مقدمة: علم الجغرافية عند العرب
إن دراسة التراث الجغرافي العربي، وتقييمه والتعرف على معطياته، وإدراك مكانته في تاريخ تطور الفكر الجغرافي يتطلب أولًا معرفة الظروف التاريخية التي نشأ فيها هذا التراث، والمراحل التي اجتازها أثناء تطوره، فمن المعلوم أن المعارف العربية قبل الإسلام كانت محدودة، ومنحصرة في حقول معينة أهمها اللغة والشعر، وأنساب القبائل التي تمثل جانبًا من جوانب التأريخ، وبالطبع فلم يكن لديهم معرفة جغرافية منظمة، غير أن طبيعة حياتهم كانت تفرض عليهم الإلمام بشيء من تلك "المعرفة"، والحقيقة أن العرب بالذات -ونقصد بهم سكان جزيرة العرب- كانوا أحوج الشعوب إلى المعرفة الجغرافية بشقيها الفلكي والوصفي، فتنقل العشائر البدوية الدائم في أرجاء تلك الجزيرة الشاسعة، كان يتطلب معرفة "المسالك" الصحيحة إلى مواطن الكلأ، كما كان يستوجب أيضًا معرفة مواقع "الآبار" التي تعتبر مفاتيح الصحراء، لذلك فقد ظهر بين البدو منذ زمان بعيد ما يمكن أن نطلق عليهم اسم "الجغرافيون المحترفون"، وهم "الأدلاء" الذين كانوا على معرفة جيدة جدًا بديرة عشائرهم، وكان لهؤلاء الأدلاء شيء من(1/5)
الثقافة الجغرافية المتنوعة -بالمعنى العريض لهذا المصطلح- تشمل نباتات وحيوانات البادية، إضافة إلى صفاتها الطوبوغرافية، بل وشيئًا من المعرفة الفلكية بالنجوم والكواكب ومساراتها، وقد نشأت لدى البدو عمومًا ثقافة فلكية طيبة انبثقت من طبيعة حياتهم الدائمة الترحال في الليل، والنهار وفي الصيف والشتاء، ومن طبيعة بيئتهم الصحراوية ذات السماء الشديدة الصحو في معظم شهور السنة حيث تملأ النجوم، والكواكب صفحة السماء المترامية الأطراف. ولذلك فقد قيل بأن براعة العرب في علم الفلك ترجع قبل كل شيء إلى صلاحية بيئتهم الطبيعية لتطور هذا العلم، وقد حظي القمر بالمكانة الأولى في معرفتهم الفلكية، إذ كانوا يهتدون به وببقية النجوم في مسراهم الليلي، ولذلك لاحظوا منذ وقت مبكر علاقته بالمجموعات النجمية المتغيرة الواقعة قرب فلكه، وقد حددوا عدد منازلها بمائة وعشرين منزلًا أطلقوا عليها اسم "منازل القمر"، وأعطي لكل واحد منها اسم عربي خالص، كما عرفوا ما لا يقل عن مائتين وخمسين نجمًا إضافة إلى بعض الكواكب المهمة من بينها الزهرة وعطارد. ونتيجة لملاحظتهم السماء، ومراقبة نجوم معينة أمكنهم التنبؤ بحالة الطقس، وتحديد فصول السنة الملائمة، للزراعة "بالنسبة للمستقرين منهم"، وقد عرفوا ذلك باسم النوء "جمعها أنواء"، وقد انعكست هذه المعرفة بأمثلة كثيرة يتداولها الناس، منها:
"إذا طلع الدبران توقدت الحزان، ويبست الغدران وكرهت النيران واستعرت الذبان، ورمت بأنفسها حيث شاءت الصبيان".
"إذا طلع سعد السعود نضر العود، ولانت الجلود وكره في الشمس القعود".
"إذا طلع الدلو فالربيع والبدو والصيف بعد الشتو".
أما معرفتهم الجغرافية بمواقع وجهات الجزيرة، فقد انعكست في شعر الشعراء، فهناك أبيات تشتمل على وصف للمكان، كما تشتمل على أوصاف(1/6)
للعادات والتقاليد وللنبات والحيوان، فمن ذلك قول طرفة:
رأى منظرًا منها بوادي تبالة ... فكان عليه الزاد كالمقر أو أمر
أقامت على الزعراء يومًا وليلة ... تعاورها الأرواح بالسقي والمطر
وقول حسان بن ثابت:
لمن الدار أوحشت بمعان ... بين أعلا اليرموك فالخمان
فالقريات من بلاس فداريا ... فسكاء فالقصور الدواني
فقفا جاسم فأمودية الصفر ... مغنا قبايل وهجان
وكقول أمرؤ القيس:
لمن الديار عرفتها بسحام ... فعمايتين فهضب ذي أقدام1
وهكذا يتضح بأنه كان ثمة نوع من المعرفة الجغرافية، والفلكية البسيطة لدى العرب قبل ظهور الإسلام، غير أن ظهور الإسلام أدى إلى تطور جذري في تلك "المعرفة"، وقد تم هذا التطور بدفع من عوامل أساسية وثانوية أبرزها هي:
1- الاتصال بالفكر الأجنبي: انحصرت اهتمامات العرب الأولى بالثقافة اللغوية والدينية والتأريخية، وبعد اتصال الفكر العربي بالفكر اليوناني والهندي، والإيراني عن طريق الترجمة انكشفت للعرب ألوان جديدة من "المعرفة"، كان من ضمنها المعرفة الفلكية المنظمة والمعرفة الجغرافية.
2- اتساع الدولة الإسلامية: اتسعت الدولة الإسلامية في نهاية العصر الأموي، فشملت أقطارًا شاسعة من القارات القديمة الثلاث، آسيا وأفريقيا والطرف الجنوبي الغربي من أوروبا، وكان لا بد من تجميع المعلومات عن الأقطار الجديدة ليتيسر إدارتها، وحكمها حكمًا صحيحًا ومعرفة خراجها، ولا شك أن هذه هي الوظيفة الأساسية للجغرافية.
__________
1 الهمذاني "الحسن بن أحمد" -صفة جزيرة العرب. طبع في ليدن عام 1938، ص173-175.(1/7)
3- ازدهار النشاط التجاري: لقد رافق اتساع الدلة الإسلامية ازدهار النشاط التجاري في مراكزها الرئيسية، وقد لعب الازدهار التجاري دورًا أساسيًا، ومزدوجًا في إثراء المعرفة الجغرافية، فمن جهة تطلب الأمر اكتساب المعلومات عن الطرق، والمسالك المؤدية إلى الدول المختلفة، وهو أمر لا غنى عنه للتجار، فضلًا عن معرفة المدن التجارية الرئيسية، وما تشتهر به كل منها من سلع، ومن جهة أخرى تولى التجار ومستخدموهم مهمة جمع المعلومات البشرية والاقتصادية فضلًا عن الطوبوغرافية عن البلدان المختلفة، بل وأصبح التجار أنفسهم في بعض الحالات من الجغرافيين البارزين.
4- الفروض الدينية الإسلامية: ساهمت الفروض الدينية الإسلامية بنصيب كبير في تشجيع المعرفة الفلكية والجغرافية، فالصلاة والصوم يتطلبان معرفة جغرافية، وفلكية لضبط أوقاتهما في أنحاء الدولة الإسلامية المترامية الأطراف، والحج يستثير همم المسلمين من شتى أقطار الدولة الإسلامية لشد الرحلة إلى مكة المكرمة، فضلًا عن الرغبة في اكتساب العلوم الدينية من منبعهما الرئيسين مكة المكرمة والمدينة المنورة، ولقد أتحف "الحج" الجغرافية العربية بالعديد من الرحالة الذين أضافوا بـ"رحلاتهم" ثروة نفيسة إلى جغرافية العصور الوسطى، وعلى رأسهم ابن جبير وابن بطوطة.
تلك هي العوامل الأساسية التي شجعت المعرفة الجغرافية في ميدان الثقافة العربية، وقد تفاوت تأثير تلك العوامل حسب الظروف التأريخية، كما تنوعت أنماط المصنفات الجغرافية تبعًا لذلك، فمنذ بدأ اهتمام العرب في صدر الإسلام بالأمور الثقافية، ولا سيما ما يتعلق منها باللغة العربية، أخذت تظهر طلائع المؤلفات الجغرافية، وكان مؤلفوها علماء لغة وأدباء أساسًا، ويمكن القول: إن العامل الأول المشجع على إزدهار هذا النوع من التأليف هو الاهتمام بجزيرة العرب -التي ظهر فيها النبي الكريم وصحبه- ومحاولة التعرف على كل ما يتصل بأرضها، وسمائها وحيوانها، ونباتها وبشرها،(1/8)
كما أنها كانت أيضًا وسيلة من وسائل دراسة اللغة العربية، والشعر العربي القديم، ولعل من أبرز المؤلفات المبكرة في هذا الميدان تلك التي تنسب إلى هشام بن محمد الكلبي "توفي حوالي 820م"، والذي ذكر له ابن النديم في كتابه "الفهرست"، وياقوت الحموي في كتابه "معجم البلدان" عدة تآليف جغرافية منها
"كتاب البلدان الكبير" و"كتاب البلدان الصغير" و"كتاب الأنهار"، و"كتاب
الأقاليم".. إلخ، ولكن كتبه قد فقدت بأجمعها ولم تصل إلينا، ويعتقد بعض البحاثة أن الحسن بن المنذر مؤلف "كتاب العجائب"، ربما كان هو نفسه الذي يشير ابن النديم إلى كتابه باسم "كتاب العجائب الأربعة"، فيكون عندئذ أول من كتب في الموضوعات الجغرافية العامة في الإسلام1.
كذلك كتب أبو زيد سعيد الأنصاري كتابًا في "المطر"، ضمنه مختلف المفردات اللغوية في المطر والسحاب والرعد والبرق، والندى والجمر وظروف تكون كل منها، وهناك أيضًا كتاب النضر بن شميل المسمى "كتاب الأنواء"، وكتاب عزام بن الأصبغ المسمى "كتاب أسماء جبال التهامة ومكانها"، وكتاب الجاحظ المسمى "كتاب البلدان"، أو"كتاب الأمصار والبلدان".. إلخ. واستمر هذا النمط من الكتابة الجغرافية ذات الصفة الأدبية واللغوية في القرون التالية أيضًا، كما تمثل في كتاب "الجبال والأمكنة والمياه"، لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري، وغيره من المؤلفات، ولكن لا بد لنا من القول: إن تلك المؤلفات هي ليست من الجغرافية الحقيقية بشيء، وإنما هي إرهاصات جغرافية، وقد اشتمل البعض منها على أوصاف عامة للبلدان أقرب إلى الحكميات اللغوية من النمط الذي أطلق عليه اسم "الفضائل"، والتي اعتبرها بعض البحاثة طلائع الكتابة الجغرافية، والعربية الوصفية.
وانتقلت الجغرافية العربية منذ بداية النصف الثاني من القرن الثالث الهجري "التاسع الميلادي" إلى مرحلة جديدة، وهي المرحلة التي اتصل أثناءها الفكر العربي بالفكر الأجنبي، فقد أكب المترجمون على ترجمة ثمار
__________
1 دائرة المعارف الإسلامية "الترجمة العربية" -المجلد السابع. [مادة جغرافيا]- ص11.(1/9)
الفكر الهندي واليوناني إلى اللغة العربية، وقد شهد هذا العصر تأثرًا عظيمًا بالمعرفة اليونانية -الرومانية، ولا سيما بآراء بطليموس في الفلك والجغرافيا، وبدأت بالظهور مؤلفات جغرافية تنحو منحى كتابي بطليموس "المجسطي" و"الجغرافيا"، وهي من نوع النمط المسمى بالجغرافية الرياضية، أو الجغرافية الفلكية، ولعل أبرز مثال عليها كتاب "صورة الأرض" للخوارزمي، وكتاب "رسم المعمور من الأرض" للكندي، وقد ركزت هذه المرحلة من تأريخ الجغرافية العربية على علم الفلك، فقد أصبح هذا العلم في ذلك العصر هوس الحكام والعلماء، ولا ريب أن التشجيع الذي حظي به هذا العلم من قبل الخلفاء العباسيين منذ عهد المنصور، والذي بلغ ذروته على يدي المأمون، كان المسؤول الأول عن ازدهار هذا النوع من المؤلفات الجغرافية، التي يمكن اعتبارها بداية الجغرافية الحقيقية.
ثم إن توطد أركان الدولة الإسلامية في مساحة مترامية الأطراف من العالم القديم، قد خلق ظرفًا جديدًا، وحاجة ماسة إلى معرفة الطرق الكبرى التي تربط أقاليم الدولة الإسلامية بعضها ببعض، فضلًا عن توافر معلومات جديدة عن أقطار غير عربية بسبب الفتوحات، مما أدى إلى انبثاق المصنفات الجغرافية الحقيقية التي تستحق اسمها بجدارة وهي كتب "المسالك والممالك"، أو ما يمكن أن نعتبره كتابات "الجغرافية الأقليمية"، أو"الجغرافية البلدانية" على نحو أدق. وكان رائد أولئك الجغرافيين البلدانيين هو ابن خرداذبه في كتابه "المسالك والممالك"، ويعتقد البعض أن جعفر بن أحمد المروزي ربما كان قد سبق ابن خرداذبه في هذا النوع من التأليف، كما يعتقد آخرون أن أحمد بن محمد الطيب السرخسي، ربما كان هو الرائد في هذا النمط في التأليف الجغرافي، غير أن من المتعذر قبول هذين الرأيين نظرًا؛ لأننا لا نعرف شيئًا عن طبيعة كتابي السرخسي، والمروزي سوى الإشارة إليهما في كتاب "الفهرست" لابن النديم. وهكذا توطدت أركان هذا النمط الجديد من الكتابة الجغرافية منذ بدء القرن الرابع الهجري بظهور كتب(1/10)
جغرافية أكثر نضجًا، وأكثر تخصصًا تدرس على نحو الخصوص "بلاد الإسلام"، وكان من أبرز مؤلفيها البلخي والاصطخري، وابن حوقل والمقدسي، وكان من مظاهر التزام مؤلفي تلك الكتب بالمنهج الجغرافي، أنهم اشترطوا أن تشتمل النصوص الجغرافية على "خرائط" للأقاليم تكون جزءًا أساسيًا من النص، ولم تعد هذه المؤلفات تعني بالمعلومات اليونانية المتعلقة بالأرض، وحجمها وأقاليمها السبعة، وابتعدت ابتعادًا كبيرًا عن النهج الرياضي، حتى يمكن القول: إنه حدث انشطار واضح في هذا العهد بين المصنفات الفلكية، والمصنفات الجغرافية. والواقع أن هذه المرحلة من مراحل الجغرافية العربية التي امتدت منذ بداية القرن الرابع الهجري، حتى أوائل القرن السادس الهجري تمثل قمة ما وصلته الجغرافية العربية، من ازدهار، كما أنها تمثل الشخصية الحقيقية للجغرافية العربية الأصيلة. وكانت معلومات كتابها تعتمد بالدرجة الأولى على الدراسة، والمشاهدة الميدانية، والاختبار الشخصي مما جعلها ذات ثقة وكفاءة عالية، ولم يكن غالبية كتابها1 في الحقيقة سوى رحالة علميين، ويمكن القول: إن "الرحلة" كانت هي الأساس في هذا النوع من الكتابة، والواقع أن ازدهار هذا النمط الجديد من الكتابة العربية كان ثمار ظروف الدولة الجديدة كما أشرنا، فقد كان اتساع رقعة الدولة الإسلامية يتطلب معلومات جديدة عن تلك البلدان النائية وشعوبها، فلا بد للحكم المسلمين من أن يتعرفوا على طبائع السكان وتقاليدهم، وعلى انتاج البلاد الزراعي والصناعي، وثرواتها ليمكن تقدير خراجها، كما لا بد لهم من التعرف على أسماء مدنها، والطرق المؤدية لها. وقد استفاد المؤلفون الأوائل كابن خرداذبه، وقدامة بن جعفر من وظائفهم الإدارية في جمع المعلومات عن البلدان النائية، أما المؤلفون الآخرون فقد استفادوا من إمكانات السفر الجديدة التي سادت رقعة واسعة من العالم القديم، هي رقعة العالم الآسيوي، تلك الإمكانات التي تتمثل باتساع شبكة طرق المواصلات، وتوفر درجة معقولة من الأمن فيها، فأخذوا يشدون الرحال.
__________
1 د. نقولا زيادة- الجغرافية والرحلات عند العرب. دار الكتاب اللبناني، بيروت 1962 ص12.(1/11)
ويطوفون في البلدان شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوًبا، وكانوا يشعرون في أي بلد يحلون فيه كأنه بلدهم، وأمكن لأولئك الجغرافيين أن يجمعوا معلومات جديدة عن ممالك الإسلام عن طرق المشاهدة الشخصية، والسؤال والاستقصاء، الأمر الذي لم يكن مهيأ للجغرافيين السابقين، ولم يعتمد أولئك الكتاب على أنفسهم فحسب في جمع المعلومات، بل ساهم التجار في إغناء معلوماتهم مساهمة عظيمة، ولعبت التجارة دورًا هامًا في تطوير المعرفة الجغرافية لرواد هذه المدرسة.
ويعود الفضل إلى هؤلاء الجغرافيين الأقليميين في تشجيع كتاب آخرين -لم يكونوا جغرافيين أساسًا- على الاهتمام بالمعرفة الجغرافية، ونشرها في كتاباتهم بصورة غير منهجية، وكانت تلك الكتابات هي أقرب إلى الكوزموغرافيا منها إلى الجغرافيا الصرفة، فهي تبحث في أخبار البلدان، وقد تميل إلى الاهتمام بعجائبها، كما تشتمل على كثير من المعلومات المتنوعة عن البحار، والمناخ والكواكب والأحجار النفيسة والحيوان والنبات، وكان يكتب هذا النوع من الكتابات كتاب ذوو اختصاصات متعددة، لكن غالبيتهم كانوا من المؤرخين، ويمكن القول: إن المسعودي كان على رأس هذا النمط من الكتابة، كما يعتبر ابن رسته أيضًا أحد روادها المبكرين، والحقيقة أن الجغرافية العربية بدأت أساسًا أشبه بالكوزموغرافيا منها بالجغرافيا فيها تؤكد عليه من عجائب الأرض والكون.
وبتفكك الدولة الإسلامية، وانحلالها سياسيًا فقدت المعرفة الجغرافية الصرفة أصالتها منذ بدء القرن السادس الهجري، فقد انصرف الحكام عن تشجيع العلم، وتقلصت رقعة الدولة الإسلامية، وانقسمت إلى إمارات شبه مستقلة، ولم يعد هناك من حاجة إلى الكتب الجغرافية بالنسبة للحكام، ولم يستطع الكتاب اللاحقون أن يضيفوا أي جديد إلى العلم الجغرافي العربي، واقتصروا على مهمة "الاقتباس" من مؤلفات السابقين، وتنوعت الأنماط الجغرافية لهذه المرحلة، إلا أن التركيز فيها كان على "المعاجم الجغرافية"(1/12)
و"الموسوعات" و"الرحلات".
فأما "المعاجم الجغرافية" فكانت سمة ذلك العهد، ويمكن القول: إنها تمثل الصلة بين اللغة العربية والجغرافية، وقد ازدهرت بسبب حاجة القراء الذين كانوا يجدون صعوبة في فهم التسميات الواردة في الشعر القديم، أو في الحديث أو القصص القديمة1.
وكانت أمثال تلك المعاجم ذات فائدة عملية واضحة بالنسبة لرجال الإدارة، كما أنها كانت ذات فائدة كبرى للباحثين عن المعرفة نظرًا؛ لأنها كانت تعالج مختلف نواحي الثقافة في ذلك العصر، ومن أبرز الأمثلة عليها "معجم البلدان" لياقوت الحموي و"الروض المعطار" للحميري، و"معجم ما استعجم" للبكري.
أما "الموسوعات"، فكانت أهم الآثار الكتابية للقرن الثامن الهجري "الرابع عشر الميلادي"، وكان يفرد فيها دائمًا للمعلومات الجغرافية حيزًا هامًا، ويعتقد كراتشوفسكي أنها تنتمي إلى طراز مصري صرف من المؤلفات الوصفية، التي وضعها عمال حكومة عصر المماليك، وأن مؤلفيها لم يروا في أنفسهم علماء، بل كتابًا من موظفي ديوان الإنشاء كل زادهم هو بعض الخبرة في الشؤون الكتابية، ولذلك فقد عملت في الأصل من أجل كتبة الدواوين الذين كانوا يمثلون الطبقة المتعلمة في الجهاز الكتابي، والإداري لمصر يومذاك، إلا أنها اجتذبت جمهورًا واسعًا من المثقفين، ولذلك فإن معلوماتها الجغرافية ترتبط بتلك الكتابات التي وضعت في الإدارة الجغرافية في أواخر القرن الثالث، والرابع الهجري2، ولم تكن تشتمل في أي حال على المعلومات الجغرافية فحسب، بل كانت تشتمل أيضًا على المعلومات التأريخية والثقافية بشكل عام.
ولقد قوي في هذه المرحلة من تاريخ الجغرافية العربية الاتجاه العجائبي، أو الأسطوري في الكتابات الجغرافية. وبالرغم من أن آثاره المبكرة
__________
1 د. عبد الرحمن حميدة- أعلام الجغرافيين العرب. "الطبعة الثانية". دمشق 1980، ص68.
2 أغناطيوس كراتشكوفسكي "ترجمة صلاح الدين هاشم"، تأريخ الأدب الجغرافي العربي. منشورات الجامعة العربية، الجزء الأول، القاهرة 1961، ص405.(1/13)
قد ظهرت لدى ابن الفقيه الهمذاني وغيره، فقد أصبحت الطابع السائد للكتابة الجغرافية في هذا العهد، والتي كان خير من يمثلها أبو حامد الغرناطي، والقزويني والدمشقي وابن الوردي، وقد مزج هذا الاتجاه بين العلم والخرافة، وتناول كتابه وصف مختلف ظواهر الكون، وركزوا في كتاباتهم على ذكر عجائب الطبيعة
من نبات وحيوان، وظواهر جغرافية وبشرية، وكانت معلوماتهم تخرج عن حدود المنطق والعلم أحيانًا إلى حدود الأسطورة والخرافة، والواقع أن هذا الاتجاه قد انحدر بالجغرافية انحدارًا سريعًا حتى لم تعد تحتفظ بنكهتها العلمية القديمة، وتحولت إلى ما يشبه الحكايات والقصص، وإن لم تخل بالطبع من معلومات جغرافية قيمة، ولا ريب أن أولئك الكتاب كانوا يرضون بكتاباتهم تلك جمهرة واسعة من القراء ذوي الثقافة الضحلة، وهو ما يمثل مستوى الثقافة في ذلك العصر.
وازدهرت في هذه المرحلة من تاريخ الجغرافية العربية أيضًا "الرحلات"، إلا أنها اتخذت نمطًا مايرًا لما عهدناه في فترة القرن الرابع الهجري، إذ إن "الرحلات" الجديدة كانت ذات طابع أدبي عمومًا، وذات صفة إخبارية، وقد لعب العامل الديني دورًا رئيسيًا في تشجيع هذا النمط من الكتابة الجغرافية، فقد كان دافع أغلب كتاب "الرحلات" حج بيت الله الحرام، فتهيأت لهم الفرصة بذلك لزيارة بلدان عديدة من ديار الإسلام، فدونوا عنها مشاهداتهم، وقد ركز هؤلاء الرحالة عمومًا على ذكر المشاهد الدينية، والمزارات والمساجد، كما اهتموا اهتمامًا خاصًا بقليا علماء الدين والزهاد والمتصوفين، وقد وردت في كتاباتهم المعلومات البشرية والاقتصادية، وكذلك المعالم الطوبوغرافية للمدن والبلدان التي زاروها بصورة عرضية.
وبالرغم من ذلك فقد حفلت بعض تلك الرحلات بمعلومات أثنولوجية واقتصادية قيمة، وتعتبر "رحلة ابن جبير" أفضل نموذج لهذا النمط من الكتابة الجغرافية، غير أن "رحلة ابن بطوطة" تتفوق عليها فيما اشتملت عليه من معلومات عن أقطار آسيا الوسطى والجنوبية، والجنوبية الشرقية.(1/14)
واشتهرت كذلك "رحلة العبدري" و"رحلة الهروي".
ومنذ القرن الخامس عشر الميلادي بدأت شمس الجغرافية العربية بالأفول، ولم تظهر خلال ذلك القرن باللغة العربية، سوى مصنفات تنتمي إلى النمط الذي يمكن تسميته بـ"الجغرافية الملاحية" أو"الجغرافية البحرية"، والتي كان أبرز كتابها ابن ماجد في كتابه المعروف "الفوائد في أصول علم البحر والقواعد"، والذي اشتمل على اثنتي عشرة فائدة، تتناول الجانبين العلمي والنظري لفن الملاحة، وخصوصًا في البحر الأحمر والخليج العربي والمحيط الهندي، وكذلك سليمان المهري الذي كان معاصرًا لابن ماجد، والذي اشتهر بكتابه "العمدة المهرية"، الذي يعتبر من أهم الكتب الملاحية.
ولما كان القرن السادس عشر قد شهد بروز دولتين قويتين في الشرق الأوسط، هما الدولة العثمانية والدولة الفارسية، واضمحلال الحكم العربي، فقد اختفت الكتابات الجغرافية العربية، وحل محلها كتابات جغرافية باللغة التركية، واللغة الفارسية، ولكنها لم تكن كتابات من الطبقة الأولى، فأما بالنسبة للكتابات الفارسية، فقد بدأت تتنامى منذ القرن الرابع عشر، حيث اشتهرت مؤلفات من أمثال كتاب "نزهة القلوب" لحمد الله مستوفي القزويني، و"جامع التواريخ" لرشيد الدين و"صور الأقاليم السبعة" لمحمد بن يحيى، وكتاب حافظ آبرو. وكتاب عبد الرزاق المسمى "مطلع السعدين ومجمع البحرين"، وأما المؤلفات باللغة التركية، فقد تنامت منذ القرن السادس عشر، ولعل من أبرزها كتاب "تأريخ سياح" لأوليا جلبي، وكتاب "كشف الظنون" لحاجي خليفة، وكتاب "بحريت" ليبري رئيس إلخ.. غير أن أمثال تلك المؤلفات لا تعنينا في هذا البحث نظرًا؛ لأنها كتبت بلغة غير عربية، وبالرغم من أن التراث الجغرافي العربي قد أمده كتاب من شعوب إسلامية متعددة، إلا أنه قد كتب بلغة عربية، وكان جزءًا لا يتجزًا من الثقافة والحضارة العربية.(1/15)
أنماط التراث الجغرافي العربي
مدخل
...
أنماط التراث الجغرافي العربي:
إن استعراض المراحل التي مر بها التراث الجغرافي العربي خلال العهود التأريخية، قد أوضح لنا بأنه قد اتخذ أنماطًا متعددة من الكتابة الجغرافية، ولا يمكننا بطبيعة الحال أن نقرن تلك الأنماط بالمسميات، والمصطلحات الجغرافية الحديثة إلا تجاوزًا، ذلك أن "المفهوم الجغرافي" لم يكن واضحًا في أذهان المؤلفين العرب القدامى، ولم تعتبر الجغرافية "تخصصًا" مستقلًا "شأن التأريخ مثلًا"، إلا في حالات نادرة، بل إن مصطلح "جغرافيا" نفسه لم يستخدم إلا في النادر، كعنوان للمؤلفات الجغرافية، وكثيرًا ما استخدم بديلًا لمصطلح "خارطة" الحديث، وهكذا نجد بأن الكتابات الجغرافية، قد اتخذت مختلف المسميات حسب مضامينها، فاتخذت المؤلفات الجغرافية التي نحت منحى فلكيًا اسم "علم الأطول والعروض"، أو اسم "تقويم البلدان"، واتخذت المؤلفات الجغرافية التي ركزت على ذكر طرق المواصلات اسم "علم البرود"، واتخذت مؤلفات الجغرافية الوصفية للبلدان اسم "علم الأقاليم"، غير أن مصطلح "صورة الأرض"، كان يعتبر عمومًا النظير لمصلطح "جغرافيا".(1/17)
ولم يتول كتابة المؤلفات الجغرافية جغرافيون متخصصون، "وإن لم يكن التخصص مفهومًا بالمعنى الذي نألفه اليوم"، وتولى كتابتها إما مؤخرون من أمثال المسعودي، واليعقوبي والبلخي وابن خلدون، "بل إن الكثير من كتب التأريخ قد اشتملت على فصول جغرافية"، أو فلكيون من أمثال الخوارزمي والبتاني والبيروني، أو رحالة عموميون من أمثال ابن جبير وابن بطوطة. والحقيقة أن حيرة "الجغرافية" بين المتخصصين ليست أمرًا جديدًا، فلقد عانتها قبل العرب على أيدي المؤلفين اليونانيين والرومان، فاحترف كتابتها المؤرخون أمثال هيرودوت، والفلاسفة أمثال أرسطو والفلكيون أمثال بطليموس، والمثقفون العموميون أمثال بليني، بالرغم من وجود جغرافيين متخصصين أيضًا أمثال إراتوستيني وسترابو، وظلت الجغرافية تعاني هذه الحيرة أثناء العصور الوسطى، ومطلع العصور الحديثة في أوروبا، حيث ساهم في كتابتها فلاسفة من أمثال عمانوئيل كانت، ومؤرخون من أمثال فيدال دي لا بلاش، وعلماء نبات من أمثال فورستر، ولا تزال الجغرافية حتى اليوم تعاني حيرة في "تخصصاتها" بين علماء الحقول العلمية الصرفة، وبين علماء العلوم الإنسانية. وكل طائفة منهما تحاول أن تجتذبها إلى صفها، فلا يمكن والحالة هذه أن نلوم الجغرافيين العرب على انعدام التخصص الجغرافي لديهم "في الأشخاص، وفي المواضيع"، ومع ذلك فإن من الممكن أن نتلمس "أنماطًا" متميزة من الكتابات الجغرافية ذات تخصصات متنوعة، وذات أساليب ومناهج متباينة، وينبغي أن نؤكد منذ البداية أن تمييزنا لتلك "الأنماط" أمر ينطوي على الكثير من التسامح وعلى الأحكام الفضفاضة، وأن مؤلفيها لم يفكروا بانتهاج "مناهج" و"أساليب" متباينة عن عمد في كتاباتهم إلا في حالات نادرة، كما أن وجود "أنماط" متباينة في التراث الجغرافي العربي لا يعني خضوعها لتطور تأريخي معين، فقد وجدت مثلًا المؤلفات "الكوزموغرافية" في نفس الوقت، الذي كانت تكتب فيه المؤلفات "الإقليمية"، كذلك وجدت المؤلفات "الفلكية" ذات الصفة الجغرافية في جميع عهود الكتابة الجغرافية منذ بدايتها، وهذا ما ينطبق أيضًا على "الرحلات" و"المعاجم الجغرافية"، ومع ذلك فالذي لا ريب فيه أن كل "نمط" من الأنماط التي سنأتي على ذكرها في الصفحات التالية، يشترك في سمات وخصائص واضحة.(1/18)
أولا: المصنفات الفلكية
مدخل
...
أولًا: المصنفات الفلكية:
تمثل مصنفات الجغرافية الفلكية طلائع الجغرافية العربية بمفهومها المتبلور، وإليها تدين "الجغرافية العربية" بانبثاقها، ويمكن القول: إن أبرز مملي هذا النمط من الكتابة الجغرافية هم الخوارزمي وسهراب، والبتالي والبيروني، وهناك مؤلفون ثانويون عديدون في هذا الحقل.
ويعتبر الخوارزمي "ت232هـ/ 846م"، على رأس أولئك المؤلفين، ويعتبر كتابه "صورة الأرض" من أشهر المؤلفات الجغرافية المبكرة، وقد ترك أثرًا عظيمًا على الكتاب اللاحقين، وقد اختلف الباحثون في حقيقة هذا الكتاب، فاعتقد البعض بأنه ليس سوى ترجمة مختصرة لكتاب "جغرافيا" لبطليموس القلوذي، في حين اعتقد آخرون بأنه لا يمكن اعتباره نسخة مختصرة لكتاب بطليموس، لكنه استفاد من معلوماته بدرجة كبيرة، فطريقة توزيع أقاليم الخوارزمي تختلف عن طريقة بطليموس، حيث إنها رتبت على طريقة الأقاليم السبعة التي عرفها المسلمون قبل معرفة كتاب بطليموس، وقد أصبحت مذهبًا شائعًا في المصنفات الفلكية، في حين أن بطليموس عدد في كتابه إحدى وعشرين منطقة، كذلك وزع الخوارزمي في كتابه الجبال، والأنهار والبحار والمدن بطريقة مغايرة لبطليموس، حيث إنه ذكرها بصورة منفردة حسب كل أقليم، في حين أن بطليموس قد وزعها حسب المناطق، ثم إنهما قلما اتفقا على تحديد الأبعاد الجغرافية للأماكن المختلفة.(1/19)
وكتاب "صورة الأرض" عبارة عن جداول فلكية وأشبه بـ"الأزياج منه" بكتاب جغرافي اعتيادي، فقد قسمت الصفحة إلى ثلاثة أعمدة يشتمل الأول منها على اسم الموضع، والثاني على خط طوله والثالث على خط عرضه، وقد بدأ بالمدن ثم بالجبال، ثم بالبحار ثم بالجزر ثم بالعيون والأنهار، وهو يبدأ أقاليمه دائمًا من الأقليم الأول عند خط الاستواء، وينتهي إلى الإقليم السابع، كما أنه يبدأ مواضعه حسب الابتعاد التدريجي من خط طول صفر عند ساحل غربي أفريقيا، ويشتمل الكتاب أيضًا على أربعة مصورات أهمها "مصور نهر النيل"، من منبعه جنوب خط الاستواء إلى مصبه في البحر المتوسط.
ومن المؤلفات المبكرة أيضًا في هذا الحقل كتاب الفيلسوف، يعقوب الكندي "ت260هـ/ 873م" المعنون "رسم المعمور من الأرض"، ولكننا لا نكاد نعرف عنه شيئًا، فهو لم يصل إلينا، ويعتقد البعض أنه ربما كان مقتطفات من كتاب "جغرافيا" لبطليموس، ومن المعروف أن الكندي قام بترجمة هذا الكتاب إضافة إلى ترجمة أخرى قام بها ثابت بن قرة.
والكتاب الثاني من كتب الجغرافية الفلكية، أو الرياضية الذي يكتسب أهمية خاصة هو كتاب سهراب المعنون "كتاب عجائب الأقاليم السبعة إلى نهاية العمارة"، وقد اختلف الباحثون في اسم المؤلف، فالبعض يعتقد أن اسمه "سرابيون"، في حين يعتقد البعض الآخر أن اسمه أبو الحسن بن البهلول، كذلك اختلف الباحثون حول عنوان الكتاب، وحول سنة تأليفه وقد حدده كراتشكوفسكي، فيما بين أعوام 289هـ/ 902م إلى 334هـ/ 945م. ويبدو تأثر المؤلف بكتاب الخوارزمي، واضحًا، فهو ينحو منحاه تمامًا، غير أنه يستفتح كتابه بمقدمة عن كيفية رسم "صورة" [خارطة] الأرض، وكيفية استخراج أطوال وأعراض المواضع الجغرافية، ممدًا القارئ(1/20)
بتعاليم عملية، وهو يوضح هدفه ومضمون كتابه بهذه العبارة التي وردت في مقدمته: "فأحببت أن أختصر من جميع كتبهم كتابًأ يقرب فهمه، ويسهل العمل به لمن أراد صورة الأرض، ووضع المعمورة عليها، واستخراج البحار والعيون والأنهار والجبال، والأودية مع صحيح ما ذكروا من المسالك المشهورة والطرق الغامضة، والبقاع والبوادي المعروفة ليفهم أيدك الناظر في هذا الكتاب ما فهم من عمل الصورة"1.
ثم يتناول ذكر المدن، ثم البحار ثم الجزائر ثم الجبال ثم المنابع والأنهار، كلًا منها على إنفراد حسب تسلسلها ضمن الأقاليم السبعة، وعلى نسق ما ورد في كتاب الخوارزمي، أي على هيئة جداول فلكية، غير أنه يوزع في خاتمة كتابه هذه المظاهر الجغرافية على الأقاليم السبعة بصورة مجملة، مما لم يرد في كتاب الخوارزمي، وعلى أية حال فيمكن القول: إن سهراب قد أضاف معلومات جديدة -لا سيما فيما يخص العالم الإسلامي- إلى ما ورد من معلومات في كتاب الخوارزمي، وهو أمر يتناسب والفترة الزمنية التي ظهر فيها كتابه.
ويكتسب أهمية خاصة في هذا الحقل أيضًا كتاب "الزيج الصابي" لأبي عبد الله محمد بن جابر بن سنان الحراني الصابي، المعروف بالبتاني "ت317هـ/ 929م". وكتابه المذكور هو في الواقع كتاب فلك أساسًا "وهو الوحيد من مؤلفاته التي وصل إلينا"، وقد تضمن نتائج أرصاده للكواكب الثابتة، وقد حدد فيه ميل دائرة الكسوف "فلك البروج" بدقة كبيرة، وطول السنة والفصول ومدار الشمس، كذلك حقق كثيرًا من مواقع النجوم، وبحث في حركات القمر والكواكب السيارة، وصحح بعض المعلومات عنها، كما حدد العديد من الأخطاء البطليموسية، وقد اشتمل هذا الكتاب على فصل جغرافي هام تضمن وصفًا مفصلًا للعالم، ولا سيما
__________
1 سهراب -كتاب عجائب الأقاليم السبعة إلى نهاية العمارة، طبع بمطبعة فينا سنة 1347هـ وهي سنة 1929م بإشراف مزيك، ص5.(1/21)
بحار العالم ومحيطاته، وظل هذا الفصل لفترة طويلة مصدرًا هامًا لكتاب الجغرافية الوصفية، ومن المعتقد أن البتاني تأثر في هذا الفصل بكتابات بطليموس.
أما البيروني "ت440هـ/ 1048م"، فكان عالمًا متعدد الاختصاصات ضمن حقل الجغرافيا والعلوم الأخرى، وقد اشتملت مساهمته في التراث الجغرافي العربي في حقل المصنفات الجغرافية الفلكية، وفي حقل المصنفات البلدانية، وكان مبرزًا في كلا الحقلين، وقد عالج المواضيع الجغرافية الفلكية في كتب عديدة، وأبرزها كتاب "الآثار الباقية من القرون الحالية"، وكتاب "القانون المسعودي"، وفي هذا الباب تكتسب أهمية خاصة آراؤه في توزيع البحار وإحاطتها بالأرض، واعتقاده بأن المحيط الهندي يتصل بالمحيط الأطلسي في جنوبي القارة الإفريقية. كما تكتسب آراؤه الفلكية، ومحاولاته لقياس محيط الأرض ورأيه في حركاتها أهمية خاصة أيضًا.
