«أما بعد: فإنَّ القوة في العمل أن لا تؤخروا عمل اليوم لغد، فإنكم إذا فعلتم ذلك تداركت عليكم الأعمال فلا تدرون أيُّها تأخذون فأضعتم؛ فإن خُيِّرتم بين أمرين أحدهما للدنيا والآخر للآخرة، فاختاروا أمر الآخرة على أمر الدنيا، فإنَّ الدنيا تفنى والآخرة تبقى. كونوا من الله على وَجَل، وتعلَّموا كتاب الله فإنه ينابيع العلوم، وربيع القلوب» .
وصية عثمان ذي النورين رضي الله عنه
أخرح الفضائلي الرازي عن العلاء بن الفضل عن أمه قال: لما قُتل عثمان رضي الله عنه فتَّشوا خزانته، فوجدوا فيها صندوقاً مقفلاً، ففتحوه فوجدوا فيه ورقة مكتوب فيها:
g «هذه وصية عثمان: بسم الله الرحمن الرحيم. عثمان بن عفان يشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمداً عبده ورسوله، وأنَّ الجنة حق، وأنَّ النار حق، وأنَّ الله يبعث من في القبور ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد، عليها يحيي، وعليها يموت وعليها يُبعث إن شاء الله» .
وأخرجه أيضاً نظام المُلْك وزاد: ووجدوا في ظهرها مكتوباً:
غنى النفس يُغني النفس حتى يُجلَّها
وإِن غضَّها حتى يَضُرَّ بها الفقرُ
وما عُسرة فاصبر لها إِن لقيتها
بكائنة إِلا سيتبعها يُسْرُ
ومن لم يقاسِ الدهر لم يعرف الأسَى
وفي غَيَر الأيام ما وعد الدهرُ
ذكر ما وقع بين علي وعثمان رضي الله عنهما يوم الدار
وأخرج أبو أحمد عن شدَّاد بن أوس رضي الله عنه قال: لما اشتد الحصار بعثمان رضي الله عنه يوم الدار أشرف على الناس فقال: يا عباد الله،(2/369)
قال: فرأيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه خارجاً من منزله، معتماً بعمامة رسول الله، متقلداً سيفه، أمامه الحسن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - في نفر من المهاجرين والأنصار حتى حملوا على الناس وفرقوهم. ثم دخلوا على عثمان رضي الله عنه فقال له عليٌّ رضي الله عنه: السلام عليك يا أمير المؤمنين، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَلْحَق هذا الأمر حتى ضرب بالمقبل المدبر، وإني - والله - لا أرى القوم إلا قاتليك، فمرنا فلنقاتل. فقال عثمان رضي الله عنه:
«أنشد الله رجلاً رأى لله حقاً، وأقر أنَّ لي عليه حقاً؛ أن يُهريق في سببي ملء حجمة من دم، أو يهريق دمه فيَّ» .
فأعاد عليٌّ رضي الله عنه عليه القول. فأجابه بمثل ما أجابه. قال: فرأيت علياً خارجاً من الباب وهو يقول: اللهمَّ إِنَّك تعلم أنا بذلنا المجهود. ثم دخل المسجد وحضرت الصلاة. فقالوا له: يا أبا الحسن، تقدَّم فصلِّ بالناس. فقال: لا أصلِّي بكم والإِمام محصور، ولكن أصلِّي وحدي، فصلّى وحده وانصرف إلى منزله، فلحقه إبنه وقال: والله يا أبت قد اقتحموا عليه الدار. قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، هم والله قاتلوه. قالو: أين هو يا أبا الحسن؟ قال: في الجنة - والله - زلفى. قالوا: وأين هم يا أبا الحسن؟ قال: في النار والله - ثلاثاً -. كذا في الرياض النضرة في مناقب العشرة.
حديث أبي سَلَمة بن عبد الرحمن في ذلك
وأخرح أبو أحمد عن أبي سَلَمة بن عبد الرحمن قال: دخل أبو قَتادة ورجل آخر على عثمان - رضي الله عنهم - وهو محصور، فاستأذناه في الحج فأذن لهم. فقالا له: إن غلب هؤلاء القوم مع من نكون؟ قال: عليكم بالجماعة. قال: فإن كانت الجماعة هي التي تغلب عليك مع من نكون؟ قال:(2/370)
فالجماعة حيث كانت، فخرجنا فاستقبلنا الحسن بن علي رضي الله عنهما عند باب الدار داخلاً على عثمان رضي الله عنه، فرجعنا معه لنسمع ما يقول: فسلَّم على عثمان ثم قال: يا أمير المؤمنين مرني بما شئت، فقال عثمان:
«يا ابن أخي، إرجع واجلس حتى يأتي الله بأمره» .
فخرج وخرجنا عنه، فاستقبلنا ابن عمر رضي الله عنهما داخلاً إلى عثمان رضي الله عنه، فرجعنا معه نسمع ما يقول، فسلَّم على عثمان رضي الله عنه ثم قال: يا أمير المؤمنين، صحبتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعتُ وأطعتُ، ثم صحبتُ أبا بكر رضي الله عنه فسمعتُ وأطعتُ، ثم صحبتُ عمر رضي الله عنه فسمعتُ وأطعتُ ورأيتُ له حقَّ الوالد وحقَّ الخلافة، وها أنا طوع يديك يا، فمرني بما شئت، فقال عثمان رضي الله عنه:
«جزاكم الله يا آل عمر خيراً - مرتين - لا حاجة لي في إِراقة الدم.
كذا في الرياض النضرة في مناقب العشرة.
حديث أبي هريرة رضي الله عنه في ذلك
وأخرج أبو عمر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إِني لمحصور مع عثمان رضي الله عنه في الدار. قال: فرُمِيَ رجل منَّا، فقلت: يا أمير المؤمنين الآن طاب الضِّراب، قتلوا منا رجلاً. قال:
«عزمتُ عليك يا أبا هريرة إِلا رميتَ سيفك، فإنما تُراد نفسي وسَأقِي المؤمنين بنفسي» .
قال أبو هريرة رضي الله عنه: فرميت سيفي لا أدري أين هو حتى(2/371)
الساعة. كذا في الرياض النضرة في مناقب العشرة.
وصايا علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأمرائه كتابه رضي الله عنه لبعض عماله
أخرج الدِينَوَري، وابن عساكر عن معاجر العارمي قال: كتب علي بن أبي طالب رضي الله عنه عهداً لبعض أصحابه على بلد فيه:
«أما بعد: فلا تُطوِّلن حجابك على رعيتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعية شُعْبة عن الضِّيق، وقلّة علم من الأمور، والاحتجاب يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه، فيُصغَّر عندهم الكبير، ويعظَّم الصغير، ويُقبَّح الحسن، ويحسَّن القبيح، ويُشاب الحق بالباطل؛ وإِنما الولي بعشَرٌ لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور، وليست على القول سمات يعرف بها صروفُ الصدق من الكذب، فيحصن من الإِدخال في حقوق بلين الحجاب. فإنا أنت أحد رجلين: إِما أمرؤ سخت نفسك بالبذل في الحق فتقيم إحتجابك من حق تعطيه أو خلق كريم تسْديه، وإِما مبتلى بالمنع، فما أسرع كف الناس عنك وعن مسائلتك إذا يئسوا عن ذلك؛ مع أن أكثر حاجات الناس إليك لا مؤنة(2/372)
فيه عليك من مشكاة مظلمة أو طلب إنصاف. فانتفع بما وصفت، واقتصر على حظك ورشدك إن شاء الله» .
كذا في منتخب الكنز.
كتابه أيضاً رضي الله عنه لبعض عماله
وأخرج الدينوري، وابن عساكر عن المدائني قال: كتب علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى بعض عماله:
«رويداً، فكأن قد بلغت المدى، وعُرضتْ عليك أعمالك بالمحلِّ الذي ينادي المغتر بالحسرة، ويتمنى المضيِّع التوبة، والظالم الرجعة» .
كذا في منتخب الكنز.
وصيته رضي الله عنه لعامل عكبرا
وأخرج ابن زنجويه عن رجل من ثقيف قال: إستعملني علي بن أبي طالب رضي الله عنه على عُكْبَرا، فقال لي وأهل الأرض عندي:
«إنَّ أهل السواد قوم خُدَّع فلا يخدعنَّك، فاستوفِ ما عليهم» .
ثم قال لي: رُحْ إليّ. فلما رجعت إليه قال لي:
«إنما قلت لك الذي قلت وسمعهم، لا تضربنَّ رجلاً منهم بسَوْط في طلب درهم، ولا تُقِمْه قائماً، ولا تأخذنَّ منهم شاة ولا بقرة، إنما أُمرنا أن نأخذ منهم العفْوَ، أتدري ما العفو؟ الطاقة» .
كذا في الكنز.(2/373)
وأخرجه البيهقي أيضاً، وفي حديثه: ولا تبيعنَّ لهم رزقاً ولا كسوة شتاء ولا صيف ولا دابة يعتملون عليها، ولا تُقِم رجلاً قائماً في طلب درهم. قال: قتل: يا، إذاً أرجع إليك كما ذهبت من عندك؟ قال: وإن رجعت كما ذهبت، ويحك إنما أمرنا أن نأخذ منهم العفو - يعني الفَضْل -.
نصيحة الرعية الإِمام نصيحة سعيد بن عامر لأمير المؤمنين عمر
أخرج ابن سعد، وابن عساكر عن مكحول أنَّ سعيد بن عامر بن جِذْيم الجُمحي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إِني أريد أن أوصيك يا عمر، قال: أجل فأوصني، قال:
«أوصيك أن تخشى الله في الناس، ولا تخشَ الناس في الله، ولا يختلف قولك وفعلك، فإن خير القول ما صدَّقه الفعل، لا تقض في أمر واحد بقضاءين فيختلف عليك أمرك وتزيغ عن الحق، وخُذْ بالأمر ذي الحجة تأخذ بالفَلْج، ويعينك الله ويصلح رعيتك على يديك، وأقم وجهك وقضاءك لمن ولاك الله أمره من بعيد المسلمين وقريبهم، وأحبّ لهم ما تحب لنفسك وأهل بيتك، واكره لهم ما تكره لنفسك وأهل بيتك، وخُضْ الغمراتِ إلى الحق، ولا تخف في الله لومة لائم» .
فقال عمر: من يستطيع ذلك؟ فقال سعيد: مثلك، من ولاه الله أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم ثم لم يحل بينه وبين الله أحد. كذا في منتخب الكنز.(2/374)
حديث عبد الله بن بريدة في هذا الأمر
وأخرج ابن راهَوَيْه، والحارث، ومسدَّد، وأبو يعلى - وصحّح - عن عبد الله بن بريدة أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه جمع الناس لقدوم الوفد فقال لازنة بن أرقم: أنظر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فأذن لهم أول الناس، ثم القَرَن الذين يلونهم. فدخلوا فصُفُّوا قدَّامه فنظر، فإذا رجل ضخم عليه مُقَطَّعة برود، فأومأ إِليه عمر رضي الله عنه فأتاه. فقال عمر: إيهِ - ثلاث مرات - فقال الرجل: إِيهِ - ثلاث مرات - فقال عمر: أفّ، قُمّ، فقام فنظر فإذا الأشعري - رجل أبيض، خفيف الجسم، قصير ثَبْط - فأومأ إليه فأتاه فقال عمر؛ إِيه، فقال الأشعري: إِيهِ، قال عمر: إِيهِ، فقال: يا أمير المؤمنين إفتح حديثاً فنحدثك. فقال عمر: أفّ، قم، فإنه لن ينفعك راعي ضأن. فنظر فإذا رجل أبيض، خفيف الجسم، فأومأ إليه فأتاه، فقال عمر: إِيهِ، فوثب فحمد الله، وأثنى عليه، ووعظ بالله ثم قال:
«إنكَ وَلِيت أمر هذه الأمة، فاتَّق الله فيما وَلِيت من أمر هذه الأمة وأهل رعيتك في نفسك خاصّة، فإنك محاسب ومسؤول، وإِنما أنت أمين، وعليك أن تؤدِّي ما عليك من الأمانة فتعطى أجرك على قدر عملك» .
فقال: ما صدقني رجل منذ استخلفت غيرك. من أنت؟ قال: أنا ربيع(2/375)
بن زياد. فقال: أخو المهاجر بن زياد؟ قال: نعم. فجهَّز عمر جيشاً واستعمل عليه الأشعري، ثم قال: أنظر ربيع بن زياد فإن يَكُ صادقاً فيما قال فإنَّ عنده عوناً على هذا الأمر فاستعمله، ثم لا يأتين عليكم عَشَرَة إلا تعاهدت منه عمله، وكتبت إِليّ بسيرته في عمله حتى كأني أنا الذي استعملته، ثم قال عمر: عهد إلينا نبينا صلى الله عليه وسلم فقال:
«إِنَّ أخوف ما أخشى عليكم بعدي منافق عليم اللسان» .
كذا في كنز العمال.
كتاب أبي عبيدة ومعاذ إلى عمر وكتابه إليهما
وأخرح أبو نعيم في الحلية عن محمد بن سُوقة قال: أتيت نُعيم بن أبي هند فأخرج إليّ صحيفة فإذا فيها:
من أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل إِلى عمر بن الخطاب: سلام عليك، أما بعد: فإن عهدناك وأمر نفسك لك مهمٌّ، فأصبحت قد وُليت أمر هذه الأمة أحمرها وأسودها، يجلس بين يديك الشريف والوضيع، العدو والصديق، ولكل حصتُه من العدل، فانظر كيف أنت عند ذلك يا عمر. فإنا نحذِّرك يوماً تَعْنا فيه الوجوه، وتجفّ فيه القلب، وتنقطع فيه الحجج لحجة ملك قهرهم بجبروته؛ فالخلق داخرون له، يرجون رحمته، ويخافون عقابه. وإِنّا نُحدَّث أنَّ أمر هذه الأمة سيرجع في آخر زمانها إِلى أن يكونوا إِخوان العلانية، أعداء السريرة؛ وإنا نعوذ بالله أن ينزل كتابنا إِليك سوى المنزل الذي نزل من قلوبنا، فإنما كتبنا به نصيحة لك، والسلام عليك» .(2/376)
فكتب إِليهما عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه:
«من عمر بن الخطاب إِلى أبي عبيدة، ومعاذ، سلام عليكما. أما بعد: أتاني كتابما، تَذْكران أنكما عهدتماني وأمر نفسي لي مهم، فأصبحت قد وُلِّيت أمر هذه الأمة أحمرها وأسودها، يجلس بين يديَّ الشريف والوضيع، والعدو والصديق، ولكل حصته من العدل؛ كتبتما: فانظر كيف أنت عند ذلك يا عمر. وإنَّه لا حول ولا قوة لعمر عند ذلك إلا بالله عزّ وجلّ. وكتبتما تحذِّراني ما حُذِّرت منه الأمم قبلنا، وقديماً كان إختلاف الليل والنهار بآجال الناس يقرِّبان كل بعيد، ويبليان كل جديد، ويأتيان بكل موعود حتى يصير الناس إلى منازلهم من الجنة والنار. كتبتما تحذراني: أنَّ أمر هذه الأمة سيرجع في آخر زمانها إلى أن يكونوا إِخوان العلانية أعداء السريرة، ولستم بأولئك، وليس هذا بزمان ذاك، وذلك زمان تظهر فيه الرغبة والرهبة، تكون رغبة الناس بعضهم إلى بعض لصلاح دنياهم. كتبتما تعوذاني بالله أن أُنزل كتابكما سوى المنزل الذي نزل من قلوبكما؛ وإنكما كتبتما به نصيحة لي وقد صدَقتُما، فلا تَدَعا الكتاب إِليَّ فإنه لا غنى بي عنكما، والسلام عليكما» .
وصية أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وصيته رضي الله عنه للمسلمين عند وفاته بالأردن(2/377)
عن سعيد بن المسيِّب قال: لما طُعِن أبو عبيدة رضي الله عنه بالأردن دعا من حضره من المسلمين وقال:
«إنِّي موصيكم بوصية إن قبلتموها لن تزالوا بخير: أقيموا الصلاة، وصوموا شهر رمضان، وتصدَّقوا، وحجُّوا، واعتمروا، وتواصَوا، وانصحوا لأمرائكم ولا تَغَشوهم؛ ولا تلهكمم الدنيا، فإنَّ أمرأ لو عُمِّر ألف حول ما كان له بدٌّ من أن يصير إلى مصرعي هذا الذي ترون، إن الله تعالى كتب الموت على بني آدم فهم ميتون، فأكْيَسهم أطوعهم لربه، وأعملهم ليوم معاده. والسلام عليكم ورحمة الله. يا معاذ بن جبل صلِّ بالناس» .
ومات رحمه الله. فقام معاذ رضي الله عنه في الناس فقال:
«أيها الناس، توبوا إلى الله من ذنموبكم، فأيُّما عبدٍ يلقى الله تعالى تائباً من ذنبه إلا كان على الله حقاً أن يغفر له. من كان عليه دَيْن فليقضِه، فإنَّ العبد مُرْتَهنٌ بدَيْنه. ومن أصبح منكم مهاجراً أخاه فليلقه فليصالحه، ولا ينبغي لمسلم أن يهجر أخاه أكثر من ثلاثة أيام. أيها المسلمون، قد فُجعتم برجل ما أزعم أني رأيت بعداً أبرَّ صدراً لا أبعد من الغائلة ولا أشد حباً للعامة ولا أنصح منه. فترحَّموا عليه. واحضروا الصلاة عليه» .
كذا في الرياض النضرة في مناقب العشرة للمحب الطبري.
سيرة الخلفاء والأمراء سيرة أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه سيرته رضي الله عنه قبل تولِّي الخلافة وبعدها
أخرج ابن سعد عن ابن عمر، وعائشة، وابن المسيِّب وغيرهم رضي الله عنهم - دخل(2/378)
حديث بعضهم في حديث بعض - قالوا: بويع أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوم قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الإِثنين لاثنتي عشرة ليلة خلَت من شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان منزله بالسُّنْح عند زوجته حبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير من بني الحارث بن الخزرج، وكان قد حجَّر عليه حُجْرة من شعر، فما زاد على ذلك حتى تحوَّل إلى منزله بالمدينة، فأقام هناك بالسُّنْح بعدما بويع له ستة أشهر يغدو على رجليه إلى المدينة، وربما ركب على فرس له وعليه إزار، ورداء مُمَشَّق، فيوافي المدينة فيصلِّي الصلوات بالناس، فإذا صلَّى العشاء رجع إلى أهله بالسُّنْح، فكان إذا حضر صلَّى بالناس، وإذا لم يحضر صلَّى عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وكان يقوم يوم الجمعة في صدر النهار بالسُّنْح يصبغ رأسه ولحيته، ثم يروح لَقَدر الجمعة فيُجَمِّع بالناس.
وكان رجلاً تاجراً فكان يغدو كل يوم السوق فيبيع ويبتاع. وكانت له قطعة غنم تروح عليه وربما خرج هو نفسه فيها، وربما كُفِيَها فرُعِيت له. وكان يحلب للحيّ أغنامهم، فلما بُويع له بالخلافة قالت جارية من الحيّ: الآن لا تُحلب لنا مَنائح دارنا، فسمعها أبو بكر رضي الله عنه فقال: بلى لعمري لأحلُبَنَّها لكم، وإنِّي لأرجو أن لا يغيِّرني ما دخلت فيه عن خُلِق كنت عليه، فكان يحلب لهم فربما قال للجارية من الحي: يا جارية أتحبين أن أرغي لكل أو أُصَرِّح، فربما قالت: صرِّح، فأي ذلك قالت فعل.
فمكث كذلك بالسنح ستة أشهر ثم نزل إلى المدينة، فأقام بها ونظر في(2/379)
أمره، فقال: لا والله ما يُصلح أمر الناس التجارة، وما يصلح لهم إلا التفرغ، والنظر في شأنهم، وما بُدٌّ لعيالي ممّا يصلحهم، فترك التجارة، واستنفق من مال المسلمين ما يصلحه ويصلح عياله يوماً بيوم، ويحج، ويعتمر، وكان الذي فرضوا له كل سنة ستة آلاف درهم. فلما حضرته الوفاة قال: ردّوا ما عندنا من مال المسلمين فإنِّي لا أُصيب من هذا المال شيئاً، وإِن أرضي التي بمكان كذا وكذا للمسلمين بما أصبت من أموالهم. فدُفع ذلك إلى عمر ولَقوح، وعبد صَيْقَل، وقطيفة ما يساوي خمسة دراهم. فقال عمر رضي الله عنه: لقد أتعب مَنْ بعده.
قالوا: واستعمل أبو بكر رضي الله عنه على الحج سنة إحدى عشرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم اعتمر أبو بكر رضي الله عنه في رجب سنة إثنتي عشرة، فدخل مكة ضَحْوة، فأتى منزله وأبو قحافة رضي الله عنه جالس على باب داره، معه فتيان أحداث يحدّثهم إلى أن قيل له: هذا إبنك، فنهض قائماً وعَجِل أبو بكر رضي الله عنه أن ينيخ راحلته فنزل عنه وهي قائمة، فجعل يقول: يا أبتِ لا تقم، ثم لاقاه فالتزمه وقبَّل بين عيني أبي قحافة، وجعل الشيخ يبكي فرحاً بقدومه. وجاء إلى مكة عتَّاب بن أسِيد، وسهيل بن عمرو، وعِكرمة بن أبي جهل، والحارث بن هشام - رضي الله عنهم - فسلَّموا عليه: سلام عليك يا خليفة رسول الله، وصافحوه جميعاً، فجعل أبو بكر - رضي الله عنه - يبكي حين يذكرون رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سلَّموا على أبي قحافة. فقال أبو قحافة: يا عتيق، هؤلاء الملأ فأحسن صحبتهم، فقال أبو بكر: يا أبت لا حول ولا قوة إلا بالله، طُوِّقت عظيماً من الأمر لا قوة لي به ولا يدان إلا بالله.
ثم خل فاغتسل وخرج وتبعه أصحابه فنحَّاهم، ثم قال: أمشوا على(2/380)
رِسْلكم، ولقيه الناس يتمشّون في وجهه ويُعزُّونه بنبي الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي، حتى انتهى إلى البيت، فاضطبع بردائه، ثم استلم الركن ثم طاف سبعاً، وركع ركعتين ثم انصرف إلى منزله. فلما كان الظهر خرج فطاف أيضاً بالبيت ثم جلس قريباً من دار النَّدْوة فقال: هل من أحد يتشكَّى من ظُلامة أو يطلب حقاً؟ فما أتاه أحد، وأثنى الناس على واليهم خيراً، ثم صلَّى العصر وجلس فودَّعه الناس ثم خرج راجعاً إلى المدينة. فلما كان وقت الحج سنة إثنتي عشرة حجَّ أبو بكر - رضي الله عنه - بالناس تلك السنة، وأفرد الحج، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان - رضي الله عنه -. قال ابن كثير: هذا سياق حسن، وله شواهد من وجوه أخر، ومثل هذا تقبله النفوس وتلقَّاه بالقبول.
قصة عمير بن سعد الأنصاري رضي الله عنه سيرته لما بعثه عمر رضي الله عنهما عاملاً على حمص وقول عمر فيه
أخرج أبو نعيم في الحلية عن عبد الملك بن هارون بن عنترة عن أبيه عن جده عن عمير بن سعد الأنصاري - رضي الله عنه - قال: بعثه عمر بن الخطاب رضي الله عنه عاملاً على حمص، فمكث حولاً لا يأتيه خبره. فقال عمر لكاتبه: أكتب إلى عمير، فوالله ما أراه إِلا قد خاننا.
«إذا جاءك كتابي هذا فأقبل، وأقبل بما جبيت من فيء المسلمين حين تنظر في كتابي هذا» .
فأخذ عمي - رضي الله عنه - جرابه، فجعل فيه زاده وقصعته، وعلَّق إداوته، وأخذ عَنَزَته، ثم أقبل يمشي من حمص حتى دخل المدينة. قال:(2/381)
فقدم وقد شحب لونه واغبرَّ وجهه وطالت شَعْرته. فدخل على عمر رضي الله عنه وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال عمر: ما شأنك؟ فقال عمير: ما ترى من شأني؟ ألست تراني صحيح البدن، طاهر الدم، معي الدنيا أجرُّها بقَرنها. قال: وما معك؟ فظن عمر رضي الله عنه أنه قد جاء بال. فقال: معي جرابي أجعل فيه زادي، وقَصْعتي آكل فيها وأغسل فيها رأسي وثيابي، وإداوتي أحمل فيها وَضوئي وشرابي، وعَنَزَتي أتوكأ عليها وأُجاهد به عدواً إن عرض؛ فوالله ما الدنيا إلا تبع لمتاعي. قال عمر: فجئت تمشي؟ قال: نعم. قال: أما كان لك أحد يتبرع لك بدابة تركبها؟ قال: ما فعلوا وما سألتهم ذلك. فقال عمر - رضي الله عنه -: بئس المسلمون خرجت من عندهم. فقال له عمير - رضي الله عنه -: إتَّق الله يا عمر، قد نهاك الله عن الغيبة، وقد رأيتُهم يصلّون صلاة الغداة.
قال عمر: فأين بعثتك؟ - وفي رواية الطبراني: فأين ما بعثتك به؟ - وأي شيء صنعت؟ قال: وما سؤالك يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر: سبحان الله فقال عمير: أما لولا أنِّي أخشى أن أغمَّك ما أخبرتك، بعثتني حتى أتيت البلد، فجمعت صُلَحاء أهلها فوليتهم جباية فيْئِهم، حتى إذا جمعوه وضعته مواضعه ولو نالك منه شيء لأتيتك به. قال: فما جئتنا بشيء؟ قال: لا. قال: جدِّدوا لعمير عهداً. قال: إنَّ ذلك لشيء لا عملت لك ولا لأحد بعدك، والله ما سلمت بل لم أسلم، لقد قلت لنصراني - أي أخزاك الله - فهذا ما عرضتني له يا عمر وإن أشقَى أيامي يوم خُلِّفت معك يا عمر؛ فاستأذنه فأذن له فرجع إلى منزله، قال: وبينه وبين المدينة أميال.
فقال عمر - رضي الله عنه - حين انصرف عمير: ما أراه إلا قد خاننا، فبعث رجلاً يقال له الحارث وأعطاه مائة دينار، فقال له: إنطلق إلى عمير حتى(2/382)
تنزل به كأنك ضيف، فإن رأيت أثر شيء فأقبل، وإِن رأيت حالة شديدة فادفع إليه هذه المائة الدينار.e فانطلق الحارث فإذا هو بعُمير جالس يَفلي قميصه إلى جانب الحائط. فسلَّم عليه الرجل، فقال له عُمَير: أنزل - رحمك الله - فنزل. ثم سأله فقال: من أين جئت؟ قال: من المدينة. قال: فكيف تركت أمير المؤمنين؟ قال: صالحاً. قال: فكيف تركت المسلمين؟ قال: صالحين. قال: أليس يقيم الحدود؟ قال: بلى، ضرب إبناً له أتى فاحشة، فمات من ضربه. فقال عمير: اللهمَّ أعِن عمر، فإني لا أعلمه إلا شديداً حبه لك. قال: فنزل به ثلاثة أيام وليس لهم إلا قرصة من شعير كانوا يخصُّونه بها ويطوون حتى أتاهم الجهد. فقال له عمير: إنك قد أجعتنا فإن رأيت أن تتحول عنا فافعل. قال: فأخرج الدنانير فدفعها إليه فقال: بعث بها إليك أمير المؤمنين فاستعن بها. قال: فصاح، وقال: لا حاجة لي فيها ردَّها. فقالت له إمرأته: إن احتجت إِليها وإلا فضعها مواضعها. فقال عمير: والله ما لي شيء أجعلها فيه، فشقَّت إمرأته أسفل درعها فأعطته خِرقة فجعلها فيها. ثم خرج فقسمها بين أبناء الشهداء والفقراء، ثم رجع والرسول يظن أنه يعطيه منها شيئاً. فقال له عمير: إقرأ مني أمير المؤمنين السلام.
فرجع الحارث إلى عمر، فقال: ما رأيت؟ قال: رأيت يا أمير المؤمنين حالاً شديداً. قال: فما صنع بالدنانير؟ قال: لا أدري. قال: فكتب إليه عمر إذا جاءك كتابي هذا فلا تضعه من يدك حتى تقبل. فأقبل إلى عمر فدخل عليه فقال له عمر: ما صنعت بالدنانير؟ قال: صنعت ما صنعت وما سؤالك عنها؟ قال: أنشد عليك لتخبرنِّي ما صنعت بها؟ قال: قدَّمتها لنفسي. قال: رحمك الله، فأمر له بوَسْق من طعام وثوبين. فقال: أما الطعام فلا حاجة لي فيه قد تركت في المنزل صَاعَين من شعير إلى أن آكل ذلك قد جاء الله تعالى بالرزق، ولم يأخذ(2/383)
الطعام. وأما الثوبان فقال: إنَّ أُم فلان عارية، فأخذهما ورجع إلى منزله فلم يلبث أن هلك، رحمه الله. فبلغ عمر ذلك فشقَّ عليه وترحَّم عليه، فخرج يمشي ومعه المشاؤون إلى بقيع الغرقد، فقال لأصحابه: لِيَتَمنَّ كل رجل منكم أمنية. فقال رجل: وددت يا أمير المؤمنين أنَّ عندي مالاً فأعتق لوجه الله عزّ وجلّ كذا وكذا. وقال آخر: وددت يا أمير المؤمنين أنَّ عندي مالاً فأنفق في سبيل الله، وقال آخر: وددت لو أنَّ لي قوة فأمتح بدلو زمزم لحجّاج بيت الله. فقال عمر: وددت أنَّ لي رجلاً مثل عمير بن سعد أستعين به في أعمال المسلمين. وأخرجه الطبراني أيضاً مثله عن عمير بن سعد. قال الهيثمي: وفيه عبد الملك بن إبراهيم بن عنترة وهو متروك. انتهى. هكذا وقع عند الهيثمي، والذي يظهر أن الصواب عبد الملك بن هارون بن عنترة كما في كتب أسماء الرجال، وقد أخرج ابن عساكر من طريق محمد بن مزاحم بطوله بمعناه مع زيادات، كما في الكنز.
قصة سعيد بن عامر بن حذيم الجمحي رضي الله عنه سيرته رضي الله عنه وهو عالم بحمص
أخرج أبو نعيم في الحلية عن خالد بن معدان قال: إستعمل علينا عمر بن الخطاب بحمص سعيد بن عامر بن حذيم الجمحي - رضي الله عنه -. فلما قدم عمر بن الخطاب حمص قال: يا أهل حمص، كيف وجدتم(2/384)
عاملكم؟ فشكوه إليه - وكان يقال لأهل حمص الكُوَيفة الصغرى لشكايتهم العمال - قالوا: نشكوا أربعاً: لا يخرج إِلينا حتى يتعالَى النهار. قال: أعْظِم بها. قال: وماذا قالوا: لا يجيب أحداً بليل. قال: وعظيمة. قال: وماذا؟ قالوا: وله يوم في الشهر لا يخرج فيه إلينا. قال: عظيمة. قال: وماذا؟ قالوا: يغنظ الغنظة بين الأيام - يعني تأخذه مُوتَة -.
قال: فجمع عمر رضي الله عنه بينهم وبينه وقال: اللهمّ لا تفل رأيي فيه اليوم، ما تشْكون منه؟ قالوا: لا يخرج إِلينا حتى يتعالى النهار. قال: والله إن كنت لأكره ذكره؛ ليس لأهلي خادم، فأعجن عجيني، ثم أجلس حتى يختمر، ثم أخبز خبزي، ثم أتوضأ ثم أخرج إليهم. فقال: ما تشْكون منه؟ قالوا: لا يجيب أحداً بليل. قال ما تقول؟ قال: إن كنت لأكره ذكره؛ إنِّي جعلت النهار لهم، وجعلت الليل لله عزّ وجلّ. قال: وما تشكون؟ قالوا: إنَّ له يوماً في الشهر لا يخرج إلينا فيه. قال: ما تقول؟ قال: ليس لي خادم يغسل ثيابي ولا لي ثياب أبلها. قال: ما تشكون منه؟ قالوا: يغنظ الغنظة بين الأيام. قال: ما تقول؟ قال: شهدت مصرع خُبَيب الأنصاري رضي الله عنه بمكة، وقد بضَّعت قريش لحمه، ثم حملوه على جذعة فقالوا؛ أتحب أن محمداً مكانك؟ فقال: والله ما أحب أنِّي في أهلي وولدي وأن محمداً صلى الله عليه وسلم شِيك بشوكة، ثم نادى: يا محمد، فما ذكرت ذلك اليوم، وتَرْكي نُصرته في تلك الحال، وأنا مشرك لا أؤمن بالله العظيم؛ إلا ظننت أن الله عزّ وجلّ لا يغفر لي بذلك الذنب أبداً. قال: فتصيبني تلك الغنظة. فقال عمر: الحمد لله الذي لم يفل فراستي.(2/385)
فبعث إليه بألف دينار وقال: إستعن بها على أمرك، فقالت إمرأته: الحمد لله الذي أعنانا عن خدمتك، فقال لها: فهل لك في خير من ذلك؟ ندفعها إِلى من يأتينا بها أحوج ما نكون إليها، قالت: نعم. فدعا رجلاً من أهل بيته يثق به فصرَّرها صرراً، ثم قال: إنطلق بهذه إلى أرملة آل فلان، وإِلى يتيم آل فلان، وإِلى مسكين آل فلان، وإِلى مُبتَلى آل فلان. فبقيت منها ذُهيبة. فقال: أنفقي هذه، ثم عاد إلى عمله. فقالت: ألا تشتري لنا خادماً؟ ما فعل ذلك المال. قال: سيأتيك أحوج ما تكونين.
قصة أبي هريرة رضي الله عنه
أخرج أبو نعيم في الحلية عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي أن أبا هريرة - رضي الله عنه - أقبل في السوق يحمل حزمة حطب - وهو يومئذٍ خليفة لمروان - فقال: أوسع الطريق للأمير يا ابن أبي مالك، فقلت له: يكفي هذا، فقال: أوسع الطريق للأمير، والحزمة عليه.(2/386)
الباب الثامن باب إنفاق الصحابة في سبيل الله
كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ينفقون الأموال وما أعطاهم الله تبارك وتعالى في سبيل الله ومواقع رضاء الله، وكيف كان ذلك أحبَّ إليهم من الإِنفاق على أنفسهم، وكيف كانوا يُؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة(2/387)
باب إنفاق الصحابة في سبيل الله ترغيب النبي عليه السلام وأصحابه ورغبتهم في الإِنفاق ترغيب النبي صلى الله عليه وسلم على الإِنفاق حديث جرير رضي الله عنه في هذا الأمر
أخرج مسلم والنسائي وغيرهما عن جرير رضي الله عنه قال: كنا في صَدْر النهار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه قوم عُراة حُفاة مُجْتابي النَّمار - أو العباء - متقلِّدي السيوف، عامتهم من مُضَر بل كلُّهم من مُضَر؛ فتَمَعَّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لِمَا رأى ما بهم من الفاقة. فدخل ثم خرج فأمر بلالاً رضي الله عنه فأذَّن وأقام، فصلى ثم خطب فقال: {يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ} - إلى آخر الآية -: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (النساء: 1) ،(2/389)
والآية التي في الحشر: {اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} (الحشر: 18) . تَصَدَّق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُرِّه، من صاع تمره حتى قال: ولو بِشِقِّ تمره.
قال فجاء رجل من الأنصار بصرَّة كادت كفه تعجِز عنها بل عجزت. قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومَين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مَذْهَبة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من سنَّ في الإِسلام سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل به من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإِسلام سنّة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» . كذا في الترغيب. وقد تقدّم حديث حثِّه صلى الله عليه وسلم على الإِنفاق في سبيل الله.
حديث جابر رضي الله عنه في هذا الأمر
وأخرج الحاكم - وصحّحه - عن جابر رضي الله عنه قال: أتى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بني عمرو بن عوف يوم الأربعاء، فذكر الحديث إلى أن قال: «يا معشر الأنصار» ، قالوا: لبيك يا رسول الله، فقال: «كنتم في الجاهلية إذ لا تعبدون الله تحملون الكَلّ، وتفعلون في أموالكم المعروف، وتفعلون إلى ابن السبيل، حتى إذا منَّ الله عليكم بالإِسلام وبنبيّه إذا أنتم تُحصِّنون أموالكم؟ فيما يأكل ابن آدم آجر، وفيما يأكل السبع والطير أجر» . قال: فرجع القوم فما(2/390)
منهم أحد إلا هدم من حديقته ثلاثين باباً. كذا في الترغيب.
خطبة النبي عليه السلام في فضيلة السخاء ومذمة اللؤم
وأخرج ابن عساكر عن أنس رضي الله عنه قال: أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وقال:
«يا أيها الناس، إنَّ الله قد اختار لكم الإِسلام ديناً، فأحسنوا صحبة الإِسلام بالسَّخاء وحسن الخلق. ألا إِن السخاء شجرة من الجنة وأغصانها من الدنيا، فمن كان منكم سخياً لا يزال متعلَّقاً بغصن منها حتى يورده الله الجنة. ألا إن اللؤم شجرة في النار وأغصانها في الدنيا، فمن كان منكم لئيماً لا يزال متعلقاً بغصن منها حتى يورده الله في النار. قال مرتين: السخاء في الله، السخاء في الله» كذا في كنز العمال.
رغبة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الإِنفاق حديث عمر رضي الله عنه في هذا الأمر
أخرج الترمذي عن عمر رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه، فقال: «ما عندي ما أعطيك، ولك ابتَعْ عليَّ شيئاً فإذا جاءني شيء قضيته» . فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله، قد أعطيته فما كلَّفك الله ما لا تقدر عليه. فكره النبي صلى الله عليه وسلم قول عمر، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أنفق ولا تخشَ من ذي العرش إقلالاً. فتبسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف التبسم في وجهه لقول الأنصاري، وقال: «بهذا أمرت» . كذا في البداية. وأخرجه أيضاً(2/391)
البزّار، وابن جرير، والخرائطي في مكارم الأخلاق، وسعيد بن منصور كما في الكنز. قال الهيثمي: رواه البزّار، وفيه إسحاق بن إبراهيم الحنيني وقد ضعَّفه الجمهور ووثَّقه ابن حِبّان وقال يخطىء.
حديث جابر رضي الله عنه في هذا الأمر
وأخرج ابن جرير عن جابر رضي الله عنه أنَّ رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فأعطاه، ثم أتاه آخر فسأله فوعده؛ فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، سُئلت فأعطيت، ثم سُئلت فأعطيت، ثم سُئلت فوعدت، ثم سئلت فوعدت، فكأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كرهها؛ فقام عبد الله بن حُذافة السَّهْمي رضي الله عنه فقال: أنفق يا رسول الله، ولا تخشَ من ذي العرش إقلالاً، فقال: «بذلك أُمرت» . كذا في الكنز.
حديث ابن مسعود رضي الله عنه في أمره عليه السلام بلالاً بالإِنفاق
وأخرج البزّار بإسناد حسن والطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم على بلال رضي الله عنه وعنده صُبَر من تمر فقال: «ما هذا يا بلال؟» قال: أعدُّ ذلك لأضيافك. قال: «أما تخشى أن يكون لك دخان في نار جهنم، أنفق يا بلال ولا تخشَ من ذي العرش إقلالاً» . وأخرجه أبو نعيم في الحلية عن عبد الله ونحوه، ورواه أبو يَعْلى والطبراني عن أبي(2/392)
هريرة رضي الله عنه بنحوه بإسناد حسن، كذا في الترغيب.
حديث أنس رضي الله عنه فيما كان بين النبي عليه السلام وخادمه
وأخرج أبو يَعْلى عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أُهديت للنبي صلى الله عليه وسلم ثلاث طوائر، فأطعم خادمه طائراً. فلما كان من الغد أتته بها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألم أنهك أن ترفعي شيئاً لغدٍ فإنَّ الله تعالى يأتي برزق كل غد» . قال الهيثمي: ورجاله ثقات.
حديث علي رضي الله عنه فيما جرى بين عمر والناس في فَضْل مال
وأخرج أحمد عن أبي البَخْتري عن علي رضي الله عنه قال: قال عمر رضي الله عنه للناس؛ فَضَل عندنا من هذا المال، فقال الناس: يا أمير المؤمنين، قد شغلناك عن أهلك وضيعتك وتجارتك فهو لك، فقال لي: ما تقول أنت؟ قلت: قد أشاروا عليك. فقال: قل. قلت لِمَ تجعل يقينك ظناً؟ فقال: لتخرجنَّ مما قلت. فقلت: أجل - والله - لأخرجنَّ منه، أتذكر حين بعثك نبي الله صلى الله عليه وسلم ساعياً، فأتيت العباس بن عبد المطلب، فمنعك صدقته، فكان بينكما شيء فقلت لي: إنطلق معي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلنخبره بالذي صنع. فانطلقنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجدناه خاثراً، فرجعنا ثم غدونا عليه(2/393)
الغد، فوجدناه طيِّب النفس فأخبرته بالذي صنع العباس. فقال لك: «أما علمت أنَّ عمَّ الرجل صِنْوُ أبيه» ، وذكرنا له الذي رأيناه من خثور في اليوم الأول، والذي رأيناه من طيب نفسه في اليوم الثاني فقال: «إنكما أتيتما في اليوم الأول وقد وجهتهما فذلك الذي رأيتما من طيب نفسي» . فقال عمر رضي الله عنه: صدقت. أما - والله - لأشكرنَّ لك الأولى والآخرة. وأخرجه أيضاً أبو يعلى، والدَّروْرَقي، والبيهقي، وأبو داود، وفيه إرسال بين أبي البختري وعلي. كذا في الكنز. وأخرجه أبو نُعَيم في الحلية عن أبي البختري قال: قال عمر - فذكر بمعناه. قال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، وكذلك أبو يَعْلى والبزّار إلا أن أبا البختري لم يسمع من علي ولا عمر فهو
مرسل صحيح. انتهى.
قصة قسْم المال بين المسلمين وما وقع بين عمر وعلي فيه
وأخرج البزّار عن طحلة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: أُتي عمر(2/394)
رضي الله عنه بمال فقسمه بين المسلمين، ففضلت منه فَضْلة فاستشر فيها فقالوا: لو تركته لنائبة إن كانت. قال: - وعلي رضي الله عنه ساكت لا يتكلم فقال: مالك يا أبا الحسن لا تتكلم؟ قال: قد أخبر القوم، فقال عمر رضي الله عنه: لتكلمنِّي، فقال: إنَّ الله قد فرغ من قسمة هذا المال، وذكر مال البحرين حين جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحال بينه وبين أن يقسمه الليل، فصلَّى الصلوات في المسجد، فلقد رأيت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فرغ منه. فقال: لا جَرَم لتقسمنَّه، فقسمه عليٌّ فأصابني منه ثمانُ مائة درهم. قال الهيثمي: وفيه الحجاج بن أرْطاة وهو مدلِّس.
حديث أم سلمة رضي الله عنها معه عليه السلام في إنفاق المال
وأخرج أحمد وأبو يعلى عن أم سَلَمة رضي الله عنها قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساهم الوجه، فخشيت ذلك من وجع فقلت: يا رسول الله ما لك ساهم الوجه؟ فقال: «من أجل الدنانير السبعة التي أُتينا بها أمس؛ أمسينا وهي في خُصم الفراش» وفي رواية: أتتنا ولم ننفقها» ، قال الهيثمي: رجالهما رجال الصحيح.
حديث سهل بن سعد رضي الله عنه في ذلك
وأخرج الطبراني في الكبير - ورواته ثقات محتج بهم في الصحيح - عن(2/395)
سهل بن سعد رضي الله عنه قال: كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة دنانير وضعها عند عائشة رضي الله عنها. فلما كان عند مرضه قال: «يا عائشة إبعثي بالذهب إلى عليَ» ، ثم أُغميَ عليه وشَغَل عائشة ما به حتى قال ذلك مراراً، كل ذلك يُغمى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويشغل عائشة رضي الله عنها ما به، فبعث إلى عليَ فتصدَّق بها. وأمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديد الموت ليلة الإِثنين، فأرسلت عائشة رضي الله عنها بمصباح لها إلى إمرأة من نسائها، فقالت: أهدي لنا في مصباحنا من عُكَّتك السَّمْنَ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسى في حديد الموت. ورواه ابن حِبَّان في صحيحه من حديث عائشة بمعناه. كذا في الترغيب. عند أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتصدَّق بذهب كان عندنا في مرضه. قالت: فأفاق فقال: «ما فعلتِ؟» قلت: (لقد) شغلني ما رأيت منك. قال: «فهلميها» . قال: فجاءت بها إِليه سبعة أو تسعة دنانير - أبو حازم يشكُّ - فقال حين جاءت بها: «ما ظَنُّ محمد (أن) لو لقي الله (عزّ وجلّ) وهذه عنده؟ وما تبقي هذه من محمد لو لقي الله وهذه عنده؟» . قال الهيثمي: رواه أحمد بأسانيد، ورجال أحدها رجال الصحيح. وأخرجه البيهقي من حديث عائشة بنحوه.(2/396)
حديث عبيد الله بن عباس في إنفاق المال
وأخرج البزار عن عبيد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال لي أبو ذر رضي الله عنه: يا ابن أخي، كنتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذاً بيده فقال لي: «يا أبا ذر، ما أحبُّ أنَّ لي أُحُداً ذهبً وفضة أنفقه في سبيل الله أموت يوم أموت أدعُ منه قيراطاً» . قلت: يا رسول الله قنطاراً؟ قال: «يا أبا ذر أذهبُ إلى الأقل وتذهب إلى الأكثر، أريد الآخرة وتريد الدنيا، قيراطاً» فأعادها عليّ ثلاث مرات. وأخرجه الطبراني بنحوه. قال الهيثمي: وإسناد البزار حسن.
حديث أبي ذر وما وقع بينه وبين كعب عند عثمان رضي الله عنهم
وأخرج أحد عن أبي ذر رضي الله عنه أنه جاء إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه فأذن له بيده عصا. فقال عثمان: يا كعب، إن عبد الرحمن مات وترك مالاً فما ترى فيه؟ فقال: إن كان قضَى فيه حقَّ الله فلا بأس عليه؛ فرفع أبو ذر عصاه فضرب كعباً وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما أحبُّ لو أن هذا الجبل لي ذهباً أنفقه ويُتقبَّلُ مني؛ أذَرُ منه خلفي ستَّ أواقٍ» ، أنشدك الله يا عثمان، سمعته ثلاث مرات؟ قال: نعم. قال الهيثمي: رواه أحمد وفيه ابن لَهِيعة وقد ضعَّفه غير واحد، ورواه أبو يعلى. اهـ. وأخرجه البيهقي عن غزوان بن أبي حاتم مطوّلاً، كما في الكنز وفيه: فقال عثمان لكعب: يا أبا إسحاق، أرأيت المال إذا أُدِّيَ زكاتُه هل يُخشى على صاحبه فيه تبعة؟ قال:(2/397)
لا، فقام أبو ذر رضي الله عنه معه عصا فضرب بها بين أذني كعب، ثم قال: يا ابن اليهودية أنت تزعم أنه ليس حق في ماله إذا أدَّى الزكاة والله تعالى يقول: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (الحشر: 9) ، والله تعالى يقول: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} (الإنسان: 8) ، الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ فِى أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ} (المعارج: 24، 25) ، فجعل يذكر نحو هذا من القرآن.
حديث عمر وقوله في سَبْق الصدِّيق في الإِنفاق
وأَخرج أبو داود، والترمذي - وقال: حسن صحيح - والدارمي، والحاكم، والبيهقي، وأبو نُعَيم في الحِلْية، وغيرهم عن عمر رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً أن نتصدق، ووافق ذلك مالاً عندي فقلت: اليوم أسبق أبا بكر رضي الله عنه إن سبقته يوماً. فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما أبقيت لأهلك» قلت: أبقيت لهم. قال: «ما أبقيت لهم؟» قال: «أبقيت له الله ورسولَه. قلت: لا أسبقه إلى شيء أبداً. كذا في منتخب الكنز.(2/398)
قصة عثمان مع رجل في هذا الأمر
وأخرج البيهقي في شُعَب الإِيمان عن الحسن قال: قال رجل لعثمان رضي الله عنه: ذهبتم يا أصحاب الأموال بالخير تتصدّقون، وتعتِقون، وتحجُّون، وتنفقون. فقال عثمان: وإِنكم لتغبطوننا. قال: إنا لنغبطُكم قال: فوالله لدرهم ينفقه أحد من جَهْد خير من عشرة آلاف غيض من فيض. كذا في الكنز.
قصة سائل مع علي رضي الله عنه
وأخرج العسكري عن عبيد الله بن محمد بن عائشة قال: وقف سائل على أمير المؤمنين عليّ فقال للحسن أو للحسين: إذهب إلى أمك فقل لها: تركت عندك ستة دراهم فهاتِ منها درهماً. فذهب ثم رجع فقال: قالت: إنما تركت ستة دراهم للدقيق. فقال علي: لا يصدق إيمان عبد حتى يكون بما في يد الله أوثق منه بما في يده. قل لها: إبعثي بالستة دراهم، فبعثت بها إليه فدفعها إلى السائل. قال: فما حلَّ حبوته حتى مرّ به رجل معه جمل يبيعه. فقال علي: بكم الجمل؟ قال: بمائة وأربعين درهماً. فقال علي: أعقله على أن نؤخرك بثمنه شيئاً، فعقله الرجل ومضى. ثم أقبل رجل فقال: لمن هذا البعير؟ فقال علي: لي؟ فقال: أتبيعه؟ قال: نعم. قال: بكم؟ قال: بمائتي درهم. قال: قد ابتعته. قال: فأخذ البعير وأعطاه المائتين. فأعطى الرجل الذي أراد أن يؤخره مائة وأربعين درهاً جاء بستين درهماً إلى فاطمة رضي الله عنها، فقالت: ما هذا؟ قال هذا وعدنا الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم {مَن جَآء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (الأنعام: 160) . كذا في الكنز.(2/399)
قصة رجل عرض ناقة سمينة في الصدقة
وأخرج أحمد، وأبو داود، وأبو يَعْلى، وابن خزيمة وغيرهم عن أُبيّ رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم مُصَدقاً، فمررت برجل، فلما جمع ماله لم أجد عليه فيه إلا إبنة مخاض، فقلت: أدِّ إبنة مخاض فإنها صدقتك. فقال: ذاك ما لا لبنَ فيه ولا ظهر، لكن هذه ناقة فتية عظيمة سمينة فخذها، فقلت له: ما أنا بآخذ ما لم أؤمر به، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم منك قريب، فإن أحببت أن تأتيته فتعرض عليه ما عرضت عليّ فافعل، فإن قبله منك قبلته، وإن ردَّه عليك رددته. قال: فإني فاعل. فخرج معي وخرج بالناقة التي عرض عليّ حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له يا نبي الله، أتاني رسولك ليأخذ مني صدقة مالي وأيْمُ والله، ما قام في مالي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رسوله قط قبله، فجمعت له مالي، فزعم أن ما عليّ فيه إبنة مخاض، وذلك ما لا لبن فيه ولا ظهر، وقد عرضت عليه ناقة عظيمة فتية ليأخذها فأبى ليّ، وها هي ذه قد جئتك بها يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ذاك الذي عليك، فإن تطوَّعت بخير جزاك الله فيه، وقبلناه منك» . قال: فها هي ذه يا رسول الله، قد جئتك بها فخذها. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبضه ودعا له في ماله بالبركة. كذا في الكنز.
جود أم المؤمنين عائشة وأختها أسماء رضي الله عنهما
وأخرج البخاري في الأدب المفرد (ص 43) عن عبد الله بن الزبير رضي الله(2/400)
عنهما قال: ما رأيت إمرأتين أجود من عائشة وأسماء - رضي الله عنهما - وجودهما مختلف، أما عائشة فكانت تجمع الشيء إلى الشيء حتى إذا كان اجتمع عندها قسمت، أما أسماء فكانت لا تمسك شيئاً لغدٍ.
قصة سماحة معاذ رضي الله عنه
وأخرج عبد الرزاق، وابن راهويه عن كعب بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال: كان معاذ بن جبل رجلاً سمحاً شاباً جميلاً من أفضل شباب قومه، وكان لا يمسك شيئاً، فلم يزل يَدَّان حتى أُغلِق ماله كله من الدين. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب له أن يسأل له غرماءه أن يضعوا له فأبَوا - فلو تركوا لأحد من أجل أحد تركوا للنبي صلى الله عليه وسلم ـ. فباع النبي صلى الله عليه وسلم كل ماله في دينه حتى قام معاذ بغير شيء، حتى إذا كان عام فتح مكة بعثه النبي صلى الله عليه وسلم على طائفة من اليمن أميراً ليَجْبُره، فمكث معاذ باليمن أميراً - وكان أول من اتَّجر في مال الله هو - ومكث حتى أصاب وحتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم فلما قدم قال عمر لأبي بكر: أرسل إلى هذا الرجل فدَعْ له ما يُعيشه وخذ سائره. فقال أبو بكر: إنما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم ليجبره ولست بإخذ منه شيئاً إلا أن يعطيني، فانطلق عمر إلى معاذ إِذ لم يطعه أبو بكر، فذكر ذلك عمر لمعاذ، فقال معاذ: إنما أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجبرني ولست بفاعل، ثم لقي معاذ(2/401)
عمر فقال: قد أطعتك وأنا فاعل ما أمرتني به. إني رأيت في المنام أني في حومة ماء وقد خشيت الغرق فخلصتني منه يا عمر. فأتى معاذ أبا بكر فذكر ذلك له وحلف له أنه لم يكتمه شيئاً حتى بيَّن له سوطه. فقال أبو بكر: والله لا آخذه منك قد وهبته لك. فقال عمر: هذا حين طب وحل؟ فخرج معاذ عند ذلك إلى الشام. كذا في الكنز.
وأخرجه أبو نعيم في الحلية من طريق عبد الرزاق بإِسناده عن ابن كعب بن مالك قال: كان معاذ بن جبل شاباً جميلاً سمحاً من خير شباب قومه لا يُسأل شيئاً إلا أعطاه حتى ادّان ديناً أغلق له. فذكر الحديث نحوه.
وأخرج الحاكم عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه فذكره مختصراً. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرِّجاه، ووافقه الذهبي.
حديث جابر في سماحة معاذ
وأخرج الحاكم أيضاً من حديث جابر - رضي الله عنه - قال: كان معاذ بن جبل - رضي الله عنه - من أحسن الناس وجهاً، وأحسنهم خُلُقاً، وأسمحهم كفّاً، فادَّان ديناً كثيراً؛ فلزمه غرماؤه حتى تغيَّب عنهم أياماً في بيته، حتى استعدى رسول الله صلى الله عليه وسلم غرماؤه. فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ يدعوه فجاء ومعه غرماؤه، فقالوا: يا رسول الله، خذ لنا حقَّنا منه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رحم الله من تصدَّق عليه، فتصدَّق عليه ناس وأبى آخرون وقالوا: يا رسول الله، خذ لنا بحقنا منه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إصبر له يا معاذ» . قال: فخلعه رسول(2/402)
الله صلى الله عليه وسلم من ماله، فدفعه إلى غرمائه فاقتسموه بينهم، فأصابهم خمسة أسباع حقوقهم. قالوا: يا رسول الله بِعْه لنا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خلُّوا عليه فليس لكم عليه سبيل» .
فانصرف معاذ إلى بني سَلِمة فقال له قائل: يا أبا عبد الرحمن، لو سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصبحت اليوم مُعْدِماً، فقال: ما كنت لأسأله. قال: فمكث أياماً، ثم دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعثه إلى اليمن وقال: «لعلَّ الله أن يَجْبُرك ويؤدِّي عنك دينك» . قال: فخرج معاذ إلى اليمن فلم يزل بها حتى توفيت، فوافى السنة التي حج فيها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مكة فاستعمله أبو بكر رضي الله عنه على الحج، فالتقيا يوم التروية بها فاعتنقا وعزّى كل واحد منهما صاحبه برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أخلدا إلى الأرض يتحدَّثان، فرأى عمر عند معاذ غلماناً، فذكر نحو حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - وهكذا أخرجه ابن سعد عن جابر رضي الله عنه بنحوه.
حديث عبد الله بن مسعود في سماحة معاذ
وأخرج الحاكم من طريق أبي وائل عن عبد الله قال: لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم واستخلفوا أبا بكر رضي الله عنه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن، فاستعمل أبو بكر عمر رضي الله عنهما على الموسم، فلقي معاذاً بمكة ومعه رقيق، فقال: ما هؤلاء؟ فقال: هؤلاء أُهدوا لي، وهؤلاء لأبي بكر. فقال له عمر: إني أرى لك أن تأتي بهم أبا بكر. قال: فلقيه من الغد، فقال: يا ابن الخطاب لقد رأيتني البارحة وأنا أنزو إِلى النار وأنت آخذ بحُجْزَتي، وما أُراني(2/403)
إِلا مطيعك. قال: فأتى بهم أبا بكر فقال: هؤلاء أهدوا لي، وهؤلاء لك. قال: فإنَّا قد سلمنا لك هديتك، فخرج معاذ إلى الصلاة فإذا هم يصلُّون خلفه، فقال معاذ: لمن تصلون؟ قالوا: لله عزّ وجلّ، فقال: أفأنتم له، فأعتقهم. قال الحاكم ووافقه الذهبي: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرِّجاه.
إنفاق ما يحبّ تصدّق عمر رضي الله عنه بأرضه في خيبر
أخرج الأئمة الستة عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: أصاب عمر بخيبر أرضاً، فأتى إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أصبتُ أرضاً لم أصب مالاً قط أنفس منه فكيف تأمرني به؟ قال: «إن شئت حبست أصلها، وتصدَّقت بها» ؛ فتصدّق (بها) عمر رضي الله عنه أنه لا يباع أصلها، ولا يوهب، ولا يورث، (وتصدَّق) بها في الفقراء والقربى والرقاب، وفي سبيل الله والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقاً غير متمول. كذا في نصب الراية.
إِعتاقه لجارية كان قد طلبها من أبي موسى
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن عمر رضي الله(2/404)
عنه أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن يبتاع له جارية من سبي جَلُولاء، فدعا بها، فقال: إن الله يقول: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران: 92) فأعتقها عمر. كذا في الكنز.
قصة ابن عمر وجارية
وأخرج ابن سعد عن نافع أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كانت له جارية، فلما اشتد عجبه بها أعتقها وزوَّجها مولى له، فولدت غلاماً. قال نافع: فلقد رأيت عبد الله بن عمر يأخذ ذلك الصبي فيقبله ثم يقول: واهاً لريح فلانة يعني الجارية التي أعتق.
قصة ابن عمر إِذ حضرته الآية
وأخرج البزار عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: حضرتني هذه الآية: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} فذكرت ما أعطاني الله عزّ وجلّ فلم أجد شيئاً أحبّ إليَّ من مرجانة - جارية لي رومية - فقال: هي حرّة لوجه الله، فلو أني أعود في شيء جعلته لله لنكحتها. قال الهيثمي: رواه البزّار وفيه من لم أعرفه اهـ. وأخرجه الحاكم وزاد: فأنكحها نافعاً فهي أم ولده. وأخرجه أبو نعيم في الحلية من طريق مجاهد وغيره.(2/405)
حديث نافع في إِنفاق ابن عمر
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن نافع قال: كان ابن عمر - رضي الله عنهما - إِذا اشتد عجبه بشيء من ماله قرَّبه لربه عزّ وجلّ. قال نافع: وكان رقيقه قد عرفوا ذلك منه، فربما شمَّر أحدهم فيلزم المسجد، فإذا رآه ابن عمر رضي الله عنهما على تلك الحالة الحسنة أعتقه. فيقول له أصحابه: يا أبا عبد الرحمن - والله - ما بهم إلا أن يخدعوك فيقول ابن عمر: فمن خدعنا بالله عزّ وجلّ إنخدعنا له.
قال نافع: فلقد رأيتنا ذات عشية وراح ابن عمر على نجيب له قد أخذه بمال عظيم، فلما أعجبه سيره أناخه مكانه ثم نزل عنه. فقال: يا نافع إنزعوا زمامه ورَحْله، وجلِّلوه وأشعروه وأدخلوه في البُدْن. وفي رواية أخرى عنده أيضاً عن نافع قال: بينا هو يسير على ناقته - يعني ابن عمر - إذا أعجبته فقال: إخ إخ، فأناخها ثم قال: يا نافع، حُطَّ عنه الرَّحْل، فكنت أرى أنه لشيء يريده أو لشيء رابه منها، فحططت الرحل، فقال لي: أنظر هل ترى عليها مثل رأسها؟ فقلت: أنشدك إِنك إن شئت بعتها واشتريت بثمنها. قال: فجلَّله وقلّدها وجعلها في بُدْنه، ما أعجبه من ماله شيء قط إلا قدمه. وعنده أيضاً عن نافع عن ابن عمر: أنه كان لا يعجبه شيء من ماله إلا خرج منه لله عزّ وجلّ. قال: وكان ربما تصدَّق في المجلس الواحد بثلاثين ألفاً - قال وأعطاه ابن عامر مرتين ثلاثين ألفاً، فقال: يا نافع إِني أخاف أن تفتنني دارهم ابن عامر، إذهب فأنت حر. وكان لا يد من اللحم شهراً إلا مسافراً أو في رمضان. قال: وكان يمكث الشهر لا يذوق فيه مُزعة لحم(2/406)
وأخرجه الطبراني مختصراً، كذا في المجمع. وأخرجه ابن سعد عن نافع مختصراً.
قصة ابن عمر لما نزل الجحفة
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن سعيد بن أبي هلال أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما نزل الجحفة وهو شاك. فقال: إني لأشتهي حيتاناً، فالتمسوا له فلم يجدوا (له) إلا حوتاً واحداً، فأخذته إمرأته صفية بنت أبي عبيد فصنعته ثم قربته إليه، فأتى مسكين حتى وقف عليه فقال له ابن عمر: خذه. فقال أهله: سبحان الله، قد عنَّيتنا ومعنا زاد نعطيه؟ فقال: إنَّ عبد الله يحبّه. وأخرجه أيضاً من طريق عمر بن سعد بنحوه وفيه: قالت إمرأته: نعطيه درهماً فهو أنفع له من هذا، واقضِ أنت شهوتك منه. فقال: شهوتي ما أُريد. وأخرجه أيضاً من طريق نافع. وأخرجه ابن سعد عن حبيب بن (أبي) مرزوق مع زيادة بمعناه.
تصدّق أبي طلحة بعين بيرحاء
وأخرج الشيخان عن أنس رضي الله عنه قال: كان أبو طلحة رضي الله عنه أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها(2/407)
طيِّب. قال أنس: فلما نزلت هذه الآية: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنَّ الله تبارك وتعالى يقول: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} وإِنَّ أحبّ أموالي إليَّ بيرحاء وإِنَّها صدقة لله أرجو برَّها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بخٍ ذلك مال رابح لك مال رابح» كذا في الترغيب وزاد في صحيح البخاري بعده: «وقد سمعتُ ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين» . فقال أبو طلحة: أفعلُ يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقربه وبني عمه.
تصدّق زيد بن حارثة بفرس له
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن محمد بن المنكدر قال: لما نزلت هذه الآية: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} جاء زيد بن حارثة رضي الله عنه بفرس له يقال لها شِبلة لم يكن له مال أحبّ إليه منها، فقال: هي صدقة، فقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمل عليها إبنة أسامة رضي الله عنه، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك في وجه زيد فقال: «إِن الله قد قبلها منك» ، وأخرجه ابن جرير عن عمرو بن دينار مثله، وعبد الرزاق، وابن جرير عن أيوب بمعناه، كما في الدر المنثور.
قول أبي ذر: إِن في المال ثلاثة شركاء
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي ذر - رضي الله عنه - أنه قال: في(2/408)
المال ثلاثة شركاء: القَدَر لا يستأمرك أن يذهب بخيرها أو شرها من هلاك أو موت، والوارث ينتظر أن تضع رأسك ثم يستاقها وأنت ذميم. فإن استطعت أن لا تكون أعجز الثلاثة فلا تكونَّن فإنَّ الله عزّ وجلّ يقول: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} ألا وإن هذا الجل مما كنت أحبّ من مالي فأحببت أن أقدمه لنفسي.
الإِنفاق مع الحاجة قصة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر
أخرج ابن جرير عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: جاءت إمرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببردة - قال سهل: هي شَمْلة منسوجة فيها حاشيتها - فقالت: يا رسول الله جئتك أكسوك هذه، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان محتاجاً إليها فلبسها، فرآها عليه رجل من أصحابه فقال: يا رسول الله ما أحسن هذه أكسُنيها، فقال: «نعم» فلما (قام) رسول الله صلى الله عليه وسلم لامَهُ أصحابه، وقالوا: ما أحسنت حين رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها محتاجاً إليها ثم سألته إياها، وقد عرفتَ أنه لا يُسأل شيئاً فيمنعه قال: والله ما حملني على ذلك إلا رجوت بركتها حين لبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلِّي أُكفَّن فيها.
وعند ابن جرير أيضاً عن سهل رضي الله عنه قال: حيكت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حخلّة أنمار صوف سوداء، فجُعل حاشيتها بيضاء، فخرج فيها إلى أصحابه فضرب بيده على فخذه، فقال: «ألا ترون إلى هذه ما أحسنها» فقال أعرابي:(2/409)
بأبي أنت وأمي يا رسول الله هبها لي - وكانت لا يُسأل شيئاً أبداً فيقول: لا - فقال: «نعم» فأعطاه الجبة ودعا بمعْوَزين له فلبسها، وأمر بمثلها فحيكت له؛ فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في المحاكة. كذا في كنز العمال.
قصة أبي عقيل رضي الله عنه
أخرج الطبراني عن أبي عقيل رضي الله عنه أنه بات يجر الجرير على ظهره على صاعين من تمر، فانفلت بأحدهما إلى أهله ينتفعون به، وجاء بالآخر يتقرَّب به إلى الله عزّ وجلّ، فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنثره في الصدقة» . فقال فيه المنافقون - وسخروا منه -: ما كان أغنى هذا أن يتقرَّب إلى الله بصاع من تمر؟ فأنزل الله عزّ وجلّ: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ} (التوبة: 79) - الآية -. وقال الهيثمي: رجاله ثقات إلا أن خالد بن يسار لم أجد من وثّقه ولا جرَّحه. انتهى.
وعند البزَّار عن أبي سلمة، وأبي هريرة رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تصدِّقوا فإني أريد أن أبعث بعثاً» . قال فجاء عبد الرحمن بن عوف -(2/410)
رضي الله عنه - فقال: يا رسول الله عندي أربعة آلاف: ألفان أقرضتهما ربي، وألفان لعيالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بارك الله لك فيما أعطيت، وبارك لك فيما أمسكت» وبات رجل من الأنصار فأصاب صاعين من تمر، فقال: يا رسول الله إني أصبت صاعين من تمر: صاع لربي، وصاع لعيالي. قال: فلمزه المنافقون وقالوا: ما أعطى مثل الذي أعطى ابن عوف إلا رياء - أو قالوا: لم يكن لله ورسوله غنيين عن صاع هذا - فأنزل الله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ} - الآية -. قال البزّر: لم نسمع أحداً أسنده من حديث عمر بن أبي سلمة إِلا طالوت بن عباد. وقال الهيثمي: وفيه عمر بن أبي سلمة وثَّقه العِجْلي. وأبو خيثمة، وابن حِبّان؛ وضعَّفه شُعبة وغيره، وبقية رجالهما ثقات. انتهى.
قصة عبد الله بن زيد رضي الله عنه
أخرج الحاكم عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه الذي أُرِيَ النداء أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، حائطي هذا صدقة وهو إلى الله ورسوله؛ فجاء أبواه فقالا: يا رسول الله كان قَوام عيشنا. فردّه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما ثم ماتا. فورثهما إبنهما بعد. قال الذهبي: فيه إرسال.(2/411)
قصة رجل من الأنصار
أخرج مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهود، أرسل إلى بعض نسائه فقالت: لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء ثم أرسل إلى أخرى فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، فقال: «من يضيف هذا الليلة، رحمه الله» ، فقام رجل ن الأنصار فقال: أنا يا رسول الله، فنطلق به إلى رَحْله فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا، إلا قوت صبياني، قال: فعلِّليهم بشيء، فإذا أرادوا العشاء فنوِّميهم، فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل - وفي رواية: فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه -. قال: فقعدوا وأكل الضيف وباتا طاويَيْن. فلما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما» . زاد في رواية: فنزلت هذه الآية: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (الحشر: 9) . كذا في الترغيب. وأخرجه أيضاً البخاري، والنِّسائي؛ وفي رواية لمسلم تسمية هذا الأنصاري بأبي طلحة، كما في التفسير لابن كثير. وفي رواية الطبراني تسمية هذا الرجل الذي جاء بأبي هريرة، كما ذكره الحافظ في الفتح.(2/412)
قصة سبعة أبيات
أخرج ابن جرير عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: لقد تداولت سبعة أبيات رأس شاة يؤثر به بعضهم بعضاً، وإنَّ كلَّهم لمحتاج إليه حتى رجع إلى البيت الذي خرج منه كذا في الكنز.
من أقرض الله تعالى قصة بيع بي الدحداح بستانه بنخلة في الجنة
أخرج أحد والبغوي، والحاكم عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن لفلان نخلة وأنا أقيم حائطي بها، فأمره أن يعطيني حتى أقيم حائطي بها. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «أعطه إِياها بنخلة في الجنة» فأبى. قال: فأتاه أبو الدحداح رضي الله عنه فقال: بعني نخلتك بحائطي. قال: ففعل. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إبتعت النخلة لحائطي فاجعلها له فقد أعطيتكها. فقال: «كم من عَذْق رَدَاح لأبي الدحداح في الجنة» قالها مراراً. قال: فأتى إمرأته فقال: يا أم الدحداح، إخرجي من الحائط فإني قد بعته بنخلة في الجنة، فقالت: ربح البيع أو كلمة تشبهها، كذا في الإِصابة. قال الهيثمي: رواه أحمد، والطبراني ورجالهما رجال الصحيح. انتهى.(2/413)
قصة قول أبي الدحداح: قد أُقرضت ربي حائطي
وعند أبي يَعْلى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت: {مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} (البقرة: 245) قال أبو الدحداح - رضي الله عنه -: يا رسول الله، إن الله يريد منا القرض؟ قال: «نعم يا أبا الدحداح» قال: أرنا يدك، قال: فناوله يده. قال: قد أقرضت ربي حائطي - وحائطه فيه ست مائة نخلة - فجاء يمشي حتى أتى الحائط وأم الدحداح وفيه وعيالها، فنادى: «يا أُم الدحداح، قالت: لبيك، قال: إخرجي فقد أقرضته ربي قال الهيثمي: رواه أبو يعلى، والطبراني ورجالهما ثقات، ورجال أبي يَعْلى رجال الصحيح. انتهى وأخرجه البزّار عن ابن مسعود رضي الله عنه نحوه بإسناد ضعيف كما في المجمع. وأخرجه أيضاً ابن منده كما في الإِصابة. وابن أبي حاتم كما في التفسير لابن كثير. وأخرج الطبراني عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمعناه بإسناد ضعيف كما في المجمع وقد تقدم قول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: يا رسول الله عندي أربعة آلاف، ألفان أقرضتهما ربي.(2/414)
الإِنفاق على الإِسلام قصة رجل في ذلك
أخرج أحمد عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم (يكن) يُسأل شيئاً على الإِسلام إلا أعطاه. قال: فأتاه رجل فأمر له بشاءٍ كثير بين جبلين من شاء الصدقة. قال: فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإنَّ محمداً يعطي عطاء ما يخشى الفاقة. وزاد في رواية: وإِن كان الرجل ليجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يمسي حتى يكون دينه أحب إِليه وأعز عليه من الدنيا وما فيها، كذا في البداية وأخرجه مسلم أيضاً نحوه عن أنس رضي الله عنه (ص 253) .
حديث زيد بن ثابت في ذلك
وعند الطبراني عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من العرب فسأله أرضاً بين جبلين، فكتب له بها، فأسلم ثم أتى قومه فقال لهم: أسلموا فقد جئتكم من عند رجل يعطي عطية من لا يخاف الفاقة. قال الهيثمي: وفيه عبد الرحمن بن يحيى العُذْري وقيل فيه:(2/415)
مجهول، وبقية رجاله وُثِّقوا. انتهى.
سبب إِسلام صفوان بن أمية
وقوله في النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدَّم في قصة إِسلام صفوان بن أمية: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في الغنائم ينظر إِليها ومعه صفوان بن أمية، فجعل صفوان بن أمية ينظر إليّ شِعْب مَلاءٍ نَعماً وشاء ورعاء، فأدام النظر إليه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرمقه فقال: «أبا وهْب يعجبك هذا الشِّعب؟» قال: نعم. قال: «هو لك وما فيه» . فقل صفوان عند ذلك: ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وأسلم مكان. أخرجه الواقدي، وابن عساكر عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما كما في الكنز.
الإِنفاق في الجهاد في سبيل الله إنفاق أبي بكر رضي الله عنه إنفاقه عند الهجرة وما وقع بين أبي قحافة وأسماء رضي الله عنها
أخرج ابن إسحاق عن أسماء رضي الله عنها قالت: لمَّا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج أبو بكر رضي الله عنه معه إحتمل أبو بكر مالَه كله معه - خمسة آلاف درهم، أو ستة آلاف درهم -، فانطلق بها معه. قالت: فدخل علينا جدِّي(2/416)
أبو قحافة وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأُراه قد فجعكم بماله مع نفسه. قالت: قلت: كلا يا أبت، إِنه قد ترك لنا خيراً كثيراً. قالت: وأخذت أحجاراً فوضعتها في كوّة في البيت الذي كان أبي يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوباً ثم أخذت بيده فقلت: يا أبت ضع يدك على هذا المال. قالت: فوضع يده عليه فقال: لا بأس، إذا كان قد ترك لكم هذا فقد أحْسَن، وفي هذا بَلاغٌ لكم؛ ولا - والله - ما ترك لنا شيئاً، ولكن أردت أن أُسَكِّن الشيخ بذلك، كذا في البداية. وأخرجه أحمد والطبراني بنحوه. قال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح غير ابن إسحاق، وقد صرح بالسماع. انتهى. وقد تقدّم أن أبا بكر رضي الله عنه أعطى ماله كله أربعة آلاف درهم في غزوة تبوك.
إنفاق عثمان بن عفان رضي الله عنه إنفاقه رضي الله عنه في جيش العُسْرة وقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيه
أخرج أحمد عن عبد الرحمن بن خبَّاب السَّلَمي رضي الله عنه قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم فحثَّ على جيش العُسْرة، فقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها. قال: ثم نزل مرقاة من المنبر ثم حثَّ، فقال عثمان رضي الله عنه: عليَّ مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها. قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بيده هكذا يحركها - وأخرج عبد الصمد يده - كالمتعجِّب:(2/417)
«ما على عثمان ما عمل بعد هذا» . وأخرجه البيهقي وقال: ثلاث مرات، وإنه التزم بثلاث مائة بعير بأحلاسها وأقتابها. قال عبد الرحمن: فأنا شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر: «ما ضر عثمان بعدها» أو قال: «بعد اليوم» ، كذا في البداية. وأخرجه أبو نعيم في الحِلْية بنحوه.
حديث عبد الرحمن بن سمرة في إنفاق عثمان في جيش العسرة
وأخرج الحاكم عن عبد الرحمن بن سَمُرة - رضي الله عنه - قال: جاء عثمان رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار حين جهز جيش العسرة ففرَّغها عثمان في حِجْر النبي صلى الله عليه وسلم قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقلِّبها ويقول: «ما ضر عثمان مع عمل بعد هذا اليوم» ، قالها مراراً. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإِسناد ولم يخرِّجاه، وقال الذهبي: صحيح. وأخرجه أبو نعيم في الحلية نحو عن عبد الرحمن وعن ابن عمر، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما: فقال النبي صلى الله عليه وسلم «اللهمَّ لا تنسَ لعثمان، ما على عثمان ما عمل بعد هذا» .
حديث حذيفة بن اليمان في إنفاق عثمان في جيش العسرة
وعند ابن عديَ، والدارقطني، وأبي نُعَيم، وابن عساكر عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى عثمان رضي الله عنه يستعينه في جيش العُسْرة، فبعث إليه عثمان بعشرة آلاف دينار فصُبَّت بين يديه، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقلِّبها بين يديه ظهراً لبطن ويدعو له يقول: «غفر الله لك يا عثمان، ما أسررتَ وما أعلنتَ، ما أخفيتَ، وما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، ما يبالي(2/418)
عثمان ما عمل بعد هذا» . كذا في المنتخب.
حديث عبد الرحمن بن عوف وقتادة والحسن في ذلك
وأخرج أبو يعلى، الطبراني عن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - أنه شهد ذلك حين أعطى عثمان بن عفان - رضي الله عنه - رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جهَّز به جيش العُسرة، وجاء بسبع مائة أوقية ذهب. قال الهيثمي: وفيه إِبراهيم بن عمر بن أبان وهو ضعيف. انتهى.
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن قتادة رضي الله عنه قال: حمل عثمان على ألف فيها خمسون فرساً في غزوة تبوك. وعندابن عساكر عن الحسن قال: جهَّز عثمان رضي الله عنه تسع مائة وخمسين ناقة وخمسين فرساً أو قال تسع مائة وسبعين ناقة وثلاثين فرساً - يعني في غزوة تبوك -. كذا في المنتخب. وقد تقدَّم أن عثمان رضي الله عنه كفى في غزوة تبوك ثلث الجيش مُؤْنتهم حتى إنْ كان ليقال ما بقيت لهم حاجة حتى كفاهم.
إنفاق عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه إنفاقه رضي الله عنه سبعمائة بعير بأقتابها وأحمالها في سبيل الله
أخرج أحمد عن أنس رضي الله عنه قال: بينما عائشة رضي الله عنها في بيتها إِذ سمعت صوتاً في المدينة، فقالت: ما هذا؟ قالوا: عير لعبد الرحمن بن عوف قدمت من الشام تحمل كل شيء. قال: وكانت سبع مائة(2/419)
بعير. قال: فارتجت المدينة من الصوت. فقلت عائشة رضي الله عنها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قد رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبواً» . فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف، فقال: لئن استطعت لأدخلنَّها قائماً، فجعلها بأقتابها وأحمالها في سبيل الله (عزّ وجلّ) . وأخرجه أبو نعيم في الحِلْية عن أنس رضي الله عنه بنحوه، وابن سعد عن حبيب بن أبي مرزوق بمعناه. قال في البداية: في سند أحمد تفرَّد به عمارة بن زاذان الصيدلاني وهو ضعيف.
إنفاقه رضي الله عنه في سبيل الله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرج أبو نعيم في الحلية عن الزُّهري قال: تصدِّق عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشطر ماله أربعة آلاف، ثم تصدَّق بأربعين ألف، ثم تصدَّق بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمس مائة فرس في سبيل الله، ثم حمل على ألف وخمس مائة راحلة في سبيل الله، وكان عامة ماله من التجارة. وهكذا ذكره في البداية عن مَعْمَر عن الزُّهري إِلا أنه قال: ثم حمل على خمس مئة راحلة في سبيل الله.
حديث الزهري في إِنفاقه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجه أيضاً ابن المبارك عن معْمَر عن الزُّهري قال: تصدَّق عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشطر ماله، ثم تصدَّق بعد بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمس مائة فرس في سبيل الله(2/420)
وخمس مائة راحلة، وكان أكثر ماله من التجارة. كذا في الإِصابة. وقد تقدَّم أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه تصدّق في غزوة تبوك بمائتي أوقية.
إنفاق حكيم بن حزام رضي الله عنه إنفاقه رضي الله عنه على من يخرج في سبيل الله
أخرج الطبراني عن أبي حازم قال: ما كان بالمدينة أحد سمعنا به كان أكثر حملاً في سبيل الله من حكيم بن حزام رضي الله عنه. قال: لقد قدم أعرابيان المدينة يسألان من يحمل في سبيل الله فدُلا على حكيم بن حِزام فأتياه في أهله، فسلهما؛ ما يريدان؟ فأخبراه ما يريدان. فقال لهما: لا تعجلا حتى أخرج إليكما، وكان حكيم يلبس ثياباً يُؤتى بها من مصر كأنها الشِباك ثمنها أربعة دراهم، ويأخذ عصا في يده، ويخرج معه غلامان له؛ وكلما مرَّة بكُناسة أو قُمامة فرأى فيها خرقة تصلح في جَهَاز الإِبل التي يُحمل عليها في سبيل الله أخذها بطرف عصاه فنفضها ثم قال لغلاميه: أمسكا بسلعتكما في جَهازكما. فقال الأعرابيان أحدهما لصاحبه وهو يصنع ذلك: ويحك أنجُ بنا، فوالله ما عند هذا إلا لَقْط القِشَع. فقال له صاحبه: ويحك لا تعجل حتى ننظر. فخرج بهما إلى السوق فنظر إلى ناقتين خلفتين، سمينتين خَلِفتين، فابتاعهما وابتاع جَهازهما، ثم قال لغلاميه: رُمَّا بهذه الخرق ما(2/421)
ينبغي له المرمَّة من جَهازكما، ثم أوقرهما طعاماً وبُرَّاً وودكاً، وأعطاهما نفقة ثم أعطاهما الناقتين. قال: يقول أحدهما لصاحبه: والله ما رأيت من لاقط قِشَع خيراً من اليوم. كذا في مجمع الزوائد.
وقفه رضي الله عنه داراً له في سبيل الله والمساكين والرقاب
وأخرج الطبراني عن حكيم بن حزام رضي الله عنه أنه باع داراً له من معاوية رضي الله عنه بستين ألفاً. فقالوا: غبنك - والله - معاوية، فقال: والله ما أخذتها في الجاهلية إلا بزقِّ خمر، أشهدكم أنها في سبيل الله، والمساكين، والرقاب؛ فأيُّنا المغبون. وفي رواية: بمائة ألف. قال الهيثمي: رواه الطبراني بإسنادين أحدهما حسن. انتهى.
إنفاق ابن عمر وغيره من الصحابة رضي الله عنهم إنفاق ابن عمر مائة ناقة في سبيل الله
أخرج أبو نعيم في الحلية عن نافع قال: باع ابن عمر رضي الله عنه أرضاً له بمائتي ناقة، فحمل على مائة منها في سبيل الله (عزّ وجلّ) ، واشترط على أصحابها أن لا يبيعوا حتى يجاوزوا بها وادي القرى.(2/422)
إنفاق عمر وعاصم بن عدي وغيرهما من الصحابة في سبيل الله
وقد تقدم في ترغيبه صلى الله عليه وسلم على الجهاد وإنفاق الأموال: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنفق في غزوة تبوك مائة أوقية، وعاصم بن عدي رضي الله عنه تسعين وَسْقاً من تمر، وحمل إليه صلى الله عليه وسلم العباس، وطلحة، وسعد بن عبادة، ومحمد بن مسلمة - رضي الله عنهم - مقالاً عظيماً كما تقدّم. وتقدم في النفقة في الجهاد مجيء رجل بناقة في سبيل الله وإِنفاق قيس بن سَلْع الأنصاري رضي الله عنه في الجهاد.
إنفاق زينب بنت جحش وغيرها من النساء إنفاقها رضي الله عنها في سبيل الله وما بعث به النساء في غزوة تبوك
أخرج الشيخان - واللفظ لمسلم - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أسرعكن لحاقاً بي أطولكن يداً» . قالت فكُنَّ يتطاولن أيتهنُّ أطول يداً، قالت: وكانت أطولنا يداً زينب لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدّق. وفي طريق آخر: قالت عائشة رضي الله عنها: فكنّا إذ اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم نمد أيدينا في الجدار نتطاول، فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش، وكانت إمرأة قصيرة ولم تكن بأطولنا، فعرفنا حينئذٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد طول اليد بالصدقة، وكانت زينب إمرأة صَنَاع اليدين، فكانت تَدبُغ وتخرز وتتصدّق به في سبيل الله. كذا في الإِصابة. وأخرجه الطبراني في الأوسط عن عائشة رضي الله عنها وفي حديثه قالت: وكانت زينب تغزل الغزل وتعطيه سرايا النبي صلى الله عليه وسلم يخيطون به ويستعينون(2/423)
به في مغازيهم. قال الهيثمي: ورجاله وُثِّقوا، وفي بعضهم ضعف اهـ.
وقد تقدم ما بعث به النساء في إعانة المسلمين في جَهَازهم في غزوة تبوك من المَسَك، والمعاضِد والخلاخِل، والأقْرطة، والخواتيم، (وقد مُلىء - أي الثوب المبسوط بين يديّ النبي صلى الله عليه وسلم ـ ممَّا بَعث به النساء يُعِنَّ به المسلمين في جهازهم) .
الإِنفاق على الفقراء والمساكين وأهل الحاجة قصة أعرابية مع عمر رضي الله عنه
أخرج أبو عبيد في الأموال عن عمير بن سَلَمة الدؤلي رضي الله عنه قال: بينا عمر رضي الله عنه نصف النهار قائلٌ في ظل شجرة وإذ أعرابية، فتوسمت الناس فجاءته، فقالت: إني مرأة مسكينة ولي بنون، وإن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كان بعث محمد بن مسلمة ساعياً فلم يعطنا، فلعلك - يرحمك الله - أن تشفع لنا إليه، (قال) فصاح بِيَرْفَأ أن أدعُ محمد بن مسلمة. فقالت: إنه أنجح لحاجتي أن تقوم معي إِليه، فقال: إنه سيفعل إن شاء الله (فجاءه يرفأ) ، فقال: أجب، فجاء فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فاستحيت المرأة منه، فقال عمر: (والله) ما آلو أن أختار خياركم، كيف أنت قائل إذا سألك الله تعالى عن هذه؟ فدمعت عينا محمد (ثمَّ) ، فقال عمر: إنَّ الله بعث (إلينا) نبيه صلى الله عليه وسلم فصدَّقناه، واتبعناه، فعمل بما أمره الله (به) ، فجعل الصدقة لأهلها من المساكين حتى قبضه الله على ذلك؛ ثم استخلف الله أبا بكر فعمل بسنّته حتى قبضه الله، ثم استخلفني فلم آلُ أن أختار خياركم، إنْ بعثتك فأدِّ إليها صدقة العام وعامِ أوَّل وما أدري لعلي (لا) أبعثك، ثم دعا لها بجمل(2/424)
فأعطاها دقيقاً وزيتاً وقال: خذي هذا حتى تلحقينا بخيبر، فإنا نريدها، فأتته بخيبر فدعا لها بجملين آخرين. فقال: خذي هذا فإن فيه بَلاغاً حتى يأتيكم محمد، فقد أمرته أن يعطيك حقَّك للعام وعام أول. كذا في الكنز.
قصة بنت خفاف بن إِيماء الغفاري مع عمر رضي الله عنهم
وأخرج هو، والبخاري، والبيهقي عن أسلم قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى السوق، فلحقت عمر إمرأة شابة فقالت: يا أمير المؤمنين، هلك زوجي، وترك صبية صغاراً. والله ما يُنضحون كراعاً ولا هم زرع ولا ضرع، وخشيت أن يأكلهم الضَّبعُ وأنا بنت خَفاف بن أيماء الغِفاري، وقد شهد أبي الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم فوقف معها عمر ولم يمضِ، ثم قال: مرحباً بنسب قريب. ثم انصرف إلى بعير ظهير كان مربوطاً في الدار، فحمل عليه غِرارتين ملأهما طعاماً، وجعل بينها نفقة وثياباً، ثم ناولها خِطامه، ثم قال: إقتاديه فلن يفنى حتى يأتيَكم الله بخير. فقال رجل: يا أمير المؤمنين، أكثرت لها فقال عمر: ثكلتك أمك شهد أبها الحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم والله إِني لأرى أبا هذه وأخاها وقد حاصرا حصناً زماناً فافتتحناه، ثم أصبحنا نستفيء سهمانَنا فيه. كذا في الكنز.(2/425)
إنفاق سعيد بن عامر بن حذيم الجمحي إنفاقه رضي الله عنه وهو عامل على الشام
أخرج أبو نعيم في الحلية عن حسان بن عطية قال: لما عزل عمر بن الخطاب معاوية عن الشام بعث سعيد بن عامر بن حِذْيَم الجمحي - رضي الله عنه - قال: فخرج معه بجارية من قريش نضيرةِ الوجه، فما لبث إلا يسيراً حتى أصابته حاجة شديدة. قال: فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فبعث إليه بألف دينار. قال: فدخل بها على إمرأته فقال: إن عمر بعث إلينا بما ترين. فقالت: لو أنك اشتريت لنا أُدْماً وطعاماً وادّخرت سائرها. فقال لها: أوَلاً أدلُّك على أفضل من ذلك؟ نعطي هذا المال من يتَّجر لنا فيه فنأكل من ربحها وضمانُها عليه، قالت: فنعم إذاً. فاشترى أخدْاً طعماً، واشترى بعيرَين وغلامين يمتاران عليهما حوائجهم وفرَّقها في المساكين وأهل الحاجة، قال: فما لبث إلا يسيراً حتى قالت له إمرأته: إنه قد نَفِد كذا وكذا، فلو أتيت ذلك الرجل فأخذت لنا من الربح فاشتريت لنا مكانه. قال: فسكت عنها. قال: ثم عاودته. قال: فسكت عنها حتى آذته - ولم يكن يدخل بيته إلا من ليل إلى ليل - قال: وكان رجل من أهل بيته ممّن يدخل بدخوله، فقال لها: ما تصنعين؟ إنك قد آذيتيه وإنَّه قد تصدّق بذلك المال. قال: فبكت أسفاً على ذلك المال. ثم إنه(2/426)
دخل عليها يوماً فقال: على رسلك، إنه كان لي أصحاب فارقوني منذ قريب ما أحب أني صُددت عنهم، وإن لي الدنيا وما فيها، ولو أنَّ خَيْرة من خَيْرات الحسان اطَّلعت من السماء لأضاءت أهل الأرض ولقهر ضوء وجهها الشمس والقمر، ولَنصيفٌ تُكْسى خير من الدنيا وما فيها، فلأنت أحرى في نفسي أن أدَعك لهنَّ من أن أدعهنَّ لك. قال: فسمحت ورضيت.
حديث عبد الرحمن بن سابط في ذلك
وأخرجه أيضاً عن عبد الرحمن بن سابط الجُمَحي وفي حديثه: قال: وكان إِذا خرج عطاؤه إبتاع لأهله قوتهم وتصدَّق ببقيته، فتقول له إمرأته: أين فضل عطائك؟ فيقول: قد أقرضته. فأتاه ناس فقالوا: إنّ لأهلك عليك حقاً، وإن لأظهارك عليك حقاً. فقال: ما أنا بمستأثر عليهم ولا بملتمس رضى أحد من الناس لطلب الحور العين، لو اطَّلعت خَيْرة من خيرات الجنة لأشرقت لها الأرض كما تشرق الشمس، وما أنا بالتخلِّف عن العَنَق الأول بعد أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يجمع الله عزّ وجلّ الناس للحساب، فيجيء فقراء المؤمنين يَزفّون كما تزف الحمام، فيقال لهم: قِفُوا عند الحساب، فيقولون: ما عندنا حساب ولا آتيتمونا شيئاً، فيقول ربهم: صدق عبادي، فيفتح لهم باب الجنة فيدخلونها قبل الناس بسبعين عاماً» . وقد تقدَّم في قصة أخرى(2/427)
لسعيد فقال لها: فهل لك في خير من ذلك ندفعها إلى من يأتينا بها أحوج ما نكون إِليها؟ قالت: نعم. فدعا رجلاً من أهل بيته يثق به فصرَّرها صرراً ثم قال: إنطلق بهذه إلى أرملة آل فلان، وإلى يتيم آل فلان، وإلى مسكين آل فلان، وإلى مُبتلى آل فلان. فبقيت منها ذُهَيبة. فقال: أنفقي هذه، ثم عاد إلى عمله. فقالت: ألا تشتري لنا خادماً؟ ما فعل ذلك المال؟ قال: سيأتيك أحوج ما تكونين. أخرجه أبو نعيم في الحلية.
إنفاق عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حديث نافع في إِنفاقه رضي الله عنه
أخرج أبو نعيم في الحلية عن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما إشتكى فاشتُريَ له عنقود عنب بدرهم، فجاء مسكين فقال: يعطوه إياه، فخالف إليه إنسان، فاشتراه منه بدرهم. ثم جاء به إليه، فجاءه المسكين فسأل، فقال: أعطوه أياه. فخالف إليه إنسان فاشتراه منه بدرهم. ثم جاء به إليه، فجاءه المسكين يسأل فقل: أعطوه إياه. ثم خالف إليه إنسان فاشتراه منه بدرهم، فأراد أن يرجع فمُنع. ولو علم ابن عمر بذلك العنقود ما ذاقه.
حديث نافع من وجه آخر في ذلك
وأخرجه أيضاً من طريق آخر عنه أن ابن عمر رضي الله عنه إشتهى عنباً وهو مريض، فاشتريت له عنقوداً بدرهم فجئت به فوضعته في يده - فذكر بمعناه. وفي آخره: فما زال يعود السائل ويأمر بدفعه إليه حتى قلت للسائل(2/428)
في الثالثة أو الرابعة؛ ويحك ما تستحيي؟ فاشتريته منه بدرهم فجئت به إليه فأكله. وأخرجه أيضاً نحو السياق الأول مختصراً ابن المبارك كما في الإِصابة، والطبراني كما في المجمع، وابن سعد. قال الهيثمي: رجال الطبراني رجال الصحيح غير نُعَيم بن حمَّاد وهو ثقة.
إنفاق عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه حديث أبي نضرة في ذلك
أخرج الطبراني عن أبي نَضْرة قال: أتيت عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه في أيام العشر - وكان له بيت قد أخلاه للحديث - فمُرَّ عليه بكبش فقال لصاحبه: بكم أخذته؟ فقال: بإثني عشر درهماً، فقلت: لو كان معي إثنا عشر درهماً إشتريت بها كبشاً فضحيت وأطعمت عيالي. فلما قدمت أتبعني بصرّة فيها خمسون درهماً، فما رأيت دراهم قط كانت أعظم بركة منها أعطاني وهو لها محتسب وأنا إليها محتاج. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.(2/429)
إنفاق عائشة رضي الله عنها قصة مسكين معها رضي الله عنها
أخرج ملك في الموطأ (ص 390) أنه بلغه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها أن مسكيناً سألها وهي صائمة وليس في بيتها إلا رغيف، فقالت لمولاة لها: يعطيه إياه، فقالت: ليس لك ما تُفطرين عليه، فقالت: أعطيه إياه. قالت: ففعلت. فلما أمسينا أهدى لنا أهل بيت أو إنسان ما كان يهدي لنا شاة وكفنها، فدعتني عائشة رضي الله عنها فقالت: كلي من هذا، هذا خير من قرصك.
قال مالك: بلغني أن مسكيناً إستطعم عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وبين يديه عنب، فقالت لإنسان: خذ حبة فأعطه إياها، فجعل ينظر إليه ويعجب، فقالت عائشة: أتعجب كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرة.
مناولة المسكين قصة حارثة بن النعمان في ذلك وقول النبي صلى الله عليه وسلم في مناولة المسكين
أخرج الطبراني، والحسن بن سفيان عن محمد بن عثمان عن أبيه قال كان حارثة بن النعمان رضي الله عنه - وفي رواية له: عن حارثة بن النعمان - وكان قد ذهب بصره فاتخذ خيطاً في مصلاه إلى باب حجرته، فكان إذا جاء المسكين أخذ من مِكتله شيئاً،(2/430)
ثم أخذ بطرف الخيط حتى يناوله، فكان أهله يقولون له: نحن نكفيك، فيقول: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مناولة المسكين تقي مصارع السوء» . كذا في الإِصابة. وأخرجه أبو نعيم في الحلية، وابن سعد عن محمد بن عثمان عن أبيه نحوه.
فضيلة إِعطاء السائل باليد
وأخرج ابن عساكر عن عمرو الليثي قال: كنَّا عند واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، فأتاه سائل، فأخذ كسرة فجعل عليها فَلْساً ثم قام حتى وضعها في يده، فقلت: يا أبا الأسقع، أمَا كان في أهلك من يكفيكهذا؟ قال: بلى، لكنه من قام بشيء إلى مسكين بصدقة حُطَّت عنه بكل خطوة خطيئة، فإذا وضعها في يده حُطَّت عنه بكل خطوة عشر خطيئات. كذا في الكنز.
قصة ابن عمر رضي الله عنهما في ذلك
وأخرج بن سعد عن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يجمع أهل بيته على جفنته كل ليلة.k قال: فربما سمع بنداء مسكين، فيقوم إليه بنصيبه من اللحم والخبز، فإلى أن يدفعه إليه ويرجع قد فرغوا مما في الجفنة، فإن كنتَ أدركت فيها شيئاً فقد أدرك فيها، ثم يصبح صائماً.(2/431)
الإِنفاق على السائلين قصة أعرابي مع النبي صلى الله عليه وسلم أخرج ابن جرير عن أنس رضي الله عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً المسجد وعليه بُرْد نَجراني غليظ الصنعة، فأتاه أعرابي من خلفه، فأخذ بجانب ردائه حتى أثرت الصنعة في صفح عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أعطنا من مال الله الذي عندك. فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبسم فقال: «مُرُوا له» . كذا في الكنز. وأخرجه أيضاً الشيخان عن أنس رضي الله عنه كما في البداية.
قصة أخرى في ذلك
وأخرج أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا نقعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغَدَوات في المسجد، فإذا قام إلى بيته لم نزل قياماً حتى يدخل بيته. فقام يوماً فلما بلغ وسط المسجد أدركه أعرابي فقال: يا محمد إحملني على بعيرين فإنك لا تحملني من مالك ولا من مال أبيك، وجذب بردائه حين أدركه، فاحمرّت رقبته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا، وأستغفر الله، لا أحملك حتى تقيدَني» - قالها ثلاث مرات - ثم دعا رجلاً فقال له: «إحمله على بعيرين: على بعير شعير، وعلى يعر تمر» . كذا في الكنز. وأخرجه أيضاً أحمد، والأربعة(2/432)
إلا الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه، كما في البداية.
حديث النعمان بن مقرِّن رضي الله عنه في ذلك
وأخرج أحمد، والطبراني عن النعمان بن مُقَرِّن رضي الله عنه قال: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أربع مائة من مُزَينة، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمره، فقال بعض القوم: يا رسول الله، ما لنا طعام نتزوده. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: «زوّدهم» . فقال: ما عندي إلا فاضلة من تمر وما أُراه يغني عنهم شيئاً. قال: «إنطلق فزوِّدهم» . فانطلق بنا إلى عِلِّية فإذا فيها تمر مثل البَكر الأورق، فقال: خذوا؛ فأخذ القوم حاجتهم. قال: وكنت من آخر القوم، قال: فالتفتُّ وما أفقِد موضع تمرة وقد احتمل منه أربع مائة رجل. قال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح. اهـ.
قصة دُكَين بن سعيد الخثعمي في ذلك
وأخرج أحمد، والطبراني عن دُكَين بن سعيد الخثعمي رضي الله عنه قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن أربعون وأربع مائة نسأله الطعام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: «قم فأعطهم» . فقال: يا رسول الله ما عندي إلا ما يقيِّظُني والصبية - قال وكيع: لقيظ في كلام العرب أربعة أشهر - قال: «قم(2/433)
فأعطهم» . قال عمر: يا رسول الله سمعٌ وطاعة. قال: فقام عمر وقمنا معه فصعد بنا إِلى غرفة له فأخرج المفتاح من حجرته ففتح الباب - قال دُكَين: فإذا في الغرفة من التمر شبيه بالفصيل الرابض - قال: شأنَكم قال: فأخذ كل رجل منا حاجته ما شاء. قال: فالتفتُّ وإني لمن آخرهم، فكأنا لم نرْزأ منه تمرة. قال الهيثمي: رجالهما رجال الصحيح، وروى أبو داود منه طرفاً. انتهى.
قصة دُكَين عند أبي نعيم في الحلية
وأخرجه أيضاً أبو نعيم في الحلية عن دُكَين رضي الله عنه قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أربع مائة راكب نسأله الطعام فذكر نحوه، وفي حديثه: ما عندي إلا آصُعُ تمر ما تقيِّظني وعيالي، فقال أبو بكر: إسمع وأطع. قال عمر: سمعاً وطاعة. قال أبو نعيم: هذا حديث صحيح وهو أحد دلائل النبي صلى الله عليه وسلم
عمل ابن عمر رضي الله عنها مع السائلين
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن أفلح بن كثير قال: كان ابن عمر رضي الله عنهما لا يرد سائلاً، حتى إنَّ المجذوم ليأكل معه في صحنه، وإن أصابعه لتقطر دماً.(2/434)
الصدقات قصة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في ذلك
أخرج أبو نعيم في الحلية عن الحسن البصري أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بصدقته فأخفاها. فقال: يا رسول الله هذه صدقتي ولله عزّ وجلّ عني معاد. وجاء عمر رضي الله عنه بصدقته فأظهرها فقال: يا رسول الله هذه صدقتي ولي عند الله معاد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا عمر، وَتَرْتَ قوسَك بغير وَتَر، ما بين صدقتيكما كما بين كلمتيكما» . قال ابن كثير: إِسناده جيد، ويعد من المرسلات. كذا في المنتخب.
إشتراء عثمان رضي الله عنه بئر رومة وجعلها صدقة للمسلمين
وأخرج بن عدي، وابن عساكر عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من يشتري لنا بئر رُومة فيجعلها صدقة للمسلمين؟ سقاه الله يوم القيامة من العطش» ؛ فاشتراها عثمان بن عفان رضي الله عنه فجعلها صدقة للمسلمين.(2/435)
حديث ابن عساكر في ذلك
وعند الطبراني، وابن عساكر عن بشير (الأسلمي) رضي الله عنه قال: لما قدم المهاجرون المدينة إستنكروا الماء، وكان لرجل من بني غِفار عين يقال لها رُومة، وكان يبيع منها القِربة بمدَ. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «بِعْنيها بعين في الجنة» . فقال: يا رسول الله، ليس لي ولا لعيالي غيرها ولا أستطيع. فبلغ ذلك عثمان رضي الله عنه فاشتراها بخمس وثلاثين ألف درهم. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أتجعل لي مثل الذي جعلته له عيناً في الجنة إن اشتريتها؟ قال: «نعم» . قال: قد اشتريتها وجعلتها للمسلمين. كذا في المنتخب.
تصدّق طلحة رضي الله عنه يوماً بمائة ألف درهم
وأخرح أبو نعيم في الحلية عن سُعدى إمرأة طلحة رضي الله عنهما قالت: فقد تصدّق طلحة يوماً بمائة ألف درهم، ثم حبسه عن الرواح إلى المسجد أن جمعت له بين طرفي ثوبه.
تصدّق عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تقدم أن عبد الرن بن عوف رضي الله عنه تصدَّق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشطر ماله أربعة آلاف، ثم تصدَّق بأربعين ألفاً، ثم تصدّق بأربعين ألف دينار.(2/436)
ما تصدّق به أبو لبابة رضي الله عنه لما تاب الله عليه
وأخرج الحاكم عن السائب بن أبي لبابة رضي الله عنهما قال: لما تاب الله على أي لبابة قال أبو لبابة: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إني أهجر دار قومي الذي أصبت بها الذنب، وأنخلع من مالي كله صدقة لله عزّ وجلّ ولرسوله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا أبا لبابة يجزىء عنك الثلث» . قال: فتصدَّقت بالثلث.
عمل سلمان رضي الله عنه في ذلك
وأخرج ابن سعد عن النعمان بن حُمَيد رضي الله عنه قال: دخلت مع خالي على سلمان رضي الله عنه بالمدائن وهو يعمل الخُوص، فسمعته يقول: أشتري خوصاً بدرهم، فأعمله، فأبيعه بثلاثة دراهم، فأعيد درهماً فيه، وأنفق درهماً على عيالي، وأتصدَّق بدرهم؛ ولو أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نهاني عنه ما انتهيت.
الهدايا هدية عثمان رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم في إِحدى الغزوات
أخرج الطبراني عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: كنَّا مع النبي صلى الله عليه وسلم في عزاة، فأصاب الناس جَهْد حتى رأيت الكآبة في وجوه المسلمين والفرح في وجوه المنافقين. فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والله لا تغيب الشمس حتى يأتيكم الله برزق» . فعلم عثمان رضي الله عنه أن الله ورسوله سيصدَّقان،(2/437)
فاشترى عثمان أربع عشرة راحلة بما عليها من الطعام، فوجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم منها بتسعة. فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما هذا؟» قال: أهدى إِليك عثمان، فعُرف الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم والكآبة في وجوه المنافقين، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رفع يديه حتى رُئي بياض إبطيه يدعو لعثمان دعاء ما سمعته دعا لأحد قبله ولا بعده: «اللهمَّ أعطِ عثمان، اللهمَّ إفعل بعثمان» . قال الهيثمي رواه الطبراني، وفيه سعيد بن محمد الوراق، وهو ضعيف. وأخرج ابن عساكر عن أبي مسعود نحوه، كما في المنتخب.
قول ابن عباس رضي الله عنهما في فضيلة الهدية
وأخرج أبو نُعَيم في الحلية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لأن أعول أهل بيت من المسلمين شهراً أو جمعة أو ما شاء الله أحبُّ إليّ من حجة بعد حجة، ولطبقٌ بدانق أهديه إلى أخ لي في الله عزّ وجلّ أحب إليّ من دينار أنفقه في سبيل الله عزّ وجلّ.
إطعام الطعام قول علي رضي الله عنه في فضيلة إِطعام الطعام
أخرج البخاري في الأدب، وابن زنجويه عن علي رضي الله عنه قال: لأن أجمع ناساً من أصحابي على صاع من طعام أحبّ إليّ من أن أخرج إلى السوق فأشتري نَسمة فأعتقها. كذا في الكنز.(2/438)
حديث جابر رضي الله عنه في ذلك
وأخرج البيهقي في الشُّعَب عن عبد الواحد بن أيمن عن أبيه قال: نزل بجابر رضي الله عنه ضيف فجاءهم بخبز وخلّ. فقال: كلوا فإنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «نعم الإِدام الخل. هلاك بالقوم أن يحتقروا ما قُدم إليهم، وهلاك بالرجل أن يحتقر ما في بيته يقدِّمه إلى أصحابه» . كذا في الكنز وأخرجه أحمد، والطبراني عن عبد الله بن عبيد بن عمير بنحوه. قال الهيثمي: رواه أحمد، والطبراني في الأوسط، وأبو يَعْلى إلا أنه قال: وكفى بالمرء شراً أن يحتقر ما قُرب إليه. وفي إسناد أبي يَعْلى أبو طالب القاص ولم أعرفه، وبقية رجاله أبي يَعْلى وُثِّقوا، وهو في الصحيح باختصار انتهى.
حديث أنس رضي الله عنه في ذلك
وأخرج الطبراني في الأوسط بإسناد جيد عن حُمَيد الطويل عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخل عليه قوم يعودونه في مرض له، فقال: يا جارية هلمِّي لأصحابنا ولو كِسَراً، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مكارم الأخلاق من أعمال الجنة» . كذا في الترغيب. قال الهيثمي بعدما ذكره عن(2/439)
الطبراني: وإِسناده جيد. اهـ. وأخرجه ابن عساكر بنحوه.
حديث شقيق بن سلمة في ذلك
وأخرج الطبراني عن شقيق بن سَلَمة رضي الله عنه قال: دخلت أنا وصاحب لي إلى سلمان الفارسي رضي الله عنه. فقال سلمان: لولا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن التكلُّف لتكلَّفت لكم، ثم جاء بخبز وملح. فقال صاحبي: لو كان في ملحنا عنقز، فبعث سلمان بمطهرته فرهنها ثم جاء بعنقز فلما أكلنا قال صاحبي: الحمد لله الذي قنَّعنا بما رزقنا. فقال سلمان: لو قنعتَ با رزقك لم تكن مطهرتي مرهونة. قال الهيثمي: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن منصور الطوسي وهو ثقة. وفي رواية عنده: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتكلَّف للضيف ما ليس عندنا.
ما وقع بين عمر وصهيب رضي الله عنهما في ذلك
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن حمزة بن صهيب أن صهيباً رضي الله عنه كان يطعم الطعام الكثير، فقال له عمر رضي الله عنه: يا صهيب إنك تطعم الطعام الكثير، وذلك سرف في المال، فقال صهيب: إِنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «خياركم من أطعم الطعام، وردّ السلام» ؛ فذلك الذي يحملني على أن أطعم الطعام.(2/440)
إطعام النبي صلى الله عليه وسلم الطعام قصة جابر رضي الله عنه في ذلك
أخرج مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: كنت جالساً في داري، فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليّ فقمت إليه، فأخذ بيدي فانطلقنا حتى أتى بعض حُجَر نسائه فدخل، ثم أذن لي فدخلت الحجاب عليها، فقال: «هل من غداء؟» فقالوا: نعم، فأُتي بثلاثة أقرصة فوُضعن على نَبِيّ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرصاً فوضعه بين يديه، وأخذ قرصاً آخر فوضعه بين يديّ، ثم أخذ الثالث فكسره بإثنين، فجعل نصفه بين يديه ونصفه بين يديّ، ثم قال: «هل من أُدْم؟» قالوا: لا، إلا شيء من خلَ؛ قال: «هاتوه، فنعم الأدْم هو» . وأخرجه أيضاً أصحاب السنن كما في جمع الفوائد.
قصة عثمان رضي الله عنه في ذلك
وأخرج الطبراني عن عبد الله بن سَلام رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى عثان رضي الله عنه يقود ناقةً تحمل دقيقاً وسمناً وعسلاً، فقال صلى الله عليه وسلم «أنخ» فأناخ؛ فدعا ببرمة فجعل فيها من السمن والعسل والدقيق، ثم أمر فأوقد تحته حتى نضج، ثم قل: «كلو» فأكل نه صلى الله عليه وسلم ثم قال: (هذا شيء يدعوه أهل فارس «الخبيص» ) . كذا في جمع الفوائد. قال الهيثمي: رواه الطبراني في(2/441)
الثلاثة، ورجال الصغير والأوسط ثقات.
حديث عبد الله بن بُسْر رضي الله عنهما في ذلك
وأخرج أبو داود عن عبد الله بن بُسْر رضي الله عنها قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم قَصْعة يحملها أربعة رجال يقال لها «الغرّاء» . فلما أضحَوا وسجدوا الضحى أُتي بتلك القصعة وقد ثُرِد فيها، فالتفُّوا عليها. فلما أكثروا جثا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أعرابي: ما هذه الجلسة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله جعلني عبداً كريماً، ولم يجعلني جباراً عنيداً» ؛ ثم قال: «كلوا من جوانبها ودَعُوا ذروتها يبارك فيها» . كذا في المشكاة (ص 361) .
إطعام أبي بكر الصديق رضي الله عنه ما وقع بين الصديق رضي الله عنه وأضيافه في ذلك
أخرج مسلم عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما قال: نزل علينا أضياف لنا. قال: وكان أبي يتحدَّث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل. قال: فانطلق وقال: يا عبد الرحمن، إفرَغ من أضيافك. قال: فلما أمسيت جئنا بقِراهم. قال: فأبَوا، قالوا: حتى يجيء أبو منزلِنا فيطعَم معنا. قال: فقلت لهم: إنَّه رجل حديد، وإنكم إن لم تفعلوا خفت أن يصيبني منه أذى. قال: فأبَوا. فلما جاء لم يبدأ بشيء أول منهم، فقال: أفرغتم من أضيافكم؟ قال: قالوا: لا والله ما فرغنا. قال: ألم آمر عبد الرحمن؟ قال: وتنحَّيت عنه. فقال: يا عبد الرحمن، قال: فتنحيت عنه. قال: فقال: يا غنثر، أقسمت عليك إن(2/442)
كنت تسمع صوتي إلا جئت. قال: فجئت. قال: فقلت: والله ما لي ذنب، هؤلاء أضيافك فسَلْهم قد أتيتهم بقِراهم فأبَوا أن يطعَموا حتى تجيء. قال: فقال: ما لكم أن لا تقبلوا عنا قِراكم؟ قال: فقال أبو بكر: فوالله لا أطعمه الليلة. قال: فقالوا: فوالله لا نطعمه حتى تطعمه قال: فقال: ما رأيت كالشرِّ كالليلة قط. ويلكم، ما لكم ألا تقبلوا عنا قِراكم؟ قال: ثم قال: أما الأولى فمن الشيطان، هلمُّوا قراكم. قال: فجيء بالطعام، فسمَّى فأكل وأكلوا. قال: فلما أصبح غداً على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله برّوا وحنِثت. قال: فأخبره، فقال: «بل أنت أبرُّهم وأخيرُهم» . قال: ولم تبلغني كفارة.
إطعام عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمل عمر رضي الله عنه في ذلك
أخرج مالك عن أسلم أنه قال لعمر رضي الله عنه: إن في الظَّهر ناقة عمياء. فقال: إدفعها إلى أهل بيت ينتفعون بها: فقلت: وهي عمياء، فقال: يقطرونها بالإِبل، قلت: كيف تأكل من الأرض؟ فقال: أمنْ نَعم الجزية هي أم من نَعَم الصدقة؟ فقلت: مِن نَعَم الجزية. فقال: أردت - والله - أكلها. فقلت: إن عليها وَسْم نَعَم الجزية، فأمر بها فنُحرت، وكان عنده صحاف تسع، فلا تكون فاكهة ولا طُريفة إلا جعل منها في تلك الصحاف، فبعث بها إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ويكون الذي يبعث به إلى حفصة رضي الله عنها من آخر ذلك، فإن كان فيه نقصان كان في حظ حفصة، فجعل في تلك الصحاف من لحم تلك الجزور، فبعث به؛ وأمر بما بقي فصنع(2/443)
فدعا عليه المهاجرين والأنصار. كذا في جمع الفوادئ.
إطعام طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه
عمل طلحة رضي الله عنه في ذلك وقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه
أخرج الحسن بن سفيان، وأبو نُعيم في المعرفة عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: إبتاع طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه بئراً بناحية الجبل وأطعم الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنك يا طلحة الفيّاض» . كذا في المنتخب.
إطعام جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه حديث أبي هريرة رضي الله عنه في ذلك
أخرج ابن سعد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، كان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته، حتى إن كان ليُخرج إلينا العكَّة ليس فيها شيء فيشقها، فنلعق ما فيها.
إطعام صهيب الرومي رضي الله عنه قصة صهيب رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك
أخرج أبو نعيم في الحلية عن صهيب رضي الله عنه قال: صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً فأتيته وهو في نفر جالس، فقمت حياله فأومأت إليه وأومأ(2/444)
إليَّ: وهؤلاء؟ فقلت: لا، فسكت فقمت مكاني. فلما نظر إليَّ أومأت إليه فقال: وهؤلاء؟ فقلت: لا، مرتين فعل ذلك أو ثلاثاً، فقلت: نعم وهؤلاء؛ وإنما كان شيئاً يسيراً صنعته له، فجاء وجاؤوا معه؛ فأكلوا. قال: وفضَلَ منه.
إطعام عبد الله بن عمر رضي الله عنه حديث محمد بن قيس في ذلك
أخرج أبو نعيم عن محمد بن قيس قال: كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لا يأكل إلا مع المساكين حتى أضرَّ ذلك بجسمه، فصنعت له إمرأته شيئاً من التمر؛ فكان إذا أكل سقته. وعن أبي بكر بن حفص أن عبد الله بن عمر كان لا يأكل طعاماً إلا على خِوانه يتيم.
قصته رضي الله عنه مع يتيم
وعن الحسن أن ابن عمر كان إذا تغدّى أو تعشَّى دعا من حوله من اليتامى، فتغدَّى ذات يوم فأرسل إلى يتيم فلم يجده؛ وكانت له سَوِيقة مُحلاة يشربها بعد غدائه، فجاء اليتيم وقد فرغوا من الغداء وبيده السويقة ليشربها، فناولها إياه وقال: خذها فما أُراك غُبنت.
حديث ميمون بن مهران في ذلك
وأخرج أيضاً عن ميمون بن مهران أن إمرأة ابن عمر عوتبت فيه فقيل لها: أما تلطفين بهذا الشيخ؟ فقالت: فما أصنع به؟ لا نصنع له طعاماً إلا دعا عليه من يأكله، فأرسلت إلى قوم من المساكين كانوا يجلسون بطريقه إذا خرج من المسجد فأطعمتهم وقالت لهم: لا تجلسوا بطريقه، ثم جاء إلى بيته فقال: أرسلوا إلى فلان وإلى فلان، وكانت إمرأته أرسلت إليهم بطعام وقالت:(2/445)
إن دعاكم فلا تأتوه، فقال ابن عمر: أردتم أن لا أتعشَّى الليلة، فلم يتعشَّ تلك الليلة. وأخرجه ابن سعد بنحوه.
قصته رضي الله عنه في ذلك وهو بالجحفة
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي جعفر القارىء قال: قال مولاي: أخرجُ مع ابن عمر أخدمه. قال: فكان كل ماء ينزله يدعو أهل ذلك الماء يأكلون معه. قال: فكان أكابر ولده يدخلون فيأكلون، فكان الرجل يأكل اللقمتين والثلاث. فنزل الجُحْفة فجاؤوا. وجاء غلام أسود عُريان فدعاه ابن عمر، فقال الغلام: إني لا أجد موضعاً قد تراصُّوا. فرأيت ابن عمر تنحَّى حتى ألزقه إلى صدره.
عمل ابن عمر في ذلك وهو على سفر
وأخرج ابن سعد عن أبي جعفر القارىء قال: خرجت مع ابن عمر من مكة إلى المدينة كان له جَفْنة من ثريد يجتمع عليها بنوه وأصحابه وكل من جاءَ حتى يأكل بعضهم قائماً، ومعه بعير له عليه مزادتان فيما نبيذ وماء مملوءتان؛ فكان لكل رجل قَدَح من سَوِيق بذلك النبيذ حتى يتضلَّع منه شبعاً.
حديث معن في ذلك أيضا
وأخرج ابن سعد عن عن قال: كان ابن عمر إذا صنع طعاماً فمر(2/446)
به رجل له هيئة لم يدعه ودعاه بنوه أو بنو أخيه، وإذا مر إنسان مسكين دعاه ولم يدعوه. وقال: يدْعون من لا يشتهيه ويَدَعون من يشتهيه.
إطعام عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قصة ضيافته رضي الله عنه للإِخوان وأهل الأمصار والأضياف
أخرج أبو نعيم في الحلية عن سليمان بن ربيعة أنه حجَّ في إمرة معاوية رضي الله عنه ومعه المنتصر بن الحارث الضبِّي في عصابة من قرّاء أهل البصرة، فقالوا: والله لا نرجع حتى نلقى رجلاً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم مرضياً يحدثنا بحديث؛ فلم نزل نسأل حتى حُدِّثنا أن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما نازل في أسفل مكة، فعمدنا إليه؛ فإذا نحن بثَقَل عظيم يرتحلون ثلاث مائة راحلة، منها مائة راحلة ومائتا زاملة، قلنا: لمن هذا الثَّقَل؟ فقالوا: لعبد الله بن عمرو، فقلنا: أكل هذا له؟ - وكنا نُحدَّث أنه من أشد الناس تواضعاً - فقالوا: أمَّا هذه المائة راحلة فلإِخوانه يحملهم عليها، وأما المائتان فلمن نزل عليه من أهل الأمصار له ولأضيافه. فعجبنا من ذلك عجباً شديداً، فقالوا: لا تعجبوا من هذا فإنَّ عبد الله بن عمرو رجل غني وإنَّه يرى حقاً عليه أن يكثر من الزاد لمن نزل عليه من الناس. فقلنا: دلونا عليه فقالوا: إِنه في المسجد الحرام. فانطلقنا نطلبه حتى وجدناه في دُبُر الكعبة جالساً، رجل قصير أرمص، بين بُردين وعمامة، ليس عليه قميص؛ قد علَّق نعليه في شماله. وأخرجه ابن سعد عن سليمان (بن) الربيع بمعناه مع زيادة.(2/447)
إطعام سعد بن عبادة رضي الله عنه قصته رضي الله عنه في ذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم
أخرج ابن عساكر عن سعد بن عبادة رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بصحفة - أو جفنة - مملوءة مخاً، فقال: «يا أبا ثابت، ما هذا؟» قال: والذي بعثك بالحق لقد نحرت أربعين ذات كبد، فأحببت أن أشبعك من المخ. فأكل النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له بخير. كذا في الكنز.
حديث أنس رضي الله عنه في ذلك ودعاؤه صلى الله عليه وسلم لسعد
وأخرج ابن عساكر عن أنس رضي الله عنه أن سعد بن عبادة دعا النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه بتمر وكِسَر فأكل، ثم أتاه بقَدَح من لبن فشرب، فقال: «أكل طعامكم الأبرار، وأفطر عندكم الصائمون، وصلّت عليكم الملائكة، اللهمّ إجعل صلواتك على آل سعد بن عبادة» . كذا في الكنز. وأخرجه أيضاً من وجه آخر عن أنس مطولاً بمعناه. وفيه: وقرَّب إليه منها شيئاً من سِمسِم وشيئاً من تمر. كما في الكنز.
قصة ضيافته رضي الله عنه في ذلك
وأخرج ابن سعد عن عروة قال: أدركت سعد بن عبادة وهو ينادي عن أُطُمِه: من أحب شحماً أو لحماً فليأت سعد بن عبادة. ثم أدركت إبنه(2/448)
مثل ذلك يدعو به، ولقد كنت أمشي في طريق المدينة وأنا شاب، فمر عليَّ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما منطلقاً إلى أرضه بالعالية، فقال: يا فتى تعالى أنظر هل ترى على أُطُم سعد بن عبادة أحداً ينادي؟ فنظرت فقلت: لا فقال: صدقت.
إطعام أبي شعيب الأنصاري رضي الله عنه قصته رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر
أخرج البخاري عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: كان من الأنصار رجل يقال له: أبو شعيب رضي الله عنه، وكان له غلام لحّام فقال: إصنع لي طعاماً أدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم خامس خمسة. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم خامس خمسة، فتبعهم رجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «إنك دعوتنا خامس خمسة وهذا رجل قد تبعنا، فإن شئت أذنت له وإن شئت تركته» . قال: بل أذنتُ له. وأخرجه مسلم عن أبي مسعود نحوه، وفيه: فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف في وجهه الجوع، فقال لغلامه: ويحكم إصنع لنا طعاماً لخمسة نفر. فذكر نحوه.
إطعام خياط دعوة خياط لرسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه
أخرج مسلم - واللفظ له - والبخاري عن أنس رضي الله عنه أن خياطاً دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه. قال أنس بن مالك رضي الله عنه: فذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الطعام، فقرَّب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خبزاً من شعير ومرقاً فيه دُبَّاء وقَدِيد. قال أنس: فرأيت يتتبع الدبّاء من حوالي(2/449)
الصحفة، فلم أزل أحب الدُّبَّاء منذ يومئذٍ.
إطعام جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قصته رضي الله عنه في يوم الخندق
أخرج البخاري عن جابر رضي الله عنه قال: إنا يوم الخندق نحفر، فعرضت كُدْية شديدة، فجاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كُدْية عرضت في الخندق. فقال: «أنا نازل» ، ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذَواقاً، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول فضرب فعاد كثيباً أهْيَل - أو أُهْيَم -، فقلت: يا رسول الله، إئذن لي إلى البيت. فقلت لامرأتي: رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ما كان في ذلك صبر فعندك شيء؟ قالت: عندي شعير عَنق، فذبحتُ العَناق وطحنت الشعير حتى جعلنا اللحم في البُرْمة، ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم والعجين قد انكسر والبرمة بين الأثافي قد كادت أن تنضَج. فقلت: طُعَيِّم لي فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان، قال: «كم هو؟» فذكرت له. فقال: «كثير طيب، قل لها: لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي» . فقال: «قوموا» فقام المهاجرون والأنصار، فلما دخل على إمرأته قال: ويحك جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم، قالت: هل سألك؟ قلت: نعم، فقال: «أدخلوا ولا تَضَاغطوا» فجعل يكسر الخبز، ويجعل عليه اللحم، ويُخَمِّر البرمة والتنورَ إذا أخذ منه، ويقرِّب إلى أصحابه ثم ينزع، فلم يزل(2/450)
يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا وبقي بقية، قال: «كُلي هذا وأهدي؛ فإن الناس أصابتهم مجاعة» . تفرّد به البخاري.
ورواه البيهقي في الدلائل عن جابر أتم منه، قال فيه: لمَّا علم النبي صلى الله عليه وسلم بمقدار الطعام قال للمسلمين جميعاً: «قوموا إِلى جابر قال: فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلا الله وقلت: جاءنا بخَلْق على صاع من شعير وعنَاق ودخلت على إمرأتي أقول: إفتَضحْتُ، جاءك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق أجمعين فقالت: هل كان سألك كم طعامك؟ قلت: نعم، فقالت: الله ورسوله أعلم. قال: فكشفت عنِّي غماً شديداً. قال: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «خدمي ودعيني من اللحم» وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يَثْرُد ويغرف اللحم، ويخمِّر هذا ويخمِّر هذا. فما زال يقرب إلى الناس حتى شبعوا أجمعين ويعود التنور والقدر أملأ ما كانا؛ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كُلي وأهدي» فلم تزل تأكل وتهدي يومها، وكذلك رواه ابن أبي شيبة وأبسط أيضاً، وقال في آخره: وأخبرني أنهم كانوا ثمان مائة، أو قال: ثلاثَ مائة. كذا في البداية.
وأخرجه البخاري أيضاً من وجه آخر عن جابر نحوه وفيه: فصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أهل الخندق، إِنَّ جابراً قد صنع سُوراً فحيَّهَلاً بكم» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تُنزلنَّ برمتكم، ولا تخبزنَّ عجينكم حتى أجيء» فجئت وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدَم الناس حتى جئت إمرأتي فقالت: بكَ وبكَ فقلت: قد فعلت الذي قلتِ، فأخرجت له عجيناً فبصق به وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبصق فيها وبارك ثم قال: «ادعي خابزة فلتخبز معك، واقدحي من برمتك ولا تنزلوها، وهم ألف، فأقسم الله (لقد) أكلوا حتى تركوه(2/451)
وانحرفوا، وإنَّ برمتنا لتغطُّ كما هي، وإن عجيننا (ليخبز) كما هو. وأخرجه مسلم عن جابر نحوه.
حديث الطبراني في إطعام جابر رضي الله عنه الطعام
وأخرج الطبراني عن جابر قال: صنعت أمي طعاماً وقالت: إذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدعُه. فجئت النبي صلى الله عليه وسلم فسارَرْته فقلت: إن أمي قد صنعت شيئاً، فقال لأصحابه: «قومو» فقام معه خمسون رجلاً. فجلس على الباب فقال النبي صلى الله عليه وسلم «أدخلْ عشرة عشرة» فأكلوا حتى شبعوا وفضل نحوُ ما كان. قال الهيثمي: رجاله وثُقِّوا.
إطعام أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه قصته رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك
أخرج مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال أبو طلحة لأم سُلَيم رضي الله عنهما: قد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً أعرفُ فيه الجوع فهل عندك من شيء؟ فقالت: نعم، فأخرجت أقراصاً من شعير، ثم أخذت خماراً لها فلفَّت الخبز ببعضه ثم دسته تحت ثوبي وردَّتني ببعضه، ثم أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذهبت به فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في المسجد ومعه الناس فقمت عليهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أرسلكَ أبو طلحة؟» (قال) : فقلت:(2/452)
نعم، فقال: «ألطعام؟» فقلت: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن معه: «قوموا» قال: فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته فقال أبو طلحة: يا أم سليم، قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس وليس عندنا ما نطعمهم، فقالت: الله ورسوله أعلم. قال: فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم معه حتى دخلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هلمي ما عندك يا أُم سُلَيم» فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ففُتَّ وعَصرت عليه أُم سُلَيم عُكَّة له فأَدَمَتْه، ثم قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقول، ثم قال: «إئذن لعشرة» فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا، ثم قال: «إئذن لعشرة» فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا، ثم قال: «إئذن لعشرة» حتى أكل القوم كلهم وشبعوا؛ والقوم سبعون رجلاً أو ثمانون. وأخرجه أيضاً البخاري عن أنس بنحوه كما في البداية والإِمام أحمد، وأبو يعلى، والبَغَوي كما بسط طرق أحاديثهم وألفاظهم في البداية. وأخرجه الطبراني أيضاً كما في المجمع وقال: رواه أبو يَعْلى، الطبراني وزاد: وهم زهاء مائة. ورجالهما رجال الصحيح.
إطعام الأشعث بن قيس الكندي رضي الله عنه قصة وليمته رضي الله عنه(2/453)
أخرج الطبراني عن قيس بن أبي حازم قال: لمّا قُدم بالأشعث أسيراً على أبي بكر رضي الله عنهما أطلق وثَاقه وزَوْجه أخته، فاخترط سيفه ودخل سوق الإِبل فجعل لا يرى جملاً ولا ناقة إلا عرقبه، فصاح الناس: كفر الأشعث فلما فرغ طرح سيفه وقال: إني - والله - ما كفرت، ولكني زوَّجني هذا الرجل أخته ولو كنا في بلادنا كانت (لنا) وليمة غير هذه، يا أهل المدينة (إنحروا) وكلوا، ويا أصحاب الإِبل تعالَوا خذوا شرواها. كذا في الإِصابة والمجمع. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير عبد المؤمن بن علي وهو ثقة.
إطعام أبي برزة رضي الله عنه
أخرج ابن سعد عن الحسن بن حكيم عن أمه أنها كانت لأبي بَرْزة رضي الله عنه جَفْنة من ثريد غدوة وجفنة عشية للأرامل واليتامى والمساكين.
