلما جاء في قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} ، فإن الإسلام اختص الأم بمزيد من العناية والرعاية، فجاء في قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} . كذلك قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} . ففي هذه الآيات الكريمة يوصي الله سبحانه وتعالى الإنسان بوالديه، ويقرن الشكر لله بالشكر للوالدين، ولكنه يخص الأم بدرجة من التفضيل، فحرص على أن يذكر الإنسان بما تحملته أمه في حمله وفصاله ووضعه من عناء وألم، لا تستحق عنه إلّا كل تقدير وحمد ووفاء, وقد عَبَّر الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن هذا المعنى عندما جاءه رجل يسأله "يا رسول الله! من أحق بحسن صحابتي؟ " قال "أمك. قال "ثم من؟ قال "أمك" قال "ثم من؟ " قال "أمك". قال(1/309)
"ثم من؟ " قال "أبوك". هذا فضلًا عن قوله -عليه الصلاة والسلام: "الجنة تحت أقدام الأمهات". وإذا كان هذا وضع الأم في ظل الإسلام، فإننا لا ندهش إذا سمعنا في التاريخ عن أمهات مسلمات نجحن نجاحًا منقطع النظير في صنع الرجال وتنشئة الأبناء, ونذكر على سبيل المثال لا الحصر عبد الملك بن مروان وأمه عائشة بنت المغيرة بن أبي العاص بن أبي أمية، وأبا حفص عمر بن عبد العزيز, وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وعبد الرحمن الناصر في الأندلس, الذي قامت أمه على تربيته وهو طفل يتيم حتى خلقت منه أعظم شخصية تفخر بها دولة المسلمين في الأندلس ... وقبل هؤلاء وبعدهم كثيرون.
أما المرأة كزوجة: فقد أبرز الإسلام دورها كشريك للرجل في حياته، فجعلها موضع احترام الزوج وتكريمه، وجعل بينهما رباطًا متينًا من المودة والرحمة {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} , ولا أدلّ على حرص الإسلام على حقوق الزوجة ومكانتها من قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوف} , وهذا المعنى هو الذي عبَّر عنه النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- في حديثه الشريف: "ألَا إن لكم على نسائكم حقًّا, ولنسائكم عليكم حقًّا". وإذا كان الإسلام قد جعل الطلاق دواء لبعض الأوضاع المتأزمة, وعلاجًا لبعض الحالات المستعصية، فإنه في الوقت نفسه حرص على أن يشيع جوًّا من الاطمئنان والاستقرار والأمان، فقيد الطلاق بقيود شديدة, حتى جعل منه أبغض الحلال إلى الله، بحيث لا يطبق إلّا بعد استنفاد كافة محاولات التوفيق والإصلاح بين الزوجين {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا(1/310)
خَبِيرًا} . فإذا تعذر التوفيق، وغدا الطلاق ضرورة، فإن الإسلام أمر بأن يتم الطلاق بإحسان ومعروف، ودون تعنت أو أذى {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} , {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} . وعلى المسلم في هذه الحالة إعطاء زوجته كافَّة مستحقاتها، وعدم التطلع إلى شيء من مالها {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا، وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا، وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} فإذا حدث وتراضى الزوجان مرة أخرى بعد وقوع الطلاق، فإن الإسلام أمر أهل الزوجة بعدم الممانعة في عودتها إلى زوجها؛ لأن ذلك أزكى وأطهر {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ... {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} .
كذلك ينبغي أن نشير إلى أن مبدأ تعدد الزوجات في الإسلام لا ينبغي أن ينظر إليه نظرة سطحية على أنه يتعارض مع مكانة المرأة كزوجة؛ إذ علينا أن نتدبر الملابسات والأسباب التي أملت هذا التعدد، والقيود والشروط التي وضعت عليه، بحيث تحد من تطبيقه, فحركة الجهاد الواسعة في صدر الإسلام، وما يترتب عليها من استشهاد كثيرين من الرجال من ناحية، ومزيد من القوة، للمحافظة على كيان الدولة الجديدة من ناحية أخرى ... كل ذلك تطلب مزيدًا من الإنجاب. هذا فضلًا عن صعوبة تحديد زوجة واحدة للرجل في مجتمع كان للرجل أن يجمع في عصمته ما يشاء من الزوجات دون حساب, وقد حدَّثَ عميرة الأسري فقال: "إني أسلمت وعندي ثمان(1/311)
نسوة، فذكرت ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: اختر منهن أربعًا". فبصرف النظر عَمَّا في مبدأ تعدد الزوجات من علاجٍ لبعض الحالات التي يشتهي فيها الرجل امرأة أخرى غير زوجته حتى لا يعاشرها في الحرام، فإن هذا المبدأ هو العلاج الرئيسي في حالات خاصة لانقاذ كيان الأسرة وشرفها، وخاصة عندما تعجز المرأة عن تحقيق رسالتها والنهوض بمهامها كزوجة -مثلما يحدث في حالات العقم أو الأمراض المستعصية- ويرى الزوج الاحتفاظ بها وفاءً لها, وصيانة لعرضها, وحسب الإسلام أنه وضع شرطًا قاسيًا في حالة اتخاذ أكثر من زوجة، هو العدل بينهن {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَة} ، والعدل في هذه الحالة أمر عسير ليس بالسهل، ولا يمكن لكل إنسان تحقيقه، وفي هذا تحديد مطلق لاستخدام هذا الحق.
أما موقف الإسلام من المرأة كأخت أو ابنة, فهو موقف كريم، أقل ما يوصف به أنه غَيَّرَ من النظرة الخاطئة التي نظر بها السابقون إليهما, وحسب الإسلام أنه نهى عن وأد البنات، وطالب بحسن معاملة الابنة والأخت، والمساواة بين البنات والبنين في المعاملة. روي عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ساووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلًا أحدًا لفضلت النساء". وروي عنه أيضًا قوله: "مَنْ كان له ثلاث أخوات أو بنتان أو أختان, فأحسن صحبتهن, واتقى الله فيهن، فله الجنة" , وقوله: "مَنْ كانت له أنثى فلم يئدها, ولم يهنها, ولم يؤثر ولده عليها, أدخله الله الجنة ... ".
وفي جميع الحالات -سواء كانت المرأة أمًّا أو زوجًا أو أختًا أو ابنةً- فإن الإسلام كفل لها حقَّها كاملًَا في الميراث، وقرر لها نصيبها ثابتًا مقررًا في كل حالة، بحيث لا تحرم ولا تغبن، ولا تخضع حقوقها للمساومة والإجحاف, قال تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} . ولعله من(1/312)
الواضح أن استخدام لفظي "النساء" و"الأقربون" إنما قصد به التعميم؛ بحيث يشمل المستحقات في الإرث على اختلاف درجات قربتهم من المتوفى صاحب التركة, وقد جاء في سورة النساء تحديدٌ صريحٌ لنسبة توزيع الإرث بين الورثة -ذكورًا كانوا أو إناثًا- مما حقق للمرأة وضعًا لم تحظ به من قبل.
وفي ظل هذه الضمانات التي كفلت للمرأة العربية وضعًا جديدًا آمنًا في مجتمعٍ يعترف بحقها في حياة حرة كريمة، كان من الطبيعي أن تسهم المرأة في صدر الإسلام إسهامًا جادًّا نافعًا في مختلف جوانب الحياة العامة, وكان أن عانت المرأة المسلمة ما عاناه الرجال من أذى واضطهاد وهجرة في صدر الإسلام، حتى إذا ما أذن الله للمسلمين بالقتال والدفاع عن النفس ... نجد المرأة المسلمة تشارك الرجل في ساحة الوغى. ويذكر التاريخ أسماء نساء خرجن صحبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزواته, يداوين المرضى, ويأسون الجرحى, ويسيقين الماء، منهن أمية بنت قيس الغفارية وأم سنان الأسلمية، حمنة بنت جحش، وأم أيمن حاضنة الرسول -صلى الله عليه وسلم، وكعيبة بنت سعد الأسلمية.. وغيرهن. أما نسيبة بنت كعب المازنية فقد أبلت بلاء حسنًا يوم أحد، فخرجت تساعد الجرحى وتسقي الظماء, حتى إذا حلَّت الهزيمة بالمسلمين وولوا مدبرين، وقفت في قلة من الرجال تذود عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتفتديه بنفسها, حتى أصيبت بثلاثة عشر جرحًا, وهذه خولة بنت الأزور التي سجلت صفحة شرف وفخار في مقاتلة الروم، الأمر الذي استثار إعجاب خالد بن الوليد وتقديره, وما زالت أخبارها حية تحكي عن بلائها في موقعتي أجنادين واليرموك، فضلًا عن اشتراكها في فتح مصر, وقد حدث في موقعة صحورا أن وقعت جماعة من نساء العرب أسيرات في قبضة الروم، وكانت خولة بن الأزور فيهن، فلم ترض بالاستسلام, واستثارت زميلاتها، وهابت بهن ألّا يرضخن للأمر الواقع, ولما كن مجردات من السلاح، فقد صاحت فيهن: خذن أعمدة الخيام وأوتاد الأطناب، ونحمل على هؤلاء اللئام،(1/313)
فلعل الله ينصرنا عليهم. وهكذا بدأت خولة الهجوم ومن خلفها بقية النساء، فحملن على الروم حملة مكنتهن من تحرير أنفسهن، وانطلقن يرددن:
نحن بنات تبَّع وحمير ... وضربنا في القوم ليس ينكر
لأننا في الحرب نار تسعر ... اليوم تسقون العذاب الأكبر
وهذه الأمثلة قليل من كثير؛ إذ ترددت في مصادر التاريخ الإسلامي أسماء كثيرات من النساء اللائي وقفن جنبًا إلى جنبٍ مع الرجال في ساحة الوغي، أمثال صفية بنت عبد المطلب، وأسماء بنت أبي بكر، وجويرية بنت أبي سفيان، وغزالة الحرورية، وليلى بنت ظريف ... وغيرهن كثير.
وفي ظل الإسلام شاركت المرأة في السياسة وشئون الحكم؛ ففي الخلافات السياسية التي ثارت حول مسألة الخلافة عقب وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ظهر صوت المرأة المسلمة واضحًا عاليًا، بحيث صار له أثره في موقف الرجال, ولعلنا لسنا بحاجة إلى الدخول في التفصيلات الخاصة بموقف فاطمة الزهراء -رضي الله عنها- واضحًا عاليًا، بحيث صار له أثره في موقف الرجال, ولعلنا لسنا بحاجة إلى الدخول في التفصيلات الخاصة بموقف فاطمة الزهراء -رضي الله عنها- من خلافة أبي بكر -رضي الله عنه، ومو قف أم المؤمنين عائشة من عثمان وعلي -رضي الله عنهم أجمعين، ثم موقف نائلة بنت الفرافصة -زوج عثمان بن عفان رضي الله عنه- في استثارة معاوية وأهل الشام ضد علي -رضي الله عنه- وشيعته، فقد انضمت إليه مجموعة من شهيرات النساء، مثل بكارة الهلالية، وسودة ابنة عمراة, وهود بنت يزيد الأنصارية, ويقال أنه وجد بالكوفة بيتان لامرأتين كان يجتمع فيهما زعماء الشيعة ليتباحثوا ويخططوا؛ أما الأولى: فكانت هند بنت المتكلفة الناعطية، وأما الثانية: فكانت ليلى بنت قمامة المدنية، وكلتاهما لم تدخر مالًا ولاجهدًا في تنظيم الدعوة للتشيع وتدعيمها. وبين ثنايا الخلاف بين علي ومعاوية، ظهر الخوارج كفرقة لها آراؤها وسياستها التي استقلت بنفسها لتناهض كلًّا من الطرفين.(1/314)
ويسترعي نظرنا في نشاط الخوارج ضخامة دور المرأة في توجيه الأمور -بل أحيانًا في توجيه الرجال- ونخص بالذكر الدور الذي لعبته أم حكيم, زوج الزعيم الخارجي قطري بن الفجاءة، وكانت ذات عقل ماكر, ورأي نافذ, وكلمة مسموعة, ومثلها: غزالة الحرورية, زوج زعيم الخوارج شبيب بن يزيد، وكانت ذات بطش وجسارة، وتأثير على الرجال بشخصيتها القوية، حتى إنها كانت تقود الجيوش، فلا يخشى الحجاج بن يوسف إلّا سطوتها.
وفي زمن ازدهار الحضارة العربية الإسلامية, وعظمة الدولة العباسية، نسمع عن الخيزران, زوج الخليفة المهدي, وأم الهادي والرشيد، وهي التي لعبت دورًا بارزًا، لا في التأثير على زوجها وولديها وتوجيههم فحسب، بل في التأثير أيضًا على اتجاهات الدولة السياسية في الداخل والخارج, وقد تردد في المصادر المعاصرة أن أصحاب الحاجات والمصالح كانوا يتسابقون إلى بابها, فتقضي حوائجهم، بل كان الأمراء والشعراء يقصدونها, ويحرصون على حضور مجلسها للإفادة من نفوذها, وقد استطاعت الخيزران أن تؤثر على زوجها المهديّ ليعفو عن بني أمية, ويرد إليهم أملاكهم, ومهما يقال من أن ابنها الهادي حاول بعد أن ولي الخلافة أن يحد من نفوذها, ويحول دون تدخلها في شئون الدولة، فإن مكانة الخيزران واسمها ظلا يترددان في أرجاء الدولة. أما زبيدة بنت جعفر -حفيدة الخليفة المنصور العباسي, وزوج الخليفة الرشيد, وأم الخلفة المأمون-فحسبها أن يقال فيها: إنها كانت حفيدة خليفة, وزوج خليفة, وأم خليفة، في وقت كانت الخلافة الإسلامية أعظم قوة روحية وسياسية عرفها العالم المعاصر, وقد حظيت بمكانة كبيرة عند زوجها الرشيد, جعلت لها مكانة مسموعة في كثير من الأمور، وأخبار حجها متواترة في المصادر، تشير إلى ما بذلته من أموال, وما أقامته من منشآت للحجاج في طريق مكة، وخاصةً عين الماء التي أمرت بحفرها لآل مكة وحجاج بيت الله الحرام. ويعتبر هذا العمل الكبير معجزة هندسية استنفدت كثيرًا من المال(1/315)
والجهد، فأظهرت زبيدة إصرارًا كبيرًا على إنجاز هذا المشروع, رغم العقبات التي اعترضت تنفيذه، حتى إنها قالت لخازن أموالها "اعمل ولو كلفتك ضربة الفأس دينارًا".
أما قطر الندى, زوج الخليفة المعتضد العباسي، فقد أحسنت كفالة ابنها, وساست أمور الدولة بحكمة عندما آلت إليه الخلافة وهو صبي في الثالثة عشرة من عمره، فسيرت الجيوش لرد الأعداء وإخضاع الفتن، وعالجت الأزمة الاقتصادية في حكمة ومهارة، وتصدرت مجالس القضاء للنظر في المظالم وإقرار العدالة، واستقبلت السفراء والوفود، وجمعت في مجسلها الشعراء والعلماء ...
وفي الأندلس, يذكر التاريخ اسم: الزهراء, جارية الخليفة عبد الرحمن الناصر، وكان لها أثر كبير في سياسته الإصلاحية، وفي النهضة الثقافية والاجتماعية التي عمت الأندلس في عصره, وقد وصفت النساء في عهد الحكم الثاني بحبهن للعلم والدرس، حتى إن قصر الخليفة كان يضم مَنْ نظمْنَ الشعر واشتغلن بالكتابة والإنشاء ونسخ الكتب والعناية بالعلوم.
أما في ميدان الأدب والعلم، فقد كان للمرأة العربية دور ملحوظ بارز زمن نشأة الدولة وازدهارها. والمعروف عن أمهات المؤمنين أنهن أسهمن في نشر الدين القائم على العلم، فكن يُسْتَفتين في كثير من المسائل المتعلقة بأمور الدين، وصارت بيوتهن مدارس لرواية الحديث, قصدها الرواة والعلماء من كل صوبٍ لأخذ الحديث عنهن، ويروي عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه أشار إلى عائشة -رضي الله عنها- وقال: خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء. وقد خصص محمد بن سعد في طبقاته الكبرى فصلًا لراويات الحديث من النساء، عدد فيه أكثر من سبعمائة امرأة روين الحديث عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعن الثقات من صحابته، وعن هؤلاء النسوة من المؤمنات(1/316)
روى أئمة الدين وعلماء المسلمين, بل حسبنا أن نشير إلى أن علي بن أبي طالب -وهو الإمام الحجة- تلقى بعض الحديث على ميمنونة بنت سعد, التي كانت تقوم على خدمة الرسول -صلى الله عليه وسلم.
وكان أن برزت المرأة المسلمة في مجال الأدب -شعرًا ونثرًا- فظهرت كثيرات ممن نظمن الشعر وتذوقنه, بل نقدنه، وممن اشتهرن في هذا الميدان في العصر الأموي "عقيلتا قريش" وهما: سكينة بنت الحسين -رضي الله عنهما، وعائشة بنت طلحة الصحابي، فضلًا عن زوجة عبد الملك بن مروان، والمتصوفة الشهيرة أم الخير رابعة العدوية. والمفروض في الناقد أن يكون أكثر مقدرةً وأعلى كعبًا من صانع الشيء؛ إذ لا مبرر لأن ينقد الإنسان شيئا يعدز عن الإتيان بمثله, وقد لقبت السيدة سكينة بنت الحسين -رضي الله عنهما- بسيدة الناقدين، وكان دارها ملتقى الأدباء والشعراء، ولديها حاسة شعرية مرهفة مكنتها من تحليل الشعر ونقده وإبراز محاسنه، واكتشاف جوانب الضعف فيه، دخل قصرها الشعراء يحتكمون إليها، ويعرضون ما أنتجته قرائحهم عليها، ويرتضون حكمها وكلمتها, ويقال: إنه اجتمع إليها في وقت واحد جرير والفرزدق وكثيّر وجميل ونصيب، فنقدت شعر كل منهم، وعددت ما له وما عليه. وكانت حاستها في الغناء مرهفة -لا تقل عن حاستها في الشعر- فأحاطت بمدارس الغناء ومذاهبه وضروب الإيقاع، واحتكم إليها المغنون مثلما احتكم إلهيا الشعراء. ومثلها كانت عائشة بنت طلحة؛ إذ نبغت في نقد الشعر والغناء، ولذا اجتمع لديها الشعراء والمغنون، فضلًا عن المفكرين والأدباء ونحوهم، فتناقش كل منهم في فنه مناقشة الخبير المتفهم الذي أحاط بدقائق الأمور علمًا. أما عمرة الجمحية -من سراة بني جمح- فكانت تقيم في دارها شبه ندوة يلتقي فيها الشعراء, ينشدون الشعر ويروونه على ما سمع منها، فتوازن بينهم جميعًا على أسس قويمة، وتقومهم بمعايير دقيقة, وهذه الأمثلة التي ذكرها أبو الفرج الأصفهاني(1/317)
في كتابه الأغاني قليل من كثير، ويمكن أن نضيف إلى القائمة أسماء وعلية ابنتي المهدي واختي الرشيد، وحفصة بنت الحاج الركونية, من شريفات غرناطة، وولادة بنت الخليفة المستكفي الأموي بالأندلس, ويدفعنا هذا الاسم الأخير إلى الإشارة إلى أن دور المرأة العربية في النشاط الأدبي لم يكن في المغرب والأندلس أقل منه في المشرق, من ذلك أنه اشتهرت في بلاط الحكم بن الناصر في قرطبة إحدى نسائه -واسمها لبنى- عرفت بأسلوبها البليغ, وخطها الجميل، فكانت تكتب رسائل الخليفة, وتصوغ انشاءها بنفسها, وإلى جانب لبنى وجدت فاطمة, ذات الشعر الجزل والنثر البليغ السلس، وكانت لها مكتبة ضخمة عامرة بشتى النفائس والمخطوطات. أما مريم, فقد اشتهرت بنشاطها في تعليم بنات سادات إشبيلية. وهذه الأمثلة قليل من كثير.