والواقع أن مساهمات الفلكيين في حقل الجغرافية الرياضية لا حصر لها، وكانت تلك المساهمات تقترب أحيانًا اقترابًا كبيرًا من حقل الجغرافيا، وفي أحيان أخرى لا تمسه إلا مسًا خفيفًا، ولعل أعظم خدمة أداها الفلكيون العرب، والمسلمون للجغرافية العربية هو وضع جداول فلكية، يمكن عن طريقها تحديد المواضع الجغرافية، وكذلك دراسة حركات الكواكب والنجوم، وربطها بالظواهر الأرضية مما يكون صلب الجغرافية الفلكية، وفي هذا الباب يمكن الإشارة إلى مساهمات الغزاوي، وأولاد موسى بن شاكر وابن يونس وعبد الرحمن الصوفي، وإبراهيم الزرقالي وأبو علي حسن المراكشي وأخيرًا وليس آخرًا نصير الدين الطوسي، وقد ساهم أيضًا "إخوان الصفا" في تطوير المفاهيم الفلكية في رسائلهم المعروفة، وإن كانوا قد تأثروا تأثرًا شديدًا بالآراء اليونانية.(1/22)
معطيات الجغرافية الفلكية:
لا يعنينا في بحثنا هذا استعراض معطيات المؤلفين العرب، والمسلمين في علم الفلك الذي أسموه باسم "علم الهيئة"، فأمثال تلك الدراسات هي من اختصاص علماء الفلك، وهي تكاد تستقل عن الدراسة الجغرافية البحتة، غير أننا سنحاول استعراض أهم الآراء، والإنجازات الفلكية ذات الجوانب الجغرافية، وبناء على ذلك سنتناول بالبحث النقاط التالية:
1- المفاهيم حول شكل الأرض وحركتها.
2- طرق ووسائل تحديد مساحات وحجم الأرض.
3- تحديد مواقع الأرض فلكيًا.(1/23)
1- المفاهيم حول شكل الأرض وحركتها:
لا ريب أن الجغرافيين العرب والمسلمين قد تأثروا في آرائهم عن الأرض بالآراء اليونانية -الرومانية، ولا سيما بآراء أرسطو وبطليموس، وكانت الفكرة السائدة عن الأرض لدى العرب في البداية أنها مسطحة، غير أن الجغرافيين والفلكيين العرب سرعان ما نبذوا تلك الفكرة، منذ شاعت بينهم آراء بطليموس، وآمنوا جميعًا بكروية الأرض، وظهر تأثرهم بالآراء اليونانية كذلك في اعتقادهم بأن الأرض تحتل مركز الكون، وأنها محاطة بالبحار، ويمكن القول: إن آراءهم عن الأرض باتت تحكمها ثلاث فرضيات: الأولى أنها مدروة، والثانية أنها ثابتة في مركز الكون، والثالثة أنها محاطة بالبحار، وقد اعتاد معظم الجغرافيين العرب أن يصدروا مؤلفاتهم بتلك الفرضيات الثلاث، فقد وصفت ابن خرداذبة مثلًا في مقدمة كتابه "المسالك والممالك"، شكل الأرض على النحو التالي: "قال أبو القاسم: صفة الأرض إنها مدورة كتدوير الكرة موضوعة في جوف الفلك كالمحة في جوف(1/23)
البيضة، والنسيم حول الأرض، وهو جاذب لها من جميع جوانبها إلى الفلك، وبنية الخلق على الأرض أن النسيم جاذب لما في أبدانهم من الثقل؛ لأن الأرض بمنزلة الحجر الذي يجتذب الحديد"1.
أما ابن رسته، فقد ذكر في المجلد السابع من كتابه "الأعلاق النفيسة" بأن: "الله عز وجل وضع الفلك مستديرًا كاستدارة الكرة أجوف دوارًا، والأرض مستديرة أيضًا كالكرة مصمتة في جوف الفلك قائمة في الهواء يحيط بها الفلك من جميع نواحيها بمقدار واحد من أسفلها وأعلاها، وجوانبها كلها فهي في وسطها كالمحة في البيضة.. وكذلك أجمعت العلماء على أن الأرض أيضًا بجميع أجزائها من البر والبحر على مثال الكرة، والدليل على ذلك أن الشمس والقمر، وسائر الكواكب لا يوجد طلوعها، ولا غروبها على جميع من في نواحي الأرض في وقت واحد، بل يرى طلوعها على المواضع الشرقية من الأرض قبل طلوعها على المواضع المغربية، وغيبوبتها على المشرقية أيضًا قبل غيبوبتها عن المغربية، ويتبين ذلك من الأحداث التي تعرض في العلو، فإنه يرى في وقت الحادث الواحد مختلفًا في نواحي الأرض، مثل كسوف القمر، فإنه إذا رصد في بلدين متباعدين بين المشرق والمغرب، فوجد وقت كسوفه في البلد الشرقي منهما على ثلاث ساعات من الليل مثلًا، أقول وجد ذلك في الوقت في البلد الغربي على أقل من ثلاث ساعات بقدر المسافة بين البلدين، فتدل زيادة الساعات في البلد الشرقي أن الشمس غابت عنه قبل غيبوبتها عن البلد الغربي. ويوجد هذا الاختلاف في الأوقات في جميع ما يسكن من الأرض ... فإنه إن سار أحد في الأرض من ناحية الجنوب إلى الشمال، رأى أنه يظهر له من ناحية الشمال بعض الكواكب التي كان لها غروب، فيكون أبدي الظهور، وبحسب ذلك يخفى عنه من ناحية الجنوب بعض الكواكب التي كان لها طلوع، فيصير أبدي الخفاء على ترتيب واحد ... فيدل جميع ما ذكرناه على أن بسيط الأرض مستدير، وأن الأرض على مثال الكرة"2.
وقال المسعودي في كتابه "التنبيه والأشراف": "وذكر من عني بمساحة
__________
1 ابن خرداذبه "أبو القاسم عبيد الله" -المسالك والممالك. منشورات مكتبة المثنى لقاسم الرجب. ص4.
2 ابن رسته "أبو علي أحمد بن عمر"- الأعلاق النفيسة "المجلد السابع". منشورات مكتبة المثنى عن طبعة ليدن. ص 8و 12.(1/24)
الأرض وشكلها أن تدويرها يكون بالتقريب أربعة وعشرين ألف ميل، وذلك تدويرها مع المياه والبحار، فإن المياه مستديرة مع لاأرض وحدهما واحد، فكلما نقص من استدارة الأرض، وطولها وعرضها شيء تم بإستدارة الماء وطوله وعرضه"1.
وقال ابن الفقيه في كتابه "مختصر كتاب البلدان": "وذكر بعض الفلاسفة أن الأرض مدورة كتدوير الكرة موضوعة في جوف الفلك كالمحة في جوف البيضة والنسيم حول الأرض، وهو جاذب لها من جميع جوانبها إلى الفلك، وبنية الخلق على الأرض أن النسيم جاذب لما في أبدانهم من الخفة والأرض جاذبة لما في أبدانهم من الثقل؛ لأن الأرض بمنزلة الحجر الذي يجذب الحديد"2.
أما أبو الريحان البيروني، فكان من أكثر الجغرافيين المسلمين عناية بشرح نظرية كروية الأرض، وقد أورد في كتابه "القانون المسعودي" بالتفصيل البراهين التي ذكرها العلماء الأغريق والرومان عن هذه النظرية، ولا سيما براهين أرسطو وبطليموس، وأضاف إليها براهين جديدة، وختم براهينه قائلًا: "ومما ذكرنا يعرف سبب كرية الأرض؛ لأن أبعاضها لو لم تتماسك مع نزوعها إلى المركز، ونزوع ما هو أبعد عنه إلى الموضع الأقرب منه إن خلاله لم يكن بد من اجتماعها حول الوسط اجتماعًا مستويًا للأبعاد تسوية الميزان، لكن أجزاءها تمماسكة مخرجة عن وجهها عن الاستواء إلى التضريس بالجبال، والأنجاد بقصد من التدبير الإلهي، وإن لم يخرج لها جملة الأرض، وليس منه في الماشي معنى يضمهما وإن كان يتفاضل، فإن سطح الماء مستدير، وأصدق كرية من الأرض؛ لأنه إن توهم مستويًا كان وسطه أقرب إلى المركز من حواشيه، فما منها سائل لا محالة إلى وسطه وغير مستقر إلا بعد استواء الأبعاد، وزوال الأعلى والأسفل من السفح بالانتقال من الاستواء إلى الاستدارة، وهذا معنى قصده بطليموس في الأصل الثاني وحوله في
__________
1 المسعودي "أبو الحسن علي" -التنبيه والاشراف، منشورات مكتبة خياط، بيروت 1965، ص 31.
2 ابن الفقيه الهمذاني "أبو بكر أحمد بن إبراهيم" -مختصر كتاب البلدان- منشورات مكتبة المثنى عن طبعة ليدن لعام 1885، ص3.(1/25)
الاستدلال من الأرض للماء، فإن السائر في براريها نحو الجبال يظهر له منها أعاليها، كأنها تبرز من الأرض شيئًا بعد شيء حتى ينتهي إليها، وهذا ظاهر في الوجود يستقيم منه الدلالة على الأرض والماء معًا في الكرية، ومتى كان بين السائر وبين الجبل الشامخ الذي وراءها؛ لأن المدرك منه هو أعاليه، فلو كانت الأول مستقيمة السطح لكان إدراك الأقرب من تلك المتوسطات أولًا أولى من الأبعد بل سفوح الشامخ وأسافله؛ لأنها أقرب إلى البصر من أعاليه بحسب فضل ما بين الفطر، وبين الضلع من المثلث القائم الزاوية، فإن اعتبر الحال بتأمل نيران مؤججة في أعلى الجبل ووسطه، وأسفله سبقت رؤية التي توقد في القمة من التي في الوسط، ومن التي في الوسط من التي في السفح، وعلى استمرار هذا الدليل في الأرض والماء، وما ينفرد الماء بدليل ما يخصه وهو المراكب في البحار، فإن أدقالها تظهر للناظر إليها من بعد قليل قبل جثتها، والجثة أعظم منها لولا أن حدبة الماء الكرية يمنعها، وتخفيها مع انبطاحها بسبب اختلاف الانتصاب إلى أن يزول الستر بالاقتراب، فيظهر عندئذ"1.
وأيد إخوان الصفا في "رسالتهم الرابعة" كروية الأرض، وقالوا في ذلك: "والأرض جسم مدور مثل الكرة، وهي واقفة في الهواء بأن الله يجمع جبالها وبحارها وبراريها، وعماراتها وخرابها، والهواء يحيط بها من جميع جهاتها شرقيها وغربيها وجنوبها وشمالها ومن ذا الجانب، ومن ذلك الجانب، وبعد الأرض من السماء من جميع جهاتها متساو"2.
ولقد فصل ياقوت الحموي في شرحه لشكل الأرض آراء الخوارمي، فقال في كتابه "معجم البلدان": "وأصلح ما رأيت في ذلك وأسداه في رأيي ما حكاه محمد بن أحمد الخوارزمي، قال: إن الأرض في وسط السماء والوسط هو السفل بالحقيقة، والأرض مدورة بالكلية مضرسة بالجزئية من جهة الجبال البارزة والوهدات الغائرة، ولا يخرجها ذلك من الكرية إذا وقع الحس منها على الجملة؛ لأن مقادير الجبال وإن شمخت صغيرة بالمقياس إلى
__________
1 البيروني "أبو الريحان محمد بن أحمد" -القانون المسعودي "الجزء الأول". منشورات مجلس دائرة المعارف العثمانية بالهند. حيدر أباد 1954.
2 إخوان الصفاء وخلان الوفاء -رسائل إخوان الصفا "الجزء الثاني". منشورات المكتبة التجارية الكبرى لصاحبها مصطفى محمد. القاهرة 1928 ص 111.(1/26)
كل الأرض، ألا ترى أن الكرة التي قطرها ذراع، أو ذراعان إذا نتأ منها كالجاورسات، وغار فيها أمثالها لم يمنع ذلك من إجراء أحكام المدور عليها بالتقريب؟ ولولا هذا التضريس لأحاط بها الماء من جميع الجوانب، وغمرها حتى لم يكن يظهر منها شيء ... "1.
وأيد الكتاب المتأخرون أيضًا فرضية كروية الأرض، وعلى رأسهم ابن خلدون، فلقد ذكر في المقالة الثانية من "مقدمته" الشهيرة: "اعلم أنه قد تبين في كتب الحكماء الناظرين في أحوال العالم أن شكل الأرض كروي، وأنها محفوفة بعنصر الماء كأنها عنبة طافية عليه، فانحسر الماء عن بعض جوانبها لما أراد الله من تكوين الحيوانات فيها، وعمرانها بالنوع البشري الذي له الخلافة على سائرها. وقد يتوهم من ذلك أن الماء تحت الأرض، وليس بصحيح وإنما التحت الطبيعي قلب الأرض، ووسط كرتها الذي هو مركزها، والذي يطلبه بما فيه من الثقل ... "2.
كذلك أيد هذه الفرضية أبو الفدا في كتابه "تقويم البلدان"، وأورد البراهين على كروية الأرض حيث قال: "أما جملة الأرض فكرية الشكل حسبما ثبت في علم الهيئة بعدة أدلة منها أن تقدم طلوع الكواكب، وتقدم غروبها للمغربي يدل على استدارتها شرقًا وغربًا، وارتفاع القطب والكواكب الشمالية، وانحطاط الجنوبية للواغلين في الجنوب بحسب وغولهما، وتركب الاختلافين للسائرين على سمت بين السمتين، وغير ذلك دليل على استدارة جملة باقي الأرض، وأما تضاريسها التي تلزمها من جهة الجبال، والأغوار فإنه لا يخرجها من أصل الاستدارة، ولا نسبة لها محسوسة إلى جملة الأرض، فإنه قد تبرهن في علم الهيئة أن جبلًا يرتفع نصف فرسخ يكون عند جملة الأرض، كخمس سبع عرض شعيرة عند كرة قطرها ذراع، وكذلك ثبت في علم الهيئة أن الأرض في وسط الفلك بعد أدلة، منها أن انخساف القمر في مقاطراته الحقيقية للشمس، يدل على أن الأرض في الوسط والواقف على
__________
1 الحموي "ياقوت" -معجم البلدان، طبعة داري صادر وبيروت، 1955 "الجزء الأول".
2 ابن خلدون "عبد الرحمن" -مقدمة ابن خلدون. منشورات المكتبة التجارية الكبرى لصاحبها مصطفى محمد بالقاهرة، ص 44.(1/27)
الأرض من جميع الجوانب رأسه إلى ما يلي المحيط، وهو الفوق ورجله إلى ما يلي المركز وهو التحت، ومحدب الأرض مواز لمقعر الفلك المحيط به، والسائر على الأرض يجب أن يصير سمت رأسه في كل وقت جزءًا آخر من الفلك ... "1.
وافتتح الدمشقي "شيخ الربوة" كتابه "نخبة الدهر في عجائب البر والبحر"، بشرح مسهب لشكل الأرض، ومركزها في الكون حيث قال: "أجمع المحققون لعلم الهيئة على أن الأرض جسم بسيط طباعه أن يكون باردًا يابسًا، متحركًا إلى الوسط، وإنما خلفت باسطة باردة يابسة للغلظ، والتماسك، إذ لولا ذلك لما أمكن قرار الحيوان عليها، ولا حدث النبات والمعدن فيها، وهي كرية الشكل بالكلية مضرسة بالجزوية من جهة الجبال البارزة، والوهدات الغائرة ولا يخرجها ذلك من الكرية، وهي في الوسط من الفلك ولا نسبة لها إليه؛ لأن أصغر كوكب من الثوابت يقدرها مرات، ووسط الفلك هو السفل منه ومثلها فيه كمثل النقطة في الدائرة أو كالملح من البيضة، فهي واقفة في الوسط والماء محيط بها، إلا المقدار البارز الذي خلقه سبحانه وتعالى، وجعله مقرًا للحيوان، فإنه بمنزلة التضاريس والخشونات على ظهر الكرة، فمثلها بها كمثل الثمرة العفص المضرسة مع الاستدارة، وجعل الله البارز منها مقرًا للحيوان البري، ووهداتها المغمورة بالماء مقرًا للحيوان البحري، وجعل كل واحد من العناصر فلكًا محيطًا بما دونه إلا الماء، فإنه منعته العناية الإلهية عن الإحاطة، لذلك المذكور ولما بين مركزي الشمس والأرض من المخالفة، فإن الشمس تدور على مركزها الخاص الذي هو غير مركز الأرض، فتقرب من جانب الأرض، وهو الجنوب موضع حضيضها، وتبعد من جانب وهو الشمال موضع أوجها، ولما كان ذلك انجذبت المياه إلى جهة الجنوب، وانحسرت من جهة الشمال فصار الشمال يبسًا "أرضًا طافية"، وجعل الله تعالى لون الأرض في الغالب أغبر أدكن ليظهر النور والضياء، وليتمكن إبصار الحيوان من النظر فتمت الحكمة، [وأتقن نظام الحيوان والنبات والمعدن] ،
__________
1 أبو الفدا "عماد الدين إسماعيل" -تقويم البلدان. منشورات مكتبة المثنى عن طبعة رينو ودي سلاف. ص3.(1/28)
قالوا والدليل على أن الأرض كرية الشكل مستديرة أن الشمس والقمر، وسائر الكواكب لا يوجد طلوعها، ولا غروبها على جميع النواحي في وقت واحد، بل يرى طلوعها في النواحي المشرقية من الأرض قبل طلوعها على النواحي المغربية، وغيبوبتها عن المشرقية قبل غيبوبتها عن المغربية، وكذلك خسوف القمر إذا اعتبرناه، وجدناه في النواحي المشرقية والمغربية مختلفًا متفاوت الوقت، ولو كان طلوعه وغروبه في وقت واحد بالنسبة إلى النواحي لما اختلف، ولو أن إنسانًا سار من ناحية الجنوب إلى ناحية الشمال رأي أنه يظهر له من الناحية الشمالية بعض الكواكب التي كان لها غروب، فتصير أبدية الظهور، وبحسب ذلك يكون عنده من ناحية الجنوب بعض الكواكب التي كان لها طلوع أبدية الخفاء على ترتيب واحد، والماء محيط بالأرض، ولولا التضرس لغمرها حتى لم يبق منها شيء، ولكن العناية الإلهية اقتضت اللطف بالعالم الأنسي، فأبرز له من الماء جزءًا منها ليكون مركزًا للعالم، وإحاطة الماء لها بالأمر الطبيعي إذ كل خفيف يعلو على الثقيل، والماء أخف من الأرض فكان مركزه بها، والهواء جاذب لها من جميع جهاتها إلى الفلك بالسوية، كجذب المغناطيس الحديد ولذلك وقفت في الوسط.
وذهب آخرون إلى أنها واقفة في الوسط من دفع الفلك لها من جميع جهاتها، كتراب ملقى في قارورة تدور بسرعة قوية، ودورانها مستمرًا، فإن ذلك التراب ينجذب إلى وسطها، وكذلك التبن إذا ألقي في طشت مملوء بماء وأدير ذلك الماء بقوة دار التبن معه، وانضم إلى الوسط مجتمعًا بعضا مع بعض، وذهب آخرون إلى أن الأرض بطبعها هاربة من الفلك إلى ذاتها على ذاتها، فهي إذن منضمة منه من سائر جهات إحاطته بها انضمامًا إلى نفسها عنه بالتساوي، وإذا زال الفلك يوم القيامة، وانتشرت كواكبه، وطوي طي السجل ذهب عنه الموجب لهروبها فامتدت، وانتشرت واهتزت وتساوت بالانفراش إلى قريب من أذيال السماء الثانية، والله أعلم.
ثم إنهم مثلوا حلول الساكن فيها بتفاحة غرز فيها شعير من سائر(1/29)
جهاتها، فكل شعيرة منتصبة إلى ما قابلها من جميع جهاتها، لا فرق بين شيء منها في استقامته، وحيث كان الناس في استيطانهم، فإن أرجلهم إلى الأرض ورؤوسهم إلى السماء. وكل فريق منهم يرى أن أرضه التي هو عليها هي المستقيمة في الاعتدال، وقالوا في تحقيق هذه الدعوى لو أن أهل ناحية من نواحي الأرض حفروا بئرًا، وأطالوها إلى المركز وحفر أهل الناحية التي تقابلهم بئرًا أخرى، وأطالوها إلى أن يلتقي الحفيران ويكون الماء واحدًا لأرسل كل واحد دلوهم، وكان أسفل هذا الدلو مقابلًا لاسفل الدلو الآخر، وكأن هؤلاء يجرون دلوهم إلى فوق، والآخرون كذلك لا يشك كل واحد منهم أنه جاذب دلوه من أسفل البئر إلى أعلاه، واستدلوا أيضًا على ذلك أن الإنسان إذا كان في موضع من الأرض، وأخرج خطًا مستقيمًا من مكانه إلى مركز الأرض، وانتهى به إلى الجهة الأخرى، فإنه يمكن أن يكون على طرف الخيط من الجهة الأخرى من رجليه، حتى إنهم قالوا: متى قيس بين أهل الصين وبين أهل الأندلس اللذين هما على طرفي المعمور، كانت أقدامهم متقابلة، وكان طلوع الشمس والقمر عند هؤلاء غروبها عند هؤلاء، وليل هؤلاء نهار هؤلاء بالعكس"1.
أما ما يتعلق بحركة الأرض، فقد مال الجغرافيون العرب والمسلمون إلى الأخذ بفرضية العلماء اليونانيين وهي سكون الأرض، لا سيما وأن هذه الفرضية تتناسب ومعتقداتهم الموروثة، وهي سكون الأرض، لا سيما وأن هذه الفرضية تتناسب ومعتقداتهم الموروثة، والحقيقة أنهم لم يتعرضوا لمناقشة هذه الفرضية إلا بصورة عابرة باعتبارها من الحقائق المسلم بها، ونادرًا ما تجشموا عناء البرهنة عليها، وبطبيعة الحال فقد عزوا ظاهرتي الليل والنهار، والفصول الأربعة إلى حركة الشمس حول الأرض، ومن بين القلائل الذين تعرضوا لبحث هذه القضية إخوان الصفا في "رسائلهم" المعروفة، والبيروني في كتابه "القانون المسعودي"، فقد فسر إخوان الصفا ثبات الأرض في وسط السماء على النحو التالي: "وأما سبب وقوف الأرض في وسط الهواء ففيه أربعة أقاويل، منها ما قيل أن سبب وقوفها هو جذب القلب لها من جميعه جهاتها
__________
الدمشقي "شمس الدين أبو عبد الله الملقب بشيخ الربوة" - نخبة الدهر في عجائب البر والبحر. منشورات مكتبة المثنى عن طبعة للمستشرق مهرن. ص 9-11.(1/30)
بالسوية، فوجب لها الوقوف في الوسط لما تساوت قوة الجذب من جميع الجهات، ومنها ما قيل: إنه الدفع بمثل ذلك فوجب لها الوقوف في الوسط لما تساوت قوة الدفع من جميع الجهات، ومنها ما قيل: إن سبب وقوفها في الوسط هو جذب المركز لجميع أجزائها من جميع الجهات إلى الوسط؛ لأنه لما كان مركز الأرض مركز الفلك أيضًا، وهو مغناطيس الأثقال يعني مركز الأرض، وأجزاء الأرض لما كانت كلها ثقيلة انجذبت إلى المركز، وسيق جزء واحد وحصل في المركز، فصارت الأرض بجميع أجزائها كرة واحدة بذلك السبب، ولما كانت أجزاء الماء أخف من أجزاء الأرض، وقف الماء فوق الأرض، ولما كانت أجزاء الهواء أخف من أجزاء الأرض، وقف الماء فوق الأرض، ولما كانت أجزاء الهواء أخف من أجزاء الماء صار الهواء فوق الماء. والنار لما كانت أجزاؤها أخف من أجزاء الهواء صارت في العلو مما يلي فلك القمر، والوجه الرابع ما قيل في سبب وقوف الأرض في وسط الهواء هو خصوصية الموضع "اللائق به"، وذلك أن الباري عز وجل جعل لكل جسم من الأجسام الكليات، يعني النار والهواء والمار الأرض موضعًا مخصوصًا هو أليق المواضع به، وهكذا القمر وعطارد، والزهرة والشمس والمريخ والمشتري وزحل، جعل لكل واحدة منها موضعًا مخصوصًا في فلكه هو ثابت فيه، والفلك يديره معه، وهذا القول أشبه الأقاويل بالحق"1.
وقال البيروني في كتابه "القانون المسعودي" مبرهنًا على ثبات الأرض، ومؤيدًا بذلك فرضية بطليموس: "ثم نعود إلى القسم الثاني من حركة الأرض، وهي على نفسها نحو المشرق من غير انتقال من مكانها، وقد قال بها أصحاب أرجيهد من علماء الهند، ونظن بالداعي إليها إلزام السماء ما يُرى من حركات الكواكب فيها بالحركة الثانية الشرقية، وإلزام الأرض لوازم الحركة الأولى الغربية، كيلا تجتمع على السماء حركتان مختلفتان معًا -وهذا وإن لم يكن قادحًا في مباني هذه الصناعة، فقد قلنا أن لا أثر للحركة الأولى في الأثير؛ لأنها تدير جملته إدارة واحدة، فليس يحسن من مناهج التحصيل أن يتمسك
__________
1 إخوان الصفا - ص113.(1/31)
به إن انتقض من جهات أخر، أو أن يمهل البحث عن حقيقته ولم يخرج الأمر فيه من طريقته، فأما بطليموس فإنه استجهل القائلين بها عن جهة حملهم سرعة الحركة على الأشياء الثقيلة الكثيفة، وبطأها أو بطلانها على الأشياء الخفيفة اللطيفة، وهذا استدلال هو بالبحث الطبيعي أليق منه بالتعليمي بل هو إقناعي، فإنه اللطيف والكثيف إلى أن يحصل منهما على حقيقة معنى.
وأما النظر التعليمي في هذا المعنى، فإن القول فيه راجع إلى أن الأرض لو كانت متحركة بهذه الحركة لتخلف عنها ما انحاز منها من طائر محلق، أو شيء مرمي به نحو جو السماء أو سحاب واقف في الهواء، فترى حركتها نحو المغرب دائمًا، وإن كانت لها أيضًا هذه الحركة كما للأرض، وجب أن يرى ساكنًا من أجل حركتها على التحاذي، لكنا نراها متحركة في جميع الجهات، فليست ولا هي بمتحركة هذه الحركى التي بها الليل والنهار ...
فليعلم الآن أن الأرض لو كانت متحركة كما ذكر لكان ما ذكرنا من الأميال لمنطقة حركتها ثلاثماية وستين ضعفًا في أربع وعشرين ساعة يختص الجزء من تسعماية من الساعة، وهو الدقيقة من الفلك ماية ألف وسبعماية وثمان وسبعين ذراعًا، ومقدار دوران هذه الدقيقة من الأزمان بتقدير الهند إياه نفس واحد من أنفاس الإنسان، فإذا كانت الحركة فيه قريبًا من ميل كانت ظاهرة للقياس، فإن كانت الأشياء المنفصلة عن الأرض حافظة للمسامتة بما لها مع الأرض من الحركة، فمعلوم أنه إذا غشيها قوة زائدة قاسرة أنها يزيلها عن ذلك السكون المتخيل، ويظهر فيها أثرها ما وجبت اختلافها في الجهات؛ لأن القاسرة في جهة المشرق مجتمعة مع الطبيعة، وفي جهة المغرب معاندة لها دافعة، فتكون وثبة الواثب فيهما مختلفة ومرور السهم المرمي إليهما، والطائر القاطع نحوهما متباينًا. ويتفاوت كذلك في الشمال والجنوب للاتساع في أحدهما والتضايق في الآخر، وليس من ذلك شيء بموجود، فليس للأرض في مكانها حركة دورية في مركزها"1.
__________
1 البيروني -القانون المسعودي- ص49-52.(1/32)
وبالرغم من إجماع الجغرافيين، والفلكيين العرب والمسلمين على ثبات الأرض، وعدم حركتها فإن نفرًا قليلًا منهم قد خامرته الشكوك في سكون الأرض، وأشاروا إلى احتمال تعرضها لدورة يومية حول مركزها من أمثال عمر الكاتبي وأبي الفرج الشامي، بل إن نفرًا آخر ومنهم أبو سعيد السجزي، قد ألمح إلى إمكان حدوث حركة للأرض حول الشمس، وقد ورد على لسان البيروني قوله بأنه رأى الاصطرلاب المسمى بالزرقالي، اخترعه أبو سعيد السجزي فأعجبه ويستحق مبدعه الثناء، وهذا الاصطرلاب مؤسس على ما ذهب إليه البعض من أن الحركة المشاهدة لنا هي حركة الأرض لا حركة الفلك، ولعمري هذه عقدة يصعب حلها1.
وعلى أية حال فلا بد من أن نؤكد أن هذه الشكوك لدى بعض العلماء العرب والمسلمين لا تمثل سوى اتجاه ضعيف، وقد رفض هذا الرأي غالبيتهم وبرهنوا على خطئه، كما فعل البيروني وعمر الكتبي والزويني، وقطب الدين الشيرازي وغيرهم، ومن المعروف أن العلماء اليونانيين قد رفضوا أيضًا من قبل رأي أريستارخس Aristarchus الأسكندري القائل بدوران الأرض حول نفسها وحول الشمس، ولم يأخذ علماء الفلك بفرضيته إلا في منتصف القرن السادس عشر على أيدي كوبرنيكس وغاليلو.
__________
1 كارلو ناللينو -علم الفلك وتاريخه عند العرب في القرون الوسطى. روما- ص251.(1/33)
2- طرق ووسائل تحديد مساحات وحجم الأرض:
لقد شغلت الجغرافيين العرب والمسلمين مسألة حجم الأرض، ومساحات الجهات المسكونة منها، ومدى امتدادها على سطح الأرض.
فأما ما يتعلق بحجم الأرض فقد تداولوا أولًا أرقامًا عديدة يمت البعض منها إلى الهنود، ويمت البعض الآخر إلى اليونانيين والرومانيين، إلى أن توصلوا إلى رقم خاص بهم، ولقد تراوحت التقديرات الهندية لمحيط الأرض بين 33177 ميلًا "أريا بهاتا" و 50938 ميلًا "براهما جويتا" و 4714 ميلًا "أكاريا"1، كما تراوحت التقديرات اليونانية -الرومانية بين 44000 ميل
__________
1 نفيس أحمد "ترجمة فتحي عثمان": - جهود المسلمين في الجغرافيا. "سلسلة الألف كتاب". مطابع دار القلم بالقاهرة. ص 192.(1/33)
"أرسطو" و 26660 ميلًا "إراتوستنس" و 18000 ميل "بوسيدونيس وبطليموس"1، أما التقديرات العربية فقد أشار إليها ابن رسته في الجزء السابع من كتابه "الأعلاق النفيسة" على النحو التالي: "الذي يحيط بالأرض أعني الدائرة العظمى التي على كرتها أربعة وعشرون ألف ميل [والميل العربي حوالي 1973.3 مترًا كما توصل ناللينو] ؛ لأن كثيرًا من القدماء ذكروا أن الذين وجدوا بين مدينتين على خط واحد من الخطوط التي تدور على أقطار معدل النهار، إذا كان بينهما من العرض جزء واحد من ثلاثمائة وستين جزءًا من الدائرة العظمى التي على الأرض من الأميال ستة وستين ميلًا وثلثي ميل، وقطرها سبعة آلاف وستمائة وستة وثلاثون ميلًا بالتقريب مع الماء المحيط بها، يكون نصف ذلك ثلاثة آلاف وثمان مائة وثمانية عشر ميلًا بالتقريب"2.
وقال ابن الفقيه في كتابه "مختصر كتاب البلدان": "والأولى مقسومة نصفين بينهما خط الاستواء، وهو من المشرق إلى المغرب، وهذا طول الأرض وهو أكبر خط في كرة الأرض، كما أن منطقة البروج أكبر خط في الفلك، وعرض الأرض من القطب الجنوبي الذي يدور حوله سهيل إلى القطب الشمالي الذي يدور حوله بنات نعش، واستدارة الأرض في موضع خط الاستواء ثلثمائة وستون درجة والدرجة خمسة وعشرون فرسخًا [والفرسخ يساوي ثلاثة أميال عربية أو ستة كيلومترات تقريبًا] ، والفرسخ أثني عشر ألف ذراع، والذراع أربعة وعشرون إصبعًا، والأصبع ست حبات شعير مصفوفة بطن بعضها إلى بعض، فيكون ذلك تسعة آلاف فرسخ"3.
أما المسعودي فقد أورد في كتابه "التنبيه والإشراف" الأرقام التالية لمحيط الأرض: "قال المسعودي: وذكر من عني بمساحة الأرض وشكلها أن تدويرها يكون بالتقريب أربعة وعشرين ألف ميل.. وذلك أنهم نظروا إلى مدينتين في خط واحد إحداهما أقل عرضًا من الأخرى، وهما الكوفة ومدينة
__________
1 د. شريف محمد شريف -تطور الفكر الجغرافي- "الجزء الأول"، القاهرة 1969 ص 211و 330و 408.
2 ابن دسته -ص17-18.
3 ابن الفقيه -ص 4-5.(1/34)
السلام فأخذوا عرضيهما فنقصوا الأقل من الأكثر، ثم قسموا ما بقي على عدد الأميال التي بينهما، فكان نصيب الدرجة مما يحاذيها من جزء الأرض المستديرة ستة وستين ميلًا وثلثي ميل على ما ذكر بطليموس، فإذا ضربوا ذلك في جميع درج الفلك كان ذلك أربعة وعشرين ألف ميل، وكان قطرها الذي هو طولها وعرضها وغلظها سبعة آلاف ميل وستمائة وسبعة وستين ميلًا، والميل أربعة آلاف ذراع بالسوداء، وهو الذراع الذي وضعه المأمون لذرع الثياب ومساحة البناء وقسمة المنازل، [يعتقد ناللينو أن الذراع السوداء كان يبلغ 493.3 مليمترًا] ، والذراع أربعة وعشرون إصبعًا والأصبع ست شعيرات مضموم بضعها إلى بعض، والفرسخ بهذا الميل ثلاثة أميال، ومنهم من يجعل الميل ثلاثة آلاف ذراع والفرسخ أربعة أميال، وكلاهما يؤولان إلى شيء واحد، وفيما ذكرناه من مقدار حصة الدرجة من الأميال تنازع، فمنهم من رأى أن ذلك سبعة وثمانون ميلًا، ومنهم من رأى ذلك ستة وخمسين ميلًا وثلثي ميل، والمعول في ذلك على ما حكيناه عن بطليموس"1.
وأشار إخوان الصفا إلى أن بعد الأرض عن السماء من جميع جهاتها متساو، وأن أعظم دائرة في بسيط الأرض هي 25455 ميلًا "6855 فرسخًا"، وقطر هذه الدائرة هو قطر الأرض وهو 6551 ميلًا "2167 فرسخًا" بالتقريب، ومركزها هي نقطة متوهمة في عمقها على نصف القطر، وبعدها من ظاهر سطح الأرض ومن سطح البحر من جميع الجهات متساو؛ لأن الأرض بجميع البحار التي على ظهرها كرة واحدة2.
ونقل ياقوت الحموي في كتابه "معجم البلدان" رأي أبي الريحان البيروني في حجم الأرض ومساحتها، حيث ذكر بأن طول قطر الأرض بالفراسخ ألفان ومائة وثلاثة وستون فرسخًا وثلثا فرسخ، ودورها بالفراسخ ستة آلاف وثمانمائة فرسخ، وعلى هذا تكون مساحة سطحها الخارج منكسرًا أربعة عشر ألف وسبعمائة وأربعة وأربعة وأربعين ألفًا ومائتين واثنين وأربعين فرسخًا
__________
1 المسعودي -التنبيه والاشراف، ص 31-32.
2 إخوان الصفا -ص 111- 112.(1/35)
وخمس فرسخ، كذلك أورد الحموي في كتابه المذكور تقديرات أخرى على النحو التالي: "وقال دورنيوس: إن الأرض خمسة وعشرون ألف فرسخ، من ذلك الترك والصين أثنا عشر ألف فرسخ، والروم خمسة آلاف فرسخ، وبابل ألف فرسخ، وحكي أن بطليموس صاحب المجسطي قاس حران، وزعم أنها أرفع الأرض فوجد ارتفاعها ما عدد، ثم قاس جبلًا من جبال آمد، ورجع فمسح من موضع قياسه الأول إلى موضع قياسه الثاني على مستو من الأرض، فوجده ستة وستين ميلًا، فضربه في دور الفلك وهو ست وستون درجة، فبلغ ذلك أربعة وعشرين ألف ميل، يكون ذلك ثمانية آلاف فرسخ، وقال غير بطليموس مما يُرجع إلى رأيه أن الأرض مقسومة بنصفين بينهما خط الاستواء وهو من المشرق إلى المغرب، وهو أطول خط في كرة الأرض، كما أن منطقة البروج أطول خط في الفلك، وعرض الأرض من القطب الجنوبي الذي يدور حول سهيل إلى الشمال الذي تدور حوله بنات نعش، فاستدارة الأرض بموضع خط الاستواء ثلاثمائة وستون درجة، والدرجة خمسة وعشرون فرسخًا، فيكون ذلك تسعة آلاف فرسخ، وبين خط الاستواء وكل واحد من القطبين تسعون درجة، واستدارتها عرضًا مثل ذلك؛ لأن العمارة في أرض بين خط الاستواء وكل واحد أربع وعشرون درجة، ثم الباقي قد غمره ماء البحر، فالخلق في الربع الشمالي من الأرض والربع الجنوبي خراب، والنصف الذي تحتها لا ساكن فيه، والربعان الظاهران هما أربعة عشر إقليمًا منها سبعة عامرة وسبعة غامرة من شدة الحر بها"1.
وذكر ابن خلدون في "مقدمته": "إن خط الاستواء يقسم الأرض بنصفين من المغرب إلى المشرق، وهو طول الأرض وأكبر خط في كرتها، كما أن منطقة فلك البرود، ودائرة معدل النهار [دائرة خطي الطول المتقابلين Meridian Cirele] أكبر خط في الفلك، ومنطقة البروج منقسمة بثلاثمائة وستين درجة والدرجة من مسافة الأرض خمسة وعشرون فرسخًا، والفرسخ اثنا عشر ألف ذراع، والذراع أربعة وعشرون إصبعًا، والإصبع ست حبات
__________
1 الحموي -ص19.(1/36)
شعير مصفوفة ملصق بعضها إلى بعض ظهرا لبطن، وبين دائرة معدل الفلك التي تقسم الفلك بنصفين، وسامت خط الاستواء من الأرض، وبين كل واحد من القطبين تسعون درجة، لكن العمارة في الجهة الشمالية من خط الاستواء أربع وستون درجة، والباقي منه خلاء لا عمارة فيه لشدة البرد والجمود، كما كانت الجهة الجنوبية خلاء كلها لشدة الحر1.