ضيافة الأضياف الواردين إلى المدينة الطيبة حديث طلحة بن عمرو رضي الله عنه في ذلك
أخرج أبو نعيم في الحلية عن طلحة بن عمرو رضي الله عنه قال: كان الرجل إذا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم إن كان له عريف بالمدينة نزل عليه، فإذا لم يكن له عريف نزل مع أصحاب الصُّفَّة - رضي الله عنهم -. قال: فكنت فيمن نزل الصفَّة، فوافقت رجلاً، فكان يجري علينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم كل يوم مدٌّ(2/454)
من تمر بين رجلين. فسلَّم ذات يوم من الصلاة فناداه رجل منا فقال: يا رسول الله، قد أحرق التمر بطوننا، وتخرّقت عنا الخُنُف - والخنف برود شبه اليمانية - قال: فمال النبي صلى الله عليه وسلم إلى منبره فصعده، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر ما لقي من قومه فقال: «لقد مكثت أنا وصاحبي بضعة عشر ليلة ما لنا طعام إِلا البرير» - والبرير ثم الأرَاك - قال: «فقدمنا على إخواننا من الأنصار وعُظْم طعامهم التمر، فواسَوْنا فيه؛ فالله لو أجد لكم الخبز واللحم لأطعمتكم، ولكن لعلكم تدركون زماناً أو من أدركه منكم تلبسون فيه مثل أستار الكعبة، ويُغدى ويُراح عليكم بالجِفَان» وأخرجه أيضاً الطبراني، والبزار بنحوه. قال الهيثمي: رجال البزار رجال الصحيح غير محمد بن عثمان العقيلي وهو ثقة. انتهى. وأخرجه ابن جرير كما في الكنز وأحمد، والحاكم، وابن حِبَّان كما في الإِصابة.
حديث فضالة الليثي رضي الله عنه في ذلك
وأخرج الطبراني عن فَضالة الليثي رضي الله عنه قال: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان من كان له عريف نزل على عريفه، ومن لم يكن له عريف نزل الصفَّة، فلم يكن لي عريف فنزلت الصفَّة، فناداه رجل يوم الجمعة فقال:(2/455)
يا رسول الله، أحرق بطوننا التمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «توشكون أنَّ من عاش منكم يُغدى عليه بالجفان ويُراح، وتكتسون كما تُستر الكعبة» . وفيه المقدام بن داود وهو ضعيف، وقد وُثِّق، وبقية رجاله ثقات؛ كما قال الهيثمي.
حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه في ذلك
وأخرج البيهقي عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي بأصحابه ثم ينصرف فيقول لأصحابه: «ليأخذ كل رجل بقدر ما عنده» ، فيذهب الرجل بالرجل والرجلين والثلاثة، ويذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالباقين. كذا في الكنز.
حديث محمد بن سيرين رضي الله عنه في ذلك
وأخرج أبو نُعَيم في الحِلية عن محمد بن سيرين قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أمسى قَسَم ناساً من أهل الصُّفَّة بين ناس من أصحابه، فكان الرجل يذهب بالرجل، والرجل يذهب بالرجلين، والرجل يذهب بالثلاثة، حتى ذكر عَشَرة؛ فكان سعد بن عبادة رضي الله عنه يرجع كل ليلة إلى أهله بثمانين منهم يعشِّيهم. وأخرجه أيضاً ابن أبي الدنيا وابن عساكر نحوه مختصراً كما في منتخب الكنز.
دعوته صلى الله عليه وسلم لأهل الصفَّة
وأخرج أبو نُعَيم في الحِلْية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: مرّ بي(2/456)
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أبا هر» فقلت: لبيك يا رسول الله. قال: «الحَقْ أهل الصفَّة فادعُهم» قال: وأهل الصفة أضياف الإِسلام لا يأوون على أهل ولا مال، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها. صحيح متفق عليه.
حديث أبي ذر رضي الله عنه في ضيافة أهل الصفة
وأخرج أيضاً عن أبي ذر رضي الله عنه قال: كنت من أهل الصفَّة، فكنَّا إِذا أمسينا حضرنا باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمر كل رجل فينصرف برجل، فيبقى من بقي من أهل الصفّة عشرة أو أكثر أو أقل، فيُؤتى النبي صلى الله عليه وسلم بعشائه فنتعشى معه؛ فإذا فرغنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ناموا في المسجد» قال: فمرَّ عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا نائم على وجهي، فغمزني برجله وقال: «يا جندب ما هذه الضجعة؟ فإنها ضجعة الشيطان» .
حديث ابن قيس في ذلك
وأخرج أيضاً عن ظخفة بن قيس رضي الله عنه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، فجعل الرجل يذهب بالرجل، والرجل يذهب بالرجلين، حتى(2/457)
بقيت في خامس خمسة. قال: فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنطلقوا» فانطلقنا معه إلى عائشة رضي الله عنها فقال: «يا عائشة أطعمينا، إسقينا» فجاءت بجشيشة. قال: فأكلنا، ثم جاءت بحَيْسة مثل القطاة فأكلنا. ثم قال: «يا عائشة إسقينا» فجاءت بقَدَح صغير من لبن فشربنا؛ ثم قال: «إن شئتم بتم، وإن شئتم إنطلقتم إلى المسجد» . قال: قلنا: ننطلق إلى المسجد. قال: فبينا أنا مضطجع في المسجد على بطني إذ رجل يحركني برجله، فقال: «إن هذه ضجعة يُبغضها الله» . قال: فنظرت فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم
ضيافة الذين يريدون الإِسلام
وأخرج الطبراني وأبو نُعَيم عن جَهْجاه الغفاري رضي الله عنه قال: قدمت في نفر من قومي يريدون الإِسلام، فحضروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سلّم قال: «يأخذ كل رجل بيد جليسه» ، فلم يبقَ في المسجد غيرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيري - وكنت عظيماً طويلاً لا يقدِمُ عليَّ أحد - فذهب بي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله، فحلب لي عنزاً فأتيت عليها (ثم بصنيع برمة فأتيت عليه) ، حتى حلب لي سبع أعنز فأتيت عليها، وقالت أم أيمن رضي الله عنها: أجاع الله من أجاع رسول الله الليلة قال: «مَهْ يا أم أيمن، أكل رزقه ورزقنا على الله» فأصبحوا فغدَوا واجتمع هو وأصحابه، فجعل الرجل يخبر بما أُتي إليه، فقلت: حُلبت لي سبع أعنز فأتيت عليها، وصنيع برمة فأتيت(2/458)
عليها؛ فصلَّوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب فقال: «ليأخذ كل رجل بيد جليسه» فلم يبقَ في المسجد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيري - وكنت عظيماً طويلاً لا يُقدِمُ عليَّ أحد -، فذهب بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلب لي عنزاً فرويت وشبعت، فقالت أم أيمن: يا رسول الله، أليس هذا ضيفَنا؟ فقال: «بلى» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنه أكل في مِعَى مؤمن الليلة، وأكل قبل ذلك في مِعَى كافر. الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في مِعَى واحد» . كذا في الكنز. وأخرجه أيضاً ابن أبي شيبة نحوه كما في الإِصابة، والبزَّار، وأبو يَعْلى كما في المجمع وقال: فيه موسى بن عبيدة الرَّبَذِي وهو ضعيف.
ضيافة أهل الصفة في رمضان
وأخرج البيهقي عن واثِلة بن الأسْقَع رضي الله عنه قال: حضر رمضان ونحن في أهل الصفة فصُمْنا. فكنا إذا أفطرنا أتى كلَّ رجلٍ منا رجلٌ من أهل البَيْعة فانطلق به فعشّاه، فأتت علينا ليلة لم يأتنا أحد وأصبحنا صباحاً، وأتت علينا القابلة فلم يأتنا أحد، فانطلقنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه بالذي كان من أمرنا، فأرسل إلى كل إمرأة من نسائه يسألها هل عندها شيء؟ فما بقيت منهن إمرأة إلا أرسلت تقسم ما أمسى في بيتها ما يأكل ذو كبد، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (إجتمعوا) فاجتمعوا، فدعا وقال: «اللهَّم إني أسألك من فضلك ورحمتك، فإنها بيدك لا يملكها أحد غيرك» ، فلم يكن إلا ومستأذن يستأذن، فإذا بشاة مَصْليَّة(2/459)
ورُغُف، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعت بين أيدينا، فأكلنا حتى شبعنا. فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنا سألنا الله نفضله ورحمته، فهذا فضله وقد ادَّخر لنا عنده رحمته» . كذا في البداية.
حديث عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما في ذلك
وأخرج البخاري عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما أن أصحاب الصفة كانوا أناساً فقرء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال مرة: زمن كان عنده طعام إثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس» - أو سادس أو كما قال - وأن أبا بكر جاء بثلاثة، وانطلق النبي صلى الله عليه وسلم بعشرة، وأبو بكر رضي الله عنه بثلاثة. قال: فهو أنا وأبي وأمي - ولا أدري هل قال: إمرأتي - وخادم بين بيتنا وبيت أبي بكر، وأن أبا بكر تعشّى عند النبي صلى الله عليه وسلم ثم لبث حتى صلى العشاء، ثم رجع فلبث حتى تعشَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء بعدما مضى من الليل ما شاء الله. قالت له إمرأته: ما حبسك عن أضيافك - أو ضيفك؟ - قال: أوَ ما عشيتِهم؟ قالت: أبَوا حتى تجيء؛ قد عرضوا عليهم فغلبوهم، فذهبتُ فاختبأتُ، فقال: يا عُنْثَر، فجدَّع وسبَّ وقال: كلوا، وقال: لا أطعمه أبداً (قال: وايْمُ الله) ما كنا نأخذ مِنْ لقمة إلا رَبَا من أسفلها أكثر منها، حتى شبعوا وصارت أكثر مما كانت قبل. فنظر أبو بكر فإذا شيء أو أكثر(2/460)
فقال لامرأته: يا أخت بني فِراس، قالت: لا - وقرةِ عيني - لهي الآن أكثر ما قبل بثلاث مرار. فأكل منها أبو بكر وقال: إنما كان الشيطان - يعني يمينه - ثم أكل منها لقمة، ثم حملها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأصبحتْ عنده؛ وكان بيننا وبين قوم عهد، فمضى الأجل، فعَرَّفنا إثني عشر رجلاً مع كل رجل منهم أُناس، الله أعلم كم مع كل رجل، غير أنه بعث معهم، قال: فأكلوا منها أجمعون - أو كما قال - وغيره يقول: فتفرقنا. وقد رواه في مواضع أخر من صحيحه، ورواه مسلم كذا في البداية.
قصة قيس بن سعد رضي الله عنهما في ذلك
وأخرج الدارقطني في كتاب الأسخياء عن يحيى بن عبد العزيز قال: كان سعد بن عبادة يغزو سنة ويغزو إبنه قيس بن سعد رضي الله عنهما سنة، فغزا سعد مع الناس فنزل برسول الله صلى الله عليه وسلم ضيوف كثير مسلمون، فبلغ ذلك سعداً وهو في ذلك الجيش فقال: إن يك قيس إبني فسيقول: يا نِسْطاس هات المفاتيح، أخرج لرسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته، فيقول نِسطاس: هات من أبيك كتاباً، فيدقُّ أنفه ويأخذ المفاتيح، ويُخرج لرسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته؛ فكان الأمر كذلك، وأخذ قيس لرسول الله صلى الله عليه وسلم مائة وَسْق كذا في الإِصابة.(2/461)
ضيافة الأعراب عام القحط
وأخرج الطبراني عن ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها قالت: أجدب الناس سنة، وكانت الأعرب يأتون المدينة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الرجل فيأخذ بيد الرجل فيضِّيفه ويعشِّيه؛ فجاء أعرابي ليلة وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعام يسير وشيء من لبن فأكله الأعرابي ولم يدع للنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، فجاء به ليلة - أو ليلتين - فجعل يأكله كله، فقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم اللهمَّ لا تبارك في هذا الأعرابي يأكل طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدعه. ثم جاء به ليلة فلم يأكل من الطعام إِلا يسيراً، فقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك - وجاء به وقد أسلم - فقال: «إن الكفر يأكل في سبعة أمعاء، وإن المؤمن يأكل في مِعَى واحد. قال الهيثمي: رواه الطبراني بتمامه، وروى أحمد آخره، ورجال الطبراني رجال الصحيح. انتهى.
صنيع أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه عام الرمادة في ضيافة العرب
وأخرج ابن سعد عن أسلم قال: لمَّا كان عام الرمادة تجلَّبت العرب من كل ناحية فقدموا المدينة. فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أمر رجالاً يقومون عليهم ويقسمون عليهم أطعمتهم وإدامهم، فكان يزيد بن أخت النمر، وكان المِسْوَر بن مَخْرَمة، وكان عبد الرحمن بن عبد القاريّ، وكان عبد الله بن عتبة بن مسعود رضي الله عنهم، فكانوا إذا أمسَوا إجتمعوا عند عمر فيخبرونه بكل ما كانوا فيه، وكان كل رجل منهم على ناحية من المدينة؛ وكان(2/462)
الأعراب حلولاً فيما بين رأس الثنية إلى راتج، إلى بني حارثة، إلى بني عبد الأشهل، إلى البقيع، إلى بني قريظة، ومنهم طائفة بناحية بني سَلِمة؛ هم محدقون بالمدينة. فسمعت عمر يقول ليلة - وقد تعشَّى الناس عنده - أحصُوا من تعشَّى عندنا. فأحصَوهم من القابلة فوجدوهم سبعة آلاف رجل. وقال: أحصوا العيالات الذين لا يأتون والمرضى والصبيان فأحصَوا فوجدوهم أربعين ألفاً.
ثم مكثنا ليالي فزاد الناس، فأمر بهم، فأُحصوا، فوجدوا من تعشَّى عنده عشرة آلاف الآخرين خمسين ألفاً. فما برحوا حتى أرسل الله السماء، فلما مطرت رأيت عمر قد وكل كل قوم من هؤلاء النفر بناحيتهم يُخرجونهم إلى البادية، ويعطونهم قوتاً وحُمْلاناً إلى باديتهم؛ ولقد رأيت عمر يخرجهم هو بنفسه. قال أسلم: وقد كان وقع فيهم الموت فأراه مات ثلثاهم وبقي ثلث، وكانت قدور عمر يقوم إليها العمال في السَّحَر يعملون الكركور حتى يصبحوا، ثم يطعمون المرضى منهم، ويعملون العصائد وكان عمر يأمر بالزيت فيفار في القدور الكبار على النار حتى يذهب حمته وحره، ثم يُثْرَد الخبز ثم يؤدَم بذلك الزيت.t فكانت العرب يُحمُّون من الزيت. وما أكل عمر في بيت أحد من ولده ولا بيت أحد من نسائه ذَواقاً زمان الرمادة؛ إِلا ما يتعشَّى مع الناس حتى أحيا الله الناس أول ما أُحْيَوا.
حديث فراس الديلمي في ذلك
وأخرج ابن سعد عن فراس الديلمي قال: كان عمر بن الخطاب(2/463)
رضي الله عنه ينحر كل يوم على مائدته عشرين جزوراً من جُزُر بعث بها عمرو بن العاص رضي الله عنه من مصر. كذا في منتخب الكنز.
قصة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه مع أهل البيت جياع
وأخرج الدِينَوَري، وابن شاذان، وابن عساكر عن أسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه طاف ليلة، فإذا هو بامرأة في جوف دار له وحولَها صبيان يبكون. وإذا قِدْر على النار قد ملأتها ماءً، فدنا عمر من الباب فقال: يا أمةَ الله، ما بكاء هؤلاء الصبيان؟ قالت: بكاؤهم من الجوع، قال: فما هذا القدر التي على النار؟ قالت: قد جعلت ماءً هو ذا أعلِّلهم به حتى يناموا وأوهمهم أن فيها شيئاً. فبكى عمر، ثم جاء إلى دار الصَّدَقة، وأخذ غِرارة، وجعل فيها شيئاً من دقيق وشحم وسمن وتمر وثياب ودراهم حتى ملأ الغِرارة، ثم قال: يا أسلم إحملْ عليَّ. فقلت: يا أمير المؤمنين أنا أحمله عنك، فقال لي: لا أمَّ لك يا أسلم أنا أحمله لأني أنا المسؤول عنهم في الآخرة؛ فحمله حتى أتى به منزل المرأة، فأخذ القدر فجعل فيها دقيقاً وشيئاً من شحم وتمر وجعل يحركه بيده وينفخ تحت القِدْر، فرأيت الدخان يخرج من خَلَل لحيته حتى طبخ لهم، ثم جعل غرف بيده ويطعمهم حتى شبعوا. ثم خرج وربض بحذائهم كأنه سُبُع خفت أن أكلّمه، فلم يزل كذلك حتى لعب الصبيان وضحكوا. ثم قام فقال: يا أسلم تدري لم ربضت بحذائهم؟ قلت: لا، قال: رأيتهم يبكون، فكرهت أن أذهب وأدعهم حتى أراهم يضحكون، فلما ضحكوا طابت نفسي. كذا في منتخب الكنز. وذكر في البداية عن أسلم قال:(2/464)
خرجت ليلة مع عمر إلى حرَّة وأقِم حتى إذا كنا بصرار إِذا بنار، فقال: يا أسلم ها هنا رَكُب قد قَصَّر بهم الليل، إنطلق بنا إليهم. فأتيناهم، فإذا إمرأة معها صبيان لها - فذكره بمعناه. وأخرجه الطبري بمعناه مع زيادات.
تقسيم الطعام حديث أنس رضي الله عنه في ذلك
أخرج أحمد عن أنس رضي الله عنه قال: أهدى الأكَيْدِر إلى النبي صلى الله عليه وسلم جرة مِنْ مَنَ. فلما انصرف صلى الله عليه وسلم من الصلاة مرّ على القوم، فجعل يعطي كل رجل منهم قطعة، وأعطى جابراً قطعة، ثم إنه رجع إليه فأعطاه قطعة أُخرى فقال: إنك قد أعطيتني مرة؛ فقال: «هذه لبنات عبد الله» . كذا في جمع الفوائد. قال الهيثمي: وفيه علي بن زيد وفيه ضعف ومع ذلك فحديثه حسن.
حديث الحسن رضي الله عنه في ذلك
وعند ابن جرير عن الحسن رضي الله عنه قال: أهدى أكَيْدِر دومة الجندل إلى(2/465)
رسول الله صلى الله عليه وسلم جرة فيها المنُّ الذي رأيتم، وبالنبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته يومئذٍ - والله - بها حاجة. فلما قضى الصلاة أمر طائفاً فطاف بها على أصحابه، فجعل الرجل يدخل يده فيستخرج فيأكل، فأتى على خالد بن الوليد رضي الله عنه فأدخل يده فقال: يا رسول الله أخذ القوم مرة وأخذت مرتين، فقال: «كل وأطعم أهلك» . كذا في الكنز.
تقسيم النبي صلى الله عليه وسلم تمراً بين أصحابه
وأخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قسم النبي صلى الله عليه وسلم يوماً بين أصحابه تمراً فأعطى كل إنسان سبعاً، وأعطاني سبعاً إحداهن حَشَفَة، فكانت أعجَبهن إليَّ لأنها شدت في مضاغي. وعند مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: أُتيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمر فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقسمه وهو مُحْتَفِز، يأكل منه أكلاً ذريعاً.
كتاب عمر إلى عمرو بن العاص رضي الله عنهما عام الرمادة وجوابه إليه
وأخرج ابن عبد الحَكَم عن الليث بن سعد أن الناس بالمدينة أصابهم جَهْد شديد في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سنة الرمادة، فكتب إِلى عمرو بن العاص رضي الله عنه وهو بمصر:(2/466)
«من عبد الله عمر أمير المؤمنين إِلى العاصي بن العاصي، سلام، أما بعد: فلعمري - يا عمرو - ما تبالي إِذا شبعت أنت ومن معك أن أهلك (أنا) ومن معي، فيا غوثاه، ثم يا غوثاه» .
يردّد قوله.
فكتب إليه عمرو بن العاص.
«لعبد الله عمر أمير المؤمنين من عمرو بن العاص أما بعد: فيا لبيك، ثم يا لبيك، وقد بعثت إِليك بعيرٍ أولها عندك وآخرها عندي. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته» .
تقسيم عمر الطعام الذي أرسله عمرو بين سكان المدينة المنوّرة
وبعث عمرو بعيرٍ عظيمة، فكان أولها بالمدينة وآخرها بمصر، يتبع بعضها بعضاً، فلما قدمت على عمر وسَّع بها على الناس، ودفع إلى أهل كل بيت بالمدينة وما حولها بَعيراً بما عليه من الطعام، وبعث عبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم يقسمونها على الناس، فدفعوا إلى أهل كل بيت بعيراً بما عليه من الطعام أن يأكلوا الطعام وينحروا البعير، فيأكلوا لحمه ويأتدموا شحمه، ويحتذوا جلده، وينتفعوا بالوعاء الذي كان فيه الطعام لما أرادوا من لحاف أو غيره؛ فوسَّع الله بذلك على الناس - فذكر الحديث بطوله في حفر الخليج من النيل إلى القلزُم لحمل الطعام إلى المدينة ومكة. كذا في المنتخب.
وأخرجه أيضاً ابن خُزَيمة والحاكم، والبيهقي عن أسلم قال: كتب عمر بن الخطاب في عام الرمادة إلى عمرو بن العاص - فذكره، وفيه: فلما قدم أول(2/467)
عير دعا الزبير فقال: أخرج في أول هذه العير فاستقبل بها نجداً، فاحمل إِليَّ أهل كل بيت قدرت أن تحملهم إليَّ، ومن لم تستطع حمله فمر لكل أهل بيت ببعير بما عليه، ومرهم فليلبسوا كسائين ولينحروا البعير، فليجمِّلوا شحمه، وليقددوا لحمه، وليحذوا جلده، ثم ليأخذوا كُبة من قديد وكبة من شحم وحفنة من دقيق فليطبخوا ويأكلوا حتى يأتيهم الله برزق. فأبى الزبير أن يخرج، فقال: أما - والله - لا تجد مثلها حتى تخرج من الدنيا، ثم دعا آخر - أظنُّه طلحة رضي الله عنه - فأبى، ثم دعا أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه فخرج في ذلك - فذكر الحديث في إعطاء عمر أبا عبيدة ألف دينار وردّه ثم قبوله على ما قاله له عمر، كذا في المنتخب وسيأتي. وتقدَّم قَسْمه صلى الله عليه وسلم الطعام في الأنصار وبني ظَفَر في إِكرام الأنصار وخدمتهم.
إكساء الحلل وقسمها قصة إكسائه صلى الله عليه وسلم الأسير بردين
أخرج أبو نُعَيم عن حِبان بن جُزْء السُّلَمي عن أبيه رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الأسير، فكسا جُزْءاً بُرْدَين، وأسلم جزء عنده، ثم قال: «أدخل على عائشة تعطيك من الأبردة التي عندها بُرْدَين» ، فدخل على عائشة فقال: أي - نضرَّك الله - إختاري لي من هذه الأبردة التي عندك بردَين، فإن نبي الله صلى الله عليه وسلم كساني منها بردَين، فقالت - ومدَّت سواكا من أراك طويلاً -: خذ هذا، وخذ هذا. وكانت نساء العرب لا يُرَين، كذا في المنتخب.(2/468)
قصة عمر رضي الله عنه مع سبطي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك
وأخرج ابن سعد عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: قدم على عمر رضي الله عنه حُلَلٌ من اليمن فكسا الناس، فراحوا في الحلل وهو بين القبر والمنبر جالس، والناس يأتونه فيسلِّمون عليه ويدعُون له، فخرج الحسن، والحسين رضي الله عنهما من بيت أمهما فاطمة رضي الله عنها يتخطَّيان الناس، وليس عليهما من تلك الحلل شيء، وعمر قاطب صارٌّ بين عينيه، ثم قال: والله ما هنأ لي ما كسوتكم، قالوا: يا أمير المؤمنين، كسوت رعيتك فأْسنت، قال: من أجل الغلامين يتخطَّيان الناس وليس عليهما منها شيء، كَبُرت عنهما وصغرا عنها، ثم كتب إلى اليمن: أن أبعث بحلَّتين لحسنٍ، وحسينٍ وعجِّل. فبعث إليه بحلَّتين فكساهما، كذا في كنز العمال. وقد تقدَّم قصة أُسيد بن حضير، ومحمد بن مَسْلَمة مع عمر رضي الله عنهم في قَسْمة الحلل بين الناس في إِكرام الأنصار، وإِعطاء عمر أم عمارة رضي الله عنها المِرْط الجيد لأنها كانت تقاتل يوم أُحد في قتال النساء.
صنيع أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه في ذلك
وأخرج الزبير بن بكار عن م حمد بن سلام قال: أرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشَّفَّاء بنت عبد الله العدويَّة رضي الله عنها أن أغدي عليَّ.(2/469)
قالت: فغدَوت عليه فوجدت عاتكة بنت أُسِيد بن أبي العِيص رضي الله عنها ببابه، فدخلنا فتحدثنا ساعة، فدعا بنَمَط فأعطاها إياه، ودعا بنمط دنه فأعطانيه؛ قالت: فقلت: يا عمر أنا قبلها إِسلاماً، وأنا بنت عمك دونها، وأرسلتَ إليَّ وأتتك من قِبَل نفسها؛ قال: ما كنتُ رفعت ذلك إلا لك، فلما اجتمعتما تذكرتُ أنها أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك. كذا في الإِصابة.
صنيع أمير المؤمنين علي رضي الله عنه في ذلك
وأخرج ابن عساكر، وأبو موسى المديني في كتاب إستدعاء اللباس عن أصْبَغ بن نُباتة قال: جاء رجل إلى علي رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، إن لي إليك حاجة قد رفعتها إلى الله قبل أن أرفعها إليك، فإن أنت قضيتها حمدتُ الله وشكرتُك، وإن لم تقضِها حمدت الله عذرتك؛ فقال علي: أكتب على الأرض؛ فإني أكره أن أرى ذلّ السؤال في وجهك، فكتب: إني محتاج، فقال علي: عليَّ بحلّة، فأُتيَ بها فأخذها الرجل فلبسها ثم أنشأ يقول:
كسوتني حلّة تبلَى محاسنها
فسوف أكسوك من حسن الثنا حُلَلا
إِن نلت حسن ثنائي نلتَ مكرمة
ولست تبغي بما قد قلتُه بدلا
إنَّ الثناء لَيُحيي ذكر صاحبه
كالغيث يُحيي نَدَاه السهل والجبلا
لا تزهد الدهرَ في خير تُوفَّقُه
فكل عبد سيُجزى بالذي عمِلا
فقال علي: عليَّ بالدنانير فأُتي بمائة دينار فدفعها إليه، قال الأصبغ: فقلت: يا أمير المؤمنين، حلة ومائة دينار؟ قال: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أنزلوا الناس منازلهم» وهذه منزلة هذا الرجل عندي. كذا في الكنز.(2/470)
أجر إكساء المسلم ثوبا
وأخرج الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما: جاءه سائل فقال له ابن عباس: أتشهد أن لا إِله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: وتصوم رمضان؟ قال: نعم، قال: سألت وللسائل حق، إنّه لحق علينا أن نصلك؛ فأعطاه ثوباً ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من مسلم (كسا) مسلماً ثوباً إلا كان في حفظ الله ما دام عليه منه خرقة» . كذا في جمع الفوائد.
إطعام المجاهدين صنيع قيس بن سعد رضي الله عنه في ذلك وقوله صلى الله عليه وسلم فيه
أخرج أبو بكر في الغيلانيات وابن عساكر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بَعْثاً عليهم قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما، فجهِدوا، فنحر لهم قيس تسع ركائب. فلما قدموا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن الجود لمن شيمة أهل ذلك البيت» . وعند ابن أبي الدنيا وابن عساكر عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: أقبل أبو عبيدة ومعه عمر بن الخطاب رضي الله عنها فقال لقيس بن سعد: عزمتُ عليك أن لا تنحر. فلما نحر وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنه في بيت جود» - يعني في غزوة الخَبَط -. كذا في منتخب الكنز.(2/471)
خروج حوت عظيم على ساحل البحر للمجاهدين
وعند الطبراني عن جابر قال: مرَّ علينا قيس بن سعد بن عبادة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابتنا مخمصة، فنحر لنا سبع جزائر، فهبطنا ساحل البحر، فإذا نحن بأعظم حوت، فأقمنا عليه ثلاثاً، حملنا منها شئنا من وَدَك في الأسقية والغرائر، وسرنا حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه بذلك فقالوا: «لو نعلم أنا ندركه قبل أن يُرْوِحَ أحببنا أن لو كان عندنا منه» . قال الهيثمي: وفيه عبد الله بن صالح كاتب الليث، قال عبد الملك بن شعيب بن الليث: ثقة مأمون وضعَّفه أحمد وغيره، وأبو حمزة الخولاني لم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. انتهى.
ما وقع بين عمر وبلال رضي الله عنهما في إطعام المجاهدين
وأخرح أبو عُبَيد عن قيس بن أبي حازم قال: جاء بلال إلى عمر رضي الله عنهما حين قدم الشام وعنده أمراء الأجناد، فقال: يا عمر، يا عمر، فقال عمر: هذا عمر. فقال: إنك بين هؤلاء وبين الله، وليس بينك وبين الله أحد، فانظر مَنْ بين يديك ومَنْ عن يمينك ومَنْ عن شمالك، فإنَّ هؤلاء الذين جاؤوك - والله - إن يأكلوا إلا لحوم الطير، فقال عمر: صدقت، لا أقوم من مجلسي هذا حتى تكفَّلوا لي لكل رجل من المسلمين بمُدَّيْ برّ وحظهما من(2/472)
الخل والزيت، قالوا: تكفلنا لك يا أمير المؤمنين، هو علينا، قد أكثر الله من الخير وأوسع، قال: فنعم إذاً. كذا في الكنز. وأخرجه الطبراني أيضاً عن قيس نحوه، قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح خلا عبد الله بن أحمد وهو ثقة مأمون.
كيف كانت نفقة النبي صلى الله عليه وسلم
قصة بلال رضي الله عنه في ذلك مع مشرك
أخرج البيهقي عن عبد الله الهوريني قال: لقيت بلالاً رضي الله عنه مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلب، فقلت: يا بلال، حدثني كيف كانت نفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما كان له شيء إلا أنا الذي كنت أَلي ذلك منه منذ بعثه الله إِلى أن توفي، فكان إذا أتاه (الإِنسان) المسلم فرآه عائلاً يأمرني فأنطلق فأستقرض فأشتري البُرْدة والشيء فأكسوه وأطعمه، حتى اعترضني رجل من المشركين، فقال: يا بلال، إن عندي سَعَة فلا تستقرض من أحد إلا مني، ففعلت. فلما كان ذات يوم توضأت ثم قمت لأؤذن بالصلاة، فإذا المشرك في عصابة من التجار فلما رآني قال: يا حبشي (قال) : قلت: يا لبيهْ. فتجهمني وقال قولاً عظيماً - أو غليظاً - وقال: أتدري كم بينك وبين الشهر؟ قلت: قريب، قال: إنما بينك وبينه أربع ليالٍ، فآخذك بالذي لي عليك، فإني لم أعطك الذي أعطيتك من كرامتك ولا من كرامة صاحبك، وإنما أعطيتك لتصير لي عبداً فأذرك ترعى في الغنم كما(2/473)
كنت قبل ذلك؛ قال: فأخذني في نفسي ما يأخذ في أنفس الناس، فانطلقت فناديت بالصلاة حتى إذا صلَّيت بالعَتَمة، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله فاستأذنت عليه فأذن لي، فقلت: يا رسول الله - بأبي أنت وأمي - إنَّ المشرك الذي ذكرت لك أني (كنت) أتديَّن منه قد قال كذا وكذا، وليس عندك ما يقضي عني ولا عندي وهو فاضحي، فأْذن لي أن آتي (إلى) بعض هؤلاء الأحياء الذين قد أسلموا حتى يرزق الله رسوله صلى الله عليه وسلم ما يقضي عني.
فخرجت حتى أتيت منزلي فجعلت سيفي وحرابي ورمحي ونعلي عند رأسي فاستقبلت بوجهي الأفق، فكلما نمت انتبهت، فإذا رأيت عليَّ ليلاً نمت حتى انشق عمود الصبح الأول، فأردت أن أنطلق فإذا إنسان يدعو: يا بلال أجبْ رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلقت حتى آتيه، فإذا أربع ركائب عليهن أحمالهن، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنت، فقال لي رسول الله: «أبشر، فقد جاءك الله بقضاء دينك، فحمدت الله، وقال: «ألم تمرّ على الركائب المناخات الأربع؟» قال: قلت: بلى، قال: «فإن لك رقابهن وما عليهن - فإذا عليهنَّ كسوة وطعام أهداهنَّ له عظيم فَدَك - فأقُبضهن إليك ثم إقضِ دينك» قال: ففعلت، فحططت عنهنَّ أحمالهنَّ، ثم علفتهنَّ، ثم عمدت إلى تأذين صلاة الصبح؛ حتى إذا صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجت إلى البقيع، فجعلت أصبعي في أذنيَّ فقلت: من كان يطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم دَيْناً فليحضر، فما زلت أبيع وأقضي وأعرض حتى لم يبقَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم دَيْن في الأرض حتى فضل عندي أوقيتان أو أوقية ونصف. ثم انطلقت إلى المسجد وقد ذهب عامة النهار فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في المسجد وحده، فسلَّمت عليه فقال (لي) : «ما فعل ما قِبَلك؟» قلت: قضى الله كل شيء كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبقَ شيء، قال: «فَضَل شيء؟» قلت: نعم، ديناران؛ قال: «أنظر أن تريحني منهما؛ فلست بداخل على أحد من أهلي حتى تريحني منهما» . فلم يأتنا أحد، فبات في المسجد حتى أصبح وظل في المسجد اليوم الثاني، حتى إذا كان في آخر(2/474)
النهار جاء راكبان، فانطلقت بهما فكسوتهما وأطعمتهما، حتى إذا صلَّى العَتَمة دعاني فقال: «ما فعل الذي قِبَلك؟» قلت: قد أراحك الله منه، فكبَّر وحمد الله شفقاً من أن يدركه الموت وعنده ذلك، ثم اتَّبعته حتى جاء أزواجه فسلَّم على إمرأة إمرأة حتى أتى مبيته. فهذا الذي سألتني عنه. كذا في
البداية
. وأخرجه الطبراني أيضاً عن عبد الله نحوه، كما في الكنز.
قسم المال قسم النبي صلى الله عليه وسلم المال وكيف كان قسمه حديث أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها في ذلك
أخرج الطبراني عن أم سَلَمة رضي الله عنها قالت: إني لأعلم أكثر مال قدم على النبي صلى الله عليه وسلم حتى قبضه الله تعالى، قدم عليه في جُنْح الليل خريطة فيها ثمان مائة درهم وصحيفة، فأرسل بها إليّ وكانت ليلتي، ثم انقلب بعد العشاء الآخرة فصلَّى في الحجرة في مصلاه وقد مهدت له ولنفسي فأنا أنتظر، فأطال ثم خرج ثم رجع، فلم يزل كذلك حتى دُعِيَ لصلاة الصبح، فصلَّى ثم رجع، فقال: «أين تلك الخريطة التي فتنتني البارحة؟» فدعا بها فقسمها. قلت: يا رسول الله صنعت شيئاً لم تكن تصنعه؟ فقال: «كنت أصلي فأوتى بها، فأنصرف حتى أنظر إليها ثم أرجع فصلِّي» . قال الهيثمي: رواه الطبراني بأسانيد وبعضها جيد.(2/475)
قسمة ثمانين ألفاً بعثها العلاء بن الحضرمي إليه صلى الله عليه وسلم وأخرج الحاكم عن حُمَيد بن هلال عن أبي بُرْدة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما أن العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من البحرين بثمانين ألفاً، فما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مالٌ أكثر منه لا قبلها ولا بعدها، فأمر بها ونثرت على حصير، ونُودي بالصلاة، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يميل على المال قائماً، فجاء الناس وجعل يعطيهم، وما كان يومئذٍ عدد ولا وزن وما كان إلا قبضاً؛ فجاء العباس رضي الله عنه فقال: يا رسول الله إني أعطيت فدائي وفداء عقيل يوم بدر ولم يكن لعقيل مال، أعطني من هذا المال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خذ» فحثى في خَميصة كانت عليه، ثم ذهب ينصرف فلم يستطع، فرفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إرفع عليّ، فتبسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم (حتى خرج ضاحكه أو نابه، قال: «ولكن أعِدْ في المال طائفة وقم بما تطيق» ، ففعل، فانطلق بذلك المال» وهو يقول أمَّا أحد ما وعد الله فقد أنجز لي، ولا أدري الأخرى: {قُل لّمَن فِى أَيْدِيكُم مّنَ الاْسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} (الأنفال: 70) ، هذا خير مما أخذ مني، ولا أدري ما يصنع بالمغفرة. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرِّجاه. وقال الذهبي: على شرط مسلم. وأخرجه ابن سعد عن حُمَيد بن هلال بمعناه ولم يذكر أبا بردة ولا أبا موسى.(2/476)
قسم أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه المال وتسويته في القسم صنيع أبي بكر رضي الله عنه في هذا الأمر وبيت المال في عهده
أخرج ابن سعد عن سهل بن أبي حَثْمة غيره أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان له بيت مال بالسُّنح معروف ليس يحرسه أحد، فقيل له: يا خليفة رسول الله ألا تجعل على بيت المال من يحرسه؟ فقال: لا يُخاف عليه، فقلت: لم؟ قال: عليه قفل، وكان يعطي ما فيه (حتى) لا يبقي فيه شيء. فلما تحوَّل أبو بكر إلى المدينة حوَّله فجعل بيت ماله في الدار التي كان فيها، وكان قدم عليه مال من معادن القَبَليَّة ومن معادن جهينة كثير، وانفتح معدن بني سُلَيم في خلافة أبي بكر فقُدم عليه منه بصدقته، فكان يوضع ذلك في بيت المال، فكان أبو بكر يقسمه على الناس نُقَراً نُقَراً، فيصيب كل مائة إنسان كذا وكذا، وكان يسوِّي بين الناس في القَسْم: الحر والعبد والذكر والأنثى والصغير الكبير فيه (سواء) ، وكان يشتري الإِبل والخيل والسلاح فيحمل في سبيل الله، واشترى عاماً قطائف أتيَ بها من البادية ففرقها في أرامل أهل المدينة في الشتاء.(2/477)
فلما توفي أبو بكر ودفن دعا عمر بن الخطاب الأمناء ودخل بهم بيت مال أبي بكر ومعه عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان رضي الله عنهم (وغيرها) ، ففتحوا بيت المال فلم يجدوا فيه ديناراً ولا درهماً، ووجدوا خَيْشة للمال فنُفضت فوجدوا فيها درهماً، فترحَّموا على أبي بكر؛ وكان في المدين وزَّان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يزن ما كان عند أبي بكر من مال فسئل الوزَّان: كم بلغ ذلك المال الذي ورد على أبي بكر؟ قال: مائتي ألف. كذا في الكنز.
حديث إسماعيل بن محمد وغيره في تسوية الصديق في تقسيم المال
وأخرج أحمد في الزهد عن إسماعيل بن محمد أنَّ أبا بكر رضي الله عنه قسم قَسْماً فسوَّى فيه بين الناس، فقال له عمر رضي الله عنه: يا خليفة رسول الله، تسوِّي بين أصحاب بدر وسواهم من الناس؟ فقال أبو بكر: إنما الدنيا بلاغ وخير البلاغ أوسطه، وإنما فضله في أجورهم.f وعند أبي عبيد عن يزيد بن أبي حبيب وغيره أن أبا بكر كُلِّمَ في أن يفضّل بين الناس في القسم، فقال: فضائلهم عند الله، وأما هذا المعاش فالسويّة فيه خير. كذا في الكنز. وعند البيهقي عن أسلم قال: ولي أبو بكر، فقسم بين الناس بالسوية، فقيل لأبي بكر: يا خليفة رسول الله لو فضَّلت المهاجرين والأنصار، فقال: أشتري منهم شرى، فأما هذا المعاش فالأسوة فيه خير من الأثرة. وعن عمر بن عبد الله مولى غَفْرة قال: قسم أبو بكر أول(2/478)
ما قسم فقال له عمر بن الخطاب: فضّل المهاجرين الأولين وأهل السابقة، فقال: أشتري منهم سابقتهم؟ فقسم فسوَّى.
قصة مال البحرين وقسمته بين الناس
وأخرج البيهقي أيضاً وابن أبي شيبة، والبزّار، الحسن بن سفيان عن عمر مولى غَفْرة قال: لمَّا توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء مال من البحرين فقال أبو بكر رضي الله عنه: من كان له على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أو عِدَة فليقم فليأخذ. فقام جابر رضي الله عنه فقال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن جاءني مال من البحرين لأعطينَّك هكذا وهكذا» - ثلاث مرات حثا بيده - فقال له أبو بكر: قم فخذ بيدك، فأخذ فإذا هي خمس مائة درهم، فقال: عدُّوا له ألفاً، وقسم بين الناس عشرة دراهم عشرة دراهم، وقال: إنَّما هذه مواعيد وعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس؛ حتى إذا كان عام مقبل جاءه مال أكثرُ من ذلك المال، فقسم بين الناس عشرين درهماً عشرين درهماً، وفَضَلت منه فَضْلة فقسم للخدم خمسة دراهم خمسة دراهم، وقال: إن لكم خداماً يخدمون لكم ويعالجون لكم فرضخنا لهم، فقالوا: لو فضّلت المهاجرين والأنصار لسابقتهم ولمكانهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أجر أولئك على الله، إنَّ هذا العاش لَلأُسْوة فيه خير من الأَثرة؛ فعمل بهذا ولايته - فذكر الحديث كما سيأتي كذا في الكنز.
وقد تقدم عدلُ على رضي الله عنه وتسويته في القَسْم وما قال علي لعربية أعطاها نحو ما أعطى مولاة لها: إني نظرت في كتاب الله عزّ وجلّ فلم أرَ فيه فضلاً لولد إسماعيل على ولد إسحاق عليهما الصلاة والسلام.(2/479)
قسم عمر الفاروق رضي الله عنه وتفضيله على السابقة والنسب صنيعه رضي الله عنه في ذلك وذكر الرواتب التي فرضها على السابقة والنسب
أخرج بن أبي شيبة، والبزار، والبيهقي عن عمر مولى غَفْرة - فذكر الحديث كما تقدَّم آنفاً، وفيه فلما مات أبو بكر رضي الله عنه إستخلف عمر رضي الله عنه ففتح الله عليه الفتوح فجاءه أكثر من ذلك، قال: قد كان لأبي بكر في هذا المال رأي ولي رأي آخر، لا أجعل من قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم كمن قاتل معه؛ ففضَّل المهاجرين والأنصار، ففرض لمن شهد بدراً منهم خمسة آلاف خمسة آلاف، ومن كان إسلامه قبل إسلام أهل بدر فرض له أربعة آلاف أربعة آلاف. وفرض لأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أثني عشر ألفاً لكل إمرأة إلا صفية وجُوَيْرِيَة رضي الله عنهما ففرض لكل واحدة ستة آلاف فأبَينَ أن يأخذنها، فقال: إِنما فرضتُ لهنَّ بالهجرة، فقلنَ: ما فرضتَ لهنَّ بالهجرة، إنما فرضت لهنَّ لمكانهنَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولن مثل مكانهنّ، فأبصر ذلك فجعلهنَّ سواءً. وفرض للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه إثني عشر ألفاً لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفرض لأسامة بن زيد رضي الله عنه أربعة آلاف، وفرض للحسن، والحسين رضي الله عنهما خمسة آلاف خمسة آلاف، فألحقهما بأبيهما لقرابتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم وفرض لعبد الله بن عمر رضي الله عنه ثلاثة آلاف، فقال: يا أبت فرضت لأسامة بن زيد، وفرضت لي ثلاثة آلاف؟ فما كان لأبيه من الفضل ما لم يكن لك وما كان له من الفضل ما لم يكن لي فقال: «إن أباه كان أحبَّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك، وهو كان أحبَّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك.(2/480)
وفرض لأبناء المهاجرين ممن شهد بدراً ألفين ألفين، فمر به عمر بن أبي سَلَمة رضي الله عنهما فقال: زيدوه ألفاً - أو قال زده ألفاً - يا غلام، فقال محمد بن عبد الله: لأي شيء تزيده علينا؟ ما كان لأبيه من الفضل ما كان لآبائنا قال: فرضت له بأبي سَلَمة ألفين وزدته بأم سَلَمة رضي الله عنها ألفاً، فإن كانت لك أم مثل أم سَلَمة زدتك ألفاً، وفرض لعثمان بن عبيد الله بن عثمان وهو ابن أخي طلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم - يعني عثمان بن عبيد الله - ثمان مائة، وفرض للنضر بن أنس ألفي درهم، فقال له طلحة: جاءك ابن عثمان مثلُه ففرضت له ثمان مائة وجاءك غلام من الأنصار ففرضت له في ألفين، فقال: إني لقيت أبا هذا يوم أحد فسألني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ما أُراه إلا قد قُتل، فسلّ سيفه وسدَّد زَنْده وقال: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل فإنَّ الله حي لا يموت، فقاتل حتى قتل، وهذا يرعى الغنم فتريدون أجعلها سواءً؟. فعمل عمر عُمُره بهذا - فذكر الحديث كما سيأتي شيء منه، واللفظ للبزَّار كما في المجمع، وقال: وفيه أبو معشر نُجَيح ضعيف يعتبر بحديثه. اهـ.(2/481)
حديث أنس رضي الله عنه في ذلك
وعند البيهقي عن أنس بن مالك رضي الله عنه وابن المسيِّب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب المهاجرين على خمسة آلاف، والأنصار على أربعة آلاف، من لم يشهد بدراً من أبناء المهاجرين على أربعة آلاف، فكان منهم: عمر بن أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي، وأسامة بن زيد، ومحمد بن عبد الله بن جحش الأسدي، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم، فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: إنَّ ابن عمر ليس من هؤلاء إنَّه وإنَّه فقال ابن عمر: إن كان لي حق فأعطنيه وإلا فلا تعطني، فقال عمر لابن عوف: أكتبه على خمسة آلاف واكتبني على أربعة آلاف، فقال عبد الله: لا أريد هذا، فقال عمر: والله لا أجتمع أنا وأنت على خمسة آلاف. وأخرجه ابن أبي شيبة نحوه، كما في الكنز.
حديث زيد بن أسلم في ذلك
وعند ابن عساكر عن زيد بن أسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما فرض للناس فرض لعبد الله بن حنظلة رضي الله عنها ألفي درهم، فأتاه طلحة رضي الله عنه بابن أخ له ففرض له دون ذلك، فقال: يا أمير المؤمنين، فضَّلت هذا الأنصاري على ابن أخي؟ فقال: نعم، لأني رأيت أبه يستتر بسيفه يوم أُحد كما يستتر الجمل. كذا في الكنز.(2/482)
حديث ناشزة اليزنيّ في ذلك
وأخرج أحمد عن ناشِزَة بن سُميَ اليزَني قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم الجابية وهو يخطب الناس: إن الله عزّ وجلّ جعلني خازناً لهذا المال وقاسمه، ثم قال: بل الله يقسمه، وأنا بادىء بأهل النبي صلى الله عليه وسلم ثم أشرفهم. ففرض لأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف إلا جويرية، وصفية، وميمونة رضي الله عنهن. قالت عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعدل بيننا، فعدل بينهنَّ عمر؛ ثم قال: إني بادىء بأصحابي المهاجرين الأوَّلين - فإنّا أُخرجنا من ديارنا ظلماً وعدواناً - ثم أشرفهم، ففرض لأهل بدر منهم خمسة آلاف ولمن شهد بدراً من الأنصار أربعة آلاف، وفرض لمن شهد أحداً ثلاثة آلاف. قال: ومن أسرع بالهجرة أسرع به العطاء ومن أبطأ بالهجرة أبطأ به العطاء، لا يلومنّ أمرؤ إلا مناخ راحلته، وإني أعتذر إليكم من عزل خالد بن الوليد، إني أمرته أن يحبس هذا المال على ضَعَفَة المهاجرين فأعطاه ذا البأس وذا الشرف وذا اللسان، فنزعته، ووليت أبا عبيدة، فقال أبو عمرو بن حفص؛ والله ما أعذرت يا عمر بن الخطاب، لقد نزعت عاملاً إستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وغمدت سيفاً سلّه رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعت لواء نصبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسدت ابن العم فقال عمر بن الخطاب: إنك قريب القرابة، حديث السن، مُغْضَب في ابن عمك. قال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله ثقات. اهـ. وأخرجه البيهقي عن ناشِزَة بن سُمَيّ اليزني نحوه إلا أنه لم يذكر معذرة عزل خالد وما بعده.(2/483)
تدوين عمر رضي الله عنه الديوان للعطايا حال عمر عندما قدم عليه أبو موسى بالمال الكثير وصنيعه في قسمته
أخرج ابن سعد، والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قدمت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه من عند أبي موسى الأشعري رضي الله عنه بثمان مائة ألف درهم، فقال لي: بماذا قدمت؟ قلت: قدمت بثمان مائة ألف درهم، فقال: أطيِّبٌ ويلك؟ قلت: نعم. فبات عمر ليلة أرِقاً حتى إذا نُودي بصلاة الصبح قالت له إمرأته: ما نمت الليلة قال: كيف ينام عمر بن الخطاب وقد جاء الناس ما لم يكن يأتيهم مثلُه مذ كان الإِسلام؟ فما يؤمن عمر لو هلك وذلك المال عنده فلم يضعه في حقه؟ فلما صلَّى الصبح إجتمع إليه نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: إِنه قد جاء الناس الليلة ما لم يأتهم مثلُه مذ كان الإِسلام، وقد رأيت رأياً فأشيروا عليّ، رأيت أكيل للناس بالمكيال؛ فقالوا: لا تفعل يا أمير المؤمنين، الناس يدخلون في الإِسلام ويكثر المال ولكن أعطهم على كتاب، فكلما كثر الناس وكثر المال أعطيتهم عليه. قال: فأشيروا عليّ بمن أبدأ منهم؟ قالوا: بك يا أمير المؤمنين إنك وليّ ذلك الأمر - ومنهم من قال: أمير المؤمنين أعلم - قال: لا. ولكن أبدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الأقرب فالأقرب إِليه؛ فوضع الديوان على ذلك، بدأ ببني هاشم والمطَّلب وأعطاهم جميعاً، ثم أعطى بني عبد شمس، ثم بني نوفل بن عبد مناف؛ وأنا بدأ ببني عبد شمس لأنه كان أخا هاشم لأمه. كذا في الكنز.(2/484)
تدوين عمر الديوان للعطايا وإِعطاؤه قرابة النبي صلى الله عليه وسلم أولا
وعند ابن سعد والطبري من طريقه عن جبير بن الحويرث أن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما إستشار المسلمين في تدوين الديوان، فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه: تقسم كل سنة ما اجتمع إِليك من مال ولا تمسك منه شيئاً. وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: أرى مالاً كثيراً يسع الناس وإن لم يحصوا حتى يعرف من أخذ ممن لم يأخذ خشية أن ينتشر الأمر. فقال له الوليد بن هشام بن المغيرة: يا أمير المؤمنين، قد جئتُ الشام فرأيت ملوكها قد دوَّنوا ديواناً وجنَّدوا جنوداً، فدوِّن ديواناً وجنِّد جنوداً، فأخذ بقوله، فدعا عقيل بن أبي طالب ومَخرَمة بن نوفل، وجبير بن مطعِم رضي الله عنهم - وكانوا من نُسَّاب قريش - فقال: اكتبوا الناس على منازلهم، فكتبوا فبدؤوا ببني هاشم، ثم أتبعوهم أبا بكر وقومه، ثم عمر وقومه على الخلافة. فلما نظر فيه عمر قال: وددت - والله - أنه هكذا ولكن إبدؤوا بقرابة النبي صلى الله عليه وسلم الأقرب فالأقرب حتى تضعوا عمر حيث وضعه الله. كذا في الكنز.
ما وقع بين عمر وبني عديَ في قصة قَسْم المال
وعند ابن سعد أيضاً والطبري من طريقه عن أسلم قال: فجاءت بنو عديّ إلى عمر فقالوا: أنت خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال: أو خليفة أبي بكر، وأبو بكر خليفة رسول الله - قالوا: وذاك، فلو جعلت نفسك حيث جعلك هؤلاء لقوم. قال: بَخٍ بخٍ بني عدي أردتم الأكل على ظهري وأن أذهِب حسناتي لكم؟ لا والله، حتى تأتيكم الدعوة وإن أطبق عليكم الدفتر - يعني ولو أن(2/485)
تُكتبوا آخر الناس - إنَّ لي صاحبين سلكا طريقاً فإن خالفتما خولف بي، والله ما أدركنا الفضل في الدنيا ولا نرجو ما نرجو من الآخرة من ثواب الله على ما عملنا إلا بمحمد صلى الله عليه وسلم فهو شرفنا، وقومه أشرف العرب، ثم الأقرب فالأقرب؛ إنَّ العرب شَرُفت برسول الله صلى الله عليه وسلم ولعل بعضها يلقاه إلى آباء كثيرة، وما بيننا وبين أن نلقاه إلى نسبة ثم لا نفارقه إلى آدم إلا آباء يسيرة، مع ذلك - والله - لئن جاءت الأعاجم بالأعمل وجئنا بغير عمل فهم أوْلى بمحمد منا يوم القيامة، فلا ينظر رجل إلى قرابة، وليعملْ لما عند الله، فإن من قصَّر به عمله لم يسرع به نسبه.
رجوع عمر إلى رأي أبي بكر وعلي رضي الله عنهم في القَسْم
أخرج البزَّار عن عمر بن عبد الله مولى غَفْرة قال: قدم على أبي بكر رضي الله عنه مال من البحرين، فذكر الحديث بطوله كما تقدم، وفيه: فخرج يوم الجمعة - أي عمر رضي الله عنه - فحمد الله وأثنى عليه وقال: قد بلغني مقالة قائلكم: لو قد مات عمر - أو قد مات أمير المؤمنين - أقمنا فلاناً فبايعناه، وكانت إمرة أبي بكر فلتة. أجل، والله لقد كانت فلتة، ومن أين لنا مثل أبي بكر نمد أعناقنا إليه كما نمد أعناقنا إلى أبي بكر؟ وإن أبا بكر رأى رأياً ورأى أبو بكر أن يقسم بالسويَّة، ورأيت أنا أن أفضل فإن أعش إلى هذه السنة فسأرجع إلى رأي أبي بكر فرأيه خير من رأيي - فذكر الحديث. قال الهيثمي: وفيه أبو معشر نجيح ضعيف يعتبر بحديثه.(2/486)
إعطء عمر رضي الله عنه المال إعطاء عمر العباس رضي الله عنهما بقية بيت المال
أخرج ابن سعد عن الحسن قال: بقي في بيت مال عمر رضي الله عنه شيء بعد ما قسم بين الناس، فقال العباس رضي الله عنه لعمر وللناس: أرأيتم لو كان فيكم عم موسى عليه السلام أكنتم تكرمونه؟ قالوا: نعم قال: فأنا أحق به، أنا عم نبيكم صلى الله عليه وسلم فكلَّم عمر الناس فأعطوه تلك البقية التي بقيت.
حديث عائشة رضي الله عنها في ذلك
وأخرج أبو يَعْلى عن عائشة رضي الله عنها أن درجاً أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فنظر إليه أصحابه فيمن؟ فقال: أتأذنون أن أبعث به إلى عائشة لحبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إِياها؟ قالوا: نعم، فأتى به عائشة ففتحته، فقيل: هذا أرسل به إليك عمر بن الخطاب، فقالت: ماذا فتح على ابن الخطاب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهمَّ لا تبقني لعطيته قابل. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.
حديث أنس رضي الله عنه في ذلك
وأخرج ابن سعد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إستعملني أبو بكر رضي الله عنه على الصَّدَقة، فقدمت وقد مات أبو بكر فقال عمر رضي الله عنه: يا أنس أجئتنا بظَهْر؟ قلت: نعم، قال: جِئْنا بالظَّهْر والمال لك.(2/487)
قلت: هو أكثر من ذاك. قال: وإن كان هو لك؛ وكان المال هو أربعة آلاف، فكنت أكثر أهل المدينة مالاً. كذا في الكنز.
قصة إِعطائه رجلا أصابته ضربة في سبيل الله
وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: بينما الناس يأخذون أَعطِيتهم بين يدي عمر إذ رفع رأسه فنظر إلى رجل في وجهه ضربة، قال: فسأله فأخبره أنه أصابته في غزاة كان فيها، فقال: عُدُّوا له ألفاً، فأعطى الرجل ألف درهم، ثم حول المال ساعة، ثم قال: عدُّوا له ألفاً، فأعطى الرجل ألفاً أخرى؛ قال له أربع مرات كل ذلك يعطيه ألف درهم. فاستحيَى الرجل من كثرة ما يعطيه فخرج، قال: فسأل عنه فقيل له: إنا رأينا أنه استحيَى من كثرة ما أُعطي فخرج؛ فقال عمر: أما - والله - لو أنه مكث ما زلت أعطيه ما بقي من المال درهم، رجل ضُرب ضربة في سبيل الله خضَّرت وجهه.
قَسْم علي بن أبي طالب رضي الله عنه المال
أخرج أبو عبيد في الأموال عن علي رضي الله عنه أنه أعطى العطاء في سنة ثلاث مرات ثم أتاه مال من أصبهان فقال: أغدوا إلى عطاء رابع، إِني لست بخازنكم، فقسم الحبال فأخذها قوم، وردّها قوم. كذا في الكنز.(2/488)
قَسْم عمر وعلي رضي الله عنه جميع ما في بيت المال قَسْم عمر المال ورده على رجل كلّمه في إِبقائه
أخرج البيهقي عن يحيى بن سعيد عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب لعبد الله بن الأرقم رضي الله عنهما: إقسم بيت مال المسلمين في كل شهر مرة، إقسم مال المسلمين في كل جمعة مِرة، ثم قال: إقسم بيت المال في كل يوم مرة، قال: فقال رجل من القوم: يا أمير المؤمنين، لو أبقيت في بيت مال المسلمين بقية تعدّها لنائبة أو صوت - يعني خارجة - قال: فقال عمر للرجل الذي كلَّمه: جرى الشيطان على لسانك، لقَّنني لله حجتها ووقاني شرها، أعدّ لها ما أعدّ لها رسول الله صلى الله عليه وسلم طاعة الله عزّ وجلّ ورسوله صلى الله عليه وسلم
حديث ابن عمر رضي الله عنهما في ذلك
وعند أبي نعيم في الحلية عن ابن عمر رضي الله عنها قال: قدم على عمر مال من العراق فأقبل يقسمه، فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين لو أبقيت من هذا المال لعدو إن حصر أو نائبة إن نزلت. فقال عمر: ما لك قاتلك الله؟ نطق بها على لسانك شيطان، لقَّاني الله حجَّتها، والله لا أعصينَّ الله اليوم لغدٍ، لا، ولكن أعدُّ لهم ما أعدَّ لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
قصة عمر مع عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما في ذلك
وعند ابن عساكر عن سَلَمة بن سعيد قال: أُتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمال، فقام إِليه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين لو حبست من هذا المال في بيت المال لنائبة تكون أو أمر يحدث، فقال: كلمة ما عرض بها إلا شيطان، لقَّاني الله حجَّتها ووقاني فتنتها، أعصي(2/489)
الله العام مخافة قابل؟ أعدّ لهم تقوى الله، قال الله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُواْ ذَوَى عَدْلٍ مّنكُمْ وَأَقِيمُواْ الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلّ شَىْء قَدْراً} (الطلاق: 2، 3) ؛ ولتكون فتنة على من يكون بعدي. كذا في منتخب الكنز.
كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري في ذلك
وأخرج ابن سعد وابن عساكر كما في الكنز عن الحسن قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى رضي الله عنهما:
«أما بعد: فأعلم يوماً من السنة لا يبقى في بيت المال درهم، حتى يكتسح إكتساحاً، حتى يعلم الله أني قد أدَّيت إِلى كل ذي حقَ حقَّه» .
كتاب عمر إِلى حذيفة في ذلك
وأخرج ابن سعد عن الحسن قال: كتب عمر إلى حذيفة رضي الله عنهما أن أعطِ الناس أعطيتهم وأرزاقهم فكتب إليه: إنَّا قد فعلنا وبقي شيء كثير. فكتب إليه عم: إنَّه فيئهم الذي أفاء الله عليهم، ليس هو لعمر ولا لآل عمر؛ إقسمه بينهم.(2/490)
صنيع علي رضي الله عنه في قسم جميع المال
وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن علي بن ربيعة الوالبي (عن علي بن أبي طالب) قال: جاءه ابن النبَّاح فقال: يا أمير المؤمنين إمتلأ بيت مال المسلمين، من صفراء وبيضاء، فقال: الله أكبر فقام متوكئاً على ابن النبّاح حتى قام على بيت مال المسلمين، فقال:
هذا جنيَ وخيارُه فيهْ
وكلُّ جانٍ يَدُه إلى فيهْ
يا ابن النبَّاح ليَّ بأشياع الكوفة، قال: فنُودي في الناس، فأعطى جميع ما في بيت مال المسلمين وهو يقول: يا صفراء، ويا بيضاء، غُرِّي غيري، ها، وها؛ حتى ما بقي منه دينار ولا درهم. ثم أمره بنَضْحه وصلَّى فيه ركعتين.
وعن مُجَمَّع التَّيمي قال: كان علي رضي الله عنه يكنس بيت المال ويصلي فيه يتخذه مسجداً رجاءَ أن يشهد له يوم القيامة. وأخرجه ابن عبد البرّ في الإستيعاب عن مُجَمِّع التَّيْمي نحوه.
وعن معاذ بن العلاء عن أبيه عن جده قال: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: ما أصبت من فيئكم إلا هذه القارورة أهدها إليَّ الدِّهقان، ثم نزل إلى بيت المال ففرَّق كل ما فيه، ثم جعل يقول:
أفلح من كانت له قوْصَرَّة
يأكل منها كلّ يوم مرّة
وعن عنترة الشيباني قال: كان علي رضي الله عنه يأخذ في الجزية والخراج من أهل كل صناعة من صناعته وعمل يده، حتى يأخذ من أهل الابر، الإِبر، والمسال، والخيوط، والحبال، ثم يقسمه بين الناس؛ وكان لا يدع في بيت(2/491)
المال مالاً يبيت فيه حتى يقسمه؛ إلا أن يغلبه شغل فيصبح إِليه، وكان يقول: يا دنيا، لا تغريني وغُرِّي غيري، وينشد:
هذا جنايَ وخيارُه فيهْ
وكلُّ جانٍ يَدهُ إلى فيهْ
وأخرج أبو عبيد عن عنترة قال: أتيت علياً رضي الله عنه يوماً فجاءه قنبر، فقال: يا أمير المؤمنين إنَّك رجل لا تليق شيئاً، وإنَّ لأهل بيتك في هذا المال نصيباً، وقد خبأت لك خبيئة، قال: وما هي؟ قال: إنطلق فانظر ما هي، قال: فأدخله بيتاً فيه باسنة مملوءة آنية ذهب وفضة مموَّهة بالذهب، فلما رآها علي قال: ثكلتك أمك لقد أردت أن تدخل بيتي ناراً عظيمة؟ ثم جعل يزنها ويعطي كل عريف بحصته؛ ثم قال:
هذا جني وخيارُه فيهْ
وكلُّ جانٍ يدهُ إلى فيهْ
لا تغريني، وغرِّي غيري. كذا في منتخب الكنز وأخرج أحمد في الزهد ومسدَّد عن مجمِّع نحو ما تقدم عن أبي نعيم في الحلية كما في المنتخب.d
رأي عمر رضي الله عنه في حق المسلمين في المال حديث أسلم في ذلك
أخرج البيهقي عن أسلم قال: سمعت عمر رضي الله عنه يقول:(2/492)
إجتمعوا لهذا المال فانظروا لمن ترونه. ثم قال لهم: إني أمرتكم أن تجتمعوا لهذا المال فتنظرا لمن ترونه، وإِني قد قرأت آيات من كتاب الله سمعت الله يقول: {مَّآ أَفَآء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَى لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الاْغْنِيَآء مِنكُمْ وَمَآ ءاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ لِلْفُقَرَآء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحشر: 7، 8) والله ما هو لهؤلاء وحدهم {وَالَّذِينَ تَبَوَّءوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ} (الحشر: 9) - الآية -. والله ما هو لهؤلاء وحدهم {وَالَّذِينَ جَآءوا مِن بَعْدِهِمْ} (الحشر: 10) - الآية -، والله ما من أحد من المسلمين إلا وله حق في هذا المال أُعطي منه أو مُنع حتى راعٍ بعَدَن.
حديث مالك بن الحَدَثان في ذلك
وأخرج أيضاً عن مالك بن أوس بن الحَدَثان رضي الله عنه في قصة ذكرها قال: ثم تلا: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآء وَالْمَسَاكِينِ} (التوبة: 60) - إلى آر الآية -، فقال: هذه لهؤلاء، ثم تلا: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} (الأنفال: 41) - إلى آخر الآية -، ثم قال: هذ لهؤلاء، ثم تلا: {مَّآ أَفَآء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} - إلى آخر الآية -، ثم قرأ: {لِلْفُقَرَآء الْمُهَاجِرِينَ} - إلى آخر الآية -، ثم قال: هؤلاء المهاجرون، ثم تلا: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ} - إلى آخر الآية -، فقال: هؤلاء الأنصار، قال:(2/493)
وقال: {والذين جاؤوا من بعدم يقولون ربنا إغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} - إلى آخر الآية -. قال: فهذه إستوعبت الناس، ولم يبق أحد من المسلمين إلا وله في هذا المال حق إلا ما تملكون من رقيقكم، فإن أعِشْ - إن شاء الله - لم يبقَ أحد من المسلمين إلا سيأتيه حقُّه حتى الراعي بسروِ حمير يأتيه حقه ولم يعرق فيه جبينه. وأخرجه أيضاً ابن جرير عن مالك بن أوس نحوه، كما في التفسير لابن كثير.
قسم طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه المال قصة طلحة مع إمرأته في ذلك
أخرج الطبراني بإسناد حسن عن طلحة بن يحيى عن جدته سُعدى رضي الله عنها قالت: دخلت يوماً على طلحة - تعني ابن عبيد الله رضي الله عنه - فرأيت منه ثِقَلاً، فقلت له: ما لك؟ لعله رابك منا (شيء) فنعتبك قال: لا، ولنعمَ حليلة المرء المسلم أنت ولكن إجتمع عندي مال ولا أدري كيف أصنع به قالت: وما يغمك منه أدعُ قومك فاقسمه بينهم، فقال: يا غلام عليَّ بقومي، فسألت الخازن كم قسم؟ قال: أربع مائة ألف. كذا في الترغيب، وقال الهيثمي: رجاله ثقات. وأخرجه ابن سعد وأبو نعيم بنحوه.(2/494)
حديث الحسن رضي الله عنه في ذلك
وأخرج أبو نعيم أيضاً في الحلية عن الحسن قال: باع طلحة رضي الله عنه أرضاً له بسبع مائة ألف، فبات ذلك المال عنده ليلة، فبات أرقاً من مخافة ذلك المال حتى أصبح ففرقه. وأخرجه ابن سعد أطول منه.
طلحة الفيَّاض
وأخرج الحاكم أيضاً عن سُعدى إمرأة طلحة رضي الله عنهما قالت: دخل عليَّ طلحة فوجدته مغموماً فقلت: ما لي أراك كالح الوجه، أرابك من أمرنا شيء؟ قال: لا والله ما رابني من أمرك شيء، ولنعم الصاحبة أنت ولكنَّ مالاً إجتمع عندي قالت: فابعث إلى أهلك وقومك فاقسم فيهم، قالت: ففعل فسألت الخازن كم قسم فقال: أربع مائة ألف، وكانت غلَّته كل يوم ألفَ وافٍ. قال: وكان يُسمى «طلحة الفيّاض» .
قسم الزبير بن العوام رضي الله عنه المال قصته مع الممالك في ذلك
أخرج أبو نُعيم في الحلية عن سعيد بن (عبد) العزيز قال: كان للزبير بن العوام رضي الله عنه ألف مملوك يؤدُّون إِليه الخراج، فكان يقسمه كل ليلة، ثم يقوم إِلى منزله وليس معه منه شيء.
وعن مُغيث بن سُمَيْ قال: كان للزبير ألف مملوك يؤدُّون إِليه الخراج،(2/495)
ما يُدخل بيته من خراجهم درهماً. وأخرجه البيهقي عن مُغيث مثله، وأخرجه يعقوب بن سفيان نحوه، كما في الإِصابة.
ما وقع بينه وبين إبنه عبد الله في دَيْنه
وأخرج البخاري عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: لما وقف الزبير يوم الجمل دعاني، فقمت إلى جنبه فقال: يا بني إنه لا يُقتل اليوم إلا ظالم أو ظلوم، وإني لا أُراني إلا سأقتل اليوم مظلوماً، وإن من أكبر همي لَدَيْني، أفتُرى يبقي ديننا من مالنا شيئاً؟ فقال: يا بنيَّ بعْ مالنا فاقضِ دَيْني، وأوصى بالثلث وثُلثُه لبنيه - يعني عبد الله بن الزبير - يقول: ثلث الثلث، فإن فَضَلَ من مالنا فَضْلٌ بعد قضاء الدَّيْن فثُلُثه لولدك. قال هشام: وكان بعض ولد عبد الله قد وازى بعض بني الزبير: خُبَيْبٌ، وعبَّاد، وله يومئذٍ تسعة بنين وتسع بنات. قال عبد الله: فجعل يوصيني بدَيْنه ويقول: يا بني إن عجزت عن شيء منه فاستعن عليه مولاي. قال: والله ما دَريْت ما أراد حتى قلت: يا أبت من مولاك؟ قال: الله. قال: فوالله ما وقعتُ في كربة من دينه إلا قلت: يا مولى الزبير إقضِ عنه دَيْنه، فيقضيه.
فقُتل الزبير ولم يَدَعْ ديناراً ولا درهماً إلا أرَضين منها الغابة، وإحدى عشرة داراً بالمدينة، ودارَين بالبصرة، وداراً بالكوفة، وداراً بمصر. قال: وإنما كان دَيْنه الذي عليه أنَّ الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه، فيقول الزبير: لا، ولكنه سَلَفٌ، فإني أخشَى عليه الضَّيْعة؛ وما ولي إمارة قط ولا جبايةَ خراج ولا شيئاً إلا أن يكون في غزوة مع النبي صلى الله عليه وسلم أو مع أبي(2/496)
بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم، قال عبد الله بن الزبير: فحسَبت ما عليه من الدّيْن فوجدته ألفي ألف ومائتي ألف. قال: فلقي حكيمُ بن حزم عبدَ الله بن الزبير رضي الله عنهم، فقال: يا ابن أخي كم على أخي من الدّيْن؟ فكتمه فقال: مائة ألف. فقال: مائة ألف. فقال حكيم: والله ما أُرى أموالَكم تسع لهذه فقال له عبد الله: أفرأيتَك إن كانت ألفي ألف ومائتي ألف؟ قال: ما أُراكم تطيقون هذا فإن عجزتم عن شيء منه فاستعينوا بي.
قال وكان الزبير إشترى الغابة بسبعين مائة ألف، فباعها عبد الله بألف ألف وستمائة ألف؛ ثم قام فقال: من كان له على الزبير حقٌّ فليوافنا بالغابة، فأتاه عبد الله بن جعفر رضي الله عنها - وكان له على الزبير أربع مائة ألف - فقال لعبد الله: إن شئتم تركتها لكم، قال عبد الله: لا، قال: فإن شئتم جعلتموها فيما تؤخِّرون إن أخرتم، فقال عبد الله: لا، قال: فاقطعوا لي قطعة، فقال عبد الله: لك من ها هنا إلى ها هنا. قال: فباع منه فقضى دينه فأوفاه؛ وبقي منها أربعة أسهم ونصف، فقدم على معاوية وعنده عمرو بن عثمان، والمنذر بن الزبير، وابن زَمْعة - رضي الله عنهم -، فقال له معاوية: كم قوَّمتَ الغابة؟ قال: كل سهم مائة ألف، قال: كم بقي؟ قال: أربعة أسهم ونصف، فقال المنذر بن الزبير: قد أخذتُ سهماً بمائة ألف، وقال عمرو بن عثمان: قد أخذتُ سهماً بمائة ألف، وقال ابن زَمْعة: قد أخذتُ سهماً بمائة ألف؛ فقال معاوية: كم بقي؟ فقال: سهم ونصف. قال: أخذته بخمسين ومائة ألف. قال: وباع عبد الله بن جعفر نصيبه من معاوية بست مائة ألف.
قال: فلما فرغ ابن لزبير من قضاء دَيْنه قال بنو الزبير: إقسم بيننا ميراثنا، قال: لا والله لا أقسم بينكم حتى أناديَ بالموسم أربع سنين: ألا من كان له على الزبير دَيْن فليأتنا فلنقضِه. قال: فعل كل سنة ينادي بالموسم، فلما مضى أربع سنين قسم بينهم. قال: وكان للزبير أربع نِسْوة ورفع الثلث، فأصاب كل إمرأة ألفُ ألفٍ ومائتا ألف، فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائتا(2/497)
ألف. قال ابن كثير في البداية مجموع ما قسم بين الورثة ثمانية وثلاثون ألف ألف وأربع مائة ألف، والثُلث الموصى به تسعة عشر ألف ألف ومائتا ألف، فتلك الجملة سبعة وخمسون ألف ألف وستمائة ألف والدّين المخرَّج قبل ذلك ألفا ألف ومائتا ألف فعلى هذا يكون جميع ما تركه من الدّيْن والوصية والميراث تسعة وخمسين ألف ألف وثمان مائة ألف؛ وإنما نبهنا على هذا لأنه وقع في صحيح البخاري ما فيه نظر ينبغي أن يُنبَّه له.
قسم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه المال قصته مع بني زهرة وفقراء المسلمين وأمهات المؤمنين
أخرج الحاكم عن أم بكر بنت المِسْور أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بع أرضاً له بأربعين ألفَ دينار، فقسمها في بين زُهْرة وفقراء المسلمين والمهاجرين وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فبعث إلى عائشة رضي الله عنها بمال من ذلك، فقالت: من بعث هذا المال؟ قلت: عبد الرحمن بن عوف، قال: وقص القصة. قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يحنو عليكنَّ من بعدي إلا الصابرون، سقى الله ابن عوف من سلسبيل الجنة» قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإِسناد ولم يخرِّجاه، وقال الذهبي: ليس بمتصل. اهـ. وقد أخرجه أبو نُعيم في الحلية وابن سعد عن المِسْوَر بن مَخْرَمة بنحوه إلا أن في رواية أبي نُعيم: «لن يحنوَ عليكم بعدي إلا الصالحون» .(2/498)
وأخرج الحاكم وأبو نُعيم في الحلية عن جعفر بن بُرقان قال: بلغني أن عبد الرحمن بن عوف أعتق ثلاثين ألف بيت.
قسم أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وحذيفة رضي الله عنهم المال قصتهم رضي الله عنهم في ذلك مع أمير المؤمنين عمر
أخرج الطبراني في الكبير عن مالك الدار رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ أربعمائة دينار فجعلها في صرة، فقال للغلام: إذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح ثم تَلَهَّ في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع؟ فذهب بها الغلام إليه فقال: يقول لك أمير المؤمنين: إجعل هذه في بعض حاجتك، فقال وصله الله ورحمه، ثم قال: تعالَي يا جارية، إذهبي بهذه السبعة إِلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان، حتى أنفدها. ورجع الغلام إلى عمر فأخبره فوجده قد أعدّ مثلها لمعاذ بن جبل رضي الله عنه، فقال: إذهب بها إلى معاذ بن جبل وتَلَهَّ في البيت حتى تنظر ما يصنع؟ فذهب بها إليه فقال: يقول لك أمير المؤمنين: إجعل هذه في بعض حاجتك، فقال: رحمه الله ووصله، تعالَي يا جارية، إذهبي إلى بيت فلان بكذا، إذهبي إلى بيت فلان بكذا، فاطَّلعت إمرأة معاذ وقالت: ونحن - والله - مساكين فأَعطِنا، فلم يبقَ في الخرقة إلا ديناران، فدحى بهما إليها؛(2/499)
ورجع الغلام إلى عمر فأخبره فسر بذلك فقال إنهم إخوة بعضهم من بعض. ورواته إلى مالك الدار ثقات مشهورون، ومالك الدار لا أعرفه؛ كذا في الترغيب. وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير، ومالك الدار لم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. انتهى. قلت: ذكره الحافظ في الإِصابة وقال: مالك بن عياض مولى عمر وهو الذي يقال له مالك الدار، له إِدارك وسمع من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، روى عن الشيخين ومعاذ، وأبي عبيدة، روى عنه إبناه عَوْن، وعبد الله، وأبو صالح السمَّان؛ وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من التابعين في أهل المدينة وقال: كان معروفاً، وقال علي بن المديني: كان مالك الدار خازناً لعمر. انتهى؛ وقال في الإِصابة: وروينا في فوائد داود بن عمرو الضبي جَمْعِ
البغوي من طريق عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع المخزومي عن مالك الدار - فذكر القصة - اهـ. وأخرجه أبو نُعيم في الحلية عن الك الدارني - فذكر مثله. وأخرج ابن سعد عن معن بن عيسى قال: عرضنا على مالك بن أنس - فذكره مختصراً.
وأخرج البخاري في التاريخ الصغير (ص 29) عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لأصحابه: تمنَّوا، فقال أحدهم: أتمنى أن يكون ملء هذا البيت دراهم فأنفقها في سبيل الله. فقال: تمنَّوا، فقال آخر: أتمنى أن يكون ملء هذا البيت ذهباً فأنفقها في سبيل الله. قال: تمنَّوا، قال(2/500)
آخر: أتمنى أن يكون ملء هذا البيت جوهراً - أو نحوه - فأنفقه في سبيل الله. فقال عمر: تمنَّوا، فقالوا: ما تمنينا بعد هذا، قال عمر: لكني أتمنى أن يكون ملء هذا البيت رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهم فأستعملهم في طاعة الله. قال: ثم بعث بمال إلى حذيفة قال: أنظر ما يصنع. قال: فلما أتاه قَسَمه، ثم بعث بمال إلى معاذ بن جيبل فقَسَمه، ثم بعث بمال - يعني إلى أبي عبيدة - قال: أنظر ما يصنع. فقال عمر: قد قلت لكم، أو كما قال.
قسم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما المال قسمة المال الكثير في مجلس وأُنفاقه ما بعث به معاوية إِليه
أخرج أبو نُعيم في الحلية عن ميمون بن مِهران قال: أتت ابن عمر رضي الله تعالى عنه إثنان وعشرون ألف دينار في مجلس، فلم يَقُمْ حتى فرَّقها. وعن نافع أن معاوية رضي الله عنه بعث إلى ابن عمر مائة ألف فما حال الحول وعنده منها شيء.
إنفاقه رضي الله عنه آلافاً من النقود في يوم واحد
وعن أيوب بن وائل الراسبي قال: قدمت المدينة فأخبرني رجل - جار لابن عمر - أنه أتى ابن عمر أربعة آلاف من قبل معاوية، وأربعة آلاف من قبل إنسان آخر، وألفان من قبل آخر، وقطيفة، فجاءَ إلى السوق يريد علفاً لراحلته بدرهم نسيئة، فقد عرفت الذي جاءَه فأتيت سُرِّيَّته، فقلت: إني أريد أن أسألك عن شيء وأحب أن تصدقيني، قلت: أليس قد أتت أبا عبد الرحمن(2/501)
أربعة آلاف من قبل معاوية، وأربعة آلاف من قبل إنسان آخر، وألفان من قبل آخر وقطيفة؟ قالت: بلى، قلت: فإني رأيته يطلب علفاً بدرهم نسيئة، قالت: ما بات حتى فرَّقها، فأخذ القطيفة فألقاها على ظهره ثم ذهب فوجهها ثم جاء؛ فقلت: يا معشر التجار، ما تصنعون بالدنيا وابن عمر أتته البارحة عشرة آلاف درهم وُضْح فأصبح اليوم يطلب لراحلته علفاً بدرهم نسيئة؟.
قصة له أخرى في مثل ذلك
وأخرج ابن سعد عن نفع قال: أُتي ابن عمر ببضعة وعشرين ألفاً فما قام من مجلسه حتى أعطاها وزاد عليها، قال: لم يزل يعطي حتى أنفد ما كان عنده، فجاءه بعض من كان يعطيه فاستقرض من بعض من كان أعطاه فأعطاه، قال ميمون: وكان يقول له القائل: بخيل وكذبوا - والله - ما كان ببخيل فيما ينفعه.
قَسْم الأشعث بن قيس رضي الله عنه المال
أخرج الطبراني عن أبي إسحاق قال: كان لي على رجل من كِنُدة دين، وكنت أختلف إليه بالأسحار، فأدركتني صلاة الفجر في مسجد الأشعث بن قيس فصلَّيت، فلما سلَّم الإِمام وضع قدام كل إِنسان حُلَّة ونعلاً وخمس مائة درهم، قلت: إني لست من أهل المسجد، فقلت: ما هذا؟ قالوا: قدم الأشعث بن قيس من مكة. قال الهيثمي: وفيه أبو إسرائيل المُلائي وقد اختلف فيه وبقية رجاله رجال الصحيح. انتهى.(2/502)
قَسْم عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما المال
أخرج ابن سعد عن أم دُرَّة قالت: أُتيت عائشة بمائة ألف ففرقتها وهي يومئذٍ صائمة. فقلت لها: أما استطعت فيما أنفقت أن تشتري بدرهم لحماً تُفطرين عليه؟ فقالت: لو كنت أذكرتني لفعلت. كذا في الإِصابة.
قَسْم أمِّ المؤمنين سَوْدة بنت زمعة رضي الله عنها المال
أخرج ابن سعد بسند صحيح عن محمد بن سيرين أن عمر بعث إلى سودة رضي الله عنهما بغِرارة من دراهم، فقالت: ما هذه قالوا: دراهم، قالت: في غرارة مثل التمر؟ ففرَّقتها. كذا في الإِصابة.
قَسْم أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها المال قصتها مع أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه
أخرج ابن سعد عن برة بنت رافع قالت: لما خرج العطاء أرسل عمر رضي الله عنه إلى زينب بنت جحش رضي الله عنها بالذي لها، فلما أُدخل عليها قالت: غفر الله لعمر، غيري من أخواتي كان أقوى على قسم هذا مني، قالوا: هذا كله لك، قالت: سبحان الله واستترت منه بثوب، وقالت:(2/503)
ضعوه واطرحوا عليه ثوباً. ثم قالت لي: أدخلي يديك فاقبضي منه قبضة فاذهبي بها إلى بني فلان وبني فلان - من أهل رحمها وأيتامها - حتى بقيت منه بقية تحت الثوب، فقالت لها برَّة: غفر الله لك يا أم المؤمنين، والله لقد كان لنا في هذا حق، قالت: فلكم ما تحت الثوب، قالت: فوجدنا ما تحته خمسة وثمانين درهاً، ثم رفعت يدها إلى السماءِ فقالت: اللهمَّ لا يدركني عطاء عمر بعد عامي هذا؛ فماتت.
قصة أخرى لها نحو ذلك
وعند ابن سعد أيضاً عن محمد بن كعب قال: كان عطاء زينب بنت جحش رضي الله عنها إثني عشر ألفاً لم تأخذه إلا عاماً واحداً، فجعلت تقول: اللهمَّ لا يدركني هذا المال من قابل فإنَّه فتنة، ثم قسمته في أهل رَحِمها وفي أهل الحاجة، فبلغ عمر رضي الله عنه قال: هذه إمرأة يُراد بها خير، فوقف عليها وأرسل بالسلام وقال: بلغني ما فرَّقتِ. فأرسل بألف درهم تستبقيها؛ فسلكت به ذلك المسلك. كذا في الإِصابة.
الفرض للمولود قصة عمر مع إمرأة في ذلك وفرضه لكل مولود في الإِسلام
أخرج ابن سعد وأبو عبيد، وابن عساكر عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قدمتْ رُفقة من التجار فنزلوا المصلَّى، فقال عمر لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما: هل لك أن نحرسهم الليلة من السَرَق؟ فباتا يحرسانهم(2/504)
ويصلِّيان ما كتب الله لها، فسمع عمر بكاء صبي فتوجه نحوه، فقال لأمه: إتَّقي الله وأحسني إِلى صبيِّك، ثم عاد إِلى مكانه فسمع بكاءه فعاد إلى أمه فقال له مثل ذلك، ثم عاد إِلى مكانه فلما كان في آخر الليل سمع بكاءه فأتى أمه فقال: ويحك إني لأراك أمَّ سَوْء، ما لي أرى إبنك لا يقرُّ منذ الليلة؟ قالت: يا عبد الله قد برَّمتني هذه الليلة، إِني أريغه عن الفطام فأبى، قال: ولم؟ قالت؛ لأن عمر لا يفرض إلا للفُطُم، قال: وكم له؟ قالت: كذا وكذا شهراً، قال: ويحك لا تُعْجليه فصلَّى الفجر وما يستبين الناس قراءته نغلبة البكاء، فلمَّا سلَّم قال: يا بؤساً لعمر كما قتل من أولاد المسلمين؟ ثم أمر منادياً فنادى: ألا، لا تُعْجلوا صبيانكم عن الفطام. فإنا نفرض لكل مولود في الإِسلام، وكتب بذلك إلى الآفاق: إنا نفرض لكل مولد في الإِسلام. كذا في الكنز.
الإحتياط عن الإِنفاق على نفسه وذوي القربى من بيت المال سيرة عمر في مال المسلمين وعفته فيه رضي الله عنه
أخرج ابن سعد عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إني أنزلت مال الله مني بمنزلة مال اليتيم، فإن استغنيتُ عففتُ عنه، وإن افتقرت أكلت بالمعروف. وفي رواية أُخرى عنه قال: إِني أنزلت مال الله مني بمنزلة مال اليتيم/ {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} (النساء: 6) .(2/505)
وعنده أيضاً عن عروة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لا يحلُّ لي من هذا المال إلا ما كنت آكلاً من صلب مالي، كما في منتخب الكنز.
ما كان يقع بين عمر وصاحب بيت المال
وأخرج ابن سعد عن عمران أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا احتاج أتى صاحب بيت المال فاستقرضه، فربما أعسرَ، فيأتيه صحب بيت المال فيتقاضاه، فيلزمه فيحتال له عمر، وربما خرج عطاؤه فقضاه.
قصة عمر وعبد الرحمن بن عوف في ذلك
وأخرج أيضاً عن إبراهيم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يتجر وهو خليفة، جهَّز عيراً إلى الشام، فبعث إلى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يستقرضه أربعة آلاف درهم، فقال للرسول: قل له يأخذها من بيت المال ثم ليردها، فلما جاءه الرسول فأخبره بما قال شَقّ ذلك عليه، فلقيه عمر فقال: أنت القائل: ليأخذها من بيت المال؟ فإن متُّ قبل أن تجيء قلتم: أخذها أمير المؤمنين، دعوها له، وأُوخذ بها يوم لقيمة لا، ولكن أردت أن آخذها من رجل حريص شحيح مثلك، فإن مِتُّ أخذها من مالي. وأخرجه أيضاً أبو عبيد في الأموال وابن عساكر عن إبراهيم نحوه، كما في المنتخب.(2/506)
قصة عمر في أخذ العسل من بيت المال
وأخرج ابن عساكر عن ابن البراء بن عرور أن عمر رضي الله عنه خرج يوماً حتى أتى المنبر وقد (كان) إشتكى شكوى، فنُعت له العسل - وفي بيت المال عُكّة - فقال: إن أذنتم لي (فيها) أخذتها وإلا فإنها عليَّ حرام، فأذنوا له فيها. كذا في منتخب الكنز.
ما وقع بين عمر وابنته حفصة في شأن مال المسلمين
وأخرج أحمد في الزهد عن الحسن قال: جيء إلى عمر رضي الله عنه بمال، فبلغ ذلك حفصة إبنة عمر رضي الله عنهما، فجاءت فقالت: يا حقُّ أقربائك من هذا المال، قد أوصى الله عزّ وجلّ بالأقربين، فقال لها: يا بنيَّة حقُّ أقربائي في مالي، فأما هذا ففيء المسلمين، غَشَشْتِ أباك، قومي، فقامت تجرُّ ذَيلَها. كذا في منتخب الكنز.
قصة عمر مع عبد الله بن الأرقم في هذا الشأن
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وابن أبي الدنيا، وابن أبي حاتم، وابن عساكر عن أسلم قال: رأيت عبد الله بن الأرقم جاء إلى عمر رضي الله عنهما فقال: يا أمير المؤمنين، عندنا حِلية من حِلية جَلُولاء آنية فضة، فانظر أن تفرغ يوماً فيها فتأمرنا بأمرك، فقال: إِذا رأيتني فارغاً فذنِّي، فجاء يوماً فقال: إني أراك اليوم فارغاً، قال: أجل، أبسُط لي نِطْعاً فأر بذلك المال فأُفيض عليه،(2/507)
ثم جاء حتى وقف عليه فقال: اللهمَّ إنك ذكرت هذا المال فقلت: {زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ} (آل عمران: 14) - حتى فرغ من الآية - وقلت: {لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ ءاتَاكُمْ} (الحديد: 23) ، وإنَّ لا نستطيع إلا أن نفرح بما زيَّنت لنا. اللهمَّ فجعلنا ننفقه في حقَ، وأعوذ بك من شره. قال: فأُتي بابن له يُحمل يقال له عبد الرحمن بن بهية، فقال: يا أبت هَبْ لي خاتَماً، قال: إذهب إِلى أمك تسقيك سَوِيقاً، قال: فوالله ما أعطاه شيئاً. كذا في منتخب الكنز.
قصة قَسْم المسك والعنبر الذي جاء من البحرين
وأخرج أحمد في الزند عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقّاص قال: قدم على عمر رضي الله عنه مسك وعنبر من البحرين، فقال عمر: والله لوددتُ أنِّي وجدت إمرأة حسنة الوزن تزن لي هذا الطيب حتى أقسمه بين المسلمين، فقالت له إمرأته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنهما: أنا جيّدة الوزن فهلمَّ أزن لك؟ قال: لا، قلت: لِمَ؟ قال: إني أخشى أن تأخذيه فتجعليه هكذا - أدخل أصابعه في صدغيه وتمسحين به عنقك، فأصبت فَضْلاً على المسلمين. كذا في منتخب الكنز.
قصة ابن عمر مع أبيه رضي الله عنها في بنته
وأخرج ابن سعد، وابن أبي شيبة، وابن عساكر عن الحسن أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى جارية تطيش هزالاً، فقال: من هذه الجارية؟(2/508)
فقال عبد الله رضي الله عنه: هذه إحدى بناتك، قال: وأيّ بناتي هذه قال: إبنتي، قال: ما بلغ بها ما أرى؟ قال: عملك، لا تنفق عليها، قال: إني - والله - ما أغرك من ولدك، فأَوسع على ولدك أيها الرجل. كذا في المنتخب.
قصة عاصم بن عمر في هذا الأمر
وأخرج ابن سعد، وأبو عبيد في الأموال عن عاصم بن عمر رضي الله عنهما قال: لما زوجني عمر أنفق عليَّ من مال الله شهراً، ثم أرسل إليّ عمر يرفأ فأتيته فقال: والله ما كنت أرى هذا المال يحلُّ لي من قبل أن ألِيَه إِلا بحقِّه، وما كان قط أحرم عليّ منه إِذ وليته فعاد أمانتي، وقد أنفقت عليك شهراً من مال الله ولست بزائدك ولكني معينك بثمر مالي بالغابة، فأجْدُدْه فبِعْه، ثم إئتِ رجلاً من قومك من تجّارهم فقم إلى جنبه، فإِذا اشترى فاستشركه فاستنفق وأنفق على أهلك. كذا في المنتخب.
قصة إمرأة عمر معه في هذا الأمر
وأخرج الدِّينوَري في المجالسة عن مالك بن أوس بن الحَدَثان قال: قدم بريد ملك الروم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فاستقرضت إمرأة عمر بن الخطاب ديناراً، فاشترت به عطراً، وجعلته في قوارير، وبعثت به مع البريد إلى إمرأة ملك الروم. فلما أتاها فرَّغتهن وملأتهن جواهر، وقالت: إذهب إلى إمرأة عمر بن الخطاب. فلما أتاها فرغتهن على البساط، فدخل عمر بن الخطاب فقال: ما هذا؟ فأخبرته بالخبر، فأخذ عمر الجواهر فباعه، ودفع إلى(2/509)
إمرأته ديناراً، وجعل ما بقي من ذلك في بيت المال للمسلمين. كذا في منتخب الكنز.
قصة إبل بن عمر مع والده عمر في ذلك
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إشتريت إِبلاً وارتجعتها إلى الحِمَى، فلمّا سمنت قدمت بها، فدخل عمر السوق فرأى إبلاً سماناً، فقال: لمن هذه الإِبل؟ فقيل: لعبد الله بن عمر، فجعل يقول: يا عبد الله بن عر، بَخٍ بخٍ، ابن أمير المؤمنين، فجئت أسعى فقلت: ما لك يا أمير المؤمنين؟ قال: ما هذه الإِبل؟ قلت: بل اشتريتها وبعثت بها إلى الحِمَى أبتغي ما يبتغي المسلمون، فقال: أرعوا إبل ابن أمير المؤمنين أسقوا إبل ابن أمير المؤمنين يا عبد الله بن عمر أُغْدُ على رأس مالك واجعل الفَضْل في بيت مال المسلمين. كذا في المنتخب.
زجر عمر لصهره حين طلب من بيت المال شيئا
وأخرج ابن سعد وابن جرير، وابن عساكر عن محمد بن سيرين أنَّ صِهْراً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه قدم على عمر، فعرَّض له أن يعطيه من بيت المال، فانتهره عمر وقال: أردتَ أن ألقى الله مَلِكاً خائناً؟ فلما كان بعد ذلك أعطاه من صُلْب ماله عشرة آلاف درهم. كذا في كنز العمال.
قصة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه في هذا الأمر
وأخرج أبو عبيد عن عنترة قال: دخلت على علي بن أبي طالب(2/510)
بالخَوَرْنَق وعليه قطيفة وهو يُرعد من البرد، فقلت: يا أمير المؤمنين، إنَّ الله قد جعل لك ولأهل بيتك نصيباً في هذا المال وأنت تُرعد من البرد؟ فقال: إنِّي - والله - لا أرزأ من مالكم شيئاً، وهذه القطيفة هي التي خرجت من بيتي - أو قال من المدينة -، كذا في البداية. وأخرجه أيضاً أبو نُعيم في الحلية عن هارون بن عنترة عن أبيه نحوه
رد المال رد النبي صلى الله عليه وسلم ما عرض عليه من المال قصته صلى الله عليه وسلم مع جبريل وملك آخر في هذا الأمر
أخرج يعقوب بن سفيان عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله أرسل إلى نبيه ملكاً من الملائكة معه جبريل عليه السلام، فقال الملك لرسوله: إن الله يخيِّرك بين أن تكون عبداً نبياً وبين أن تكون مَلِكاً نبياً، فالتفت رسول الله إلى جبريل كالمستشير له، فأشار جبريل إلى رسول الله أنْ تَواضَعْ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بل أكون عبداً نبياً» ، قال: فما أكل بعد تلك الكلمة طعاماً متكئاً حتى لقي الله عزّ وجلّ، وهكذا رواه البخاري في التاريخ والنِّسائي. كذا في البداية.(2/511)
قصة أخرى له صلى الله عليه وسلم مع جبريل في ذلك
وعند الطبراني بإسناد حسن والبيهقي عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وجبريل عليه السلام على الصَّفا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا جبريل والذي بعثك بالحق ما أمسى لآل محمد سُفَّة من دقيق ولا كف من سَوِيق» ، فلم يكن كلامه بأسرع من أن سمع هَدَّة من السماء أفزعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أمر الله القيامة أن تقوم؟» قال: لا، ولكن أمر الله إسرافيل عليه السلام، فنزل إليك حين سمع كلامك، فأتاه إسرافيل فقال: إن الله سمع ما ذكرت فبعثني إليك بمفاتيح خزائن الأرض، وأمرني أن أعرض عليك أن أُسيِّر معك جبال تِهامة زُمرُّداً وياقوتاً وذهباً وفضة فعلت، فإن شئت نبياً مَلِكاً، وإن شئت نبياً عبداً؟، فأومأ إليه جبريل أن تواضع، فقال: «بل نبياً عبداً» - ثلاثاً - كذا في الترغيب، وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط وفيه سعدان بن الوليد ولم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح. انتهى.
حديث أبي أمامة رضي الله عنه في هذا الأمر
وعند الترمذي - وحسنَّه - عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عرض عليَّ ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً، قلت: لا يا رب، ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً - أو قال ثلاثاً أو نحو هذا - فإذا جعتُ تضرَّعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك» . كذا في الترغيب.(2/512)
حديث علي رضي الله عنه في ذلك
وعند العسكري عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتاني ملك فقال: يا محمد، إنَّ ربك يقرأ عليك السلام ويقول: إن شئتَ جعلتُ لك بطحاء مكة ذهباً» ، قال فرفع رأسه إلى السماء وقال: لا يا رب، أشبع يوماً فأحمدك، وأجوع يوماً فأسألك» ، كذا في الكنز.
قصة دية قتيل مشرك في ذلك
وأخرج البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً من المشركين قتل يوم الأحزاب، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنِ إبعثْ إِلينا بجسده، ونعطيهم إثني عشر ألفاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا خير في جسده ولا في ثمنه» . وعند أحمد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إدفعوا إليهم جيفته؛ فإنه خبيث الجيفة، خبيث الدية» ؛ فلم يقبل منهم شيئاً. وأخرجه الترمذي أيضاً وقال: غريب. كذا في البداية. وعند ابن أبي شَيْبة عن عكرمة أنَّ نوفل - أو ابن نوفل - تردَّى به فرسه يوم الخندق فقُتل، فبعث أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بديته مائة من الإِبل، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «خذوه؛ فإنه خبيث الدية، خبيث الجيفة» . كذا في الكنز.
قصة حلّة ذي يزن
وأخرج ابن جرير عن عروة أن حكيم بن حِزَام رضي الله عنه خرج إلى(2/513)
اليمن فاشترى حلّة ذي يَزَن، فقدم بها المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهداها له، فردّها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «إنّا لا نقبل هدية مشرك» ، فباعها حكيم فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتريت له، فلبسها ثم دخل فيه المسجد؛ قال (حكيم) : فما رأيت أحداً قطُّ أحسن منه فيها، لكأنه القمر ليلة البدر فما ملكت نفسي حين رأيته كذلك أن قلت:
وما تنظر الحكّام بالحكم بعدما
بدا واضحٌ ذو غُرَّة وحُجُولِ
إِذا واضحوه المجدَ أربى عليهم
بمفترغ ماء الذِّناب سجيلِ
فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا في الكنز. وأخرجه الطبراني عن حكيم بن حزم بنحوه، كما في المجمع وقال: وفيه يعقوب بن محمد الزهري وضعَّفه الجمهور وقد وُثِّق. انتهى.
وعند الحاكم نحكيم بن حِزَام قال: كان محمد النبي صلى الله عليه وسلم أحبَّ الناس إليّ في الجاهلية، فلما تنبأ وخرج إلى المدينة خرج حكيم بن حزام الموسم، فوجد حلّة لذي يَزَن تُباع بخمسين درهماً، فاشتراها ليهديها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم به عليه وأراده على قبضها فأبى عليه. قال عبيد الله: حسبت أنه قال: إنّا لا نقبل من المشركين شيئاً، ولكن إن شئت أخذناها بالثمن» ، فأعطيتها إياه حتى أتى المدينة، فلبسها فرأيتها عليه على المنبر فلم أرَ شيئاً قط أحسن منه فيه يومئذٍ، ثم أعطاها أسامة بن زيد رضي الله عنهما؛ فرآها حكيم على(2/514)
أسامة فقال: يا أسامة أنت تلبس حلَّة ذي يزن؟ قال: نعم، لأنا خير من ذي يَزَن، ولأبي خير من أبيه، ولأمي خير من أمه قال حكيم: فانطلقت إلى مكة أعجِّبهم بقول أسامة. قال الحاكم: وهذا حديث صحيح الإِسناد ولم يخرِّجاه، وقال الذهبي: صحيح.
قصة هدية فرس وناقة في ذلك
وأخرج ابن عساكر عن عبد الله بن بُريدة قال: حدثني عمُّ عامر بن الطفيل العامري أن عامر بن الطفيل أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً، وكتب إليه عامر أنه قد ظهر فيَّ دُبَيلة فابعث إليَّ دواء من عندك، قال: فردَّ النبي صلى الله عليه وسلم الفرس لأنه لم يكن أسلم وأهدى إلي عُكَّة من عسل وقال: «تداوَ بها» .
وعنده أيضاً عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: جاء ملاعب الأسِنَّة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدية، فعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الإِسلام، فأبَى أن يسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «فإني لا أقبل هدية مشرك» . كذا في كنز العمال.
وأخرج أبو داود، والترمذي - وصحَّحه - وابن جرير، والبيهقي عن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أنه أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم هدية - أو ناقة - فقال: «أسلمت؟» قال: لا، قال: «فإني نُهيت عن زبْد المشركين» . كذا في الكنز.(2/515)
رد أبي بكر الصديق رضي الله عنه المال قصة ردِّه رضي الله عنه وظيفته من بيت المال
أخرج البيهقي عن الحسن أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنَّ أكيسَ الكَيْس التقوى - فذكر الحديث، وفيه: فلما أصبح غدا إِلى السوق فقال له عمر رضي الله عنه: أين تريد؟ قال: السوق، قال: قد جاءك ما يشغلك عن السوق، قال: سبحان الله، يشغلني عن عيالي قال: نفرض بالمعروف؛ قال: ويحَ عمر إِني أخاف أن لا يسعني أن آكل من هذا المال شيئاً. قال: فأنفقَ في سنتين وبعض أخرى ثمانية آلاف درهم، فلما حضره الموت قال: قد كنت قلت لعمر: إني أخاف أن لا يسعَني أن آكل من هذا المال شيئاً، فغلبني؛ فإذا أنا متُّ فخذوا من مالي ثمانية آلاف درهم وردوها في بيت المال قال: فلما أُتي بها عمر قال: رحم الله أبا بكر، لقد أتعب من بعده تعباً شديداً.
ما وقع بينه وبين أم المؤمنين عائشة في هذا الأمر
وأخرج ابن سعد عن أبي بكر بن حفص بن عمر قال: جاءت عائشة رضي الله عنها إلى أبي بكر رضي الله عنه وهو يعالج ما يعالج الميت ونَفَسُه في صدره، فتمثَّلَتْ هذا البيت:
لعمرُك ما يغني الثراءُ عنِ الفتى
إذا حَشْرجَتْ يوماً وضاق بها الصدر
فنظر إليها كالغضبان ثم قال: ليس كذاك يا أم المؤمنين ولكن {وَجَاءتْ(2/516)
سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} (ق: 19) ، إنِّي قد كنت نحلتك حائطاً، وإِن في نفسي نه شيئاً، فردِّيه إلى الميراث. قالت: نعم، فرددته؛ فقال: أما إنَّا منذ وُلِّينا أمر المسلمين لم نأكل لهم ديناراً ولا درهماً، ولكنَّا قد أكلنا من جريش طعامهم في بطوننا، ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا، وليس عندنا من فَيء المسلمين قليل ولا كثير إلا هذا العبد الحبشي، وهذا البعير الناضح، وجَرْد هذه القطيفة؛ فإذا متُّ فابعثي بهنَّ إِلى عمر وابرئي منهن، ففعلت. فلما جاء الرسول عمر بكى حتى جعلت دموعه تسيل في الأرض ويقول: رحم الله، أبا بكر، لقد أتعب من بعده رحم الله أبا بكر، لقد أتعب من بعده يا غلام إرفعهنَّ. فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: سبحان الله، تسلُب عيال أبي بكر عبداً حبشياً وبعيراً ناضحاً وجَرْدَ قطيفة ثمنَ خمسة الدراهم؟ قال: فما تأمر؟ قال: تردهنَّ على عياله، فقال: لا والذي بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق - أو كما حلف - لا يكون هذا في ولايتي أبداً، ولا خرج أبو بكر منهنَّ عند الموت وأردهن (أنا) على عياله الموت أقرب من ذلك.
رد عمر بن الخطاب رضي الله عنه المال قصته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك
أخرج مالك عن عطاء بن يَسَار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعطاء فردّه عمر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «لم رددته؟»(2/517)
فقال: يا رسول الله، أليس أخبرتنا أنَّ خيراً لأحدنا أن لا يأخذ من أحد شيئاً؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنما ذلك عن المسألة، فأما ما كان عن غير مسألة فإنما هو رزق يرزقكه الله» ، فقال عمر: أما - والذي نفسي بيده - لا أسأل أحداً شيئاً، ولا يأتيني شيء من غير مسألة إلا أخذته. هكذا رواه مالك مرسلاً، ورواه البيهقي عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: - فذكره بنحوه؛ كذا في الترغيب.
قصته مع أبي موسى الأشعري في ذلك
وأخرج ابن سعد، وابن عساكر عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أهدى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه لامرأة عمر عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نُفَيل رضي الله عنهما طنفسة - أُراها تكون ذراعاً وشبراً - فدخل عليها عمر فرآها فقال: أنّى لك هذه؟ قالت: أهداها لي أبو موسى الأشعري، فأخذها عمر فضرب بها رأسها حتى نقض رأسها، ثم قال: عليَّ بأبي موسى الأشعري وأتعِبوه، فأُتي به قد أُتعب وهو يقول: لا تعجل عليَّ يا أمير المؤمنين. قال: ما يحملك على أن تهدي لنسائي؟ ثم أخذها عمر فضرب بها فوق رأسه وقال: خذها، فلا حاجة لنا فيها. كذا في منتخب الكنز.
قصة بيع سفح المقطّم
وأخرج ابن عبد الحكم عن اللَّيث بن سعد قال: سأل المُقَوْقِس عمرو(2/518)
بن العاص رضي الله عنه أن يبعة سفح المُقَطّم بسبعين ألفَ دينار، فعجب عمرو من ذلك وقال: أكتب في ذلك إلى أمير المؤمنين، فكتب بذلك إلى عمر رضي الله عنه، فكتب إليه عمر: سَلْه لم أعطاك به ما أعطاك وهي لا تزرع ولا تستنبط به ماء ولا ينتفع بها؟ فسأله فقال: إنا لنجد صفتها في الكتب أنَّ فيها غراس الجنة. فكتب بذلك إلى عمر: فكتب إليه عمر: إنا لا نعلم غراس الجنة إلا للمؤمنين، فاقبر فيها مَنْ قِبَلك من المسلمين ولا تبعه بشيء. كذا في كنز العمال.
ردّ أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه المال قصته في ذلك مع عمر رضي الله عنهما في عام الرمادات
وأخرج البيهقي عن أسلم قال: لم كان يوم عام الرمادات وأجدبت بلاد العرب، كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه - فذكر الحديث، وقال فيه: ثم دعا أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه فخرج في ذلك، فلما رجع بعث إليه بألف دينار، فقال أبو عبيدة: إني لم أعمل لك يا ابن الخطاب إنا عملت لله ولست آخذ في ذلك شيئاً؛ فقال عمر: قد أعطانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشياء بعثنا لها فكرهنا ذلك فأبى علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقبلها أيها الرجل، فاستعن بها على دينك ودنياك، فقبلها أبو عبيدة. وأخرجه أيضاً ابن خزيمة، والحاكم نحوه عن أسلم، كما في منتخب الكنز.(2/519)
رد سعيد بن عامر رضي الله عنه المال قصته مع عمر حين أعطاه ألف دينار
أخرج الشاشي، وابن عساكر عن عبد الله بن زياد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعطى سعيد بن عامر رضي الله عنه ألف دينار، فقال: لا حاجة لي فيها؛ أعط من هو أحوج إليها مني، فقال عمر: على رِسْلك حتى أحدِّثكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إن شئت فاقبل وإن شئت فدع، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض عليَّ شيئاً فقلتُ مثل الذي قلتَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أُعطي شيئاً من غير سؤال لا استشراف نفس فإنه رزق من الله فليقبله ولا يرده» . فقال سعيد: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم، فقبله. كذا في الكنز.
حديث الحاكم والبيهقي في ذلك
وعند الحاكم عن زيد بن أسلم أنَّ عمر قال لسعيد بن عامر بن حذْيَم رضي الله عنه: ما لأوهل الشام يحبونك؟ قال: أراعيهم وأواسيهم؛ فأعطاه عشرة آلاف فردها وقال: إن لي أعبُداً وأفراساً وأنا بخير، وأنا أريد أن يكون عملي صدقة على المسلمين، فقال عمر: لا تفعل، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني مالاً دونها فقلت نحواً مما قلتَ، فقال لي: «إذ أعطاك الله مالاً لمَ تسأله ولم تَشْرَه نفسك إليه فخذه؛ فإنما هو رزقٌ الله أعطاك إياه» . وعند البيهقي، وابن عساكر عن أسلم كما في الكنز قال: كان رجل من أهل الشام مرضياً فقال له عمر: علامَ يحبك أهل الشام؟ قال: أغازيهم وأواسيهم، فعرض عليه عشرة آلاف،(2/520)
قال: خذ واستعن بها في غزوك، قال: إني عنها غني - فذكر نحوه.
رد عبد الله بن السعدي رضي الله عنه المال قصته مع عمر رضي الله عنها في ذلك
أخرج أحمد والحُميدي، وابن أبي شيبة، والدارمي، ومسلم والنِّسائي عن عبد الله بن السَّعدي رضي الله عنه أنه قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته، فقال له عمر: ألم أحدَّث أنك تلي من أعمال الناس أعمالاً؟ فإذا أُعطيت العُمالة كرهتها، فقلت: بلى، قال عمر: فما تريد إلى ذلك؟ قلت: إن لي أفراساً وأعبُداً وأنا بخير، وأريد أن تكون عُمالتي صدقة على المسلمين؛ قال عمر: فلا تفعل، فإني قد كنت أردتُ الذي أردتَ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء فأقول: أعطِه أفقرَ إليه مني، حتى أعطاني مرة فقلت: أعطه أفقر إليه مني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «خذه فتموَّلْه أو تصدَّقْ به، فما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وما لا فلا تُتْبعه نفسك» ، وعند ابن جرير عنه قال: إستعملني عمر رضي الله عنه على الصدقة فلما أديتها إليه أعطاني عُمالتي، فقلت: إِنما عملت لله وأجرتي على الله، قال: خذ ما أعطيتك، فإني عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني فقلت(2/521)
مثل قولك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا أعطيتك شيئاً من غير أن تسألني فكل وتصدق» .g كذا في الكنز.
رد حكيم بن حزام رضي الله عنه المال قصته مع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك
أخرج عبد الرزاق عن سعيد بن المسيِّب قال: أعطى النبي صلى الله عليه وسلم حكيم بن حزام رضي الله عنه يوم حُنَين عطاء فاستقلَّه فزاده، فقال: يا رسول الله، أي عطيتك خير؟ قال: «الأولى» ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «يا حكيم بن حزام، إنَّ هذا المال خَضِرة حُلْوة، فمن أخذه بسخاوة نفس وحُسْن أُكْله بورك له فيه، ومن أخذه باستشراف نفس وسوء أُكْله لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل لا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى» ، قال: ومنك يا رسول الله؟ قال: «ومنِّي» قال: فوالذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً أبداً. قال: فلم يقبل ديواناً ولا عطاءً حتى مات. قال: وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: اللهمَّ إني أشهدك على حكيم بن حِزَام أني أدعوه لحقِّه من هذا المال وهو يأبى، فقال: إني - والله - ما أرزأك ولا غيرك شيئاً. كذا في الكنز.
قصته مع عمر رضي الله عنهما في ذلك
وعند الشيخين عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: يا حكيم (إن) هذا المال خَضِر حُلْو - فذكر الحديث نحوه إلى أن قال: فكان أبو بكر(2/522)
رضي الله عنه يدعو حكيماً ليعطيَه العطاء فيأبى أن يقبل منه شيئاً، ثم إنَّ عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيَه فأبى أن يقبله، فقال: يا معشر المسلمين، أشهدكم على حكيم أني أعرض عليه حقه الذي قسم الله له من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه. فلم يرزأ حكيم أحداً من الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم حتى توفي. كذا في الترغيب وقال: رواه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنِّسائي باختصار - اهـ. وعند الحاكم عن عروة أن حكيم بن حزام لم يقبل من أبي بكر شيئاً حتى قُبض، ولا من عثمان ولا من معاوية حتى مات.
رد عامر بن ربيعة رضي الله عنه القطيعة قصته مع رجل من العرب
أخرج أبو نُعيم في الحلية عن زيد بن أسلم (عن أبيه) عن عمر بن ربيعة رضي الله عنه أنه نزل به رجل من العرب فأكرم عامر مثواه، وكلَّم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه الرجل، فقال: إني استقطعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وادياً ما في العرب وادٍ أفضل منه، وقد أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك. قال عامر: لا حاجة لي في قطيعتك، نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} (الأنبياء: 1) .(2/523)
رد أبي ذر الغفاري رضي الله عنه المال قصته مع عثمان وكعب رضي الله عنهم في ذلك
أخرج أبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن الصامت بن أخي أبي ذر رضي الله عنهما قال: دخلت مع عمي على عثمان رضي الله عنه، فقال لعثمان: إئذن لي في الرَّبَذَة، فقال: نعم ونأمر لك بنَعم من نَعَم الصدقة تغدو عليك وتروح، قال: لا حاجة لي في ذلك. تكفي أبا ذر صِرْمتُه، ثم قام فقال: أعزموا دنياكم، ودعونا وربَّنا وديننا. وكانوا يقتسمون مال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وكان عنده كعب فقال عثمان لكعب: ما تقول فيمن جمع هذ المال، فكان يتصدّق منه ويعطي في السُّبُل ويفعل ويفعل؟ قال: إني لأرجو له خيراً، فغضب أبو ذر ورفع العصا على كعب وقال: وما يدريك يا ابن اليهودية؟ لَيَوَدنَّ صاحب هذا المال يوم القيامة لو كانت عقارب تلسع السويداء من قلبه.
وعن أبي شعبة قال: جاء رجل إلى أبي ذر فعرض عليه نفقة، فقال أبو ذر: عندنا أعنُزٌ نحلبها، وحُمُرٌ تنقل، ومُحَرَّرَة تخدمنا، وفَضْل عباءة عن كسوتنا، إني أخاف أن أُحاسب على الفَضْل، كذا في الحلية.
قصته مع حبيب بن مسلمة رضي الله عنهما في ذلك
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي بكر بن المنكدر قال: بعث(2/524)
حبيب بن مسلمة وهو أمير الشام إلى أبي ذر بثلاث مائة دينار وقال: إستعن بها على حاجتك، فقال أبو ذر رضي الله عنه: إرجع بها إليها، أما وجد أحداً أغرَّ بالله منا؟ ما لنا إلا ظل نتوارى به، وثَلّة من غنم تروح علينا، ومولاة لنا تصدّقت علينا بخدمتها، ثم إني لأتخوّف الفَضْل.
قصته مع الحارث القرشي
وأخرج الطبراني عن محمد بن سيرين قال بلغ الحارث - رجل كان بالشام من قريش - أن أبا ذر رضي الله عنه كان به عَوَز، فبعث إليه بثلاث مائة دينار، فقال: ما وجد عبداً لله هو أهون عليه مني؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سأل وله أربعون فقد ألحف. ولأبي ذر أربعون درهماً، وأربعون شاة، وماهِنان؛ قال أبو بكر بن عياش: يعني خادمين. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن يونس وهو ثقة. اهـ وأخرجه أبو نعيم عن ابن سيرين نحوه.
رد أبي رافع رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم المال قصته مع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك
أخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي رافع رضي الله عنه مولى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم «كيف بك يا أبا رافع إذا افتقرت؟» قلت: أفلا أتقدَّم(2/525)
في ذلك؟ قال: «بلى» قال: «ما مالك؟» قلت: أربعون ألفاً وهي لله عزّ وجلّ، قال: «لا، أعط بعضاً، وأمسك بعضاً وأصلح إلى ولدك» قال: قلت: أوَ لهم علينا يا رسول الله حق كما لنا عليهم؟ قال: «نعم حق الولد على الوالد أن يعلِّمه الكتاب - قال عثمان بن عبد الرحمن: كتاب الله عزّ وجلّ - والرميَ، السباحة، - زاد يزيد -: وأن يُوَرِّثه طيِّباً» ، قال: ومتى يكون فقري؟ قال: «بعدي» . قال أبو سُلَيم: فلقد رأيته إفتقر بعد حتى كان يقعد فيقول: من يتصدِّق على الشيخ الكبير الأعمى، من يتصدَّق على رجل أعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيفتقر بعده، من يتصدّق فإن يد الله هي العليا ويد المعطي الوسطى ويد السائل السفلى، ومن سأل عن ظهر غنًى كان له شية يعرف بها يوم القيامة، ولا تحلُّ الصدقة لغني ولا لذي مِرَّة سويّ. قال: فلقد رأيت رجلاً أعطاه أربعة دراهم فردَّ عليه منها درهماً، فقال: يا عبد الله لا ترد عليَّ صدقتي فقال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاني أن أكنز فُضول المال. قال أبو سُلَيم: فلقد رأيته بعدُ استغنى حتى أتى له عاشر عشرة، وكان يقول: ليت أبا رافع مات في فقره - أو وهو فقير - قال: ولم يكن يكاتب مملوكه إلا بثمنه الذي اشتراه به.
رد عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما المال قصته مع معاوية رضي الله عنهما في ذلك
أخرج الحاكم عن إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عن أبيه عن جده قال: بعث معاوية(2/526)
إلى عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق بمائة ألف درهم بعد أن أبي البَيْعة ليزيد بن معاوية، فردّها عبد الرحمن وأبى أن يأخذها وقال: أبيع ديني بدنياي، وخرج إلى مكة حتى مات بها. وأخرجه الزبير بن بكار عن عبد العزيز بنحوه، كما في الإِصابة.
رد عبد الله بن عمر رضي الله عنهما المال قصته مع عمرو بن العاص في ذلك
أخرج ابن سعد عن ميمون قال: دسّ معاوية، عمرو بن العاص رضي الله عنها وهو يريد (أن) يعلم ما في نفس ابن عمر رضي الله عنهما، يريد القتال أم لا؟ فقال: يا أبا عبد الرحمن ما يمنعك أن تخرج فنبايعك، وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن أمير المؤمنين وأنت أحق الناس بهذا الأمر؟ قال: وقد اجتمع الناس كلهم على ما تقول؟ قال: نعم إلا نُفَير يسير، قال: لو لم يبق إلا ثلاثة أعلاج بهَجَر لم يكن لي فيها حاجة، قال: فعلم أنه لا يريد القتال، قال: هل لك أن تبايع لمن قد كاد الناس أن يجتمعوا عليه ويكتب لك من الأرضين ومن الأموال ما لا تحتاج أنت ولا ولدك إلى ما بعده؟ فقال: أفَ لك أخرج من عندي ثم لا تدخل عليَّ ويحك إنَّ ديني ليس بديناركم ولا درهمكم، وإني أرجو أن أخرج من الدنيا ويدي بيضاء نقية.
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن ميمون بن مِهران أن ابن عمر رضي الله عنهما كاتب غلاماً له ونجَّمها عليه نجوماً، فلما حلَّ أول النَّجْم أتاه المكاتب(2/527)
به، فسأله من أين أصبت هذا؟ قال: كنت أعمل وأسأل، قال ابن عمر: أفجئتني بأوساخ الناس تريد أن تطعمنيها؟ أنت حرٌّ لوجه الله، ولك ما جئت به.
رد عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما المال قصته رضي الله عنه مع دهقان
أخرح ابن أبي الدنيا والخرائطي بسند حسن عن محمد بن سيرين أن دِهْقاناً من أهل السواد كلَّم ابن جعفر في أن يكلم علياً رضي الله عنه في حاجة، فكلمه فيها فقضاها، فبعث إليه الدهقان أربعين ألفاً، فقالوا: أرسل بها الدِّهْقان. فردّها وقال: إنا لا نبيع معروفاً. كذا في الإِصابة.
رد عبد الله بن الأرقم رضي الله عنه المال قصته مع عثمان رضي الله عنها في ذلك
أخرج البغوي من طريق ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال: إستعمل عثمانُ عبدَ الله بن الأرقم رضي الله عنها على بيت المال، فأعطاه عُمالة ثلاث مائة ألف، فأبى أن يقبلها - فذكر نحوه أي نحو حديث مالك، قال: بلغني أنّ عثمان أجاز عبد الله بن الأرقم بثلاثين ألفاً فأبى أن يقبلها، وقال: إنما علمت لله. كذا في الإِصابة.
رد عمرو بن النعمان بن مقرِّن رضي الله عنهم المال قصته مع مصعب بن الزبير في ذلك
أخرج ابن أبي شيبة عن معاوية بن قرَّة قال: كنت نازلاً على عمرو(2/528)
بن النعمان بن مقرِّن رضي الله عنهما، فلما حضر رمضان أتاه رجل بكيس دراهم، فقال: إن الأمير مُصْعَب بن الزبير يقرئك السلام ويقول: لم ندع قارئاً إلا وقد وصل إليه منا معروف فاستعن بهذا، فقال: قل له: والله ما قرأنا القرآن نريد به الدنيا، وردّه عليه. كذا في الإِصابة.
رد أسماء وعائشة بنتي أبي بكر الصديق رضي الله عنهم المال قصة أسماء مع أمها قتيلة إبنة عبد العزّى
أخرج أحمد، والبزَّار عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: قدمت قُتَيلة إبنة عبد العزى بن عبد سعد من بني مالك بن حِسْل على إبنتها أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها بهدايا؛ ضباب، وقرص، وسمن، وهي مشركة، فأبت أسماء أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها، فسألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عزّ وجلّ: {لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدّينِ} (الممتحنة: 8) - إلى آخر الآية -، فأمرها أن تقبل هديته وتدخلها بيتها. قال الهيثمي: وفيه مصعب بن ثابت وثَّقه ابن حبان وضعَّفه جماعة وبقية رجاله رجال الصحيح. انتهى.(2/529)
قصة عائشة مع إمرأة مسكينة
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلتْ عليَّ إمرأة مسكينة ومعها شيء تهديه إِليَّ، فكرهت أن أقبله منها رحمة لها؛ فقال لي نبي الله صلى الله عليه وسلم «فهلا قبلتيه وكافأتيها، فأرى أنك حقَّرتيها فتواضعي يا عائشة؛ فإنَّ الله يحب المتواضعين ويبغض المستكبرين» .
الإحتراز عن السؤال قصة أبي سعيد رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك
أخرج ابن جرير عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: أعوزنا إعوازاً شديداً، فأمرني أهلي أن آتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسأله شيئاً، فأقبلت فكان أول ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من استغنى أغناه الله، من استعفَّ أعفَّه الله، ومن سألنا لم ندَّخر عنه شيئاً وجدناه» فلم أسأله شيئاً ورجعت فمالت علينا الدنيا.
وعنده أيضاً عن أبي سعيد أنه أصبح ذات يوم وقد عصب على بطنه حجراً من الجوع، فقالت له إمرأته - أو أمته -: إيت النبي صلى الله عليه وسلم فاسأله، فقد أتاه فلان فسأله فأعطاه، فأتيته وهو يخطب فأدركت من قوله وهو يقول: «من يستعفِفْ يعفّه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يسألنا إمّا أن نبذل له أو نواسيه - شكَّ أبو حمزة - ومن يستغنِ عنا أحبُّ إلينا ممن يسألنا» ، قال: فرجعت فما سألته شيئاً؛ فما زال الله يرزقنا حتى ما أعلم أحداً من الأنصار أهل بيت أكثر أموالاً منا. كذا في الكنز.(2/530)
قصة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك
وأخرج البزّار عن أبي سَلَمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه رضي الله عنه قال: كانت لي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عِدَة، فلما فتحت قريظة جئت لينجز لي ما وعدني فسمعته يقول: «من يستغن يغنه الله، ومن يقع يقنعه الله» ، فقلت في نفسي: لا جَرَم لا أسأله شيئاً. وأبو سَلَمة لم يسمع من أبيه - قاله ابن معين وغيره. كذا في الترغيب.
قصة ثوبان رضي الله عنه في هذا الأمر
وأخرج أحمد، والنسائي، وابن ماجه، وأبو داود بإسناد صحيح عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من تكفَّل لي أن لا يسأل الناس شيئاً أتكفل له بالجنة» فقلت: أنا، فكان لا يسأل أحداً شيئاً.
وعند ابن ماجه قال: «لا تسأل الناس شيئاً» ، قال: فكان ثوبان يقع سوطه وهو راكب فلا يقول لأحد: ناوِلْنيه حتى ينزل فيأخذه. كذا في الترغيب. وقد تقدَّم في البَيْعة على أعمال الإِسلام من حديث أبي أمامة بَيْعة ثوبان على أن لا يسأل أحداً شيئاً. قال أبو أمامة: فلقد رأيته بمكة في أجمع ما يكون من الناس يسقط سوطه وهو راكب، فربما وقع على عاتق رجل فيأخذه الرجل فيناوله، فما يأخذه حتى يكون هو ينزل فيأخذه. أخرجه الطبراني وأخرجه(2/531)
أحمد، والنِّسائي عن ثوبان مختصراً.
قصة الصدّيق رضي الله عنه في ذلك
وعند أحمد أيضاً كما في الكنز عن ابن أبي مُلَيكة قال: كان ربما سقط الخِطَم من يد أبي بكر رضي الله عنه، فيضرب بذراع ناقته فينيخها فيأخذه، فقالوا: أفلا أمرتنا نناولكه؟ قال: إن حبيبي صلى الله عليه وسلم أمرني أن لا أسأل الناس شيئاً.
الخوف على بسط الدنيا خوف النبي صلى الله عليه وسلم وبارك رواية عقبة بن عامر في ذلك
أخرج البخاري (ص 578) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أُحد بعد ثماني سنين كالمودِّع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر فقال: «إني بين أيديكم فَرَط، وأن عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، وإِني لست أخشى عليكم أن تشركوا؛ ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تَنافَسوها» . قال: فكنت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وعند البخاري في الرِّقاق عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوماً(2/532)
فصلّى على أهل أُحد - فذكره، وفيه: «وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني قد أُعطيت مفاتيح خزائن الأرض - أو مفاتيح الأرض - وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي؛ ولكني أخاف عليكم أن تَنافَسوا فيها» .
قوله عليه السلام لمّا قدم أبو عبيدة بمال من البحرين
وأخرج الشيخان عن عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى البحرين يأتي بجزيتها، فقدم بمال من البحرين، فسمعتْ الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافو صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنصرف فتعرَّضوا له، فتبسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم، ثم قال: «أظنُّكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين؟» قالوا: أجل، يا رسول الله. فقال: «أبشروا وأمِّلوا ما يسركم، فوالله ما الفقرَ أخشى عليك، ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بُسطت على من كان قبلكم فتنافَسوه كما تنافَسوها، فتهلكَكم كما أهلكتهم» . كذا في الترغيب.
حديث أبي ذر في هذا الأمر
وأخرج أحمد، والبزار عن أبي ذر رضي الله عنه قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم (جالس) إِذ قام أعرابي فيه جفاء فقال: يا رسول الله، أكلتنا الضَّبُع،(2/533)
فقال النبي صلى الله عليه وسلم «غير ذلك أخوَف عليكم؛ حين تُصبُّ عليكم الدنيا صبّاً، فيا ليت أمتي لا تلبس الذهب» ورواه أحمد رواه الصحيح. كذا في الترغيب.
حديث أبي سعيد في هذا الأمر
وأخرج الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في حديث قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وجلسنا حوله، فقال: «إن ممّا أخاف عليكم ما يفتح الله عليكم من زَهرة الدنيا وزينتها» كذا في الترغيب.
حديث سعد بن أبي وقاص في هذا الأمر
وأخرج أبو يَعْلى، والبزّار عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لأنا لفتنة السرَّاء أخوف عليكم من فتنة الضرَّاء، إنكم ابتُليتم بفتنة الضرَّء فصبرتم، وإن الدنيا حلوة خَضِرة» ، وفيه راوٍ لم يُسمَّ وبقية رواته رواة الصحيح. كذا في الترغيب.
حديث عوف بن مالك في هذا الأمر
وأخرج الطبراني عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه فقال: «الفقر تخافون - أو العَوَز - أم تُهمكم الدنيا؟ فإنَّ الله فاتح عليكم فارس، والروم، وتُصبُّ عليكم الدنيا صَبّاً؛ حتى لا يزيغكم بعد(2/534)
أن زغتم إلا هي» وفي إسناده بَقِيَّة. كذا في الترغيب.
خوف عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبكاؤه على بسط الدنيا رواية المسور بن مخرمة في قصة غنائم القادسية
أخرج البيهقي عن المِسْوَر بن مخرمة رضي الله عنه قال: أُتيَ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بغنائم من غنائم القادسية، فجعل يتصفَّحها وينظر إليها وهو يبكي معه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فقال له عبد الرحمن: يا أمير المؤمنين، هذا يوم فرح وهذا يوم سرور، قال: فقال: أجل، ولكن لم يُؤتَ هذا قوم قطُّ إلا أورثهم العداوة والبغضاء. وأخرجه الخرائطي أيضاً عن المِسْوَر مثله، كما في الكنز.
رواية إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف في ذلك
وعند البيهقي أيضاً عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: لما أُتيَ عمر رضي الله عنه بكنز كسرى قال له عبد الله بن أرقم الزهري رضي الله عنه: ألا تجعلها في بيت المال؟ فقال عمر رضي الله عنه: لا نجعلها في بيت المال حتى نقسمها، وبكى عمر رضي الله عنه، فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ فوالله إن هذا ليوم شكر ويوم سرور ويوم فرح، فقال عمر: إنَّ هذا لم يُعطِه الله قوماً قط إلا ألقى الله بينهم العداوة والبغضاء. وأخرجه ابن المبارك، وعبد الرزاق، وابن أبي شيبة عن إبراهيم(2/535)
مثله، كما في الكنز. وأخرجه أحمد في الزهد، وابن عساكر عن إبراهيم نحوه مختصراً، كما في الكنز.