ولئن كانت المرأة العربية في ظل الحضارة الإسلامية قد نظمت الشعر وروته ونقدته, وأسهمت بسهم وافر في نهضة الأدب العربي، إلّا أن الملاحظ هو أن نشاطها ظلّ يتحرك داخل إطار من الاعتدال والعفة والشرف، بعيدًا كل البعد عن التبذل في الغزل ووصف مجالس الشراب والإسراف في الهجاء أو المديح. فإذا وجدنا خروجًا في الحياة العامة والخاصة عن هذا الإطار، فإننا نلمس هذا الخروج في مرحلة متأخرة, صادرًا عن غير العربيات من العناصر الأخرى. والحق إن الإسلام أحاط المرأة بنطاق من العذرية والعفة، ونهاها عن تمويه خلقها وتوصيل شعرها, وكشف صدرها, والتبرج في ثيابها، وابداء زينتها إلّا ما ظهر منها, هذا في الوقت الذي أباح لها أن تتزين لزوجها، وترك لها الحرية كاملة في أن تبدي زينتها لبعلها، فتتطيب وتختضب وتكتحل وتلبس من الثياب أجملها وأرقها.
ثم إن نشاط المرأة في ظل الحضارة العربية الإسلامية لم يقتصر على ميادين الحكم والسياسة والحرب والأدب، وإنما أسهمت المرأة في مختلف(1/318)
جوانب النشاط الحضاري، واشتغلت بشتّى أنواع وألوان الفنون, وقد حظي علم الطب بالذات باهتمام كثيرات من نساء المسلمين، واشتهرت منهن في المدن الكبرى -مثل دمشق والقاهرة وبغداد وقرطبة- كثيرات ممن مارسن مختلف فروع الطب، وخاصة طب النساء, وجبر العظام, وطب العيون, ونذكر منهن على سبيل المثال: أخت الحفيد بن زهر الأندلسي وابنتها، وقد اشتهرتا في مداواة أمراض النساء, وكان المنصور بن أبي عامر لا يثق إلّا فيهما في علاج نسائه وأهل بيته, أما زينب -طبيبة بني أود- فقد برعت في جراحة العيون.
وفي الحياة الاجتماعية الصاخبة التي عرفتها قصور الخلفاء العباسيين، ظهر للمرأة دور كبير، وخاصة في مجالس الرقص والغناء، وقد تفننت النساء داخل القصور في اختيار أزيائهن الثمينة, ذات الألوان المتباينة, المحلاه بخيوط الذهب وبالجواهر، وعلى رءوسهن العصائب المرصعة بالدرر والياقوت والأحجار الكريمة، مع التزين بالقلائد والأكاليل والتيجان والخلاخل الثمينة. وكان للرقص نصيب كبير في حفلات الخلفاء والأمراء، فتتزين الراقصات بالثياب المزركشة, ويحملن الزهور والرياحين. وربما أقيم الحفل في الحريم, فتدعو نساء الطبقة الراقية الجواري المغنيات والراقصات إلى بيوتهن لإحياء حفلات غنائية راقصة. واشتهرت في العصر العباسي بعض العازفات على الآلات الموسيقية، مثل: شاجية, جارية عبد الله بن طاهر، وعبيدة الطنبورية, على أنه يلاحظ دائمًا أن المرأة العربية ظلت بعيدةً ما أمكن عن احتراف الرقص والغناء، وأنها أبت أن تنزل إلى مستوى الجواري -من غير العربيات وتبذلهن- معتزة بشرفها، فخورة بعفتها.
ثم كان أن دخلت الحضارة الإسلامية، دورًا جديدًا في العصر العباسي الثاني, وحتى نهاية العصور الوسطى؛ ذلك أن الأمر لم يقف عندئذ عند حد ما أخذ يبدو على هذه الحضارة من تدهور تدريجي في بعض(1/319)
الجوانب، وإنما جاء ذلك أيضًا مصحوبًا بغلبة عناصر أخرى غير عربية، بسطت سيطرتها السياسية على قلب الدولة الإسلامية، وتطرقت إلى صمم المجتمع بأعداد كبيرة، مما جعلها تترك بصماتها واضحة في الحياة الاجتماعية, وفي هذا التغيير كان للمرأة دور كبير يمكن أن نتتبع خيوطه الرئيسية على الطريق بين بغداد والقاهرة, وإذا كان العنصر التركي قد خلف بصمات واضحة في العراق وبغداد في العصر العباسي الثاني، فإن سقوط العراق بأكمله في قبضة التتار عند منتصف القرن الثالث عشر للميلاد، وانتقال الخلافة العباسية إلى مصر التي شهدت في ذلك الدور سقوط الدولة الأيوبية, وقيام دولة المماليك الأولى -التي أطلق عليها اسم دولة الترك أو الأتراك، كل ذلك جعل القاهرة في أواخر العصور الوسطى-بين منتصف القرن الثالث عشر ونهاية الخامس عشر للميلاد- قلب العالم الإسلامي النابض، وأكبر مركزٍ للاشعاع الحضاري والفكري. وهكذا, فإن علينا الانتقال من بغداد إلى القاهرة -حيث تركز النشاط الحربي والسياسي والحضاري والاقتصادي- للوقوف على دور المرأة في المجتمع أواخر العصور الوسطى.
وأول ما يسترعي الانتباه عند دراسة دور المرأة في المصادر المعاصرة في ذلك الدور, هو تدهور مكانتها الاجتماعية بسبب كثرة الجواري الروميات والتركيات والفارسيات، وشيوع التسري، مما أدى بالمرأة إلى التبذل، حتى صارت أقرب إلى مجرد سلعة، ليس لها من أسباب العفة والكرامة سياج يحميها، مثلما كان الحال في صدر الإسلام, وهكذا انتكس وضع المرأة في العالم العربي الإسلامي في أواخر العصور الوسطى، وتبدلت النظرة إليها تدريجيًّا حتى غدت مفعمة بالاستخفاف والاستهجان في العصر العباسي الثاني, وها هو أبو العلاء المعري يردد:
ألَا إن النساء حبال غيٍّ ... بهن يضيع الشرف التليد(1/320)
أما أبو بكر الخوارزمي، فقد كتب إلى رئيس بهراه يعزيه في ابنته، فقال: "لولا ما ذكرته من سترها، ووقفت عليه من غرائب أمرها، لكنت إلى التهنئة أقرب من التعزية، فإن ستر العورات من الحسنات، ودفن البنات من المكرمات ... ".
وفي وسط تلك الموجة من التسيب التي أصابت المجتمع الإسلامي في أواخر العصور الوسطى، نجد المرأة وقد أفرطت في العناية بنفسها وبجسمها وزينتها؛ من ذلك أنها دأبت على أن تأخذ شعر وجهها وجسدها بالتحفيف, وشعر حواجبها بالمساواة والزينة. وقد استرعى نظر الرحالة "تافو" ذلك العدد الكبير من العبيد السود, الذين تتراوح أعمارهم بين العاشرة والثانية عشرة، ويسيرون في شوارع القاهرة صائحين، فلما استفسر عن حقيقة أمرهم، قيل له: إنهم يقومون بتحفيف النساء اللائي لا يرغبن في إتمام هذه العملية في الحمامات العامة. أما الفقيه المعاصر ابن الحاج, فقد أنكر على معاصريه من الرجال أن الواحد منهم يترك امرأته للمزين يحففها، ويباشر بيديه خديها وشفتيها.
وتفننت المرأة في ذلك العصر في استكمال زينتها، فلم تقتصر على تخضيب يديها بالحناء، بل اعتادت أيضًا طلاء أظافرها بطلاءٍ أحمر استرعى نظر بعض الرحالة الغربيين, هذا خلاف الوشم الذي اعتادت كثيرات من النساء أن يزين به أجزاء مختلفة من أبدانهن, فإذا أرادت الواحدة منهن الخروج إلى الطريق العام، ارتدت أفخر ثيابها وتزينت وتعطرت, ولبست من الحلي كل ما تقدر عليه؛ ومن هذه الحلي القلائد المصنوعة من العنبر والتي سميت العنبرية، والأطواق المرصعة بالجواهر الثمينة، وفي اليدين الأساور المحلاة بالجواهر، وعلى الرأس العصائب المزخرفة بالذهب واللؤلؤ, هذا عدا الخلاخيل التي توضع فوق السراويل حتى تظهر للعيان، "وقد تضرب برجلها في الغالب فيسمع له حس".(1/321)
وقد تمتعت المرأة في ذلك الدور بمكانة كبيرة في المجتمع، سواء في ذلك طبقة الحكام من الترك والمماليك، أما سائر فئات وطبقات الشعب؛ فالمماليك نظروا إلى نسائهم نظرةً تفيض بالإجلال والتقدير, وخصصوا لهن الألقاب -مثل: خوند وخاتون، كما أضفوا عليهن في مكاتباتهم مختلف عبارات الاحترام والتبجيل، مثلما يبدو بوضوحٍ في مكاتبات السلاطين لبناتهم وزوجاتهم وأخواتهم, ولم يضن السلاطين على نسائهم بالمال والمتاع، حتى إننا "لو أردنا وصف ملبوس كل منهن, وتجمل بيوتهن, لاحتجنا إلى عدة مجلدات". وحسبنا أن إحداهن توفيت، فلما حصرت ثروتها, بلغت نيفًا وستمائة ألف دينار. أما ابنة السلطان الناصر محمد بن قلاون، فقد خلّفت ثروة طائلة تحدثت عنها المصادر، ومن جملة هذه الثروة قبقاب مرصع, قيمته أربعون ألف درهم، أي ألفا دينار.
واعتاد بعض السلاطين أن يستصحبوا حريمهم في نزهاتهم الخلوية، وعندئذ يخرج حريم السلطان على الخيول في محفات منشأة بالحرير الملون، ويقود خيولهن بعض كبار الأمراء، ويتبعهن أحمال عديدة من المحابر المغشاة بالحرير، ويحيط بهن سائر الأمراء والمماليك والخدام؛ فإذا خرجت زوجة السلطان أو أمه للحج، فإنه يجهزها تجهيزًا عظيمًا، فتخرج في برج كبير، وعلى محفتها العصائب السلطانية، والطبول تدق معها، ويتبعها "قطار" من الجمال المحملة بكل أصناف الكماليات، في حين يأمر السلطان عددًا كبيرًا من الأمراء بمصاحبتها في الطريق, وعند عودتها بعد قضاء شعائر الحج يخرج السلطان لاستقبالها، ويحتفل بقدومها احتفالًا عظيمًا، في حين يسرع الأمراء إلى تقديم الهدايا الثمينة والتقادم الفاخرة إليها, وإذا سمع السلطان بمرض إحدى زوجاته فإنه يعودها مرارًا، أما إذا وجد حالتها تستدعي "تغيير الجو"، فإنه يسمح لها بالنزول إلى بولاق, حتى تتمتع برؤية النيل ويذهب عنها الوخم, وعندما يتم شفاؤها يحتفل بذلك احتفالًا عظيمًا، فيتردد عليها(1/322)
أعيان الدولة من الأمراء والقضاة والأكابر للتهنئة، ويجتمع عند بابها أرباب الزمور والطبول والملاهي، وتعمل لها مرامي النفط والصواريخ. أما إذا توفيت إحدى زوجات السلطان أو الأمراء؛ فعندئذ ينزل كل الأمراء للصلاة عليها، ويكثر السلطان أو الأمير من توزيع الصدقات والأموال على روح زوجته المتوفاة.
وعندما تحمل إحدى زوجات السلطان، فإنه يركز كل آماله في أن يكون المولود ذكرًا -يحيى به ذكره, وينشرح له صدره, فإذا تحققت أمنيته، احتفل احتفالًا كبيرًا بالمولود، كما تكرم أم المولود؛ فيعمل لها بشخاناه ودائر بيت زركش، وغير ذلك من مظاهر التكريم التي تكلفه آلاف الدنانير، مع استمرار الفرح سبعة أيام.
على أن ذلك الاحترام للمرأة لم يقتصر على نساء السلاطين والحكام، فهناك من الشواهد ما يثبت احترام عامة الناس في ذلك الدور لنسائهم, وخير شاهد على ذلك تلك الألقاب التي أطلقها العامة على نسائهم وبناتهم، مثل ست الخلق، وست الحكام، وست الناس، وست القضاة، وست الكل.... وذلك من باب "الفخر والتزكية والثناء والتعظيم". وإذا خرجت إحدى النساء إلى الطريق، وكان زوجها مقتدرًا، فإنه يحضر لها حمارًا يقوده مكاري، ويتبعها خادم, ورغم قلة الإشارات إلى النساء وندرتها في المصادر المعاصرة، فإننا نجد كثيرًا منها يعبر عن الثناء والتقدير؛ فالسخاوي يصف إحدى النساء في القرن التاسع الهجري بأنها: "ذات رياسة وقناعة وإتقان"، ويحكي أنه عند موتها شيعت "في مشهد جميل". والشعراني في القرن العاشر الهجري -وهو من رجال الدين المحافظين- لا يتمالك شعوره نحو زوجته فيثني عليها ثناءً فياضًا.
على أنه من المبالغة أن نتصور المجتمع الإسلامي في أواخر العصور(1/323)
الوسطى, وقد قَدَّرَ المرأة على طول الخط، وأحلَّها المكانة اللائقة بها في المجتمع بوصفها شريكة الرجل وساعده الأيمن في الحياة, فإذا رأينا بعض الإشارات والعبارات التي تدل على تقدير المعاصرين للمرأة، فإن هناك في المصادر نفسها ما يفهم منه أن المرأة في حالات عديدة ظلت "محل الازدراء والاستخفاف". ومن المآخذ التي أخذها عامة الناس على القضاة في ذلك الدور أنه: "إذا تحاكم إليه رجل وامرأته نصر المرأة "-وكأن المفروض أن ينصر الرجل، ظالمًا أو مظلومًا- مما جعلهم يثورون على القاضي ويضربونه بالنعال وينهبون بيته, ولم يتورع بعض سلاطين المماليك عن ضرب امرأة بين يديه، وتشهيرها على حمارة في الطريق العام، وفي عنقها زنجير، كذلك حدث في الفتنة بين منطاش والظاهر برقوق سنة 792هـ؛ إذ أمر الأمير منطاش بالقبض على أخوات الملك الظاهر، وأخذهن حاسرات، ومعهن جواريهن يسحبن في الشوارع، فاختلط عويلهن ببكاء من شاهدهن من الناس.
وإذا كانت المرأة لم تصل في العصور الوسطى إلى تلك الدرجة من التقدير التي تحققت لها في العصور الحديثة، فإن جزءًا كبيرًا من السبب في ذلك يرجع إلى الفكرة السائدة عندئذ، وهي أن الله خلق المرأة للمتعة والاستغلال ليس إلّا, وظهرت هذه الفكرة بوضوح في شغف الناس باقتناء الجواري الحسان، ودفع الأموال الطائلة في شرائهن، حتى أن السلطان الناصر محمد بن قلاون تزوج بأربع، في حين بلغ عدد حظاياه وجواريه أكثر من ألف ومائتين. وحاكى الأمراء وعامة الأهالي الحكام والسلاطين في الإكثار من شراء الجواري، كل حسب سعته, وقد عرف المجتمع الإسلامي في ذلك العصر نوعين من الجواري: البيض والسود، وهناك من فضل السود على البيض, وتوقفت قيمة الجارية ومنزلتها عند صاحبها على ما فيها من مميزات، كحسن الطلعة أو جمال الصوت، أو غير هذا وذاك من المؤهلات والمبررات. أما أسواق الرقيق التي انتشرت في تلك العصور،(1/324)
فكانت تباع فيها النساء -كما تباع المواشي، ولكل سوق دلال يجيد عرض البضاعة والترويج لها، وإظهار محاسن الجارية ذات الوجه الجميل أو الصوت العذب، أو غير هذا وذاك من ضروب الفتنة والإغراء, وكثيرًا ما تزوج السيد جاريته -إلى جانب زوجته الحرة- وفي هذه الحالة اشترط الفقهاء ضرورة عتق الجارية قبل العقد عليها, ويتوافر في المصادر المعاصرة أسماء كثيرات من الجواري، قُدِّرَ لهن أن يلعبن أدوارًا هامة في قصور الخلفاء والسلاطين والملوك والأمراء.
وجرت العاة أنه إذا دخل السلطان أو الأمير الحمام، صحبته بعض الجواري لخدمته في الحمام، وفيما عدا اللذة الجنسية، اقتنى السلاطين والأمراء الجواري للغناء والطرب، حتى أصبح من الأشياء المألوفة أن يكون لكل خليفة أو سلطان أو أمير جوقة مغانٍ كاملة من الجواري.