ولم يقتنع الجغرافيون والفلكيون العرب والمسلمون بالتقديرات التي ورثوها عن الهنود والأغريق لمقدار محيط الأرض، وقاموا أنفسهم بمحاولة عملية للتثبت من هذه القضية، وذلك بقياس درجة من درجات الطول، وقد جاءت المبادرة من الخليفة العباسي المأمون الذي أمر بإجراء قياس لطول درجة من خط نصف النهار، [وهو خط الطول والمسمى أيضًا بخط الهاجرة] للتوصل إلى مجموع محيط الأرض، وقد اقتضت هذه العملية القيام بمسح عملي لعله كان الأول من نوعه في هذا الميدان، وقد دلت قياساتهم على أن طول الدرجة يبلغ 56 ميلًا [حسب الميل العربي، وهو أكبر من الميل الروماني] ، في حين أن بطليموس كان قد حدد الدرجة بحوالي 66 ميلًا، وقد روى ابن خلكان في كتابه "وفيات الأعيان" تلك العملية على النحو التالي: "إن المأمون كان مغرمًا بعلوم الأوائل وتحقيقها، ورأى فيها أن دور كرة الأرض أربعة وعشرون ألف ميل، كل ثلاثة أميال فرسخ، فأراد المأمون أن يقع على حقيقة ذلك، فسأل أبناء موسى بن شاكر المذكورين عنه فقالوا: نعم هذا قطعي، فقال: أريد منكم أن تعملوا الطريق الذي ذكره المتقدمون حتى نبصر هل يتحقق ذلك أم لا، فسألوا عن الأراضي المتساوية أي البلاد هي؟ فقيل لهم صحراء سنجار في غاية الاستواء، وكذلك وطآت الكوفة. فأخذوا معهم جماعة ممن يثق المأمون إلى أقوالهم، ويركن إلى معرفتهم بهذه الصناعة وخرجوا إلى سنجار، وجاءوا إلى الصحراء المذكورة، فوقفوا في موضع منها فأخذوا ارتفاع القطب الشمالي [أي خط عرض الموقع] ببعض الآلات، وضربوا في ذلك الموضع وتدًا وربطوا فيه حبلًا طويلًا، ثم مشوا إلى الجهة الشمالية على
__________
1 ابن خلدون -ص45.(1/37)
استواء الأرض دون انحراف إلى اليمين واليسار حسب الإمكان، فلما فرغ الحبل نصبوا في الأرض وتدًا آخر، وربطوا فيه حبلًا طويلًا، ومشوا إلى الجهة الشمالية أيضًا كفعلهم الأول، ولم يزل ذلك دأبهم حتى انتهوا إلى موضع أخذوا فيه ارتفاع القطب المذكور، فوجدوه قد زاد على الارتفاع الأول درجة. فمسحوا ذلك القدر الذي قدروه من الأرض بالحبال فبلغ ستة وستين ميلًا وثلثي ميل، فعلموا أن كل درجة من درج الفلك يقابلها من سطح الأرض ستة وستون ميلًا وثلثان، ثم عادوا إلى الموضع الذي ضربوا فيه الوتد الأول، وشدوا فيه حبلًا وتوجهوا إلى جهة الجنوب، ومشوا على الاستقامة وعملوا كما عملوا في جهة الشمال من نصب الأوتاد، وشد الحبال حتى فرغت الحبال التي استعملوها في جهة الشمال، ثم أخذوا الارتفاع فوجدوا القطب الجنوي قد نقص من ارتفاعه الأول درجة، فصح حسابهم وحققوا ما قصدوه من ذلك. وهذا إذا وقف عليه من له يد في علم الهيئة ظهر له حقيقة ذلك، فلما عاد بنو موسى إلى المأمون، وأخبروه بما صنعوا وكان موافقًا لما رآه في الكتب القديمة من استخراج الأوائل طلب تحقيق ذلك في وضع آخر، فسيرهم إلى أرض الكوفة وفعلوا كما فعلوا في سنجار، فتوافق الحسابان، فعلم المأمون صحة ما حرره القدماء في ذلك1".
وقد علق ناللينو على هذه الرواية بقوله: "لا تخلو رواية ابن خلكان من شيء من الخلط والخطأ ... والصحيح إنما هو ما يستخرج من زيج ابن يونس وكتب غيره في أن جماعة من الفلكيين قاسوا قوسًا من خط نصف النهار في صحراوين، أي البرية عن شمال تدمر وبرية سنجار، ثم إن حاصلي العملين اختلفا فيما بين 56.25 من الأميال و 57 ميلًا، فاتخذوا متوسطا وهو 56.63 من الأميال تقريبًا، أي أن طول الدرجة عند فلكيي المأمو هو 111.815 مترًا، وعلى هذا فطول المحيط 41248 كيلو مترًا أي حوالي 20400ميل، وهو كما لا يخفى قريب من الحقيقة، ودال على ما كان للعرب من الباع الطويل في الأرصاد والرياضيات، وأعمال
__________
1 ابن خلكان -وفيات الأعيان. "الجزء الأول". القاهرة 1380هـ. ص79-80.(1/38)
المساحة ... "1.
ولقد حاول البيروني التثبت من هذه القضية، وأجرى مسحًا عمليًا في أحد سهول داهستان الشمالية من إقليم جرجان، كما أشار إلى ذلك في المقالة السابعة من كتابه "القانون المسعودي"، إلا أن محاولاته تلك لم تنجح، ثم عاد فابتكر طريقة أخرى لقياس درجة من خط نصف النهار، فوجد أنها 56.050 ميلًا، وقد ذكر تلك الطريقة في كتابه "الاصطرلاب" على النحو التالي: "وفي معرفة ذلك الطريق قائم في الوهم الصحيح بالبرهان والوصول إلى عمله صعب لصغر الاصطرلاب، وقلة مقدار الشيء الذي يبني عليه، وهو أن تصعد جبلًا مشرفًا على بحر أو تربة ملساء ترصد غروب الشمس، فتجد فيه ما ذكرناه من الانحطاط، ثم تعرف مقدار عمود ذلك الجبل، وتضرب في الجيب المستوي لتمام الانحطاط الموجود، وتقسم المجتمع على الجيب المنكوس لذلك الانحطاط نفسه، ثم تضرب ما خرج من القسمة في اثنين وعشرين أبدًا، وتقسم المبلغ على سبعة فيخرج مقدار احاطة الأرض بالمقدار الذي به قدرت عمود الجبل"2.
وكذلك روى البيروني في كتابه "القانون المسعودي" أنه أراد تحقيق قياس المأمون، فاختار جبلًا في بلاد الهند مشرفًا على البحر على برية مستوية، ثم قاس ارتفاع الجبل فوجده 652.5 ذراعًا، وقاس الانحطاط فوجده 34 دقيقة فاستنبط أن مقدار درجة من خط نصف النهار هو 58 ميلًا تقريبًا، ويعلق ناللينو على هذه العملية بقوله بأننا إذا أجرينا الحساب بجداول اللوغاريثمات وجدناه 56.93 ميلًا.
ولم تقتصر جهود الجغرافيين والفلكيين العرب والمسلمين على محاولة التوصل إلى مقدار محيط الأرض، بل حاولوا التعرف على مساحات الأرض المسكونة أيضًا، وقد وردت في كتاباتهم تقديرات مختلفة لمساحات الأرض المسكونة وللبحار التي تقع ضمنها، وقد استند أغلبها إلى كتابات اليونانيين، كما اعتمد أيضًا على كتابات الهنود والإيرانيين فضلًا عن تقديراتهم
__________
1 ناللينو- 287.
2 المصدر السابق -ص290-291.(1/39)
الشخصية، وقد خضعت تقديراتهم إلى الاعتقاد الذي توارثوه عن اليونانيين والرومانيين من أن جزءًا محدودًا فقط من الأرض هو الذي يسكنه البشر، وهو الجزء الذي أطلق عليه اسم "الربع المعمور"، والذي حدده الرومان "بطليموس" بين خطي عرض 16 درجة جنوبًا و 63 درجة شمالًا بينما حدده الجغرافيون العرب بين خطي عرض 21 درجة جنوبًا و 63 درجة شمالًا، ولعل خير من درس هذه النقطة البيروني في كتابه "القانون المسعودي"، فقد أوضح بصورة دقيقة مساحة الأقاليم السبعة التي تمثل الجهات المعمورة من الأرض مستندًا إلى المراجع المختلفة، وأورد التقديرات النهائية التي توصل إليها، والتي ربما كانت تمثل أفضل التقديرات القديمة، وقد نقلها عنه أبو الفدا في كتابه "تقويم البلدان" بعد أن شرح المقاييس التي استخدمها البيروني، أما إخوان الصفا فقد أوردوا في "رسائلهم" مساحات الأقاليم السبعة من الأرض المعمورة على النحو التالي:
الإقليم الأول وطوله من المشرق إلى المغرب 9555 ميلًا، 3185 فرسخًا، وعرضه من الجنوب إلى الشمال 445 ميلًا، 146 فرسخًا.
الإقليم الثاني وطوله من المشرق إلى المغرب 7655 ميلًا، وعرضه من الجنوب إلى الشمال 600 ميل.
الإقليم الثالث وطوله من المشرق إلى المغرب 8255 ميلًا، وعرضه من الجنوب إلى الشمال 355 ميلًا.
الإقليم الرابع وطوله من المشرق إلى المغرب 7855 ميلًا، وعرضه من الجنوب إلى الشمال 355 ميلًا.
الإقليم الخامس وطوله من المشرق إلى المغرب 7455 ميلًا، وعرضه من الجنوب إلى الشمال 255 ميلًا.
الإقليم السادس وطوله من المشرق إلى المغرب 7555 ميلًا، وعرضه من الجنوب إلى الشمال 255 ميلًا.(1/40)
الإقليم السابع وطوله من المشرق إلى المغرب 6655 ميلًا، وعرضه من الجنوب إلى الشمال 185 ميلًا.
كذلك أورد ياقوت الحموي في "معجمه" تقديرات لمجموع مساحة الأرض نقلها عن الجغرافيين السابقين، ومما قال في ذلك: "واختلفوا في مساحة الأرض، فذكر محمد بن موسى الخوارزمي صاحب الزيج أن الأرض على القصد تسعة آلاف فرسخ، والعمران من الأرض نصف سدسها، والباقي ليس فيه عمارة ولا نبات ولا حيوان، والبحار محسوبة من العمران والمفاوز التي بين العمران من العمران1.
وقال أبو الريحان: طول قطر الأرض بالفراسخ ألفان ومائة وثلاثة وستون فرسخًا وثلثا فرسخ، ودورها بالفراسخ ستة آلاف وثمانمائة فرسخ، وعلى هذا تكون مساحة سطحها الخارج منكسرًا أربعة عشر ألف ألف وسبعمائة وأربعة وأربعين ألفًا ومئتين واثنين وأربعين فرسخًا وخمس فرسخ.
أما بطليموس فقد ذكر أن تكسير جميع بسيط الأرض مائة واثنان وثلاثون ألف ألف، وستمائة ألف ميل يكون مائتي ألف وثمانية وثمانين ألف فرسخ"2.
__________
1 إخوان الصفا -ص120- 128.
2 الحموي -ص18-20.(1/41)
3- تحديد مواقع الأرض فلكيًّا:
لقد اهتم الجغرافيون والفلكيون العرب والمسلمون بتحديد خطوط عرض وطول المكان لتعيين الموقع الجغرافي للمدن، والظواهر الجغرافية المختلفة، والحقيقة أن اهتمامهم بتعيين مواقع المدن كان من العوامل الهامة في تطوير علم الفلك العربي، ولقد استفادوا في هذا الميدان من تجارب اليونانيين، إلا أنهم في الوقت
نفسه ابتكروا طرقًا جديدة أضفت على قياساتهم مزيدًا من الدقة والضبط، ويقول عالم الرياضيات شوي Schoy بصدد ذلك: "لقد أجرى مختلف الجغرافيين العرب أبحاثًا متقنة إلى درجة(1/41)
تفوق المألوف انتهت بهم إلى تحديد العروف الجغرافية، ولذلك كانت الطرق التي مارسوها أصيلة، كما كانت الطرق التي توصلوا إليها دقيقة ما بين حين وآخر"1.
وكانت أهم وسائلهم لتعيين عرض المكان قياس ارتفاع النجم القطبي، أو إرتفاع الشمس، أو ارتفاع النجم حول القطبي، إلا أن الوسيلة الأولى كانت أكثرها شيوعًا، وقد برع ابن الهيثم براعة خاصة في استنباط طرق دقيقة للرصد والحساب، والتي سجلها في رسالته المعروفة "رسالة ارتفاع القطب"2، وكذلك برع في هذا الميدان فلكيون عديدون من أمثال أبناء موسى بن شاكر وابن يونس، كما استفاد الخوارزمي والفرغاني والبتاني من طرق الإغريق، والهنود في إيجاد خطوط العرض، وكان من ثمار المعرفة بتحديد خطوط العرض إقامة المزاول الشمسية، في الميادين والمساجد التي كانت تستخدم في ضبط أوقات النهار، ولا سيما لأغراض إقامة الصلاة.
أما ما يتعلق بخطوط الطول، فإن أمر تحديدها كان أكثر صعوبة، ذلك أن آراء الجغرافيين والفلكيين العرب والمسلمين لم تتفق على نقطة واحدة، فقد اتجه بعضهم إلى الأخذ بالطريقة البطليموسية في تحديد خط الطول صفر في أقصى غرب المعمورة، إلا أنهم لم يتخذوا خط بطليموس الذي كان يمر بجزر الخالدات، بل اتخذوا خطا يبعد عنه نحو الشرق بعشر درجات، ويمر بطرق الساحل المغربي، وقد اعتبروا مجموع خطوط الطول 360 خطًا، وأحصوا 180 خطًا منها ابتداء من ساحل أفريقيا الغربي نحو الشرق، تنتهي في أقصى حدود الصين الشرقية في مدينة أطلقوا عليها اسم "السيلي" أو"سيلا"، وفي بعض الأحيان أحصو ا 90 درجة إلى الشرق و 90 درجة إلى الغرب من خط افتراضي يخترق "قبة الأرين" في مركز الأرض، "ويبدو أن الاسم قد اشتق من اسم مدية أوجين Ujjanin الهندية الواقعة على خط
__________
1 نفيس أحمد- ص 187.
2 قدري حافظ طوقان -تراث العرب العلمي في الرياضيات والفلك. "الطبعة الثانية"- القاهرة 1954، ص 92.(1/42)
الاستواء والذي حُرِف إلى أوزين ثم إلى أرين"1، ومنهم من جعل خط الصفر يبدأ عند ساحل أفريقيا الغربي، ومنهم من اتبع نهج اراتوستين فجعل خط الصفر يمر بين ساحل أفريقيا الشرقي، وشبه جزيرة الهند مخترقًا جزيرة زنجبار التي أطلق عليها اسم "جزيرة الأرين" أو"قبة الأرض"، وهي التي يتساوى فيها الليل والنهار، وعلى أية حال فقد كان تحديد خطوط الطول أمرًا تكتنفه الصعوبات، وكانت أهم الوسائل التي اتبعها العلماء المسلمون في ذلك هي ملاحظة خسوف القمر، وهي طريقة كانت تنطوي على أخطاء في الحساب قد تبلغ بضع درجات، غير أن البيروني ابتكر طريقة جديدة سُميت بالطريقة الأرضية في الحساب، وذلك بتحديد أقصر مسافة طولية بين نقطتين، وتعيين خط عرض كل منهما، ثم حساب الفروق في خطوط الطول بناء على النتائج المتوفرة2، وقد استطاع البيروني بالفعل أن يقيس فرق الطول بين بغداد وغزنة، وتوصل إلى نتيجة دقيقة، كما استطاع الزرقالي بناء على ذلك أن يختزل طول البحر المتوسط إلى 42 درجة أي إلى ما يعادل طوله الحقيقي بالتقريب بعد أن كان التقدير الروماني 620 درجة3.
ولقد استتبع براعة الجغرافيين والفلكيين العرب، والمسلمين في تحديد خطوط طول وعرض المواقع الجغرافية محاولتهم رسم خارطة للأرض، وهي المحاولة التي تمت بمبادرة من الخليفة المأمون، والتي أثمرت ما سمي بـ"الصورة المأمونية"، وقد ضاعت فيما ضاع من آثار الفترة العباسية المبكرة، ولعل خير من تحدث عنها هو المسعودي في كتابه "التنبيه والإشراف"، حيث قال: "رأيت هذه الأقاليم مصورة في غير كتاب بأنواع الأصباغ، وأحسن ما رأيت من ذلك في كتاب جغرافيا مارينوس، وتفسير جغرافيا قطع الأرض، وهي الصورة المأمونية التي عملت للمأمون واجتمع على صنعتها عدة من حكماء أهل عصره صور فيها العالم بأفلاكه ونجومه، وبره وبحره وعامره وغامره، ومساكن الأمم والمدن وغير ذلك، وهي أحسن مما تقدم من جغرافيا أبطليموس وجغرافيا مارينوس وغيرهما"4.
__________
1 كراتشكوفسكي -ص 85.
2 نفيس أحمد -ص 89".
3 المصدر الأسبق -85.
4 المسعودي -التنبيه والاشراف ص33.(1/43)
ويعلق كارتشوكوفسكي على هذا الموضوع بقوله: "ومن الواجب علينا بالطبع استكناه الطريقة الفنية التي اتبعت في عمل الخارطة المأمونية، ولكن هناك ما يحملنا على الافتراض بأنها تتلخص في مصور جغرافي موضحة عليه أسماء الأقطار، والمدن المعروفة في كل أقليم طبقًا للقسم المماثل من زيج المأمون. وفيها تم نهائيًا استبدال الأسماء الكلاسيكية بأسماء عربية، غير أن حدود "المعمورة"، والأقاليم قد حفظت لنا على الطريقة اليونانية، أما الأطوال فقد حسبت على ما يبدو على أساس المذهب الإيراني ابتداء من المشرق، كرد فعل ضد الاتجاه الغربي للعلم، أو ربما كان ذلك أكثر ملاءمة لطريقة الكتابة العربية، من اليمين إلى اليسار، وبالطبع فإن إعادة تصوير هذه الخارطة بحذافيرها أمر مستحيل بالرغم من أن بعض الفلكيين، قد أفادوا منها بطريقة منتظمة وحفظوا لنا مجموعة من الحقائق عنها، ولا يزال الكثير من الغموض يكتنف طبيعة الأسس التي رسمت عليها"1.
ومهما قيل عن الظروف التي أحاطت بـ"الصورة المأمونية"، فالذي لا ريب فيه أن براعة الجغرافيين والفلكيين العرب والمسلمين في تحديد خطوط عرض وطول المواقع الجغرافية، هي التي مكنتهم من صنع تلك الخارطة، ومن المؤسف أن الجغرافيين العرب لم يستمروا على هذا النهج الفلكي في رسم الخرائط مما أدى بفن الكارنوغرافيا العربي إلى التقهقر، وقد رسم فلكيون آخرون خرائط للأرض، إلا أنها لم تكن على غرار الخارطة المأمونية في دقتها.
__________
1 كراتشكوفسكي -ص87.(1/44)
ثانيا: المصنفات البلدانية
مدخل
...
ثانيًا: المصنفات البلدانية
إن مصنفات الجغرافية البلدانية، أو كتب "المسالك والممالك" بأنواعها المتعددة المحلية والعالمية والعامة، والتي اتخذت المنهج الوصفي أساسًا لها، ونبذت الاساس الرياضي تمثل لب الجغرافية العربية، وقد أصاب العلامة كراتشكوفسكي كبد الحقيقة بقوله بأن مصنفات الجغرافية الوصفية هي التي تسترعي النظر بغزارة مادتها، وأن منهجها هو الذي يغلب على الأدب الجغرافي العربي ويسبغ عليه طابعه المميز1، ولا تشمل تلك المصنفات ذات المنهج الوصفي كتب الجغرافية الإقليمية بعددها المحدود، والتي وردت في الغالب تحت عنوان "المسالك والممالك" أو"الأقاليم" فحسب، بل تضم طائفة عريضة من المؤلفات التي تتحدث عن "البلدان"، والتي اتخذت المنهج الجغرافي الوصفي أساسًا لها، لذلك فهي تشمل أيضًا كتب الجغرافيا العامة و"المعاجم" الجغرافية و"الموسوعات" المعروفة، التي خصصت أحد أجزائها للجغرافية، بل وحتى كتب "الرحلات" المعروفة من أمثال "رحلة ابن بطوطة" و"رحلة ابن جبير".
ومما لا ريب فيه أن تلك الكتب كانت تخضع عمومًا لنمط الكتابة العربية الذي ساد مختلف حقول المعرفة في ذلك العهد، فلم يكن التخصص مثلًا مفهومًا بالمعنى الحديث، ولذلك فكثيرًا ما كان مؤلفوها ليسوا بجغرافيين أصلًا، وبالتالي فلا يمكن أن نتوقع منهم أن يخضعوا لقواعد الكتابة الجغرافية بمفهومها الحديث. وربما كان ذلك هو العامل الأول الذي جعل البعض منها يشكو من عيوب في منهجه الجغرافي، ومثال ذلك ما ذكره كراتشكوفسكي من أن أسلوب الجغرافيين الإقليميين العرب، كان ينحو إلى وصف الجامع الشامل بدلًا من العرض المفصل العميق للمناطق المعروفة على أساس الملاحظة المباشرة2، غير أن هذا النقد بالذات لا ينطبق في الحقيقة على المناطق التي خبرها الجغرافيون العرب والمسلمون خبرة طويلة ومباشرة، وبصورة خاصة بلدانهم.
والواقع أن الجغرافيين العرب والمسلمين قد اتبعوا منذ البداية الأسلوب الصحيح في كتابة الجغرافية البلدانية، وهو أسلوب المشاهدة والدراسة الشخصية، هذا الأسلوب الذي اتبعه أساتذة الجغرافية الحديثة من أمثال همبولدت Humboldt وراتزل Ratzel ولا بلاشي De La Blache
__________
1 المصدر السابق - 18.
2 المصدر السابق -ص 24.(1/45)
وهنتنجتون Huntington وغيرهم، فقد كان كبار الجغرافيين البلدانيين المسلمين من الجوالين، وقد زاروا معظم البلدان التي كتبوا عنها، لا سيما الجغرافيين المبكرين منهم من أمثال اليعقوبي والاصطخري، وابن حوقل والمقدسي والمسعودي والإدريسي، وقد أشاروا إلى هذه الحقيقة في كتاباتهم. قال اليعقوبي صاحب "كتاب البلدان" في مقدمته: "قال أحمد بن أبي يعقوب: إني عنيت في عنفوان شبابي وعند احتيال سني وحدة ذهني بعلم أخبار البلدان، ومسافة ما بين كل بلد وبلد؛ لأني سافرت حديث السن واتصلت أسفاري ودام تغربي، فكنت متى لقيت رجلًا من تلك البلدان سألته عن وطنه ومصره، فإذا ذكر لي محل داره وموضع قراره سألته عن بلده ذلك في ... لدته.. ما هي وزرعه ما هو وساكينه من هم عرب أم عجم ... شرب أهله ... حتى أسأل عن لباسهم ... ودياناتهم ومقالاتهم والغالبين عليه ... ومسافة ذلك البلد وما بقربه من البلدان ... "1.
وقال ابن حوقل في مقدمة كتابه "صورة الأرض": "وقد ذكرت في آخر كتابي هذا كيف تعاورتني الأسفار، واقتطعتني في البر دون ركوب البحار إلى أن سلكت وجه الأرض بأجمعه في طولها، وقطعت وتر الشمس على ظهرها ... "2.
وقال المقدسي في مقدمة كتابه "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم": " ... وما تم لي جمعه إلا بعد جولاتي في البلدان، ودخول أقاليم الإسلام ولقائي العلماء وخدمتي الملوك ومجالستي القضة ودرسي على الفقهاء، واختلافي إلى الأدباء والقراء.. مع لزوم التجارة في كل بلد والمعاشرة مع كل أحد، والتفطن في هذه الأسباب بفهم قوي حتى عرضها، ومساحة الأقاليم بالفراسخ حتى أتقنتها ودوراني على التخوم حتى حررتها وتنقلي إلى الأجناد حتى عرفتها ... "3.
وإذا ما استعرضنا حياة أي من الجغرافيين العرب والمسلمين، ولا سيما
__________
1 اليعقوبي "أحمد بن أبي يعقوب" -كتاب البلدان. منشورات المطبعة الحيدرية بالنجف، ص2.
2 المقدسي "شمس الدين أبو عبد الله" -أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم. منشورات مكتبة المثنى عن طبعة ليدن لعام 1906، ص2.(1/46)
الأوائل منهم، وجدنا أنه قد ساح بالفعل في معظم البلدان التي كتب عنها، فقد ساح اليعقوبي في أرمينية وبلاد فارس والهند، وطاف بالجزيرة العربية وبلاد الشام والمغرب والأندلس، وزار الاصطخري الجزيرة العربية ومصر والشام والعراق وبلاد ما وراء النهر، إضافة إلى تجواله في موطنه بلاد فارس، أما المسعودي فقد اشتملت رحلاته على جهات واسعة من مملكة الإسلام، وغيرها من الممالك، فقد زار بلاد فارس وكرمان والهند وسرنديب، ووصل إلى بحار الصين، وتجول بين جزر المحيط الهندي، كما زار أيضًا أذربيجان وجرجان وبلاد ما وراء النهر، ووصل إلى سواحل البحر الأسود إضافة إلى تطوافه في جزيرة العرب وبلاد الشام والعراق ومصر، أما ابن حوقل فقد أمضى ما يقرب من الثلاثين عامًا يطوف في أنحاء العالم الإسلامي، وقد زار جميع أقطار الإسلام من الهند حتى أسبانيا، ووصل إلى بلاد البلغار والحوض الأدنى لنهر الفولغا. كذلك أمضى المقدسي ردحًا طويلًا من عمره يتجول في العالم الإسلامي، فسافر إلى جزيرة العرب، وطاف بالعراق والشام ومصر وبلاد المغرب، كما زار معظم أقطار العجم مثل الديلم والرحاب، والجبال وخوزستان وفارس وكرمان، ولعل البلدين الوحيدين اللذين لم يزرهما هما السند والأندلس، أما الإدريسي فقد اتجه في رحلاته إلى الأقطار الأوروبية، ولم يزر الأقطار الإسلامية البعيدة، مما جعل كتاباته عن أقطار جنوبي أوروبا أكثر دقة وأصالة، وقد تجول في شبه جزيرة إيبريا وشواطئ فرنسا، وإيطاليا وجزر البحر المتوسط وبلاد المغرب وغربي أفريقيا وآسيا الصغرى، واستقر أخيرًا في جزيرة صقلية، هذا فضلًا عن الرحلات الواسعة النطاق في العالم الإسلامي وخارجه التي قام بها الرحالة المشهورون، أمثال ابن جبير وابن بطوطة، وأبو حامد الغرناطي.
ومما زاد في دقة معلومات الجغرافيين البلدانيين، إضافة إلى تجاربهم ومشاهداتهم الشخصية، كونهم ينتمون إلى بلدان عديدة، فمنهم الشامي، ومنهم العراقي ومنهم الفارسي، ومنهم التركستاني ومنهم المغربي، ومنهم(1/47)
الأندلسي ... إلخ، فكان كل منهم يتبارى في إيراد التفصيلات عن بلاد الإسلام، ويحاول التفوق على غيره وخصوصًا فيما يخص المعلومات عن بلده. وهكذا أتيحت الفرصة للجغرافيين العرب، والمسلمين أن يدونوا لنا أدبًا جغرافيًا غزيرًا عن جهات العالم القديم ذا أهمية عظيمة من وجهة نظر الجغرافية التأريخية. ويمكن أن نحكم باطمئنان بأن ذلك الأدب الجغرافي يشتمل على درجة عالية من الدقة، ولا سيما فيما يخص جهات معينة، إلا أننا لا بد أن نؤكد أيضًا بأن درجة الدقة في تلك الكتابات تضعف، كلما ابتعدنا عن قلب العالم الإسلامي، ونقصد به هنا البلاد العربية والآسيوية والأفريقية، فلم تكن المعلومات عن البلدان الخارجة عن نطاق العالم الإسلامي دقيقة، كما أنها كانت متفرقة ونزرة. وخير من عبر عن هذه الحقيقة أبو الفدا في كتابه "تقويم البلدان"، بالرغم من كونه من الجغرافيين المتأخرين، حيث قال: "فإن جميع الكتب المؤلفة في هذا الفن لا تشتمل إلا على القليل إلى الغاية، فإن إقليم الصين مع عظمته وكثرة مدنه لم يقع إلينا من أخباره، إلا الشاذ النادر وهو مع ذلك غير محقق، وكذلك بلاد البلغار وبلاد الجركس وبلاد الروس، وبلاد السرب وبلاد الأولق وبلاد الفرنج من الخليج القسطنطيني إلى البحر المحيط الغربي، فإنها بلاد كثيرة وممالك متسعة إلى الغاية، ومع ذلك فإن أسماء مدنها، وأحوالها مجهولة عندنا لم يذكر منها إلا القليل، وكذلك بلاد السودان من جهة الجنوب فإنها أيضًا بلاد كثيرة الجنوس مختلطة من الحبس والزنج والنوبة، والتكرور والزيلغ وغيرهم، فإنها لم يقع إلينا من أخبار بلادهم إلا القليل النادر، وغالب كتب المسالك والممالك إنما حققوا بلاد الإسلام، ومع ذلك فلم يحصوها عن آخرها"1.
أما أهداف الجغرافيين البلدانيين -والذين كانت مؤلفاتهم موجهة أساسًا لخدمة أغراض الإداريين والحكام، والتجار بالدرجة الأولى وكانت جغرافيتهم جغرافية "نفعية" أساسًا -فقد كانت تغطي النقاط التالية:
1- وصف المدن وصفًا دقيقًا مفصلًا قدر الإمكان مع نبذة عن تأريخها
__________
1 أبو الفدا -ص2.(1/48)
ومن بناها ومن سكنها وأهم الآثار فيها.
2- دراسة طرق المواصلات من حيث اتجاهاتها، وطوبوغرافيتها والمدن التي تقع عليها والأبعاد بين تلك المدن، ومدى درجة الأمن فيها.
3- الاهتمام بدرجة أقل بوصف الظواهر الطوبوغرافية، والتركيز بصورة أخص على مجاري المياه "الأنهار والنهيرات"، والبحار والبحيرات.
4- الاهتمام بدرجة أقل بذكر الصناعات والزراعات، والمعادن والأحوال الاقتصادية.
5- سرد المعلومات التأريخية المتعلقة بالبلدان والمدن وحكامها، وتشمل المعلومات التأريخية عادة الحديث عن سكان البلاد وأديانهم ومذاهبهم وعاداتهم وتقاليدهم.
وبطبيعة الحال لم تكن اهتمامات كتب الجغرافية البلدانية لتتشابه في تركيزها على النقاط المشار إليها أعلاه، فمنها ما أكد على النقطة الأولى ومنها ما شدد على الثانية، ومنها ما ركز على النقطة الخامسة إلا أنها كانت جميعًا أضعف أهتمامًا بالنقطة الرابعة، وكان اهتمام الجغرافيين البلدانيين بنقاط معينة بالذات من بين النقاط المذكورة أعلاه يخضع إلى أمرين: الأول التطور الذي يحدث في مفهوم الجغرافيا البلدانية عبر القرون، ولا سيما خلال القرن الرابع والخامس الهجري "التاسع والعاشر الميلادي"، والثاني النمط الذي ينتمي إليه الكتاب الجغرافي من بين الأنماط المتعددة للجغرافية البلدانية.
ويمكن القول عمومًا بأن اهتمامات المؤلفات الجغرافية البلدانية المبكرة، كانت بطرق المواصلات وبالمدن الرئيسية في أقطار الإسلام، وبمقدار خراجها وغلاتها، ويتمثل ذلك بالكتب الرائدة أمثال "المسالك والممالك" لأبي القاسم عبد الله بن خرداذبه، وينحو نحو هذا الكتاب "كتاب البلدان" لأحمد(1/49)
ابن واضح اليعقوبي مع اهتمام أكبر بالمدن، وأبرز معالمها وشيء من تأريخها وسكانها، ثم تنوعت اهتمامات الجغرافيين الوصفيين منذ منتصف القرن الرابع الهجري، وأوائل القرن الخامس الهجري بمختلف النقاط المذكورة أعلاه، إضافة إلى الاهتمام بطرق المواصلات والمدن، كالاهتمام بالمعالم الطبيعية، والأحوال الاقتصادية والاجتماعية للسكان إلخ، كما تمثل في كتب المدرسة الاقليمية الصرفة بروادها الكبار البلخي والاصطخري، وابن حوقل والمقدسي.
أما الأمر الثاني وهو اختلاف أنماط كتب الجغرافية البلدانية، فقد ارتبط ارتباطًا مباشرًا بتوزع الاهتمامات، وتباينها بالنقاط الخمس المذكورة، والواقع أن كتب الجغرافية البلدانية قد تنوعت أنماطها بمرور الزمن، فقد ظهرت لأول مرة على شكل اهتمام بأسماء الأقطار والمدن، وما يربط بينها من طرق المواصلات كما في كتب "المسالك والممالك"، ثم تطورت إلى اهتمام بدراسة الجوانب المختلفة في أقطار العالم الإسلمي من مدن وطرق مواصلات، وزراعات وصناعات ومعالم طبيعية كما في الكتب المعنونة بـ"صورة الأرض" لابن حوقل و"الأقاليم" للإصطخري و"أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" للمقدسي، ثم انتقلت إلى التركيز على مدن معينة بالذات، أو أقطار ودراستها بصورة تفصيلية، كما في كتاب "صفة جزيرة العرب" للهمداني، و"كتاب الهند" للبيروني، و"تذكرة الاعتبار" [عن مصر] لعبد اللطيف البغدادي، ثم أخذت تعني بالدراسة العامة الشاملة عن أقطار الأرض، كما في "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" للإدريسي و"كتاب الجغرافيا" لأبي الحسن علي بن موسى بن سعيد المغربي، و"تقويم البلدان" لأبي الفدا، و"المسالك والممالك" للبكري، كما تعددت أهدافها كما هو الحال في الأجزاء الجغرافية من الموسوعات كموسوعة "نهاية الأرب" للنويري، و"مسالك الأبصار" للعمري و"صبح الأعشى" للقلقشندي، وفي المعاجم الجغرافية من أمثال "معجم البلدان" لياقوت الحموي، و"معجم ما استعجم" للبكري،(1/50)
و"الروض المعطار في خبر الأقطار" لمحمد بن عبد المنعم الحميري.
وبطبيعة الحال فقد تنوعت أساليب، ومناهج تلك المؤلفات حسب تنوع أغراضها، فكتب "الموسوعات" مثلًا كانت تشتمل على معلومات جغرافية وصفية عامة لا يحكمها ضابط جغرافي معين، فقد تغلب عليها المعلومات التأريخية أحيانًا، وقد تغلب عليها الأقاصيص الأدبية والحكايات طورًا، كما أنها قد تسهب في الحديث عن بلد، أو مدينة معينة بالذات، بينما توجز في الحديث عن بلد ومدينة أخرى إيجازًا شديدًا، وقد تفصل في وصف بحر من البحار، أو نهر من الأنهار، وتختصر في بحر أو نهر آخر، وعلى أية حال فإن الطابع العام الذي يميزها أنها عابرة عن "تجميع للمعلومات" ذات الصفة الجغرافية العامة.
وأما كتب "المعاجم"، فقد اشتملت بدورها على تفصيلات مسهبة عن المدن، والمعالم الطبيعية مع اهتمام شديد بالأحداث التأريخية، والنواحي اللغوية والأخبار الأدبية، ولا بد أن نشير هنا إلى أن "المعاجم الجغرافية" العربية، تعتبر نمطًا أصيلًا في الكتابة الجغرافية العربية، إذ لم تسبقهم إليها الأمم الأخرى.
واهتمت الكتب التفصيلية التي درست بلدًا معينًا، أو مدينة معينة بالتفصيلات البشرية، وتناولت مختلف جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية، والدينية والاقتصادية، بل لقد ابتعد البعض منها ابتعادًا واضحًا عن الصفة الجغرافية الحقيقية ككتاب عبد اللطيف البغدادي مثلًا.
ويمكن القول بأن المصنفات البلدانية، التي اتخذت صفة جغرافية حقيقية هي تلك المسماة بكتب الجغرافية الإقليمية، وأفضل الأمثلة عليها كتاب "الأقاليم" أو"المسالك والممالك" للإصطخري، و"صورة الأرض" لابن حوقل و"أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" للمقدسي، و"نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" للإدريسي، و"المسالك والممالك" للبكري، و"كتاب الجغرافيا" لابن سعيد المغربي، و"تقويم البلدان" لأبي الفدا، وتشترك المؤلفات المذكورة جميعها في مفاهيم جغرافية أساسية، وإن تفاوت فهمها لتلك المفاهيم حسب التطور الزمني، وتلك المفاهيم هي الأخذ بفكرة "الإقليم"، وإيضاح العلاقات المكانية، والاهتمام بالخارطة، والالتزام بالمعلومات الجغرافية.(1/51)
1- الأخذ بفكرة "الإقليم":
لقد التزمت الكتب الإقليمية التزامًا تامًا بفكرة "الإقليم"، ولكي ندرك ماهية هذه "الفكرة"، لا بد لنا من الرجوع إلى بداية ظهور المؤلفات الجغرافية العربية. فقد تنازع هذه "الفكرة" في البداية مفهومان: المفهوم الإيراني والمفهوم اليوناني. وكل منهما يقسم الأرض المأهولة إلى سبعة أقاليم.
فأما المفهوم الإيراني، فقد كان هو السائد في الكتابات الجغرافية المبكرة، وهو مفهوم لا يعتمد على أسس علمية معينة شأن المفهوم اليوناني، فهو يعتبر إيران "أو إيران شهر" الإقليم المركزي [الرابع] الذي تحيط به بقية أقاليم الأرض، وهو يقسم المعمورة إلى سبعة دوائر هندسية متساوية، بحيث تكون الدائرة الرابعة في الوسط والدوائر الست تحيط بها من جميع الجهات، وقد نقل ياقوت الحموي عن حمزة الأصفهاني قوله: إن الأرض مستديرة الشكل والمسكون منها دون الربع، وهذا الربع ينقسم قسمين برًّا وبحرًا، ثم ينقسم هذا الربع سبعة أقسام يسمى كل منها بلغة الفرس "كشخر"، وقد استعارت العرب من السريانيين للكشخر اسمًا وهو "الإقليم"1.
كذلك نقل الحموي عن البيروني أن الفرس قسموا الممالك المطيفة بإيرانشهر إلى سبع "كشورات"، وخطوا حول كل مملكة دائرة وسموها "كشخار"، ذلك أن الدوائر المتساوية لا تحيط بواحدة2 منها متماسة، إلا إذا كانت سبعًا تحيط ست منها بواحدة، ولقد اشتمل التقسيم الإيراني على الأقاليم التالية3:
__________
1 الحموي -ص 25.
2 المصدر السابق -ص 26.
3 المصدر السابق -ص 27.(1/52)
1- الإقليم الأول: المسمى الهند، وهو إلى الشرق الشمالي من الإقليم الرابع المركزي وحده مما يلي المشرق السند، والبحر إلى الديبل من أرض السند والجزائر المنسوبة إليهم من الديبجات والزايج، وآخر حدوده مكران إلى حدود البصرة فيما بين الهند واليمن.
2- الإقليم الثاني المسمى الحجاز، وهو إلى الجنوب من الإقليم الرابع مباشرة، وحده مما يلي مصر وعدن واليمن، وبادية العرب وبلاد الجزيرة بين نهري الفرات ودجلة إلى أرض الثعلبة مما يلي العراق.
3- الإقليم الثالث المسمى مصر، وهو الغرب الشمالي من الإقليم الرابع، وحده أرض الحبشة مما يلي أرض الحجاز إلى البحر الأخضر، مما يلي الروم إلى نصيبين مما يلي العراق، يدخل فيه مصر والإسكندرية إلى أقصى المغرب والسودان الذين في البراري والبربر.
4- الإقليم الرابع المسمى بابل وهو في الوسط، وحده مما يلي الهند والديبل، ومما يلي الحجاز الثعلبية ومما يلي الروم نصيبين، ومما يلي مصر الشام ومما يلي خراسان نهر بلخ، وفيه العراق والجبل وخراسان وسجستان وزابلستان وطخارستان.
5- الإقليم الخامس المسمى الروم وهو إلى الغرب الجنوبي من الإقليم الرابع، وحده مما يلي مصر الخليج، ومما يلي المغرب البحر الأخضر، ومما يلي الترك يأجوج ومما يلي العراق نصيبين، وفيه الروم وفرنجة والأندلس وجرجان وأذربيجان إلى باب الأبواب.