رواية الحسن البصري في قصة فروة كسرى وسواريه
وعند البيهقي أيضاً عن الحسن أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أُتي بفروة كسرى، فوضعت بين يديه وفي القوم سُراقة بن مالك بن جُعْشُم رضي الله عنه، قال: فألقى إليه سِوارَيْ كسرى بن هرمز، فجعلها في يده فبلغا مَنكبيه، فلما رآهما في يدي سراقة قال: الحمد لله سواري كسرى بن هرمز في يدِ سُراقة بن مالك بن جُعْشُم، أعرابيَ من بني مُدْلج ثم قال: اللهمَّ إني قد علمت أن رسولك صلى الله عليه وسلم كان يحب أن صيب مالاً فينفقَه في سبيلك وعلى عبادك، وزويت ذلك عنه نظراً منك له وخياراً، ثم قال: اللهَّم إِني قد علمت أن أبا بكر رضي الله عنه كان يحب أن يصيب مالاً فينفقِ في سبيلك وعلى عبادك، فزويت ذلك عنه عنه نظراً منك له وخياراً، اللهمَّ إِني أعوذ بك أن يكون هذا مكراً منك بعمر، ثم تلا: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الْخَيْراتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} (المؤمنون: 55، 56) . وأخرجه عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن عساكر عن الحسن مثله، كما في منتخب الكنز.(2/536)
رواية أبي سنان الدؤلي في بكائه على بسط الدنيا
وأخرج أحمد بإسناد حسن، والبزار، وأبو يَعْلى عن أبي سِنان الدؤلي أنه دخل على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعنده نفر من المهاجرين الأولين، فأرسل عمر إلى سَفَط - هو شيء كالقُفَّة أو كالحُوالق - أُتي به من قلعة العراق، فكان فيه خاتم، فأخذه بعض بنيه فأدخله في فيه فانتزعه عمر منه، ثم بكى عمر رضي الله عنه، فقال له من عنده: لم تبكي وقد فتح الله عليك وأظهرك على عدوك وأقر عينك؟ فقال عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «لا تُفتح الدنيا على أحد إلا ألقى الله عزّ وجلّ بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، وأنا أُشفق من ذلك» . كذا في الترغيب.
رواية بن عباس في بكائه على بسط الدنيا
وأخرج الحُميدي وابن سعد والبزَّار، وسعيد بن منصور، والبيهقي وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنها قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا صلَّى صلاة جلس للناس، فمن كان له حاجة كلَّمه، وإن لم يكن لأحد حاجة قام، فصلَّى صلوات للناس لا يجلس فيهن، فقلت: يا يرفأ أبأمير(2/537)
المؤمنين شَكاة؟ فقال: ما بأمير المؤمنين شكو، فجلست فجاء عثمان بن عفان رضي الله عنه فجلس، فخرج يَرْفأ فقال: قم يا ابن عفان، قم يا ابن عباس. فدخلنا على عمر فإذا بين يديه صُبَرٌ من مال على كل صُبْرة منها كتف، فقال: إِني نظرت إِلى أهل المدينة فوجدتكما من أكثر أهلها عشيرة، فخذا هذا المال فاقتسماه، فما كان من فَضْل فردّا. فأمّا عثمان فجثا، وأما أنا فجثوت لركبتي وقلت: وإن كان نقصاناً رددت علينا؟ فقال عمر: شِنْشِنَةٌ من أخشن - (قال سفيان) : يعني حجراً من جبل - أما كان هذا عند الله إذ محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأكلون القِد: فقلت؛ بلى، والله لقد كان هذا عند الله ومحمد حيّ، ولو عليه فُتِح لصنع فيه غير الذي تصنع؛ فغضب عمر وقال: إذن صنع ماذا؟ قلت: إذاً لأكل وأطعمنا. فنشج عمر حتى اختلفت أضلاعه، ثم قال: وددتُ أني خرجت منها كفافاً لا لي ولا عليّ. كذا في الكنز؛ وقال الهيثمي: رواه البزّار وإسناده جيد. اهـ.
وأخرج أبو عبيد، وابن سعد وابن راهَوَيه، والشاشي - وحسن - عن ابن عباس رضي الله عنها قال: دعاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأتيته، فإذا بين يديه نِطَعٌ فيه الذهب منثور. قال: هلمَّ فاقسم هذا بين قومك، فالله أعلم حيث زوى هذا عن نبيه صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر فأُعطيته، لخير أعطيته أم(2/538)
لشر؟ ثم بكى وقال: كلا والذي نفسي بيده، ما حبسه عن نبيه وعن أبي بكر إِرادة الشرِّ لهما وأعطاه عمر إرادة الخير له. كذا في الكنز.
قصته مع عبد الرحمن بن عوف وبكاؤه على بسط الدنيا
وأخرج أبو عُبَيد العدني عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: بعث إليَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأتيته، فلما بلغت الباب سمعت نحيبه، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون أعتُري - والله - أمير المؤمنين، فدخلت فأخذت بمنكبه وقلت: لا بأس لا بأس يا أمير المؤمنين. قال: بل أشد البأس، فأخذ بيدي فأدخلني الباب، فإذا حقائق بعضها فوق بعض فقال: الآن هان آل الخطاب على الله، إنَّ الله لو شاء لجعل هذا إلى صاحبيَّ - يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر - فسنَّا لي فيه سُنّة أقتدي بها، قلت: إجلس بنا نفكر، فجعلنا لأمهات المؤمنين أربعة آلاف أربعة آلاف، وجعلنا للمهاجرين أربعة آلاف أربعة آلاف، ولسائر الناس ألفين ألفين، حتى وزعنا ذلك المال. كذا في الكنز.
خوف عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وبكاؤه على بسط الدنيا قصة بكائه وهو يأكل الطعام
أخرج البخاري (ص 579) عن سعد بن إبراهيم عن أبيه أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أُتي بطعام وكان صائماً، فقال: قُتل مصعب بن عمير وهو خير مني، كُفِّن في بردة إن غُطِّي رأسه بدت رجلاه، وإن غُطي رجلاه بدا رأسه - وأراه قال: وقتل حمزة وهو خير مني، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط - أو قال:(2/539)
أُعطينا من الدنيا ما أُعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا قد عُجِّلت لنا. ثم جعل يبكى حتى ترك الطعام. وأخرجه أبو نُعيم في الحلية نحوه.
قصة أخرى له في هذا الشأن
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن نوفل بن إِياس الهُذَلي قال: كان عبد الرحمن رضي الله عنه لنا جليساً - وكان نعم الجليس -، وإنه انقلب بنا يوماً حتى دخلنا بيته، ودخل فاغتسل ثم خرج فجلس معنا، وأتينا بصحفة فيها خبز ولحم، فلما وُضعت بكى عبد الرحمن بن عوف، فقلنا له: يا أبا محمد ما يبكيك؟ قال: هلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشبع هو وأهل بيته من خبز الشعير؛ ولا أُرانا أُخِّرنا لها لما هو خير منها. وأخرجه الترمذي والسّراج عن نوفل نحوه، كما في الإِصابة.
سؤاله لأم سَلَمة على بسط المال وجوابها له
وأخرج البزار عن أم سَلَمة رضي الله عنها أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه دخل عليها فقال: يا أمّه، قد خفت أن يهلكني مالي، أنا أكثر قريش مالاً؛ قالت: يا بني فأنفق؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن من أصحابي من لا يراني بعد أن أفرقه» ، فخرج عبد الرحمن بن عوف فلقي عمر رضي الله عنه فأخبره بالذي قالت أم سَلَمة، فدخل عليها عمر فقال: بالله منهم أنا؟ فقالت: لا، ولا أُبرِّىء أحداً بعدك. قال الهيثمي رجاله رجال الصحيح.(2/540)
خوف خبّاب بن الأرت رضي الله عنه وبكاؤه على بسط الدنيا قصة خوفه وقد عاده بعض الصحابة
أخرج أبو يَعْلى، والطبراني بإسناد جيد عن يحيى بن جَعْدة قال: عاد خبّاباً رضي الله عنه ناسٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أبشر يا أبا عبد الله، ترد على محمد صلى الله عليه وسلم الحوض، فقال: كيف بهذا؟ وأشار إلى أعلى البيت وأسفله وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنَّما يكفي أحدكم كزاد الراكب» ، كذا في الترغيب.
قصته رضي الله عنه في ذلك عند وفاته
وعند أبي نُعيم في الحلية عن طارق بن شهاب قال: عاد خبّاباً نفرٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أبشر يا أبا عبد الله، إخوانك تَقْدَم عليهم غداً، قال: فبكى وقال: أمَا إنَّه ليس بي جزع، ولكنكم ذكَّرتموني أقواماً وسميتم لي إِخواناً، وإن أولئك قد مَضَوا بأجورهم كلهم، وإني أخاف أن يكون ثواب ما تذكرون من تلك الأعمال ما أوتينا بعدهم. وأخرجه ابن سعد عن طارق بنحوه.
وعند أبي نعيم في الحلية عن حارثة بن مُضَرِّب قال: دخلنا على خبّاب وقد اكتوى في بطنه سبع كيات، فقال: لولا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يتمنينَّ أحدكم الموت» لتمنيتُه، فقال بعضهم: أذكر صحبة النبي صلى الله عليه وسلم والقدوم عليه، فقال: قد خشيت أن يبقى ما عندي القدوم عليه. هذه أربعون ألفاً(2/541)
دراهم في البيت.
وأخرج من طريق آخر عن حارثة نحوه مختصراً وزاد: ولقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أملك درهماً وإنَّ في جانب بيتي لأربعين ألف درهم قال: ثم أُتي بكفنه فلما رآه بكى فقال: لكنَّ حمزةَ لم يوجد له كفن إلا بردة ملحاء، إذ جُعلت على رأسه قَلَصَت عن قدميه، وإذا جُعلت على قدميه قلصت عن رأسه، حتى مُدَّت على رأسه وجعل على قدميه الإِذخر؛ وأخرجه ابن سعد عن حارثة بنحوه. وعند أبي نعيم في الحلية عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: دخلنا على خباب بن الأرت في مرضه فقال: إن في هذا التابوت ثمانين ألف درهم، والله، ما شددت لها من خيط لا منعتها من سائل، ثم بكى فقلنا: ما يبكيك؟ قال: أبكى أنَّ أصحابي مَضَوا ولم تَنقصهم الدنيا شيئاً، وإِنا بقينا بعدهم حتى لم نجد لها موضعاً إلا التراب. قال أبو نُعيم: رواه أبو أسامة عن إدريس قال: ولوددتُ أنه كذا وكذا كما قال بَعْراً أو غيره. وعند أبي نعيم أيضاً من حديث قيس ثم قال: إنّه قد مضى قبلنا أقوام لم ينالوا من الدنيا شيئاً، وإنا بقينا بعدهم حتى نلنا من الدنيا ما لا يدري أحدنا في أيِّ شيء يضعه إلا في التراب، وإنَّ المسلم يُؤجر في كل شيء أنفقه إلا فيما أنفق في التراب.
حديث البخاري في خوف خباب
وعند البخاري عن خباب قال: هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نبتغي وجه الله،(2/542)
فوجب أجرنا على الله؛ فمنا من مضى أو ذهب لم يأكل من أجره شيئاً، كان منهم مصعب بن عمير قُتل يوم أُحد لم يترك إِلا نَمرة، كنا إذا غطَّينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غُطِّي بها رجلاه خرج رأسه، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم «غطّوا بها رأسه واجعلوا على رجله الإِذْخِر» . ومنا من ينعت له ثمرته فهو يَهدبُها. وأخرجه ابن سعد وابن أبي شيبة بمثله كما في الكنز.
خوف سلمان الفارسي رضي الله عنه وبكاؤه على بسط الدنيا قصته مع رجل من بني عبس في ذلك
أخرج أبو نُعيم في الحلية عن أبي البَخْتري عن رجل من بني عبس قال: صحبت سلمان رضي الله عنه فذكر ما فتح الله تعالى على المسلمين من كنوز كسرى، فقال: إنَّ الذي أعطاكموه وفتحه لكم وخوَّلكم لممسك خزائنه ومحمد صلى الله عليه وسلم حيّ، ولقد كانوا يصبحون وما عندهم دينار ولا درهم ولا مدٌّ من طعام، ثم ذاك يا أخا بني عبس. ثم مررنا ببيادر تُذرى فقال: إنَّ الذي أعطاكموه وخوَّلكم وفتحه لكم لممسك خزائنه ومحمد صلى الله عليه وسلم حيٌّ، لقد كانوا يصبحون وما عندهم دينار ولا درهم ولا مد من طعام، ثم ذاك يا أخا بني عبس.
وعند الطبراني عن رجل من بني عبس قال: كنت أسير مع سلمان(2/543)
رضي الله عنه على شط دجلة، فقال: يا أخا بني عبس إنزل فاشرب، فشربت فقال: ما نقص شرابك من دجلة؟ قلت: ما عسى أن ينقص، قال: فإنَّ العلم كذلك يؤخذ منه ولا ينقص، ثم قال: إركب، فمررنا بأكداس من حنطة وشعير، فقال: أفترى هذا فُتح لنا وقتر على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لخير لنا وشر لهم؟ قلت: لا أدري، (قال) ولكني أدري شر لنا وخير لهم. قال: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام متوالية حتى لحق بالله عزّ وجلّ. قال الهيثمي: وفيه راوٍ لم يُسمَّ وبقية رجاله وُثِّقوا.
عيادة سعد بن أبي وقاص لسلمان وما وقع بينهما
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي سفيان عن أشياخه أنَّ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه دخل على سلمان رضي الله عنه يعوده، فبكى سلمان، فقال له سعد: ما يبكيك؟ تلقى أصحابك، وترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم الحوض، وتُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راضٍ فقال: ما أبكى جزعاً من الموت ولا حرصاً على الدنيا؛ ولكنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا فقال: «ليكن بُلْغة أحدكم من الدنيا كزاد الراكب» ، وهذه الأساود حولي - وإنما حوله مِطْهرة أو إِنجانة ونحوها - فقال له سعد: أعهد إلينا عهداً نأخذ به بعدك، فقال له: أذكر ربَّك عند همَّك إذا هممت، وعند حكمك إذا حكمت، وعند يدك إذا قسمت؛ وأخرجه الحاكم وصحَّحه كما في الترغيب وابن سعد عن أبي سفيان عن(2/544)
أشياخه نحوه، وفي رواية الحاكم: وإنما حوله إجَّانة وجَفْنة ومِطْهَرة. وأخرجه ابن الأعرابي عن أبي سفيان عن أشياخه مختصراً، كما في الكنز.
وعند ابن ماجه ورواته ثقات عن أنس قال: إشتكى سلمان رضي الله عنه فعاده سعد رضي الله عنه، فرآه يبكي فقال له سعد: ما يبكيك يا أخي؟ أليس قد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم أليس؟ قال سلمان: ما أبكي وحدة من إثنين، ما أبكي ضناً على الدنيا، ولا كراهية الآخرة؛ ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا عهداً ما أُراني إلا قد تعدَّيت، قال: وما عهد إليك؟ قال: عهد إلينا أنه يكفي أحدكم مثل زاد الركب، ولا أُراني إِلا قد تعدَّيت، وأما أنت يا سعد، فاتَّق الله عند حكمك إذا حكمت، وعند قسمك إذا قسمت، وعند همِّك إِذا هممت. قال ثابت: فبلغني أنه ما ترك إِلا بضعة وعشرين درهماً مع نُفَيقة كانت عنده. كذا في الترغيب.
سبب جزع سلمان رضي الله عنه عند الموت
وعند ابن حِبَّان في صحيحه عن عامر بن عبد الله أن سلمان الخير رضي الله عنه حين حضره الموت عرفوا منه بعض الجزعِ، فقالوا: ما يجزعك يا أبا عبد الله؟ وقد كانت لك سابقة في الخير، شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مغازي حسنة وفتوحاً عظاماً، قال: يجزعني أنَّ حبيبنا صلى الله عليه وسلم حين فارقنا عهد إِلينا قال: «ليَكْفِ المرءَ منكم كزادِ الراكب، فهذا الذي أجزعني» . فجُمع مال سلمان فكان قيمته خمسة عشر درهماً. كذا في الترغيب. وأخرجه ابن عساكر عن(2/545)
عمر مثله، كما في الكنز إِلا أنه وقع عنده: خمسة عشر ديناراً، وهكذا ذُكر في الكنز عن ابن حِبَّان. وهكذا رواه أبو نُعَيم في الحلية عن عمر بن عبد الله في هذا الحديث، ثم قال: كذا قال عامر بن عبد الله: ديناراً، واتفق الباقون على بضعة عشر درهماً، ثم أخرج عن علي بن بذيمة قال: بيع متاع سلمان فبلغ أربعة عشر درهماً. وهكذا أخرجه الطبراني عن علي، قال في الترغيب: وإسناده جيد إِلا أنَّ علياً لم يدرك سلمان.
خوف أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة القرشي رضي الله عنه قصته مع معاوية رضي الله عنهما عند الموت
أخرج الترمذي، والنِّسائي عن أبي وائل قال: جاء معاوية رضي الله عنه إلى أبي هاشم بن عتبة رضي الله عنه وهو مريض يعوده، فوجده يبكي، فقال: يا خال ما يبكيك؟ أوجع يُشْئِزُك أم حرص على الدنيا؟ قال: كلا، ولكنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا عهداً لم نأخذ به، قال: وما ذاك؟ قال: سمعته يقول: «إنما يكفي من جمع المال خادم ومركب في سبيل الله» ، وأجدني اليوم قد جمعت. وقد رواه ابن ماجه عن أبي وائل عن سَمُرة بن سَهْم عن رجل من قومه لم يسمِّه قال: نزلت على أبي هاشم بن عتبة فجاءه معاوية - فذكر الحديث بنحوه، ورواه ابن حِبَّان في صحيحه عن سَمُرة بن سَهْم قال: نزلت(2/546)
على أبي هاشم بن عتبة وهو مطعون، فأتاه معاوية - فذكر الحديث. وذكره رَزِين فزاد فيه فلما مات حُصِر ما خلَّف فبلغ ثلاثين درهماً، وحُسبت فيه القصعة التي كان يعجن فيها وفيها يأكل، كذا في الترغيب. وأخرجه البغوي وابن السَّكَن عن أبي وائل عن سَمُرة بن سَهْم عن رجل من قومه، كما في الإِصابة وقال: وروى الترمذي وغيره بسند صحيح عن أبي وائل قال: جاء معاوية إلى أبي هاشم، فذكره - اهـ. وأخرج الحديث أيضاً الحاكم عن أبي وائل وابن عساكر منط ريق سمرة، كما في الكنز.
خوف أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وبكاؤه على بسط الدنيا
أخرج أحمد عن أبي حَسَنة مسلمِ بن أكْيَس مولى عبد الله بن عامر عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال: ذَكَر من دخل عليه فوجده يبكي، فقال: ما يبكيك يا أبا عبيدة؟ قال: نبكي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوماً ما يفتح الله على المسلمين ويفيء عليهم حتى ذكر الشام، فقال: «إن يُنسأ في أجلك يا أبا عبيدة فحسبك من الخدم ثلاثة: خادم يخدمك، وخادم يسافر معك، وخادم يخدم أهلك ويرد عليه. وحسبك من الدواب ثلاثة: دابة لرَحْلك، ودابة لنقلك، ودابة لغلامك» ؛ ثم هذا أنا أنظر إلى بيتي قد امتلأ رقيقاً، وانظر(2/547)
إلى مربطي قد امتلأ رقيقاً، وانظر إلى مربطي قد امتلأ دوابَّ وخيلاً، فكيف ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا؟ وقد أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنَّ أحبكم إليَّ وأقربكم مني من لقيني على مثل الحال الذي فارقني عليها» . قال الهيثمي رواه أحمد وفيه راوٍ لم يُسمَّ وبقية رجاله ثقات. انتهى. وأخرجه ابن عساكر نحوه، كما في المنتخب.
زهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن الدنيا والخروج عنها بدون تلبس به زهد النبي صلى الله عليه وسلم
حديث عمر في تأثير الحصير في جنبه عليه السلام
أخرج ابن ماجه بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حدَّثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على حصير. قال: فجلست فإذا عليه إزاره وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثَّر في جنبه. وإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع، وقَرَظ في ناحية في الغرفة، وإذا إِهاب معلَّق، فابتدرتْ عيناي، فقال: «ما يبكيك يا ابن الخطاب؟» فقال: يا نبي الله وما لي لا أبكي وهذا الحصير قد أثَّر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك كسرى وقيصر في الثمار والأنهار وأنت نبي الله وصفوته وهذه خزانتك قال: «يا ابن الخطاب، أما ترضَى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟» وأخرجه الحاكم وقال: صحيح على شرط(2/548)
مسلم. ولفظُه: قال عمر رضي الله عنه: إستأذنت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلت عليه في مَشْرَبة وإنه لمضطجع على خَصَفة إِنَّ بعضه لعلى التراب، وتحت رأسه وسادة محشوة ليفاً، وإنَّ فوق رأسه لإِهاباً غَطِناً، وفي ناحية المشربة قَرَظ؛ سلمت عليه فجلست فقلت: أنت نبي الله وصفوته، وكسرى وقيصر على سرر الذهب وفرش الديباج والحرير؟ فقال: «أولئك عُجِّلت لهم طيباتهم وهي وشيكة الانقطاع، وإنَّا قوم أُخِّرت لنا طيباتنا في آخرتنا» ، ورواه ابن حِبّان في صحيحه عن أنس أن عمر رضي الله عنهما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم - فذكر نحوه، كذا في الترغيب. وأخرج حديث أنس أيضاً أحمد، وأبو يَعْلى بنحوه، قال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح غير مبارك بن فَضالة وقد وثَّقه جماعة وضعفه جماعة. انتهى.
وأخرجه أحمد، وابن حِبَّان في صحيحه والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليه عمر رضي الله عنه وهو على حصير قد أثَّر في جنب، فقال: يا رسول الله، لو اتخذتَ فراشاً أوثَر من هذا، فقال: «ما لي وللدنيا؟ ما مَثَلي ومَثَل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظل تحت شجرة ساعة ثم راح وتركها» ، كذا في الترغيب. وأخرجه(2/549)
الترمذي - وصحَّحه - وابن ماجه عن ابن مسعود رضي الله عنه نحوه، والطبراني وأبو الشيخ عن ابن مسعود نحو حديث عمر، كما في الترغيب، وابن حِبَّان، والطبراني عن عائشة رضي الله عنها، كما في الترغيب والمجمع.
فراشه عليه السلام
وأخرج البيهقي عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت عليَّ إمرأة من الأنصار فرأت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم قطيفة مثنية، فبعثت إليَّ بفراش حشوه الصوف، فدخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما هذا يا عائشة؟» قالت: قلت: يا رسول الله، فلانة الأنصارية دخلت فرأت فراشك، فذهبت فبعثت إليَّ بهذا، فقال: «ردِّيه يا عائشة، فوالله لو شئتُ لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة» . وأخرجه أبو الشيخ أطول منه، كما في الترغيب.
طعامه ولباسه عليه السلام
وأخرج ابن ماجه، والحاكم عن أنس رضي الله عنه قال: ليس(2/550)
رسول الله صلى الله عليه وسلم الصوف، واحتذى المخصوف. وقال: أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم بَشِعاً، ولبس حِلْساً خشناً، قيل للحسن: ما البشع؟ قال: غليظ الشعير، ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسيغه إلا بجرعة من ماء. وفيه يوسف بن أبي كثير وهو مجهول عن نوح بن ذكوان وهو واهٍ، وقال الحاكم: صحيح الإِسناد، (وعنده: خشناً موضع بشعاً: كذا في الترغيب.
ما وقع بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم أيمن في صنع الرغيف
وأخرج ابن ماجه، وابن أبي الدنيا في كتاب الجوع وغيرهما عن أم أيمن رضي الله عنها أنها غربلت دقيقاً، فصنعته للنبي صلى الله عليه وسلم رغيفاً، فقال: «ما هذا؟» قالت: طعام نصنعه بأرضنا فأحببت أن أصنع لك منه رغيفاً، فقال: «ردِّيه (فيه) ثم اعجنيه) . كذا في الترغيب.
حديث سلمى إمرأة أبي رافع في أكله عليه السلام
وأخرج الطبراني عن سَلمى إمرأة أبي رافع رضي الله عنهما قالت: دخل عليَّ الحسن بن علي وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم فقالوا: إصنعي لنا طعاماً ممَّا كان يُعجب النبي صلى الله عليه وسلم أكله، قالت يا بَنيَّ إذاً لا تشتهونه اليوم، فقمت فأخذت شعيراً فطحنته ونسفته وجعلت منه خبزة، وكان أُدْمُه الزيت، ونثرت عليه الفلفل فقربته إليه، وقلت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب هذا. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير فائد مولى ابن أبي رافع(2/551)
وهو ثقة. وقال في الترغيب: رواه الطبراني وإسناده جيد.
حديث ابن عمر في زهده عليه السلام
وأخرج أبو الشيخ ابن حِبَّان في كتاب الثواب عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل بعض حيطان الأنصار، فجعل يلتقط من التمر ويأكل، فقال لي: «يا ابن عمر، ما لك لا تأكل؟» قلت: لا أشتهيه يا رسول الله، قال: «ولكني أشتهيه، وهذه صبح رابعة منذ لم أذق طعاماً، ولو شئت لدعوتُ ربِّي عزّ وجلّ فأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر، فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت في قوم يخبِّئون رزق سنتهم ويضعف اليقين؟» فولله ما برحنا حتى نزلت: {وَكَأَيّن مّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (العنكبوت: 60) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنَّ الله لم يأمرني بكنز الدنيا ولا باتِّباع الشهوات، فمن كنز دنيا يريد بها حياة باقية فإن الحياة بيد الله عزّ وجلّ، ألا وإنِّي لا أكنز ديناراً ولا درهماً ولا أخْبَأُ رزقاً لغد» . كذا في الترغيب. وأخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عمر مثله، وفيه أبو العطوف الجزري وهو ضعيف؛ كما في التفسير لابن كثير.
رواية أم المؤمنين عائشة في هذا الأمر
وأخرج الطبراني في الأوسط عن عائشة رضي الله عنها قالت: أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقَدَح فيه لبن وعسل فقال: «شَربتين في شَرْبة وأُدْمَين في قدح؟(2/552)
لا حاجة لي به. أمَا إنِّي لا أزعم أنه حرام، ولكن أكره أن يسألني الله عزّ وجلّ عن فُضول الدنيا يوم القيامة، أو تواضع لله، فمن تواضع لله رفعه الله، ومن تكبَّر وضعه الله، ومن اقتصد أغناه الله، ومن أكثر ذكر الموت أحبه الله» . كذا في الترغيب. قال الهيثمي: وفيه نُعَيم بن مُوَرِّع العنبري وقد وثَّقه ابن حِبَّان وضعَّفه غير واحد، وبقية رجاله ثقات.
زهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه حديث زيد بن أرقم في هذا الأمر
أخرج البزَّار عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: كنَّا مع أبي بكر رضي الله عنه فاستسقى، فأُتي بماء وعسل، فلما وضعه على يده بكى وانتحب حتى ظننا أن به شيئاً ولا نسأله عن شيء، فلما فرغ قلنا: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حملك على هذا البكاء؟ قال: بينما أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ رأيته يدفع عن نفسه شيئاً ولا أرى شيئاً، فقلت: يا رسول الله ما الذي أراك تدفع ولا أرى شيئاً؟ قال «الدنيا تطوَّلت لي فقلت: إليك عني، فقالت: أمَا إنَّك لست بمدركي» ؛ قال أبو بكر: فشق عليَّ، وخشيت أن أكون قد خالفت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولحقتني الدنيا.h قال الهيثمي: رواه البزار وفيه عبد الواحد بن زيد الزاهد وهو ضعيف عند الجمهور، وذكره ابن حبان في(2/553)
الثقات، وقال: يعتبر حديثه إِذا كان فوقه ثقة ودونه ثقة، وبقية رجاله ثقات. انتهى. وقال في الترغيب: رواه ابن أبي الدنيا والبزَّار ورواته ثقات إلا عبد الواحد بن زيد، وقد قال ابن حِبّان: يعتبر حديثه إذا كان فوقه ثقة ودونه ثقة وهو هنا كذلك. انتهى.
وأخرجه أبو نعيم في الحلية عن زيد بن أرقم أن أبا بكر إستسقى فأُتي بإناء فيه ماء وعسل، فلما أدناه من فيه بكى وأبكى من حوله، سكت وما سكتوا، ثم عاد فبكى حتى ظنوا أن لا يقدروا على مساءلته، ثم مسح وجهه وأفاق فقالوا: ما هاجك على هذا البكاء؟ فذكر نحوه وزاد: «فتنحَّت وقالت: أمَا - والله - لئن انفلتَّ مني لا ينفلت مني مَنْ بعدك» . وهكذا أخرجه الحاكم، والبيهقي، كما في الكنز.
حديث عائشة في أن أبا بكر لم يترك شيئا
وأخرج أحمد في الزهد عن عائشة رضي الله عنه قالت: مات أبو بكر رضي الله عنه فما ترك ديناراً ولا درهاً، وكان قد أخذ قبل ذلك ماله فألقاه في بيت المال. وعنده أيضاً فيه عن عروة أن أبا بكر لما استُخلف ألقى كل درهم له ودينار في بيت مال المسلمين وقال: كنت أتَّجر فيه وألتمس به، فلما وليتهم(2/554)
شغلوني عن التجارة والطلب فيه. كذا في الكنز.
ما وقع بينه وبين عمر يوم ولي الخلافة
وعند ابن سعد عن عطاء بن السائب قال: لما بويع أبو بكر رضي الله عنه أصبح وعلى ساعده أبراد وهو ذاهب إلى السوق، فقال عمر رضي الله عنه: أين تريد؟ قال: السوق، قال: تصنع ماذا وقد وُلِّيت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم عيالي؟ فقال عمر: إنطلق يفرض لك أبو عبيدة، فانطلقا إلى أبي عبيدة فقال: أفرض لك قوت رجل من المهاجرين ليس بأفضلهم ولا بأوكسهم، وكسوة الشتاء والصيف، إذا أخلقتَ شيئاً رددته وأخذت غيره ففرضا له كل يوم نصف شاة، وما كساه في الرأس والبطن. كذا في الكنز.
رواية حميد بن هلال لما وقع بين أبي بكر وعمر
وعنده أيضاً عن حُمَيْد بن هلال قال: لما ولي أبو بكر قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرضوا لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يغنيه، قالوا: نعم، برداه إن أخْلَقهما وضعهما وأخذ مثلهما، وظَهْره إِذا سافر، ونفقته على أهله كما كان ينفق قبل أن يُستخلف، قال أبو بكر: رضيت. كذا في الكنز.(2/555)
زهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه رغبة بعض الصحابة بزيادة رزق عمر ورفضه ذلك
وأخرج الطبري عن سالم بن عبد الله قال: لما ولي عمر رضي الله عنه قعد على رزق أبي بكر رضي الله عنه الذي كانوا فرضوا له، فكان بذلك فاشتدت حاجته، فاجتمع نفر من المهاجرين منهم: عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير رضي الله عنهم. فقال الزبير؛ لو قلنا لعمر في زيادة نزيدها إياه في رزقه، فقال علي؛ وددنا قَبل ذلك، فانطلقوا بنا، فقال عثمان: إنّه عمر فهلُّموا فلنستبرىء ما عنده من وراء، نأتي حفصة فنسأله ونستكتمها. فدخلوا عليها وأمروها أن تخبر بالخبر عن نفر ولا تسمِّي له أحداً إلا أن يقبل، وخرجوا من عندها.
فلقيت عمر في ذلك فعرفت الغضب في وجهه، وقال: من هؤلاء؟ قالت: لا سبيل إلى علمهم حتى أعلم رأيك، فقال: لو علمت من هم لسؤت وجوههم، أنت بيني وبينهم، أنشدك بالله: ما أفضل ما أقتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتك من الملبس؟ قالت؛ ثوبين مُمَشَّقين كان يلبسهما للوفد ويخطب فيهما للجمع. قال: فأيُّ الطعام ناله عندك أرفع؟ قالت: خبزنا خبزة شعير فصببنا عليها وهي حارة أسفل عُكَّة لنا، فجعلناها هشَّة دسمة، فأكل منها وتطعَّم منها إستطابة لها. قال: فأيُّ مبسط كان يبسطه عندك كان أوطأ؟ قالت: كساء لنا ثخين كنا نربِّعه في الصيف فنجعله تحتنا، فإذا كان الشتاء بسطنا نصفه وتدثَّرنا بنصفه. قال: يا حفصة، فأبلغيهم عني أن رسول الله قَدَّر فوضع الفُضول مواضعها وتبلغ بالتزجية، وإني قدرت فوالله وضعنَّ الفُضول مواضعها لأتبلغنَّ بالتزجية، وإنما مثلي ومثل صاحبيَّ كثلاثة سلكوا طريقاً، فمضى الأول وقد تزود زاداً فبلغ ثم اتَّبعه الآخر فسلك طريقه فأفضى إليه، ثم اتَّبعه الثالث فإن لزم(2/556)
طريقهما ورضي بزادهما لحق بهما وكان معهما، وإن سلك غير طريقهما لم يجامعهما. وأخرجه أيضاً ابن عساكر عن سالم بن عبد الله فذكر نحوه، كما في منتخب الكنز.
حديث الحسن البصري في ذكر زهد عمر في جامع البصرة
وأخرج ابن عساكر عن الحسن البصري قال: أتيت مجلساً في جامع البصرة، فإذا أنا بنفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتذاكرون زهد أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما وما فتح الله عليهما من الإِسلام وحسن سيرتهما، فدنَوت من القوم، فإذا فيهم الأحنف بن قيس التميمي رضي الله عنه (جالس) معهم، فسمعته يقول: أخرَجنا عمر بن الخطاب في سرية إلى العراق ففتح الله علينا العراق وبلد فارس، فأصبنا فيها من بياض فارس، وخراسان، فجعلناه معنا واكتسينا منها. فلما قدمنا على عمر أعرض عنا بوجهه وجعل لا يكلمنا، فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتينا إبنه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وهو جالس في المسجد، فشكونا إليه ما نزل بنا من الجفاء من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب؛ فقال عبد الله: إن أمير المؤمنين رأى عليكم لباساً لم يرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسه ولا الخليفة من بعده أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فأتينا منازلنا فنزعنا ما كان علينا وأتيناه في البِزة التي كان يعهدنا فيها، فقام يسلم علينا على رجل رجل، ويعانق منَّا رجلاً رجلاً؛ حتى كأنه لم يرنا قبل ذلك، فقدَّمنا إليه الغنائم فقسمها بيننا بالسوية، فعُرض عليه في الغنائم سلال من أنواع الخبيص من أصفر وأحمر، فذاقه عمر فوجده طيبَ الطعم طيبَ الريح، فأقبل علينا بوجهه وقال: والله يا معشر المهاجرين والأنصار ليقتلن منكم الابن أباه والأخ أخاه على هذا الطعام ثم أمر به فحُمل إلى أولاد من قُتلوا بين يديّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار.(2/557)
ثم إنَّ عمر قام منصرفاً فمشى وراءه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثره، فقالوا: ما ترون يا معشر المهاجرين والأنصار إلى زهد هذا الرجل وإلى حِلْيته؟ لقد تقاصرت إِلينا أنفسنا مذ فتح الله على يديه ديار كسرى وقيصر، وطرفي المشرق والمغرب، ووفود العرب والعجم يأتونه فيَرون عليه هذه الجبَّة وقد رقعها إثنتي عشرة رقعة، فلو سأَلتم معاشر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ـ وأنتم الكبراء من أهل المواقف والمشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والسابقين من المهاجرين والأنصار - يغير هذه الجبة بثوب ليِّن يُهاب فيه منظره، ويُغدَى عليه بجفنة من الطعام، ويُراح عليه بجفنة يأكله ومن حضره من المهاجرين والأنصار. فقال القوم بأجمعهم: ليس لهذا القول إلا علي بن أبي طالب فإنه أجرأ الناس عليه وصهره على إبنته، أو إبنته حفصة فإنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُوجب لها لموضعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلموا علياً، فقال عليٌّ: لست بفاعل ذلك، ولكن عليكم بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فإنهن أمهات المؤمنين يجترئن عليه.
قال الأحنف بن قيس: فسألوا عائشة وحفصة رضي الله عنهما وكانتا مجتمعتين. فقالت عائشة: إني سائلة أمير المؤمنين ذلك، وقالت حفصة: ما أراه يفعل وسيبِينُ لك ذلك. فدخلتا على أمير المؤمنين فقرَّبهما وأدناهما، فقالت عائشة: يا أمير المؤمنين، أتأذن أكلمك؟ قال: تكلَّمي يا أمَّ المؤمنين. قالت: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مضى لسبيله إلى جنته ورضوانه لم يُرد الدنيا ولم تُرده، وكذلك مضى أبو بكر رضي الله عنه على إثره لسبيله بعد إحياء سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقَتَل المكذبين، وأدحض حجة المبطلين بعد عدله في الرعية، وقسمه بالسوية، وإِرضاء رب البرية، فقبضه الله إلى رحمته ورضوانه وألحقه بنبيه صلى الله عليه وسلم بالرفيع الأعلى لم يرد الدنيا ولم ترده. وقد فتح الله على يديك كنز كسرى وقيصر وديارهما، وحُمل إليك أموالهما ودانت لك أطراف(2/558)
المشرق والمغرب ونرجو من الله المزيد وفي الإِسلام التأييد، ورسل العجم يأتونك ووفود العرب يردون عليك وعليك هذه الجبة قد رقعتها إثنتي عشرة رقعة فلو غيَّرتها بثوب لين يُهاب فيه منظرك، ويُغدى عليك بجفنة من الطعام ويُراح عليك بجفنة تأكل أنت ومن حضرك من المهاجرين والأنصار.
فبكى عمر عند ذلك بكاءً شديداً، ثم قال: سألتك بالله هل تعلمين أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم شبع من خبز برَ عشر أيام أو خمسة أو ثلاثة، أو جمع بين عشاء وغداء حتى لحق بالله؟ فقالت: لا، فأقبل على عائشة فقال: هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قُرِّب إليه طعام على مائدة في ارتفاع شبر من الأرض، كان يأمر بالطعام فيوضع على الأرض ويأمر بالمائدة فتُرفع؟ قالتا: اللهمَّ نعم. فقال لهما: أنتما زوجتا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمهات المؤمنين ولكما على المؤمنين حق وعليَّ خاصة؛ ولكن أتيتما ترغِّباني في الدنيا وإِنِّي لأعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس جبة من الصوف فربما حك جلده من خشونتها، أتعلمان ذلك؟ قالتا اللهمَّ نعم، فقال: هل تعلمين أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرقد على عباءة على طاقة واحدة وكان مِسْحاً في بيتك يا عائشة، تكون بالنهار بساطاً وبالليل فراشاً، فندخل عليه فنرى أثر الحصير على جنبه؟ ألا يا حفصة أنت حدثتيني أنك ثنيت له ذا ليلة فوجد لينها فرقد فلم يستيقظ إلا بأذان بلال، فقال لك: «يا حفصة ماذا صنعت؟ أَثَنيت المهاد ليلتي حتى ذهب بي النوم إلى الصباح؟ ما لي وللدنيا وما لي شغلتموني بلين الفراش» يا حفصة أما تعلمين أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مغفوراً له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، أمسى جائعاً، ورقد ساجداً، ولم يزل راكعاً وساجداً وباكياً ومتضرعاً في آناء الليل والنهار إِلى أن قبضه الله برحمته ورضوانه لا أكل عمر طيباً، ولبس ليِّناً، فله أُسوة بصاحبيه، ولا جمع بين أُدْمين إلا الملح والزيت، ولا أكل لحماً إلا في كل(2/559)
شهر ينقضي ما انقضى من القوم. فخرجتا فخبَّرتا بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل كذلك حتى لحق بالله عزّ وجلّ. كذا في منتخب كنز العمال.
زهده رضي الله عنه في الأكل
وأخرج عبد الرزاق، وابن عساكر عن عكرمة بن خالد أنَّ حفصة، وابن مطيع، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم كلَّموا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالوا: لو أكلت طعاماً طيِّباً كان أقوى لك على الحق، فقال: قد علمت أنه ليس منكم إلا ناصح، ولكني تركت صاحبيَّ - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه - على جادّة فإنْ تركت جادتهما لم أدركهما في المنزل. كذا في منتخب الكنز.
وأخرج ابن سعد عن أبي أمامة بن سهل بن حُنَيف رضي الله عنهما قال: مكث عمر رضي الله عنه زماناً طويلاً لا يأكل من المال شيئاً حتى دخلت عليه في ذلك خَصاصة، وأرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشارهم، فقال: قد شغلت نفسي في هذا الأمر فما يصلح لي منه. فقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: كل وأطعم. وقال ذلك سعيد بن (زيد بن) عمرو بن نفيل رضي الله عنه، وقال: لعلي رضي الله عنه: ما تقول أنت في ذلك؟ قال: غداء وعشاء. فأخذ بذلك عمر. كذا في منتخب الكنز.(2/560)
وأخرج عبد بن حُمَيد وابن جرير عن قتادة رضي الله عنه قال: ذُكر لنا أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: لو شئت كنت أطيبكم طعاماً، وألينكم لباساً، لكن أستبقي طيباتي. وذُكر لنا أنَّ عمر بن الخطاب لمَّا قدم الشام صُنع له طعام لم يَرَ قبله مثله، قال: هذا لنا، فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وهم لا يشبعون من خبز الشعير؟ فقال عمر بن الوليد: لهم الجنة، فاغرورقت عَينا عمر وقال: لئن كان حظُّنا من هذا الحطام وذهبوا بالجنة لقد بانوا بَوْناً عظيماً. كذا في المنتخب.
قصته مع ابنه عبد الله وابنته حفصة في ذلك
وأخرج ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه دخل عليه عمر وهو على مائدته، فأوسع له عن صدر المجلس، فقال: بسم الله ثم ضرب بيده، فلقم لقمة ثم ثنَّى بأخرى، ثم قال: إني لأحد طعمَ دسم ما هو بدَسم اللحم، فقال عبد الله: يا أمير المؤمنين، إني خرجت إلى السوق أطلب السَّمين لأشتريه فوجدته غالياً، فاشتريت بدرهم من المهزول وجعلت عليه بدرهم سمناً، فأردت أن يتردد عيالي عظماً عظماً. ما اجتمعا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قط إلا أكل أحدهما وتصدَّق بالآخر. فقال عبد الله: خذ يا أمير المؤمنين؛ فلن يجتمعا عندي إلا فعلت ذلك. قال: ما كنت لأفعل كذا في الكنز. وأخرج ابن سعد عن أبي حازم قال: دخل عمر بن الخطاب رضي(2/561)
الله عنه على حفصة ابنته رضي الله عنها فقدَّمت إليه مرقاً بارداً وخبزاً، وصبت في المرق زيتاً، فقال: أُدْمان في إناء واحد لا أذوقه حتى ألقى الله.
ذكر طعامه رضي الله عنه في رواية أنس والسائب بن يزيد
وأخرج ابن سعد عن أنس رضي الله عنه قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يومئذٍ أمير المؤمنين يُطرح له صاع من تمر فيأكلها حتى يأكل حشفها. وعن السائب بن يزيد قال: ربما تعشَّيت عند عمر بن الخطاب فيأكل الخبز واللحم، ثم يمسح يده على قدمه، ثم يقول: هذا منديل عمر وآل عمر. وعند الدينوَرَي عن ثابت قال: أكل الجارود عند عمر بن الخطاب فلما فرغ قال: يا جارية هلمِّي الدستار - يعني المنديل يمسح يده - فقال عمر: إمسح يدك بإستِك.
قصصه في تذكيره الناس بآية: {أَذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا}
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: قدم على عمر رضي الله عنه ناس من أهل العراق فرأى كأنهم يأكلون تعذيزاً، فقال هذا يا أهل العراق، لو شئت أن يُدَهْمق لي كما يُدَهمق لكم؛ ولكنا نستبقي من دنيانا نجده في آخرتنا، أما سمعتم الله عزّ وجلّ قال لقوم: {أَذْهَبْتُمْ(2/562)
طَيّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} (الأحقاف: 20) ؟.
وعنده أيضاً وهنَّاد عن حبيب بن أبي ثابت عن بعض أصحابه عن عمر رضي الله عنه أنه قدم عليه ناس من أهل العراق فيهم جرير بن عبد الله رضي الله عنه فأتاهم بجفنة قد صنعت بخبز وزيت، فقال لهم: خذوا، فأخذوا أخذاً ضعيفاً، فقال لهم عمر: قد أرى ما تفعلون، فأي شيء تريدون؟ أحلواً وحامضاً وحاراً وبارداً، ثم قَذْفاً في البطون كذا في منتخب الكنز.
وأخرج ابن سعد وعبد بن حُمَيد عن حُمَيد بن هلال أنَّ حفص بن أبي العاص رضي الله عنه كان يحضر طعام عمر رضي الله عنه وكان لا يأكل، فقال له عمر: ما يمنعك من طعامنا؟ قال: إن طعامك خشن غليظ، وإني راجع إلى طعام ليِّن قد صنع لي فأصيب منه. قال: أتراني أعجز أن آمر بشاة فيُلقى عنها شعرها، وآمر بدقيق فينخل في خرقة، ثم آخر به فيخبز خبزاً رُقاقاً، وآمر بصاع من زبيب فيقذف في سُعْن، ثم يُصبُّ عليه من الماء فيصبح كأنه دم غزال؟ فقال حفص: إني لأراك عالماً بطيِّب العيش. فقال عمر: أجل، والذي نفسي بيده لولا كراهية أن ينقص من حسناتي يوم القيامة لشاركتكم في (ليِّن) عيشكم. كذا في منتخب الكنز.
وعند أبي نُعيم في الحلية عن سالم عبد الله أن عمر بن الخطاب(2/563)
رضي الله عنه كان يقول: والله ما نعبأ بلذت العيش، أن نأمر بصغار المِعزى فتُسمط لنا. ونأمر بلباب الحنطة فيخبز لنا، ونأمر بالزبيب فينتبذ لنا في الأسعان، حيى إذا صار مثل عين اليعقوب أكلنا هذا، وشربنا هذا، ولكنا نريد أن نستبقي طيّباتنا لأنا سمعنا الله تعالى يقول: {أَذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} - الآية -.
قصته مع أبي موسى الأشعري ووفد البصرة في ذلك
وعند ابن المبارك، وابن سعد عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع وفد أهل البصرة قال: فكنا ندخل عليه وله كلَّ يوم خبز يلتُّ؛ وربما وافيناه مأدوماً بسمن أحياناً وأحياناً بزيت وأحياناً بلبن، وربما وافقنا القدائد اليابسة قد دُقَّت ثم أُغلي بماء، وربما وافقنا اللحم الغريض وهو قليل؛ فقال لنا يوماً: إني - والله - لقد أرى تعذيزكم وكراهيتكم طعامي، وإني - والله - لو شئت لكنت أطيبكم طعاماً وأرقَّكم عيشاً، أما - والله - ما أجهل عن كراكر وأسنمة وعن صِلاء وعن صلائق وصِناب. - قال جرير بن حازم: الصِّلاء المشوي، والصِّناب(2/564)
الخردل، والصَّلائق الخبز الرقاق -؛ ولكني سمعت الله عيَّر قوماً بأمر فعلوه فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} . فقال أبو موسى: لو كلَّمتم أمير المؤمنين ففرض لكم من بيت المال طعاماً تأكَلونه، فكلَّموه، فقال: يا معشر الأمراء أما ترضون لأنفسكم ما أرضى لنفسي؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين إنَّ المدينة أرضُ العيشُ بها شديد، ولا نرى طعامك يُغشى ويؤكل، وإنا بأرض ذات ريف، وإِن أميرنا يُغشى وإن طعامه يؤكل: فنكَّس عمر ساعة ثم رفع رأسه فقال: قد فرضت لكم من بيت المال شاتين وجريبين، فإذا كان الغداة فضع إحدى الشاتين على أحد الجريبين، فكل أنت وأصحابك، ثم أدع بشراب فاشرب - يعني الشراب الحلال - ثم إسق الذي عن يمينك، ثم الذي يليه، ثم قم لحاجتك؛ فإذا كان بالعشيّ فضع الشاة الغابرة على الجريب الغابر، فكل أنت وأصحابك. ألا وأشبعوا الناس في بيوتهم وأطعموا عيالهم، فإن تجفيتكم للناس لا يحسِّن أخلاقهم ولا يُشبع جائعهم، فوالله مع ذلك لا أظن رستاقاً يؤخذ منه كل يوم شاتان وجريبان إلا يسرع ذلك في خرابة. كذا في المنتخب.
قصته مع عتبة بن فرقد في ذلك
وأخرج هَنَّاد عن عتبة بن فَرْقد قال: قدمت على عمر رضي الله عنه بسِلال خَبِيص، فقال: ما هذا؟ قلت: طعام أتيتك به لأنك تقضي في حاجات الناس أول النهار، فأحببت إذا رجعت أن ترجع إلى طعام فتصيب منه فقوّاك، فكشف عن سلّة منها، فقال: عزمت عليك يا عتبة أرزقتَ كل رجل من المسلمين سلّة؟ قال: يا أمير المؤمنين، لو أنفقت مال قيس كلها ما وسعتْ(2/565)
ذلك قال: فلا حاجة لي فيه، ثم دعا بقصعة ثريداً خبزاً خشناً ولحماً غليظاً وهو يأكل معي أكلاً شهياً، فجعلت أهوي إلى البَضْعة البيضاء أحسبها سنماً فإذا هي عصبة، والبَضْعَة من اللحم أمضغها فلا أُسيغها، فإذا غفل عني جعلتها بين الخِوان والقصعة، ثم دعا بعُس من نبيذ قد كاد أن يكون خلا فقال: إشرب، فأخذته وما أكاد أسيغه، ثم أخذ فشرب؛ ثم قال: إسمع يا عتبة: إنا ننحر كل يوم جزوراً، فأما وَدَكها وأطايبها فلمن حضرنا من آفاق المسلمين، وأما عنقها فلآل عمر، يأكل هذا اللحم الغليظ، ويشرب هذا النبيذ الشديد، يقطع في بطوننا أن يؤذينا. كذا في منتخب الكنز.
خوفه حين جيء بماء مخلوط بالعسل
وأخرج ابن سعد عن الحسن أن عمر رضي الله عنه دخل على رجل فاستسقاه وهو عطشان فأتاه بعسل، فقال: ما هذا؟ قال: عسل، قال: والله لا يكون فيما أحاسب به يوم القيامة. وأخرجه ابن عساكر عن الحسن مثله، كما في المنتخب. وذكر رَزِين عن زيد بن أسلم قال: إستسقى عمر فجيء بماء قد شهيب بعسل، فقال: إنه لطِّيب، لكني أسمع الله عزّ وجلّ نَعَى على قوم شهواتهم فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} فأخاف أن تكون حسنانتنا عُجِّلت لنا، فلم يشربه. كذا في الترغيب.(2/566)
لباسه ونفقته وبعض سيرته في ذلك رضي الله عنه
وأخرج الطبري عن عروة قال: لما قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه عنه أيْلة ومعه المهاجرون والأنصار دفع قميصاً له من كرابيس قد انجاب مؤخره عن قعدته من طول السير إلى الأُسقُف، وقال: إغسل هذا وارقعه، فانطلق الأُسقُف بالقميص ورقعه وخاط له آخر مثله، فراح به إلى عمر فقال: ما هذا؟ قال الأُسقْف: أما هذا فقميصك قد غسلته ورقعته، وأما هذه فكسوة لك مني؛ فنظر إليه عمر ومسحه ثم لبس قميصه ورد عليه ذلك القميص، وقال: هذا أنشفهما للعرق. وأخرجه ابن المبارك عن عروة عن عامل لعمر رضي الله عنه بنحوه؛ كما في المنتخب.
وأخرج الدينَوري وابن عساكر عن قتادة رضي الله عنه قال: كنا عمر رضي الله عنه - وهو خليفة - يلبس جبة من صوف مرقوعة بعضها بأَدَم، ويطوف بالأسواق وعلى عاتقه الدِّرَّة يؤدب الناس ويمر بالنِكث والنوى فيلقطه ويلقيه في منازل الناس لينتفعوا به.
وعند أحمد في الزهد وهَنَّاد، وابن جرير، وأبي نُعيم عن الحسن قال: خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس - وهو خليفة - وعليه إزار فيه إثنا عشر رقعة.Y كذا في المنتخب.(2/567)
وعند مالك عن أنس رضي الله عنه قال: رأيت عمر رضي الله عنه - وهو يومئذٍ أمير المؤمنين - وقد رقّع بين كتفيه برقاع ثلاث لبَّد بعضها على بعض. كذا في الترغيب.
وأخرج ابن سعد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان عمر يقوت نفسه أهله، ويكتسي الحلَّة في الصيف، ولربما خُرق الإِزار حتى يرقعه فما يبدل مكانه حتى يأتي الإِبّان، وما من عام يكثر فيه المال إلا كسوته فيما أرى أدنى من العام الماضي؛ فكلَّمَتْه في ذلك حفصة رضي الله عنها فقال: إنما أكتسي من مال المسلمين وهذا يُبَلِّغني. كذا في المنتخب. وأخرج ابن سعد عن محمد بن إبراهيم قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستنفق كل يوم درهمين له ولعياله. كذا في المنتخب.
زهد عثمان بن عفان رضي الله عنه إزاره ونومه في المسجد على الحصير وطعامه
أخرج أبو نعيم في الحلية عن عبد الملك بن شداد قال: رأيت عثمان بن عفان رضي الله عنه يوم الجمعة على المنبر عليه إزار عدني غليظ ثمنه أربعة دراهم أو خمسة دراهم، ورَيْطة كوفية مُمَشَّقة.(2/568)
وعن الحسن وسئل عن القائلين في المسجد فقال: رأيت عثمان بن عفان رضي الله عنه يقيل في المسجد وهو يومئذٍ خليفة، قال: ويقوم وأثر الحصى بجنبه. قال: فيقال: هذا أمير المؤمنين هذا أمير المؤمنين وأخرجه أحمد كما في صفة الصفوة مثله. وعن شرحبيل بن مسلم أن عثمان رضي الله عنه كان يطعم الناس طعم الإِمارة ويدخل بيته فيأكل الخلَّ والزيت.
زهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه طعامه رضي الله عنه
أخرج أبو نعيم في الحلية عن رجل من ثقيف أن علياً إستعمله على عُكَبرا قال: ولم يكن السَّواد يسكنه المصلون، وقال لي: إذا كان عند الظهر فَرُح إليَّ، فرحت إليه فلم أجد عنده حاجباً يحبسني عنه دونه، فوجدته جالساً وعنده قدح وكوز من ماء، فدعا بطينة فقلت في نفسي: لقد أمِنَني حتى يخرج إليَّ جوهراً ولا أدري ما فيها، فإذا عليها خاتم فكسر الخاتم، فإذا فيها سَوِيق فأخرج منها فصبَّ في القدح فصب عليه ماء فشرب وسقاني، فلم أصبر فقلت: يا أمير المؤمنين أتصنع هذا بالعراق وطعام العراق أكثر من ذلك؟ قال: أما والله ما أختم عليه بخلاً عليه، ولكني أبتاع قدر ما يكفيني، فأخاف أن يفنى فيصنع من غيره، وإنما حفظي لذلك، وأكره أن أدخل بطني إلا طيباً. وعن الأعمش قال: كان علي رضي الله عنه يُغدِّي ويُعشِّي، ويأكل هو من شيء يجيئه من المدينة.(2/569)
قوله رضي الله عنه لما أُتي بالفالوذج
وأخرج أيضاً عن عبد الله بن شريك عن جده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أُتي بفالوذج فوضع قدامه بين يديه، فقال: إِنك طيب الريح، حسن اللون، طيب الطعم؛ لكن أكره أن أعوّد نفسي ما لم تعتده. وأخرجه أيضاً عبد الله بن الإمام أحمد في زوائده عن عبد الله بن شريك مثله، كما في المنتخب.
إِزار رضي الله عنه
وأخرج ابن المبارك عن زيد بن وهب قال: خرج علينا علي رضي الله عنه وعليه رداء وإزار قد وثَّقه بخرقة فقيل له، فقال: إنما ألبس هذين الثوبين ليكون أبعد لي من الزَّهْو، خيراً لي في صلاتي، وسنّة للمؤمن. كذا في المنتخب. وأخرج البيهقي عن رجل قال: رأيت على علي رضي الله عنه إزارا غليظاً، قال: إشتريته بخمسة دراهم، فمن أربحني فيه درهاً بعته إِياه. كذا في منتخب الكنز.
بيعة سيفه لشراء الإِزار
وأخرج يعقوب بن سفيان عن مُجمِّع بن سمعان التيمي قال: خرج(2/570)
علي بن أبي طالب رضي الله عنه بسيفه إلى السوق فقال: من يشتري مني سيفي هذا فلو كان عندي أربعة دراهم أشتري بها إِزاراً ما بعته. كذا في البداية. وأخرج أبو القاسم البغوي عن صالح بن أبي الأسود عمَّن حدثه أنه رأى علياً رضي الله عنه قد ركب حماراً ودلَّى رجليه إلى موضع واحد ثم قال: أنا الذي أهنتُ الدنيا. كذا في البداية.
حديثه فيما يحل للخليفة من مال الله
وأخرج أحمد عن عبد الله بن رزين قال: دخلت على علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم الأضحى، فقرب إِلينا خزيرة، فقلنا: أصلحك الله لو أطعمتنا هذا البط - يعني الإِوز - فإن الله قد أكثر الخير، قال: يا ابن رزين، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل للخليفة من مال الله إلا قصعتان: قصعة يأكلها هو وأهله، وقصة يضعها بين يدي الناس» . كذا في البداية.
زهد أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه حديث عروة في عيشه
أخرج أبو نعيم في الحلية عن عروة قال: دل عمر بن الخطاب على أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما فإذا هو مضطجع على طُنفسة رَحْله،(2/571)
متوسدُ الحقيبة، فقال له عمر: ألا اتَّخذت ما اتخذ أصحابك؟ فقال: يا أمير المؤمنين هذا يبلَّغني المَقيل. وقال مَعْمَر في حديثه: لما قدم عمر الشام تلقَّاه الناس وعظماء أهل الأرض، فقال عمر: أين أخي؟ قالوا: مَنْ؟ قال: أبو عبيدة، قالوا: الآن يأتيك. فلما أتاه نزل فاعتنقه ثم دخل عليه بيته فلم يرَ في بيته إلا سيفه وترسه ورَحْله - ثم ذكر نحوه. وأخرجه الإِمام أحمد أيضاً نحو حديث مَعْمَر، كما في صفة الصفوة، وابن المبارك في الزهد من طريق مَعْمَر نحوه، كما في الإِصابة.
زهد مصعب بن عمير رضي الله عنه حديث علي في زهده رضي الله عنه وقوله عليه السلام فيه
أخرج الترمذي - وحسَّنه - وأبو يعلى، وابن راهويْه عن علي رضي الله عنه قال: خرجت في غداة شاتية من بيتي جائعاً حرصاً قد أذلقني البرد، فأخذت إهاباً معطوناً كان عندنا، فجببته ثم أدخلته في عنقي ثم حزمته على صدري أستدفىء به، فوالله ما في بيتي شيء آكل منه، ولو كان في بيت النبي صلى الله عليه وسلم بلغني. فخرجت في بعض نواحي المدينة فاطَّلعت إلى يهودي في(2/572)
حائط من ثغرة جداره فقال: ما لك يا أعرابي، هل لك في كل دلو بتمرة؟ فقلت: نعم، فافتح الحائط، ففتح لي فدخلت، فجعلت أنزع دلواً ويعطيني تمرة حتى امتلأت كفي قلت: حسبي منك الآن. فأكلتهن ثم كرعت الماء، ثم جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجلست إليه في المسجد وهو في عصابه من أصحابه، فاطَّلع علينا مُصْعَب بن عمير رضي الله عنه في بردة له مرقوعة؛ فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر ما كان فيه من النعيم ورأى حاله الذي هو عليها إنذرفت عيناه فبكى، ثم قال: «كيف أنتم إذا غدا أحدكم في حلّة وراح في أخرى، وسُترت بيوتكم كما تُستر الكعبة؟» قلنا: نحن يومئذٍ خير نُكفى المؤنة ونتفرغ للعبادة؛ قال: «بل أنتم اليوم خير منكم يومئذٍ» . كذا في الكنز. وقال الهيثمي: رواه أبو يعلى، وفيه راوٍ لم يُسمَّ، وبقية رجاله ثقات. اهـ.
ما أصاب مصعباً من البلاء بعد الإِسلام
وعند الطبراني، والبيهقي عن عمر رضي الله عنه قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير رضي الله عنه مقبلاً، عليه إهاب كبش قد تنطَّق به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «أنظروا إلى هذا الذي نوَّر الله قلبه لقد رأيته بين أبوين يغذوانه بأطيب الطعام والشراب، ولقد رأيت عليه حلّة شراها - أو شُريت - بمائتي درهم، فدعاه حبُّ الله وحب رسوله إلى ما ترون» . كذا في الترغيب. وأخرجه أيضاً الحسن بن سفيان، وأبو عبد الرحمن السُّلَمي، والحاكم، كما في الكنز، وأبو نعيم في الحلية عن عمر نحوه.(2/573)
وعند الحاكم عن الزبير رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً بقُباء ومعه نفر، فقام مصعب بن عمير رضي الله عنه عليه بردة ما تكاد تواريه، ونكَّس القوم، فجاء فسلم فردوا عليه، فقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم خيراً وأثنى عليه، ثم قال: «لقد رأيت هذا عند أبويه بمكة يكرمانه وينعمانه، وما فتى من فتيان قريش مثله؛ ثم خرج من ذلك إبتغاءَ مرضاة الله ونصرة رسوله، أما إنه لا يأتي عليكم إلا كذا وكذا حتى يفتح (الله) عليكم فرس، والروم، فيغدوا أحدكم في حلة ويروح في حلة، ويُغدى عليكم بقصعة ويُراح عليكم بقصعة» . قالوا: يا رسول الله، نحن اليوم خير أو ذلك اليوم؟ قال: «بل أنتم اليوم خير منكم ذلك اليوم. أما لو تعلمون من الدنيا ما أعلم لاستراحت أنفسكم منها» . وقال في الإِصابة: وفي الصحيح عن خبّاب أن مصعباً لم يترك إلا ثوباً فكان إِذا غطَّوا رأسه خرجت رجلاه، وإذ غطَّوا رجليه خرج رأسه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إجعلوا على رجليه شيئاً من الإدخر» . انتهى.
زهد عثمان بن مظعون رضي الله عنه لباسه رضي الله عنه
أخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن شهاب أن عثمان بن مظعون رضي الله عنه دخل يوماً المسجد وعليه نَمِرة قد تخلَّلت فرقعها بقطعة من فروة، فرَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه ورقَّ أصحابه لرقته، فقال: «كيف أنتم يوم يغدو أحدكم(2/574)
في حلَّة ويَرُوح في أخرى، وتوضع بين يديه قصعة وتُرفع أخرى، وسترتم البيوت كما تستر الكعبة؟» قالوا: وددنا أن ذلك قد كان يا رسول الله، فأصبنا الرخاء والعيش؛ قال: «فإن ذلك لكائن، وأنتم اليوم خير من أولئك» .
قصة وفاته رضي الله عنه
وأخرج الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على عثمان بن مظعون رضي الله عنه يوم مات فأحنى عليه كأنَّه يوصيه، ثم رفع رأسه فرأوا في عينيه أثر البكاء، ثم أحنى عليه الثانية ثم رفع رأسه فرأوه يبكي، ثم أحنى عليه الثالثة ثم رفع رأسه وله شهيق، فعرفوا أنه قد مات؛ فبكى القوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «مَهْ، إنما هذا من الشيطان، فاستغفروا الله» ثم قال: «إذهب عنك أبا السائب، فلقد خرجت ولم تتلبَّس منها بشيء» . قال الهيثمي: رواه الطبراني عن عمر بن عبد العزيز بن مقلاص عن أبيه ولم أعرفهما، وبقية رجاله ثقات. انتهى. وأخرجه أبو نعيم في الحلية، وابن عبد البرّ في الإستيعاب عن بن عباس من غير طريق عمر بن عبد العزيز عن أبيه نحوه. وأخرجه أبو نُعيم أيضاً عن عبد ربه بن سعيد المدني مختصراً، وفي حديثه: فقال: «رحمك الله يا عثمان، ما أصبت من الدنيا ولا أصابت منك» .(2/575)
زهد سلمان الفارسي رضي الله عنه قوله رضي الله عنه حينما أكره على الطعام
أخرج أبو نعيم في الحلية عن عطية بن عمر قال: رأيت سلمان الفارسي رضي الله عنه أُكره على طعام يأكله؛ فقال: حسبي، حسبي فإنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ أكثر الناس شبعاً في الدنيا أطولهم جوعاً في الآخرة، يا سلمان إنما الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» . وأخرجه العسكري في الأمثال نحوه، كما في الكنز.
زهد سلمان وهو في الإِمارة
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن الحسن قال: كان عطاء سلمان رضي الله عنه خمسة آلاف درهم، وكان أميراً على زهاء ثلاثين ألفاً من المسلمين، وكان يخطب الناس في عباءة يفترش بعضها ويلبس بعضها، وإذا خرج عطاؤه أمضاه، ويأكل من سفيف يده. وأخرجه ابن سعد عن الحسن بنحوه.
ما وقع بينه وبين حذيفة في بناء البيت
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن الأعمش قال: سمعتهم يذكرون أن حذيفة رضي الله عنه قال لسلمان رضي الله عنه: يا أبا عبد الله ألا أبني لك بيتاً؟ قال: فكره ذلك، قال: رويدك حتى أخبرك: إني أبني لك بيتاً إِذا(2/576)
أضجعت فيه رأسك من هذا الجانب ورجلاك من الجانب الآخر، وإذا قمت أصاب رأسك. قال سلمان: كأنك في نفسي.
قصة له أخرى في هذا الأمر
قصة له أخرى في هذا الأمر
وعند ابن سعد معن عن مالك بن أنس أن سلمان الفارسي رضي الله عنه كان يستظل بالفيء حيث ما دار ولم يكن له بيت. فقال له رجل: ألا أبني لك (بيتاً) تستظل به من الحر وتسكن فيه من البرد؟ فقال له سلمان رضي الله عنه: نعم، فلما أدبر صاح به فسأله سلمان: كيف تبنيه؟ فقال: أبنيه إن قمت فيه أصاب رأسك، وإن اضطجعت فيه أصاب رجلك. فقال سلمان: نعم.
زهد أبي ذر الغفاري رضي الله عنه زهده وهو بالربذة
أخرج أحمد عن أبي أسماء أنه دخل على أبي ذر رضي الله عنه وهو بالرَّبَذة وعنده إمرأة سوداء مُشَنَّعة ليس عليها أثر المُجاسد ولا الخَلوق. فقال: ألا تنظرون إلى ما تأمرني (به) هذه السويداء؟ تأمرني أن آتي العراق، فإذا أتيت العراق مالوا عليَّ بدنياهم، وإِن خليلي صلى الله عليه وسلم عهد إليَّ أنَّ دون جسر جهنم طريقاً ذا دَحْض ومَزَلَّة، وإنا إن نأتي عليه وفي أحمالنا اقتدار واضطمار أحرى(2/577)
أن ننجو من أن نأتي عليه ونحن مواقير. قال في الترغيب: رواه أحمد ورواته رواة الصحيح. اهـ وأخرجه أبو نعيم في الحلية عن أبي أسماء، وابن سعد نحوه.
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن عبد اا بن خِراش قال: رأيت أبا ذر رضي الله عنه بالرَّبَذَة في ظُلَّة له سوداء وتحته إمرأة له سحماء، وهو جالس على قطعة جُوالق، فقيل له: إنك أمرؤ ما يبقى لك ولد، فقال: الحمد لله الذي يأخذهم في دار الفناء ويدخرهم في دار البقاء. قالوا: يا أبا ذر لو اتخذت إمرأة غير هذه؟ قال: لأن أتزوج إمرأة تضعني أحبّ إليَّ من إمرأة ترفعني، فقالوا له: لو اتخذت بساطاً ألينَ من هذا؟ قال: اللهم غَفْراً خذ ممّا خُوِّلت ما بدا لك. وأخرجه الطبراني عن عبد الله بن خراش نحوه. قال الهيثمي: وفيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف. اهـ.
قوته رضي الله عنه
وأخرج أبو نعيم عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قيل له: ألا تتخذ ضَيْعة كما اتخذ فلان وفلان؟ قال: وما أصنع(2/578)
بأن أكون أميراً؛ وإنما يكفيني كل يوم شَرْبة ماء - أو لبن -، وفي الجمعة قَفيز من قمح وعنده أيضاً عن أبي ذر قال: كان قوتي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً فلا أزيد عليه حتى ألقى الله عزّ وجلّ.
زهد أبي الدرداء رضي الله عنه حديثه رضي الله عنه في تركه التجارة والإقبال على العبادة
أخرج الطبراني عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كنت تاجراً قبل أن يُبعث النبي صلى الله عليه وسلم فلما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم أردت أن أجمع بين التجارة والعبادة فلم يستقم، فتركت التجارة فتركت التجارة وأقبلت على العبادة. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. اهـ.
سبب زهده رضي الله عنه
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن أي الدرداء رضي الله عنه نحوه، زاد: والذي نفس أبي الدرداء بيده، ما أحب أن لي اليوم حانوتاً على باب المسجد لا يخطئني فيه صلاة، أربح فيه كل يوم أربعين ديناراً وأتصدَّق بها كلِّها في سبيل الله. قيل له: يا أبا الدرداء، وما تكره من ذلك؟ قال: شدّة الحساب. وهكذا أخرجه ابن عساكر، كما في الكنز.
وعند أبي نعيم أيضاً من طريق آخر عنه قال: ما يسرني أن أقوم على(2/579)
الدرج من باب المسجد فأبيع وأشتري فأصيبَ كل يوم ثلاث مائة دينار أشهد الصلاة كلها في المسجد، ما أقول: إن الله عزّ وجلّ لم يحل البيع يحرم الربا، ولن أحب أن أكون من الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله.
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن خالد بن حُدَير الأسلمي أنه دخل على أبي الدرداء رضي الله عنه وتحته فراش من جلد أو صوف، وعليه كساء صوف وسِبتية صوف وهو وَجِع وقد عرق، فقال: لو شئتَ كسيت فراشك بوَرِق وكساء مِرعِزِّيّ مما يبعث به أمير المؤمنين؟ قال: إن لنا داراً، وإِنا لنظعن إليها ولها نعمل. عن حسَّان بن عطية أن أصحاباً لأبي الدرداء رضي الله عنه تضيَّفوه فضيّفهم، فمنهم من بات على لِبدة، ومنهم من بات على ثيابه ما هو فلما أصبح غدا عليهم فعرف ذلك منهم فقال: إن لنا داراً لها نجمع وإليها نرجع.
وعند أحمد عن محمد بن كعب أن ناساً نزلوا على أبي الدرداء رضي الله عنه ليلة قَرَّة، فأرسل إليهم بطعام سخن ولم يرسل إليهم بلُحُف. فقال بعضهم: لقد أرسل إلينا بالطعام فما هنأنا مع القرّ، لا أنتهي أو أبيِّن له، قال الآخر: دعه، فأبى فجاء حتى وقف على الباب رآه جالساً وامرأته ليس عليها من الثياب إلا ما لا يذكر؛ فرجع الرجل وقال: ما أراك بتّ رلا بنحو ما بتنا به. قال: إن لنا داراً ننتقل إليها قدَّمنا فرشنا ولحفنا إليها، ولو ألفيتَ عندنا منه شيئاً لأرسلنا إِليك به، وإِن بين أيدينا عقبة كئوداً المُخِفُّ فيه خير من المُثْقِل. أفهمت ما أقول لك؟ قال: نعم. كذا في صفة الصفوة.
ما وقع بينه وبين عمر رضي الله عنهما
وقد تقدَّم في الإِنكار على ترفع الأمير أن عمر رضي الله عنه دخل عليه(2/580)
فدفع الباب فإذا ليس له غَلَق، فدخل في بيت مظلم فجعل يلمسه حتى وقع عليه فجسَّ وساده فإذا برذعة، وجسَّ فراشه فإذا بطحاء، وجسَّ دثاره فإذا كساء رقيق. قال عمر: رحمك الله، ألم أوسِّع عليك؟ ألم أفعل بك؟ فقال له أبو الدرداء: أتذكر حديثاً حدَّثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أي حديث؟ قال: «ليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب. قال: نعم قال: فماذا فعلنا بعده يا عمر؟ قال: فما زالا يتجاوبان بالبكاء حتى أصبحا.
زهد معاذ بن عفراء رضي الله عنه قصته مع عمر رضي الله عنهما في شأن الحلَّة
أخرج عمر بن شَبَّة عن أفلح مولى أبي أيوب رضي الله عنه قال: كان عمر رضي الله عنه يأمر بحلل تنسج لأهل بدر يتنوَّق فيها، فبعث إِلى معاذ بن عفراء رضي الله عنه حلَّة. فقال لي معاذ: يا أفلح بعْ هذه الحلة، فبعتها له بألف وخمس مائة درهم، ثم قال: إذهب فابتع لي بها رِقاباً، فاشتريت له خمس رقاب، ثم قال: والله إن أمرأ أختار قشرين يلبسهما على خمس رقاب يعتقها لغبين الرأي، إذهبوا فأنتم أحرار، فبلغ عمر أنه لا يلبس ما يبعث به إليه. فاتخذ له حلَّة غليظة أنفق عليها مائة درهم، فلما أتاه بها الرسول قال: ما أره بعثك بها إليَّ قال: بلى - والله - فأخذ الحلّة فأتى بها عمر، فقال: يا أمير المؤمنين بعثت إليَّ بهذه الحلَّة؟ قال: نعم إنْ كنا لنبعث إليك بحلَّة مما نتخذ لك ولإِخوانك فبلغني أنك لا تلبسها. فقال: يا أمير المؤمنين إِني وإِن كنت لا ألبسها فإني أحب أن يأتين من صالح عندك، فأعاد له حلَّته. كذا في صفوة الصفوة.(2/581)
زهد اللجلاج الغطفاني رضي الله عنه إمتناعه عن الشبع منذ أسلم رضي الله عنه
أخرج الطبراني بإِسناد لا بأس به عن اللَجْلاج رضي الله عنه قال: ما ملأت بطني طعاماً منذ أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل حسبي وأشرب حسبي - يعني قوتي - وزاد البيهقي: وكان قد عاش مائة وعشرين سنة: خمسين في الجاهلية، وسبعين في الإِسلام. كذا في الترغيب. وأخرجه أبو العباس السراج في تاريخه والخطيب في المتفق، كما في الإِصابة، وابن عساكر كما في الكنز.
زهد عبد الله بن عمر رضي الله عنه عيشه رضي الله عنه
أخرج أبو نعيم في الحلية عن حمزة بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: لو أن طعاماً كثيراً كان عند عبد الله بن عمر ما شبع منه بعد أن يجد له آكلاً، فدخل عليه ابن نُطِيع يعوده، فرآه، قد نحل جسمه، فتصنعي له طعاماً؟ قالت: إِنا لنفعل ذلك ولكنه لا يدع أحداً من أهله لا من يحضره إلا دعاه عليه؛ فكلِّمْه أنت في ذلك، فقال ابن مطيع: يا أبا عبد الرحمن لو اتخذت طعاماً فرجع إليك جسمك؛ فقال: إِنه ليأتي عليَّ ثماني سنين ما أشبع فيها شَبْعة واحدة - أو قال: لا أشبع فيها إلا شبعة واحدة - فالآن تريد أن أشبع حين لم يبق من(2/582)
عمري إلا ظِمء حمار.
وعنده عن عمر بن حمزة بن عبد الله قال: كنت جالساً مع أبي فمر رجل فقال: أخبرني ما قلت لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما يوم رأيتك تكلمه بالجُرف؟ قال: قلت: يا أبا عبد الرحمن، رقَّت مضغتك وكبر سنك، وجلساؤك لا يعرفون حقك ولا شرفك؛ فلو أمرت أهلك أن يجعلوا لك شيئاً يُلْطفونك إِذا رجعت إليهم. قال: ويحكم الله ما شبعت منذ إحدى عشرة سنة ولا ثنتي عشرة سنة ولا ثلاث عشرة سنة ولا أربع عشرة سنة، ولا مرة واحدة؛ فكيف بي؟ وإنما بقي مني كظِمء الحمار.
قوله لما أُهدي إليه الجوارش
وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن عبيد الله بن عدي - وكان مولى لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما - قدم من العراق فجاءه يسلِّم عليه، فقال: أهديت إليك هدية، قال: وما هي؟ قال: جَوارش، قال: وما جَوارش؟ قال: تهضم الطعام؛ فقال: فما ملأت بطني طعاماً منذ أربعين سنة فما أصنع به؟.
وعنده أيضاً عن ابن سيرين أنَّ رجلاً قال لابن عمر رضي الله عنهما: أجعل لك جوارش؟ قال: شيء إِذا كظَّك الطعام فأصبت منه سهل عليك.4 قال: فقال ابن عمر: ما شبعت من الطعام منذ أربعة أشهر، وما ذاك أن لا أكون له وجداً؟ ولكني عهدت قوماً يشبعون مرة(2/583)
ويجوعون مرة. وأخرجه ابن سعد عن ابن سيرين مختصراً، وكذلك عن نافع مختصراً.
زهده بعد وفاة النبي عليه السلام
وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ما وضعت لبنة على لبنة، ولا غرست نخلة منذ قُبض النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجه ابن سعد مثله.
حديث جابر والسُّدِّي في ذلك
وأخرج أبو سعيد بن الأعرابي بسند صحيح عن جابر رضي الله عنه قال: ما منَّا من أحد أدرك الدنيا إِلا مالت به ومال بها غير عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وفي تاريخ أبي العباس السّراج بسند حسن عن السُّدِّي قال: رأيت نفراً من الصحابة كانوا يرون أنه ليس أحد فيهم على الحالة التي فارق عليها النبي صلى الله عليه وسلم إلا ابن عمر. كذا في الإِصابة.
زهد حذيفة بن اليمان رضي الله عنه
أخرج أبو نُعيم في الحلية عن ساعدة بن سعد بن حذيفة أنَّ حذيفة رضي الله عنه كان يقول: ما من يوم أقرَّ لعيني ولا أحب لنفسي من يوم آتي(2/584)
أهلي فلا أجد عندهم طعاماً، ويقولون ما نقدر على قليل ولا كثير وذلك أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ الله أشد حِمْية للمؤمن من الدنيا من المريض أهله الطعام. والله تعالى أشد تعاهداً للمؤمن بالبلاء من الوالد لولده بالخير» . وأخرجه الطبراني عن ساعدة مثله. قال الهيثمي: وفيه من لم أعرفهم.
الإِنكار على من لم يزهد في الدنيا وتلذذ بها والوصية بالتحفظ عنها إنكاره صلى الله عليه وسلم على عائشة أن أكلت مرتين في اليوم
أخرج البيهقي عن عائشة رضي الله عنها قالت: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أكلت في اليوم مرتين فقال: «يا عائشة، أما تحبين أن يكون أن يكون لك شغل إلا جوفك؟ الأكل في اليوم مرتين من الإِسراف، والله لا يحب المسرفين» . وفي رواية فقال: «يا عائشة، إتخذت الدنيا بطنك؟ أكثر من أكله كل يوم سَرَف، والله لا يحب المسرفين» . كذا في الترغيب.
وصيته عليه السلام لأم المؤمنين عائشة
وعند ابن الأعرابي عن عائشة رضي الله عنها قالت: جلست أبكي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما يبكيك؟ إِن كنت تريدين اللحوق بي فليكفك من الدنيا مثل زاد الراكب، ولا تخالطين الأغنياء» . كذا في الكنز. وأخرجه(2/585)
الترمذي، والحاكم، البيهقي نحوه وزادوا: «ولا تستخلفي ثوباً حتى ترقعيه» . وذكره رَزِين فزاد فيه: قال عروة: فما كانت عائشة تستجدُّ ثوباً حتى ترقع ثوبها وتنكِّسه، لقد جاءها يوماً من عند معاوية رضي الله عنه ثمانون ألفاً فما أمسى عندها درهم، قالت لها جاريتها: فهلا اشتريت لنا منه لحماً بدرهم؟ قالت: لو ذكَّرتني لفعلت. كذا في الترغيب.
وصيته عليه السلام لأبي جحيفة
وأخرج الطبراني عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: أكلت ثريدة بلحم سمين، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أتجشَّأ، فقال: «أكفف عنا جُشاءك أبا جحيفة، فإنَّ أكثر الناس شبعاً في الدنيا أطولهم جوعاً يوم القيامة» . فما أكل أبو جحيفة ملءَ بطنه حتى فارق الدنيا، كان إذا تغدَّى لا يتعشَّى، وإذا تعشَّى لا يتغدَّى. قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط والكبير بأسانيد، وفي أحد أسانيد الكبير محمد بن خالد الكوفي ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. انتهى. وأخرجه ابن عبد البر في الإستيعاب نحوه. وأخرج البزار بإسنادين نحوه مختصراً.، ورجال أحدهما ثقات. كما قال الهيثمي وأخرجه أبو نُعيم في الحلية عن أبي جحيفة بمعناه ولم يذكر قوله: فما أكل إلى آخره.(2/586)
ما وقع بينه وبين رجل عظيم البطن
وأخرج الطبراني عن جَعْدة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً عظيم البطن، فقال بأصبعه في بطنه: لو كان هذا في غير هذا لكان خيراً لك» .
وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى له رجل رؤيا، فبعث إليه فجاء فقصَّها عليه - وكان عظيم البطن - فقال بأصبعه في بطنه: «لو كان هذا في غير هذا المكان لكان خيراً لك» . قال الهيثمي: رواه كله الطبراني، ورواه أحمد إلا أنه جعل: أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي رأى الرؤيا للرجل. ورجال الجميع رجال الصحيح غير أبي إسرائيل الجُشَمي وهو ثقة. انتهى.
إِنكار عمر على جابر لشرائه اللحم لأهله
وأخرج مالك عن يحيى بن سعيد أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أدرك جابر بن عبد الله رضي الله عنه ومعه حامل لحم، فقال عمر: أما يريد أحدكم أن يطوي بطنه لجاره ابن عمه، فأين تذهب عنكم هذه الآية: {أَذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} (الأحقاف: 20) ؟ كذا في الترغيب.(2/587)
وعند البيهقي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: لقيني عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد ابتعت لحماً بدرهم، فقال: ما هذا يا جابر؟ قلت: قَرِم أهلي فابتعت لهم لحماً بدرهم؛ فجعل عمر يردَّد: قَرِم أهلي، حتى تمنيت أن الدرهم سقط مني ولم ألقَ عمر. كذا في الترغيب (3424. وأخرجه ابن جرير عن جابر أطول منه، كما في منتخب الكنز. وأخرجه سعيد بن منصور، وعبد بن حُميد، وابن المنذر، الحاكم، والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ عمر رأى في يد جابر بن عبد الله رضي الله عنه درهماً، فقال: ما هذا الدرهم؟ قال: أريد أن أشتري لأهلي به لحماً قَرِموا إليه. فقال: أكلما إشتهيتم شيئاً إشتريتموه؟ أين تذهب عنكم هذه الآية: {أَذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ} ؟ فذكره. كذا في المنتخب.
إنكار عمر على ابنه عبد الله حين رأى عنده اللحم
وأخرج عبد الرزاق، وأحمد في الزهد، والعسكري في المواعظ، وابن عساكر عن الحسن قال: دخل عمر على ابنه عبد الله رضي الله عنهم وإنَّ عنده لحماً، فقال: ما هذا اللحم؟ قال: إشتهيت، قال: وكلما اشتهيت شيئاً أكلته؟ كفى بالماء سَرَفاً أن يأكل كل ما اشتهاه. كذا في منتخب الكنز.
وصية عمر ليزيد بن أبي سفيان
وأخرج ابن المبارك عن سعيد بن جبير قال: بلغ عمر بن الخطاب أن(2/588)
يزيد بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - يأكل ألوان الطعام، فقال لمولى له يقال له يَرْفَأ: إذا علمت أنه قد حضر عشاؤه فأعلمني، فلما حضر عشاؤه أعلمه أتى عمر فسلَّم واستأذن فأذن له فدخل، فقُرِّب عشاؤه، فجاء بثريد ولحم فأكل عمر معه، ثم قُرِّب شواء فبسط يزيد يده وكف عمر، ثم قال عمر: الله يا يزيد بن أبي سفيان أطعام بعد طعام؟ والذي نفس عمر بيده لئن خالفتم عن سنّتهم ليخالَفَنَّ بكم عن طريقهم. كذا في منتخب كنز العمال.
ذم عمر الدنيا أمام أصحابه
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن الحسن قال: مرّ عمر رضي الله عنه على مَزبلة فاحتبس عندها، فكأن أصحابه تأذِّوا بها. فقال: هذه دنياكم التي تحرصون عليها - أو تتكلون عليها -.
كتاب عمر إلى أبي الدرداء لما ابتنى بدمشق قنطرة
وأخرج ابن عساكر عن سَلَمة بن كلثوم أن أبا الدرداء رضي الله عنه إبتنى بدمشق قنطرة، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو بالمدينة، فكتب إليه: يا عُويمر بن أم عويمر، أما كان لك في بنيان فارس، والروم ما يكفيك حتى تبني البنيانات؟ وإِنما أنتم يا أصحاب محمد قدوة.
وعنده أيضاً وهَنَّاد والبيهقي عن راشد بن سعد قال: بلغ عمر أنَّ أبا الدرداء - رضي الله عنه - ابتنى كنيفاً بحمص، فكتب إليه: أما بعد: يا عُويمر، أما كنت لك كفاية فيما بَنَت الروم عن تزيين الدنيا وقد أمر الله بخرابها كذا(2/589)
في كنز العمال. وأخرجه أبو نُعيم في الحلية عن راشد بن سعد مثله، وزاد بعد قوله تزيين الدنيا: وتجديدها وقد آذن الله بخرابها، إذا أتاك كتابي هذا فانتقل من حمص إلى دمشق. قال سفيان: عاقبه بهذا.
كتاب عمر إِلى عمرو بن العاص في هدم غرفة خارجة بن حذافة
وأخرج ابن عبد الحكم عن يزيد بن أبي حبيب قال: أول من بنى غرفة بمصر خارجة بن حذافة رضي الله عنه، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكتب إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه:
سلام، أما بعد فإنه بلغني أن خارجة بن حذافة بني غرفة، ولقد أراد خارجة أن يطَّلع على عورات جيرانه، فإذا أتاك كتابي هذا فاهدمها إِن شاء الله، والسلام» .
كذا في الكنز.
أم طلق ووصية عمر
وأخرج بن سعد، والبخاري في الأدب عن عبد الله الرومي قال: دخلتُ على أمِّ طَلْق بيتها، فإذا سقف بيتها قصير، فقلت: ما أقصر سقف بيتك يا أم طَلْق؟ قالت: يا بنيّ إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إِلى ماله أن لا تطيلوا بناءكم؛ فإن شر أيامكم يوم تُطيلون بناءكم. كذا في الكنز.(2/590)
كتابه إِلى سعد حين استأذنه في بناء بيت
وأخرج بن أبي الدنيا، والدِينَوَري عن سفيان بن عُيَينة قال: كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - وهو على الكوفة يستأذنه في بناء بيت يسكنه، فوقَّع في كتابه: ابن ما يسترك من الشمس، ويكنّك من الغيث، فإن الدنيا دار بُلْغة. وكتب إلى عمر بن العاص رضي الله عنه وهو على مصر: كان لرعيتك كما تحب أن يكون لك أميرك. كذا في منتخب الكنز.
إِنكار عمر على رجل بني بالآجر
وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن سفيان قال: بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً بنى بالآجر فقال: ما كنت أحسب أنَّ في هذه الأمة مثل فرعون قال: يريد قوله: «فأوقد لي يا هامانُ على الطين فاجعل لي صَرْحاً» .
إِنكار أبي أيوب على ابن عمر تزيين الجدران في عرس إبنه
وأخرج ابن عساكر عن سالم بن عبد الله قال: اعترست في عده أبي، فدعا أبي الناس، فكان فيمن دعا أبو أيوب وقد ستروا بيتي بجاديَ أخضر، فجاء أبو أيوب فطأطأ رأسه فنظر فإذا البيت ستر، فقال: يا عبد الله تسترون الجُدُر؟ فقال أبي - واستحيى -: غلبنا النساء يا أبا أيوب، فقال: من خشيتُ أن تغلبه النساء فلم أخش أن يغلبْنك لا أدخل لكم بيتاً ولا أطعم لكم(2/591)
طعاماً. كذا في كنز العمال.
وصية أبي بكر لسلمان عند الوفاة
وأخرج أحمد في الزهد وابن سعد وغيرهما عن سلمان رضي الله عنه قال: أتيت أبا بكر رضي الله عنه فقلت: أعهد لي، فقال: يا سلمان إتَّق الله واعلم أنْ سيكون فُتوح، فلا أعرفنَّ ما كان حظك منها ما جعلته في بطنك وألقيته على ظهرك، واعلم أنَّه من صلّى الصلوات الخمس فإنه يصبح في ذمَّة الله ويمسي في ذمَّة الله، فلا تقتلنَّ أحداً من أهل الله فتخفرَ الله في ذمته فيكبَّك الله في النار على وجهك. كذا في الكنز.
وعند الدِينَوَري عن الحسن أنَّ سلمان الفارسي أتى أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - في مرضه الذي مات فيه، فقال: أوصني يا خليفة رسول الله، فقال أبو بكر: إن الله فاتحٌ عليكم الدنيا فلا يأخذنَّ منها أحد إلا بلاغاً. كذا في الكنز.
قول أبي بكر لعبد الرحمن بن عوف عند وفاته
وعند أبي نعيم في الحلية عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: دخلت على أبي بكر رضي الله عنه في مرضه الذي توفي فيه، فسلَّمت عليه، فقال: رأيت الدنيا قد أقبلت ولَمَّا تقبل، وهي جائية، وستتخذون ستور الحرير ونضائد الديباج، وتألمون ضجائع الصوف الأذري، كأن أحدكم(2/592)
على حسك السَّعدان، ووالله لأن يقدَّم أحدكم فيضرب عنقه - في غير حدَ - خير له من أن يسبح في غَمْرة الدنيا. وأخرجه الطبراني أيضاً عن عبد الرحمن نحوه، كما في المنتخب. وقال: وله حكم الرفع لأنه من الإِخبار عما يأتي - اهـ.
حديث عمرو بن العاص في زهده صلى الله عليه وسلم وإنكارُ عمرو على أصحابه عدم زهدهم
وأخرج أحمد عن علي بن رباح قال: سمعت عمرو بن العاص رضي الله عنه يقول: لقد أصبحتم وأمسيتم ترغبون فيما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزهد فيه، أصبحتم ترغبون في الدنيا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزهد فيها، والله ما أتت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من دهره إِلا كان الذي عليه أكثرَ من الذي له. قال: فقال بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستسلف. قال في الترغيب: رواه أحمد ورواته رواة الصحيح، والحاكم إلا أنه قال: ما مرَّ به ثلاث من دهره إلا والذي عليه أكثر من الذي له. ورواه ابن حِبَّان في صحيحه مختصراً. انتهى. وفي رواية عند أحمد عن عمرو أيضاً أنه قال: ما أبعد(2/593)
هديَكم من هَدْي نبيكم؟ أما هو فكان أزهد الناس في الدنيا، أما أنتم فأرغب الناس فيها. قال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح. اهـ. وأخرجه ابن عساكر، وابن النجار نحوه، كما في الكنز.
قول عبد الله بن عمر لابنه حين استكساه إزارا
وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن ميمون أن رجلاً من بني عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إستكساه إِزاراً وقال: قد تخرَّق إزاري. فقال له: إقطع إزارك ثم اكتسه، فكره الفتى ذلك، فقال له عبد الله بن عمر: ويحك إتق الله، لا تكونن من القوم الذين يجعلون ما رزقهم الله تعالى في بطونهم وعلى ظهورهم.
ما وقع بين أبي ذر وأبي الدرداء في بناء بيت
وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن ثابت أنَّ أبا ذر مرَّ بأبي الدرداء - رضي الله عنهما - وهو يبني بيتاً له، فقال: لقد حملت الصخر على عواتق الرجال فقال: إنما هو بيت أبنيه، فقال له أبو ذر: مثلَ ذلك، فقال: يا أخي لعلك وَجَدت عليَّ في نفسك من ذلك؟ قال: لو مررت بك وأنت في غَذِرَة أهلك كان أحب إليَّ مما ريتك فيه.(2/594)
قول أبي بكر لعائشة حين لبست ثوباً جديدا
وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن عائشة رضي الله عنها قالت: لبست مرة دِرْعاً لي جديداً، فجعلت أنظر إليه وأُعجبت به، فقال أبو بكر رضي الله عنه: ما تنظرين؟ إن الله ليس بناظر إليك قلت: وممَّ ذاك؟ قال: أما علمت أنَّ العبد إذا دخله العُجْب بزينة الدنيا مَقَته ربه عزّ وجلّ حتى يفارق تلك الزينة؟ قالت: فنزعته فتصدَّقت به. فقال أبو بكر: عسى ذلك أن يكفِّر عنك.
قصة أبي بكر مع ابن له حضرته الوفاة
وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن حبيب بن ضَمْرة قال: حضرت الوفاةُ إبناً لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، فجعل الفتى يلحظ إِلى وسادة. فلما توفي قالوا لأبي بكر: رأينا إبنك يلحظ إِلى الوسادة. قال: فرفعوه عن الوسادة فوجدوا تحتها خمسة دنانير - أو ستة -، فضرب أبو بكر بيده على الأخرى يرجِّع يقول: إنا لله وإِنا إليه راجعون ما أحسب جلدك يتسع لها.
قول عمار لابن مسعود حين دعاه لينظر داراً بناها
وأخرج أبو نُعَيم في الحلية عن عبد الله بن أبي لهذيل قال: لما بنى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه داره قال لعمار رضي الله عنه: هلمَّ أنظر إلى ما بنيت، فانطلق عمَّر فنظر إليه فقال: بنيتَ شديداً، وأمَّلْتَ بعيداً - أو تَأمُل بعيداً - وتموت قريباً.(2/595)
قول أبي سعيد الخدري حين دُعي إلى وليمة
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن عطاء قال: دُعي أبو سعيد الخدري رضي الله عنه إلى وليمة وأن معه، فرأى صفرة وخضرة، فقال: أما تعلمون أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تغدَّى لم يتعشَّ وإذا تعشَّى لم يتغدَّ. قال أبو نُعيم: غريب من حديث عطاء، لا أعلم عنه راوياً إلا الوَضين بن عطاء.
تم بحمده تعالى
المجلد الثاني
ويليه المجلد الثالث
ويبدأ بالباب التاسع
وهو خروج الصحابة عن الشهوات النفسانية
انتهى(2/596)
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (سورة الأنفال، آية: 74)
من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه
صدق الله العظيم(/)
الباب التاسع
باب خروج الصحابة عن الشهوات النفسانية
كيف خرج الصحابة عن الشهوات النفسانية من الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشائر والأموال والتجارات والمساكن وتعلقوا بحبِّ الله وحبِّ رسوله وحبِّ من انتسب إليهما من المسلمين وأكرموا من النتسب إلى النسبة المحمدية.(3/5)
باب خروج الصحابة عن الشهوات النفسانية
قطع حبال الجاهلية لتشييد حبال الإسلام
قتل أبي عبيدة بن الجراح أباه يوم بدر
أخرج أبو نُعيم في الحلية عن ابن شَوْذَب قال: جعل أبو أبي عبيدة بن الجراح يتصدّى لابنه أبي عبيدة رضي الله عنه يوم بدر، فجعل أبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر قَصَدَه أبو عبيدة فقتله. فأنزل الله تعالى فيه هذه الآية حين قتل أباه:
{لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ} {وروسوله ولو كان آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم} {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ} (سورة المجادلة، الآية: 22) - الآية -.
وأخرج البيهقي والحاكم عن عبد الله بن شوذب نحوه. قال البيهقي: هذا منقطع. وأخرجه الطبراني أيضاً بسند جيد عن ابن شَوْذَب نحوه، كما في الإِصابة.(3/7)
قصة رجلين من الصحابة مع أبويهما
وأخرج البيهقي عن مالك بن عمير رضي الله عنه - وكان قد أدرك الجاهلية - قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لقيت العدو ولقيت أبي فيهم، فسمعت لك منه مقالة قبيحة فلم أصبح حتى طعنته بالرمح - أو حتى قتلته -، فسكت عند النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاء آخر فقال: إني لقيت أبي فتركته وأحبب أن يليه غيري، فسكت عنه. قال البيهقي: وهذا مرسل جيد.
استئذان ابن عبد الله بن أبي في قتل أبيه
وأخرج البزّار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن أُبي وهو في ظل أُطُم فقال: غبَّر علينا ابن أبي كبشة. فقال ابنه عبد الله بن عبد الله رضي الله عنه: يا رسول الله والذي أكرمك لئن شئت لأتيتك برأسه؟ فقال: «لا، ولكن بَرَّ أباك وأحسن صحبته11» قال الهيثمي: رواه البزّار ورجاله ثقات. وعند الطبراني عن عبد الله بن عبد الله أنه استأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل أباه قال: «لا تقتل أباك» .
وعند ابن إساحق عن عاصم بن عمر بن قتادة أن عبد الله بن عبد الله بن أُبي بن سلول رضي الله عنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنَّه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أُبي فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلاً فمر لي به فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لد علمت الخزرج ما كان بها من رجل أبرَّ(3/8)
بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله؛ فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أُبي يمشي في الناس، فأقتله فأقتل مؤمناً بكافر فأدخل النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا» . كذا في البداية.
وأخرج الطبراني عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني المصطلق قام ابن عبد الله بن أبي رضي الله عنه فسلّ على أبيه السيف، وقال لله عليَّ أن لا أغمده حتى تقول: محمد الأعزُّ وأنا الأذلُّ قال: ويلك محمد الأعزّ وأنا الأذلُّ، فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعجبه وشكرها له. قال الهيثيم: وفيه محمد بن الحسن بن زَبالة وهو ضعيف.
وأخرج ابن شاهين بإسناده حسن عن عروة قال: استأذن حنظلة بن أبي عامر وعبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول - رضي الله عنهما - رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل أبويهما، فنهماهما عن ذلك. كذا في الإِصابة.
ما وقع بين أبي بكر وبين ابنه عبد الرحمن يوم بدر
وأخرج ابن أبي شيبة عن أيوب قال: قال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما أبي بكر: رأيتك يوم أحد فصدفت عنك. فقال أبو بكر: لكني لو رأيتك ما صدفت عنك. كذا في الكنز وأخرجه الحاكم عن أيوب نحوه. وأسند الحاكم عن الواقدي أن عبد الرحنم دعا إلى البراز يوم بدر، فقام(3/9)
إليه أبوه أبو بكر رضي الله عنه ليبارزه. فذُكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: «متعنا بنفسك» . وهكذا ذكره البيهقي عن الواقدي.
ما وقع بين عمر وبين سعيد بن العاص في قتل أبيه
وذكر ابن هشام عن أبي عبيدة وغيره من أهل العلم بالمغازي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لسعيد بن العاص رضي الله عنه - ومر به -: إني أراك كأنَّ في نفسك شيئاً أراك تظنُّ أنِّي قتلت أباك، إني لو قتلته لم أعتذر إليك من قتله، ولكني قتلت خالي العاص بن هشام بن المغيرة، فأما أبوك فإني مررت به وهو يبحث بحث الثور برَوحقه، فحدت عنه وقصد له ابن عمه علي فقتله. كذا في البداية. وزاد في الاستيعاب والابصابة: فقال له سعيد بن العاص: لو قتلته لكنت على الحق وكان على الباطل؛ فأعجبه قوله.
حال أبي حذيفة حين رأى أباه يسحب على القليب يوم بدر
وأخرج ابن جرير عن عائشة رضي الله عنها قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلى بدر أن يُسحبوا إلى القَلِيب، فطرحوا فيه، ثم وقف وقال: «يا أهل القليب، هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربِّي حقاً» . فقالوا: يا رسول الله تكلِّم قوماً موتي؟ قال: «لقد علموا أنَّ ما وعدهم ربهم حق» . فلما رأى أبو حذيفة بن عتبة رضي الله عنهأباه يسحب على القليب(3/10)
عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الكراهية في وجهه قال: «يا أبا حذيفة، كأنك كاره لما رأيتَ» فقال: يا رسول الله، إنَّ أبي كان رجلاً سيداً فرجوت أن يهديه ربُّه إلى الإِسلام، فلما وقع الموقع الذي وقع أحزنني ذلك؛ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي حذيفة بخير. كذا في الكنزر، وأخرجه الحاكم عن عائشة نحوه وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرِّجاه، ووافقه الذهبي، وذكره ابن إسحاق نحوه بلا إسناد، كما في البداية. وذكر الحاكم عن أبي الزِّناد قال: شهد أبو حذيفة رضي الله عنه بدراً ودعا أباه عتبة إلى البراز، وذكر ما قالت له أخته هند بنت عتبة رضي الله عنها من الأشعار في ذلك. وهكذا أسنده البيهقي.
قصة مصعب بن عمير مع أخيه الذي أسر في بدر
وأخرج ابن إسحاق عن نبيه بن وَهْب أخي بني عبد الدار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل بالأسارى فرَّقهم بين أصحابه وقال: «استوصوا بهم خيراً» قال: وكان أبو عزيز بن عمير بن هاشم - أخو مصعب بن عمير رضي الله عنه لأبيه وأمه - في الأسارى. قال أبو عزيز: مرَّ بي أخي مصعب بن عمير ورجل من الأنصار يأسرني فقال: ضدَّ يديك به؛ فإنّ أمه ذات متاع لعلها تفديه منك قال أبو عزيز: فكنت في رَهْط ن الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدَّموا غداءهم وعشاءهم خصُّوني بالخبز وأكلموا التمر لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفحني بها، فأستحي فأردها فيردها عليَّ ما يمسها. ولما قال أخوه مصعب لأبي اليَسَر - وهو الذي(3/11)
أسره - ما قال، قال له أبو عزيز: يا أخي، هذه وصاتك بي؟ فقال له مصعب: إنه أخي دونك، فسألت أمه عن أغلى ما فُديَ به قرشي فقيل لها: أربعة آلاف درهم، فبعثت بأربعة آلاف. كذا في نصب الراية للزَيْلعي.
ما وقع بين أبي سفيان وابنته أم حبيبة أم المؤمنين
وأخرج ابن سعد عن الزهري قال: لما قدم أبو سفيان بن حرب المدينة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد غزو مكة، فكلَّمه أن يزيد في هدنة الحديبية فلم يُقْبِل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام فدخل على ابنته أم رضي الله عنها. فلمّا ذهب ليجلس على فراش النبي صلى الله عليه وسلم طوته دونه. فقال: يا بنية أرغبتِ بهذا الفراش عني أم بي عنه؟ فقالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت امرؤ نَجِس مشرك. فقال: يا بنية لقد أصابك بعدي شر. وذكره ابن إسحاق نحوه بلا إسناد، كما في البداية وزاد: فلم أحب أن تجلس على فراشه.(3/12)
قول ابن مسعود في خطَّاف وبنيه
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي الأحوص قال: دخلنا على ابن مسعود رضي الله عنه وعنده بنون ثلاثة كأمثال الدنانير، فجعلنا ننظر إليهم ففطن بنا، فقال: كأنكم تغبطوني بهم؟ قلنا: وهل يُغبط الرجل إلا بمثل هؤلاء؟ فرفع رأسه إلى سقف بيت له قصير قد عشَّش فيه خُطَّاف، فقال: لأن أكون نفضت يديَّ من تراب قبورهم أحب إليَّ من أن يقع بيض هذا الخطاف فينكسر. وعن أبي عثمان عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يجالسه بالكوفة، فبينما هو يوم في صخفَّة له وتحته فلانة وفلانة - امرأتان ذواتا منصب وجمال - وله منهما ولد كأحسن الولد؛ إذ شقشق على رأسه عصور ثم قذف أذى بطنه، فنكته بيده قوال: لأن يموت آل عبد الله ثم أتبعهم أحب إليَّ من أن يموت هذا العصفور.
قول عمر في أسارى بدر
وقد تقدّم قول عمر رضي الله عنه في مشاورة أهل الرأي: والله ما أرى ما رأى أبو بكر؛ ولكن أرى أن تمكنني من فلان - قريب لعمر - فأضرب عنقه، وتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين؛ وأيضاً تقدَّمت قصص الأنصار في قطعهم حبال الجاهلية.
محبة النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه
محبة سعد بن معاذ للنبي عليه السلام
أسند ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر أن سعد بن معاذ رضي الله(3/13)
عنه قال: يا نبي الله، ألا نبني لك عريشاً تكون فيه، ونعدُّ عندك ركائبك، ثم نلقي عدونا، فإن أعزَّنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلَّف عنك أقوام ما نحن بأشد حبّاً لك منهم، ولو ظنُّوا أنك تلقي حرباً ما تخلَّفوا عنك، يمنعك الله بهم، يناصحونك ويجاهدون معك. فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له بخير، ثم بُني لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش كان فيه. كذا في البداية.
قصة صحابي في محبته للنبي عليه السلام ونزول آية في هذا الشأن
وأخرج الطبراني عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنك لأحب إليَّ من نفسي، وإنك لأحب إليَّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رُفعت مع النبيِّين، وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك؛ فلم يردّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم} {مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشُّهَدَآء وَالصَّالِحِينَ} (سورة النساء، الآية: 69) . قال الهيثيم: رواه الطبراني في الصغير والأوسط، ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن عمران العابدي وهو ثقة. انتهى. وأخرجه أبو نعيم في الحلية عن عائشة رضي الله عنها بهذا السياق والإِسناد نحوه، وقال: هذا حديث غريب من حديث منصور(3/14)
وإبراهيم تفرد به فُضَيل، وعنه العابدي.
وعند الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني لأحبك حتى إني لأذكرك فلولا أنِّي أجيء فأنظر إليك ظننت أن نفسي تخرج، فأذكر أنِّي إن دخلت الجنة صرت دونك في المنزلة، فيشقُّ ذلك عليَّ وأحب أن أكون معك في الدرجة، فلم يردّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، فأنزل الله عزل وجل: {ومن يطع الله والسرول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين} - الآية -. فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاها عليه. قال الهيثيم: رواه الطبراني، وفيه عطاء بن السائب وقد اختلط. اهـ.
قصة الصحابي الذي أعد للساعة حب الله ورسوله
وأخرج الشيخان عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم متى الساعة؟ قال: «وما أعددت لها؟» قال: لا شيء إلا أني أُحب الله وروسله. قال: «أنت مع من أحببت» . قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم «أنت مع من أحبب» . قال أنس: فأنا أُحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وأرجو أن أكون معهم بحبِّي إياهم.
وفي رواية للبخاري أن رجلاً من أهل البداية أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله متى الساعة قائمة؟ قال: «ويلك وما أعددت لها؟» قال: ما أعددت لها إلا أنِّي أُحب الله ورسوله. قال: «إنك مع من أحببت. قال: ونحن(3/15)
كذلك. قال: «نعم» ففرحنا يومئذ فرحاً شديداً. وعند الترمذي عنه قال: رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحوا بشيء لم أرهم فرحوا بشيء أشد منه. قال رجل: يا رسول الله، الرجل يحب الرجل على العمل من الخير يعمل به ولا يعمل بمثله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «المرء مع من أحب» .
قوله عليه السلام: أنت يا أبا ذر مع من أحببت
وعند أبي داود عن أبي ذر رضي الله عنه قال: يا رسول الله، الرجل يحب القوم ولا يستطيع أن يعمل بعملهم؟ قال: «أنت يا أبا ذرَ مع من أحببت. قال: فإني أحب الله ورسوله. قال: «فإنك مع من أحببت» قال: فأعادها أبو ذر فأعادها رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا في الترغيب (4429 - 431 - 433) .
قصة علي معه عليه السلام حين أصابته خَصاصة
وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أصابت نبي الله صلى الله عليه وسلم خَصَاصة، فبلغ ذلك علياً رضي الله عنه، فخرج يلتمس عملاً يصيب فيه شيئاً لُيغيث به النبي صلى الله عليه وسلم فأتى بستاناً لرجل من اليهود فاستسقى له سبعة عشر دلواً، على كل دول تمرة، فخيَّره اليهودي على تمرهِ فأخذ سبعة عشر عجوة، فجاء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «من أين لك هذا يا أبا الحسن؟» قال: بلغني ما بك من الخصاصة يا نبي الله، فخرجت ألتمس لك عملاً لأصيب لك طعاماً. قال: «حملك على هذا حبُّ الله ورسوله؟» قال: نعم يا نبي الله. قال النبي صلى الله عليه وسلم «ما من عبد يحب الله ورسوله إلا الفقر أسرع إليه جرية السيل(3/16)
على وجهه، ومن أحب الله ورسوله فليعدَّ للبلاد تجفافاً» . كذا في كنز العمال وقال: وفيه حَنَش.
قصة كعب بن عجرة في هذا الأمر
وأخرج الطبراني عن كعب بن عُجرة رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فرأيته متغيراً، فقلت: بأبي أنت مالي أراك متغيراً؟ قال: «ما دخل جوفي ما يدخل جوف ذات كبد منذ ثلاث» قال: فذهبت فإذا يهودي يسقي إبلاً له فسقيت له على كل دلو بتمرة، فجمعت تمراً، فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «من أين لك يا كعب؟» فأخبرته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «أتحبني يا كعب؟» . قال: بأبي أنت، نعم، قال: «إن الفقر أسرع إلى من يحبني من السيل إلى معادنه، وإنه سيصيبك بلاء فأعدّ له تجفافاً» . قال: ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما فعل كعب؟» قالوا مريض، فخرج يمشي حتى دخل عليه، فقال: «أبشر يا كعب» ، فقالت أمه: هنيئاً لك الجنةُ يا كعب قال النبي صلى الله عليه وسلم «من هذه المتألِّية على الله؟» قلت هي أمي يا رسول الله، قال: «ما يدريك يا أم كعب؟ لعل كعباً قال ما لا ينفعه ومنع ما لا يغنيه» قال الهيثيم: رواه الطبراني في الأوسط وإسناده جيد. اهـ، وكذا قال في الترغيب عن شيخه الحافظ أبي الحسن. وأخرجه ابن(3/17)
عساكر مثله، كما في الكنزل إلا أنَّ في روايته: «لعل كعباً قال ما لا يعنيه أو منع ما لا يغنيه» .
محبة طلحة بن البراء للنبي عليه السلام
وأخرج الطبراني عن حُصين بن وَحْوَح الأنصاري أن طلحة بن البراء رضي الله عنهما لما لقي النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يلصق برسول الله صلى الله عليه وسلم يوقبِّل قدميه. قال: يا رسول الله، مرني بما أحببت ولا أعصي لك أمراً. فعجب لذلك النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام، فقال له عند ذلك: «اذهب فاقتل أباك» فخرج مولياً ليفعل، فدعاه فقال له: «أقبل فإني لم أبعث بقطيعة رحم» .
فمرض طلحة بعد ذلك فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده في الشتاء في برد وغيم. فلما انصرف قال لأهله: «لا أرى طلحة إلا قد حدث فيه الموت فآذنوني به حتى أشهده وأصلِّي عليه وعجِّلوه» . فلم يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم بني سالم بن عوف حتى توفي وجنَّ عليه الليل. فكان فيما قال طلحة: ادفنوني وألحقوني بربي عزَّ وجل، ولا تدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني أخاف عليه اليهود أن يصاب في سببي. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم حين أصبح، فجاء حتى وقف على قبهر، فصفّ الناس معه ثم رفع يديه فقال: «اللهمَّ ألقَ طلحة تضحك إليه ويضحك إليك» كذا في الكنز وأخرجه البغوي وابن أبي خيثمة وابن أبي عاصم وابن شاهين وابن السَّكَن، كما في الإِصابة. قال الهيثيم وقد روى أبو داود بعض هذا(3/18)
الحديث وسكت عليه، فهو حسن إن شاء الله. انتهى.
وأخرجه الطبراني أيضاً عن طلحة بن مسكين عن طلحة بن البراء رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ابسط - يعني يدك - أبايعك، قال: «وإن أمرتك بقطيعة والديك؟» قلت: لا، ثم عدت له فقلت: ابسط يدك أبايعك. قال: علام؟» قلت: على الإِسلام. قال: «وإن أمرتك بقطيعة والديك؟» قلت: لا، ثم عدت الثالثة، - وكانت له والدة وكان من أبرِّ النسا بها -، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «يا طلحة، إنه ليس في ديننا قطيعة الرحم، ولكن أحببت أن لا يكون في دينك ريبة» . فأسلم فحسن إسلامه، ثم مرض فعاده النبي صلى الله عليه وسلم فوجده مغمى عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ما أظن طلحة إلا مقبوضاً من ليلته فإن أفاق فأرسلو إليَّ» فأفاق طلحة في جوف الليل فقال: ما عادني النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: بلى، فأخبروه بما قال. فقال: لا ترسلوا إليه في هذه الساعة فتلسعه دابة أو يصيبه شيء، ولكن إذا فُقدت فأقرئوه منِّي السلام، وقولوا له: فليستغفر لي، فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الصبح سأل عنه، فأخبروه بموته وبما قال. قال: فرفع النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «اللهمَّ، الْقَهُ يضحك إليك وأنت تضحك إليه» . قال الهيثمي: رواه الطبراني مرسلاً، وعبد ربه بن صالح لم أعرفه، وبقية رجاله وُثِّقوا. انتهى. وأخرجه ابن السَّكَن نحوه كمافي الإصابة.(3/19)
محبة عبد الله بن حذافة للنبي عليه السلام
وأخرج ابن عساكر عن الزُّهري قال: شُكي عبد الله بن حذافة رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صاحب مزاح وباطل، فقال: «اتركوه فإن له بطانة يحب الله ورسوله» . كذا في المنتخب.
قول عليه السلام لما حُمل نعش عبد الله بن ذي البجادين
وأخرج ابن ماجه والبغوي وابن منده وأبو نُعيم عن الأدرج رضي الله عنه قال: جئت ليلة أحرس النبي صلى الله عليه وسلم فإذا رجل قراءته عالية. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، هذا مراء. قال: «هذا عبد الله بن ذيى البجادي» رضي الله عنه. فمات بالمدينة، ففرغوا من جهازه فحملوا نعشه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ارفقوا به رفق الله به، إنه كان يحب الله ورسوله» ، وحضر حفرته فقال: «أوسعوا له أوسع الله عليه» فقال بعض أصحابه: يا رسول الله لقد حزنت عليه؟ فقال: «إنه كان يحب الله ورسوله» . كذا في المنتخب. وقال: في سنده موسى بن عبيدة الرَّبذي ضعيف.
قصص ابن عمر وزيد بن الدثنة وخبيب بن عدي في محبته عليه السلام
وأخرج ابن سعد عن عبد الرحمن بن سعد قال: كنت عند ابن عمر رضي الله عنهما فخدرت رجله، فقلت: يا أبا عبد الرحمن ما لرجلك؟ قال: اجتمع عصبها من ها هنا. قلت: ادع أحب الناس إليك. قال: يا محمد، فبسطها.
وقد تقدم قول زيد بن الدَّثِنَة رضي الله عنه حين قال له أبو سفيان عند قتله: أنشدك بالله يا زيد: أتحب أن محمداً الآن عندنا مكانك نضرب عنقه(3/20)
وأنك في أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي قال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً يحب أحد كحبِّ أصحاب محمد محمداً. وقول خبيب رضي الله عنهحين نادَوه يناشدونه: أتحب أن محمداً مكانك؟ قال: لا والله العظيم ما أحب أن يفديني بشكة يُشاكها في قدمه - في رغبة الصحابة في القتل في سبيل الله.
إيثار حبه صلى الله عليه وآله وسلم على حبهم
بكاء أبي بكر عند مبايعة أبيه ورغبته في إسلام أبي طالب
أخرج عمر بن شَبَّة وأبو يَعْلى وأبو بشر سمويه في فوائده عن أنس رضي الله عنه في قصة إسلام أبي قحافة رضي الله عنه قال: فلما مدّ يده يبايعه بكى أبو بكر رضي الله عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ما يبكيك؟» قال: لأن تكون يد عمك مكان يده ويسلم ويقر الله عينك يحب إليَّ من أن يكون - وسنده صحيح. وأخرجه الحاكم من هذا الوجه وقال: صحيح على شرط الشيخين. كذا في الإِصابة.
وعند الطبراني والبزّار عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: جاء أبو بكر بأبيه أبي قحافة رضي الله عنهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوده شيخ أعمى يوم فتح مكة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا تركتَ الشيخ في بيته حتى نأتيه؟» قال: أردت أن يؤجره الله، لأنا كنت بإسلام أبي طالب أشد فرحاً مني بإسلام أبي، ألتمس بذلك قرة عينك يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «صدقت» . قال(3/21)
الهيثمي: وفيه موسى ابن عبيدة وهو ضعيف.
ما وقع بين عمر والعباس في هذا الشأن
وأخرج ابن مردويه والحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما أُسر الأساري يوم بدر أسر العباس - رضي الله عنه - فيمن أُسر، أسره رجل من الأنصار. قال: وقد أوعدتُه الأنصار أن يقتلوه. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إني لم أنم الليلة من أجل عمي العباس، وقد زعمت الأنصار أنهم قاتلوه» . قال عمر: أفآتيهم؟ قال: «نعم» فأتى عمر الأنصار فقال لهم: أرسلوا العباس، فقالوا: لا والله لا نرسله، فقال لهم عمر: فإن كان لرسول الله رضي؟ قالوا: فإن كان له وضًى فخذه، فأخذه عمر. فلما صار في يده قال له عمر: يا عباس أسلم، فوالله لئن تسلم أحب إليَّ من أن يسلم الخطاب، وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله يعجبه إسلامك. كذا في البداية.
وعند ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عمر رضي الله عنه للعباس: أسلم، فوالله لئن تسلم كان أحب إليَّ من أن يسلم الخطاب، وما ذاك إلا ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب يكون لك سبقاً. كذا في كنزل العمال.
وعند ابن سعد عن الشَّعبي أن العباس رضي الله عنه تحفّى عمر رضي الله عنه في بعض الأمر فقال له: يا أمير المؤمنين أرأيتَ أن لو جاءك عمُّ(3/22)
موسى مسلماً ما كنت صانعاً به؟ قال: كنت - والله - محسناً إليه، قال: فأنا عم محمد النبي صلى الله عليه وسلم قال: وما رأيك يا أبا الفضل؟ فوالله لأبوك أحب إليَّ من أبي؟ قال: الله، الله لأني كنت أعلم أنه أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي، فأنا أوثر حب رسول الله صلى الله عليه وسلم علي حبِّي. وعند ابن سعد أيضاً عن أبي جعفر محمد بن علي أن العباس رضي الله عنه جاء إلى عمر رضي الله عنه فقال له: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أقطعني البحرين، قال: من يعلم ذلك؟ قال: المغيرة بن شعبة، فجاء به فشهد له، قال: فلم يمضِ له عمر ذلك كأنه لم يقبل شهادته، فأغلظ العباس لعمر فقال عمر: يا عبد الله خذ بيد أبيك - وقال سفيان عن غير عمرو قال: - قال عمر: والله يا أبا الفضل لأنا بإسلامك كنت أسر مني بإسلام الخطاب لو أسلم لمرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
حديث أبي سعيد الخدري في شأن من كان يموت في المدينة
وأخرج ابن سعد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة إذا حضر منا الميت أتياه فأخبرناه فحضره واستغفر له، حتى إذا قبض انصرف ومن معه، وربما قعد حتى يدفن، وربما طال ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم من حبسه. فلما خشينا مشقة ذلك عليه قال بعض القوم لبعض: والله لو كنا لا نُؤذن النبي بأحد حتى يُقبض، فإذا قُبض آذنَّاه، فلم تكن لذلك مشقّة عليه ولا حبس. قال: ففعلنا ذلك. قال: فكنَّا نؤذنه بالميت بعد أن(3/23)
يموت، فيأتيه فيصلِّي عليه ويستغفر له، فربما انصرف عند ذلك وربما مكث حتى يدفن الميت، فكُّنا على ذلك (أيضاً) حيناً، ثم قالوا: والله لو أنا لم نُشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وحملنا الميت إلى منزله حتى نرسل إليه فيصلِّي عليه عند بيته لكان ذلك أرفق به وإيسر عليه. قال ففعلنا ذلك. قال محمد بن عمر: فمن هناك سُمي ذلك الموضع موضع الجنائز لأن الجنائز حُملت إليه. ثم جرى ذلك من فعل الناس في حمل جنائزهم والصلاة عليها في ذلك الموضع إلى اليوم.
محبة عمر لفاطمة ابنته عليه السلام لمحبته إياها
وأخرج الحاكم عن أسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل على فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا فاطمة، والله ما رأيت أحداً أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما كان أحد من الناس بعد أبيك أحب إلي منك. كذا في كنز العمال.
توقير النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإجلاله
أدب الصحابة في رفعهم البصر إليه عليه السلام
أخرج الترمذي عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج على أصحابه من المهاجرين والأنصار وهم جلوس، فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فلا يرفع أحد منهم إليه بصره إلا أبو بكر وعمر، فإنهما كانا ينظران إليه وينظر إليهما، ويبتسمان إليه وتبتسم إليهما. كذا في الشفاء للقاضي عياض.(3/24)
كيفية جلوس أصحابه حوله عليه السلام
وأخرج الطبراني وابن حِبَّان في صحيحه عن أسامة بن شريك رضي الله عنه قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم كأنما على رؤوسنا الطير ما يتكلم منا متكلم؛ إذ جاءه أناس فقالوا: من أحب عباد الله إلى الله تعالى؟ قال: «أحسنهم خلقاً» . كذا في الترغيب، وقال: ورواه الطبراني محتج بهم في الصحيح. وأخرجه الأربعة حوله كأنما على رؤوسهم الطير. كذا في ترجمان السنة.
هيبة النبي عليه السلام على البراء بن عازب
وأخرج أبو يَعْلى - وصحَّحه - عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: لقد كنت أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأمر فأؤخر سنتين من هيبته. كذا في ترجمان السنة.
التماس الصحابة البركة بوضوئه ونخامته عليه السلام
وأخرج البيهقي عن الزُّهري قال: حدثني من لا أتَّهم من الأنصار أن(3/25)
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أو تنخَّم ابتدروا نُخامته فمسحوا بها وجوههم وجلودهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لم تفعلون هذا؟» قالوا: نلتمس به الركة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أحب أن يحبه الله وروسله فليصدق الحديث، وليؤدِّ الأمانة، ولا يؤذِ جاره» . كذا في الكنز.
قول عروة بن مسعود في توقير أصحاب النبي عليه السلام له
وقد تقدّم في حديث صلح الحديبية عند البخاري وغيره من المسور بن مخرمة ومروان: ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينيه، قال: فوالله ما تنخَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحدّون إليه النظر تعظيماً له، فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، وفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكاً قط يعظِّمه أصحابه ما يعظِّم أصحاب محمد محمداً.
حديث عبد الرحمن بن الحارث في التماس الصحابة البركة بوضوئه عليه السلام
وأخرج الطبراني عن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي مُرادس السُّلمي رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فدعا بطهور، فغمس يده فتوضأ، فتتبَّعناه فحسوناه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ما حملكم على ما فعلتم؟» قلنا: حب الله ورسوله. قال: «فإن أحببتم أن يحبكم الله ورسوله فأدُّوا إذا ائتمنتم، واصدقوا إذا حدَّثتم، وأحسنوا جوار من جاوركم» قال الهيثيم: وفيه عبيد بن واقد القيسي وهو ضعيف.(3/26)
شرب ابن الزبير دم النبي عليه السلام
وأخرج أبو يعلى والبيهقي في الدلائل عن عامر بن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أن أباه حدَّثه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحتجم، فلما فرغ قال: «يا عبد الله اذهب بهذا الدم فأهرقه حيث لا يراك أحد» فلما برز عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمد إلى الدم فشربه. فلما رجعل قال: «يا عبد الله ما صنعت بالدم؟» قال: جعلته في أخفى مكان علمت أنه يخفى على انلاس. قال: «لعلَّك شربته؟» قال: نعم، قال: «ولم شربت الدم؟ ويل للناس منك وويل لك من الناس» قال أبو موسى قال أبو عاصم: فكانوا يرون أن القوة التي به من ذلك الدم. كذا في الإصابة. وأخرجه الحاكم، والطبراني نحوه. قال الهيثيم: رواه الطبراني والبزار باختصار، ورجال البزار رجال الصحيح غير هُنيد بن القاسم وهو ثقة. انتهى. وأخرجه أيضاً ابن عساكر نحوه، كما في الكنز مع ذكر قول أبي عاصم. وفي رواية: قال أبو سلمة: فيرون أن القوة التي كانت في ابن الزبير رضي الله عنهما من قوة دم رسول الله صلى الله عليه وسلم(3/27)
وعند أبي نُعيم في الحلية عن كَيْسان مولى عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: دخل سلمان رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا عبد الله بن الزبير معه طست يشرب ما فيها، فدخل عبد الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: «فرغت؟» قال: نعم. قال سلمان ما ذاك يا رسول الله؟ قال: «أعطيته غسالة محاجمي يُهريق ما فيها» . قال سلمان: ذاك شربه والذي بعثك بالحق، قال: «شربته؟» قال نعم، قال: «لم؟» قال: أحببت أن يكون دم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوفي، فقال بيده على رأس ابن الزبير وقال: «ويل لك من الناس وويل للناس منك لا تمسُّك النار إلا قَسَم اليمين. «وأخرجه ابن عساكر عن سلمان نحوه مختصراً ورجاله ثقات. كذا في الكنز.
شرب سفينة دمه عليه السلام
وأخرج الطبراني عن سفينة رضي الله عنه قال: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خذ هذا الدم فادفنه من الدواب والطير والناس» فتغيَّبت فشربته، ثم ذكرت ذلك له فضحك. قال الهيثيم: رجال الطبراني ثقات.
لغاية ص 25
تابع
قصته عليه السلام مع مالك بن سنان يوم أحد وما قال فيه
وأخرج الطبراني في الأوسط عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن أباه مالك بن سنان رضي الله عنه لما أُصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه يوم أُحد مص دم رسول الله صلى الله عليه وسلم وازدرده، فقيل له: أتشرب الدم؟ فقال: نعم، أشرب(3/28)
دم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خالط دمي دمه لا تمسه النار» قال الهيثمي: لم أرَ في إسناده من أُجمع على ضعفه. انتهى.
حديث أم حكيمة بنت أميمة في شرب بوله عليه السلام
وأخرج الطبراني عن حكيمة بنت أُميمة عن أمها قالت: كانت للنبي صلى الله عليه وسلم قدح من عيدان يبول فيه ويضعه تحت سريره، فقام فطلبه فلم يجده فسأل فقال: «أين القدح» قالوا: شربته سُرَّة خادم أم سلمة التي قدمت معها من أرض الحبشة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «لقد احتظرتْ من النار بحظار» . قال الهيثمي رجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن أحمد بن حنبل وحكيمة وكلاهما ثقة.
حديث أبي أيوب في توقيره النبي عليه السلام
وأخرج الطبراني عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فنزل على أبي أيوب. فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم السُّفل ونزل أبو أيوب العُلْو، فلمّا أمسى وبات جعل أبو أيوب يذكر أنه على ظهر بيتٍ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أسفل منه، وهو بينه وبين الوحي فجعل أبو أيوب لا ينام يحاذر أن يتناثر عليه الغبارة ويتحرك فيؤذيه. فلما أصبح غدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما جعلتُ الليلة فيها غمضاً أنا ولا أم أيوب. فقال: «وممَّ ذاك يا أبا أيوب؟» قال: ذكرت أني على ظهر بيت أنت أسفل مني، فأتحرك فيتناثر عليك الغبار ويؤذيك(3/29)
تحركي، وأنا بينك وبين الوحي. قال: «فلا تفعل يا أبا أيوب. ألا أعلِّمك كلمات إذا قلتهن بالغداة عشر مرات وبالعشي عشر مرات أعطيت بهنَّ عشر حسنات، وكُفِّر عنك بهنَّ عشر سيئات، ورُفع لك بهن عشر درجات، وكنَّ لك يوم القيامة كعدل عشر محرِّرين؟ تقول: لا إله إلا الله له الملك وله الحمد لا شريك له» . كذا في الكنزل.
وعند الطبراني أيضاً عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: لما نزل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: - بأبي وأبي - إني أكره أن أكون فوقك وتكون أسفل مني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنَّ أرفق بنا أن نكون في السفل لما يغشانا من الناس» . فلقد رأيت جرة لنا انكسرت فأُهريق ماؤها، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا ما لنا لحاف غيرها ننشف بها الماء فرقاً من أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مناشيء يؤذيه. فكنا نصنع طعاماً فإذا ردَّ ما بقي منه تيممنا موضع أصابعه فأكلنا منها نريد بذلك البركة. فرّد علينا عشاءه ليلة وكنا جعلنا فيه ثوماً أو بصلاً فلم نرَ فيه أثر أصابعه. فذكرت له الذي كنا ننصع والذي رأينا من ردِّه الطعام ولم يأكل، فقال: «إني وجدت منه ريح هذه الشجرة وأنا رجل أناجَي فلم أحب أن يوجد مني ريحه، فأما أنتم كفُلوه» ، كذا في الكنز. وهكذا أخرجه الحاكم إلاَّ أنه لم يذكر: فكنا نصنع طعاماً - إلى آخره، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرِّجاه، ووافقه الذهبي.(3/30)
وقد أخرجه أبو نُعيم وابن عساكر نحو سياق الطبراني إلاَّ أن في روايتهما: فقلت: يا رسول الله، لا ينبغي أن أكون فوقك، انتقل إلى الغرفة. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمتاعه فنُقل، ومتاعه قليل. كذا في الكنز. وهكذا أخرجه ابن أبي شيبة وابن أبي عاصم عن أبي أيوب، كما في الإصابة.
ما وقع بين عمر والعباس في وضع الميزاب
وأخرج ابن سعد وأحمد وابن عساكر عن عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان للعباس ميزاب على طريق عمر رضي الله عنه، فلبس عمر ثيابه يوم الجمعة - وقد كان ذُبح للعباس فرخان - فلما وافى الميزا صُبَّ فيه من دمُ الفرخين، فأصاب عمر، فأمر عمر بقلعه، ثم رجع فطرح ثيابه ولبس غيرها. ثم جاء فصلّى بالناس، فأتاه العباس فقال: والله إنه الموضع الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر للعباس: عزمتُ عليك لما صعدَتَ على ظهري حتى تضعه في الموضع الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل ذلك العباس. كذا في الكنز وأخرجه ابن سعد أيضاً عن يعقوب بن زيد بنحوه، وزاد) : قال فحمل(3/31)
عمر العباس رضي الله عنهما على عنقه فوضع رجليه على منكبي عمر، ثم أعاد الميزاب حيث كان فوضعه موضعه. وقد ذكره الهيثمي في المجمع عن عبيد الله بن عباس رضي الله عنهما، ووقع في نقله ميراث بدل الميزاب، ولعله تصحيف، وقال: رواه أحمد ورجاله ثقات إلا أن هشام بن سعد لم يسمع من عبيد الله اهـ.