ولكن على الرغم مما ورد في المصادر المعاصرة عن المكانة السامية التي تمتعت بها بعض الجواري عند سادتهن، إلّا أن هناك إشارات عديدة في هذه المصادر, إلى ما تعرضت لها الجواري أحيانًا من أذًى وامتهانٍ نتيجة لوضعهن الاجتماعي واعتبارهن سلعةً، لصاحبها مطلق الحق في التصرف فيها, وحسبنا ما جاء في قصة مريم الزنارية -من قصص ألف ليلة- فردت الفتاة "يا أمي، بعد أن يباع الإنسان في بلاد المسلمين من تاجر إلى تاجر يصير محكومًا عليه، فكيف أبقى بنتًا بكرًا؟ إن التاجر الذي اشتراني هددني بالضرب، وأكرهني وأزال بكارتي، ثم باعني لآخر ... " هذا إلى أن بعض السادة أكثروا أحيانًا من إيذاء جواريهم، حتى حكي عن بعضهم أنه كان إذا ضرب إحدى جواريه، فإن ضربه لها يتجاوز الخمسمائة عصاة.
هذا، ويلاحظ أن الجواري عشن في قصور الحكام والأمراء جزءًا(1/325)
أساسيًّا من الحريم، فطبق عليهن من قواعد العزلة والحجاب ما كان يطبق تمامًا على بقية حريم الخليفة أو السلطان أو الأمير, والفئة الوحيدة التي سمح لأفرادها غشيان الحريم هي فئة الطواشية والخصيان، بحكم ما لهم من وضع اجتماعيٍّ خاصٍّ.
أما عن نصيب المرأة في الحياة العامة في المجتمع العربي الإسلامي أواخر العصور الوسطى, فهو بلا شك نصيب كبير يسترعي الانتباه, ذلك أنه رغم القيود الاجتماعية التي فرضتها التقاليد على المرأة في ذلك العصر، فإن المرأة أسهمت بنصيب وافر في الحياة العامة, وحسبنا أن السخاوي أفرد جزءًا كاملًا من كتابه "الضوء اللامع" ذكر فيه ما يزيد عن الألف ترجمة، كلها لنساء عشن في القرن التاسع الهجري، ولمعظمهن نصيب كبير في الحياة العامة في ذلك القرن.
من ذلك ما يتردد في بعض المصادر المعاصرة من أن بعض الحكام -كالسلطان إينال, سلطان دولة المماليك في مصر والشام- استسلموا لزوجاتهم، حتى غدت الواحدة منهن على جانب كبير من نفوذ الكلمة, ووفور الحرمة في الدولة، وطواعية السلطان لأوامرها, وفي هذه الحالة يغدو الحاكم لا اختيار له معها, وقد وصف المؤرخ ابن تغري بردي خوند زينب -زوجة السلطان إينال- بأنها: "صار لها نصيب وافر مع السلطان في كل هدية ورشوة". كما وصفها المؤرخ ابن إياس بأنها: "صارت تدبر أمور المملكة من ولاية وعزل", ومثل هذه الأوصاف نجد لها شبيهًا لبعض نساء العصر.
وهناك أدلة واقعية كثيرة تثبت تدخل نساء الحكام في شئون الحكم، ومشاركتهن في توجيه سياسة الدول الإسلامية أواخر العصور الوسطى, ومن هذه الأمثلة شجرة الدر, التي وصفها المؤرخون بأنها كانت "صعبة الخلق(1/326)
قوية البأس"، والتي استطاعت أن تنقذ البلاد وتدبر شئونها في فترة عصيبة من أحرج فترات التاريخ المصري، فضلًا عن أنها تولت منصب السلطنة، وقضت فيه ثمانين يومًا, برهنت طوالها على كياسة فائقة وذكاء وافر. وقد تكررت في عصر دولة سلاطين المماليك ظاهرة تدخل نساء السلاطين والأمراء في الإصلاح بين الأمراء، مثلما حدث سنة 676هـ, عندما شب خلاف بين الملك السعيد وأمرائه، فبعث الملك السعيد أمه لمفاوضة الأمراء في الصلح، فأظهروا لها كل احترام، واشترطوا عليها شروطًا كثيرةً التزمت لهم بها، وعادت إلى ولدها لتخبره بنتيجة وساطتها.
ويروي المقريزي كيف تطرف بعض الولاة سنة 737هـ, في مصادرة التجار وإنزال المظالم بهم، فقام كثير من كبار الأمراء ليشفعوا للتجار، ولكن السلطان لم يسمع لأحدهم قولًا، حتى إذا ما قامت ست خدمة زوج السلطان الناصر محمد في رفع الظلم عن التجار، وعندئذ استمع السلطان لرجائها ونفَّذَ رغبتها فورًا, وكثيرًا ما نصادف في المصادر المعاصرة أن زوجة أحد الحكام, أو جاريته, تسببت في إلغاء مكس من المكوس، مثلما ذكر ابن حجر عن طغاي, زوج الناصر محمد "وبسببها أبطل الناصر عن مكة المكس الذي يؤخذ على القمح" وعندما أدرك المعاصرون سلطة النساء ونفوذهن، صاروا يوسطوهن لقضاء حوائجهم. فإذا تعذر على تاجر قضاء مطلب عند أهل الدولة، بحث عن الطريق الذي يوصل به شكواه إلى حريم الحكام، وعندئذ تُقْضَى حاجته فورًا, وقد حكى السخاوي عن أحد المعاصرين -العلم البلقيني- أنه توصل إلى منصبه عن طريق زوجته "لمزيد اختصاصه بخوند العظمى".
ولم يقتصر نصيب المرأة في الحياة العامة على التدخل في بعض شئون الدولة وسياستها، وإنما شاركت في ذلك الدور الأخير من تاريخ العصور الوسطى في الحياة العلمية والدينية, ويسجل التاريخ أسماء كثيرات ممن(1/327)
اشتغلن في ذلك العصر بالنحو، وحفظن فيه الشيء الكثير، كما نظمن الشعر، أما من اشتغلن بالفقه والحديث فعددهن لا يحصى, ودأبت الكثيرات منهن على التنقل بين مصر والشام -شأن فقهاء ذلك العصر- للسماع من كبار المحدثين والعلماء, كذلك اشتهر بعضهن في الحديث بصحيح البخاري, بل نسمع في ذلك الدور عن كثير من كبار الفقهاء الذين سمعوا من بعض المسندات الشهيرات اللائي أجزن لهم, ولم يأنف هؤلاء الفقهاء من الاعتراف بذلك، بل على العكس, افتخروا بأنهم سمعوا عن فلانة وفلانة من المحدثات، وأن بعضهن أجزن لهم, فالفقيه الكبير القاضي ابن حجر العسقلاني يذكر أنه حصل على إجازتين، الأولى: من شمس بنت ناصر الدين محمد، والثانية: من خديجة بنت العماد الصالحية. والسخاوي يصف كيف تزاحم طلبة العلم في عصره على إحدى المحدثات، ويفخر بأنه ممن حملوا عنها، كما أخذ عن غيرها، كذلك ذكر السخاوي أسماء كثيرات ممن أجزن له، مثل آمنة ابنة الشمس, المتوفاة سنة 867هـ، وأمة الخالق ابنة الزين عبد اللطيف, المتوفاة سنة 833هـ، ورجبابنة الشهاب أحمد, المتوفاة سنة 869هـ، وأم هانئ ابنة التقي محمد, المتوفاة سنة 885هـ.
وقد حرصت كثيرات من عامة النساء على الذهاب إلى مجالس العلم والدين، حيث يجلسن في مكان منفرد عن الرجال لسماع الدروس الدينية, وكان أن خص بعض الفقهاء والوعاظ النساء دون الرجال بعلمهم، وحجتهم في ذلك أن النساء لا يعلمهن أحد من أزواجهن شيئًا، ولذلك يجب إعطاؤهن عنايةً خاصةً حتى يعرفن أحكام الدين, وما عليهن من حقوق الزوجية والجيران, وإلى جانب الوعاظ من الرجال, ظهر عدد كبير من الواعظات اللائي تخصصن في وعظ النساء وتعليمهن وتحفيظن القرآن، وقد تردد ذكر أسماء كثيرات منهن في أواخر العصور الوسطى، مثل فاطمة بنت عباس الواعظة, وعائشة بنت إبراهيم، وحنيفة بنت المحدث, وأسماء بنت(1/328)
الفخر إبراهيم، وكلهن من نساء القرن الثامن الهجري.
ومع انتشار تيار التصوف في أواخر العصور الوسطى، سلكت بعض النساء هذا الطريق، فلبسن الخرق مثلما يلبسها المتصوفة من الرجال، وأطلق عليهن اسم الشيخات, ولازمت هؤلاء المتصوفات الزوايا والأربطة التي خصصت لهن، تحت رئاسة شيختهن, كذلك حرصت الشيخات على أن يلبسن الصوف لمن تتوب على أيديهن وتدخل في طريقتهن، مثلما يفعل مشايخ الصوفية من الرجال, وقد عاب الفقيه ابن الحاج على المتصوفات في عصره -في القرن التاسع الهجري- رفع أصواتهن بالذكر.
أما عن نشاط النساء في شوارع المدن وأسواقها ومتنزهاتها, فكان عظيمًا في أواخر العصور الوسطى؛ فمجالس الخلاعة بالقاهرة زخرت بالنساء إلى جانب الرجال, ولاحظ بعض الأجانب الذين زاروا مصر في عصر سلاطين المماليك أن النساء يتمتعن بقسط وافر من الحرية، حتى إن بعضهن يتغيبن عن منازلهن في أوقات كثيرة من النهار، ومع ذلك, قلما يتعرضون للوم أزواجهن, كذلك ذكر ابن الحاج أن النساء في عصره يباشرن معظم أمور الشراء من الأسواق -بل الغالب أن المرأة تشتري لزوجها ما يحتاج إليه في لباسه لنفسه. فإذا لم يكن لهن حاجة من السوق, فإنهن يذهبن إلى الحمامات العامة، حيث يأنسن ببعض، أو يذهبن إلى الأعراس، التي لا انضباط فيها على القوانين الشرعية, وكثيرا ما خرجت النساء إلى القرافات والبرك والمتنزهات، وغيرها من أماكن اللهو والفرجة، حيث ينكشف ستر الحياء، وتختلط النساء بالرجال، الأمر الذي أثار الفقهاء ورجال الدين, فنادوا بمنع النساء من الخروج على ذلك الوجه, ولذلك حاول بعض الحكام منع النساء من الخروج إلى الطرقات, أو الذهاب إلى المقابر ومواضع النزهة، ولكن ذلك المنع لم يستمر إلًا زمنًا محدودًا، يعود بعده الحال إلى ما كان عليه من قبل.(1/329)
هذا عن نساء المدن ونصيبهن في الحياة العامة، أما الفلاحة في الريف, أو البدوية في البادية، فقد ظلت تواصل حياتها التقليدية المألوفة، وتنهض بنصيب في الحياة لا يقل عن نصيب الرجل جهدًا ومشقة، فعليها يقع عبء جلب مياه الشرب, وإعداد الطعام لزوجها وأطفالها، وخبز الخبز ... وما إلى ذلك.
أما عن ملابس المرأة، فقد اتصفت بالبساطة في أول الأمر, ومن الطبيعي أن يتنوع اللباس بتنوع الأقاليم وتباين طبيعتها ومناخها، فضلًا عن اختلاف الزيّ من عصر إلى آخر، تبعًا لاختلاط الشعوب والعادات, ومستوى المعيشة بين يسر وعسر. ولا ننسى أن كثيرًا من الشعوب التي دخلت في الإسلام وغدت جزءًا من الدولة العربية الإسلامية الكبرى -كالفرس والأتراك- إنما دخلوا بتراثهم وتقاليدهم وعاداتهم، وكانت لهم أشياؤهم التي تركت بصماتها واضحة في المجتمع العربي الإسلامي، وأزياء الرجال والنساء.
وكان المرأة العربية قبل الإسلام ترتدي ثوبًا بسيطًا مفتوحًا من الصدر، يتصف بالاتساع نوعًا، مما يتناسب مع البيئة الصحراوية، فلما جاء الإسلام أوصى بتحشم النساء وعدم إبداء زينتهن إلّا لبعولتهن، فصارت المرأة تلبس عباءة أو ملاءة فضفاضة فوق ثوبها.
ومع اتساع الدولة الإسلامية, وازدياد الثراء, واختلاط العربيات بأهل الشام ومصر وغيرهما من البلاد، أخذ زي المرأة يجنح نحو التعقيد والمبالغة، حتى إذا ما كان العصر العباسي ظهر الأثر الفارسيّ واضحًا في الحياة الاجتماعية، فاتخذت نساء الطبقات الراقية غطاء للرأس مرصعًا بالجواهر ومحلًّى بالذهب والأحجار الكريمة، كما اتخذن الزنانير في الوسط، والنعال المرصعة بالجواهر, أما الثياب: فقد استعملن فيها أنواعًا جديدة من الأقمشة الثمينة الرقيقة, وبها خيوط رفيعة من الذهب.(1/330)
ويمكن تقسيم ملابس النساء في ذلك العصر -أيام ازدهار المجتمع العباسي- إلى ثلاثة أقسام، يشمل القسم الأول: ألبسة البدن, والثاني: ألبسة الرأس, والثالث: ألبسة القدم, أما ألبسة البدن فمنها الداخلي ومنها الخارجي، وتتصف الأولى بالقصر, وعدم وجود أكمام منها؛ حيث إنها تلبس داخل الدار وعند الخلوة، ومنها القرقر والشوذر والصدار والغلالة والبدنة, وأما الثياب الخارجية، فكان يراعى فيها حسن المنظر والفخامة. وكانت على أقسام وأنواع متعددة، منها: الأثواب والقمصان، وهذه نسبت إلى البلاد التي اشتهرت بصنعها مثل الديبقية والطبرية, أو إلى العهد والخليفة الذي انتشر لبس الثوب في أيامه وبين حريمه، كالرشيدية, وقد تفننت النساء -وخاصة داخل القصور- في خياطة الثياب وتطريزها, حتى إن البدعة التي نراها اليوم من كتابة بعض الكلمات والعبارات على ملابس الفتيات، عرفت في تلك العصور، فكتبت بعض الأشعار والعبارات على أكمام القمصان، وعلى ذيلها، واستخدموا في ذلك الخيوط الذهبية وغيرها. قيل: إن جارية لبعض الهاشميين اسمها عريب, كتبت على قميصها بيتًا من الشعر نصه:
إني لأهواه مسيئًا ومحسنًا ... وأقضي على قلبي له الذي تقضي
أما لباس الرأس: فيتكون من المقابع والخمار والعصابة والبرنس، ويغلب عليها جميعًا اللون الأسود, ومن الطبيعي أن تتفاوت الملابس في قيمتها حسب مكانة المرأة ودرجة ثرائها؛ فثوب المرأة الغنية بلغت قيمته آلاف الدنانير؛ حيث كان يحلَّى غالبًا بالذهب واللؤلؤ والجواهر, كذلك كانت العصابة فوق رأسها ترصع بالدر والياقوت والأحجار الكريمة، وربما كتب عليها بعض الشعر بصفائح الذهب, أما المرأة الرقيقة الحال فكانت ترتدي الأسمال والخلقان المصنوعة من القطن أو الصوف, ومثل هذا يقال عن لباس القدم، فقد لبست المرأة الغنية النعال المرصعة بالجواهر، وربما صنع(1/331)
الخف من نسيج ديبقي يطلى بالمسك والعنبر حتى يتشبع ويتجمد ويلصق بالعنبر. ومن الواضح أن مثل هذا الخف ضعيف الاحتمال مع فداحة تكاليفه، وربما تلف بعد بضعة أيام فيلقى به ليستبدل بغيره, هذا في حين قنعت عامة النساء بالنعال والخفاف العادية المصنوعة من الجلد المتعدد الألوان.
وفي أواخر العصور الوسطى تعقدت ملابس المرأة وتباينت، وساعد على ذلك عدة عوامل، أولها: ازدياد نفوذ العناصر غير العربية في المجتمع، ووصول هذه العناصر الجديدة إلى مستوى الأرستقراطية الحاكمة في بعض أجزاء الوطن العربي، ولم تلبث أن غدت بحكم سيادتها قدوة لغيرها من الطبقات التي حاكتها في سلوكها ومظهرها, أما العامل الثاني: فهو الثراء الذي أصابته بعض الدول في تلك المرحلة -نتيجة لظروف اقتصادية معينة- مما ترك بصماته واضحة في الحياة الاجتماعية، وخاصة وضع المرأة وزينتها وملبسها. وقد أجمع الرحالة الأوروبيون الذين زاروا مصر في أواخر العصور الوسطى -بعد سقوط الخلافة العباسية في بغداد, وإحيائها في القاهرة- على تشابه ملابس كافة نساء المدن من حيث شكلها العام, ويمكننا تصور الملابس التي اعتادت أن ترتديها المرأة في ذلك العصر بقميص واسع طويل، تصل أطرافه إلى الأرض، له أكمام كبار واسعة، وفوق ذلك القميص سبلة أو إزار يغطي بدنها, ويعلو كافة ملابسها, ووصفت هذه السبلة بأنها بيضاء اللون بالنسبة لجميع المسلمات، وهذا يخالف ما تطور إليه الوضع بعد ذلك في بعض البلاد الإسلامية، عندما أصبح من المراعى في حبرة, أو تزييرة المرأة المتزوجة أن تكون سوداء اللون، ولا تلبس السبلة البيضاء سوى الآنسات.
وحرصت النساء عند خروجهن إلى الطريق العام على إخفاء وجوههن بحجاب, أو برقع أسود اللون, تضعه المرأة بطريقة لا تمكِّن أحدًا من رؤية وجهها، في حين تتمكن من رؤية كل ما يحيط بها, كذلك حرصت المرأة على(1/332)
تغطية الرأس والشعر، واستعملن لذلك الغرض الشاش، وهي عصبة تلبسها المرأة؛ بحيث يكون أولها عند جبينها, وآخرها عند ظهرها, ويكون شكلها العام مثل سنم الجمل، فيبلغ طولها نحو ذراع, وارتفاعها ربع ذراع, وأحيانًا يباهي في زخرفتها بالذهب واللؤلؤ. وتردد أيضًا في المصادر المعاصرة اسم المقانع التي تضعها النساء فوق رءوسهن، وهي مناديل قد تستعمل كذلك في تغطية الوجه, ومما يسترعي الانتباه في عصر سلاطين المماليك في مصر والشام, أن النساء عمدن أحيانًا إلى تقليد الرجال في زي الرأس، فلبسن الطواقي, وتعممن بالعمائم حتى اضطر السلاطين إلى المناداة: "بأن امرأة لا تتعمم بعمامة ولا تتزيا بزي الرجال، ومن فعلت ذلك بعد ثلاثة أيام سلبت ما عليها من الكسوة". هذا كله عدا "الأخفاف المثمنة" التي اعتادت النساء أن يلبسنها في أقدامهن.