6- الإقليم السادس المسمى يأجوج ومأجوج، وهو إلى الشمال من الإقليم الرابع مباشرة وحده مما يلي المغرب الترك، ومما يلي الخزر البحر ومما يلي المشرق الصين، ومما يلي العراق نهر بلخ، وفيه الخزر والترك والغز وخرخيز وكيماك، وأصنافهم الروس والصقالبة.
1- الإقليم الأول: المسمى الهند، وهو إلى الشرق الشمالي من الإقليم الرابع المركزي وحده مما يلي المشرق السند، والبحر إلى الديبل من أرض السند والجزائر المنسوبة إليهم من الديبجات والزايج، وآخر حدوده مكران إلى حدود البصرة فيما بين الهند واليمن.
2- الإقليم الثاني المسمى الحجاز، وهو إلى الجنوب من الإقليم الرابع مباشرة، وحده مما يلي مصر وعدن واليمن، وبادية العرب وبلاد الجزيرة بين نهري الفرات ودجلة إلى أرض الثعلبة مما يلي العراق.
3- الإقليم الثالث المسمى مصر، وهو الغرب الشمالي من الإقليم الرابع، وحده أرض الحبشة مما يلي أرض الحجاز إلى البحر الأخضر، مما يلي الروم إلى نصيبين مما يلي العراق، يدخل فيه مصر والإسكندرية إلى أقصى المغرب والسودان الذين في البراري والبربر.
4- الإقليم الرابع المسمى بابل وهو في الوسط، وحده مما يلي الهند والديبل، ومما يلي الحجاز الثعلبية ومما يلي الروم نصيبين، ومما يلي مصر الشام ومما يلي خراسان نهر بلخ، وفيه العراق والجبل وخراسان وسجستان وزابلستان وطخارستان.
5- الإقليم الخامس المسمى الروم وهو إلى الغرب الجنوبي من الإقليم الرابع، وحده مما يلي مصر الخليج، ومما يلي المغرب البحر الأخضر، ومما يلي الترك يأجوج ومما يلي العراق نصيبين، وفيه الروم وفرنجة والأندلس وجرجان وأذربيجان إلى باب الأبواب.
6- الإقليم السادس المسمى يأجوج ومأجوج، وهو إلى الشمال من الإقليم الرابع مباشرة وحده مما يلي المغرب الترك، ومما يلي الخزر البحر ومما يلي المشرق الصين، ومما يلي العراق نهر بلخ، وفيه الخزر والترك والغز وخرخيز وكيماك، وأصنافهم الروس والصقالبة.(1/53)
7- الإقليم السابع المسمى الصين، وهو إلى الشرق الجنوبي من الإقليم الرابع، وحده مما يلي المغرب يأجوج ومأجوج، ومما يلي المشرق والبحر المحيط، ومما يلي الهند قشمير، ومما يلي خراسان نهر بلخ، وفيه الصين والتبت والختن وبلاد ما وراء النهر، والأتراك المحاذية لها.
ولم يؤخذ بهذا المفهوم لفكرة "الإقليم"، إلا في البدايات المبكرة للكتابات الجغرافية العربية، كما ذكرنا كما ورد في كتاب "مختصر كتاب البلدان" لابن الفقيه مثلًا، غير أن هذا المفهوم ما لبث أن أهمل تدريجيًا حتى لم يعد يتردد ذكره في كتب الجغرافية العربية، وحل محله المفهوم اليوناني، وذلك منذ أن شاعت ترجمة كتابي "المجسطي" و"جغرافيا" لبطليموس، وكان التقسيم اليوناني الإقليمي للأرض المعمورة، يستند إلى أسس علمية أكثر من التقسيم الإيراني، إذ إنه يعتمد على تحديد مواضع الأرض على أساس فلكي، ولقد بلغ هذا المفهوم لفكرة "الإقليم"، أوج نضجه على يدي بطليموس حيث قسم الأرض المعمورة إلى سبعة أقاليم على هيئة أحزمة عريضة، تمتد من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب فوق خط الاستواء، ويختلف كل إقليم عن الآخر بعدد ساعات النهار فيه، ويبدأ الإقليم الأول بحوالي خط عرض 16 درجة جنوبًا، وينتهي الإقليم السابع بحوالي خط عرض 63 درجة شمالًا، ويمثل كتاب الخوارزمي المعنون "صورة الأرض"، أفضل انعكاس وصل إلينا للأقاليم البطليموسية في الجغرافية العربية.
ولقد ظل هذا المفهوم الإقليمي للأرض المعمورة ذو الملامح البطليموسية اليونانية سائدًا في كتابات الجغرافية العربية، وروجه على نحو الخصوص الخوارزمي والفرغاني وسهراب، والبيروني والإدريسي وابن سعيد، إلا أن امتدادات كل إقليم من تلك الأقاليم، وما يشتمل عليه من بلدان الأرض، كانت تتسع باتساع
معلومات الجغرافيين العرب والمسلمين عن جهات الأرض المعمورة. والحقيقة أن استعراض كتابات الجغرافيين العرب(1/54)
والمسلمين عبر القرون عن الأقاليم السبعة، توضح لنا مدى ما بلغته الجغرافية العربية من تقدم في معرفتها بجهات الأرض المأهولة، ولكن بالرغم من اهتمام الجغرافيين الأوائل جميعًا بذكر الأقاليم السبعة، وما تشتمل عليه من "البلدان"، إلا أنهم كانوا يوردون تلك الفكرة باعتبارها فكرة فلكية عامة، وليس لها مدلول جغرافي بحت، ولذلك فقد برز مفهوم آخر لفكرة "الإقليم" على أيدي الجغرافيين الذين أطلق عليهم اسم "الجغرافيين الإقليميين"، والذين كان يمثلهم البلخي والإصطخري، وابن حوقل والمقدسي، وقصدوا بهذه الفكرة المنطقة الجغرافية المحددة طبيعيًا أو سياسيًا أو بشريًا، وقد عبر الحموي عن هذا المفهوم الجديد لفكرة "الإقليم" بقوله: "وهو اصطلاح العامة وجمهور الأمة، وهو جار على ألسنة الناس جميعًا، وهو أن يسموا كل ناحية مشتملة على عدة مدن وقرى إقليمًا نحو الصين وخراسان، والعراق والشام وأفريقيا وغير ذلك. فالأقاليم على هذا كثيرة لا تحصى"1.
كذلك أطلق أبو الفدا على هذا النوع من الأقاليم اسم "الأقاليم العرفية"، وسمى الأقاليم الفلكية باسم "الأقاليم الحقيقية"، أما الجغرافيون الإقليميون فقد حددوا مفهومهم "للإقليم" على النحو التالي، قال الإصطخري: "أما بعد فإني ذكرت في كتابي هذا أقاليم الأرض على الممالك، وقصدت منها بلاد الإسلام بتفصيل مدنها، وتقسيم ما يعود بالأعمال المجموعة إليها، ولم أقصد الأقاليم السبعة التي عليها قسمة الأرض، بل جعلت كل قطعة أفردتها مصورة تحكي موضع ذلك الإقليم، ثم ذكرت ما يحيط به من الأماكن، وما في أضعافه من المدن والبقاع المشهورة والبحار، والأنهار وما يحتاج إلى معرفته من جوامع ما يشتمل عليه ذلك الإقليم"2.
كذلك أشار ابن حوقل إلى استخدامه مصطلح "الإقليم" في هذا
__________
1 المصدر السابق -ص 26.
2 الأصطخري "أبو إسحاق إبراهيم" - المسالك والممالك "تحقيق الدكتور محمد جابر عبد العال الحيني". القاهرة 1961. ص15.(1/55)
المعنى بقوله: "وقد عملت له كتابي هذا بصفة أشكال الأرض، ومقدارها في الطول والعرض وأقاليم البلدان، ومحل الغامر منها والعمران من جميع بلاد الإسلام بتفصيل مدنها، وتفصيل ما تفرد بالأحمال المجموعة إليها، ولم أقصد الأقاليم السبعة التي عليها قسمة الأرض؛ لأن الصورة الهندية التي بالقواذيان، وإن كانت صحيحة فكثيرة التخليط، وقد جعلت لكل قطعة أفردتها تصويرًا وشكلًا يحكي موضع ذلك الإقليم، ثم ذكرت ما يحيط به من الأماكن، والبقاع وما في أضعافها من المدن والأصقاع، وما لها من القوانين والارتفاع، وما فيها من الأنهار والبحار.."1.
وهكذا يتضح أن المفهوم الإقليمي لهؤلاء الجغرافيين يختلف عن المفهومين الإيراني واليوناني، فهو لا يتبع قوالب فلكية متفقًا عليها بل يطبقها كفكرة جغرافية بحتة تخضع للمنهج الذي يتخذه في شرحه للأقطار المعنية، ولذلك فقد اختلف الجغرافيون الإقليميون فيما بينهم في تحديدهم لأقاليم الإسلام، فنجد الإصطخري -وهو طليعة الجغرافيين الإقليميين- يحاول تقسيم العالم الإسلامي إلى أقاليم على أساس أقرب إلى الطبيعي في كتابه "المسالك والممالك" أو"الأقاليم"، وبما أن الإصطخري يمكن أن يعتبر رائدًا في هذا الميدان، فإن من الممكن أن نفهم سبب الاضطراب، وعدم الدقة في المبدأ الذي افترضه لتقسيماته الإقليمية، فهو يقسم منطقة طبيعية واحدة إلى أكثر من إقليم أحيانًا، وقد يجمع أحيانًأ أخرى أكثر من منطقة طبيعية في إقليم واحد، أي أنه قد يغلب في بعض الحالات العوامل البشرية "الأقوام واللغات"، والعوامل السياسية "نوع الحكم" في تقسيمه الإقليمي على العوامل الطبيعية، إلا أنه في العموم حاول أن يلتزم بالعامل الطبيعي، ومثال ذلك أنه جعل كلًا من بلاد العرب، ومصر والمغرب وبحر الروم وبحر الخزر "أقاليم" قائمة بذاته باعتبار أن لكل منها ظروفًا طبيعية تمييزها عن غيرها، في حين أنه ميز بين خراسان، وما وراء النهر وجعل كلًا منهما إقليمًا غيرها، في حين أنه مميز بين خراسان، وما وراء النهر وجعل كلًا منهما إقليمًا قائمًا بذاته، مع أنهما يقعان معًا تحت حكم واحد لاعتقاده أنهما يختلفان
__________
1 ابن حوقل -ص 10.(1/56)
بعضهما عن بعض من الوجهة الطبيعية، بل إنه لجأ أيضًا إلى تقسيمات فرعية لأقاليمه الرئيسية حسب خصائصها الطبيعية، ويمكن أن تتضح لنا أسس تقسيماته الإقليمية باستعراض "الأقاليم" التي فصل إليها بلاد الإسلام، وتحدث عن كل منها على إنفراد على النحو التالي:
1- ديار العرب: وتشمل شبه جزيرة العرب إضافة إلى بادية الشام.
2- بحر فارس: ويشتمل الخليج العربي والبحر الأحمر والموانئ الرئيسية التي تقع على سواحل هذه البحار.
3- ديار المغرب: ويشمل الأندلس والمغرب والجزائر، وتونس وليبيا والصحراء العربية الكبرى.
4- ديار مصر: ويشمل مصر إضافة إلى الجزء الشمالي الشرقي من السودان "أرض البجة".
5- أرض الشام: ويشمل سوريا ولبنان، وفلسطين وشرق الأردن.
6- بحر الروم: ويشمل الحوض الشرقي من البحر المتوسط إضافة إلى بحر مرمرة وأهم موانئة وجزره.
7- أرض الجزيرة: ويشمل منطقة الجزيرة في العراق مع جزء من البادية الشمالية.
8- العراق: ويمتد من عبادان في أقصى الجنوب إلى تكريت شمالًا، ويشمل الجزء الواقع بين النهرين.
9- خوزستان: ويشمل منطقة الأهوز الحالية.
10- بلاد فارس: ويشمل القسم الأوسط والغربي من إيران.
11- بلاد كرمان: ويشمل القسم الجنوبي الشرقي من إيران.(1/57)
12- بلاد السند: وقد جمع في هذا الإقليم الحديث عن "مكران والسند والهند"، لكن الحديث شمل في الحقيقة بعض أجزاء باكستان الحالية.
13- أرمينية والران وأذربيجان: ويشمل المنطقة التي تقع ضمن جبال القوقاز بين البحر الأسود وبحر الخزر.
14- إقليم الجبال: ويشمل الجزء الغربي من إيران "كرسدتان".
15- الديلم: ويشمل المناطق الجبلية المشرفة على سهول بحر الخزر الجنوبية.
16- بحر الخزر: ويشمل منطقة بحر الخزر، أي الأجزاء المحيطة به ولا سيما الشرقية منها.
17- مفازة خراسان: ويشمل صحراء شرقي إيران.
18- سجستان: ويشمل جزءًا من أفغانستان.
19- خراسان: ويشمل الجزء الشمالي الغربي من أفغانستان، والأطراف الشمالية الشرقية من إيران.
20- ما وراء النهر: ويشمل الأراضي المحيطة بنهري سيحون وجيحون "سرداريا واموداريا" في تركستان الكبرى، وهي جمهوريات تركستان وزبكستان وفرغيزية وتاجسكتان.
أما الكتاب الإقليمي الثاني فهو كتاب "صورة الأرض" لابن حوقل، وقد تحدث الباحثون كثيرًا عن تأثر هذا الكتاب بكتاب الإصطخري، بل إن بعضهم زعم بأن "صورة الأرض" ما هو سوى نسخة منقحة لكتاب الإصطخري، ومما يدعم أقوال أولئك الباحثين وجود فقرات طويلة في كتاب ابن حوقل مأخوذة بالنص من كتاب الإصطخري، ولا سيما في الفصول الأولى من الكتاب، واعتراف ابن حوقل نفسه بأنه كان قد التقى بالإصطخري، فطلب منه أن ينظر في كتابه ويصححه، ولذلك فهناك تشابه واضح بين(1/58)
تقسيمات الإصطخري الإقليمية لديار الإسلام وبين تقسيمات ابن حوقل عدا فروق طفيفة، غير أن الذي لا ريب فيه أن كتاب ابن حوقل قد اشتمل على معلومات أولية كثيرة عن البلدان الإسلامية لم ترد في كتاب الإصطخري، كما أن حسه الجغرافي كان أفضل من حس الإصطخري، حيث كان أكثر دقة في تحديد المواقع الجغرافية، وأكثر اقتصادًا في الاستطرادات غير الجغرافية، كما كان يلتزم في بعض تقسيماته الإقليمية بالعامل السياسي والإداري أكثر من التزامه بالعامل الطبيعي، مما جعل أقاليمه على شكل وحدات سياسية، وقد وردت تقسيماته الإقليمية لبلاد الإسلام على النحو التالي:
1- ديار العرب، 2- بحر فارس، 3- المغرب، 4- الأندلس، 5- صقلية، 6- مصر، 7- الشام، 8- بحر الروم، 9- الجزيرة، 10- العراق، 11- خوزستان، 12- فارس، 13- كرمان، 14- السند، 15- أرمينية وأذربيجان والران، 16- الجبال، 17- الديلم وطبرستان، 18- بحر الخزر، 19- مفازة خراسان وفارس، 20- سجستان، 21- خراسان، 22- ما وراء النهر.
والكتاب الإقليمي الثالث هو "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" للمقدسي الباشري، وهو يتفوق في مفاهيمه الجغرافية على الكتابين المذكورين، فقد التزم مؤلفه التزامًا كبيرًا بالعامل الطبيعي في تقسيماته الإقليمية، حتى إن تلك التقسيمات كانت كثيرًا ما تضارب والعامل السياسي والإداري، ومن الممكن أن يعتبر هذا الكتاب نموذجًا ممتازًا للدراسة الجغرافية الإقليمية بخطته الجغرافية المنسقة، ومعلوماته ذات الطابع الجغرافي العلمي، ولا يعني ذلك أنه لم يتأثر في تقسيماته الإقليمية بالكتابين السابقين، غير أنه حاول أن يدمج بعض أقاليم الإصطخري، وابن حوقل في إقليم واحد، كما حاول أن يميز أقاليم لم يكن قد ميزها الكتاب المتقدمون.(1/59)
وقد أورد أيضًا في دراسته الإقليمية لمملكة الإسلام مفهومًا جديدًا لم يرد في كتب سابقيه يستند غلى التمييز بين أقاليم العرب وأقاليم العجم، كذلك عمد المقدسي إلى تقسيم أقاليمه الرئيسية غلى أقسام إدارية تحدث عن كل منها على انفراد، فقسم الأقليم إلى كور والكور إلى رساتيق، وميز بين العواصم والقصبات، والمدن الثانوية، وقد وردت تقسيماته الإقليمية على النحو التالي:
أ- أقاليم العرب:
1- جزيرة العرب. 2- إقليم العراق 3- إقليم آفور "أرض الجزيرة". 4- إقليم الشام. 5- إقليم مصر. 6- إقليم المغرب 7- بادية العرب.
ب- أقاليم العجم:
1 إقليم المشرق: ويضم خراسان وسجستان وما وراء النهر، وينقسم إلى قسمين: جانب هيطل جانب خراسان. 2- إقليم الديلم 3- إقليم الرحاب. 4- إقليم الجبال. 5- إقليم خوزستان. 6- إقليم فارس. 7- إقليم كرمان. 8- إقليم السند.
وفيما عدا الكتب الثلاثة المذكورة لم تظهر مؤلفات هامة اتخذت مثل هذا المنهج الإقليمي. غير أن بعض المؤلفات الجغرافية اقتربت في منهجها من هذا النمط، ومن أهمها كتاب "الممالك والمسالك" لأبي عبيد البكري، ومن المعلوم أنه لم ينشر من هذا الكتاب سوى الجزء المتعلق بشمال أفريقيا، إلا أن مخطوطاته توجد في بعض مكتبات العالم، ولقد اشتمل الكتاب على المواضيع التالية1:
الجزء الأول:
1- مقدمة تأريخية: وقد تناول فيها مدة عمارة الأرض وما قاله الفقهاء
__________
1 راجع كتاب: "مصادر البكري ومنهجه الجغرافي"، تأليف الدكتور عبد الله يوسف الغنيم، منشورات ذات السلاسل، الكويت 1974، ص55-58.(1/60)
في نشأة الأرض والسموات، كما تحدث عن أخبار العرب قبل الإسلام ومذاهبهم ودياناتهم.
2- القول في الأرضين والأنهار والبحار: وقد تناول طول المعمور والأقاليم السبعة، وذكر البحار وما فيها من العجائب، والأنهار المعروفة كالنيل والفرات وأنهار المغرب والأندلس وغيرها.
3- ذكر الممالك: وقد ذكر ممالك الهند والصين والسند، وممالك السودان وتكلم عن البربر والواحات المصرية، والصقالبة والأفرنجة والجلالقة إلخ.
4- الجزيرة العربية: وتحدث فيه عن حدود الجزيرة العربية، وما خصت به من المعادن والصناعات، وما يحمل منها من المنتجات، كما تناول مدن اليمن المشهورة وبلاد عمان والبحرين واليمامة..
5- المشهور من أخبار المشرق ومدنه، وقد تحدث في هذا الفصل عن بلاد العراق ومدنه المشهورة، وذكر خواص أرض فارس، وتحدث عن بابل والجزيرة وبلاد ما وراء النهر.
6- بلاد الشام: وقد تحدث عن أقسام الشام وفلسطين.
7- ذكر بلاد الروم وجملًا من أخبارهم: وقد تحدث عن جزر البحر المتوسط قبرص وكريت وصقلية، وتكلم عن البلاد الواقعة في حوضه الشمالي، فذكر بلاد الأنقلش وهم جنس من الأتراك يجاورون الصقالبة. وتكلم عن شبه جزيرة إيطاليا ومدينة روما وبعض عادات الروم.
الجزء الثاني:
1- ذكر جملة من الأقوال في الأمصار ومساحات الممالك: وتناول فيه ذكر فضائل البلدان ومحاسنها، كما ذكر باختصار أقسام إيران شهر.
2- ذكر مصر: وتحدث فيه عن فضائل مصر والنيل وخصائصه ونظام(1/61)
فيضانه، ثم تحدث عن تاريخ مصر القديم، ثم ذكر ما اشتملت عليه مصر من كور وما فيها من المدن والمسافات بينها، وانتهى إلى ذكر المشهور من المدن والقرى في الطريق من مصر إلى برقة والمغرب.
3- بلاد أفريقيا والمغرب: وقد تحدث فيه عن البلاد الممتدة من برقة شرقًا إلى طنجة في الغرب، وكذلك بعض البلاد الواقعة جنوب الرمال، وعلى الأخص بلاد السودان الغربي.
4- بلاد الأندلس: وقد تحدث فيه عن ولايات الأندلس المختلفة وأهم مدنها وإنتاجها الزراعي والصناعي.
وعلى أية حال فقد اختفى هذا المنهج الإقليمي من المصنفات الجغرافية العربية وأعيد إلى الحياة من جديد المنهج الإقليمي البطليموسي، أي تقسيم العالم إلى سبعة أقاليم فلكية، وكان أبرز من التزم بهذا المنهج من الجغرافيين المتأخرين الشريف الإدريسي في كتابه "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"، وأبو الحسن علي بن سعيد المغربي في كتابه "كتاب الجغرافيا".
ولقد درس الإدريسي في كتابه المذكور "الربع المعمور" حسب أقاليمه السبعة، ولم يركز شأن سابقيه من الجغرافيين المسلمين على بلدان الإسلام فحسب، بل درس أيضًا البلدان المسيحية وغير المسيحية، أي أنه حاول أن يجعل دراسته الإقليمية شاملة لجميع مناطق العالم المأهول، وقد حدد كل إقليم من تلك الأقاليم حسب خطوط عرضه وحسب طول النهار فيه، ثم قسم كلا من تلك الأقاليم إلى عشرة أجزاء، ويبدأ الجزء الأول من كل إقليم عند ساحل المحيط الأعظم "الأطلسي"، وينتهي عند بحر الصين الذي اعتبره آخر الدنيا شرقا.
أما ابن سعيد المغربي فقد اتبع نفس النظام الذي اتبعه الإدريسي، وهو النظام الخاضع للمنهج البطليموسي، فقسم العالم المأهول إلى الأقسام(1/62)
السبعة المتعارف عليها والتي تمتد فيما بين خط الأستواء، وحوالي خط 64 درجة شمالًا، كما قسم كل إقليم من هذه الأقاليم إلى عشرة أجزاء، وقد تحدث عن معالم كل إقليم من هذه الأقاليم ابتداء من الأقليم الأول عند خط الاستواء، حتى الإقليم السابع بالقرب من الدائرة القطبية الشمالية، متبعًا نفس نهج الإدريسي، غير أنه أدخل على هذا المنهج تعديلًأ هامًا حصيلة الكشوفات الجديدة التي تجمعت في عهده، وهو إضافة إقليمين آخرين أحدهما يقع جنوبي خط الاستواء، وقد سماه "المعمور خلف خط الاستواء إلى الجنوب"، ويمتد لغاية 16درجة جنوبًا، وقد قسمه إلى عشرة أجزاء أيضًا، والآخر يقع إلى شمالي الأقليم التاسع، ويمتد لغاية خط عرض 80 درجة شمالًا تقريبًا، وقد أسماه "المعمور في شمالي الأقاليم السبعة"، وقسمه إلى عشرة أقسام أيضًا1.
ومن الجدير بالذكر أن زكريا القزويني حاول في كتابه "آثار البلاد وأخبار العباد"، أن يتبع التقسيم البطليموسي مقتفيًا أثر الإدريسي، إلا أنه اكتفى بتحديد موضع كل إقليم -أي بدايته ونهايته- ما يضمه إليه من البلدان، ثم شرح أهم المواضع ضمن كل إقليم من مدن وبلدان وأنهار، وجبال حسب الطريقة المعجمية مؤكدًا على الجانب العجائبي في المعلومات أكثر من الجانب العلمي.
أما أبو الفدا فقد جمع في كتابه "تقويم البلدان" بين منهج الإدريسي المتأثر بالتقسيم البطليموسي للأرض المأهولة، ومنهج ابن حوقل في تقسيماته الإقليمية لديار الإسلام، والتي أطلق عليها اسم "الأقاليم العرفية"، ولعل كتابه هو الوحيد الذي جمع بين الجغرافية الرياضية والجغرافية الوصفية، وقد برر اتباعه لهذا المنهج بقوله: "أما ترتيبه فإنه مجدول على وضع التقاويم، وقد ذكرنا فيه الإقليم الحقيقي والعرفي في بيتين [جدولين] ، والمراد بالإقليم الحقيقي أحد الأقاليم السبعة المقدم ذكرها، والعرفي في كل ناحية أو مملكة
__________
1 راجع: "كتاب الجغرافيا" تأليف أبي الحسن سعيد المغربي. تحقيق الدكتور إسماعيل العربي، بيروت 1970.(1/63)
تشتمل على عدة كثير من الأماكن والبلاد مثل الشام والعراق وغيرهما، وقد يكون الإقليم العرفي بعضًا من الإقليم الحقيقي، وقد يكون بعضًا من إقليمين مثل الشام، فإن بعضه من الإقليم الثالث وبعضه من الرابع، وقد يشتمل الإقليم العرفي على أبعاض الأقاليم السبعة كما يحكى عن الصين، فإنه يقال: إن عرضه أكثر من طوله وأنه يشتمل على رءوس الأقاليم الشرقية حتى يستوعب أطراف الأقاليم السبعة، وأما ترتيب الأماكن وتقديم بعضها على بعض في الذكر، فإنه أمر لم يتهيأ لنا فيه ترتيب يرضينا، فتبعنا فيه ابن حوقل.."1.
وهكذا قسم أبو الفدا الأرض المأهولة إلى ثمانية وعشرين إقليمًا عرفيًا هي الأقاليم التالية حسب تسلسلها:
1- جزيرة العرب، 2- ديار مصر، 3- بلاد المغرب، 4- جزيرة الأندلس، 5- جزائر بحر الروم والمحيط الغربي، 6- الشام، 7- الجزيرة بين دجلة والفرات، 8- العراب، 9- خوزستان، 10- فارس، 11- كرمان، 12- سجستان، 13- السند، 14- الهند، 15- الصين، 16- جزائر بحر الشرق، 17- بلاد الروم، 18- أرمينية وآران وأذربيجان، 19- بلاد الجبل وهي عراق العجم، 20- الديلم وكيلان، 21- طبرستان ومازندران وقومس، 22- خسانان، 23- زابلستان والغور، 24- طخارستان وبذقشان، 25- خوارزم، 26- ما وراء النهر، 27- الجانب الجنوبي من الأرض وهو بلاد السودان، 28- الجانب الشمالي من الأرض.
وهكذا نلاحظ أن جميع الكتب الإقليمية المذكورة قد التزمت بشكل، أو بآخر المفهوم الإقليمي في حديثها عن العالم الإسلامي بصورة خاصة، أو عن "الربع المعمور" بصورة عامة.
__________
1 أبو الفدا، ص 72، 73.(1/64)
2- إيضاح العلاقات المكانية:
اهتمت المؤلفات الإقليمية بصورة متفاوتة بإيضاح العلاقات المكانية للموضع أو للقطر الذي تدرسه، واستعانت بذلك إما بالظاهرات الطبيعية من جبال وأنهار وبحار وبحيرات وصحارى، أو بالأقسام السياسية المجاورة للإقليم، أو بالمعالم الفلكية المتمثلة في خطوط العرض والطول، ويدل ذلك على حس جغرافي متقدم، إذ إن إيضاح العلاقات المكانية للموضع يمثل أبرز معالمه الجغرافية. ومثال ذلك قول ابن حوقل في تحديد موقع مصر: "فأما مصر فلها حد يأخذ من بحر الروم من الإسكندرية، ويزعم قوم من برقة في البرية، حتى ينتهي إلى ظهر الواحات ويمتد إلى بلد النوبة، ثم يعطف على حدود النوبة من حد أسوان على أرض البجة في قبلي أسوان حتى ينتهي إلى بحر القلزم، ثم يمتد على بحر القلزم ومجاور القلزم في طور سيناء، ويعطف على تيه بني إسرائيل مارا إلى بحر الروم في الجفار خلف العريش ورفح، ويرجع على الساحل مارا على بحر الروم إلى الإسكندرية، ويتصل بالحد الذي قدمت ذكره من نواحي برقة"1.
__________
1 ابن حوقل، ص 126.(1/65)
3- الإهتمام بالخارطة:
استخدم الجغرافيون العرب مصطلح "الصورة" و"الرسم" و"لوح الترسيم" و"لوح الرسم" و"الجغرافيا" للدلالة على "الخارطة"، وقد اقترنت المؤلفات الجغرافية منذ بدايتها بـ"الخارطة، غير أن نمط "الخارطة" الذي ارتبط بالمصنفات الإقليمية يختلف عن ذلك النمط الذي ظهر في بدء بزوغ فجر الجغرافية العربية في عهد تأثرها بالفكر الإغريقي الروماني، فقد استندت الخرائط المبكرة إلى الحسابات الفلكية، وكان أفضل ممثل لها "الخارطة المأمونية" كما سبق أن ذكرنا، ويدل ما تبقى لنا من كتابات حولها أنها كانت خطوة رائدة وجيدة في الكارنوغرافيا العربية، وقد حاول فلكيون آخرون أن(1/65)
ينحو نفس هذا المنحى في رسم خرائط للأرض، وكانت محاولاتهم سائرة في الاتجاه الصحيح، غير أن الجغرافيين الإقليميين نبذوا هذا الاتجاه واستحدثوا منهجًا جديدًا في رسم خرائط الأرض، وكان على رأسهم البلخي والإصطخري وابن حوقل والمقدسي، فبينما اتبعت الخرائط الفلكية الأسلوب العلمي الرياضي، وذلك بتحديد المواقع عن طريق خطوط الطول والعرض، وبالتالي المحافظة على دقة السواحل، وحجم البحيرات والبحار ومجاري الأنهار ومساحة البلدان، ضربت الخرائط الإقليمية بالقواعد العلمية عرض الحائط، واهتمت بتمثيل الحقائق الجغرافية بالمصورات غير عابئة بالدقة الجغرافية، لذلك جاءت تلك المصورات أقرب إلى رسوم تخطيطية منها إلى خرائط حقيقية.
ولقد صنف أحد الباحثين مراحل تطور الكارنوغرافيا العربية إلى ثلاث، الأولى مرحلة الخارطة المأمونية ونظائرها، والثانية مرحلة الخرائط الإقليمية، والثالثة مرحلة الخرائط الإدريسية التي تمثل أوج ما بلغته الكارنوغرافية العربية من تطور1، غير أن من المتفق عليه أن المرحلة الوسطى لا علاقة لها بالمرحلة الأولى أو الثالثة، وإنما تمثل مرحلة مستقلة تمامًا من مراحل الكارنوغرافيا العربية.
ولم يتفق الباحثون على أصل الخرائط الإقليمية، غير أن نقرأ منهم، ومن ضمنهم كراتشكوفسكي، يعتقد بأنها ربما ترجع إلى "أطلس إيران" القديم الذي وضع في الأصل من أجل الإمبراطورية الساسانية، وليس لهذا الرأي من سند سوى أن تلك الخرائط تهتم اهتمامًا خاصًا بالمقاطعات الإيرانية، وترسم لكل منها خارطة مستقلة مفصلة2، ومهما يكن الأمر فإن مثل هذا الفرض لا يدعمه دليل أكيد، نظرًا؛ لأن الأطلس المذكور لم يعثر له على أثر ليتسنى الحكم عليه، ومن الممكن أن نعزو هذا التفصيل في المقاطعات الإيرانية، وأقطار آسيا الوسطى في تلك الخرائط إلى كون
__________
1 ألدو ميلي "ترجمة د. عبد الحليم النجار" -العلم عند العرب وأثره في تطور العلم العالمي- القاهرة 1962، ص 392- 394.
2 كراتشكوفسكي، ص 207.(1/66)
الجغرافيين الأوائل وهما البلخي والإصطخري من مواطني تلك الجهات مما جعل معلوماتهما عنها أكثر تفصيلًا من بقية جهات العالم الإسلامي، وقد حذا من أتى بعدهما حذوهما، وتأثر بأعمالهما ولا سيما ابن حوقل.
ولقد بذل المستشرق الألماني كونراد مولر Muller اهتمامًا خاصًا في جمع تلك الخرائط، ونشرها في مجلد خاص تحت عنوان "الخرائط العربية" Mappae Arabicae، وسماها "أطلس الإسلام"، ويرى مولر أن أبا زيد البلخي هو أول من عني بوضع أطلس للبلاد الإسلامية، وأن كتابه المفقود والذي يرد في المرجع بعناوين متعددة مثل "صور الأقاليم"، و"الأشكال" و"المسالك والممالك"، يعتبر رائدًا في هذا الميدان، هذا بالرغم من أن الإصطخري يزعم أنه أول من ابتدع هذا المنهج، حيث يقول في مقدمة كتابه: "ولأن الغرض في كتابي هذا تصوير الأقاليم التي لم يذكرها أحد علمته"1. والواقع أن هناك خلطًا كثيرًا عند الحديث عن رواد الجغرافية الإقليمية الثلاثة، وهم البلخي والإصطخري وابن حوقل، فالباحثون يعتقدون أن الإصطخري، وابن حوقل ربما كانا يدينان بمؤلفيهما للبلخي، وهناك تأكيد بأن الإصطخري قد تأثر كثيرًا بالبلخي، وأن ابن حوقل قد استعار الشيء الكثير من الاصطخري، والذي لا ريب فيه أن هناك نصوصًا متشابهة تتردد في الكتب الثلاثة، ومهما يكن الأمر فإننا ندين للبلخي بتثبيت مبدأ لا يزال من أهم مبادئ الجغرافية الإقليمية، وهو إقران المعلومات الجغرافية بالخارطة، وجعل المصورات أساسًا للشرح الجغرافي، بل إن كتابي الإصطخري، وابن حوقل ينصان على أن الشروح ما هي إلا توضيح للخارطة المرفقة بهما، وإن الأساس فيهما هي الخرائط أو الصور، فلقد ذكر الإصطخري في مقدمته: "وأما ذكر مدنها وجبالها وأنهارها وبحارها والمسافات، وسائر ما أنا ذاكره فقد يوجد في الأخبار، ولا يتعذر على من أراد تقصي شيء من ذلك من أهل كل بلد، ولذلك تجوزنا في ذكر المسافات
__________
1 الاصطخري -المسالك والممالك، ص15.(1/67)
والمدن وسائر ما نذكره، فاتخذت لجميع الأرض التي يشتمل عليها البحر المحيط الذي لا يسلك صورة، إذا نظر إليها ناظر علم مكان كل إقليم كما ذكرناه، وإتصال بعضه ببعض ومقدار كل إقليم من الأرض، حتى إذا رأى كل إقليم من ذلك مفصلًا علم موقعه من هذه الصورة التي جمعت سائر الأقاليم لما يستحقه كل إقليم في صورته، من مقدار الطول والعرض والاستدارة، والتربيع والتثليث وسائر ما تكون عليه أشكال تلك الصورة، فاكتفيت ببيان موقع كل إقليم ليعرف مكانه، ثم أفردت لكل إقليم من بلاد الإسلام صورة على حدة، بينت فيها شكل ذلك الإقليم وما يقع فيه من المدن، وسائر ما يحتاج إلى علمه مما آتي على ذكره في موضعه إن شاء الله"1.
أما ابن حوقل فقد وضع الخارطة أيضًا في مبتدأ بحثه من كل إقليم، ونص في مقدمة كتابه أنه "قد جعلت لكل قطعة أفردتها تصويرًا يحكي موضع ذلك الإقليم، ثم ذكرت ما يحيط به من الأماكن والبقاع، وما في أضعافها من المدن والأصقاع ... واستوفيت صور المدن وسائر ما وجب ذكره، واتخذت لجميع الأرض التي يشتمل عليها البحر المحيط الذي لا يسلك صوره ... وأعربت عن مكان كل إقليم مما ذكرته، واتصال بعض ببعض ومقدار كل ناحية في سعتها وصورتها من مقدار الطول والعرض، والاستدارة والتربيع والتثليث، وسائر ما يكون عليه أشكال تلك الصورة والعمل، وموقع كل مدينة من مدنه تجاورها وموضعها من شماليها وجنوبيها، وكونها بالمرتبة من شرقيها وغربيها ليكتفي الناظر ببيان موقع كل إقليم، وموضعه في مكانه، وما توخيته من ترتيبه وأشكاله"2.
كذلك يشير المقدسي في مقدمة كتابه أنه قد استعان في شرح كل إقليم من أقاليمه برسم صورة له حيث قال: "وأوضحنا الطرق؛ لأن الحاجة إليها أشد، وصورنا الأقاليم؛ لأن المعرفة بها أروح3". كما يقول في موضع آخر:
__________
1 المصدر السابق، ص15.
2 ابن حوقل، ص10.
3 المقدسي -ص8.(1/68)
"وقد قسمنا أربعة عشر إقليمًا، وأفردنا أقاليم العجم من أقاليم العرب، ثم فصلنا كور كل إقليم ونصبنا أمصارها وذكرنا قصباتها، ورتبنا مدنها وأخبارها بعدما مثلنا ورسمنا حدودها، وخططها وحررنا المعروفة بالحمرة، وجعلنا رمالها الذهبية بالصفرة، وبحارها المالحة بالخضرة وأنهارها المعروفة بالزرقة، وجبالها المشهورة بالغيرة ليقرب الوصف إلى الأفهام، ويقف عليه الخاص والعام"1، غير أنه لم يعبر عن نفس الحماس بضرورة الاهتمام بالصور، كما عبر البلخي والإصطخري وابن حوقل، وقد ضاعت تلك الصور ولم يتسن لنا معرفة ما أحرزه فيها المقدسي من تقدم على سابقيه، وعلى أيه حال فإن جميع خرائط الرواد الإقليميين تكاد تشترك في صفات عامة، أبرزها الشكل الهندسي التخطيطي الذي لا يعترف بالشكل الحقيقي للبلاد، ولذلك كثيرًا ما يرد شكل البلاد على هيئة مستطيل أو مربع، كما ترسم معالم السطح من سواحل وجبال وأنهار، وبحار على شكل خطوط مستقيمة، أو أقواس أو دوائر، وتظهر البحار الداخلية على هيئة دوائر كاملة وبأحجام مبالغ فيها، ولا يمكن أن تجمع تلك الخرائط الإقليمية إلى بعضها -شأن خرائط الإدريسي- لتكون خارطة واحدة للعالم، بل إن كلا منها مستقل استقلالًا تامًا عن الخارطة الأخرى، والحقيقة أنها عبارة عن ملخص مصور للمعلومات المشروحة في المتن.
أما الإدريسي فقد اختلفت خرائطه عن خرائط رواد المدرسة الإقليمية، وهذا أمر متوقع فمنهجه الإقليمي يختلف عنهم أساسًا، ولذلك فخرائطه لم تعتبر جزءًا من خرائط "أطلس الإسلام"، وتلتزم خرائط الإدريس بمقياس الرسم، وبتحديد مواضع خطوط الطول والعرض، كما تلتزم بالشكل الحقيقي للمنطقة، لذلك اعتبرت قمة ما بلغته الكارنوغرافية العربية من تطور، وبالرغم من أن الإدريسي حذا حذو بطليموس في مواضع كثيرة، إلا أنه يعتبر مجددًا ومتفوقًا عليه في جوانب عديدة2، ولقد رسم الإدريسي خارطتين، الأولى على كرة من الفضة كتب عليها كل ما كان يعرفه
__________
1 المصدر السابق، ص6.