توقير ابن عمر والصحابة منبر النبي عليه السلام
وأخرج ابن سعد عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه نظر إلى ابن عمر رضي الله عنهما وضع يده على مقعد النبي صلى الله عليه وسلم نم المنبر ثم وضعها على وجهه. وعنده أيضاً عن يزيد بن عبد الله بن قسيط قال: رأيت ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا خلا المسجد أخذوا برمانة المنبر الصلعاء التي تلي القبر بميامنهم، ثم استقبلوا القبلة يدعوه.
تقبيل جسده صلى الله عليه وعلى آله وسلم
قصة أُسيد بن حُضَير في ذلك
أخرج الحاكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه قال: كان أسيد(3/32)
بن حضير رضي الله عنه رجلاً صالحاً ضاحكاً مليحاً، فبينما هو عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدِّث القوم ويضحكهم، فطعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خاصرته. فقال: أوجعتني، قال: «اقتص» ، قال: يا رسول الله إنَّ عليك قميصاً ولم يكن عليَّ قميص. قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه فاحتضنه ثم جعل يقبل كشحه، فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله أردتُ هذا. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإِسناد ولم يخرِّجاه، ووافقه الذهبي فقال: صحيح. وأخرجه ابن عساكر عن أبي ليلى رضي الله عنه مثله، كما في الكنز، والطبراني عن أسيد بن حضير نحوه، كما في الكنز.
تقبيل سواد بن غُزيَّة بطنه عليه السلام يوم بدر
وأخرج ابن إسحاق عن حِبّان بن واسع عن أشياخ من قومه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدَّل صفوف أصحابه يوم بدر وفي يده قدح يعدِّل به القوم، فمر بسواد بن غْزيَّة رضي الله عنه - حليف بني عديِّ بن النجار وهو مستنتل من الصف - فطعن في بطنه بالقدح وقال: «استوِ يا سواد» فقال: يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقِدني، فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه فقال: «استقد» قال: فاعتنقه فقبَّل بطنه فقال: «ما حملك على هذا يا سواد؟» قال: يا رسول الله حضر ما ترى فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير، وقال له. كذا في البداية.(3/33)
قصة صحابي آخر في تقبيل بطنه عليه السلام
وأخرج عبد الرزاق عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي رجلاً مختصباً بصفْرة وفي يد النبي صلى الله عليه وسلم جريدة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «حط درس» ، فطعن بالجريدة بطن الرجل وقال: «ألم أنهك عن هذا؟» فأثَّر في بطنه دماً أدماه، فقال الرجل: القول يا رسول الله، فقال الناس: أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم تقتص؟ فقال: ما لبشرة أحد فضل على بشرتي. فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن بطنه ثم قال: «اقتص» ، فقبَّل الرجل بطن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أدعها لك أن تشفع لي يوم القيامة. كذا في الكنزل.
قصة سواد بن عمرو في تقبيل بطنه عليه السلام
وأخرجه ابن سعد عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى سواد بن عمرو هكذا - قال إسماعيل: ملتحفاً - فقال: خط خط ورس ورس. ثم طعن بعود أو سواك في بطنه، فماد في بطنه فأثَّر في بطنه - فذكر نحوه.
وأخرج عبد الرزاق أيضاً كما في الكنز عن الحسن قال: كان رجل من الأنصار يقال له سوادة بن عمرو رضي الله عنه يتخلق كأنه عرجون،(3/34)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآه نفض له، فجاء يوماً وهو متخلق، فأهوى له النبي صلى الله عليه وسلم بعود كان في يده فجرحه، فقال له: القصاص يا رسول الله، فأعطاه العود - وكان على النبي صلى الله عليه وسلم قميصان - فجعل يرفعهما، فنهره الناس، وكف عنه حتى إذا انتهى إلى المكان الذي جرحه رمى بالقضيب وعلقه يقبله، وقال: يا نبي الله، بل أدعُها لك تشفع لي بها يوم القيامة. وأخرجه البغوي كما في الإصابة.
تقبيل طلحة بن البراء قدم النبي عليه السلام
وقد تقدَّم في محبة النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه عن حُصَين بن وحوَح أن طلحة بن البراء - رضي الله عنهما - لما لقي النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يلصق برسول الله صلى الله عليه وسلم ويقبل قدميه. وسيأتي تقبيل أبي بكر الصدُّيق رضي الله عنه جبهة النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته.
بكاء الصحابة عندما اشتهر أنه صلى الله عليه وسلم قتل وما صدر عنهم في وقاته
قصة الأنصارية حين بلغها مقتله عليه السلام يوم أحد
أخرج الطبراني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما كان يوم أحد حاص أهل المدينة حيصة وقالوا: قتل محمد، حتى كثرت الصوارخ في ناحية المدينة فخرجت امرأة من الأنصار محرمة فاستُقبلت بأبيها وابنها وزوجها(3/35)
وأخيها لا أدري أيهم استُقبلت به أولاً، فلَّما مرت على أحدهم قالت: من هذا؟ قالوا: أبوك أخوك زوجك ابنك، تقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: أمامك، حتى دَفَعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت بناحية ثوبه، ثم قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي إذا سلمتَ مَنْ عطب قال الهيثيم: رواه الطبراني في الأوسط عن شيخه محمد بن شعيب ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. انتهى.
وعند البزار عن الزبير رضي الله عنه قال: اجتمعتُ على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة يوم أحد، فلم يبق أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ـ يعني بالمدينة - حتى كثرت القتلى، فصرخ صارخ: قد قُتل محمد، فبكين نسوة، فقالت امرأة: لا تعجلن بالبكاء حتى انظر، فخرجت تمشي ليس لها همٌّ سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسؤالٍ عنه. قال الهيثمي: وفيه عمر بن صفوان وهو مجهول. انتهى. وعند ابن إسحاق عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني دينار وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد. فلما نُعُوا لها قالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: خيراً يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، قال: فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل كذا في البداية.
ما ظهر من أبي طلحة في يوم أحد من محبته عليه السلام
وأخرج أحمد عن أنس رضي الله عنه أن أبا طلحة رضي الله عنه كان(3/36)
يرمي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد والنبي صلى الله عليه وسلم خلفه يتترَّس به - وكان رامياً - وكان إذا رمي رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم شخصه ينظر أين يقع سهمه، ويرفع أبو طلحة صدره، ويقول: هكذا - بأبي أنت وأمي - يا رسول الله، لا يصيبك سهم، نحري دون نحرك، وكان أبو طلحة يشور نفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: إني جَلْد يا رسول الله، فوجهني في حوائجك ومُرْني بما شئت. كذا في البداية. وأخرجه ابن سعد عن أنس نحوه.
شجاعة قتادة في حب النبي عليه السلام
وأخرج الطبراني عن قتادة بن النعمان رضي الله عنه قال: أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوس فدفعها إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فرميت بها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انْدَقَّت سيتها، ولم أزل على مقامي نُصب وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألقى السهام بوجهي، كلما مال سهم منها إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ميَّلت رأسي لأقي وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا رمي أرميه - فذكر الحديث كما تقدم في شجاعة قتادة رضي الله عنه.
بكاء الصحابة على ذكر فراقه صلى الله عليه وآله وسلم
بكاء أبي بكر رضي الله عنه
أخرج ابن أبي شيبة عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: خرج علينا(3/37)
رسول الله يوماً ونحن في المسجد وهو عاصب رأسه بخرقة في المرض الذي مات فيه، فأهوى قبل المنبر حتى استوى عليه، فاتبعناه فقال: «والذي نفسي بيده، إني لقائم على الحوض الساعة» وقال: «إن عبداً عرضت عليه الدنيا وزينتها فاختار الآخرة» .x فلم يفطن أحد إلا أبو بكر رضي الله عنه فذرفت عيناه فبكى، وقال: بأبي أنت وأمي، بل نفديك بآبائنا وأمهاتنا وأنفسنا وأموالنا، ثم هبط فما قام عليه حتى الساعة. كذا في كنز العمال. وأخرجه ابن سعد عن أبي سعيد نحوه.
بكاء فاطمة رضي الله عنها
وأخرج الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت {إِذَا جَآء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة رضي الله عنها فقال: «إنه نُعيت إليَّ نفسي» فبكت، فقال لها: لا تبكي فإنك أول أهل لاحق بي» فضحكت، فررها بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقالت رأيتك بكيت وضحكت، فقالت: إنه قال لي: «قد نعيت إليَّ نفسي» فبكيت فقال: «لا تبكين فإنك أول أهل لاحق بي» فضحكت. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير هلال بن خبَّاب وهو ثقة وفيه ضعف. انتهى.
وأخرج ابن سعد عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا فاطمة ابنته رضي الله عنها في وجعه الذي توفي فيه فسارّها، بشيء فبكت. ثم دعاها فسارها فضحكت. قالت: فسألتها عن ذلك، فقالت: أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم(3/38)
أنه يقبض في وجعه هذا فبكيت، ثم أخبرني أني أول أهله لحاقاً به فضحكت. وأخرجه بإسناد آخر عنها أطول منه، وأخرجه أيضاً عن أم سلمة رضي الله عنها بنحون. وفي روايتها: فسألت فاطمة رضي الله عنها عن بكائها وضحكها فقالت: أخبرني صلى الله عليه وسلم أنه يموت ثم أخبرني أني سيدة نساء أهل الجنة بعد مريم بنت عمران - عليه السلام - فلذلك ضحكت.
وأخرج ابن سعد عن العلاء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ما حضرته الوفاء بكيت فاطمة عليه السلام، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم «لا تبكي يا بنية، قولي إذا ما مت: أنا لله وإنا إليه راجعون، فإنَّ لكل إنسان بها من كل مصيبة معوَضة. قالت: ومنك يا رسول الله؟ قال: «ومني» .
بكاء معاذ رضي الله عنه
وأخرج أحمد عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن خرج معه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصيه ومعاذ راكب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي تحت راحلته. فلما فرغ قال: «يا معاذ، إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي هذا وقبري» ، فبكى معاذ جشعاً لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم التفت فأقبل بوجهه نحو المدينة، فقال: «إن أولى الناس بي المتَّقون مَنْ كانوا وحيث كانوا» قال الهيثيم: رواه أحمد بإسنادين وقال في أحدهما عن عاصم بن حميد أن معاذاً قال، وفيها قال: لا تبكِ يا معاذ، البكاء - أو إن البكاء - من الشيطان. ورجال الإِسنادين رجال الصحيح غير راشد(3/39)
بن سعد وعاصم بن حميد وهما ثقتان. انتهى.
بكاء الصحابة على خوف موته صلى الله عليه وآله وسلم
حديث ابن عباس في ذلك
أخرج البزّار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له: هذه الأنصار رجاله ونساؤها في المسجد يبكون، قال: «وما يبكيها؟» قال: يخافون أن تموت. قال: فخرج فجلس على منبره، متعطف بثوب، طارح طرفيه على منكبيه، عاصب رأسه بعصابة وسخة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
«أما بعد أيها الناس: فإن الناس يكثرون وتقل الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام، فمن ولي شيئاً من أمرهم فليقبل من محسنهم وليتجاوز عن مسيئهم» .
قال الهيثمي في المجمع: رواه البزَّار عن ابن كرامة عن ابن موسى ولم أعرف الآن أسماءهما وبقية رجاله رجال الصحيح، وهو في الصحيح خلا أوله إلى قوله: فخرج فجلس. انتهى. وقال في هامشه عن ابن حجر: ابن كرامة هو محمد بن عثمان بن كرامة، وابن موسى هو عبد الله؛ وهما من رجال الصحيح. انتهى، وأخرجه ابن سعد عن ابن عباس نحوه.
قول أم الفضل عند وفاته عليه السلام
وأخرج أحمد عن أم الفضل بينت الحارث رضي الله عنها: قالت أتيت(3/40)
النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه، فجعلت أبكي، فرفع رأسه فقال: «ما يبكيك؟» قالت: خفنا عليك ولا ندري ما نلقي من الناس بعدك يا رسول الله؟ قال: «أنتم المستضعفون بعدي» . قال الهيثمي: وفي يزيد بن أبي زياد وضعَّفه جماعة.
وداعه صلى الله عليه وعلى آله وسلم
وصيته عليه السلام قبل الوفاة في تكفينه وغسله والصلاة عليه وغيرها
أخرج البزَّار عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: نُعي إلينا حبيبنا - ونبينا - بأبي هو، ونفسي له الفداء - قبل موته بست. فلما دنا الفراق جمعنا في بيت أمنا عائشة رضي الله عنها، فنظر إلينا فدمعت عيناه، ثم قال: «مرحباً بكم، وحياكم الله، وحفظكم الله، آواكم الله، ونصركم الله، رفعكم الله، هداكم الله، رزقكم الله، وفقكم الله، سلمكم الله، قبلكم الله، أوصيكم بتقوى الله، وأوصي الله بكم وأستخلفه عليكم. إنِّي لكم نذير مبين أن لا تعلوا على الله في عباده وبلاده، فإنَّ الله قال لي ولكم: {تِلْكَ الدَّارُ الاْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ} {عُلُوّاً فِى الاْرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (سورة الزمر، الآية: 3) وقال: {أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لّلْمُتَكَبّرِينَ} (سورة الزمر، الآية: 60) .
ثم قال: «قد دنا الأجل، والمنقلب إلى الله، وإلى سدرة المتهى، وإلى جنة المأوى، والكأس الأوفى، والرفيق الأعلى» - أحسبه قال - فقلنا: يا رسول الله، فمن يغسلك إذاً؟ قال: «رجال أهل بيتي الأدنى فالأدنى» . قلنا: ففيم(3/41)
نكفنك؟ قال: «في ثيابي هذه إن شئتم أو في حلّة يمينة أو في بياض مُضعر» . قال: فقلنا: فمن يصلَّي عليك منا؟ فبكينا وبكى وقال: «مهلاً غفر الله لكم وجازاكم عن نبيكم خيراً، إذا غسلتموني ووضعتموني على سريري في بيتي هذا على شفير قبر فاخرجوا عني ساعة، فإنَّ أول من يصلِّي عليَّ خليلي وجليسي جبريل صلى الله عليه وسلم ثم ميكائيل، ثم إسرافيل، ثم ملك الموت مع جنوده. ثم الملائكة صلَّى الله عليهم بأجمعها، ثم ادخلوا عليَّ فوجاً فوجاً فصلُّوا عليَّ وسلِّموا تسليماً، ولا تؤذوني بباكية - أحسبه قال - ولا صارخة ولا رانّة، وليبدأ بالصلاة عليَّ رجال أهل بيتي، ثم أنتم بعد، وأقرؤوا أنفسكم مني السلام، ومن غاب من إخواني فأقرؤوه مني السلام، ومن دخل معكم في دينكم بعدي، فإني أشهدكم أني أقرأ السلام - أحسبه قال - عليه وعلى كل من تابعني على ديني من يومي هذا إلى يوم القيامة» قلنا: يا رسول الله، فمن يدخلك قبرك منا؟ قال: «رجال أهل بيتي مع ملائكة كثيرة يرونكم من حيث لا ترونهم» . قال الهيثيم: رجاله رجال الصحيح غير محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي وهو ثقة. ورواه الطبراني في الأوسط بنحوه إلا أنه قال: قبل موته بشهر، وذكر ف إسناده ضعفاء منهم أشعث بن طابق؛ قال الأزدي: لا يصح حديثه. انتهى.
وأخرجه أبو نُعيم في الحلية عن ابن مسعود رضي الله عنه ينحوه مطولاً بفرق يسير، ثم قال: هذا حديث غريب من حديث مرّة عن عبد الله، لم يروه(3/42)
متصل الإِسناد إلاَّ عبد الملك بن عبد الرحمن وهو ابن الأصبهاني. وأخرجه ابن سعد عن ابن مسعود بنحوه مطوَّلاً، وفي إسناده الواقدي.
وفاته صلى الله عليه وآله وسلم
قصة وفاته عليه السلام ومال قال عمر وأبو بكر رضي الله عنهما
أخرج أحمد عن يزيد بن بانبوس قال: ذهبت أنا وصاحب لي إلى عائشة رضي الله عنها فاستأذنا عليها، فألقت لنا وسادة وجذبت إليها الحجاب، فقال صاحبي: يا أم المؤمنين، ما تقولين في العراك؟ قالت: وما العراك؟ فضربت منكب صاحبي. قالت: مَهْ، آذيت أخاك، ثم قالت: ما العراك؟ المحيض؟ قولوا: ما قال الله عزّ وجل في المحيض، ثم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوشحني وينال من رأسي وبيني وبينه ثوب وأنا حائض. ثم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرّ ببابي مما يلقي الكلمة ينفعني الله بها. فمرَّ ذات يوم فلم يقل(3/43)
شيئاً مرتين أو ثلاثاً، فقلت: يا جارية، ضعي لي وسادة على الباب وعصبت رأسي. فمر بي فقال: «يا عائشة ما شأنك؟» فقلت: أشتكي رأسي فقال: «أنا وا رأساه» فذهب فلم يلبث إلا يسيراً حتى جيء به محمولاً في كساء فدخل عليَّ وبعث إلى النساء فقال: إني قد اشتكيت وإني لا أستطيع أن أدور بينكم فَأَذَنَّ لي فَلأَكُنْ عند عائشة.
فكنت أمرِّضه ولم أمرِّض أحداً قبله، فبينما رأسه ذات يوم على منكبي إذ مال رأسه نحو رأسي، فظننت أنه يريد من رأسي حاجة، فخرجت من فيه نقطة باردة فوقعت على نقرة نحري، فاقشعر لها جلدي، فظننت أنه غُشي عليه فسجيته ثوباً. فجاء عمر والمغيرة بن شعبة فاستأذنا فأذنت لهما وجذبت إليَّ الحجاب، فنظر عمر إليه فقال: واغشياه، مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: كذبت بل أنت رجل تحوسك فتنة، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يموت حتى يفني الله المنافقين. قالت: ثم جاء أبو بكر رضي الله عنه فرفعت الحجاب فنظر إليه فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه من قبل رأسه فحدر فاه فقبَّل جبهته، ثم قال: وانبياه ثم رفع رأسه فحدر فاه وقبَّل جبهته، ثم قال: واصفياه ثم رفع رأسه وحدر فاه وقبَّل جبهته وقال: واخليلاه مات رسول الله صلى الله عليه وسلم
وخرج إلى المسجد وعمر يخطب الناس ويتكلم ويقول: إن رسول الله لا يموت حتى يفني الله المنافقين. فتكلم أبو بكر رضي الله عنه فحمد(3/44)
الله وأثنى عليه ثم قال: إنَّ الله يقول: {إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ} (سورة الزمر، الآية: 30) حتى فرغ من الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} {أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} {وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ} (سورة آل عمران، الآية: 144) حتى فرغ من الآية، ثم قال: فمن كان يعبد الله فإنَّ الله حيٌّ لا يموت، ومن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات. فقال عمر: أو إنها في كتاب الله؟ ثم قال عمر: يا أيها الناس، هذا أبو بكر وهو ذو سبية المسلمين، فبايعوه. كذا في البداية. قال الهيثمي: رجال أحمد ثقات. ورواه أبو يعلى بنحوه مع زيادة بإسناد ضعيف. انتهى. وأخرجه ابن سعد عن يزيد بن بَابَنُوس نحوه مختصراً.
جهازه صلى الله عليه وآله وسلم
حديث علي في ذلك
أخرج ابن سعد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما أخذنا في جَهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أغلقنا الباب دون الناس جميعاً، فنادت الأنصار: نحن أخواله ومكانُنا من الإِسلام مكاننا ونادت قريش: نحن عصبته، فصاح أبو بكر رضي الله عنه: يا معشر المسلمين، كل قوم أحقُّ بجنازتهم من غيرهم، فننشدكم الله فإنكم إن دخلتم أخرتموهم عنه، والله لا يدخل عليه أحد إلا من(3/45)
دُعي. وعن علي بن الحسين رضي الله عنهما قال: نادت الأنصار: إن لنا حقاً فإنما هو ابن أختنا، ومكاننا في الإِسلام مكاننا، وطلبوا إلى أبي بكر، فقال: القوم أولى به، فاطلبوا إلى علي وعباس فإنه لا يدخل عليهم إلا من أرادوا.
حديث ابن عباس في ذلك
وأخرج الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ثَقُل وعنده عائشة وحفصة إذ دخل عليٌّ، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم رفع رأسه ثم قال: «ادنُ مني، دانُ مني» فأسنده إليه، فلم يزل عنده حتى توفي. فلما قضَى قام علي وأغلق البا، وجاء العباس رضي الله عنه ومعه بنو عبد المطلب فقاموا على الباب، فجعل علي يقول: بأبي أنت، طبت حياً، وطبت متياً وسطعت ريح طيبة لم يجدوا مثلها فقال: إيهاً، دَعْ خنيناً كخنين المرأة، وأقبلوا على صاحبكم. قال علي: أدخلوا عليَّ الفضل بن العباس، فقالت الأنصار: نشدناكم بالله ونصيبنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدخلوا رجلاً منهم يقال له أوس بن خَولي يحمل جرة بإحدى يديه. فسمعوا صوتاً في البيت: لا تجردوا رسول الله صلى الله عليه وسلم واغسلوه كما هو فيقيمصه. فغسله علي يدخل يده من تحت القميص، والفضل يمسك الثوب عنه، والأنصاري ينقل الماء، وعلى يد علي خِرْقة يدخل يده تحت القميص. قال الهيثيم: فيه يزيد بن أبي زياد وهو حسن الحديث على ضعفه، وبقية رجاله ثقات. وروى ابن ماجه بعضه. انتهى. وأخرجه ابن سعد عن عبد الله بن الحارث بمعناه.(3/46)
كيفية الصلاة عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم
حديث ابن عباس في ذلك
أخرج ابن إسحاق عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أُدخل الرجال فصلَّوا عليه بغير إمام أرسالاً، حتى فرغوا، ثم أُدخل النساء فصلَّين عليه، ثم أُدخل الصبيان فصلَّوا عليه، ثم أُدخل العبيد فصلَّوا عليه أرسالاً، لم يؤمَّهم على رسول الله أحد.
حديث سهل بن سعد في ذلك
وأخرج الواقدي عن سهل بن سعد قال: لما أُدرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكفانه وضع على سريره، ثم وضع على شفير حفرته، ثم كان الناس يدخلون عليه رفقاء رفقاء لا يؤمهم عليه أحد. قال الواقدي: حدثني موسى بن محمد بن إبراهيم قال: وجدت كتاباً بخط أبي فيه: أنه لمّا كُفِّن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع على سريره دخل أبو بكرو عمر رضي الله عنهما ومعهما نفر من المهاجرين والأنصار بقدر ما يسع البيت، فقالا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وسلَّم المهاجرون والأنصار كما سلم أبو بكر وعمر. ثم صفُّوا صفوفاً لا يؤمهم أحد. فقال أبو بكر وعمر - وهما في الصف الأول حِيال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ: اللهم إنا نشهد أنه قد بلّغ ما أنزل إليه، ونصح لأمته وجاهد في سبيل الله حتى أعز الله دينه، وتمت كلمته وأومنَ به وحده لا شريك له، افجعلنا إلهنا ممن يتبع القول الذي أُنزل معه، وأجمع بيننا وبينه حتى تعرِّفه بنا وتعرِّفنا(3/47)
به، فإنه كان بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً، لا نبتغي بالإِيمان به بديلاً، ولا نشتري به ثمناً أبداً. فيقول الناس: آمين آمين ويخرجون ويدخل آخرون، حتى صلّى الرجال، ثم النساء، ثم الصبيان. كذا في البداية. وأخرجه ابن سعد أيضاً عن الواقدي عن موسى بن محمد بن إبارهيم بن الحارث التَّيمي نحوه.
حديث علي في ذلك
وأخرج ابن سعد أيضاً عن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده عن علي رضي الله عنه قال: لما وُضِع رسول الله صلى الله عليه وسلم على السري قال: لا يقوم عليه أحد، هو إمامكم حياً وميتاف، فكان يدخل الناس رسلاً رَسَلاً فيصلُّون عليه صفاً صفاً ليس لهم إمام ويكبرون، وعلي قائم بحيال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: السلام عليك أيُّها النبي ورحمة الله وبركاته، اللهمَّ إن نشهد أن قد بلغ ما نُزِّل إليه، ونصح لأمته، وجاهد في سبيل الله حتى أعز الله دينه وتمت كلمته. اللهمَّ فاجعلنا ممن يتبع ما أُنزل إليه، وثبتنا بعده، وأجمع بيننا وبينه. فيقول الناس: آمين، حتى صلّى عليه الرجال، ثم النساء، ثم الصبيان. كذا في الكنزل.
حال الصحابة عند وفاته صلى الله عليه وسلم وبكاؤهم على فراقه
بكاء أبي بكر وخطبته رضي الله عنه
أخرج ابن خسرو عن أنس رضي الله عنه قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصبح أبو بكر رضي الله عنه يرى الناس يترامسون، فأمر غلامه يستمع ثم(3/48)
يخبره. فقال سمعتهم يقولون: مات محمد، فاشتد أبو بكر وهو يقول: وا انقطاع ظهري، فما بلغ المسجد حتى ظنُّوا أنه لم يبلغ. كذا في الكنزل.
وأخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن أبي شيبة وأحمد والبخاري وابن حِبَّان وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه خرج حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر رضي الله عنه يكلِّم الناس، فقال: اجلس يا عمر، فتشهَّد ثم قال: أما بعد: فمن كان منكم يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإنَّ محمداً قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإنَّ الله تعالى حي لا يموت، فإنَّ الله تعالى قال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} {أفإن مات أو قتل على أعقابكم} - الآية. قال: والله لكأنَّ النسا لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقَّاها منه الناس كلهم، فما تسمع بشراً من الناس إلاَّ يتلوها: وقال عمر بن الخطاب: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فعقِرت حتى ما تُقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض وعرفت حين سمعته تلاها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات. كذا في الكنز.
حزن عثمان رضي الله عنه
وأخرج ابن سعد عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: توفي رسول(3/49)
الله صلى الله عليه وسلم فحزن عليه رجال من أصحابه حتى كاد بعضهم يوسوس، فكنب ممن حزن عليه، فبينا أنا جالس في أُطم من آطام المدينة - وقد بويع أبو بكر - إذ مرّ بي عمر فلم أشعر به لِمَا بي من الحزن، فانطلق عمر حتى دخل على أبي بكر فقال: يا خليفة رسول الله، ألا أعجِّبك مررت على عثمان فسلمتُ عليه فلم يرد عليَّ السلام - فذكر الحديث بطوله كما سيأتي في السلام.
حزن علي رضي الله عنه
وأخرج ابن سعد عن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع رضي الله عنه قال: جاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوماً متقنعاً متحازناً، فقال أبو بكر رضي الله عنه: أراك متحازناً، فقال علي: إنه عَنَاني ما لم يُعِنْك قال أبو بكر: اسمعوا ما يقول أنشدكم الله أترَوْن أحداً كان أحزن على رسول الله صلى الله عليه وسلم مني؟
بكاء أم سلمة رضي الله عنها
وأخرج الواقدي عن أم سَلَمة رضي الله عنها قالت: بينا نحن مجتمعون نبكي لم ننم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيوتنا ونحن نتسلَّى برؤيته على السرير؛ إذ سمعنا صوت الكرارين في السَّحر؛ قالت أم سلمة: فصحنا وصاح أهل المسجد، فارتجت المدينة صيحة واحدة، وأذَّن بلال بالفجر، فلما ذكر(3/50)
النبيَّ صلى الله عليه وسلم بكى وانتحب، فزادنا حزناً، وعالج الناس الدخول إلى قبره فغُلِّق دونهم، فيا لها من مصيبة ما أصبنا بعدها بمصيبة إلا هانت إذا ذكرنا مصيبتنا به صلى الله عليه وسلم كذا في البداية، ورواه ابن سعد مختصراً.
ضجيج أهل المدينة بالبكاء
وأخرج ابن منده وابن عساكر عن أبي ذؤيب الهذلي قال: قدمت المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج أهلُّوا جميعاً بالإِحرام فقلت: مَهْ؟ فقالوا: قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا في الكنزل. وأخرجه ابن إسحاق بطوله، كما سنذكر فيما قالت الصحابة على وفاته صلى الله عليه وسلم
حال الصحابة بمكة لما بلغهم الخبر
وأخرج سيف وابن عساكر عن عبيد الله بن عمير رضي الله عنه قال: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى مكة وعملها عَتَّاب بن أسيد رضي الله عنه، فلما بلغهم موت النبي صلى الله عليه وسلم ضجَّ أهل المسجد، فخرج عتَّاب حتى دخل شعباً من شعاب مكة. فأتاه سهيل بن عمرو رضي الله عنه فقال: قم في الناس فتكلَّم، فقال: لا أطيق الكلام بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فاخرج معي فأنا أكفيكَه. فخرجا حتى أتيا المسجد الحرام، فقام سهيل خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه وخطب بمثل خطبة أبي بكر رضي الله عنه لم يخرِم عنها شيئاً. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه - وسهيل بن عمرو رضي الله عنه(3/51)
في الأسرى يوم بدر -: «ما يدعوك إلى أن تنزع ثناياه؟ دَعْه، فعسى الله أن يقيمة مقاماً يسرك» فكان ذلك المقام الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم وضُبط عمل عَتَّاب وما حوله. كذا في الكنز.
حال فاطمة رضي الله عنها
وأخرج ابن سعد عن أبي جعفر رضي الله عنه قال: ما رأيت فاطمة رضي الله عنها ضاحكة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنها قد تُمودي في طرف فيها.
ما قالت الصحابة على وفاته صلى الله عليه وآله وسلم
قول أبي بكر: اليوم فقدنا الوحي
أخرج أبو إسماعيل الهروي في دلائل التوحيد عن محمد بن إسحاق عن أبيه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال عند وفات النبي صلى الله عليه وسلم اليوم فقدنا الوحي ومِنْ عند الله عز وجل الكلام. كذا في الكنزل.
قول أم أيمن في فقدان الوحي
وأخرج أحمد عن أنس أنَّ أم أيمن - رضي الله عنها -بكت لما قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل لها: ما يبكيك على النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني قد علمتُ أنَّ رسول الله سيموت، ولكني إنما أبكي على الوحي الذي رفع عنا.
وعند البيهقي من حديثه قال أبو بكر رضي الله عنها - بكت لما قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل لها: ما يبكيك على النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني قد علمتُ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سيموت، ولكني إنما أبكي على الوحي الذي رفع عنا.
وعند البيهقي من حديثه قال أبو بكر رضي الله عنه بعد وفات النبي صلى الله عليه وسلم(3/52)
لعمر رضي الله عنه: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها. فلما انتهينا إليها بكت، فقالا لها: ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسوله، قالت: والله ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله، ولكن أبكي أن الوحي انقطع من السماء، فيهَّجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان. كذا في ابداية. وأخرجه أيضاً ابن أبي شيبة ومسلم وأبو يعلى وأبو عوانة عن أنس مثله، كما في الكنز، وابن سعد عن أنس نحون. وعند ابن أبي شيبة عن طارق رضي الله عنه قال: لما قُبض النبي صلى الله عليه وسلم جعلت أم أيمن رضي الله عنها تبكي، فقيل لها: لم تبكين يا أم أيمن؟ قالت: أبكي على خبر السماء انقطع عنا. كذا في الكنز. وأخرجه أيضاً ابن سعد بسند صحيح عن طارق نحو. وعند موسى بن عقبة قالت: إنما أبكي على خبر السماء كأن يأتينا غضاً جديداً كل يوم وليلة فقد انقطع ورفع، فعليه أبكي. فعجب الناس من قولها. كذا في البداية.
قول معن بن عدي
وأخرج مالك عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: بكى الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات، وقالوا: والله وددنا أنا متنا قبله ونخشى أن نفتتن بعده. فقال(3/53)
معن بن عديّ: لكني - والله - ما أحب أن أموت قبله لأصدِّقه ميتاً كما صدَّقته حياً. كذا في البداية. وأخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب من طريق مالك نحوه. قال في الإِصابة: وسعيد بن هاشم - أي راوي الحديث عن مالك - ضعيف، والمحفوظ مرسل عروة. انتهى. وقد أخره ابن سعد عن عروة نحوه.
قول فاطمة ابنته عليه السلام
وأخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشَّاه الكرب، فقالت فاطمة رضي الله عنها: واكَرْب أبتاه فقال لها: «ليس على أبيك كرب بعد اليوم» ، فلما مات قالت: وا أبتاه، أجاب ربا دعاه. يا أبتاه، من جنةُ الفردوس مأواهُ. يا أبتاه، إلى جبريل ننعاه. فلما دُفن قالت فاطمة: يا أنس، أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟
وعند أحمد قالت فاطمة رضي الله عنها: يا أنس، أطابت أنفسكم أن دفنتم رسول الله صلى الله عليه وسلم في التراب ورجعتم؟ قال حماد: فكان ثابت إذ حدَّث بهذا الحديث بكى حتى تختلف أضلاعه. كذا في البداية. وأخرج أيضاً ابن عساكر وأبو يعلى عن أنس نحو حديث البخاري كما في الكنز. وأخرجه(3/54)
ابن سعد عنه نحوه.
أشعار صفية عمته عليه السلام
وأخرج الطبراني عن عروة قال: قالت صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها ترثي رسول الله صلى الله عليه وسلم
لهف نفسي وبتُّ كالمسلوبِ ...
أرقب الليل فَعْلة المحروب
من هموم وحسرة أرقتني ...
ليت أنِّي سقيتها بشَعوب
حين قالوا إنَّ الرسول قد أمسى ...
وافقته منية المكتوب
حين جئنا لآل بيت محمد ...
فأشاب القَذال أيّ مشيب
حين رَيْنا بيوته موحشات ...
ليس فيهن بعد عيش غريب
فعراني لذاك حزن طويل ...
خالط القلب فهو كالمرعوب
وقالت أيضاً:
ألا يا رسول الله كنت رخاءنا ...
وكنت بنا براً ولم تَكُ جافياً(3/55)
وكان بنا براً رحيماً نبينا ...
ليَبْك عليك اليوم من كان باكيا
لمري ما أبكي النبي لموته ...
ولكن لهرج كان بعدك آتيا
كأن على قلبي لفقد محمد ...
ومن حبه من بعد ذاك المكاويا
أفاطمَ صلَّى الله ربُّ محمد ...
على جَدَث أمسى بيثرب ثاويا
أري حَسَنا أيتمتَه وتركته ...
يبكِّي ويدعو جدَّه اليوم نائبا
فدىً لرسول الله أمي وخالتي ...
وعمي ونفسي قصره وعياليا
صبرت وبلَّغت الرسالة صادقاً ...
ومتَّ صليب الدين أبلج صافيا
فلو أنَّ رب العرش أبقاك بيننا ...
سعدنا ولكن أمره كان ماضيا
عليك من الله السلام تحيةً ...
وأدخلت جنات من العَدن راضيا
لغاية ص 45
تابع قال الهيثيم: رواه الطبراني وإسناده حسن. انتهى. وعند الطبراني عن محمد بن علي بن الحسين قال: لما قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجت صفية رضي الله عنها تلمع بردائها وهي تقول:
قد كان بعدك أنباء وهنَبثة
لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح إلا أن محمد لم يدرك صفية. انتهى.(3/56)
وأخرج البخاري والبغَوي عن غُنيم بن قيس قال: سمعت من أبي كلمات قالهن لما مات النبي صلى الله عليه وسلم وهي:
لا لي الويلُ على محمد ...
قد كنت في حياته بمقَعدْ
أبيت ليلي آمناً إلى الغدْ
كذا في الإِصابة. وأخرجه البزَّار نحون. قال الهيثيم: رجاله رجال الصحيح غير بشر بن آدم وهو ثقة، وأخرجه ابن سعد بمعناه.
بكاء الصحابة على ذكره صلى الله عليه وعلى آله وسلم
ما وقع بين عمرو عجوز في ذلك
أخرج ابن المبارك وابن عساكر عن زيد بن أسلم قال: خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة يحرس، فرأى مصباحاً في بيت، فدنا فإذا عجوز تطرق شعراً لها لتغزله - أن تنفشه بقدح - وهي تقول:
على محمد صلاة الأبرارْ ...
صلى عليك المصطفون الأخيارْ
قد كنت قوّاماً بَكِيَّ الأسحارْ ...
يا ليت شعري والمنايا أطوارْ
هل تجمعني وحبيب الدارْ(3/57)
- تعني النبي صلى الله عليه وسلم ـ. فجلس عمر يبكي، فما زال يبكي حتى قرع الباب عليها، فقالت: من هذا؟ قال: عمر بن الخطاب، قالت: ومنا لي ولعمر؟ وما يأتي بعمر هذه الساعة؟ قال: افتحي رحمك الله فلا بأس عليك، ففتحت له فدخل، فقال: ردِّي عليَّ الكلمات التي قلت آنفاً، فردَّته عليه. فلما بلغت آخره قال: أسألك أن تدخليني معكما، قالت: وعمر، فاغفر له يا غفار، فرضي ورجع. كذا في منتخب الكنز.
كيفية ابن عمر وأنس على ذكره عليه السلام
وأخرج ابن سعد عن عاصم بن محمد عن أبيه قال: ما سمعت ابن عمر رضي الله عنهما ذاكراً رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ابتدرت عيناه تبكيان. وأخرج ابن سعد عن المثنَّى بن سعيد الذارع قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: ما من ليلة إلا وأنا أرى فيها حبيب ثم يبكي.
ضرب الصحابة شاتمه صل الله عليه وعلى آله وسلم
ما وقع بين غَرَفة الكندي وعمرو بن العاص في ذلك
أخرج ابن المبارك عن حرملة بن عمران عن كعب بن علقمة أن غرفة بن الحارث الكندي رضي الله عنه - وكانت له صحبة من النبي صلى الله عليه وسلم ـ سمع نصرانياً يشتم النبي صلى الله عليه وسلم فضربه ودقَّ أنفه، فرُفع إلى عمرو بن العاص رضي(3/58)
الله عنه فقال له: إنا قد أعطيناهم العهد، فقال له غرفة: معاذ الله أن نعطيهم العهد على أن يظهروا شتم النبي صلى الله عليه وسلم وإنما أعطيناهم العهد على أن نخلِّي بينهم وبين كنائسهم يقولون فيها ما بدا لهم، وأن لا نحمِّلهم ما لا يطيقون، وإن أرادهم عدو قاتلنا دونهم، وعلى أن نخلِّي بينهم وبين أحكامهم إلا أن يأتونا راضين بأحكامنا، فنحكم فيهم بحك مالله عز وجل وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم وإن اعتنوا عنَّا لم نعرض لهم. فقال عمرو: صدقت. كذا في الاستيعاب. وأخرجه البخاري في تاريخه عن نُعيم بن حمّاد عن عبد الله بن المبارك عن حرملة بإسناده نحوه، وإسناده صحيح، كما في الإِصابة.
وأخرجه الطبراني عن غرفة بن الحارث رضي الله عنه - وكانت له صحبة وقاتل مع عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه باليمن في الردّة - أنه مرَّ بنصراني من أهل مصر يقال له المندقون، فدعاه إلى الإِسلام، فذكر النصراني النبي صلى الله عليه وسلم فتناوله، فرفع ذلك إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه، فأرسل إليه فقال: قد أعطيناهم العهد - فذكر نحوه. قال الهيثمي: وفيه عبد الله بن صالح كاتب الليث. قال: عبد الملك بن سعيد الليث ثقة مأمون وضعَّفه جماعة وبقية رجاله ثقات اهـ. وأخرجه البيهقي نحوه.(3/59)
وعند ابن عساكر عن كعب بن علقمة أنَّ غرفة بن الحارث الكندي رضي الله عنه - وكانت له صحبة من النبي صلى الله عليه وسلم ـ مرَّ على رجل كان له عهد، فدعاه غرفة إلى الإِسلام، فسبَّ النبي صلى الله عليه وسلم فقتله غرفةُ. فقال له عمرو بن العاص رضي الله عنه: إنَّما يطمئنون إلينا للعهد؛ قال: وما عاهدناهم على أن يؤذونا في الله ورسوله - فذكر الحديث.
امتثال أمره صلى الله عليه وآله وسلم
امتثال أمره في سرية نخلة
أخرج البيهقي من طريق ابن إسحاق عن يزيد بن رُومان عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش رضي الله عنه إلى نخلة، فقال له: «كُنْ بها حتى تأتينا بخبر من أخبار قريش» ولم يأمره بقتال، وذلك في الشهر الحرام، وكتب له كتاباً قبل أن يعلمه أين يسير، فقال: «اخرج أنت وأصحابك، حتى إذا سرت يومين فافتح كتابك وانظر فيه، فما أمرتك فيه فامض له، ولا تَستكرهَنَّ أحداً من أصحابك على الذهاب معك» .
فلَّما سار يومين فتح الكتاب فإذا فيه أن «امضِ حتى تنزل نخلة فتأتينا من أخبار قريش بما يصل إليك منهم» ، فقال لأصحابه حين قرأ الكتاب: سمعٌ وطاعةٌ، من كان منكم له رغبة في الشهادة فلينطلق معي فإني ماضٍ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كره ذلك منكم فليرجع فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهاني أن أستكره منكم أحداً. فمضى معه القوم حتى إذا كان ببُحران أضلَّ سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان رضي الله عنه عنهما بعيراً لهما كانا يتعقبانه، فتخلَّفاً عليه يطلبانه، ومضى القوم حتى نزلوا نخله، فمر بهم عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان وعثمان والمغيرة ابنا عبد الله معهم تجارة قدموا بها من الطائف أدَمٌ وزبيب، فلما رآهم القوم أشرف لهم واقد بن عبد الله رضي الله عنه وكان قد حلق رأسه، فلما(3/60)
رأوه حليقاً قالوا: عُمَّار ليس عليكم منهم بأس، وائتمر القوم بهم - يعني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ في آخر يوم من رجب. فقالوا: لئن قتلتموهم إنكم لتقتلونهم في الشهر الحرام، ولئن تركتموهم ليدخلنَّ في هذه الليلة الحرم فليمتنعنَّ منكم، فأجمع القوم على قتلهم، فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي. بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وهرب المغيرة وأعجزهم، واستاقوا العير فقدموا بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: «والله ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام» فأوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسيرين والعير فلم يأخذ منها شيئاً.
فلما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أسقط في أيديهم وظنوا أن قد هلكوا، وعنَّفهم إخوانهم من المسلمين، وقالت قريش حين بلغهم أمر هؤلاء: قد سفك محمد الدم في الشهرا الحرام، وأخذ فيه المال، وأسر فيه الرجال، واستحل الشهر الحرام فأنزل الله في ذلك: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} {وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} {وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ} {أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} (سورة البقرة، الآية: 217) يقول: الكفر بالله أكبر من القتل. فلما نزلت ذلك أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم العير وفدَى الأسيرين، فقال المسلمون: أتطمع لنا أن تكون غزوة؟ فأنزل الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ} -إلى قوله: {أُوْلئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} (سورة البقرة، الآية: 218) - إلى آخر الآية، وكانوا ثمانية وأميرهم التاسع عبد الله بن جحش رضي الله عن. وأخرج أبو نُعيم(3/61)
هذه القصة من طريق أبي سعيد البقّال عن عكرمة عن ابن عباس مطوَّلة. وكذا أخرجها الطبري من طريق أسباط ابن نصر عن السدِّي، كما في الإِصابة.
وأخرج البيهقي أيضاً عن جُندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رَهْطاً واستعمل عليهم عُبيدة بن الحارث رضي الله عنه. قال: فلما انطلق ليتوجه بكى صبابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث مكانه رجلاً يقال له عبد الله بن جحش رضي الله عنه، وكتب له كتاباً وأمره أن لا يقرأه إلا لمكان كذا وكذا/ «لا تكرهنَّ أحداً من أصحابك على المسير معك» . فلما صار إلى ذلك الموضع قرأ الكتاب واسترجع، وقال: سمعاً وطاعة لله ورسوله. قال: فرجع رجلان من أصحابه، ومضى بقيتهم معه فلقُوا ابن الحضرمي فقتلوه، فلم يُدْر ذلك من رجب أو من جمادي الآخرة. فقال المشركون: قتلهم في الشهر الحرام، فنزلت: «يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير» - إلى قوله: «والفتنة أكبر من التقل» . قال: فقال بعض المسلمين: لئن كانوا أصابوا خيراً ما لهم أجر، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ} {وجاهدوا في سبيل ايرجون رحمة اوا غفور رحيم} وأخرجه ابن أبي حاتم عن جنب ابن عبد الله نحوه، كما في البداية.
امتثال أمره عليه السلام في الخروج إلى بني قريظة
وأخرج البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله(3/62)
صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: «لا يصلينَّ أحد العصر إلاَّ في بني قُريظة. فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلِّي العصر حتى نأتيها. وقال بعضهم: بلى نصلِّي لم يرد منا ذلك. فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنِّف واحداً منهم. وهكذا رواه مسلم.
وأخرج الطبراني عن كعب بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من طلب الأحزاب رجع فلبس لأمته واستجمر. زاد دُحَيم في حديثه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فنزل جبريل عليه السلام فقال: عذيرَك من مُحارب ألا أراك قد وضعت اللأمة وما وضعناها بعد» فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعاً فعزم على الناس أن لا يصلُّوا العصر إلاَّ في بني قريظة، فلبسوا السلاح وخرجوا، فلم يأتوا بني قُريظة حتى غربت الشمس. واختصم الناس في صلاة العصر، فقال بعضهم: صلُّوا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرد أن تتركوا الصة. وقال بعضهم: عز علينا أن لا نصلِّي حتى نأتي بني قريظة، وإنما نحن في عزيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس علينا إثم. فصلَّت طائفة العصر إيماناً واحتساباً. وطائفة لم يصلوا حتى نزلوا بني قريظة بعدما غربت الشمس فصلَّوها إيماناً واحتساباً. فلم يعنِّف رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة من الطائفتني. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير ابن أبي الهذيل وهو ثقة اهـ. وأخرجه البيهقي نحوه عن(3/63)
عبيد الله بن كعب بن مالك ومن حديث عائشة رضي الله عنها أطول منه، كما في البداية.
امتثال أمره عليه السلام يوم حنين
وأخرج البيهقي عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين حين رأى من الناس ما رأى: «يا عباس، ناد: يا معشر الأنصار، يا أصحاب الشجرة» فأجابوه: لبيك، لبيك. فجعل الرجل يذهب ليعطف بعيره فلا يقدر على ذلك، فيقذل درعه في عنقه، ويأخذ سيفه وترسه، ثم يؤم الصوت، حتى اجتمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم مائة، فاستعرض الناس فاقتتلوا. وكانت الدعوة أول ما كانت للأنصار، ثم جُعلت آخراً للخزرج، وكانوا صُبراً عند الحرب، وأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركائبه فنظر إلى مُجْتَلَد القوم، فقال: الآن حمي الوطيس. قال: فوالله ما راجعه الناس إلا والأسارى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتَّفون، فقتل الله منهم من قتل، وانهزم منهم من انهزم، وأفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم أموالهم وأبناءهم كذا في البداية. وعند ابن وَهْب من حديث العباس رضي الله عنه - فذكره وفيه: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أي عباس، نادِ أصحاب السَّمُرة» قال: فواا لكأنَّما عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقرة على أولادها، فقالوا: يا لبيكاه، يا لبيكاه ورواه مسلم عن(3/64)
ابن وهب. كذا في البداية وقد أخرج ابن سعد حديث العباس بطوله - فذكر نحوه.
ما وقع بين الصحابة وبين أبي سفيان في نقض صلح الحديبية
وأخرج ابن أبي شَيْبة عن عكرمة رضي الله عنه قال: لما وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة، وكانت خُزاعة حِلْف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية وكانت بنو بكر حلف قريش، فدخلت خزاعة في صلح رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلت بنو بكر في صلح قريش، وكان بين خزاعة وبين بني بكر قتال: فأمدتهم قريش بسلاح وطعام وطلعوا عليهم، فظهرت بنو بكر على خزاعة وقتلوا منهم، فخافت قريش أن يكونوا قد نقضوا، فقالوا لأبي سفيان: اذهب إلى محمد فأجِزِ الحلف، وأصلح بين الناس.
فانطلق أبو سفيان حتى قدم المدينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قد جاءكم أبو سفيان وسيرجع راضياً بغير حاجة» . فأتى أبا بكر رضي الله عنه فقال: يا أبا بكر، أجزِ الحلف وأصلح بين الناس، قال: ليس الأمر إليَّ، الأمر إلى الله وإلى رسوله. وأتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له نحواً مما قال لأبي بكر، فقال له عمر: أَنَقْضُهم، فما كان منهذ جديداً فأبلاه الله وما كان منه شديداً - أو قال: ثبتاً - فَقَطعه الله. فقال أبو سفيان: ما رأيت كاليوم شاهد عشيرة. ثم أتى فاطمة رضي الله عنها فقال: يا فاطمة هل لك في أمر تسودين فيه نساء قومك؟ ثم ذكر لها نحواً مما ذكر لأبي بكر، فقالت: لي الأمر إليَّ، الأمر إلى الله وإلى رسوله. ثم أتى علياً رضي الله عنه فقال له نحواً مما قال لأبي بكر،(3/65)
فقال له علي: ما رأيت كاليوم رجلاً أضلَّ، أنت سيد الناس فأجِزِ الحلف وأصلح بين الناس، فضرب بإحدى يديه على الأخرى وقال: قد أجرت الناس بعضهم من بعض. ثم ذهب حتى قدم على أهل مكة فأخبرهم بما صنع فقالوا: والله ما رأينا كاليوم وافد قوم، والله ما أتيتنا بحرب فنحذر، ولا أتيتنا بصلح فنأمن. فذكر الحديث في فتح مكة، كما في منتخب كنز العمال.
عمل الصحابة بأسارى بدر
وأخرج الطبراني في الكبير والصغير عن أبي عزيز بن عمير أخي مصعب بن عمير رضي الله عنهما قال: كنت في الأسرى يوم بدر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «استوصوا بالأسَارى خيراً» . وكنت في نفر من الأنصار، فكانوا إذا قدَّموا غداءهم وعشاءهم أكلوا التمر وأطعموني البر لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الهيثمي: إسناده حسن.
قصة ابن رواحة في سرعة امتثال أمره عليه السلام
وأخرج ابن عساكر عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو يخطب، فسمعه وهو يقول: «اجلسوا» فجلس مكانه خارجاً عن المسجد حتى فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من خطبته، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: «زادك الله حرصاً على طواعية الله وطواعية رسوله» . كذا في الكنز. وأخرجه البيهقي أيضاً نحوه عن عبد الرحمن بسند(3/66)
الصحيح، كما في الإصابة.
وأخرجه ابن عساكر أيضاً عن عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر يوم الجمعة، فقال: «اجلسوا» فسمع عبد الله بن رواحة رضي الله عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم «اجلسوا» فجلس في بني غَنْم، فقيل: يا رسول الله، ذاك ابن رواحة سمعتك وأنت تقول لناس اجلسوا فجلس في مكانه. كذا في الكنز. وهكذا أخرجه الطبراني في الأوسط، والبيهقي من حديث عائشة. قال الهيثمي: وفيه إبراهيم بن إسماعيل بن مُجمِّع وهو ضعيف، وقال في الابصابة: والمرسل أصح.
امتثال عبد الله بن مسعود لأمره عليه السلام
وأخرج ابن أبي شيْبَة عن عطاء رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال للناس: «اجلسوا» ، فسمعه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وهو على الباب فجلس؛ فقال: «يا عبد الله ادخل» كذا في الكنزل. وأخرجه ابن عساكر عن جابر رضي الله عنه قال: لما استوى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يوم الجمعة قال: «اجلسوا فسمع ذلك ابن مسعود رضي الله عنه فجلس عند باب المسجد فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «تعال يا عبد الله بن مسعود. كذا في الكنز.
هدم القبة العالية لكراهيته عليه السلام لها
وأخرج أبو داود عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً(3/67)
ونحن معه، فرأى قبة مشرفة فقال: ما هذه؟ قال له أصحابه: هذه لفلان - رجل من الأنصار - قال: فسكت وحملها في نفسه، حتى إذا جاء صاحبها رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلِّم عليه فيا لناس فأعرض عنه، فعل ذلك مراراً حتى عرف الرجل الغضب فيه والإِعراض عنه، فشكا ذلك إلى أصحابه، فقال: والله إني لأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: خرج فرأى قبتك. قال: فرجع الرجل إلى قبته فهدمها حتى سواها بالأرض؛ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فلم يرها قال: «ما فعلت القبّة؟» قالوا: شكا إلينا صاحبها إعراضك عنه فأخبرناه فهدمها، فقال: «أما إنَّ كل بناء وبال على صاحبه إلا ما لا إلا ما لا» - يعني ما لا بد منه - وأخرجه ابن ماجه مختصراً وفي روايته: فمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد فلم يرها، فسأل عنها فأخبر أنه وضعها لما بلغه، فقال: «يرحمه الله، يرحمه الله» .
إحراق الريطة المضرجة لكراهيته عليه السلام لها
وأخرج الدولابي في الكُنى عن عمرو بن شُعَيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: انطلقت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عقبة أذاخر وعليَّ ريْطة مُضَرَّجة. فالتفت إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما هذا الثوب؟» فعرفت كراهيته، فأتيت رَحْلي وهم يسجُرون التنور فألقيتها فيه، ثم أتيته فقال: «ما فعلت الرَيْطة؟» فقلت: ألقيتها في التنور. قال: «أفلا أعطيتها بعض أهلك؟» .
قصة قطع خُرَيم جُمّتَهُ ورفعه أزاره
وأخرج أحمد والبخاري في التاريخ وابن عساكر عن سهل بن(3/68)
الحنظلية العَبْشَمي رضي الله عنه قال: قال لي العَبْشَمي رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم «نعم الرجل خريم الأسديّ لولا طول جُمَّته وإسبالُ إزاره» فبلغ ذلك خُرَيماً فأخذ شفرة فقطع جُمّته إلى أنصاف أذنيه، ورفع إزاره إلى أنصاف ساقيه.h كذا في الكنز.
نزول الكناني عن كرسي الذهب امتثالاً لأمره عليه السلام
وأخرج أبو نُعيم عن الكناني رسول عمر رضي الله عنهما إلى هرقل، وكان يقال له جثُّامة بن مُساحِق بن الربيع بن قيس الكناني. قال: جلست فلم أدرِ ما تحتي، فإذا تحتي كرسي من ذهب فلما رأيته نزلن عنه فضحك. فقال لي: لم نزلت عن هذا الذي أكرمناك به؟ فقلت: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا. كذا في الكنزل. وأخرجه ابن مَنْده نحوه كما في الإِصابة.
حديث رافع بن خَدِيج في الامتثال
وأخرج عبد الرزاق عن رافع بن خَدِيج رضي الله عنه قال: دخل عليَّ خالي يوماً فقال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم عن أمر كان لكم نافعاً، وطواعية الله ورسوله أنفع لنا وأنفع لكم - فذكر الحديث في كراء الأرض كما في كنز العمال.
قصة محمد بن أسلم في الامتثال
وأخرج الحسن بن سفيان وأبو نعيم في المعرفة عن عبد الله بن أبي بكر(3/69)
بن محمد بن عمرو بن حزم عن محمد بن أسلم بن بجرة أخي بلحارث بن الخزرج - رضي الله عنه - وكان يخاً كبيراً. قد حدَّث نفسُه قال: إنْ كان ليدخل المدينة فيقضي حاجته بالسوق ثم يرجع إلى أهله، فإذا وضع رداءه ذكر أنه لم يصلِّ في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: والله ما صلَّيت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، فإنه قد قال لنا: «من هبط منكم هذه القرية فلا يرجعنَّ إلى أهله حتى يركع في هذا المسجد ركعتين» . كذا في الكنز. وأخرج ابن مَنْده وقال: غريب؛ والطبراني إلا أنه سماه مسلم بن أسلم، كما في الإِصابة.
قصة فتاة أنصارية في الامتثال
وأخرج سعيد بن منصور وابن النجار عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: خطبت جارية من الأنصار فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: «رأيتها؟» فقلت: لا، قال: «فانظر إليها فإنه أحرَى أن يُؤدَم بينكما» . فأتيتها فذكرت ذلك لوالديها، فنظر أحدهما إلى صاحبه. فقمت فخرجت، فقالت الجارية: عليَّ الرجل، فوقفتْ ناحية خِدْرها، فقالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك أن تنظر إليَّ فانظر، وإلاّ فإني أحرِّج عليك أنت نظر. فنظرت إليها فتزوجتها فما تزوجت امرأة قط كانت أحب إليَّ منها ولا أكرم عليَّ منها، وقد تزوجت سبعين امرأة كذا في الكنز.(3/70)
امتثال أبي ذر لأمره عليه السلام في معاملة الخدم
وأخرج أبو داود عن المعرور بن سُوَيد قال: رأيت أبا ذر رضي الله عنه الرَّبَذة وعليه بُرْد غليظ وعلى غلامه مثله. قال: فقال القوم: يا أبا ذر، لو كنت أخذت الذي على غلامك فجعلته مع هذا فكانت حُلَّة وكسوت غلامك ثوباً غيره، قال: فقال أبو ذر: إني كنت ساببت رجلاً، وكانت أمه أعجمية فعيَّرته بأمه، فشكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أبا ذر، إنك امرؤ فيك جاهلية» فقال: «إنَّهم إخوانكم فضَّلكم الله عليهم، فمن لم يلائمكم فبيعوه ولا تعذِّبوا خلق الله» .
وأخرجه الشيخان والترمذي وعندهم: «هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمه ممايأكل، وليلبسه مما يلبَس، ولا يكلِّفه من العمل ما يغلبه؛ فإن كلَّفه ما يغلبه فلْيعنه عليه» . كذا في الترغيب. وأخرجه البيهقي عن المعرور نحوه، وابن سعد عن عَون بن عبد الله مختصراً.
التشديد على من خالف أمره صلى الله عليه وسلم ما وقع بين عمر وابن عوف في لبس الحرير
أخرج ابن سعد وابن منيع عن أبي سَلَمة بن عبد الرحمن قال: شكا(3/71)
عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كثرة القَمْل. وقال: يا رسول الله، تأذن لي أن ألبس قميصاً من حرير؟ قال: فأذن له. فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه، وقام عمر رضي الله عنه؛ أقبل بابنه أبي سلمة وعليه قميص من حرير. فقال عمر: ما هذا؟ ثم أدخل عمر يده في جعيْب القميص فشقَّه إلى سُفله، فقال له عبد الرحمن: أما علمتَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحلَّه لي؟ فقال: إنما أحلَّه لك لأنك شكوت إليه القَمْل، فأما لغيرك فلا.
وعند ابن عُيَيٌّة في جامعه ومسدَّد وابن جرير عن أبي سَلَمة قال: دخل عبد الرحمن بن عوف على عمر - رضي الله عنه - ومعه محمد ابنه وعليه قميص من حرير، فقام عمر فأخذ بجَيْبه فشقَّه، فقال عبد الرحمن: غفر اللهلك فقد أفزعت الصبي فأَطَرت قلبه قال: تكسوهم الحيرر؟ قال: فإني ألبس الحرير. قال: فإنهم مثلك؟ كذا في الكنز.
تمزيق قميص خالد بن الوليد وجبة خالد بن سعيد
وأخرج ابن عساكر عن ابن سيرين أن خالد بن الوليد رضي الله عنه دخل على عمر رضي الله عنه وعلى خالد قميص حرير، فقال له عمر: ما هذا يا خالد؟ قال: وما بله يا أمير المؤمنين؟ أليس قد لبسه ابن عوف؟ قال: فأنت مثل ابن عوف ولك مثل ما لابن عوف؟ عزمتُ على من في البيت إلاَّ أخذ كل واحد منه طائفة مما يليه، فمزّقوه حتى لم يبقَ منه شيء. كذا في كنزل العمال.
وقد تقدَّم في تقديم الصحابة أبا بكر رضي الله عنه في الخلافة حديث صخر، وفيه: وقد - أي خالد بن سعيد - بعد وفاته صلى الله عليه وسلم بشهر وعليه جبّة ديباج، فلقي عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما فصاح عمر بمن(3/72)
يليه: مزَّقوا عليه جبته؛ أيلبس الحرير وهو في رجالنا في السلم مهجور؟ فمزِّقوا جبته. أخرجه الطبري وسَيْف وابن عساكر.
قطع عمر ما على الثوب من أزرار الديباج
وأخرج ابن جرير عن عَبْد بن أبي لُبابة قال: بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرَّ في المسجد ورجل قائم يصلِّي عليه طيْلَسان مزرَّر بالديباج. فقام إلى جنبه فقال: طوِّل ما شئت فما أنا ببارح حتى تنصرف. فلما رأى ذلك الرجل انصرف إليه، قال: أرني ثوبك، فأخذه فقطع ما عليه من أزرار الديباج وقال: دونك ثوبك. كذا في الكنز.
مجاذبة علي قباء سعيد القارىء ليمزقه
وأخرج ابن عساكر عن سعيد بن سفيان القاري قال: توفي أخي وأوصى بمائة دينار في سبيل الله، فدخلت على عثمان بن عفان رضي الله عنه وعنده رجل قاعد وعليَّ قَباءٌ جيبه وفَرّوجُه مكفوف بحرير، فلما رآني ذلك الرجل أقبل يجاذبني قَبائي ليخرقه. فلما رأى ذلك عثمان قال: دَعِ الرجل، فتركني، ثم قال: قد عجَّلتم فسألت عثمان فقلت: يا أمير المؤمنين، توفي أخي وأوصى بمائة دينار في سبيل الله فما تأمرني؟ قال: هل سألت أحداً قبلي؟ قلت: لا، قال: لئن استفتيت أحداً قبلي فأفتاك غير الذي أفتيتك به ضربتُ عنقك. إنَّ الله أمرنا بالإِسلام فأسلمنا كلنا فنحن المسلمون، وأمرنا بالهجرة فهاجرنا فنحن المسلمون، وأمرنا بالهجرة فهاجرنا فنحن المهاجرون أهل المدينة، ثم أمرنا بالجهاد فجاهدتم فأنتم المجاهدون أهل الشام، أنفقها على نفسك وعلى أهلك وعلى ذي الحاجة ممن حولك، فإنه لو خرجتَ بدرهم ثم اشتريت به لحماً فأكلته أنت وأهلك كُتبت لك بسبع مائة درهم؛ فخرجت من عنده. فسألت عن الرجل الذي يجاذبني فقيل: هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأتيته في منزله فقلت: ما رأيت مني؟ فقال:(3/73)
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أوْشَك أن تستحل أمتي فروج النساء والحرير» ؛ وهذا أول حرير رأيته على أحد من المسلمين. فخرجت من عنده فبعته، كذا في الكنز.
قصة جلد عمر عامله قدامة خال حفصة
وأخرج عبد الرزاق عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أن عمر رضي الله عنه استعمل قُدامة بن مظعون رضي الله عنه على البحرين وهو خال حفصة وعبد الله بني عمر - رضي الله عنهم، فقدم الجارود - رضي الله عنه - سيد عبد القيس على عمر من البحرين فقال: يا أمير المؤمنين، إن قدامة شرب فسكر، وإني رأيت حدّاً من حدود الله حقاً عليَّ أن أرفعه إليك. قال: من يشهد معك؟ قال: أبو هريرة، فدعا أبا هريرة فقال: بم تشهد؟ قال: لم أره شرب ولكني رأيته سكران يقيء. فقال: لقد تنطَّعت في الشهادة
ثم كتب إلى قدامة أن يقدم عليه من البحرين، فقدم، فقال الجارود: أقم على هذا كتاب الله، فقال عمر: أخصم أنت أم شهيد؟ فقال: شهيد، فقال: قد أدَّيت شهادتك. قال: فصمت الجارود ثم غدا على عمر فقال: أقم على هذا حد الله، فقال عمر: ما أراك إلاَّ خصماً وما شهد معك إلاَّ رجل واحد، فقال الجارود: أنشدك الله، فقال عمر: لتمسكنَّ لسانك أو لأسوأنَّك، فقال: يا عمر، ما ذلك بالحق أن يشرب ابن عمك الخمر وتسوؤني؟ فقال أبو هريرة: يا أمير المؤمنين، إن كنت تشك في شهادتنا فأرسل إلى ابنه الوليد فاسألها وهي امرأة قُدامة. فأرسل عمر إلى هند بنت الوليد ينشدها، فأقامت الشهادة على زوجها. فقال عمر لقُدامة: إني حادُّك، فقال: لو شربت كما تقول ما كان لكم أن تحدُّوني، فقال عمر: لم؟ قال قدامة: قال الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ} (سورة المائدة، الآية: 93) - الآية. فقال عمر:(3/74)
أخطأت التأويل إنك إذا اتَّقيت الله اجتنبت ما حرم الله، ثم أقبل عمر على الناس فقال: ما ترون في جلد قُدامة؟ فقالوا: لا نرى أن تجلده ما دام مريضاً. فسكت على ذلك أياماً ثم أصبح وقد عزم على جلده، فقال: ما ترون في جلد قدامة؟ فقالوا: لا نرى أن تجلده ما دام وَجِعاً. فقال عمر: لأن يلقى الله تحت السيا أحب إليَّ من أن ألقاه وهو في عنقي، ائتوني بسوط تام، فأمر به فجُلد.
فغاضب عمر قُدامة، وهجره، فحج عمر وحج قُدامة وهو مغاضِب له. فلما قفلا من حجهما ونزل عمر بالسُّقْيا نام. فلما استيقظ من نومه قال: عجِّلوا بقدامة، فوالله لقد أتاني آتٍ في منامي فقال لي: سالِمْ قدامة فإنه أخوك، فعجِّلوا عليَّ به، فلما أتَوه أبى أن يأتي، فأمر به عمر أن يجروه إليه؛ فكلمه واستغفر له. وأخرجها أبو علي ابن السَّكَن. كذا في الإِصابة.
إنكار ابن مسعود على من ضحك في جنازة
وأخرج البيهقي عن يزيد بن عبيد الله عن بعض أصحابه قال: رأى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه رجلاً يضحك في جنازة فقال: أتضحك وأنت مع جنازة؟ والله لا أكلمك أبداً. كذا في الكنزل.
خوف الصحابة عندما صدر عنهم خلاف أمره صلى الله عليه وسلم خوف أبي حذيفة من كلمة قالها يوم بدر
أخرج ابن إسحاق عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لإصحابه يومئذٍ - يوم بدر -: «إني قد عرفت أن رجالاً من بني هاشم وغيرهم قد أُخْرِجوا كَرْهاً، لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحداً من بني هاشم(3/75)
فلا يقتله، ومن لقي أبا البَخْتري بن هاشم بن الحارث بن أسد فلا يقتله، ومن لقي العباس بن عبد المطلب عمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يقتله فإنه إنما خرج مُستكرَهاً» . فقال أبو حذيفة بن عُتبة بن ربيعة رضي الله عنه: أنقتل آباءن وأبناءنا وإخواننا ونترك العباس؟ والله لئن لقيته لأَلحمنَّه بالسيف، فبلغتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقل لعمر رضي الله عنه: «يا أبا حَفْص - قال عمر: والله إنَّه لأول يوم كَنَّاني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي حَفْص - أيُضرب وجه عم رسول الله بالسيف؟» فقال عمر: يا رسول الله دَعْني فَلأَضْرِب عنقه بالسيف، فوالله لقد نافق، فقال أبو حُذَيفة: ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلتُ يومئذٍ، ولا أزال منها خائفاً إلا أن تكفِّرها عني الشهادة، فقُتل يوم اليمامة شهيداً. كذا في البداية. وأخرجه ابن سعد والحاكم عن ابن عباس نحون. قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرِّجاه.
خوف أبي لبابة من خيانته النبي عليه السلام وقصة توبته
وأرج ابن إسحاق عن أبيه عن معبد بن كعب قال: حاصرهم - أي بني قُرَيظة - خسماً وعشرين ليلة حتى أجهدهم الحصار، وقذف (الله) في قلوبهم الرعب، فعرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد أن يؤمنوا، أو يقتلوا نساءهم وأبناءهم ويخرجوا مستقتلين، أو يبيِّتوا المسلمين ليلة السبت. فقالوا: لا نؤمن، ولا نستحل ليلة السبت، وأيّ عيش لنا بعد أبنائنا ونسائنا؟ فأرسلوا إلى أبي لُبابة بن عبد المنذر رضي الله عنه وكانوا حلفاءه، فاستشاروه في النزول على حُكْم النبي صلى الله عليه وسلم فأشار إلى حلقه - يعني الذبح -، ثم ندم فتوجه إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فارتبط به حتى تاب الله عليه. كذا في فتح الباري. وذكر في البداية(3/76)
عن موسى بن عُقْبة وفي سياقه: قالوا: يا أبا لُبابة ماذا ترى؟ وماذا تأمرنا؟ فإنَّه لا طاقة لنا بالقتال، فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه، وأمَرَّ عليه أصابعه يريهم إنما يُراد بهم القتل. فلما انصرف أبو لبابة سُقِط في يده ورأى أنه قد أصابته فتنة عظيمة، فقال: والله لا أنظر في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحدث الله توبة نصوحاً يعلمها الله من نفسي. فرجع إلى المدينة فربط يديه إلى جذع من جذوع المسجد. وزعموا أنه ارتبط قريباً من عشرين ليلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غاب عليه أبو لبابة: «أما فرغ أبو لببة من حلفائه» ، فذُكر له ما فعل. فقال: «لقد أصابته بعدي فتنة، ولو جاءني لاستغفرت له، وإذ قد فعل هذا فلن أُحركه من مكانه حتى يقضي الله فيه ما يشاء» . قال ابن كثير: وهكذا رواه ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة، وكذا ذكره محمد بن إسحاق في مغازيه.
تخوف ثابت بن قيس وتبشيره عليه السلام له
وأخرج البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بت قيس رضي الله عنه، فقال رجل: يا رسول الله أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده جالساً في بيته منكِّساً رأسه، فقال: ما شأنك؟ فقال: شرٌّ كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم فقد حبط عمله وهو من أهل النار. فأتى الرجل (النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال كذا وكذا. فقال موسى بن أنس: فرجع المرة الآخرة ببشارة عظيمة فقال: «اذهب إليه فقل له: إنك لست من أهل النار ولكنَّك من أهل الجنة» .
وعند الطبراني عن عطاء الخراساني عن ابنة ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنهما قالت: سمعت أبي يقول: لما أُنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم {إِنَّ(3/77)
اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (سورة لقمان، الآية: 18) اشتدَّ على ثابت، وأغلق ببه عليه وطفق يبكي. فأَخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه فسأله فأخبره بما كَبُر عليه منها، وقال: أنا رجل أحب الجمال وأن أسود قومي، فقال: «إنك لست منهم، بل تعيش بخير، وتموت بخير، ويدخلك الله الجنة» . قال: فلما أنزل الله على رسوله: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىّ} {وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ} (سورة الحجرات، الآية: 2) فعل مثل ذلك. فأُخبر النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه، فأخبره بما كبر عليه وأنه جهير الصوت، وأنه يتخوف أن يكون ممن حبط عمله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «بل تعيش حميداً، وتُقتل شهيداً، ويدخلك الله الجنة» فذكر الحديث. قال الهيثمي: وبنت ثابت بن قيس لم أعرفها، وبقية رجاله رجال الصحيح. والظاهر أنَّ بنت ثابت بن قيس صحابية، فإنها قالت: سمعت أبي. انتهى. وأخرجه الحاكم عن عطاء عن ابنة ثابت بن قيس نحوه مختصراً.
وعن محمد بن ثابت الأنصاري أن ثابت بن قيس رضي الله عنه قال: يا رسول الله، لقد خشيت أن أكون قد هلكت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ولم؟» قال: نهانا الله أن نحب أن نُحمد بما لم نفعل وأجدني أحب الحمد، ونهانا عن الخُيَلاء وأجدني أحب الجمال، ونهانا أن نرفع أصواتنا فوق صوتك وأنا جهير الصوت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا ثابت، ألا ترضى أن تعيش حميداً، وتُتقل شهيداً، وتدخل الجنة؟» قال: بلى با رسول الله، قال: فعاش حميداً، وقُتل شهيداً يوم مُسيلمة الكذاب. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخثين ولم يخرِّجاه بهذه السياقة ووافقه الذهبي.(3/78)
اتباع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم
صلاة الناس بصلاته عليه السلام
أخرج الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصير، وكان يَحْجُره بالليل فيصلي عليه، ويبسطه بالنهار فيجلس عليه. فجعل الناس يثوبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيصلُّون بصلاته حتى كثروا، فأقبل عليهم فقال: «يا أيها الناس خُذوا من الأعمال ما تُطيقون، فإن الله لا يملُّ حتى تملوا، وإن أحبَّ الأعمال إلى الله ما دام وإن قلّ» . وفي رواية: وكان آل محمد إذا عملوا عملاً أثبتوه. كذا في الترغيب.
قصة طرح الناس خواتيمهم لطرحه عليه السلام خاتمه
وأخرج أبو داود عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه رأى في يد النبي صلى الله عليه وسلم خاتماً من وَرِق يوماً واحداً، فصنع الناس فلبسوا، وطرح النبي صلى الله عليه وسلم فطرح الناس. وأخرجه البخاري بنحوه، وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس خاتماً من ذهب فنبذه وقال: «لا ألبسه أبداً» فنبذ الناس خواتيمهم. كذا في البداية.(3/79)
اتباع عثمان له عليه السلام في الإِسبال والطواف
وأخرج ابن أبي شَيْبة عن إياس بن سَلَمة عن أبيه قال: بَعَثتْ قريش خارجة بن كُرْز يطَّلع لهم طليعة، فرجع حامداً يحسن الثناء، فقالوا: إنك أعرابي، فعققوا لك السلاح فطار فؤادك، فما دَرَيت ما قيل لك وما قلت. ثم أرسلوا عروة بن مسعود - رضي الله عنه - فجاء فقال: يا محمد ما هذا الحديث؟ تدعو إلى ذات الله، ثم جئت قومك بأوباش الناس من تَعْرف ومن لا تَعْرف لتقطع أرحامهم، وتستحلَّ حرمهم ودماءهم وأموالهم؟ فقال: «إني لم آتِ قومي إلا لأصِل أرحامهم، يبدلهم الله بدين خير من دينهم، ومعاش خير من معاشهم» . فرجع حامداً يحسن الثناء.
قال سَلَمة: فاشتد البلاء على من كان في يد المشركين من المسلمين، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه فقال: «يا عمر هل أنت مُبَلِّغ عني إخوانكم من أسارى المسلمين؟» قال: لا، يا رسول الله، والله مالي بمكة من عشيرة، غيري أكثر عشيرة مني. فدعا عثمان رضي الله عنه فأرسله إليهم، فخرج عثمان على راحلته حتى جاء عسكر المشركين، فعبثوا به وأساؤوا له القول، ثم أجاره أبان بن سعيد بن العاص ابن عمه وحمله على السرج ورَدِفه. فلما قدم قال: يا ابن عم مالي أراك متخشِّعاً؟ أسبلْ - وكان إزاره إلى نصف ساقيه -، فقال له عثمان: هكذا إزْرة صاحبنا. فلم يدع بمكة أحداً من أسارى المسلمين إلا بلَّغهم ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال سَلَمة: فبينا نحن قائِلون نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أيها الناس، البيعةَ البيعةَ، نزل روح القدس، فسرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت شجرة سَمُرة، فبايعناه. وذلك قول الله: {لقد رضي الله عنه المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} (سورة الفتح، الآية: 18) قال: فبايع لعثمان إحدى يديه على الأخرى، فقال الناس:(3/80)
هنيئاً لأبي عبد الله يطوف بالبيت ونحن ها هنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو مكث كذا وكذا سنة ما طاف حتى أطوف» . كذا في الكنز. وأخرج الرُوياني وأبو يَعْلى وابن عساكر عن إياس بن سَلَمة عن أبيه مختصراً، كما في الكنز. وأخرجه ابن سعد عن إياس بن سَلَمة عن أبيه مختصراً. وفي روايته: فقال: يا ابن عم، أراك متخشِّعاً أسبِلْ إزارك كما يسبل قومك، قال: هكذا يأتزر صاحبنا إلى أنصاف ساقيه. قال: يا ابن عمر طُفْ بالبيت، قال: إنا لا نصنع شيئاً حتى يصنع صاحبنا ونتبعَ أثرَه.
ما وقع بين أبي بكر وعمر وزيد في جمع القرآن
وأخرج الطيالسي وابن سعد وأحمد والبخاري والترمذي والنِّسائي وابن حِبَّان وغيرهم عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أرسل إليَّ أبو بكر رضي الله عنه مقتلَ أهل اليمامة وإن عنده عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: إنَّ هذا أتاني فأخبرني أنَّ القتل قد استحرَّ بقرَّاءِ القرآن في هذا الموطن - يعني يوم اليمامة -، وإنِّي أخاف أن يستحرَّ القتل بقرَّاء القرآن في سائر المواطن فيذهب القرآن، وقد رأيت أن تجمعه. فقلت له - يعني لعمر -: كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي عمر: هو - والله -(3/81)
خير، فلم يزل بي عمر حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدره، ورأيت فيه مثل الذي رأى عمر. قال زيد: وعمر عنده جالس لا يتكلم. فقال أبو بكر: إنك شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأجمعه. قال زيد: فوالله لئن كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان بأثقل عليَّ مما أمرني به من جمع القرآن، فقلت: كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر، ورأيت فيه الذي رأيا، فتتبَّعت القرآن أجعمه من الرِّقاع واللِّخَاف والأكتاف والعُسُب وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة براءة مع خُزيمة بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه فلم أجدها مع أحد غيره: {لَقَدْ جَآءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ} (سورة التوبة، الآية: 128) حتى خاتِمةِ براءة.B فكانت الصحف التي جُمع فيها القرآن عند أبي بكر حياته حتى توفَّاه الله، ثم عند عمر حياته حتى توفَّاه، ثم عند حَفْصة بنت عمر رضي الله عنهم. كذا في كنز العمال.
توجيه أبي بكر جيش أسامة
وقد تقدَّم قول أبي بكر رضي الله عنه: والذي نفسي بيده، لأن أقعَ من السماء أحب إليَّ من أن أترك شيئاً قتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاَّ أُقاتل عليه، فقاتل العرب حتى رجعوا إلى الإِسلام. رواه العدني عن عمر رضي الله عنه. وعند الشيخين وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه - فذكر الحديث وفيه:(3/82)
قال أبو بكر: والله لأقاتلنَّ من فرَّق بين الصلاة والزكاة فإنَّ الزكاة حق المال. والله لو منعوني عِقالاً كانوا يؤدّونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه. وتقدم قول أبي بكر: والذي لا إله غيره لو جرِّت الكلاب بأرجل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ما رددتُ جيشاً وجهه رسول الله، ولا حللت لواءً عقده رسول الله؛ فوجه أسامة رضي الله عنه. أخرجه البيهقي عن أبي هريرة. وعند سَيْف عن عُروة قال أبو بكر رضي الله عنه: والذي نفس أبي بكر بيده لو ظننتُ أنَّ السباع تخطفني لأنفذتُ بَعْثَ أسامة كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو لم يبقَ في القرى غيري لأنفذته.
وعند ابن عساكر عن عروة قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا أحبس جيشاً بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد اجترأت على أمر عظيم فوالذي نفسي بيده لأن تميل عليَّ العرب أحب إليَّ من أن أحبس جيشاً بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم امضِ يا أُسامة في جيشك للوجه الذي أُمرت به، ثم اغزُ حيث أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم من ناحية فلسطين وعلى أهل مؤتة، فإن الله سيكفي ما تركت. وعند سَيْف عن الحسن أن أبا بكر رضي الله عنه أخذ بلية عمر وقال: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب أُؤمِّر غير أمير رسول الله؟. وقد تقدمت تلك الروايات مطوَّلة.
ما وقع بين عمر وابنته حفصة في أمر اللباس والطعام
وأخرج أبو نُعَيم في الحِلْية عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قالت حفصة بنت عمر لعمر رضي الله عنهما: يا أمير المؤمنين لو لبست ثوباً هو ألين من ثوبك، وأكلت طعاماً هو أطيب من طعامك، فقد وسَّع الله عز وجل من الرزق وأكثر من الخير فقال: إن سأخصمك إلى نفسك، أما(3/83)
تذكرين ما كان يلقَى رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدّة العيش، فما زال يذكِّرها حتى أبكاها، فقال لها: والله إن قلتِ ذلك أما والله لئن استطعت لأشاركنَّهما بمثل عيشهما الشديد، لعلي أدرك معهما عيشهما الرخّي. وأخرجه ابن سعد عن مصعب بن سعد بنحوه. وقد تقدَّمت الروايات المطوَّلة والمجملة في ذلك في زهد عمر رضي الله عنه.
قصة عمر حينما أتى بقميص جديد
وأخرج هنَّاد عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أصحابه إذا بقميص كرابيس، فلبسه فما جاوز تراقيه، حتى قال: الحمد الله الذي كساني ما أواري به عورتي، وأتجمَّل به في حياتي. ثم أقبل على القوم فقال: هل تدرون لم قلتُ هؤلاء الكلمات؟ قالوا: لا، إلا أن تخبرنا، قال: فإنِّي شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وأُتيَ بثياب له جدد فلبسها، ثم قال: «الحمد لله الذي كساني ما أمواي به عورتي وأتجمَّل به في حياتي» ثم قال: «والذي بعثني بالحق ما من عبد مسلم كساه الله ثياباً جدداً، فعمد إلى سَمَل من أخلاق ثيابه، فكساه عبداً مسلماً مسكيناً، لا يكسوه، إلا لله، كان في حِرز الله وفي جوار الله وفي ضمان الله ما كان عليه منها سِلْك حياً وميتاً» . قال: ثم مدَّ قميصه فأبصر فيه فضلاً عن أصابعه فقال لعبد الله: أي بني هاتِ الشفرة، فقام فجاء بها فمدَّ كُمَّ قميصه على يده فنظر ما فَضَل(3/84)
عن أصابعه فقدَّه. قلنا يا أمير المؤمنين، ألا نأتي بخيّاط فكيفّ هذه؟؟ قال: لا، قال أبو أمامة: ولقد رأيت عمر بعد ذلك وإن هُدْب ذلك القميص منتشرة على أصابعه ما يكفُّه. كذا في الكنز.
وعند أبي نعيم في الحلية عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لبس عمر قميصاً جديداً، ثم دعاني بشفرة فقال: مدّ يا بني كُمَّ قميصي والزق يديك بأطراف أصابعي ثم اقطع ما فَضَل عنها، فقطعت من الكمين من جانبيه جميعاً، فصار فم الكم بعضه فوق بعض. فقلت له: يا أبته لو سويته بالمقص، فقال: دعه يا بني، هذكا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل فما زال عليه حتى تقَطَّع، وكان ربما رأيت الخيوط تَسَاقط على قدمه.
أقوال الصحابة رضي الله عنهم في استلام الحجر والركنين الغربيين
وأخرج البخاري عن أسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للركن: أمَا والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استلمك ما استلمتك، فاستلمه ثم قال: ومالنا والرَمَل إنما كنا راءينا به المشركين ولقد أهلكهم الله، ثم قال: شيء صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نحب أن نتركه. كذا في البداية.
وأخرج ابن أبي شَيْبة والدارَقُطْني في العلل عن عيسى بن طلحة عن(3/85)
رجل رأى النبي صلى الله عليه وسلم وقف عند الحَجَر فقال: «إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع» ثم قبَّله. ثم حج أبو بكر رضي الله عنه فوقف عند الحجر ثم قال: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك.. كذا في كنز العمال.
وأخرج أحمد عن يَعْلى بن أمية رضي الله عنه فاستلمنا الركن، قال يعلى: فكنت مما يلي البيت. فلما بلغنا الركن الغربي الذي يلي الأسود جررت بيده ليستلم قال: ما شأنك؟ قلت: ألا تستلم؟ فقال: أَلَمْ تَطُف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: بلى، قال: أرأيته يستلم هذين الركنين الغربيين؟ قلت: لا، قال: أفليس لك فيه أسوة حسنة؟ قلت: بلى، قال: فانفذُ عنك.
ما وقع بين ابن عباس وبين أعرابي في نبيذ السقاية
وأخرج أحمد عن بكر بن عبد الله أن أعرابياً قال لابن عباس رضي الله عنهما: ما شأن آل معاوية يسقون الماء والعسل، وآل فلان يسقون اللبن، وأنتم تسقون النبيذ؟ أمن بخل بكم أم حاجة، فقال ابن عباس: ما بنا بخل ولا حاجة ولكنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءنا ورديفه أسامة بن زيد، فاستسقى فسقيناه من هذا - يعني نبيذ السِّقاية - فشرب منه وقال: «أحسنتم هكذا فاصنعوا» .
وعند ابن سعد عن جعفر بن تمَّام قال: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: أرأيت ما تسقون الناس من نبيذ هذا الزبيب؟ أَسُنة(3/86)
تتبعونها أم تجدون هذا أهون عليكم من اللبن والعسل؟ فقال ابن عباس: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى العباس وهو يسقي الناس فقال: «اسقني» فدعا العباس بعِساس من نبيذ فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم عُسَّاً منها فشرب، ثم قال: «أحسنتم هكذا انصعوا» قال ابن عباس: فما يسرني أن سقايتها جرت عليَّ لبناً وعسلاً مكان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «أحسنتم هكذا افعلوا» .
قصص ابن عمر في تبعه آثاره عليه السلام
وأخرج أحمد عن ابن سيرين قال: كنت مع ابن عمر رضي الله عنهما بعرفات، فلما كان حين راح رحت معه حتى أتى الإمام فصلَّى معه الأولى والعصر، ثم وقف وأنا وأصحاب لي حتى أفاض الإِمام فأفضنا معه حتى انتهى إلى المضيق دون المأزمين، فأناخ وأنخنا ونحن نحسب أنه يريد أن يصلي. فقال غلامه الذي يمسك راحلته: إنه ليس يريد الصلاة، ولكنه ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى هذا المكان قضى حاجته فهو يحب أن يقضي حاجته. قال في الترغيب: رواه أحمد، ورواته محتج بهم في الصحيح.
وأخرج البزّار بإسند لا بأس به عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يأتي شجرة بين مكة والمدينة فيقيل تحتها، ويخبر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك. كذا في الترغيب. وقال الهيثمي: ورجاله موثَّقون.(3/87)
وأخرج ابن عساكر عن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يتَّبع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مكان صلى فيه، حتى إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نزل تحت شجرة، فكان ابن عمر يتعاهد تلك الشجرة فيصب في أصلها الماء لكيلا تيبس. كذا في كنز العمال.
وأخرج أحمد والبزّار بإسناد جيد عن مجاهد قال: كنا مع ابن عمر رضي الله عنهما في سفر، فمر بمكان فحاد عنه، فسأل لم فعلت ذلك؟ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هذا ففعلت. كذا في الترغيب. وعند أبي نعيم في الحلية عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان في طريق مكة يقول برأس راحلته، يثنيها ويقول: لعلَّ خفَّاً يقع على خف - يعني خف راحلة النبي صلى الله عليه وسلم ـ. وعند أبي نُعيم أيضاً عن نافع قال: لو نظرتَ إلى ابن عمر رضي الله عنهما إذا اتبع أثر النبي صلى الله عليه وسلم لقلت: هذا مجنون وأخرجه الحاكم عن نافع نحوه. وعند ابن سعد عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما كان أحد يتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم في منازله كما كان يتبعه ابن عمر. وعند أبي نُعيم عن عاصم الأحول عمَّن حدثه قال: كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا رآه أحد ظنَّ أن به شيئاً من تتبُّعه آثار النبي صلى الله عليه وسلم وعن أسلم(3/88)
قال: ما ناقة أضلَّت فَصِيلها في فلاة من الأرض بأطلبَ لأثره من ابن عمر لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
وأخرج عبد الرزاق عن عبد الرحمن بن أمية بن عبد الله أنه قال لابن عمر رضي الله عنهما: نجد صلاة الخوف وصلاة الحضر في القرآن ولا نجد صلاة المسافر؟ فقال ابن عمر: بعث الله نبيه ونحن أجفَى الناس، فنصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند ابن جرير عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسِيد أنه قال لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: إنا نجد في كتاب الله عز وجل قَصْر صلاة الخوف ولا نجد قصر صلاة السفر؟ فقال عبد الله؛ إنا وجدن نبينا صلى الله عليه وسلم يعمل عملاً عملنا به.
وعنده أيضاً عن وارد بن أبي عاصم أنه لقي ابن عمر رضي الله عنهما بمنى فسأله عن الصلاة في السفر فقال: ركعتين، فقال: كيف ترى ونحن ها هنا بمنى؟ فأخذته عند ذلك ضَجْرة فقال: ويحك هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: نعم وآمنت به قال: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج صلَّى ركعتين، فصلِّ إن شئت أو دَعْ.
وعنده أيضاً عن أبي مُنيب الجُرَشي قال: قيل لابن عمر رضي الله عنهما قول الله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الاْرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} (سورة النساء، الآية: 101) - الآية، فنحن آمنون لا نخاف فنقصُر الصلاة؟ فقال: لقد كان لكم في رسول الله أسوة(3/89)
حسنة. كذا في الكنز.
وأخرج ابن خُزعيمة في صحيحة والبَيْهقي عن زيد بن أسلمَ قال: رأيت ابن عمر رضي الله عنهما يصلِّي محلولة أزراره، فسألته عن ذلك، فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله. كذا في الترغيب.
إطلاق معاوية بن قرة أَزراره اتباعاً له عليه السلام
وأخرج ابن ماجه وابن حِبَّان في صحيحه - واللفظ له - عن عروة بن عبد الله بن قُشَير قال: حدثني معاوية بن قُرَّة عن أبيه رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في رَهْط من مُزَينة فبايعناه وإنه لمُطْلَق الأزرار، فأدخلت يدي في جَيْبِ قميصه فمسِسْت الخاتَم. قال عروة: فما رأيت معاوية ولا ابنه (قط) في شتاء ولا صيف إلا مُطْلَقي الأزرار. وعند ابن ماجه: إلا مطلقَةً أزرارهما. كذا في الترغيب. وأخرجه أيضاً البغَوي وابن السكَن كما في الابصابة. وأخرجه ابن سعد نحوه.
رعاية النسبة التي كانت لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بأصحابه وأهل بيته وعشيرته وأمته(3/90)
اختصام رهط من الصحابة في النبي عليه السلام وتصديقه لهم
أخرج الطبراني عن كعب بن عُجْرة رضي الله عنه قال: جلسنا يوماً أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد في رَهْط منا معشر الأنصار، ورَهْط من المهاجرين، ورَهْط نم بين هاشم؛ فاختصمنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أينا أولَى به وأحبُّ إليه؟ قلنا: نحن معشر الأنصار، آمنا به واتَّبعناه، وقاتلنا معه، وكتيبته في نَحْر عدوه، فنحن أولى برسول الله صلى الله عليه وسلم أين أولَى به وأحبُّ إليه؟ قلنا: نحن معشر الأنصار، آمنا به واتَّبعناه، وقاتلنا معه، وكتيبته في نَحْر عدوه، فنحن أولى برسول الله صلى الله عليه وسلم وأحبهم إليه. وقال إخواننا المهاجرون: نحن الذين هاجرنا مع الله ورسوله وفارقنا العشائر والأهلين والأموال، وقد حضرنا ما حضرتم وشهدنا ما شهدتم، فنحن أولى بررسول الله صلى الله عليه وسلم وأحبهم إليه. وقال إخواننا من بني هاشم: نحن عشيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحضرنا الذي حضرتم، وشهدنا الذي شهدتم، فنحن أولى برسول الله صلى الله عليه وسلم وأحبهم إليه. فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل علينا فقال: «إنكم لتقولُون شيئاً» . فقلنا مثل مقالتنا، فقال للأنصار: «صدقتم من يردُّ هذا عليكم» وأخبرنه بما قال إخواننا المهاجرون، فقال: «صدقوا من يردُّ هذا عليهم» وأخبرناه بما قال بنو هاشم، فقال: «صدقوا من يرد هذا عليهم» ثم قال: «ألا أقضي بينكم؟» قلنا: بلى - بأبينا أنت وأمنا يا رسول الله - قال: «أمّا أنتم - يا معشر الأنصار - فإنما أن أخوكم» فقالوا: الله أكبر، ذهبنا به ورب الكعبة «وأما أنتم - يا معشر المهاجرين - فإنما أنا منكم» فقالوا: الله كبر، ذهبنا به ورب الكعبة «وأما أنتم - بنو هاشم - فأنتم مني وإليَّ» فقمنا، وكلنا راضٍ مغتبط برسول الله صلى الله عليه وسلم قال الهيثمي: رواه الطبراني، وفيه أبو مسكين الأنصاري ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات وفي بعضهم خلاف. انتهى.(3/91)
منعه عليه السلام خالداً من إيذاء أهل بدر ومنعه الناس من إيذاء خالد
وأخرج الطبراني عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: شكا عبد الرحمن بن عوف خالد بن الوليد - رضي الله عنهما - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم «يا خالد لا تؤذِ رجلاً من أهل بدر، فلو أنفقتَ مثل أُحُدٍ ذهباً لم تدرك عمله» ، فقال: يقعون فيَّ فأرد عليهم. فقال: «لا تؤذوا خالداً فإنَّه سيف من سيوف الله صبّه الله على الكفار» . قال الهيثمي: رواه الطبراني في الصغير والكبير باختصار والبزّار بنحون، ورجال الطبراني ثقات. انتهى. وأخرجه أيضاً ابن عساكر وأبو يَعْلى كما في الكنزل، وابن عبد البرِّ في الاستيعاب عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه مثله.
وعند ابن عساكر عن الحسن قال: كان بين عبد الرحنم بن عوف وبين خالد بن الوليد - رضي الله عنهما - كلام، فقال خالد: لا تفخر عليَّ يا ابن عوف بأن سبقتني بيوم أو يومين، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «دَعُوا لي أصحاب، فوالذي نفسي بيده. لو أنفق أحدكم مثل أُحدٍ ذهباً ما أدرك نَصِيفهم» . قال: فكان بعد ذلك بين عبد الرحمن والزبير شيء. فقال خالد: يا نبي الله نهيتني عن عبد الرحمن وهذا الزبير يسابُّه؛ فقال: «إنهم أهل بدر وبعضهم أحقُّ ببعض» . كذا في الكنز. وأخرجه أحمد عن أنس رضي الله عنه بنحوه مختصراً. قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح. انتهى. وعند(3/92)
البزّار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنهما - بعض ما يكون بين الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «دعُوا لي أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أُحدٍ ذهباً لم يبلغ مدَّ أحدهم ولا نَصِيفه» . قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير عاصم بن أبي النُّجُود وقد وُثِّق. انتهى.
قوله عليه السلام: إن الله اختار أصحابي على العالمين
وأخرج البزّار عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله اختار أصحابي على العالمين سوى النبيين والمرسلين، واختار لي من أصحابي أربعة: أبا بكرو عمر وعثمان وعلياً - رحمهم الله -، فجعلهم أصحاب، - وقال: في أصحابي كلِّهم خيرٌ -، واختار أمتي على الأمم، واختار من أمتي أربعة قرون: القرن الأول والثاني والثالث والرابع» . قال الهيثمي: ورجاله ثقت وفي بعضهم خلاف.
وصيته عليه السلام بالمهاجرين والأنصار
وأخرج الطبراني عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: لما حضرت النبي صلى الله عليه وسلم الوفاة قالوا: يا رسول الله أوصِنا. قال: «أوصيكم بالسابقين الأولين من المهاجرين وبأبنائهم من بعدهم؛ إلا تفعلوه لا يُقبل منكم صَرْف ولا عَدْل» . قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط والبزّار إلاَّ أنَّه قال:(3/93)
«أوصيكم بالسابقين الأوَّلين وبأبنائهم من بعدهم، وبأبنائهم من بعدهم» ، ورجاله ثقات. وأخرج الطبراني عن زيد بن سعد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نُعِيَت إليه نفسه خرج متلفعاً في أخْلاق ثياب عليه حتى جلس على المنبر، فسمع الناس به وأهل السوق فحضروا المسجد، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «يا أيها الناس، احفظوني في هذا الحي من الأنصار؛ فإنهم كَرِشي الذي آكل فيها، وعيبتي، اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم» . قال الهيثمي: وزيد بن سعد بن زيد الأشهلي لم أعرفه وبقية رجاله ثقت - انتهى.
منعه عليه من سبّ أصحابه
وأخرج البزّار عن أنس رضي الله عنه قال: ذُكر مالك بن الدُّخْشُن رضي الله عنه عتد النبي صلى الله عليه وسلم فوقعوا فيه - يقال له رأس المنافقين -. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «دعُوا أصحاب، لا تسبُّوا أصحابي» قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. اهـ. وعند الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من سبَّ أصحابي لعنه الله والملائكة والناس أجمعون» . قال الهيثمي: وفيه عبد الله ابن خِراش وهو ضعيف.(3/94)
وعند الطبراني عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تسبُّوا أصحاب، لعن الله من سبَّ أصحابي» قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير علي بن سَهْل وهو ثقة.
وأخرج الطبراني عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه قال: «تأمروني بسبِّ أصحابي؟ بل صلَّى اللهعليهم وغفر لهم» قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح - انتهى.
تحذير ابن عباس من ذكر الصحابة بسوء
وأخرج الطبراني عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: أوصني، فقال: أوصيك بتقوى الله، وإياك وذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنك لا تدي ما سبق لهم. قال الهيثمي: وفيه عمر بن عبد الله الثقفي وهو ضعيف. انتهى.
وصيته عليه السلام بأهل بيته
وأخرج الطبراني في الأوسط عن انب عمر رضي الله عنهما قال: آخر ما تكلَّم به رسول الله صلى الله عليه وسلم «اخلُفوني في أهل بيتي» قال الهيثمي: وفيه عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف. انتهى.
وأخرج أبو يعلى عن أم سَلَمة رضي الله عنها قالت: جاءت فاطمة رضي الله عنه بنت النبي صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم متورِّكة الحسن والحسين(3/95)
رضي الله عنهما، في يدها بُرْمة للحسن فيها سَخين حتى أتت بها النبي صلى الله عليه وسلم فلما وضعتها قدّامه قال: «أين أبو حسن؟» قالت: في البيت؛ فدعاه. فجلس النبي صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين يأكلون. قالت أم سَلَمة: وما سامني النبي صلى الله عليه وسلم وما آكل طعاماً وأنا عنده إلا سامنيه قبل ذلك اليوم - تعني سامني دعاني إليه -. فلما فرغ التف عليهم بثوبه ثم قال: «اللهمِّ عادِ من عاداهم، ووالِ من والاهم» . قال الهيثمي: وإسناده جيد.
وأخرج الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا بني عبد المطلب، إنِّي سألت الله لكم ثلاثاً: أن يثبِّت قائمكم، ويعلم جاهلكم، ويهدي ضالَّكم، وسألته أن يجعلكم جُوَداء رُحَماء. فلو أن رجلاً صَفَن بين الركن والمقام وصلَّى وصام، ثم مات وهو مبغض لآل بيت محمد صلى الله عليه وسلم دخل النار» . قال الهيثمي: رواه الطبراني عن شيخه محمد بن زكريا الغلابي وهو ضعيف. وذكره ابن حِبَّان في الثِّقات وقال: يُعتبر حديثُه إذا روى عن الثقات فإن في روايته عن المجاهيل بعض المناكير. قلت: روى هذا عن سفيان الثوري وبقية رجاله رجال الصحيح - انتهى.
وأخرج الطبراني في الأوسط عن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من صنع إلى أحد من ولد عبد المطلب يَداً فلم يكافئه بها في الدنيا، فعليَّ مكافأته غداً إذا لقيني» . قال الهيثمي: وفي عبد الرحمن بن أبي الزِّناد(3/96)
وهو ضعيف. انتهى.
فرح عمر باتصاله بنسب النبي عليه السلام
وأخرج الطبراني عن جابر رضي الله عنه أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول للناس حين تزوج بينت علي رضي الله عنه: ألا تهنئوني؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ينقطع يوم القيامة كل سبب ونسب إلاَّ سببي ونسبي» . قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط والكبير باختصار، ورجالهما رجال الصحيح غير الحسن بن سهل وهو ثقة.
فضل قريش
وأخرج أحمد عن محمد بن إبراهيم التَيْمي أن قتادة بن النعمان الظَفَري رضي الله عنه وقع بقريش فكأنه نال منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا قتادة، لا تسبنَّ قريشاً، فإنك لعلك أن ترى منهم رجالاً يُزدري عملُك من أعمالهم وفعلُك مع أفعاله، وتغبطهم إذا رأيتهم؛ لولا أن تطغَى قريش لأخبرتهم بالذي لهم عند الله» . قال الهيثمي: رواه أحمد مرسلاً ومسنداً، وأحال لفظ المسند على المرسل، والبزّار كذلك، والطبراني مُسنداً، ورجال البزّار في المسند رجال الصحيح، ورجال أحمد في المسند والمرسل رجال الصحيح غير جعفر بن عبد الله بن أسلم في مسند أحمد وهو ثقة، وفي بعض رجال الطبراني خلاف اهـ.(3/97)
وأخرج الطبراني عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما أعلم: «قدِّموا قريشاً ولا تَقَدَّموها، ولولا أن تبطَر قريش لأخبرتها بما لها عند الله عز وجل» . قال الهيثمي: وفيه أبو مَعْشر وحديثه حسن. وعند أحمد عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فقال: «لولا أن تبطَر قريش لأخبرتها بما لها عند الله» . ورجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمي.
وأخرج الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اطلبوا - أو قال التمسوا - الأمانة من قريش؛ فإن الأمين من قريش له فَضْل على أمين مَنْ سواهم، وإن قويَّ قريش له فضلان على قويِّ مَنْ سواهم» . قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط وأبو يَعْلى وإسناده حسن. اهـ.
وأخرج البزّار عن رِفاعة بن رافع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه: «اجمع لي قومك» فجمعهم عمر عند بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دخل عليه فقال: يا رسول الله أُدخلهم عليك أن تخرج إليهم؟ قال: «بل أخرج إليهم» . قال: فأتاهم فقال: «هل فيكم أحد من غيركم؟» قالوا: نعم، فينا حلفاؤنا، وفينا بنو أخواتنا، وفينا موالينا. فقال: «حلفاؤنا منا، وبنو أخواتنا منا، وموالينا منا، وأنتم ألا تسمعون؟ إنْ أولياؤه إلا المتقون، فإن كنتم أولئك فذاك؛ وإلا فانظروا. لا يأتي الناس بالأعمال يوم القيامة وتأتون بالأثقال فنُعرض(3/98)
عنكم» ، ثم رفع يديه فقال: «يا أيها الناس إن قريشاً أهل أمانة، فمن بغاهم العواثر أكبه الله بمنخِريه» قالها ثلاثاً. قال الهيثمي: رواه البزار واللفظ له، وأحمد باختصار وقال: «كبَّه الله في النار لوجهه» ، والطراني بنحو البزّار، ورجال أحمد والبزار وإسناد الطبراني ثقات. انتهى.
بغض بني هاشم والأنصار والعرب
وأخرج الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بُغْض بني هاشم والأنصار كُفْر، وبغض العرب نفاق» . قال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله ثقات. انتهى.
قريش أسرع الناس لحاقاً به عليه السلام
وأخرج أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «يا عائشة قومك أسرع أمتي بي لحاقاً» . قالت: فلما جلس قلت: يا رسول الله - جعلني الله فداك - لقد دخلت وأنت تقول كلاماً ذَعَرني. قال: «وما هو؟» قلت: تزعم أن قومي أسرع (أمتك» بك لحاقاً قال: «نعم» ، قلت: ومم ذاك؟ قال: «تستخلبهم المنايا، وتنفَس عليهم أمتهم» . قالت: فقلت:(3/99)
كيف الناس بعد ذلك أو عند ذلك؟ قال: «دَبَىً يأكل أشدّاؤه ضِعافَه حتى تقوم عليهم الساعة» . قال: والدَّبَى: الجنادب التي لم تنبت أجنحتها.
وفي رواية: «يا عائشة أول من يهلك من الناس قومك» . قال: قلت: جعلني الله فداك، أمن سُم؟ قال: لا، ولكن هذا الحي من قريش تستخلبهم المنايا، وتنفَس الناس عنهم، أول الناس هلاكاً. قلت: فما بقاء الناس بعدهم؟ قال: «هم صُلْب الناس إذا هلكوا هلك الناس» . قال الهيثمي: رواه أحمد والبزّار ببعضه، والطبراني في الأوسط ببعضه أيضاً، وإسناد الرواية الأولى عند أحمد رجال الصحيح، وفي بقية الروايات مقال اهـ.
بشارة النبي عليه السلام للذين يأتون من بعده
وأخرج أبو يَعْلى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم جالساً فقال: «أنبئوني بأفضل أهل الإِيمان إيماناً؟» قالوا: يا رسول الله الملائكة، قال: «هم كذلك يحق لهم ذلك، وما يمنعهم من ذلك وقد أنزلهم الله بها؟» قالوا: يا رسول الله الشهداء الذين استشهدوا مع الأنبياء، قال: «هم كذلك ويحق لهم، وما يمنعهم وقد أكرمهم الله بالشهادة؟ بل غيرهم» قالوا: فمن يا رسول الله؟ قال: «أقوام في أصلاب الرجال يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني، ويصدِّقوني ولم يرَوني، يجدون الورَق المعلق فيعملون بما فيه، فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيماناً» .(3/100)
قال الهيثمي: رواه أبو يَعْلى، ورواه البزّار فقال عن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أخبروني بأعظم الخلق عند الله منزلة يوم القيامة» ، قالوا: الملائكة، قال: «وما يمنعهم مع قربهم من ربهم؟ بل غيرهم» ، قالوا: الأنبياء، قال: «وما يمنعهم والوحي ينزل عليهم؟ بل غيرهم» ، قالوا: فأخبرنا يا رسول الله، قال: «قوم يأتون بعدكم يؤمنون بي ولم يرَوني، يجدون الوَرَق المعلَّق فيؤمنون به، أولئك أعظم الخَلْق عند الله منزلة أو أعظم الخلق إيماناً عند الله يوم القيامة» . وقال: الصرواب أنه مرسل عن زيد بن أسْلَم، وأحد إسنادي البزّار المرفوع حسن. انتهى.
وعند أحمد عن أبي جمعة رضي الله عنه قال: تغدَّينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله أحد أفضل منا؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك، قال: «نعم، قوم يكونون من يعدي يؤمنون بي ولم يروني» . قال الهيثمي: رواه أحمد وأبو يَعْلى والطبراني بأسانيد، وأحد أسانيد أحمد رجاله ثقات. انتهى.
وعند أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «طوبى لمن رآني وآمن بي، وطبى لمن آمن بي ولم يرني» سبع مرات. قال(3/101)
الهيثمي: رواه أحمد والطبراني بأسانيد، ورجالهما رجال الصحيح غير أيمن بن مالك الأشعري وهو ثقة. انتهى.
تمني النبي عليه السلام أن لو رأى إخوانه
وأخرج البزّار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن قوماً يأتون من بعدي يودُّ أحدهم أن يفتدي برؤيتي أهله وما لَه» . قال الهيثمي: وفيه عبد الرحمن بن أبي الزِّناد وحديثه حسن وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات اهـ. وعند أحمد عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وددت أني لو رأيت إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني» . قال الهيثمي رواه أحمد وأبو يَعْلى ولفظه: «ومتى ألقى إخواني؟» قالوا: يا رسول الله ألسنا إخوانك؟ قال: «بل أنتم أصحابي، وإخواني الذين آمنوا بي ولم يروني» . وفي رجال أبي يَعْلى محتسبٌ أبو عائذ وثَّقه ابن حبَّان وضعفَّه ابن عدي، وبقية رجال أبي يَعْلى رجال الصحيح غير الفَضْل بن الصَبَّاح وهو ثقة. وفي إسناد أحمد جَسر وهو(3/102)
ضعيف، ورواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح غير محتسب. انتهى.
فضائل أمته عليه السلام
وعند أحمد والبزّار والطبراني عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مثل أمتي مثل المطر لا يُدرَي أوله خير أم آخره» قال الهيثمي ورجال البزّار رجال الصحيح غير الحسن بن قَزَعة وعُبيد بن سليمان الأغَر وهما ثقتان، وفي عبيد خلاف لا يضر. انتهى. وأخرجه البزّار وغيره عن عِمران، والطبراني عن ابن عرم رضي الله عنهما، كما في المجتمع. وقال ابن حجر في الفتح: هو حديث حسن له طرق قد يرتقي بها إلى الصحة، قاله المناوي.
وأخرج البزّار عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ لله ملائكة سيّاحين يبلِّغوني عن أمتي السلام» قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «حياتي خير لكم تحدِّثون ويحدِّث لكم، ووفاتي خير لكم تعرض عليَّ أعمالكم، فما رأيت من خير حمدت الله عليه، وما رأت من شر استغفرت الله لكم» قال الهيثمي رواه البزّار ورجاله رجال الصحيح. انتهى.(3/103)
عذاب هذه الأمة في الدنيا القتل
وأخرج البيهقي عن أبي بُرْدة قال: كنت جالساً عند ابن زياد وعنده عبد الله بن يزيد - رضي الله عنه - فجعل يُؤتى برؤوس الخوارج، فكانوا إذا مرُّوا برأس قلت: إلى النار، فقال لي: لا تفعل يا ابن أخي، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يكون عذاب هذه الأمة في دنياها» كذا في الكنز. وأخرجه أبو نُعيم في الحلية عن أبي بُرحدة بنحوه، ولفظه في المرفوع: «إنَّ الله جعل عذاب هذه الأمة في الدنيا القتل» . وأخرجه الطبراني في الكبير والصغير باختصار، والأوسط كذلك، ورجال الكبير رجال الصحيح، كما قال الهيثمي. وعند الطبراني عن أبي بُرْدة رضي الله عنه قال: خرجت من عند عبيد الله بن زياد فرأيته يعاقب عقوبة شديدة، فجلست إلى رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «عقوبة هذه الأمة بالسيف» . قال الهيثمي ورجاله رجال الصحيح.
حرمة دماء المسلمين وأموالهم
الأحايث في الوعيد على قتل المسلم
أخرج الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قُتل قتيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُعلم قاتله، فصعد منبره فقال: «يا أيها الناس أيُقتل قتيل وأنا بين أظْهُركم لا يُعلم من قتله؟ لو أنَّ أهل السماء والأرض اجتمعوا(3/104)
على قتل مسلم لعذَّبهم الله بلا عدد ولا حساب» . قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير عطاء بن أبي مُسْلم وثقه ابن حبَّان وضعَّفه جماعة، انتهى.
وعند البزّار عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قُتل قتيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعد النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال: «ألا تعلمون من قتل هذا القتيل بين أظهركم؟» - ثلاث مرات - قالوا: اللهم لا، فقال: «والذي نفس محمد بيده، لو أنَّ أهل السموات وأهل الأرض اجتمعوا على قتل مؤمن أدخلهم الله جميعاً جهنم، ولا يبعضنا - أهل البيت - أحد إلا كبَّه الله في النار» قال الهيثمي: وفيه داود بن عبد الحميد وغيره من الضعفاء. انتهى.
إنكاره عليه السلام على أسامة وبعض أصحابه قتل من تشهَّد
وأخرج أحمد عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحُرْقة من جهينة. قال: فصبَّحناهم وكان منهم رجل إذا أقبل القوم كان من أشدهم علينا، وإذا أدبروا كان حاميتهم. قال: فغشِيتُه أنا ورجل من الأنصار، فلما تغشَّيناه قال: لا إله إلا الله، فكف عنه الأنصاري وقتلته. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أسامة أَقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟» قال قلت: يا رسول الله إنما كان متعوِّذاً من القتل، قال: فكررها عليَّ حتى تمنّيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ. وأخرجه البخاري ومسلم أيضاً. وعند ابن(3/105)
إسحاق: فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرناه فقال: «يا أسامة، من لك بلا إله إلا الله؟» فقلت: يا رسول الله إنما قالها تعوُّذاً من القتل. قال: «فمن لك يا أسامة بلا إله إلا الله؟» فوالذي بعثه بالحق ما زال يرددها عليَّ حتى تمنيت أنَّ ما مضى من إسلامي لم يكن، وأني أسلمت يومئذغ ولم أقتله. فقلت: إني أعطي الله عهداً أن لا أقتل رجلاً يقول لا إله إلا الله أبداً، فقال: «بعدي يا أسامة» ، فقلت: بعدك. كذا في البداية.
وأخرجه ابنع ساكر عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: أدركت مِرداس بن نُهَيك أنا ورجل من الأنصار، فلما شهرنا عليه السيف قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فلم ننزع عنه حتى قتلناه. فلما قدمنا - فذكر نحو حديث ابن إسحاق. وأخرجه أيضاً أبو داود والنِّسائي والطَّحاوي وأبو عَوَانة وابن حِبَّان والحاكم وغيرهم، وفي حديثهم: فقال النبي صلى الله عليه وسلم «قال لا إله إلا الله وقتلته؟» قلت: يا رسول الله إنما قالها خوفاً من السلاح. قال: «أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم من أجل ذلك قالها أم لا؟ من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة؟» فما زال يكررها حتى تمنيت أنِّي أسلمت يومئذٍ. كذا في كنزل العمال. وأخرجه البيهقي.(3/106)
إنكاره عليه السلام أيضاً على بكر بن حارثة
وأخرجه الدَّوْلابي وابن مَنْده وأبو نُعيم عن بكر بن حارثة رضي الله عنه قال: كنت في سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقتتلنا نحن والمشركون، وحملت على رجل من المشركين فتعوَّذ مني بالإِسلام فقتلته. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فغضب وأقصاني. فأوحى الله إليه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً} (سورة النساء، الآية: 92) - الآية، فرضي عني وأدناني. كذا في الكنز.
إعراضه عليه السلام عن قاتل المؤمن
وأخرج أبو يَعْلى عن عقبة بن خالد الليثي رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرَية فغارت على قوم، فشدَّ رجل من القوم فأتبعه رجل من السرية ومعه السيفُ شاهرُه. فقال إنسان من القوم: إني مسلم، إني مسلم. فلم ينظر فيما قال: فضربه فقتله. قال: فنما الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال فيه قولاً شديداً، فبلغ القاتل. قال: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إذ قال القاتل: يا رسول الله، والله ما قال الذي قاله إلا تعوُّذاً من القتل، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن مَنْ قِبَله من الناس وأخذ في خطبته. قال: ثم عاد فقال: يا رسول الله، ما قال الذي قال إلاَّ تعوُّذاً من القتل، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن مَنْ قِبَله من الناس؛ فلم يصبر أن قال في الثالثة فأقبل عليه تُعرف المساءة في وجهه، فقال: «إنَّ الله عز وجل أبي عليَّ أن أقتل مؤمناً» - ثلاث مرات - قال الهيثمي: رواه أبو يَعْلى وأحمد باختصار إلا أنه قال عقبة بن مالك بدل عقبة بن خالد، والطبراني بطوله، ورجاله رجال الصحيح غير بشر بن عاصم(3/107)
الليثي وهو ثقة. انتهى. وأخرجه أيضاً النِّسائي والبَغَوي وابن حِبَّان عن عُقبة بن مالك، كما في الإِصابة، والخطيب في المتَّفِق والمُفْتَرق، كما في الكنزل عن عُقبة بن مالك نحوه، والبيهقي، وابن سعد عن عقبة بن مالك بنحوه.
نزول الآية في قتل المقداد رجلاً تشهَّد
وأخرج البزّار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فيها المقداد بن الأسود رضي الله عنه، فلما وجدوا القوم وجدوهم قد تفرقوا وبقي رجل له مال كثير لم يبرح. فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، فأهوى إليه المقداد فقتله. فقال له رجل من أصحابه. أقتلت رجلاً يشهد أن لا إله إلا الله؟ لأذكرنَّ ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلما قدموا علي النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله إنَّ رجلاً شهد أن لا إله إلا الله فقتله المقداد. فقال: «ادعُ لي المقداد. يا مدادُ أَقتلت رجلاً يقول لا إله إلا الله؟ فكيف لك بلا إله إلا الله غداً؟» قال: فأنزل الله تبارك وتعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ} {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحياةِ الدُّنْيَا} {فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذالِكَ كُنتُمْ مّن قَبْلُ} (سورة النساء، الآية: 94) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقداد: «كان رجل مؤمن يُخفي إيمانه مع قوم كفار فأظهر إيمانه فقتلته؟ وكذلك كنت تُخفي إيمانك بمكة من قبل» . قال الهيثمي: رواه البزّار وإسناده(3/108)
جيد، وقال في هامشه: رواه الطبراني أيضاً في الكبير، والدارَقُطْني في الأفراد.
لغاية ص 85
تابع
قتل مُحَلِّم بن جَثّامة لعامر بن الأضبط وما حصل لمحلِّم
وأخرج ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي حَدْرَد رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إضَم في نفر من المسلمين، منهم: أبو قتادة الحارث بنرِبْعي، ومُحَلِّم بن جَثَّامة بن قيس، فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضَم مر بنا عامر بن الأضْبَط الأشجعي على قَعود له، معه مَتيع له وَوطْب من لبن، فسلَّم علينا بتحية الإِسلام، فأمسكنا عنه، وحمل عليه مُحَلِّم بن جثامة فقتله لشيء كان بينه وبينه، وأخذ بعيره ومَتيعه. فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرناه الخبر فنزل فينا القرآن: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ} {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحياةِ الدُّنْيَا} {فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} {كَذالِكَ كُنتُمْ مّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} {فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} . وهكذا رواه أحمد من طريق ابن إسحاق. كذا في البداية والطبراني كذلك. قال الهيثمي: ورجاله ثقات، والبيهقي وكذلك ابن سعد نحوه.(3/109)
وعند ابن جرير من طريق ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مُحلِّم بن جَثَّامة مَبْعثاً، فلقيهم عامر بن الأَضْبَط، فحياهم بتحية الإِسلام، وكانت بينهم إحْنَة في الجاهلية فرماه مُحَلَّم بسهم فقتله. فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم فيه عيينة والأقرع رضي الله عنهما، فقال الأقرع: يا رسول الله سُنَّ اليوم غيِّر غداً. فقال عيينة: لا والله حتى تذوق نساؤه من الثكل ما ذاق نسائي. فجاء مُحَلِّم في بردين فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر له. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا غفر لك الله» فقام وهو يتلقَّى دموعه ببرديه. فما مضت له سابعة حتى مات، فدفنون فلفَظَته الأرض، فجاؤوا (إلى) النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فقال: «إن الأرض لتقبل من هو شر من صاحبكم، ولكنَّ الله أراد أن يعظكم من حرمتكم» ؛ ثم طرحوه بين صَدَفي جبل فألقوا عليه من الحجارة، ونزلت: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ} - الآية. كذا في البداية.
قصة لفظ الأرض لرجل قتل مؤمنا
وأخرج عبد الرزاق وابن عساكر عن قَبِيصة بن ذُؤيب رضي الله عنه قال: أغار رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على سرية انهزمت، فغشي رجلاً من المشركين وهو منهزم، فلما أن أراد أن يعلوه بالسيف قال الرجل: لا إله إلا الله، فلم يتناه عنه حتى قتله. فَوَجد الرجل في نفسه مِنْ قَتْله، فذكر حديثه للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنما قالها متعوُّذاً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «فهلاَّ شققت عن قلبه؟(3/110)
فإنام يعبَّر عن القلب باللسان» . فلم يلبثوا إلا قليلاً حتى تفوي ذلك الرجل القاتل، فدُفن فأصبح على وجه الأرض، فجاء أهله فحدّثوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ادفنوه» ، فدفن أيضاً فأصبح على وجه الأرض، فأخبر أهله النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم «إنَّ الأرض أبَتْ أن تقبله فاطرحوه في غار من الغيران» . كذا في الكنز.
قصة خالد بن الوليد مع بني جذيمة
وأخرج ابن إسحاق عن أبي جعفر محمد بن علي رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه حين افتتح مكة داعياً ولم يبعثه مقاتلاً، ومعه قبائل من العرب، وسُلَيم بن منصور، ومدلج بن مرة. فوطئوا بني جَذِيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة، فلما رآه القوم أخذوا السلاح، فقال خالد: ضعوا السلاح، فإن الناس قد أسلموا، فلما وضعوا السلاح أمر بهم خالد فكُتِّفوا ثم عرضهم على السيف فقتل من قتل منهم. فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يديه إلى السماء ثم قال: «اللهمَّ إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد» ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبيطالب رضي الله عنه، فقال: «يا علي اخرج إلى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك» . فخرج علي حتى جادءهم ومعه مال قد بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم فَوَدَى لهم الدماء وما أصيب لهم من الأموال، حتى إنه ليَدِي مَيْلغة الكلب، حتى إذا لم يبق شيء من دم ولا مال إلا وَدَاه بقيت معه بقية من المال، فقال لهم علي حين فرغ منهم: هل بقي لكم دم أو مال لم يُودَ لكم؟ قالوا: لا، قال: فإني أعطيكم هذه البقية من هذا المال احتياطاً لرسول الله مما لا يعلم ولا تعلمون. ففعل(3/111)
ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر. فقال: «أصبت، وأحسنت» ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبل القبلة قائماً شاهراً يديه حتى إنه ليُرى ما تحت مَنْكبيه يقول: «اللهمَّ إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد» - ثلاث مرات.
وعند أحمد من حديث ابن عرم رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى بني - أحسبه قال: جَذِيمة - فدعاهم إلى الإِسلام فلم يُحْسِنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا، وخالد يأخذ بهم أسراً وقتلاً. قال: ودفع إلى كل رجل منا أسيراً، حتى إذا أصبح يوماً أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره. قال ابن عمر: والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل أحد من أصحابي أسيره، قال: فقدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا صنيع خالد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ورفع يديه: «اللهمَّ إني أبرأ إليك مما صنع خالد» - مرتين. ورواه البخاري والنسائي من حديث عبد الرزاق به نحوه. قال ابن إسحاق: وقد كان بين خالد وبين عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما فيما بلغني كلام في ذلك، فقال له عبد الرحمن: عملت بأمر الجاهلية في الإِسلام، فقال: إنما ثأرتُ بأبيك، فقال عبد الرحمن: كذبتَ قد قتلتُ قاتل أبي، ولكنك ثأرتَ بعمك الفاكِه بن المغيرة، حتى كان بينهما شر. فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: «مهلاً يا خالد، دَعْ عنك أصحابي، فوالله لو كان (لك) أحدٌ ذهاً ثم أنفقته في سبيل الله ما أدركت غَدْوة رجل من أصحابي ولا رَوْحته» . كذا في البداية.
u
ما وقع عليه السلام وبين صخر الأحمسي
وأخرج أبو داود عن صخر الأحْمَسي رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم(3/112)
غزا ثقيفاً، فلما أن سمع ذلك صخر ركب في خيل يُمدُّ النبي صلى الله عليه وسلم فوجده قد انصرف ولم يَفْتَح، فجعل صخر حينئذ عهداً وذمة: لا أفارق هذا القصر حتى ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفارقهم حتى نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتب إليه صخر: أما بعد: فإنَّ ثقيفاً قد نزلت على حكمك يا رسول الله، وأنا مقبل بهم وهم في خيلي. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة جامعة، فدعا لأحْمَس عشر دعوات/ «اللهمَّ بارك لأحْمَس في خيلها ورجالها» . وأتى القوم فتكلَّم المغيرة بن شعبة رضي الله عنه فقال: يا رسول الله إن صخراً أخذ عمتي ودخلت فيما دخل فيه المسلمون، فدعاه فقال: «يا صخر إن القوم إذا أسلموا أحرزوا دماءهم وأموالهم فادفع إلى المغيرة عمته» ، فدفعها إليه، وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ماءً لبني سليم قد هربوا عن الإِسلام وتركوا ذلك الماء، فقال: يا رسول الله أنزلنيه أنا وقومي قال: «نعم» ، فأنزله وأسلم - يعني السُّلَميين - فأَتوا صخراً فسألوه أن يدفع إليهم الماء فأبى، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله أسلمنا وأتينا صخراً ليدفع إلينا ماءنا فأبى علينا، فقال: «يا صخرُ إن القوم إذا أسلموا أحرزوا أموالهم ودماءهم فادفع إليهم ماءهم» . قال: نعم يا نبي الله، فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغير عند ذلك حمرة حياء من أخْذه الجارية وأخذه الماء. تفرّد به أبو داود وفي إسناده اختلاف. كذا في البداية. وأخرجه أيضاً أحمد والدارمي وابن راهَوَيْه والبزّار وابن أبي شَيْبة(3/113)
والطبراني، كما في نصب الراية، والفِريابي في مسنده والبَغَوي وابن شاهين، كما في الإِصابة والبيهقي في سننه.
الاحتراز عن قتل المسلمين وكراهية القتال على الملك
نهي النبي عليه السلام عن قتل من شهد بوحدانية الله ورسالته صلى الله عليه وسلم أخرج أحمد والدارمي والطَّحاوي والطَّيالسي عن أوس بن أوس الثقفي رضي الله عنه قال: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في قبة في مسجد المدينة، فأتاه رجل فسارَّه بشيء لا ندري ما يقول. فقال: «ذاهب قل لهم: يقتلوه» . ثم دعاه فقال: «لعله يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله» فقال: نعم، فقال: «اذهب فقل لهم: يرسلوه، فإني أُمرت أن يقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا قالوها حُرِّمت عليَّ دماؤهم وأموالهم إلا بحقِّها وكان حسابهم على الله» .
وعند عبد الرزاق والحسن بن سفيان عن عبد الله بن عدي الأنصاي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس بين ظهراني الناس جاءه رجل يستأذنه أن يساره في قتل رجل من المنافقين، فجهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلامه،(3/114)
فقال: «أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟» قال: بلى ولا شهادة له، قال: «أليس يشهد أني رسول الله؟» قال: بلى ولا شهادة له، قال: «أليس يصلِّي؟» قال: بلى ولا صلاة له، قال: «أولئك الذين نُهيت عنهم» . كذا في كنز العمال.
امتناع عثمان عن القتال يوم الدار
وأخرج أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ادعُوا لي بعض أصحابي» ، قلت: أبو بكر؟ قال: «لا» قلت: عمر؟ قال: «لا» قلت: ابن عمك علي؟ قال «لا» قالت قلت: عثمان؟ قال: «نعم» فلما جاء قال: تنحَّي، فجعل يسارّه ولون عثمان يتغير. فلما كان يوم الدار وحُصِر فيها قلنا: يا أمير المؤمنين ألا تقاتل؟ قال: لا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليَّ عهداً وإني صابر نفسي عليه. تفرَّد به أحمد، كذا في البداية. وأخرجه ابن سعد عن أبي سهلة بمعناه أطول منه، وزاد: قال أبو سهلة: فيرون أنه ذلك اليوم.
استشهاد عثمان بقوله عليه السلام: لا يحل دم امرىء إلا بإحدى ثلاث
وأخرج أحمد عن ابن عرم أن عثمان - رضي الله عنه - أشرف على أصحابه وهو محصور فقال: علامَ تقتلونني؟ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحل دم امرىء إلا بإحدى ثلاث: رجل زنى بعد إحصانه فعليه الرجم، أو قتل عمداً فعليه القَود، أو ارتد بعد إسلامه فعليه القتل» . فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام، ولا قتلت أحداً فأُقيدَ نفسي منه، ولا ارتددت منه أسلمت، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. ورواه(3/115)
النسائي، كذا في البداية.
وعند أحمد أيضاً عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: كنت مع عثمان رضي الله عنه في الدار وهو محصور. قال: وكنا ندخل مَدْخلاً إذا دخلناه سمعنا كلامَ مَنْ على البلاط. قال: فدخل عثمان يوماً لحاجته فخرج إلينا منتقعاً لونه، فقال: إنهم ليتواعدوني بالقتل آنفاً. قال: قلنا: يكفيكهم الله يا أمير المؤمنين، قال: ولم يقتلونني؟ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفساً بغير نفس» .. فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام (قط) ، ولا تمنيت بدلاً بديني منذ هداني الله له، ولا قتلت نفساً؛ فبم يقتلونني؟ وقد رواه أهل السنن الأربعة. وقال الترمذي: حسن. كذا في البداية وأخرجه ابن سعد عن أبي أمامة مثله.
خطاب عثمان لمن حصروه وكفُّه عن قتالهم
وأخرج أيضاً عن أبي ليلى الكندي قال: شهدت عثمان رضي الله عنهوهو محصور فاطَّلع من كَوَّة وهو يقول:(3/116)
«يا أيها الناس لا تقتلوني واستتيبوني، فوالله لئن قتلتموني لا تصلّون جميعاً أبداً، ولا تجاهدون عدواً جميعاً أبداً، ولتختلفُنَّ حتى تصيروا هكذا - وشبك بين أصابعه - ثم قال: يَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقي أَنْ يُصِيْبَكُمْ مِثْلُ ما أَصَابَ قَوْمَ نُوْحٍ أَوْ قَوْمَ هُوْدٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ، وَمَا قَوْمُ لُوْطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيْدٍ» .
وأرسل إلى عبد الله بن سَلاَم رضي الله عنه فقال: ما ترى؟ فقال: الكَفَّ، الكَفَّ، فإنه ألغ لك في الحجة.