وقد وصفت ملابس النساء في ذلك العصر بأنها من "الأقمشة الفاخرة", ذلك أن النساء في أواخر العصور الوسطى كثيرًا ما بالغن في ثيابهن, سواء من ناحية الهيئة أو القيمة. وقد بلغ الأمر بهن أحيانًا أن تفصل الواحدة قميصها من اثنين وتسعين ذراعًا من القماس البندقيّ الذي عرضه ثلاثة أذرع ونصف, وبذلك تصبح مساحة قميص المرأة أكثر من ثلثمائة وعشرين ذراعًا مربعًا. أما تكاليف مثل ذلك القميص فقد تجاوزت الألف درهم، ومثله الإزار الخارجي، في حين وصل ثمن خف المرأة إلى ما بين مائة وخمسمائة درهم.
ويبدو أن هذا الإسراف من جانب النساء دفع أهل الدولة إلى التدخل في تحديد ملابسهن، مثلما حدث في مصر سنة 751هـ، 793هـ, 850هـ، 876هـ. وفي هذه الأحوال يطوف المنادون في الطرقات والشوارع, محذرين النساء من لبس القميص الذي يزيد طوله عن اثني عشر ذراعًا، وأن لا تكون الأكمام مفرطة في الاتساع؛ كذلك صدرت الأوامر المشددة بمنع(1/333)
النساء من لبس الملابس الثمينة والبرد الحرير، وأخذت رسل المحتسب تطوف بالشوارع، فإذا وجدوا امرأة خالفت التعاليم ضربوها وجرسوها, وعلى سور القاهرة وأبوابها، نصبت أخشاب, وعلق عليها تماثيل على هيئة نساء، وعليهن القمصان الطوال، وذلك لتذكير النساء بعدم الإسراف وتخويفهن.
على أنه من الممكن التماس العذر لعامة النساء في مثل هذه التصرفات السابقة؛ لأنه من المعروف أن كل طبقة في المجتمع مولعة دائمًا أبدًا بمحاكاة من تعلوها من الطبقات، بمعنى: أن المستحدثات تنتقل دائمًا من أعلى إلى أسفل, وقد شهد المقريزي -شيخ المؤرخين في القرن التاسع الهجري- الخامس عشر للميلاد- بأن ما فعلته عامة نساء عصره في الملبس إنما كان من باب التشبه بما فعلته نساء السلاطين والأمراء؛ ففي حوادث سنة 793هـ, يعيب المقريزي على عوامِّ النساء أنهن تشبهن في الملبس بنساء الملوك والأعيان, وفي حوادث سنة 850هـ, يصف المقريزي كيف أن نساء السلاطين وجواريهن أحدثن ثيابًا طوالًا تسحب أذيالها على الأرض، ولها أكمام واسعة، سعة الواحدة منها ثلاثة أذرع، وعرف القميص منها بالهطلة, ثم يعقب المقريزي على ذلك بقوله: "وتشبه نساء القاهرة بهن في ذلك، حتى لم تبق امرأة إلّا وقميصها كذلك".
كذلك يلاحظ أن ملابس المرأة لم تظل على حال واحدة مدة طويلة في العصور الوسطى، بل غلب عليها كثرة التغيير والتبديل وظهور المستحدثات -الموضات- كعهدنا بملابسهن اليوم, وقد أخذ بعض المعاصرين على النساء أن لهن محدثات من المنكر، أحدثها كثرة الإرفاه والإتراف، وأهمل إنكارها حتى سرت في الأوساط والأطراف، فقد أحدثن الآن من الملابس ما لا يخطر للشيطان في حساب. وهكذا فإن ملابس النساء لم تبق على حال واحد من الطول أو القصر، والاتساع أو الضيق، وإنما تعرضت لتغيير(1/334)
مستمر في فترات متقاربة؛ فإذا كان الفقيه ابن الحاج قد أخذ على نساء مصر في القرن الثامن الهجري "تلك البدعة التي أحدثتها في ثيابهن من جعلها قصيرة وضيقة"، ودعا معاصريه إلى منع النساء من تلك الأكمام القصيرة التي أحدثنها ... فإن المقريزي في القرن التاسع الهجري عاب على نساء عصره إفراطهن في طول اثياب واتساعها، ومبالغتهن في اتساع الأكمام وطولها، حتى إن الواحدة إذا أرخت كمها فإنه يغطي رجلها. وللمؤرخ ابن تغري بردي عبارة يصف فيها زينة النساء في مصر في القرن الثامن الهجري -على أيام السلطان الناصر محمد بن قلاون- فيقول: "واستجد النساء في زمانه الطرحة، كل طرحة بعشرة آلاف دينار, وما دون ذلك إلى خسمة آلاف دينار، والفرجيات بمثل ذلك, واستجد النساء في زمانه الخلاخيل الذهب, والأطواق المرصعة بالجواهر الثمينة, والقباقيب الذهب المرصعة، والأزر الحرير، وغير ذلك....".
وبعد، فإن من المقاييس الأساسية التي يقاس بها رقي أي مجتمع أو أية حضارة, مكانة المرأة في ذلك المجتمع أو في تلك الحضارة, وإذا كان هناك شبه إجماع عالمي على أن الحضارة العربية الإسلامية هي أعظم حضارة عرفها العالم أجمع في العصور الوسطى، فإن هذا الحكم لم يأت على أساس تقدم هذه الحضارة في الآداب والعلوم والفنون فحسب، وإنما أيضًا على أساس رقي المجتمع العربي الإسلامي رقيًّا تشهد عليه مكانة المرأة واتساع دائرة نشاطها في ذلك المجتمع, وحسبنا دليلًا على ذلك: أن نقارن بين صورة المرأة في ظل الحضارة العربية الإسلامية -كما رأيناها- وبين ما كانت عليه من إذلال وامتهان في المجتمع الأوروبي المسيحي في العصور الوسطى, وكان أقصى ما لجأت إليه الكنيسة في تلك العصور للتخفيف عن المرأة هو ذلك القرار الطريف الذي أصدرته البابوية, والذي تحدد فيه حجم العصا -من ناحيتي السمك والطول- التي يجوز استخدامها في ضرب المرأة.(1/335)
مراجع:
القرآن الكريم - الكتاب المقدس - صحيح البخاري - صحيح مسلم.
أبو الفرج الأصفهاني: كتاب الأغاني.
ابن الحاج: المدخل.
الطبري: تاريخ الرسل والملوك.
المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك.
ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة.
قصص ألف ليلة وليلة.
أحمد محمد الحوفي: المرأة في الشعر الجاهلي.
جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي.
أحمد أمين: ضحى الإسلام.
مليحة رحمة الله: الحالة الاجتماعية في العراق.(1/336)
بسم الله الرحمن الرحيم
المؤسسات الاجتماعية في الحضارة العربية:
تتصف الحضارة العربية الإسلامية بأنها حضارة إنسانية مرنة, بلغت الحياة الاجتماعية فيها أقصى ما يمكن أن تبلغه في مجتمع من رقي ونضج, وقد ساعدت على ذلك عدة عوامل؛ منها: أن الدولة الإسلامية ضمت بلادًا -مثل مصر والشام وفارس- لها جذورها الحضارية القديمة، وعرفت ألوانًا من النشاط الاجتماعي في تاريخها القديم، شهدت عليه المنشآت الاجتماعية التي رأى العرب كثيرًا من بقاياها وآثارها، مثل الحمامات والمسارح وغيرها, ومنها: ما يشير إليه علماء الاجتماع, من أن البدوي إذا أصاب قدرًا من الثراء, وبسطة العيش, فإنه كثيرًا ما يقبل على الاستمتاع بملذات الحياة, ويجنح نحو التمتع بمباهجها, على أن أهم هذه العوامل دون شك أن الدين الإسلامي نفسه يجري من المبادئ والمثل ما يكفل للبشر حياة اجتماعية راقية متكاملة خالية من الشوائب, فلا تزمت ولا انغلاق ولا حرمان في الإسلام، وإنما ترك الله -سبحانه وتعالى- للمسلم حرية الاستمتاع بكل ما خلقه له من مباهج الحياة بشرطين لا خروج عنهما: أولهما الالتزام بالحلال وتجنب ما حرمه الله, وثانيهما: الاعتدال وعدم الإسراف, وفي حدود هاتين الدائرتين طلب من المسلم ألَّا ينسى نصيبه من الدنيا.
وكان أن ظهرت ألوان هذا النشاط الاجتماعي في مختلف أركان المجتمع؛ في القصور والبيوت، في الأسواق والطرقات، في المدن والريف.(1/339)
كذلك شارك في هذا النشاط مختلف طبقات المجتمع وفئاته: الحكام من خلفاء وأمراء ووزراء، والتجار والحرفيون، والعلماء والعامة، والزراع وأهل البادية، وذلك بنسب متفاوتة، وفق ما تسمح به ظروف كل طبقة, وحالة كل فرد.
ومن الطبيعي أن تبرز في الدولة الإسلامية مؤسسات ومنشآت ذات صبغة اجتماعية يتبلور فيها هذا النشاط الاجتماعي, ومن هذه المؤسسات ما كان ذا صبغة اجتماعية بحتة؛ كالحمامات والبيمارستانات والأسبلة. ومنها ما كان ذا مسحة تجارية أو دينية، ولكن احتوى نشاطًا اجتماعيًّا ملحوظًا، وأدَّى رسالةً ذات صبغة اجتماعية واضحة؛ كالفنادق والخانات والوكالات والجوامع والمدارس ومكاتب الأيتام وغيرها.
ويلاحظ على هذه المؤسسات أن كثيرًا منها اتخذ طابعًا خيريًّا، فاستهدف مؤسسوها من وراء إنشائها التقرب إلى الله تعالى, عن طريق فعل الخير، سواء بالعناية باليتيم والضعيف، أو بالمسافر والتاجر، أو بطالب العلم أو المريض ...
على أن الظاهرة الواضحة في التاريخ الإسلامي هي نجاح المؤسسات الاجتماعية في البقاء طويلًا، والاستمرار على مدى أجيال، وربما قرون في أداء رسالتها، وعدم توقفها عقب وفاة مؤسسيها, ذلك أنه من الملاحظ في كثير من حلقات التاريخ, وعديد من بلاد العالم, توقف مؤسسات خيرية ضخمة عن أداء رسالتها بعد فترة من الزمن، بسبب نضب مواردها وإفلاسها، مما يضطرها إلى طلب مساعدة الخيرين بين حين وآخر, أما في ظل الحضارة العربية الإسلامية، فإنه قلَّ أن نجد مثيلًا لهذه الظاهرة، وذلك بفضل نظام الأوقاف الذي ازدهر مع ازدهار هذه الحضارة.
ذلك أن مؤسس المنشأة -حاكمًا كان أو ثريًّا من الخيرين- كان يوقف عليها غالبًا وقفًا يدر عليها مرودًا ثابتًا يضمن لها البقاء والاستمرار في أداء(1/340)
رسالتها, دون حاجة إلى الاستجداء بين حين وآخر، أو دون خشية الإفلاس والتوقف عن أداء مسيرتها, ولم تقتصر هذه الأوقاف على الأراضي الزراعية فحسب، وإنما شملت الدور والقصور والأسواق والحوانيت والحمامات والأفران ومصانع الصابون, ومعامل ترقيد الفروج.... وغيرها مما يمكن أن يدر موردًا أو دخلًا منتظمًا.
والمعروف أن الأوقاف بمعناها الدقيق شرعت في الإسلام ليكون ريعها "صدقة جارية". ومن هذا المنطلق فإنها نهضت برسالة ضخمة في رعاية المؤسسات الاجتماعية والخيرية، الأمر الذي ساعد عليه عدم وجود سياسة محددة ثابتة للدولة في تلك العصور فيما يتعلق بالمسائل والأمور المرتبطة بالرعاية الاجتماعية والصحية -وهو ما نطق عليه اليوم اسم الضمان الاجتماعي؛ وإنما تركت هذه الأمور كلها لأحكام الشريعة الإسلامية، وما نصت عليه من فرض الزكاة على القادرين من جهة، وحثّ على فعل الخير وعمل الحسنات وتقديم الصدقات من جهة أخرى. ومن هنا برزت أهمية الوقف في توفير الرعاية الاجتماعية للطبقات الفقيرة والمحرومة, وكانت هذه الرعاية تزداد في المواسم والأعياد الدينية -وخاصة في شهر رمضان الكريم؛ إذ حرص الواقفون على التوسعة على الفقراء والمساكين والأيتام وطلاب العلم في المناسبات.
ومن أبرز المؤسسات والمنشآت الاجتماعية التي اشتهرت بها الحضارة العربية الإسلامية, تلك الخاصة برعاية الأيتام؛ ذلك أن الدين الإسلامي عني عنايةً خاصة بأمر اليتيم، فأمر بالإحسان إليه ورعايته وعدم قهره. وحسب المسلم أن يعلم أن النبي -عليه الصلاةوالسلام- ولد يتيمًا, فآواه الله -عز وجل، الأمر الذي جعل الخيرين يجدون في الإحسان إلى الأيتام خير وسيلة للقربى إلى الله, من ذلك ما جاء في ذكر أخبار أصفهان من أن أحد(1/341)
الصالحين كان يذهب بالأيتام يوم الجمعة إلى منزله ويدهن رءوسهم. وهكذا حتى انتشر نظام الأوقاف في الدولة الإسلامية، فحرص كثير من الخيرين على وقف الأوقاف على الأيتام, وإطعامهم وتعليمهم وكسوتهم. من ذلك ما جاء في إحدى وثائق الأوقاف التي ترجع إلى عصر سلاطين المماليك من أن "يكسى كل من الأيتام المذكورين في فصل الصيف قميصًا ولباسًا وقبعًا ونعلًا في رجليه، وفي الشتاء مثل ذلك، ويزاد في الشتاء جبة محشوة بالقطن".
وتجلت العناية بالأيتام في الإقبال على إنشاء مكاتب لتعليمهم ورعايتهم, ذلك أنه إذا كانت عملية التعليم في صدر الإسلام قد ارتبطت بالمساجد، فإن تعليم الصغار والصبيان داخل المساجد كانت أمرًا مكروهًا لم يستسغه الفقهاء, وقد جاء في كتب الحسبة أنه: "لا يجوز تعليم الأطفال في المسجد؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بتنزيه المساجد من الصبيان والمجانين؛ لأنهم يسودون حيطانها, ولا يتحرزون من النجاسات، بل يتخذون للتعليم حوانيت في الدروب وأطراف الأسواق ... ". كذلك روي أن الإمام مالك سُئِلَ عن تعليم الصبيان في المسجد فقال: "لا أرى ذلك يجوز؛ لأنهم لا يتحفظون من النجاسة".
ولما كان الميسورون يعملون أطفالهم في البيوت على أيدي مؤدبين ومعلمين مأجورين، فإن المشكلة تمثلت في تعليم الأطفال الفقراء والأيتام, ومن أجل هذا الغرض تسابق الخيرون إلى إنشاء مكاتب لتعليم هذا الفريق من الصبيان، ووقفوا على هذه المكاتب الأوقاف العظيمة, ويبدو أن هذه الظاهرة -ظاهرة انتشار المكاتب لتعليم الأيتام والفقراء من الصيان- كانت أكثر انتشارًا في المشرق منها في المغرب الإسلامي؛ لأنها استرعت نظر الرحالة المغاربة، حتى إن ابن جرير اعتبرها "من أغرب ما يحدث به من مفاخر هذه البلاد". وقد أشار هذا الرحالة إلى أنه من مآثر صلاح الدين(1/342)
المعبرة عن اعتنائه بأمور المسلمين "أنه أمر بعمارة محاضر "مكاتب", ألزمها معلمين لكتاب الله -عز وجل، يعلمون أبناء الفقراء والأيتام خاصة، ويجري عليهم الجراية الكافية لهم. كذلك ذكر الرحالة نفسه أنه شاهد في دمشق محضرة كبيرة للأيتام, لها وقف كبير يأخذ منه المعلم لهم ما يقوم به، وينفق منه على الصبيان ما يقوم به وبكسوتهم ... ".
وفي أواخر العصور الوسطى, انتشرت في الوطن العربي ظاهرة إنشاء مكاتب للصبيان من الأيتام والفقراء، فأقيم في عصر سلاطين المماليك الكثير منها، واهتم منشئوها بحبس الأوقاف عليها, للعناية بأمر الأيتام وتعليمهم, وتوزيع الغذاء والكساء عليهم. من ذلك مكتب السبيل, الذي انشأة السلطان الظاهر بيبرس بجوار مدرسته, وقرر لمن فيه من أيتام المسلمين الخبز في كل يوم, والكسوة في فصلي الشتاء والصيف. كذلك أنشأ السلطان قلاون مكتبًا لتعليم الأيتام، ورتب لكل طفل بالمكتب جراية في كل يوم، وجامكية في كل شهر، وكسوة في الشتاء وأخرى في الصيف. هذا مع ملاحظة أن الأمرلم يقف عند حد توفير الطعام والكساء, فضلًا عن معلوم شهري للأيتام، وإنما تعدى ذلك إلى توفير أدوات الكتابة لهم، من أقلام ومداد وألواح.
وقد خصص لكل مكتب مؤدب يساعده عريف, ويقوم المؤدب وعريفه بتعليم الصغار الكتابة وتحفيظهم القرآن, وجرت العادة أن يرتب الواقف مؤدبًا وعريفًا لكل خمسين يتيمًا، كحد أقصى لما يمكن أن يعهده به من الأيتام لمؤدب واحد يساعده عريف. وأطلق أحيانًا على المؤدب اسم الفقيه، واشترطت فيه عدة شروط خلقية واجتماعية وعلمية، كأن يكون متزوجًا، صحيح العقيدة، متدينًا، عاقلًا, من حملة كتاب الله العزيز، عالم بالقراءات السبع وروايتها وأحكامها، صالح لتعليم القرآن والحديث والخط والآداب(1/343)
والاستخراج. وأن يكون ممن اشتغل بالحديث والعلوم الشرعية، وأن يعلم الأطفال ما يطيقون تعلمه، وأن يعاملهم بالإحسان والتلطف والاستعطاف, فيما يرغبهم في القراءة, ويطيب لهم الاشتغال بالعلم ... ومن أتى منهم بما لا يليق أدبه، ويفعل ما أباحه الشرع، ولا يضرب الضرب المبرح ... ". وذلك وفق ما جاء في إحدى الحجج الشرعية، أما العريف: فاشترطت فيه الشروط الخلقية والدينية نفسها المطلوب توافرها في المؤدب، وطلب إليه معاونة الأطفال المتخلفين، كما كان يراجع ألواح الأطفال في غيبة المؤدب.