2 ألدو ميلي، ص 393.(1/69)
من بلدان مختلفة، لكن تلك الكرة فقدت، كذلك صنع خريطة على شكل مستطيل من الفضة تبلغ أبعاده 14× 10 أقدام، ووزنه أربعماية رطل رومي، وهي تكاد تكون أكبر الخرائط في العالم، وقد ذكر الإدريسي أنها تضمنت صور الأقاليم ببلادها وأمطارها، ومواضع أنهارها وعامرها وغامرها، والطرقات والأميال والمسافات والشواهد1.
وقد قسم الإدريسي خارطة العالم إلى سبعين قسمًا باعتبار أن أقاليم الأرض المأهولة هي سبعة أقاليم، وأن كل إقليم من تلك الأقاليم مقسم إلى عشرة أجزاء متساوية ابتداء من الطرف الغربي للأرض حتى الطرف الشرقي لها، وأن مجموع هذه الخرائط السبعين المنفردة تكون خارطة العالم، ويمكن القول عمومًا بأن الجزء الآسيوي من خارطة الإدريسي غني بالمعلومات، كما أنها صورت بحر الخزر وأورال بصورة صحيحة، ويكشف شكل قارة أفريقيا فيها عن تأثر ببطليموس، بالرغم من أن الساحل الإفريقي لم يرتبط بالساحل الصيني، كما هو الحال في خريطة بطليموس2، وقد استخدم الإدريسي الألوان في خرائطه، فاستعمل اللون الأزرق للبحار والأخضر للأنهار، واللون الأحمر والبني والأرجواني للجبال، كما رسم المدن على شكل دوائر مذهبة، وقد سبق أن لاحظنا بأن استخدام الألوان في الخرائط كان أمرًا مألوفا كما أشار المقدسي.
أما الكتب الإقليمية الأخرى فقد خلت من الخرائط، ولعل مرجع ذلك إلى عدم تجشم مؤلفيها عناء رسم الخرائط لا سيما وأنهم لم يكونوا سوى جماعين للمعلومات، أو لعلها فقدت من أصول مؤلفاتهم.
__________
1 د صبحي عبد الحكيم وماهر الليثي -علم الخرائط- مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 1966، ص23- 25.
2: Erwin Raiz, General Cartography, New York 1948, p.17(1/70)
4- الالتزام بالمعلومات الجغرافية:
لعل أهم ما يميز كتابات الجغرافيين الإقليميين الأوائل الالتزام بالمعلومات الجغرافية، والاقتصاد بالمعلومات الأخرى، ولا سيما المعلومات
التأريخية، ومن المعلوم أن الجغرافيا والتأريخ اقترنتا منذ البداية في كتابات الجغرافيين القدماء بدءًا بالكتاب الأغريق، ثم الرومانيين في العرب والمسلمين. فهيرودوت وهيكاتايوس مثلًا، وهما من أكبر وأقدم الجغرافيين الإغريق هما مؤرخان أساسًا، كذلك حال بوليبوس، وعلى أية حال فإن هذا الاقتران بين الجغرافيا والتأريخ أمر غير بعيد عن الصواب، كما أنه ليس بمستغرب، وقد ظل هذا الإتجاه مقبولًا حتى لدى أساطين الجغرافية الحديثة، فكارل ريتر Ritter مثلًا بدأ أستاذًا للتأريخ، وانتهى جغرافيًا كما أن فيدال دي لا بلاش La Blache بدأ دارسًا للتأريخ، وانتهى أستاذًا للجغرافية، وهناك تأكيد دائم من قبل الجغرافيين بأن الجغرافيا لا غنى لها عن التأريخ، كما أن هناك تأكيدًا مستمرًا من قبل المؤرخين بأن التأريخ لا يمكن أن يستغني عن الجغرافية، وقد لخص هذا الترابط بين الجغرافية والتأريخ بالقول المأثور بأن الجغرافيا تمثل المسرح الذي يلعب الإنسان عليه أحداثه التأريخية.
غير أن المؤلفات الجغرافية الإسلامية البلدانية بالغت في التفصيلات التأريخية، حتى طغت في كثير من الأحيان على المعلومات الجغرافية، والأمثلة على ذلك كثيرة في كتابات اليعقوبي، والمسعودي والبكري وغيرهم، وقد اتجه الجغرافيون الإقليميون الرواد اتجاهًا مغايرًا، فعمدوا إلى الاقتصاد في المعلومات التأريخية والتأكيد على المعلومات ذات الصفة الجغرافية، كاستعراض المعالم الطبيعية والطوبوغرافية، والاهتمام بمظاهر الحياة الاقتصادية من زراعة وصناعة، وتجارة ومناقشة أحوال السكان الاجتماعية والثقافية والدينية، إضافة إلى الاهتمام بالمدن وصفاتها، وما يربط بينها من المواصلات، ويمكن القول: إن الكتب الإقليمية الرائدة تمثل أفضل تمثيل الأسلوب الجغرافي العلمي، وتلك هي "المسالك والممالك" للإصطخري و"صورة الأرض" لابن حوقل، و"أحسن التقاسيم" للمقدسي، إضافة إلى "نزهة المشتاق" للإدريسي و"تقويم البلدان" لأبي الفدا، و"كتاب الجغرافيا" لابن سعيد المغربي، ومن الممكن اعتبار تلك المؤلفات مثالًا يحتذى في الكتابة(1/71)
الجغرافية البلدانية، وبطبيعة الحال فإنها تتفاوت في مدى التزامها بالمنهج الجغرافي السليم، فكتاب "المسالك والممالك" للإصطخري، كان لا يزال يتعثر في منهجه الجغرافي، بينما حقق كتاب "صورة الأرض" لابن حوقل مثالًا أفضل في الكتابة الجغرافية، وجاء كتاب "أحسن التقاسيم" للمقدسي أعظم نضجًا، وأدق حسًا من وجهة النظر الجغرافية، أما "نزهة المشتاق" فيمثل تقدمًا واضحًا في الكتابة الجغرافية، كذلك يمثل كتاب "تقويم البلدان" لأبي الفدا خلاصة جغرافية ناجحة لما توصل إليه الجغرافيون السابقون، أما "كتاب الجغرافيا" لابن سعيد، فكان عبارة عن ترداد للمعلومات السابقة، ولكنه أضاف إضافة هامة إلى المعلومات الخاصة بغربي أفريقيا، وشمال أوروبا.(1/72)
معطيات الجغرافية البلدانية:
اشتملت المصنفات البلدانية على معلومات متنوعة، بما فيها المعلومات الخاصة بالجغرافية الطبيعية، غير أن أهم معطياتها في الواقع هي التي تتعلق بالمعرفة ببلدان العالم القديم، أو ما نسميه في الوقت الحاضر بالجغرافية البشرية للعالم القديم. فالمعلومات المتنوعة التي حفظتها لنا عن شعوب تلك البلدان، ومواطنها تعتبر أثمن إضافات الجغرافية العربية للفكر الجغرافي العالمي، هذا فضلًا عن كشوفاتها الهامة عن مناطق جديدة لم يكن الجغرافيون السابقون "اليونان والرومان"، قد كتبوا عنها، ولقد كان الجغرافيون اليونان والرومان يعتقدون أن جزءًا محدودًا من النصف الشمالي من الأرض فقط يصلح لسكن البشر، وأطلقوا على هذا الجزء اسم "العالم المأهول" Ecumene، وسماه العرب باسم "الربع المعمور". وكانوا يعتقدون أن الأجزاء الباقية من الأرض هي بقاع خالية لعدم صلاحيتها للاستيطان البشري، إما بسبب شدة بردها أو شدة حرها، أو لكونها مغمورة بالبحار، وكان "الربع المعمور" يشتمل في عرف الجغرافيين اليونان، والرومان على(1/72)
الأجزاء الجنوبية والوسطى من قارة أوروبا، وعلى الأطراف الجنوبية من شمالي القارة لغاية جزيرة ثيول Thule الواقعة في شمالي الجزيرة البريطانية، حيث يبلغ طول النهار حوالي عشرين ساعة، وعلى الأجزاء الغربية والوسطى والشرقية، وبعض الأجزاء الجنوبية من قارة آسيا، وعلى الأجزاء الشمالية والشرقية والوسطى من قارة أفريقيا، التي تضم بلدان المغرب العربي وليبيا ومصر والحبشة، وجزءًا من أرض السودان، وجزءًا من الساحل الصومالي، وكانت حدود هذا "الربع المعمور" تتمثل غربًا بما يُسمى بحر الظلمات "المحيط الأطلسي" عند جزر الخالدات، وشمالًا بما يسمى المحيط الشمالي الذي افترض أنه يقع غير بعيد عن البحر الأسود، وشرقًا في أقصى عمران الصين عند مدينة "سيلا"، وجنوبًا بما يسمى البحر الشرقي.
وقد أخذ الجغرافيون العرب والمسلمون بهذا المفهوم للأرض المعمورة، واعتبروا المناطق المسكونة من الأرض هي التي حددها الجغرافيون السابقون، غير أنهم ما لبثوا أن تخلوا تدريجيًا عن هذا التحديد، وتنامت معلوماتهم عن بلدان "الربع المعمور"، عما وردت في كتب الأقدمين، فبالنسة "للريح المعمور" وسعوا حدوده نحو شمال أوروبا وآسيا، فأدخلوا ضمنه بلاد يورا، وشعوب يأجوج ومأجوج، كما مددوه نحو الشرق حسبما تجمع لديهم من معارف عن الصين. كذلك وسعوا حدوده في آسيا الجنوبية بعد أن خبروا عن كثب المناطق المسكونة في جنوب القارة في الملايو والهند الصينية، وجزر المحيط الهندي. ومددوا الربع المعمور في جهة الساحل الجنوبي الشرقي لأفريقيا ضمن المناطق التي أطلقوا عليها اسم "سفالة الزنج"، والتي تصل إلى جنوبي الساحل الموزمبيقي، وتوغلوا به عدة درجات، جنوبي خط الاستواء في أفريقيا الداخلية. ولم تقتصر معرفتهم على مجرد تحديد أسماء مواضع جديدة ضمن "الربع المعمور"، بل تضمنت معلومات جديدة متنوعة عن الأوضاع الطوبوغرافية والاقتصادية، والبشرية لتلك الجهات، والواقع أن تفوق الجغرافيين العرب والمسلمين في معرفتهم ببلدان العالم القديم على من(1/73)
سبقهم من الجغرافيين اليونايين والرومان إنما هو أمر طبيعي، ذلك أن النفوذ الإسلامي امتد في القارات القديمة، فشمل بقاعًا لم يمتد إليها نفوذ الإمبراطورية الرومانية، وخصوصًا في قارتي آسيا وأفريقيا.
وقد كانت رقعة العالم الإسلامي أوسع من رقعة الإمبراطورية الرومانية في أعظم عهد من عهودها، وقد هيأ ذلك الإتساع مادة جغرافية غزيرة من جهات واسعة من العالم القديم للجغرافيين العرب والمسلمين، وصاحب اتساع النفوذ الإسلامي نشاط تجاري عظيم لم تشهده إمبراطورية الإسكندر، ولا الإمبراطورية الرومانية، امتد فيما وراء حدود الإمبراطورية الإسلامية، فبالنسبة لأوروبا توغل التجار المسلمون في أواسط القارة وشماليها، ووصلوا إلى الجهات الإسكندنافية، هذا فضلًا عن الجهات الشرقية التي باتت مألوفة لديهم، وبالنسبة لأفريقيا عبر التجار العرب الصحراء الكبرى، وأقاموا صلات تجارية مع جهات أفريقيا الغربية في غانة والنيجر والسنغال، ووصلوا لغاية خط عرض "10"درجة شمالًا، كما تجولت مراكبهم على امتداد السواحل الشرقية حتى مدغشقر "جزيرة قمر"، أما بالنسبة لقارة آسيا، فكان التجار المسلمون يجوبونها من أقصى الشمال "بلاد الظلمة" إلى أقصى الجنوب "الجزر الأندونيسية -جزيرة رامني ومهراجا"، ومن أقصى الشرق "بلاد الصين- بلاد الخطا وجزر الواقواق" إلى أقصى الغرب، فكان التجار يستوردون من الصين الحرير والكيمخا، والعود والسروج والسمور والدارصيني والخولنجان والأواني، ومن الواقواق الذهب والأبنوس، ومن الزابج والهند العود والصندل، والكافور والجوز والقرنفل والقاقلة والكبابة والنارجيل والثياب المتخذة من الحشيش، والثياب القطنية المخملية وسن الفيل وقرون الكركدن، ومن سرنديب الياقوت والماس والدر والبلور، ومن السند البقم والخيزران والساج1 "، وهكذا هيأ التجار المسلمون للجغرافيين العرب فرصة ممتازة لجمع معلومات عن أقصى بلدان العالم القديم، وسنحاول أن نوضح في الصفحات التالية جوانب تفوق
__________
1 حسين فوزي -حديث السندباد القديم- بيروت 1977، ص9.(1/74)
معلومات الجغرافيين العرب عن بلدان العالم القديم في قارة أوروبا وآسيا، وأفريقيا على معلومات السابقين من الجغرافيين القدماء.
قارة أوروبا:
لقد تفوق الجغرافيون العرب والمسلمون على سابقيهم من الإغريق، والرومان في معرفة الجهات القصية من القارة الأوروبية، فحدود الأرض المعمورة في قارة أوروبا كما فهمها الإغريق والرومان لم تكن تتجاوز الجهات الوسطى في أوروبا، فجغرافي كبير مثل سترابو Strabo "إصطرابون" مثلًا، قد جعل المحيط الشمالي قريبًا جدًا من شمالي البحر الأسود، في حين أن بوليبس Polybius يشك أساسًا في وجود المحيط الشمالي، والواقع أن كتابتات الجغرافيين الأغريق والرومان عن شمالي أوروبا، وعلى نحو الخصوص عن منطقة البحر البلطيقي في شمال غربي أوروبا، كانت غامضة للغاية بالرغم من أن تجار العنبر كانوا يرتادون تلك المنطقة، وكانت معظم معلومات الجغرافيين تستند أساسًا إلى التقارير التي كتبها بثياس المرسيلي Pythias في القرن الرابع قبل الميلاد، والتي أشار فيها إلى جزيرة أطلق عليها اسم "ثيول" Thule ذكر أنها تقع في أقصى النواحي الشمالية من الأرض المعمورة في قارة أوروبا، ولا يزال البحاثة مختلفين حول حقيقة هذه الجزيرة، أهي إيسلندة أم الجزء الجنوبي من سكانديا أم شبه جزيرة جتلاند، ولعلها ليست في الحقيقة سوى الطرف الشمالي لاسكتلندا، أما كتابات الجغرافيين الإغريق، والرومان عن شعوب شمال أوروبا، فتستند إلى الخرافة، فقد أطلقوا عليهم اسم "الهيبربوريون"، وزعموا أنهم يعيشون حياة سعيدة مجردة من المتاعب البشرية، وأنهم يقتاتون على الأعشاب ومنتجات الحيوانات، بل إن جغرافيًا كبيرًا كبطليموس نفى وجود سكان في شمالي أوروبا، وجعل المعمورة فيها تنتهي في آخر الإقليم السادس عند الجزر البريطانية.
أما الجغرافيون العرب والمسلمون، فقد كان لديهم تصور واضح عن(1/75)
جهات شمالي أوروبا بالرغم من عدم اهتمامهم بأمثال تلك الجهات باعتبارها خارج نطاق بلدان الإسلام، فهناك إشارات متكررة لدى المسعودي، والبيروني والغرناطي بأن تلك المناطق يسودها البرد الشديد بحيث تتعذر الزراعة فيها، وأن سكانها البحريين يقتاتون على السمك، ولعل البيروني والإدريسي كانا من أكثر الجغرافيين دقة في الحديث عن تلك الجهات، فقد حدد البيروني بصورة صحيحة موقع المحيط الشمالي الذي يلتف حول شبه جزيرة اسكندناو، كما أطلق على سكانها اسم "الورنك"1، وأشار إلى براعتهم في صناعة السيوف الحديدية، وقد اتفق جميع الجغرافيين المسلمين الذين أشاروا إلى تلك الجهات بأن النهار قد يطول في أثناء الصيف فيها، بحيث يتجاوز إحدى وعشرين ساعة بينما تنعكس الآية في فصل الشتاء.
ومثال ذلك ما ذكره القزويني في كتابه "آثار البلاد وأخبار العباد" عن بلاد ويسو التي قال عنها: "إنها بلاد من بلاد البلغار بينهما مسيرة ثلاثة أشهر، ذكروا أن النهار يقصر عندهم حتى لا يرون شيئًا من الظلمة، ثم يطول الليل حتى لا يرون شيئًا من الضوء، وأهل بلغار يحملون بضائعهم إليها للتجار".
وقال عن بلاد يورا: "إنها بلاد يقرب بحر الظلمات، وإن النهار عندهم في الصيف طويل جدا حتى إن الشمس لا تغيب عنهم مقدار أربعين يومًا، والظلمات قريبة منهم"2.
وتنعكس معرفة الجغرافيين العرب والمسلمين أيضًا بجهات شمال أوروبا في أقاليم الأدريسي، حيث مدد الأرض المعمورة في شمالي أوروبا حتى فنلندا وشمال الروسيا وبلاد اللاب، ووضع ذلك كله في الإقليم السابع الذي يمتد عمليًا في خرائطه لغاية درجة 72 درجة شمالًا، وإن ذكر في المتن بأن أقصى المعمورة في أوروبا يصل إلى درجة 68 درجة شمالًا3.
__________
1 البيروني، القانون المسعودي ص 537.
2 القزويني "زكريا محمد"- آثار البلاد وأخبار العباد. منشورات دار صادر بيروت، ص 617- 620.
3 د. حسين مؤنس -تأريخ الجغرافية والجغرافيين في الأندلس -مدريد 1967، ص 208.(1/76)
كما تنعكس هذه المعرفة أيضًا في "كتاب الجغرافيا" لابن سعيد المغربي، حيث تحدث عن بعض جهات شمالي أوروبا ضمن إقليمه الذي أطلق عليه اسم "المعمور خلف الأقاليم".
أما ما يخص شرقي أوروبا، فكانت معلومات الرومان، والإغريق عنها مبعثرة وغير دقيقة، فكل من هيرودوت وبطليموس مثلًا يمددان بحر آزوف في خارطتيهما إلى جهات موغلة في الشمال، كما أن بليني Pliny يعتبر سكان شرقي أوروبا من الاسكيثيين من آكلي لحوم البشر، بينما يشكو هيرودوت بأن أولئك الأقوام لا يسمحون لأحد بدخول مناطقهم، ولم تكن معلومات بطليموس عن هذه المناطق بأفضل من معلومات سابقيه، فهو يعين في خارطته في تلك الجهات من أوروبا مثلًا سلاسل جبال عديدة اعتمادًا على أقوال الرواة، بينما لا نكاد نعرف سوى سلسلة واحدة هي سلسلة جبال الكربات.
أما الجغرافيون العرب والمسلمون، فكانت معرفتهم بجهات شرقي أوروبا تتفوق على معلومات سابقيهم بدرجة واضحة، فالكتابات عن بلاد الصقالبة وشعوبها "والتي كان يقصد بها منطقة الشعوب السلافية عمومًا"، كان يتكرر لدى عدد من الجغرافيين أمثال المسعودي، والإدريسي والبيروني وابن سعيد والغرناطي، وقد حفلت كتابات أبي حامد الغرناطي -بالرغم مما تضمنته من خرافات ومبالغات- بمعلومات طيبة عن جهات شرقي ووسط أوروبا، ولا سيما بلاد المجر، وذكرت أبرز المظاهر الطبيعية والعادات الاجتماعية، ولم يكن يخلو أي كتاب جغرافي عربي عام عن الكلام على جهات شرقي أوروبا.
قارة آسيا:
لقد فاقت معلومات الجغرافيين العرب والمسلمين عن قارة آسيا(1/77)
معلومات سابقيهم من الجغرافيين الإغريق، والرومان بدرجة عظيمة، ففيما عدا إيران والعراق وآسيا الصغرى وبلاد الشام، لم تكن معلومات، الإغريق والرومان واضحة، أو دقيقة عن مناطق وشعوب أواسط آسيا، وشرقيها وجنوبها الشرقي وجنوبها، ويمكن القول: إن معارف الإغريق والرومان ظلت قاصرة على الرقة التي شملتها فتوحات الإسكندر الكبير، فلم يكونوا يعرفون سوى معلومات مشوشة، وغير دقيقة عن أراضي ما وراء النهر، وشعوبها "شرقي نهر جاكزارتس وأوكسوس"، أما شمال آسيا "جهات سيبيريا"، فكانت في عرفهم صحاري غير مأهولة، كما لم تكن لديهم أية فكرة عن الساحل الشرقي لآسيا إلى الشمال من الهند الصينية، بل إن معلوماتهم كانت ضئيلة جدًا عن مظهر جغرافي بارز في غربي آسيا، وهو بحر الخزر الذي جعله إراثوستنس Erathostenes "إراطوسطيني" متصلًا بالمحيط الشمالي، وجعله أرسطو متصلًا بالبحر الأسود بقناة جوفية، ولقد أكد بليني Pliny بأن بعض الهنود قاموا برحلة من الهند إلى بحر الخزر عن طريق المحيط الشمالي!
وظلت كذلك المنطقة الواقعة شمالي بحر الخزر، وشرقيه شبه مجهولة لدى الكتاب الإغريق والرومان، فقد رسم بليني مثلًا ساحلًا إلى الشرق من خليج الخزر ونثر فيه صحاري جليدية متعاقبة واضعًا في هذه المنطقة الاسكيثيين آكلي لحوم البشر، أما بطليموس فقد جعل منطقة الاسكيثيين تتلاشى تجاه الشمال في أرض مجهولة تمتد فيها بعض سلاسل الجبال، وتتناثر بعض القبائل1.
ولم يكن لدى الجغرافيين الإغريق والرومان أيضًا فكرة عن الأنهار الكبرى التي تجري في شمال القارة الآسيوية، وتصب في المحيط المتجمد الشمالي كنهري ينساي ولينا، بل إن نهرًا عظيمًا كنهر الفولغا لم يكن معروفًا إلا بصورة مشوشة، ولم يكتشفوا مصبه في بحر الخزر إلا في وقت متأخر.
أما الجغرافيون العرب والمسلمون، فقد سجلوا معلومات دقيقة
__________
1 شريف محمد شريف، ص 452- 453.(1/78)
ومفصلة عن بحر الخزر وحوض الفولغا والشعوب التي تقطن حوضه الأدنى، ولا يكاد يخلو أي كتاب من الكتب الجغرافية الإقليمية من وصف لبحر الخزر، وقد أجمع الجغرافيون المسلمون على كونه بحيرة مغلقة، ولقد تحدث العيدد منهم عن نهر الفولغا، "الذي كانوا يسمونه نهر أتل"، ووصفوا مجراه ومصبه في بحر الخزر، واعتبروه أحد أنهار الدنيا الكبرى، ولقد تحدث عنه ابن حوقل في كتابه "صورة الأرض" حديثًا مفصلًا ورسم له خارطة، كذلك يمكن القول: إن ما ذكره أبو الفدا في كتابه "تقويم البلدان" عنه يمثل تخليصًا طيبًا لمعرفة الجغرافيين العرب الأوائل عنه.
أما المعلومات الخاصة بشعوب حوض الفولغا الأدنى، ومنطقة بحر الخزر فلا يكاد يخلو منها أي كتاب من كتب الجغرافية الإقليمية، لا سيما وأن بعض تلك الشعوب قد تبنى الديانة الإسلامية مبكرًا، وهناك تفصيلات واسعة في كتاب ابن حوقل، والكتب الإقليمية التالية عن مدن هذه الجهات، وإنتاجها الاقتصادي وعن عادات سكانها، غير أن أقدم تسجيل جغرافي عن منطقة الفولغا الأدنى هو ما ورد في مذكرات ابن فضلان الذي أرسله الخليفة المقتدر موفدًا إلى تلك الجهات عام 921م، فلقد تحدث في تلك المذكرات عن بلاد بلغار الفولجا، وشعبها واصفًا بعض المظاهر الطبيعية، والتقاليد الاجتماعية، ولقد كان أول من تحدث عن ظاهرة قصر الليل والنهار في تلك الجهات1.
ومن الكتابات الهامة عن تلك الجهات أيضًا كتابات لأبي حامد الغرناطي والمسعودي وابن بطوطة، وتكتسب معلومات الغرناطي البشرية عن هذه المنطقة أهمية خاصة بالرغم مما يشوبها من خرافات.
أما معلومات الجغرافيين العرب والمسلمين عن أقاليم آسيا الوسطى، وتركستان "والتي كان يطلق عليها اسم بلاد ما وراء النهر"، فالتفصيلات عنها
__________
1 راجع "رحلة ابن فضلان" -تحقيق الدكتور سامي الدهان، منشورات المجمع العلمي العربي بدمشق -عام 1959.(1/79)
غزيرة للغاية، لا سيما وأن بعض الجغرافيين المسلمين ينتمون إلى تلك الأقطار كالبيروني مثلًا، وقد تنوعت التفصيلات الجغرافية عن جهات آسيا الوسطى تنوعًا عظيمًا، فهي طوبوغرافية طورًا، ومناخية طورًا آخر، واقتصادية طورًا ثالثًا، كما أنها تناولت بصورة مفصلة المدن وخططها وتطورها التأريخي، وهناك معلومات أنثروبولوجية من الدرجة الأولى تبعثرت في الكتب الجغرافية الإقليمية في بعض كتب الرحلات كرحلة ابن بطوطة مثلًا، ولعل من أفضل الكتب التي درست آسيا الوسطى كتاب "صورة الأرض" لابن حوقل، وكتاب "أحسن التقاسيم" للمقدسي، وكتاب "المسالك والممالك" للإصطخري، وجميعها من المؤلفات الجغرافية المبكرة، غير أن المعلومات البشرية المفصلة والقيمة عن تلك الجهات كانت تتناثر في صفحات كتب الرحلات من أمثال رحلة ابن بطوطة.
وكان للجغرافيين العرب والمسلمين أيضًا معلومات طيبة عن شمال آسيا، فقد كان البيروني أول من سمي نهر أنجارا، وتحدث عن شعوب إقليم بيكال في سيبيريا الشرقية1، وكانوا يطلقون على شمال آسيا اسم "بلاد الظلمة"، وقد أورد المسعودي بعض التفصيلات عنها في الجزء الأول من موسوعته "مروج الذهب"، كما تحدث ابن بطوطة عن أهم السلع التي كان يتاجر بها سكان تلك الجهات وشرح طريقتهم في المتاجرة، وهي الطريقة التي يطلق عليها اسم "التجارة الصامتة"2.
أما ما يتعلق بالصين فلم يكن الجغرافيون الإغريق يعرفون عنها شيئًا، إلا أن معلومات الرومان عنها كانت تتنامى منذ القرن الثاني الميلادي بسبب اشتداد الرغبة لدى سكان روما المترفين للحصول على الحرير الصيني، وكانت القوافل التجارية التي تحمل الحرير الصيني عبر الأراضي الآسيوية، تتخذ طريقًا معينًا يطلق عليه "طريق الحرير العظيم"، وكان هذا الطريق ذا شعبتين، الأولى تمر بخوتان وطشقوجان وتنتهي إلى بكترا، بينما
__________
1 نفيس أحمد، ص 33.
2 د. شاكر خصباك -ابن بطوطة ورحلته- النجف 1971، ص 216- 217.(1/80)
تمر الثانية إلى الشمال مجتازة قشغر وسمرقند وتنتهي بمرو، وكانت أقصى نقطة تصل إليها هي مدينة بلخ، وكان كلا الطريقين ينتهي في موضع يطلق عليه اسم "برج الحجر"، كانت تتجمع فيه تجارة الحرير، ولم تكن معلومات الجغرافيين الرومان لتتجاوز مدينتي مرو وبكترا، وهي معلومات غامضة، نقلها تجار الحرير عن بعض الأنهار والجبال والمدن الصينية، أما البحر الواقع شرقي الصين، فلم تكن لديهم عنه سوى معرفة نظرية، ولذلك فلم تشتمل خريطة بطليموس على معلومات واضحة عن الصين، وكل ما هنالك أنها حددت موضع مدينة سيرا Sera، واعتبرتها عاصمة لبلاد السيرس Seres التي يشتغل سكانها بصناعة الحرير، وربما كان إقليم سيرس يمثل جزءًا من شمالي الصين، كذلك حددت الخارطة موقع مدينة ثيناي Thinae، واعتبرتها عاصمة لإقليم سيناي Sinae الذي يقع إلى الجنوب من إقليم سيرس، وهي لا تبعد كثيرًا عن ميناء كاتيغارا Cattigara، ولم يتفق الباحثون على حقيقة مدينة ثيناي، أو مدينة كاتيغارا. وقد تساءلوا إن كانت مدينة ثيناي ما هي سوى كلمة مرادفة لكلمة سيناي؟ أم هي مدينة لويانج أم نانكينغ؟ كما تساءلوا عن حقيقة ميناء كاتيغارا، هل هو كانتون؟ أم هانوي؟ أم سايجون؟ أم ميناء سنغافورة القديم؟! ولم يتوصلوا إلى جواب نهائي لهذه الأسئلة1.
أما معلومات الجغرافيين العرب والمسلمين عن الصين فهي جيدة، ومتنوعة عمومًا، وإن كانت أغنى بالجوانب البشرية منها بالجوانب الطبيعية، والحقيقية أن معلومات الجغرافيين المسلمين عن الصين ترجع إلى عهد مبكر، وقد استقيت من السفراء والتجار والبحارة، وقد استطاع الملاحون العرب أن يتوغلوا على امتداد الساحل الصيني نحو الشمال لغاية شبه جزيرة كوريا، وأطلقوا على بحر الصين الشمالي اسم "بحر صنخي"، ويبدو أن أقدم المعلومات الموثوقة عن الصين هي التي خلفها لنا الملاح والتاجر سليمان، والتي جمعها سليمان السيرافي في الكتاب المسمى "أخبار الصين
__________
1 هـ. وود- "ترجمة شاكر خصباك- الارتياد والكشف الجغرافي. منشورات المكتبة العصرية، بيروت 1967، ص 22.(1/81)
والهند"، وقد اشتمل هذا الكتاب على معلومات دقيقة وممتازة عن الحياة الإقتصادية والاجتماعية في الهند والصين1، وبالرغم من قدم هذا المصدر "عام 851م"، فلم تتفوق عليه المصادر التالية في معلوماتها البشرية عن الصين، ولعل "رحلة ابن بطوطة" هي الوحيدة التي أضافت معلومات بشرية جديدة عن الصين لم تكن قد وردت في الكتاب المذكور، بينما نجد كثيرًا من الجغرافيين المسلمين قد اغترفوا في غير تحفظ من مناهل هذا الكتاب، ومن المراجع المبكرة أيضًا التي تليه في أهميتها الكتاب المعنون "عجائب الهند بره وبحره"، لبزرك بن شهريار الذي يرجع إلى أواخر القرن الثالث الهجري وأوائل الرابع، ولا بد من التأكيد هنا بأن الصلات التجارية بين الصين، وأقطار العالم الإسلامي كانت قوية منذ وقت مبكر، وكان التجار العرب يتبادلون السلع مع التجار الصينيين عن طريق الموانئ الهندية الجنوبية في بداية الأمر، حيث كانت ترد إليها المراكب الصينية بأعداد غفيرة، غير أن التجار المسلمين والعرب ما لبثوا أن عرفوا طريقهم إلى الصين، حتى لقد تكونت جالية كبيرة منهم في ميناء الصين الجنوبي المسمى "خانفو" [ميناء كانتون] ، بحيث حملت ملك الصين على تولية رجل مسلم يحكم بينهم ممثلًا عنه، وقد ذكر ابن بطوطة أنه التقى بعدد كبير من التجار العراقيين أثناء تجواله في الصين.
ومن المعلومات المبكرة والهامة عن الصين أيضًا تلك التي نقلها المسعودي، عن ابن وهب القرشي، والتي تناولت الجوانب الإقتصادية والاجتماعية والسياسية. وكذلك المعلومات التي دونها التاجر تميم بن بحر المتطوعي، والذي اعتبره بعض الباحثين أقدم مصدر استقى منه العرب معلوماتهم عن الطريق البري إلى الصين. كذلك تعتبر رحلة أبي دلف مسعر بن مهلهل الخزرجي إلى الصين، والتي أوفده فيها الأمير الساماني نصر بن أحمد حوالي عام 942م من الرحلات التي زودت الجغرافيين العرب بمعلومات طبية عن الصين، والمهم في الأمر أن معلومات الجغرافيين
__________
1 راجع كتاب "في الجغرافية العربية" -دراسة للتراث الجغرافي العربي. تأليف الدكتور شاكر خصباك -بغداد 1975، ص102- 103.(1/82)
والرحالة المسلمين عن الصين قلما كانت تتضمن مبالغات، أو خرافات أو اختلافات.
أما ما يتعلق بالهند، فإن معلومات الجغرافيين الإغريق، والرومان عنها ترجع إلى وقت مبكر، فمنذ القرن الخمس قبل الميلاد روى المؤرخ الجغرافي هيرودوت في كتابه "تأريخ العالم" نتفًا متفرقة عن الهند وشعوبها، كما قام كاتب إغريقي آخر هو كتسياس Ctesias في نهاية القرن الخامس قبل الميلاد بوضع كتاب عن الهند حافل بالخرافات، وإن اشتمل على بعض المعلومات الجيدة، واعتبرت الهند "والتي كانت في نظر الإغريق مجرد إقليم لنهر السند"، أقصى بقعة في شرقي العالم المعمور، وبالغ الكتاب عمومًا بحجمها، ولقد تنامت معلومات الجغرافيين الإغريق عن الهند، إثر حملات الإسكندر الكبير، وإن لم تتجاوز أيضًا إقليم السند، وظلت الخرافات أساسًا للمعلومات الإغريقية عن الهند، وإن بات نهر السند معروفًا للجغرافيين الإغريق معرفة جيدة، بيما بقي تصورهم لنهر الكنج يشوبه الغموض، ولقد اهتم الرومانيون بالهند اهتمامًا خاصًا، لا سيما بعد أن أدت اكتشافات هيبالوس Hippalus إلى كسر احتكار العرب للتجارة في المحيط الهندي وإلى اتباع طريق بحرية معينة إلى الهند بالاستعانة بالرياح الموسمية، حيث استطاع الرومان الحصول على السلع الهندية بصورة مباشرة، ولقد اتسعت المعرفة الرومانية بالهند، فشملت إقليم الدكن حيث كانت تصل السفن الرومانية إلى الموانئ الجنوبية الغربية، ولكن من المؤكد أن المعرفة الرومانية بالجانب الشرقي من الهند كانت ضئيلة للغاية، ولم ينجح أي من الكتاب الإغريق، أو الرومان في تسجيل تصور صحيح عن الهند، فقد بالغ أراتوستيني مثلًا في خارطته فيما يتعلق بالهند فمدد بروزها نحو الشرق، كما ألغى بطليموس كتلة الهند الممتدة نحو الجنوب بأن جعل الساحل الجنوبي لآسيا أقرب إلى الاستقامة، هذا فضلًا عن أنه جعل المحيط الهندي بحيرة مطلقة، وكانت معلوماته ومعلومات سابقيه من الجغرافيين الإغريق والرومان مشوشة للغاية(1/83)
عن الجزر الإندونيسية الكبرى، وجزر المحيط الهندي عمومًا.
ومهما تكن قيمة معلومات الجغرافيين الإغريق والرومان عن الهند، فإن معلومات الجغرافيين العرب والمسلمين تتفوق عليها بدرجة واضحة، والواقع أن هناك ما يبرر هذا التفوق، فصلة العرب بشبه القارة الهندية قديمة جدًا، وقد ظل أبناء الساحل الجنوبي لجزيرة العرب، يحتكرون تجارة العالم مع الهند لقرون طويلة قبل أن يكشف هيبالوس الروماني في القرن الثاني الميلادي طريقًا بحريًا إلى الموانئ الهندية الجنوبية بمساعدة الرياح الموسمية، ولم تضعف الصلات التجارية بين سواحل الجزيرة والخليج العربي في أي عصر من العصور، بل ازدادت أهمية في عصر إزدهار الدولة الإسلامية "ولا سيما في العصر العباسي"، كما ظل التجار والملاحون العرب يسيطرون على التجارة المحيطية مع الهند، ومن المعروف أن فاسكو دي غاما De Gama قد استعان بمرشد عربي حينما قام بمغامرته الكبرى في الإلتفاف حول الرأس الأفريقي، والوصول إلى الهند عن طريق المحيط الأطلسي ثم الهندي، ويقال: إن ذلك المرشد هو الملاح المشهور ابن ماجد، وبعد أن نجح القائد العربي محمد القاسم في فتح السند عام 89هـ، توثقت الصلات بين الهند والعالم الإسلامي والعربي، وأخذ الجغرافيون المسلمون يبدون اهتمامًا خاصًا بالهند باعتبارها أحد أجزاء العالم الإسلامي، ومنذ عهد مبكر بدأت المعلومات تتجمع عن الهند، وخصوصًا ما يتعلق بالجوانب الاقتصادية والبشرية، كما أثارت المظاهر الطبيعية البارزة اهتمام الجغرافيين كنهر السند والكنج، وجبال هيملايا، فقد قرن الجاحظ مثلًا منابع السند بمنابع نهر النيل باعتبار أن التماسيح توجد في كل منهما، كذلك أثارت المدن الهندية الرئيسية اهتمامًا خاصًا لدى عدد من الجغرافيين المبكرين أمثال الإصطخري واليعقوبي وابن حوقل، غير أن هناك ثلاثة مراجع جغرافية رئيسية تنفرد بأهمية خاصة بالنسبة للمعلومات الجغرافية عن الهند، الأول هو كتاب "أخبار الهند والصين" لسليمان السيرافي، وهو أول مصدر عربي موثوق يتحدث عن شعوب الهند،(1/84)
والثاني "كتاب الهند" للبيروني المسمى أيضًا "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة"، والذي يعتبره الجغرافيون الهنود أفضل ما كتب عن الهند في العصور الوسطى1، وكتاب "رحلة ابن بطوطة" الذي يشتمل على ثروة غزيرة من المعلومات البشرية والاقتصادية عن الهند، وفضلًا عن هذه المصادر الرئيسية فلم يكن يخلو أي كتاب جغرافي عربي من معلومات عن الهند، فقد ذكر ابن رسته مثلًا في المجلد السابع من كتابه "الأعلاق النفيسة" طائفة من عادات الهند وأدبائهم2، كما تحدث الإصطخري في كتابه "المسالك والممالك"، أو"الأقاليم" عن بلاد السند، وأهم مدنها وإنتاجها الزراعي بشيء من التفصيل3، وأشار الهمداني المعروف بابن الفقيه في كتابه "مختصر كتاب البلدان" إلى الفروق في العادات الاجتماعية بين سكان الهند وسكان الصين4، أما إشارات الإدريسي إلى الهند فقد كانت أكثر دقة، ولا سيما وصفه للمدن الهندية، ولإنتاج البلاد الاقتصادي ولطقات السكان5.
أما كتاب "الهند" للبيروني فهو يعتبر كما ذكرنا أهم دراسة إقليمية قديمة لشبه القارة الهندية، وقد حاول مؤلفها أن يفرغ فيها كل ما استطاع جمعه من معلومات عن الهند عن طريق الخبرة الشخصية والقراءة والسماع، ولا ريب أن معلوماته قد فاقت ما اشتمله أي كتاب سابق أو لاحق عن الهند في ذلك العهد.