ما وقع بين عثمان والمغيرة يوم الدار
وأخرج أحمد عن المغيرة بن شُعبة رضي الله عنه أنه دخل على عثمان رضي الله عنه وهو محصور، فقال: إنك إمام العامة وقد نزل بك ما ترى، وإني أعرض عليك خصالاً ثلاثاً اختر إحداهن: إما أن تخرج فتقاتلهم فإنَّ معك عدداً وقوة وأنت على الحق وهم على الباطل. وإما أن تخق باباً سوى الباب الذي هم عليه فتقعد على رواحلك فتلحق مكة فإنهن لن يستحلوك وأنت بها. وإما أن تلحق بالشام فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية. فقال عثمان: أمَّا أن أخرج فأقاتل فلن أكون أول من خَلَف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته بسفك الدماء، وأمّا أن أخرج إلى مكة فإنهم لن يستحلُّوني بها؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يلحد رجل من قريش بمكة يكون عليه نصف عذاب العالم» ولن أكون أنا، وأما أن ألحق بالشام فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية فلن أفارق دار هجرتي ومجاورة رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا في البداية قال الهيثمي:: رواه أحمد ورجاله ثقات إلا أن محمد بن عبد الملك بن مروان لم أجد له سماعاً من المغيرة - اهـ.(3/117)
نهي عثمان بعض الصحابة عن القتال يوم الدار
وأخرج ابن سعد وابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: دخلت على عثمان يوم الدار فقلت: يا أمير المؤمنين طاب أمْضَرْبُ فقال: يا أبا هريرة أيسرك أن تقتل الناس جميعاً وإياي؟ قلت: لا، قال: فوالله إنك إن قتلت رجلاً واحداً فكأنما قتلت الناس جميعاً. فرجعت ولم أقاتل. كذا في منتخب الكنز. وأخرج ابن سعد عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: قلت لعثمان رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين إن معك في الدار عصابة مستنصرة بنصر الله بأقل منهم لعثمان، فأُذن لي فَلأُقاتل. فقال: أنشدك الله رجلاً - أو قال: أذكِّر بالله رجلاً إهراق فيَّ دمه أو إهراق في دماً. وعنده أيضاً قال: قلت لعثمان رضي الله عنه يوم الدار: قاتلهم، فوالله لقد أحلَّ الله لك قتالهم، فقال: لا والله لا أقاتلهم أبداً - فذكر الحديث. وأخرج أيضاً عن عبد الله بن عامر رضي الله عنهما قال: قال عثمان رضي الله عنه يوم الدار: إن أعظمكم عني غناءً رجل كف يده وسلاحه. وأخرج أءَضاً عن ابن سيرين قال: جاء زيد بن ثابت إلى عثمان رضي الله عنهما فقال: هذه الأنصار بالباب يقولون: إن شئت كنا أنصاراً لله - مرتين. قال فقال عثمان: أما القتال فلا.(3/118)
وأخرج أيضاً عن ابن سيرين قال: كان مع عثمان يومئذٍ في الدار سبع مائة لو يدَعهم لضربوهم إن شاء الله حتى يخرجوهم من أقطارها، منهم ابن عمر، والحسن بن علي، وعبد الله بن الزبير، رضي الله عنهم.
وأخرج أيضاً عن عبد الله بن ساعدة رضي الله عنه قال: اء سعيد بن العاص إلى عثمان رضي الله عنهما فقال: يا أمير المؤمنين إلى متى تمسك بأيدينا؟ 1 قد أكلنا أكلاً هؤلاء القوم، منهم مَنْ قد رمانا بالنبل، ومنهم مَنْ قد رمانا بالحجارة، ومنهم شاهر سيفه، فمُرنا بأمرك. فقال عثمان: إني والله ما أريد قتالهم، ولو أردت قتالهم لرجوت أن أمتنع منهم، ولكني أكِلُهم إلى الله وأكِلُ من أَلَّبهم عليَّ إلى الله، فإنا سنجتمع عند ربنا. فأما قتال فوالله ما آمرك بقتال. فقال سعيد: والله لا أسأل عنك أحداً أبداً. فخرج فقاتل حتى أُم.
امتناع سعد بن أبي وقاص عن القتال
وأخرج أحمد عن عمر بن سعد عن أبيه أنه جاءه ابنه عامر فقال: يا أبت، الناس ياقتلون (على الدنيا) وأنت ها هنا؟ فقال: يا بني أفي الفتنة تأمرني أن أكون رأساً؟ لا والله حتى أُعطَى سيفاً إن ضربت به مؤمناً نَبَا عنه، وإن ضربت به كافراً قتلته. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يحب الغني الخفي التقي» . كذا في البداية. وأخرجه أبو نُعيم في الحلية عن عمر بن سعد عن أبيه أنه قال لي: يا بني أفي الفتنة تأمرني - فذكر نحوه.(3/119)
وعند الطبراني عن ابن سيرين قال: لما قيل لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: ألا تقاتل حتى يأتوني بسيف له عينان ولسان وشفتان يعرف المؤمن من الكافر، فقد جاهدت وأنا أعرف الجهاد. قال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح - اهـ. وأخرجه أبو نُعيم في الحلية عن ابن سيرين مثله، وابن سعد عن ابن سيرين بمعناه.
ما وقع بين أسامة وسعد وبين رجل في الامتناع عن القتال
وأخرج ابن سعد عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: قال ذو البطن أسامة بن زيد رضي الله عنه: لا أقاتل رجلاً يقول لا إله إلا الله أبداً، فقال سعد بن مالك رضي الله عنه: وأنا - والله - لا أقاتل رجلاً يقول لا إله إلا الله أبداً. فقال لهما رجل: ألم يقل الله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلهِ} (سورة الأنفال، الآية: 39) . فقالا: قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة، وكان الدين لله. وأخرجه ابن مَردَوَيه عن إبراهيم التيمي عن أبيه نحوه، كما في التفسير لابن كثير.
ما قاله ابن عمر في الامتناع عن التقال في فتنة ابن الزبير
وأخرج البخاري (ص648) عن نفاع عن ابن عمر رضي الله عنهما أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير رضي الله عنهما فقالا: إن الناس ضُيِّعوا وأنت ابن عرم وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم فما يمنعك أن تخرج؟ فقال: يمنعني أنَّ الله حرّم دم أخي.(3/120)
قالا: ألم يقل الله: «وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة» ؟ فقال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله. وزاد عثمان بن صالح من طريق بُكير بن عبد الله عن نافع أن رجلاً أتى ابن عمر رضي الله عنهما فقال: يا أبا عبد الرحمن ما حملك على أن تحج عاماً وتعتمر عاماً وتترك الجهاد في سبيل الله (عز وجل) وقد علمت ما رغَّب الله فيه؟ قال: يا ابن أخي بُني الإِسلام على خمس: إيمان بالله ورسوله، والصلوات الخمس، وصيام رمضان، وأداء الزكاة، وحج البيت. قال: يا أبا عبد الرحمن ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} {إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} ؟ قال: فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الإسلام قليلاً، فكان الرجل يُفتن في دينه إمّا قتلوه وإما يعذبوه، حتى كثر الإِسلام فلم تكن فتنة. قال: فما قولك في علي وعثمان؟ قال: أما عثمان فكان الله عفا عنه، وأما أنتم فكرهتم أن يعفو عنه، وأما علي فابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخَتَنه، وأشار بيده فقال: هذا بيته حيث ترون. وأخجره البيهقي من طريق نافع بنحوه. وهكذا أخرجه أبو نعيم في الحلية عن نافع، وعند البخاري أيضاً من طريق نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً جاءه فقال: يا أبا عبد الرحنم ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ} (سورة الحجرات، الآية: 9) - الآية، فما يمنعك أن لا تقاتل كما ذكر الله في كتابه؟(3/121)
فقال: يا ابن أخي
أُعيَّر
بهذه الآية ولا أقاتل أحب إليَّ مِنْ أن أعيَّر بهذه الآية التي يقول الله عز وجل: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً} (سورة النساء، الآية: 93) - إلى آخر الآية، قال: فإن الله تعالى يقول: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} قال ابن عمر قد فعلنا - فذكر نحو ما تقدم.
وعنده أيضاً من طريق سعيد بن جبير فقال: وهل تدري ما الفتنة؟ كان محمد صلى الله عليه وسلم يقاتل المشركين وكان الدخول عليهم فتنةً، وليس كقتالكم على الملك، كما في التفسير لابن كثير.
ما قاله ابن عمر لابن الزبير وابن صفوان في امتناعه عن مبايعة ابن الزبير
وعند البيهقي عن أبي العالية البراء أن عبد الله بن الزبير وعبد الله بن صفوان - رضي الله عنهما - كانا ذات يوم قاعدين في الحِجْر، فمرَّ بهما ابن عمر رضي الله عنهما وهو يطوف بالبيت. فقال أحدهما لصاحبه: أتراه بقي أحد خيراً من هذا؟ ثم قال لرجل: ادعه لنا إذا قضى طوافه، فلما قضى طوافه وصلَّى ركعتين أتاه رسولهما فقال: هذا عبد الله بن الزبير وعبد الله بن صفوان يدعوانك. فجاء إليهما، فقال عبد الله بن صفوان: يا أبا عبد الرحمن ما يمنعك أن تبايع أمير المؤمين؟ - يعني ابن الزبير - فقد بايع هل أهل العروض وأهل العراق وعامة أهل الشام. فقال: والله لا أبايعكم وأنتم واضعوا سيوفكم على عواتقكم تَصَبَّبَ أيديكم من دماء المسلمين.(3/122)
امتناع ابن عمر عن الخروج ليبايعه الناس
وعند أبي نُعيم في الحلية عن الحسن رضي الله عنه قال: لما كان من أمر الناس ما كان من أمر الفتنة أتوا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقالوا: أنت سيد الناس وابن سيدهم والناس بك راضون اخرج نبايعك، فقال: لا والله، لا يهراق فيَّ مِحْجَمة من دم ولا في سببي ما كان فيَّ الروح. قال: ثم أُتي فخُوِّف فقيل له: لتخرجن أو لتُقتلن على فراشك فقال مثل قوله الأول. قال الحسن: فوالله ما استقلُّوا نمه شيئاً حتى لحق بالله تعالى. وأخرجه ابن عسد عن الحسن بنحوه.
ما قاله ابن عمر في الافتراق والاجتماع
وعند ابن سعد أيضاً عن خالد بن سُمَير قال: قيل لا بن عر رضي الله عنهما: لو أقمت للناس أمرهم، فإن الناس قد رَضوا بك كلهم، فقال لهم: أرأيتم إن خالف رجل بالمشرق؟ قالوا: إن خالف رجل قتل، وما قتل رجل في صلاح الأمة؟ فقال: والله ما أحب لو أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أخذت بقائمة رمح وأخذت بزجه فقُتل رجل من المسلمين ولي الدنيا وما فيها وعند ابن سعد أيضاً عن قَطَن قال: أتى رجل ابن عمر رضي الله عنهما فقال ما أحد شراً لأمة محمد منك فقال: لم؟ فوالله ما سفكت دماءهم، ولا(3/123)
فرقت جماعتهم، ولا شققت عصاهم. قال: إنك لو شئت ما ختلف فيك اثنان، قال: ما أحب أنها أتتني ورجل يقول لا وآخر يقول بلى.
وعند أبي نعيم في الحلية عن القاسم بن عبد الرحمن أنهم قالوا لابن عمر رضي الله عنهما في الفتنة الأولى: ألا تخرج فتقاتل؟ فقال: قد قاتلت والأنصاب بين الركن واباب حتى نفاها الله عز وجل من أرض العرب، فأنا أكره أن أقاتل من يقول لا إله إلا الله قالوا: والله ما رأيك ذلك، ولكنك أردت أن يُفني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم بعضاً؛ حتى إذا لم يبقَ غيرك قيل: بايعوا لعبد الله بن عمر بإمارة المؤمنني. قال: والله ما ذلك فيَّ، ولكن إذا قلتم حيَّ على الصلاة أجبتكم، حيَّ على الفلاح أجبتكم، وإذا افترقتم لم أجامعكم، وإذا اجتمعتم لم أفارقكم.
وعن نافع قال: قيل لابن عمر رضي الله عنهما زمن ابن الزبير رضي الله عنهما والخوارج والخَشَبِيَّة: أتصلِّي مع هؤلاء ومع هؤلاء وبعضهم يقتل بعضاً؟ فقال: من قال حيَّ على الصلاة أجبته، ومن قال: حي على الفلاح أجبته، ومن قال: حيَّ على قتل أخيك المسلم وأخذ ماله قلت لا، وأخرجه ابن سعد عن نافع مثله.
كراهية الحسن بن علي قتل المؤمنين في طلب الملك ومصالحته لمعاوية
وأخرج الحاكم عن أبي الغريف قال: كنا في مقدِّمة الحسن بن علي رضي الله عنهما اثني عشر ألفاً تقطر أسيافنا من الحِدَّة على قتال أهل الشام وعلينا أبو العمرطة. فلما أتاها صلح الحسن بن علي ومعاوية - رضي الله عنهم - كأنما كُسرت ظهورنا من الحَرْد والغيظ. فلما قدم الحسن بن علي الكوفة قام إليه رجل منا يُكنى أبا عامر سفيان بن الليل، فقال: السلام عليك يا مذلَّ المؤمنين، فقال الحسن: لا تقل ذاك يا أبا عامر، لم أُذل المؤمين ولكني كرهت أن أقتلهم في طلب الملك. وأرجه بن عبد البرفي الاستعياب نحوه، والخطيب والبغدادي كذلك، كما في البداية.
وأخرج ابن عبد البرفي الاستيعاب عن الشَّعبي قال: لما جرى الصلح بين الحسن بن علي(3/124)
ومعاوية - رضي الله عنهم - قال له معاوية: قم فاخطب الناس واذكر ما كنت فيه، فقام الحسن فخطب فقال:
الحمد لله الذي هدى بنا أوِّلكم، وحقن بنا دماء آخركم، ألا إن أكيس الكَيْس التقى، وأعجز العَجْز الفجور؛ وإنَّ هذا الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية إما أن يكون كان أحقَّ به مني وإما أن يكون حقي، فتركناه لله ولصلاح أمة محمد صلى الله عليه وسلم وحقن دمائهم»
قال: ثم التفت إلى معاوية فقال: {وَإِنْ أَدْرِى لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} (سورة الأنبياء، الآية: 111) ، ثم نزل، فقال عمرو لمعاوية: ما أردتُ إلاَّ هذا وأخرجه أيضاً الحاكم، والبيهقي عن الشعبي بنحوه.(3/125)
ما قاله الحسن لجبير بن نفير في شأن الخلافة
وعند الحاكم أيضاً عن جبير بن نفير رضي الله عنه قال: قلت للحسن بن علي رضي الله عنهما: إن الناس يقولون إنك تريد الخلافة، فقال: قد كان جماجم العرب في يدي يحاربون مَنْ حاربت ويسالمون من سالمت، تركتها ابتغاءَ وجه الله تعالى وحقن دماء أمة محمد صلى الله عليه وسلم ثم أبتزها باتئاس أهل الحجاز؟ قال الحاكم: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين ولم يخرِّجاه، ووافقه الذهبي.
امتناع أيمن الأسديّ عن التقال مع مروان وما جرى بينهما
وأخرج أبو يَعْلى عن عامر الشَّعْبي قال: لما قاتل مروانُ الضحاكَ بن قيس أرسل إلى أيمن بن خُرَيم الأسدي رضي الله عنه فقال: إنا نحب أن تقاتل معناه. فقال: إن أبي وعمي شهدا بدراً فعهدا إليَّ أن لا أقاتل أحداً يشهد أن لا إله إلا الله، فإن جئتني ببراءة من النار قاتلت معك. فقال: اذهب، ووقع فيه وسبَّه، فأنشأ أين يقول:
ولستُ مقاتلاً رجلاً يصلِّي
على سلطان آخر من قريش
أقاتل مسلماً في في غير شيء
فليس بنافعي ما عشت عيشي
لخ سلطانه وعليَّ إثمي
مَعاذ الله من جهل وطيشِ
قال الهيثمي: رواه أبو يعلى والطبراني بنحوه إلا أنه قال: ولست(3/126)
أقاتل رجلاً يصلِّي، وقال: معاذ الله من فشل وطيش، وقال: أأقتل مسلماً في غير جُرْم. ورجال أبي يعلى رجال الصحيح غير زكريا بن يحيى رَححمَويه وهو ثقة. انتهى. وأخرجه البيهقي عن قيس بن أبي حازم والشَّعبي بنحوه.
ما قاله الحكم بن عمرو لعلي
وأخرج الطبراني عن ابن الحكم بن عمرو والغِفاري قال: حدثني جدي قال: كنت عند الحكم بن عمرو رضي الله عنه جالساً حين جاءه رسول علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: إنك أحق من أعاننا على هذا الأمر، فقال: سمعت خليلي ابن عمك صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا كان هكذا أو مثل هذا أن اتخذ سيفاً من خشب» فقد اتخذت سيفاً من خشب. قال الهيثمي: رواه الطبراني، وفيه من لم أعرفه.
امتناع عبد الله بن أبي أوفى عن التقال مع يزيد
h وأخرج البزار عن أبي الأشعث الصنعاني قال: بعثني يزيد بن معاوية إلى عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه ومعي ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ما تأمرون به الناس؟ فقال: أوصاني القاسم صلى الله عليه وسلم إن أنا أدركت شيئاً من هذه أن أعمد إلى أُحُد وأكسر سيفي وأقعد في بيتي، فإن دُهل عليَّ بيتي قال: «اقعد في مخدعك، فإن دُخل عليك فاجث على ركبتيك، وتقول: بُؤْبإثمي وءثمك فتكون من أصحاب النار، وذلك جزاء الظالمين» . فقد كسرت سيفي فإذا دُهل عليَّ بيتي دخلت مخدعي، فإذا دخخل عليَّ مخدعي جَثَوتُ على ركبتيَّ، فقلت: ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول. قال الهيثمي: رواه(3/127)
البزّار، وفيه من لم أعرفهم. انتهى.
عمل محمد بن مسلمة بوصيته عليه السلام في شأن الاقتتال على الدنيا
وأخرج الطبراني عن محمد بن مسلمة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا رأيت الناس يقتتلون على الدنيا فاعمد بسيفك على أعظم صخرة في الحرّة فاضربه بها حتى ينكسر، ثم اجلس في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة أو منية قاضية» ، ففعلت ما أمري به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الهيثمي رجاله ثقات.
وعند ابن سعد عن محمد بن مسلمة رضي الله عنه قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفاً فقال: «يا محمد بن مسلمة جاهد بهذا السيف في سبيل الله، حتى إذا رأيت من المسلمين فئتين تقتتلان فاضرب به الحجر حتى تكسره، ثم كف لسانك ويدك حتى تأتيك منية قاضية أو يد خاطئة» . فلما قتل عثمان رضي الله عنه وكان من أمر الناس ما كان؛ خرج إلى صخرة في فنائه فضرب الصخرة بسيفه حتى كسره.
قول حذيفة في الاقتتال
وأخرج أحمد عن ربعي قال: سمعت رجلاً في جنازة حذيفة. رضي الله عنه يقول: صاحب هذا السرير يقول: ما بي بأس ما سمعت من رسول(3/128)
الله صلى الله عليه وسلم ولئن اقتتلتم لأدخلنَّ بيتي، فلئن دُخل عليَّ فلأقولنَّ: ها، بُؤْبإثمي وإثمك. قال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير الرجل المبهم.
ما جرى بين معاوية ووائل بن حجر في هذا الشأن
وأخرج الطبراني عن وائل بن حُجر رضي الله عنه قال: لما بلغنا ظهورُ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجتُ وافداًعن قومي. حتى قدمت المدينة، فلقيت أصحابه قبل لقائه فقالوا: بَشَّرَنا بك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل أن تقدَم علينا بثلاثة أيام فقال: «قد جاءكم وائل بن حُجْر» . ثم لقيني عليه السلام فرحب بي، وأدنى مجلسي، وبسط لي رداءه فأجلسني عليه ثم دعا في الناس فاجتمعوا إليه، ثم اطَّلع المنبر وأطلعني معه وأنا دونه، ثم حمد الله وقال:
«يا أيها الناس: هذا وائل بن حُجحر أتاكم من بلاد بعيدة؛ من بلاد حضرموت، طائعاً غير مكره، بقيةُ أبناء الملوك، بارك الله فيك يا حُجر وفي ولدك» .
ثم نزل وأنزلني منزلاً شاسعاً عن المدينة، وأمر معاوية بن أبي سفيان أن يبوؤني إياه. فخرجت وخرج معي، حتى إذا كنا ببعض الطريق قال: يا وائل إن الرمضاء قد أصابت بطن قدمي فأردفني خلفك، فقلت: ما أضن عليك بهذه الناقة ولكن لستَ من أبناء الملوك وأكره أن أعيَّر بك. قال: فالقِ إليَّ حذاءك أتوقَّى به من حر الشمس. قلت: ما أضن عليك بهاتين الجلدتين(3/129)
ولكن لست ممن يلبس لباس الملوك وأكره أن أعيَّر بك - فذكر الحديث. وفيه:
فلما ملك معاوية بعث رجلاً من قريش يقال له بُسْر بن أبي أرطأة فقال له: قد ضممت الناحية فاخرج بجيشك، فإذا خلَّفت أفواه الشام فضع سيفك فاقتل من أبي بيعتي حتى تصير إلى المدينة، ثم أدخل المدينة فاقتل من أبي بيعتي، وإن أصبت وائل بن حُجر حياً فأتني به. ففعل، وأصاب وائلاً حياً فجاء به إليه، فأمر معاوية أن يُتلقَّى، وأذن له فأجلسه معه على سريره. فقال له معاوية: أسريري هذا خير أم ظهر ناقتك؟ فقلت: يا أمير المؤمنين كنتُ حديث عهد بجاهلية وكفر وكانت تلك سيرة الجاهلية، فقد أتانا الله بالإِسلام فستر الإِسلام ما فعلتُ. قال: فما منعك من نصرنا وقد، أعدَّك عثمان ثقة وصْهراً؟ قلت: إنك قاتلت رجلاً هو أحف بعثمان منك قال: وكيف يكون أحق بعثمان نمي وأنا أقرب إلى عثمان في النسب؟ قلت: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان آخى بين علي وعثمان فالآخ أولى من ابن العم، ولست أقاتل المهاجيرن. قال: أَوَلَسْنا مهاجرين؟ قلت: أَوَلَيْسنا قد اعتزلناكما جميعاً؟ وحجة أخرى: حضرتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رفع رأسه نحو المشرق وقد حضره جمع كثير، ثم ردَّ إليه بصره فقال: أتتكم الفتن كقطع الليل المظلم، فشدَّد أمرَها وعجَّله وقبَّحه. قلت له من بين القوم: يا رسول الله وما الفتن؟ قال: يا وائل إذا تختلف سيفان في الإِسلام فاعتزلهما. فقال: أصبحت شيعياً؟ فقلت: لا، ولكن أصبحت ناصحاً للمسلمين. فقال معاوية: لو سمعتُ ذا وعلمته ما أقدمتُك قلت: أو ليس قد رأيتَ ما صنع محمد بن مسلمة عند مقتل عثمان؟ انتهى بسيفه إلى صخرة فضربه حتى انكسر. فقال: أولئك قوم يُحملون. قلت: فكيف نصنع بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم(3/130)
«من أحب الأنصار فبحبي أحبهم ومن أبغض الأنصار فببغضي أبغضهم» . فقال: اختر أيَّ البلاد شئت فإنك لست براجع إلى حضرموت. فقلت: عشيرتي بالشام وأهل بيتي بالكوفة. فقال: رجل إلى أهل بيتك خبير من عشرة من عشيرتك. فقلت: ما رجعت إلى حضرموت
سروراً بها وما ينبغي للمهاجر أن يرجع إلى الموضع الذي هاجر منه إلا من علّة. قال: وما علتك؟ قلت: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتن، فحيث اختلفتم اعتزلناكم وحيث اجتمعتم جئناكم، فهذه العلة. فقال: إني قد وليتك الكوفة فسر إليها. فقلت: ما إلى بعد النبي صلى الله عليه وسلم لأحد؛ أما رأيت أبا بكر رضي الله عنه أرادني فأبيت، وأرادني عمر رضي الله عنه فأبيت، وأرادني عثمان رضي الله عنه فأبيت ولم أترك بيعته. جاءني كتاب أبي بكر حيث ارتد أهل ناحيتنا فقمت فيهم حتى ردَّهم الله إلى الإسلام بغير ولاية، فدعا عبد الرحمن بن أم الحكم فقال: سر فقد وليتك الكوفة وسر بوائل فأكرمه واقضِ حوائجه. فقال: يا أمير المؤمنين أسأت بي الظن تأمرني بإكرام مَنْ قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرمه، وأبا بكر وعمر وعثمان وأنت. فسرَّ معاوية بذلك منه. فقدمت معه الكوفة فلم يلبث أن مات. قال الهيثمي: رواه الطبراني في الصغير والكبير وفيه محمد بن حُجر وهو ضعيف. انتهى.
قول أبي برزة الأسلمي في قتال مروان وابن الزبير والقرَّاء
وأخرج البيهقي عن أبي المنهال قال: لما كان زمن أُخرج ابن زياد وثبت مروان بالشام حيث وثب، ووثب ابن الزبير بمكة، ووثب الذين كانوا يُدعون القُرَّاء بالبصرة. قال: غُمَّ أبي غماً شديداً، فقال: انطلق - لا أبالك - إلى هذا الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بَرْزَة الأسلمي رضي الله عنه. قال: فانطلقت معه حتى دخلنا عليه في داره، فإذا هو قاعد في ظل عُلْوٍ له من قصب في يوم حار شديد الحر. فجلسنا إليه فأنشأ أبي يستطعمه، قال:(3/131)
يا أبا برزة ألا ترى؟ ألا ترى؟ قال: فكان أول شيء تكلم به أن قال: إني أتسب عند الله أني أصبحت ساخطاً على أحياء قريش، إنكم معشر العُرَيب كنتم على الحال الذي قد علمتم في جاهليتكم من القلَّة والذلّة والضلالة وإن الله عز وجل نعشكم بالإِسلام وبمحمد صلى الله عليه وسلم حتى بلغ بكم ما ترون، وإن هذه الدنيا التي أفسدت بينكم. إن ذاك الذي بالشام - يعني مروان - والله ما يقاتل إلا على الدنيا، وإن ذاك الذي بمكة - والله - إن يقاتل إلا على الدنيا، وإن الذين حولكم الذين تدعونهم قراءكم - والله - إن يقاتلون إلا على الدنيا؛ قال: فلما لم يدع أحداً قال له أبي: فما تأمرنا إذاً؟ قال: إني لا أرى خير الناس اليوم إلا عصابة مُلْبِدة - وقال بيده - خماصَ البطون من أموال الناس، خفافَ الظهور من دمائهم. وأخرجه البخاري، والإِسماعيلي، ويعقوب بن سفيان في تاريخه عن أبي المنهال بنحوه كما في فتح الباري.
قول حذيفة في القتل
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن شِمْر بن عطية قال: قال حذيفة رضي الله عنه لرجل: أيسرك أنك قتلت أفجر الناس؟ قال: نعم، قال: إذاً تكون أفجر منه.
الاحتراز عن تضييع الرجل المسلم
أخرج اليبهقي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأله إذا حاصرتم المدينة كيف تصنعون؟ قال: نبعث الرجل إلى المدينة وننصع له هَنَةً من جلود. قال: أرأيت إن رُميَ بحجر؟ قال: إذا يُقتل.(3/132)
قال: فلا تفعلوا، فوالذي نفسي بيده ما يسرني أن تفتتحوا مدينة فيها أربعة آلاف مقاتل بتضييع رجل مسلم. وأخرجه الشافعي مثله كما في الكنز إلا أن عنده: هبيئاً من جلود.
استنقاذ المسلم من أيدي الكفار
أخرج ابن أبي شيبة عن عمر رضي الله عنه قال: لأن استنقذ رجلاً من السملمين من أيدي الكفار أحب إليَّ من جزيرة العرب. كذا في كنزل العمال.
ترويع المسلم
حديث أبي الحسن في نهي النبي عليه السلام عن ترويع المسلم
أخرج الطبراني عن أبي الحسن رضي الله عنه - وكان عَقَبياً بَدْرياً - قال: كنا جلوساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام رجل ونسي نعليه، فأخذهما رجل فوضعهما تحته. فرجع الرجل فقال: نعليَّ، فقال القوم: ما رأيناهما. فقال: هوذَهْ، فقال: «فكيف بروعة المؤمن؟» - مرتين أو ثلاثاً -. كذا في الترغيب. قال الهيثمي: رواه الطبراني وفيه حسين بن عبد الله بن عبيد الله الهاشمي وهو ضعيف انتهى. وأخرجه أيضاً ابن السَّكَن مثله كما في الإِصابة. وعند البزَّار والطبراني وأبي الشيخ ابن حبان في كتاب التوبيخ عن عامر بن ربيعة رضي(3/133)
الله عنه أن رجلاً أخذ نعل رجل فغيَّبها وهو يمزح، فذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم «لا تروِّعوا المسلم فإنَّ روعة المسلم ظلم عظيم» . كذا في الترغيب. قال الهيثمي: وفيه عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف.
أحاديث بعض الصحابة في هذا الشأن أيضا
وأخرج الطبراني في الكبير - ورواته ثقات - عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير فخفق رجل على راحلته، فأخذ رجل سهماً من كنانته فانتبه الرجل ففزع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يحل لرجل أن يروِّع مسلماً» .
وعند أبي داود عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يسيرون مع النبي صلى الله عليه وسلم فنام رجل منهم، فانطلق بعضهم إلى حبل معه فأخذه، ففزع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يحل لمسلم أن يروِّع مسلماً» . كذا في الترغيب.
وأخرج الطبراني عن سليمان بن صُرَد رضي الله عنه أن أعرابياً صلَّى مع رضي الله عنه ومعه قَرَن فأخذها بعض القوم؛ فلما سلَّم النبي صلى الله عليه وسلم قال الأعرابي: القَرَن، فكأن بعض القوم ضحك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يروِّعنَّ مسلماً» . قال الهيثمي: رواه الطبراني من رواية(3/134)
ابن عيينة عن إسماعيل بن مسلم، فإن كان هو العبدي فهو من رجال الصحيح، وإن كان هو المكِّي فهو ضعيف وبقية رجاله ثقات. انتهى.
لغاية ص 105
تابع
الاستخفاف بالمسلم واحتقاره
حديث عائشة وعطاء وعروة في أسامة بن زيد
أخرج ابن سعد عن عائشة رضي الله عنها قالت: عَثَر أسامة رضي الله عنه على عتبة الباب أبو أُسْكُفَّة الباب، فشجَّ جبهته، فقال: «يا عائشة أميطي عنه الدم» فتقذرتُه. قالت: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يَمَصُّ شَجته ويمجه ويقول: «لو كان أسامة جارية لكسوته وحَلَّيته حتى أُنفِقَه» . وأخرج ابن أبي شيبة نحوه كما في المنتخب.
وعند الواقدي وابن عساكر عن عطاء بن يسار رضي الله عنه قال: كان أسامة بن زيد رضي الله عنهما قد أصابه الجُدَي أول ما قدم المدينة، وهو غلام مُخاطه يسيل على فيه فتقَذَّرتْه عائشة رضي الله عنها، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفق يغسل وجهه ويقبله. فقالت عائشة: أما - والله - بعد هذا فلا أُقصيه أبداً. كذا في المنتخب.
وأخرج ابن سعد أيضاً عن عروة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخَّر الإِفاضة من عَرفَة من أجل أسامة بن زيد رضي الله عنهما ينتظره، فجاء غلام أفطس أسود، فقال(3/135)
أهل اليمن: إنما حبسنا من أجل هذا؟ قال: فلذلك كفر أهل اليمن من أجل ذا، قال ابن سعد: قلت ليزيد بن هارون: ما يعني بقوله كفر أهل اليمن من أجل هذا؟ فقال: ردَّتُهم حين ارتدوا في زمن أبي بكر رضي الله عنه إنما كانت لاستخفافهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجه ابن عساكر عن عروة نحوه وفيه قال عروة: إنما كفرت اليمن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من أجل أسامة. كذا في المنتخب.
قول عمر رضي الله عنه في هذا الشأن
وأخرج أبو عبيد عن الحسن أن قوماً قدموا على أبي موسى رضي الله عنه، فأعطى العرب وترك الموالي. فكتب إليه عمر رضي الله عنه: ألا سويتَ بينهم؟ بحسب المرء من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كذا في الكنز. وعند أحمد في الزهد عن عمر رضي الله عنه قال: بحسب امرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كذا في الكنزل.
إغضاب المسلم
ما وقع بين أبي بكر وبين سلمان وصهيب وبلال في أمر أبي سفيان
أخرج مسلم عن عائذ بن عمرو أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال رضي الله عنهم في نفر، فقالوا: ما أخذتْ سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها. قل: فقال أبو بكر رضي الله عنه: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: يا أبا بكر لعلك أغضبتهم؟ لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك» فأتاهم أبو بكر فقال: يا إخوتاه أغضبتكم؟ قالوا:(3/136)
لا. يغفر الله لك يا أخي. ويخرجه أبو نعيم في الحلية وابن عبد البر في الاستيعاب عن عائذ بن عمرو نحوه.
وأخرج ابن عساكر عن صهيب أن أبا بكر - رضي الله عنه - مر بأسير له يستأمن له من رسول الله صلى الله عليه وسلم وصهيب جالس في المسجد، فقال لأبي بكر: من هذا الذي معك؟ قال: أسير لي من المشركين أستأمن له من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صهيب: لقد كان في عنق هذا موضع للسيف، فغضب أبو بكر. فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «مالي أراك غضبان؟» قال: مررت بأسيري هذا على صهيب فقال: لقد كان في رقبة هذا موضع للسيف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «فلعلك آذتيه» : فقال: لا والله، فقال: «لو آذيته لآذيت الله ورسوله» . كذا في كنز العمال.
لعن المسلم
حديث عمر في نهي النبي عليه السلام عن لعن شارب الخمر
أخرج البخاري وابن جرير والبيهقي عن عمر رضي الله عنه أن رجلاً كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه عبد الله، وكان يلقب حماراً، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب. فأُتي به يوماً فأمر به فجُلد، فقال رجل من القوم: اللهمَّ العنه فما أكثر ما يُؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «لا تلعنوه فوالله - ما علمت -إنه يحب الله ورسوله» . وعند أبي يعلى(3/137)
وسعيد بن منصور وغيرهما عنه أن رجلاً كان يُقلب حماراً وكان يهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم العُكَّة من السمن والعُكَّة من العسل. فإذا جاء صاحبه يتقاضاه جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أعطِ ثمن متاعه. فما يزيد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتبسم فيأمر به فيُعطى. فجيء به يوماً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شرب الخمر فقال رجل - فذكر بنحوه. كذا في الكنز.
أحاديث زيد بن أسلم وأبي هريرة وسلم ة بن الأكوع في هذا الشأن
وأخرج عبد الرزاق عن زيد بن أسلم قال: أُتي بابن النعمان - رضي الله عنه - إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجلده، ثم أُتي به فجلده مراراً، أربعاً أو خسماً. فقال رجل: اللهمَّ العنه، ما أكثر ما يشرب وما أكثر ما يجلد فقال النبي صلى الله عليه وسلم «لا تلعنه فإنَّه يحب الله ورسوله» . كذا في الكنز. وعند ابن سعد عن زيد بن أسلم قال: أُتي بالنعيمان أو ابن النعيمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم ـ فذكر نحوه.
وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بشارب فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فضربوه؛ فمنهم من ضربه بنعله، ومنهم من ضربه بيده، ومنهم بثوبه. ثم قال: ارفعوا، ثم أمرهم فبكَّتوه. فقالوا: ألا تستحيي من رسول الله صلى الله عليه وسلم تصنع هذا؟ ثم أرسله. فلما أدبر وقع القوم يدعون عليه ويسبُّونه، يقول القائل: اللهمّ اخزه، اللهم العنه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تقولوا هكذا ولا تكونوا للشيطان على أخيكم، ولكن قولوا: اللهمّ اغفر له، اللهمَّ اهده» وفي لفظ: «لا تقولوا هكذا، لا تعينوا الشيطان، ولكن قولوا: رحمك الله» كذا في(3/138)
كنزل العمال.
وأخرج الطبراني بإسناد جيد عن سلَلَمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: كنا إذا رأينا الرجل يلعن أخاه رأينا أنْ قد أتى باباً من أبواب الكبائر. كذا في الترغيب.
شتم المسلم
حديث عائشة في شأن الرجل الذي كان يشتم عبيده
أخرج أحمد والترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء رجل فقعد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي مملوكِين يكذبونني، ويخونونني، ويعصونني، وأشتمهم وأضربهم، فكيف أنا منهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا كان يوم القيامة يحسب ما خانوك، وعصَوك، وكذَّبوك، وعقابك إياهم (فإن كان عقابك إياهم) بقدر ذنوبهم كان كفافاً لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتُص لهم منك الفَضْل» . فتنحَّى الرجل وجعل يهتف ويبكي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (أما تقرأ قول الله: {وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} {فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} ) (سورة الأنبياء، الآية: 7) فقال الرجل: يا رسول الله ما أجد لي ولهؤلاء خيراً من مفارقتهم، أشهد أنهم كلَّهم أحرار. كذا في الترغيب، وقال: إسناد أحمد والترمذي متصلان ورواتهما(3/139)
ثقات.
ما وقع بينه عليه السلام وبين أبي بكر لمَّا شتمه رجل
وأخرج أحمد والطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً شتم أبا بكر رضي الله عنه والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يُعجبه ويتبسم. فملا أكثر ردَّ عليه بعض قوله. فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقام، فلحقه أبو بكر فقال: يا رسول الله كان يشتمني وأنت جالس علما رددتُ عليه بعض قوله غضبت وقمت؟ قال: «إنه كان معك مَلَك يردُّ عنك، فلما رددت عليه بعض قوله وقع الشيطان فلم أكن لأقعد مع الشيطان» ، ثم قال: «يا أبا بكر ثلاث كلهن حق: ما من عبد ظُلم يمَظْلِمة فيفضي عنها لله عز وجل إلا أعز الله بها نَصْره، وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده بها كثرة، وما فتح باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله بها قلّة» : قال الهيثمي: رجال أحمد الصحيح، ورواه أبو داود إلا أنه لم يذكر: ثم قال يا أبا بكر.
نذر عمر قطع لسان ابنه لشتمه المقداد
أخرج أحمد، واللألكائي في السنة، وأبو القاسم بن بُشران في أماليه، وابن عساكر عن البهي أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما شتم المقدار رضي الله عنه، فقال عمر: عليَّ نذر إن لم أقطع لسانك فكلَّموه وطلبوا إليه. فقال عمر: دعوني حتى أقطع لسانه حتى لا يشتم بعدُ أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم(3/140)
وعند ابن عساكر عن البهي قال: كان بين عبد الله بن عمرو بين المقداد - رضي الله عنهم -شيء، فنال منه عبد الله، فشكاه المقداد إلى أبيه، فنذر عمر ليقطعنَّ لسانه. فلَّما خاف ذلك من أبيه تحمل على أبيه بالرجال، فقال: دعوني فأقطعَ لسانه فتكون سنةً يُعمل بها من بعدي، لا يوجد رجل شتم رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاَّ قُطع لسانه. كذا في منتخب كنز العمال.
الوقوع في المسلم
إنكاره عليه السلام على رجل في ذلك
أخرج أبو نعيم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: وقع رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم في رجل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «قُمْ، لا شهادة لك» قال: يا رسول الله فلست أعود. قال: «أصبحت تهزأ بالقرآن؟ ما آمن بالقرآن من استحل محارمه» . كذا في الكنز.
ما وقع بين خالد وسعد في ذلك
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن طارق بن شهاب قال: كان بين خالد وسعد رضي الله عنهما كلام. فذهب رجل يقع في خالد عنه سعد، فقال: مَهْ، إنَّ ما بيننا لم يبلغ دِيَننا. وأخرجه الطبراني عن طارق مثله. قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح. انتهى.(3/141)
غيبة المسلم
إنكاره عليه السلام على من اغتاب رجلاً أُقيم عليه حد الرجم
أخرج عبد الرزاق وأبو ادود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء الأسلمي نبيَّ الله فشهد على نفسه أنه أصاب امرأة حراماً أربع مرات. كلُّ ذلك يعرض عنه - فذكر الحديث. وفيه قال: فأمر به فرجم. فسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعْه نفسه حتى رُجم رجم الكلب، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم عنهما ثم سار ساعة حتى مرَّ بجيفة حمار شائل برجله.k فقال: «أين فلان وفلان» ؟ قالا: نحن ذان يا رسول الله، قال: «انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار» فقالا: يا نبي الله - غفر الله لك - من يأكل من هذا؟ قال: «فما نلتما من عرض أخيكما آنفاً أشد من أكل الميتة، والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها» . كذا في الكنزل، وأخرجه ابن حبَّان في صحيه عن أبي هريرة نحون. كما في الترغيب وأخرجه البخاري في الأدب نحوه مختصراً، وصحَّحه ابن حبان كما قاله الحافظ في الفتح.(3/142)
وأخرج عبد الرزاق عن ابن المنكدر أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم امرأة فقال بعض المسلمين: حبط عمل هذه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «بل هذه كفَّارة لما عملت وتحاسب أنت بما عملت» . كذا في الكنزل.
حديث عائشة وزيد بن أسلم في صفية وفي امرأة أخرى
وأخرج أبو داود والترمذي والبيهقي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم حَسْبك من صفية كذا وكذا - قال بعض الرواة: تعني قصيرة - فقال: «لقد قلت كلمة لو مُزجت بماء البحر لمزجته -» قالت: وحكيتُ له إنساناً، فقال: «ما أحب أن حكيت لي إنساناً وإن لي كذا وكذا» . قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وعند أبي داود أيضاً عنها أنه اعتلَّ بعير لصفية بنت حُيَي وعند زينب فَضْل ظَهْر - رضي الله عنهما -، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لزينب: «أعطيها بعيراً» ، فقالت: أنا أعطي تلك اليهودية؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهجر ذا الحجة والمحرَّم وبعض صفر. كذا في الترغيب. وأخرجه ابن سعد نحوه، وفي حديثه: فتركها رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا الحجة والمحرَّم شهرين أو ثلاثة لا يأتيها. قالت زينب: حتى يئستُ منه.
وعند ابن أبي الدنيا عنها قالت: قلت لامرأة مرة وأنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إن(3/143)
هذه لطويلة الذيل، فقال: «الفظي، الفظي» فلفظتُ بَضْعة من لم. كذا في الترغيب.
وأخرج ابن سعد عن زيد بن أسلَم أن نبي الله صلى الله عليه وسلم في الوجع الذي توفي فيه اجتمع إليه نساؤه، فقالت صفية بنت حيي: أما والله يا نبي الله لوددتُ أنَّ الذي بك بي، فغمزنَها أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأبصرهنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «مَضْمِضْن» فيقلن: من أيِّ شيء يا نبي الله، قال: «من تغامزكن بصاحبتكم، والله إنَّها لصادقة» وسنده حسن كما في الإِصابة. وأخرجه ابن سعد أيضاً من طريق عطاء بن يسار بمعناه.
إنكاره عليه السلام على بعض أصحابه قولهم الغيبة
وأخرج أبو يَعْلى والطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام رجل، فقالوا يا رسول الله ما أعجزه أو قالوا: ما أضعف فلاناً فقال النبي صلى الله عليه وسلم «اغتبتم صاحبكم وأكلتم لحمه» . ولفظ الطبراني: أن رجلاً قام من عند النبي صلى الله عليه وسلم فرأوا في قيامه عَجْزاً، فقالوا: ما أَعجز فلانً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أكلتم أخاكم واغتبتموه» . كذا في الترغيب قال الهيثمي: وفي إسنادهما محمد بن أبي حُمَيد ويقال له حَمَّاد وهو ضعيف جداً - انتهى.(3/144)
وأخرجه الطبراني عن معاذ بن جبل رضي الله عنه بمعنى السياق الأول وزاد فيه: قالوا: يا رسول الله قلنا ما فيه، قال: «إن قلتم ما ليس فيه فقد بهتموه» . قال الهيثيم: وفيه علي بن عاصم وهو ضعيف.
وأخرج الأصبهاني بإسند حسن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنهم ذكروا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً، فقالوا: لا يأكل حتى يُطعم، ولا يرحل حتى يُرحَّل له. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «اغتبتموه» فقالوا: يا رسول الله إنما حدثنا بما فيه، قال: «حسبك إذا ذكرت أخاك بما فيه» كذا في الترغيب.
وأخرج ابن أبي شَيْبة والطبراني - واللفظ له - ورواته رواة الصحيح - عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام رجل، فوَقَع فيه رجل من بعده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «تحلَّل» فقال: ومَّا أتحلَّل؟ قال: «إنك أكلت لحكم أخيك» كذا في الترغيب. وفيما نقل الهيثمي: «تخلَّل» ، فقال: ومما أتخلل يا رسول الله، (ما) أكلت لحماً؟(3/145)
قصة فتاتين صامتا عن الطعام وأفطرتا عن الغيبة
وأخرج أبو داود والطيالسي وابن أبي الدنيا في ذم الغيبة والبيهقي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس يصوم يوم وقال: «لا يُفطرنَّ أحد منكم حتى آذن له» ، فصام الناس حتى إذا أمسَوا، فجعل الرجل يجيء فيقول: يا رسول الله إني ظللت صائماً فائذنْ لي فأفطر. فيأذن له، الرجل والرجل، حتى جاء رجل فقال: يا رسول الله فتاتان من أهل ظلتا صائمتين وإنهما تستحييان أن تأتياك فأذن لهما فلتُفطرا. فأعرض عنه. ثم عاوده فأعرض عنه، ثم عاوده فأعرض عنه، ثم عاوده فأعرض عنه. فقال: «إنهما تصوما وكيف صام من ظل هذا اليوم يأكل لحوم الناس؟ اذهب فمُرهما إن كانتا صائمتين فلتستقيئا» فرجع إليهما فأخبرهما استقاءتا، فقاءت كل واحدة علقة من دم. فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: «والذي نفسي بيده لو بقيتا في بطونهما لأكلتهما النار» وأخرجه أحمد وابن أبي الدنيا أيضاً والبيهقي من رواية رجل لم يُسمَّ عن عُبَيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه؛ إلا أن أحمد قال: فقال لإحداهما: «قيئي» ، فقاءت قيحاً ودماً وصديداً ولحماً حتى ملأت نصف القدح، ثم قال للأخرى: «قيئي» ، فقاءت من قيح ودم وصديد ولحم عبيط وغيره حتى ملأت القدح. ثم قال: «إنَّ هاتين صامتا عما أحلَّ الله لهما وأفطرنا على ما حرّم الله عليهما، جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان من لحوم الناس» كذا في الترغيب.
قصة أبي بكر وعمر مع رجل كان يخدمهما
وأخرج الحافظ الضياء المقدسي في كتابه المختارة عن أنس بن مالك(3/146)
رضي الله عنه قال: كانت العرب تخدم بعضهما بعضاً في الأسفار، كان مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهمارجل يخدمهما، فناما فاستيقظا ولم يهيىء لهما طعاماً. فقالا: إن هذا لنؤوم فأيقظاه، فقالا له: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل له: إن أبا بكر وعمر يُقرئانك السلام ويستأدمانك. فقال صلى الله عليه وسلم «إنهما قد ائتدما» ، فجاءا فقالا: يا رسول الله بأي شيء ائتدمنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم «بلحم أخيكما والذي نفسي بيده إني لأرى لحمه بين ثناياكما» فقالا رضي الله عنهما: استغفر لنا يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم «مُراه فليستغفر لكما» كذا في التفسير لابن كثير.
التجسس على عورات المسلم
انصراف عمر عن الشَّرْب وتركهم
أخرج عبد الرزاق وعبد بن حُمَيد والخرائطي عن المِسْور بن مَخْرَمة عن عبد الرحمن بن عوف أنه حرس مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - ليلةً المدينة، فبينما هم يمشون شبَّ لهم سراج في بيت، فانطلقوا يؤمونه، فلما دنوا منه إذاباب مُجاف على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة ولَغَط. فقال عمر -وأخذ بيد عبد الرحمن بن عوف -: أتدري بيت من هذا؟ قال: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خَلَف وهم الآن شَرْب فما ترى؟ قال: أرى أن قد أتينا ما نهى الله عنه، قال الله: {وَلاَ تَجَسَّسُواْ} (سورة الحجرات: الآية: 12) فقد تجسسنا فانصرف عنهم عمر رضي الله عنه وتركهم.(3/147)
قصة عمر مع رجل ومع جماعة في هذا الشأن
وأخرج ابن المنذر وسعيد بن منصور عن الشَّعْبي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد رجلاً من أصحابه، فقال لابن عوف رضي الله عنه: انطلق بنا إلى منزل فلان فننظر، فأتيا منزله فوجدا بابه مفتوحاً وهو جالس وامرأته تصب له في الإناء فتناوله إياه، فقال عمر لابن عوف: هذا الذي شغله عنا. فقال ابن عوف لعمر: وما يُدريك ما في الإِناء؟ فقال عمر: أتخاف أن يكون هذا هو التجسس؟ قال: بل هو التجسس. قال: وما التوبة من هذا؟ قال: لا تُعلمه بما اطَّلعت عليه من أمره، ولا يكونَنَّ في نفسك إلاَّ خيراً، ثم انصرفا. كذا في الكنز.
وأخرج عبد الرزاق عن طاووس أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج ليلة يحرس رُفقة نزلت بناحية المدينة، حتى إذا كان في بعض الليل مر ببيت فيه ناس يشربون، فناداهم أفسقاً؟ أفسقاً؟ فقال بعضهم: قد نهاك الله عن هذا فرجع عمر وتركهم. كذا في الكنز.
تسوّر عمر على المغني بيته
وأخرج الخرائطي عن ثَوحر الكندي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يَعُس بالمدينة من الليل، فسمع صوت رجل في بيت يتغنَّى، فتسوَّر عليه فقال: يا عدو الله، أظننت أن الله يسترك وأنت في معصية فقال: وأنت يا أمير المؤمنين لا تعجل عليَّ؛ إن أكن عصيت الله واحدة فقد عصيت الله في ثلاث(3/148)
قال: «ولا تجسسوا» وقد تجسست. وقال: {وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِهَا} (سورة البقرة، الآية: 189) وقد تسوَّرت عليَّ، ودخلت عليَّ بغير إذن وقال الله تعالى: {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا} (سورة النور، الآية: 27) قال عمر: فهل عندك من خير إن عفوت عنك؟ قال: نعم، فعفا عنه وخرج وتركه. كذا في الكنز.
قصته مع شيخ كبير في هذا الشأن
وأخرج أبو الشيخ عن السُّدِّي قال: خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإذا هو بضوء نار ومعه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فأتْبَع الضوء حتى دخل داراً فإذا بسراج في بيت، فدخل وذلك في جوف الليل، فإذا شيخ جالس وبين يديه شراب وقَيْنة تغنِّيه، فلم يشعر حتى هجم عليه عمر، فقال عمر: ما رأيت كالليلة منظراً أقبح من شيخ ينتظر أجله فرفع رأسه إليه، فقال: بلى، يا أمير المؤمنين ما صنعت أنت أٌبح أتجسست وقد نُهي عن التجسس، ودخلت بغير إذن؟ فقال عمر: صدقت. ثم خرج عاضاً على ثوبه يبكي وقال: ثكلت عمر أمه إن لم يغفر له ربه، يجد هذا كان يستخفي به من أهله فيقول الآن رآني عمر فيتتابع فيه. وهجر الشيخ مجلس عمر حيناً، فبينا عمر بعد ذلك جالس إذ به قد جاء شبه المستخفي حتى جلس في أخريات الناس، فرآه عمر فقال: عليَّ بهذا اشيخ، فأُتي فقيل له: أجب، فقام وهو يرى أن عمر سيسوءه بما رأى منه، فقال عمر: ادنُ مني، فما زال يدنيه حتى أجلسه بجنبه، فقال: إدنِ مني أذنك، فالتقم أذنه فقال: أما والذي بعث محمداً(3/149)
بالحق رسولاً ما أخبرت أحداً من الناس بما رأيت منك ولا ابن مسعود فإنه كان معي، فقال: يا أمير المؤمنين أدنِ مني أذنك، فالتقم أذنه فقال: ولا أنا والذي بعث محمداً بالحق رسولاً ما عدت إليه حتى جلست مجلسي هذا، فرفع عمر صوته يكبِّر، فما يدري الناس من أي شيء يكبر. كذا في الكنز.
قصته مع أبي محجن الثقفي
وأخرج الطبراني عن أبي قِلابة أن عمر رضي الله عنه حُدِّث أن أبا محجن الثقفي يشرب الخمر في بيته هو وأصحاب له، فانطلق عمر حتى دخل عليه، فإذا ليس عنده إلا رجل، فقال أبو محجن: يا أمير المؤمنين إن هذا لا يحل لك قد نهاك الله عن التجسس؛ فقال عمر: ما يقول؟ فقال له زيد بن ثابت وعبد الرحمن بن الأرقم - رضي الله عنهما -: صدق يا أمير المؤمنين، هذا من التجسس، فخرج عمر وتركه. كذا في الكنزل.
ستر المسلم
ما أمر به عمر أهل فتاة في ذلك
أخرج هَنَّاد والحارث عن الشَّعْبي أن رجلاً أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إنَّ لي ابنة كنت وأدتها في الجاهلية فاستخرجنها قبل أن تموت، فأدركت معنا الإءْلام فأسلمت، فلما أسلمت أصابها حدٌّ من حدود الله تعالى، فأخذتِ الشفرة لتذبح نفسها فأدركناها وقد قطعت بعض أوداجها فداويناها حتى برئت، ثم أقبلت بعد بتوبة حسنة وهي تُخطب إلى قوم فأخبرتهم من شأنها بالذي كان، فقال عمر: أتعمِد إلى ما ستر الله فتبديه؟ والله لئن أخبرت بشأنها(3/150)
أحداً من الناس لأجعلنك نكالاً لأهل الأمصار، بل أنكْحْها نكاح العفيفة المسلمة. كذا في الكنز.
وعند سعيد بن منصور والبيهقي عن الشَّعْبي أن جارية فَجَرت فأُقيم عليها الحد، ثم إنهم أقبلوا مهاجرين فتابت الجارية وحسنت توبتها، فكانت تُخطب إلى عمها فيكره أن يزوجها حتى يخبر بما كان من أمرها، وجعل يكره أن يُفشي ذلك عليها، فذكر أمرها لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: زوِّجوها كما تزوِّجوا صالحي فتياتكم. كذا في الكنز.
قصته والصبي الصغير والنسوة الأربع
وأخرج البيهقي عن الشَّعبي قال: جاءت امرأة إلى عمر رضي الله عنه فقالت: يا أمي المؤمنين إني وجدت صبياً ووجدت قُبْطية فيها مائة دينار، فأخذته واستأجرت له ظِئراً، وإن أربع نسوة يأتينه ويقبلنه لا أدري أيتهنَّ أمه؟ فقال لها: إذا هنَّ أتينك فأعلميني، ففعلت، فقال لامرأة منهن: أيتكن أم هذا الصبي؟ فقلت: والله ما أحسنت ولا أجملت يا عمر تعمد إلى امرأة ستر الله عليها فتريد أن تهتك سترها، قال: صدقت؛ ثم قال للمرأة: إذا أتينَك فلا تسأليهن عن شيء وأحسني إلى صبيهن، ثم انصرف. كذا في الكنز.
أمر أنس بستر امرأة
وأخرج عبد الرزاق عن صالح بن كرز أنه جاء بجارية له زنت إلى(3/151)
الحكم بن أيوب. قال: فبينا أنا جالس إذ جاء أنس بن مالك رضي الله عنه فجلس، فقال: يا صالح ما هذه الجارية معك؟ قلت: جارية لي بغت فأردت أن أرفعها إلى الإِمام ليقيم عليها الحد، فقال: لا تفعل، ردَّ جاريتك واتَّقِ الله، واستر عليها، قلت: ما أنا بافعل؟ قال: لا تفعل وأطعني، فلم يزل يراجعني حتى رددتها. كذا في الكنز.
قصة كاتب عقبة بن عامر مع جماعة كانوا يشربون الخمر
وأخرج أبو داود والنِّسائي عن دُخَير أبي الهيثم كانت عُقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قلت لعقبة بن عامر إن لنا جيراناً يشربون الخمر وأنا داع لهم الشرط ليأخذوهم، قال: لا تفعل وعِظهم وهددهم، قال: إني نهيتهم فلم ينتهوا وأنا داع لهم الشُرَط ليأخذوهم، فقال عقبة: ويحكم لا تفعل؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من ستر عورة فكأنما استحيا مؤودة في قبرها» كذا في الترغيب وقال: رواه أبو داود والنِّسائي بذكر القصة وبدونها، وابن حبّان في صحيحه واللفظ له، والحاكم وقال: صحيح الإِسناد، قال المنذري: رجال أسانيدهم ثقات، ولكن اختلف فيه على إبراهيم بن نَشِيط اختلافاً كثيراً.
ما وقع بين أبي الدرداء وابنه في أمر فسّاق دمشق.
وأخرج البخاري في الأدب عن بلال بن سعد الأشعري أن معاوية -(3/152)
رضي الله عنه - كتب إلى أبي الدرداء رضي الله عنه: اكتب إليَّ فُساق دمشق، فقال: ما لي وفُسّاق دمشق ومن أين أعرفهم؟ فقال ابنه بلال: أنا أكتبهم، فكتبهم: قال: من أين علمت؟ ما عرفتَ أنهم فساق إلا وأنت منهم، ابدأ بنفسك، ولم يرسل بأسمائهم.
ما وقع بين جرير وعمر في هذا الشأن
وأخرج ابن سعد عن الشَّعبي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان في بيت ومعه جرير بن عبد الله رضي الله عنه، فوجد عمر ريحاً، فقال: عزمت على صاحب هذه الريح لمَّا قام فتوضأ، فقال جرير: يا أمير المؤمنين أو يتوضأ القوم جميعاً؟ فقال عمر: رحمك الله نعم السيد كنت في الجاهلية نعم السيد أنت في الإِسلام كذا في الكنز.
الصفح والعفو عن المسلم
قصة كتاب حاطب بن أبي بلتعة
أخرج البخاري عن علي رضي الله عنه يقول: بعني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد - رضي الله عنهم - فاقل: «انطلقوا حتى تأتوا رَوضة خاخ فإنَّ بها ظَعينة معها كتاب فخذوه منها» ، فانطلقنا تَعادَى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا (لها) : أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي، فقلنا: لَتُخرِجِنَّ الكتاب أو لنُلقِينَّ الثياب؟ قال: فأخرجته من عِقاصها. فأتينا به(3/153)
رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بَلتَعة إلى ناس بمكة من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا حاطب ما هذا؟» فقال: يا رسول الله لا تعجل عليَّ، إني كنت امرأ مُلصقاً في قريش - يقول: كنت حليفاً - ولم أكن من أنفُسها، وكان من معك من المهاجرين من لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذا فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يداً يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتداداً عن ديني ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أما إنه قد صدقكم» ، فقال عمر: يا رسول الله دَعْني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: «إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعلَّ الله قد اطَّلع على من شهد بدراً فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فأنزل الله سورة: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآء} إلى قوله: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَآء السَّبِيلِ} (سورة الممتحنة، الآية:) . وأخرجه بقية الجماعة
إلاَّ ابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح. كذا في البداية.
وعند أحمد من حديث جابر رضي الله عنه - فذكر الحديث وفيه قال: أما إني لم أفعله غشّاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفاقاً، قد علمت أن الله مظهرٌ رسوله، ومتمٌّ له أمره، غير أني كنت غريباً بين ظهرانيهم، وكانت والدتي معهم، فأردت أن أتخذ يداً عندهم. فقال له عمر رضي الله عنه: ألا أضرب رأس هذا؟ فقال: «أتقتل رجلاً من أهل بدر؟ وما يدريك لعلَّ الله قد اطَّلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم» تفرَّد بهذا الحديث من هذا الوجه الإِمام أحمد وإسناده على شرط مسلم. كذا في البداية، وقال الهيثمي: رواه أحمد وأبو يَعْلَى ورجال(3/154)
أحمد رجال الصحيح. انتهى. وأخرجه الحاكم أيضاً كما في الكنز، وأخرجه أيضاً أبو يعلى والبزّار والطبراني عن عمر. قال الهيثمي: ورجالهم رجال الصحيح - اهـ. وأحمد وأبو يَعْلَى عن ابن عمر رضي الله عنهما، ورجال أحمد رجال الصحيح، كما قال الهيثمي.
قصة علي مع سارق
وأخرج أبو يعلى عن أبي مطر: قال: رأيت علياً رضي الله عنه أُتي برجل فقالوا: إنه قد سرق جملاً، فقال ما أراك سرقت؟ قال: بلى، قال: فلعله شُبِّه لك؟ قال: بلى قد سرقت، قال فاذهب به يا قَنْبر فشدَّ أصبعه وأوقد النار وادع الجزار ليقطع، ثم انتظر حتى أجيء. فلما جاء قال له: أسرقت؟ قال: لا، فتركه؛ قالوا: يا أمير المؤمنين لم تركته وقد أقرَّ لك؟ قال آخذه بقوله وأتركه بقوله، ثم قال علي رضي الله عنه: أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قد سرق فأمر فقطع يده ثم بكى، فقلت: لم تبكي؟ قال: «كيف لا أبكي؟ وأمتي تقطع بين أظهركم» قالوا: يا رسول الله أفلا عفوت عنه؟ قال: «ذاك سلطان سوء الذي(3/155)
يفعو عن الحدود، ولكن تَعافَوا الحدود بينكم» . كذا في الكنز.
ما أمر به ابن مسعود في سكران
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم والطبراني والحاك والبيهقي عن أبي ماجد الحنفي أن ابن مسعود رضي الله عنه أتاه رجل بابن أخيه وهو سكران فقال: إني وجدت هذا سكران، فقال: ترتروه، ومزمزوه، واستنهكوه، فترتروه ومزمزوه واستنهكوه، فوجدوا منه ريح شراب، فأمر به عبد الله إلى الجسن، ثم أخرجه من الغد، ثم أمر بسوط فدُقَّت ثمرته حتى آضَت له مخفقة - يعني صارت - ثم قال للجلاد: اضرب وأرجع يدك وأعط كل عضو حقه، فضربه عبد الله ضرباً غير مبرِّح وأرجعه. قيل يا أبا ماجد، ما المبرِّح؟ قال: ضرب الأمراء، قيل: فما قوله أرجع يدك؟ قال: لا يتمطَّى ولا يُرى إبطه، قال: فأقامه في قَباء وسراويل ثم قال: بئس لعمرو الله والي اليتيم هذا، ما أدبتَ فأحسنت الأدب، ولا سترت الخزية. ثم قال عبد الله: إن الله غفور يحب الغفور، وإنه لا ينبغي لوالٍ أني ؤتَي بحد إلا أقامه، ثم أنشأ عبد الله يحدِّث قال: أول رجل قُطع من المسلمين رجل من الأنصار أُتيَ به يا رسول الله، كأن هذا شق عليك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم «وما يمنعني وأنتم أعوان الشيطان على صاحبكم، إن الله غفور يحب العفو، وإنه لا ينبغي لوالٍ أن يُؤتى بحد إلا أقامه» . ثم قرأ: «وليعفوا وليصفحوا» .
وعند عبد الرزاق عن عمرو بن شعيب رضي الله عنه قال: إن أول حد أقيم في الإسلام لرجل أتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فشُهد عليه، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع، فلما حُدَّ الرجل نُظر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنام سخفي فيه الرماد، فقالوا:(3/156)
يا رسول الله كأنه اشتدَّ عليك قَطع هذا؟ قال: «وما يمنعني وأنتم أعوان الشيطان على أخيكم» ، قالوا: فأرسله، قال: فهلاَّ قبل أن تأتيني به، إن الإِمام إذا أتي له بحدَ لم ينبغ له أن يعطِّله» . كذا في الكنز (383 و89) .
قصة أبي موسى في جلده شارب خمر وكتاب عمر إليه
وأخرج البيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنت مع عمر في حج أو عمرة، فإذا نحن براكب، فقال عمر: أرى هذا يطلبنا، فجاء الرجل فبكى، قال: ما شأنك؟ إن كنتَ غارماً أعنّاك، وإن كنت خائفاً آمنّاك؛ إلا أن تكون قتلت نفساً فتقتل بها، وإن كنت كرهت جوار قوم حوَّلناك عنهم. قال: إني شربت الخمر وأنا أحد بني تَيْم، وإنَّ أبا موى جلدني وحلقني سوَّد وجهي وطاف بي الناس، وقال: لا تجالسوه ولا تواكلوه، فحدَّثت نفسي بإحدى ثلاث: إما أن أتخذ سيفاً فأضرب به أبا موسى، وإما أن أتيك فتحوِّلني إلى الشام فإنهم لا يعرفونني، وإما أن ألحق بالعدو فآكل معهم وأشرب.j فبكى عمر وقال: ما يسرني أنك فعلت وإن لعمر كذا وكذا، وإني كنت لأشرَبُ الناس(3/157)
لها في الجاهلية، وإنها ليست كالزنى، وكتب إلى أبي موسى:
سلام عليك. أما بعد: فإن فلان بن فلان التَيْمي أخبرني بكذا وكذا، وايْمُ الله إني إن أعدتَ لأسودنَّ وجهك ولأطوفنَّ بك في الناس، فإن أردت أن تعلم حقَّ ما أقول لك فعُد فأمر الناس أن يجالسوه ويواكلوه، فإن تاب فاقبلوا شهادته» .
وحمله وأعطاه مائتي درهم. كذا في الكنز.
تأويل فعل المسلم
قصة خالد بن الوليد ومالك بن نويرة
أخرج ابن سعد عن أبي عَون وغيره أن خالد بن الوليد رضي الله عنه ادَّعى أن مالك بن نُوَيرة ارتد بكلام بلغه عنه، فأنكر مالك ذلك وقال: أنا على الإِسلام ما غيَّرت ولا بدّلت، وشهد له أبو قتادة وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - فقدَّمه خالد وأمر ضرار بن الأزوَر الأسدي رضي الله عنه فضرب عنقه، وقبض خالد امرأته أم مُتَمِّم فتزوجها. فبلغ عمر بن الخطاب قتلُه مالك بن نُوَيرة وتزويجه امرأته، فقال لأبي بكر رضي الله عنه: إنه قد زنى فارجمه، فقال أبو بكر ما كنت لأرجهم تأوَّل فأخطأ. قال: فإنه قد قتل مسلماً فاقتله، قال: ما كنت لأقتله تأوَّل فأخطأ. قال: فاعزله، قال: ما كنت لأشيم سيفاً سلَّه الله عليهم أبداً. كذا في الكنز.(3/158)
بغض الذنب لا المذنب
نهي أبي الدرداء وابن مسعود عن سبَّ المذنب
أخرج ابن عساكر عن أبي قلابة أن أبا الدرداء رضي الله عنه مرّ على رجل قد أصاب ذنباً فكانوا يسبونه، فقال: أرأيتم لو وجدتموه في قليب ألم تكونوا مستخرجيه؟ قالوا بلى، قال: فلا تسبوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم. قالوا: أفلا تُبغضه؟ قال: إنما أُبغض عمله، فإذا تركه فهو أخيه. كذا في الكنزل، وأخرجه أبو نعيم في الحلية عن أبي قلابة مثله، وأخرج أيضاً عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إذا رأيتم أخاكم قارف ذنباً فلا تكونوا أعواناً للشيطان عليه تقولوا: الهلمَّ اخزه، اللهم العنه، ولكن سَلُوا الله العافية، فإنا أصحابَ محمد صلى الله عليه وسلم كنا لا نقول في أحد شيئاً حتى نعلم علامَ يموت، فإن خُتم له بخير علمنا أنه قد أصاب خيراً، وإن خُتم له بشر خفنا عليه.
سلامة الصدر من الغش والحسد
قصة عبد الله بن عمرو ورجل بشَّره عليه السلام بالجنة
أخرج أحمد بإسناده حسن والنِّسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنَّا جلوساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة» ، فطلع رجل من الأنصار تَنْطُف لحيته من وَضوئه، قد علَّق نعلَيه بيده(3/159)
الشمال، فلما كان الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرأة الأولى، فلما كان اليوم الاثلث قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضاً، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأول؛ فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمور (بن العاص) رضي الله عنهما فقال: إني لاحيت أبي، فأقسمت أني لا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمي فعلت، قال: نعم، قال أنس: فاكن عبد الله يحدِّث أنه بات معه تلك الثلاث الليالي فلم يرَه يقوم من الليل شيئاً، غير أنه إذا تعارَّ - تقلَّب على فراشه - ذكر الله عز وجل وكبَّر حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً. فلما مضت الثلاث الليالي وكدت أن أحتقر عمله قلت: يا عبد الله لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرات: «يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة» فطلعت أنت الثلاث المرات، فأردت أن آوي إليك فأنظر ما عملك فأقتدي بك، فلم أرك عملت كبير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما هـ إلاَّ ما رأيت، فلَّما ولَّيت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، ولا أحسُد أحداً على خير أعطاه الله إياه، فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك. ورواه أبو يعلى والبزار بنحوه وسمَّى الرجل المبهم سعداً، وقال في آخره، فقال سعد: ما هو إلا ما رأيت يا ابن أخي إلا أني لم أبت ضاغناً على مسلم - أو كلمة نحوها - زاد النِّسائي في رواية له والبيهقي والأصبهاني: فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك وهي
التي لا
نطيق. كذا في الترغيب. قال الهيثمي: رجال(3/160)
أحمد رجال الصحيح وكذلك أحد إسنادي البزار إلا أن سياق الحديث لابن لهيعة - اهـ. وقال ابن كثير في تفسيره لحديث أحمد: وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين. اهـ. وأخرجه أيضا ابن عساكر ورجاله رجال الصحيح وسمَّى الرجل سعد بن أبي وقاص، وفي آخره: فقال: ما هو إلا الذي قد رأيت؛ غير أني لا أجد في نفسي سوءٌ لأحد من المسلمين ولا أقوله، وقال: هذه التي قد بلغت بك وهي التي لا أُطيق. كذا في الكنز.
تهلُّل وجه أبي دجانة في مرضه
وأخرج ابن سعد عن زيد بنأسلم رضي الله عنه قال: دُخل على أبي دجانة رضي الله عنه وهو مريض وكان وجهه يتهلل، فقيل له: ما لوجهك يتهلل؟ فقال: ما من عملي شيء أوثق عندي من اثنتين: أما إحداهما فكنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، وأما الأخرى فكان قلبي للمسلمين سليماً.
الفرح بحسن حال المسلمين
فرح عبد الله بن عباس بفرح المسلمين
أخرج الطبراني عن ابن بُرَيدة الأسلمي قال: شتم رجل ابن عباس رضي الله عنهما فقال ابن عباس: إنك لتشتمني وإن فيَّ ثلاث خصال: إني لآتي على الآية في كتاب الله فلوددتُ أن جميع الناس يعلمون ما أعلم، وإن لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح ولعلي لا أُقاضي إليه أبداً، وإني لأسمع بالغيث قد أصاب البلد من بلاد المسلمين فأفرح ومالي(3/161)
به سائمة. قال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. انتهى. وأخرجه البيهقي كما في الإِصابة وأبو نُعيم في الحلية نحوه.
لغاية ص 125
تابع
مداراة الناس
مداراته عليه السلام لرجل السوء
أخرج أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «بئس ابن العشيرة» ، فلما دخل هشَّ له رسول الله صلى الله عليه وسلم وانبسط، ثم خرج، فاستأذن رجل رخر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نعم ابن العشيرة» ، فلما دخل لم ينبسط وإليه لم يَهش له كما هشَّ للآخر؛ فلما خرج قلت: يا رسول الله استأذن فلان فقلت له ما قلت، ثم هَشَشْت له وانبسطت، وقلت لفلان ما قلت ولم أرك صنعت به ما صنعت بالآخر؟ فقال: «يا عائشة إنَّ من شرار الناس من أُتقيَ لفُحشه» . قال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، وفي الصحيح بعضه. انتهى. وأخرجه البخاري في الأدب (ص190) مختصراً. وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن صفوان بن عسَّال رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأقبل رجل، فلما نظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بئس أخو العشيرة وبئس الرجل» ، فلما دنا منه أدنى مجلسه، فلما قام وذهب(3/162)
قالوا: يا رسول الله حين أبصرته قلت: بئس أخو العشيرة وبئس الرجل، ثم أدنيت مجلسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنَّه منافق أداريه عن نفاقه، فأخشى أن يُفسد عليَّ غيره» . قال أبو نُعيم: هذا حديث غريب.
وأخرج الطبراني في الأوسط عن بُرَيدة رضي الله عنه قال: كنَّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل رجل من قريش، فأدناه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرَّبه، فلما قام قال: «يا بريدة أتعرف هذا؟» قلت: نعم، هذا أوسط قريش حسباً وأكثرهم مالاً - ثلاثاً - فقلت: يا رسول الله قد أنبأتك بعلمي فيه فأنت أعلم؛ فقال: «هذا منم لا يقيم الله له يوم القيامة وزناً» . قال الهيثمي: وفيه عَوْن بن عُمارة وهو ضعيف. انتهى.
قول أبي الدرداء في مداراة الصحابة
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي الدراء رضي الله عنه قال: إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قولبنا لتلعنهم. وأخرجه ابن أبي الدنيا وإبراهيم الحربي في غريب الحديث والدِينوري في المجالسة عن أبي الدرداء - فذكر مثله وزاد: «ونضحك إليهم» ، كما في فتح الباري. وهكذا أخرجه ابن عساكر كما في الكنز.
استرضاء المسلم
استغفار أب بكر وندامته على ما نال من عمر وندامة عمر على إبائه
أخرج البخاري عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كنت جالساً عند(3/163)
النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر رضي الله عنه آخذاً بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبتيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «أمَّا صاحبكم فقد غامر» ، فسلّم فقال: إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبى عليَّ، فأقبلت إليك، فقال: «يغفر الله لك يا أبا بكر» - ثلاثاً - ثمَّ إنَّ عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فقال: أَثَمَّ أبو بكر؟ قالوا: لا، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم (فسلَّم) ، فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعَّر حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه فقال: يا رسول الله - والله - أنا كنت أظلمَ - مرتين - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنَّ الله أرسلني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي» - مرتين - فما أُوذي بعدها. كذا في صفة الصفوة.
وعند الطبراني عن ابن عمر أن أبا بكر - رضي الله عنه - نال من عمر شيئاً، ثم قال: استغفر لي يا أخي، فغضب عمر، فقال ذلك مرات، فغضب عمر، فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وانتهوا إليه وجلسوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يسألك أخوك أن تستغفر له فلا تفعل؟» فقال: والذي بعثك بالحق نبياً ما من مرة يسألني إلا وأنا أستغفر له، وما من خلق الله أحب إليَّ بعدك منه. فقال أبو بكر: وأنا والذي بعثك بالحق ما من أحد بعدك أحب إليَّ منه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تؤذوني في صاحبي، فإن الله عز وجل بعثني بالعدِي ودين الحق فقلتم: كذبتَ، وقال أبو بكر: صدقت، ولولا أن الله عز وجل سمّاه صاحباً(3/164)
لاتخذته خليلاً، ولكن أخوّة لله، ألا فسدُّوا كل خَوْخة إلاَّ خَوْخة ابن أبي قحافة» قال الهيثمي رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح - اهـ.
استغفار أم حبيبة عند موتها عائشة وأم سلمة
وأخرج ابن سعد عن عائشة رضي الله عنها قال: دعتني أم حبيبة - رضي الله عنها - زوج النبي صلى الله عليه وسلم عند موتها، فقالت: قد كان يكون بيننا وبين الضرائر، فغفر الله لي ولك ما كان من ذلك، فقلت: غفر الله لك ذلك كله وتجاوز وحلَّلَك من ذلك، فقالت: سررتني سرّك الله، وأرسلت إلى أم سَلَمة فقالت لها مثل ذلك.
مجيء أبي بكر إلى فاطمة وترضِّيها
وأخرج البيهقي عن الشَّعْبي قال: لمَّا مرضت فاطمة رضي الله عنها أتاها أبو بكر الصديق رضي الله عنه فاستأذن عليها، فقال علي رضي الله عنه: يا فاطمة هذا أبو بكر يستأذن عليك، فقالت: أتحبُّ أن آذن له؟ قال: نعم، فأذنت له، فدخل عليها يترضَّاها وقال: والله ما تركتُ الدار والمال والأهل والعشيرة إلا ابتغاء مرضاة الله ومرضاة رسوله ومرضاتكم أهل البيت، ثم ترضَّاها حتى رضيت. قال البيهقي: هذا مرسل حسن بإسناد صحيح - اهـ. وأخرج ابن سعد عن عامر (الشَّعْبي) بنحوه مختصراً.
استغفار عمر رجلاً كان يبغضه
وأخرج ابن المنذر عن الشَّعْبي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:(3/165)
إني لأبغض فلاناً، فقيل للرجل: ما شأن عمر يبغضك؟ فلما كثر القوم في الدار جاء فقال: يا عمر، أَفَتَقْتُ في الإِسلام فتقاً؟ قال: لا، قال: فجنيت جناية؟ قال: لا، قال: أحدَثْتُ حدثاً؟ قال: لا، قال: فعلامَ تبغضني؟ وقال الله: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ} {فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} (سورة الأحزاب، الآية: 58) فقد آذيتني فلا غفر الله لك، فقال عمر: صدق، والله ما فتق فتقاً، ولا، ولا، فاغفرها لي، فلم يزل به حتى غفر له. كذا في الكنزل.
اعتذار عبد الله بن عمرو إلى الحسن بن علي
وأخرج البزّار عن رجاء بن ربيعة قال: كنت جالساً بالمدينة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم في حلقة فيها أبو سعيد وعبد الله بن عمرو، فمر الحسن بن علي فسلَّم، فرد عليه القوم وسكت عبد الله بن عمرو، ثم اتَّبَعه فقال: وعليك السلام ورحمة الله، ثم قال: هذا أحبُّ أهل الأرض إلى أهل السماء، والله ما كلمته منذ ليالي صِفِّين؛ فقال أبو سعيد: ألا تنطلق إليه فتعتذر إليه؟ قال: نعم، فقام فدخل أبو سعيد فاستأذن فأذن له، ثم استأذن لعبد الله بن عمر فدخل، فقال أبو سعيد لعبد الله بن عمرو: حدَّثنا بالذي حدَّثتنا به حيث مرّ الحسن، فقال: نعم، أنا أحدثكم إنه أحب أهل الأرض إلى أهل السماء، قال: فقال له الحسن: إذ علمت أني أحب أهل الأرض إلى أهل السماء فلم قاتلتنا أو كثَّرت يوم صِفِّين؟ قال: أما إني - والله - ما كثَّرت سَواداً ولا ضربت معهم بسيف، ولكني حضرت مع أبي - أو كلمة نحوها -. قال: أما علمت أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله؟ قال: بلى، ولكني كنت أسرد الصوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكاني أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن عبد الله بن عمرو يصوم النهار ويقوم الليل قال: «صم وأفطر، وصلِّ ونم، فإني(3/166)
أنا أصلِّي وأنام وأصوم وأفطر» . قال لي: «يا عبد الله. أطع أباك» ، فخرج يوم صِفِّين وخرجت معه. قال الهيثمي رواه البزّار ورجاله رجال الصحيح غير هاشم بن البريد وهو ثقة. انتهى.
اعتذار عبد الله بن عمرو إلى الحسين
وأخرج الطبراني عن رجاء بن ربيعة قال: كنت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ مر الحسين بن علي - رضي الله عنهما - فسلَّم فرد عليه القوم السلام وسكت عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، ثم رفع ابن عمرو صوته بعد ما سكت القوم فقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، ثم أقبل على القوم فقال: ألا أخبركم بأحب أهل الأرض إلى أهل السماء؟ قالوا: بلى، قال: هو هذا المقفّي، والله ما كلمته كلمة ولا كلمني كلمة منذ ليالي صِفّين، ووالله لأن يرضى عني أحب إليَّ من أن يكون لي مثلُ أُحُد فقال له أبو سعيد رضي الله عنه: ألا تغدو إليه؟ قال: بلى، فتواعدا أن يغدوا إليه وغدوت معهما؛ فاستأذن أبو سعيد فأذن فدخلنا، فاستأذن لابن عمرو فلم يزل به حتى أذن له الحسين فدخل، فلما رآه زحل له وهو جالس إلى جنب الحسين، فمدّه الحسين إليه، فقام ابن عمرو فلم يجلس، فلما رأى ذلك خلا عن أبي سعيد فأزحل له فجلس بينهما، فقصّ أبو سعيد القصة فقال: أكذاك يا ابن عمرو؟ أتعلم أني أحبُّ أهل الأرض إلى أهل السماء؟ قال: إي وربِّ الكعبة إنك لأحب أهل الأرض إلى أهل السماء. قال: فما حملك على أن قاتلتني وأبي يوم صِفِّين؟ والله لأبي خير مني؛ قال: أجل، ولكن عَمْراً شكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقل: إن عبد الله يصوم النهار ويقوم الليل؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «صلِّ ونَمْ، وصم وأفطر، وأطع عَمْراً» فلما كان يوم صِفِّين أقسم عليَّ. والله ما كثَّرت لهم سَواداً، ولا اخترطت(3/167)
لهم سيفاً، ولا طعنت برمح، ولا رميت بسهم. فقال الحسن: أما علمت أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؟ قال: بلى، قال: كأنه قبل منه. قال الهيثمي رواه الطبراني في الأوسط وفيه علي بن سعد بن بشير وفي هلين وهو حافظ، وبقية رجاله ثقات. انتهى.
قضاء حاجة المسلم
أخرج النَّرحسي عن علي رضي الله عنه قال: ما أدري أيُّ النعمتين أعظم عليَّ منه، من رجل بذل مُصاص وجهه إليَّ، فرني موضِعاً لحاجته، وأجرى الله قضاءنا أو يسَّره على يديَّ، ولأن أقضيَ لامرىء مسلم حاجة أحب إليَّ من ملء الأرض ذهباً وفضة. كذا في الكنز.
الوقوف لحاجة المسلم
وقوف أمير املؤمنين عمر لعجوز استوقفته
أخرج ابن أبي حاتم والدارمي والبيهقي عن أبي يزيد قال: لقي عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأة يقال لها خولة - رضي الله عنها - وهي تسير مع الناس، فاستوقفته فوقف لها، ودنا منها وأصغى إليها رأسه، ووضع يديه على مَنْكبيها حتى قضت حاجتها وانصرفت. فقال له رجل: يا أمير المؤمنين حبست رجالات قريش على هذا العجوز؟ قال: ويك أتدري من هذه؟ قال: لا، قال: هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات هذه خولة بنت ثعلبة، والله لو لم تنصرف عني إلى الليل ما انصرفت حتى تُقضي حاجتها.(3/168)
وعند البخاري في تاريخه وابن مَرَدَوَيه عن ثُمامة بن حَزْن رضي الله عنه قال: بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسير على حماره لقيته امرأة فقالت: قف يا عمر، فوقف فأغلظت له القول، فقال رجل: يا أمير المؤمنين ما رأيت كاليوم، قال: وما يمنعني أن أسمع لها وهي التي سمع الله لها وأنزل فيها ما أنزل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا} (سورة المجادلة، الآية: 1) . كذا في الكنز.
المشي في حاجة المسلم
خروج ابن عباس من اعتكافه من أجل حاجة مسلم
أخرج الطبراني والبيهقي - واللفظ له - والحاكم مختصراً وقال: صحيح الإِسناد، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان معتكفاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل فسلَّم عليه ثم جلس، فقال له ابن عباس: يا فلان أراك مكتئباً حزيناً، قال: نعم يا ابن عم رسول الله لفلان عليَّ حق وَلاءٍ؛ وحُرْمة صاحب هذا القبر ما أقدر عليه. قال ابن عباس: أفلا أكلمه فيك؟ فقال: إن أحببت. قال: فانتعل ابن عباس ثم خرج من المسجد، فقال له الرجل: أنسيتَ ما كنت فيه؟ قال: لا، ولكني سمعت صاحب هذا لاقبر صلى الله عليه وسلم والعهد به قريب - فدمعت عيناه - وهو يقول: «من مشى في حاجة أخيه وبَلَغ فيها كان خيراً له من اعتكاف عشر سنين، ومن اعتكف يوماً ابتغاء وجه الله تعالى جعل الله بينه وبين النار ثلاث خنادق أبعدَ مما بين الخافقين» . كذا في الترغيب.(3/169)
زيارة المسلم
إكثاره عليه السلام من زيارة الأنصار
أخرج أحمد عن عبد الله بن قيس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر زيارة الأنصار خاصّة وعامّة، فكان إذا زار خاصّة أتى الرجل في منزله، وإذا زار عامة أتى المسجد. قال الهيثمي: رواه أحمد وفيه راوٍ لم يُسَمَّ وبقية رجاله رجال الصحيح. انتهى. وأخرج البخاري في الأدب (ص52) عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زار أهل بيت من الأنصار، فطَعِم عندهم طعاماً، فلما خرج أمر بمكان من البيت فنُصح له على بساط، فصلّى عليه ودعا لهم.
تزاور الأصحاب رضي الله عنهم
وأخرج أبو يعلى عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤاخي بين الاثنين من أصحابه فتطول على أحدهما الليلة حتى يلقي أخاه، فليقاه بوُدِّ ولطف، فيقول: كيف كنت بعدي؟ وأما العامّة فلم يكن يأتي على أحدهما ثلاث لا يعلم علم أخيه. قال الهيثيم: وفيه عمران بن خالد الخُزاعي وهو ضعيف.
وأخرج الطبراني عن عَوْن قال: قال عبد الله - يعني ابن مسعود - رضي الله(3/170)
عنه لأصحابه حين قدموا عليه: هل تَجَالَسون؟ قال: لا نترك ذلك، قال: فهل تَزَاوَرون؟ قالوا: نعم يا أبا عبد الرحمن، إنَّ الرجل منا ليفقِد أخاه فيمشي على رجليه إلى آخر الكوفة حتى يلقاه، قال: إنكم لن تزالوا بخير ما فعلتم ذلك. وهذا منقطع، كذا في الترغيب. وأخرج البخاري في الأدب (ص52) عن أم الدرداء رضي الله عنها قالت: زارنا سلمان رضي الله عنه من المدائن إلى الشم ماشياً وعليه كساء أندروزد قال: يعني سراويل مشمَّرة.
إكرام الزائرين
إكرامه عليه السلام لابن عمر
أخرج أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقى إليَّ وسادة حشوها ليف، فلم أقعد عليها. بقيتْ بيني وبينه. قال الهيثمي (8174: رجاله رجال الصحيح. اه ...
إكرام الصدِّيق لبنت سعد بن الربيع
وأخرج الطبراني عن أم سعد بنت سعد بن الربيع - رضي الله عنهما - أنها دخلت على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فألقى لها ثوبه حتى جلست عليه، فدخل عمر رضي الله عنه فسأله، فقال: هذه ابنة من هو خير مني ومنك، قال: ومن هو يا خليفةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: جل قُبض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوَّأ مقعده من الجنة وبقيت أنا وأنت. كذا في الإِصابة. قال الهيثمي: رواه الطبراني وفيه إسماعيل بن قيس بن سعد بن زيد وهو(3/171)
ضعيف، وأخرجه الحاكم وصححه، وقال الذهبي: بل إسماعيل ضعَّفوه.
إكرام عمر وسلم ان لبعضهما
وأخرج الحاكم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخل سلمان الفارسي على عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وهو متكىء على وسادة فألقاها له، فقال سلمان: صدق الله ورسوله، فقال عمر: حدثنا يا أبا عبد الله، قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متكىء على وسادة فألقاها إليَّ، ثم قال لي: «يا سلمان ما من مسمل يدخل على أخيه المسلم فيُلقي له وسادة إكراماً له إلا غفر الله له» .x
وأخرجه الطبراني أيضاً عن أنس قال: دخل سلمان على عمر رضي الله عنهما وهو متكىء على وسادة، قال فألقاها إليَّ، ثم قال: يا سلمان ما مِنْ مسلم يدخل على أخيه المسلم فيُلقي إليه وسادة إكراماً له إلا غفر الله له. قال الهيثيم: وفيه عمران بن خالد الخُزاعي وهو ضعيف اهـ. وفي إسناد الحاكم أيضاً عِمران هذا.
وأخرج الطبراني في الصغير عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخل عمر على سلمان الفارسي رضي الله عنهما، فألقى له وسادة فقال: ما هذا يا أبا عبد الله؟ فقال سلمان الفارسي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من مسلم يدخل عليه أخوه المسلم فيُلقي له وسادة إكراماً وإعظاماً إلا غفر الله له» . وفيه عِمران بن خالد الخُزاعي وهو ضعيف.(3/172)
إكرام عبد الله بن الحارث لإبراهيم بن نشيط
وأخرج الطبراني عن إبراهيم بن نَشِيط أنه دخل على عبد الله بن الحارث بن جَزْء الزُّبيدي رضي الله عنه، فرمى إليه بوسادة كانت تحته وقال: من لم يكون جليسه فليس من أحمد ولا من إبراهيم عليهما الصلاة والسلام. كذا في الترغيب، وقال: رواه الطبراني موقوفاً، ورجاله ثقات.
إكرام الضيف
إكرام أبي أسيد الساعدي للنبي عليه السلام
أخرج البخاري في الأدب (ص110) عن سهل بن سعد رضي الله عنه: أن أبا أسيد الساعدي رضي الله عنه دعا النبي صلى الله عليه وسلم في عرسه، وكانت امرأته خادَمهم يومئذٍ وهي العروس، فقالت: أتدون ما أنقعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم انقعت له تمرات من الليل في تَوْر.
قول ابن جزء الزبيدي في إكرام الضيف
وأخرج ابن جرير عن إبراهيم بن شيبان عن جل قال: دخل رجلان على عبد الله بن الحارث بن جَزْء الزبيدي رضي الله عنه، فنزع وسادة كان متكئاً عليها فألقاها إليهما، فقالا: لا نريد هذا إنام جئنا لنستمع شيئاً ننتفع به، فقال: إنه من لم يكرم ضيفه فليس من محمد ولا من إبراهيم صلى الله عليهما وسلم، طوبى لعبد أمسى متعلقاً برَسَن فرسه في سبيل الله أفطر على كِسرة وماء بارد،(3/173)
وويل للواشين الذين يلوثون مثل البقر، ارفع يا غلام، وضع يا غلام وفي ذلك لا يذكرون الله عز وجل. كذا في الكنزل.
إكرام كريم القوم
رميه عليه السلام رداءه إلى جريج بن عبد الله ليجلس عليه
أخرج الطبراني في الصغير والأوسط عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت مزحوم، فقام بالباب، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم يميناً وشمالاً فلم يرَ برحاء، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم رداءه فلفّه ثم رمى به إليه، فقال: «اجلس عليه» ، فأخذه جرير فضمه ثم قبَّله ثم ردّه على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أمرك الله يا رسول الله كما أكرمتني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» قال الهيثمي: وفيه عَوْن بن عمرو القيسي وهو ضعيف - اهـ. وعند الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة رضي الله عنه أن جرير بن عبد الله رضي الله عنه دخل البيت وهو مملوء، فلم يجد مجلساً، فرمى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بإزاره أو برادئه وقال: «اجلس عى هذا» فأخذه فقبَّله وضمه إليه وقال: أكرمك الله يا رسول الله كما أكرمتني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط والبزّار باختصا كثير وفيه من لم أعرفهم. انتهى.(3/174)
إجلاسه عليه السلام عيينة بن حصن على النمرقة
وأخرج الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال دخل عيينة بن حِصْن رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - وهم جلوس جميعاً على الأرض، فدعا لعيينة بنُمرُقة فأجلسه عليها، وقال: «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» قال الهيثمي: رواه الطبراني وفيه من لم أعرفهم.
إلقاؤه عليه السلام الوسادة إلى عدي بن حاتم
وأخرج العسكري وابن عساكر عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه لما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ألقى إليه وسادة، فجلس على الأرض وقال: أشهد أنك لا تبغي علواً في الأرض ولا فساداً، وأسلم؛ فقالوا: يا نبي الله لقد رأينا منك منظراً لم نره لأحد، فقال: «نعم، هذا كريم قوم فإذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» كذا في الكنز.
إكرامه عليه السلام أبا راشد
وأخرج الدّوْلابي في الكُنَى عن أبي راشد بن عبد الرحمن رضي الله عنه قال: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم في مائة رجل من قومي، فلما دنَونا من النبي صلى الله عليه وسلم وقفنا وقالوا لي: تقدَّم أنت يا أبا معاوية، فإن رأيت ما تحت رجعت إلينا حتى نتقدم إليه، وإن لم ترَ مما تحب شيئاً انصرفت إلينا حتى ننصرف، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وكنت أصغر القوم فقلت: أنعم صباحاً يا محمد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ليس هذا بسلام المسلمين بعضهم على بعض» ، فقلت له: وكيف يا رسول الله فقال: «إذا أتيت قوماً من المسلمين قلت: السلام عليكم ورحمة الله،(3/175)
قلتُ: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، قال: «وعليك السلام ورحمة الله وبركاته» ، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم «ما اسمك ومن أنت؟» فقلت: أنا أبو معاوية بن عبد اللاَّلات والعُزَّى. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «بل أنت أبو راشد بن عبد الرحمن» ، وأكرمني وأجلسني إلى جانبة، وكساني رداءه، وأعطاني حداه، ودفع إليَّ عصاه وأسلمت، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم مِنح جلسائه: يا رسول الله إنَّا نراك قد أكرمت هذا الرجل، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «هذا شريف قومه، فإذا أتاكم شريف قومه فأكرموه» - فذكر الحديث. وأخرجه ابن مَنْده من هذا الوجه مختصراً، وابن السَّكَن كما في الإِصابة. وأخرجه أيضاً العُقَيلي، كما في منتخب الكنزه.
تأليف رأس القوم
تأليفه عليه الصلاة والسلام سيد قوم
أخرج أبو نُعيم عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «كيف ترى جُعَيلاً؟» قلت: مسكيناً كشكله من الناس، قال: «فكيف ترى فلاناً؟» قلت: سيداً من سادات الناس، قال: «فجعيل خير من مثل هذا مِلءِ الأرض» . قلت: يا رسول الله ففلان هكذا وأنت تصنع به ما تصنع؟ قال: «إنه رأس قومه فأنا أتألفهم» . كذا في الكنز. وأخرجه الرُوياني في مسنده وابن عبد الحكم(3/176)
في فتوح مصر، وإسناده صحيح. وأخرجه ابن حِبَّان من وجه آخر عن أبي ذر لكن لم يُسمَّ جُعَيلاً. وأخرجه البخاري من حديث سَهْل بن سعد فأبهم جُعَيلاً وأبا ذر. وروى ابن إسحاق في المغازي عن محمد بن إبراهيم التَّيْمي قال: قيل: يا رسول الله، أعطيت عيينة بن حصن والأقرع بن حابس مائة مائة وتركت جُعَيلاً؟ فقال: والذي نفسي بيده لَجعيل بن سراقة خير من طِلاع الأرض مثل عيينة والأقرع، لكني أتألفهما وأَكِلُ جُعَيلاً إلى إيمانه» . وهذا مرسل حسن. كذا في الإِصابة. وأخرجه أبو نُعيم في الحلية عن محمد بن إبراهيم نحوه.
إكرام آل بيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم
وصيته عليه السلام بأهل بيته
أخرج مسلم عن يزيد بن حَيَّان قال: انطلقت أنا وحصين بن سَبْرة وعمرو بن مسلم إلى زيد بن أرقم رضي الله عنه، فلما جلسنا إليه قال حصين: لقد لقيتَ يا زيدُ خيراً كثيراً رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت حديثه، وغزوت معه، وصلَّيت خلفه، لقد لقيت يا زيدُ خيراً كثيراً حدِّثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا ابن أخي - والله - لقد كَبرت سني، وقدُم عهدي، ونسيت بعض الذي كنت أَعِي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فما حدثتكم فاقبلوا(3/177)
ومالا فلا تكلِّفونيه. ثم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فينا خطيباً بماء يدعى خُمّاً بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكَّر ثم قال:
«أما بعد: ألا أيها الناس فإنا أنا بشر يوشِك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولُهما كتابُ الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به» فحث على كتاب الله ورغَّب فيه. ثم قال: «وأهلُ بيتي أذكَّركم الله في أهل بيتي، أذكِّركم الله في أهل بيتي» .
فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حُرِم الصدقة بعده. قال: ومن هم؟) قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس. قال: كل هؤلاء حُرِم الصدقة؟ قال: نعم، كذا في رياض الصالحين. وأخرجه أيضاً ابن جرير كما في منتخب الكنز. وأخرج البخاري عن ابن عمر رضيا لله عنهما قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: ارقُبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في أهل بيته. كذا في منتخب الكنز.
إكرامه عليه السلام عمه العباس
وأخرج ابن عساكر عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً مع أصحابه وبجنبه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فأقبل العباس رضي الله عنه، فأوسع له أبو بكر فجلس بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: «إنما يعرف الفضلَ لأهل الفضلِ أهلُ الفضل» . ثم أقبل العباس على النبي صلى الله عليه وسلم يحدِّثه. فخفض النبي صلى الله عليه وسلم صوته شديداً، فقال أبو بكر لعمر: قد حَدَث برسول الله صلى الله عليه وسلم يحدِّثه. فخفض النبي صلى الله عليه وسلم صوته شديداً، فقال أبو بكر لعمر: قد حَدَث برسول الله صلى الله عليه وسلم علَّة قد شغلت قلبي، فما زال العباس عند(3/178)
النبي صلى الله عليه وسلم حتى فرغ من حاجته وانصرف. فقال أبو بكر: يا رسول الله حدثت بك علّة الساعة؟ قال: «لا» قال: فإني قد رأيتك قد خفضت صوتك شديداً. قال: «إنَّ جبريل أمرني إذا حضر العباس أن أخفض صوتي كما أمرهم أن تخفضوا أصواتكم عندي» . كذا في الكنز.
وعند الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان لأبي بكر رضي الله عنه مجلس من النبي صلى الله عليه وسلم لا يقوم عنه إلا للعباس، فكان يسر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل العباس يوماً، فزال له أبو بكر عن مجلسه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «مالك؟» قال: يا رسول الله عمك قد أقبل، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أقبل على أبي بكر متبسماً. فقال: «هذا العباس قد أقبل وعليه ثياب بيض وسيلبس ولده من بعده السواد ويملك منهم عشر رجلاً» فلما جاء العباس قال: يا رسول الله، قلت لأبي بكر؟ فقال: «ما قلت إلا خيراً» . قال: صدقت - بأبي وأمي - ولا تقول إلا خيراً. قال: قلت: «قد أقبل العباس عمِّي وعليه ثياب بياض وسيلبس ولده من بعده السواد ويملك منهم اثنا عشر رجلاً» . قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط والكبير باختصار، وفيه جماعة لم أعرفهم - انتهى. وأخرجه ابن عساكر عن ابن عباس مختصراً كما في منتخب الكنز. وقال: لم أرَ في سنده من تُكلِّم فيه.
تنحِّي أبي بكر عن مكانه للعباس
وعند ابن عساكر أيضاً عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده رضي الله(3/179)
عنهم قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جلس جلس أبو بكر رضي الله عنه عن يمينه، وعمر رضي الله عنه عن يساره، وعثمان رضي الله عنه بين يديه، وكان كاتب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا جاء العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه تنحَّى أبو بكر وجلس العباس مكانه. كذا في منتخب الكنز.
حثُّه عليه السلام على حب العباس
وأخرج الحاكم عن المطَّلب بن ربيعة قال: جاء العباس رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغضب فقال: «ما شأنك؟ فقال: يا رسول الله، ما لنا ولقريش؟ فقال: «مالك ولهم؟» قال: يلقَى بعضهم بعضاً بوجوه مشرقة، فإذا لقونا لقونا بغير ذلك. قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استدرَّ عِرْق بين عينيه. قال: فلما أسفر عنه قال: «والذي نفس محمد بيده لا يدخل قلب امرىء الإِيمان حتى يحبكم لله ولرسوله» . قال: ثم قال: «ما بال رجال يؤذونني في العباس؟ عم الرجل صِنْوُ أبيه. وعند الحاكم أيضاً عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله إنَّ قريشاً إذا لقي بعضها بعضاً لقوها ببشر حَسَن، وإذا لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها. قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً، وقال: «والذي نفس محمد بيده، لا يدخل قلب رجل الإِيمان حتى يحبكم لله ولرسوله» . وعند الطبراني عن عِصْمة قال: دخل العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه يوماً إلى المسجد فنظر إلى الكراهية في وجوههم، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته فقال: يا رسول الله مالي إذا دخلت(3/180)
المسجد أرى الكراهية في وجوه الناس؟ فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل المسجد، فقال: «يا معشر الناس لم تؤمنوا ولم تكونوا مؤمنين حتى تحبُّوا عباساً» . قال الهيثمي: وفيه الفضل ابن المختار وهو ضعيف.
ما وقع بين عمر والعباس ودعاؤه عليه السلام لعمر لإِكرامه العباس
وأخرج ابن عساكر عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: بعض رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ساعياً على صدقة. فأول من لقيه العباس بن عبد الملب رضي الله عنه فقال: يا أبا الفضل هلمَّ صدقة مالك، فقال له: لو كنت وكنت، وأغلظ له في القول. فقال له عمر: أما والله لولا الله ومنزلتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكافأتك ببعض ما كان منك، فافترقا وأخذ هذا في طريق وهذا في طريق. فجاء عمر حتى دخل على علي بن أبي طالب رضي الله عنه فذكر له ذلك، فأخذ علي بيد عمر حتى دخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: يا رسول الله، بعثتني ساعياً على الصدقة فأول من لقيت عمك العباس، فقلت: يا أبا الفضل هلمَّ صدقة مالك. فقال لي: كَيْت وكَيْت، وأنبني وأغلظ لي القول. فقلت: أما - والله - لولا الله ومنزلتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكافأتك ببعض ما كان منك. فاقل رسول الله صلى الله عليه وسلم «أكرمته أكرمك الله، أما علمتَ أنَّ عم الرجل صِنْوا أبيه؟ لا تكلِّم العباس فإنَّا تعجَّلنا منه صدقة سنتين» . كذا في منتخب الكنز. وأخرجه ابن سعد عن قتادة مختصراً.(3/181)
لطم العباس رجلاً نال من أبيه
وأخرج الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً ذكر أبا العباس فنال منه، فلطمه العباس. فاجتمعوا فقالوا: والله لنلطمنَّ العباس كما لطمه. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب فقال: «مَنْ أكرم النسا على الله؟» قالوا: أنت يا رسول الله، قال: «فإن العباس مني وأنا منه، لا تسبوا أمواتنا فتؤذوا به الأحياء» . قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإِسناد ولم يخرِّجاه، وقال الذهبي: صحيح. وأخرجه ابن عساكر عن ابن عباس بنحوه وزاد: فقالوا: يا رسول الله نعوذ بالله من غضبك، فاستفغر لنا فاستغفر لهم. كذا في منتخب الكنز. وأخرجه ابن سعد عن ابن عباس نحو رواية ابن عساكر.
إكرام أبي بكر وعمر العباس في ولايتهما
وأخرج ابن عساكر عن ابن شهاب قال: كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما في ولايتهما لا يلقي العباس منهما واحد وهو راكب إلا نزل عن دابته وقادها، ومشى مع العباس حتى بلَّغه منزله أو مجلسه، فيفارقه. كذا في الكنز.
ضرب عثمان رجلاً استخف بالعباس
وأخرج سَيْف وابن عساكر عن القاسم بن محمد قال: ممَّا أحدث عثمان فرُضي به منه أنه ضرب رجلاً في منازعة استخف فيها بالعباس بن عبد المطلب، فقيل له، فقال: أيفخِّم رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه وأرخِّص في الاستخفاف به؟ لقد خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم من رضي فعل ذلك، فرُضي به منه. كذا في منتخب الكنز.(3/182)
إكرام أبي بكر علياً وتنحِّيه عن مجلسه له
وأخرج ابن الأعرابي عن أنسرضي الله عنهقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً بالمسجد وقد أطاف به أصحابه؛ إذ أقبل علي رضي الله عنه فسلم ثم وقف، فنظر مكاناً يجلس فيه، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وجوه أصحابه أيُّهم يوسع له، وكان أبو بكر رضي الله عنه عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً، فتزحزح أبو بكر عن مجلس وقال: ها هنا أبا الحسن. فجلس بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر، فرأين السرور في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أقبل على أبي بكر فقال: «يا أبا بكر إنما يعرف الفضل لأهل الفضل» . كذا في البداية.
قول رهط من الأنصار لعلي يا مولانا
وأخرج أحمد والطبراني عن رباح بن الحارث قال: جاء رهط إلى علي رضي الله عنه بالرَّحْبة. قالوا: السلام عليك يا مولانا، فقال: كيف أكون مولاكم وأنتم قوم عرب؟ قالوا: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غَدِير خُمَ يقول: «من كنت مولاه فهذا مولاه» . قال رباح: فلما مضَوا تبعتهم فقلت: من هؤلاء؟ قالوا: نفر من الأنصار فيهم أبو أيوب الأنصاري. قال الهيثمي: رجال أحمد ثقات.
قوله عليه السلام: من كنت وليه فعلي وليه
وأخرج البزّار عن بُرَيدة رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية، فاستعمل علينا علياً رضي الله عنه، فلما جئنا قال: «كيف رأيت صاحبكم؟» فإما شكوتُه وإما شكاه غيري. قال: فرفع رأسه - وكنت رجلاً(3/183)
مِكباباً - فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قد احمر وجهه يقول: «من كنت وليَّه فعليٌّ وليه» . فقلت: لا أسوءك فيه أبداً. قال الهيثمي: رواه البزّار ورجاله رجال الصحيح - اهـ.
قوله عليه السلام: من آذى علياً فقد آذاني
وأخرج ابن إسحاق عن عمرو بن شاس الأسلمي - رضي الله عنه، وكان من أصحاب الحديبية - قال: كنت مع علي رضي الله عنه في خيله التي بعثه فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فجفاني على بعض الجفاء، فوجدت عليه في نفسي. فلما قدمت المدينة اشتكيته في مجالس المدينة وعند من لقيته، فأقبلت يوماً ورسول الله جالس في المسجد، فلما رآني انظر إلى عينيه نظر إليَّ حتى جلست إليه. فلما جلست إليه قال: أما إنه - والله - يا عمرو لقد آذيتين» فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون أعوذ بالله والإِسلام أن أوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «من أذى علياً فقد آذاني» . وقد رواه الإِمام أحمد عن عمرو بن شاس فذكره. كذا في ابداية. قال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني باختصار، والبزّار أخصر منه، ورجال أحمد ثقات. انتهى.(3/184)
تعوذ سعد من غضبه عليه السلام حين نال سعد من علي
وأخرج أبو يَعْلى عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: كنت جالساً في المسجد أنا ورجلان معي فنلنا من علي رضي الله عنه، فأقبل رسول الله يُعرف في وجهه الغضب، فتعوذت بالله من غضبه، فقال: «ما لكم وما لي؟ من آذى علياً فقد آذاني» كذا في البداية. قال الهيثمي: رواه أبو يعلى والبزّار باختصار ورجال أبي يَعْلى رجال الصحيح غير محمود بن خِداش وقَنَان وهما ثقتان. انتهى.
إنكار عمر على رجل نال من علي
وأخرج ابن عساكر عن عروة رضي الله عنه أن رجلاً وقع في علي بمحضر من عمر رضي الله عنهما. فقال عمر: تعرف صاحب هذا القبر؛ محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب بن عبد المطلب لا تذكر علياً إلا بخير، فإنك إن آذيته آذيت هذا في قبره. كذا في المنتخب.
قول سعد: لو وضع المنشار في مفرقي ما سببته أبدا
وأخرج أبو يَعْلَى عن أبي بكر بن خالد بن عُرْفْطة أنه أتى سعد بن مالك رضي الله عنه فقال: بلغني أنكم تُعرَضون على سبِّ علي بالكوفة فهل سببته؟ قال: مَعاذ الله والذي نفس سعد بيده لقدسمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم(3/185)
يقول في علي شيئاً لو وُضع المنشار على مفرقي ما سببته أبداً. قال الهيثمي: إسناده حسن.
وقوع معاوية في علي وامتناع سعد عن ذلك
وأخرج أحمد ومسلم والترمذي عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال له: أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً رضي الله عنهم فقال: ما يمنعك أن تسب أبا تراب؟ فقال: أمَّا ما ذكرتُ ثلاثاً قالهن له رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وخلَّفه في بعض مغازيه فقال له علي: يا رسول الله أتخلِّفني مع النساء والصبيان؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنه لا نبي بعدي» . وسمعته يقول يوم خيبر: «لأعطينَّ الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله» . قال: فتطاولت لها قال: «ادعوا لي علياً» فأُتي به أرمد فبصق في عينيه ودفع الراية إليه ففتح الله عليه، ولمَّا نزلن هذه الآية: {فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءنَا وَأَبْنَآءكُمْ وَنِسَآءنَا وَنِسَآءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ} (سورة آل عمران، الآية: 61) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً رضي الله عنهم، ثم قال: «اللهمَّ هؤلاء أهلي» .
وعند أبي زُرْعة الدمشقي عن عبد الله بن أبي نَجِيح عن أبيه قال: لما حج معاوية أخذ بيده سعد بن أبي وقاص فقال: يا أبا إسحاق إنا قوم قد أجفانا هذا الغزو عن الحج حتى كدنا أن ننسى بعض سننه، فطف نطف بطوافك.(3/186)
قال: فلما فرغ أدخله دار الندوة فأجلسه معه على سريره، ثم ذكر علي بن أبي طالب فوقع فيه. فقال أدخلتني دارك وأجلستني على سريرك ثم وقعت في علي تشتمه؟ والله لأن يكون فيَّ إحدى خلاله الثلاث أحب إليَّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس، ولأن يكون لي ما قال له حين غزا تبوكاً: «ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنه لا نبي بعدي» ، أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس؛ ولأن يكون لي ما قال له يوم خيبر: «لإعطينَّ الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله وروسله يفتح الله على يديه ليس بفرّار» ، أحب إليَّ ممَّا طلعت عليه الشمس؛ ولأن أكون صهره على ابنته ولي منها من الولد ما له أحب إليَّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس، لا أدخل عليك داراداً بعد هذا اليوم، ثم نفض رداءه ثم خرج.x كذا في البداية (7340 و341) .
لغاية ص 145
تابع
إنكار أم سَلَمة على من سبَّ عليا
وأخرج أحمد عن أبي عبد الله الجَدَلي قال: دخلت على أم سَلَمة رضي الله عنها فقالت لي: أيُسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكم؟ قلت: مَاذ الله أو سبحان الله أو كلمة نحوها، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سبَّ علياً فقد سبني» . قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير أبي عبد الله الجعدَلي وهو ثقة.
وعند الطبراني وأبي يعلى عن أبي عبد الله الجدلي قال: قالت لي أم سَلَمة رضي الله عنها: يا أبا عبد الله أيُسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكم؟ قلت: أنَّى يُسب ررسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: أليس يُسب علي ومن يحبه، وقد كان رسول الله(3/187)
صلى الله عليه وسلم يحبه قال الهيثمي: رجال الطبراني رجال الصحيح غير أبي عبد الله وهو ثقة. وأخرجه ابن أبي شيبة عن أبي عبد الله نحوه كما في المنتخب.
قول علي في حسبه ودينه
وأخرج الخطيب في المتَّفق وابن عساكر عن أبي صادق قال: قال علي رضي الله عنه: حَسَبي حَسَب رسول الله صلى الله عليه وسلم وديني دينه؛ فمن تناول مني شيئاً فإنما تناوله من رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا في المنتخب.
إكرام أبي بكر للحسن
وأخرج أبو نُعيم والجابري في جزئه عن عبد الرحمن بن الأصبهاني قال: جاء الحسن بن علي إلى أبي بكر رضي الله عنهم وهو على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: انزل عن مجلس أبي، قال: صدقت، إنه مجلس أبيك، وأجلسه في حجره وبكى. فقال علي رضي الله عنه: والله ما هذا عن أمري. فقال: صدقتَ والله ما اتهمتك. وعند ابن سعد عن عروة أن أبا بكر خطب يوماً فجاء الحسن فصعد إليه المنبر، فقال: انزل عن منبر أبي، فقال علي: إن هذا شيء من غير ملأ منا. كذا في الكنز.
إكرام عمر للحسين
وأخرج ابن عساكر عن أبي البختري قال: كان عمر بن الخطاب رضي(3/188)
الله عنه يخطب على المنبر، فقام إليه الحسين بن علي رضي الله عنهما، فقال: انزل عن منبر أبي، قال عمر: منبر أبيك لا منبر أبي، من أمرك بهذا؟ فقال علي رضي الله عنه فقال: ما أمره بهذا أحد أما لأوجعنَّك يا غُدَر فقال: لا توجع ابن أخي فقد صدق منبر أبيه. قال ابن كثير: سنده ضعيف. كذا في الكنزل.
وعند ابن سعد وابن راهَوَيه والخطيب عن حسين بن علي رضي الله عنهما قال: صعدت إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه المنبر فقلت له: انزل عن منبر أبي واصعد منبر أبيك، فقال: إن أبي لم يكن له منبر، فأقعدني معه. فلما نزل ذهب إلى منزله فقال: أيْ بني من علَّمك هذا؟ قلت: ما علمنيه أحد. قال: أيْ بني لو جعلت تأتينا وتغشانا، فجئت يوماً وهو خالٍ بمعاوية، وابنُ عمر بالباب لم يُؤذن له فجرعت. فلقيني بعد فقال: يا بني لم أرَك أتيتنا؟ قلت: جئت وأنت خالغ بمعاوية، فرأيت ابن عمر رجع فرجعت. فقال: أنت أحق بالإِذن من عبد الله بن عمر، إنما أنبت في رؤوسنا ما ترى الله، ثم أنتم، ووضع يده على رأسه. كذا في الكنز. قال في الإِصابة: سنده صحيح.
إكرام أبي بكر للحسن أيضا
وأخرج ابن سعد وأحمد والبخاري والنسائي والحاكم عن عقبة(3/189)
بن الحارث قال: خرجت مع أبي بكر رضي الله عنه من صلاة العصر بعد وفات رسول الله صلى الله عليه وسلم بليال، وعلي رضي الله عنه يمشي إلى جنبه. فمر بحسن بن علي يلعب مع غِلمان، فاحتمله على رقبته وهو يقول:
بأي شبيهُ بالنبي
ليس شبيهاً بعلي
وعلي يضحك. كذا في الكنز.
تقبيل أبي هريرة بطن الحسن
وأخرج أحمد عن عمير بن إسحاق قال: رأيت أبا هريرة رضي الله عنه لقي الحسن بن علي رضي الله عنهما فقال (له) : اكشف عن بطنك حيث رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل منه، فكشف عن بطنه فقبَّله. وفي رواية: فقبل سرته. قال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني إلا أنه قال: فكشف عن بطنه ووضع يده على سرته. ورجالهما رجال الصحيح غير عمير بن إسحاق وهو ثقة اهـ. وأخرجه ابن النجار عن عمير كما في الكنز وفيه: فوضع فمه على سرته.
قول أبي هريرة للحسن يا سيدي
وأخرج الطبراني عن المقبري قال: كنا مع أبي هريرة رضي الله عنه فجاء الحسن بن علي رضي الله عنهما فسلّم فرد عليه القوم، ومعنا أبو هريرة رضي الله عنه لا يعلم، فقيل له: هذا حسن بن علي يسلِّم، فلحقه فقال: وعليك يا سيدي، فقيل له: هذا حسن بن علي يسلِّم، فلحقه فقال: وعليك يا سيدي، فقيل له: تقول: يا سيدي، فقال: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنه سيد» قال الهيثمي: رجاله ثقات. وأخرجه أيضاً أبو يَعْلى(3/190)
وابن عساكر عن سعيد المقْبُري نحوه كما في الكنز. وأخرجه الحاكم وصحَّحه.
ما جرى بين أبي هريرة ومروان في محبة الحسن والحسين
وأخرج الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه أن مروان أتاه في مرضه الذي مات فيه. فقال مروان لأبي هريرة: ما وجدت عليك في شيء منذ اصطحبنا إلا في حبِّك الحسن والحسين. قال: فتحفَّز أبو هريرة رضي الله عنه فجلس فقال: أشهد لخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا ببعض الطريق سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين وهما يبكيان وهما مع أمهما، فأسرع السير حتى أتاهما فسمعته يقول: «ما شأن ابنيَّ؟» فقالت: العطش، قال: فأخلَفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شَنّه يبتغي فيها ماء، وكان الماء يومئذٍ أعداراً والناس يريدون، فنادى هل أحدٌ منكم معه ماء؟ فلم يبقَ أحد إلاّ أخلَفَ بيده إلى كلامه يبتغي الماء في شَنِّه، فلم يجد أحد منهم قطرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ناوليني أحدهما» ، فناولته إياه من تحت الخدر، فرأيت بياض ذراعيها حين ناولته، فأخذخ فضمّه إلى صدره وهو يضغو ما يسكت، فأدلع لسانه فجعل يمصُّه حتى هدأ أو سكن، فلم أسمع له بكاء، والآخر يبكي كما هو ما يسكت، ثم قال: «ناوليني الآخر» فناولته ففعل به كذلك، فسكتا فلم أسمع لهما صوتاً. ثم قال: «سيروا» فصدعنا يميناً وشمالاً عن الظعائن حتى لقيناه على قارعة الطريق؛ فأنا لا أحب هذين وقد رأيت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله ثقات.(3/191)
إكرام العلماء والكبراء وأهل الفضل
إكرام ابن عباس لزيد بن ثابت وإكرام زيد لابن عباس
أخرج ابن عساكر عن عمار بن أبي عمار أن زيد بن ثابت رضي الله عنه ركب يوماً، فأخذ ابن عباس رضي الله عنهما بركابه، فقال: تنحَّ يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هكذا أُمرنا أن نفعل بعلمائنا وكبرائنا، فقال زيد: أرني يدك، فأخرج يده، فقبَّلها فقال: هكذا أُمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا. كذا في الكنز.
وعند يعقوب بن سفيان بإسند صحيح عن الشَّعْبي قال: ذهب زيد بن ثابت رضي الله عنه ليركب فأمسك ابن عباس رضي الله عنهما بالركاب فقال: تنحَّ يا ابن عم رسول الله، قال: لا، هكذا نفعل بالعلماء والكبراء. كذا في الإصابة. وأخرحه الطبراني عن الشَّعْبي نحوه ورجاله رجال الصحيح غير رَزِين الرُّمَّاني وهو ثقة كما قال الهيثمي. وأخرجه ابن عسد نحوه. وأخرجه الحاكم عن أبي سَلَمة نحوه وصحَّحه على شرط مسلم، ويعقوب بنسفيان عن الشَّعْبي نحو حديث عمار بن أبي عمار؛ كما في الإِصابة. وعند ابن النجار عن ابن عباس رضي الله عنه أنه أخذ بركاب زيد بن ثابت ثم قال: إنا أُمرنا أن نأخذ بركاب معلِّمينا وذوي أسناننا. كذا في الكنز.(3/192)
إكرامه عليه السلام أبا عبيدة
وأخرج الطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم في نفر من أصحابه إذ أُتي بقدح فيه شراب، فناوله رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة. فقال أبو عبيدة: أنت أولى به يا نبي الله. قال: «خذ» فأخذ أبو عبيدة القدح. قال له قبل أن يشرب. خذ يا نبي الله، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم «اشرب فإنَّ البركة مع أكابرنا، فمن لم يرحم صغيرنا ويجلّ كبيرنا فليس منا» . قال الهيثمي815) : وفيه علي بن زيد الألهاني وهو ضعيف.
أمره عليه السلام بتقديم الأكبر للكلام
وأخرج البخاري عن رافع بن خَدِيج وسهل بن (أبي) حَثْمة أن عبد الله بن سهل ومحيِّصة بن مسعود رضي الله عنهم أتيا خيبر فتفرقا في النخل، فقُتل عبد الله بن سهل. فجاء عبد الرحمن بن سهل وحوِّيصة ومحيِّصة ابنا مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتكلَّموا في أمر صاحبهم، فبدأ عبد الرحمن - وكان أصغر القوم - فقال النبي صلى الله عليه وسلم «كَبِّر الكُبْر» - قال يحيى: لِيَلى الكلامَ الأكبر - فتكلَّموا في أمر صاحبهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «أتستحقون قتيلكم - أو قال: صاحبكم - بأيمانِ خمسين منكم؟» . قالوا: يا رسول الله أمر لم نره قال: «فتبرئكم يهود في(3/193)
أيمان خمسين منهم» . قالوا: يا رسول الله قوم كفار فَوَداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من قِبَلة.
إكرامه عليه السلام وائل بن حجر
وأخرج البزّار عن وائل بن حُجْر رضي الله عنه قال: بلغنا ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في ملك عظيم وطاعة، وفرفضتُه وخرجت راغباً في الله ورسوله، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد بشَّآهم بقدومي. فلما قدمت عليه فسلصمت عليه فرد عليَّ وبسط لي رداءه وأجلسني عليه، ثم صعد منبره وأقعدني معه، فرفع يديه فحمد الله وأثنى عليه وصلَّى على النبيين، واجتمع الناس إليه فقال لهم: «أيها الناس، هذا وائل بن حُجْر قد أتاكم من أرض بعيدة من حضرموت طائعاً غير مكره، راغباً في الله وفي رسوله وفي دينه» . قال: «صدقت» قال الهيثمي: وفيه محمد بن حجر وهو ضعيف. وعند الطبراني عن وائل بن حجر رضي الله عنه قال: جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «هذا وائل بن حجر جاءكم لم يجئكم رغبة ولا رهبة، جاءكم حباً لله ولوسوله» وبسط له رداءه، وأجلسه إلى جنبه، وضمه إليه، وأصعده املنبرفخطب الناس فقال: «ارفقوا به، فإنه حديث عهد بالملك» . فقال: إن أهلي غلبوني على الذي لي، قال: «أنا أعطيكه وأعطيك ضعفه» فذكر الحديث. قال الهيثمي: رواه الطبراني من طريق ميمونة بنت حُجْر عبد الجبار عن عمتها أم يحيى بنت عبد الجبار ولم أعرفها وبقية رجاله ثقات. انتهى.(3/194)
إكرامه عليه السلام سعد بن معاذ وهو يموت
وأخرج ابن عسد عن ابن عبسا رضي الله عنهما قال: لما انفجرت يد سعد رضي الله عنه بالدم قام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتنقه والدم ينفح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولحيته، لا يريد أحدٌ أن يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم الدمَ إلا ازداد منه رسول الله قرباً حتى قضى.
وعني رجل من الأنصار قال لما قضى سعد في بني قُرَيظة ثم رجع انفجر جرحه. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه فأخذ رأسه فوضعه في حجره، وسُجِّي بثوب أبيض إذا مُدَّ على وجهه خرجت رجلاه، وكان رجلاً أبيض جسيماً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللهمَّ إن سعداً قد جاهد في سبيلك، وصدَّق رسولك، وقضى الذي عليه، فتقبل روحه بخير ما تقبلت به روحاً» . فلما سمع سعد كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح عينيه ثم قال: السلام عليك يا رسول الله، أما إني أشهد أنك رسول الله. فلما رأى أهل سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وضع رأسه في حجره ذُعروا من ذلك، فذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل سعد لما رأوك وضعت رأسه في حجرك ذُعروا من ذلك. فقال: «أستأذنُ الله من ملائكته عدَدَكم في البيت ليشهدوا وفاة سعد» قال وأمه تبكي وهي تقول:
وَيْلُ امك سعدا
حَزامة وجِدَّا
فقيل لها أتقولين الشعر على سعد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «دعوها فغيرها من الشعراء أكذب» .
إكرام عمر لمعيقيب صاحب النبي عليه السلام
وأخرج ابن سعد عن خارجة بن زيد أن عمر - رضي الله عنه - وُضع(3/195)
له العشاء مع الناس يتعشُّون، فخرج فقال لمعيقيب بن أبي فاطمة الدَّوسي رضي الله عنه - وكان له صحبة وكان من مهاجرة الحبشة -: ادنُ فاجلس، وَايْم الله لو كان غيرك به الذي بك لما جلس منِّي أدنى من قِيد رمح.
وعنده أيضاً من وجه آخر عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دعاهم لغدائه، فهابوا - وكان فيهم معيقيب رضي الله عنه وكان به جذام - فأكل معيقيب معهم، فقال له عمر: خذ ما يليك ومن شَقِّك، فلو كان غيرك ما آكلني في صحفة، ولكان بيني وبينه قِيد رمح.
إكرام عمر عمرو بن الطفيل
وأخرج ابن عسد وابن عساكر عن عبد الواحد بن عَون الدَّوسي قال: رجع الطفيل بن عمرو رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان معه بالمدينة حتى قُبض. فلما ارتدت العرب خرج مع المسلمين إلى اليمامة ومعه ابنه عمرو بن الطفيل، فقتل الطفيل باليمامة شهيداً، وجُرح معه ابنه عمرو بن الطفيل وقُطعت يده، فبينا هو عند عمر بن الخطاب إذ أُتي بطعام فتنحَّى عنه، فقال عمر: مالك (لعلك) تنحيت لمكان يدك؟ قال: أجل، قال: لا والله لا أذوقه حتى تسوطَه بيدك، فوالله ما في القوم أحد بعضه في الجنة غيرك. ثم خرج عام اليرموك مع المسلمين فقتل شهيداً. كذا في الكنز.(3/196)
كتاب عمر إلى أبي موسى في تقدم أهل الفضل
وأخرج الدينوري عن الحسن قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري - رضي الله عنهما - أنه بلغني أنك تأذن للناس جماً غفيراً، فإذا جاءك كتابي هذا فابدأ بأهل الفضل والشرف والوجوه، فإذا أخذوا مجالسهم فأذن للناس. كذا في الكنز.
تسويد الأكابر
ما أوصى به قيس بن عاصم بنيه
أخرج البخاري في اودب (ص54) عن حكيم بن قيس بن عاصم أن أباه أوصى عند موته بنيه فقال:
اتقوا الله، وسوِّدوا أكبركم، فإنَّ القوم إذا سوَّدوا أكبرهم خَلَفوا أباهم، وإذا سوَّدوا أصغرهم أزرى بهم ذلك في أكفائهم. وعليكم بالمال واصطناعه فإنه منبهة للكريم، ويُستغنى به عن اللئيم، وإياكم ومسألة الناس فإنها من آخر كسب الرجل، وإذا متُّ فلا تنوحوا فإنه لم يُنح على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا متُّ فادفنوني بأرض لا يشعر بدفني بكر بن وائل فإني كنت أغافلهم في الجاهلية.
وأخرجه أحمد أيضاً نحوه كما في الإِصابة. وأخرجه ابن سعد أيضاً نحوه.(3/197)
الإكرام مع اخلاف الرأي والعمل
ما أمر به علي الناس يوم الجمل
أخرج البيهقي عن يحيى بن سعيد عن عمه قال: لما تواقفنا يوم الجمل، وقد كان علي رضي الله عنه حين صفَّنا نادى في الناس: لا يرمينَّ رجل بسهم، ولا يطعن برمح، ولا يضرب بسيف، ولا تبدؤوا القوم بالقتال، وكلِّموهم بألطف الكلام، وأظنه قال: فإن هذا مَقامٌ من فَلَج فيه فَلَج يوم القيامة. فلم نزل وقوفاً حتى تعالى النهار حتى نادى القوم بأجمعهم يا ثَأراتِ عثمان، فنادى علي رضي الله عنه محمد بن الحنيفة - وهو أمامنا ومعه اللواء - فقال: يا ابن الحنفية ما يقولون؟ فأقبل علينا محمد بن الحنفية فقال: يا أمير المؤمنين: يا ثأرات عثمان، فرفع علي رضي الله عنه يديه فقال: اللهمَّ كبَّ اليوم قتلة عثمان لوجوههم
وعنده أيضاً عن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب أن علياً رضي الله عنه لم يقاتل أهل الجمل حتى دعا الناس ثلاثاً، حتى إذا كان اليوم الثاثل دخل عليه الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهم، فقالوا: قد أكثروا فينا الجراح. فقال: يا ابن أخي والله ما جهلت شيئاً من أمرهم إلاَّ ما كانوا فيه. وقال: صب لي ماء فصب له ماء، فتوضأ به ثم صلَّى ركعتين حتى إذا فرغ رفع يديه ودعا ربَّه وقال لهم: إن ظهرتم على القوم فلا تطلبوا مدبراً، ولا تجيزوا على جريح، وانظروا ما حُضِرت به الحرب نم ريته فاقبضوه، وما كان سوى ذلك فهو لورثته. قال البيهقي: هذا منقطع والصحيح أنه لم يأخذ شيئاً ولم يسلب قتيلاً.(3/198)
وعنده أيضاً عن علي بن الحسين قال: دخلت على مروان بن الحكم فقال: ما رأيت أحداً أكرم غلبة من أبيك، ما هو إلا أن ولَّينا يوم الجمل فنادى منادِيه: لا يُقتل مدبر، ولا يُذفَّف على جريح.
قول علي في أهل الجمل
وعنده أيضاً عن عبد خير قال: سئل علي رضي الله عنه عن أهل الجمل فقال: إخواننا بغَوا علينا فقاتلناهم، وقد فاؤوا وقد قبلنا منهم. وعن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم قال: قال علي رضي الله عنه يوم الجمل: نمنُّ عليهم بشهادة أن لا إله إلا الله، ونورِّث الآباء من الأبناء. وأخرج أيضاً عن أبي البختري قال: سئل علي رضي الله عنه عن أهل الجمل أمشركون هم؟ قال: من الشرك فرُّوا. قيل: أمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، قيل: فما هم؟ قال: إخوانا بَغَوا علينا.
ترحيب علي بابن طلحة وأقواله في شأنه مع طلحة والزبير
وأخرج أيضاً عن أبي حبيبة مولى طلحة رضي الله عنه قال: دخلت على علي رضي الله عنه مع عِمران بن طلحة بعدما فرغ من أصحاب الجمل قال: فرحَّب به وأدناه وقال: إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال الله عز وجل: {وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} (سورة الحجر، الآية: 47) . فقال: يا ابن أخي كيف فلانة؟ كيف فلانة؟ قال: وسأله عن أمهات أولاد أبيه،(3/199)
قال ثم قال: لم نقبض أرضكم هذه السنين إلاّ مخافة أن ينتهبها الناس، يا فلان انطلق معه إلى ابن قرظَة مُرْه فليعطِه غلَّة هذه السنين ويدفع إليه أرضه، قال: فقال رجلان جالسان ناحيةً أحدهما الحارث الأعور: الله أعدل من ذلك أن نقتلهم ويكونوا إخواننا في الجنة، قال: قُوما أبعد أرض الله وأسحقَها، فمن هو إذا لم أكن أنا وطلحة، يا ابن أخي إذا كانت لك حاجة فأتِنا.