أما عن أسلوب التأديب وطريقة التعليم في هذه المؤسسات -المكاتب- فقد لخصها أحد كتاب الحسبة -هو ابن الأخوة- عندما ذكر أنه اشترط في المؤدب أن يترفق بالصغير، وأن يعلمه السور القصار من القرآن, بعد حذاقته بمعرفة الحروف وضبطها بالشكل، ويدرّجه بذلك حتى يألفه طبعًا، ثم يعرفه عقائد السنن, ثم أصول الحساب، وما يستحسن من المراسلات, وفي وقت بطالة العادة يأمرهم بتجويد الخط على المثال، ويكلفهم عرض ما أملاه عليهم حفظًا غائبًا لا نظرًا. ومن كان عمره سبع سنين أمر بالصلاة ... ويضربهم على إساءة الأدب والفحش من الكلام، وغير ذلك من الأفعال الخارجة على قانون الشرع؛ مثل اللعب بالكف والبيض والنرد, وجميع أنواع القمار. ولا يضرب صبيًّا بعصًى غليظةٍ تكسر العظم, ولا رقيقة لا تؤلم الجسم، بل تكون وسطًا, ويتخذ مجلدًا عريض السير، ويعتمد بضربه على الألايا والأفخاذ وأسافل الرجلين، لأن هذه المواضع لا يخشى منها مرض ولا غائلة، ويبنغي للمؤدِّب أن لا يستخدم أحد الصبيان في حوائجه وأشغاله ... ". فإذا مرض أحد صبيان المكتب، فإنه يتمتع بعلاج مجاني، ويجر عليه معلومه إلى حين زوال ضرره ... ".
وعندما يتم الصبي حفظ القرآن يحتفل به احتفالًا كبيرًا يسمى: "الإصرافة" فتزين أرض المكتب وحيطانه وسقفه بالحرير، ويقوم أهل(1/344)
الصبي صاحب الإصرافة بزينته، ثم يركبونه على فرس أو بغلة مزينة، ويحملون أمامه أطباقًا فيها ثياب من حرير وعمائم، ويسير بين يديه بقية صبيان المكتب، ينشدون طوال الطريق إلى أن يوصلوه إلى بيته, وعندئذ يدخل الشيخ ويعطي اللوح لأم صاحب الإصرافة، فتعطيه ما تقدر عليه من مال.
أما من يظل بالمكتب حتى البلوغ دون أن يحفظ القرآن, فكان يصرف ليحل محله أحد صغار الأيتام, وكان الطبيب يزور المكتب في كل شهر "عند تنزيل الأيتام، ويكشف من يظن به البلوغ منهم، فمن وجده بلغ، أخبر بحاله، فيقرر الناظر غيره مكانه". ولم يستثن من ذلك إلّا حالات قليلة، كأن يظهر أحدهم نبوغًا وميلًا للدرس مما يبشر بفلاحه، فعندئذ كان يستمر بالمكتب, ويمسح له بالاشتغال بالعلم، أو أن يكون أحدهم قد قارب من حفظ القرآن الكريم، فيمهل إلى حين ختمه.
وقد عينت لهذه المكاتب مواعيد ثابتة للدراسة، حددتها حجة الوقف الخاصة بكل مكتب؛ من ذلك أنه جاء في وثيقة السلطان قايتباي أن "الأيتام المذكورين يستمرون أيام حضورهم بالمكتب المذكور من طلوع الشمس إلى وقت العصر، فينصرفون حينئذ, وقبل انصرافهم يقرءون سورة الإخلاص والمعوذتين وفاتحة الكتاب والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم, ويدعون كالدعاء المذكور أعلاه، ما عدا يوم الخميس من كل جمعة, فإنهم يستمرون بالمكتب إلى الظهر, ويوم الجمعة بطالتهم، وكذلك أيام الأعياد والمواسم والأعذار الشرعية على العادة" ...
ومن المؤسسات الاجتماعية التي عرفتها المدن في الدولة العربية الإسلامية في العصور الوسطى, تلك الخاصة برعاية الفقراء والمعدمين, ذلك أن المدن -شأنها في كل زمان ومكان- اكتظت بأعداد كبيرة من المعدمين(1/345)
وأشباه المعدمين، وهؤلا كانوا موضع رعاية الحكام والقادرين، وخاصة في أوقات الغلاء والأزمات. من ذلك أن السلطان الظااهر بيبرس أوقف وقفًا لشراء الخبز وتوزيعه على المعدمين, كما اعتاد أن يتصدق كل سنة بعشرة آلاف أردب قمح على المساكين. أما السلطان المؤيد فدأب على إرسال بعض مماليكه للسؤال عن المحتاجين لسد حاجاتهم, وفي أثناء المجاعات اعتاد بعض سلاطين المماليك أن يكثروا من توزيع الأموال في سخاء على المساكين والمعدمين، كما يأمرون بجمع الفقراء وذي الحاجات وتوزيعهم على الأغنياء والأمراء، بحيث يلتزم كل منهم بإطعام عدد معين.
على أن الأمر لم يقتصر على رعاية هؤلاء الفقراء والمعدمين في حياتهم، بل أيضًا عند وفاتهم, ذلك أنه كان يحدث أن يموت الفرد ولا يوجد من يتكفل بدفنه, واتضحت هذه الظاهرة في أوقات انتشار الأوبئة والطواعين، عندما يتساقط الناس بالعشرات في الطرقات، وعندئذ تصبح الأموات على الأرض لا يوجد من يدفنها، على حد تعبير المقريزي. ولهذا السبب اهتم الخيرون من الحكام والأثرياء بإنشاء مؤسسات تنهض بتغسيل الأموات من الفقراء وتكفينهم، ثم دفنهم بعد الصلاة عليهم, وحتى تتمكن هذه المنشآت أو المؤسسات من النهوض برسالتها، وقفت عليها الأوقاف الكافية, ومن أشهر هذه الأوقاف "وقف الطرحاء" الذي جعله السلطان الظاهر بيبرس برسم تغسيل فقراء المسلمين وتكفينهم ودفنهم.
وقد أطلق على هذه المؤسسات الجنائزية الخاصة بتغسيل الموتى وتجهيزهم للدفن اسم: "مغاسل الموتى" و"مصليات الأموات", فكانت المغاسل يحمل إليها الموتى من الفقراء، ليغسلوا فيها حسب الشريعة، ويتم تجهيزهم بها للدفن من ريع الوقف الموقوف عليها، ثم يصلى عليهم صلاة الجنازة في مصليات صغيرة ملحقة بها، خصصت غالبًا للصلاة على الأموات عند تشييع الجنائز.(1/346)
وتتكون المغاسل عادةً من عمارة كبيرة, تضم مغسلًا للموتى, ينقسم إلى قسمين؛ أحدهما خاص بالرجال والآخر خاص بالنساء، فضلًا عن حواصل أومخازن لحفظ محتويات المغسل والأدوات المستخدمة في تجهيز الموتى, أما المصلاة الملحقة بالمغسل, فكان بها ميضأة بها قسقية للمياه, فضلًا عن حوض لسقي دواب المشيعين.
وقد وجد بالقاهرة في القرن الخامس عشر للميلاد-التاسع للهجرة, ما ينيف على الخمسة عشر من هذه المغاسل والمصليات، على قول عبد الباسط ابن خليل في الروض الباسم, وجرت العادة أن تقام هذه المغاسل والمصليات في أطراف المدينة وخارج أبوابها، فكانت توجد واحدة عند باب النصر, وأخرى خارج باب زويلة. ومن أشهر المغاسل، المغسل الذي أقامه الأمير يشبك بن مهدي, قرب مدرسة السلطان حسن بالقاهرة, في طرفها الشمالي الشرقي, سنة 823هـ-1469م، وقد أشار إليه كل من السخاوي وابن تغري بردي وابن إياس.
ولم يكن اليتامى والفقراء والمساكين وحدهم موضع رعاية المجتمع في ظل الحضارة العربية الإسلامية، وإنما حظي المرضى أيضًا بقدر كبير من الرعاية الاجتماعية، مما لا نظير له في العصور الوسطى، والمعروف عن الإسلام أنه نادى بالتخفيف عن المريض ورعايته، كما حثَّ على الاشتغال بالطب وإجادته، حتى أنه روي عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "العلم علمان؛ علم الأديان, وعلم الأبدان".
ومن أجل ذلك خضعت مزاولة مهنة الطب لإشراف دقيق من جانب الدولة, وقد نصَّت كتب الحسبة المعاصرة على أن يقوم مقدم الأطباء بامتحانهم؛ فمن وجده مقصرًا في عمله, أمره بالاشتغال وقراءة العلم, ونهاه عن المداواة. كذلك يحكى عن الخليفة المقتدر العباسي أنه علم سنة 319(1/347)
هـ "931م" أن رجلًا مات نتيجة لخطأ طبيب، فأمر الخليفة المحتسب بمنع أي طبيب من مزاولة المهنة إلّا بعد امتحانه، باستثناء شيوخ الصنعة المشهورين بالمهارة فيها, أو مَنْ كان في خدمة الخليفة من الأطباء, وعهد إلى كبير أطباء زمنه -سنان بن ثابت- بامتحان الأطباء، فتقدم للامتحان في مدينة بغداد وحدها ثمانمائة ونيف وستون طبيبًا، وهو أكبر عدد من الأطباء شهدته مدينة في العالم طوال العصور الوسطى.
وجاءت هذه الرعاية الطبية مصحوبة بإقامة مؤسسات لمداواة المرضى وعلاجهم، وهي التي أطلق عليها اسم بيمارستانات. ويروي المقريزي أن أول دار أسست لمداواة المرضى في الإسلام, بناها الخليفة الوليد بن عبد الملك الأموي سنة 88هـ, وجعل فيه الأطباء, وأجرى عليهم الأزراق. كذلك أمر بمنع المجذومين من سؤال الناس، وخصص لهم الأعطيات، كما أعطى كل مقعد خادمًا يهتم بأمره، وكل ضرير قائدًا يسهر على راحته, وهكذا حتى قامت الخلافة العباسية، فأقام البرامكة بيمارستانًا في عهد الخليفة الرشيد، أسندت رياسته إلى ماسويه, ثم إلى ابنه يوحنا بن ماسويه. ويحكى عن طاهر ابن الحسين -قائد الخليفة المأمون- أنه كتب إلى ابنه عبد الله "وانصب لمرضى المسلمين دورًا توقيهم، وقوامًا يرفق بهم، وأطباء يعالجون أسقامهم".
ولم تلبث البيمارستانات أن ازدادت زيادة واضحة في الدولة حتى بلغت سنة 304هـ-916م, خسمة تقلدها الطبيب الشهير سان بن صابت، وهو غير مسلم, ويرجع الفضل إلى هذا الطبيب في إنشاء بيمارستانين كبيرين؛ أحدهما: سُمِّيَ البيمارستان المقتدري, نسبة إلى الخليفة المقتدر الذي تولى الإنفاق عليه من ماله الخاص, أما البيمارستان الثاني: فكان تحت رعاية السيدة أم المقتدر, ثم كان أن أسس الوزير ابن الفرات مارستانًا آخر في بغداد سنة 311هـ-923م, حتى إذا ما استولى بجكم على بغداد، أكرم(1/348)
الطبيب سنان بن ثابت وعظَّمه، فأشار عليه سنان بإقامة مارستان جديد سنة 329هـ-941م, فوق ربوة جميلة على الشاطئ الغربي لدجلة، كانت تحمل قصر هارون الرشيد من قبل, وظل هذا المارستان قائمًا زمنًا طويلًا، حتى جدده عضد الدولة عام 368هـ-978م" وافتتحه بعد ذلك بثلاثة أعوام، وزوده بالأطباء والمعالجين والخزان والبوابين والوكلاء والنواطير.
وبالإضافة إلى بغداد ومدن العراق، فإن المدن الكبرى في الولايات والأمصار والدويلات التي تفرعت عن الدولة العباسية -مثل شيراز وأصفهان ودمشق- شهدت قيام بيمارستانات على مستوى كبير من العظمة والاتساع, وقد شيَّدَ نور الدين محمود بن زنكي بيمارستانًا في دمشق، اعتبره الرحالة ابن جبير مثابة مفخر عظيم من مفاخر الإسلام ... وله قومة بأيديهم الأزمَّة المحتوية على أسماء المرضى، وعلى النفقات التي يحتاجون إليها من الأدوية والأغذية وغير ذلك. والأطباء يبكرون إليه في كل يوم, ويتفقدون المرضى, ويأمرون بإعداد ما يصلحهم من الأدوية والأغذية حسبما يليق بشأن كل منهم" ... ويضيف ابن كثير أن نور الدين وقف هذا البيمارستان على الفقراء دون الأغنياء، اللهم إذا لم يجد الأغنياء دواءً مسقمًا لعللهم، إلّا في هذا البيمارستان، مما يؤكد الهدف الاجتماعي من إنشائه. ومن هذا المنطلق, فإن نور الدين محمود نفسه شرب من دوائه.
على أن مصر بالذات تعطينا أوضح صورة لما كانت عليه البيمارستانات في ظل الحضارة العربية الإسلامية. والمعروف أن أحمد بن طولون أقام أول بيمارستان كبير في مصر، وذلك عام 259هـ-873م, وحتى يحقق هذا البيمارستان هدفه على أوسع نطاق، فإنه اشترط ألَّا يعالج فيه جندي ولا مملوك, فإذا وصله العليل تنزع ثيابه ونفقته وتوضع عند أمين المارستان، ثم يلبس الثياب الخاصة بالمرضى، ويفرش له فراش خاص به, ويعالج حتى يبرأ, أما علامة شفائه فهي أن يأكل فروجًا ورغيفًا، فإذا فعل ذلك أعطي ماله(1/349)
وثيابه, وسمح له بالانصراف, وفي حالة وفاة المريض فإنه يجهز, ويكون على نفقة المارستان، وفي ذلك يقول سعيد القاص -أحد المعاصرين:
ولا تنس مارستانه واتساعه ... وتوسعة الأرزاق للحول والشهر
وما فيه من قوامه وكفاته ... ورفقهم بالمعتفين ذوي الفقر
فللميت المقبور حسن جهازه ... وللحي رفق في علاج وفي جبر
ويذكر المقريزي أن ابن طولون أنفق على هذا البيمارستان ستين ألف دينار، وأنه كان يركب بنفسه في كل يوم جمعة ليتفقد أحوال المرضى.
وقد أشار ابن جبير والحنبلي وابن واصل والمقريزي إلى المارستانات الأيوبية الثلاثة، فقال أولهم -نقلًا عن متجددات القاضي الفاضل- إن صلاح الدين أمر سنة 577هـ-1182م, بفح المارستان الصلاحي في القصر الفاطمي الكبير, وخصصه للمرضى والضعفاء، وأفرد برسمه من أجرة الرباع الديوانية مائتي دينار كل شهر وغلات من الفيوم، وقد وصف ابن جبير هذا البيمارستان فقال: إنه قصر من القصور الرائعة حُسْنًا واتساعًا، عيَّنَ له صلاح الدين قيِّمًا من أهل المعرفة، ووضع لديه خزائن العقاقير، ومكَّنَه من استعمال الأشربة، وإقامتها على اختلاف أنواعها، وجعل تحت إشرافه خَدَمَة يتكفلون بتفقد أحوال المرضى بكرة وعشية، في حين خصص جزء من القصر للنساء المرضى، ولهن أيضًا من يكفلهن. وبالإضافة إلى ذلك أمر صلاح الدين بإعادة فتح مارستان الفسطاط القديم، وأفرد برسمه من متحصلات ديوان الأحباس ما قيمته عشرون دينارًا يوميًّا، وكذلك الحال في المارستان السكندري.
ولعل أشهر بيمارستانات مصر في أواخر العصور الوسطى, هو البيمارستان المنصوري, الذي أنشأه السلطان المنصور قلاون سنة 689هـ-1290م، والذي استرعى إعجاب من شاهده من الرحالة والمعاصرين.(1/350)
فالرحالة ابن بطوطة قال عنه: "يعجز الواصف عن محاسنه"، والبلوي المغربي وصفه بأنه: "قصر عظيم من القصور الرائعة حُسْنًا واتساعًا, لم يعهد مثله بقطر من الأقطار".
وقد جاء في وثيقة وقف السلطان المنصور قلاون عن هذا البيمارستان، أن السلطان خصصه "لمداواة مرضى المسلمين الرجال والنساء، من الأغنياء المثرين والفقراء المحتاجين، بالقاهرة ومصر وضواحيهما، من المقيمين بهما والواردين إليهما من البلاد والأعمال على اختلاف أجناسهم وأوصافهم وتباين أمراضهم ... يقيم به المرضى الفقراء من الرجال والنساء لمداواتهم إلى حين بروئهم وشفائهم, ويصرف ما هو فيه معد للمداواة، ويفرق للبعيد والقريب والأهلي, وللغريب والقوي والضعيف، والدني والشريف، وللعلي والحقير، وللغنيّ والفقير ... ".