ولقد كتب أحد الجغرافيين الهنود دراسة مفصلة عن هذا الكتاب، واستعرض معلوماته الجغرافية الواسعة والميادين المتنوعة التي شملها6، وقد أوضح بأن "كتاب الهند" قد درس الأوضاع الطبيعية لشبه القارة الهندية، فتتبع ساحلها الغربي من أقصى الشمال حتى أقصى الجنوب، وعدد أبرز الموانئ التي تقع عليه، ذاكرًا
أهم الجزر الواقعة إلى جنوب الهند مثل جزيرة الزابج، وجزر الديبجات وجزيرة
سرنديب "سيلان"، وحدد البيروني بدقة
__________
1 نفيس أحمد، ص 270- 271.
2 ابن رستة، ص82- 83.
3 الاصطخري -الأقاليم "المسالك والممالك" منشورات مكتبة المثنى، ص 76-78.
4 ابن الفقيه -ص13-16.
5 الادريسي "أبو عبد الله محمد" -وصف الهند وما يجاورها من البلاد- من كتاب نزهة المشتاق- منشورات القسم العربي للجامعة الإسلامية في عليكرة، عام 1954، ص 32-57.
6 نفيس أحمد -ص242- 271.(1/85)
مواضع التفاف المحيط حول شبه القارة الهندية وأسماء كل موضع فيه، وفي حديثه عن الأجزاء الشمالية للهند أورد تفاصيل كثيرة عن كشمير، ووصف المجرى المتعرج لهر السند، وأشار إلى الجبال العالية ذات القمم السامقة والثلج الدائم، وذكر أن تلك الجبال المسماة هممنت "هيملايا" تمثل حدود الهند الشمالية كما تمثل منطقة تقسيم المياه، فما يخرج منها نحو الشمال يتجه صوب آسيا الوسطى، وما يخرج منها نحو الجنوب يجري في أرض الهند، وأشار إلى وجود جبل ميرود "الذي يمكن أن يعتبر قمة إيفرست"، الذي يعلو وجه الأرض علوًا مفرطًا ولا يمكن الدنو من عليائه، ثم شرح سهل السند الفسيح الذي يقع إلى الجنوب من جبال هيملايا، وفسر تكونه بأنه عبارة عن مخلفات بحيرة قديمة. ثم تحدث عن أنهار الهند وتناول منابعها ومجاريها بالتفصيل محددًا منبع كل نهر والجهات التي يمر عليها ثم مصبه، وتحدث كذلك عن مناخ الهند بفصوله المختلفة، وشدد بصورة خاصة على ظاهرة الأمطار الموسمية، وما ينجم عنها من غزارة مطر في بعض جهات الهند، ثم انتقل من شرح الجوانب الطبيعية إلى شرح الجوانب البشرية، فأفاض في الحديث عن مدن الهند وما تتميز به كل منها من ميزة تأريخية، أو سياسية أو اقتصادية، كما حدد المسافات بين مدينة وأخرى بصورة دقيقة، وشرح كذلك السلع الهندية، وما تنتجه الهند من زراعة وصناعة، وكذلك عرض البيروني لكل شاردة وواردة من عوائد سكان الهند وتقاليدهم، وأديانهم ولغاتهم وفلسفاتهم وعلومهم، وهكذا يتضح بأن "كتاب الهند" للبيروني هو أفضل الكتب الجغرافية الإقليمية القديمة، وهو يقع في مركز الصدارة بينها، وقد أضاف إلى المعرفة عن الهند ثروة عظيمة.
وكان للجغرافيين العرب والمسلمين معلومات طيبة أيضًا عن جزر المحيط الهندي، ولا سيما جزيرة سيلان "سرنديب" [سيرالانكا] ، فقد كانوا يعرفون على وجه التحديد موقع العديد من تلك الجزر، وخصوصًا الكبرى منها كما كانوا على معرفة بمدنها الرئيسية، وبالرغم مما شاب معلوماتهم عن(1/86)
سكان تلك الجزر من مبالغات، إلا أنهم قدموا عنها حقائق هامة، ومن الكتابات المهمة عنها ما ورد في كتاب أبي زيد السيرافي، وفي كتاب بزرك بن شهريار وفي كتاب البيروني، وقد تحدث الإدريسي أيضًا عن جزر المحيط الهندي، وفصل على نحو الخصوص في الكلام على سرنديب، وذكر أبرز مدنها مثل مرقايا وأغتا وفرسقوري، وكنبلي وبرنشلي ومرونة1.
ومن الكتابات الهامة عن جزر المحيط الهندي ما ورد في "رحلة ابن بطوطة" التي اشتملت على معلومات اجتماعية واقتصادية غزيرة عن تلك الجزر، وتكتسب معلومات ابن بطوطة عن جزر الملديف بالذات أهمية خاصة نظرًا؛ لأنه أقام في تلك الجزر ما ينيف على عام ونصف، وخبر الحياة فيها عن قرب2.
وأما ما يتعلق بكتابات الجغرافيين المسلمين عن الأقطار العربية الأسيوية، وإيرن فلا يمكن بطبيعة الحال مقارنتها بكتابات الجغرافيين الأغريق والرومان، فقد كانت مفصلة للغاية، وقد حظيت جزيرة العرب بدراسات مفصلة "ولا سيما الحجاز"، وخاصة ما يتعلق بالمدن والمسافات، بالنظر؛ لأنها موطن العرب الأصلي وموئل الإسلام ومثوى المدينتين المقدستين مكة المكرمة والمدينة المنورة. فلقد كتب ابن الحائك الهمداني كتاب "صفة جزيرة العرب"، وهو أوسع الكتب الجغرافية الإقليمية دراسة لجزيرة العرب من ناحية مظاهرها الطبيعية، وأجناسها وقبائلها وحاصلاتها المعدنية والحيوانية، وطرقها ومواطن الاستقرار فيها، ويقترب من هذه الدراسة المفصلة ما ورد في كتابي "المعجم فيما استعجم" و"المسالك الممالك" لأبي عبيد البكري لا سيما الأجزاء الخاصة بجزيرة العرب، وكذلك "نزهة المشتاق" للإدريسي.
وتحفل الكتب الجغرافية المبكرة بتفصيلات غزيرة عن البلاد العربية وإيران، ولقد كان كتاب ابن خرداذبة المعنون "المسالك والممالك" من أوائل
__________
1 الإدريسي -وصف الهند وما يجاورها، ص8.
2 راجع كتاب: د. شاكر خصباك -ابن بطوطة ورحلته، ص238-245.(1/87)
الكتب الجغرافية التي عينت بصورة شاملة أبرز المدن في هذه البلدان والمسافات فيما بينها، وأهم إنتاجها الزراعي مع بعض المعلومات العامة، ثم تلته الدراسات الجغرافية الإقليمية التي تناولت البلاد العربية الآسيوية، وإيران تناولًا شاملًا، فتحدثت عن موقعها الجغرافي ومناخها، وطوبوغرافيتها وأنهارها ومدنها، والمسافات فيما بينها وإنتاجها الزراعي وصناعاتها، ولم تترك شاردة ولا واردة إلا عنيت بتسجيلها، وكانت تلك الكتب المبكرة، وهي بالذات كتاب "المسالك والممالك" للإصطخري، و"صورة الأرض" لابن حوقل، و"أحسن التقاسيم" للمقدسي، و"كتاب البلدان" لليعقوبي توزع اهتماماتها على البلاد العربية، وإيران بصورة متفاوتة حسب انتماءات مؤلفيها، وحسب الاعتبارات الخاصة التي شجعتهم على الكتابة، فاهتم الإصطخري ببلاد فارس، وعني ابن حوقل بديار العرب، وفصل المقدسي الكلام على بلاد الشام، وخصص اليعقوبي جزءًا كبيرًا من كتابه لدراسة مدن العراق، كذلك اشتملت الكتب الجغرافية العامة اللاحقة من أمثال كتب المسعودي، والبيروني والحموي والإدريسي، وأبي الفدا على تفصيلات جغرافية وبشرية متنوعة وغزيرة عن البلدان المذكورة، ويمكن القول: إن المادة الجغرافية الوصفية لبلدان العالم العربي الآسيوي وإيران، وكذلك الأقطار العربية الأفريقية والأندلس، هي أهم ما قدمته الجغرافية العربية للفكر الجغرافي العالمي.
قارة أفريقيا:
لقد تفوق الجغرافيون العرب والمسلمون على الجغرافيين الإغريق والرومان في معلوماتهم عن قارة إفريقيا عمومًا، إلا أنه لا بد من القول: إن الإغريق والرومان قد بزوهم في كتاباتهم الجغرافية عن مصر التي وقعت تحت سيطرتهم لقرون عديدة، ومن المعلوم أن معرفة الإغريق والرومان بالقارة الإفريقية، وبمصر والساحل الليبي بالذات، تعود إلى قرون عديدة قبل(1/88)
الميلاد، والحقيقة أن إسم القارة الإفريقية يدين بوجوده للجغرافيين الرومان فهم الذين أطلقوا عليها هذه التسمية، وبطبيعة الحال كانت مصر يومذاك أهم قطر أفريقي معروف إضافة إلى الساحل الليبي الذي كان معروفًا باسم "سيرين" Cyrene، ولقد حفلت كتابات الجغرافيين والمؤرخين المشهورين أمثال هيرودت، وهيكاتايوس وسترابو ويوليبس بالمعلومات القيمة عن مصر، ولا تزال تفصيلات سترابو عن منطقة الدلتا، وفروع نهر النيل العديدة ذات قيمة تأريخية كبيرة، وقد كتب هيرودوت كثيرًا عن الليبيين وعاداتهم، كما أورد هيكاتايوس Hecataius أيضًا الكثير من التفاصيل عن الساحل الليبي، وكان أهم ظاهرة أثارت اهتمام الكتاب الإغريق والرومان هو نهر النيل، ذلك أنه كان يجري من الجنوب نحو الشمال، كما أنه كان يفيض في فصل الصيف في الوقت الذي تنعدم فيه الأمطار ويسود الجفاف، وقد ذهب الكتاب الإغريق والرومان شتى المذاهب في تفسير ظاهرة فيضانه، واقترب بضعهم من الحقيقة في إرجاع السبب إلى سقوط الأمطار في أواسط القارة أثناء فصل الصيف، غير أنهم لم يستطيعوا تحديد منبع النهر، ما عدا الجغرافي المتأخر بطليموس "القرن الثاني الميلادي"، الذي أوضح أنه ينبع من بحيرة تقع جنوبي خط الاستواء، ومن جبال أطلق عليها اسم جبال القمر، وكانت معرفة الإغريق والرومان بالمناطق الواقعة جنوبي مصر محدودة، وكانوا يطلقون عليها عمومًا اسم "أثيوبيا"، واعتبروها بلاد السود الحقيقيين، كما أن معرفتهم بالجهات الداخلية من القارة كانت غامضة، وقد اعتبر بطليموس الجهات المعمورة من القارة تنتهي بالقرب من خطب الاستواء، وذكر أن ما وراءه بلاد غير مسكونة بسبب شدة الحرارة.
وكانت معرفة الجغرافيين الإغريق والرومان بالساحل الشرقي لأفريقيا تنتهي في الحدود الجنوبية للصومال، والتي أطلق على رأسها اسم "رأس براسيوم"، غير أن معرفتهم بالساحل الغربي كانت تنحدر إلى مستوى الخرافة، وقد ساد الاعتقاد بينهم أن من غير الممكن التطواف حول ذلك(1/89)
الساحل نظرًا؛ لأن قاع المحيط الأطلسي في تلك الجهات ضحل جدًا وكثير الطين والحشائش، هذا فضلًا عن أن درجة الحرارة مرتفعة للغاية مما قد يؤدي إلى إحراق السفن، وكان يروج لمثل هذه الأفكار جغرافيون كبار أمثال هيرودوت وبطليموس، وكذلك ساد الاعتقاد بأن الجزء الجنوبي من القارة الأفريقية يمتد في أرض يابسة، وأن البحر الأحمر يتصل بالمحيط الهندي مكونًا بحيرة مغلقة، وكان من أشد المتحمسين لهذا الرأي الجغرافي الكبير بطليموس، ولذلك لم يفكر أي مكتشف حتى نهاية العصور الوسطى في الطواف حول القارة الأفريقية، أو الوصول إلى الهند عن طريق المحيط الأطلسي، حتى نجح بارثمليو دياز Diaz ومن بعده فاسكو دي غاما De Gama في عام 1498م في تفنيد ذلك الرأي الخاطئ.
ومهما يكن الأمر فإن معرفة الجغرافيين العرب بالقارة الأفريقية عمومًا كانت تتفوق بدرجة ملحوظة على معرفة الإغريق والرومان، وإذا كان الرومان قد حكموا مصر وجزءًا من الساحل الليبي، وبالتالي اتسعت معلوماتهم الجغرافية في تلك المناطق الأفريقية، فإن النطاق المنحصر فيما بين الساحل الأطلسي والبحر الأحمر، والذي تحده جنوبًا الصحراء العربية الكبرى، ما لبث أن تحول إثر الفتح العربي إلى جزء لا يتجزأ من العالم العربي، واجتازالنفوذ العربي مضيق جبل طارق وضم إليه شبه جزيرة إيبيريا، بل جعلها مركزًا من أعظم مراكز الثقافة في العصور الوسطى، وكان نصيب الجغرافية من الثقافة العربية في أقطار الجناح الغربي من العالم العربي وافرًا للغاية، فبرز عشرات الجغرافيين والرحالة في الأندلس وأقطار الشمال الأفريقي، وحفلت مؤلفاتهم الجغرافية الوصفية بالمعلومات عن العالم الإسلامي بصورة عامة، وأقطار الشمال الأفريقي والأندلس بصورة خاصة، ويأتي الإدريسي والبكري وابن سعيد المغربي في مقدمة تلك الأسماء اللامعة، فضلًا عن الزهري، والغرناطي وابن جبير وابن بطوطة وابن خلدون(1/90)
وغيرهم، ومنذ وقت مبكر اهتم الجغرافيون العرب بمصر اهتمامًا خاصًا، فاشتملت الكتب الجغرافية الإقليمية على دراسات مفصلة عنها، كما ورد في "كتاب البلدان" لليعقوبي، و"صورة الأرض" لابن حوقل، و"أحسن التقاسيم" للمقدسي، واشتملت كتابات المسعودي على معلومات مفصلة عن مصر، كما كتب عبد اللطيف البغدادي دراسة خاصة عن مصر ذات معلومات اقتصادية، وبشرية غزيرة في كتابه "الإفادة والاعتبار"، كذلك حفلت كتب "الموسوعات" المتأخرة بمعلومات جغرافية مفصلة للغاية عن مصر، ولا سيما "مسالك الأبصار" لابن فضل الله العمري، و"صبح الأعشى" للقلقشندي، أما الأندلس وأقطار المغرب العربي فقد وردت عنها تفصيلات ممتازة في كتب الجغرافيين والرحالة المغاربة، بيد أن أعظمها دقة وتفصيلًا ما ورد في كتاب الإدريسي "نزهة المشتاق"، وفي كتاب البكري "مسالك الممالك"، وقد فاقت تلك التفصيلات ما ورد عنها من معلومات في كتب الأغريق والرومان الأوائل، ولم يخل أي كتاب
من الكتب الإقليمية المبكرة للإصطخري، وابن حوقل والمقدسي من تفصيلات طيبة، عن بلدان المغرب العربي، وقد وردت بعض المعلومات المتفرقة كذلك عن الصحراء الإفريقية الغربية، وعن بعض بلدان إفريقيا الغربية، وخصوصًا في مؤلفات البكري والإدريسي، وفي "رحلة ابن بطوطة" التي ضمت معلومات اقتصادية وبشرية عظيمة الأهمية عن أفريقيا الغربية، وقد خلت المؤلفات الغربية من أي معلومات عن تلك الجهات سوى ما كتبه ليون الأفريقي Leo the African في القرن الرابع، "وهو المؤلف المغربي الأصل حسن الوزان".
وظلت معلومات الجغرافيين العرب عن أفريقيا الغربية معتمدة لدى الجغرافيين الأوروبيين لغاية القرن التاسع عشر، وكانت معلومات الأدريسي على نحو الخصوص ذات أهمية خاصة عن جهات أفريقيا الداخلية، ولا سيما بلاد غينيا والنيجر والسنغال، فقد تحدث عن أنهارها وأهم مدنها وزراعاتها وعاداتها، كما تحدث عن جهات السودان الشرقي، وإقليم منابع(1/91)
النيل الذي شرحه بأفضل مما فعل بطليموس، وأكد على ازدواجية منبع النهر1. وقد تفوق الإدريسي على بطليموس الإسكندري في تصوره للجهات المأهولة من القارة الأفريقية، فقد حدد بطليموس تلك الجهات بما لا يتجاوز شمالي خط الاستواء، باعتبار أن المنطقة الاستوائية لا يمكن سكناها بسبب شدة الحر، في حين أن الإدريسي مدد الجهات المعمورة نحو جنوب خط الاستواء بإقليم وخمسين حيث ضمت منابع النيل ونهر النيجر2، وكذلك أورد أحد المؤلفين العرب معلومات هامة عن السودان الشرقي، لعلها كانت الأولى من نوعها، في الكتاب المسمى "العزيزي"، والذي ألفه المهلبي للخليفة الفاطمي العزي "375هـ/ 985م"، وقد اعتمد عليه ياقوت في جغرافيته عن السودان اعتمادًا رئيسيًا3.
من الواضح إذن أن الكتابات الجغرافية عن القارة الأفريقية كانت غزيرة، وإن لم تواز بالطبع ما ألف عن قارة آسيا باعتبارها قلب العالم الإسلامي، وقد شملت مناطق في غربي القارة، وأوساطها وفي الصحراء العربية الكبرى، وهي جهات لم يكن للإغريق والرومان عنها سوى معلومات غامضة، وإذا لم تكن معلومات الإغريق والرومان في الجهات الشرقية من إفريقية قد تجاوزت الأطراف الجنوبية من الساحل الصومالي، فقد توغلت معلومات الجغرافيين العرب جنوبًا لغاية خط عرض 20 درجة جنوبًا، فشملت ساحل موزمبيق الذي أطلقوا عليه اسم "سفالة الزنج"، وقد انتشرت مراكز استيطانهم في مدن متعددة من أمثال ممبسة وزنجبار وملندة وكلوا، بل وحتى جزيرة مدغشقر التي أطلقوا عليها اسم جزيرة "قمار" أو"قمر"، وإذا كان التصور السائد لدى الجغرافيين الإغريق، والرومان بأن القارة الأفريقية تنتهي بأرض يابسة، فقد آمن العديد من الجغرافيين العرب بأنها محاطة بالبحار، وكان على رأس من أيد هذا الرأي أبو الريحان البيروني، فقد قال بهذا الصدد: "وأكثر ما يبلغ سالكو البحر الأعظم من جانب المغرب سفالة الزنج ولا يتجاوزونها، وسببه أن هذا
__________
1 Kimble, George H. T., Geography In the Middle Ages, London 1938, p. 59.
2 حسين مؤنس، ص209.
3 كراتشكوفسكي، ص230.(1/92)
البحر طاعن في البر الشمالي في ناحية المشرق ودخوله في مواضع كثيرة، وكثرت الجزائر في تلك المواضع، وعلى مثله بالتكافي طعن البر في البحر الجنوبي في ناحية المغرب وسكنه سودان المغرب، وتجاوزوا فيه خط الاستواء إلى جبال القمر التي منها منابع النيل، فحصل البحر هناك فيما بين جبال وشعاب ذوات مهابط ومصاعد يتردد منها الماء بالمد والجزر الدائمين، ويتلاطم فيحطم السفن، ويمنع السلاك، مع ذلك فليس يمنعه عين الاتصال بحر أوقيانوس من تلك المضايق ومن جهة الجنوب وراء تلك الجبال، وقد وجدت علامات اتصالهما، وإن لم يشاهد، وبذلك صار بر المعمورة وسط ما أحاط به اتصال"1.
تلك هي مجمل معلومات الجغرافيين العرب والمسلمين عن القارات القديمة الثلاث، ومنها يتبين أنها تتفوق بصورة عامة على معلومات من سبقهم من الجغرافيين الأغريق والرومان، كما يتبين أن "الربع المعمور"، كان لديهم أوسع من ذلك الذي حدده الإغريق والرومان.
__________
1 بلاشير ودرمون -منتخبات من آثار الجغرافيين في القرون الوسطى "الطبعة الثانية"، ص241-242.(1/93)
ثالثا: المصنفات الكوزموغرافية
مدخل
...
ثالثًا: المصنفات الكوموغرافية
يشتمل مصطلح "الكوزموغرافيا" Cosmograhpy -وهو مصطلح قديم- "الجغرافيا" بوسع معانيها، بل إنه يعني في الواقع الكتابة عن "الكون" من وجهة نظر جغرافية، وقد ساد استخدام هذا المصطلح في أوروبا في العصور الوسطى، وأوائل العصور الحديثة كبديل لمصطلح "الجغرافيا"، لا سيما في الكتب الجغرافية التي تهتم بوصف مظاهر الكون الطبيعية، و"عجائبه" أكثر من اهتمامها بوصف البلدان، وهذا ما نقصده بالضبط من استخدامنا لهذا المصطلح في هذا البحث، أي أننا نقصد المصنفات الجغرافية التي اهتمت بالجوانب الطبيعية للأرض ذات الصفة الكونية أكثر من اهتمامها بوصف البلدان، وبذلك فلا يحق أن نعتبر الكتب الإقليمية جزءًا من المصنفات الكوزموغرافية، غير أننا من الممكن أن نعتبر بعض الكتب الكوزموغرافية،(1/93)
جزءًا من المصنفات البلدانية بما حوته من وصف جغرافي للبلدان، كما أن الكثير من كتب الجغرافيا العامة يمكن أن تدرج ضمن المصنفات الكوزموغرافية، فمن الواضح إذن بأن استخدامنا لهذا المصطلح يختلف عن إستخدام كراتشكوفسكي له حيث اعتبر المصنفات الكوزموغرافية العربية هي تلك التي تهتم بذكر العجائب، والغرائب من أمثال كتب الغرناطي، والقزويني وابن الوردي، على أننا لا بد أن نؤكد بأن المصنفات الكوزموغرافية العربية لم تكن تخلو بجميع أنماطها من ذكر عجائب الأرض.
والواقع أن الجغرافيا العربية اتجهت اتجاهًا كوزموغرافيًا منذ البداية، وبعبارة أوضح منذ استقلالها عن المصنفات الفلكية، ولعل من أفضل الأمثلة على ذلك المصنفات الجغرافية المبكرة أمثال "الأعلاق النفسية" لابن رستة و"مختصر كتاب البلدان" لابن الفقيه الهمذاني، ولقد استمر الاتجاه الجغرافي الكوزموغرافي طيلة عهد ازدهار الجغرافية العربية، بل وأصبح هو السائد في آخر عهدها في القرنين السابع والثامن الهجريين "الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين"، ومن الممكن القول: إن المعلومات الكوزموغرافية كانت تشكل أيضًا جزءًا هامًا من كتب لم تكن مؤلفات جغرافية أصلًا، ومن أهم الكتابات الكوزموغرافية العربية كتابات المسعودي، ولا سيما الجزء الأول من موسوعته "مروج الذهب" و"أخبار الزمن" و"التنبيه والإشراف"، وكتابات الدمشقي [شيخ الربوة] ، منها مؤلفه "نخبة الدهر في عجائب البر والبحر"، وبعض كتابات البيروني والمعلومات الكوزموغرافية في "رسائل إخوان الصفا"، والمعلومات الكوزموغرافية في "مقدمة ابن خلدون"، وكتابات ابن رسته وابن الفقيه والقزويني، والغرناطي وغيرهم، وسنتناول في بحثنا هذا استعراض أبرز معيطات المصنفات الكوزموغرافية في الحقول الطبيعية "علمًا بأن معطياتها عن البلدان ثانوية تمامًا"، وقد تقاسمتها ثلاثة حقول هي الحقل المناخي، والحقل الهيدروغرافي والحقل الجيورموفولجي.(1/94)
1- الحقل المناخي:
تعتمد الكتابات المناخية في الجغرافية العربية إعتمادًا كبيرًا على آراء المدرسة اليونانية، وقد آمن الجغرافيون العرب والمسلمون بالمبادئ الرئيسية التي أرساها الإغريق والرومان في علم المناخ، فقد اعتبروا الشمس المصدر الأساسي للحرارة على الأرض، كما اعتقدوا بأن أسباب اختلاف درجة الحرارة في جهات الأرض المختلفة، هو ميل الشمس على خط الاستواء، أو بعبارة أوضح اختلاف زوايا سقوط أشعة الشمس على الأرض، وقد أخذوا بالتقسيم اليوناني للمناطق الحرارية على الأرض، وهي المنطقة الحارة التي تقع بين المدارين، والمنطقتان المتجمدتان الشمالية والجنوبية اللتان تقعان بجوار القطبين، والمنطقتان المعتدلتان اللتان تقعان بين المنطقة الحارة والمنطقتين المتجمدتين، كذلك أخذوا بالتقسيم اليوناني لخطوط العرض المحددة لدرجة الحرارة، فاعتبروها 180 خطًا، 90خطًا منها يقع إلى شمال خط الاستواء و90 خطًا إلى جنوبه، واعتبروا أيضًا القطبين يقعان في درجتي 90 شمالًا وجنوبًا، ومدار السرطان في درجتي 23.5 شمالًا، ومدار الجدي في درجة 23.5 جنوبًا.
وتقتضي دراسة الكتابات المناخية في مصنفات الجغرافية العربية وقفة خاصة عند المسعودي، وإخوان الصفا وابن خلدون نظرًا لمساهمتهم الهامة في هذا الميدان.
لقد بحث المسعودي في كتابه "التنبيه والإشراف"، جوانب متعددة في حقل الجغرافية المناخية، وثبت حقائق أساسية في هذا الموضوع، ومما لا ريب فيه أن آراءه كانت متأثرة بآراء الكتاب اليونانيين، ولا سيما بآراء أرسطو وبطليموس، ويعتبر المسعودي أول جغرافي عربي ناقش العوامل المؤثرة في مناخ الإقليم، كما نناقش في كتب الجغرافية الحديثة، قال المسعودي1: "وقد تختلف قوى الأرضين وفعلها في الأبدان لثلاثة أسباب، كمية الهواء
__________
1 المسعودي -التنبيه والإشراف، ص26.(1/95)
التي فيها، وكمية الأشجار، وكذلك مقدار ارتفاعها وانخفاضها، فالأرض التي فيها مياه كثيرة ترطب الأبدان، والأرض العادمة للمياه تجففها، وأما اختلاف كونها من قبل الأشجار، فإن الأرض كثيرة الأشجار تقوم الأشجار التي فيها مقام السترة، والأرض المكشوفة من الأشجار العادمة لها حالها عكس حال الأرض كثيرة الأشجار، وأما اختلاف قواها من قبل مقدار علوها وانخفاضها؛ فلأن الأرض العالية المشرقة فسيحة باردة، والأرض الفسيحة المنخفضة العميقة حارة ومرة.
ومنهم من رأى أن أصناف اختلاف البلدان أربعة: أولها النواحي والثاني الارتفاع والانخفاض، والثالث مجاورة الجبال والبحار، والرابع طبيعة تربة الأرض، وذلك أن ارتفاعها يجعلها أبرد وانخفاضها يجعلها أسخن على ما قدمنا، وأما اختلافها من جهة مجاورة الجبال، فمتى كان الجبال من البلد من ناحية الجنوب جعله أبرد؛ لأنه يكون سبب امتناع الريح الجنوبية، وإنما تهب فيه الشمالية فقط، وأما اختلافها لمجاورة البحر لها فمتى كان البحر من البر في ناحية الجنوب، كان ذلك البلد أبرد وأيبس، وأما اختلافها بحسب طبيعة تربتها فمتى كانت تربة الأرض صخرية جعلت ذلك البلد أبرد وأجف، وإن كانت تربة البلد جصية جعلته أسخن وأجف، وإن كانت طينية جعلته أبرد وأرطب".
أما توزيعاته للرياح السائدة فهي مقاربة للتوزيع العام الحديث لتلك الرياح بين تجارية شرقية وعكسية غربية، وشمالية أو جنوبية قطبية، كما أن تحديده لصفاتها مقارب للتحديد الحديث أيضًا من رطوبة أو جفاف، أو برودة أو دفء، وقد شرحها في كتابه "التنبيه والإشراف" على النحو التالي1"تنازع الناس في الرياح الأربع ومهابها وطباعها، فقال فريق منهم الرياح أربع، شمال وجنوب وصبا ودبور، الصبا من الشرق والدبور من المغرب والشمال من تحت جدي الفرقدين والدبور من تحت جدي سهيل، فالشمال
__________
1 المصدر السابق، ص16.(1/96)
باردة يابسة، وهي ما هب من ناحية الجربي وهو الشمال، وأشكالها من البروج والكواكب والأمهات وما يشاكل ذلك، ويضاف إلى البرد واليبس، والجنوب حارة رطبة وهي التي تهب من القبلة، وأشكالها كما وصفت مما يضاف إلى الحرارة والرطوبة، والدبور باردة رطبة، وهي التي تهب من المغرب وكذلك أشكالها، والصبا حارة يابسة وهي التي تهب من المشرق، وأشكالها لما هو مضاف إلى الحرارة واليبوسة، والرياح محدودة بحسب الآفاق، تكون الآفاق اثني عشر أفقًا والرياح كذلك، فالشمال بالحقيقة هي التي تأتي من القطب الظاهر والجنوب من القطب الخفي، والصبا من مشرق الاعتدال والدبور من مغرب الاعتدال".
وقد ناقش المسعودي أيضًا أثر انتقال الشمس الظاهري بين مداري السرطان والجدي على توزيع الرياح، واختلافها باختلاف الفصول الأربعة، وسجل آراء قريبة من الآراء الحديثة1.
أما آراؤه حول المناطق غير المسكونة من المعمرة، فقد ردد فيها ما ذكره من سبقه من الكتاب، فقد أوضح أن تلك المناطق تقسم إلى قسمين: "إما أن يفرط فيها البرد لبعد الشمس عنها، أو يفرط فيها الحر لقربها منها، فلا يتركب هناك حيوان ولا ينبت نبات، فالموضع الذي يكون بعده في الشمال عن خط معدل النهار ستًا وستين درجة لا يمكن أن يكون فيه نشوء لافراط البرد فيه لبعد الشمس عنه، والموضع الذي بعده في الجنوب عن خط معدل النهار تسع عشرة درجة لا يمكن أيضًا أن يكون فيه نشوء لإفراط الحر عليه لقرب الشمس منه"2.
وعالج المسعودي أيضًا أثر المناخ في الصفات البيولوجية والخلقية للإنسان، ومما قال في ذلك3: "وأما أهل الربع الشمالي وهم الذين بعدت الشمس عن سمتهم من الواغلين في الشمال كالصقالبة، والإفرنجة ومن جاورهم من الأمم، فإن سلطان الشمس ضعف عندهم لبعدهم عنها
__________
1 المصدر السابق، ص11.
2 المصدر السابق، ص23.
3 المصدر السابق، ص23-24.(1/97)
فغلب على نواحيهم البرد والرطوبة، وتواترت الثلوج عندهم والجليد فقل مزاج الحرارة فيهم، فعظمت أجسامهم وجفت طبائعهم، وتوعرت أخلاقهم وتبلدت أفهامهم، وثقلت ألسنتهم وابيضت ألوانهم، وسبطت شعورهم، وصارت مهبًّا لغلبة البخار الرطب، ولم يكن في مذاهبهم متانة، وذلك لطباع البرد وعدم الحرارة، ومن كان منهم أوغل في الشمال، فالغالب عليه الغباوة والجفاء والبهائمية، وتزايد ذلك فيهم في الأبعد والأبعد إلى الشمال، وكذلك من كان من الترك واغلًا في الشمال، فلبعدهم من مدار الشمس في حال طلوعها، وغروبها كثرت الثلوج فيهم، وغلبت البرودة والرطوبة على مساكنهم، فاسترخت أجسامهم وغلظت ولانت فقارات ظهروهم، وخرز أعناقهم حتى تأتي لهم الرمي بالنشاب في كرهم وفرهم وغارت مفاصلهم لكثرة لحومه، فاستدارت وجوههم وصفرت أعينهم لاجتماع الحرارة في الوجه حين تمكنت البرودة من أجسادهم، إذ كان المزاج البارد يولد دمًا كثيرًا، واحمرت ألوانهم إذ كان من شأن البرودة جمع الحرارة وإظهارها، وأما من كان خارجًا عن هذا العرض إلى نيف وستين ميلًا يأجوج ومأجوج، وهم في الأقليم السادس فإنهم في عداد البهائم، وأما أهل الربع الجنوبي كالزنج وسائر الأحباش، والذين كانوا تحت خط الاستواء وتحت مسامتة الشمس، فإنهم خلاف تلك الحال من التهاب الحرارة وقلة الرطوبة، فاسودت ألوانهم واحمرت أعينهم وتوحشت نفوسهم، وذلك لالتهاب هوائهم، وإفراط الأرحام في نضجهم حتى احترقت ألوانهم، وتفلفلت شعورهم لغلبة البخار الحار اليابس، وكذلك الشعور السبطة إذا اقتربت من حرارة النار دخلها الانقباض، ثم الانضمام ثم الانعقاد على قدر قربها من الحرارة وبعدها عنها".
وناقش إخوان الصفا في رسالتهم الثانية من "الجسمانيات الطبيعيات"، جوانب عديدة من الجغرافية المناخية، فقد ذكروا مثلًا بأن الأمطار ما هي إلا بخار إناء المتصاعد من البحار بسبب الحرارة، وبينوا كيف يحدث الندى والصقيع والطل. وقد وضحوا أهمية الجبال كعامل مناخي حيث ذكروا بأن(1/98)
السحب التي تسوقها الرياح تصطدم بقمم الجبال، فتتكاثف وتتساقط مطرًا. وهكذا اقتربوا اقترابًا كبيرًا من التفسيرات الحديثة للظواهر المناخية، ومن أمثلة آرائهم في هذا الموضوع قولهم1: "اعلم يا أخي أنه إذا ارتفعت البخارات في الهواء، وتدافع الهواء إلى الجهات، ويكون تدافعه إلى جهة أكثر من جهة، ويكون من قدام له جبال شامخة مانعة ومن فوق له برد الزمهرير مانع، ومن أسفل مادة البخارين متصلة، فلا يزال البخاران يكثران ويغلظان في الهواء، وتتداخل أجزاء البخارين بعضها في بعض حتى يسخن، ويكون منها سحاب مؤلف متراكم، وكلما ارتفع السحاب بردت أجزاء البخارين، وانضمت أجزاء البخار الرطب بعضها إلى بعض، وصار ما كان دخانًا يابسًا ماء وأنداء، ثم تلتئم تلك الأجزاء المائية بعضها إلى بعض وتصير قطرًا بردًا وتثقل، فتهوى راجعة من العلو إلى السفل فتسمى حينئذ مطرًا، فإن كان صعود ذلك البخار الرطب بالليل، والهواء شديد البرد منع أن تصعد البخارات في الهواء بل جمدها أول بأول وقربها من وجهه الأرض، فيصير من ذلك ندى وصقيع وطل، وإن ارتفعت تلك البخارات في الهواء قليلًا، وعرض لها البرد صارت سحابًا رقيقًا. وإن كان البرد مفرطًا جمد القطر الصغار في حلل الغيم، فكان من ذلك الجليد أو الثلج".
ولا يخلو رأيهم بطبقات الهواء من شبه بالرأي الحديث في الطبقات الجوية، فقد ذكروا أن طبقات الهواء ثلاث، أعلاها سموم في غاية الحرارة وتسمى الأثير، والتي في الوسط باردة في غاية البرودة وتسمى الزمهرير، والتي تلي سطح الأرض معتدلة وهي مختلفة في اعتدال حرارتها وتسمى النسيم، وقد أكدوا على إمكانية تداخل هذه الطبقات الهوائية بالرغم من تميز كل منها2، ومن الجدير بالذكر أن علماء الجو المعاصرين لا يبعدون كثيرًا في تقسيماتهم لطبقات الهواء عن هذا التقسيم.
وقد أورد "إخوان الصفا" حقائق مناخية هامة أخرى بالإضافة إلى
__________
1 إخوان الصفا، "الجزء الثاني"، ص64-65.
2 المصدر السابق، ص57.(1/99)
الحقائق التي ذكرناها، فقد ذكروا مثلًا أن الهواء المحيط بالأرض لا يتلقى حرارته من الشمس مباشرة، بل يتلقاها من الأشعة التي تنعكس عليه من سطح الأرض والمياه، كذلك وضحوا توضيحًا علميًا أسباب انخفاض درجة الحرارة في القطبين الشمالي والجنوبي، وتجمد المياه وهلاك الحيوان والنبات، حيث عزوها إلى ميل أشعة الشمس بدرجة عظيمة، وبالتالي انخفاض حرارتها، وأشاروا أيضًا إلى استمرار النهار لستة أشهر أثناء الصيف، واستمرار الليل لستة أشهر أثناء الشتاء1.
ومن الملاحظات المناخية الهامة الأخرى التي أثارها "إخوان الصفا" في رسالتهم الثانية من "الجسمانيات الطبيعيات"، أثر ميل أشعة الشمس عند سقوطها على الأرض في اختلاف درجة الحرارة، وقد فسروا هذا الاختلاف في الحرارة تفسيرًا دقيقًا، إذ قالوا: "واعلم يا أخي بأن الزوايا التي تحدث من انعكاس إشعاعات الكواكب والشمس من وجه الأرض ثلاثة أنواع: حادة وقائمة ومتفرجة. وهذه الزوايا كلها مسخنة للمياه والأرض والهواء محركة لها، ولكن أشدها إسخانًأ الزوايا الحادة2، ثم القائمة في المنفرجة، ولما كانت الزوايا المنفرجة بعضها أشد انفراجًا من بعض والحادة بعضها أحد من بعض، والزوايا القائمة كلها متساوية احتجنا أن نبين متى تكون الزوايا منفرجة، ومتى تكون قائمة ومتى تكون حادة.. إلخ"3.
ومن بين الكتاب العرب الذين أولوا المناخ عناية خاصة في دراساتهم أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون، فقد ناقش في "مقدمته" صفات الأقاليم السبعة، واستند في آرائه إلى فلاسفة اليونان القدماء، كما استند أيضًا في تقسيماته الإقليمية إلى كتاب الشريف الإدريسي "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"، وأهم ما ورد في بحثه المناخي شرحه الدقيق لتنقلات الشمس الظاهرية، بين مداري السرطان والجدي، وما ينجم عن ذلك من ميل لأشعة
__________
1 المصدر السابق، ص57.
2 لاحظ الخطا بالنسبة للزوايا الحادة حيث أن الزوايا القائمة أشد تسخينًا.
3 المصدر السابق، ص58.(1/100)
الشمس عند سقوطها على الأرض، واختلاف حرارتها من موضع إلى آخر. وقد فسر هذه الظاهرة على النحو التالي1: "ثم إن الشمس عند المسامتة تبعث الأشعة قائمة، وفيما دون المسامتة على زوايا منفرجة وحادة، وإذا كانت زوايا الأشعة قائمة عظم الضوء، وانتشر بخلافه في المنفرجة والجادة، فلهذا يكون الحر عند المسامته، وما يقرب منها أكثر منه فيما بعد؛ لأن الضوء سبب الحر والتسخين.