وأخرجه ابن سعد عن أبي حبيبة نحوه، وعن رِبعي بن حِراش بمعناه وفي حديثه: فصاح علي صيحة تداعَى لها القصر قال: فمن ذاك إذا لم نكن نحن أولئك؟ وعنده أيضاً عن إبراهيم قال: جاء ابن جُرموز يستأذن على علي رضي الله عنه فاستجفاه فقال: أما أصحاب البلاء، فقال عليّ: بِفِيك التراب إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير رضي الله عنهم من الذين قال الله في حقهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال: علي رضي الله عنه: إني لأرجو أن أكون أن وطلحة والزبير من الذين قال الله في حقهم - فذكر الآية.
إنكار عمار على من نال من عائشة وقوله فيها
وأخرجه ابن عساكر عن عمرو بن غالب قال سمع عمار بن ياسر رضي الله عنه رجلاً ينال من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقال له: اسكت(3/200)
مقبوحاً منبوحاً، فأشهدُ أنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة. كذا في الكنز. وأخرجه ابن سعد نحوه، والترمذي، وفي حديثه: اغرب مقبوحات؛ أتؤذي محبوبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. كذا في الإِصابة.
وعند ابن عساكر وأبي يَعْلى عن عمار رضي الله عنه قال: لقد سارت أمنا عائشة رضي الله عنها مسيرها، وإنا لنعلم أنها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلانا بها ليعلم إياه نطيع أو إياها. كذا في الكنزل. وأخرجه البيهقي عن أبي وائل رضي الله عنه قال: لمَّا بعث علي عمار بن ياسر والحسن بن علي رضي الله عنهم إلى الكوفة ليستنفرهم خطب عمار فقال: إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاهم بها لينظر إياه تتَّبعون أو إياها. قال البيهقي: رواه البخاري في الصحيح.
الأمر باتباع الأكابر على خلاف رأيه
أمر ابن مسعود باتباع عمر وقوله فيه
أخرج ابن سعد عن زيد بن وَهْب قال: أتيت ابن مسعود رضي الله عنه استقرئه آية من كتاب الله فأقرأنيها كذا وكذا، فقلت: إنَّ عمر رضي الله عنه أقرأني كذا وكذا - خلاف ما قرأها عبد الله -. قال: فبكى حتى رأيت دموعه(3/201)
خلال الحصى، ثم قال: أقرأها كما يقرأك عمر، فوالله لهي أبين من طريق السَّيْلَحَين، إن عمر كان للإِسلام حصناً حصيناً يدخل الإِسلامُ فيه ولا يخرج منه، فلما قتل عمر انثلم الحصن فالإِسلام يخرج منه ولا يدخل فيه.
الغضب للأكابر
غضب عمر على رجل نال من أبي الدرداء
أخرج أبو نعيم في الحلية عن شُريح بن عبيد أن رجلاً قال لأبي الدرداء رضي الله عنه: يا معشر القراء، ما بالكم أجبن منا وأبخل إذا سئلتم، وأعظم لُقماً إذا أكلتم فأعرض عنه أبو الدرداء ولم يردَّ عليه شيئاً. فأُخبر بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فسأل أبا الدرداء عن ذلك، فقال أبو الدرداء: اللهمَّ غفراً، وكل ما سمعنا منهم نأخذهم به؟ فاطنلق عمر إلى الرجل الذي قال لأبي الدرداء ما قال، فأخذ عمر بثوبه وخَنَقه وقاده إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الرجل: إنما كنا نخوض ونلعب، فأوحى الله تعالى إلى نبيه: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} (سورة التوبة، الآية: 65) .
إنكار عمر على من فضَّله على أبي بكر وتهديده في ذلك
وأخرج أبو نعيم في فضائل الصحابة عن جبير بن نُفير أن نفراً قالوا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: والله ما رأينا رجلاً أقضى بالقسط، ولا أقولَ بالحق، ولا أشد على المنافقين منك يا أمير المؤمنين فأنت خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عوف بن مالك رضي الله عنه: كذبتم - والله - لقد رأينا خيراً منه بعد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من هو يا عوف؟ فقال: أبو بكر، فقال عمر:(3/202)
صدق عوف وكذبتم، والله لقد كان أبو بكر أطيب من ريح المسك وأنا أضل من بعير أهلي. قال ابن كثير: إسناده صحيح. كذا في منتخب الكنز.(3/203)
إنكار علي على من فضله على أبي بكر
وأخرج خيثمة وابن عساكر عه ن أبي الزِّناد قال: قال رجل لعلي رضي الله عنه يا أمير المؤمنين ما بال المهاجرين والأنصار قدَّموا أبا بكر وأنت أوفى منه مَنْقَبَة، وأقدم منه سِلماً، وأسبق سابقة؟ قال: إن كنت مقرشياً فأحسبك من عائذة، قال: نعم، قال: لولا أن المؤمن عائذ الله لقتلتك، ولئن بقيت ليأتينَّك مني روعة حصراء، ويحك إن أبا بكر سبقني إلى أربع: سبقني إلى الإِمامة، وتقديم الإِمامة، وتقديم الهجرة وإلى الغار، وإفشاء الإِسلام؛ ويحك إن الله ذمَّ الناس كلَّهم ومدح أبا بكر فقال: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} (سورة التوبة، الآية 40) الآية. كذا في منتخب الكنز. وأخرجه العِشاري عن ابن عمر بمعناه، كما في المنتخب.
ما جرى بين أبي بكر والمغيرة وبين رجل وغضب أبي بكر لغضب المغيرة
وأخرج الطبراني عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: كنت عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه فعُعرض عليه فرس، فقال رجل احملني على هذا، فقال: لأَن أحمل عليه غلاماً قد ركب الخيل على غِرَّته أحب إليَّ من أن أحملك عليه، فغضب الرجل وقال: أنا - والله - خير منك ومن أبيك فارساً(3/204)
فغضبت حين قال ذلك لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمت إليه فأخذت برأسه فسحبته على أنفه، فكأنما كان على أنفه عزلاء مَزادة، فأرادت الأنصار أن يستقيدوا مني، فبلغ ذلك أبا بكر رضي الله عنه فقال: إن ناساً يزعمون أني مُقيده من المغيرة بن شعبة؛ ولأن أجرجَهم من ديارهم أقرب من أن أقيدهم من وَزَعَة الله الذي يَزَعون عباد الله. قال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. انتهى.
ضرب عمر رجلين لأجل ابن مسعود
وأخرج ابن عساكر عن أبي وائل أن ابن مسعود رضي الله عنه رأى رجلاً قد أسبل فقال: ارفع إزارك، فقال: وأنت يا ابن مسعود ارفع إزارك، فقال له عبد الله: إني لست مثلك إن بساقيَّ حُموشةً وأنا أؤم الناس. فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه، فجعل يضرب الرجل ويقول: أتردُّ على ابن مسعود؟ كذا في الكنز.
وأخرج يعقوب بن سفيان وابن عساكر عن العلاء عن أشياخ لهم قال: كان عمر على دار لابن مسعود - رضي الله عنه - بالمدينة ينظر إلى بنائها. فقال رجل من قريش: يا أمير المؤمنين إنك تُكفى هذا، فأخذ لبنة فرمى بها، وقال: أترغب بي عن عبد الله؟ كذا في الكنز.(3/205)
ضرب عمر رجلاًلأجل أم سلمة
وأخرج أبو عبيد في الغريب وسفيان بن عيينة واللألكائي عن أبي وائل أن رجلاً كان له حقٌّ على أم سَلَمة رضي الله نها، فأقسم عليها، فضربه عمر رضي الله عنه ثلاثين سوطاً تَبضَع وتَحدِر. كذا في المنختب.
هم علي بقتل ابن سبأ لتفضيله إياه على الشيخين
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن أم موسى قالت: بلغ علياً رضي الله عنه أن ابن سبأ يفضله على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فهمَّ علي بقتله، فقيل له: أتقتل رجلاً إنما أجلَّك وفضلك؟ فقال: لا جَرَم لا يساكنني في بلدة أنا فيها.
وأخرج العِشَاري واللألكائي عن إبراهيم قال: بلغ علياً رضي الله عنه أن عبد الله بن الأسود ينتقص أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، فدعا بالسيف فهمَّ بقتله، فكُلم فيه، فقال: لا يساكنني في بلد أنا فيه، فنفاه إلى الشام. كذا في المنتخب.
إنكار علي على من فضله على الشيخين
وأخرج العِشَاري عن الحسن بن كَثِير عن أبيه قال: أتى علياً رضي الله عنه رجل فقال: أنت خير الناس، فاقل: هل رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا، قال: ما رأيت أبا بكر؟ قال: لا، قال: أما إنك لو قلت إنك رأيت النبي صلى الله عليه وسلم لقتلتك، ولو قلت رأيت أبا بكر وعمر لحددتك.(3/206)
وأخرج ابن أبي عاصم وابن شاهين واللألكائي والأصبهاني وابن عساكر عن علقمة قال: خطبنا علي رضي الله عنه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنه بلغني أن ناساً يفضلوني على أبي بكر وعمر، ولو كنت تقدمت في ذلك لعاقبت فيه، ولكني أكره العقوبة قبل التقدُّم، فمن قال شيئاً من ذلك بعد مقامي هذا فهو مفتر، عليه ما على المفتري. خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم أحدَثْنا بعدهم أحداثاً يقضي الله فيها ما يشاء.
خطبة عظيمة لعلي في بيان فضل الشيخين
وعند خيثمة واللألكائي وأبي الحسن البغدادي والشيرازي وابن مَنْده وابن عساكر عن سُويد بن غَفْلة قال: مررتُ بقوم يذكرون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وينتقصونهما. فأتيت علياً رضي الله عنه فذكرت له ذلك فقال: لعن الله من أضمر لهما إلا الحسن الجميل، أخوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيراه ثم صعد المنبر فخطب خطبة بليغة فقال:
ما بال أقوام يذكرون سيدَي قريش وأبوَي المسلمين بما أنا عنه متنزه، وممَّا يقولون بريء، وعلى ما يقولون معاقب؟ والذي فَلَق الحبة وبرأ النَّسَمة إنه لا يبحهما إلا مؤمن تقي، ولا يُبغضهما إلا فاجر رديء، صحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدق والوفاء يأمران وينهيان ويعاقبان، فما يجاوزان فيما يصنعان رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم كرأيهما رأياً، ولا يحب حبهما حباً، مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهما راضٍ والناس راضون، ثم وُلي أبو بكر الصلاة، فلما قبض الله نبيه صلى الله عليه وسلم ولاَّه المسلمون ذلك وفوَّضوا إليه الزكاة لأنهما مقرونتان، - وكنت أولَ من يُسمَّى له من بني عبد المطلب - وهو لذلك كاره، يود أن يعضنا كفاه، فكان - والله - خير من بقي، أرأفه رأفة، وأرحمه رحمة، وأكيسه ورعاً، وأقدمه إسلاماً، شبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم بميكائيل رأفة ورحمة، وبإبراهيم عفواً(3/207)
ووقاراً، فسار بسيرة رسول الله حتى قبض رحمة الله عليه.
ثم وَلي الأمر من بعده عمر بن الخطاب، واستُأمر في ذلك الناس، فمنهم من رضي ومنهم من كره، فكنت ممن رضي. فوالله ما فارق عمر الدنيا حتى رضي نم كان له كارهاً، فأقام الأمر على منهاج النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه، وناصر المظلوم على الظالم. ثم ضرب الله بالحق على لسانه حتى رأينا أن مَلَكاً ينطلق على لسانه، وأعز الله بإسلامه الإسلام، وجعل هجرته للدين قِواماً، وقذف في قلوب المؤمنين الحب له وفي قلوب المنافقين الرهبة له، شبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبريل فظاً غليظاً على الأعداء، وبنوح حَنقاً ومغتاظاً على الكافرين. فمن لكم بمثلهما؟ لا يُبلغ مبلغهما إلا بالحبِّ لهما واتباع آثارهما، فمن أحبهما فقد أحبني، ونم أبغضهما فقد أبغضني وأنا منه بريء. ولو كنت تقدمتُ في أمرهما لعاقبت أشد العقوبة، فمن أُتيت به بعد مقامي هذا فعليه ما على المفتري. ألا وخير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر ثم الله أعلم بالخير أين هو. أقول قولي هذا ويغفر الله لي ولكم. كذا في منتخب الكنز.
ما وقع بين علي ورجل في عثمان
وأخرج ابن عساكر عن أبي إسحاق قال: قال رجل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن عثمان - رضي الله عنه - في النار. قال: ومن أين علمت؟ قال: لأَنَّه أحدث أحداثاً، فقال له علي: أتراك لو كانت لك بنت أكنت تزوجها حتى تستشير؟ قال: لا، قال: أفرأي هو خير من رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنتيه؟ وأخبرني عن النبي صلى الله عليه وسلم أكان إذا أراد أمراً يستخير الله أو لا يستخيره؟(3/208)
قال: لا، بل كان يستخيره، قال: أفكان الله يخير له أم لا؟ قال: بل يخير له، قال: فيخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اختار الله له في تزويجه عثمان أم لم يختر له؟ ثم قال: لقد تجردتُ لك لأضرب عنقك فأبى الله ذلك، أما والله لو قلت غير ذلك لضربت عنقك. كذا في المتنخب.
قول ابن عمر في رجل ذكر عثمان
وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن سالم عن أبيه قال: لقيني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في لسانه ما يُبِين كلامَه، فذكر عثمان رضي الله عنه، قال: عبد الله، فقلت: والله ما أدري ما تقول غير أنكم تعلمون يا معشر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنا كنا نقول على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان، وإذا هو هذا المال فإن أعطاه؛ يعني يرضيه ذلك.
استجابة دعاء سعد على من شتم علياً وطلحة والزبير
وأخرج الطبراني عن عامر بن سعد قال: بينما سعد رضي الله عنه يمشي إذ مر برجل وهو يشتم علياً وطلحة والزبير رضي الله عنهم، فقال له سعد: إنك تشتم أقواماً قد سبق لهم من الله ما سبق، والله لتكفنَّ عن شتمهم أو لأدعُونَّ الله عز وجل عليك، قال: يخوفني كأنه نبي فقال سعد: اللهمَّ إن كان يشتم أقواماً قد سبق لهم منك ما سبق فاجعله اليوم نكالاً فجاءت بُخْتِيَّة، فأفرج الناس لها فتخبطته، فرأيت الناس يتبعون سعداً يقولون: استجاب الله لك يا أبا إسحاق. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح - اهـ.(3/209)
وعند الحاكم عن مصعب بن سعد عن سعد رضي الله عنه أن رجلاً نال من علي رضي الله عنه، فدعا عليه سعد بن مالك، فجاءته ناقة أو جمل فقتله فأعتق سعد نَسَمة وحلف أن لا يدعو على أحد.
وعنده أيضاً عن قيس بن أبي حازم قال: كنت بالمدينة فبينا أنا أطوف في السوق إذ بلغت أحجار الزيت، فرأيت قوماً مجتمعين على فارس قد ركب دابة وهو يشتم علي بن أبي طالب رضي الله عنه والناس وقوف حواليه، إذ أقبل سعد بن أبي وقاس فوقف عليهم، فقال ما هذا؟ فقالوا: رجل يشتم علي بن أبي طالب، فتقدَّم سعد فأفرجوا له حتى وقف عليه، فقال: ما هذا علامَ تشتم علي بن أبي طالب؟ ألم يكن أول من أسلم؟ ألم يكن أول من صلَّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ألم يكن أزهد الناس؟ ألم يكن أعلم الناس؟ - وذكر حتى قال: ألم يكن خَتَنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنته؟ ألم يكن صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته؟ ثم استقبل القبلة ورفع يديه وقال: اللهمَّ إنَّ هذا يشتم ولياً من أوليائك، فلا تفرق هذا الجمع حتى تريهم قدرتك. قال قيس: فوالله ما تفرقنا حتى ساخت به دابته فرمته على هامته في تلك الأحجار فانفقل دماغه ومات. قال الحاكم: ووافقه الذهبي، هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرِّجاه - اهـ. وأخرجه أبو نُعيم في الدلائل (ص206) عن ابن المسيَّب نحو السياق الأول.
غضب سعيد بن زيد على من سبّ عليا
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن رباح بن الحارث أن المغيرة رضي(3/210)
الله عنه كان في المسجد الأكبر وعنده أهل الكوفة عن يمينه وعن يساره، فجاء رجل يدعى سعيد بن زيد فحياه المغعيرة وأجلسه عند رجليه على السرير، فجاء رجل من أهل الكوفة فاستقبل المغيرة فسب، فقال: من يسب هذا يا مغيرة؟ قال: سبَّ علي بن أبي طالب، فقال: يا مغيرة بن شعبة - ثلاثاً - ألا أسمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسبون عندك لا تنكر ولا تغيِّر وأنا أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مما سمعت أذناني ووعاه قلبي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فإني لم أكن أروي عنه كذباً يسألني عنه إذا لقيته - أنه قال: «أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، (وعبد الرحمن في الجنة) ، وسعد بن مالك في الجنة» وتاسع المؤمنين في الجنة، ولو شئت أن أسميه لسميته، قال فرجَّ أهل المسجد يناشدونه: يا صاحب رسول الله من التاسع؟ قال: ناشدتموني بالله والله عظيم؛ أنا تاسع المؤمنين ورسول الله العاشر. ثم أتبع ذلك يميناً فقال: لمشهد شهده رجل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يغبر وجهه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من عمل أحدكم ولو عُمِّر عمر نوح.
وعنده أيضاً عن عبد الله بن ظالم المازني قال: لما خرج معاوية رضي الله عنه من الكوفة استعمل المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، قال: فأقام خطباء يقعون في علي وأنا إلى جنب سعيد بن زيد. قال: فغضب فقام فأخذ بيدي فتبعته، فقال: ألا ترى إلى هذا الرجل الظالم لنفسه الذي يأمر بلعن رجل من أهل الجنة فأشهد على التسعة أنهم في الجنة ولو شهدت على العاشر لم آثم. وأخرجه أحمد وأبو نُعيم في المعرفة وابن عساكر عن رباح نحو ما تقدم؛ كما في منتخب الكن(3/211)
ز.
البكاء على موت الأكابر
بكاء صهيب وقول حفصة لما طعن عمر
أخرج ابن سعد عن ابن سيرين قال: أُتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بشراب حين طُعن فخرج من جراحته، فقال صهيب رضي الله عنه: واعُمَراه واأَخاه من لنا بعدك فقال له عمر: مَهْ يا أخي أما شعرت أنه من يُعوَّل عليه يُعذَّب. وعن أبي بردة عن أبيه قال: لما طُعن عمر يقبل صهيب يبكي رافعاً صوته، فقال عمر: أعليَّ؟ قال: نعم، قال عمر: أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من يُبْكَ عليه يُعذَّب» . وعن المقدام بن معدِ يكرب رضي الله عنه قال: لما أصيب عمر دخلت عليه حَفْصة رضي الله عنها فقالت: يا صاحب رسول الله، ويا صهر رسول الله، ويا أمير المؤمنين. فقال عمر لابن عمر: يا عبد الله أجلسني فلا صبر لي على ما أسمع، فأسند إلى صدره فقال لها: إني أحرِّج عليك بما لي عليك من الحق أن تَندُبيني بعد مجلسك هذا فأما عينك فلن أملِكَها، إنه ليس من ميت يندب بما ليس فيه إلا الملائكة نَمَقَتْهُ.
بكاء سعيد بن زيد وابن مسعود على موت عمر
وأخرج ابن عسد عن عبد الملك بن زيد عن أبيه قال: بكى سعيد بن زيد رضي الله عنه فقال له قائل: يا أبا الأعور ما يبكيك؟ فقال: على الإسلام أبكي، إن موت عمر رضي الله عنه ثَلَمَ الإِسلام، ثُلمة لا تُرتق إلى يوم القيامة.(3/212)
وعن أبي وائل قال: قدم علينا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فنَعى إلينا عمر، فلم أرَ يوماً كان أكثر باكياً ولا حزيناً منه، ثم قال: والله لو أعلم عمر كان يحب كلباً لإحببته، والله إني أحسب العِضاه قد وَجَدَ فَقْد عمر.
بكاء عمر على موت النعمان بن مقرِّن
وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي عثمان قال: رأيت عمر رضي الله عنه لما جاءه نعيُ النعما وضع يده على رأسه وجعل يبكي. كذا في الكنز.
بكاء ثمامة وزيد وأبي هريرة وأبي حميد على قتل عثمان
وأخرج أبو نعيم عن أبي الأشعث الصِّنْعاني قال: كان أمير على صنعاء يقال له ثمامة بن عدي - رضي الله عنه، وكانت له صحبة - فلما جاء نعي عثمان رضي الله عنه بكى وقال: هذا حين انتزعت خلافة النبوة وصار ملكاً وجَبْرية، من غلب على شيء أكله. كذا في منتخب الكنز. وأخرجه ابن سعد نحوه.
وأخرج ابن سعد عن زيد بن علي أن زيد بن ثابت رضي الله عنه كان يبكي على عثمان رضي الله عنه يوم الدار. وعن أبي صالح قال: كان أبو هريرة رضي الله عنه إذا ذكر ما صُنع بعثمان رضي الله عنه بكى، قال: فكأني أسمعه يقول: هاه هاه ينتحب. وعن يحيى بن سعيد قال قال أبو حُمَيد الساعدي رضي الله عنه لما قتل(3/213)
عثمان - وكان ممن شهد بدراً -: اللهمَّ إن لك عليَّ ألا أفعل كذا، ولا أفعل كذا، ولا أضحك حتى ألقاك.
التنكر بموت الأكابر
ما قاله أبو سعيد وأَبي وأنس في التنكر بموته عليه السلام
أخرج البزّار عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: ما عدا وارينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في التراب فأنكرنا قلوبنا. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح - اهـ.
وعند أبي نُعيم في الحلية عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوهنا واحدة حتى فارقنا، فاختلفت وجوهنا يميناً وشمالاً؛ وفي رواية أخرى عنه عنده قال: كنا مع نبينا صلى الله عليه وسلم ووجهنا واحد فلما قُبِض نظرنا هكذا وهكذا.
وعند ابن سعد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما كان اليوم الذي قُبض فيه النبي صلى الله عليه وسلم أظلم نها - يعني المدينة - كل شيء، وما نفضنا عنه الأيدي من دفنه حتى أنكرنا قلوبنا. وعنده أيضاً عن أنس في حديث الهجرة قال: فشهدته يوم دخل المدينة علينا فما رأيت يوماً قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل المدينة علينا، وشهدته يوم مات فما رأيت قط يوماً كان أقبح ولا أظلم من يوم مات.
ما قاله أبو طلحة في موت عمر
وأخرج ابن سعد عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن أصحاب الشورى اجتمعوا، فلما رآهم أبو طلحة رضي الله عنه وما يصنعون قال: لأَنَا كنت لأَن تَدَافعوها أخوفَ مني مِنْ أن تَنَافَسوها، فوالله ما من أهل بيت من المسلمين(3/214)
إلا وقد دخل عليهم في موت عمر رضي الله عنه نقص في دينهم وفي دنياهم.
إكرام ضعفاء المسلمين وفقرائهم
إكرام النبي عليه السلام لفقراء المسلمين
أخرج أبو نعيم في الحلية عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن ستة نفر فقال المشركون: اطرد هؤلاء عنك فإنهم وإنهم قال: فكنت أنا وابن مسعود رضي الله عنه ورجل من هذيل وبلال رضي الله عنه ورجلان نسيت اسميهما قال: فوقع في نفس النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك ما شاء الله، فحدَّث به نفسه فأنزل الله عز وجل:
{وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ} {وَالْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (سورة الأنعام، الآية: 52) ؛ وأخرجه الحاكم عن سعد مختصراً وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرِّجاه.
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: مر الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب وبلال وخباب وعمار رضي الله عنهم ونحوهم وناس من ضعفاء المسلمين فقالوا: يا رسول الله أرضيت بهؤلاء نم قومك؟ أفنحن نكون تبعاً لهؤلاء؟ أهؤلاء الذين منَّ الله عليهم؟ أطردهم عنك فلعلك إن طردتهم اتبعناك، قال: فأنزل الله عز وجل: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبّهِمْ} - إلى قوله: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} (سورة الأنعام، الآية: 52) ؛ وأخرجه(3/215)
أحمد والطبراني نحوه، قال الهيثمي رجال أحمد رجال الصحيح غير كُردوس وهو ثقة. انتهى.
إكرام النبي عليه السلام لابن أم مكتوم بعدما عوتب فيه
وأخرج أبو يعلى عن أنس رضي الله عنه في قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} (سورة عبس، الآية: 1) : جاء ابن أم مكتوم رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يكلم أبي بن خَلف، فأعرض عنه، فأنزل الله عز وجل: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} {أَن جَآءهُ الاْعْمَى} ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه. وعند أبي يعلى وابن جرير عن عائشة رضي الله عنها قالت: أُنزلت «عبس وتولى» في ابن أم مكتوم الأعمى أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: أرشدني: قالت: وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من عظما المشركين، قالت: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يُعرضُ عنه ويقبل على الآخر ويقول: «أترى بما أقول بأساً؟» فيقول: لا، ففي هذا أُنزلت «عبس وتولى» . وروى الترمذي هذا الحديث مثله؛ كذا في التفسير لابن كثير.
نزول الأمر على النبي عليه السلام بأن يصبر نفسه مع فقراء المسلمين
وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن خبّاب بن الأرت رضي الله عنه قال:(3/216)
جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفَزَاري فوجدا النبي صلى الله عليه وسلم قاعداً مع عمار وصهيب وبلال وخباب بن الأرت - رضي الله عنهم - في أناس من ضعفاء المؤمنين، فلما رأوهم حقروهم فخلوا به فقالوا: إن وفود العرب تأتيك فنستحي أن يرانا العرب قعوداً مع هذه الأعبُد، فإذا جئناك فأقمهم عنا، قال: «نعم» ، قالوا: فاكتب لنا عليك كتاباً، فدعا بالصحيفة ودعا علياً ليكتب - ونحن قعود في ناحية - إذ نزل جبريل عليه السلام فقال: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَىْء} {فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} {وَكَذالِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لّيَقُولواْ} {أَهَؤُلآء مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَآ} {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} {وإذ جاءك الذين يؤمنون بآياتنا} (سورة الأنعام، الآيات: 52 - 54) - الآية، فرمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصحيفة ودعانا فأتيناه وهو يقول: «سلام عليكم» فدنونا منه حتى وضعنا ركبنا على ركبته، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس معنا فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا فأنزل الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} {وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} (سورة الكهف، الآية: 28) قال: فكنا بعد ذلك نقعد مع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا بلغنا الساعة التي كان يقوم فيها قمنا وتركناه وإلا صبر أبداً حتى نقوم.d وأخرجه ابن ماجه عن خباب بنحوه، كما في البداية، وأخرجه ابن أبي شيبة عن الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن نحوه إلى رخر الآية ولم يذكر ما بعده، كما في كنزل العمال.
وعند أبي نُعيم أيضاً عن سلمان رضي الله عنه قال: جاءت المؤلَّفة(3/217)
قلوبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، وذوُوهم، فقالوا: يا رسول الله إنك لو جلست في صدر المسجد ونحَّيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم - يعنون أبا ذر، وسلم ان رضي الله عنهما، وفقراء المسلمين، وكان عليهم جباب الصوف لم يكن عندهم غيرها - جلسنا إليك، وخالصْناك، وأخذنا عنك، فأنزل الله عز وجل: {وَاتْلُ مَآ أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبّكَ لاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا} {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} حتى بلغ {نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} (سورة الكهف، الآية: 29) - يتهددهم بالنار، فقام نبي الله يلتمسهم حتى أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمتي، معكم المحيا ومعكم الممات» .
ما وقع بين ابن مطاطية ومعاذ وخطبته عليه السلام في ذلك
وأخرج ابن عساكر عن مالك عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: جاء قيس بن مطاطية إلى حلقة فيها سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي رضي الله عنهم فقال: هؤلاء الأوس والخزرج قاموا بنصرة هذا الرجل، فما بال هؤلاء؟ فقام معاذ رضي الله عنه فأخذ بتلبيبه حتى أتى به النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بمقالته فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضباً يجر رداءه حتى دخل المسجد، ثم نُودي الصلاة جامعة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «يا أيها الناس إنَّ الربَّ رب واحد، وإن الأب أب واحد، وإن الدين دين واحد، ألا وإن العربية ليست لكم بأب ولا أم، إنما هي لسان فمن تكلم بالعربية فهو عربي» . فقال معاذ وهو آخذ بتلبيبه: يا رسول الله ما تقول في هذا المنافق؟(3/218)
فقال: «دعه إلى النار» قال: فكان فيمن ارتد فقُتل في الردة. كذا في الكنز.
إكرام الوالدين
ما قاله عليه السلام لرجل سأله عن أداء شكر أمه
أخرج الطبراني في الصغير عن بريدة أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني حملت أمي على عنقي فرسخين في رمضاء شديدة لو ألقيتُ فيها بضعة من لحم لنضجت فهل أدَّيت شكرها؟ فقال: «لعله أن يكون لطلقة واحدة» . قال الهيثمي: وفيه الحسن بن أبي جعفر وهو ضعيف من غير كذب، وليث بن أبي سُلَيم مدلِّس - انتهى.
ما أوصى به عليه السلام رجلاً بأبيه
وأخرج الطبراني في الأوسط عن عائشة رضي الله عنها قالت: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل ومعه شيخ فقال له: «يا فلان من هذا معك؟» قال: أبي، قال: «فلا تمشِ أمامه، ولا تجلس قبله، ولا تَدْعُه باسمه، ولا تَسْتَسِبَّ له» قال الهيثمي: وفيه علي بن سعيد بن بشير شيخ الطبراني وهو ليِّن، وقد نقل ابن دقيق العيد أنه وُثِّق، ومحمد بن عروة بن البِرِند لم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح. انتهى.
ما أوصى به أبو هريرة أبا غسان لأبيه
وأخرج الطبراني في الأوسط عن أبي غسان الضَّبِّي قال: خرجت أمشي(3/219)
مع أبي بظَهْر الحرَّة، فلقيني أبو هريرة رضي الله عنه فقال لي: من هذا؟ قلت: أبي، قال: لا تمش بين يدي أبيك ولكن اشم خلفه أو إلى جانبه، ولا تدع أحداً يحول بينك وبينه، ولا تمش فوق إجَّار أبيك تُخفه، ولا تأكل عَرقاً قد نظر أبوك إليك لعله قد اشتهاه. قال الهيثمي: وأبو غسان وأبو غنم الراوي عنه لم أعرفهما وبقية رجاله ثقات.
ما أمر به عليه السلام من بر الوالدين لمن جاءه يريد الجهاد
وأخرج الستة إلا ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد فقال: «أحيٌّ والداك؟» قال: نعم، قال: «فيهما فجاهد» وفي رواية لمسلم قال: أقبل رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله، قال: فهل من والديك أحد حيٌّ؟» قال: نعم، بل كلاهما حي، قال: «فتبتغي الأجر من الله» قال: نعم، قال: «فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما» وفي رواية لأبي داود قال: جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان، فقال: «ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما» . وعنده أيضاً من حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن رجلاً من أهل اليمن هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «هل لك أحد باليمن؟» قال: أبواي، قال: «أذنا لك؟» قال: ة، قال: «فارجع إليهما فاستأذنهما فإن أذِنا لك فجاهد وإلا فَبَرَّهما» . وعند أبي يعلى(3/220)
والطبراني بإسناد جيد عن أنس رضي الله عنه قال: «أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه، قال: «هل بقي من والديك أحد؟» قال: أمي، قال: «قابل الله في برِّها فإذا فعل ذلك فأنت حاج ومعتمر ومجاهد» . كذا في الترغيب.
منعه عليه السلام أبا هريرة عن غزوة خيبر من أجل أمه
وأخرج الطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تجهَّزوا إلى هذه القرية الظالم أهلها فإن الله فاتُحها عليكم إن شاء الله» - يعني خيبر - ولا يخرجنَّ معي مُصعِب ولا مُضحعِف، فانطلق أبو هريرة رضي الله عنه إلى أمه فقال: جهِّزيني فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بالجهاد للغزو. فقالت: تنطلق، وقد علمت ما أدخل إلا وأنت معي؟ قال: ما كنت لأتخلَّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجت ثديها فناشدته بما رضع من لبنها، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم سراً فأخبرته فقال: «انطلقي فقد كُفيت» . فجاء أبو هريرة فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أرى أعراضك عني لا أرى ذلك إلا لشيء بلغك، قال: «أنت الذي تناشدك أمك وأخرجت ثديها تناشدك بما رضعت من لبنها أيحسب أحدكم إذا كان عند أبويه أو أحدهما أنه ليس في سبيل الله؟ بل هو في سبيل الله إذا برَّهما وأدَّى حقَّهما» ، فقال أبو هريرة: لقد(3/221)
مكثت بعد ذلك سنتين ما أغزو حتى ماتت - فذكر الحديث. قال الهيثمي: وفي علي بن يزيد الألهاني وهو ضعيف - انتهى.
أمره عليه السلام بعض أصحابه ببر أبويهما وترك الجهاد
وأخرج الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على السِّقاية، فجاءته امرأة بابن لها فقالت: إن ابني هذا يريد الغزو وأنا أمنعه، فقال: «لا تبرح من أمك حتى تأذن لك أو يتوفَّاها الموت لأنه أعظم لأجرك» . وعنده أيضاً عنه قال: اءك رجل وأمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يريد الجهاد وأمه تمنعه فقال النبي صلى الله عليه وسلم «عند أمك قَرَّ، فإن لك من الأجر عندها مثل مالك في الجهاد» ؛ وفي الإِسنادين رُشَدِين بن كريب وهو ضعيف، كما قال الهيثمي. وعنده أيضاً عن طلحة بن معاوية السُّلمي رضي الله عنه قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إني أريد الجهاد في سبيل الله، قال: «أمك حية؟»(3/222)
قلت: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم «الزم رجلها فثمَّ الجنة» قال الهيثمي: رواه الطبراني عن ابن إسحاق - وهو مدلِّس - عن محمد بن طلحة ولم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح. انتهى.
وعنده أيضاً عن معاوية بن جاهِمة عن أبيه رضي الله عنه قال أتيت رسول الله أستشيره في الجهاد فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ألك والدان؟» قال: نعم، قال: «الزمهما فإنَّ الجنة تحت أقدامهما» . قال الهيثمي رجاله ثقات. اهـ. وأخرجه ابن سعد عن معاوية بن جاهمة السُّلمي أن جاهمة جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أردت أن أغزو وقد جئتك أستشيرك، فقال: «هل لك من أم؟» قال: نعم، قال: «فألزمها فإنَّ الجنة تحت رجلها» ثم الثانية ثم الثالثة في مقاعد شتى وكمثل هذا القول.
وأخرج أبو يَعْلى عن نُعيم مولى أم سلمة رضي الله عنها قال: خرج ابن عمر رضي الله عنها حاجاً حتى كان بين مكة والمدينة أتى شجرة فعرفها فجلس تحتها، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت هذه الشجرة إذ أقبل رجل شاب من هذه الشُّعبة حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني جئت لأجاهد معك في سبيل الله أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، فقال: «أبواك حيان كلاهما؟» قال: نعم، قال: «فارجع فبرهما» فانفتل راجعاً من حيث جاء. قال الهيثمي: وفيه ابن إسحاق وهو مدلِّس ثقة، وبقية رجاله رجال(3/223)
الصحيح إن كان مولى أم سلمة ناعم وهو الصحيح، وإن كان نُعيماً فلم أعرفه - انتهى.
ما جرى بين علي وابنيه حين خطب عمر ابنته
وأخرج البيهقي عن حسن بن حسن عن أبيه أن عمر بن الخطاب خطب أم كلثوم، فقال له علي - رضي الله عنه - إنها تصغر عن ذلك، فقال عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي» فأحبُّ أن يكون لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم سبب ونسب، فقال علي للحسن والحسين رضي الله عنهم: زوِّجا عمكما، فقالا: هي امرأة من النساء تختار لنفسها. فقام علي مُغْضباً، فأمسك الحسن بثوبه وقال: لا صبر لي على هجرانك يا أبتاه، قال: فزوَّجاه. كذا في الكنز.
إطعام أسامة أمه جمّار النخلة
وأخرج ابن سعد عن محمد بن سيرين قال: بلغت النَّخلة على عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه ألف درهم، قال: فعمد أسامة رضي الله عنه لى نخلة فنقرها وأخر جُمَّارها فأطعمها أمه، فقالوا له: ما يحملك على هذا(3/224)
وأنت ترى النخلة قد بلغت ألف درهم؟ قال: إنَّ أمي سألتنيه ولا تسألني شيئاً أقدر عليه إلا أعطيتها.
الرحمة على الأولاد والتسوية بينهم
نزله عليه السلام عن المنبر من أجل الحسين
أخرج الطبراني عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يخطب الناس، فخرج الحسين بن علي رضي الله عنهما في عنقه خِرْقة يجرها، فعثر فيها فسقط على وجهه، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم عن المنبر يريده، فلما رآه الناس أخذوا الصبي فأتوه به، فأخذه وحمله فقال: «قاتل الله الشيطان إن الولد فتنة، والله ما علمت أني نزلت عن المنبر حتى أُتيت به» . قال الهيثمي: رواه الطبراني عن شيخه حسن ولم ينسبه عن عبد الله بن علي الجارودي ولم أعرفهما، وبقية رجاله ثقات. انتهى.
ركوب الحسن والحسين على ظهره عليه السلام في الصلاة وإطالته السجود لذلك
وأخرج البزار عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: جاء حسن رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد فركب على ظهره، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده حتى قام ثم ركع فقام على ظهره، فلما قام أرسله فذهب. قال الهيثمي: رواه البزار وفي إسناده خلاف. اهـ.(3/225)
وعند الطبراني عن الزبير رضي الله عنه قال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجداً جاء الحسن بن علي رضي الله عنهما فصعد على ظهره، فما أنزله حتى كان هو الذي نزل، وإن كان ليُفرج له رجليه فيدخل من ذا الجانب ويخرج من ذا الجانب الآخر. قال الهيثمي: وفيه علي بن عباس وهو ضعيف - اهـ. وعند البزار عن البيهقي قال: قلت لعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما: أخبرني بأقرب الناس شبهاً برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الحسن بن علي كان أقرب الناس شبهاً برسول الله صلى الله عليه وسلم وأحبهم إليه، كان يجيء ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساج فيقع على ظهره فلا يقوم حتى يتنحّى، ويجيء فيدخل تحت بطنه فيُفرج له رجليه حتى يخرج. قال الهيثمي: وفيه علي بن عابس وهو ضعيف. انتهى.
وعند أبي يَعْلى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي فإذا سجد وثب الحسن والحسين رضي الله عنهما على ظههر، فإذا أرادوا أن يمنعوهما أشار إليهم أن دعوهما، فإذا قضى الصلاة وضعهما في حِجْره وقال: «من أحبَّني فليحبَّ هذين» . قال الهيثمي: روه أبو يَعْلى والبزار وقال: فإذا قضى الصلاة ضمَّهما إليه، والطبراني باختصار، ورجال أبي يَعْلى ثقات، وفي بعضهم خلاف - انتهى. وعند أبي يعلى عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيجيء الحسن والحسين فيركب ظهره فيطيل السجود، فيقال: يا نبي(3/226)
الله أطلت السجود؟ فيقول: «ارتحلني ابني فكرهت أن أُعجله» . قال الهيثمي: وفيه محمد بن ذكوان وثَّقه ابن حِبَّان وضعفه غيره، وبقية رجاله رجال الصحيح. انتهى.
صلاته عليه السلام وأمامة على عاتقه
وأخرج البخاري عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم وأمامة بنت أبي العاص رضي الله عنهما على عاتقه، فصلى، فإذا ركع وضع، وإذا رفع رفعها. وأخرجه ابن سعد عن أبي قتادة نحوه.
حمله عليه السلام الحسن والحسين على عاتقه وقوله فيهما
وأخرج أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الحسن والحسين عليهما السلام هذا على عاتقه وهذا عى عاتقه، يلثم هذا مرة وهذا مرة حتى انتهى إلينا، فقال رجل: يا رسول الله إنك لتحبهما قال: «من أحبهما فقد أحبني ومن أبغضهما فقد أبغضني» . قال الهيثمي:(3/227)
رواه أحمد ورجاله ثقات وفي بعضهم خلاف، ورواه البزّار ورواه ابن ماجه باختصار. انتهى.
مصُّه عليه السلام لسان الحسن
وأخرج أحمد عن معاوية رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمص لسانه - أو قال شفته: يعني الحسن بن علي - رضي الله عنهما - وإنه لن يعذب لسان أو شفتان مصَّهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الهيثمي: رجال رجال الصحيح غير عبد الرحمن بن أبي عوف وهو ثقة. انتهى.
ما جرى بينه عليه السلام وبين الأقرع حين قبَّل حسنا
وأخرج الطبراني عن السائب بن يزيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قبَّل حسناً رضي الله عنه، فقال له الأقرع بن حابس رضي الله عنه: لقد وُلد لي عشرة ما قبلت واحداً منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «لا يرحم الله من لا يرحم الناس» . قال الهيثمي: ورجال ثقات. انتهى. وأخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
قوله عليه السلام في الأولاد وزيارته لابنه إبراهيم
وعند البزَّار عن الأسود بن خَلَف رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ(3/228)
حسناً فقبَّله، ثم أقبل عليهم فقال: «إن الولد مبخلة مجهلة مَجْبنة» . ورجاله ثقات كما قال الهيثمي. وأخرج البخاري في الأدب (ص56) عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بالعيال، وكان له ابن مسترضع في ناحية المدينة، وكان ظئرة قَيْنا، وكنا نأتيه وقد دَخَّن البيت بإذخر، فيقبله ويشمُّه. وأخرجه ابن سعد عن أنس بمعناه.
تبشيره عليه السلام من يرحم أولاده وطلبه التسوية بينهم
وأخرج البزار عن أنس رضي الله عنه أن امرأة دخلت على عائشة رضي الله عنها ومعها بنتان لها، فأعطتها عائشة ثلاث تمرات، فأعطت كل واحدة منهما تمرة ثم أخذت تمرة لتضعها في فمها، قال: فنظر الصبيان إليها، قال: فصدعتها نصفين، فأعطت كل واحدة منهما نصفاً وخرجت، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدَّثته عائشة بما فعلت - أو تفعل - المرأة، قال: «فلقد دخلت بذلك الجنة» قال الهيثمي: وفيه عبيد الله بن فَضالة ولم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح. انتهى.(3/229)
وعند الطبراني في الصغير والكبير عن الحسن بن علي رضي الله عنهما، قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها ابناها، فسألته فأعطاها ثلاث تَمَرات لكل واحد منهم تمرة، فأعطت كل واحد منهم تمرة فأكلها، ثم نظرا إلى أمهما فشقَّت التمرة بنصفين وأعطت كل واحد منهما تمرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قد رحمها الله برحمتها ابنيها» . قال الهيثمي: وفيه خديج بن معاوية الجُعفي وهو ضعيف.
وأخرج البخاري في الأدب (ص56) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى(3/230)
النبي صلى الله عليه وسلم رجل ومعه صبي، فجعل يضمه إليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «أترحمه؟» قال: نعم، قال: «فالله أرحم بك منك به وهو أرحم الراحمين» .
وأخرج البزار عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً كان عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء ابن له فقبله وأجلسه على فخذه، وجاءته بنت له فأجلسها بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا سوّيت بينهم؟» قال الهيثمي: رواه البزّار فقال: حدثنا بعض أصحابنا، ولم يسمِّه وبقية رجاله ثقات.
إكرام الجار
حقوق الجار كما جاء في الحديث الشريف
أخرج الطبراني عن معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله ما حقُّ جاري؟ قال: «إن مرض عدته، وإن مات شيَّعته، وإن استقرضك أقرضته، وإن أعوز سترته، وإن أصابه خير هنأته، وإن أصابته مصيبة عزَّيته، ولا ترفع بناءك فوق بنائه فتسد عليه الريح، ولا تؤذه بريح قدرك إلا أن غرف له منها» .
قال الهيثمي: وفيه أبو بكر الهذلي وهو ضعيف. اهـ. وأخرجه البيهقي في شُعَب الإِيمان عن معاوية رضي الله عنه مثله إلا أن في روايته: «وإن عَرِي سترته» ، كما في الكنز.(3/231)
قصة عبد الله بن سلام مع جاره الذي كان يؤذيه
وأخرج أبو نُعيم في المعرفة عن محمد بن عبد الله بن سلام رضي الله عنه أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: آذاني جاري، فقال: «اصبر» ثم عاد إليه الثانية فقال: آذاني جاري، فقال: «اصبر» ثم عاد الثالثة، فقال: آذاني جاري، فقال: «اعتمد إلى متاعك فاقذفه في السَّكة، فإذا أتى عليك آتٍ فقل: آذاني جاري، فتحقَّق عليه اللعنة. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكوم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو يسكت» . كذا في الكنز.
نهيه عليه السلام في غزوة أن يصحبه من آذى جاره
وأخرج الطبراني في الأوسط عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فقال: «لا يصحبنا اليوم من آذى جاره» فقال رجل من القوم: أنا بُلت في أصل حائط جاري، فقال: «لا تصحبنا اليوم» . قال الهيثيم: وفيه يحيى بن عبد الحميد الحمَّاني وهو ضعيف. اهـ.
شدّة حرمة الزنى بامرأة الجار وسرقته
وأخرج أحمد والطبراني عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «ما تقولون في الزنى؟» قالوا: حرام حرّمه الله(3/232)
ورسوله فهو حرام إلى يوم القيامة. قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «لأن يزني الرجل بعشرة نسوة أيسر عليه نم أن يزني بامرأة جاره» . قال: فقال: «ما تقولون في السرقة؟» قالوا: حرمها الله ورسوله فهي حرام، قال: «لأن يسرق الرجل نم عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره» . قال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط ورجاله ثقات.
حديث أبي ذر: إن الله يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة
وأخرج أحمد والطبراني واللفظ له عن مُطَرِّف بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان يبلغني عن أبي ذر رضي الله عنه حديث، وكنت أشتهي لقاءه، فلقيته فقلت: يا أبا ذر كان يبلغني عنك حديثك وكنت أشتهي لقاءك قال: لله - تبارك وتعالى - أبوك قد لقيتني فهات. قلت حديثاً بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدَّثك، قال: «إن الله عز وجل يحب ثلاثة ويُبغض ثلاثة» قال: فما إخالني أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قلت: فمن هؤلاء الثلاثة الذين يحبهم الله عز وجل؟ قال: «رجل غزا في سبيل الله صابراً محتسباً فقاتل حتى قتل، وأنتم تجدونه عندكم في كتاب الله عز وجل ثم تلا: «إن الله يُحب الذين يُقَاتِلون في سبِيلِه صفَّاً كأنَّهُم بنيَانٌ مَرْصُوصٌ» ، قلت ومَنْ؟ قال: «رجل كان له جار سوء يؤذيه فصبر على أذاه حتى يكفيه الله إياه بحياة أو موت» - فذكر الحديث. قال الهيثمي: إسناد الطبراني وأحد إسنادي أحمد رجاله رجال الصحيح. وقد رواه النسائي وغيره(3/233)
غير ذكر الجار. وأخرج ابن المبارك وأبو عبيد في اغريب والخرائطي وعبد الرزاق عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن أبا بكر مرَّ بعبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما وهو يماظ جاراً له، فقال: لا تماظ جارك، فإن هذا يبقى ويذهب الناس. كذا في الكنز.
إكرام الرفيق الصالح
وصيته عليه السلام لاثنين من الصحابة بإكرام رباح بن الربيع
أخرج الطبراني عن رَبَاح بن الربيع رضي الله عنه قال: غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم ـ وكان قد أعطى كل ثلاثة منا بعيراً يركبه اثنان ويسوقه واحد في الصحارى وننزل في الجبال - فمرّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أمشي فقال لي: «أراك يا رَبَاح ماشياً» فقلت: إنما نزلت الساعة وهذان صاحباي قد ركبا، فمرَّ بصاحبيَّ فأناخا بعيرهما ونزلا عنه، فلما انهتيت قالا: اركب صدر هذا البعير فلا تزال عليه حتى ترجع ونعتقب أنا وصاحبي، قلت: ولم؟ قالا قال ررسول الله صلى الله عليه وسلم «إن لكما رفيقاً صالحاً فأحسنا صحبته» . كذا في الكنز.
إنزال الناس منازلهم
فعل عائشة رضي الله عنها في ذلك
أخرج الخطيب في المتفق عن عمرو بن مخِراق قال: مرّ على عائشة رضي الله عنها رجل ذو هيبة وهي تأكل فدعته فقعد معها، ومر آخر فأعطته(3/234)
كسرة، فقيل لها، فقالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم.h كذا في الكنز. وأخرجه أيضاً أبو داود فيا لسنن وابن خزيمة في صحيحه والبزار وأبو يعلى وأبو نُعيم في المستخرج واليبهقي في الأدب والعسكري في الأمثال من طريق ميمون بن أبي شبيب قال: جاء سائل إلى عائشة فأمرت له بكسرة، وجاء رجل ذو هيئة فأقعدته معها، فقيل لها: لم فعلت ذلك؟ قال: أمرنا - فذكره؛ ولفظ أبي نُعيم في الحلية: أن عائشة كانت في سفر، فأمرت لناس من قريش بغداء، فجاء رجل غني ذو هيئة فقالت: ادعوه فنزل فأكل ومضى، وجاء سائل فأمرت له بكسرة (فقالوا لها: أمرتينا أن ندعو هذا الغني، وأمرت بهذا السائل بكسرة) فقالت: إن هذا الغني لم يجمُل بنا إلا ما صنعناه به، وإن هذا الفقير سأل فأمرت له بما يترضَّاه، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا - فذكره، وقد صحّح هذا الحديث الحاكم في معرفة علوم الحديث وكذا غيره، وتُعقِّب بالانقطاع وبالاختلاف على راويه في رَفْعه، قال السخاوي: وبالجملة فحديث عائشة حسن. كذا في شرح الإِحياء لزبيدي وقد تقدَّم أن علياً رضي الله عنه أعطى رجلاً حلّة ومائة دينار، فقيل له، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أنزلوا الناس منازلهم، وهذه منزلة هذا الرجل عندي» .(3/235)
التسليم على المسلم
قصة أبي بكر رضي الله عنه في هذا الأمر
أخرج الطبراني في الكبير والأوسط - وأحد إسنادي الكبير روايته محتج بهم في الصحيح - عن الأغرّ أغرِّ مزينة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر لي بجريب من تمر عند رجل من الأنصار، فمطلني به، فكلَّمت فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اغدُ يا أبا بكر فخُذْ له تمرة» فوعدني أبو بكر المسجد إذا صلَّينا الصبح فوجدته حيث وعدني، فانطلقنا فكلّما رأى أبا بكر رجل من بعيد سلَّم عليه، فقال أبو بكر: أما ترى ما يصيب القوم عيك من الفضل لا يسبقك إلى السلام أحد. فكنّا إذا طلع الرجل من بعيد بادرنه بالسلام قبل أن يسلِّم علينا. كذا في الترغيب. وأخرجه أيضاً البخاري في الأدب (ص145) وابن جرير وأبو نُعيم والخرائطي، كما في الكنزل.
وعند ابن أبي شيبة عن زُهرة بن خميصة رضي الله عنه قال: رَدَفت أبا بكر رضي الله عنه، فكنَّا نمر بالقوم فنسلِّم عليهم فيردون علينا أكثر مما نسلِّم، فقال أبو بكر: ما زال النسا غالبين لنا منذ اليوم؛ وفي لفظ: فضلنا الناسُ اليوم بخير كثير.
وعند البخاري في الأدب عن عمر رضي الله عنه قال: كنت رديف(3/236)
أبي بكر رضي الله عنه، فيمر على القوم فيقول السلام عليكم، فيقولون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال أبو بكر: فضلَنا الناس اليوم بزيدة كثيرة. كذا في الكنز (552 و53) .
وعظ أبي أمامة في هذا الأمر وكيفية الصحابة فيه
وأخرج ابن عساكر عن أبي أمامة رضي الله عنه أنه وعظ فقال: عليكم بالصبر فيما أحببتم أو كرهتم فنعم الخصلة الصبر، ولقد أعجبتكم الدنيا، وجرَّت لكم أذيالها ولبست ثيابها وزينتها. إنَّ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يجلسون بفناء بيوتهم يقولون: نجلس فنُسلم ويسلَّم علينا. كذا في الكنز.
وأخرج الطبراني بإسناد حسن عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا إذا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتفرِّق بيننا شجرة، فإذا التقينا يسلِّم بعضنا على بعض. كذا في الترغيب. وأخرجه البخاري في الأدب (ص148) بنحوه.
قصة ابن عمر مع الطفيل في هذا الأمر
وأخرج أبو نُعَيم في الحلية عن الطفيل بن أَبيِّ بن كعب أنه كان يأتي عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فيغدو معه إلى السوق؛ قال: فإذا غدونا إلى السوق لم يمرر عبد الله بن عمر على سقَّاط، ولا صاحب بيعة، ولا مسكين ولا أحد إلا وسلَّم عليه، (قال الطفيل: فجئت عبد الله بن عمر يوماً فاستتبعني(3/237)
إلى السوق) ، فقلت: ما تصنع بالسوق وأنت لا تقف على البيع، ولا تسأل عن السلع، ولا تسوم بها، ولا تجلس في مجالس (السوق) - قال: وأقول، اجلس بنا ههنا نتحدّث -، فقال لي عبد الله: يا أبا بطن - وكان الطفيل ذا بطن - إنما نغدو من أجل السلام، فسلِّم على من لقيت. وأخرجه مالك عن الطفيل بن أبي بن كعب بنحوه. وفي رواية: إنما نغدو من أجل السلام، نسلّم على من لقينا، كما في جمع الفوائد. وأخرجه البخاري في الأدب (ص148) عن الطفيل بن أبي بنحوه.
عمل أبي أمامة في ذلك
وأخرج الطبراني عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنه كان يسلِّم على كل من لقيه، قال: فما علمت أحداً سبقه بالسلام إلا يهودياً مرة اختبأ له خلف أسطوانة فخرج فسلَّم عليه، فقال له أبو أمامة: ويحك يا يهودي ما حملك على ما صنعت؟ قال له: رأيتك رجلاً تكثر السلام فعلمت أنه فضل فأردت أن آخذ به، فقال له أبو أمامة: ويحك إن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله جعل السلام تحية لأمتنا وأماناً لأهل ذمتنا» . قال الهيثمي: رواه الطبراني عن شيخه بكر بن سهل الدِّمياطي، ضعَّفه النسائي وقال غيره: مُقارب الحديث. انتهى.
وعند أبي نُعيم في الحلية عن محمد بن زياد قال: كنت آخذ بيد أبي أمامة وهو منصرف إلى بيته، فلا يمر على أحد مسلم ولا نصراني ولا صغير(3/238)
ولا كبير إلا قال: سلام عليك، سلام عليك، فإذا انتهى إلى باب الدار التفت إلينا ثم قال: يا ابن أخي أمرنا نبينا عليه السلام أن نفشي السلام بيننا. وعند البخاري في الأدب (ص145) عن بشير بن يسار قال: ما كان أحد يبدأ - أو: يبدُر - ابن عمر رضي الله عنهما بالسلام.
رد السلام
قصته عليه السلام مع بعض أصحابه
أخرج الطبراني عن سلمان رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله، قال: «وعليك السلام ورحمة الله وبركاته» . ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله، قال: «وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته» فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «وعليك» ، فقال الرجل: يا رسول الله أتاك فلان وفلان فحييتهما بأفضل مما حييتني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنك لن - أو: لم - تدع شيئاً» . قال الله عز وجل: {وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ} (سورة النساء، الآية: 86) فرددت عليك التحية. قال الهيثمي: فيه هشام ابن لاحِق قوَّاه النِّسائي وترك أحمد حديثه، وبقية رجاله رجال الصحيح. انتهى.
قصة عائشة مع النبي وجبريل عليهما السلام
وأخرج الطبراني في الأوسط عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: «يا عائشة هذا جبريل يقرأ عليك الالسلام» ، فقلت: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، وذهبت تزيد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «إلى هذا انتهى السلام» ،(3/239)
فقال: رحمة الله وبركاته عليكم أهل ابيت. قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح، وهو في الصحيح باختصار. انتهى.
قصته عليه السلام مع سعد بن عبادة
وأخرج أمد عن ثابت البُناني عن أنس رضي الله عنه أو غيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استأذن على سعد بن عبادة رضي الله عنه فقال: «السلام عليكم ورحمة الله» فقال سعد: وعليك السلام ورحمة الله، ولم يُسمع النبي صلى الله عليه وسلم ـ حتى سلم ثلاثاً - ورد عليه سعد ثلاثاً ولم يُسمعه، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم فاتَّبعه سعد، فقال: يا رسول الله - بأبي أنت وأمي - ما سلمتَ تسليمة إلاَّ وهي بأذني، ولقد رددت عليك ولم أسمعك، أحببت أن أستثكر من سلامك ومن البركة، ثم أدخله البيت فقرَّب إليه زيتاً فأكل النبي صلى الله عليه وسلم فلما فرغ قال: «أكل طعامكم الأبرار، وصلَّت عليكم الملائكة، وأفطر عندكم الصائمون» . وروى أبو داود بعضه.
ورواه البزّار عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزور الأنصار، فإذا جاء إلى دور الأنصار حوله فيدعو لهم ويمسح رؤوسهم ويسلم عليهم، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم باب سعد فسلَّم عليه فقال: «السلام عليكم ورحمة الله» ، فرد سعد رضي الله عنه فلم يُسمع النبي صلى الله عليه وسلم حتى سلَّم ثلاث مرات، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يزيد على ثلاث تسليمات، فإن أذن له وإلا انصرف، فرجع - فذكر نحوه. ورجالهما رجال الصحيح كما قال الهيثمي.(3/240)
قصة عمر مع عثمان رضي الله عنهما
وأخرج أبو يعلى عن محمد بن جُبير أن عمر رضي الله عنه مرَّ على عثمان رضي الله عنه فسلَّم عليه ولم يردَّ عليه، فدخل على أبي بكر رضي الله عنه فاشتكى ذلك إليه، فقال أبو بكر: ما منعك أن ترد على أخيك؟ قال: والله ما سمعت وأنا أحدِّث نفسي، قال أبو بكر: فبماذا تحدِّث نفسك؟ قال: خلاف الشيطان، فجعل يُلْقي في نفسي أشياء ما أحب أنِّي تكلمت بها وإن لي ما على الأرض، قلت في نفسي حين ألقى الشيطان ذلك في نفسي: يا ليتين سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ينجينا من هذا الحديث الذي يُلقي الشيطان في أنفسنا، فقال أبو بكر رضي الله عنه: والله لقد اشتكيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألته: ما الذي ينجينا من هذا الحديث الذي يُلقي الشيطان في أنفسنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ينجيكم من ذلك أن تقولوا مثل الذي أمرت به عمي عند الموت فلم يفعل» . كذا في الكنز وقال: قال البوصيري في زوائد العشرة: سنده حسن.
وأخرجه ابن سعد عن عثمان رضي الله عنه أطول منه وفي حديثه: فانطلق عمر رضي الله عنه حتى دخل على أبي بكر رضي الله عنه، فقال: يا خليفة رسول الله ألا أعجِّبك مررت على عثمان فسلَّمت عليه فلم يرد عليَّ السلام؟ فقام أبو بكر فأخذ بيد عمر فأقبلا جميعاً حتى أتياني. فقال لي أبو بكر: يا عثمان جاءني أخوك فزعم أنه مرَّ بك فسلَّم عليك فلم تردّ عليه، فما الذي حملك على ذلك؟ فقلت: يا خليفة رسول الله ما فعلت، فقال عمر: بلى - والله - ولكنها عُبِّيَّتكم يا بني أمية؟ فقلت: والله ما شعرت أنك مررت بي ولا(3/241)
سلمت عليَّ فقال أبو بكر: صدقتَ، أراك والله شُغلت عن ذلك بأمر حدَّثت به نفسك، قال فقلت: أجل، قال: فما هو؟ فقلت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أسأله عن نجاة هذه الأمة ما هو، وكنت أحدِّث بذلك نفسي وأعجب من تفريطي في ذلك، فقال أبو بكر: قد سألته عن ذلك فأخبرني به، فقال عثمان: ما هو؟ قال أبو بكر: سألته فقلت: يا رسول الله ما نجاة هذه الأمة؟ فقال: «ممن قَبِل مني الكلمة التي عرضتها على عمي فردَّها عليَّ فهي له نجاة» ؛ والكلمة التي عرضها على عمه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً أرسله الله.
قصة سعد بنأبي وقاص مع عثمان رضي الله عنهما
وأخرج أحمد عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: مررت بعثمان بن عفان رضي الله عنه في المسجد فسلَّمت عليه، فملأ عينيه مني ثم لم يردّ عليَّ السلام، فأتيت أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقلت: يا أمير المؤمنين هل حدَث في الإِسلام شيء؟ - مرتين - قال: وما ذاك؟ قلت: لا، إلاَّ أني مررت بعثمان آنفاً في المسجد فسلَّمت عليه فملأ عينيه مني ثم لم يردّ عليَّ السلام، قال: فأرسل عمر إلى عثمان فدعاه فقال: ما منعك أن لا تكون رددت على أخيك السلام؟ قال عثمان: ما فعلت، قلت: بلى، قال: حتى حلف وحلفتُ، قال: ثم إن عثمان ذكر فقال: بلى، وأستغفر الله وأتوب إليه، إنك مررت بي آنفاً وأنا أحدِّث نفسي بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما ذكرتها قطُّ إلاَّ يغشَى بصري وقلبي غشاوة، قال سعد: فأنا أنبئك بها: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لنا أولَ دعوة ثم جاءه أعرابي فشغله حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبعته حتى أشفقت أن يسبقني إلى منزله ضربتُ بقدميَّ الأرض، فالتفت إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «من هذا أبو إسحاق؟» قلت: نعم يا رسول الله قال: «فَمَهْ؟» قلت: لا والله إلاَّ أنك ذكرتَ لنا أول دعوة ثم جاءك(3/242)
هذا الأعرابي فشغلك، قال: «نعم، دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. فإنه لن يدعو بها مسلم ربَّه في شيء قط إلا استجاب له» . قال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله رجال غير إبراهيم بن محمد بن سعد بن أبي وقاص وهو ثقة؛ وروى الترمذي طرفاً من آخره. انتهى. وأخرجه أيضاً أبو يَعْلى والطبراني في الدعاء وصحَّ عن سعد بن أبي وقاص نحوه، كما في الكنز.
إرسال السلام
(قصة سلمان مع الأشعث بن قيس وجرير بن عبد الله)
أخرج الطبراني عن أبي البختري قال: جاء الأشعث بن قيس وجرير بن عبد الله البجلي إلى سلمان الفارسي رضي الله عنه فدخلا عليه في حصن في ناحية المدائن، فأتياه فسلَّما عليه وحيَّياه، ثم قالا: أنت سلمان الفارسي؟ قال: نعم، قالا: أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا أدري، فارتابا وقالا: لعله ليس الذي نريد، قال لهما: أنا صاحبكُما الذي تريدان، إني قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجالسته، فإنما صاحبه من دخل معه الجنة فما حاجتكما؟ قالا: جئناك من عند إخٍ لك بالشام، فقال: من هو؟ قالا: أبو الدرداء قال: فأين هديته التي أرسل بها معكما؟ قالا: ما أرسل معنا هدية، قال: اتصقيا الله وأدِّيا الأمانة، ما جاءني أحد من عنده إلا جاء معه بهدية، قالا: لا يُرع علينا هذا، إنَّ لنا أموالاً فاحتكم فيها. قال: ما أريد أموالكما ولكني أريد الهدية التي(3/243)
بعث بها معكما، قالا: والله ما بعث معنا بشيء إلا أنه قال لنا: إنَّ فيكم رجلاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خلا به لم يبغِ أحداً غيره، فإذا أتيتماه فاقرِئاه مني السلام. قال: فأيُّ هدية كنت أريد منكما غير هذه، وأيُّ هدية أفضل من السلام تحية من عند الله مباركة طيبة قال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير يحيى بن إبراهيم المسعودي وهو ثقة. انتهى. وأخره أبو نُعيم في الحلية عن أبي البختري مثله.
المصافحة والمعانقة
(حديث جندب وأبي ذر وأبي هيرة في هديه عليه السلام في المصافحة)
أخرج الطبراني عن جندب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقي أصحابه لم يصافحهم حتى يسلِّم عليهم. قال الهيثمي: رواه الطبراني وفيه من لم أعرفهم. انتهى.
وأخرج أحمد والرُوياني عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قيل له: أريد أن أسألك عن حديث من حديث النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذاً أحدِّثك به إلا أن يكون سرّاً، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصافحكم إذا لقيتموه؟ قال: ما لقيته قط إلا صافحني كذا في الكنز.
وأخرج البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي حذيفة رضي الله عنه فأراد أن يصافحه، فتنحَّى حذيفة فقال: إني كنت جُنُباً، فقال:(3/244)
«إن المسلم إذا صافح أخاه تحاتت خطاياهما كما يتحات ورق الشجرة» . قال الهيثمي: وفيه مصعب بن ثابت وثَّقه ابن حبان وضعَّفه الجمهور.
حديث أنس وعائشة في هديه عليه السلام في المعانقة ونهيه عن الانحناء
وأخرج الدارقطني وابن أبي شيبة عن أنس رضي الله عنه قال قلنا: يا رسول الله، أينحني بعضنا لبعض؟ قال: «لا» ، قلنا: فيعانق بعضنا بعضاً؟ قال: «لا» ، قلنا: فيصافح بعضنا بعضاً؟ قال: «نعم» . كذا في الكنز.
وعند الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال قال رجل: يا رسول الله، الرجل منا يلقَى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: «لا» ، قال: أفليتزمه ويقبِّله؟ قال: «لا» ، قال: فيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: «نعم» . قال الترمذي: هذا حديث حسن، وزاد رزين بعد قوله: ويقبله. قال: «لا، إلا أن يأتي من سفر» ، كما في جمع الفوائد.
وأخرج الترمذي عن عاشئة رضي الله عنها قالت: قدم زيد بن حارثة رضي الله عنه المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، فأتاه فقرع الباب، فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عُرياناً يجر ثوبه - والله ما رأيته عرياناً قبله ولا بعده - فاعتنقه(3/245)
وقبَّله. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
(هدي الصحابة رضي الله عنهم في المصافحة والمعانقة)
وأخرج الطبراني عن أنس رضي الله عنه قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا تلاقوا تصافحوا، وإذا قدموا من سفر تعانقوا. قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح. انتهى.
وأخرج المحاملي عن الحسن رضي الله عنه قال: كان عمر رضي الله عنه يذكر الرجل من إخوانه في الليل فيقول: يا طولها فإذا صلَّى المكتوبة شدَّ فإذا لقيه اعتنقه أو التزمه. كذا في الكنز. وأخرج أبو نعيم في الحلية عن عروة رضي الله عنه قال: لما قدم عمر رضي الله عنه الشام تلقّاه الناس وعظماء أهل الأرض، فقال عمر: أين أخي؟ قالوا: مَنْ؟ قال: أبو عبيدة، قالوا: الآن يأتيك، فلما أتاه نزل فاعتنقه - فذكر الحديث كما سيأتي.
تقبيل يد المسلم ورجله ورأسه
(تقبيله عليه السلام جعفر بن أبي طالب)
أخرج ابن سعد عن الشَّعبي قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر تلقّاه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فالتزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبَّل ما بين عينيه وقال: «ما أدري بأيهما أنا أفرح، بقدوم جعفر أو بفتح خيبر» وزاد في رواية أخرى عنه: وضمّه إليه واعتنقه.(3/246)
تقبيل الصحابة يديه عليه السلام ورجليه
وأخرج الطبراني في الأوسط عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم بيدي هذه، فقبلناها فلم ينكر ذلك. قال الهيثمي: رجاله ثقات، وفي الصحيح منه البيعة - اهـ. وأخرج أبو يلعى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قبل يد النبي صلى الله عليه وسلم قال الهيثمي: وفيه يزيد بن أبي زياد وهو ليِّن الحديث وبقية رجاله رجال الصحيح - انتهى. وذكر في جمع الفوائد عن عمر رضي الله عنه أنه قبَّل النبي صلى الله عليه وسلم وقال: للمَوْصلي بلين - اهـ. وأخرجه أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما بسند حين، كما قال العراقي. أخرج الطبراني عن كعب بن مالك رضي الله عنه أنه لما نزل عُذْره أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخذه بيده فقبلها. قال الهيثمي: وفيه يحيى بن عبد الحميد الحِمَّاني وهو ضعيف - اهـ. وأخرجه أبو بكر بن المقرَّي في كتاب الرخصة في تقبيل اليد بسند ضعيف - قاله العراقي.
وأخرج البخاري في الأدب (ص144) عن أم أبان ابنة الوازع عن جدها أن جدها(3/247)
الوازع بن عامر رضي الله عنه قال: قدمنا، فقيل: ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذنا بيديه ورجليه نقبلها. وعنده أيضاً في الأدب (ص86) عن مَزِيدَة العبدي رضي الله عنه قال: جاء الأشجُّ رضي الله عنه يمشي حتى أخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فقبَّلها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «أمَا إنَّ فيك لخُلقين يحبهما الله ورسوله» ، قال جَبَّلاً جُبِلتُ عليه أو خُلِقاً معي؟ قال: «لا» ، بل جَبْلاً جبلتَ عيه» ، قال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحب الله ورسوله.
(تقبيل عمر رأس أبي بكر وتقبيل أبي عبيدة يد عمر)
وأخرج ابن عساكر عن أبي رجاء العُطاردي قال: أتيت المدينة فإذا الناس مجتمعون، وإذا في وسطهم رجل يقبل رأس رجل ويقول: أنا فداك لولا أنت هلكنا، فقلت: من المقبِّل؟ قال: ذاك عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقبِّل رأس أبي بكر رضي الله عنه في قتال أهل الردَّة الذين منعوا الزكاة. كذا في المنتخب.
وأخرج عبد الرزاق والخرائطي في مكارم الأخلاق والبيهقي وابن عساكر عن تميم بن سلمة قال: لما قدم عمر رضي الله عنه الاشم استقبله أبو عبدة بن الجراح رضي الله عنه فصافحه وقبّل يده، ثم خَلَوا يبكيان، فكان تميم يقول: اليد سنة. كذا في الكنز.
(تقبيل يد واثلة بن الأسقع والتبرك بها لمبايعته النبي عليه السلام بها)(3/248)
وأخرج الطبراني عن يحيى بن الحارث الذِماري قال: لقيت واثلة بن الأسقع رضي الله عنه فقلت: بايعت بيدك هذه رسول الله؟ فقال: نعم، قلت: أعطني يدك أقبلها، فأعطانيها فقبلتها. قال الهيثمي: وفيه عبد الملك القارّي ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات. انتهى. وعند أبي يزيد بن الأسود عائدين، فدخل عليه واثِلة بن الأسقع رضي الله عنه، فلما نظر إليه مدَّ يده، فأخذ يده فمسح بها وجهه وصدره لأنه بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا يزيد كيف ظنك بربك؟ فقال: حسن، فقال: فأبشر، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله تعالى يقول: أنا عند ظن عبدي بي، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر» .
(تقبيل يد سلمة بن الأكوع وأنس والعباس)
وأخرج البخاري في الأدب المفرد (ص144) عن عبد الرحمن بن رَزِين قال: مررنا بالرَّبذَة فقيل لنا: ههنا سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، فأتيته فسلمنا عليه وأخرج يده فقال: بايعتُ بهاتين نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخرج كفاً له ضخمة كأنها كف بعير، فقمنا إليها فقبلناها. وأخرجه ابن عسد عن عبد الرحمن بن زيد العراقي نحوه. وأخرج البخاري أيضاً في الأدب (ص144) عن ابن جدعان قال ثابت لأنس رضي الله عنه: أمَسِسْت النبي صلى الله عليه وسلم بيدك؟ قال: نعم، فقبلها،(3/249)
وأخرج البخاري أيضاً في الأدب (ص144) عن صهيب قال: رأيت علياً رضي الله عنه يقبل يد العباس رضي الله عنه ورجليه.d
القيام للمسلم
(استقباله عليه السلام لابنته فاطمة واستقبالها له)
أخرج البخاري في الأدب (ص138) عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت أحداً من الناس كان أشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم كلاماً ولا حديثاً ولا جِلسة من فاطمة رضي الله عنها، قالت: وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآها قد أقبلت رحَّب بها ثم قام إليها فقبَّلها، ثم أخذ بيدها فجاء بها حتى يجلسها في مكانه، وكانت إذا أتاها النبي صلى الله عليه وسلم رحبت به ثم قامت إليه فقبلته، وإنها دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي قُبض فيه فرحب وقبلها وأسرَّ إليها فبكت، ثم أسرَّ إليها فضحكت، فقلت للنساء: إن كنت لأرى أن لهذه المرأة فضلاً على النساء فإذا هي من النساء؛ بينما هي تبكي إذا هي تضحك فسألتها: ما قال لك؟ قالت: إني إذاً لبَذِرة فلما قُبض النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: أسرَّ إليَّ، فقال: «إني ميِّت» ، فبكيت، ثم أسر إليَّ فقال: «إنك أول أهلي بي لحوقاً» ، فسررت بذلك وأعجبني.
(قيام الصحابة للنبي عليه السلام)
وأخرج البزّار عن محمد بن هلال عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج قمنا له حتى يدخل بيته. قال الهيثمي: هكذا وجدته فيما جمعته، ولعله(3/250)
عن محمد بن هلال عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو الظاهر فإن هلالاً تابعي ثقة، أو عن محمد بن هلال عن أبيه عن جده، وهو بعيد، ورجال البزار ثقات. انتهى.
(نهيه عليه السلام أصحابه عن القيام له)
وأخرج ابن جرير عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئاً على عصاه فقمنا له، فقال: «لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظِّم بعضها بعضاً» . كذا في الكنز. وأخرجه أبو داود مثله، كما في جمع الفوائد.
وأخرج أحمد عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر رحمه الله: قوموا نستغيث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يقام، إنما يقام لله تبارك وتعالى» . قال الهيثمي: وفيه راوٍ يُسمَّ وابن لَهيعة. اهـ.
(حال الصحابة رضي الله عنهم في هذا الأمر)
وأخرج البخاري في الأدب (ص138) عن أنس رضي الله عنه قال: ما كان شخص أحبَّ إليهم رؤية من النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا إليه لما يعلمون من كراهيته لذلك. وأخرجه الترمذي وصحَّحه، كما قال العراقي في تخريج الإحياء، والإمام أحمد وأبو داود، كما في البداية.(3/251)
وأخرج البخاري في الأدب (ص169) عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيم (الرجلُ) الرجلَ من المجلس ثم يجلس فيه، وكان ابن عمر إذا قام له رجل من مجلسه لم يجلس فيه. وأخرج ابن سعد عن نافع عن ابن عمر مقتصراً على فعله.
وأخرج انب سعد عن أبي خالد الوالبي قال: ما لي أراكم سامدين؟ وأخرج البخاري في الأدب (ص144) عن أبي مِجْلَز قال: إن معاوية رضي الله عنه خرج وعبد الله بن عامر وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم قعود، فقام ابن عامر وقعد ابن الزبير وكان أوزَنهما، قال معاوية: قال النبي صلى الله عليه وسلم «من سره أن يمثُلَ له عباد الله قياماً فليتبوأ بيتاً من النار» .
التزحزح للمسلم
(تزحزحه عليه السلام لرجل مسلم دخل المسجد)
أخرج البيهقي وابن عساكر عن واثِلة بن الخطاب القرشي رضي الله عنه قال: دخل رجل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم وحده فتحرك له النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له: يا رسول الله المكان واسع، فقال له: «إنَّ للمؤمن حقاً إذا رآه أخوه أن يتزحزح له» . كذا في الكنز.(3/252)
وعند الطبراني عن واثلة - يعني ابن الأسقع - قال: دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم فيه وحده فتزحزح له، فقال الرجل: يا رسول الله إن المكان واسع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «إنَّ للمسلم حقاً» . قال الهيثمي: رجاله ثقات إلا أن أبا عُمير عيسى بن محمد بن النحاس لم أجد له سماعاً من أبي الأسود، والله أعلم. انتهى. وقد تقدَّم في إكرام أهل البيت أن أبا بكر رضي الله عنه تزحزح لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال: ههنا يا أبا الحسن، فجلس بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر. الحديث.
إكرام الجليس
(أقوال الصحابة رضي الله عنهم في هذا الأمر)
أخرج البخاري في الأدب (ص167) عن كثير بن مرة قال: دخلت المسجد يوم الجمعة فودت عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه جالساً في حلقة مدَّ رجليه بين يديه، فلما رآني قبض رجليه ثم قال لي: تدري لأي شيء مددت رجلي؟ ليجيء رجل صالح فيجلس. وعن محمد بن عبَّاد ابن جعفر قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: أكرمالناس عليَّ جليسي. وعن ابن أبي مُلَيكة عن ابن عباس قال: أكرم الناس عليَّ جليسي، أن يتخطَّا رقاب الناس حتى يجلس إليَّ.(3/253)
قبول كرامة المسلم
(قصة علي رضي الله عنه مع رجلين
أخرج ابن أبي شيبة وعبد الرزاق عن أبي جعفر قال: دخل على عليَ رجلان، فطرح لهما وسادة، فجلس أحدهما على الوسادة وجلس الآخر على الأرض، فقال للذي جلس على الأرض: قم فاجلس على الوسادة، فإنه لا يأبى الكرامة إلاَّ حمار. قال عبد الرزاق: هذا منقط. كذا في الكنز.
حفظ سر المسلم
(حفظ الصدِّيق سر النبي عليه السلام في مسألة الزواج بحفصة)
أخرج أبو نُعيم في الحلية عن عمر رضي الله عنه قال: تأيمت حَفْصة بنت عمر - ري الله عنهما - من خُنَيس بن حُذافة السَّهْمي رضي الله عنه - وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن شهد بدراً فتوفي بالمدينة - فلقيت أبا بكر رضي الله عنه فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، فلم يَرجع إليَّ شيئاً، فلبثت ليالي فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وَجَدْت حين عرضت عليَّ حفصة فلم أرجع إليك شيئاً؟ قال قلت: نعم، قال: فإنّه لم يمنعني أن أرجع إليك شيئاً حين عرضتها عليَّ إلا(3/254)
أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرها، ولم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو تركها نكحتها. وأخرجه أيضاً أحمد وابن سعد والبخاري والنسائي والبيهقي وأبو يعلى وابن حبَّان مع زيادة، كما في المنتخب.
(حفظ أنس سر النبي عليه السلام)
وأخرج البخاري في الأدب (ص169) عن أنس رضي الله عنه قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، حتى إذا رأيت أني قد فرغت من خدمته قلت: يقيل النبي صلى الله عليه وسلم فخرج من عنده فإذا غِلْمة يلعبون، فقمت أنظر إلى لعبهم، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فانتهى إليهم فسلَّم عليهم ثم دعاني فبعثني إلى حاجة، فكأنه في فيَّ حتى أتيته وأبطأت على أمي، فقالت: ما حبسك؟ قلت: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى حاجة، قالت: ما هي؟ قلت: إنه سر للنبي صلى الله عليه وسلم فقالت: احفظ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: احفظ على رسول الله صلى الله عليه وسلم سره، فما حدثت بتلك الحاجة أحداً من الخلق، فلو كنتُ محدِّثاً حدثتك بها. وأخرجه البخاري أيضاً في صحيحه ومسلم عن أنس رضي الله عنه بنحوه مختصراً، كما في جمع الفوائد.(3/255)
إكرام اليتيم
(ما أشار به عليه السلام على بعض أصحابه لإزالة قسوة قلوبهم)
أخرج أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رجلاً شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه فقال: «امسح رأس اليتيم، وأطعم المسكين» . قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح - اهـ. وعند الطبراني عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل يشكو قسوة قلبه، قال: «أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟» أرحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك، يلن قلبك، وتدرك حاجتك» . وفي إسناده من لم يُسمَّ، وبَقِيَّة مدلِّس، كما قال الهيثمي.
(قصة بشير بن عقربة مع النبي عليه السلام)
وأخرج البزّار بن عقربة الجهني رضي الله عنه قال: لقيت رضي الله عنه يوم أحد، فقلت: ما فعل أبي؟ قال: «استُشهد رحمة الله عليه» فبكيت، فأخذني فمسح رأسي وحملني معه وقال: «أما ترضى أن أكون أباك وتكون عائشة أمك؟» قال الهيثمي: وفيه من لا يُعرف - اهـ، وأخرجه البخاري في تاريخه عن بشير ابن عقربة نحوه، كما في الإصابة وابن مَنْدَة وابن(3/256)
عساكر أطول منه، كما في المنتخب.
إكرام صديق الأب
(إكرام عبد الله بن عمر أعرابياً كان أبوه صديقاً لعمر)
أخرج أبو داود والترمذي ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا خرج إلى مكة كان له حمار يتورَّح عليه إذا ملّ ركوب الراحلة وعمامة يشدُّ بها رأسه، فبينما هو يوماً على ذلك الحمار إذ مرَّ به أعرابي فقال: ألست فلان بن فلان؟ قال: بلى، فأعطاه الحمارَ فقال: اركب هذا، والعمامةَ وقال: اشدُدْ بها رأسك، فقال له بعض أصحابه: غفر الله لك أعطيت هذا الأعرابي حماراً كنت تَرَوَّح عليه وعمامة كنت تشدُّ بها رأسك؟ فقال: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ من أبرِّ البر صلة الرجل أهل وُدِّ أبيه بعد أن تَوَلَّى، وإن أباه كان وُدّاً لعمر رضي الله عنه» . كذا في جمع الفوائد، وأخرجه البخاري في الأدب (ص9) بنحوه مختصراً، وفي حديثه: فقال بعض من معه: أما يكفيه درهمان؟ فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم «احفظ وُدَّ أبيك لا تقطعه، فيطفىءَ الله نورك» .
(بر الوالدين بعد موتهما)
وعند أبي داود عن أبي أُسَيد الساعدي رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله هل بقي نم برِّ أبويَّ شيى أبَرُّهما به بعد موتهما؟ قال: «نعم،(3/257)
الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وصلة الرحم التي لا تُوصل إلا بهما، وإكرام صديقهما» .
إجابة دعوة المسلم
(قصة أبي أيوب مع الغزاة في البحر)
أخرج البخاري في الأدب (ص134) عن زياد بن أَنعَم الإفريقي أنهم كانوا غُزاة في البحر زمن معاوية رضي الله عنه، فانضم مركبنا إلى مركب أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، فلما حضر غداؤنا أرسلنا إليه فأتانا فقال: دعوتموني وأنا صائم، فلميكن لي بدٌّ من أن أجيبكم لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ للمسلم على أخيه ستَّ خصال واجبةً؛ إن ترك منها شيئاً فقد ترك حقاً واجباً لأخيه عليه: يسلِّم عليه إذا لقيه، ويجيبه إذا دعاه، ويشمِّته إذا عطَس، ويعوده إذا مرض، ويحضره إذا مات، وينصحه إذا استنصحه» - فذكر الحديث.
(أقوال الصحابة رضي الله عنهم في هذا الأمر)
وأخرج ابن المبارك وأحمد في الزهد عن حُميد بن نُعيم أن عمر ابن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما دُعيا إلى طعام فأجابا، فلما خرجا قال عمر لعثمان: لقد شهدت طعاماً لوددت أني لم أشهده، قال: وما ذاك؟ قال: خشيت أن يكون مباهاة كذا في الكنز وأخرج أحمد في الزهد عن عثمان رضي الله عنه أن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه تزوّج فدعاه - وهو أمير المؤمنين -، فلما جاء قال: إما إنِّي صائم غيرأني أحببت أن أجيب الدعوة وأدعو بالبركة. كذا في الكنز. وأخرج(3/258)
عبد الرزاق عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: إذا كان لك صديق أو جار عامل أو ذو قرابة عامل فأهدَى لك هدية أو دعاك إلى طعام فأقبله، فإنّ مهنأه لك وإثمه عليه. كذا في الكنز.
إماطة الأذى عن طريق المسلم
(قصة معقل المزني مع معاوية بن قرّة)
أخرج البخاري في الأدب (ص87) عن معاوية بن قُرّة قال: كنت مع مَعْقِل المزني رضي الله عنه فأماط أذىً عن الطريق، فرأيت شيئاً فبادرته، فقال: ما حملك على ما صنعت يا ابن أخي؟ قال: رأيتك تصنع شيئاً فصنعته، قال: أحسنت يا ابن أخي، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من أماط أذىً عن طريق المسلمين كتب له حسنة، ومن تُقبِّلت له حسنة دخل الجنة» .
تشميت العاطس
(هدية عليه السلام في هذا الأمر)
أخرج الطبراني عن ابن عرم رضي الله عنهما قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فعطس، فقالوا: يرحمك الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يهديكم الله ويلصح بالكم» قال الهيثمي: وفيه أسْباط بن عزرة ولم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح. اهـ.(3/259)
وأخرج أحمد وأبو يَعْلى عن عائشة رضي الله عنها قالت: عطس رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قولوا: يرحمك الله» قال: ما أقول لهم يا رسول الله؟ قال: «قل لهم: يهديكم الله ويصلح بالكم» قال الهيثمي: وفيه أبو مَعْشر نَجِيح وهو ليِّن الحديث، وبقية رجاله ثقات. وأخرجه ابن جرير والبيهي عن عائشة رضي الله عنها نحوه، كما في الكنز العمال.
وأخرج الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلِّمنا إذا عطس أحدنا أن نشمِّته، وإسناده جيد كما قال الهيثمي. وعنده أيضاً عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا: «إذا عطس أحدكم فلقيل: الحمد لله رب العالمين، فإذا قال ذلك فلقيل مَنْ عنده: يرحمك الله، فإذا قال ذلك فليقل: يغفر الله لي ولكم» قال الهيثمي: وفيه عطاء بن السائب وقد اخلتط. وأخرج ابن جرير عن أم سَلَمة رضي الله عنها قالت: عطس رجل في جانب بيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الحمد الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «يرحمك الله» ، ثم عطس آخر في جانب البيت فقال: الحمد الله، كثيراً طيباً مباركاً فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ارتفع هذا على هذا تسع عشرة درجة» . كذا في الكنز وقال: لا بأس بسنده.(3/260)
(امتناعه عليه السلام عن تشميت من لم يحمد الله)
وأخرج الشيخان وأبو داود والترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: عطس رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فشمَّت أحدهما ولم يشمِّت الآخر، فقيل له فقال: «هذا حمد الله وهذا لم يحمد الله» . كذا في جمع الفوائد. وعند أحمد والطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: عطس رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم أحدهما أشرف من الآخر، فعطس الشريف فلم يحمد الله فلم يشمِّته النبي صلى الله عليه وسلم وعطس الآخر فحمد الله فشمَّته النبي صلى الله عليه وسلم قال فقال: الشريف: عطستُ عندك فلم تشمِّتني وعطس هذا عندك فشمَّته؟ قال فقال: «إنَّ هذا ذكر الله فذكرتهُ وأنت نسيت الله فنسيتك» قال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح غير رِبعي بن إبراهيم وهو ثقة مأمون - اهـ. وأخرجه البخاري في الأدب (ص136) والبيهقي وابن النجار وابن شاهين، كما في الكنزل.(3/261)
(قصة أبي موسى مع انبه وزوجته)
وأخرج البخاري في الأدب (ص137) عن أبي بُرْدة قال: دخلت على أبي موسى رضي الله عنه وهو في بيت أم الفضل بن العباس رضي الله عنهم، فعطستُ فلم يشمِّتني وعطستْ فشمَّتها فأخبرتُ أمي، فلما أن أتاها وقعت به وقالت: عطس ابني فلم تشتمته وعطستْ فشمَّتها؟ فقال لها: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا عطس أحدكم فحمد الله فشتموه، وإن لم يحمد الله فلا تشمِّتوه» وإن ابن عطس فلم يحمد الله فلم أشمته، وعطست فحمدت الله فشمتها، فقالت: أحسنت.
(عمل ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم في هذا الأمر)
وأخرج البخاري في الأب (ص136) عن مكحول الأزدي قال: كنت إلى جنب ابن عمر رضي الله عنهما، فعطس رجل من ناحية المسجد، فقال ابن عمر: يرحمك الله إن نكت حمدت الله. وأخرج البيهقي عن نافع رضي الله عنه أن ابن عمر رضي الله عنها كان إذا عطس فقيل له: يرحمك الله، قال: يرحمنا الله وإياكم وغفر لنا ولكم. كذا في الكنز. وأخرجه البخاري في الأدب (ص136) نحوه. وأخرج البيهقي عن نافع رضي الله عنه قال: عطس رجل عند ابن عمر رضي الله عنهما فحمد الله، فقال له انبع مر: قد بخلت، فهلاَّ حيث حمدت الله صلَّيت على النبي صلى الله عليه وسلم(3/262)
وعن الضحاك بن قيس اليَشْكُري قال: عطس رجل عند ابن عمر فقال: الحمد الله رب العالمين، فقال عبد الله: لو تممتها والسلام على رسول الله. كذا في الكنز. وأخرج البخاري في الأدب (ص135) عن أبي جَمْرة قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول إذا شُمِّت: «عافانا الله وإياك من النار، يرحمكم الله» .
عيادة المريض وما يقال له
عيادته عليه السلام لزيد بن أرقم وسعد بن أبي وقاص)
أخرج أبو داود عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجع كان بعيني، كذا في جمع الفوائد - واللفظ له - ومسلم والأربعة عن عامر بن سعد بن أبي وقاس عن أبيه رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي، فقلت: إني قد بلغ بي من الوجع وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: «لا» ، فقلت: فالشطر؟ فقال: «لا» ، ثم قال: «الثلث والثلث كبير - أو: كثير - إنك إن تَذَر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكفَّفون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجرتَ بها حتى ما تجعل في في امرأتك» ، قلت: يا رسول الله أُخَلَّف بعد أصحابي؟ قال:(3/263)
«إنك لن تُخلَّف فتعمل عملاً صالحاً إلا ازددتَ به درجة ورفعة، ثم لعلَّك أن تُخلَّف حتى ينتفع بك أقوام ويُضر بك آخرون. اللهمَّ أمضِ لأصحابي هجرتهم ولا تردّهم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن خَوْلة» يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة.
(عيادته عليه السلام لجابر)
وأخرج البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: مرضت مرضاً فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني وأبو بكر رضي الله عنه وهما ماشيان، فوجداني أُغمي عليَّ، فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم ثم صبص وضوءه عليَّ، فؤفقت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله كيف أصنع في مالي، كيف أقضي في مالي، فلم يجبني بشيء حتى نزلت آية الميراث. وأخرجه في الأدب (ص75) مثله.
لغاية ص 201
تابع
(عيادته عليه السلام لسعد بن عبادة)
وأخرج البخاري في صحيحه عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب على حمار على إكاف على قطيفة فَدَكِيَّة وأردف أسامة وراءه يعود سعد بن عبادة رضي الله عنه وقعة بدر، فسار حتى مرَّ بمجلس فيه عبد الله بن أبي بن سلول - وذلك قبل أن يسلم عبد الله - وفي المجلس أخلاطٌ من المسلمين(3/264)
والمشركين عبدةِ الأوثان واليهود، وفي المجلس عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، فلما غشيت المجلسَ عجاجةُ الدابة خَمَّر عبد الله بن أبي أنفه بردائه، قال: لا تغبِّروا علينا. فسلَّم النبي صلى الله عليه وسلم ووقف ونزل، فدعاهم إلى الله فقرأ عليهم القرآن، فقال له عبد الله بن أبيّ: يا أيها المرء إنَّه لا أحسنَ مما تقول، إن كان حقاً فلا تؤذِنا به في مجالسنا، وارجع إلى رَحْلك فمن جاءك فاقصُص عليه. قال ابن رواحة: بلى - يا رسول الله - فاغشَنا به في مجالسنا، فإنا نحب ذلك. فاستبَّ المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفَّضهم حتى سكتوا، فركب النبي صلى الله عليه وسلم دابته حتى دخل على سعد بن عبادة فقال له: «أيْ سعد، ألم تسمع ما قال أبو حُبَاب؟» - يريد عبد الله بن أبي، قال سعد: يا رسول الله اعفُ عنه واصفح، فلقد أعطاك الله ما أعطاك، ولقد اجتمع أهل هذه البُحَيرة على أن يتوِّجوه فيعصِّبوه، فلما رُدَّ ذلك بالحق الذي أعطاك الله شَرِقَ بذلك، فذلك الذي فعل به ما رأيت.
(عيادته عليه السلام لأعرابي)
وأخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أعرابي يعوده، قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل على مريض يعوده قال له: «لا بأس، طَهور إن شاء الله تعالى» ، قال قلت: طهور؟ كلا، بل هي حمى تفور، أو - تثور - على شيخ كبير، تزيره القبور، فقال النبي: «فنعم إذاً» .(3/265)
(مرض أبي بكر وبلال أول قدومهما المدينة)
وأخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وُعِك أبو بكر وبلال رضي الله عنهما، قالت: فدخلت عليهما فقلت: يا أبت كيف تجدك؟ ويا بلال كيف تجدك؟ قالت: وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كل امرىءٍ مُصَبِّح في أهله
والموتُ أدنى من شِراك نعله
وكان بلال إذا أقلعت عنه يقول:
ألاَ ليت شِعْري هل أبيتنَّ ليلةً
بوادٍ وحولي إذخرٌ وجليلُ
وهل أرِدَنْ يوماً مياه مَجِنَّةٍ
وهل يَبْدُوَنْ لي شامةٌ وطَفيلُ
قالت عائشة: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: «اللهمَّ حبِّب إلينا المدينة كحبِّنا مكة أو أشد، اللهمَّ وصحِّحها، وبارك لنا في مدَّها وصاعها، وانقل حُمَّاها فاجعلها بالجُحْفة» .
(اجتماع خصال الخير في الصديق رضي الله عنه)
وأخرج البخاري في الأدب المفرد (ص75) عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أصبح منكم اليوم صائماً؟» قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، قال: من عاد منكم يوم مريضاً؟» قال أبو بكر: أنا، قال: «من شهد منكم اليوم جنازة؟» قال أبو بكر: أنا، قال: «من أطعم اليوم مسكيناً؟»(3/266)
قال أبو بكر: أنا. قال مروان: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما اجتمع هذه الخصال في رجل في يوم إلا دخل الجنة» .
(عيادة أبي موسى للحسن بن علي)
وأخرج ابن جرير والبيهقي عن عبد الله بن نافع قال: عاد أبو موسى الحسن بن علي رضي الله عنهم فقال علي: أما إنه ما من مسلم يعود مريضاً إلا وعاد معه سبعون ألف ملك يستغفرون له إن كان مصبحاً حتى يمسي، وكان له خريف في الجنة، وإن كان ممسياً خرج له سبعون ألف ملك كلهم يستغفرون له، وكان له خريف في الجنة.h كذا في الكنز، وقال: قال - أي البيهقي -: هكذا رواه أكثر أصحاب شعبة موقوفاً، وقد رُوي من غير وجه عن علي مروفعاً. انتهى؛ وهكذا أخرجه أبو داود عن عبد الله بن نافع نحوه موقوفاً، وقال: أسند هذا عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه صحيح، وهكذا أخرجه أحمد عن عبد الله بن نافع قال: عاد أبو موسى الأشعري الحسن بن علي بن أبي طالب، فقال له علي: أعائداً جئت أم زائراً؟ قال: لا، بل جئت عائداً، قال علي: أما إنه ما من مسلم - فذكر نحوه.
وأخرج أحمد عن أبي فاخِتة قال: عاد أبو موسى الأشعري الحسن(3/267)
بن علي - رضي الله عنهم - قال: فدخل علي فقال: أعائداً جئت يا أبا موسى أم زائراً؟ فقال: يا أمير المؤمنين لا، بل عائداً، فقال علي رضي الله عنه: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما عاد مسلمٌ مسلماً إلا صلَّى عليه سبعون ألف ملك من حين يصبح إلى أن يمسي، وجعل الله تعالى له خريفاً في الجنة» ، قال: فقلنا: يا أمير المؤمنين وما الخريف؟ قال: الساقية التي تسقي النخل.
(عيادة عمرو بن حريث للحسن بن علي)
وأخرج أحمد أيضاً عن عبد الله بن يَسَار أن عمرو بن حُرَيْث عاد الحسن بن علي - رضي الله عنهما - فقال له علي: أتعود الحسن وفي نفسك ما فيها؟ فقال له عمرو: إنك لست بربيِّ فتُصرِّف قلبي حيثُ شئت، قال علي رضي الله عنه: أما إن ذلك لا يمنعنا أن نؤدي إليك النصيحة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من مسلم عاد أخاه إلا ابتعث الله له سبعن ألف ملك يصلُّون عليه من أيِّ ساعات النهار كان حتى يمسي ومن أيِّ ساعات اليل كان حتى يصبح» . وأخرجه البزّار. قال الهيثمي: ورجال أحمد ثقات.
(قول سلمان لمريض في كندة)
وأخرج البخاري في الأدب (ص72) عن عبد الرحمن بن سعيد عن أبيه قال: كنت مع سلمان رضي الله عنه وعاد مريضاً في كِندة، فلما دخل عليه قال: أبشر فإن مَرَض المؤمن يجعله الله له كفارة ومستعتباً، وإن مَرَض الفاجر كالبعير عقله أهله ثم أرسلوه فلا يدري لم عُقل ولم أُرسل. وعند أبي نعيم في الحلية عن سعيد بن وَهْب قال: دخلت مع سلمان(3/268)
رضي الله عنه على صديق له من كِندة يعوده فقال له سلمان: إن الله تعالى يبتلي عبده المؤمن بالبلاء ثم يعقابه، فيكون كفارة لما مضى فيَستعتب فيما بقي. وإن الله عز اسمه يبتلي عبده الفاجر بالبلاء ثم يعاقبه، فيكون كالبعير عقله أهله ثم أطلقوه؛ فلا يدري فيم عقلوه حين عقلوه ولا فيمَ أطلقوه حين أطلقوه.
(قول ابن عمر للمريض وقول ابن مسعود لرجل عند مريض)
وأخرج البخاري في الأدب (ص87) عن نافع رضي الله عنه قال: كان ابن عمرو رضي الله عنهما إذا دخل على مريض يسأله كيف هو، فإذا قام من عنده قال: خارَ الله لك ولم يَزده عليه. وأخرج أيضاً (ص78) عن عبد الله بن أبي الهذيل قال: دخل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على مريض يعوده ومعه قوم وفي البيت امرأة، فجعل رجل من القوم ينظر إللى المرأة، فقال له عبد الله: لو انفقأتْ عينك كل خيراً لك.
(ما كان يقوله عليه السلام عند المرضى وما كان يفعله)
وأخرج ابخاري في الأدب (ص79) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عاد المريض جلس عند رأسه ثم قال - سبع مرار -: «أسأل الله العظيم ربَّ العرش العظيم أن يشفيك» فإن كان في أجله تأخير عُوفي من وجعه. وأخرج ابن أبي شيبة عن علي رضي الله عنه. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ(3/269)
دخل على المريض قال: «أذهبِ البأسَ ربَّ الناس واشف أنت الشافي لا شافيَ إلا أنت» ورواه أحمد والترمذي - وقال حسن غريب - والدَّوْرَقي وابن جرير وصحَّحه بلفظ: «لا شفاء إلا شفاؤك شفاءٌ لا يغادر سقماً» . كذا في الكنز. وعند ابن مردويه وأبي علي الحداد في معجمه عن علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عاد مريضاً وضع يده اليمنى على خده اليمنى وقال: «لا بأس أذهبِ البأسَ ربَّ الناس، اشف أنت الشافي لا يكشف الضر إلا أنت» . وعند ابن أبي شيبة عن أنس رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل على مريض قال: «أذهب البأس ربَّ الناس، واشف أنت الشافي لا شافي إلا أنت شافء لا يغادر سقماً» . كذا في الكنز.
وأخرج أبو يَعْلى عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عاد مريضاً يضع يده على المكان الذي يألم ثم يقول: «بسم الله لا بأس» . قال الهيثمي: رجاله موثَّقون.(3/270)
وأخرج الطبراني في الكبير عن سلمان رضي الله عنه قال: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني، فلما أراد أن يخرج قال: «يا سلمان، كشف الله ضرَّك، وغفر ذنبك، وعافاك في دينك وجسدك إلى أجلك» . وفيه عمرو ابن خالد القرشي وهو ضعيف، كما قال الهيثمي.
وأخرج البخاري في صححيه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أتى مريضاً أو أُتي به إليه قال عليه الصلاة والسلام: «أذهب البأسَ ربَّ الناس، اشف وأنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك، (شفاء) لا يغادر سَقَماً» . وأخرجه ابن عسد عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوِّذ بهذه الكلمات - فذكر نحوه، وفيه قالت: فلما ثَقُل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه أخذت بيده، فجعلت أمسحه بها وأعوِّذه بها، قالت: فنزع يده مني وقال: «ربِّ اغفر لي وألحقني بالرفيق» ، قالت: وكان هذا ما سمعت من كلامه.
الاستئذان
(حديث أنس في تسليمه عليه السلام ثلاثاً)
أخرج البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سلَّم سلم ثلاثاً، وإذا تكلَّم بكلمة أعادها ثلاثاً.(3/271)
(قصته عليه السلام مع سعد بن عبادة)
وعند أبي داود عن قيس بن سعد رضي الله عنهما قال: زارنا النبي صلى الله عليه وسلم في منزلنا فقال: «السلام عليكم ورحمة الله» ، فردّ أبي ردّاً خفياً، فقلت: ألا تأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ذَرْه حتى يكثر علينا من السلام، فقال صلى الله عليه وسلم «السلام عليكم ورحمة الله» ، فردّ سعد ردّاً خفياً، ثم قال صلى الله عليه وسلم «السلام عليكم ورحمة الله» ، ثم رجع. فاتَّبعه سعد فقال: يا رسول الله، إنِّي كنت أسمع تسليمك وأردُّ عليك ردّاً خفياً لتكثر علينا من السلام، فانصرف معه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر له سعد بغُسل فاغتسل، ثم ناوله مِلحفة مصبوغة بزعفران أو وَرْس فاشتمل بها، ثم رفع يده وهو يقول: «اللهمَّ اجعل صلواتك ورحمتك على (آل) سعد» ثم أصاب صلى الله عليه وسلم من الطعام، فلما أراد الانصراف قرب له سعد حماراً قد وُطِّأَ عليه بقطيفة، فقال سعد: يا قيس اصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصحبته، فقال لي: «اركب معي» فأبيت، فقال: «إِمَّا أن تركب وإما أن تنصرف» فانصرفت. كذا في جمع الفوائد.
(قصة رجل استأذن النبي عليه السلام ولم يسلم)
وأخرج البخاري في الأدب المفرد (ص158) عن رِبْعي بن حِراش رضي الله عنه قال: حدثني رجل من بني عامر جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أألج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: «اخرجي فقولي له قل: السلام عليكم(3/272)
أأدخلُ؟ فإنه لم يحسن الاستيذان» ، قال: فسمعتها قبل أن تخرج إليَّ الجارية، فقلت: السلام عليك أأدخل؟ فقال: «وعليك أدخل» - فذكر الحديث وأخرجه أيضاً أبو داود، كما في جمع الفوائد.
(استئذان عمر وأبي هريرة وعلي على النبي عليه السلام)
وأخرج أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء عمر رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مشربة له، فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليكم، أيدخل عمر؟ قال الهيثمي رجاله رجال الصحيح - اهـ. وأخرجه أبو داود والنِّسائي عن عمرو رضي الله عنه نحوه والخطيب ولفظه: قال: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام عليكم، أيدخل عمر؟ والترمذي. كذا في الكنز. وأخرج البيهقي عن عمر قال: استأذنت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً فأذن لي. قال البيهقي: حسن غريب. كذا في الكنز. وأخرج أبو يَعْلى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئنا فاستأذنا. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير إسحاق بن أبي إسرائيل وهو ثقة.(3/273)
وأخرج الطبراني عن سفينة رضي الله عنه قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وجاء علي رضي الله عنه يستأذن، فدقَّ الباب دقّاً خفيفاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «افتح له» . قال الهيثمي: وفيه ضرار بن صُرَد وهو ضعيف.
(نهيه عليه السلام سعد بن عبادة أن يستأذن وهو مستقبل الباب)
وأخرج الطراني عن سعد بن عبادة رضي الله عنه أنه استأذن وهو مستقبل الباب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «لا تستأذن الباب» . وفي رواية قال: جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت، فقمت مقابل الباب فاستأذنت، فأشار إليَّ أن تباعد، ثم جئت فاستأذنت فقال: «وهل الاستئذان إلا من أجل النظر» . ورجال الرواية الثانية رجال الصحيح، كما قال الهيثمي.
(إنكارا لنبي عليه السلام على من نظر إلى بيوته قبل أن يؤذن له)
وأخرج البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً اطَّلع من بعض حُجَر النبي صلى الله عليه وسلم فقام إليه النبي صلى الله عليه وسلم بمشقص أو بمشاقص؛ فكأنِّي أنظر إليه يختِل الرجل ليطعنه.
وعنده أيضاً عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رجلاً اطَّلع(3/274)
في حُجْرٍ في باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم مِدْرَى يحك به رأسه، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أعلم أنك تنتظرني لطعنتُ به في عينيك» ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنما جُعل الإذن من قِبَل البصر» .
(إنكارا لنبي عليه السلام على من نظر إلى بيوته قبل أن يؤذن له)
وأخرج البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً اطَّلع من بعض حُجَر النبي صلى الله عليه وسلم فقام إليه النبي صلى الله عليه وسلم بمشقص أو بمشاقص؛ فكأنِّي أنظر إليه يختِل الرجل ليطعنه.
وعنده أيضاً عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رجلاً اطَّلع في حُجْرٍ في باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم مِدْرَى يحك به رأسه، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أعلم أنك تنتظرني لطعنتُ به في عينيك» ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنما جُعل الإذن من قِبَل البصر» .
(قصة أبي موسى الأشعري مع عمر حين استأذن ثلاثاً ولم يؤذن له)
وأخرج البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنت في مجلس الأنصار إذ جاء أبو موسى رضي الله عنه كأنه مذعور، فقال: استأذنت على عمر رضي الله عنه ثلاثاً لم يُؤذن لي فرجعت، قالت: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثاً فلم يُؤذن لي فرجعت وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا استأذن أحدكم فلم يُؤذن له فليرجع» ، فقال: والله لتقيمنَّ عليه بينة، أمنكم أحد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبي ابن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم، فكنت أصغر القوم فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك. وعنده أيضاً من طريق عُبيد بن عُمير فقال عمر: خفي عليَّ هذا من أَمر النبي صلى الله عليه وسلم ألهاني الصَّفْق بالأسواق.
وعنده أيضاً في الأدب المفرد (ص157) عن أبي موسى رضي الله عنه قال: استأذنت على عمر رضي الله عنه فلم يُؤذن لي ثلاثاً فأدبرت، فأرسل إليَّ فقال: يا عبد الله اشتد عليك أن تحتبس على بابي؟ اعلم أن الناس كذلك يشتد(3/275)
عليهم أن يحتبسوا على بابك، فقلت: بل استأذنت عليك ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت، فقال: ممن سمعت هذا؟ فقلت: سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أسمعت من النبي ما لم نسمع؟ لئن لم تأتني على هذا بينة لأجعلنَّك نكالاً، فخرجت حتى أتيت نفراً من الأنصار جلوساً في المسجد فسألتهم، فقالوا؛ أوَيشك في هذا أحد؟ فأخبرتهم ما قال عمر، فقالوا: لا يقوم معك إلا أصغرنا، فقام معي أبو سعيد الخدري - وأبو مسعود رضي الله عنهما - إلى عمر، فاقل: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يريد سعد بن عبادة رضي الله عنه حتى أتاه فسلّم فلم يُؤذن له، ثم سلّم الثانية ثم الثالثة فلم يُؤذن له، فقال: «قضينا ما علينا» ، ثم رجع فأدركه سعد فقال: يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما سلمتَ من مرة إلا وأنا أسمع وأردُّ عليك، ولكن أحببت أن تكثر من السلام عليَّ وعلى أهل بيتي، فقال أبو مسى: والله إن كنتُ لأميناً على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أجل، ولكن أحببت أن استثبت.
(بعض قصص الصحابة رضي الله عنهم في الاستئذان)
وأخرج البيهقي عن عامر بن عبد الله أن مولا له ذهبت بابنة الزبير إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالت: أدخل؟ فقال عمر: لا، فرجعت فقال: ادعوها، فتقولي: السلام عليكم أدخل؟ كذا في الكنز.
وأخرج ابن سعد عن أسلم قال قال لي عمر رضي الله عنه: يا أسلم أمسك عليَّ البا فلا تأخذنَّ من أحد شيئاً، فرأى عليَّ يوماً ثوباً جديداً فقال: من أين لك هذا؟ قلت: كسانيه عبيد الله بن عمر - رضي الله عنهما - فقال: أما عبيد الله فخذ منه وأما غيره فلا تأخنذَّ منه شيئاً. قال أسلم: فجاء الزبير رضي الله عنه وأنا على الباب فسألني أن يدخل، فقلت: أمير المؤمنين مشغول(3/276)
ساعة، فرفع يده فضرب خلف أذني ضربة صيَّحني، فدخلت على عمر فقال: مالك؟ فقلت: ضربني الزبير وخبَّرته خبره، فجعل عمر يقول: الزبير والله أرى، ثم قال: أدخله فأدخلته على عمر، فقال: لم ضربت هذا الغلام؟ فقال الزبير: زعم أنه سيمنعنا من الدخول عليك، فقال: هل ردَّك عن بابي قط؟ قال: لا، قال عمر: فإن قال لك: اصبر ساعة فإن أمير المؤمنين مشغول لم يتعذُرني، إنه والله؟ إنما يُدمي السبع للسباع فتأكله. كذا في الكنز.
وأخرج الخباري في الأدب المفرد (ص189) عن زيد بن ثابت أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه جاءه يستأذن عليه يوماً، فأذن له ورأسه في يد جارية له ترجِّله، فنزع رأسه، فقال له عمر: دَعْها ترجِّلك، فقال: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إليَّ جئتك، فقال عمر: إنما الحاجة لي. وأخرج الطبراني عن رجل قال: استأذنا على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه صلاة الصبح، فأذن لنا وألقى على امرأته قطيفة، وقال: إني كرهت أن أحبسكم. قال الهيثمي: والرجل لم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح. وأخرج البخاري في الأدب (ص155) عن موسى بن طلحة رضي الله عنه قال: دخلت مع أبي على أمي فدخل فاتَّبعته، فالتفت فدفع في صدري حتى أقعدني على استي، ثم قال: أتدخل بغير إذن؟ وصحَّح سنده الحافظ في الفتح.
وأخرج أيضاً (ص159) عن مسلم بن نذير قال: اتسأذن رجل على حذيفة رضي(3/277)
الله عنه فاطَّلع وقال: أدخل؟ قال حذيفة: أما عينك فقد دخلت، وأما استُك فلم تدخل وقال رجل: استأذنُ على أمي؟ قال: إن لم تستأذن رأيت ما يسوءك. وأخرج أحمد عن أبي سُويد العبدي قال: أتينا ابن عمر رضي الله عنهما فجلسنا ببابه ليُؤذنَ لنا، قال: فأبطأ علينا الإذن، فقمت إلى حُجحر في الباب فحعلت أطَّلع فيه ففطن بي، فلما أذن لنا جلسنا، فقال: أيكم اطَّلع آنفاً في داري؟ قلت: أنا، قال: بأي شيء استحللت أن تطَّلع في داري؟ قلت: أبطأ علينا فنظرت فلم أتعمد ذلك، قال: ثم سألوه عن أشياء، قلت: يا أبا بعد الرحمن ما تقول في الجهاد، قال: من جاهد فإنما يجاهد لنفسه. قال الهيثمي: وأبو الأسود وبركة بن يَعْى التميمي لم أعرفهما.
حب المسلم لله
(سؤاله عليه السلام عن أوثق عرى الإسلام وجوابه)
أخرج أحمد عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أيُّ عُرى الإسلام أوثق؟» قالوا: الصلاة، قال: «حسنة وما هي بها» ، قالوا: صيام رمضان، قال: «حسن وما هو به» ، قالوا: الجهاد، قال: «حسن وما هو به» ، قال: «إنَّ أوثق عُرى الإيمان أن تحب لله وتُبغض في الله» . وفيه ليث بن أبي سُليم وضعَّفه الأكثر. وعنده أيضاً عن أبي ذر رضي الله عنه قال: خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم(3/278)
فقال: «أتدرون أي الأعمال أحب إلى الله؟» قائل: الصلاة والزكاة، وقال قائل: الجهاد، قال: «إنَّ أحب الأعمال إلى الله عز وجل الحب لله والبغض لله» . وفيه رجل لم يُسمَّ. وعند أبي داود طَرَف منه. كذا في مجمع الزوائد.
(حبه عليه السلام للتقي، وحبه لعمار وابن مسعود)
وأخرج أبو يَعْلى عن عاشئة رضي الله عنها قالت: ما أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ذا تُقيِّ. وإسناده حسن، كما قال الهيثمي. وأخرج ابن عساكر عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: رجلان مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبحهما: عبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر رضي الله عنهم. وعنده أيضاً عن الحسن رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث عمرو بن العاص رضي الله عنه على الجيش عاملاً وفيهم عامة أصحابه، فقيل لعمرو: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان يستعملك ويُدْنيك ويحبك، فقال: قد كان يستعملني فلا أدري يتألَّفني أو يحبني. ولكن أدلكم على رجلين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبحهما: عبد الله بن مسعود، وعمار ابن ياسر رضي الله عنهم. كذا في المنتخب. وأخرجه ابن سعد عن الحسن نحو وزاد: قالوا: فذاك والله(3/279)
قيتلكم يوم صفين، قال: صدقتم - والله - لقد قتلناه.
(سؤال علي والعباس النبي عليه السلام عن أحب أهله إليه)
وأخرج الطيالسي والترمذي - وصحّحه - والرُوياني والبَغَوي والطبراني والحاكم عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: كنت جالساً إذ جاء عليٌّ والعباس رضي الله عنهما يستأذنن فقالا: يا أسامة استأذن لنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله عليُّ والعباس يستأذنان، فقال: «أتدري ما جاء بهما؟» قلت: لا، قال النبي صلى الله عليه وسلم «لكني أدري، ائذن لهما» فدخلا فقالا: يا رسول الله جئناك نسألك أيُّ أهلك أحب إليك؟ قال: «فاطمة بنت محمد» قالا: ما جئناك نسألك عن أهلك، قال: «فأحب الناس إليَّ مَنْ أَنْعَمَ الله عليه وأنعتُ عليه أسامة بن زيد» ، قالا: ثم من؟ قال: «إنَّ علياً سبقك بالهجرة» . كذا في المنتخب.
(حبه عليه السلام لعائشة وأبي بكر)
وعند ابن عساكر عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال قيل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أيُّ النسا أحب إليك؟ قال: «عائشة» ، قال: ومن الرجال؟ قال: أبو بكر» قال: ثم من، قال: «ثم أبو عبيدة» كذا في المنتخب. وعند ابن سعد عن عمرو رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله من أحب الناس إليك(3/280)
قال: «عائشة» قال: إنما أقول من الرجال، قال: «أبوها» .
(طلب عليه السلام ممن يحب أحداً في الله أن يخبره بذلك)
وأخرج أبو داود عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً كان عند النبي صلى الله عليه وسلم فمر رجل فقال: يا رسول الله إني لأحب هذا، فقال له صلى الله عليه وسلم «أعلمته؟» قال: لا، قال: «فأعلمه» فلحقه فقال: إني أحبك في الله، قال: أحبَّك الذي أحببتني له. كذا في جمع الفوائد. وأخرجه ابن عساكر وابن النجار عن أنس رضي الله عنه وأبو نعيم عن الحارث بنحوه، كما في الكنز.
وعند الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: بينما أن جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فسلَّم ثم ولَّى عنه، فقلت: يا رسول الله إني أحب هذا، قال: «هل أعلمتَه؟» قلت: لا، قال: «فأعلت ذاك أخاك» فأتيته فسلّمت عليه فأخذت بمنكبه وقلت: والله إني لأحبك في الله، وقال هو: وإني أحبُّك في الله، وقلت: لولا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرني أن أفعل. قال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجالهما، رجال الصحيح غير الأزرق بن علي وحسان بن إبراهيم وكلاهما ثقة.
(بعض قصص الصحابة رضي الله عنهم في حبِّهم لله)
وعند الطبراني أيضاً عن عبد الله بن سَرْجَس رضي الله عنه قال: قلت(3/281)
للنبي صلى الله عليه وسلم إني أحب أبا ذر رضي الله عنه، فقال: «أعلمتَه بذلك؟» قلت: لا، قال: «فأعلمه» فلقيت أبا ذر فقلت: إني أحبك في الله، قال: أحبَّك الذي أحببتني له، فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: «أما إنَّ ذلك لَمِن ذكره أجر «ز. قال الهيثمي: وفيه من لم أعرفهم. وأخرج أبو يَعْلى عن مجاهد فقال: مرَّ رجل بابن عباس رضي الله عنهما قال: إن هذا يحبني، قالوا: وما يدريك يا أبا عباس، قال: لأني أحبُّه. وفيه محمد بن قادمة شيخ أبي يَعْلى ضعَّفه الجمهور ووثَّقه ابن حِبَّان وغيره، وبقية رجاله ثقات، كما قال الهيثمي.
وأخرج البخاري في الأدب المفرد (ص80) عن مجاهد قال: لقيني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بمَنكبي من ورائي قال: أما إني أحبك قال: أحبك اذي أحببتني له، فقال: لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أحب الرجلُ الرجلَ فليخبره أنَّه أحبَّه» ما أخبرتك، قال: ثم أخذ يعرض عليَّ الخِطبة قال: أما إنَّ عندنا جارية. أمَا إنها عوراء. وأخرج الطبراني عن مجاهد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال لي: أحبَّ في الله وأبغض في الله، ووال في الله وعاد في الله، فإنّه لا تُنال ولا ية الله إلا بذلك، ولا يجد رجل طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصيامه حتى يكون كذلك، وصارت مؤاخاة الناس في أمر الدنيا. وفيه ليث بن أبي سُلَيم والأكثر على ضَعْفه، كما قال الهيثمي.(3/282)
هجرة المسلم
(قصة عائشة مع ابن الزبير)
أخرج البيخاري عن عوف بن الطفيل وهو ابن أخي عائشة - رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم لأمها - أن عائشة حُدِّثت أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال في بيع أو عطاء أعطته عائشة: والله لتنتهينَّ عائشة أو لأحجرنَّ عليها، فقالت أهو قال هذا؟ قالوا: نعم، قالت: هو لله علي نَذْر أَن لا أُكلِّم ابن الزبير أبداً، فاستشفع ابن الزبير إليها حين طالت الهجرة، فقالت: لا والله لا أَشَفِّع فيه أَبداً ولا أتحنث إلى نَذْري، فلما طال ذلك على ابن الزبير كلَّم المِسَور بن مَخْرَمة وعبد الرحمن بن الأسود ابن عبد يَغْوث رضي الله عنهما - وهما من بني زُهْر - وقال لهما: أَنشدكما بالله لَمَا أدخلتماني على عائشة فإنها لا يحل لها أن تنذر قطيعتي، فأقبل به المِسْوَر وعبد الرحمن مشتملين بأرديتهما حتى استأذنا على عائشة، فقالا: السلام عليك ورحمة الله وبركاته أندخل؛ قالت عائشة: ادخلوا، قالوا: كلُّنا؟ قالت: نعم ادخلوا كلُّكم - ولا تعلم أنَّ معهما ابن الزبير -، فلما دخلوا دخل ابن الزبير الحجابفاعتنق عائشة فطفق يناشدها ويبكي، وطفق المِسْوَر وعبد الرحمن يناشدانها إلاَّ ما كلمت وقبلت منه، ويقولان: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عمَّا قد علمتِ من الهجرة، وأنه لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليالٍ. فلما أكثروا على عائشة من التذكرة والتحريج طفقت تذكِّرهما وتبكي وتقول: إني نذرت والنَّذْر شديد، فلم يزالا بها حتى كلَّمت ابن الزبير وأعتقت في نَذْرها ذلك أربعين برقبة، وكانت تذكر نَذْرها بعد ذلك فتبكي حتى تبل دموعها خمارها. وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (ص59) عن عوف بن الحارث ابن الطفيل نحوه.(3/283)
وأخرج أيضاً في الصحيح (1
497) عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال: كان عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أحب البشر إلى عائشة رضي الله عنها بعد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه، وكان أبرّ الناس بها، وكانت لا تمسك شيئاً مما جاءها من رزق الله إلاَّ تصدقت، فقال ابن الزبير: ينبغي أن يؤخذ على يديها، فقالت: أيُؤخذ على يدي؟ عليَّ نَذْر إن كلمته، فاستشفع إليها برجال من قريش وبأخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة فامتنعت، فقال له الزهريون أخوال النبي صلى الله عليه وسلم منهم عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يَغُوث والمِسْوَر بن مَخْرَمة رضي الله عنهما: إذا استأذنَّا فاقتحم الحجاب، ففعل، فأرسل إليها بعشر رقاب فأعتقتهم، ثم لم تزل تعتقهم حتى بلغت أربعين وقالت: وددت أني جعلت حين حلفت عملاً أعمله فأفرغَ منه.
إصلاح ذات البين
(قصة خصومة أهل قباء وإصلاحه عليه السلام بينهم)
أخرج البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن أهل قُباء اقتتلوا حتى ترامَوا بالحجارة، فأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: «اذهبوا بنا نصلح بينهم» وعنده أيضاً (ص370) من حديثه أن أُناساً نم بني عمرو ابن عوف كان بينهم شيء، فخرج إليهم صلى الله عليه وسلم في أُناس من أصحابه يصلح بينهم فذكر الحديث.(3/284)
إصلاحه عليه السلام بين المتخاصمين حين زار عبد الله بن أبي
وأخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم أتيت عبد الله بن أُبيّ، فانطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم وركب حماراً فانطلق المسلمون يمشون مع وهي أرض سَبْخة، فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم قال: إليك عني، والله لقد آذاني نَتْن حمارك فقال رجل من الأنصار منهم: والله، لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحاً منك فغضب لعبد الله رجلٌ من قومه فشتما، فغضب لكل واحد منهما أصحابه، فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فبلَغنا أنها نزلت {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} (سورة الحجرات، الآية: 9) . وقد تقدّم في عيادة المريض حديث أسامة رضي الله عنه أخرجه البخاري وفيه: فاستبَّ المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفِّضهم حتى سكتوا.
إصلاحه عليه السلام بين الأوس والخزرج
وأخرج الطبراني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان الأوس والخزرج حيَّين من الأنصار وكان بينهما عداوة في الجاهلية، فلّما قدم عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب ذلك وألَّف الله بين قلوبهم، فبينما هم قعود في مجلس لهم إذ تمثَّل رجل من الأوس ببيت فيه هجاء الخزرج، وتمثَّل رجل من الخزرج ببيت فيه هجاء الأوس، فلم يزل هذا يتمثَّل ببيت وهذا يتمثَّل ببيت حتى وثب بعضهم إلى بعض وأخذوا أسلحتهم وانطلقوا للقتال، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأُنزل الحي فَجاء مسرعاً قد حسر عن ساقَيه، فلما رآهم ناداهم: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ(3/285)
اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (سورة آل عمران، الآية: 102) . حتى فرغ من الآيات، فوحشوا بأسلحتهم فرمَوا بها، واعتنق بعضهم بعضاً يبكون. قال الهيثمي: رواه الطبراني في الصغير وفيه غسان بن الربيع وهو ضعيف اهـ.
صدق الوعد للمسلم
وصية ابن عمرو عند الوفاة بتزويجه ابنته لرجل كان قد وعده بها
أخرج ابن عساكر عن هارون بن رباب أن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما لما حضرته الوفاة: قال: انظروا فلاناً فإني كنت قلت له في ابنتي قولاً كشبه العِدَة، فما أحب أن ألقى الله بثلث النفاق فأشهدكم أني قد زوجته. كذا في كنز العمال.
الاحتراز عن ظن السوء بالمسلم
قصة رجلين من الصحابة في هذا الأمر واحتكامهما للنبي عليه السلام
وأخرج ابن عساكر عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً مرّ بمجلس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلّم الرجل فردّوا عليه، فلما جاوزها قال أحدهم إني لأبغضُ هذا، قالوا: مَهْ، فوالله لننبئه بهذا. انطلق يا فلان فأخبره بما قال له، فانطلق الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدّثه بالذي كان وبالذي قال؛ قال الرجل: يا رسول الله أرسل إليه فاسأله لم يبغضني؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «لم تبغضه؟» قال: يا رسول الله أنا جاره وأنا به أخبر، ما رأيته يصلِّي صلاة إلا هذه الصلاة التي يصليها البر والفاجر، فقال له الرجل: يا رسول الله سَلْه هل أسأت لها وضوءاً(3/286)
أو أخرَّتها عن وقتها فقال: لا، ثم قال: يا رسول الله أنا له جار وأنا به خابر، ما رأيته يطعم مسكيناً قطُّ إلا هذه الزكاة التي يؤديها البر والفاجر، فقال: يا رسول الله سَلْهُ هل رآني منعت منها طالبها؟ فسأله، فقال: لا، فقال يا رسول الله أنا له جار وأنا به خابر ما رأيته يصوم يوماً قط إلا الشهرالذي يصومه البرَ والفاجر، فقال الرجل: يا رسول الله سَلْه هل رآني أفطرت يوماً قط لست فيه مريضاً ولا على سفر؟ فسأله عن ذلك، فقال: لا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «فإني لا أدري لعلّه خير منك» . كذا في كنز العمال.
مدح المسلم وما يكره منه
ما وقع بين رجل من بني ليث وبين النبي عليه السلام
أخرج الطبراني عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: جاء رجل من بني ليث إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أُنشدك - قالها ثلاث مرات - فأنشده الرابعة مديحه له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن كان أحد من الشعراء يحسن فقد أحسنت» ؛ قال الهيثمي: وفيه راوه لم يُسمَّ، وعطاء بن السائب اختلط.
مدح أسامة بن زياد لخلاَّد بن السائب
وأخرج الطبراني عن خلاّد بن السائب رضي الله عنه قال: دخلت على أسامة بن زيد فمدحني في وجهي وقال: إنه حملني على أن أمدحك في وجهك، أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا مُدح المؤمن في وجهه رَبَا الإيمان في قلبه» . قال الهيثمي: وفيه ابن لَهيعة وبقية رجاله وُثِّقوا.(3/287)
قوله عليه السلام لمن بالغ في مدحه
وأخرجه أبو داود عن مُطرِّف قال قال أبي: انطلقت في وفد بني عامر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا، فقال: «السيد الله» . قلنا: وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طَوْلاً، فقال: «قولوا بقلوكم أو بعض قولكم ولا يَسْتَجْرِينَّكم، الشيطان» ورواه رَزِين نحوه عن أنس رضي الله عنه وزاد في آخره: «إني لا أريد أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلنيها الله تعالى، أنا محمد بن عبد هـ ورسوله» . كذا في جمع الفوائد. وعند ابن النجار عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم يا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم «قولوا ما أقول لكم ولا يستهوِيَنَّكم الشيطان، أنزلوني حيث أنزلني الله، أنا عبد الله ورسوله» . كذا في الكنز. وأخرجه أحمد عن أنس نحوه، كما في البداية.
قوله عليه السلام لمن مدح رجلاً في وجهه وهديه في ذلك
وأخرج الشيخان وأبو داود عن أبي بَكْر رضي الله عنه قال: أثنى رجل على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ويلك قطعت عنق صاحبك، قطعت عنق صاحبك» - ثلاثاً -، ثم قال: «من كان منكم مادحاً أخاه لا محالة فليقل:(3/288)
أحسب فلاناً - والله حسيبه -، ولا يزكِّي علي أحداً، أحسب كذا وكذا، إن كان يعلم ذلك منه» . كذا في جمع الفوائد. وعند البخاري أيضاً عن أبي موسى رضي الله عنه قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يثني على رجل ويُطريه في المدحة فقال: «أهلكتم - أو: قطعتم - ظهر الرجل» . وأخرجه ابن جرير مثله، كما في الكنز.
قصة محجن الأسلمي في هذا الأمر
وأخرج البخاري في الأدب المفرد (ص51) عن رجاء بن أبي رجاء عن مِحْجَن الأسلمي رضي الله عنه قال رجاء: أقبلت مع مِحْجَن ذات يوم حتى انتهينا إلى مسجد أهل البصرة فإذا بُرَيدة الأسلمي رضي الله عنه على باب من أبواب المسجد جالس، قال: وكان في المسجد رجل يقال له سَكْبَة يطيل الصلاة، فلما انتهينا إلى باب المسجد وعليه بردة وكان بُرَيدة صاحب مزاحات، فقال: يا محجن أتصلِّي كما يصلِّي سَكْبة؟ فلم يرد عليه مِحْجَن ورجع، قال قال مِحْجَن: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيدي فانطلقنا نمشي حتى صعدنا أُحُداً، فأشرف على المدينة فقال: «وَيْل امِّها من قرية يتركها أهلها كأعمرِ ما تكون، يأتيها الدجال فيجد على كل باب من أبوابها مَلَكاً فلا يدخلها» ثم انحدر حتى إذا كنا في المسجد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلِّي ويسجد ويركع، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «من هاذ؟» فأخذت أُطريه فقلت: يا رسول الله هذا فلان وهذا فلان، فقال: «أمسك، لا تسمعه فتهلِكَه» قال: فانطلق يمشي حتى إذا كان عند حُجعره لكنه نفض يدهي ثم قال: «إنَّ خير دينكم أيسرُه، إنّ خير دينكم أيسره» ثلاثاً.(3/289)
وأخرجه الإمام أحمد عن رجاء بطوله نحوه إلا أن في روايته قال: فأخذت أُطريه له، قال قلت: يا رسول الله هذا فلان وهذا وهذا، قال: اسكت، لا تسمعْه فتهلِكَه» قال: ثم انطلق يمشي حتى إذا كنا عند حجره لكنه رفض يدي ثم قال: «إنَّ خير دينكم أيسره، إنَّ خير دينكم أيسره، إنَّ خير دينكم أيسره» . وأخرجه أحمد أيضاً من طريق عبد الله بن شقيق عن محِجن رضي الله عنه وفي روايته قال قلت: يا نبي الله هذا فلان وهذا من أحسن أهل المدينة - أو قال: أكثر أهل المدينة - صلاة، قال: «لا تسمعه فتهلكه - مرتين أو ثلاثاً - إنكم أمة أريد بكم اليسر» . وأخرجه ابن جرير والطبراني مختصراً، كما في كنزل العمال.