ويفهم مما ورد في الوثائق والمصادر المعاصرة عن هذا البيمارستان أنه كان مؤسسةً صحيةً واجتماعيةً ضخمةً، مقسَّمًا إلى قسمين كبيرين؛ أحدهما للذكور, والآخر للإناث, وكل قسم منهما مقسَّم بدوره إلى قاعات: قاعة للأمراض الباطنية، وقاعة للجراحة، وقاعة للكحالة -أمراض العيون, وقاعة للتجبير -العظام, وكانت قاعة الأمراض الباطنية مقسمة بدورها إلى أقسام فرعية، قسم للمحمومين -وهم المصابون بالحمى، وقسم للمحرورين -وهم مرضى الجنون بالسعي، وقسم للمبرودين -أي المتخومين، وقسم لمن به إسهال ... ولكل قسم رئيس وعدد من الأطباء المتخصصين. ويذكر النويري أنه خصص لكل مريض فرش كامل مستقل من التخوت والطراريح والمخدات واللحف والملاءات ... ". وبالإضافة إلى الأطباء القائمين على علاج المرضى، وجدت صيدلية ضخمة لتركيب الأدوية وتجهيزها، هذا فضلًا عن عدد كبير من الفراشين والفراشات لخدمة المرضى وغسل ثيابهم، كما زود بمطبخ كبير لإعداد الطعام اللازم للمرضى.(1/351)
وتوضح حجة وقف السلطان المنصور قلاون الخدمات التي كانت تقدم للمرضى في ذلك البيمارستان، وهي خدمات لم تقتصر على توفير الفرش والدواء والغذاء لهم، وإنما تعدت ذلك إلى صرف مراوح من الخوص ليستخدمها المرضى في التخفيف من حدة حرارة الصيف. كل ذلك مع مراعاة القواعد الصحية الدقيقة، مثل الحرص على تغطية غذاء المرضى حتى لا يتلوث، وآنية مستقلة لكل مريض يستعملها في غذائه وشرابه، لا يشاركه فيها غيره، فضلًا عن فراشه المستقل.
وإتمامًا لرسالة البيمارستان الاجتماعية، فإن المريض عندما يبرأ ويصرَّح له بالخروج، كان يعطى إحسانًا يستعين به على الحياة حتى يباشر عمله الذي يتقوت منه، وكذلك ينعم عليه بكسوة, ثم إن فائدة هذا البيمارستان لم تقتصر على النازلين به من المرضى، وإنما اتسعت دائرة نشاطه لتشمل أولئك الذين يؤثرون بالبقاء في منازلهم، وهؤلاء كان يرسل لهم من البيمارستان المنصوري كل ما يحتاجون إليه من الأدوية والأشربة والإغذية. وذكر النويري -الذي باشر بنفسه نظر البيمارستان المنصوري نحوًا من أربع سنوات- أن عدد المرضى الذين كانوا يعالجون في بيوتهم تحت رعاية البيمارستان المنصوري تجاوز المائتين, يضاف إلى هؤلاء المرضى الذين يحضرون إلى المستشفى للكشف عليهم، وإعطائهم ما يلزمهم من دواء، ثم ينصرفون بعد ذلك، وهو ما نسميه في مستشفياتنا الحديثة قسم العيادة الخارجية, وهكذا قدر عدد الداخلين إلى البيمارستان المنصوري والخارجين منه في اليوم الواحد بعدة آلاف، على قول المقريزي.
أما إذا قدر الموت لأحد مرضى البيمارستان المنصوري، فإن وثيقة الوقف نصت في هذ الحالة على أن "يصرف الناظر ما تدعو الحاجة إليه من تكفين من يموت بهذا البيمارستان من المرضى والمختلين من الرجال والنساء، فيصرف ما يحتاج إليه برسم غسله، وثمن كفنه وحنوطه، وأجرة غاسله،(1/352)
وحافر قبره، ومداراته في قبره، على السنة النبوية، والحالة المرضية ... ".
واشتدت الرعاية بالمصابين بأمراض خطيرة سريعة العدوى -مثل الجذام- فكانت تخصص لهم مصحات خارج المدن. ويذكر ابن الفرات والعيني, كيف حرص الحكام على إخراج البرصاء والمجذومين من المدن المكتظة إلى حيث كانت تقام لهم مستعمرات خاصة لعلاجهم.
ولم يهمل المجتمع أمر المصابين بأمراض عقلية، فكانت تخصص لهم أقسام في بعض البيمارستانات الكبرى لرعايتهم وعلاجهم، وربما أنشئت لهم مصحَّات خاصة بهم؛ من ذلك ما ورد في العقد الفريد, وفي جغرافية اليعقوبي من وجود بيمارستان خاص بالمجانين في جنوب بغداد، وهو دير هرقل القديم، على مرحلة في طريق واسط, وفي بيمارستان أحمد بن طولون بمصر، كان هناك قسم خاص بالمجانين، ويقال أن أحدهم غافل الحراس أثناء مرور أحمد بن طولون على عادته كل يوم جمعة لمواساة المرضى، ورماه برمانة كادت تقضي عليه. وقد أشار الرحالة ابن جبير إلى أن مارستان دمشق كان به قسم للمجانين -لهم ضرب من العلاج, وفي القاهرة, ذكر ابن جبير أن البيمارستان الذي عاينه بالقاهرة كان به "موضع آخر متسع الفناء، فيه مقاصير عليها شابيك الحديد، اتخذت محابس للمجانين، ولهم أيضًا من يتفقد في كل يوم أحوالهم، ويقابلها بما يصلح لها. والسلطان صلاح الدين يتطلع هذه الأحوال كلها بالبحث والسؤال، ويؤكد الاعتناء بها والمثابرة عليها غاية التأكيد ... ".
ومن الثابت أن المجانين لقوا قدرًا من الرعاية النفسية في ظل الحضارة العربية الإسلامية لا نظير له في أية حضارة أخرى سابقة. حقيقة إن الرحالة ابن جبير وصف المجانين في بيمارستان دمشق بأنهم كانوا "معتقلين ... وهم في سلاسل موثوقون"، ووصف المقاصير التي حجزوا فيها داخل(1/353)
بيمارستان القاهرة بأن عليها "شابيك الحديد"، وأنها "اتخذت محابس للمجانين", ولكن علينا أن نذكر أن هذه الإجراءات وقائية، وأنه لابد من اتخاذ إجراءات أمنية شديدة في مصحات الأمراض العقلية، واتخاذ كافة الاحتياطات التي تحول دون فرار أحد نزلائها، لما قد يترتب على ذلك من مخاطر تحل بالمجتمع, وفيما عدا ذلك فإننا نقرأ في المصادر المعاصرة عن مدى الرعاية التي حظي بها نزلاء المصحات العقلية التي عرفها العرب في العصور الوسطى, وحسبهم أنه كان يخصص لكل واحد منهم مرافق يأخذه باللين والرفق ويصحبه بين الزهور والخضرة، ويسمعه ترتيلًا هادئا من آي الذكر الحكيم ...
ومن المؤسسات الاجتماعية ذات الأهمية البالغة في الحضارة العربية الإسلامية السبل، التي قصد بها توفير ماء الشرب للمسافرين وعابري السبيل وجموع الناس، سواء داخل المدن أو خارجها, ومن المعروف أن إمداد العطشان بماء الشرب لا يقل خطورة وأجرًا وثوابًا عن إطعام المسكين وإيواء اليتيم ومداواة المريض, وقد ورد ذكر السقاية في أكثر من موضع في القرآن الكريم، كقوله تعالى: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} و {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} و {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} و {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا، عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} ويقال في اللغة: أسبل الرج الماء, أي: صبه، كما جاء السبيل بمعنى الطريق، ومن هنا صار السبيل: هو الموضع المعد لاستقاء الماء، وتيسير الحصول عليه للناس.
والمعروف أن إقامة الأسبلة عادة متبعة عتد جميع الملل، ولكنها ازدهرت في ظل الحضارة العربية؛ إذ وجد المسلمون فيها قدرًا كبيرًا من حسن الثواب, ومع توافر الإمكانيات الحديثة للحصول على الماء اللازم للشرب، إلّا أن هذه النزعة ما زالت غالبة على البعض حتى اليوم، فنرى أحيانًا في(1/354)
المدن الكبرى أمام بعض المنازل, وعلى قارعة الطريق, بعض الأواني الفخارية المليئة بالماء، وبجوارها الكيزان لتوفير ماء الشرب للعطشى من عابري السبيل, ولكن الأمر اختلف في العصور الوسطى لعدم توافر ماء الشرب في كثير من الأماكن, وصعوبة نقله من مكان إلى آخر, ولذا كانت الأسبلة التي أقامها الخيرون بمثابة منشآت كبيرة، روعي فيها أن تخدم أعدادًا وفيرة من الناس، ووضعت لها غالبًا نظم وقواعد مرعية تكفل الوقاية الصحية، ووقفت عليها الأوقاف السخية التي تضمن لها الاستمرار في أداء مهمتها من ناحية, وسد نفقاتها وأجور العاملين بها من ناحية أخرى.
وهكذا انتشرت الأسبلة في المشرق والمغرب جميعًا؛ من ذلك ما يقوله ابن حوقل: "وقلَّ ما رأيت خانًا أو طرف سكة, أو محلة, أو مجمع ناس إلى حائط بسمرقند يخلو من ماء جمد مسبل. وذكر لي من يرجع إلى خبره أن بسمرقند في المدينة وحيطانها -فيما يشتمل عليه السور الخارج- زيادةً على ألفي مكان، يسقي فيه ماء الجمد مسبلًا عليه الوقوف، من بين سقاية مبنية, وحباب نحاس منصوبة، وقلال خزف في الحيطان".
ومن الواضح أن الرغبة في توفير ماء الشرب للعطشى كانت تزداد في الأماكن المقدسة طلبًا لحسن الثواب؛ من ذلك ما يقال من أن السيدة زبيدة زوجة الرشيد وأم الأمين, أدركت عندما حجت إلى بيت الله سنة 186هـ ما يعانيه أهل مكة من المشاق في الحصول على ماء الشرب، وعندئذ أمرت خازن أموالها أن يدعو المهندسين والعمال من أنحاء البلاد، وقالت له: "اعمل ولو كلفتك ضربة الفأس دينارًا". وكان أن وفد على مكة أكفأ المهندسين والعمال، ووصلوا بين منابع الماء في الجبال، وشقوا طريقًا تحت الصخور من عين حنين إلى الحرم، مما خفف عن الحجاج عناء العطش على مر العصور حتى اليوم.(1/355)
كذلك حظي القدس الشريف بعناية الخيرين من حكام المسلمين، وخاصةً أن مدينة بين المقدس قليلة المياه. تجلب إليها عن طريق عين العروب, ولذا كان لابد من إنشاء الأسبلة فيها لتوفير مياه الشرب من ناحية، وللوافدين على المسجد الأقصى من ناحية أخرى. وهنا نلاحظ على تلك الأسبلة أن معظمها يقع على الطريق الرئيسي المؤدي إلى قبة الصخرة والمسجد الأقصى؛ ليتوافر للمصلين ماء الشرب قبل وصولهم إلى المسجد الأقصى لأداء فريضة الصلاة.
والملاحظ على معظم الأسبلة المقامة في ساحة الحرم القدسي, أنها أقيمت على آبار تتجمع فيها مياه الأمطار. ومن أشهر هذه الأسبلة، ذلك الذي أقامه السلطان إينال -حاكم دولة المماليك في مصر والشام, 857-869هـ: 1453-1461م، وهو السبيل الذي قام بإصلاحه وتجديد عمارته فيما بعد كلٌّ من السلطان المملوكي قايتباي والسلطان العثماني عبد الحميد, ويحتوي هذا السبيل الكبير على طابقين، الأول: عبارة عن بئر محفورة في الأرض لتخزين ماء الأمطار، تعلوها خرزة -أي: سقف أو غطاء من الرخام أو الحجر- أما الطابق الثاني: فيرتفع عن سطح الأرض حوالي متر، وتوجد بها المزملة لتوزيع الماء على الراغبين فيه, ويقوم المزملاتي برفع الماء من البئر بواسطة قنوات تجري تحت البلاط المصنوع من الحجر الصلد، وينتهي الماء إلى فتحات معدة لرفع الماء، قطر نافذة كل فتحة منها حوالي عشرين سنتيمترًا, وكان الماء يرفع من هذه الفتحات بواطسة كيزان مربوطة بسلاسل مثبتة بقضبان النوافذ. أما طريقة تشغيل السبيل، فكانت تتم بواسطة بكرة فوق البئر، محمولة على خشبة مربوط بها حبل, وكان بطرف الحبل سطل يرفع به المزملاتي الماء إلى القنوات الموجودة تحت بلاد المزملة، فيجري إلى النوافذ القائمة عند فتحات القنوات, وكان طالب الماء يصعد على سلالم موجودة أسفل كل نافذة إلى حيث يجد الماء فيحصل على حاجته بالكوز.(1/356)
وروعي في الأسبلة أن تظل على أماكن مطروقة لتكتمل بها الفائدة, ولذا نجدها كثيرًا على الطرق الرئيسية بين المدن والأمصار، وخاصة طرق القوافل التي تنقل الحجاج والتجار -كتلك التي تمتد بين مصر وبلاد الشام وا لحجاز، وخاصة أن هذه الطرق كثرت بها محطات للمسافرين، فكان لابد من توافر الماء فيها, من ذلك ما رواه ابن جبير في طريقه من حمص إلى دمشق؛ إذ نزل في خان, وفي هذا الخان ماء جار، يتسرب إلى سقاية في وسط الخان، كأنها صهريج، ولها منافس ينصب منها الماء في سقاية صغيرة مستديرة حول الصهريج". أما ابن بطوطة, فقد أشار إلى الخانات التي مر بها ونزل فيها في الصحراء الشرقية بين مصر والشام، وقال: "إن بخارخ كل خان ساقية للسبيل".
على أن أعظم نماذج الأسبلة في الإسلام كان في مصر بالذات، حيث أخذت ظاهرة إنشائها تنتشر منذ القرن السادس الهجري، وأقبل السلاطين والأمراء -ونساؤهم- في عصري الأيوبين والمماليك على إقامتها على الطرق العامة المطروقة، لتعم فائدتها، ويتيسر تسبيل الماء وشرب المارين والواردين. ومازال كثير م مباني الأسبلة الأثرية قائمًا بالقاهرة, تسترعي النظر بفنها وجمال عمارتها، وما على واجهتها من آيات قرآنية، مثل: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم} و {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا، عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} و {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} و {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ، خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} ، مما يشير إلى الوازع الديني الخيري وراء إقامة الأسبلة، وهو الوازع الذي جعل منشئيها يحرصون على وقف الأوقاف السخية عليها، ووضع الشروط والضمانات -في الحجج الشرعية الخاصة بأوقافهم- ليكفلوا لهذه المؤسسات الاجتماعية أداء رسالتها على خير وجه.
هذا، ونلاحظ على الأسبلة التي أنشئت بالقاهرة على عصر سلاطين(1/357)
المماليك أنها على ثلاثة أنواع: منها السبيل القائم بذاته كوحدة معمارية, دون أن يكون مرتبطًا بمنشأة خيرية أخرى، ومن أمثلة هذا النوع سبيل الأمير شيخو الملكي الناصري, ومنها: السبيل ذو الكتاب، ويعلوه كتاب لتعليم أيتام المسلمين، مثل: سبيل السلطان المنصور قلاون, والنوع الثالث: هو السبل الذي يعتبر جزءًا من مجمع خيري كبير؛ يضم مسجدًا ومكتبًا للأيتام وسبيلًا، وربما حلَّت محل المسجد خانقاه أو زاوية أو مدرسة أو وكالة, ومن أمثلة هذا النوع سبيلان بكتَّاب ملحقان بخانقاه فرج بن برقوق، وسبيل ملحق بمنشأة إينال.
والغالب أن مبنى السبيل نفسه كان يتكون من ثلاثة طوابق؛ أولها: الصهريج -ويكون تحت الأرض- وتحمل عقوده على أعمدة، وله غطاء من الرخام أو الحجر يسمى خرزة, والطابق الثاني يقع على مستوى الطريق أو فوقه بقليل، ومن هذا الطابق تقع المزملة؛ لتوزيع ماء الشرب على الناس بواسطة كيزان من النحاس مربوطة بسلاسل, أما الطابق الثالث: فكان يعلو مبني السبيل، وبه مكتب لتعليم أيتام المسلمين, وغالبًا ما كانت توجد بالسبيل مظلة أو أكثر لوقاية من يشرب من السبيل من حرارة الشمس.
وهنا نلاحظ فارقًا واضحًا بين الأسبلة المقامة في مصر والقاهرة, وتلك التي أقيمت في معظم بقية أنحاء العالم الإسلامي، وخاصة القدس والشام والحجاز, ذلك أن الأخيرة كانت تقام على آبار تجمع لها مياه الأمطار، وهي بذلك تختلف عن أسبلة القاهرة؛ حيث يوضع صهريج تحت السبيل ينقل إليه الماء -ماء النيل غالبًا- عن طريق السقا, وقلما يوجد في القاهرة سبيل إلّا وتحته صهريج -هو المصنع المشيد تحت سطح الأرض لخزن ماء النيل فيه- وكلما فرغ ماء السبيل ملئ من الصهريج، حتى ينفد ماء الصهريج على ميعاد ملئه من العام التالي. وقد نص بوضوح في حجج الأوقاف على هذه الأسبلة، على أن يكون ماؤها عذبًا من "بحر النيل المبارك"، بمعنى عدم(1/358)
ملئها من مياه الآبار, كذلك كان يراعى أن يكون ملء صهاريج الأسبلة كل عام زمن فيضان النيل -أي: عند زيادته- حتى يكون الماء جاريًا، وفي أطيب أحواله.
وكان يتولى تسبيل الماء وتوزيعه على طالبيه المزملاتي، الذي اشترطت فيه شروط جسمية، وخلقية خاصة، كأن يكون سالمًا من العاهات والأمراض -وبخاصة الجذام, وأن يسهل الشرب على الناس، ويعاملهم بالحسنى والرفق، ليكون أبلغ في إدخال الراحة على الواردين، صدقة دائمة وحسنة مستمرة ... "، وفق ما جاء في وثيقة وقف السلطان فرج بن برقوق, كذلك كان على المزملاتي أن يتعهد الرخام والدهاليز في السبيل بالكنس والمسح، ومن أجل ذلك روعي تزويد الأسبلة بأدوات متنوعة مثل سلب الليف أو الكتان، وسفنج لمسح أرض السبيل، وبخور لتبخير الأواني، ومكانس ... هذا فضلًا عن الأدلية الجلد، والبكر، وآنية الشرب والكيزان، والأباريق والقلل الفخار، والطشوت والأسطال النحاس وغيرها.
كذلك يلاحظ أن ثمة مواقيت معينة حددت لتسبيل الماء، فكانت عملية التسبيل تستمر غالبًا طوال النهار من شروق الشمس حتى غروبها، وربما استمرت من بعد الغروب إلى أن تمضي حصة من الليل, عندما يأوي الناس إلى مساكنهم, وتنقطع الرجل عن الطرقات, أو في شهر رمضان, فكان تسبيل الماء يستمر من وقت الغروب إلى ما بعد صلاة التراويح, ثم من وقت التسبيح إلى الفجر.