ثم إن المسامتة في خط الاستواء تكون مرتين في السنة عند نقطتي الحمل والميزان، وإذا مالت فغير بعيد، ولا يكاد الحر يعتدل في آخر ميلها عند رأس السرطان والجدي، إلا أن صعدت إلى المسامته فتبقى الأشعة القائمة الزوايا تلح على ذلك الأفق، ويطول مكثها، أو يدوم فيشتعل الهواء حرارة ويفرط في شدتها، وكذا ما دامت الشمس تسامت مرتين فيما بعد خط الاستواء إلى عرض أربع وعشرين، فإن الأشعة ملحة على الأفق في ذلك بقريب من إلحاحها في خط الاستواء، وإفراط الحر يفل في الهواء تجفيفًا، ويبسًا يمنع من التكوين؛ لأنه إذا أفرط الحر جفت المياه والرطوبات، وفسد التكوين في المعدن والحيوان والنبات، إذا التكوين لا يكون إلا بالرطوبة، ثم إذا مال رأس السرطان عن سمت الرءوس في عرض خمس وعشرين، وما بعده نزلت الشمس عن المسامتة، فيصير الحر إلى الاعتدال أو يميل عنه ميلًا قليلًا، فيكون التكوين ويتزايد على التدريج على أن يفرط البرد في شدته لقلة الضوء، وكون الأشعة منفرجة الزوايا، فينقص التكوين ويفسد".
وقد أيد ابن خلدون الفكرة القديمة في استحالة استيطان المنطقة الاستوائية لارتفاع درجة حرارتها، بل إنه هاجم رأي الفيلسوف ابن رشد القائل بأن خط الاستواء معتدل، وإن ما وراءه في الجنوب بمثابة ما ورائه في الشمال، فيعمر منه ما عمر من هذا2، وقد زعم ابن خلدون أن استحالة عمران إقليم خط الاستواء لا ترجع إلى فساد التكوين فيه بسبب شدة الحر فحسب، بل إلى كون المياه غامرة لجميع اليابسة في جنوبي خط الاستواء
__________
1 ابن خلدون، ص50-51.
2 المصدر السابق، ص51-52.(1/101)
أيضًا، وهكذا يتضح بأن ابن رشد كان أعظم معاصريه توفيقًا في هذا الرأي، ولعله كان أول كاتب إسلامي يرفض رأي بطليموس، والذي نادى بأن ما وراء خط الاستواء يباب قفر تحرفه الشمس اللاهبة.
واهتم ابن خلدون أيضًا اهتمامًا خاصًا في أثر المناخ في البناء الطبيعي والخلقي للبشر، ومما ذكره في أثر المناخ على الصفات الطبيعية للإنسان قوله1: "وفي القول بنسبة السواد إلى حام غفلة عن طبيعة الحر والبرد وأثرهما في الهواء ... فأهل الإقليم الأول والثاني شملهم هذا اللون من مزاج هوائهم للحرارة المتضاعفة بالجنوب، فإن الشمس تسامت رءوسهم مرتين في كل سنة، قريبة أحداهما من الأخرى، فتطول المسامتة عامة الفصول فيكثر الضوء لأجلها، ويلح القيظ الشديد عليهم وتسود جلودهم لإفراط الحر، ونظير هذين الإقليمين فيما يقابلهما من الشمال الإقليم السابع والسادس، شمل سكانهما أيضًا البياض من مزاج هوائهم للبرد المفرط في الشمال، إذ الشمس لا تزال بأفقهم في دائرة مرأى العين، أو ما يقرب منهما، ولا يرتفع إلى المسامتة، ولا ما قرب منها فيضعف الحر فيها ويشتد البرد عامة الفصول، فتبيض ألوان أهلها وتنتهي إلى الزعورة، ويتبع ذلك ما يقتضيه مزاج البرد المفرط من زرقة العيون، وبرش الجلود وصهوبة الشعر".
كما شرح ابن خلدون أثر المناخ في طبيعة البشر على النحو التالي2: "والمعروف من خلق السودان على العموم الخفة والطيش وكثرة الطرب، فتجدهم مولعين بالرقص على كل توقيع متصفين بالحمق في كل قطر.. ولما كان السودان ساكنين في الإقليم الحار، واستولى الحر على أمزجتهم، وأصل تكوينهم كان في أرواحهم من الحرارة على نسبة أبدانهم وأقاليمهم، فتكون أرواحهم أشد حرًا فتكون أكثر تفشيًا، فتكون أسرع فرحًا وسرورًا، وأكثر انبساطًا، ويجيء الطيش على أثر هذا، وكذلك يلحق بهم قليلًا أهل البلاد البحرية، توابع الحرارة في الفرح والخفة موجودة أكثر من بلاد التلول، والجبال الباردة".
ومن الجدير بالذكر أن كاتبًا كوزموغرافيًا يمت إلى عصر متقدم "أوائل القرن الرابع الهجري"، هو ابن رسته كان قد سبق ابن خلدون، والمسعودي في إيضاح أثر المناخ على سكان الأقاليم3.
__________
1 المصدر السابق، ص60.
2 المصدر السابق، ص61.
3 راجع ابن رستة، ص101-102.(1/102)
2- الحقل الهيدروغرافي:
لقد اهتم الكتاب العرب والمسلمون بدراسة الأنهار والبحار، وناقشوا جوانبهما المختلفة، لكنهم ركزوا على دراسة البحار وعنوا على نحو الخصوص بتوزيعها وامتداداتها، وتدين الجغرافية الوسيطة للجغرافيين المسلمين في تراثها بمعلومات واسعة عن البحار والمحيطات في العالم القديم، وقد فاقت تلك المعلومات ما ورد في كتب الجغرافية اليونانية والرومانية في هذا الموضوع، والواقع أن معلومات الجغرافيين القدماء كانت على درجة عالية من الكفاءة، فيما يختص بالمحيط الهندي والبحر المتوسط، والبحار المجاورة له "بحر الأدرياتيك وأرخبيل اليونان"، ومن الممكن أن نفهم سبب اتساع معلومات الكتاب المسلمين عن المحيطات والبحار، فهذا الأمر يعزى إلى اتساع رقعة الممالك الإسلامية، وإلى امتداد النشاط التجاري، وشموله أقصى أقطار الشرق الأقصى، وإن شهرة الملاحين العرب في القرون الوسيطة لا تدانيها شهرة، ويبرز اسم المسعودي أيضًا كأكثر الكوزموغرافيين العرب والمسلمين اهتمامًا بدراسة توزيع البحار والمحيطات، ومدى صلاحيتها للملاحة، ففي كتابه "أخبار الزمان" يفصل الكلام على البحر المحيط، وما يشتمل عليه من أسماك وحيوان ونبات وجزر، وبالرغم من أن تفصيلاته عن هذا البحر حافلة بالخرافات، لكنها تشتمل أيضًا على معلومات قيمة، فهو يذكر أن عمق هذا البحر يختلف، فمنه لا يلحق قعره ولا يدري، ومنه ما يكون سبعة آلاف باع وأكثر وأقل، ومنه ما يكون فيه شجر كالمرجان، ويذكر أيضًا أن البحر الأسود الزفتي، وهو شديد النتن كما يخرج منه
أيضًا بحر الصين الذي يقع أوله من بلاد المغرب، ويمتد في بحر فارس إلى بلاد(1/103)
الصين، وهو بحر ضيق فيه مغايص اللؤلؤ، ويقال: إن فيه اثني عشر ألف جزيرة1، ولعل أهم ما ورد في هذا البحث هي المعلومات المتعلقة بجزر البحر المحيط، فلم يرد لها مثيل في سعتها وشمولوها في أي كتاب من كتب الجغرافيين المسلمين، فقد فصل فيها الكلام عن الجزر المتناثرة في خلجان وبحار هذا المحيط، وعن زراعاتها ونباتاتها وحيواناتها، ومن الممكن التعرف في الوقت الحاضر على الكثير من تلك الجزر2، وبالرغم من أن تفصيلاته كانت تشتمل أيضًا على أساطير وخرافات لكنها كانت في بابها قيمة جدًا، وكذلك تحدث عن الرياح الموسمية في المحيط الهندي، ومواعيد هبوبها وأثرها في الملاحة عبر المحيط.
ولقد شرح المسعودي أيضًا في الجزء الأول من موسوعته الضخمة "مروج الذهب"، توزيع البحار وظواهرها الهايدروغرافية المختلفة شرحًا مفصلًا3، وقد ذكر أنه استوفى الكتابة في موضوع البحار في كتابه الآخر "أخبار الزمان" حيث أورد ما أورده العارفون "من البراهين في مساحة البحار، ومقاديرها والمنفعة في ملوحة مائها، واتصال بعضها ببعض وانفصالها وعدم بيان الزيادة فيها والنقصان ولأية علة كان الجزر والمد في البحر الحبشي أظهر من دون سائر البحار"4، ولكن النسخ المطبوعة لهذا الكتاب لم تتضمن مع الأسف مثل تلك الإشارات، وقد أكد المسعودي على حقيقة هامة تتعلق بمدى اتساع البحار المعروفة يومذاك إذ قال: "ووجدت نواخذة بحر الصين والهند والسند والزنج5 واليمن والقلزم6، والحبشة من السيرافيين والعمانيين يخبرون عن البحر الحبشي في أغلب الأمور على خلاف ما ذكرته الفلاسفة، وغيرهم ممن حكينا عنهم والمقادير والمساحة، وأن ذلك لا غاية له، وفي مواضع منه شاهدت أرباب المراكب في البحر الرومي7 من البحرية، والعمالة
__________
1 المسعودي -أخبار الزمان- منشورات دار الأندلس "الطبعة الثانية"، بيروت 1966، ص42.
2 المصدر السابق، ص50-71.
3 المسعودي -مروج الذهب ومعادن الجوهر- منشورات المكتبة العصرية لصاحبها محمود حلمي، بغداد 1928، الجزء الأول، ص106-107.
4 المصدر السابق، ص106-107.
5 المراد بـ "الزنج" سكان زنجبار وساحل افريقيا الشرقي.
6 المقصود به البحر الأحمر.
7 المقصود به مجموع البحر المتوسط.(1/104)
يعظمون طول البحر الرومي وعرضه، وكثرة خلجانه وتشعبه"1.
ولعل من أفضل الكتابات الجغرافية العربية، وأدقها عن توزيع البحار والمحيطات القديمة هي تلك التي وردت في كتاب أبي الريحان البيروني عن الهند، فضلًا عن تميزها بالرصانة والدقة، فإنها تبنت حقائق هامة كانت مثار الجدل، لا سيما ما يتعلق بإحاطة الأرض بالمياه من جهتها الشمالية، قال البيروني2: "تصور المعمارة أنها في نصف الأرض الشمالي، ومن هذا النصف في نصف، فالمعمورة إذن في ربع من أرباع الأرض، ويطيف به بحر من جهة المغرب والمشرق محيطًا، ويسمي اليونانيون ما يلي المغرب منه، وهو ناحيتهم أوقيانوس3، وهو قاطع ما بين هذه المعمورة وبين ما يمكن أن يكون وراء هذا البحر في الجهتين من بر، أو عمارة في جزيرة، إذ ليس بمسلوك من ظلام الهواء ومن غلظ الماء، ومن اضطراب الطرق وعظم الغرر مع عدم الفائدة، ولذلك عمل الأوائل فيه وفي سواحله علامات تمنع من سلوكه، وأما من جهة الشمال فالعمارة تنقطع بالبرد دونه، إلا في مواضع يدخل إليها من ألسنة وأغباب، وأما من جهة الجنوب، فإن العمارة تنتهي إلى ساحل البحر المتصل بالمحيط في الجانبين، وهو مسلوك والعمارة غير منقطعة عنده، وإنما هو مملوء بالجزائر الصغار والعظام، وهذا البحر مع البر يتنازعان الوضع حتى يلج أحدهما في الآخر، أما البر فإنه يدخل البحر في النصف المغربي، ويبعد ساحله في الجنوب فيكون في تلك البراري سودان المغرب التي يجلب الخدم من عندهم، وجبال القمر التي منها منابع نهر النيل وعلى الساحل والجزائر أجناس الزنج، ويدخل في هذا النصف المغربي من البحر خلجان في البر كخليج بربرًا، وخليج قلزم وخليج فارس، ويدخل أرض المغرب فيه فيما بين هذه الخلجان دخولًا ما، وأما في النصف المشرقي، فإنه يدخل في بر الشمال دخول ذلك البر في الجنوب، وربما أمعن
__________
1 المصدر السابق، ص107.
2 البيروني -في تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة، منشورات مجلس دائرة المعارف العثمانية بالهند، 1958، ص156.
3 المقصود به ما كان يسمى بـ "البحر المحيط" الذي يطوق جميع الأرض اليابسة.(1/105)
بأغباب منه وأخوار إليه، وهذا البحر يسمى في أغلب الأحوال باسم ما فيه، أو ما يجاذبه".
وفي مؤلف آخر شرح البيروني توزيع بحار الأرض ومحيطاتها شرحًا دقيقًا، ومما قال في ذلك1: "أما البحر الذي في مغرب المعمورة وعلى ساحل طنجة والأندلس، فإنه سمي البحر المحيط وسماه اليونانيون أوقيانوس2، ولا يلج فيه وإنما يسلك بالقرب من ساحله، وهو يمتد من عند هذه البلاد نحو الشمال على محاذاة أرض الصقالبة، ويخرج منه خليج عظيم في شمال الصقالبة، ويمتد إلى قرب بلغار بلاد المسلمين ويعرفونه ببحر ورنك3، وهم أمة على ساحله، ثم ينحرف وراءهم نحو المشرق، وبين ساحله وبين أرض الترك أرضون وجبال مجهولة خربة غير مسلوكة، وأما امتداد البحر المحيط الغربي من أرض طنجة نحو الجنوب، فإنه ينحرف عن جنوب أرض سودان المغرب وراء الجبال المعروفة بجبال القمر التي تنتج منها عيون نيل مصر، وفي سلوكه غرر لا تنجو منه سفينة.. وأما البحر المحيط من جهة الشرق وراء أقاصي أرض الصين، فإنه أيضًا غير مسلوك
ويتشعب منه خليج يكون منه البحر الذي يسمى في كل موضع من الأرض التي تحاذيه، فيكون ذلك أول بحر الصين، ثم الهند. وخرج منه خلجان عظام يسمى كل واحدة منها بحرًا على حدة، كبحر فارس والبصرة الذي على شرقيه تيز ومكران، وعلى غربية في حياله فرضة عمان، فإذا ما جاوزها بلغ بلاد الشحر التي يجلب منها الكندر ومر إلى عدن، وانشعب من هناك خليجان عظيمان أحدهما المعروف بالقلزم، وهو ينعطف فيحيط بأرض العرب حتى تصير به كجزيرة؛ ولأن الحبشة عليه بحذاء اليمن، فإنه يسمى بهما فيقال لجنوبه بحر الحبشة، وللشمالي بحر اليمن ولمجموعهما بحر القلزم، وإنما اشتهر بالقلزم
__________
1 البيروني -القانون المسعودي، ص537.
2 المقصود به هنا المحيط الأطلسي.
3 المقصود به بحر البلطيق.(1/106)
لأن القلزم مدينة على منقطعه في أرض الشام حيث يستدق، ويستدير عليه السائر على الساحل نحو أرض البجة.. والخليج الآخر المقدم ذكره، وهو المعروف ببحر البربر يمتد من عدم إلى سفالة الزنج، ولا يتجاوزها مركب لعظم المخاطرة فيه، ويتصل بعدها ببحر أوقيانوس المغربي، وفي هذا البحر من نواحي المشرق جزائر الزابج1، ثم جزائر الديبجات2 وقمير3، ثم جزائر الزنج4، ومن أعظم هذه الجزائر الجزيرة المعروفة بسرنديب5، ويقال لها بالهندية سيلانديب، ومنها تجلب أنواع اليواقيت جميعها ومنها يجلب الرصاص، وسربزه ومنها يجلب الكافور، ثم في وسط المعمورة في أرض الصقالبة والروس بحر يعرف ببنطس عند اليونانيين، وعندنا يعرف ببحر طرابزندة؛ لأنها فرضة عليه، ويخرج منه خليج يمر على سور القسطنطينية، وملا يزال يتضايق حتى يقع على بحر الشام الذي على جنوبيه بلاد المغرب إلى الإسكندرية، ومصر وبحذائها في الشمال أرض الأندلس والروم، وينصب إلى البحر المحيط عند الأندلس في مضيق يذكر في الكتب بمعبرة هرقليس6، ويعرف الآن بالزقاق يجري فيه ماؤه إلى البحر المحيط، وفيه من الجزائر المعروفة قبرس وسامس ورودس وصقلية وأمثالها، وبالقرب من طبرستان بحر فرضة جرجان عليه مدينة أبسكون وبها يعرف، ثم إلى طبرستان وأرض الديلم وشروان، وباب الأبواب وناحية اللاك ثم الخزر ثم نهر أتل الآتي إليه، ثم ديار الغزية، ثم يعود إلى أبسكون، وقد سمي باسم كل بقعة حاذاها، ولكن اشتهاره عندنا بالخزر وعند الأوائل بجرجان، وسماه بطليموس بحر أوقيانيا، وليس يتصل ببحر آخر، فأما سائر المياه المتجمعة في
__________
1 الزابج= جاوة.
2 جزائر الديبجات= جزر لكديف وملديف.
3 قمير= كمبوديا.
4 جزائر الزنج= جزر المحيط الهندي الجنوبية.
5 جزيرة سرنديب= جزيرة سيلان.
6 معبرة هرقليس= مضيق جبل طارق.(1/107)
مواضع من الأرض فهي مستنقعات، وبطائح وربما سميت بحيرات كبحيرة أفامية وطبرية وزغر بأرض الشام، وكبحيرة خوارزم، وأبسكون بالقر من برسخان".
ولقد توصل الجغرافيون العرب إلى حقيقة هامة تتعلق بنسبة البحار إلى اليابس، حيث سجلوا بأن الماء يغمر ثلاثة أرباع مساحة الأرض، وهذه إحدى الحقائق الهامة التي أثبتتها الجغرافية الحديثة بعد أن توافرت لها الوسائل العلمية، وبعد أن تم الكشف عن جميع جهات الأرض، قال أبو الفدا في كتابه "تقويم البلدان": "والقدر المكشوف من الأرض هو بالتقريب ربعها، أما ثلاثة أرباع الأرض الباقية بالتقريب فمغمور بالبحار"1.
وناقش الكتاب العرب بعض جوانب جيمورفولوجية البحار، قال الدمشقي في كتابه "نخبة الدهر في عجائب البر والبحر": "وسائر مياه البحار المالحة والحلوة من المتصلة بالمحيط والمنفصلة عنه كلها مسجورة بحبسها في بقاعها، ووحدات الأرض المغمورة بمياهها، ومعنى الانسجار منها أنها كرية الشكل في دورانها، وكرية مع الأرض في تحدبها الكري، فكل جزء منها مكفوف الأطراف كصورة نصف سدس دائرة، وهذا في صورته الخاصة، فالبحار مستديرة باستدارة كرة الأرض وتهيئاتها في التدوير والانكفاف، ولذلك الراكب في البحر إذا توغل فيه غابت عنه الأرض، وإذا ما استشرف على السواحل فأول ما يظهر له رءوس الجبال العالية"2.
وقال إخوان الصفا: "واعلم يا أخي أن هذه البحار التي ذكرنا أنها على المستنقعات على وجه الأرض، وبينها جبال شامخة وهي كالمسنيات لها وهي متصلة بعضها ببعض أما بخلجان بينها على ظاهر الأرض، وأما بمنافذ لها وعروق في باطن الأرض، وأن في وسط هذه البحار جزائر كثيرة صغارًا وكبارًا وأنهارًا، ومنها عامرة بالناس فيها مزارع وقرى وممالك، ومنها براري وقفار فيها جبال، وآجام تسكنها سباع ووحوش وأنعام ... وفي وسط تلك
__________
1 أبو الفداء، ص18-19.
2 الدمشقي -ص128.(1/108)
الجزائر بحيرات صغار وكبار، وأنهار وغدران وآجام"1.
وتحدثوا أيضًا في أسباب ملوحة البحار، فقال المسعودي في سياق كلامه عن البحار التي تخلو من المد والجزر أن المياه إذا بقيت هادئة لبعض الوقت، فإن ملوحتها تزداد فتصبح ثقيلة وكثيفة، كما ذكر في موضع آخر أن المياه التي تنساب في البحر من الأجزاء العليا والدنيا تمتص بحسب طبيعتها الأملاح التي تقذف بها الأرض في البحر2، أما الدمشقي فقد علل ملوحة مياه البحر على النحو التالي: "وتكلم العلماء بعلمهم في الشيء الذي كان عنه الماء، فمنهم من زعم أن المياه من الاستمالة فطعم كل ماء على قدر تربته، ومنهم من يزعم أن البحر بقية الرطوبة التي جفت أكثرها جوهر النار، وبإحراقه لهذه البقية استحالت إلى الملوحة، ومنهم من زعم أن أصل الماء العذوبة واللطافة، وإنما لطول مكثه جذبت الأرض ما فيها من العذوبة لملوحتها، وجذبت الشمس ما فيها من اللطافة بحرارتها، فاستحال إلى الغلظ والملوحة"3.
وناقش العلماء المسلمون أيضًا أسباب حدوث التيارات، والأعاصير في البحار. قال إخوان الصفا: "أما علة هيجان البحار وارتفاع مياهها وبروزها على سواحلها وشدة تلاظم أمواجها، وهبوب الرياح في وقت هيجانها إلى الجهات الخمس في أوقات مختلفة من الشتاء والصيف والربيع والخريف في أوائل الشهور، وأواخرها وساعات الليل والنهار، فهي من أجل أن مياهها إذا حميت في قرارها، وسخنت لطفت وتحللت وطلبت مكانًا أوسع مما كانت فيه قبل، فيتدافع فيه بعض أجزائها إلى الجهات الخمس فوقًا وشرقًا وجنوبًا وشمالًا وغربًا للاتساع فيه، فتكون في الوقت الواحد على سواحلها رياح مختلفة في جهات مختلفة، وأما علة هيجانها في وقت دون وقت فبحسب شكل الفلك، ومطارح شعاعاته على سطح تلك البحار من الآفاق، والأوتاد الأربعة"4.
__________
1 إخوان الصفا، ص82-83 "الجزء الثاني".
2 س. م. ضياء الدين علوي "ترجمة د. عبد الله الغنيم ود. طه محمد جاد" -الجغرافية العربية في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين- الكويت 1980، ص125.
3 الدمشقي -ص129.
4 إخوان الصفا -ص82-83 "الجزء الثاني".(1/109)
ولقد ناقش الجغرافيون العرب والمسلمون أيضًا ظاهرة المد والجزر، وإن لم يصب غالبيتهم في تفسيرها، فقد كان تفسير ابن الفقيه الهمذاني مثلًا أسطوريًا. فقد روي عن ابن عباس أنه سئل عن ظاهرة المد والجزر، فأجاب أن ملكًا موكل بقاموس البحر إذا وضع رجله فيه فاضت وإذا رفعها غاضت، كما روي عن ابن كعب أن الخضر لقي ملكًا من الملائكة، فسأله عن المد والجزر، فقال: إن الحوت يتنفس فيشرب الماء ويرفع الماء إلى منخريه فذلك الجزر، ثم يتنفس فيخرجه من منخريه فذلك المد1.
غير أن الكتاب اللاحقين اقتربوا من التفسير الحقيقي لهذه الظاهرة، واعتقد البعض منهم أن ظاهرة المد والجزر يتحكم فيها القمر والشمس بصورة مباشرة. وقد درس أبو معشر هذه الظاهرة بالتفصيل، وتناول الأنواع المختلفة من المد والجزر، وأوضح كيف تختلف قوتها تبعًا لاختلاف موقع القمر بالنسبة للبحر. كما اعتقد بعض الجغرافيين العرب أن المد والجزر يعتمدان على هبوب الرياح. ويقول الكندي، وأحمد بن الطيب السرخسي في ذلك: "وقد يتحرك البحر بتحرك الرياح، وإن الشمس إذا كانت في الجهة الشمالية تحرك الهواء إلى الجهة الجنوبية، فيسيل ماء البحر بحركة الهواء إلى الجهة الجنوبية، فكذلك البحار من جهة الجنوب في الصيف لهبوب الشمال طامية عالية، وتقل المياه من جهة البحار الشمالية، وكذلك إذا كانت الشمس في الجنوب، وسال الهواء من الجنوب إلى جهة الشمال سال معه البحر من الجهة الجنوبية إلى الجهة الشمالية، فقلت المياه في الجهة الجنوبية منه، وينتقل مياه البحر في هذين الميلين، أعني في جهتي الشمال والجنوب، فيسمى جزرًا ومدًا"2.
واقترب إخون الصفا أيضًا من التفسير العلمي لظاهرة المد والجزر، حيث ربطوها بحركة القمر والكواكب الأخرى، ومما قالوه في ذلك: "وأما علة مدود بعض البحرا في وقت طلوعات القمر، ومغيبه دون غيرها من البحار، فهي من أجل أن تلك البحار في قرارها صخور صلبة، فإذا أشرق
__________
1 ابن الفقيه، ص9.
2 علوي -ص125.(1/110)
القمر على سطح ذلك البحر وصلت مطارح شعاعاته إلى تلك الصخور والأحجار التي في قرارها، ثم انعكست من هناك راجعة، فسخنت تلك المياه وحميت ولطفت وطلبت مكانًا أوسع، وارتفعت إلى فوق ودفع بعضها بعضًا إلى فوق، وتموجت إلى سواحله، وفاضت على سطوحها وأرجعت مياه تلك الأنهار التي كانت تنصب إليها إلى خلف، فما يزال ذلك دأبها ما دام القمر مرتفعًا إلى وتد سمائه، فإذا انتهى إلى هناك، وأخذ ينحط سكن عن ذلك غليان تلك المياه، وبردت وانضمت تلك الأجزاء وغلظت، ورجعت إلى قرارها وجرت الأنهار على عادتها، فلا يزال ذلك دأبها إلى أن يبلغ القمر إلى أفق تلك البحار الغربي منها، ثم يبتدئ المد على مثل عادته، وهو في الأفق الشرقي ولا يزال ذلك دأبه حتى يبلغ القمر إلى وتد الأرض، فينتهي المد من الرأس، ثم إذا زال القمر من وتد الأرض أخذ المد راجعًا إلى أن يبلغ القمر أفقه الشرقي من الرأس، وذلك تقدير العزيز الحكيم، فإن قيل: لم لا يكون المد والجزر عند طلوع الشمس وإشراقها على سطوح هذه البحار، فقد بينا علة ذلك في رسالة العلل والمعلول"1.
ولقد اقترب البيروني أيضًا من الحقيقة في تفسيره لظاهرة المد والجزر، حيث نقل آراء العلماء الهنود فيها، وارتباطها بتغير وجه القمر، غير أن تفسيره خالطته بعض الأفكار الأسطورية2.
أما ما يخص الأنهار فقد كانت لدى الجغرافيين العرب والمسلمين معلومات طيبة أيضًا عن أنهار العالم القديم الكبرى، وقد حددوا منابع البعض منها بدقة كبيرة. كذلك ناقشوا جوانب متعددة من هيدرولوجية الأنهار، وقد أدركوا حقيقة هامة تخص هيدرولوجيتها، وهي أن الأمطار والثلوج والينابيع هي المسؤولة عن تغذيتها بالماء، كذلك شرحوا الدورة المائية وبينوا أن أكثر الأنهار يبتدئ من الجبال والتلال، ويمر في جريانه نحو البحار والآجام والبحيرات، وأوضحوا أيضًا أسباب ازدياد المياه فيها في
__________
1 إخوان الصفا -ص83.
2 البيروني -ص431.(1/111)
فصول معينة من السنة، قال إخوان الصفا1: "واعلم أن الأودية والأنهار تبتدئ من الجبال والتلال، وتمر في جريانها نحو البحار والآجام والغدران والبطائح والبحيرات ...
وأما علة مدود أكثر الأنهار التي جريانها من الشمال إلى الجنوب في أيام الربيع، فهي من أجل أن الثلوج إذا كثرت في الشتاء على رءوس الجبال الشرقية، ثم حمي الجو بقرب الشمس من سمتها ذابت تلك الثلوج، وسالت منها الأودية والأنهار..
ولهذه الأنهار عطفات وعراقيل يطول شرحها وشرح علتها، وهي تسقي في جريانها الوادان والمزارع والمدن والقرى، وما يفضل من مياهها ينصب إلى البحار والآجام والبطائح، ويمتزج بمياهه عذبة كانت أم مالحة ... فإذا أشرقت عليها الشمس والكواكب سخنتها، وحميت ولطفت وتحللت وصارت بخارًا، فارتفعت في الهواء وتموجت إلى الجهات، ويكون منها الرياح والغيوم والضباب والطل والندى، والصقيع والأنداء والثلوج والبرد على رءوس الجبال والبراري والعمران والخراب.
وأما الأمطار التي تكون على رءوس الجبال، فإنها تفيض في شقوق تلك الجبال وخللها، وتنصب إلى مغارات وكهوف وأهوية هناك، وتمتلئ وتكون كالمخزونة، ويكون في أسفل تلك الجبال منافذ ضيقة تمر منها وتجري وتجتمع وتصير أودية وأنهارًا، وتذوب تلك الثلوث على رءوس تلك الجبال، وتجري إلى تلك الأودية وتمر في جريانها راجعة نحو البحار، ثم تكون فيها البخارات والرياح والغيوم والأمطار، كما كان في العام الأول وذلك تقدير العزيز الحكيم".
ومن الجدير بالذكر أن إخوان الصفا أدركوا نوعيًا علة فيضان نهر النيل في فصل الصيف حيث قالوا في ذلك2: "وأما علة مد نيل مصر في أيام الصيف، فهو من أجل أن هذا النهر يجري من الجنوب إلى الشمال، ومبدأ
__________
1 إخوان الصفا، ص87-88.
2 المصدر السابق، ص87.(1/112)
جريانه من وراء خط الاستواء حيث يكون الشتاء عندنا يكون صيفًا هناك، وفي الصيف يكون الشتاء هناك، فتكون في ذلك الوقت كثرة الأمطار هناك".
وأشار المسعودي أيضًا إلى ملاحظة بارعة جدًا في هيدرولوجية الأنهار، حيث ذكر في الجزء الأول من موسوعته "مروج الذهب" بأن الأنهار شبابًا، وهرمًا وحياة وموتًا ونشورًا، كما يكون ذلك في الحيوان والنبات كما ذكر بأن المياه المختزنة في أعماق الأرض تميل للخروج إلى السطح؛ لأنها تتجه دائمًا إلى الحفاظ على مستواها، فتنبثق من ذلك العيون والأنهار1.
ولقد كان الدمشقي "شيخ الربوة" من أكثر الكغرافيين المتأخرين اهتمامًا بموضوع الأنهار، فقد أفرد في كتابه "نخبة الدهر" فصلًا ضافيًا عن أنهار العالم الإسلامي، وذكر كل ما يتعلق بها من معلومات، ولم تشمل شروحه الكلام عن طوبوغرافية الأنهار فحسب، بل تعدتها إلى شرح نظام الدورة المائية بأكملها وربط هيدروغرافية الأنهار بها، ويمكن القول: إن الدمشقي كان من الجغرافيين القلائل الذين خاضوا في هذا الموضوع النظري، وأن شروحه لا تختلف كثيرًا عن الشروح الحديثة لأطوار الدورة المائية، قال الدمشقي2: "اختلف العلماء في ملة كون الماء وملة كون نبعه من الأرض، فقال بعضهم: إن المطر إذا وقعت على الأرض واجتمعت منه مياه كثيرة، ووجدت لها الجريان والسيلان سبيلًا جرت سيولًا ومدودًا، إذ من شأن الماء الانحدار والانصباب، وإن اتفق أنها تنحصر بين أطراف مرتفعة تمنعها من السيلان بقيت ممقونة، فإن كانت تلك الأرض المحاصرة لها رخوة، ويحللها ذلك الماء إلى أرض أسفل منها صلبة لا يقدر على نفوذها وقف، ثم تموج واضطرب طلبًا للخروج حتى يخرق بها خرقًا، فيسمى ذلك الخرق عينًا، فإن سالت سميت جدولًا إن كان قليلًا، وإن كان كثيرًأ سمي نهرًا، وإن اجتمعت من المطر منه جمل، وسالت بكثرة سميت سيلًا. وكلما كانت
__________
1 المسعودي -مروج الذهب "الجزء الأو"، ص80.
2 الدمشقي ص125-126.(1/113)
الأمطار أكثر كانت الماء أغزر، وقال آخرون: إن علة تكون الماء وتكثرها إنما هو من عصارات الأرض ومخازنها المجموعة فيها من مياه الأمطار، ورطوبات الأبخرة الندية المسماة الندى، وذلك أن الرطوبات والعصارات المذكورة تحركها حرارة الشمس، وسخونة الأرض المستكنة في أعماقها فيلطف جوهر تلك العصارات بهذا التحريك المذكور، فيرقى بخارًا حارًا رطبًا، ويقوى ترطيبه عندما يصل في ارتقائه من الزمهرير في الجو، ويصير به باردًا رطبًا، فينعقد هناك أجزاء مائية مبثوثة، ثم إذا انعقد ذلك جمعته الرياح وأمددته مطرًا، فتأخذ الأرض حينئذ منه حاجتها فتجنه في دواخلها، ثم يسبح الباقي منه سيولًا ومدودًا على وجهها سيحًا، ويستجن منه أيضًا في شرياناتها، ونفاخاتها ما يستجن، وتقبل منه وهداتها ما تقبل غدرانًا ومخازن، والباقي الفاضل ينصب إلى البحار المالحة فيختلط بها، ثم يعود عليه ذلك التحريك الكائن من حرارة الشمس والحر المستجن ببطن الأرض، فتحرك تلك الأجزاء والعصارات، والمياه المختلطة بمياه البحار المالحة، فتعود راقية كالأول إلى أن يصير مطرًا وسيلًا، وفضالات محتضنات كالأول، وهذا دأبها".
وبحث العلماء العرب في أصل العيون والينابيع أيضًا، وقد أجمعوا على كونها تصدر من مستودعات في باطن الأرض، وأن تلك المستودعات تنشأ من مياه الأمطار، والثلوج التي تتسرب من الشقوق والمسام، ومن بخار الماء المتكاتف بسبب حرارة باطن الأرض، وقد ذكر محمد بن الحاسب الكرخي في ذلك1: "إن الله تعالى خلق في جوف الأرض ماءً ساكنًا يجري فيها مجرى الدم من بدن الحيوان، لا يزيد بزيادة الأمطار ولا ينقص بنقصانها على ما قاله الأولون؛ لأن مادته من استحالة الهواء إلى الماء في بطون الأرض، وهذا الماء عم أكثر الخلل في جسمها، واتصل بعضه ببعض ما لم يمنع بالحواجز والموانع الصلبة، وهذا الماء يجري من المواضع البعيدة المركز إلى المواضع القريبة منه في عروق الأرض والخلل في جوفها، فكما أن الماء جار على وجه الأرض ومتحير عليها، كذلك الماء الساكن في جوفها جار
__________
1 علوي -ص119.(1/114)
في مواضع كالأنهار ومتحير في مواضع كالبحار، ومعظم الماء الساكن يكون تحت الصحاري المطمئنة والفلوات البعيدة والأرجاء، يتوصل إليه بقفر له قدر. وقد تمد مياه الثلوج التي تبقى على جبال قد ذهبت طولًا وعرضًا، فيما بينها شعاب وبطاح لحفظ الثلوج إلى وقت مسامتة الشمس لها، والماء في مثل هذه الصحاري أقوى منه في غيرها؛ لأن الجبال الموصوفة هي مخازن الماء من جميع الأرض المحيط بها ما لم تمنع الموانع المذكورة".
ولقد ساهم ابن سينا مساهمة هامة أيضًا في دراسة العيون والينابيع، وقد أشار في كتابه "الشفاء" في الرسالة الخامسة منه أن العيون، إنما تتولد باندفاع المياه إلى وجه الأرض بالعنف، وأنها لم تندفع بالعنف إلا بسبب محرك لها مصعد إلى فوق، وذكر أن الأسباب المصعدة للرطوبات، إنما هي الحرارات المبخرة للرطوبات الملجئة إياها إلى الصعود، والعيون أيضًا فإن مبادئها من البخارات المندفعة صعدًا عن تصعيد الحرارة المحتقنة، في الأرض "من الشمس والكواكب".. والأرضون الصلبة جدا تحقن البخار حقنًا شديدًا، والجبال أقوى الأرضين على حقن الحرارة في ضمنها، وحبس البخار المتصاعد منها حتى يقوى إجتماعه، ويعد بقوته منفذًا يندفع منه إلى خارج، وقد تكاثف واستحال مياهًا وصار عيونًا، كذلك قسم ابن سينا المياه المنبعثة من الأرض إلى أنواع، منها العيون السيالة، ومنها العيون الراكدة، ومنها مياه الآبار، ومنها مياه القنى، ومنها مياه النز، وشرح طبيعة كل نوع وحدوثه1.
وقدم "إخوان الصفا" تفسيرًا لظاهرة العيون الحارة، وقد ورد على النحو التالي: "أما علة حرارة بعض العيون في الشتاء والصيف على حالة واحدة، فهي أن في باطن الأرض، وكهوف الجبال مواضع تربتها كبريتية فتصير تلك الرطوبات التي تنصب هناك دهنية، وتكون الحرارة التي فيها راسية دائمًا بينها، أو فوقها مياه في جداول وعروق نافذة، فتسخن تلك المياه بمرورها هناك وجوازها عليها، ثم تخرج وتجري على وجه الأرض وهي حارة حامية، فإذا أصابها نسيم الهواء وبرد الجو، بردت وربما جدت"2.
__________
1 د. علي السكري -العرب وعلوم الأرض- منشورات منشأة المعارف بالاسكندرية -الإسكندرية 1973، ص33-34.
2 إخوان الصفا، ص85.(1/115)
3- الحقل الجيومورفولوجي:
عالج العلماء العرب والمسلمون بعض الجوانب النظرية في حقل الجيومورفولوجيا بالإضافة إلى الجوانب العملية للموضوع، غير أن علاجهم هذا كان عرضيًا ولم يرد على أساس نظريات جديدة في علم الجغرافيا، كما أنهم تأثروا إلى حد غير قليل بالنظريات اليونانية والرومانية، وعلى أية حال فقد ثبتوا حقائق جيمورفولوجية هامة منها أثر العامل الزمني في العمليات الجيومورفولوجية، وأثر الدورة الصخرية والدورة الفلكية، في تبادل اليابس والماء، وأثر عنصري المناخ والمياه في عملية التعرية، فضلًا عن آراء جيمورفولوجية سليمة أخرى، وفي هذا الحقل تكتسب أهمية خاصة المساهمات التي أضافها كل من البيروني، وإخوان الصفا والمسعودي وابن سينا. ويقف البيروني في المقدمة بين الجغرافيين العرب والمسلمين في ملاحظاته الجيومورفولوجية الذكية، فقد فطن في استعراضه لطوبوغرافية بلاد السند إلى التكوين الجيولوجي الخاص لهذا السهل، واعتقد أنه لا بد أن يكون حوضًا بحريًا قديمًا قد طمرته الترسبات، ولم يكن البيروني في ملاحظاته هذه بعيدًا عن الحقيقة، قال: "وأرض الهند من تلك البراري يحيط بها من جنوبها بحرهم المذكور، ومن سائر الجهات تلك الجبال الشومخ وإليها مصاب مياهها، وإذا تفكرت عند المشاهدة فيها، وفي أحجارها المدملكة الموجودة إلى حيث يوجد الحفر عظيم بالقرب من الجبال، وشدة جريان مياه الأنهار وأصغر من التباعد، وفتور الجري ورمالًا عند الركود، والاقتراب من المغايض والبحر لم يكن تتصور أرضه إلا بحرًا في القديم في انكبس بحمولات السيول"1.