غضب عمر رضي الله عنه على مدح المسلم
وأخرجه ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: كنا قعوداً عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فدخل عليه رجل فسلَّم عليه، فأثنى عليه رجل من القوم في وجهه، فقال عمر: عَقَرتَ الرجل عقَرك الله، تثني عليه في وجهه في دينه، كذا في الكنز. وعند ابن أبي الدنيا في الصمت عن الحسن أن رجلاً أثنى على عمر رضي الله عنه فقال: تهلكني وتهلك نفسك كذا في الكنز.(3/290)
قصة عمر رضي الله عنه مع الجارود
وأخرج ابن أبي الدنيا في الصمت عن الحسن قال: كان عمر رضي الله عنه قاعداً ومعه الدِّرَّة والناس حوله إذا أقبل الجارود رضي الله عنه، فقال رجل: هذا سيد ربيعة، فسمعه عمر ومن حوله وسمعه الجارود، فلما دنا منه خَفَقَه بالدِّرَّة، فقال: مالي ولك يا أمير المؤمنين؟ فقال: مالي ولك؟ أمَا لقد سمعتها، قال: سمعتها فَمْه؟ قال: خشيت أن يخالط قلبك منها شيء فأحببت أن أطأطىء منك. كذا في الكنز.
حثو المقداد الحصى والتراب في وجه المداحين
وأخرج مسلم واللفظ له وأبو داود عن هَمَّام ابن الحارث أن رجلاً جعل يمدح عثمان رضي الله عنه، فعمد المقداد رضي الله عنه فجثى على ركبتيه - وكان رجلاً ضخماً - فجعل يحثو في وجهه الحصى، فقال له عثمان: ما شأنك؟ فقال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيتم المدَّاحين فاحثُوا في وجوههم التراب» وأخرجه مسلم أيضاً والترمذي والبخاري في الأدب (ص50) نم طريق أبي مَعْمر قال: قام رجل يثني على أمير الأمراء فجعل المقداد رضي الله عنه يحثي عليه التراب وقال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحثي في وجوه المداحين التراب.
عمل ابن عمر رضي الله عنهما وقوله في هذا الأمر
وأخرج البخاري في الأدب (ص51) عن عطاء بن أبي رباح أن رجلاً كان يمدح(3/291)
رجلاً عند ابن عمر رضي الله عنهما، فجعل ابن عمر يحثو التراب نحو فيهِ وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا رأيتم المدَّحين فاحثُوا في وجوههم التراب» . وعند أحمد والطبراني عن عطاء بن أبي رباح قال: كان رجل يمدح ابن عمر رضي الله عنهما يقول هكذا: يحثو في وجهه التراب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا رأيتم المدَّاحين فاحثُوا في وجوههم التراب» . قال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط ورجاله رجال الصيح. اهـ.
وعند أبي نُعَيم في الحلية عن نافع رضي الله عنه وغيره أن رجلاً قال لابن عمر رضي الله عنهما: يا خير الناس - أو: يا ابن خير الناس - فقال ابن عمر: ما أنا بخير الناس ولا ابن خير الناس، ولكني عبد من عباد الله أرجو الله تعالى وأخافه، والله لن تزالوا بالرجل ليخرج ومعه دينه فيرجع وما معه شيء منه، يأتي الرجلَ لا يملك له ولا لنفسه ضَراً ولا نفعاً فيقسم له بالله: لأنت وأنت فيرجع ما حلَّ من حاجته بشيء وقد أسخط الله عليه. قال الهيثمي: رواه الطبراني بأسانيد ورجال أحدهما رجال الصحيح.(3/292)
صلة الرحم وقطعه
قصته عليه السلام مع أبي طالب في هذا الأمر
أخرج البزّار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أصابت قريشاً أزمة شديدة حتى أكلوا الرِّمَّة، ولم يكن من قريش أحد أيسر من رسول الله صلى الله عليه وسلم والعباس بن عبد المطلب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: «يا عم إن أخاك أبا طالب قد علمت كثرة عياله وقد أصاب قريشاً ما ترى، فاذهب بنا إليه حتى نحمل عنه بعض عياله» فانطلقا إليه فقالا: يا أبا طالب إن حال قومك ما قد ترى ونحن نعلم أنك رجل منهم، وقد جئنا لنحمل عنك بعض عيالك، فقال أبو طالب: دعا لي عقيلاً وافعل ما أحببتما، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً - رضي الله عنه - وأخذ العباس جعفراً - رضي الله عنه - فلم يزالا معهما حتى استغنيا، قال سليمان بن داود: ولم يزل جعفر مع العباس حتى يخرج إلى أرض الحبشة مهاجراً. قال الهيثمي: وفيه من لم أعرفهم.
قصته عليه السلام مع جويرية وفاطمة في هذا الأمر
وأخرج البزّار عن جابر رضي الله عنه أن جُوَيْرِية رضي الله عنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم إني أريد أن أُعتق هذا الغلام، قال: «أعطه خالك الذي في الأعراب يرعى عليه فإنه أعظم لأجرك» ورجاله رجال الصحيح، كما قال الهيثمي.(3/293)
وأخرج الحاكم في تاريخه وابن النجار عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: لما نزلت {وَءاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} (سورة الإسراء، الآية: 26) قال النبي صلى الله عليه وسلم «يا فاطمة لك فَدَك» . قال الحاكم: تفرَّد به إبراهيم بن محمد بن ميمون عن علي بن عابس. كذا في الكنز.
ما قاله عليه السلام لمن اشتكى سوء معاملة رحمه له
وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله إنَّ لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إليَّ، وأحلُم عنهم ويجهلون عنهم ويجهلون عليَّ، فقال: «لئن كنت كما قلت فكأنما تُسِفُّهم الملَّ، ولا يزال معك من الله ظَهِير عليهم ما دمت على ذلك» . وأخرجه البخاري في الأدب (ص11) عن أبي هريرة مثله. وعند أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنَّ لي ذوي أرحام أصل ويقطعوني، وأعفو ويظلموني، والحسن ويسيئوني، أفأكافئهم؟ قال: «إذاً تشتركون جميعاً، ولكن خذ بالفَضْل وصِلْهم، فإنه لن يزال معك مَلَك ظَهِير من الله عز وجل ما كنت على ذلك» .
ابن أَرْطاة وهو مدلِّس وبقية رجاله ثقت، كما قال(3/294)
الهيثمي.
قصة أبي هريرة رضي الله عنه مع قاطع رحم
وأخرج البخاري في الأدب (ص12) عن أبي أيوب سليمان مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: جاءنا أبو هريرة رضي الله عنه عشية الخميس ليلة الجمعة فقال: أُحرِّج على كل قاطع رحم لمَّا قام من عدنا، فلم يقم أحد حتى قال ثلاثاً، فأتى فتًى عمة له قد صرمها منذ سنين فدخل عليها فقالت: يا ابن أخي ما جاء بك؟ قال: سمعت أبا هريرة يقول كذا وكذا، قالت: ارجع إليه فسَلْه لم قال ذاك؟ قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أعمال بني آدم تُعرض على الله تبارك وتعالى عشية كل خميس ليلة الجمعة، فلا يقبل عمل قاطع الرحم» .
طلب ابن مسعود من قاطع الرحم أن يقوم حين أراد الدعاء
وأخرج الطبراني عن الأعمش قال: كان ابن مسعود رضي الله عنه جالساً بعد الصبح في حَلْقة قال: أنشد الله قطع رحم لمَّا قام عنّا، فإنّا نريد أن ندعو ربنا، وإن أبواب السماءُ مُرتَجَة دون قاطع رحم. قال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح إلا أن الأعمش لم يدرك ابن مسعود - انتهى.(3/295)
الباب العاشر باب أخلاق الصحابة وشمائلهم
باب كيف كانت أخلاق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه. وشمائلهم، وكيف كانوا يعاشرون فيما بينهم.(3/297)
خلق النبي صلى الله عليه وسلم
أقوال عائشة في خلقه عليه السلام
أخرج مسلم عند سعد بن هشام قال: سألت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فقلت: أخبريني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أما تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، فقالت: كان خُلُقه القرآن. وأخرجه أحمد عن جبير ابن نُفَير والحسن البصري عن عائشة نحوه، كما في البداية، وأخرجه ابن سعد عن سعد بن هشام عائشة نحوه وزاد: قال قتادة رضي الله عنه: وإن القرآن جاء بأحسن أخلاق الناس. وأخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة ص عن جبير بن نُفَير عن عائشة(3/299)
نحوه، وابن سعد عن مسروق عنها نحوه.
وعند يعقوب بنسفيان عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن، يرضى لرضاه ويسخط لسخطه. وأخرجه البيهقي عن زيد بن بَابَنوس قال: قلنا لعائشة: يا أم المؤمنين كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره. وفي حديثه: ثم قالت: أتقرأ سورة المؤمنون؟ اقرأ {اقرأ إفلح المؤمنون} (سورة المؤمنون، الآية: 1) إلى العشر، قالت: هكذا كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ورواه النسائي، كما في البداية.
وأخرج أبو نعيم في الدلائل (ص57) عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما كان أحد أحسن خلقاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما دعاه أحد من أصحابه ولا منأهله إلا قال: لبيك؛ ولذلك أنزل الله عز وجل: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (سورة القلم، الآية: 4) وعند ابن أبي شيبة عن قيس بن وَهْب عن رجل من بني سراة قال: قلت لعائشة: أخبريني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أما تقرأ القرآن {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه فصنعت له طعاماً وصنعتْ له حفصة رضي الله عنها طعاماف، فسبقتني حفصة فقلت للجارية: انطلقني فاكفئي قصعتها، فأهوت أن تضعها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فكفأتها،(3/300)
فانكفأت القصعة فانتشر الطعام، فجمعها النبي صلى الله عليه وسلم وما فيها من الطعام على الأرض فأكلوا، ثم بعثت بقصعتي فدفعها النبي صلى الله عليه وسلم إلى حفصة فقال: «خذوا ظرفاً مكان ظرفكم وكلوا ما فيها» . قالت: فما رأيتُه في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا في الكنز.
قول زيد بن ثابت في هذا الأمر
وأخرج أبو نعيم في الدلائل (ص57) عن خارجة بن يزيد أن نفراً دخلوا على أبيه زيد بن ثابت رضي الله عنه قالوا: حدِّثنا عن بعض أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كنت جاره فكان إذا نزل عليه الوحي بعث إليَّ فآتيه فأكتب الوحي، فكنا إذا ذكرنا الدنيا ذكرها، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا، فكل ذا أحدثكم عنه. وأخرجه الترمذي (ص25) نحوه، وكذلك البيهقي، كما في البداية، والطبراني كما في المجمع وقال: وإسناده حسن، وابنأبي داود في المصاحف وأبو يَعْلى والرُوباني وابن عساكر، كما في المنتختب، وأخرجه ابن سعد أيضاً نحوه.(3/301)
قول صفية في هذا الأمر
وأخرج الطبراني عن صفية بنت حُيَي رضي الله عنها قالت: ما رأيت أحداً أحسن خلقاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد رأيته وقد ركب بي من خيبر على عجز ناقته ليلاً فجعلت أنعس، فضرب رأسي مؤخرة الرَّححل فمسني بيده: «يا هذه مهلاً، يا بنت حيي مهلاً» حتى إذا جاء الصهباء قال: «إني أعتذر إليك يا صفية مما صنعت بقومك، إنهم قالوا لي كذا وقالوا لي كذا» . قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط وأبو يَعْلى باختصار ورجالهما ثقات إلا أن الربيع ابن أخي صفية بنت حيي لم أعرفه. اهـ.
أقوال أنس في هذا الأمر
وأخرج أبو نُعيم في الدلائل (ص57) عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشد الناس لطفاً، والله ما كان يمتنع في غَداة باردة من بعدٍ ولا من أمة ولا صبي أن يأتيه بالماء فيغسل وجهه وذراعيه، وما سأله سائل قط إلا أصغى إليه أذنه فلم ينصرف حتى يكون هو الذي ينصرف عنه، وما تناول أحد بيده إلا ناوله إياها، فلم ينزع حتى يكون هو الذي ينزعها منه. وعند مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلَّى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء فما يُؤتى بإناء إلا غمس يدهفيه، وربما جاءه في الغداة الباردة بغمس يده فيها.
وعند يعقوب بن سفيان عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله(3/302)
صلى الله عليه وسلم إذا صافح أو صافحه الرجل لا ينزع يده حتى يكون الرجل ينزع يده من يده، وإن استقبله بوجه لا يصرفه عنه حتى يكون الرجل ينصرف عنه، ولا يُعرى مُقدِّماً ركبتيه بين يدي جليس له. ورواه الترمذي وابن ماجه، كما في البداية، وابن سعد نحوه. وعند أبي داود عنه قال: ما رأيت رجلاً قط التقم أذن النبي صلى الله عليه وسلم فينحِّي رأسه، حتى يكون الرجل هو الذي ينحِّي رأسه وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذاً بيده رجل فترك يده حتى يكون الرجل هو الذي يدع يده. تفرد به أبو داود؛ كذا في البداية.
أقوال أبي هريرة وأنس في مصافحة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه
وعند البزّار والطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن أحد يأخذه بيده فينزع يده حتى يكون الرجل هو الذي يرسله، ولم يكن يرى ركبتيه أو ركبته خارجاً عن ركبة جليسه، ولم يكن أحد يصافحه إلا أقبل عليه بوجهه، ثم لم يصرفه عنه حتى يفرغ من كلامه. وإسناد الطبراني حسن، كما قال الهيثمي.
وعند أحمد عن أنس رضي الله عنه قال: إن كانت الوليدة من ولائد أهل المدينة لتجيء فتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت. ورواه ابن ماجه. وعند أحمد عنه قال: إن كانت(3/303)
الأمة من أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به في حاجتها. ورواه البخاري في كتاب الأدب من صحيحه معلَّقاً، كما في ابداية، وروى مسلم في صحيحه عن أنس أنَّ امرأة كان في عقلها شيء فقالت: يا رسول الله إن لي إليك حاجة، فقال: «يا أمَّ فلان انظري أي السِّكَك شئت حتى أقضي لك حاجتك» ، فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها. وأخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة (ص57) عن أنس مثله. وأَخرج الطبراني عن محمد بنمسلمة رضي الله عنه قال: قدمت من سفر فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدي، فما ترك يدي حتى تركت يده. وفيه الجَلْد ابن أيوب وهو ضعيف، كما قال الهيثمي.
اختياره عليه السلام أيسر الأمرين وانتقامه لله
وأخرج مالك عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم لنفسه إلا أن تُنتهك حرمة الله فينتقم لله بها. وأخرجه البخاري ومسلم،(3/304)
كما في البداية. وأخرجه أبو داود والنِّسائي وأحمد، كما في الكنز، وأبو نُعَيم في الدلائل (ص57) .
وعند أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادماً له قطُّ ولا امرأة، ولا ضرب بيده شيئاً إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا خُيِّر بين شيئين قطُّ إلا كان أحبهما إليه إيسرهما حتى يكون إثماً، فإذا كان إثماً كان أبعد الناس من الإِثم، ولا أنتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه حتى تنتهك حرمات الله فيكون هو ينتقم لله عز وجل. كذا في البداية. وأخرجه مسلم وأبو نُعَيم في الدلائل مختصراً وعبد الرزاق وعبد بن حُمَيد والحاكم نحو حديث أحمد كما في الكنز. وعند الترمذي في الشمائل (ص25) عن عائشة قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصراً من مظلمة ظُلمها قط ما لم يُنتهك من محارم(3/305)
الله تعالى شيء، فإذا انتُهك من محارم الله تعالى بشيء كان من أشدهم في ذلك غضباً، وما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً. وأخرجه أبو يَعْلى والحاكم، كما في الكنز.
ما كان عليه السلام فاحشاً ولا سخّاباً ولا سبّاباً ولا لعّانا
وأخرج أبو داود الطيالسي عن أبي عبد الله الجَدَلي قال: سمعت عائشة رضي الله عنها وسألتها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: لم يكن فاحشاً ولا متفحِّشاً ولا سخّاباً في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح - أو قال: يعفو ويغفر، شك أبو داود -. رواه الترمذي وقال: حسن صحيح؛ كذا في البداية. وأخرجه ابن سعد عن أبي عبد الله عن عائشة نحوه وأحمد والحاكم كما في الكنزل.
وعند يعقوب بن سفيان عن صالح مولى التوأمة قال: كان أبو هريرة رضي الله عنه ينعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان يُقبل جميعاً ويُدبر جميعاً، - بأبي وأمي - لم يكن فاحشاً ولا متفحِّشاً ولا سخّاباً في الأسواق. زاد آدم: لم أرَ مثله قبله ولم أرَ مثله بعده.(3/306)
وعند أحمد عن أنس رضي الله عنه قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبّاباً ولا لعّاناً ولا فاحشاً، كان يقول لأحدنا عند المعاتبة: «ما له ترتب جبينه» ورواه البخاري، وعند البخاري أيضاً عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً، وكان يقول: «إن من خياركم أحسنَكم أخلاقاً» . ورواه مسلم، كذا في البداية.
حسن خلقه عليه السلام مع خادمه أنس
وأخرج مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أخذ أبو طلحة رضي الله عنه بيدي فانطلق بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أنساً غلام كَيِّس فيلخدمك. قال: فخدمته في السَّفَر والحَضَر، والله ما قال لي لشيء صنعته: لم صنعتَ هذا هكذا؟ ولا لشيء لم أصنعه: لم لم تصنع هذا هكذا؟. وعنده أيضاً عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقاً فأرسلني يوماً لحاجة فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله صلى الله عليه وسلم فخرجت حتى أمرّ على الصبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي، قال: فنظرت إليه وهو يضحك(3/307)
فقال: «يا أنس أذهبت حيث أمرتك؟» قال: قلت: نعم وأنا أذهب يا رسول الله، قال أنس: ولله لقد خدمته تسع سنين، ما علمته قال لشيء صنعته: لم فعلت كذا وكذا؟. أو لشيء تركته: هلاَّ فعلت كذا وكذا؟. أو لشيء تركته: هلاَّ فعلت كذا وكذا؟. وعنده أيضاً عنه قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، والله ما قال لي أفاً قط، ولا قال لي لشيء: لم فعلت كذا؟ وهلاَّ فعلت كذا؟ زاد أبو الربيع: لشيء ليس مما يصنعه الخادم، ولم يذكر قوله: والله. وأخرجه البخاري عن أنس بنحوه. وعند أحمد عن أنس قال: خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشرسنين، فما أمرني بأمر فتوانيت عنه أو ضيعته فلامني، وإن لامني أحد من أهله إلا قال: دعوه، فلو قُدِّر - أو قال: قُضي - أن يكون كان. كذا في البداية. وأخرجه ابن سعد عن أنس مثله.
وعند أبي نُعَيم في الدلائل (ص57) عن أنس رضي الله عنه قال: خدمتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم سنينَ فما سبَّني سبة قطّ، ولا ضربني ضربة، ولا انتهرني، ولا عبس في وجهي، ولا أمرني أمر فتوانيت فيه فعاتبني عليه، فإن عاتبني عليه أحد من أهله قال: «دعُوه فلو قُدِّر شيء لكان» . وعند ابن عساكر عن أنس رضي الله عنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا يومئذٍ ابن ثمان سنين، فذهبت بي أمي إليه فقالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا يومئذٍ ابن ثمان سنين، فذهبت بي أمي إليه فقالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنَّ رجال الأنصار ونساءهم قد أَتْحفوك غيري، وإني لم أجد ما أتحفك به إلا ابني هذا فتقبَّلْه مني يخدْمك ما بدا لك، فخدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، لم(3/308)
يضربني قط، ولم يسبني، ولم يعبس في وجهي. كذا في الكنز.
خلق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قول ابن عمر في أبي وعثمان وأبي عبيدة رضي الله عنهم
أخرج أبو نُعيم في الحلية عن عب الله بن عمر رضي الله عنهكا قال: ثلاثة من قريش أصبَحُ الناس وجوهاً، وأحسنها أخلاقاً، وأثبتها حياء، إن حدثوك لم يكذبوك وإن حدثتهم لم يكذبوك: أبو بكر الصديق، وعثمان ابن عفان، وأبو عبيدة الجراح رضي الله عنهم. وعند الطبراني عن عبد الله بن عمر قال: ثلاثة من قريش أصبح الناس وجوهاً، وأحسنهم خلقاً، وأشدهم حياء: أبو بكر وعثمان وأبو عبيدة. كذا في الإصابة، وقال: في سنده ابن لَهيعة.
شهادته عليه السلام بحسن خلق أبي عبيدة رضي الله عنه
وأخرج يعقوب بن سفيان عن الحسن رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أحد من أصحابي إلاَّ لو شئت لأخذت عليه في خُلُقه ليس أبا عبيدة بن الجراح» . كذا في الإصابة، وقال: هذا مرسل ورجاله ثقات - اهـ، وأخرجه الحاكم عن الحسن نحوه، وقال: هذا مرسل غريب ورواته ثقات.
قوله عليه السلام في عثمان: إنه أشبه أصحابه بي خلقا
وأخرج الطبراني عن عبد الرحمن بن عثمان القرشي رضي الله عنه أن(3/309)
رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على ابنته وهي تغسل رأس عثمان رضي الله عنه، فقال: «يا بنيّة أحسني إلي أبي عبد الله فإنَّه أشبه أصحابي بي خُلُقاً» . قال الهيثمي: رجاله ثقات. وعنده أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: دخلت على رقيّة رضي الله عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة عثمان رضي الله عنه وفي يدها مُشط، فقالت: خرج من عندي رسول الله صلى الله عليه وسلم آنفاً رجَّلت رأسه. فقال: «كيف تجدين أبا عبد الله؟» قلت: بخير، قال: «فأكرميه فإنَّه من أشبه أصحابي بي خُلُقاً» ، قال الهيثمي: وفيه محمد بن عبد الله يروي عن المطَّلب ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. اهـ. وأخرجه الحاكم وابن عساكر، كما في المنتخب.
قوله عليه السلام في خلق جعفر وزيد وعلي وابن جعفر رضي الله عنهم
وأخرج أحمد عن بعد الله بن أسْلَم رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجعفر رضي الله عنه: «أشبهت خَلْقي وخُلُقي» . وإسناده حسن، كما قال الهيثمي. وعند ابن أبي شَيْبة وأبي يَعْلى والبيهقي عن علي رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وجعفر وزيد - رضي الله عنهم - فقال لزيد: «أنت أخونا(3/310)
ومولانا» فحجل، ثم قال لجعفر: «أشبهت خَلْقي وخُلُقي» ، فحجل وراء حَجْل زيد، ثم قال لي: «أنت منِّي وأنا منك» فحجلت وراء حَجحل جعفر. كذا في المنتخ. وعند الطبراني عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجعفر: «خُلُقك كخلقي، وأشبَهَ خَلْقي خَلْقك، فأنت منِّي، وأنت يا علي فمني وأبو ولدي» قال الهيثمي: رواه الطبراني عن شيخه أحمد ابن عبد الرحمن بن عفَّال وهو ضعيف. انتهى. وأخرج العُقَيلي وابن عساكر عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم كلمة ما أحبُّ أنَّ لي حُمْر النَّعَم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «جعفر أشبَه خَلْقي وخُلُقي، وما أنت يا عبد الله فأشبه خَلْق الله بأبيك» . كذا في المنتخب.
حسن خلق عمر رضي الله عنه
وأخرج ابن سعد عن بَحْريَّة قالت: استوهب عمي خِداش رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم قصعة رآه يأكل فيها فكانت عندنا، فكان عمر رضي الله عنه يقول: أخرجوها إليَّ، فنملؤها من ماء زمزم فنأتيه بها فيشرب منها ويصب على رأسه ووجه، ثم إنَّ سارقاً عَدَا علينا فسرقها مع متاع لنا، فجاءنا عمر(3/311)
رضي الله عنه بعدما سُرقت فسألنا أن نخرجها له، فقلنا: يا أمير المؤمنين سرقت في متاع لنا، فقال: - لله أبوه - سرق صَحْفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فوالله ما سبّه ولا لعنه، وأخرجه أيضاً ابن بُشْران فيأماليه، كما في المنتخب.
وأخرج البخاري وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم عيينة بن حصن (بن حذيفة) بن بدر رضي الله عنه فنزل على ابن أخيه الحرِّ بن قيس رضي الله عنه - وكان من النفر الذين يُدينهم عمر رضي الله عنه، وكان القرّاء أصحاب مجلس عمر ومشورته كهولاً كانوا أو شباناً -، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه، فاستأذن له فأذن له (عمر) ، فلما دخل عليه قال: هِي يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجَزْل، ولا تحكم بيننا بالعدل فغضب عمر حتى همَّ أن يُوقع به، فقال الحر: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم {خُذِ الْعَفْوَ} {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} {وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ} (سورة الأعراف، الآية: 119) . وإنَّ هذا من الجاهلين. فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وفاقاً عند كتاب الله عز وجل. كذا في المنتخب. وعند ابن سعد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ما رأيت عمر غضب قط فذُكر الله عنده أو خُوِّف، أو قرأ عنده إنسان آية من القرآن إلا رقد عما كان يريد.(3/312)
وعند أسلم قال قال بلاد رضي الله عنه: يا أسلم كيف تجدون عمر؟ قلت: خير، إذا غضب فهو أمر عظيم، فقال بلال: لو كنت عنده إذا غضب قرأت عليه القرآن حتى يذهب غضبه. وعن مالك الدار قال: صاح عليَّ عمر رضي الله عنه يوماً وعلاني بالدِّرَّة فقلت: أذكِّرك بالله، فطرحها فقال: لقد ذكرتني عظيماً. كذا في المنتخب.
حسن خلق مصعب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما
وأخرج ابن سعد عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: كان مصعب ابن عيمر رضي الله عنه لي خِدْناً وصاحباً منذ يوم أسلم إلى أن قتل رحمه الله بأُحد، خرج معنا إلى الهجرتين جميعاً بأرض الحبشة، وكان رفيقي من بين القوم، فلم أرَ رجلاً قط كان أحسن خلقاً ولا أقلَّ خلافاً منه. وأخرج ابن سعد عن حَبَّة ابن جُوعين قال: كنا عند علي رضي الله عنه فذكرنا بعض قول عبد الله (بن مسعود) رضي الله عنه، وأثنى القوم عليه فقالوا: يا أمير المؤمنين، ما رأينا رجلاً كان أحسن خلقاً، ولا أرفق تعليماً، ولا أحسن مجالسة، ولا أشد ورعاً من عبد الله بن مسعود فقال علي: نشدتكم الله إنَّه لصدق من قلوبكم؟ قالوا: نعم، فقال: اللهم إني أشهدك الهمَّ إني أقول فيه(3/313)
مثل ما قالوا أو أفضل، وزاد في رواية أخرى عنه: قرأ القرآن فأحلَّ حلاله وحرَّم حرامه، فقيه في الدين، عالم بالسنَّة.
حسن خلق ابن عمر ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما
وأخرج أبو نُعَيم في الحلية عن الزُّهري عن سالم قال: ما لعن ابن عمر رضي الله عنهما قطّ خادماً إلا واحداً فأعتقه. وقال الزُّهْري: أراد ابن عمر أن يلعنَ خادمه فقال: اللهمّ العَ، فلم يتمّها وقال: هذه كلمة ما أحب أن أقولها. وقد تقدَّم حديث جابر رضي الله عنه في رغبة الصحابة في الإنفاق قال: كان معاذ بن جبل رضي الله عنه من أحسن الناس وجهاً، وأحسنهم خلقاً، وأسمحهم كفّاً - فذكره. أخرجه الحاكم بطوله.
الحلم والصفح
حمل النبي صلى الله عليه وسلم حلمه عليه السلام على من طعن في قسمته الغنائم يوم حنين
أخرج البخاري عن عبد الله رضي الله عنه قال: لما كان يوم حُنَين آثر النبي صلى الله عليه وسلم ناساً، أعطى الأقرع بن حابس رضي الله عنه مائة من الإبل، وأعطى عُيَينة رضي الله عنه مثل ذلك، وأعطى ناساً، فقال رجل: ما أريد بهذه القسمة وجهُ الله، فقلت: لأخبرنَّ النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: «رحم الله موسى، قد أُوذي بأكر من هذا فصبر» وفي رواية للبخاري فقال رجل: والله إنَّ هذه لقسمة ما عُدل فيها وما أريد فيها وجه الله، فقلت: والله لأخبرنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته(3/314)
فقال: «من يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟ رحم الله موسى، قد أوذي بأكثر فصبر» .
حلمه عليه السلام على ذي الخويصرة
وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يَقْسم قَسْماً إذ أتاه ذو الخُوَيصرة - رجل من بني تميم - فقال: يا رسول الله اعدل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ويلك ومن يعدل إن لم أعدل لقد خبتُ وخسرتُ إذا لم أعدل فمن يعدل؟» فقال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله ائذن لي فأضرب عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «دَعْه فإنّ له أصحاباً يَحْقِر أحدُكم صلاتَه مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقَيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرُق السهم من الرَّميَّة، ينظر إلى نَصْله فلا يوجد فيه شيء، ثم إلى رُصافة فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نَضِيَّة - وهو قِدْحه - فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى قُذَذه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفَرْث والدم، آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تَدَرْدَرُ، ويخرجون على حين فُرْقة من الناس» ، قال أبو سعيد: فأشهد أنِّي سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم(3/315)
وأشهد أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قاتلهم وأنا معه، وأمر بذلك الرجل فالتُمس فأُتي به حتى نظرت إليه على نَعْت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نعت. كذا في البداية.
حلمه عليه السلام على عمر في وفاة عبد الله بن أُبي
وأخرج الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن عبد الله بن أَبي لما توفي جاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أعطني قميصك أكفنه فيه، وصلِّ عليه واستغفر له، فأعطاه قميصه وقال: «آذنِّي أصلِّ عليه» فآذنه، فلما أراد أن يصلِّي جذبه عمر فقال: أليس الله نهاك أن تصلِّي على المنافقين؟ فقال: «أنا بين خِيَرتين، قال: «اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ» فصلَّى عليه فنزل هذه الآية: {وَلاَ تُصَلّ عَلَى أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَداً} (سورة التوبة، الآية: 84) . وعند أحمد عن عمر قال: لمَّا توفي عبد الله بن أبي دُعي رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه فقام إليه، فلما وقف عليه يريد الصلاة تحوَّلتُ حتى قمتُ في صدره فقلت: يا رسول الله أَعَلى عدوِّ الله عبد الله بن أُبيّ القائل يوم كذا كذا وكذا - يعدِّد أيامه - قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسِّم، حتى إذا أكثرتُ عليه قال: «أخِّر عني يا عمر، إني خُيِّرت فاخترتُ، قد قيل لي «استغفر لهم» - الآية، لو أعلم أنِّي لو زدت على السبعين غُفر له لزدتُ» قال: ثم صلَّى عليه ومشى معه وقام(3/316)
على قبره حتى فرغ منه، قال: فعجبتُ من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ورسولُه أعلم قال: فوالله ما كان إلا يسيراً حتى نزلت هاتان الآيتان {وَلاَ تُصَلّ عَلَى أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَداً} - الآية، فما صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على منافق، ولا قام على قبره حتى قبضه الله عز وجل. وهكذا رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، ورواه البخاري مثله: وعند أحمد عن جابر رضي الله عنه قال: لما مات عبد الله بن أُبيّ أتى ابنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنك إن لم تأته لم نزل نُعيَّر بهذا، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فوجده قد أُدخل في حفرته فقال: «أفلا قبل أن تُدخلوه» فأُخرج من حفرته وتَفَل عليه من ريقه من قَرْنه
إلى
قدمه وألبسه قميصه؛ ورواه النِّسائي. وعند البخاري عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أُبيّ بعدما أُدخل في قبره فأَمر به فأُخرج ووضع على ركبتيه، ونفث عليه من ريقه وألبسه قميصه. كذا في التفسير لابن كثير.
حلمه عليه السلام على اليهودي الذي سحره
وأخرج أحمد عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: سحر النبي صلى الله عليه وسلم(3/317)
رجلٌ من اليهود لذلك أياماً، قال: فجاءه جبريل عليه السلام فقال: إنَّ رجلاً من اليهود سحرك، عقد لك عقداً في بئر كذا وكذا فأرسْلْ إليها من يجيىء بها. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم (علياً رضي الله تعالى عنه) فاستخرجها فجاءه بها فحلَّلها، قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما نَشِط من عَقال، فما ذكر ذلك لليهود ولا رآه في وجهه حتى مات ورواه النسائي.
وعند البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سُحر حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن - قال سفيان: وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان كذا - فقال: «يا عائشة أعلمتِ أنَّ الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه، أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجليَّ، فقال الذي عند رأسي للآخر: ما بال الرجل؟ قال: مطبوب، قال: ومن طَبَّه؟ قال: لبيد بن أعصم - رجل من بني رُزَيق حليف اليهود كان منافقاً -، قال: وفيم؟ قال: في مُشْط ومُشَاطة، قال: وأين؟ في جُفِّ طلعة ذكرٍ تحت راعوفة في بئر ذَرْوان» قالت: فأتى البئر حتى استخرجه، فقال: هذه البئر التي أُريتها وكأن ماءها نُقاعة الحنَّاء وكأن نخلها رؤوس الشياطين، قال:(3/318)
فاستخرج فقلت: أفلا تَنَشَّرت، فقال: «أمَّا الله فقد شفاني وأكره أن أثير على أحد من النسا شراً» ؛ ورواه مسلم وأحمد أيضاً عن عائشة قالت: لبث النبي صلى الله عليه وسلم ستة أشهر يرى أنه يأتي النساء ولا يأتي، فأتاه مَلَكان - فذكر الحديث. كذا في التفسير لابن كثير.
حلمه عليه السلام على اليهودية التي قدَّمت له شاة مسمومة
وأخرجه الشيخاان عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة، فأكل منها، فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك قالت: أردت لأقتلك، فقال: «ما كان الله ليسلطك عليَّ - أو قال: على ذلك -» قالوا: ألا تقتلها؟ قال أنس: فما زلت أعرفها في لَهَوات رسول الله صلى الله عليه وسلم
Y وعند البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن امرأة من يهود أهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مسمومة، فقال لأصحابه: «أمسكوا فإنَّها مسمومة» وقال لها: «ما حملك على ما صنعت؟» قالت: أردت أن أعلم إن كنت نبياً فسيطلعك الله عليه، وإن كنت كاذباً أريح الناس منك، قال: فما عرض لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ورواه أبو داود نحوه وأحمد والبخاري عن أبي هريرة(3/319)
مطوّلاً. وعند أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما نحو حديث أبي هريرة عند البيهقي وزاد: قال فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد من ذلك شيئاً احتجم، قال: فسافر مرّة، فلما أحرم وجد من ذلك شيئاً فاحتجم. تفرَّد به أحمد وإسناده حسن.
وعند أبي داود عن جابر رضي الله عنه أن يهودية من أهل خيبر سمَّت شاة مصليَّة ثم أهدتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذرع فأكل منها وأكل رهط من أصحابه معه، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «ارفعوا أيديكم» . وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المرأة فدعاها فقال لها: «أسَممتِ هذه الشاة؟» قالت اليهودية: من أخبرك؟ قال: «أخبرتني هذه التي في يدي» - وهي الذراع - نعم، قال: «فما أردت بذلك؟» قالت: قلت إن كنت نبياً فلن تضرك، وإن لم تكن نبياً استرحنا منك، فعفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولميعاقبها، وتوفي بعض أصحابه الذين أكلوا من الشاة، واحتجم النبي صلى الله عليه وسلم على كاهله من أجل الذي أكل من الشاة، حجمه أبو هند رضي الله عنه بالقرن والشفرة، وهومولى لبني بياضة من الأنصار. وأخجره أبو داود عن أبي سلمة رضي الله عنه نحو حديث جابر، وفي حديثه قال: فمات بشر بن البراء ابن المعرور رضي الله عنهما - فذكره، وفيه: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقُتلت. وعند ابن إسحاق عن مروان بن عثمان بن أبي سعيد بن الم2لَّى رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال في مرضه الذي توفي فيه - ودخلت عليه أخت بشر ابن البراء بن المعرور -: «يا أمَّ بِشْر، إنّ هذا الأوان وجدتُ انقطاع أبْهري من(3/320)
الأكلة التي أكلت مع أخيك بخيبر» ، - قال ابن هشام: الأبْهر العرق المعلَّق بالقلب -، قال: فإن كان المسلمون ليرَون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات شهيداً مع ما أكرمه الله به من النبوة. وهكذا ذكر موسى بن عقبة عن الزّهري عن جابر. انتهى، من البداية مختصراً.
حلمه عليه السلام على رجل أراد أن يقتله
وأخرج أحمد عند جعدة بن خالد بن الصِّمَّة الجُشَمي رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ـ ورأى رجلاً سميناً فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يومىء إلى بطنه بيده - ويقول: «لو كان هذا في غير هذا لكان خيراً لك» قال: وأُتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل فقيل: هذا أراد أن يقتلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «لم تُرَعْ، ولو أردتَ ذلك لم يسلطك الله عليَّ» . قال الخفاجي: أخرجه أحمد والطبراني بسند صحيح. اهـ.
حلمه عليه السلام على جماعة من قريش أرادت الغدر يوم الحديبية
وأخرج أحمد عن أنس رضي الله عنه قال: لما كان يوم الحديبية هبط على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثمانون رجلاً من أهل مكة بالسلاح من قِبَل جبل التَّنْعيم يريدون غِرَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا عليهم فأُخذوا -، قال عفان: - فعفا عنهم، ونزلت هذه الآية {وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} (سورة الفتح، الآية: 24) . ورواه مسلم وأبو داود(3/321)
والترمذي والنسائي؛ وأخرجه أحمد أيضاً والنَّسائي من حديث عبد الله بن مُغَفَّل رضي الله عنه مطوَّلاً وفيه: فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شاباً عليهم السلاح، فثاروا في وجوهنا، فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الله تعالى بأسماعهم، فقمنا إليهم فأخذناهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هل جئتم في عهد حد؟ - أو هل جعل لكم أحد أماناً؟» فقالوا: لا، فخلَّى سبيلهم، فأنزل الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِى كَفَّ} - الآية. كذا في التفسير لابن كثير.
حلمه عليه السلام على قبيلة دَوْس
وأخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء الطفيل ابن عمر الدَّوْسي رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن دَوْساً قد عَصَت وأبت فادْعُ الله عليهم، فاستقبل القبلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفع يديه، فقال الناس: هلكوا، فقال: «اللهمَّ اهدِ دَوْساً وائتِ بهم، اللهمَّ اهْدِ دَوْساً وائت بهم، اللهمَّ اهدِ دَوْساً وائت بهم» .
حلم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أخرج عبد الغني بن سعيد في إيضاح الإشكال عن أبي الزعراء رضي الله عنه قال: كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: إني وأطايب أزواجي وأبرار عترتي أحلم الناس صغاراً وأعلم الناس كباراً، بنا ينفي الله الكذب، وبنا يعقبر(3/322)
الله أنياب الكَلِب، وبنا يفك الله عنوتكم وينزع ربق أعناقكم. وبنايفتح الله ويختم. كذا في منتخب الكنز، وقد تقدَّم قول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: ما رأيت أحداً أحضر فهماً، ولا ألب لباً، ولا أكثر علماً، ولا أوسع حلماً من ابن عباس رضي الله عنهما. أخرجه ابن سعد في مشاورة أهل الرأي.
الشفقة والرحمة
شفقة النبي صلى الله عليه وسلم تخفيفه عليه السلام الصلاة لبكاء الأطفال وقصته مع رجل في الشفقة
أخرج الشيخان عن أنس رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «إني لأدخل الصلاة وأنا أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبي فأتجوَّز» في صلاتي مما أعلم من شدة وَجْد أمه من بكائه» . كذا في صفة الصفوة (ص66) . وأخرج مسلم عن أنس رضي الله عنه قال قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم أين أبي؟ قال: «في النار» ، فلما رأى ما في وجهه قال: «إنَّ أبي وأباك في النار» . انفرد بإخراجه مسلم، كذا في صفة الصفوة.(3/323)
قصته عليه السلام مع أعرابي أغلظ له القول
وأخرج البزّار عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينه في شيء - قال عكرمة أراه قال في دَمٍ -، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، ثم قال: «أحسنت إليك؟» ، قال الأعرابي: لا، ولا أجملت، فغضب بعض المسلمين وهمُّوا أن يقوموا إليه، فأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم أن كفُّوا، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغ إلى منزله دعا الأعرابي إلى البيت فقال: «إنك جئتنا تسألنا فأعطنياك، فقلت ما قال» ، فزاده رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً وقال: «أحسنت إليك؟» ، فقال الأعرابي: نعنم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً. قال النبي صلى الله عليه وسلم «إنك جئتنا فسألتنا فأعطيناك فقلت ما قلت، وفي أنفس أصحابي عليك من ذلك شيء، فإذا جئت فقل بين أيديهم ما قلتَ ما بين يديَّ حتى يذهب عن صدورهم» فقال: نعم، فلما جاء الأعرابي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن صاحبكم كان جاءنا فسألنا فأعطيناه فقال ما قال، وإنا قد دعوناه فأعطيناه فزعم أنه قد رضي، أكذلك يا أعرابي؟» فقال الأعرابي: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «إن مَثَلي ومثَلَ هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة، فشردت عليه، فاتَّبعها الناسفلم يزيدوها إلا نفوراً. فقال لهم صاحب الناقة: خلُّوا بيني وبين ناقتي فأنا أرفق بها وأنا أعلم بها، فتوجَّه إيها وأخذ لها من قُشام الأرض ودعاها، حتى جاءت واستجابت وشدَّ عليها رحلها، وإنِّي لو أطعتكم حيث قال ما قال لدخل النار» ، قال البزّار: لا نعلمهُ يروي إلا من هذا الوجه، قلت: وهو ضعيفٌ بحال إبراهيم بن الحكم بن أبان. كذا في التفسير لابن كثير؛ وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه وأبو(3/324)
الشيه وابن الجوزي في الوفاء، كما قال الخفاجي.
شفقة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم >
أخرج الدينوري عن الأصمعي قال: كلَّم الناس عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن يكلِّم عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أن يلين لهم حتى خاف الأبكار في خدورهن، فكلمه عبد الرحمن فقال: إني لا أجد لهم إلاَّ ذلك، والله لو أنهم يلعمون ما لهم عندي من الرأفة والرحمة والشفقة لأخذوا ثوبي عن عاتقي كذا في منتخب الكنز.
الحياء
حياء النبي صلى الله عليه وسلم قول أبي سعيد الخدري في حياته عليه السلام
أخرج البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد حياء من اعذاء في خِدْرها، وزاد في رواية: وإذا كره شيئاً عُرف ذلك في وجهه. ورواه مسلم، كذا في البداية، والترمذي في الشمائل (ص26) وابن(3/325)
سعد، وأخرجه الطبراني عن عِمران بن حُصَين نحوه، قال الهيثمي917) : رواه الطبراني بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح - اهـ. وأخرجه البزّار عن أنس رضي الله عنه نحوه وزاد: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه وزاد: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الحياء خير كله» . قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير محمد بن عمر المقدَّمي وهو ثقة.
استحياؤه عليه السلام أن يواجه أصحابه بما يكرهون
وأخرج أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على رجل صفرة فكرهها، قال: فلما قام قال: «لو أمرتم هذا أن يغسل عنه هذه الصفرة» قال: وكان لا يكاد يواجه أحداً بشيء يكرهه، ورواه أبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي في اليوم والليلة.
وعند أبي داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن رجل شيء لم يقل: ما بال فلان يقول؟ ولكن يقول: «ما بال أقوام يقولون كذا وكذا» . كذا في البداية.
قول عائشة في استتاره عليه السلام عن أهله
وأخرجه الترمذي في الشمائل (ص26) عن موسى بن عبد الله بن يزيد الخطمي(3/326)
عن مولى لعائشة رضي الله عنها قال قالت عائشة: ما نظرت إلى فرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أو قالت: ما رأيت فرج رسول الله قطّ.
حياء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قوله عليه السلام في حياء عثمان رضي الله عنه
أخرج أحمد عن سعيد بن العاص رضي الله عنه أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وعثمان - رضي الله عنهما - حدّثاه أن أبا بكر رضي الله عنه استأذن على النبي وهو مضطجع على فراشه لابس مرط عائشة، فأذن لأبي بكر وهو كذلك فقضى إليه حاجته ثم انصرف، فاستأذن عمر رضي الله عنه فأذن له وهو على تلك الحالة فقضى إليه حاجته ثم انصرف، قال عثمان: ثم استأذنت عليه فجلس وقال: «اجمعي عليك ثيابك» فقضيت إليه حاجتي ثم انصرفت، فقالت عائشة: يا رسول الله ما لي لا أراك فزعت لأبي بكر وعمر كما فزعت لعثمان؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنَّ عثمان رجل حيّي، وإني خشيت إن أذنت له على تلك الحالة لا يبلغ إلى حاجته» ، قال الليث: وقال جماعة الناس: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: «ألا أستحيي ممَّن تستحي منه الملائكة» ورواه مسلم وأبو يَعْلى عن عائشة ورواه أحمد من وجه آخر عن عائشة بنحوه وأحمد والحسن بن عرفة عن حفصة رضي الله عنها مثل حديث عائشة.
وعند الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وعائشة رضي الله عنها وراءه إذ اتسأذن أبو بكر رضي الله عنه فدخل، ثم استأذن عمر رضي الله عنه فدخل، ثم استأذن سعد بن مالك رضي الله عنه(3/327)
فدخل، ثم استأذن عثمان بن عفان رضي الله عنه فدخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدث كاشفاً عن ركبتيه، فرد ثوبه على ركبته حين استأذن عثمان، وقال لامرأته: «استأخري» . فتحدّثوا ساعة ثم خرجوا، فقالت عائشة: يا نبي الله دخل أبي وأصحابه فلم تصلح ثوبك على ركبتك ولم تؤخرني عنك فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ألا أستحي من رجل تستحيي منه الملائكة، والذي نفسي بيده إن الملائكة لتستحي من عثمان كما تستحيي من الله ورسوله، ولو دخل وأنت قريب مني لم يتحدث ولم يرفع رأسه حتى يخرج» . هذا حديث غريب من هذا الوجه وفيه زيادة على ما قبله وفي سنده ضعف. كذا في البداية (7203 و204) وحديث حفصة رضي الله عنها أخرجه أيضاً الطبراني في الكبير والأوسط مطوَّلاً وأبو يعلى باختصار كثير وإسناده حسن، كما قال الهيثمي، وحديث ابن عمر أخرجه أيضاً أبو يعلى نحوه وفيه إبراهيم بن عمر بن أبان وهو ضعيف، كما قال الهيثمي.
حديث الحسن عن حياء عثمان وأبي بكر رضي الله عنهما
وأخرج أحمد عن الحسن رضي الله عنه - وذكر عثمان رضي الله عنه وشدة حيائه - قال: إن كان ليكون في البيت والباب عليه مغلق فما يضع عنه ثوبه ليفيض عليه الماء يمنعه الحياء أن يقيم صلبه. قال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله ثقات - اهـ. ورواه أبو نُعَيم في الحلية مثله:(3/328)
وأخرجه سفيان عن عائشة رضي الله عنها قلت: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: استحيوا من الله فإني لأدخل الخلاء فأقنِّع رأسي حياء من الله عز وجل. كذا في الكنزل.
حياء عثمان بن مظعون رضي الله عنه
وأخرج ابن سعد عن سعد بن مسعود رضي الله عنه وعُمارة بن غُراب اليَحْصُبي أن عثمان بن مظعون رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنِّي لا أحب أن ترى امرأتي عورتي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ولم؟» قال: أستحيي من ذلك وأكرهه، قال: «إنَّ الله جعلها لك لباساً وجعلك لها لباساً وأهلي يرون عورتي وأنا أرى ذلك منهم» ، قال: أنت تفعل ذلك يا رسول الله؟ قال: «نعم» ، قال: فمن بعدك، فلما أدبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن ابن مظعون لحيّي ستِّير» .
حياء أبي موسى الأشعري رضي الله عنه
وأخرج أبو نُعَيم في الحلية عن أبي مِجْلَز قال قال أبو موسى رضي الله عنه: إني لأغتسل في البيت المظلم فما أقيم صلبي حتى أخذ ثوبي حياء نم ربي عز وجل. وأخرجه ابن سعد عن أبي مِجْلَز نحوه وعن ابن سيرين مثله، وعنده أيضاً عن قتادة رضي الله عنه قال: كان أبو موسى إذا اغتسل في بيت مظلم تجاذب وحنى ظهره حت يأخذ ثوبه ولا ينتصب قائماً.(3/329)
وعنده أيضاً عن أنس رضي الله عنه قال: كان أبو موسى الأشعري إذا نام لبس ثياباً عند النوم مخافة أن تنكشف عورته. وأخرج أيضاً عن عبادة بن نُسَيّ قال: رأى أبو موسى قوماً يقفون في الماء بغير أُزر فقال: لأن أموت ثم أنشر، ثم أموت ثم أنشر، ثم أموت ثم أنشر أحب إليَّ من أن أفعل مثل هذا
حياء الأشجّ بن عبد القيس رضي الله عنه
وأخرج ابن أبي شَيْبة وأبو نعيم عن الأشجّ - أشجِّ عبد القيس رضي الله عنه - قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنَّ فيك لخُلُقين يحبهما الله» ، قلت: ما هما؟ قال: «الحلم والحياء» ، قلت: قديماً كانا فيَّ أو حديثاً؟ قال: «لا» ، بل قديماً» ، قلت: الحمد لله الذي جبلني على خُلُقين يحبهما الله. كذا في منتخب الكنزه.
التواضع
تواضع النبي صلى الله عليه وسلم
قصته عليه السلام مع جبريل وملك آخر
أخرج أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جلس جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى السماء، فإذا ملك ينزل، فقال جبريل: هذا(3/330)
الملك ما نزل منذ خُلق قبل الساعة، فلَّما نزل قال: يا محمد أرسلني إليك ربك؛ أفَملكاً نبياً أجعلك أو عبداً رسولاً؟ قال جبريل: تواضع لربك يا محمد. قال: «بل عبداً رسولاً» . قال الهيثمي: رواه أحمد والبزّار وأبو يعلى ورجال الأوَّلين رجال الصحيح، ورواه أبو يعلى بإسناده حسن، كما قال الهيثمي عن عائشة رضي الله عنه بمعناه مع زيادة في أوله وزاد في آخره: قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لا يأكل متكئاً يقول: «آكل ما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد» . وقد تقدَّم حديث ابن عباس رضي الله عنه بمعناه في رد المال عند الطبراني وغيره.
قول أبي أمامة الباهلي في حيائه عليه السلام
وأخرج الطبراني عن أبي غالب قال: قلت لأبي أمامة رضي الله عنه: حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، يكثر الذكر، ويُقصِّر الخطبة، ويطيل الصلاة، ولا يأنف ولا يستكبر أن يذهب مع المسكين والضعيف حتى يفرغ من حاجته. وإسناده حسن، كما قال الهيثمي. وأخرجه البيهقي والنسائي عن عبد الله بن أبي أوفي رضي الله عنه نحوه كما في البداية.(3/331)
قول أنس في هذا الأمر
وأخرجه الطيالسي عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر الذكر، ويقبل اللغو، ويركب الحمار، ويلبس الصوف، ويجيب دعوة المملوك، ولو رأيته يوم خيبر على حمارٍ خِطامه من ليف وفي الترمذي عن أنس: يعود المريض، ويشهد الجنازة. وأخرجه ابن سعد عن أنس بطوله.
قول أبي موسى وابن عباس وأنس في هذا الأمر
وأخرج البيهقي عن أبي موسى رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركب الحمار، ويلبس الصوف، ويعتقل الشاة، ويأتي مراعاة الضيف. وهذا غريب من هذا الوجه ولم يخرِّجوه وإسناده جيدا؛ كذا في البداية وأخرجه الطبراني عن أبي موسى مثله ورجاله رجال الصحيح، كما قال الهيثمي. وعند الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: يجلس على الأرض ويأكل على الأرض، ويعقل الشاة، ويجيب دعوة الملوك على خبز الشعير، وإسناده حسن كما قال الهيثيم وعنده أيضاً عنه قال: إن كان الرجل من أهل العوالي ليدعو رسول(3/332)
الله صلى الله عليه وسلم بنصف الليل على خبز الشعير فيجيب. ورجاله ثقات، كما قال الهيثمي. وعند الترمذي في الشمائل (ص23) عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُدعى إلى خبز الشعير والإِهالة السَّنِخَة فيجيب، ولقد كانت له درع عند يهودي فما وجد ما يفكُّها حتى مات.
لغاية ص 250
تابع
قول عمر بن الخطاب أيضا
وأخرج أبو يعلى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً نادى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً كل ذلك يردُّ عليه: «لبيك، لبيك» قال الهيثمي: رواه أبو يَعْلى في الكبير عن شيخه جُبارة بن المغلِّس، وثَّقه ابن نُمير وضعَّفه الجمهور وبقية رجاله ثقت رجال الصحيح. انتهى. وأخرجه أيضاً أبو نُعَيم في الحلية وتمَّام والخطيب، كما في الكنز.
قصته عليه السلام مع امرأة
وأخرج الطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: كانت امرأة ترافث الرجال وكانت بذيئة، فمرّت بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يأكل ثريداً على طِرْبال(3/333)
فقالت: انظروا إليه يجلس كما يجلس العبد، ويأكل كما يأكل العبد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «وأيُّ عبد أعبد مني؟» قالت: ويأكل ولا يطعمني، قال: «فكلي» قالت: ناولني بيدك، فناولها، فقالت: أطعمني مما في فيك، فأعطاها، فأكلت فغلبها الحياء فلم ترافث أحداً حتى ماتت. وإسناده ضعيف، كما قال الهيثمي.
قوله عليه السلام لرجل ارتعد أمامه
وأخرج الطبراني عن جرير رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم من بين يديه فاستقبلته رِعْدة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «هوِّن عليك فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد» قال الهيثمي: وفيه من لم أعرفهم. وأخرجه البيهقي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلاً كلَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فأخذته الرِعْدة - فذكر نحوه، كما في ابداية. وأخرج البزّار عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجدة فانقطع شِسْعه، فأخذت نعله لأصلحها، فأخذها من يدي وقال: «إنها أَثَرة ولا أحب الأثرة» . قال الهيثمي: وفيه من لم أعرفه اهـ.
رفضه عليه السلام أن يتميز عن أصحابه
وأخرج الطبراني عن عبد الله بن جبير الخزاعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمشي في أناس من أصحابه فتستَّر بثوب، فلما رأى ظلُّه رفع رأسه(3/334)
فإذا هو بملاءة قد سُتر بها فقال له: «مَهْ» . وأخذ الثوب فوضعه، فقال: «إنما أنا أبشر مثلكم» ورجاله رجال الصحيح، كما قال الهيثمي. وأخرج البزّار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال العباس: قلت: لا أدري ما بقيُّ رسول الله فينا، فقلت: يا رسول الله لو اتخذت عريشاً يظلك. قال: «لا أزال بين أظهرهم يطأون عقبي، وينازعون ردائي، حتى يكون الله يرحني منهم» . ورجاله رجال الصحيح، كما قال الهيثمي. وأخرجه الدارمي عن عكرمة رضي الله عنه قال قال العباس: لأعلمنَّ ما بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا، فقال: يا رسول الله، إني أراهم قد آذَوك وآذاك غبارهم، فلو اتخذتَ عَرْشاً تكلمهم منه، فقال: «لا أزال» فذكر نحوه وزاد: فعلمت أن بقاءه فينا قليل. كذا في جمع الفوائد، وأخرجه ابن سعد عن عكرمة نحوه.
أقوال عائشة في عمله عليه السلام في بيته
وأخرج أحمد عن الأسود قال قلت لعائشة رضي الله عنها: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع إذا دخل بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله، فإذا حضرت(3/335)
الصلاة خرج فصلَّى. ورواه البخاري وابن سعد نحون. وعند البيهقي عن عروة رضي الله عنه قال: سأل رجل عائشة: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل في بيته؟ قالت: نعم، كان يخْصف نعله، ويخيط ثوبه كما يعلم أحدكم في بيته. وعند البيهقي عن عمرة قالت: قلت لعائشة: ما كان يعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته؟ قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراً من البشر يفلي ثوبه، ويحلُب شاته، ويخدم نفسه. ورواه الترمذي في الشمائل؛ كذا في البداية.
قول ابن عباس وجابر في بعض أحواله عليه السلام في التواضع
وعند القزويني بضعف عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يَكِل طَهوره إلى أحد، ولا صدقته التي يتصدق بها يكون هو الذي يتولاّها بنفسه. كذا في جمع الفوائد. وأخرجه البخاري عن جابر رضي الله عنه قال: جاء النبي صلى الله عليه وسلم يعودني(3/336)
ليس براكب بغلاً ولا بِرذوناً. كذا في صفة الصفوة؛ وأخرج الترمذي في الشمائل (ص24) عن أنس رضي الله عنه قال: حجَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على رَحْل رَثَ وعليه قطيفة لا تساوي أربعة دراهم فقال: «اللهمَّ اجعله حجّاً لا رياء فيه ولا سمعة» .
تواضعه عليه السلام حين دخل مكة عام الفتح
وأخرج أبو يَعْلى عن أنس رضي الله عنه قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة استشرفه الناس، فوضع رأسه على رحله تخشُّعاً. قال الهيثمي: وفيه عبد الله بن أبي بكر المقدَّمي وهو ضعيف. اهـ. وأخرجه البيهقي عن أنس قال: دخل رسول الله مكة يوم الفتح وذقته على راحلته متخشِّعاً. وقال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضع رأسه تواضعاً لله حين رأى ما أكرمه الله به من افتح حتى إن عُثنونه ليكاد يمس واسطة الرَّحْل. كذا في البداية.(3/337)
منعه عليه السلام أبا هريرة أن يحمل له متاعه ومنعه بائعاً أن يقبل يده
وأخرج الطبراني في الأوسط وأبو يعلى عن أبي هرية رضي الله عنه أنَّه قال: دخلت يوماً السوق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس إلى الرزازين فاشترى سراويل بأربعة دراهم، وكان لأهل السوق وزَّان، فقال له: زن وأرجح، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السراويل فذهبت لأحمل عنه فقال: «صاحب الشيء أحقُّ بشيئه أن يحمله، إلا أن يكون ضعيفاً فيعجز عنه، فيعينه أخوه المسلم» . فقلت: يا رسول الله إنك لتلبس السراويل؟ قال: «أجل، في السفر والحضر، وبالليل والنهار، فإني أُمرت بالستر فلم أجد شيئاً أستر منه» . أخرجه من طريق ابن زياد الواسطي، وأخرجه أحمد وفي سنده ابن زياد وهو وشيخه ضعيفان؛ كذا في نسيم الرياض وقال: أنجبر ضعفه بمتابعته، ومنه يعلم أن تخطئة ابن القيِّم لا وجه لها. انتهى، وذكر الحديث الهيثمي في المجتمع عن أبي(3/338)
هريرة مثله وزاد: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «زِنْ وأرجح» فقال الوزّان: إنَّ هذه لكلمة ما سمعتها من أحد، فقال أبو هريرة: فقلت له: كفاك من الرَّهَق والجفاء في دينك ألاَّ تعرف نبيك فطرح الميزان ووثب إلى يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يقبلها، فحذف رسول الله صلى الله عليه وسلم يده منه فقال: «ما هذا إنما يفعل هذا الأعاجم بملوكها، ولست بملك إنما أنا رجل منكم» ، فوزن وأرجح وأخذ - فذكر مثله؛ قال الهيثمي: رواه أبو يَعْلى والطبراني في الأوسط وفيه يوسف بن زياد وهو ضعيف.
تواضع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ركوب عمر البعير في سفره إلى الشام
أخرج ابن عساكر عن أسلم قال: قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشام على بعير، فجعلوا يحِّثون بينهم، فقال عمر: تطمح أبصارهم إلى مراكب من لا خلاق له. وأخرجه ابن المباكر؛ كذا في المنتخب.
تعليم عمر النساء صنع العصيدة
وأخرج ابن سعد عن حِزام بن هشام عن أبيه قال: رأيت عمر ابن الخطاب رضي الله عنه مرّ على امرأة وهي تعصدُ عصيدة لها، فقال: ليس(3/339)
هكذا يُعصد، ثم أخد المسوط فقال: هكذا، فأراها. وعن هشام بن خالد قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: لا تذرَنَّ إحداكنَّ الدقيق حتى يسخن الماء، ثم تذره قليلاً قليلاً، وتسوطه بمِسْوطها؛ فإنَّه أريَع له، وأحرى أن لا يتقرَّد. كذا في منتخب الكنز.
ذهاب عمر إلى المسجد حافياً وعيبه نفسه في خطبة له
وأخرج المَروَزي في العِيدين عن زِرَ قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يمشي إلى العيد حافياً. كذا في المنتخب؛ وأخرج الدينوري عن محمد بن عمر المخزومي عن أبيه قال: نادى عمر بن الخطاب: الصلاة جامعة، فلما اجتمع الناس وكثروا صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله وصلَّى على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم قال: أيها الناس، لقد رأيتني أرعى على خالات لي من بني مخزوم، فيقبضن لي القبضة من التمر والزبيب، فأظل يومي وأي يوم ثم نزل فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين ما زدت على أن قمأتَ نفسك - يعني عبتَ - فقال: ويحك يا ابن عوف إني خلوت فحدثتني نفسي، فقالت: أنت أمير المؤمنين؛ فمن ذا أفضل منك فأردت أن أعرِّفها نفسها. كذا في المنتخب، وأخرجه ابن سعد عن أبي عمير الحارث بن عمير عن رجل بمعناه، وفي روايته: أيها الناس لقد رأيتني ومالي من أكال يأكله الناس إلا أنَّ لي خالات من بني(3/340)
مخزوم، فكنت أستعذب لهن الماء، فيقبِضْن لي القَبَضات من زبيب. وفي آخره: إني وجدت في نفسي شيئاً فأردت أن أطأطىء منها.
ركوب عمر خلف غلام على حمار
وأخرج الدينوري عن الحسن قال: خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه في يوم حار واضعاً رداءه على رأسه، فمر به غلام على حمار، فقال: يا غلام احملني معك، فوثب الغلام عن الحمار وقال: اركب يا أمير المؤمنين، قال: لا، اركب وأركب أنا خلفك، تريد تحملني على المكان الوطىء وتركب أنت على الموضع الخشن، فركب خلف الغلام، فدخل المدينة وهو خلفه والناس ينظرون إليه. كذا في المنتخب.
مشي عمر مع غلام ليحميه من الغلمان
وأخرج ابن سعد عن سِنان بن سلمة الهذليّ قال: خرجت مع الغلمان ونحن بالمدينة نلتقط البلح، فإذا عمر بنالخطاب رضي الله عنه معه الدِّرَّة، فلما رآه الغلمان تفرقوا في النخل، قال: وقمت وفي إزاري شيء قد لقطته فقلت: يا أمير المؤمنين هذا ما تُلقى الريح، قال: فنظر إليه في إزاري فلم يضربني، فقلت: يا أمير المؤمنين الغلمان لأن بين يدي وسيأخذون ما معي، قال: كلا، امش، قال: فجاء معي إلى أهلي.
إرداف عمر وعثمان الناس خلفهما
وأخرج البيهقي عن مالك عن عمه عن أبيه أنه رأى عمر وعثمان رضي الله عنهما إذا قدما من مكة ينزلان بالمعَرَّس، فإذا ركبوا ليدخلوا المدينة لم يبقَ أحد إلا أردف غلاماً فدخلوا المدينة على ذلك. قال: وكان عمر وعثمان(3/341)
يُردفان، فقلت له إرادة التواضع؟ قال: نعم، والتماس حَمْل الرجل لئلا يكون كغيرهم من الملوك، ثم ذكر ما أحدث الناس من أن يُمَشّوا غلمانهم خلفهم وهم ركبان ويعيب ذلك عليهم. كذا في الكنز.
تواضع عثمان رضي الله عنه
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن ميمون بن مِهران قال: أخبرني الهَمْداني أنه رأى عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو على بغلة وخَلحفه عليها غلامه نائل وهو خليفة. وأخرج ابن سعد وأحمد في الزهد وابن عساكر عن عبد الله الرومي قال: كان عثمان رضي الله عنه يلي وَضوء الليل بنفسه، فقيل: لو أمرتَ بعض الخدم فكَفَوك، فقال: لا، إن الليل لهم يستريحون فيه. كذا في الكنز، وعند ابن المبارك في الزهد عن الزبير بن عبد الله أن جدته أخبرته وكان خادماً لعثمان وقالت: كان عثمان لا يوقظ نائماً من أهله إلا أن يجده يقظاناً فيدعوه فيناوله وضوءه، وكان يصوم الدهر. كذا في الإصابة. وأخرج أبو نعيم في الحلية عن الحسن قال: رأيت عثمان رضي الله عنه نائماً في المسجد في مِلْحفة ليس حوله أحد وهو أمير المؤمنين.(3/342)
تواضع أبي بكر رضي الله عنه
وأخرج ابن سعد عن أُنيسة قالت: كنَّ جواري الحي يأتين بغنمهن إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فيقول لهن: أتحبون أن أحلب لكن حلب ابن عفراء؟ كذا في المنتخب، وقد تقدّم في سيرة الخلفاء عن عائشة وابن عمر وابن المسيَّب وغيرهم رضي الله عنهم عند ابن سعد وغيره، وفي حديثهم: وكان رجلاً تاجراً، فكان يغدو كل يوم السوق فيبيع ويبتاع، وكانت له قطعة غنم تروح عليه، وربما خرج هو بنفسه فيها وربما كُفِيهَا فرُعيت له، وكان يحلب للحي أغنامهم، فلما بويع له بالخلافة قالت جارية من الحي: الآن لا تُحلب لنا منائح دارنا، فسمعها أبو بكر فقال: بلى، لعمري لأحلبنَّها لكم، وإني لأرجو أن لا يغيِّرني ما دخلت فيه عن خُلُق كنت عليه، فكان يحلب لهم، فربما قال للجارية من الحي: يا جارية أتحبين أن أُرغي لكم أو أصرِّح؟ فربما قالت: أرغ، وربما قالت: صرِّح، فأيّ ذلك قالت فعل.
صور من تواضع أمير المؤمنين علي رضي الله عنه
وأخرج البخاري في الأدب (ص81) عن صالح بياع الأكْسِيَة عن جدته قالت: رأيت علياً رضي الله عنه اشترى تمراً بدرهم فحمله في ملحفته، فقلت له - أو قال له رجل -: أحمل عنك يا أمير المؤمنين، قال: لا، أبو العيال أحق أن يحمل. وأخرجه ابنعساكر كما في المنتخب، وأبو القاسم البَغَوي، كما في البداية عن صالح بنحوه.(3/343)
وأخرج ابن عساكر عن زاذان عن علي رضي الله عنه أنه كان يمشي في الأسواق وحده وهو وال، يرشد الضال، ويَنْشُد الضال، ويعين الضعيف، ويمر بالبيّاع والبقّال فيفتح عليه القرآن ويقرأ {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فساد} (سورة القصص، الآية: 83) ويقول: نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة على سائر الناس. كذا في المنتخب وأخرجه أبو القاسم البغوي نحوه كما في البداية.
وأخرجه ابن سعد عن جرموز قال: رأيت علياً رضي الله عنه وهو يخرج من القصر وعليه قطريتان: إزارٌ إلى نصف الساق، ورداء مشمّر قريب نمه، ومعه دِرَّة له يمشي بها في الأسواق، ويأمرهم بتقوى الله وحسن البيع، ويقول: أوفوا الكيل والميزان، ويقول: لا تنفخوا اللحم. وأخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب.
وأخرج ابن راهَوَيه وأحمد في الزهد وعبد ابن حُمعيد وأبو يعلى والبيقي وابن عساكر - وضُعِّف - عن أبي مطر قال: خرجت من المسجد فإذا رجل ينادي خلفي: ارفع إزارك فإنه أتقى لربك، وأنقى لثوبك، وخذ من رأسك إن كنت مسلماً؛ فإذا هو علي ومعه الدِّرَّة، فانتهى إلى سوق الإبل فقال: بيعوا ولا تحلفوا فإن اليمين تنفق السلعة وتمحق البركة. ثم أتى صاحب(3/344)
التمر فإذا خادم تبكي فقال: ما شأنك؟ قالت: باعني هذا تمراً بدرهم فأبى مولاي أن يقبله، فقال: خذه وأعطها درهماً فإنه ليس لها أمر، فكأنه أبى، فقلت: ألا تدري من هذا؟ قال لا، قلت: على أمير المؤمنين، فصبَّ تمره وأعطاها درهماً وقال: أحب أن ترصى عنِّي يا أمير المؤمنين، قال: ما أرضاني عنك إذ وفصيتهم. ثم مرَّ مجتازاً بأصحاب التمر فقال: أطعموا المسكين يربو كسبكم. ثم مرَّ مجتازاً حتى انتهى إلى أصحاب السمك فقال: لا يباع في سوقنا طاف. ثم أتى دار بزّار وهي سوق الكرابيس، فقال: يا شيخ أحسن بيعي في طافٍ. ثم أتى دار بزّار وهي سوق الكرابيس، فقال: يا شيخ أحسن بيعي في قميص بثلاثة دراهم، فلما عرفه لم يشترِ منه شيئاً، ثم أتى آخر فلما عرفه لم يشترِ منه شيئاً، ثم أتى غلاماً حدثاً فاشترى منه قميصاً بثلاثة دراهم لبسه ما بين الرسغين إلى الكعب، فجاء صاحب الثوب فقيل: إن ابنك باع من أمير المؤمنين قميصاً بثلاثة دراهم، قال: فهلاَّ أخذت منه درهمين؟ فأخذ الدرهم ثم جاء به إلى علي فقال: أمسك هذا الدرهم، قال: ما شأنه؟ قال: كان قميصاً ثمنه درهمان باعك ابني بثلاثة دراهيم، قال: باعني رضاي وأخذت رضاه. كذا في المنتخب.
تواضع فاطمة وأم سلمة رضي الله عنهما
وأخرج أبو نُعَيم في الحِلْية عن عطاء قال: إن كانت فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لتعجن وإن قصَّتها لتكاد أن تضرب الجَفْنة. وأخرج ابن سعد عن المطَّلب بن عبد الله قال: دخلت أيِّمُ العرب على(3/345)
سيد المسلمين أول العشاء عروساً وقامت من آخر الليل تطحن - يعني أم سلمة رضي الله عنها -.
صور من تواضع سلمان الفارسي رضي الله عنه
وأخرج أبو نُعَيم في الحلية عن سلامة العجلي قال: جاء ابن أخت لي من البادية يقال له قُدامة، فقال لي أحب أن ألقى سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه فأسلّم عليه، فخرجنا إليه فوجدناه بالمدائن وهو يومئذ على عشرين ألفاً، ووجدناه على سرير يسف خوصاً، فسلَّمنا عليه، قلت: يا أبا عبد الله هذا بن أخت لي قدم عليَّ من البادية فأحب أن يسلم عليك، قال: وعليه السلام ورحمة الله، قلت يزعم أنه يحبك، قال: أحبه الله.
وأخرج ابن عساكر عن الحارث بن عميرة قال: قدمت إلى سلمان رضي الله عنه المدائن فوجدته في مدبغة له يعرك إهاباً بكفيه، فلما سلَّمت عليه قال: مكانك حتى أخرج إليك. قلت: والله ما أراك تعرفني، قال: بلى، قد عرفت روحي روحك قبل أن أعرفك، فإن الأرواح جنود مجنَّدة فما تعارف منها في الله ائتلف وما كان في غير الله اختلف. كذا في المنتخب، وأخرجه أبو نعيم في الحلية عن الحارث مطوَّلاً، وجعل ما ذكره سلمان من المرفوع.
وأخرج أبو نُعَيم في الحلية عن أبي قلابة أن رجلاً دخل على سلمان رضي الله عنه وهو يعجن فقال: ما هذا؟ فقال: بعثنا الخادم في عمل - أو قال: صنعة - فكرهنا أن نجمع عليه عملين - أو قال: صنعتين - ثم قال: فلان(3/346)
يقرئك السلام، قال: متى قدمت؟ قال: منذ كذا وكذا، قال فقال: أما إنك لو لم تؤدها كانت أمانة لم تؤدها. وأخرجه ابن سعد وأحمد، كما في صفة الصفوة عن أبي قلابة بنحوه.
وأخرج أبو نُعَيم في الحلية عن عمرو بن أبي قرَّة الكندي قال: عرض أبي على سلمان رضي الله عنه أخته أن يزوِّجه فأبى، فتزوج مولاة يقال لها بقيرة، فبلغ أبا قرَّة أنه كان بين حذيفة رضي الله عنه وبين سلمان رضي الله عنه شيء، فأتاه فطلبه فأُخبر أنه في مبقلة له، فتوجه معه زَنْبيل فيه بقل قد أدخل عصاه في عروة الزنبيل وهو على عاتقه، فانطلقنا حتى أتينا دار سلمان فدخل الدار فقال: السلام عليكم، ثم أذن لأبي قرَّة، فإذا نمط موضوع، وعند رأسه لَبِنات، وإذا قرطاط، فقال: اجلس على فراش مولاتك التي تمهد لنفسها.
وأخرج أبو نُعَيم في الحلية عن ميمون بن مِهْران عن رجل من بني عبد القيس قال: رأيت سلمان رضي الله عنه في سرية وهو أميرها على حمار وعليه سراويل، وخدمتاه تَذَبذبان، والجند يقولون: قد جاء الأمير، فقال سلمان: إنما الخير والشر بعد اليوم، وعند ابن سعد عن رجل من عبد القيس قال: كنت مع سلمان الفارسي وهو أمير على سرية، فمر بفتيان من (فتيان) الجند فضحكوا وقالوا: هذا أميركم، فقلت: يا أبا عبد الله ألا ترى هؤلاء ما يقولون؟ قال: دَعْهم؛ فإنما الخير والشر فيما بعد اليوم، إن استطعت أن تأكل من التراب فكل منه ولا تكونن أميراً على اثنين، واتَّقِ دعوة المظلوم والمضطر فإنها لا تُحجب. وعنده أيضاً عن ثابت أن سلمان كان أميراً على المدائن وكان يخرج إلى الناس في أندَرْورد وعباءة، فإذا رأواه قالوا: كُرْك آمذ، كُرْك آمذ فيقول سلمان: ما يقولون؟ قالوا: يشبهونك بلعبة لهم، فيقول سلمان: لا عليهم فإنَّما الخير فيما بعد اليوم. وعن هُرَيم قال: رأيت سلمان الفارسي(3/347)
على حمار عُرْى وعليه قميص سنبلاني قصير ضيق الأسفل، وكان رجلاً طويل الساقين كثير الشعر، وقد ارتفع القميص حتى بلغ قريباً من ركبتيه، قال: ورأيت الصبيان يُحضِرون خلفه. فقلت: ألا تنحون عن الأمير؟ فقال: دَعْهم فإنما الخير والشر فيما بعد اليوم.
وأخرج ابن سعد عن ثابت قال: كان سلمان رضي الله عنه أميراً على المدائن، فجاء رجل من أهل الشام من بني تيم الله معه حمل تين، وعلى سلمان أندَرْورْد وعباءه، فقال سلمان: تعالَ احملْ - وهو لا يعرف سلمان -، فحمل سلمان، فرآه الناس فعرفوه فقالوا: هذا الأمير، قال: لم أعرفك، فقال له سلمان: لا، حتى أبلغ منزلك. وأخرجه أيضاً من وجه آخر بنحوه وزاد: فقال: قد نويت فيه نية فلا أضعه حتى أبلغ بيتك. وأخرج أبو نُعَيم في الحلية عن عبد الله بن بُريدة رضي الله عنه أن(3/348)
سلمان رضي الله عنه كان يعمل بيديه، فإذا أصاب شيئاً اشترى به لحماً - أو سمكاً - ثم يدعو المجذَّمين فيأكلون معه.
تواضع حذيفة بن اليمان رضي الله عنه
وأخرجه ابن سعد عن محمد بن سيرين قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا بعث عاملاً كتب في عهده أن اسمعوا له وأطيعوا ما عدل عليكم، فلما استعمل حذيفة رضي الله عنه على المدائن كتب في عهدهد أن اسمعوا له وأطيعوا وأعطوه ما سألكم. فخرج حذيفة من عند عمر على حمار موكّف وعلى الحمار زاده، فلما قدم المدائن استقبله أهل الأرض والدَّهاقين وبيده رغيف وعَرْق من لحم على حمار على إكاف، فقرأ عهده إليهم، فقالوا: سَلْنا ما شئت، قال: أسألكم طعاماً آكله، وعلف حماري هذا ما دمت فيكم. فأقام فيهم ما شاء الله، ثم كتب إليه عمر أن أقدم، فلما بلغ عمر قدومه كمن له على الطريق في مكان لا يراه، فلما رآه عمر على الحال الذي خرج من عنده عليه أتاه فالتزمه وقال: أنت أخي وأنا أخوك كذا في الكنز. وعند أبي نُعَيم في الحلية عن ابن سيرين قال: إن حذيفة رضي الله عنه لما قدم المدائن قدم على حمار على إكاف وبيده رغيف وعرق وهو يأكل على الحمار. وزاد طلحة بن مصرف في روايته: وهو سادل رجليه من جانب.
تواضع جرير بن عبد الله وعبد الله بن سلام رضي الله عنهما
وأخرج الطبراني عن سليم أبي الهذيل قال: كنت رفَّاءاً على باب جرير بن عبد الله رضي الله عنه، فكان يخرج فيركب بغلة - أي ويحمل غلامه(3/349)
خلفه -. قال الهيثمي: وسلم ة ومحمد بن منصور الكلبي لم أعرفهما وبقية رجاله ثقات. انتهى. وأخرج الطبراني بإسناد حسن عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه أنَّه مرَّ في السوق وعليه حزمة من حطب فقيل له: ما يحملك على هذا وقد أغناك الله عن هذا؟ قال: أردت أن أدفع الكِبْر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يدخل الجنة من في قلبه خردلة من كِبْر» . ورواه الأصبهاني إلا أنه قال: مثقال ذرة من كِبْر. كذا في الترغيب.
قول علي: ثلاث هن رأس التواضع
وأخرج العسكري عن علي رضي الله عنه قال: ثلاث هن رأس التواضع: أن يبدأ بالسلام من لقيه، ويرضى بالدون مِنْ شرف المجلس، ويكره الرياء والسمعة. كذا في الكنز.
المزاج والمداعبة
مزاح رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كان عليه الصلاة والسلام يمزح ولا يقول إلا حقا
أخرج الترمذي في الشمائل (ص17) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قالوا: يا رسول الله إنك تداعبنا، قال: «إني لا أقول إلا حقّاً» . وأخرجه البخاري في الأدب (ص41) عن أبي هريرة مثله.(3/350)
مزاحه عليه السلام مع بعض نسائه
وأخرج ابن عساكر - وضعَّفه - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً سأله فقال: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمزح؟ قال: نعم، فقال رجل: ما كان مزاحه؟ فقال ابن عباس: كسا النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه ثوباً واسعاً، قال: «البسيه واحمدي الله، وجرِّي من ذيلك هذا كذيل العروس» . كذا في الكنز.
مزاحه عليه السلام مع أبي عمير
وأخرج أحمد عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلُقاً، وكان لي أخ يقال له: أبو عمير - قال: فطيماً - قال: فكان إذا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه قال: «أبا عمير ما فعل النّغير؟» قال: نُغَر كان يلعب به، قال: فربما تحضر الصلاة وهو في بيتنا، فيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس ثم ينضح، ثم يقوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقوم خلفه يصلِّي بنا، قال: وكان بساطهم من جريد النخل. وقد رواه الجماعة إلا أبا داود من طرق عن أنس بنحوه. كذا في ابداية؛ وأخرجه البخاري في الأدب (ص42) بلفظ: كان(3/351)
النبي صلى الله عليه وسلم ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير: «يا أبا عمير ما فعل النُّغير؟» وهكذا لفظ الترمذي؛ وعند ابن سعد عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أبي طلحة رضي الله عنه فرأى ابناً له يكنى أبا عمير حزيناً قال: وكان إذا رآه مازحه النبي صلى الله عليه وسلم قال فقال: «ما لي أرى أبا عمير حزيناً؟» قالوا: مات يا رسول الله نُغَرة الذي كان يلعب به، قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أبا عمير ما فعل النُّغَير؟» .
مزاحه عليه السلام مع رجل
وأخرج أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستحمله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنا حاملوك على ولد ناقة» ، فقال: يا رسول الله ما أصنع بولد ناقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وهل تلك الإبل إلا النوق» . ورواه داود والترمذي، وقال الترمذي: صحيح غريب؛ كذا في البداية. $ وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (ص41) عن أنس نحوه، وأخرجه ابن سعد عن محمد بن قيس رضي الله عنه بمعناه إلا أنه جعل السائلة أم أيمن رضي الله عنها.
مزاحه عليه السلام مع أنس
وأخرج أبو داود عن أنس رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم(3/352)
«يا ذا الأذنين» كذا في البداية. وأخرجه الترمذي في الشمائل (ص16) وقال: قال أبو أسامة: يعني يمازحه، وأخرجه أبو نُعَيم وابن عساكر؛ كما في المنتخب.
مزاحه عليه السلام مع زاهر
وأخرج أحمد عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهراً - رضي الله عنه - وكان يُهدي النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنَّ زاهراً باديتنا ونحن حاضروه» ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّه وكان رجلاً دميماً، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه ولا يبصره الرجل، فقال: أرسلني من هذا؟ فالتفت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من يشتري العبد؟» فقال: يا رسول الله إذن - والله - تجدني كاسداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لكن عند الله لست بكاسد - أو قال: - لكن عند الله أنت غالٍ» . وهذا إسناد رجاله كلّهم ثقات على شرط الصحيحين، ولم يروه إلا الترمذي في الشمائل، ورواه ابن حبَّان في صحيحه؛ كذا في البداية. وأخرجه أيضاً أبو يَعْلى والبزّار. قال الهيثمي: ورجال أحمد رجال الصحيح، وأخرجه البزّار والطبراني عن(3/353)
سالم بن أبي الجعد عن رجل من أشجع يقال له أزهر بن حَرام الأشجعي رجل بدوي، وكان لا يزال يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بطُرْفة أو هدية - فذكر بمعناه. قال الهيثمي: رواه البزار والطبراني ورجاله موثقون - اهـ.
مزاحه عليه السلام مع عائشة ومع زوجاته
وأخرج أبو داود عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: استأذن أبو بكر رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم فسمع صوت عائشة رضي الله عنها عالياً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما دخل تناولها ليلطمها وقال: ألا أراك ترفعين صوتك على رسول الله؟ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يحجزه، وخرج أبو بكر مُغْضباً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج أبو بكر: «كيف رأيتني أنقذتك من الرجل» فمكث أبو بكر أياماً ثم استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما دخل تناولها ليلطمها وقال: ألا أراك ترفعين صوتك على رسول الله؟ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يحجزه، وخرج أبو بكر مُغْضباً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج أبو بكر: «كيف رأيتني أنقذتك من الرجل» فمكث أبو بكر أياماً ثم استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدهما قد اصطلحا، فقال لهما: أدخلاني في سِلمكما كما أدخلتماني في حربكما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قد فعلنا قد فعلنا» . كذا في البداية.
وأخرج أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمل اللحم ولم أبدنُ، فقال للناس: «تقدَّموا» فتقدَّموا، ثم قال لي: «تعالي حتى أسابقك» فسابقته فسبقته، فسكت عني حتى إذا حملت اللحم وبدُنت ونسيت خرجت معه في بعض أسفاره، فقال للناس: «تقدَّموا ثم قال لي: «تعالي حتى أسابقك» فسابقته. فسبقني، فجعل يضحك ويقول: «هذه بتلك» كذا في صفة الصفوة.(3/354)
وأخرج أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مسير، وكان حاد يحدو بنسائه - أو سائق - قال: فكان نساؤه يتقدَّمن من بين يديه فقال: «يا أنجشه وَيْحِك، ارفق بالقوارير» وفي الصحيحين نحوه عن أنس، كما في البداية، وعند البخاري في الأدب (ص41) عن أنس قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم على بعض نسائه ومعهن أم سليم رضي الله عنها، فقال: «يا أنجشة رويداً، سوقك بالقوارير» قال أبو قلابة: فتكلَّم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة لو تكلم بعضكم لعبتموها عليه قوله «سوقك بالقوارير» .
مزاحه عليه السلام مع امرأة عجوز
وأخرج الترمذي في الشمائل (ص17) عن الحسن رضي الله عنه قال: أتت عجوز النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال: «يا أم فلان، أنَّ الجنة لا تدخلها عجوز» قال: فولَّت تبكي. فقال: «أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، إن الله تعالى يقول: {إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا} (سورة الواقعة، الآية: 36) .(3/355)
مزاح أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مزاح عوف بن مالك الأشجعي مع النبي عليه السلام
أخرج أبو داود عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في قبة من أدم، فسلمت فرد وقال: «ادخل» ، فقلت: أكلِّي يا رسول الله؟ فقال: «كلُّك» ، فدخلت، قال الوليد ابن عثمان بن أبي العالية إنما قال: أدخل كلِّي؟ من صِغَر القبة. كذا في البداية.
مزاح عائشة وأبي سفيان معه عليه السلام
وأخرج البخاري في الأدب (ص41) عن ابن أبي مليكة رضي الله عنه قال: مزحت عائشة رضي الله عنها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أمها: يا رسول الله بعض دعابات هذا الحي من كنانة، قال النبي صلى الله عليه وسلم «بل بعض مزحنا هذا الحي» . وأخرج الزبير بن بكار وابن عساكر عن أبي الهيثم عمن أخبره أنه سمع أبا سفيان بن حرب رضي الله عنه مازح النبي صلى الله عليه وسلم في بيت ابنته أم حبيبة رضي الله عنها ويقول: والله إنْ هو إلاَّ تركتُك فتركتك العرب إن انتطحت فيك، وقالوا: جمَّاء ولا ذات قرن، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك ويقول: «أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة» كذا في الكنز.(3/356)
ترامي الصحابة بالبطيخ وقول ابن سيرين في مزاحهم
وأخرج البخاري في الأدب (ص41) عن بكر بن عبد الله قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتبادحون بالبطِّيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال. وذكر الهيثمي عن قرّة قال: قلت لابن سيرين: هل كانوا يتمازحون؟ قال: ما كانوا إلا كالناس، كان ابن عمر رضي الله عنهما يمزح وينشد:
يحب الخمر من مالِ النَّدامى
ويكره أن تفارقه الفلوس
هكذا ذكره الهيثمي بلا إسناد وسقط ذكر مخرِّجه.
مزاح نعيمان مع سويبط رضي الله عنهما
وأخرج أحمد عن أمس سلمة رضي الله عنها أن أبا بكر رضي الله عنه خرج تاجراً إلى بصري ومعه نُعيمان وسُيبط بن حرملة رضي الله عنهما - وكلاهما بدري - وكان سُويبط على الزاد، فقال له نعيمان: أطعمني. قال: حتى يجيء أبو بكر، وكان نُعيمان مضحاكاً مزَّاحاً، فذهب إلى ناس جلبوا ظهراً فقال: ابتاعوا مني غلاماً عربياً فراهاً، قالوا: نعم، قال: قال إنه ذو لسان، ولعله يقول أنا حر، فإن كنتم تاركيه لذلك فدعوني لا تفسدوه. عليَّ. فقال: بل نبتاعه، فابتاعوه منه بعشر قلائص، فأقبل بها يسوقها وقال: دونكم هو هذا، فقال سويبط: هو كاذب أنا رجل حر قالوا: قد أخبرنا أخبرك،(3/357)
فطرحوا الحبل في رقبته فذهبوا به، فجاء أبو بكر فأُخبر، فذهب هو وأصحابه إليهم فردُّوا القلائص وأخذوه، ثم أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فضحك هو وأصاحبه منها حَوْلاً.
وأخرجه أبو داود الطيالسي والرخوياني، وقد أخرجه ابن ماجه فقلبه؛ جعل المازح سويبط والمبتاع نُعيمان، وروى الزبير بن بكار في كتاب الفكاهة هذه القصة من طريق أخرى عن أم سلمة إلاّ أنه سماه سليط بن حرملة وأظنه تصحيفاً، وقد تعقَّبه بن عبد البر وغيره. كذا في الإصابة، وقد أخرج ابن عبد البر في الاستيعاب (2162 و3573) حديث أم سلمة من طرق.
مزاح نعيمان مع أعرابي
وأخرج ابن عبد البرفي الاستيعاب عن ربيعة بن عثمان رضي الله عنه قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فدخل المسجد وأناخ ناقته بفنائه، فقال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لنعيمان بن عمرو الأنصار رضي الله عنه - وكان يقال له النعيمان -: لو نحرتها فأكلناها فإنا قد قرمنا إلى اللحم ويغرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمنها، قال: فنحرها النعيمان، ثم خرج الأعرابي فرأى راحلته فصاح: واعقراه يا محمد فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «من فعل هذا؟» قالوا: النعيمان، فأتبعه يسأل عنه فوجده في دار ضُباعة بنت الزبير بن عبد المطلب - رضي الله عنها - قد اختفى في خندق وجعل عليه الجريد والسَّعف، فأشار إليه رجل ورفع صوته يقول: ما رأيته يا رسول الله، وأشار بإصبعه حيث هو، فأخرجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تغيَّر(3/358)
وجهه بالسعف الذي سقط عليه فقال له: «ما حملك على ما صنعت؟» قال: الذين دلوك «عليَّ يا رسول الله هم الذين أمروني، قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عن وجهه ويضحك، قال: ثم غرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا ذكره في الإصابة عن الزبير بن بكار عن ربيعة ابن عثمان.
مزاح نعيمان مع مخرمة بن نوفل
وأخرج الزبير عن عمه مصعب بن عبد الله عن جده عبد الله بن مصعب قال: كان مخرمة بن نوفل بن أُهيب الزهري شيخاً كبيراً بالمدينة أعمى، وكان قد بلغ مائة وخمس عشرة سنة، فقام يوماً في المسجد يريد أن يبول فصاح به الناس، فأتاه النعيمان ابن عمرو بن رفاعة بن الحارث بن سواد النجاري رضي الله عنه فتنحى به ناحية من المسجد ثم قال: اجلس ههنا، فأجلسه يبول وتركه، فبال وصاح به الناس، فلما فرغ قال: من جاء بي ويحكم في هذا الموضع؟ قال له: النعيمان بن عمرو، قال: فعل الله به وفعل أما إنَّ لله عليَّ إن ظفرت به أضربه بعصاي هذه ضربة تبلغ منه ما بلغت فمكث ما شاء الله حتى نسي ذلك مخرمة، ثم أتاه يوماً وعثمان رضي الله عنه قائم يصلي في ناحية المسجد - وكان عثمان إذ صلى لم يلتفت - فقال له: هل لك نعيمان؟ قال: نعم، أين هو دلني عليه، فأتى به حتى أوقفه على عثمان فقال: دونك هذا هو، فجمع مخرمة يديه بعصاه فضرب عثمان فشجه، فقيل له: إنا ضربت أمير المئمنين عثمان رضي الله عنه، فسمعت بذلك بنو زُهرة فاجتمعوا في ذلك، فقال عثمان رضي الله عنه: دعوا نُعيمان لعن الله نعيمان فقد شهد بدراً. كذا في الاستيعاب وهكذا ذكره في الإصابة عن بكار.(3/359)
الجود والكرم
جود سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوال بعض الصحابة في جوده عليه السلام
أخرج الشيخان عن ابن عبسا رضي الله عنهما: قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس (بالخير) ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقى جبريل عليه السلام، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، قال فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة. كذا في صفة الصفوة، وأخرجه ابن سعد عنه نحوه.
وأخرج الشيخان عن جابر بن عبد الله عنه قال: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط فقال لا. كذا في البداية.
وعند أحمد في حديث طويل عن عبد الله بن أبي بكر أن أبا أُسيد - رضي الله عنه - كان يقول: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع شيئاً يسأله. قال الهيثمي: ورجاله ثقات إلا أن عبد الله بن أبي بكر لم يسمع من أبي أُسيد. اهـ. وعند الطبراني في الأوسط في حديث طويل عن علي رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سئل شيئاً فأراد أن يفعله قال: نعم، وإذا أراد أن لا(3/360)
يفعله سكت، وكان لا يقول لشيء: لا. قال الهيثمي: وفيه محمد بن كثير الكوفي وهو ضعيف. اهـ.
إكرامه عليه السلام للرُّبِّيع بنت معوِّذ ولأن سنبلة
وأخرج الطبراني عن الرُّبَّيع بنت معوِّذ بن عفراء رضي الله عنهما قالت: بعثني معوِّذ بن عفراء بصاع من رُطْب عليه اجْر من قثّاء زُغْب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب القثاء، وكانت حلية قد قدمت من البحرين فملأ يده منها فأعطانيها - وفي رواية: فأعطاني ملء كفي حلياً أو ذهباً. ورواه أحمد بنحوه وزاد: فقال: تحلَّى بهذا. قال الهيثمي: وإسنادهما حسن اهـ. وأخرجه الترمذي عن الرُّبَّيع مختصراً، كما في البداية. وأخرج الطبراني في الأوسط عن أم سنبلة رضي الله عنها أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم بهدية فأبى أزواجه أن يقبلنها، فقلن: إنا لا نأخذ، فأمرهن النبي صلى الله عليه وسلم فأخذنَها، ثم أقطعها وادياً، فاشتراه عبد الله بن جحش من حسن بن علي رضي الله عنهم. قال الهيثمي. وفيه عمرو بن قيظي ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات. اهـ. وقد تقدَّمت قصص سخائه صلى الله عليه وسلم في إنفاق الأموال.(3/361)
جود أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم >
أخرج الزبير بن بكار وابن عساكر عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني نويت أن أعطي هذا الثوب أكرم العرب، فقال: «أعطيه هذا الغلام» - يعني سعيد بن العاص رضي الله عنه - وهو واقف، فلذلك سميت الثياب السعيدية. كذا في المنتخب. وقد تقدمت قصص جود الصحابة وكرمهم في إنفاق الأموال.
الإيثار
أخرج الطبراني عن ابن عمرو رضي الله عنهما قال: أتى علينا زمان وما يري أحد منا أنّه أحق بالدينار والدرهم من أخيه المسلم، وإنا في زمان الدينار والدرهم أحبإلينا من أخينا المسلم - فذكر الحديث. قال الهيثمي: رواه الطبراني بأسانيد وبعضها حسن - اهـ. وقد تقدَّمت قصص الإيثار في شدَّة العطش، وفي قلة الثياب، وفي قصص الأنصار، وفي الإنفاق مع الحاجة.
الصبر
الصبر على الأمراض مطلقا
صبر سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عل شدة الحمى
أخرج ابن ماجه وابن أبي الدينا والحاكم - واللفظ له وقال صحيح على شرط مسلم وله شواهد كثيرة - عن أبي سعيد رضي الله عنه أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو موعوك عليه قطيفة، فوضع يده فوق القطيفة، فقال: ما أشد(3/362)
حمَّاك يا رسول الله؟ قال: «إنا كذلك يُشددَّ علينا البلاء ويضاعف لنا الأجر» ، ثم قال: يا رسول الله مَنْ؟ أشد الناس بلاء؟ قال: «الأنبياء» ، قال: ثم مَنْ؟ قال: «العلماء» ، قال: ثم مَنْ؟ قال: «الصالحون» ، وكان أحدهم يُبتلى بالقمل حتى يقتله، ويُبتلى أحدهم بالفقر تحى ما يجد إلا العباءة يلبسها، ولأحدهم كان أشد فرحاً بالبلاء من أحدكم بالعطاء» . وكذا في الترغيب؛ وأخرجه البيهقي، كما في الكنزل وأبو نُعيم في الحلية نحوه.
وأخرج البيهقي عن أبي عبيدة بن حذيفة رضي الله عنه عن عمته فاطمة رضي الله عنها قالت: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في نساء نعوده وقد حُمَّ، فأمر بسقاء فعُقِّ على شجرة ثم اضطجع تحته، فجعل يقطر على فواقه من شدة ما يجد من الحمى، فقلت: يا رسول الله لو دعوتَ الله أن يكشف عنك، فقال: «إنَّ أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» . كذا في الكنزل؛ وأخرجه أحمد والطبراني في الكبير بنحوه، قال الهيثمي: وإسناد أحمد حسن.
وأخرج ابن سعد والحاكم والبيهقي عن عائشة رضي الله عنها أن(3/363)
رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وجع، فجعل يشتكي ويتقلَّب على فراشه، فقالت له عائشة: لو فعل هذا بعضنا جدتَ عليه فقال: «إنَّ المؤمنين ليشدَّد عليهم، وإنَّه ليس من مؤمن تصيبه نكبة شوكة ولا وجع إلا كفَّر الله عنه بها خطيئة ورفع له بها درجة» . كذا في الكنز، وأخرجه أحمد نحوه، قال الهيثمي: ورجاله ثقات.
صبر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على الأمراض
صبر أهل قباء والأنصار على الحمّى
أخرج أحمد عن جابر رضي الله عنه قال: استأذنت الحمَّى على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «من هذه؟» قالت: أمُّ مِلْدَم، فأمر بها إلى أهل قُباء، فلقوا نمها ما يعلم الله، فأتوه فشكوا ذلك إليه، فقال: «ما شئتم؟ إن شئتم دعوت الله فشكفها عنكم، وإن شئتم أن تكون لكم طهوراً» ، قالوا: أو تفعل؟ قال: «نعم» ، قالوا: فدَعْها، قال في الترغيب: رواه أحمد - ورواته رواة الصحيح - وأبو يعلى وابن حِبَّان في صحيحه - اهـ. وعند الطبراني عن سلمان رضي الله عنه قال: استأذنت الحمَّى على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: «من أنت؟» فقالت: أنا الحمى، أبري اللحم، وأمصُّ(3/364)
الدم، قال: «اذهبي إلى أهل قُباء» فأتتهم فجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اصفرّت وجوههم، فشكوا الحمَّى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما شئتم؟ إن شئتم دعوت الله فدفعها عنكم، وإن شئتم تركتموها وأسقطت بقية ذنوبكم؟» قالوا: بلى، فدَعْها يا رسول الله. قال الهيثمي: وفيه هشام بن لاحق، وثقه النسائي وضعَّفه أحمد وابن حِبَّان. اهـ. وأخرجه البيهقي عن سلمان نحوه، كما في البداية.
وأخرجه البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاءت الحمى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ابعثني إلى أحبِّ قومك إليك - أو أحب أصحابك إليك، شك قُرَّة - فقال: «اذهبي إلى الأنصار» فذهبت إليهم فصرعتهم، فجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله قد أتت لاحمى علينا فادعُ الله لنا بالشِّفاء، فدعا لهم فكشفت عنهم، قال: فاتَّبعته امرأة فقالت: يا رسول الله أُدْعُ الله لي فإني لمن الأنصار، فادع الله لي كما دعوت لهم، فقال: «أيهما أحب إليك: أن أدعو لك فيكشف عنك، أو تصبرين وتجب لك الجنة؟» فقالت: لا والله يا رسول الله بل أصبر - ثلاثاً - ولا أجعل والله لجنته خَطَراً كذا في البداية، وأخرجه البخاري في الأدب (ص73) عن أبي هريرة بمعناه.(3/365)
صبر أحد الأصحاب على الحمى
وأخرج الطبراني في الصغير والأوسط عن عائشة رضي الله عنها قالت: فقد النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً كان يجالسه فقال: «ما لي فقدت فلاناً» فقالوا: اعتبط - وكانوا يسمون الوعك الاعتباط - فقال: «قوموا حتى نعوده» فلما دخل عليه بكى الغلام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «لا تبكِ فإنَّ جبريل أخبرني أنَّ الحمَّى حظَّ أمتي من جهنم» . وفيه عمر ابن راشد ضعَّفه أحمد وغيره ووثقه العجلي، كما في المجمع.
صبر أبي بكر وأبي الدرداء رضي الله عنهما
وأخرج ابن سعد وابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وأبو نُعَيم في الحلية وهنّاد عن أبي السَّفر قال: دخل على أبي بكر رضي الله عنه ناس يعودونه في مرضه، فقالوا يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا ندعو لك مطيِّباً ينظر إليك؟ قال: قد نظر إليَّ، قالوا: فماذا قال لك؟ قال قال: إنِّي فعّال لما أريد. كذا في الكنزل، وأخرج أبو نعيم في الحلية عن معاوية بن قُرَّة أن أبا الدرداء رضي الله عنه اشتكى فدخل عليه أصحابه فقالوا: ما تشتكي يا أبا الدرداء؟ قال: أشتكي ذنوبي، قالوا: فما تشتهي؟ قال: أشتهي الجنَّة؛ قالوا: أفلا ندعو لك طبيباً؟ قال: هو الذي أضعجني. وأخجره ابن سعد عن معاوية مثله.(3/366)
صبر معاذ وأهله على الطاعون
وأخرجه ابن خزيمة وابن عساكر عن عبد الرحمن بن غنم قال: وقع الطاعون بالشام فقال عمرو بن العاص رضي الله عنه: إن هذا الطاعون رجس ففروا منه في الأودية والشِّعاب، فبلغ ذلك شُرَحبيل بنحسنة رضي الله عنه، فغضب وقال: كذب عمرو بن العاص، لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمرو أضلُّ من جمل أهله، إنَّ هذا الطاعون دعوة نبيكم، ورحمة ربكم، ووفاة الصالحين قبلكم. فبلغ ذلك معاذاً رضي الله عنه فقال: اللهمّ اجعل نصيب آل معاذ الأوفر، فماتت ابنتاه، وطُعن ابنه عبد الرحمن، فقال: الحقُّ من ربك فلا تكوننّ من الممترين، فقال: ستجدني إن شاء الله من الصابرين. وطُعن معاذٌ في ظهر كفه، فجعل يقول: هي أحبُّ إليّ من حمر النَّعم، ورأى رجلاً يبكي عنده فقال: ما يبكيك؟ قال: على العلم الذي كنت أصيبه منك، قال: فلا تبكِ فإن إبراهيم كان في الأرض وليس بها عالم، فآتاه الله علماً، فإذا مت فاطلب العلم عند أربعة: عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن سلام، وسلم ان، وأبي الدرداء رضي الله عنهم. كذا في الكنز، وأخرجه أحمد عن عبد الرحمن بن غنم مختصراً والبزّار عنه مطوِّلاً، كما ذكر الهيثمي وقال: أسانيد أحمد حسان صحاح. اهـ.
وأخرجه الحاكم وأبو نعيم في الحلية عن عبد الرحمن مختصراً ولفظ(3/367)
أبي نعيم: قال طُعن معاذ وأبو عبيدة وشرحبيل ابن حسنة وأبو مالك الأشعري رضي الله عنهم في يوم واحد فقال معاذ: إنَّه رحمة ربكم عز وجل، ودعوة نبيكم صلى الله عليه وسلم وقبض الصالحين قبلكم، اللهمَّ آتِ آلَ معاذ النصيب الأوفر من هذه الرحمة، فما أمسى حتى طعن ابنه عبد الرحمن بِكره الذي كان يكنى به وأحب الخلق إليه، فرجع من المسجد فوجده مكروباً، فقال: يا عبد الرحمن كيف أنت؟ فاستجاب له، فقال: يا أبتِ الحقُّ من ربِّك فلا تكوننَّ من الممترين، فقال معاذ: وأنا إن شاء الله ستجدني من الصابرين، فأمسكه ليله، ثم دفنه من الغد، فطُعن معاذ فقال حين اشتد به النَّزع: نزع الموت، فنزع نزعاً لم يُنزعه أحد، وكان كلما أفاق من غمرة فتح طرفه ثم قال: ربِّ اخنقني خنقتك، فوعزَّتك إنك لتعلم أنَّ قلبي يحبك وأخرجه أحمد عن أبي منيب مختصراً ورجاله ثقات وسنده متصل، كما قال الهيثمي.
صبر أبي عبيدة والمسلمين على الطاعون
وأخرجه ابن إسحاق عن شَهْر بن حَوْشَب عن رابة - رجل من قومه - قال: لما اشتعل الوجع قام أبو عبيدة رضي الله عنه في الناس خطيباً فقال: أيها الناس، إنَّ هذا الوجع رحمةٌ بكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وإن أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم لأبي عبيدة حظَّه.p فطُعن فمات، واستخلف على الناس معاذ بن جبل رضي الله عنه، فقام خطيباً بعده فقال: أيّها الناس، وإنَّ هذا الوجع رحمة بكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وإنَّ معاذاً يسأل الله تعالى أن يقسم لآل معاذ حظَّهم، فطُعن ابنه عبد الرحمن فمات، ثم(3/368)
قام فدعا لنفسه فطُعن في راحته، فلقد رأيته ينظر إليها ثم يقلِّب ظهر كفه، ثم يقول: ما أحبُّ أنَّ لي بما فيك شيئاً من الدنيا؛ فلما مات استخلف على الناس عمرو بن العاص رضي الله عنه، فقام فيهم خطيباً فقال أيها الناس إنَّ هذا الوجع إذا وقع فإنما يشتعل اشتعال النار فتحصنوا منه في الجبال، فقال أبو واثلة الهذلي رضي الله عنه: كذبت، والله لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت شر من حماري هذا فقال: والله ما أردُّ عليك ما تقول، وايم الله لا نقيم عليه قال: ثم خرج وخرج الناس فترقوا ودفعه الله عنهم، قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه من رأى عمرو بن العاص، فوالله ما كرهه. كذا في البداية.
قول معاذ في طاعون عمواس
وأخرج أحمد عن أبي قلابة أنا لطاعون وقع بالشام فقال عمرو بنالعاص رضي الله عنه: إنَّ هذا الرجز قد وقع فتفرقوا عنه في الشِّعاب والأودية، فبلغ ذلك معاذاً رضي الله عنه فلم يصدقه بالذي قال، قال فقال: بل هو شهادة ورحمة، ودعوة نبيكم صلى الله عليه وسلم اللهمَّ إعطِ معاذاً وأهله نصيبهم من رحمتك، قال أبو قلابة: فعرفت الشهادة، وعرفت الرحمة، ولم أدر ما دعوة نبيكم حتى أُنبئت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينا هو ذات ليلة يصلِّي إذ قال في دعائه: «فحمَّى إذاً أو طاعوناً» - ثلاث مرات -، فلما أصبح قال له إنسان من أهله: يا رسول الله لقد سمعتك الليلة تدعو بدعاء، قال: «وسمعته» ؟ قال: نعم، قال: «إنِّي سألت(3/369)
ربي عز وجل أن لا يهلك أمتي بسنةٍ فأعطانيها، وسألت الله أن لا يسلِّط عليهم عدواً يبيدهم، وسألته أن لا يُلبِسهم شيعاً ويذيق بعضهم بأس بعض فأبى عليَّ - أو قال: فمُنعت - فقلت: حمى إذاً أو طاعوناً» - يعني ثلاث مرات، قال الهيثمي. رواه أحمد. وأبو قلابة لم يدرك معاذ بنجبل. انتهى.
فرح أبي عبيدة بالطاعون
وأخرج ابن عساكر عن عروة بن الزبير رضي الله عنه أن وجع عمواس كان معافًى منه أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه ثم أهله، فقال: اللهمَّ نصيبك في آل (أبي) عبيدة، فخرجت بأبي عبيدة في خنصره بثرة، فجعل ينظر إليها فقيل إنها ليست بشيء، فقال: إني أرجو أن يبارك الله فيها، فإنه إذا بارك في القليل كان كثيراً. وعنده أيضاً عن الحارث ابن عميرة الحارثي أن معاذ بن جبل رضي الله عنه أرسله إلى أبي عبيدة ابن الجراح يسأله كيف هو؟ - وقد طُعن - فأراه أبو عبيدة طعنة خرجت في كفِّه، فتكاثر شأنها في نفس الحارث، وفرق منها حين رآها، فأقسم أبو عبيدة بالله ما يحب أن له مكانها حُمْر النَّعم. كذا في المنتخب.
الصبر على ذهاب البصر
صبر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على ذهاب بصرهم
صبر زيد بن أرقم رضي الله عنه على فقد بصره
أخرج البخاري في الأدب (ص78) عن زيد بن أرقم رضي الله عنه يقول: رمدت(3/370)
عيني، فعادني النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: «يا زيد، لو أن عنيك لِمَا بها كيف كنت تصنع» ؟ قال: كنت أصبر وأحتسب، قال: «لو أنَّ عينك لما بها ثم صبرت واحتسبت كان ثوابك الجنة» . وعند أحمد عن أنس رضي الله عنه قال: دخلت مع النبي صلى الله عليه وسلم نعود زيد بن أرقم وهو يشتكي عينيه، فقال له: «يا زيد لو كان بصرك لما به وصبرت واحتسبت لتلقينَّ الله عز وجل ليس عليك ذنب» قال الهيثمي: وفيه الجُعفي وفيه كلام كثير وقد وثَّقه الثوري وشعبة - انتهى.
وعند أبي يعلى وابن عساكر عن زيد بن أرقم رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم خل عليه يعوده من مرض كان به فقال: «ليس عليك من مرضك هذا بأس، ولكن كيف بك إذا عُمِّرت بعدي فعُميت؟» قال: إذاً أصبر واحتسب، قال: «إذاً تدخل الجنة بغير حساب» ، فعمي بعد ممات النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجه البيهقي عن زيد بمعناه، كما في الكنز، وأخرجه الطبراني في الكبير عن زيد نحوه وزاد: فعمي بعدما مات النبي صلى الله عليه وسلم ثم ردَّ الله عز وجل إليه بصره، ثم مات رحمه الله. قال الهيثمي ونباتة بنت برير بن حماد لم أجد من ذَكَرها.(3/371)
صبر أحد الأصحاب على فقد بصره
وأخرج البخاري في الأدب (ص78) عن القاسم بن محمد أن رجلاً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ذهب بصره فعادوه فقال: كنت أريدهما لأنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأما إذا قُبض النبي صلى الله عليه وسلم فوالله ما يسرني أن ما بهما بظبي من ظِباء تَبالة. وأخرجه ابن سعد عن القاسم نحوه.
الصبر على موت الأولاد والأقارب والأحباب
صبر سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم على موت ابنه إبراهيم
أخرج ابن سعد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: رأيت إبراهيم وهو يَكِيد بنفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، والله يا إبراهيم إنَّا بك لمحزونون» .
وعنده أيضاً عن مكحول قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معتمد على عبد الرحمن بن عوف، وإبراهيم يجود بنفسه، فلما مات دمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له عبد الرحمن: أيْ رسول الله هذا الذي تنهي الناس عنه متى يرك المسلمون تبكي يبكوا قال: فلما شُريت عنه عبرته، قال: «إنَّما هذا رُحْم، وإن من لا يَرحم لا يُرحم، إنَّما ننهي الناس عن النياحة، وأن يُندب الرجل بما ليس فيه» ثم قال: «لولا أنه وعدٌ جامع، وسبيل مئتاء وأن آخرنا لاحق(3/372)
بأولنا، لوجدنا عليه وَجداً غير هذا، وإنا عليه لمحزنون، تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب، وفَضْل رضاعة في الجنة» . وأخرجه أيضاً عن عبد الرحمن بن عوف أطول منه بمعناه.
صبره عليه السلام على موت ابن بنت له
وأخرجه الطيالسي وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وأبو عَوانة وابن حِبَّان عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: كان عند النبي صلى الله عليه وسلم فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه وتخبره أن صبياً لها في الموت، فقال للرسول: «ارجع إليها فأخبرها أنَّ الله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمّى، فمرها فلتصبر ولتحتسب» فعاد الرسول فاقل: إنها قد أقسمت لتأتينَّها، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وقام معه سد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت رضي الله عنهم ورجال، وانطلقت معهم، فرُفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبي ونفسه تَقَعْقَع كأنها في شَنْ، ففاضت عيناه فقال له سعد: ما هذا يا رسول(3/373)
الله؟ قال: «هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء» . كذا في الكنز.
صبره عليه السلام على موت عمه حمزة
وأخرج البزار والطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه حين استشهد، فنظر إلى منظر لم ينظر إلى منظر أوجع للقلب منه - أو أوجع لقلبه منه -، ونظر إليه وقد مُثِّل به، فقال: «رحمة الله عليك، إن كنتَ ما علمتُ لوصولاً للرحم، فعولاً للخيرات، والله لولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أتركك حتى يحشرك الله من بطون السباع - أو كلمة نحوها -. أما والله على ذلك لأمثلنَّ بسبعين كميتتك» فنزل جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم بهذه السورة وقرأ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (سورة النحل، الآية: 126) - إلى آخر الآية -، فكفَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمسك عن ذلك. وفيه صالح بن بشير المرِّي وهو ضعيف، كما قال الهيثمي، وأخرجه الحاكم بهذا الإِسناد نحوه.
وعند الطبراني عن ابنع باس رضي الله عنهما قال: لما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمزة رضي الله عنه نظر إلى ما به فقال: «لولا أن يحزن نساؤنا ما غيبته، ولتركته حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير يبعثه الله ممَّا(3/374)
هنالك» قال: وأحزنه ما رأس به فقال: «لئن ظفرت بهم لأمثلنَّ بثلاثين رجلاً منهم» فأنزل الله عز وجل في ذلك {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصَّابِرينَ} - إلى قوله {يَمْكُرُونَ} ، ثم أمر به فهيىء إلى القبلة، ثم كبَّر عليه تسعاً، ثم جمع إليه الشهداء كلما أتي بشهيد وضع إلى جنبه فصلَّى عليه وعلى الشهداء اثنتين وسبعين صلاة، ثم قام على أصحابه حتى وارهم؛ ولما نزل القرآن عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجاوز وترك المُثَل. وفيه أحمد بن أيوب بن راشد وهو ضعيف. قاله الهيثمي.
حزنه عليه السلام على زيد بن حارثة
وأخرج ابن أبي شيبة وابن مَنيع والبزار والباوَرْدي والدارقطني في الأفراد وسعيد بن منصور عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: لما قُتل أبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآني دمعت عيناه، فلما كان من الغد أتيته فقال: «ألاقي منك اليوم ما لاقيت منك أمس» . كذا في المنتخب؛ وعند ابن سعد عن خالد بن شُمَير قال: لما أصيب زيد بن حارثة رضي الله عنه أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم قال: فجهَشتْ بنت زيد في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تحى انتحب، فقال له سعيد بن عبارة رضي الله عنه: يا رسول الله ما هذا؟ قال: هذا شوق الحبيب إلى حبيبه» .
حزنه عليه السلام على عثمان بن مظعون
وأخرج الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قبَّل النبي صلى الله عليه وسلم(3/375)
عثمان بن مظعون رضي الله عنه وهوميت وهو يبكي وعيناه تذرفان. كذا في الإِصابة؛ وأخرجه ابن سعد عن عائشة نحوه، وفي روايته قال: فرأيت دموع النبي صلى الله عليه وسلم تسيل على خدِّ عثمان بن مظعون.
صبر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على الموت
صبر أم حارثة على موت ابنها
أخرج الشيخان عن أنس رضي الله عنه أن حارثة بن سراقة رضي الله عنه قتل يوم بدر وكان النظارة، أصابه سهم غَرب فقتله، فجاءت أمه فقالت: يا رسول الله أخبرني عن حارثة، فإن كان في الجنة صبرت، وإلاَّ فليَرَينَّ الله أصنع - يعني من النياح وكانت لم تحرم بعد - فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم «ويحك أهَبِلْتِ؟ إنها جنان ثمان، وإنَّ ابنك أصاب الفردوس الأعلى» . كذا في البداية؛ وأخرجه البيهقي عن أنس نحوه وفي رواية: فإن كان في الجنة صبرت وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه البكاء، قال: يا أم حارثة إنَّها جنان في الجنة وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى» . وأخرجه ابن أبي شيبة، كما في الكنز، والحاكم وابن سعد عن أنس بمعناه(3/376)
والطبراني كما في الكنز عن حصن بن عوف الخثعمي رضي الله عنه بمعناه وفي حديثه قال: «يا أم حارثة إنَّها ليست بجنة واحدة ولكنها جنان كثيرة وهو في الفردوس الأعلى» ، قالت: فسأصبر. وأخرجه ابن النجار عن أنس مطوَّلاً، كما في الكنز، وفي حديثه: فقالت: يا رسول الله إنّ يكن في الجنة لم أبكِ ولم أحزن، وإن يكن في النار بكيت ما عشت في الدنيا، فقال: «يا أم حارث - أو حارثة - إنها ليست بجنة ولكنها جنة في جنات، والحارث في الفردوس الأعلى» ، فرجعت وهي تضحك وتقول: بخٍ بخٍ يا حارث.
صبر أُم خلاد على ابنها
وأخرج ابن سعد عن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه قال: قتل يوم قريظة رجل من الأنصار يدعى خلاَّداً رضي الله عنه قال؛ فأتيت أُمه فقيل لها: يا أُم خلاَّد قُتل خلاَّد، قال: فجاءت متنقِّبة فقيل لها: قُتل خلاَّد وأنت متنقِّبة قالت: إن كنت رُزئت خلاَّداً قلا أُرزأ حيائي، فأُخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: «أما إنَّ له أجر شهيدين» ، قال: قيل: ولم ذاك يا رسول الله؟ فقال: «لأن أهل الكتاب قتلوه» وأخرجه أبو نعيم عن عبد الخير بن قيس بن شماس عن أبيه عن جده، كما في الكنز؛ وأخرجه أيضاً أبو يَعْلى من طريق عبد الخير ابن قيس بن ثابت بن قيس بن شماس عن أبيه عن جدِّه نحوه، كما في الإِصابة، وقال: قال ابن منده: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. اهـ.(3/377)
صبر أبي طلحة وأُم سليم على فَقْد ولدهما
وأخرج البزار عن أنس رضي الله عنه قال: جاءت أُم سُلَيم رضي الله عنها إلى أبي أنس فقالت: جئت اليوم بما تكره، فقال: لا تزالين تجيئين بما أكره من عند هذا الأعرابي، قالت: كان أعرابياً اصطفاه الله واختاره وجعله نبياً، قال: ما الذي جئت به؟ قالت: حُرِّمت الخمر، قال: هذا فراق بيني وبينك، فمات مشركاً، وجاء أبو طلحة رضي الله عنه إلى أُم سليم قالت: لم أكن أتزوج وأنت مشرك، قال: لا والله ما هذا دهرك، قالت: فما دهري؟ قال: دهرك في الصقراء والبيضاء، قالت: فإني أشهدك وأشهد نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم أنك إن أسلمت فقد رضي بالإِسلام منك، قال: فمن لي بهذا؟ قالت: يا أنس قم فانطلق مع عمك، فقام، فوضع يده على عاتقي فانطلقنا حتى إذا كنا قريباً من نبي الله صلى الله عليه وسلم فسمع كلامنا، فقال: «هذا أبو طلحة بين عينيه عزَّة الإِسلام» فسلَّم على نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فزوَّجه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإِسلام، فولدت له غلاماً، ثم إن الغلام دَرَج وأعجب به أبوه، فقبضه الله تبارك وتعالى، فجاء أبو طلحة فقال: ما فعل ابني يا أُم سُليم؟ قالت: خير ما كان، فقالت: ألا تتغدَّى قد أخَّرتُ غداك اليوم؟ قالت: فقدَّمت إليه غداءه فقلت: يا أبا طلحة عارية استعارها قوم وكانت العارية عندهم ما قضى الله، وإن أهل العارية أرسلوا إلى عاريتهم فقبضوها ألهم أن يجزعوا؟ قال: لا، قالت: فإن ابنك قد فارق الدنيا، قال: فأين هو؟ قالت: ما هو ذا في المخدع، فدخل فكشف عنه واسترجَع، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدصثه بقول أُم سُلَيم فقال: «والذي بعثني بالحق لقد قذف الله تبارك وتعالى في رحمها ذكراً لصبرها على ولدها» قال: فوضعته، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم «اذهب(3/378)
يا أنس إلى أُمك فقل لها: إذا قطغتِ سَرَر ابنك فلا تذيقيه شيئاً حتى ترسلي به إليَّ» قال: فوضعته على
ذراعي
حتى أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعته بين يديه، فقال: «ائتني بثلاث تمرات عجوة» قال: فجئت بهن فقذف نواهن ثم قذفه في فيه فلاكه، ثم فتح فاه الغلام فجعله في فيه، فجعل يتلمظ فقال: «أنصاري يحب التمر» ، فقال: «ذاهب إلى أُمك فقل: بارك الله لك فيه وجعله بَرَّاً تقياً» قال الهيثمي: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح غير أحمد بن منصور الرمادي وهو ثقة، وفي رواية للبزار أيضاً قالت له: أتزوجك وأنت تعبد خشبة جرها عبدي فلان - فذكر الحديث ورجاله رجال الصحيح - انتهى، وأخرجه ابن سعد عن أنس بدون ذكر قصة إسلام أبي طلحة.
وعند البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: كان ابن لأبي طلحة رضي الله عنه يشتكي، فخرج أبو طلحة فقُبض الصبي، فلما رجع أبو طلحة قال: ما فعل ابني؟ قالت أُم سُلَيم: هو أسكن ما كان، فقربت إليه العشاء فتعشَّى، ثم أصاب منها، فلما فرغ قالت: واروا الصبي، فلما أصبح (أتى) أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: «أعرستم الليلة؟» قال: نعم، قال: «اللهمَّ بارك لهما» فولدت غلاماً، قال لي أبو طلحة: احفظه حتى تأتي به النبي صلى الله عليه وسلم فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم وأرسلت معه بتمرات فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أمعه شيء؟» قالوا: نعم تمرات، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم فمضغها، ثم أخذ مَن فيه فجعلها في في الصبي وحنَّكه به وسمَّاه عبد الله. وفي رواية أخرى عنده: فقَال(3/379)
رسول الله صلى الله عليه وسلم «لعل الله أن يبارك لهما في ليلتهما» قال سيفيان: فقال رجل من الأنصار: فرأيت (لهما) تِسعة أولاد كلهم قد قرآ القرآن.
صبر أبي بكر الصديق على موت ابنه عبد الله
وأخرج الحاكم عن القاسم بن محمد قال: رُمي عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما بسهم يوم الطائف، فانتقضت به بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعين ليلة فمات، فدخل أبو بكر على عائشة رضي الله عنها فقال: أي بنية والله لكأنما أُخذ بأُذن شاة فأخرجت من دارنا. فقالت: الحمد لله الذي ربط على قلبك وعز لك على رشدك، فخرج ثم دخل فقال: أي بنية أتخافون أن تكونوا دفنتم عبد الله وهو حي؟ فقالت: وإنا لله وإنا إليه راجعون يا أبت، فقال: أستعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، أي بنية إنه ليس أحد إلا وله لمَتان: لمة من المَلَك، ولمة من الشيطان، قال: فقدم عليه وفد ثقيف ولم يزل ذلك السهم عنده، فأخرج إليهم فقال: هل يعرف هذا السهم منكم أحد؟ فقال سعد بن عبيد أخو بني العجلان: هذا سهم أنا بريته ورشته وعقبته وأنا رميت به، فقال أبو بكر: فإن هذا السهم الذي قتل عبد الله بن أبي بكر، فالحمد لله الذي أكرمه بيدك ولم يهنك بيده فإنه واسع الحمى، وأخرجه البيهقي نحوه وفي روايته: ولم يهنك بيده فإنه أوسع لكما.
صبر عثمان وأبي ذر في هذا الأمر
وأخرجه ابن سعد عن عمرو بن سعيد رضي الله عنه قال: كان عثمان رضي الله عنه(3/380)
إذا ولد له ولد دعا به وهو في خِرقة فشمَّه، فقيل له: لم تفعل هذا؟ فقال: إني أُحب إن أصابه شيء يكون قد وقع له فيقلبي شيء - يعني الحب -. كذا في الكنز، وأخرجه أبو نُعَيم عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قيل له: إنك امرؤ ما يبقى لك ولد، فقال: الحمد لله الذي يأخذهم في دار الفناء ويدَّخرهم في دار البقاء. كذا في الكنز.
صبر عمر على موت أخيه زيد
وأخرج الحاكم عن عمر بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب رضي الله عنه قال: كان عمر يصاب بالمصيبة فيقول: أُصبت بزيد بن الخطاب فصبرت. وأبصر عمر رضي الله عنه قاتل أخيه زيد فقال له: ويحك لقد قتلت لي أخاً ما هبَّت الصَّبا إلا ذكرته. وأخرجه البيهقي عن عبد الرحمن بن زيد مثله.
صبر صفية على موت أخيها حمزة
وأخرجه الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما قُتل حمزة رضي الله عنه أقبلت صفية رضي الله عنها تطلبه لا تدري ما صنع، فلقيت علياً والزبير رضي الله عنهما فقال علي للزبير: اذكر لأُمك، وقال الزبير لعلي: لا، اذكر أنت لعمتك. قالت: ما فعل حمزة؟ فأرياها أنهما لا يدريان، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إني أخاف على عقلها» فوضع يده على صدرها ودعا، فاسترجعتْ وبكتْ، ثم جاء فقام عليه وقد مُثِّل به فقال: «لولا جزع النساء(3/381)
لتركته حتى يُحصَّل من حواصل الطير وبطون السباع» ، ثم أمر بالقتلى فجعل يصلِّي عليهم، فيضع تسعة وحمزة رضي الله عنهم فيكبر عليهم سبع تكبيرات، ثم يرفعون ويترك حمزة، ثم يؤتوا بتسعة فيكبر عليهم بسبع تكبيرات، ثم يرفعون ويترك حمزة، ثم يؤتوا بتسعة فيكبر عليهم سبع تكبيرات حتى فرغ منهم. وأخرجه أيضاً ابن أبي شيبة والطبراني نحوه عن ابن عباس، كما في المنتخب، والبزَّار كما في المجتمع وقال: في إسناده البزار والطبراني يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف.
وعند البزار وأحمد وأبي يعلى عن الزبير بن العوام رضي الله عنه أنه لما كان يوم أُحُد أقبلت امرأة تسعى حتى كادت أن تشرف على القتلى، قال: فكره النبي صلى الله عليه وسلم أن تراهم، فقال: المرأة المرأة. وقال الزبير: فتوسَّمتُ أنها أُمي صفية، قال: فخرجت أسعى إليها، قال: فأدركتها قبل أن تنتهي إلى القتلى، قال: فلَدَمت في صدري - وكانت امرأة جَلْدة قالت: إليك عني لا أرض لك، فقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عزم عليك، قال: فوقفتْ وأخرجتْ ثوبين معها فقالت: هذان ثوبان جئت بهما لأخي حمزة، فقل بلغني مقتله فكفِّنوه فيهما، قال: فجئنا بالثوبين لنكفن فيهما حمزة فإذا إلى جنبه رجل من(3/382)
الأنصار قتيل فُعل (به) كما فعل بحمزة، قال: فوجدنا غضاضة وحياء أن يكقِّن حمزة في ثوبين والأنصاري لا كفن له فقلنا: لحمزة ثوب وللأنصاري ثوب، فقدَّرناهما فكان أحدهما أكبر من الآخر، فأقرعنا بينهما قكقَّنَّا كل واحد منهما في الثوب الذي صار له. قال الهيثمي: وفيه عبد الرحمن بن أبي الزناد وهو ضعيف وقد وُثِّق. انتهى.
وعند ابن إسحاق في السيرة عن الزّهْري وعاصم بن عمر بن قتادة ومحمد بن يحيى وغيرهم عن قتل حمزة رضي الله عنه قال: فأقبلت صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها لتنظر إلى أخيها، فلقيها الزبير رضي الله عنه فقال: أيْ أُمه إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعي، قالت: ولمَ وقد بلغني أنه مُثِّل بأخي؟ وذلك في الله فما أرضانا بما كان من ذلك؟ لأصبرنَّ وأحتسبنَّ إن شاء الله، فجاء الزبير فأخبره فقال: «خلِّ سبيلها» قأتت إليه واستغفرت له ثم أمر به فدفن. كذا في الإِصابة.
صبر أُم سلمة على وفاة زوجها
وأخرج أحمد عن أُم سلمة رضي الله عنها قالت: أتاني أبو سلمة رضي الله عنه يوماً من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لقد سمعت (من) رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً سُررت به، قال: «لا يصيب أحداً من المسلمين مصيبة، فيسترجع عند مصيبته، ثم يقول: اللهمَّ آجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها إلا فُعل(3/383)
به» ، قالت أُم سلمة: فحفظت ذلك منه، فلما توفي أبو سلمة استرجعت وقلت: اللَّهمَّ آجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها.l ثم رجعت إلى نفسي فقلت: من أين لي خير من أبي سلمة؟ فلما انقضت عِدَّتي استأذن عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أدبغ إهاباً لي، فغسلت يديَّ من القَرِظ وأَذنت له، فوضعت له وسادة أَدَم حشوها ليف فقعد عليها، فخطبني إلى نفسي، فلما فرغ من مقالته قلت: يا رسول الله ما بي أن لا تكون بك الرغبة؛ ولكني امرأة بي غَيْرة شديدة فأخاف أن ترى مني شيئاً يعذبني الله به، وأنا امرأة قد دخلت في السن، وأنا ذات عيال، فقال: «أما ما ذكرتِ من الغَيرة فسيُذهبها الله عنك، وأما ما ذكرت من السنِّ فقد أصابني مثل الذي أصابك، وأما ما ذكرت من العيال فإنما عيالك عيالي» ، فقالت: فقد سلَّمت لرسول الله، فقالت أُم سلمة: فقد أبدلني الله بأبي سلمة خيراً منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورواه النسائي وابن ماجه والترمذي وقال: حسن غريب. كذا في البداية، وأخرجه ابن سعد (863/ 64) .