هذا، وبالإضافة إلى الأسبلة التي يشرب الناس منها مجانًا، وجد أناس محترفون يتكسبون من وراء سقاية المارة بالأسواق، وهؤلاء هم سقاءو الكيزان, وأرباب الروايا والقرب والدلاء, وكان هؤلاء يخضعون لإشراف دقيق مباشرة من قبل المحتسب، وفي ذلك يقول ابن الأخوة في كتابه معالم(1/359)
القربة: "أما سقاة الماء في الكيزان؛ فيؤمروا بنظافة أزيارهم وتغطيتها، وافتقادها بالغسل بعد كل قليل من الوسخ المتجمع فيها، ويغسلوا الكيزان ويجلوها بشقفها وبالأشنان في كل يوم، ويبخروها، فإنها تتغير من أفمام الناس ونكهتهم ... وينبغي أن يتخذ للأزيار أغطية من خوص مصلبة بجريد، ولا يسقى أحد من كوز الزير، ولا يدخل يده في الزير وهي زفرة، ويجتهد في نظافة حانوته وبدنه وثيابه ... ".
وفي ختام كلامنا عن هذا النوع من المؤسسات الاجتماعية التي قصد بها توفير ماء الشرب للناس، تصح الإشارة إلى ثمة منشآت أخرى، حرص الخيرون إلى إقامتها لتوفير ماء الشرب للدواب، مما يدل على اتساع أفق الحضارة العربية الإسلامية، بحيث شملت بعنايتها الحيوان، فضلًا عن الإنسان. وقد تعددت أحواض المياه التي أنشأها الخيرون، ووقفوها سبيلًا لله، لسقي الدواب؛ من ذلك ما جاء في وصف خانقاه الأمير طغاي النجمي، أنه بنى بجانبها حمامًا, وعمل بجانب الحمام ماء للسبيل ترده الدواب، ووقف على ذلك عدة أوقاف". كذلك جاء في وثيقة وقف السلطان قايتباي ما نصه: " ... ووقف حوض السبيل المذكور أعلاه، بالقرب من الجامع المذكور فيه، وفسقية الحوض المذكور المجاورة له لاستقرار الماء الذي يجري إليها من بير الساقية المذكورة أعلاه المعلقة بذلك، لينتفع به في سقي الدواب المارين على ذلك والمترددين إليه، وفي غير ذلك من الانتفاعات الشرعية على العادة في ذلك، وجعله سبيلًا لله ... ". بل لقد بلغ من المعاصرين -حكامًا وغير حكام- في رعاية الحيوانات الأليفة النافعة، وإقامة المؤسسات والمنشآت لتوفير هذه الرعاية الحيوانات الأليفة النافعة، وإقامة المؤسسات والمنشآت لتوفير هذه الرعاية لها، أن السلطان الظاهر بيبرس أقام بجوار جامعه بستانًا أطلق عليه اسم: "غيط القطة"، خصصه لإطعام القطط الشاردة في القاهرة، إشفاقًا منه على هذا الحيوان الأليف، وتقديرًا لنفعه في مطاردة الفئران والحشرات الضارة.
ومن المؤسسات الاجتماعية الهامة التي ذخرت بها مدن العالم الإسلامي(1/360)
في العصور الوسطى الحمامات العامة التي قصدها الناس من مختلف الطبقات رجالًا ونساءً للاستحمام, ذلك أن الناس لم يألفوا في تلك العصور الاستحمام في منازلهم، ولم توجد الحمامات الخاصة إلّا في قصور الحكام والأمراء. ويروي الفقيه ابن الحاج أن "الواحد يشتري الدار أو يبنيها بنحو الألف, ولا يعمل بها موضعًا للوضوء أو الغسل". ولما كان الإسلام قد جعل النظافة ركنًا من أركان الإيمان، ونادى القرآن الكريم بأن الله يحب المطهرين، فإنه صار من الضروري إقامة منشآت عامة يقصدها الناس للاغتسال والاستحمام, ومن ذلك أن المعاصرين طالبوا المحتسب بأن يأمر بفتح الحمامات العامة وقت السحر "لحاجة الناس إليها للتطهر فيها قبل وقت الصلاة".
وهكذا انتشرت الحمامات العامة في مختلف مدن العالم الإسلامي، مشرقه ومغربه. هذا عدا الحمامات الملحقة بمؤسسات أخرى؛ كالوكالات والخانقاوات وغيرها. وقد ذكر اليعقوبي: أن الجانب الشرقي من بغداد وحده, كان به في القرن الثالث لهجري -التاسع للميلاد, خمسة آلاف حمام, في حين جاء في تاريخ بغداد أن تلك المدينة, كان بها في القرن الرابع للهجرة, عشرة آلا ف حمام. أما المقريزي فقد ذكر أن أقل ما كانت الحمامات ببغداد في أيام الخليفة الناصر أحمد بن المستنصر, نحو الألفي حمام. ومهما يكن في بعض هذه الأرقام من مبالغات، فهي تدل على أن الحمامات كانت فعلًا ظاهرة لها خطورتها في المجتمع الإسلامي, حتى يخيل للناظر أنها مبنية من رخام، وأن هذا القار كان يجلب من موضع بين البصرة والكوفة.
أما دمشق التي اشتهرت بصناعة الصابون الممتاز والعطور الطيبة، فقد اتصفت حماماتها بالجودة, فضلًا عن العناية بالخدمة, ويبدو مما ذكره ابن عساكر عن حمامات دمشق, أن كل حمام كان ينسب إلى منشئه، أو إلى طائفة(1/361)
بعينها من طوائف المجتمع، أو ربما نسب إلى الحي الذي به الحمام. وقد حدد ابن عساكر عدد هذه الحمامات في دمشق على أيامه بسبعة وخمسين حمامًا، في حين أنها بلغت مائة حمام على أيام ابن جبير, ويبدو أن كثرة في دمشق أحدثت نوعًا من التنافس بين أصحابها، فحرص كل حماميّ على إبراز محاسن حمامه، وتقديم أكبر قدر من الخدمات لعملائه, ومن الثابت في المصادر أن حمامات الشام استرعت دهشة الفرنج وإعجابهم على عصر الحروب الصليبية، فتردد بعضهم عليها للاستحمام، وهو الأمر الذي أشار إليه أسامة بن منقذ في كتابه الاعتبار، وعن طريق الفرنج انتقلت هذه الظاهرة إلى الغرب الأوربي.
فإذا انتقلنا إلى مصر، وجدنا هذا النوع من المؤسسات الاجتماعية -أعني: الحمامات- بلغت درجة من الجودة جعلت عبد اللطيف البغدادي -في كتابه أخبار مصر- يقرر أنه لم يشاهد في كافة البلاد "أتقن منها وصفًا، ولا أتمَّ حكمة، ولا أحسن منظرًا". كذلك روى ابن إياس, أن السلطان سليم العثماني, عندما دخل حمامًا ببولاق سنة 923هـ عقب غزو مصر، فإنه أنعم على الحمامي وأعجبته الحمام وشكرها. وقد عدَّدَ المقريزي في خططه حمامات مصر والقاهرة، وقال إنه كان بالفسطاط ألف ومائة وسبون حمامًا، وذكر -نقلًا عن المسبحي في تاريخه- أن أول من بنى الحمامات بالقاهرة كان الخليفة العزيز بالله الفاطمي، وأن الحمامات أخذت تنتشر بعد ذلك انتشارًا سريعًا في مختلف أحياء القاهرة. وقال المقريزي: إن بعض الحمامات كان خاصًّا بالرجال، وبعضه كان خاصًّا بالنساء، في حين كان قسم يفتح للرجال قبل الظهر, وللنساء بعد ذلك.
ولم تتعرض المؤلفات التاريخية لوصف الحمامات العامة وتصميمها في العصور الوسطى، وإن كان من الممكن أن نحصل على صورة واضحة لتلك الحمامات من الوثائق والحجج الشرعية المعاصرة. من ذلك ما جاء في وثيقة(1/362)
أوقاف الغوري, من أن "الحمام المذكورة تشتمل على مسلخ مرخم، وبيت أول به حوضان، وبيت حرارة به أربعة أحواض وجرن، وخلوة، ومغطس، مفروش ذلك بالرخام، معقود ومطبق بجامات من الزجاج الملون. وبدهليز الحمام المتوصل إليه من الباب الذي بالواجهة زلاقة موصلة للبير والساقية المعدين لذلك، وسلم يتوصل منه للرواق -به منافع وحقوق- مطل على الطريق، ودهليز يتوصل منه لباب الطريق المسلوك المذكورة, التي فيها مطل طاقات الرواق المذكورة، وبها باب يتوصل منه لمستوقد الحمام، وما لذلك من المنافع والمرافق والحقوق ... ".
وبمقارنة هذه الأوصاف التي وردت في الحجج الشرعية، ببقايا الحمامات الأثرية التي ما زالت شاخصة في القاهرة، يمكن أن نقول: إن باب الحمام كان يؤدي إلى مسلخ مرخم به ثلاثة أواوين، وهذه الأواوين كالمصاطب مكسوة بالرخام، حيث يستريح طالب الاستحمام, ومن المسلخ ينتقل المستحم إلى بيت أول حيث ينزع ملابسه, وتتصف غرفة بيت أول هذه بالدفء، وسميت كذلك لأنها أول الغرف الدافئة، وعندما يخلع المستحم ملابسه, يضع حول وسطه فوطة تصل إلى الركبتين، ثم ينتقل إلى الغرفة الرئيسية المسماة بيت حرارة, وبه أربعة أواوين, بكل واحد منها حوض حجر، وبه أيضًا خلوتان وطهر وبيت نورة. وفي بيت الحرارة هذا, يقوم عامل الحمام بتدليك جسد المستحم وغسله بالماء الساخن الذي يوجد بالمغطس, وبعد الاستحمام يجفف المستحم جسمه بالمناشف، ويتقدم إلى البلان ليزيل الشعر من بعض المواضع -إذا لزم الأمر- ثم ينصرف المستحم إلى غرفة بيت أول؛ حيث يقضي بعض الوقت، فلا يغادر الحمام مباشرةً معرضًا نفسه للهواء البارد. أما المياه اللازمة للحمام: فكانت تجلب بواسطة ساقية خشب, مركبة على فوهة بير؛ فترفعها الساقية إلى مستوقد الحمام؛ حيث يسخن الماء في مرجل كبير.(1/363)
وقد جاء في تاريخ بغداد, أن الحمام كان يقوم بخدمته خمسة نفر على الأقل؛ هم: الحماميّ، والقيّم، والوقّاد، والسقّاء، والزبّال؛ حيث أن الوقود في الحمامات كان غالبًا من الزبل اليابس, هذا فضلًا عن الحلاق الذي كان يقوم بحلاقة الشعر وتهذيب اللحية, وقد اشترطت في هذا الحلاق شروط معينة، منها ما جاء في كتب الحسبة من "أن يكون المزين خفيفًا رشيقًا بصيرًا بالحلاقة، وتكون الأمواس جديدةً قاطعةً ... ولا يأكل ما يغير نكهته؛ كالبصل والثوم والكراث في يوم نوبته، لئلّا يتضرر الناس برائحة فيه عند الحلاقة ... ".
على أن أهمية الحمام في تلك العصور لم تقتصر على كونه مؤسسة لنظافة البدن فحسب، وإنما كان أيضًا مركزًا اجتماعيًّا من الطراز الأول؛ فالمريض إذا دخل الحمام اعتبر ذلك إعلانًا لشفائه, والعريس أو العروس يتعيّن على كل منهما أن يدخل الحمام قبل حفل الزفاف، فيعتبر ذلك من الأعياد العائلية الرائعة، ويكون الخروج من الحمام عندئذ في زفة مشهودة، أشبه بمظاهرة اجتماعية يحضرها الأهل والأحباب والأصدقاء، وفي الحمام اعتادت أن تجتمع النساء والصديقات فيتناقلن أخبار الناس، ويقصصن على بعضهن كثيرًا من أخبارهن وحياتهن المنزلية, وإلى الحمام تتجه المرأة التي لا يراها الناس إلّا محجبة، فتكشف عن عورتها للبلانة لتعالجها بالتحفيف -والنساء في هذا المقام أشد تهالكًا من الرجال، على قول ابن الأخوة في كتاب معالم القربة. وتكون المرأة في هذه الحالة قد استصحبت معها أفخر ثيابها, وأنفس حليها, لتلبسها بعد الاستحمام، حتى يراها غيرها فتقع المفاخرة والمباهاة, لذلك لا عجب إذا أكثر أدباء العصر وشعرائه من وصف الحبيب في الحمام.
ويبدو أن كل ذلك دفع بعض الفقهاء إلى النفور من الحمام؛ فالسيوطي أباحه للرجال بشروط, وقال: إنه مكروه للنساء إلّا في حالات خاصة. وابن(1/364)
الحاج عاب على معاصريه من الرجال كشف عاناتهم للبلادن في الحمام لإزالة الشعر منها، كما نصح معاصريه من العلماء بعدم السماح لنسائهم بدخول الحمام؛ لما اشتمل عليه في هذا الزمان من المفاسد والعوائد الرديئة".
وتسترعي نظرنا في دراسة الحضارة العربية الإسلامية كثرة المؤسسات والمرافق الخاصة برعاية الأغراب والعميان والقواعد من النساء. على أننا نلاحظ على هذه المؤسسات أنها لم تتخذ شكل منشآت قائمة بنفسها, وإنما اتخذت من المرافق الدينية كالزوايا والمساجد والربط والخانقاوات مقرًا لها، بوصفها مؤسسات دينية تستهدف الخير والبر والمعروف. ومرةً أخرى نؤكد أن هذه المنشآت دينية تستهدف الخير والبر والمعروف, ومرةً أخرى نؤكد أن هذه المنشآت جميعها وجدت في نظام الوقف خير دعامة مكنتها من الاستمرار في أداء رسالتها الخيرية؛ من ذلك أن صلاح الدين أوقف على الأرامل والأيتام قرية نسترو بين دمياط والإسكندرية، وقيمة ضمانها خمسون ألف دينار.
ولم يتمالك الرحالة ابن جبير نفسه من الإعجاب بمدى ما لمسه في بلاد المشرق الإسلامي من عناية بالغرباء، لا سيما إذا كانوا من رجال الدين وطلاب العلم والمشتغلين بهما، فقال: إن هذه الظاهرة ملموسة على نطاق واسع في بلاد المشرق عامة، وفي مصر خاصة، وأن هؤلاء الغرباء كانوا موضع رعاية الحكام الذين وقفوا الأوقاف الواسعة على المرافق التي خصصوها لهم.
والمعروف أن أعدادًا كبيرة من المغاربة نزحوا إلى المشرق، إمّا للحد وإما خلاصًا من الأوضاع والأخطار التي تعرضت لها بلاد المغرب والأندلس في أواخر العصور الوسطى، وهؤلاء وجدوا رعاية كبيرة، وخاصة في مصر والشام تحت حكم صلاح الدين. ويتحدث ابن جبير عن المحارس التي صادفها في أرض مصر -ومفردها المحرس- أي: المأوى المخصص للدارسين(1/365)
والزهاد والمسافرين والفقراء، فيقول:
"ومن مناقب هذا البلد, ومفاخره العائدة في الحقيقة إلى سلطانه -صلاح الدين الأيوبي- المدارس والمحارس الموضوعة فيه لأهل الطب والتعبد، يفدون من الأقطار النائية, فيلقى كل واحد منهم مسكنًا يأوي إليه، ومدرسًا يعلمه الفن الذي يريد تعلمه، وأجراء يقوم به في جميع أحواله, واتسع اعتناء السلطان بهؤلاء الغرباء الطارئين حتى أمر بتعيين حمامات يستحمون فيها متى احتاجوا إلى ذلك، ونصب لهم مارستانًا لعلاج مَنْ مرض منهم ... ومن أشرف هذه المقاصد أيضًا أن السلطان عيَّن لأبناء السبل من المغاربة خبزتين لكل إنسان في كل يوم، بالغًا ما بلغوا, ونصب لتفريق ذلك كل يوم إنسانًا أمينًا من قِبَلِه، فقد ينتهي في اليوم إلى ألفي خبزة أزيد، بحسب القلة والكثرة، وهكذا دائمًا, ولهذا كله أوقاف من قبله، حاشا ما عينه من زكاة العيد لذلك ... ".
وقد أشار ابن جبير إلى أن صلاح الدين خصص للغرباء من المغاربة جامع ابن طولون في مصر "يسكنونه ويحلقون فيه -أي: يقيمون حلقات العلم والدرس والعبادة- وأجرى عليهم الأرزاق في كل شهر".
أما في دمشق: فقد خصص نور الدين محمود للمغاربة الغرباء زاوية المالكية بالجامع الأموي، وأوقف على ذلك أوقافًا, وبعد أن أسهب ابن جبير في وصف الرعاية التي يلقاها الغرباء، قال: "وهذه المشرقية كلها على هذا الرسم".
وبخصوص المؤسسات العلمية والدينية في تلك العصور، نلاحظ أن نشاطها لم يخل من جوانب اجتماعية لها دلالتها وأهميتها؛ فالمدرسة في جوهرها وظاهرها مؤسسة علمية واضحة المعالم، ولكنها في عنايتها بطلاب العلم, وحرصها على توفير حياة آمنة كريمة لهم، وإمدادهم بالمأوى والمأكل(1/366)
والمشرب والملبس، وما كان يقام فيها من حفلات لمناسبة من المناسبات الدينية أو العلمية، كالانتهاء من تأليف كتاب أو ختم صحيح البخاري ... تعبر عن نشاط اجتماعي لا يمكن إغفاله. أما الجوامع والمساجد، فكانت منذ نشأتها مراكز لنشاط متعدد الألوان؛ ففيها كانت تقام حلقات الدرس، ويجلس المعلمون والمتعلمون، وفيها كان يجلس القضاة وحولهم المتخاصمون للفصل بينهم، ومن فوق منابرها كانت تذاع بلاغات الحكام وتعليماتهم، وعلى أبوابها توزع الصدقات والزكاة، وإليها كان يتجه الغريب والوافد إذا ما أدرك بلدًا من البلاد ... مما جعل منها مراكز اجتماعية لها خطرها.