__________
1:البيروني، تحقيق ما للهند من مقولة، ص157.(1/116)
ومن الملاحظ أن البيروني قد فطن أيضًا إلى عملية الترسيب النهري لا سيما عند اقتراب النهر من مصباته في المغايض أو البحار، وللبيروني ملاحظات بارعة أخرى تتعلق باختلاف توزيع اليابس والماء على مر الأزمان الجيولوجية. وملاحظاته تلك لا تختلف بشيء عن حقائق العلم الحديث، قال: " لا ينتقل البحر إلى البر والبر إلى البحر في أزمنة إن كانت قبل كون الناس في العالم، فغير معلمة وإن كانت بعده فغير محفوظة؛ لأن الأخبار تنقطع إذا طال عليها الأمد وخاصة في الأشياء الكائنة جزءًا بعد جزء بحيث لا تفطن لها إلا الخواص، فهذه بادية العرب، وقد كانت بحرًا فانكبس حتى أن آثار ذلك ظاهرة عند حفر الآبار والحياض بها، فإنها تبدي أطباقًا من تراب ورمال ورضراض، ثم فيها من الخزف والزجاج والعظام ما يمتنع أن يحمل على دفن قاصر إياها هناك، بل يخرج منها أحجارًا إذا كسرت كانت مشتملة على أصداف وودع، وما يسمى آذان السمك إما باقية على حالها، وإما بالية قد تلاشت وبقي مكانها خلاء متشكلًا بشكلها"1.
وقد اشتمل هذا الكلام أيضًا على إشارة ذكية إلى أهمية الحفريات، والمتحجرات في تقرير تأريخ الصخور والطبقات الأرضية، وهذا المبدأ من أهم مبادئ علم الجيولوجيا الحديث.
ولقد ساهم إخوان الصفا بدورهم مساهمة هامة في تنمية الجانب النظري في حقل الجيومورفولوجيا بآرائهم القويمة عن العمليات الجيومورفولوجية، فقد أكدوا على أهمية عوامل التعرية والنحت في التضاريس الأرضية، وبينوا اختلاف توزيع اليابس، والماء على مر العصور الجيولوجية، ووضحوا نشوء السهول الرسوبية البحرية، وناقشوا مسألة تكون الجبال الالتوائية، وهكذا يتضح أنهم قد أشاروا إلى أهم النقاط التي يعني علم الجيومورفولوجيا الحديث بدراستها، فإن إخوان الصفا في رسالتهم الخامسة من "الجسمانيات الطبيعيات"2: "واعلم يا أخي أن الأودية
__________
1 نفيس أحمد، ص68.
2 إخوان الصفا -ص81-82.(1/117)
والأنهار كلها تبتدئ من الجبال والتلال، وتمر في مسيلها وجريانها نحو البحار والآجام والغدران، وإن الجبال من شدة إشراق الشمس والقمر والكواكب عليها بطول الدهر تنشف رطوبتها، وتزداد جفافًا ويبسًا وتنقطع وتنكسر وخاصة عند انقضاض الصواعق، وتصير أحجارًا وصخورًا أو حصى ورمالًا، ثم إن الأمطار والسيول تحط تلك الصخور والرمال إلى بطون الأودية، والأنهار ويحمل ذلك شدة جريانها إلى البحار والغدران والآجام، وإن البحار لشدة أمواجها وشدة إضطرابها، وفورانها تبسط تلك الرمال والطين، والحصى سافا على ساف بطول الأزمان والدهور، ويتلبد بعضها فوق بعض وينعقد، وينبت في قعور البحار جبالًا وتلالًا، كما تتلبد من هبوب الرياح دعاص الرمال في البراري والقفار، واعلم يا أخي أنه كلما انطمت قعورها من هذه الجبال والتلال التي ذكرنا أنها تنبت، فإن الماء يرتفع ويطلب الاتساع، وينبسط على سواحلها نحو البراري والقفار ويغطيها الماء، فلا يزال ذلك دأبه بطول الزمان حتى تصير مواضع البراري بحارًا، ومواضع البحار يبسًا وقفارًا، وهكذا لا تزال الجبال تنكسر وتصير أحجارًا، وحصى ورمالًا تحطها سيول الأمطار، وتحملها إلى الأودية والأنهار بجريانها حتى البحار، وتنعقد هناك كما وصفنا وتنخفض الجبال الشامخة، وتنقص وتقصر حتى تستوي مع وجه الأرض، وهكذا لا يزال ذلك الطين والرمال تنبسط في قعر البحار وتتلبد وتنبت عنها التلال والروابي والجبال، وينصب من ذلك المكان الماء حتى، تظهر تلك الجبال وتنكشف هذه التلال والروابي والجبال، وينصب من ذلك الماء حتى تظهر تلك الجبال، وتنكشف هذه التلال والروابي والجبال، وينصب من ذلك الماء حتى تظهر تلك الجبال وتنكشف هذه التلال، وتصير جزائر وبراري ويصير ما يبقى من الماء في وهادها، وقعورها بحيرات وآجامًا أو غدرانًا وينبت فيها القصب والوحال، فلا تزال السيول تحمل إلى هناك الطين والرمال والوحول، حتى تجف تلك المواضع وتنبت الأشجار والعكرش والعشب، وتصير مواضع للعشب والوحوش، ثم يقصدها الناس لطلب المنافع والمرافق من الحطب والصيد وغيرها، وتصير مواضع الزروع والغروس والنبات بلدانًا(1/118)
وقرى ومدنًا يسكنها الناس".
وساهم المسعودي أيضًا في الجانب النظري من حقل الجيومورفولوجيا، فقد أشار في الجزء الأول من موسوعته، "مروج الذهب" إلى مسألة اختلاف توزيع اليابس والماء عبر الأزمان الجيولوجية، وإلى نشوء السهول الرسوبية البحرية، حيث قال: "فليس موضع البر أبدًا برًّا، ولا موضع البحر أبدًا بحرًا، ويكون بحرًا حيث كان مرة برا، ويكون برا حيث كان مرة بحرًا"1. كذلك أشار في كتاب "التنبيه والإشراف" إلى أهمية اختلاف التضاريس الأرضية، فقد قال: "فجعل عز وجل منها أنجادًا، ومنها أغوارًا ومنها أنشازًا ومنها مستوية: وأما أنشازها فمنها الجبال الشامخة، ومنافعها ظاهرة في قوة وتحدر السيول منها، فتنتهي إلى الأرضين البعيدة بقوة جريها، ولتقبل الثلوج فتحفظها إلى أن تنقطع مياه الأمطار وتذيبها الشمس، فيقوم ما تحلب منها مقام الأمطار، ولتكون الآكام والجبال في الأرض حواشر للمياه لتجري من تحتها، ومن شعوبها وأوديتها فتكون منها العيون الغزيرة ليعتصم بها الحيوان، ويتخذها مأوى ومسكنًا ولتكن مقاطع ومقاتل وحواجز بين الأرضين من غلبة مياه الأمطار عليها"2.
كذلك أضاف المسعودي إضافة هامة إلى حقل الجيومورفولجيا بآرائه عن أهمية الترسبات النهرية وآثارها الجيومورفولوجية، وقد طبق المسعودي آراءه على العراق، وبين آثار الترسبات النهرية في الخليج العربي في تراجع ساحله نحو الجنوب على مر السنين، حيث قال في ذلك: "وكانت سفن الهند والصين تصل إلى الحيرة، فلما انقطع الماء عن مصبه في ذلك الموضع انتقل البحر برا، فصار بين الحيرة وبين البحر في هذا الوقت أيام كثيرة، وأن من رأى النجف، وأشرف عليها يتبين له ما وصفنا"3.
وضرب المسعودي مثالًا على تغير مواضع المجاري النهرية بسبب عامل الترسيب من نهر دجلة في موقع بغداد، حيث أشار إلى انتقال مجرى
__________
1 المسعودي -مروج الذهب "الجزء الأول"، ص80.
2 المسعودي -التنبيه والإشراف، ص25.
3 المسعودي -مروج الذهب "الجزء الأول" ص103-104.(1/119)
دجلة شرقي بغداد في موضع الشماسية من الجانب الغربي من الضياع التي كانت بين قطربل، ومدينة السلام إلى الجانب الشرقي من تلك الضياع، ثم انتهى إلى القول: "فإذا كان الماء [في شرقي بغداد] في نحو ثلاثين سنة قد ذهب بنحو من سبع ميل، فإنه يسير ميلًا في قدر مائتي سنة، فإذا تباعد النهر أربعة آلاف ذراع [وهي مقدار الميل] من موضعه الأول خربت بذلك السبب مواضع وغمرت مواضع، وإذا وجد الماء سبيلًا منخفضًا وانصبابًا وسع بالحركة وشدة الجرية لنفسه، فاقتلع المواضع من الأرض من أبعد غاياتها، وكلما وجد موضعًا متسعًا من الوهاد ملأه في طريقه من شدة جريته، حتى يعمل بحيرات ومستنقعات، وتخرب بذلك بلاد وتعمر بلاد، ولا يغيب فهم ما وصفنا على من له أدنى فكر"1.
وأخيرًا لا بد من الإشارة إلى مساهمات الفيلسوف ابن سينا في حقل الجيومورفولوجيا، والتي تنصب على نحو الخصوص في آرائه عن تكوين الجبال وعن أهمية عوامل التعرية، والواقع أن تلك الآراء ذات أهمية بالغة، إذ إنها تقترب اقترابًا كبيرًا من الآراء الحديثة في هذا الباب، قال ابن سينا في الرسالة الخامسة من كتاب "الشفاء" في شرح تكوين الجبال: "وأما الارتفاع فقد يقع لذلك سبب بالذات، وقد يقع له سبب بالعرض، أما السبب بالذات فكما يتفق عند كثير من الزلازل القوية إن ترفع الريح الفاعلة للزلزلة طائفة من الأرض، وتحدث رابية من الروابي دفعة، وأما الذي بالعرض، فإنه يعرض لبعض الأجزاء من الأرض انحفار من دون بعض، بأن تكون رياح نسافة أو مياه حفارة تتفق لها حركة على جزء من الأرض دون جزء، فينحفر ما تسيل عليه ويبقى ما لا تسيل عليه رابيًا، ثم لا تزال السيول تغوص في الحفر الأول إلى أن تغور غورًا شديدًا، ويبقى ما انحرف عنه شاهقًا وهذا كالمتحقق من أمور الجبال، وما بينها من
الحفور والمسالك.
وربما كان الماء أو الريح متفق الفيضان إلا أن أجزاء الأرض تكون
__________
1 المصدر نفسه، ص34.(1/120)
منخفضة فيكون بعضها لينة وبعضها حجرية، فينحفر الترابي اللين ويبقى الحجري مرتفعًا، ثم لا يزال ذلك المسيل يتحفر، وينحفر على الأيام ويتسع ويبقى النتوء، وكلما انحفر عنه الأرض كان شهوقه أكثر.
فهذه هي الأسباب الأكثرية لهذه الأحوال الثلاثة، فالجبال تكونها من أحد أسباب تكون الحجارة، والغالب أن تكونها من طين لزج على طول الزمان، تحجر في مدد لا تضبط، فيشبه أن تكون هذه المعمورة قد كانت في سالف الأيام غير معمورة، بل مغمورة بالبحار فتحجرت، أما بعد الانكشاف قليلًا قليلًا في مدد لا تفي التأريخيات بحفظ أطرافها، وأما تحت المياه لشدة الحرارة المحتقنة تحت البحر، والأولى أن يكون بعد الانكشاف، وأن تكون طينتها تعينها على التحجر، إذ تكون طينتها لزجة، ولهذا ما يوجد في كثير من الأحجار إذا كسرت أجزاء الحيوانات المائية كالأصداف وغيرها، ولا يبعد أن تكون القوة المعدنية قد تولدت هناك فأعانت أيضًا، وأن تكون مياه قد استحالت أيضًا حجارة، لكن الأولى أن يكون تكون الجبال على هذه الجملة، وكثرة ما فيها من الحجر لكثرة ما يشتمل عليه البحر من الطين، ثم ينكشف عنه وارتفاعها لما حفرته السيول والرياح فيما بينها.
فإنك إذا تأملت أكثر الجبال رأيت الانحفار الفاصل فيما بينها متولدًا من السيول، ولكن ذلك أمر إنما تم وكان في مدد كثيرة، فلم يبق لكل سيل أثره، بل إنما يرى الأقرب منها عهدًا، وأكثر الجبال الآن إنما هي في الانرضاض والتفتت، وذلك؛ لأن عهد نشوئها وتكونها إنما كان مع انكشاف المياه عنها يسيرًا يسيرًا، والآن فإنها في سلطان التفتت، إلا ما شاء الله من جبال، إن كانت تتزايد بسبب مياه تتحجر فيها أو سيول تؤدي إليها طينًا كثيرًا فيتحجر فيها. فقد بلغني كما أحسب أنه قد شوهد ذلك في بعض الجبال، وأما ما شاهدته أنا في شط جيحون، وليس ذلك الموضع مما يستحق أن يسمى جبلًا، فما كان من هذه المنكشفات أصلب طينة، وأقوى تحجرًا(1/121)
وأعظم حجمًا فإنه إذا انهدما دونه بقي أرفع وأعلى"1.
وهكذا تيضح أن ابن سينا قد صنف الجبال إلى صنفين رئيسيين: الأول يدخل في صنف الجبال الالتوائية، والثاني يدخل في صنف جبال التعرية، كذلك أرجع تكون الجبال إلى سببين أساسيين: وهما الحركات الأرضية على اختلاف أنواعها ولا سيما الحركات الرافعة، وعوامل التعرية ولا سيما الرياح والمياه الجارية. كذلك أشار ابن سينا إلى فعل العوامل الجيولوجية البطيء الذي يتراكم مع الوقت وإلى آثارها الطويلة الأمد، وإذا علمنا أن النظرية المتعلقة بالتضاريس الأرضية التي سادت التفكير الجيولوجي حتى القرن السابع عشر كانت تؤمن بمبدأ "التغير السريع" أو"الثبات الدائم" في التضاريس الأرضية أدركنا أهمية الفكرة التي أكد عليها ابن سينا.
تلك هي أبرز الكتابات الجيومورفولوجية التي وردت في المصنفات الكوزموغرافية العربية، أما الظواهر الجيولوجية الأخرى كالزلازل، والبراكين فلم ترد عنها إلا إشارات خاطفة، ولعل من أهمها ما ورد في كتابات ابن سينا وإخوان الصفا، قال ابن سينا في موسوعته "الشفاء" في الجزء الخاص بـ[المعادن والآثار العلوية] متحدثًا عن الزلازل: "وأما الزلزلة فإنها حركة تعرض لجزء من أجزاء الأرض بسبب ما تحته، ولا محال أن ذلك السبب يعرض له أن يتحرك ثم ما فوقه، والجسم الذي يمكن أن يتحرك تحت الأرض، ويحرك الأرض إما جسم بخاري دخاني قوي الاندفاع، وإما جسم مائي سيال، وإما هوائي، وإما جسم ناري، وإما جسم أرضي.. فأما الجسم الريحي، ناري أو غير ناري، فإنه يجب أن يكون هو المنبعث تحت الأرض الموجب لتمويج الأرض في أكثر الأمر ... فإذا كان سبب الزلزلة قويًا جدًا خسف الأرض باندفاعه وخروجه، وربما خلف نارًا محرقة وربما حدثت أصوات هائلة، ودوي يدل على شدة الريح، فإن وجدت هذه الريح
__________
1، السكري، ص28-30.(1/122)
المصوتة منفذًا واسعًا بعد المنفذ الذي تصوت فيه حدث عن اندفاعها صوت ولم تزلزل ... "1.
وتحدث ابن سينا أيضًا عن أنواع الزلازل، فذكر النوع الرأسي وسماه الرجفي، والنوع الأفقي ووصفه بأنه اختلاجي عرضي رعشي، كما ذكر نوعين آخرين هما القطقط والسلمي، ووصف أيضًا سير الزلزلة، وقال بأنها تختلف في قوة أوائلها وأواخرها، وأنها لا يمكن أن تجري على منهاج واحد2.
أما إخوان الصفا فقد فسروا ظاهرة الزلازل على النحو التالي3:
"وأما الكهوف والمغارات والأهوية التي في جوف الأرض والجبال، إذا لم يكن لها منافذ تخرج منها المياه بقيت تلك المياه هناك محبوسة زمانًا، وإذا حمي باطن الأرض، وجوف تلك الجبال سخنت تلك المياه ولطفت وتحللت وصارت بخارًا، وارتفعت وطلبت مكانًا أوسع، فإن كانت الأرض كثيرة التخلخل تحللت وخرجت تلك البحار من تلك المنافذ، وإن كان ظاهر الأرض شديد التكاثف حصينًا منعها من الخروج، وبقيت محتبسة تتموج في تلك الأهواء لطاب الخروج، وربما انشقت الأرض في موضع منها، وخرجت تلك الرياح مفاجأة وانخسف مكانها، ويسمع لها دوي وهدة وزلزلة، وإن لم تجد لها مخرجًا بقيت هناك محتبسة، وتدوم تلك الزلزلة إلى أن يبرد جو تلك المغارات والأهوية ويغلظ".
أما البراكين فوصفها إخوان الصفا على النحو التالي: "واعلم أن في بعض المواضع يرى من بعيد على رءوس الجبال وبطون الأودية نيران، وضياء بالليل ودخان معتكر ساطع في الهواء ومرتفع في الجو، وعلته أن في جوف الجبال كهوفًا ومغارات، وأهوية حارة ملتهبة تجري إليها مياه كبريتية، أو نفطية دهنية فتكون مادة لها رائحة، وهي مثل التي بجزيرة صقلية، وبجبل مزمهر من خوزستان"4.
__________
1 المصدر السابق، ص34.
2 المصدر السابق، ص35.
3 إخوان الصفا، ص86.
4 المصدر السابق، ص84.(1/123)
تلك هي أبرز المواضيع التي طرقتها المصنفات الكوزموغرافية العربية، وقد تناولت كما أوضحنا أهم النقاط التي تعالجها اليوم الجغرافية الطبيعية بمفهوم لا يختلف كثيرًا عن المفهوم الحديث.(1/124)
الخلاصة:
لقد اتضح من استعراض تطور الجغرافية العربية القديمة، أنها قد عالجت أغراضًا متعددة كما أضافت إضافات هامة، وكانت منهاجها في بعض الجوانب قريبة من المناهج الحديثة، ولقد شملت إضافاتها إلى تأريخ الفكر الجغرافي حقولًا متنوعة هي الحقل البلداني، والحقل الطبيعي والحقل الفلكي.
فأما الحقل البلداني، أو ما يسمى بالجغرافية الإقليمية، فيشمل الكتابات الإقليمية والبشرية، وهي تمثل أهم الإضافات الجغرافية العربية إلى العلم الجغرافي القديم. فقد اشتملت على مادة غزيرة عن بلدان العالم القديم ذات جوانب متعددة. ففضلًا عن المعرفة الجغرافية البحتة بجهات نائية، كجهات غربي وأواسط أفريقيا وأواسط آسيا، والهند الصينية والهند وجزر المحيط الهندي، بل وحتى ببعض جهات سيبيريا، فقد أمدتنا بمعلومات طيبة عن شعوب تلك الجهات مما يمكن أن يكون ذا فائدة عظمى في الدراسات التأريخية والأنثروبولوجية، والحقيقة أن المعلومات ذات الصفة البشرية هي أعظم قيمة في كتب الجغرافية العربية من أية معلومات طبيعية، وطوبوغرافية(1/125)
أخرى وهي التي تكسبها أهميتها الخاصة، ففضلًا عن أن تلك المعلومات يمكن أن ترسم لنا بوضوح ما حدث من تغير في المنظر الطبيعي Landescape في كثير من أقطار العالم الإسلامي، فإنها توضح لنا كذلك نوع العلاقة بين البشر وبيئتهم الطبيعية في مختلف المراحل التأريخية، لذلك يمكن القول: إن الجغرافيين العرب والمسلمين كانوا من أوائل من كتب في حقل الجغرافية البشرية، وأن كتاباتهم في هذا الميدان تتفوق في اتساع آفاقها، وتنوعها على كتابات الإغريق والرومان، فلقد تناولوا بالوصف مختلف نواحي الحياة البشرية متحدثين عن العادات والتقاليد والحرف، والأديان والطبقات الإجتماعية والمأكل والملبس، إلى آخر ما يتصل بحياة الإنسان، ولم يقتصروا على هذه الجوانب فحسب، بل طرقوا مواضيع أخرى من مواضيع الجغرافية البشرية، وهي علاقة الإنسان بيئته الطبيعية، ومن المواضيع البشرية الأخرى التي طرقها الجغرافيون العرب والمسلمون، وكانوا روادا فيها ما يطلق عليها في الوقت الحاضر اسم "جغرافية المدن"، وقد ساهم المؤرخون في قسط وافر من هذه الكتابات، وهناك أمثلة عديدة من المؤلفات العربية التي بحثت في وصف المدن وتأريخها، وحفلت بالمعلومات الطوبوغرافية والاقتصادية والبشرية.
ويتصل بالحقل البلداني كتب "الرحلات" التي يمكن القول: إن الكتاب العرب والمسلمين ضربوا بسهم وافر فيها، وأنهم خلفوا ثروة غنية جدا، وفيما عدا هيرودوت لم يشهد الفكر الجغرافي اليوناني والروماني رحالة من طراز المسعودي، أو الإدريسي أو ابن حوقل أو المقدسي أو ابن بطوطة، وقد سبق أن ذكرنا بأن الكتابات الجغرافية العربية، قد اعتمدت من البداية على الخبرة الشخصية، واتخذت من الأسفار هدفًا مركزيًا لها، ولذلك فإن "الرحلة" تمثل الوجه المشرق في الجغرافية العربية، وفي بطونها معين لا ينضب من المعلومات التأريخية والاقتصادية، والأنثروبولوجية عن جميع مناطق العالم القديم.(1/126)
وأما الحقل الطبيعي، فقد تناول بالدرس النواحي المناخية والهيدروغرافية والجيومورفولوجية، ولا يمكننا الادعاء بأن العلماء العرب والمسلمين كانوا مبتكرين فيه دائمًا، غير أنهم أوردوا معلومات جيدة تتعلق بتوزيع الحرارة على سطح الأرض، وعلاقتها بالنبات والحيوان والإنسان، وأثر أشعة الشمس واختلاف زوايا سقوطها في كمية الحرارة، وتوزيع الأقاليم الحرارية على الكرة الأرضية، كما أنهم سجلوا ملاحظات هامة تتعلق بالطبقات الجوية، والأمطار والرياح المختلفة، كما سجلوا ملاحظات جيومورفولوجية هامة تتعلق بتكوين الجبال والسهول، واختلاف توزيع اليابس والماء على الكرة الأرضية باختلاف الأزمان، ويمكن القول: إن الجوانب العملية في الأبحاث الجغرافية الطبيعية العربية تكشف عن استقلال في التفكير عن التأثير اليوناني -الروماني، وخير ما يمثل الجوانب العملية في الجغرافية الطبيعية العربية الدراسات العديدة التي كتبت عن توزيع البحار، والبحيرات والأنهار والنهيرات التي تعكس خبرة، ودراية واسعة لم تتوافر في مؤلفات الجغرافيين الإغريق والرومان.
وأما ما يتعلق بالحقل الفلكي، فلا ريب أن كتابات العلماء العرب والمسلمين تعكس تأثرًا بعلوم الفرس والهنود واليونان، غير أنها في الوقت نفسه تكشف عن الإضافات العظيمة والأساسية التي أنجزوها في هذا الحقل، وإذا كان علم الفلك العربي قد تأثر في طوره المبكر بكتاب بطليموس "المجسطي"، فإن عشرات العلماء العرب والمسلمين قد ساهموا فيما بعد بتطوير هذا العلم، واستقلوا به عن التأثير اليوناني، بل وبلغوا فيه الذروة في العلوم القديمة، وقد أيدوا الفرضيات اليونانية حول الأرض والكواكب، فآمنوا بأن الأرض كروية وأنها ثابتة لا تتحرك في وسط الكون، كما أيدوا بأن الجزء المعمور منها هو الربع الواقع في نصفها الشمالي، وأن الجزء الجنوبي منها غير مسكون، وقد اعتقدوا أيضًا بأن المنطقتين الاستوائية والقطبية غير مسكونتين بسبب شدة حرارة الأولى، وعظم برودة الثانية.(1/127)
كذلك قاموا بإنجاز عملية فلكية عظيمة هي قياس درجة من درجات الطول، وقد مكنهم ذلك من التوصل إلى تقدير مقارب لمحيط الأرض، وقاموا أيضًا بوضع أزياج دقيقة لتعيين حركات الكواكب في أفلاكها، واستخراج مواضعها من السماء، وحققوا في هذا الفن الرياضي براعة عظيمة، ولا تزال الكثير من أسماء النجوم شائعة بمسمياتها العربية في علم الفلك الأوروبي، مثل الدبران Aldebran، والقائد Alkaid، والطائر Altair وبيت الجوزاء Beit Elgueese والمرقب Markab والمرفق Mirfak والرجل Regal وفم الحوت1 Famalhut. وقد أدى تبحرهم في هذا الفن إلى تطوير آلات فلكية عديدة مثل الإصطرلاب التي كانت تستخدم في رصد الكوكب، والبوصلة التي تستخدم في الملاحة البحرية، وإلى ابتكار آلات عديدة مثل الحلقة الصغرى والحلقة الكبرى وسداس الفخري، كذلك أدى الاهتمام البالغ بعلم الفلك إلى بناء المراصد الضخمة في مدن عديدة من بلدان العالم الإسلامي الشاسعة، وكان البعض منها على درجة بالغة من الدقة والضبط، وهكذا تنوعت انجازاتهم في هذا الحقل، فمكنتهم من رصد تحركات النجوم والكواكب في السماء واستخدام مجموعاتها في التعرف على الاتجاهات في عرض البحر، كما مكنهم من تعيين مواقع المدن والبحار والجبال، والبلدان حسب خطوط الطول والعرض، بل ومكنهم أيضًا من رسم خرائط جيدة للأرض.
وهكذا يمكننا القول بأن الجغرافية العربية القديمة التي ظهرت في عهد يطلق عليه في التأريخ الأوروبي اسم "العصور المظلمة"، تمثل في المفاهيم التي توصلت إليها والحقول التي طرقتها، والأفكار التي دانت بها نقلة هامة في تأريخ الفكر الجغرافي العالمي2.
__________
1 د. محمد محمود الصياد -من الوجهة الجغرافية "دراسة في التراث العربي"- بيروت 1971، ص128.
2 د. شاكر خصباك -كتابات مضيئة في التراث الجغرافي العربي- بغداد 1979.(1/128)
الهوامش
...
هوامش:
1 الهمذاني "الحسن بن أحمد" -صفة جزيرة العرب. طبع في ليدن عام 1938، ص173-175.
2 دائرة المعارف الإسلامية "الترجمة العربية" -المجلد السابع. "مادة جغرافيا" -ص11.
3 د. نقولا زيادة -الجغرافية والرحلات عند العرب، دار الكتاب اللبناني، بيروت 1962 ص12.
4 د. عبد الرحمن حميدة -أعلام الجغرافيين العرب. "الطبعة الثانية". دمشق 1980، ص68.
5 أغناطيوس كراتشكوفسكي "ترجمة صلاح الدين هاشم"، تأريخ الأدب الجغرافي العربي. منشورات الجامعة العربية، الجزء الأول، القاهرة 1961، ص405.
6 سهراب -كتاب عجائب الأقاليم السبعة إلى نهاية العمارة، طبع بمطبعة فينا سنة 1347هـ، وهي سنة 1929م بإشراف مزيك، ص5.
7 ابن خرداذبه "أبو القاسم عبيد الله" -المسالك والممالك. منشورات مكتبة المثنى لقاسم الرجب. ص4.
8 ابن رسته "أبو علي أحمد بن عمر" -الأعلاق النفيسة "المجلد السابع". منشورات مكتبة المثنى عن طبعة ليدن، ص8 و12.
9 المسعودي "أبو الحسن علي" -التنبيه والإشراف، منشورات مكتبة خياط، بيروت 1965، ص31.
10 ابن الفقيه الهمذاني "أبو بكر أحمد بن إبراهيم" -مختصر كتاب البلدان- منشورات مكتبة المثنى عن طبعة ليدن لعام 1885، ص3.
11 البيروني "أبو الريحان محمد بن أحمد" -القانون المسعودي "الجزء الأول". منشورات مجلس دائرة المعارف العثمانية بالهند. حيدر أباد 1954.
12 إخوان الصفاء وخلان الوفاء -رسائل إخوان الصفا "الجزء الثاني". منشورات المكتبة التجارية الكبرى لصاحبها مصطفى محمد. القاهرة 1928 ص111.
13 الحموي "ياقوت" -معجم البلدان، طبعة داري صادر وبيروت، 1955 "الجزء الأول".
14 ابن خلدون "عبد الرحمن" -مقدمة ابن خلدون. منشورات المكتبة التجارية الكبرى لصاحبها مصطفى محمد بالقاهرة، ص44.
15 أبو الفدا "عماد الدين إسماعيل" -تقويم البلدان. منشورات مكتبة المثنى عن طبعة رينو ودي سلاف. ص3.
16 الدمشقي "شمس الدين أبو عبد الله الملقب بشيخ الربوة" -نخبة الدهر في عجائب البر والبحر. منشورات مكتبة المثنى عن طبعة المستشرق مهرن. ص9-11.(1/129)
17 إخوان الصفا -ص113.
18 البيروني -القانون المسعودي -ص49-52.
19 كارلو ناللينو -علم الفلك وتأريخه عند العرب في القرون الوسطى، روما -ص251.
20 نفيس أحمد "ترجمة فتحي عثمان": جهود المسلمين في الجغرافيا. "سلسلة الألف كتاب" مطابع دار القلم بالقاهرة. ص192.
21 د. شريف محمد شريف -تطور الفكر الجغرافي- الجزء الأول"، القاهرة 1969 ص211 و330 و408.
22 ابن رسته -ص17-18.
23 ابن الفقيه -ص4-5.
24 المسعودي -التنبيه والإشراف، ص31-32.
25 إخوان الصفا -ص111-112.
26 الحموي -ص19.
27 ابن خلدون -ص45.
28 ابن خلكان -وفيات الأعيان. "الجزء الأول". القاهرة، 1380 هـ. ص79-80.
29 ناللينو -ص287.
30 المصدر السابق -ص290-291.
31 إخوان الصفا -ص120-128.
32 الحموي -ص18-20.
33 نفيس أحمد -ص187.
34 قدري حافظ طوقان -تراث العرب العلمي في الرياضيات والفلك. "الطبعة الثانية"- القاهرة 1954، ص92.
35 كراتشكوفسكي -ص85.
36 نفيس أحمد -ص89.
37 المصدر الأسبق -ص85.
38 المسعودي -التنبيه والإشراف ص33.
39 كراتشكوفسكي -ص87.
40 المصدر السابق -ص18.
41 المصدر السابق -ص24.
42 اليعقوبي "أحمد بن أبي يعقوب" -كتاب البلدان. منشورات المطبعة الحيدرية بالنجف، ص2.
43 ابن حوقل "أبو القاسم محمد" -صورة الأرض. منشورات مكتبة الحياة ببيروت. ص11.
44 المقدسي "شمس الدين أبو عبد الله" -أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم. منشورات مكتبة المثنى عن طبعة ليدن لعام 1906، ص2.(1/130)
45 أبو الفدا -ص2.
46 الحموي -ص25.
47 المصدر السابق -ص26.
48 المصدر السابق -ص27.
49 المصدر السابق -ص26.
50 الإصطخري "أبو إسحاق إبراهيم" -المسالك والممالك "تحقيق الدكتور محمد جابر عبد العال الحيني". القاهرة 1961. ص15.
51 ابن حوقل -ص10.
52 راجع كتاب: "مصادر البكري ومنهجه الجغرافي"، تأليف الدكتور عبد الله يوسف الغنيم، منشورات ذات السلاسل، الكويت1974، ص55-58.
53 راجع: "كتاب الجغرافيا" تأليف أبي الحسن سعيد المغربي. تحقيق الدكتور إسماعيل العربي، بيروت 1970.
54 أبو الفدا، ص72 و73.
55 ابن حوقل، ص126.
56 ألدو ميلي "ترجمة د. عبد الحليم النجار" -العلم عند العرب وأثره في تطور العلم العالمي -القاهرة 1962، ص392-394.
57 كراتشكوفسكي، ص207.
58 الإصطخري -المسالك والممالك، ص15.
59 المصدر السابق، ص15.
60 ابن حوقل، ص10.
61 المقدسي -ص8.
62 المصدر السابق، ص6.
63 ألدو ميلي، ص393.
64 د. صبحي عبد الحكيم وماهر الليثي -علم الخرائط- مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 1966، ص23-25.
65 Erwin Riaz, Genreral Catography, New York 1948, p. 17.
66 حسين فوزي -حديث السندباد القديم -بيروت1977، ص9.
67 البيروني، القانون المسعودي ص537.
68 القزويني "زكريا محمد" -آثار البلاد وأخبار العباد. منشورات دار صادر بيروت، ص617-620.
69 د. حسين مؤنس -تاريخ الجغرافية والجغرافيين في الأندلس- مدريد 1967، ص208.
70 شريف محمد شريف، ص452-453.(1/131)
71 راجع "رحلة ابن فضلان" -تحقيق الدكتور سامي الدهان، منشورات المجمع العلمي العربي بدمشق- عام1959.
72 نفيس أحمد، ص33.
73 د. شاكر خصباك -ابن بطوطة ورحلته- النجف 1971، ص216-217.
74 هـ. وود -"ترجمة شاكر خصباك" الارتياد والكشف الجغرافي. منشورات المكتبة العصرية، بيروت 1967، ص22.
75 راجع كتاب "في الجغرافية العربية" -دراسة للتراث الجغرافي العربي. تأليف الدكتور شاكر خصباك- بغداد 1975، ص102-103.
76 نفيس أحمد، ص270-271.
77 ابن رستة، ص82-83.
78 الإصطخري -الأقاليم "المسالك والممالك" منشورات مكتبة المثنى، ص76-78.
79 ابن الفقيه -ص13-16.
80 الإدريسي "أبو عبد الله محمد" -وصف الهند وما يجاورها من البلاد- من كتاب نزهة المشتاق، منشورات القسم العربي للجامعة الاسلامية في عليكرة، عام 1954، ص32-57.
81 نفيس أحمد -ص242-271.
82 الإدريسي -وصف الهند وما يجاورها، ص8.
83 راجع كتاب: د. شاكر خصباك -ابن بطوطة ورحلته، ص238-245.
84 Kimble, George H. T. Geography In the Middle Ages, London1938, p.59.
85 حسين مؤنس، ص209.
86 كراتشكوفسكي، ص230.
87 بلاشير ودرمون -منتخبات من آثار الجغرافيين في القرون الوسطى "الطبعة الثانية"، ص241-242.
88 المسعودي -التنبيه والإشراف، ص26.
89 المصدر السابق، ص16.
90 المصدر السابق، ص11.
91 المصدر السابق، ص23.
92 المصدر السابق، ص23-24.
93 إخوان الصفا، "الجزء الثاني"، ص64-65.
94 المصدر السابق، ص57.
95 المصدر السابق، ص57.
96 المصدر السابق، ص58.
97 المصدر السابق، ص50-51.
98 المصدر السابق، ص51-52.(1/132)
99 المصدر السابق، ص60.
100 المصدر السابق، ص61.
101 راجع ابن رسته، ص101-102.
102 المسعودي -أخبار الزمان- منشورات دار الأندلس "الطبعة الثانية"، بيروت1966، ص42.
103 المصدر السابق، ص50-71.
104 المسعودي -مروج الذهب ومعادن الجوهر- منشورات المكتبة العصرية لصاحبها محمود حلمي، بغداد 1928، الجزء الأول، ص106-107.
105 المصدر السابق، ص106-107.
106 المصدر السابق، ص107.
107 البيروني -في تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة، منشورات مجلس دائرة المعارف العثمانية بالهند، 1958، ص156.
108 البيروني -القانون المسعودي، ص537.
109 أبو الفدا، ص18-19.
110 الدمشقي -ص128.
111 إخوان الصفا، ص82-83 "الجزء الثاني".
112 س. م. ضياء الدين علوي "ترجمة د. عبد الله الغنيم ود. طه محمد جاد" -الجغرافية العربية في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين- الكويت1980، ص125.
113 الدمشقي -ص129.
114 إخوان الصفا -ص82-83 "الجزء الثاني".
115 ابن الفقيه، ص9.
116 علوي -ص125.
117 إخوان الصفا -ص83.
118 البيروني -ص431.
119 إخوان الصفا، ص87-88.
120 المصدر السابق، ص87.
121 المسعودي -مروج الذهب "الجزء الأول"، ص80.
122 الدمشقي ص125-126.
123 علوي -ص119.
124 د. علي السكري -العرب وعلوم الأرض- منشورات منشأة المعارف بالأسكندرية، الأسكندرية 1973، ص33-34.
125 إخوان الصفا، ص85.
126 البيروني، تحقيق ما للهند من مقولة، ص157.(1/133)
127 نفيس أحمد، ص68.
128 إخوان الصفا -ص81-82.
129 المسعودي -مروج الذهب "الجزء الأول"، ص80.
130 المسعودي -التنبيه والإشراف، ص25.
131 المسعودي -مروج الذهب "الجزء الأول" ص103-104.
132 المصدر نفسه، ص104.
133 السكري، ص28-30.
134 المصدر السابق، ص34.
135 المصدر السابق، ص35.
136 إخوان الصفا، ص86.
137 المصدر السابق، ص84.
138 د. محمد محمود الصياد -من الوجهة الجغرافية "دراسة في التراث العربي"- بيروت 1971، ص128.
139 د. شاكر خصباك -كتابات مضيئة في التراث الجغرافي العربي-بغداد 1979.(1/134)
خرائط للجغرافيين العرب القدامى
...
تمثل هذه الصورة شكلا متعدد الأيدي يصور قدرة كوكب من "عجائب المخلوقات" لمحمد الطوسي.
من القرن العاشر للهجر/ السادس عشر للميلاد.(1/135)
هذه الصورة تمثل رسما بيانيا للبيروني يبين لنا من خلاله خسوفات القمر.(1/136)
سواحل الجزيرة العربية وفارس حسب خريطة الأسطخري. القرن الثامن والتاسع للهجرة/ الرابع عشر والخامس عشر للميلاد.(1/137)
صورة تمثل آسيا الوسطى وما وراء النهر حسب خريطة ابن حوقل المأخوذة من "آيا صوفيا".(1/138)
فهرس:
الصفحة الموضوع
5 علم الجغرافيا عند العرب "مقدمة"
17 أنماط التراث الجغرافي العربي
19 أولًا: المصنفات الفلكية
23 1- المفاهيم حول شكل الأرض وحركتها
33 2- طرق ووسائل تحديد مساحات وحجم الأرض
41 3- تحديد مواقع الأرض فلكيًا
44 ثانيًا: المصنفات البلدانية
52 1- الأخذ بفكرة الإقليم
65 2- إيضاح العلاقات المكانية
65 3- الاهتمام بالخارطة
70 4- الالتزام بالمعلومات الجغرافية
72 معطيات الجغرافية البلدانية
75 قارة أوروبا(1/139)
77 قارة آسيا
88 قارة أفريقيا
93 ثالثًا: المصنفات الكوزموغراية
95 1- الحقل المناخي
103 2- الحقل الهيدروغرافي
116 3- الحقل الجيومورفولوجي
125 الخلاصة
129 الهوامش
135 خرائط للجغرافيين العرب القدامى(1/140)