وثمة نوع من المؤسسات الدينية تنوعت وظائفها, وغدت مراكز لنشاط اجتماعي لا يستهان به، نعني الربط والخوانق. والأصل في الرباط أن يكون بمثابة ثكنة عسكرية في الثغور, وعلى أطراف الدولة وحدودها، يرابط فيها جند المسلمين للجهاد في سبيل الله، على أن يجمع هؤلاء المرابطون بين حياة الجهاد من ناحية, وحياة العبادة والزهد من ناحية أخرى, ومع انتشار تيار التصوف غلبت صفة الانقطاع للعبادة على هذه المؤسسات، فأقيمت أعداد كبيرة منها في مختلف أنحاء البلاد وداخل المدن بعيدًا عن الحدود، لتعيش فيها مجموعات من الصوفية تعكف على حياة العبادة والزهد والاشتغال بالعلم, ولم تلبث هذه المؤسسات أن غدت مراكز لنشاط اجتماعي يسترعي الانتباه؛ من ذلك أنها غدت دورًا للضيافة، تستضيف المغتربين القادمين من أنحاء العالم الإسلامي، بحيث لا تزيد إقامة الضيف الوافد عن ثلاثة أيام، يلقى فيها كل ترحابٍ من أهل الرباط، ويقدم له فيها الطعام وغيره من مستلزمات الضيافة.
وفي الوقت نفسه، غدت بعض هذه الربط ملاجئ مستديمة لفريق من الناس الذين يستحقون الرعاية، وخاصة أصحاب العاهات وكبار السن(1/367)
والعميان. من ذلك ما يذكره المقريزي عن رباط بيبرس الجاشنكير, من أنه: "خصص لمائة من الجند وأبناء الناس الذين قعد بهم الوقت". ويقول ابن الغوطي عن رباط الشيخ محمد السكران بالعراق: إنه كان مأوى للمسافرين والمحتاجين، وكانت له رسوم في توزيع المال والطعام على الفقراء في كل عام.
أما الربط الخاصة بالنساء: فكانت لها رسالة أعمق من ذلك بكثير، ذلك أن الغرض من إقامتها هو أن تكون "كالمودع للنساء والأرامل"، أي: ملاجئ لهن, وفي تلك الربط حاكت النساء زهاد الرجال في لبس المرقعات من الصوف، والمواظبة على العبادة، مع الالتزام بشدة الضبط وغاية الاحتراز. ومن أمثلة هذه الربط رباط البغدادية، الذي شيدته السيدة تذكار خاتون, ابنة السلطان الظاهر بيرس سنة 684هـ, للشيخة الصالحة زينب ابنة أبي البركات، المعروفة ببنت البغدادية، وأنزلت معها فيها مجموعة من النساء الخيرات, وظلّ هذا الرباط قائمًا إلى زمن المؤرخ المقريزي في القرن التاسع الهجري، فقال: إن سكانه من النساء عُرِفْنَ بالخير، وأن له شيخة تعظ النساء وتذكرهن وتفقههن, على أن أهم من هذا، ما قاله المقريزي: "وأدركنا هذا الرباط وتودع فيه النساء اللاتي طلقن, أو هجرن حتى يتزوجن, أو يرجعن إلى أزواجهن صيانةً لهن.... وفيه من شدة الضبط وغاية الاحتراز والمواظبة على وظائف العبادات، حتى أن خادمة الفقيرات كانت لا تمكِّن أحدًا من استعمال إبريق ببزبوز، وتؤدب من خرج عن الطريق بما تراه ... " ولعل في هذه العبارة من المعاني ما يؤكد أن الرباط غدا مؤسسة لها وظيفة اجتماعية خطيرة إلى جانب صفته الدينية.
أما الخانقاوات، فكانت مهمتها محدودة، تنحصر في إعداد المريد إعدادًا روحيًّا خالصًا، ولذا اتصفت حجراتها بالضيق، كما اتصفت الحياة(1/368)
داخلها بالتقشف، حتى أن بعض المعاصرين حاول أن يفسر لفظ "خانقاه" بأنه مشتق من الخنق؛ لأن المفروض في نزلائها أن يضيقوا على أنفسهم في حياتهم. على أن الخانقاوات لم تلبث أن نهضت هي الأخرى برسالة اجتماعية واضحة؛ من ذلك أنها غدت مأوى للغرباء. والمعروف عن الخانقاه الأولى التي أسسها صلاح الدين في مصر سنة 569هـ -والتي عرفت باسم سعيد السعداء- أنه نزل بها كثير من الغرباء القاطنين بمصر من أهل السنة.
هذا إلى أنه يبدو أن حياة الصوفية في الخانقاه لم تكن قاسية بالدرجة التي يتصورها البعض, وقد جاء في وصف خانقاه سرياقوس, التي أنشأها السلطان الناصر محمد بن قلاون سنة 725هـ، أنه كان "يصرف لكل صوفي في اليوم من لحم الضأن السليج رطل, قد طبخ في طعم شهي، ومن الخبز النقيّ أربعة أرطال، ويصرف له في كل شهر مبلغ أربعين درهمًا فضة، ورطل حلوى، ورطلان زيتًا من زيت الزيتون، ومثل ذلك من الصابون ... " وألحق بهذ الخانقاه حمام به "الحلاق لتدليك أبدانهم وحلق رءوسهم ... ".
وبفضل هذه المرونة تمكن صوفية الخانقاوات من النهوض بنشاط اجتماعي واضح؛ من ذلك أن عمرو بن عيسى -من صوفية الشيخونية- عرف بالبر بالأيتام والأرامل، كما أن بعضهم كان يقوم بتفرقة ما يزيد عن حاجته من الطعام على المحتاجين من المارة بالطريق, ونسمع عن بعض الصوفية أنه اشتغل بتربية الأطفال الأيتام، ومن هؤلاء المربين: ناصر الدين خليل, أحد صوفية الشيخونية، ويحيى بن محمد الدماطي, من صوفية المؤيدية.
ومثل هذا يقال عن المنشآت والمؤسسات التجارية التي انتشرت في(1/369)
أنحاء العالم الإسلامي، مثل الخانات والوكالات والفنادق، والتي لم تخل الحياة فيها من جانب اجتماعي. والغالب في الخانات أنها كانت تقام على امتداد الطرق التجارية، مثل: خان صلاح الدين, الذي نزل به الرحالة ابن جبير في طريقه من حمص إلى دمشق، ووصفه بأنه: "في نهاية الحسن والوثاقة"، ومثل: خان يونس, الذي شيده خارج مدينة غزة الأمير يونس النوروزي, أحد أمراء الناصر محمد. هذا وإن كانت بعض الخانات قد أقيمت في المدن, وهي في حقيقة الأمر أقرب إلى الفنادق والوكالات، وربما أطلق عليها اسم خانات لتداخل المعنى والوظيفة، مثل خان مسرور -الذي أطلق عليه المقريزي اسم فندق مسرور، نسبة إلى مسرور الخادم، أحد رجال صلاح الدين- وكذلك خان الخليلي, الذي أنشأه الأمير جهاركس بن عبد الله الخليلي اليلبغاوي، أحد أمراء السلطان برقوق، ثم جدد حجارته السلطان الغوري.
وكانت الوكالات مؤسسات ينزلها التجار ببضائعهم وأموالهم ودوابهم، وربما عائلاتهم، ومن أشهرها وكالة الغوري ووكالة قوصون وغيرهما. ويقول المقريزي في كلامه عن الوكالة الأخيرة: "هذه الوكالة في معنى الفنادق والخنانات، ينزلها التجار ببضائع الشام ... ". ولذا كانت الوكالة تشتمل على حواصل تستخدم لخزن السلع الخاصة بالتجار، وعرضها وبيعها، ومنازل تطل على فناء الوكالة من الداخل, ينزلها التجار الذين يصطحبون عائلاتهم، فضلًا عن حجرات فردية أعدت للتجار الذين لا تصحبهم أسرهم.
أما الفنادق، فهي بمعناها العام مؤسسات ومنشآت مخصصة لنزول التجار فيها, وقد مَرَّ ابن بطوطة بعدد منها، في طريقه -عبر الصحراء الشرقية- من مصر إلى الشام، فقال: "إن بكل منزل منها فندق، وهم يسمونه الخان، ينزله المسافرون بدوابهم، مما يؤكد التداخل بين معنى(1/370)
الفندق ومعنى الخان". هذا وإن كان المفروض -من الناحية الاصطلاحية في أواخر العصور الوسطى- أن تكون الفنادق مؤسسات للتجار الفرنج، فكان لكل جالية من الجاليات الأوروبية ذات النشاط التجاري- كالبنادقة والبيازنة والجنوية والكتلان والقبارسة- فندق في المواني والمدن العربية ذات الأهمية التجارية بالنسبة لهم.
ومهما يكن من أمر، فالذي يعنينا هو أن هذه المؤسسات التجارية لم تكن من أجل التاجر الخزان الذي يستقر في بلده, ويخزن البضائع انتظارًا لارتفاع سعرها، ولا من أجل التاجر المجهز الذي يستقر ويعتمد على وكلاء يجلبون له البضائع، أو يرسل هو إليهم البضاعة لبيعها, وإنما كانت من أجل التاجر الركاض، الذي ينتقل من بلد إلى آخر، ويعتمد على الحركة والرحلة في نقل البضائع من بلد إلى آخر، ويقيم في كل بلد للبيع والشراء، ويرجو أن يتوافر له في كل بلد قدر من الراحة والحياة الاجتماعية الطيبة، فضلًا عن الأمن والسلامة, ولذا نجد هذه المؤسسات مكتملة المرافق، بكل منها قاعة لعجن العجين، وفرن لخبز الخبز ...
وكان التاجر عندما يصل إلى الفندق أو الوكالة أو الخان, يضع بضائعه وأمواله في المكان المخصص لها، ويتجه هو وأسرته إلى المكان المخصص لاقامته ليستريح، ويجد على مقربة منه ما يتوق إليه من طعام وماء للاستحمام والاغتسال, ثم الاجتماع بمن يهمه الاجتماع بهم من تجار وغير تجار, فإذا كان الفندق خاصًّا بجالية من الجاليات الأجنبية، فإنه كان يسمح لهم بإقامة كنيسة صغيرة داخل الفندق، فضلًا عن السماح لهم باستحضار ما يلزمهم من خمور وغيرها، مما يألفه التاجر الأجنبي في بلاده.
هذا إلى أن الوكالات والفنادق كانت خير مكان تودع فيه الأموال -ليس أموال التجار فقط, بل أيضًا وغير التجار- نظرًا لما توافر لها من أسباب(1/371)
الحراسة والأمن. من ذلك ما ذكره المقريزي عن خان مسرور: "إذ كان فيه أيضًا مودع الحكم الذي فيه أموال اليتامى والغياب". وقال المؤرخ نفسه عن فندق بلال المغيثي: "وما برح هذا الفندق يودع فيه التجار وأرباب الأموال صناديق المال". وإذا كان المقريزي قد ذكر في وصفه لوكالة قوصون أنه: "يعلو هذه الوكالة رباع تشتمل على ثلثمائة وستين بيتًا أدركناها عامرةً كلها، ويحزر أنها تحوي نحو أربعة آلاف نفس؛ ما بين رجل وامرأة, وصغير وكبير ... " فلابد أن هذا العدد الضخم قد جعل من الوكالة مركزًا اجتماعيًّا نشطًا.
وأخيرًا نختتم كلامنا عن المنشآت الاجتماعية في الدولة الإسلامية بالإشارة إلى السجون, والمعروف في اللغة أن السجن هو الحبس، وقد روي عن أبي هريرة, أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حبس في تهمة. والحبس الشرعيّ معناه: تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه، وليس حجزه في مكان ضيق, وكان هذا الحبس الشرعي يتم في أول الأمر في بيت أو مسجد، على أن يقوم الخصم - أو وكيله- بملازمة الشخص المحتجز، ولذا أسماه النبي -صلى الله عليه وسلم- أسيرًا. واستمر الأمر على ذلك في عهد الخليفة أبي بكر الصديق، إذا لم يكن هناك محبس معد لحبس الخصوم, ولكن حدث عندما اتسعت الدولة في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وكثرت الرعية، أن ظهرت الحاجة إلى مبنى قائم بذاته، يستخدم سجنًا يحتجز فيه من يراد حبسه, ولهذا الغرض ابتاع الخليفة من صنوان بن أمية دارًا بمكة بأربعة آلاف درهم, ولم يلبث أن تطور الأمر في عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان، عندما ازداد خصوم الدولة، وتعددت مشاكلها, حتى قيل: إنه أول من وضع السجن بمعناه المعروف، وخصص الحرس لحراسة المسجونين.
ويبدو أنه كانت هناك في الشطر الأول للدولة الإسلامية نزعة نحو(1/372)
الرأفة بالمسجونين ورعايتهم، وتوفير أسباب الحياة الكريمة لهم داخل السجن، وعدم التطرف في إيذائهم أو حرمانهم؛ من ذلك ما جاء في كتاب العيون والحدائق, من أن الخليفة عمر بن عبد العزيز كتب إلى عماله حوالي سنة 100هـ-700م, بألا يغل مسجون, وفي عهد هارون الرشيد رأى الفقهاء أن أهل الدعارة والفسق والتلصص إذا أخذوا في شيء من الجنايات وحبسوا، فلابد أن يجري عليهم من الصدقات أو من بيت المال ما يقوتهم، ويجري على كلٍّ منهم عشرة دراهم في الشهر، تعطى له في يده، دفعًا لظلم السجان لهم، أوحرمانه إياهم من طعامهم وشرابهم. وجاء في كتاب الخراج لأبي يوسف أنه لابد من كسوة المساجين صيفًا وشتاءً، وذلك إغناءً لهم عن الخروج في السلاسل لطلب الصدقة, كذلك جاء في كتاب الوزراء أن الخليفة المعتضد "279-289هـ -892-902م" جعل في ميزانيته ألفًا وخمسمائة دينار في الشهر لنفقات السجون, وثمن أقوات المحبوسين, وما يلزمهم من ماء ومؤن, بل لقد ذكر القفطي في أخبار الحكماء أن الوزير علي بن عيسى خصص بعض الأطباء للتردد على السجون كل يوم، وعلاج المرضى من نزلائها، وإعطائهم ما يلزمهم من أدوية وأشربة, ويبدو أنه كان يسمح للمسجونين بتعلم بعض الحرف النافعة، وذلك لشغل الوقت، ومن ذلك قول ابن المعتز:
تعلمت في السجن نسج التكك ... وكنت امرأ قبل حبسي ملك
وقيدت بعد ركوب الجياد ... وما ذاك إلّا بدور الفلك
على أن هذه الصورة الطيبة لما كانت عليه السجون لم تستمر دوامًا في الدولة الإسلامية؛ إذ ساءت أحوال السجون والمسجونين في أواخر العصور الوسطى، حتى بلغت درجة من السوء والبشاعة لا مزيد عليها. ويصف المقريزي في القرن التاسع الهجري-الخامس عشر للميلاد, نزلاء(1/373)
السجون في عصر سلاطين المماليك، وهم يخرجون مع الأعوان في الحديد حتى يشحذوا، وهم يصرخون في الطرقات: الجوع, وهم مع ذلك يستعملون في الحفر وفي العمائر، ونحو ذلك من الأعمال الشاقة، والأعوان تستحثهم, فإذا انقضى عملهم، ردوا إلى السجن في حديدهم من غير أن يطعموا شيئًا ... ". وزاد من الحيف الذي نزل بالمساجين فرض ضريبة أو مكس على المسجونين، فصار كل من يسجن -ولو لحظة واحدة- يدفع رسمًا معينًا، قدره ابن تغري بردي بمائة درهم، وقدره المقريزي "بستة دراهم سوى كلف أخرى".
أما السجون نفسها، فقد وصف بعضها المقريزي بأن أمرها مهول: "من الظلام وكثرة الوطاويط والروائح الكريهة والقبائح المهولة". وجعلت هذه السجون على أنواع، منها ما هو خاص بسجن الأمراء والمماليك والجند، ومنها ما هو خاص بأرباب الجرائم من اللصوص وقطاع الطرق ونحوهم، في حين خصصت بعض السجون للنساء المذنبات. كذلك يذكر المقريزي أن سجون مصر والقاهرة على أيامه تبعت سلطات متنوعة, بسبب تمييز القوانين الشرعية بين الحبس -وهوتعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه- وبين السجن، وهو الاعتقال في مكان حرج ضيق, يضاف إلى ذلك ما هنالك من تفاوت في أنواع الجريمة والعقوبة، فضلًا عن اختصاص كل سلطة بنوع معين من الجرائم.
على أنه عندما نذكر ما آل إليه أمر السجون ونزلائها في الدول الإسلامية في أواخر العصور الوسطى، فإنه علينا أن نذكر أن هذه الأوضاع كانت أخف بكثير مما كان عليه الأمر عندئذ في بلاد العالم المسيحي، سواء دولة الروم في الشرق، أو الدول الأوربية في الغرب.
وبعد، فإن الحضارة العربية الإسلامية آمنت بأن الإنسان اجتماعي(1/374)
بالطبع، وهي حضارة خير ومعروف وبر وإحسان ... ولذا, فإنها حرصت على إحياء كل لون من ألوان النشاط الاجتماعي الذي يستهدف الخير والرحمة ... الخير للمجتمع, والرحمة بالإنسان, بل الأنعام, ومن أجل هذا وذاك حفلت الدولة بالمؤسسات الاجتماعية المتعددة الألوان والنشاطات، ولكنها تتفق جميعًا في هدف واحد ... هو تحقيق حياة أفضل.(1/375)
مراجع:
1- البغدادي: تاريخ بغداد.
2- ابن عساكر: تاريخ دمشق.
3- المقريزي:
أ- السلوك لمعرفة دول الملوك.
ب- المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار.
4- ابن جبير: الرحلة.
5- ابن بطوطة: تحفة النظار في غرائب الأمصار.
6- ابن الأخوة: معالم القربة في أحكام الحسبة.
7- ابن النديم: الفهرست.
8- ابن الحاج: المدخل.
9- الحنبلي: شفاء القلوب "مخطوط".
10- ابن واصل: مفرج الكروب.
11- ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة.
12- النويري: نهاية الأرب.
13- سعيد عبد الفتاح عاشور: المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك.
14- محمد محمد أمين: تاريخ الأوقاف في مصر.
15- مجموعة الوثائق والحجج الشرعية بأرشيف وزارة الأوقاف والمحكمة العليا الشرعية بالقاهرة "دار الشهر العقاري".(1/376)