صبر أسيد بن حُضَير على موت زوجته
وأخرجه ابن أبي شيبة وأحمد والشاشي وابن عساكر عن عائشة رضي(3/384)
الله عنها قالت: قَدِمنا من حج أو عمرة فتُلقِّينا بذي الحُليفة، وكان غلمان الأنصار يتلقون أهليهم، فلقوا أُسيد بن حُضَير رضي الله عنه فنَعَوا له امرأته، فتقنَّع وجعل يبكي، فقلت: غفر الله لك أنت صاحب رسول الله ولك من السابقة والقدم ما كل وما أنت تبكي على امرأة؟ قالت: فكشف رأسه، قال: صدقت لعمري ليحق أن لا أبكي على أحد بعد سعد بن معاذ وقد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال قلت: وما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال: «لقد اهتزَّ العرش لوفاة سعد بن معاد» قلت: وهو يسير بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا في الكنز؛ وأخرجه ابن سعد والحاكم عن عائشة نحوه، قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرِّجاه، وقال الذهبي: صحيح؛ وأخرجه أبو نعيم أيضاً عن عائشة نحوه، كمافي الكنز إلا أنه وقع عنده: قال: أفيحق لي أن لا أبكي وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اهتزَّ العرش أعواده لموت سعد بن معاذ» . وعند الطبراني كما في المجمع فقال: وما لي لا أبكي وقد سمعت - فذكره، وقال: وأسانيدها كلها حسنة.
صبر ابن مسعود على موت أخيه عتبة
وأخرجه أبو نُعيم في الحلية عن عون قال: لما أتت عبد الله - يعني ابن مسعود - رضي الله عنه وفاة عتبة رضي الله عنه - يعني أخاه - بكى فقيل له: أتبكي؟ قال: كان أخي في انسب، وصاحبي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أحب(3/385)
مع ذلك أن كنتب قبله. أن يموت فأحتسبه أحب إليَّ من أن أموت فيحتسبني. وعند ابن سعد عن خيثمة رضي الله عنه قال: لما جاء عبدَ الله عنه قال: لما جاء عبد الله نعي أخيه عتبة دمعت عيناه فقال: إن هذه رحمة جعلها الله لا يملكها ابن آدم.
صبر أبي أحمد بن جحش على وفاة أُخته زينب
وأخرج ابن سعد عن عبد الله بن أبي سَلِيط رضي الله عنه قال: رأيت أبا أحمد بن جحش رضي الله عنه يحمل سرير زينب بنت جحش وهو مكفوف وهو يبكي، فأسمع عمر رضي الله عنه وهو يقول: يا أبا أحمد تنحَّ عن السرير لا يُعنّك الناس، وازدحموا على سريرها، فقال أبو أحمد: يا عمر هذه التي نلنا بها كل خير، وإِنَّ هذا يبرِّد حرِّ ما أجد، فقال عمر: الزم، الزم.
صبر المسلمين على موت عمر بن الخطاب
وأخرج ابن سعد وابن مَنِيع وابن عساكر عن الأحنف ابن قيس رضي الله عنه قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: إن قريشاً رؤوس الناس لا يدخل أحد منهم في باب إلا دخل معه فيه طائفة من الناس. فلم أدرِ ما تأويل قوله في ذات حتى طُعن، فلما احتُضر أمر صهيباً رضي الله عنه أن يصلي بالناس ثلاثة أيام، وأمر أن يُجعل للناس طعام فيطعموا حتى يستخلفوا إنساناً، فلما رجعوا من الجنازة جيء بالطعام، ووضعت الموائد، فأمسك الناس عنها للحزن الذي هم فيه، فقال العباس ابن عبد المطلب رضي الله عنه: يا أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات فأكلنا بعده وشربنا، ومات أبو بكر رضي الله عنه فأكلنا بعده وشربنا، وإنه لا بدَّ من الأكل فكلوا من هذا الطعام، ثم مص6 العباس يده فأكل ومدَّ(3/386)
الناس أيديهم فأكلوا، فعرفت قول عمر إنهم رؤوس الناس. كذا في الكنز؛ وأخرجه الطبراني نحوه، قال الهيثمي: وفيه علي بن زيد وحديثه حسن وبقية رجاله رجال الصحيح.
أمر أبي بكر وعلي الناس بالصبر على فَقْد الأقارب
وأخرج ابن أبي خيثمة والدينوري في المجالسة وابن عساكر عن أبي عُيينة رضي الله عنه قال: كان أبو بكر الصدضيق رضي الله عنه إذا عزَّى رجلاً قال: ليس مع العزاء مصيبة وليس مع الجزع فائدة. الموت أهون ما قبله وأشد ما بعده، اذكروا فَقْدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم تصغر مصيبتكم وأعظمَ الله أجركم. كذا في الكنز. وأخرج ابن عساكر عن سفيان قال: عزّى علي بن أبي طالب رضي الله عنه الأشعث بن قيس رضي الله عنه على ابنه فقال: إن تحزن فقد استحقت منكم الرَّحِم، وإن تصبر ففي الله خَلَف من ابنك، إنك إن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك وأنت مأثوم. كذا في الكنز.
الصبر على البلايا مطلقا
صبر امرأة أنصارية على داء الصرع
أخرج البزار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة(3/387)
فجاءته امرأة من الأنصار فقالت: يا رسول الله إن هذا الخبيث قد غلبني، فقال له: «إن تصبري على ما أنت عليه تجيئين يوم القيامة ليس عليك ذنوب ولا حساب» ، قالت: والذي بعثك بالحق لأصبرنَّ حتى ألقى الله. قالت: إني أخاف الخبيث أن يجرِّدني، فدعا له، فكانت إذا خشيت أن يأتيها تأتي أستارالكعبة فَتَعَلَّق بها وتقول له: اخسأ فيذهب عنها. وعند أحمد عن عطاء رضي الله عنه قال: قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه السوداء، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع وأنكشف فادع الله لي، قال: «إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله لك أن يعافيك» قالت: لا، بل أصبر فادع الله ألا أنكشف ولا ينكشف عني. قال: فدعا لها. وهكذا رواه الشيخان ثم قال البخاري عن عطاء: أنه رأى أم زُفَر رضي الله عنها تلك امرأة طويلة سوداء على ستر الكعبة. كذا في البداية.
قصة رجل مع امرأة كانت بغياً في الجاهلية.
وأخرج البيهقي عن عبد الله بن مغفَّل رضي الله عنه أن امرأة كانت بَغِياً في الجاهلية، فمر بها رجل أو مرت به، فبسط يده إليها فقالت: مَهْ، إنّ الله ذهب بالشرك وجاء بالإسلام، فتركها وولَّى، وجعل ينظر إليها حتى أصاب وجهه الحائط، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: «أنت عبد أراد الله بك خيراً، إن الله إذا أراد بعبد خيراً عجل له عقوبة ذنبه، وإذا أراد بعبد شراً أمسك عليه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة» . كذا في الكنز.(3/388)
قول عمر: كل شيء يصيب المؤمن يكرهه فهو مصيبة
وأخرج ابن سعد وابن أبي شيبة وعبد بن حُمَيد وابن المنذر والبيهقي عن عبد الله بن خليفة قال: كنت مع عمر رضي الله عنه في جنازة فانقطع شِسْعه، فاسترجع، ثم قال: كلُّ ما ساءك فهو لك مصيبة. وعند المروزي عن سعيد بن المسيب قال: انقطع قِبال نعل عمر، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقالوا: يا أمير المؤمنين أتسترجع في قِبال نعلك؟ قال: إنَّ كل شيء يصيب المؤمن يكرهه فهو مصيبة. كذا في الكنز.
أمر عمر أبا عبيدة بالصبر على العدو، وصبر عثمان حتى قتل مظلوما
وأخرج مالك وابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا وابن جرير والحاك والبيهقي عن أسلم قال: كتب أبو عبيدة رضي الله عنه إلى عمر بنا لخطاب رضي الله عنه يذكر له جموعاً من الروم وما يتخوف منهم، فكتب إليه عمر: أما بعد، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من شدة يجعل الله بعدها فرجاً، وإنه لن يغلب عسر يسرين، وإن الله تعالى يقول في كتابه: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اصْبِرُواْ} {وَصَابِرُواْ} {وَرَابِطُواْ} {وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (سورة آل عمران، الآية: 200) . كذا في الكنز. وأخرج أبو نعيم في الحلية عن عبد الرحمن ابن مهدي يقول: كان(3/389)
لعثمان رضي الله عنه شيئان ليس لأبي بكر ولا عمر - رضي الله عنهما - مثلهما: صبره على نفسه حتى قُتل مظلوماً، وجمعه الناس على المصحف.
الشكر
شكر سيدنا محمد رسول الله
إطالته عليه السلام السجود شكراً لله عز وجل
أخرج أحمد عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوجه نحو مشربته، فدخل، فاستقبل القبلة فخر ساجداً فأطال السجود حتى ظننت أن الله (عز وجل) قد قبض نفسه فيها، فدنوت منه (فجلست) ، فرفع رأسه قال: من هذا؟ قلت: عبد الرحمن، قال: «ما شأنك؟» قلت: يا رسول الله سجدت سجدة خشيت إن يكون الله (عز وجل) قد قبض نفسك فيها، فقال: «إن جبريل صلى الله عليه وسلم أتاني فبشرني فقال: إن الله عز وجل يقول: من صلى عليك صليت عليه، ومن سلم عليك سلمت عليه، فسجدت لله (عز وجل) شكراً. قال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله ثقات.(3/390)
وأخرج الطبراني عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: أقبلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، فلم يزل قائماً حتى أصبح، فسجد سجدة ظننت أن نفسه قُبضت فيها، قال: «تدري لم ذاك؟» قلت: الله ورسوله أعلم، فأعادها عليَّ ثلاثاً أو أربعاً، فقال: «إنّي صلَّيت ما كتب لي ربي وأتاني ربي، فقال لي في آخرها: ما أفعل بأمتك؟ قلت: أي رب أنت أعلم، فأعادها عليَّ ثلاثاً أو أربعاً، فقال لي في آخرها: فسجدت لربي. وربي شاكر يحب الشاكرين» . قال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير عن حجاج بن عثمان السَكْسَكِي عن معاذ، ولم يدرك معاذاً فقد ذكره ابن حِبَّان في أتباع التابعين وهو من طريق بَقِيَّة وقد عَنْعَنه.
وأخرج الطبراني عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما قال: جئت أزور رسول الله فإذا هو يوحى إليه، فلما سُرِّي عنه قال لعائشة رضي الله عنها: «ناوليني ردائي» فخرج فدخل المسجد فإذا فيه قوم ليس في المسجد غيرهم، فجلس في ناحية القوم حتى قضى المذكر تذكرته، قرأ تنزيل السجدة فأطال السجود حتى إذا جاء من كان على قدر ميلين وتسامع الناس سجوده، فعجز المسجد عن الناس، فأرسلت عائشة إلى أهلها أحضروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقد رأيت منه شيئاً لم أره، فرفع رأسه، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقد رأيت منه شيئاً لم أره، فرفع رأسه، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقد رأيت منه شيئاً لم أره، فرفع رأسه، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله أطلتَ السجود، فقال: «سجدت لربي شكراً. فيما أعطاني من أمتي.(3/391)
سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب» ، فقال أبو بكر: يا رسول الله أمتك أكثر وأطيب فاستكثرتهم، فقال مرتين أو ثلاثاً، فقال عمر رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فقد استوهبت أمتك. وفيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف، كما في المجمع.
شكره عليه السلام أن رأى رجلاً به زمانة
وأخرج الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ به رجل به زَمانة، فنزل وسجد، ومر به أبو بكر رضي الله عنه فنزل وسجد، ومربه عمر فنزل فسجد. وفيه عبد العزيز بن عبيد الله وهو ضعيف، كما في المجمع.
شكره عليه السلام أن رد الله عليه أهله سالمين في سرية
وأخرج البيهقي عن علي رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية من أهله فقال: «اللهمَّ إنَّ لك علي إن رددتم سالمين أن أشكرك حق شكرك» ، فما لبثوا أن جاؤوا سالمين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الحمد لله على سابغ نعم الله» فقلت: يا رسول الله، ألم تقل إن ردهم الله أن أشكره حق شكره؟ فقال: «أو لم أفعل؟» كذا في الكنز.
شكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم شكر رجل أعطاه النبي عليه السلام تمرة
أخرج البيهقي عن أنس رضي الله عنه قال: جاء سائل إلى النبي صلى الله عليه وسلم(3/392)
فأمر له بتمرة، فوحَّش بها، وأتاه آخر فأمر له بتمرة فقال: سبحان الله تمرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للجارية: «اذهبي إلى أُم سلمة فمريها فتعطِه الأربعين درهماً التي عندها» . فأعطاه تمرة فقال الرجل: سبحان الله نبي من الأنبياء يتصدَّق بتمرة؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «أَو علمت أَن فيها مثاقيل ذرَ كثير» فأتاه آخر فسأله فأعطاه تمرة فقال: تمرة من نبي من الأنبياء لا تفارقني هذه التمرة ما بقيت، ولا أَزال أَرجو بركتها أبداً. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بمعروف وما لبث الرجل أَن استغنى. كذا في الكنزل.
شكر عمر أن رفع الله منزلته وقوله في الشكر والصبر
وأَخرج ابن سعد وابن عساكر عن سليمان بن يسار قال: مرَّ عمر ابن الخطاب رضي الله عنه بضَجنانَ فقال: لقد رأَيتني وإني لأرعى على الخطاب في هذا المكان، وكان - والله - ما علمتُ فظاً عليظاً، ثم أصبحت إلى أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم ثم قال متمثلاً:
لا شيء فيما ترى إلاّ بشاشته
يبقى الإِله ويُودي المالُ والولدُ
ثم قال لبعيره حَوْب. كذا في منتخب الكنز.
وأخرج ابن عساكر عن عمر رضي الله عنه قال: لو أَتيت براحلتين: راحلة شكر، وراحلة صبر؛ لم أبالِ أيهما ركبت. كذا في المنتخب.(3/393)
قول عمر في رجل مبتلي وفي رجل آخر في هذا الأمر
وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة رضي الله عنه قال: مرّ عمر ابن الخطاب برجل مبتلى أعمى أصم وأبكم، فقال لمن معه: هل ترون في هذا من نعم الله شيئاً؟ قالوا: لا، قال: بلى ألا ترون يبول فلا يعتصر ولا يلتوي يخرج به بوله سهلاً، فهذه نعمة من الله. كذا في الكنز. وأخرج أبو نعيم في الحلية عن إبراهيم قال: سمع عمر رضي الله عنه رجلاً يقول: اللهمَّ إني أستنفق نفسي ومالي في سبيلك، فقال عمر: أو لا يسكت أحدكم فإن ابتلي صبر وإن عوفي شكر. كذا في الكنز.
قول عمر لرجل سلّم عليه وكتابه لأبي موسى وقوله في أهل الشكر
وأخرج مالك وابن المبارك والبيهقي عن أنس رضي الله عنه أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وسلّم عليه رجل فردّ عليه السلام ثم سأله عمر: كيف أنت؟ فقال: أحمد إليك الله، فقال عمر: ذلك الذي أردتُ منك. كذا في الكنز. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري - رضي الله عنهما -: اقنع برزقك من الدنيا فإنَّ الرحمن فضَّل بعض عباده على بعض في الرزق، بلاء يبتلي به كلاً، فيبتلي به من بسط له كيف شكره، وشكره، لله أداء للحق الذي افترض عليه فيما رزقه وخوَّله. كذا في الكنز؛(3/394)
وأخرج الدينوري عن عمر قال: أهل الشكر مع مزيد من الله فالتمسوا الزيادة، وقد قال الله: {لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ} (سورة إبراهيم: الآية: 7) . كذا في الكنز.
شكر عثمان أن لم يصادف قوماً كانوا على أمر قبيح
وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن سليمان بن موسى أن عثمان بن عفان رضي الله عنه دُعى إلى قوم كانوا على أمر قبيح، فخرج إليهم فوجدهم قد تفرقوا ورأى أثراً قبيحاً، فحمد الله إذ لم يصادفهم وأعتق رقبة.
قول علي في النعمة والشكر
وأخرج البيهقي عن علي رضي الله عنه قال: إنَّ النعمة موصولة بالشكر، والشكر متعلق بالمزيد، وهما مقرونان في قَرَن، ولن ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع من العبد. وعند ابن ماجه والعسكري عن محمد بن كعب القرظي قال: قال علي بن أبي طالب: ما كان الله ليفتح باب الشكر ويخزن باب المزيد، وما كان الله ليفتح باب الدعاء ويخزن باب الإِجابة، وما كان الله ليفتح باب التوبة ويخزن باب المغفرة. أتلو عليكم من كتاب الله. قال الله تعالى: {ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (سورة غافر، الآية: 60) ، وقال: {لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ} (سورة إبراهيم، الآية: 7) ، وقال: {اذكروني أذكركم} (سورة البقرة، الآية: 152) ، وقال: {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله(3/395)
غفورًا رحيمًا} (سورة النساء، الآية: 110) . كذا في الكنز.
قول أبي الدرداء وعائشة وأسماء في الشكر
وأخرج ابن عساكر عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ما أمسيت ليلة وأصبحت لم يرمني الناس فيها بداهية إلا رأيتها نعمة من الله عليَّ عظيمة. وعنده أيضاً عنه قال: من لم يرَ أن لله عليه نعمة إلا في الأكل والشرب فقد قلَّ فهمه وحَضَر عذابه. كذا في الكنز. وأخرجه أبو نعيم في الحلية (1220 و210) عنه نحوه بالوجهين.
وأخرجه ابن أبي الدنيا وابن عساكر عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما من عبد يشرب الماء القَرَاح فيدخل بغير أذى ويخرج بغير أذى إلا وجب عليه الشكر. كذا في الكنز. وأخرجه الطبراني في الكبير عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أنه لما قتل ابن الزبير رضي الله عنهما كان عندها شيء أعطاها إياه النبي صلى الله عليه وسلم في سفَط ففقدته، فأخذت تطلبه، فلما وجدته خرّت ساجدة. قال الهيثمي: إسناده حسن وفي بعض رجاله كلام.(3/396)
الأجر
أجر سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم >
أخرج أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا يوم بدر كل ثلاثة على بعير. كان أبو لبابة وعلي رضي الله عنهما زميلي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فكانت عُقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: نحن نمشي عنك، فقال: «ما أنتما بأقوى مني ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما» ورواه النسائي. كذا في البداية؛ وأخرجه البزّار وقال: فإذا كانت عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا: اركب حتى نمشي عنك - والباقي بنحوه، كما في المجمع، وقال: وفيه عاصم بن بَهْدَلة وحديثه حسن وبقية رجال أحمد رجال الصحيح اهـ.
أجر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تجشّم الصحابة القيام في الصلاة طلباً للثواب
أخرج الطبراني في الكبير عن المطلب بن أبي وَداعة رضي الله عنه قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يصلِّي قاعداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم» فتجشَّم الناس القيام. قال الهيثمي:(3/397)
وفيه صالح بن أبي الأخضر وقد ضعَّفه الجمهور، وقال أحمد: يُعتبر بحديثه. اهـ. وعند أحمد عن ابن شهاب عن أنس رضي الله عنه قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهي مَحَمّة، فَحُمَّ الناس فدخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد والناس يصلُّون من قعود، فقال: «صلاة القاعد نصف صلاة القائم» ، ورجاله ثقات كما قال الحافظ في الفتح، وقال زياد عن ابن إسحاق: وذكر ابن شهاب الزهري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة هو وأصحابه أصابتهم حمّى المدينة حتى جُهِدوا مرضاً، وصرف الله ذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم حتى كانوا وما يصلُّون إلا وهم قعود، قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يصلّون كذلك، فقال لهم: «اعلموا أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم» ، فتجشَّم المسلمون القيام على ما بهم من الضعف والسَّقَم التماس الفَضْل. كذا في البداية.
قصة ربيعة بن كعب معه عليه السلام في حرصه على الثواب
وأخرج أحمد عن ربيعة بن كعب رضي الله عنه قال: كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاري أجمع حتى يصلِّي العشاء الآخرة، فأجلس بباباه إذا دخل بيته أقول: لعلَّها أن تحدث لرسول الله حاجة، فما أزال أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سبحان الله وبحمده» حتى أمل فأرجع أو تغلبني عيناي فأرقد، فقال لي يوماً لما يرى من حقِّي له وخدمتي إياه: «يا ربيعة بن كعب سَلْني أعطِك» قال: فقلت: انظر في أمري يا رسول الله ثم أعلمك ذلك. قال: ففكرت في نفسي، فعرفت أنَّ النيا منقطعة وزائلة وأن لي فيها رزقاً يكفيني ويأتيني،(3/398)
قال: فقلت: أسأل رسول الله لآخرتي فإنَّه من الله بالمنزل الذي هو به، قال: فجئته، فقال: «ما فعلت يا ربيعة؟» قال فقلت: نعم يا رسول الله، أسألك أن تشفع لي إلى ربك فيعتقني من النار، قال فقال: «من أمرك بهذا يا ربيعة» ؟ قال: فقلت: لا والذي بعثك بالحق ما أمرني به أحد ولكنك لما قلت: سلني أعطك وكنتَ من الله بالمنزل الذي أنت به نظرت في أمري، فعرفت أنَّ الدنيا منقطعة وزائلة، وأن لي فيها رزقاً سيأتيني، فقلت: أسأل رسول الله لآخرتي، قال: فصمتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلاً، ثم قال لي: «إنِّي فاعل، فأعنِّي على نفسك بكثرة السجود» كذا في البداية؛ وأخرجه الطبراني في الكبير من رواية ابن إسحاق نحوه، وأخرجه مسلم وأبو داود مختصراً، ولفظ مسلم قال: كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فآتيه بوَضوئه وحاجته فقال لي: «سلني» فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: «أوَ غيرَ ذلك» ؟ قلت: هو ذاك، قال: «فأعنيِّي على نفسك بكثرة السجود» كذا في الترغيب.l
طلب عبد الجبار بن الحارث الثواب في صحبته للنبي عليه السلام
وأخرج ابن منده وابن عساكر - وقال: حديث غريب - من عبد الجبار بن الحارث بن مالك الحرشي ثم المَناري رضي الله عنه قال: وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أرض سَراة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فحييته بتحية العرب فقلت:(3/399)
أنعم صباحاً، فقال: «إن الله عز وجل قد حيَّا محمداً وأمته بغير هذه التحية بالتسليم بعضها على بعض» ، فقلت: السلام عليك يا رسول الله، فقال لي: «وعليك السلام» ثم قال: «ما اسمك؟» قلت: الجبار بن الحارث، فأسلمت وبايعت النبي صلى الله عليه وسلم فلما بايعت قيل له: إن هذا المناري فارس من فرسان قومه. فحملني رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس، فأقمت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاتل معه، ففقد رسول الله صلى الله عليه وسلم صهيل فرسي الذي حملني عليه، فقال: «ما لي لا أسمع صهيل فرس الحرشي» فقلت: يا رسول الله، بلغني أنك تأذيت منصهيله فأخصيته، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إخصاء الخيل فقيل لي: «لو سألت النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً كما سأله ابن عمك تميم الداري - رضي الله عنه -» فقلت: أعاجلاً سأله أم آجلاً؟ فقالوا: بل عاجلاً سأله، فقلت: عن العاجل رغبت، ولكن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغيثني غداً بين يدي الله عز وجل. كذا في المنتخب.
قوله عليه السلام في عمرو بن تغلب وقول عمرو في ذلك
وأخرج البخاري عن عمرو بن تغلب رضي الله عنه قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً ومنع آخرين، فكأنهم عتبوا عليه، فقال: «إنِّي أعطي قوماً أخاف هلعهم وجزعهم، وأَكِل قوماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغنى. منهم عمرو بن تغلب» ، قال عمرو: فما أحب أنَّ لي بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حُمْر النَّعَمْ. كذا في البداية، وأخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب من طرق عن عمرو بن تغلب نحوه.(3/400)
قصة علي وعمر مع رجل طاف بأمه
وأخرجه البيهقي عن عمرو بن حمَّاد قال: حدثنا رجل قال: خرج علي وعمر رضي الله عنهما من الطواف، فإذا هما بأعرابي معه أم له يحملها على ظهره وهو يرتجز ويقول:
أنا مطيتُها لا أنفرْ وإذا الركاب ذُعرت لا أُذعرْ وما حَملَتْني وأرضعتني أكثرْ لبيك اللهم لبيك؛ فقال علي: يا أبا حفص ادخل بنا الطواف لعلَّ الرحمة تنزل فتعمنا، فدخل يطوف بها وهو يقول:
أنا مطيتُها لا أنفِرْ وإذا الركاب ذُعرت لا أُذعر وما حَملَتْني وأرضعتني أكثرْ لبيك اللهم لبيك، وعلي يقول:
إن تبرها فالله أَشْكَرْ
يجزيك بالقليل الأكثرْ
كذا في الكنز.
احتساب ابن عمر إبلاً له وراعيها وزواجه من أجل الثواب
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن عميمون بن مِهران قال: مرّ أصحاب نَجحدة الحروري على إبل لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما فاستاقوها، فجاء راعيها فقال: يا أبا عبد الرحمن احتسب الإِبل، قال: وما لها؟ قال: قد كانوا ذهبوا بي معها ولكنِّي انفلتُّ منهم، قال: ما حملك على أن تركتهم وجئتني؟ قال: أنت أحب إليَّ منهم، قال: الله الذي لا إله إلا هو لأنا أحب إليك منهم؟ قال: فحلف له، قال: فإني أحتسبك معها، فأعتقه، فمكث ما مكث ثم أتاه آتٍ فقال: هل لك في ناقتك الفلانية؟ - سماها باسمها - ها هو ذا تباع(3/401)
في السوق، قال: أرني ردائي، فلما وضعه على منكبيه وقام جلس فوضع رداءه، ثم قال: لقد كنت احتسبتُها فلم أطلبها؟ قال في الإِصابة: أخرجه السراج في تاريخه وأبو نُعيم من طريقه بسند صحيح عن ميمون - فذكره. وأخرج ابن سعد عن عمرو بن دينار رضي الله عنه قال: أراد ابن عمر رضي الله عنهما ألاَّ يتزوج، فقالت له حفصة رضي الله عنها: تزوجفإن ماتوا أُجرت فيهم وإن بقُوا دَوا الله لك.
قول عمار وهو سائر إلى صفِّين
وأخرج ابن سعد عن عبد الرحمن بن أبْزَى رضي الله عنه عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما أنه قال وهو يسير إلى صفضين على شط الفرات: اللمَّ إنَّه لو أعلم أنه أرضى لك عن أن أرمي بنفسي من هذا الجبل فأتردّى فأسقط فعلت، ولو أعلم أنه أرضى لك عني أن أوقد ناراً عظيمة فأقع فيها فعلت. اللهم لو أعلم أنه أرضى لك عني أن أُلقي نفسي في الماء فأغرق نفسي فعلت، فإني لا أقاتل إلا أريد وجهك، وأنا أرجو أن لا تخيبني وأنا أريد وجهك. وأخرجه أبو نعيم في الحلية عن عبد الرحمن بن أبزَى عن عمار بنحوه مختصراً.
قول ابن عمرو في عمله بعد النبي عليه السلام
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: لخير أعمله اليوم أحب إليَّ من مثليه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنا كنّا(3/402)
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تهمنا الآخرة ولا تهمنا الدنيا، وإنا اليوم قد مالت بنا الدنيا. وأخرجه الطبراني عن عبد الله نحوه؛ قال الهيثيم: ورجاله رجال الصحيح.
الاجتهاد في العبادة
اجتهاد سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج الشيخان عن علقمة قال: سألت عائشة رضي الله عنها: أكان رسول الله يخص شيئاً من الأيام؟ قالت: لا، كان عمله ديمة، وأيكم يُطيق ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيق كذا في صفة الصفوة (ص74) . وأخرج الشيخان عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام حتى تفطَّرت قدماه، فقيل له: أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبداً شكوراً؟» كذا في البداية؛ وأخرجه ابن سعد عن المغيرة نحوه وسيأتي مزيد ذلك في الصلاة.
اجتهاد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اجتهاد عثمان وعبد الله بن الزبير في العبادة
أخرج أبو نُعيم في احلية عن الزبير بن عبد الله عن جدة له يقال لها(3/403)
زهيمة قالت: كان عثمان رضي الله عنه يصوم الدهر ويقوم اليل إلا هَجْعة من أوله، وأجرجه ابن أبي شيبة نحوه، كما في المنتخب. وأخرج ابن عساكر عن مجاهد قال: بلغ ابن الزبير رضي الله عنهما من العادة ما لم يبلغ أحد، وجاء سيل فحال بين الناس وبين الطواف، فجاء ابن الزبير فطاف أسبوعاً سباحة. كذا في المنتخب.
وأخرج ابن جرير عن قَطَن بن عبد الله قال: كان ابن الزبير رضي الله عنهما يواصل سبعة أيام حتى تيبس أمعاؤه، وعنده أيضاً عن هشام بن عروة قال: كان عبد الله بن الزبير يواصل سبعة أيام، فلما كَبِر جداً جعلها ثلاثة. كذا في المنتخب وستأتي قصتهما وقصة غيرهما من الصحابة في الصلاة.
الشجاعة
شجاعة سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه
قول أنس وعلي في شجاعته عليه السلام
أخرج الشيخان - واللفظ لمسلم - عن أنس رضي الله عنه اقل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قِبَل الصوت، فتلقّاهم رسول الله راجعاً وقد(3/404)
سبقهم إلى الصوت وهو على فرس لأبي طلحة رضي الله عنه عُرْي في عنقه السيف وهو يقول: «لم تُراعوا، لم تُراعوا» ، قال: «وجدناه بحراً - أو إنه لبحر» ، قال: وكان فرساً يبطَأ. وعند مسلم عنه قال: كان فزع بالمدينة فاستعار رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً لأبي طلحة يقال له مندوب، فركبه فقال: «ما رأينا من فزع وإنْ وجدناه لبحراً» ، قال: كنا إذا اشتد البأس اتَّقينا برسوف الله صلى الله عليه وسلم وعند أحمد والبيهقي عن علي بن أي طالب رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر اتَّقينا المشركين برسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أشد الناس بأساً. وكان في البداية.
شجاعته عليه السلام يوم حُنَين وقول البراء في هذا الأمر
وأخرج البخاري عن أبي إسحاق سمع البراء بن عازب رضي الله عنهما وسأله رجل من قيس أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ فقال: لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفرّ. كانت هوازن رُماة، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا، فأكببنا على الغنائم فاستقبلتنا بالسهام، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء وإن أبا سفيان رضي الله عنه آخذ بزمامها وهو يقول: «أنا النبي لا كذب» ، وفي(3/405)
رواية للبخاري وقال: «إن النبي لا كذب. أنا ابن عبد المطلب» ؛ وفي رواية أخرى عنده: ثم نزل عن بغلته، ورواه مسلم والنسائي، وعند مسلم عن البراء قال: ثم نزل فاستنصر وهو يقول:
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب اللهم نزّل نصرك.
قال البراء: ولقد كنّا إذا حمي البأس نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم زإن الشجاع الذي يحاذِي به. كذا في البداية، وقد تقدّمت قصص شجاعة أبي بكر وعمر وعلي وطلحة والزبير وسعد وحمزة والعباس ومعاذ ابن عمرو ومعاذ بن عفراء وأبي دُجانة وقتادة وسلم ة بن الأكوع وأبي حدرد وخالد بن الوليد والبراء بن مالك وأبي محجن وعمار بن ياسر وعمرو ابن معدِيكرب وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم في شجاعة الصحابة في الجهاد.
الورع
ورع سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد تحت جنبه تمرة من الليل فأكلها، فلم ينم تلك الليلة، فقال بعض نسائه: يا رسول الله أرقتَ الليلة، قال: «إني وجدت تحت جنبي تمرة فأكلتها، وكان عندنا تمر من تمر الصدقة، فخشيت أن تكون منه» . تفرد به أحمد وأسامة(3/406)
بن زيد هو الليثي من رجال مسلم. كذا في البداية.
ورع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
ورع الصديق رضي الله عنه
أخرج أحمد في الزهد عن محمد بن سيرين قال: لم أعلم أحداً استقاء من طعام أكله غير أبي بكر رضي الله عنه، فإنه أُتي بطعام فأكله ثم قيل له: جاء به النعمان رضي الله عنه، قال: فأطعتموني كهانة ابن النعمان ثم استقاء. وعند البغوي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن ابن نعيمان رضي الله عنه وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذا هيئة وضيئة، فأتاه قوم فقالوا: أعندك في المرأة لا تعلق شيء؟ قال: نعم، قالوا: ما هو؟ قال: يا أيتها الرحم العقوق. صه لداها وفوق. وتحرم من العروق. يا ليتها في الرحم العقوق. لعلها تَعْلق أو تُفيق. فأهدى له غنماً وسمناً، فجاء ببعضه إلى أبي بكر فأكل منه، فلما أن فرغ قام أبو بكر فاستقاء، ثم قال: يأتينا أحدكم بالشيء لا يخبرنا من أين هو؟ قال ابن الزبير: إسناده جيد حسن. كذا في المنتخب.
وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: كان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه مملوك يغلُّ عليه، فأتاه ليلة بطعام، فتناول منه لقمة، فقال له المملوك: ما لك كنت تسألني كل ليلة ولم تسألني الليلة؟(3/407)
قال: حملني على ذلك الجوع، من أين جئت بهذا؟ قال: مررت بقوم في الجاهلية فرَقَيت لهم، فوعدوني فلما أن كان اليوم مررت بهم فإذا عُرس لهم فأعطوني، قال: إن كدت أن تهلكني. فأدخل يده في حلقه فجعل يتقيأ وجعلت لا تخرج، فقيل له: إن هذه لا تخرج إلا بالماء، فدعا بطست من مماء فجعل يشرب ويتقيأ حتى رمى بها، فقيل له: يرحمك الله كل هذا من أجل هذه اللقمة، قال: لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل جسد نبت من سمت فالنار أولى به» فخشيت أن ينبت شيء من جسدي من هذه اللقمة. قال أبو نُعيم: ورواه عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها نحوه والمنكدر بن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر رضي الله عنه نحوه انتهى. وقال ابن الجوزي في صفة الصفوة: وقد أخرج البخاري من أفراده من حديث عائشة طَرَفاً من هذا الحديث. انتهى؛ وأخرج الحسن بن سفيان والدِّينَوري في المجالسة عن زيد بن أرقم رضي الله عنه نحوه، كما في المنتخب.
ورع عمر وعلي رضي الله عنهما
وأخرج مالك والبيهقي عن زيد بن أسلم قال: شرب عمر رضي الله عنه لبناً فأعجبه فسأل الذي سقاه: من أين لك هذا اللبن؟ فأخبره أنه ورد على ماء فإذا نَعَم من نعم الصدقة وهم يسقون، فحليوا لنا من ألبانها فجعلته في سقائي(3/408)
هذا، فأدخل عمر أصبعه فاستقاءه. كذا في المنتخب وأخرج ابن سعد عن المِسْوعر بن مَخْرمة رضي الله عنه قال: كنا نلزم عمر بن الخطاب نتعلم منه الورع. وأخرج ابن عساكر عن الشَّعْبي قال: خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوماً بالكوفة فوقف على باب فاستسقى ماء، فخرجت إليه جارية بإبريق ومنديل فقال لها: يا جارية لمن هذه الدار؟ قالت: لفلان القسطال، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تشرب من بئر قسطال ولا تستظلن في ظل عشار» . كذا في الكنز وقال: ولم أرَ في رجاله من تُكلم فيه. اهـ.
ورع معاذ وابن عباس رضي الله عنهما
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن يحيى بن سعيد أن معاذ ابن جبل رضي الله عنه كانت له امرأتان، فإذا كان يوم إحداهما لم يتوضأ من بيت الأخرى، ثم توفيتا في السقم الذي أَصابهما بالشام والناس في شغل، فدفنتا في حفرة فأسهم بينهما أَيتهما تقدّم في القبر. وعنده أَيضاً من طريق مالك عن يحيى قال: كان تحت معاذ بن جبل إمرأَتان، فإذا كان عند إِحداهما لم يشرب من بيت الأخرى الماء. وأَخرج ابن سعد عن طاووس قال: أَشهد لسمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: أشهد لسمعت عمر رضي الله عنه يهل،(3/409)
فإنا لواقفون في الموقف فقال له رجل: أرأيت حين دَفَع؟ فقال ابن عباس: لا أدري، فعجب الناس من ورع ابن عباس. كذا في المنتخب.
التوكل
توكل سيدنا محمد رسول الله
قصته عليه السلام مع الأعرابي الذي أراد قتله وهو نائم
أخرج الشيخان عن جابر رضي الله عنه أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة نجد، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركته القائلة في وادٍ كثير العِضاه، فتفرق الناس يستظلون بالشجر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت ظل شجرة فعلَّق بها سيفه، قال جابر: فنمنا نومة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا فأجبناه، وإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صَلْتاً، فقال: من يمنعك مني؟ قلت: الله، فقال: من يمنعك ني؟ قلت: الله، فشام السيف وجلس» ، ولم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد فعل ذلك.
وعند البيهقي عن جابر رضي الله عنه قال: قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم محارب وغطفان بنخل، فرأوا من السملمين غِرّة، فجاء رجل منهم يقال له غَوْرث بن الحارث حتى قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف وقال: من يمنعك(3/410)
مني؟» فقال: كن خير آخذ، قال: «تشهد أن لا إله إلا الله؟» قال: لا، ولكن أعاهدك على أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلَّى سبيله؛ فأتى أصحابه وقال: جئتكم من عند خير الناس - ثم ذكر صلاة الخوف. كذا في البداية.
توكل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم توكل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه
أخرج أبو داود في القدر وابن عساكر عن يحيى بن مرة قال: كان علي رضي الله عنه يخرج بالليل إلى المسجد يصلِّي تطوعاً، فجئنا نحرسه، فلما فرغ أتانا فقال: ما يجلسكم؟ قلنا: نحرسك، فقال: أمن أهل السماء تحرسون أم من أهل الأرض؟ قلنا: بل من أهل الأرض، قال: إنَّه لا يكون في الأرض شيء حتى يُقضي في السماء، وليس من أحد إلاّ وقد وُكضل به مَلِكان يدفعان عنه ويكلآنه. حتى يجيىء قدره فإذا جاء قدره خلِّياً بينه وبين قدره، وإنَّ عليَّ من الله جُنَّة حصينة فإذا جاء أجلي كشف عنِّي، وإِنه لا يجد طعم الإِيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
وعندهما أيضاً عن قتادة رضي الله عنه قال: إن آخر ليلة أتت على علي رضي الله عنه جعل لا يستقر، فارتاب به أهله، فجعل يدسُّ بعضهم إلى بعض حتى أجمعوا فناشدوه، قال: إنه ليس من عبد إلا ومعه ملكان يدفعان عنه ما لم يقدَّر - أو قال: ما لم يأت القدر - فإذا أتى القدر خلَّياً بينه وبين القدر، ثم خرج إلى المسجد فقُتل.(3/411)
وعند ابن سعد وابن عساكر عن أبي مِجْلَز قال: جاء رجل (من مراد) إلى علي وهو يصلي في المسجد فقال: احترس فإنَّ ناساً من مخراد يريدون قتلك، فقال: إنَّ مع كل رجل مَلَكين يحفظانه مما لم يقدَّر، فإذا جاء القدر خلَّيا بينه وبينه، وإن الأجل جُنَّة حصينة. كذا في الكنز، وعند أبي نُعيم في الحلية عن يحيى بن أبي كَثِير وغيره قال: قيل لعلي: ألا نحرسك؟ فقال: حرس أمرأً أجلُه.
وأخرج أبو نُعيم في الدلائل (ص211) عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: عرض لعلي رضي الله عنه رجلان في حكومة، فجلس في أصل جدار، فقال رجل: يا أمير المؤمنين، الجدار يقع، فقال علي: امضِ كفى بالله حارساً، فقضى بينهما وقام، ثم سقط الجدار.
توكل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
وأخرج ابن عساكر عن أبي ظَبْية قال: مرض عبد الله رضي الله عنه مرضه الذي توفي فيه، فعاده عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي، قال: فما تشتهي قال: رحمة ربي، قال: ألا آمر لك بطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني، قال: ألا آمر لك بعطاء؟ قال: لا حاجة لي فيه، قال: يكون لبناتك من بعدك، قال: أتخشى على بناتي الفقر؟ إني أمرت بناتي يقرأن كل ليلة سورة الواقعة، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً» . كذا فيا لتفسير لابن كثير. وقد تقدَّم(3/412)
نحو هذه القصة لأبي بكر الصديق وأبي الدرداء رضي الله عنهما في الصبر على الأمراض مطلقاً بدون ذكر قراءة سورة الواقعة.
الرضا بالقضاء
أقوال عمر وأبي ذر وعلي وابن مسعود في هذا الأمر
أخرج ابن المبارك وابن أبي الدنيا في الفرج والعسكري في المواعظ عن عمر رضي الله عنه قال: ما أبالي على أيِّ حال أصبحت: على ما أحب، أو على ما أكره، لأني لا أدري الخير في ما أحب أو في ما أكره. كذا في الكنز، وأخرج ابن عساكر عن الحسن عن علي رضي الله عنهما أنه قيل له: إن أبا ذر رضي الله عنه يقول: الفقر أحب إليّ من الغنى، والسَّقم أحب إليّ من الصحة فقال: رحم الله أبا ذر، أما أنا فأقول: من اتَّكل على حسن اختيار الله له يتمنَّ أنه في غير الحالة التي اختار الله له، وهذا حدُّ الوقوف على الرضا بما تصرّف به القضاء. كذا في الكنز. وأخرج ابن عساكر عن علي قال: من رضي بقضاء الله جرى عليه وكان له أجر، ومن لم يرضَ بقضاء الله جرى عليه وحبط عمله، كذا في الكنز. وأخرج أبو نُعَيم في الحلية عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ما أحد من الناس يوم القيامة إلا يتمنى أنه كان يأكل في الدنيا قوتاً، وما يضرُّ أحدكم على ما أصبح وأمسى من الدنيا إلا أن تكون في النفس حزازة، ولأن يعض أحدكم على جمرة حتى تُطفأ خير من أن يقول لأمر قضاه الله: ليت هذا لم يكن(3/413)
التقوى
خطاب علي لأهل القبور وقوله في التقوى
أخرج الدِيَنَوري وابن عساكر عن كُمَيل بن زياد قال: خرجت مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه فلما أشرف على الجبَّان التفت إلى المقبرة فقال: يا أهل القبور، يا أهل البِلى، يا أهل الوحشة: ما الخبر عندكم؟ فإن الخبر عندنا قد قُسمت الأموال، وأُيتمت الأولاد، واستُبدل بالأزواج، فهذا الخبر عندنا؛ فما الخبر عندكم؟ ثم التفت إليَّ فقال: يا كُمَيل لو أُذن لهم في الجواب لقالوا: إنَّ خيرا لزاد القتوى. ثم بكى وقال: يا كميل، القبر صندوق العمل، وعند الموت يأتيك الخبر. كذا في الكنز. وأخرج أبو نُعيم في الحلية وابن عسارك عن قيس بن أبي حازم قال: قال علي رضي الله عنه: كنوا بقبول العمل أشد اهتماماً منكم بالتقوى، فإنَّه لن يقل عمل مع التقوى، وكيف يقل عمل تُقُبِّل؟ وعند أبي نُعيم في الحلية وابن أبي الدنيا عن عبدِ خير رضي الله عنه قال: قال علي رضي الله عنه: لا يقل عمل مع تقوى، وكيف يقل ما يُتقبل؟. كذا في الكنز.
أقوال ابن مسعود وأبي الدرداء وأبي بن كعب في التقوى
وأخرج يعقوب بن سفيان وابن عساكر عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لأن أكون أعلم أن الله يقبل مني عملاً أحب إليَّ من أن يكون لي ملء(3/414)
الأرض ذهباً. كذا في الكنز. وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم كيف يعيبون سهر الحمقى وصيامهم، ومثقال ذرة من برِّ صاحب تقوى ويقين أعظم وأفضل وأرجح من أمثال الجبال من عبادة المغترِّين. وعند ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء قال: لإن أستيقن أن الله قد تقبَّل لي صلاة واحدة أحب إليَّ من الدنيا وما فيها. إنَّ الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (سورة المائدة، الآية: 27) كما في التفسير لابن كثير. وأخرج ابن عساكر عن أُبي بن كعب رضي الله عنه قال: ما ترك أحد منكم لله شيئاً إلا أتاه الله مما هو أشد عليه من حيث لا يحتسب. كذا في الكنز.h
الخوف
خوف سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم
أخرج البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله أراك شِبت؟ فقال: «شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعمَّ يتساءلون، وإذا الشمس كُوِّرَتْ» . وفي رواية له عن أبي سعيد رضي(3/415)
الله عنه قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله أسرع إليك الشيب؟ فقال: «شيبتني هود وأخواتها: الواقعة، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كُوِّرَتْ» . كذا في البداية.
وأخرج أحمد عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كيف أنعم وقد التقم صاحب القرنِ القرنَ، وحنى جبهته، وأصغى سمعه ينتظر متى يؤمر؟» قال المسلمون: يا رسول الله فما نقول؟ قال: «قولوا: حَسْبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا» . ورواه الترمذي وقال: حسن. كذا في البداية. وأخرج ابن النجار عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع قارئاً يقرأ: {إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً} (سورة المزمل، الآية: 12) فصعِق. كذا في الكنز.
خوف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قصة خوف فتى من الأنصار
أخرج الحاكم - وقال: صحيح الإسناد - والبيهقي من طريقه عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن فتًى من الأنصار دخلته خشية الله، فكان يبكي عند ذكر النار حتى حبسه ذلك في البيت، فذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه في البيت. فلما دخل عليه اعتنقه النبي صلى الله عليه وسلم وخرّ ميتاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «جهِّزوا(3/416)
صاحبكم؛ فإن الفَرَق فلَذ كبده» . كذا في الترغيب؛ وأخرجه ابن أبي الدنيا وابن قُدامة عن حذيفة رضي الله عنه فذكر نحوه، وفي حديثه: فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فلما نظر إليه الشاب قام فاعتنقه وخر ميتاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «جهِّزوا صاحبكم؛ فإن الفَرَق من النار فلذ كبده، والذي نفسي بيده لقد أعاذه الله منها، من رجا شيئاً طلبه، ومن خاف من شيء هرب منه» . كذا في الكنز.
وأخرج الحاكم - وصحَّحه - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لمَّا أنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (سورة التحريم، الآية: 6) تلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم على أصحابه، فخر فتًى مفشياً عليه، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على فؤاده، فإذا هو يتحرك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا فتى قل: لا إله إلا الله» ، فقالها، فبشَّره بالجنة، فقال أصحابه: يا رسول الله أمن بيننا؟ فقال: «أو ما سمعتم قوله تعالى: {ذالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ} (سورة إبراهيم، الآية: 14) ؟» . كذا في الترغيب.
قول عمر وأبي بكر رضي الله عنهما في الخوف والرجاء
وأخرج البيهقي عن سعيد بن المسيِّب رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اشتكى، فدخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقال: «كيف تجدك(3/417)
يا عمر؟» قال: أرجو وأخاف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما اجتمع الجراء والخوف في قلب مؤمن إلا أعطاه الله الرجاء وآمنه الخوف» . كذا في الكنز. وأخرج أبو الشيخ عن الحسن رضي الله عنه أن أبا بكر الصدِّيق رضي الله عنه قال: ألم ترَ أنَّ الله ذكر آية الرخاء عند آية الشدة وآية الشدة عند آية الرخاء؛ ليكون المؤمن راغباً راهباً، لا يتمنى على الله غير الحق، ولا يُلقي بيده إلى التهلكة؟. كذا في الكنز. وقد تقدَّمت قصص خوف أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في خوف الخلفاء.
أقوال عمان وأبي عبيدة وعمران بن حسين في الخوف
وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن عبد الله بن الرومي قال: بلغني أن عثمان رضي الله عنه قال: لو أنِّي بين الجنة والنار ولا أدري إلى أيتهما يُؤمر بي لاخترت أن أكون رماداً قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير. وأخرجه أيضا أحمد في الزهد عن عثمان مثله، كما في المنتخب. وأخرج ابن عساكر عن قتادة قال: قال أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه: لوددت أني كبش يذبحني أهلي فيأكلون لحمي ويَححسُون مرقي. قال: قال عِمران ابن حصين رضي الله عنهما: لوددتُ أني كنت رماداً على أكمةٍ، فتنسفني الريح في يوم عاصف. كذا في المنتخب؛ وأخرجه ابن سعد عن(3/418)
قتادة عن أبي عبيدة نحوه. وعند ابن سعد أيضاً عن قتادة قال: بلغني أن عِمْران بن حُصَين قال: وددت أني رماد تذروني الرياح.
خوف ابن مسعود
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن عامر بن مسروق قال: قال رجل عند عبد الله رضي الله عنه: ما أحب أن أكون من أصحاب اليمين، أكون من المقرَّبين أحب إليَّ. قال: فقال عبد الله: لكنْ ههنا رجل ودَّ لو أَّنه إذا مات لم يبعث - يعني نفسه -. وعنده يضاً عن الحسن قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: لو وقفت بين الجنة والنار، فقيل لي: اختر نخيرك من أيهما أحب ليك أو تكون رماداً؛ لأحببت أن أكون رماداً.
خوف أبي ذر وأبي الدرداء وابن عمر
وأخرج أبو نُعين في الحلية عن أبي ذر رضي الله عنه قال: والله لو تعلمون ما أعلم ما انبسطتم إلى نسائكم، ولا تقاررتم على فرشكم، والله لوددتُ أنَّ الله عز وجل خلقني يوم خلقني شجرة تُعضد ويؤكل ثمرها وأخرج أبو نعيم في الحلية عن حزام بن حكيم قال: قال أبو الدرداء رضي الله عنه: لو تعلمون (ما أنتم) راؤون بعد الموت لما أكلتم طعاماً على(3/419)
شهوة، ولا شربتم شراباً على شهوة، ولا دخلتم بيتاً تستظلون فيه، ولخرجتم إلى الصُّعُدات تضربون صدوركم وتبكون على أنفسكم؛ ولوددت أني شجرة تعضد ثم تؤكل، وعند ابن عساكر عن أبي الدرداء رضي الله عنه كما في الكنز قال: لوددتُ أنِّي كبش لأهلي فمرَّ عليهم ضيف فأمرُّوا على أوداجي فأكلوا وأطعموا، وأخرج ابن عسد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: لوددتُ أني هذه السارية.
خوف معاذ وابن عمر
وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن طاووس قال: قدم معاذ ابن جبل رضي الله عنه أرضنا، فقال له أشياخ لنا: لو أمرتَ ننقل لك من هذه الحجارة والخشب فنبني لك مسجداً، فقال: إني أخاف أن أكلَّف حمله يوم القيامة على ظهري. وأخرج أبو نعيم في الحلية عن نافع قال: دخل ابنعمر رضي الله عنهما الكعبة فسمعته وهو ساجد يقول: قد تعلم ما يمنعني من مزاحمة قريش على هذه الدنيا إلا خوفك.(3/420)
وعنده أيضاً عن أبي حازم رضي الله عنه قال: مرّ ابن عمر برجل ساقط من أهل العراق فقال: ما شأنه؟ قالوا: إنه قُرىء عليه القرآن يصيبه هذا، قال: إنا لنخشى الله وما نسقط.
خوف شدّاد بن أوس الأنصاري
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن شدّاد بن أوس الأنصاري رضي الله عنه أنه كان إذ دخل الفراش يتقلّب على فراشه لا يأتيه النوم فيقول: اللهمّ إنَّ النار أذهبت مني النوم؛ فيقوم فيصلي حتى يصبح.
خوف أم المؤمنين عائشة
وأخرج ابن عسد عن عمرو بن سلمة رضي الله عنه أن عائشة رضي الله عنها قالت: والله لوددت أني كنت شجرة، والله لوددتُ أني كنت مَدَرة، والله لوددتُ أنَّ الله لم يكن خلقني شيئاً قط. وعنده أيضاً عن ابن أبي مُليكة أن ابن عباس رضي الله عنهما دخل على عائشة قبل موتها فأثنى عليها، قال: أبشري زوجة رسول الله، ولم ينكح بكراً غيرك، ونزل عُذْرك من السماء فدخل عليها ابن الزبير رضي الله عنهما خِلافه، فقالت: أثنى عليَّ عبد الله بن عباس ولم أكن أحب أن أسمع أحداً اليوم يثني عليَّ، لوددت أني كنت نَسْياً مَنْسياً.
البكاء
بكاء سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم(3/421)
أخرج البخاري عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اقرأ عليَّ» فقلت: اقرأ عليك وعليك أُنزل؟ فقال: «إني أحب أن أسمعه من غيري» ، قال: فقرأت سورة النساء حتى إذا بلغت: {فكيف إذا جئنا من كلأمة بشهيد وجئنا لك على هؤلاء شهيدا} (سورة البقرة، الآية: 24) قال: «حَسْبك» فالتفتُّ، فإذا عيناه تذرِفان. كذا في البداية وسيأتي بعض قصصه صلى الله عليه وسلم في الصلاة.
بكاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
بكاء أهل الصفَّة عند نزول آية
أخرج البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت: {وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ} (سورة النساء، الآية: 41) بكى أصحاب الصُّفَّة حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلَّما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حسَّهم بكى معهم فبكينا ببكائه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يلجُ النار من بكى من خشية الله، ولا يدخل الجنَّة مصرٌّ على معصية، ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيغفر لهم» . كذا في الترغيب.
(بكاء رجل حبشي بين يدي النبي عليه السلام حين تلا آية)
وأخرج البيهقي والأصبهاني عن أنس رضي الله عنه قال: تَلا رسول الله(3/422)
صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} فقال: «أوقد عليها ألف عام حتى احمرَّت، وألف عام حتى ابيضَّت، وألف عام حتى اسودَّت، فهي سوداء مظلمة لا يُطفأ لهيبها» قال: وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل اسود، فهتف بالبكاء، فنزل عليه جبريل عليه السلام فقال: من هذا الباكي بين يديك؟ قال: «وعزَّتي وجلالي وارتفاعي فوق عرشي، لا تبكي عين عبد في الدنيا من مخافتي إلا كثرت ضحكها في الجنة» . كذا في الترغيب.
(بكاء أبي بكر وعمر رضي الله عنهما)
وأخرج عبد الرزاق عن قيس بن أبي حازم رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه قائم في مقامه، فأطاب الثناء وأكثر البكاء. كذا في المنتحب. وأخرج الشافعي عن حسن بن محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقأ في خطبته يوم الجمعة: {إِذَا الشَّمْسُ كُوّرَتْ} (سورة التكوير، الآية: 1) حتى بلغ {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ} (سورة التكوير، الآية: 14) ثم يقطع السورة. وعند أبي عبيد عن الحسن قال: قرأ عمر بن الخطاب: {إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ} {مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ} (سورة الطور، الآيتان: 7 و8) فَرَبا منها ربوة عِيد منها عشرين يوماً.(3/423)
وعند أبي عبيد عن عبيد بن عمير رضي الله عنه قال: صلَّى بنا عمر بن الخطاب صلاة الفجر فافتتح سورة يوسف فقرأها حتى بلغ: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} (سورة يوسف، الآية: 84) بكى حتى انقطع، فركع. كذا في منتخب الكنز وعند عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن سعد وابن أبي شيبة والبيهقي عن عبد الله بن شدَّاد بن الهاد قال: سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف في لصلاة الصبح وهو يقرأ سورة يوسف، حتى بلغ: {إِنَّمَآ أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ} (سورة يوسف، الآية: 86) . كذا في المنتخب؛ وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن هشام بن الحسن قال: كان عمر يمر بالآية فتخنقه، فيبكي حتى يسقط، ثم يلزم بيته حتى يعاد يحسبونه مريضاً.
(بكاء عثمان رضي الله عنه)
وأخرج الترمذي - وحسَّنه - عن هانىء مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: كان عثمان إذا وقف على قبر يبكي حتى يُبل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي وتذكر القبر فتبكي؟ فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر (مه) ، وإن لم ينج فما بعده أشد» . قال: وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما رأيت منظراً قط إلا والقبر أفظع منه» ، وزاد رَزهين فيه: قال هانىء: وسمعت عثمان(3/424)
ينشد على قبر:
فإن تنجُ منها تنجُ من ذي عظيمةٍ
وإلاَّ فإنِّي لا إخالك ناجياً
كذا في الترغيب؛ وأخرجه أبو نعيم في الحلية عن هانىء مختصراً.
(بكاء معاذ رضي الله عنه)
وأخرج الحاكم - واللفظ له - وأبو نعيم في الحلية عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: مرّ عمر بمعاذ بن جبل رضي الله عنهما وهو يبكي فقال: ما يبكيك؟ فقال: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم إنَّ أدنى الرياء شرك، وأحب العبيد إلى الله تبارك وتعالى الأتقياء الأخفاء الذين إذا غابوا لم يُفتقدوا وإذا شهدوا لم يُعرفوا، أولئك أئمة الهدى ومصابيح العلم» ؛ قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرِّجاه؛ وقال الذهبي: أبو قحذم، قال أبو حاتم: لا يُكتب حديثه، وقال النسائي: ليس بثقة.
(بكاء ابن عمر رضي الله عنهما)
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن القاسم بن أبي بَزَّة قال: حدثني من سمع ابن عمر رضي الله عنهما قرأ: {ويل للمطفيين} (سورة المطففون، الآية: 6) حتى بلغ: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ} (سورة البقرة، الآية: 284) قال: فبكى حتى خر وامتنع من قراءة ما بعده؛ وأخرجه(3/425)
أحمد نحوه، كما في صفة الصفوة، وعندهما أيضاً عن نافع رضي الله عنه قال: ما قرأ ابن عمر هاتين الآيتين قطُّ من آخر سورة البقرة إلا بكى: {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} (سورة البقرة، الآية: 284) - الآية -، ثم يقول: إنَّ هذا الإحصاء شديد. وعند أبي نعيم أيضاً في الحلية عن نافع قال: كان ابن عمر إذا قرأ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} (سورة الحديد، الآية: 16) بكى حتى يغلبه البكاء. وأخرجه أبو العباس في تاريخه بسنده جيد، كما في الإصابة وأخرج ابن عسد عن يوسف بن ماهَك قال: انطلقت مع ابن عمر إلى عبيد ابن عمير رضي الله عنه وهو يقصُّ على أصحابه، فنظرت إلى ابن عمر فإذا عيناه تُهرِقان؛ وأخرجه أبو نعيم في الحلية عن يوسف بن ماهَك مختصراً، وعند ابن سعد عن عبيد بن عمير أنه قرأ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ} (سورة النساء، الآية: 41) حتى ختم الآية فجعل ابن عمر يبكي حتى لثقت لحيته وجيبه من دموعه، قال عبد الله: فحدثني الذي كان إلى جنب ابن عمر قال: لقد رأيت أن أقوم إلى عبيد بن عمير فأقول له: أقصُر عليك؛ فإنك قد آذيت هذا الشيخ.
(بكاء ابن عباس وعبادة بن الصامت رضي الله عنهما)
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن أبي مُلَكية قال: صحبت(3/426)
ابن عباس رضي الله عنهما من مكة إلى الدنية، فكان إذا نزل قام شطر الليل قال: فسأله أيوب كيف كانت قراءته؟ قال: قرأ: {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} (سورة ق، الآية: 15) فجعل يرتل ويكثر في ذاكم النشيج. وعنده أيضاً عن أبي رجاء رضي الله عنه قال: كان هذا الموضع من ابن عباس - مجرى الدموع - كأنه الشراك البالي. وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن عثمان بن أبي سَوحدة قال: رأيت عبادة ابن الصامت رضي الله عنه وهو على هذا الحائط - حائط المسجد المشرف على واد جنهم - واضعاً صدره عليه وهو يبكي فقلت: يا أبا الوليد ما يبكيك؟ قال: هذا المكان الذي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى فيهم جهنَّم.
بكاء عبد الله بن عمرو وأبي هريرة رضي الله عنهما
وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن يَعْلى بن عطاء عن أمه أنها كانت تصنع لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الكُحْل وكان يكثر من البكاء، قال: ويغلق عليه بابه ويبكي حتى رَمِصت عيناه، قال: وكانت أمي تصنع له الكحل. وأخرج ابن سعد عن مسلم بن بشر قال: بكى أبو هريرة رضي الله عنه في مرضه فقيل له: ما يبكيك يا أبا هريرة؟ قال: أمَا إني لا أبكي على دنياكم هذه، ولكنِّي أبكي لبُعد سفري وقلّة زادي، أصبحت في صُعود مُهْبطة على جنة ونار، فلا أدري إلى أيهما يُسلك بي؛ وأخرجه أبو نُعيم في الحلية نحوه.(3/427)
التفكر والاعتبار
تفكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم واعتبارهم
(تفكر أصحاب أبي ريحانة رضي الله عنه)
أخرج ابن المبارك في الزهد عن ضَمْرة بن حبيب عن مولى لأبي ريحانة الصحابي رضي الله عنه أن أبا ريحانة قفل ن غزوة له، فتعشى ثم توضأ وقام إلى مسجده فقرأ سورة، فلم يزل في مكانه حتى أذَّن المؤذن، فقالت له امرأته: يا أبا ريحانة غزوت فتعبت، ثم قدمت أفما كان لنا نصيب؟ قال: بلى والله، لكن لو ذكرتك لكان لك عليَّ حق، قالت: فما الذي شغلك؟ قال: التفكر فيما وصف الله في جنته وذاتها حتى سمعت المؤذن. كذا في الإصابة.
(تفكر أبي ذر رضي الله عنه)
وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن محمد بن واسع: أن رجلاً من البصرة ركب إلى أم ذرَ رضي الله عنها بعد وفات أبي ذر رضي الله عنه يسألها عن عبادة أبي ذر، فأتاها فقال: جئتك لتخبريني عن عبادة أبي ذر رضي الله تعالى عنه، قالت: كان النهار أجمع خالياً يتفكَّر.
(تفكر أبي الدرداء رضي الله عنه)
وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن عون بن عبد الله بن عتبة قال: سألت أم الدرداء رضي الله عنها ما كان أفضل عمل أبي الدرداء؟ قالت: التفكر والاعتبار،(3/428)
وعنده أيضاً عنه قال: قيل لأم الدرداء: ما كان أكثر عمل أبي الدرداء رضي الله عنه؟ قالت: الاعتبار. وعن سالم بن أبي الجَعْد نحوه إلا أنه قال: فقالت: التفكر، وأخرجه أحمد نحو الحديث الأول عن عون كما في صفة الصفوة، وعندهما أيضاً عن أبي الدرداء أنه قال: تفكُّر ساعة خير من قيام ليلة، وأخرجه ابن سعد مثله، وعند ابن عساكر عن أبي الدرداء قال: من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر ولهم بذلك أجر، ومن الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير وعليهم بذلك إصْر، وتفكر ساعة خير من قيام ليلة. كذا في الكنز. وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن حبيب بن عبد الله أن رجلاً أتى أبا الدرداء وهو يريد الغزو فقال: يا أبا الدرداء عن حبيب بن عبد الله أن رجلاً أتى أبا الدرداء وهو يريد الغزو فقال: يا أبا الدرداء أوصني، فقال: اذكر الله في السّراء يذكرك في الضرّاء، وإذا أشرفت على شيء من الدنيا فانظر إلى ما يصير. وعنده أيضاً عن سالم بن أبي الجَعْد قال: مرّ ثوران على أبي الدرداء وهما يعملان، فقام أحدهما ووقف الآخر فقال أبو الدرداء: إنَّ في هذا لمعتبراً؛ وأخرج أحمد أيضاً الحديث الأول عن حبيب نحوه، كما في صفة الصفوة.(3/429)
محاسبة النفس
(قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في هذا الأمر)
أخرج ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس عن مولى أبي بكر رضي الله عنه قال: قال أبو بكر الصديق: من مَقَت نفسه في ذت الله آمنه الله من مقته. كذا في الكنز. وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن ثابت ابن الحجا قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: زِنُوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وحاسبوها قبل أن تحاسبوا؛ فإنّه أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم، وتزيَّنوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} (سورة الحاقة، الآية: 18) . وأخرج مالك وابن سعد وابن أبي الدنيا في محاسبة النفس وأبو نعيم في المعرفة وابن عساكر عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت نعيم في المعرفة وابن عساكر عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً - وخرجت معه حتى دخل حائطاً - فسمعته يقول وبيني وبينه جدار وهو في جوف الحائط: أمير المؤمنين، والله لتتقينَّ الله أو ليعذبنَّك الله. كذا في المنتخب.(3/430)
(الصمت وحفظ اللسان)
(صمت سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم
أخرج أحمد والطبراني في حديث طويل عن سِماك قال: قلت لجابر بن سَمخر رضي الله عنه: أكنت تجالس النبي صلى الله عليه وسلم قال: نعم، وكان كثير الصمت. قال الهيثمي: ورجال أحمد رجال الصحيح غير شَرَيك وهو ثقة؛ وأخرجه ابن سعد عن سِماك نحوه.
وعند الطبراني عن أبي مالك الأشجعي رضي الله عنه عن أبيه قال: كنا نجلس عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن غلمان فلم أرَ رجلاً كان أطول صمتاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكن إذا تكلَّم أصحابه فأكثروا الكلام تبسَّم. قال الهيثمي: وفيه إبراهيم بن زكريا العِجْلي وهو ضعيف. انتهى.
وأخرج الطبراني عن عبادة بنا لصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم فسار على راحلته وأصحابه معه لم يتقدم منهم أحد بين يديه، فقال معاذ بن جبل: يا رسول الله أَسألُ الله أن يجعل يومنا قبل يومك، أَرأَيت إن كان شيء - ولا يرينا الله ذلك - أيُّ الأعمال نعملها بعدك، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الجهاد في سبيل الله» قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله قال:(3/431)
«نعمَ الشيء الجهاد في سبيل الله، وعاد بالناس أملك من ذلك، قال: الصيام والصدقة، قال: «نعم الشيء الصيام والصدقة، وعاد بالناس أملك من ذلك» ، فذكر معاذ كلَّ خير يعلمه. كل ذلكيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «وعاد بالناس أملك من ذلك» ، قال: يا رسول الله عاد بالناس أملك من ذلك؟ فأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فيه، قال: «الصمت إلاَّ من خير» ، قال: وهل نؤاخذ بما تكلمت ألسنتنا؟ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذ معاذ ثم قال: «ثكلتك أُمك - وما شاء الله أن يقول - وهل يَكُب الناسَ على مناخرهم في جهنم إلا ما نطقت به ألسنتهم، فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فَلْيَقُلْ خيراً أو ليسكت عن شر، قولوا خيراً تغنموا، واستكوا عن شر تسلموا» . قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير عمرو وابن مالك الجَنْبي وهو ثقة. انتهى.
صمت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (قوله عليه السلام في شهيد: لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه)
أخرج أبو يَعْلى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قُتل رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فبكت عليه باكية فقالت: واشهيداه قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم مَهْ، ما يدريك أنه شهيد؟ ولعله كان يتلكَّم فيما لا يعنيه، ويبخل بما لا ينقصه» وفيه عصام ابن طَلِيق وهو ضعيف كما قال الهيثمي. وعنده أيضاً عن أنس رضي الله عنه قال: استشهد رجل منا يوم أحد،(3/432)
فوجد على بطنه صخرة مربوطة من الجوع، فمسحت أمه التراب عن وجهه وقالت: هنيئاً لك يا بني الجنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم «وما يدريك لعله كان يتكلَّم فيما لا يعنيه، ويمنع ما لا يضره» وفيه يحيى ابن يَعْلى الأسلمي وهو ضعيف، كما قال الهيثمي؛ وأخرجه الترمذي عن أنس مختصراً كما في المشكاة.
لغاية ص 320
تابع
(صمت عمار ومعاذ وقول الصدِّيق في لسانه)
وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن خالد بن نُمَير قال: كان عمار بن ياسر رضي الله عنهما طويل الصمت، طويل الحزن والكآبة، كان عامة كلامه عائذاً بالله من فتنته. وأخرج الحاكم عن أبي إدريس الخَوْلاني قال: دخلت مسجد دمشق، فإذا أنا برجل برَّاق الثنايا، طويل الصمت، وإذا الناس معه إذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه وصدروا عن رأيه، فسألت عنه فقيل: معاذ بن جبل رضي الله عنه. وأخرج أبو يَعْلى عن أسلم أنَّ عمر رضي الله عنه اطَّلع على أبي بكر رضي الله عنه وهو يمد لسانه، فقال: ما تصنع يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس شيء من الجسد إلا يشكو ذَرعب اللسان» . قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير موسى بن(3/433)
محمد ابن حَيَّان وقد وثقه ابن حبان. اهـ. وأخرجه أبو نعيم في الحلية عن أسلم مختصراً.
(زجر ابن مسعود وابن عباس للسانيهما)
وأخرج الطبراني عن أبي وائل عن عبد الله رضي الله عنه أنه ارتقى الصفا فأخذ بلسانه فقال: يا لسان، قل خيراً تغنم، واسكت عن شر تسلم من قبل أن تندم، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أكثر خطايا ابن آدم من لسانه. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. وأخرج أبو نعيم في الحلية عن سعيد الجريري عن رجل قال: رأيت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أخذ بثمرة لسانه وهو يقول: ويحك قل خيراً تغنم، واسكت عن شر تسلم. فقال له رجل: يا ابن عباس، ما لي أراك آخذاً بثمرة لسانك تقول كذا؟ قال: إنَّه بلغني أنَّ العبد يوم القيامة ليس هو على شيء أحنقَ منه على لسانه.
(صمت شدّاد بن أوس منذ بايع النبي عليه السلام)
وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن ثابت البُناني قال: قال شدّاد بن أوس رضي الله عنه يوماً لرجل من أصحابه: هات السُّفْرة نتعلَّل بها. قال: فقال(3/434)
رجل من أصحابه: ما سمعت منك مثل هذه الكلمة منذ صحبتك فقال: ما أُفلتت مني كلمة منذ فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مزمومة مخطومة، وايْمُ الله لا تنفلت غير هذه. وعنده أيضاً عن سليمان بن موسى أن شدَّاد بن أوس رضي الله عنه قال يوماً: هاتوا السفرة نعبث بها. قال: فأخذوها عليه، قال: انظروا إلى أبي يَعْلى ما جاء منه فقال: أي نُنيَّ أخي، إنِّي ما تكلمتُ بكلمة منذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مزمومة مخطومة قبل هذه، فتعالَوا حتى أحدثكم ودعوا هذه وخذوا هذه وخذوا خيراً منها: اللهمَّ إنَّا نسألك التثبُّت في الأمر، ونسألك عزيمة الرشد، ونسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك، ونسألك قلباً سليماً ولساناً صادقاً، ونسألك خير ما تعلم ونعوذ بك من شر ما تعلم. فخُذوا هذه ودعُوا هذه. كذا رواه سليمان بن موسى موقوفاً، ورواه حسان بن عطية عن شدَّاد بن أوس مرفوعاً، ثم أسند أبو نُعيم روايته نحو ما تقدّم وفيه: فلا تحفظوها عليَّ، واحفظوا عني ما أقول لكم، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا كنز الناس الذهب والفضة فاكنزوا هؤلاء الكلمات: اللهمَّ إني أسألك الثبت في الأمر، والعزيمة على الرشد» - فذكر مثله وزاد: «وأستغفرك لما تعلم إنك أنت علاّم الغيوب» . وأخرجه أبو نعيم أيضاً من طريق أبي الأشعث الصنعاني وغيره مرفوعاً نحوه، وأخرجه أحمد من طريق حسان بن عطية عن شدّاد نحوه، كما في التفسير لابن كثير.
(قول ابن مسعود في خطر اللسان)
وأخرج أبو نُعيم في الحيلة عن عيسى بن عقبة قال: قال عبد الله بن(3/435)
مسعود رضي الله عنه: والذي لا إله إلا هو ما على ظهر الأرض شيء أحوجَ إلى طول سَجن من لسان. وأخرجه الطبراني نحوه بأسانيد ورجالها ثقات كما قال الهيثمي. وعنده الطبراني أيضاً عن ابن مسعود قال: أنذركم فُضول الكلام، بحَسْب أحدكم أن يبلغ حاجته، وفيه المسعودي وقد اختلَطَ، كما قال الهيثمي: وعنده أيضاً عنه قال: أكثر الناس خطايا يوم القيامة أكثرهم في الباطل، ورجاله ثقت كما قال الهيثمي.
(ترغيب علي وأبي الدرداء في الصمت)
وأخرج ابن أبي الدنيا في اصمت عن علي رضي الله عنه قال: اللسان قوام البدن، فإذا استقام اللسان استقامت الجوارح، وإذا اضطرب اللسان لم تقم له جارحة. وعنده أيضاً عنه قال: وار شخصك لا تُذكر، واصمت تسلم. وعنده أيضاً عنه قال: الصمت داعية إلى الجنة. وعنده أيضاً عنه قال:
لا تفشِ سرَّك إلا إليكْ ...
فإنّ لكل نصيحٍ نصيحاً
فإني رأيتُ غُواةَ الرجالِ ...
لا يَدَعون أديماً صحيحاً(3/436)
كذا في كنز العمال. وأخرج ابن عساكر عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: تعلَّموا الصَّمْت كما تَعَلَّمون الكلام، فإن الصمت حلم عظيم، وكن إلى أن تسمع أحرص منك إلى أن تتكلم، ولا تتكلَّم في شيء لا يعنيك، ولا تكن مضحاكاً من غير عجب، ولا مشَّاء إلى غير أرب. كذا في الكنز، وعند أبي نُعيم في الحلية عنه قال: ما في المؤمن بَضْعة أحبُّ إلى الله عز وجل من لسانه، به يدخله الجنة. وما في الكافر بَضْعة أبغضُ إلى الله عز وجل من لسانه، به يدخله النار.
(قول ابن عمر وأنس في حفظ اللسان)
وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أحقُّ ما طهَّر العبد لسانه. وأخرج ابن سعد عن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: لا يتقي (الله) عبد حتى يخزن من لسانه.(3/437)
الكلام
كلام سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم (وصف الصحابة لكلامه عليه السلام)
أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحدِّث حديثاً ولو عدّه العادُّ لأحصاه. وعنده أيضاً عنها قالت: ألا أُعجِّبك، أبو فلان جاء فجلس إلى جانب حجرتي يحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعني ذلك وكنت أسبِّح، فقام قبل أن أقضي سبحتي، ولو أدركته لرددتُ عليه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث كسردكم. وقد رواه أحمد ومسلم وأبو داود وفي روايتهم: ألا أعجِّبك من أبي هريرة - رضي الله عنه - فذكرت نحوه؛ وعند أحمد عنها قالت: كان كلام النبي صلى الله عليه وسلم فَصْلاً يفهمه كل أحد، لم يكن يسرد سرداً، وقد رواه أبو داود. وعند أبي يَعْلى عن جابر رضي الله عنه أو ابن عرم رضي الله عنهما قال: كان في كلام النبي صلى الله عليه وسلم ترتيل أو ترسيل. وعند أحمد عن أنس رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلَّم بكلمة ردَّدها ثلاثاً، وإذا أتى قوماً يسلِّم عليهم ثلاثاً، رواه البخاري.(3/438)
وعند أحمد عن ثُمامة بن أنس رضي الله عنه أن أنساً كان إذا تكلَّم ثلاثاً، وكان يستأذن ثلاثاً. وعند الترمذي عن ثمامة عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلَّم يعيد الكلمة ثلاثاً لتُعقل عنه، ثم قال الترمذي: حسن صحيح غريب. وعند أحم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بُعثت بجوامع الكَلِم، ونصر بالرعب، وبينا أنا نائم أُتيتُ بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي» ؛ وهكذا رواه البخاري. وعند ابن إسحاق عن عبد الله بن سَلاَم رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس يتحدّث كثيراً ما يرفع طَرْفه إلى السماء، وهكذا رواه أبو داود في كتاب الأدب من حديث ابن إسحاق. كذا في البداية (640 و41) .
(ندم عمرو بن العاص على كثرة سؤاله للنبي عليه السلام:
وأخرج الترمذي في الشمائل (ص25) عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل بوجهه وحديثه على أشر القوم يتألَّفهم بذلك، فكان يقبل بوجهه وحديثه عليَّ حتى ظننت أنِّي خير القوم، فقلت: يا رسول الله أنا خير أو أبو بكر؟ فقال: «أبو بكر» ، فقلت: يا رسول الله أنا خير أم عمر؟ فقال: «عمر» ، فقلت: يا رسول الله أنا خير أم عثمان؟ فقال؛ «عثمان» ، فلما سألت(3/439)
رسول الله فصدَقني؛ فلوددتُ أني لم أكن سألته، وأخرجه الطبراني عنه نحوه وإسناده حسن، كما قال الهيثمي وقال في الصحيح: بعضه بغير سياقه.
التبسم والضحك
تبسم سيدنا محمد رسول الله وضحكه
(تبسمه عليه السلام)
وأخرج الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى منه لهواته؛ إنما كان يتبسَّم. وعند الترمذي عن عبد الله بن الحارث بن جَزْء رضي الله عنه قال: ما رأيت أحداً أكثر تبسُّماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم بن الحارث بن جَزْء رضي الله عنه قال: ما رأيت أحداً كثر تبسُّماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أيضاً عنه قال: ما كان ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاَّ تبسُّماً، وقال: صحيح. وعند مسلم عن سِماك بن حرب قلت لجابر بن سَمُرة رضي الله عنه: أكنت تجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم كثيراً، كان لا يقوم من مُصَلاَّه الذي يصلِّي فيه الصبح حتى تطلع الشمس، (فإذا طلعت) قام، وكانوا يتحدَّثون فيأخذون في أمر الجاهلية، فيضحكون ويتبسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند(3/440)
الطيالسي عن سِماك قال: قلت لجابر بن سَمُرة: أكنت تجالس النبي صلى الله عليه وسلم قال: نعم، كان قليل الصمت، قليل الضحك، فكان أصحابه ربما يتناشدون الشعر عنده، وربما قال الشيء من أمورهم فيضحكون وربما يبتسم. كذا في البداية (641 و42) ، وأخرجه ابن سعد عن سِماك نحوه.
وأخرج أبو نُعيم وابن عساكر عن الحصين بن يزيد الكلبي رضي الله عنه قال: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ضاحكاً، ما كان إلا متبسِّماً، وربما شدَّ النبي صلى الله عليه وسلم الحجر على بطنه من الجوع. كذا في الكنز، وأخرجه ابن قانع عن الحُصَين نحوه ولم يذكر: وربما شد - إلى خره، كما في الإصابة.
(سؤال عَمْرة لعائشة عنه عليه السلام في بيته)
وأخرج الخرائطي والحك عن عَمْرة قالت: سألت عائشة رضي الله عنها كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خلا مع نسائه؟ قالت: كالرجل من رجالكم إلا أنهكان أكرم الناس، وألين الناس ضحاكاً بسّاماً. كذا في الكنز؛ وأخرجه ابن عساكر عن عَمْرة نحوه، كما في البداية، وأخرجه ابن سعد بمعناه.
(ضحكه عليه السلام)
وأخرجه البزّار عن جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا(3/441)
أتاه الوحي أو وعظ قلتَ: نذير قوم أتاهم العذاب، فإذا ذهب عنه ذلك رأيتَ أطلق الناس وجهاً، وأكثرهم ضحكاً، وأحسنهم بِشْراً. قال الهيثمي: إسناده حسن. وعند الطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أضحك الناس وأطيبهم نَفْساً. وفيه علي بن يزيد الألْهاني وهو ضعيف، كما قال الهيثمي.
(ضحكه عليه السلام يوم الخندق)
وأخرج الترمذي في الشمائل (ص16) عن عامر بن سعد قال: قال سعد رضي الله عنه: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك يوم الخندق حتى بدت نواجذه، قال: كيف كان (ضحكه) ؟ قال: كان رجل معه تُرس، وكان سعد رامياً وكان (الرجل) يقول كذا وكذا بالترس يغطي جبهته، فنزع له سعد بسهم فلمَّا رفع رأسه رماه فلم يخطىء هذه منه - يعني جبهته -، وانقلب (الرجل) وشال برجله. فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه، قلت: من أي شيء ضحك؟ قال: مِنْ فعله بالرجل.
(ضحكه عليه السلام من فعل رجل فقير في رمضان)
وأخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت وقعت على أهلي في رمضان، قال: «أعتق رقبة» قال: ليس لي، قال: «فصم شهرين متتابعين» قال: لا أستطيع، قال: «فأطعم(3/442)
ستين مسكيناً» قال: لا أجد، فأُتي النبيُ صلى الله عليه وسلم بعَرَق فيه تمر - قال إبراهيم: العَرَق المِكْتَل - فقال: «أين السائل؟ تصدَّق بها» قال: على أفقر مني؟ والله ما بين لابتيها أهلبيت أفقر منا، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، قال: «فأنتم إذاً» .
(حديث أبي ذر وابن مسعود في ضحكه عليه السلام)
وأخرج الترمذي في الشمائل (ص16) عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني لأعلم أول رجل يدخل الجنة وآخر رجل يخرج من النار، يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه وتُخبأ عنه كبارها، فيقال له: عملت يوم كذا كذا وكذا، وهو مقر لا ينكر وهو مُشْفق من كبارها، فيقال اعطوه مكان كل سيئة عملها حسنة فيقول: إنَّ لي ذنوباً ما أراها ههنا» قال أبو ذر: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه. وعنده أيضاً عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني لأعرف آخر أهل النار خروجاً رجل يخرج منها زحفاً فيقال له: انطلق فأدخل الجنة» قال: «فيذهب ليدخل الجنة فيجد الناس قد أخذوا المنازل فيرجع فيقول: يا رب قد أخذ الناس المنازل، فيقال له: أتذكر الزمان الذي كنت فيه؟ فيقول: نعم، قال: فيقال له: تمنَّ، قال: فيتمنَّى، فيقال له: فإن لك الذي تمنيت وعشرة أضعاف الدنيا، قال: فيقول: أتسخر مني وأنت الملِك» قال: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه.(3/443)
الوقار
(وقار النبي عليه السلام
أخرج القاضي عِياض في الشِفاء عن خارجة بن زيد رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أوقر الناس في مجلسه، لا يكاد يخرج شيئاً من أطرافه، وأخرجه أبو داود في المراسيل، كما في شرح الشفاء للخفاجي.
(وقار معاذ بن جبل رضي الله عنه)
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن شَهْر بن حَوْشَب قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تحدّثوا وفيهم معاذ بن جبل رضي الله عنه نظروا إليه هيبة له. وعنده أيضاً عن أبي مسلم الخَوْلاني قال: دخلت مسجد حمص فإذا فيه نحو من ثلاثين كهلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإذا فيهم شاب أكحل العينين، برَّاق الثنايا، لا يتكلم، ساكت، فإذا امترى القوم في شيء أقبلوا عليه فسألوه، فقلت لجليس لي من هذا؟ فقال: معاذ بنجبل رضي الله عنه، فوقع في نفسي حبه، فكنت معهم حتى تفرقوا. وعنده أيضاً عنه أنه دخل المسجد يوماف مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحضر ما كانوا أول إمره عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: فجلست مجلساً فيه بضع وثلاثون كلُّهم يذكرون حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الحلقة فتى شاب شديد الأُدْمة، حلو المنطق، وضيء، وهو أشبُّ القوم سناً، فإذا اشتبه عليهم من أحاديث القوم شيء ردُّوه إليه فحدَّثهم حديثهم، ولا يحدثهم شيئاً إلا أن يسألوه، قلت: من أنت يا عبد الله؟ قال: أنا معاذ بن جبل.(3/444)
(كظم الغيظ)
أخرجه الطيالسي وأحمد والحميدي وأبو داود والترمذي وأبو يعلى وسعيد بن منصور وغيرهم عن أبي بَرْزة الأسلمي رضي الله عنه قال: أغلظ رجل لأبي بكر الصِّديق رضي الله عنه، فقال أبو برزة: ألا أضرب عنقه؟ فانتهره فقال: ما هي لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا في الكنز. وأخرجه أحمد في الزهد عن عمر رضي الله عنه، قال: ما تجرّع عبد جرعة من لبن أو عسل خيراً من جرعة غيظ؛ كذا في الكنز.
الغَيْرة
(غيرة أبي بن كعب رضي الله عنه)
أخرج ابن عساكر عن أبي بنكعب رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنَّ فلاناً يدخل على امرأة أبيه، فقال أبّي: لو كنت أنا لضربته بالسيف، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أغيرك يا أبي إني لأغيْرَ منك، والله أغْيَر مني» كذا في المنتخب.(3/445)
(غيرة سعد بن عبادة رضي الله عنه)
وأخرج الشيخان عن المغيرة قال: قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مُصْفَح، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أتعجبون من غَيْرة سعد؟ والله لأنا أغْيَر منه، والله أغْيَر مني، ومن أجل غَيْرة الله حرّم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه العذر ن الله، من أجل ذلك بعث المنذرين والمبشِّرين، ولا أحب إليه المدحة من الله ومن أجل ذلك وعد الله الجنة» . وعند مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال سعد بن عبادة: لو وجدت مع أهلي رجلاً لم أمسَّه حتى آتي بأربعة شهداء؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نعم» ، قال: كلا، والذي بعثك بالحق إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اسمعوا إلى ما يقول سيدكم إنه لغيور وأنا أغْيَر منه والله أغْيَر مني» . كذا في المشكاة (ص278) ؛ وأخرجه أبو يَعْلى عن ابن عباس رضي الله عنهما مطوّلاً، وفي حديثه: قالوا: يا رسول الله لا تلمه فإنه رجل غيور، والله ما تزوّج امرأة قط إلا بكراً، ولا طلَّق امرأة قط فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غَيْرته، فقال سعد: يا رسول الله (والله) إني لأعلم أنها حق، وأنّها من عند الله، ولكن قد تعجَّبت أن لو وجدتُ لَكاعاً قد تفخَّذها رجل لم يكن لي أن أُهِيجَه ولا أن أحركه حتى آتي بأربعة شهداء فوالله لا آتي بهم حتى يقضي حاجته. قال الهيثمي: رواه أبو يعلى والسياق(3/446)
له وأحمد باختصار عنه، ومداره على عبَّاد بن
منصور وهو ضعيف.
(غيرة عائشة رضي الله عنها)
وأخرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من عندها ليلاً قالت: فغِرت عليه، فجاء فرأى ما أصنع فقال: «ما لك يا عائشة أغِرْتِ» فقلت: ما لي لا يغار مثلي على مثلك؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم «لقد جاءك شيطانك» ، قلت: يا رسول الله أمعي شيطان؟ قال: «نعم» ، قلت: ومعك يا رسول الله؟ قال: «نعم» ، ولكن أعانني الله حتى أسلم» : كذا في المشكاة (ص280) . وأخرج ابن سعد عن عائشة قالت: لما تزوَّج رسول الله أم سَلَمة رضي الله عنها حزنت حزناً شديداً لِمَا ذكروا لنا من جمالها، قالت: فتلطَّفت لها حتى رأيتها، فرأيتها - والله - أضعاف ما وُصفت لي في الحسن والجمال، قالت: فذكرت ذلك لحفصة - وكانتا يداً واحدة - فقالت: لا والله إنْ هذه إلا الغَيْرة، ما هي كما تقولون، فتلطَّفت لها حفصة حتى ريتها، فقالت: قد رأيتها، ولا والله ما هي كما تقولين ولا قريب، وإنها لجميلة، قالت: فرأيتها بعد، فكانت لعمري كما قالت حفصة، ولكني كنت غَيْري.
(إنكار علي على من لم يغر)
وأخرج رسته عن علي رضي الله عنه قال: ألم يبلغني عن نسائكم أنهنَّ يزاحمن العلوج في الأسواق، ألا تغارون؟ من لم يغر فلا خير فيه. وعنده أيضاً عنه قال: الغَيْرة غَيْرتان: حسنة جميلة يصلح بها الرجل أهله، وغَيْرة تدخله(3/447)
النار؛ كذا في الكنز.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
(حديثه عليه السلام عمن أوذي قبلنا ممن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر)
أخرج الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا ابن مسعود» فقلت: لبيك يا رسول الله - قالها ثلاثاً - قال: «تدري أي الناس أفضل» ؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنَّ أفضل الناس أفضلهم عملاً إذا فقهوا في دينهم» ، ثم قال: «يا ابن مسعود» قلت: لبيك يا رسول الله، قال: «تدري أي الناس أعلم» ؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «إنَّ أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس، وإن كان مقصِّراً في العمل، وإن كان يزحف على استه زحفاً. واختلف من كان قبلي على اثنين وسبعين فرقة نجا منها ثلاثة وهلك سائرهن. فرقة وزات الملوك وقاتلوهم على دينهم ودين عيسى بن مريم، وأخذوهم وقتلوهم وقطعوهم بالمناشير، وفرقة لم يكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بأن يقيموا بين ظهرانيهم فيدعوهم إلى الله ودين عيسى بن مريم، فساحوا في البلاد وترهَّبوا، قال: وهم الذين قال الله عز وجل: {رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان ا} - الآية -، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «من آمن بي وصدَّقني واتَّبعني فقد رعاها حق رعايتها، ومن لم يتبعني فأولئك هم الهالكون» .t وفي رواية: «فرقة أقامت في الملوك والجبابرة فدعت إلى دين عيسى؛ وقُتلت بالمناشير، وحرِّقت بالنيران، فصبرت حتى لحقت بالله»(3/448)
- والباقي بنحوه -، قال الهيثمي: رواه الطبراني بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح غير بُكَير بن معروف وثَّقه أحمد وغيره وفيه ضعف. انتهى.
(تحذيره عليه السلام من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)
وأخرج البزّار عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنَّكم على بيِّنة من ربكم ما لم تظهر فيكم سكرتان: سكرة الجهل، وسكرة حب العيش، وأنتم تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتجاهدون في سبيل الله، فإذا ظهر فيكم حب الدنيا فلا تأمرون بالمعروف، ولا تنهون عن المنكر، ولا تجاهدون في سبيل الله، فإذا ظهر فيكم حب الدنيا فلا تأمرون بالمعروف، ولا تنهونه عن المنكر، ولا تجاهدون في سبيل الله. القائلون يومئذ بالكتاب والسنة كالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار» . قال الهيثمي: وفيه الحسن بن بِشْر وثَّقه أبو حاتم وغيره وفيه ضعف. انتهى.
(منزلة من يأمر بالمعروف ويتهى عن المنكر يوم القيامة)
وأخرج البيهقي والنقّاش في معجمه وابن النجار عن واقد بن سلامة عن يزيد الرَّقَاشي عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بأقوام ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم يوم القيامة الأنبياء والشهداء بمنازلهم من الله، على منابر من نور يُعرفون» ، قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: «الذين يحبِّبون عباد الله إلى الله، ويحبِّبون الله إلى عباده، ويمشون على الأرض نُصْحاً» ، فقلت: هذا يحبِّب الله إلى عباده فكيف يحبِّبون عباد الله إلى الله؟ قال: «يأمرونهم بما يحبُّ الله، وينهونهم عما يكره الله، فإذا أطاعوهم أحبّهم الله عز وجل» . وواقد ويزيد ضعيفان؛ كذا في الكنز.(3/449)
(متى تترك هذه الأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)
وأخرج الطبراني في الأوسط عن حذيفة رضي الله عنه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله، متى يُترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما سيدا أعمال أهل البر؟ قال: «إذا أصابكم ما أصاب بني إسرائيل» قلت: يا رسول الله، وما أصاب بني إسرائيل؟ قال: «إذا داهن خياركم فُجَّاركم، وصار الفقه في شِراركم، وصار الملك في صغاركم، فعند ذلك تلبسكم فتنة تُكرون، ويُكَر عليكم» . وفيه عمّار بن سيف وثَّقه العِجْلي وغيره وضعَّفه جماعة، وبقية رجاله ثقات وفي بعضهم خلاف، كا قال الهيثمي؛ وأخرجه أيضاً ابن عساكر وابن النجار عن أنس رضي الله عنه وابن أبي الدنيا عن عائشة رضي الله عنه بمعناه، كما في الكنز.
(توضيح أبي بكر على المنبر معنى آية: عليكم أنفسكم)
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبدُ بن حُمحيد والعدني وابن منيع والحُميدي وأبو داود والترمذيي - وقال: حسن صحيح -؛ والنَّسائي وابن ماجه وأبو يَعْلى وأبو نُعيم في المعرفة والدارقطني في العلل - وقال:(3/450)
جميع رواته ثقات -، والبيهقي وسعيد بن منصور وغيرهم عن قيس بن أبي حازم قال: لمَّا ولي أبو بكر رضي الله عنه صعد المنبر فحمد الله ثم قال: يا أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (سورة المائدة، الآية: 105) وإنكم تضعونها على غير مواضعها، وإنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيروه أوشك أن يعمَّهم الله بعقاب» .
وعند ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قعد أبو بكر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم سُمِّي خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه وصلَّى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم مدّ يديه، ثم وضعهما على المجلس الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس عليه من منبره ثم قال: سمعت الحبيب وهو جالس على هذا المجلس يتأوَّل ثم فسَّرها، فكان تفسيره لنا أن قال: «نعم، ليس من قوم عُمل فيهم يمنكر ويُفسد فيهم بقبيح فلم يغيروه ولم ينكروه إلاَّ على الله أن يعمهم بالعقوبة جميعاً، ثم لا يستجاب لهم» ثم أدخل أُصبعيه في أُذنيه فقال: أن لا أكون سمعته من الحبيب فصُمَّت. كذا في كنز العمال. وأخرج البيهقي عن أبي بكر قال: إذا عمل قوم بالمعاصي بين ظهراني قوم هم أعزُّ منهم فلم يغيروه عليهم، أنزل الله عليهم بلاء، ثم لم ينزِعْه منهم. كذا في الكنز.(3/451)
(أمر عمر وعثمان المسلمين بالأمر والنهي عن المنكر)
وأخرج ابن أبي شيبة وأبو عبيد في الغريب وابن أبي الدنيا في الصمت عن عمر رضي الله عنه قال: ما يمنعكم إذا رأيتم السفية يُخَرِّق أعراض الناس أن لا تُعرِّبوا عليه؟ قالوا: نخاف لسانه، قال: ذاك أدنى أن تكونوا شهداء. كذا في الكنز. وأخرجه ابن أبي شيبة عن عثمان رضي الله عنه قال: مُروا بالمعروف وانهَوا عن المنكر قبل أن يُسلَّط عليكم شراركم، ويدعوا عليهم خياركم فلا يستجاب لهم. كذا في الكنز.
(ترغيب علي في الأمر بالمعروف وترهيبه من ترك النهي عن المنكر)
وأخرج ابن أبي شيبة عن علي رضي الله عنه قال: لتأمرنَّ بالمعروف ولَتَنْهُونَّ عن المنكر، ولتجِدُّنَّ في أمر الله، أو ليسومّنكُم أقوام يعذبونكم ويعذبهم الله. وعند الحارث قال: لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر، أو ليُسلَطنَّ عليكم شراركم، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم. وعند ابن أبي حاتم عنه قال في خطبته: أيها الناس، إنَّما هلك من(3/452)
هلك قبلكم بركوبهم المعاصي ولم يتنههم الربانيون والأحبار، كما تمادَوا في المعاصي ولم تنههم الربانيون والأحبار أخذتم العقوبات، فمُروا بالمعروف وانهَوا عن المنكر قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم، واعلموا أنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقاً ولا يقرِّب أجلاً. كذا في الكنز.
وأخرج مسدَّد والبيهقي - وصححه - عن علي قال: الجهاد ثلاثة: جهاد بيد، وجهاد بلسان، وجهاد بقلب؛ فأول ما يُغلب عليه من الجهاد جهاد اليد ثم جهاد اللسان، ثم جهاد القلب، فإذا كان القلب لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً نُكِّس وجعل أعلاه أسفله. وعند ابن أبي شيبة وأبي نُعيم ونصر في الحجّة عن علي قال: أولى ما تُغلبون عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم، ثم الجهاد بقلوبكم، فأي قلب لم يعرف المعروف ولم ينكر نُكِّس أعلاه أسفله كما ينكس الجراب فينثر ما فيه. كذا في الكنز.
(أقوال عبد الله بن مسعود في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)
وأخرجه الطبراني عن طارق بن شهاب قال: جاء عِتريس بن عرقوب الشيباني إلى عبد الله رضي الله عنه فقال: هلك من لم يأمر بالمعروف وينكر المنكر؛ قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. اهـ. وأخرجه أيضاً أبو نُعيم في الحلية(3/453)
عن طارق مثله وابن أبي شيبة ونُعيم في الفتن عن ابن مسعود رضي الله عنه نحوه، كما في الكنز. وأخرج الطبراني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: الناس ثلاثة فما سواهم فلا خير فيه: رجل رأى فئة تقاتل في سبيل الله فجاهد بنفسه وماله، ورجل جاهد بلسانه وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، ورجل عرف الحق بقلبه، قال الهيثمي: وفيه من لم أعرفه. وأخرجه ابن عساكر عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاهدوا المنافقين بأيديك، فإن لم تستطيعوا إلا أن تكفهروا في وجوههم فاكفهروا في وجوههم. كذا في الكنز. وأخرجه الطبراني عنه بمعناه، فقال الهيثمي: رواه الطبراني بإسنادَين في أحدهما شَريك وهو حسن الحديث وبقية رجاله رجال الصحيح. انتهى.
وأخرج ابن أبي شيبة ونعيم عن ابن مسعود قال: إذا رأيت المنكر فلم تستطع له تغييراً فحسبك أن يعلم الله أنك تكره بقلبك، كذا في الكنز. وعندهما أيضاً عنه قال: إنَّ الرجل يشهد المعصية يُعمل بها فيكرهها فيكون كمن غاب عنها، ويغيب عنها فيرضاها فيكون كمن شهدها.(3/454)
وعند نعيم وابن النجار عنه قال: ستكون أمور فمن رضيها ممَّن غاب عنها كان كمن شهدها، ومن كرهها ممَّن شهدها فهو كمن غاب عنها. كذا في الكنز. وأخرجه أبو نعيم في الحلية معنه قال: يذهب الصالحون أسلافاً ويبقى أهل الرَّيْب من لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً. وأخرجه الطبراني نحوه ورجاله رجال الصحيح، كما قال الهيثمي.
(أقوال حذيفة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي الرقَّاد قال: خرجت مع مولاي وأنا غلام، فدُفعت إلى حذيفة رضي الله عنه وهو يقول: إن كان ارجل ليتكلَّم بالكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصير بها منافقاً، وإنِّي لأسمعها من أحدكم في المقعد الواحد أربع مرات، لتأمُرُنَّ بالمعروف، ولتنهُونُ عن المنكر، ولتحضُنَّ على الخير؛ أو ليسحتكم الله جميعاً بعذاب، أو ليؤمرَنّ عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لكم. وأخرجه ابن أبي شيبة نحوه، كما في الكنز.
وعند أبي نعيم في الحلية عنه قال: لعن الله من ليس منَّا، والله لتأمُرُن بالمعروف، ولتناهَوْن عن المنكر، أو لتقتتلن بينكم، فليظهرنَّ شراركم على خياركم، فليقتُلُنَّهم حتى لا يبقى أحد يأمر بالمعروف ولا ينهَى عن(3/455)
المنكر، ثم تدعون الله عز وجل فلا يجيبكم بمقتكم. وعنده أيضاً عنه قال: ليأتينَّ عليكم زمان خيركم فيه من لم يأمر بمعروف وينه عن منكر. وأخرجه ابن أبي شيبة عنه نحوه، كما في الكنز. وأخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه نحوه، كما في الكنز.
(قول عدي وأبي الدرداء في هذا الأمر)
وأخرج ابن عساكر عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: إن معروفكم اليوم منكر زمان قد مضى، وإن منكركم اليوم معروف زمان يأتي، وإنكم لن تبرحوا بخير ما دمتم تعرفون ما كنتم تنكرون، ولا تنكرون ما كنتم تعرفون، وما قام عالمكم يتكلم بينكم غير مستخفٍ، كذا في الكنز. وأخرج ابن عساكر عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: إني لآمركم بالمعروف وما أفعله، ولكني أرجو من الله أن أوجر عليه، كذا في الكنز. وأخرجه أبو نعيم في الحلية عنه نحوه.
(نهي عمر أهله عن المنكر الذي كان ينهي الناس عنه وقوله في هشام بن حكيم)
وأخرج ابن سعد وابن عساكر عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان عمر إذا أراد أن ينهى الناس عن شيء تقدَّم إلى أهله (فقال) لا أعلمنَّ أحداً وقع في شيء ممجا نهيت عنه إلاّ أضعفت له القعوبة. كذا في الكنز.(3/456)
وأخرج مالك وابن سعد عن ابن شها قال: كان هشام بن حكيم بن حزام رضي الله عنهما يأمر بالمعروف في رجال معه، فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: أمَّا ما عشت أنا وهشام فلا يكون هذا، كذا في الكنز.
(وصية عمير بن حبيب لولده)
وأخرج الطبراني في الأوسط عن أبي جعفر الخَطْمي أن جده عمير بن حبيب بن خُماشة رضي الله عنه - وكان قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم عند احتلامه - أوصى ولده فقال: يا بني إياك ومجالسة السفهاء فإن مجالستهم داء، ومن يحلم عن السفيه يُسرَّ، ومن يجبه يندم، ومن لايرضى بالقليل ممّا يأتي به السفيه يرضى بالكثير، وإذا كان أراد أحدكم أن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر فليوطِّن نفسه على الصبر على الأذى ويثق بالثواب من الله تعالى، فإنه من وثق بالثواب من الله عز وجل لم يضره مس الأذى. ورجاله ثقات، كما قال الهيثمي. وأخرجه أيضاً أبو نعيم وأحمد في كتاب الزهد، كما في الإصابة.
(تخوف أبي بَكْرة أن يدرك زماناً ليس فيه أمر بالمعروف ونهي عن المنكر)
وأخرج الطبراني عن عبد العزيز بن أبي بَكْرة أن أبا بَكحرة رضي الله عنه تزوج امرأة من بني غُدانة، وأنها هلكت فحملها إلى المقابر، فحال إخوتها بينه وبين الصلاة، فقال لهم: لا تفعلوا فإني أحق بالصلاة منكم، قالوا: صدق صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلَّى عليها، ثم إنه دخل القبر فدفعوه دفعاً عنيفاً فوقع فغُشي عليه، فحُمل إلى أهله فصرخ عليه يومئذ عشرون من ابن وبنت له - قال عبد العزيز: وأنا يومئذ من أصغرهم -، فأفاق إفاقة فقال: لا تصرخوا عليَّ، فوالله(3/457)
ما من نفس تخرج أحب إليَّ من نفس أبي بَكْرة، ففزع القوم فقالوا: لم يا أبانا؟ قال: إني أخشى أن أدرك زماناً لا أستطيع أن آمر بالمعروف ولا أنهي عن منكر، ولا خير يومئذ. ورجاله ثقات، كما قال الهيثمي.
(إعراض أنس وابن عمر عن نهي الحجّاج عن المنكر خشية الأذى)
وأخرج الطبراني عن علي بن زيد قال: كنت في القصر مع الحجّاج وهو يعرض الناس من أجل الأشعث، فجاء أنس بن مالك رضي الله عنه حتى دنا، فقال له الحجاج: هيه يا خِبْثة، يا جوالُ في الفتن. مرة مع علي بن أبي طالب، (ومرة مع ابن الزبير) ، ومرة مع ابن الأشعث، أما والذي نفسي بيده لأستأصلنَّك كما تُستأصل الصمغة، ولأجردنَّك كما يجرد الضب. فقال: من يعني الأمير - أصلحه الله؟ - قال الحجاج: إياك أعني - أصمَّ الله سمعك -، فاسترجع فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم خرج من عنده فقال: لولا أنِّي ذكرت ولدي فخشيته عليهم لكلمته في مقامي بكلام لا يستحييني بعده أبداً. قال الهيثمي: وعلي ابن زيد ضعيف وقد وثَّق. اهـ.
وأخرج البزار عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت الحجاج يخطب، فذكر كلاماً أنكرته، فأردت أن أغيِّر فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا ينبغي للمؤمن أن يذلَّ نفسه» ، قال قلت: يا رسول الله كيف يذلّ نفسه؟ قال: «يتعرّض من البلاء لما لا يُطيق» . قال الهيثمي: رواه البزار والطبراني في الأوسط والكبير باختصار، وإسناد الطبراني في الكبير جيّد ورجاله رجال(3/458)
الصحيح غير زكريا بن يحيى بن أيوب الضرير ذكره الخطيب، روى عن جماعته وروى عنه جماعة ولميتكلم فيه أحد. اهـ.
العزلة
(قول عمر رضي الله عنه في العزلة)
أخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وابن أبي الدنيا في العزلة عن عمر رضي الله عنه قال: إن في العزلة لراحة من خلاط السوء. وعند أحدم فيه وابن حبان في الروضة والعسكري في المواعظ عن عمر قال: خذوا بحظكم من العزلة. كذا في الكنز. وأخرجه ابن المبارك فيكتاب الرقائق عن عمر نحوه، كما في فتح الباري. وأخرجه الدينوري عن المعافى بن عمران أنَّ عمر بن الخطاب مرَّ بقوم يتبعون رجلاً قد أُخذ في الله فقال: لا مرحباً الوجوه التي لا تُرى إلا في الشر. كذا في الكنز.
(قول ابن مسعود في العزلة ووصيته لرجل ولابنه بها)
وأخرج الطبراني عن عَدَسة الطائي قال: كنت بسراف، فنزل علينا عبد الله رضي الله عنه، فبعثني إليه أهلي بأشياء، وجاء غِلمة لنا كانوا في(3/459)
الإبل من مسيرة أربع ليالي بطير فذهبت بهإليه، فلما ذهبت به إليه سألني: من أين جئتني بهذا الطائر؟ قال: قلت: جاء غلمان لنا كانوا في الألإبل من مسيرة أربع ليال، فقال عبد الله: لوددت أني حيث صِيد لا أكلم أحداً بشيء ولا يكلمني حتى ألحق بالله عز وجل. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير عَدَسة الطائي وهو ثقة. وأخرجه ابن عساكر بمعناه مختصراً عن ابن مسعود كما في الكنز، وعند أبي نُعيم في الحلية عن القاسم قال: قال رجل لعبد الله: أوصني (يا أبا عبد الرحمن) قال: ليسعْك بيتك، واكفف لسانك، وابك على ذكر خطيئتك. وعند الطبراني عن إسماعيل ابن أبي خالد قال: أوصى ابن مسعود أبا عبيدة بثلاث كلمات: أي بني، أوصيك بتقوى الله، وليسعْك بيتك، وابك على خطيئتك. قال الهيثمي: رواه الطبراني بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح. انتهى.
(رغبة حذيفة وابن عباس وأبي الجهم وأبي الدرداء في العزلة)
وأخرج الحاكم عن حذيفة رضي الله عنه قال: لوددت أن لي من يصلح من مالي، فأغلق بابي فلا يدخل عليَّ أحد ولا أخرج إليهم حتى ألحق بالله، كذا في الكنز وأخرجه أبو نعيم في الحلية عنه نحوه.(3/460)
وأخرج ابن أبي الدنيا في العزلة عن مالك عن رجل عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لولا مخافة الوسواس دخلت إلى بلاد لا أنيس بها، وهل يفسد الناسَ إلا الناس، كذا في الكنز. وأخرجه ابن أبي الدنيا في العزلة عن مالك قال: سمعت يحيى بن سعيد قال: كان أبو الجهم (ابن) الحارث بن الصِّمَّة رضي الله عنه لا يجالس الأنصار، فإذا ذُكرت له الوحدة قال: الناس شرٌّ من الوحدة، كذا في الكنز. وأخرج ابن عساكر عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: نعم صمومعة الرجل السملم بيته، يكف فيه نفسه وبصره وفرجه، وإياكم والمجالس في السوق؛ فإنها تُلهي وتُلغي. كذا في الكنز.
(عزلة معاذ بن جبل رضي الله عنه)
وأخرج الطبراني عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه مرَّ بمعاذ ابن جبل رضي الله عنه وهو قائم على بابه يشير بيده كأنه يحدِّث نفس، فقال له عبد الله بن عمور: ما شأنك يا أبا عبد الرحمن تحدِّث نفسك؟ قال: ما لي يريد عدوُ الله أن يُلفتني عما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تكابد دهرك في بتيك؟ ألاَ تخرج إلى المجلس؟ وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من خرج في سبيل الله كان ضامناً على الله، ومن عاد مريضاً كان ضامناً على الله عز(3/461)
وجل، ومن غدا إلى المسجد، أو راح كان ضامناً على الله عز وجل، ومن دخل على إمام يُعزِّره كان ضامناً على الله عز وجل، ومن جلس في بيته لم يغتب أحداً بسوء كان ضامناً على الله عز وجل» ، فيريد أن يخرجني عدو الله من بيتي إلى المجلس. قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط والكبير بنحوه باختصار والبزار أحمد رجال الصحيح غير ابن لَهيعة وحديثه حسن على ضعفه. اهـ.
القناعة
(ترغيب عمر رضي الله عنه في القناعة)
أخرج ابن المبارك عن عبد الله بن عبيد قال: رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الأحنف رضي الله عنه قميصاً، فقال: يا أحنف بكم أخذت قميصك هذا؟ قال: أخذته باثني عشر درهماً، قال: ويحك ألا كان بستة دراهم وكان فضله فيما تعلم؟ كذا في الكنز. وأخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: اقنع بروحك في الدنيا، فإن الرحمن فضَّل بعض عباده على بعض في الرزق، بل يبتلي به كلاً، فيبتلي به من بسط له كيف شُكْره فيه، وشكره الله أداؤه الحق الذي افترض عليه فيما رزقه وخوَّله؛ كذا في الكنز.(3/462)
قناعة علي ووصيته ووصية سعد بها
وأخرج العسكري عن أبي جعفر قال: أكل علي رضي الله عنه من تمرٍ دَقَل، ثم شرب عليه الماء، ثم ضرب على بطنه وقال: من أدخله بطنه النار فأبعده الله، ثم تمثل:
فإنك مهما تعطِ بطنَك سُؤلَه
وفرجَك نالا منتهى الذمِّ أجمعا
طالب: يا ابن آدم لا تعجِّل همَّ يومك الذي يأتي على يومك الذي أنت فيه، فإن لم يكن من أجلك يأت فيه رزقك، واعلم أنك لا تكتسب من المال فوق قوتك إلا كنت فيه خازناً لغيرك. كذا في الكنز. وأخرج ابن عساكر عن سعد رضي الله عنه أنه قال لابنه: يا بنيّ إذا طلبت الغناء فاطلبه بالقناعة، فإنه من لم يكن له قناعة لم يغنِه مال. كذا في الكنز.
هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في النكاح
نكاح النبي صلى الله عليه وسلم بخديجة رضي الله عنها
أخرج الطبراني عن جابر بن سَمُرة رضي الله عنه - أو رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ـ قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يرعَى غنماً فاستعلى الغنم، فكان في الأبل وهو شريك له، فأكريا أخت خديجة، فلما قضَوا السفر بقي لهم عليها شيء،(3/463)
فجعل شريكهم يأتيها فيتقاضاهم وهو يقول لمحمد: انطلق، فيقول: «اذهب أنت فإني أستحيي» ، فقالت مرة - وأتاهم -: فأين محمد؟ قال: قد قلت له فزعم أنه يستحيي، فقالت: ما رأيت رجلاً أشدّ حياء ولا أعفّ ولا ولا، فوقع في نفس أختها خديجة، فبعث إليه فقالت: ائت أبي فاخطبني، قال: «أبوك رجل كثير المال وهو لا يفعل» ، قالت: انطلق فالقَه فكلِّمه، فأنا اكفيك وائت عند سُكحرة ففعل، فأتاه فزوجه، فلما أصبح جلس في المجلس فقيل له: أحسنت زوَّجت محمداً، فقال: أو قد فعلت؟ قالوا: نعم، فقام فدخل عليها فقال: إنَّ الناس يقولون: إني قد زوَّجت محمداً، قالت: بلى، فلا تسفهنَّ رأيك فإن محمداً كذا، فلم تزل به حتى رضي، ثم بعثت إلى محمد صلى الله عليه وسلم بأوقيتين من فضة أو ذهب وقلت: اشتر حلَّة واهدها لي وكبشاً وكذا وكذا، ففعل. قال الهيثمي: رواه الطبراني والبزّار ورجال الطبراني رجال الصحيح غيرأبي خالد الوالبي وهو ثقة، ورجال البزّار أيضاً إلاَّ أن شيخه أحمد بن يحيى الصوفي ثقة ولكنه ليس من رجال الصحيح، وقال فيه: قالت: وأته غير مكره - بدل: سكره، وقالت في الحلّة: فأهدها إليه - بدل إليَّ. انتهى.
وعند أحمد والطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما - فيما يحسب حمّاد - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر خديجة وكان أبوها يرغب عن أن يزوجه، فصنعت طعاماً وشراباً فدعت أباها ونفراً من قريش فطعموا وشربوا حتى ثملوا،(3/464)
فقالت خديجة: إن محمد بن عبد الله يخطبني فزوجني إياه، فزوجها إياه فخلَّقته وألبسته حلة - وكذلك كانوا يفعلون بالآباء - فلَّما سُرِّي عنه سكره نظر فإذا هو مخلَّق وعليه حلَّة، فقال: ما شأني؟ ما هذا؟ قالت: زوجتني محمد بن عبد الله، فقال: أنا أزوج يتيم أبي طالب؟ لا لعمري قالت خديجة: ألا تستحيي؟ تريد أن تسفِّه نفسك عند قريش تخبر الناس أنك كنت سكران؟ فلم تزل به حتى رضي. ورجالهما رجال الصحيح، كما قال الهيثمي.
وعند ابن سعد عن نفيسة قالت: كانت خديجة بنت خويلد امرأة حازمة جَلْدة شريفة؛ مع ما أراد الله بها من الكرامة والخير، وهي يومئذ أوسط قريش نسباً، وأعظمهم شرفاً، وأكثرهم مالاً، وكلُّ قومها كان حريصاً على نكاحها لو قدر على ذلك، قد طلبوها وبذلوا لها الأموال، فأرسلتني دَسِيساً، إلى محمد بعد أن رجع في عيرها من الشام، فقلت: يا محمد، ما يمنعك أن تَزَوَّجَ؟ فقال: «ما بيدي ما أتزوَّج به» ، قلت: فإن كفيت ذلك ودُعيت إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة ألا تجيب؟ قال: «فمن هي؟» قلت: خديجة، قال: «وكيف لي بذلك؟» قالت: قلت: عليَّ، قال: «فأنا أفعل» ، فذهبت فأخبرتها، فأرسلت إليه أنِ ائتِ الساعة كذا وكذا، وأرسلت إلى عمها عمرو بن أسد ليزوِّجها، فحضر ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمومته فزوجه أحدهم، فقال(3/465)
عمرو بن أسد: هذا البُضْع لا يقرع أنفه وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس وعشرين وخديجة يومئذ بنت أربعين سنة؛ ولدت قبل الفيل بخمس عشرة سنة.
(نكاحه صلى الله عليه وسلم لعائشة وسودة رضي الله عنهما)
أخرج الطبراني عن عائشة رضي الله عنها قالت: لمَّا توفيت خديجة رضي الله عنها قالت خولة بنت حكيم بن الأوقص رضي الله عنها - امرأة عثمان بن مظعون رضي الله عنه وذلك بمكة -: يا رسول الله ألا تَزَوَّج؟ قال: «من؟» قالت: إن شئت بكراً وإن شئت ثيِّباًد، قال: «فمن البكر؟» قالت: ابنة أحب خلق الله إليك عائشة بنت أبي بكر قال: «فمن الكر؟» قالت: ابنة أحب خلق الله إليك عائشة بنت أبي بكر قال: «فمن الثيب؟» قالت: سَوْدة بنت زَمْعة، آمنت بك، واتبعتك على ما أنت عليه، قال: «فاذهبي فاذكريها عليَّ» فجاءت فدخلت بيت أبي بكر فوجدت أم رومان أم عائشة رضي الله عنهما، فقالت: يا أم رومان ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبكرة؟ أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة، قلت: وددت، انتظري أبا بكر فإنه آتٍ، فجاء أبو بكر فقالت: يا أبا بكر ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة؟ أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة، فقال: هل تصلح له؟ إنما هي بنت أخيه، فرجعتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرتُ ذلك له فقال: «ارجعي إليه فقولي بنت أخيه، فرجعتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرتُ ذلك له فقال: «ارجعي إليه فقولي بنت أخيه، فرجعتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرتُ ذلك له فقال: «ارجعي إليه فقولي له: أنت أخي في الإسلام وأنا أخوك وابنتك تصلح لي» ، فأتتْ أبا بكر فقال: ادعي لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء فأنكحه. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير محمد بن عمرو بن علقمة وهو حسن الحديث، وأخرجه أحمد عن أبي سلمة(3/466)
ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قالا: لما هلكت خديجة - فذكر الحديث بمعناه وزاد في آخره قال: «راجعي فقولي له: أنا أخوك وأنت أخي في الإسلام، وابنتك تصلح لي» ، فرجعت فذكرت ذلك له فقال: انتظري وخرج، قالت أم رومان: إنَّ مُطْعِم بن عديّ كان قد ذكرها على ابنه (جبير ووعده) فوالله ما
وعد
وعداً قطُّ فأخلفه - أبي بكر -، فدخل أبو بكر على مُطْعِم بن عديّ، فخرج من عنده وقد أذهب الله ما كان في نفسه من عِدته التي وعد، فقال لخولة: ادعي لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعته، فزوَّجها إياه وعائشة رضي الله عنها يومئذ بنت ست سنين.
ثم خرجت فدخلت علي سَوْدة بنت زَمْعة، فقالت: ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة؟ قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطبك عليه، قالت: وددتُ، ادخلي على أبي فاذكري ذلك له - وكان شيخاً كبيراً قد أدركته السن قد تخلَّف عن الحج -، فدخلت عليه فحيته بتحية الجاهلية، فقال: من هذه؟ فقالت: خولة ابنة حكيم، قال: فما شأنك؟ قالت: أرسلني محمد بن عبد الله أخطب عليه سودة، فقال: كفء كريم، فماذا تقول صاحبتك؟ قالت: تحب ذلك، قال: ادعيه لي، فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوَّجها إياه، فجاء أخوها عبد بن زَمْعة من الحج فجعل يحثي في رأسه التراب، فقال بعد أن أسلم؛ لعمري إني لسفيه يوم أحثي في رأسي التراب أن تَزَوَّج رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة بنت زمعة
قالت عائشة: فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج(3/467)
بالسُّنُح، قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بيتنا، فجاءت بي أُمي وأنا في أُرجوحة ترجح بي بين عَذقين، فأنزلتني من الأرجوحة ولي جُمَيمة ففرَّقتها، ومسحت وجهي بشيء من ماء، ثم أقبلت تقودني حتى وقفت عند البابو إني لأنهج حتى سكن من نفسي، ثم دخلت بي فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على سرير في بيتنا وعنده رجال ونساء من الأنصار، فاحتبستني في حجرة ثم قالت: هؤلاء أهلك فبارك الله لك فيهم وبارك لهم فيك، فوثب الرجال والنساء فخرجوا، وبنى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتنا، ما نُحرت عليَّ جزور ولا ذُبحت عليَّ شاة؛ حتى أرسل إلينا سعد بن عبادة رضي الله عنه بجفنة كانَ يرسل بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دار إلى نسائه، وأنا يومئذ ابنة سبع سنين. قال الهيثمي: رواه أحمد، بعضُه صرّح فيه بالاتصال عن عائشة، وأكثره مرسل، وفيه محمد بن عمرو بن علقمة وثّقه غير واحد، وبقية رجاله رجال الصحيح، وفي الصحيح طرف منه. انتهى.
(نكاحه صلى الله عليه وسلم بحفصة بنت عمر رضي الله عنهما)
أخرج البخاري والنِّسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه حين تأيَّمت حفصة من خُنَيس بن حذافة السهمي - وكان شهد بدراً وتوفي بالمدينة - لقي عثمان رضي الله عنه فقال: إن شئتَ أنكحتك حفصة، قال: سأنظر في أمري، فلبث ليالي فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج، قال عمر:(3/468)
فقلت لأبي بكر رضي الله عنه: إن شئت أنكحتك حفصة، فصمت، فكنت عليه أوجد مني على عثمان، فلبث ليالي، ثم خطبها النبي صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وَجحدت عليَّ حين عرضت عليَّ حفصة فلم أرجع إليك شيئاً. قلت: نعم، قال: إنه لم يمنعني أن أرجع إليك إلاَّ أنِّي علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها، فلم أكن لأفشي سرّه، ولو تركها لقبلتها. كذا في جمع الفوائد.
وأخرجه أيضاً أحمد والبيهقي وأبو يَعْلى وابن حِبّان وزاد: قال عمر: فشكوت عثمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تُزوج حفصة خيراً من عثمان، ويُزوج عثمان خيراً من حفصة» ، فزوّجه النبي صلى الله عليه وسلم ابنته. كذا في منتخب الكنز.
(نكاح صلى الله عليه وسلم بأم سَلَمة بنت أبي أمية رضي الله عنها)
أخرج النِّسائي بسند صحيح عن أمِّ سلمة قالت: لما نقضتِ عِدَّة أم سَلَمة خطبها أبو بكر رضي الله عنه فلم تتزوجه، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم (من) يخطبها عليه، فقالت: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أني امرأة غَيْري، وأني امرأة مُصْبِية، وليس أحد من أوليائي شاهداً، فقال: «قل لها: أما قولك: غَيْري. فسأدعو الله فتذهب غَيْرتك، وأما قولك: إني امرأة مصبية، فستُكْفَين صبيانك، وأما قولك: ليس أحد من أوليائي شاهداً، فليس أحد من أوليائك شاهد أو غائب يكره ذلك» ، فقالت لابنها عمر رضي الله عنه: قُمْ فزوَّج رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوَّجه كذا في(3/469)
الإصبة وجمع الفوائد.
وعند ابن عساكر عن أم سَلَمة أنَّها لمصا قدمت المدينة أخبرتم أنها ابنة أبي أمية بن المغيرة، فكذَّبوها، حتى أنشأ أناس منهم الحج، فقالوا: تكتبي إلى أهلك، فكتبت معهم فرجعوا إلى المدينة يصدِّقونها، فازدادت عليهم كرامة. قالت: فلَّما وضعتُ زينب جاءني النبي صلى الله عليه وسلم فخطبني، فقلت: مثل تُنْكح؟ أما أنا فلا ولد فيَّ، وأنا غيور ذات عيال، قال: «أنا أكبر منك، وأما الغَيْرة فيذهبها الله، وأما العيال فإلى الله وإلى رسوله» ، فتزوَّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يأتيها فيقول: «أين زَناب؟» حتى جاء عمّار فاختلجها، فقال: هذه تمنع رسول الله (حاجته) - وكانت ترضعها - فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أين زَناب؟» فقالت قرِيبة بنت أبي أميّة: - وافقها عندها - أخذها ابن ياسر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «إني آتيكم الليلة» ، فوضعتُ ثِفالي فأخرجتُ حبات من شعير كانت في جرتي، وأخرجت شحماً فعضدت له، فبات ثم أصبح فقال حين أصبح: «إنَّ لكِ على أهلك كرامة، إن شئت سبَّعتُ لك، وإن أسبِّع لكِ أسبع لنسائي» . كذا في الكنز. وأخرجه النِّسائي بسند صحيح عن أم(3/470)
سلمة نحوه، كما في الإصابة. وأخرجه ابن سعد عن أم سَلَمة نحوه
(نكاحه صلى الله عليه وسلم بأم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنهما)
أخرج الزبير بن بكار عن إسماعيل بن عمرو أنَّ أم حبيبة بنت أبي سفيان قالت: ما شعرت وأنا بأرض الحبشة إلا برسول النجاشي - جارية يقال لها أبرهة، كانت تقوم على ثيابه ودُهنه - فاستأذنت عليَّ فأذنت لها، فقالت: إن الملك يقول لك: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليَّ أن أزوجكِهِ، فقلت: بشَّرك الله بالخير، وقالت: يقول لك الملك. وكِّلي مَنْ يزوجك، قالتْ: فأرسلتُ إلى خالد بن سعيد بن العاص رضي الله عنه فوكلته، وأعطيت أبرهةَ سوارَين من فضَّة، وخَدَمتين من فضة كانتا عليَّ، أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ومن كان هناك من المسلمين أن يحضروا، وخطب النجاشي وقال: الحمد لله الملك القدُّوس المؤمن العزيز الجبار، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأنه الذي بشر به عيسى بن مريم. أما بعد: فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب أن أزوجه أمَّ حبيبة بنت أبي سفيان، فأجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصدقها أربعمائة دنانير، ثم سكب الدنانير بين يدي القوم، فتكلم خالد بن سعيد، فقال: الحمد لله أحمده وأستغفره،(3/471)
وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، أما بعد: فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوَّجته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فبرك الله لرسول الله، ودفع النجاشي الدنانير إلى خالد بن سعيد فقبضها، ثم أرادوا أن يقوموا فقال: اجلسوا فإنَّ من سنة الأنبياء إذا تزوجوا أن يُؤكل طعام على التزويج، فدعا بطعام فأكلوا ثم تفرقوا. كذا في البداية.
وأخرجه الحاكم عن إسماعيل بن عمرو بن سعيد بن العاص قال: قالت أم حبيبة: رأيت في المنام كأن عبيد الله بن جحش زوجي بأسوا صورة وأشوهه، ففزعت فقلت: تغيّرت - والله - حاله، فإذا هو يقول حين أصبح: يا أمَّ حبيبة، إني نظرت في الدين فلم أر ديناً خيراً من النصرانية، وكنت قد دِنْتُ بها، ثم دخلت في دين محمد، ثم رجعت إلى النصرانية، فقلت: والله ما خير لك وأخبرته بالرؤيا التي رأيت له فلم يحفل بها، وأكبَّ عل الخمر حتى مات، فأرى في النوم كأن آتياً يقول لي: يا أمَّ المؤمنين، ففزعت وأوَّلتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوجني، قال: فما هو إلاَّ أن انقضت عِدَّتي، فما شعرت إلا برسول النجاشي - فذكر الحديث نحوه، وزاد في آخره بعد قوله: فأكلوا ثم تفرقوا، قالت أم حبيبة: فلما وصل إليَّ المال أرسلت أبرهة التي بشَّرتني فقلت لها: إني أعطيتك ما أعطيتك يومئذ ولا مال بيدي وهذه خمسون مثقالاً فخذيها فاستعيني بها، فأخرجت إليَّ حُقَّة فيها جميع ما أعطيتها فردّته إليَّ وقالت: عزم عليَّ الملك أن لا أرزأك شيئاً وأنا التي أقوم على ثيابه ودُهنه، وقد اتّبعتُ دين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلمت لله، وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن بكل ما عندهن من العطر. فلما كان الغد جاءتني بعُود ووَرْس وعنبر(3/472)
وزَباد كثير، وقدمت بذلك كلِّه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يراه عليَّ وعندي فلا ينكر، ثم قالت أبرهة: فحاجتي إليك أن تقرئي رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام وتعليمه أنِّي قد اتَّبعت دينه. قالت: ثم لطفت بي وكانت هي التي جهَّزتني، وكانت كلما دخلت عليَّ تقول: لا تنسَيْ حاجتي إليك. قالت: فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته كيف كانت الخِطبة، وما فعلت بي أبرهة، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقرأتُه منها السلام، فقال: «وعليها السلام ورحمة الله وبركاته» . وأخرجه ابن سعد عن إسماعيل بن عمرو بن
سعيد
الأموي بمعناه
(نكاحه صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش رضي الله عنها)
أخرج أحمد عن أنس رضي الله عنه قال: لمَّا انقضت عِدَّة زينب رضي الله عنها قال النبي صلى الله عليه وسلم لزيد رضي الله عنه: «اذهب فاذكرها عليَّ» ، فانطلق حتى أتاها وهي تخمِّر عجينها، قال: فلَّما رأيتها عَظُمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها، فولَّيتها ظهري ونكصت على عقبي، وقلت: يا زينب أبشري، أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك، قالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أوامر ربي عز وجل، ثم قامت إلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن، قال أنس: ولقد رأيتنا حين دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا عليها الخبز واللحم، فخجر الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم واتّبعته، فجعل يتبع حُجَر نسائه يسلَّم عليهن ويقلن: يا رسول الله كيف وجدت أهلك؟ فما أدري أنا أخبرته - والقوم قد خرجوا - أو أُخبر قال: فانطلق حتى دخل البيت فذهبت أدخل معه، فألقَى الستر بيني وبينه ونزل الحجاب، ووعُظ(3/473)
القوم بما وعظوا به {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِىّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ} (سورة الأحزاب: الآية: 53) - الآية -. وكذا رواه مسلم والنسائي.
وعند البخاري عنه قال: بُنيَ على النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش بخبز ولحم، فأرسلتُ على الطعام داعياً، فيجيء قوم فيأكلون ويخرجوون، ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون فدعوتُ حتى ما أجد أحداً أدعوه، فقلت: يا نبي الله ما أجد أحداً أدعوه، قال: «ارفعوا طعامكم» وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة رضي الله عنها فقال: «السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته» ، قالت: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، كيف وجدت أهلك؟ بارك الله لك، فتقرَّى حُجَر نسائه كلهن، ويقول لهن كما يقول لعائشة ويقلن له كما قالت عائشة، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا رهط ثلاثة في البيت يتحدثون - وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء - فخرج منطلقاً نحو حجرة عائشة، فما أدري أخبرته أو أُخبر أن القوم خرجوا، فرجع حتى إذا وضع رجله في أُسكفّة الباب (داخلة) وأخرى خارجة أرخى الستر بيني وبينه وأنزلت آية الحجاب.
وعند أبي حاتم عنه قال: أعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض نسائه، فصنعت أمُّ سُلَيم رضي الله عنها حَيْساً ثم حطَّته في تَوْر، فقالت: اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره أن هذا منَّا له قليل - قال أنس: والناس يومئذ في(3/474)
جَهْد -، فجئت به فقلت: يا رسول الله بعثت بهذا أم سُلَيم إليك، وهي تُقرئك السلام وتقول لك: إنَّ هذا منَّا له قليل، فنظر إليه ثم قال: «ضعه في ناحية البيت» ثم قال: «اذهب فادع لي فلاناً وفلاناً» ، فسمَّى رجالاً كثيراً، قال: «ومن لقيت من المسلمين» فدعوت من قال لي ومن لقيت من المسلمين، فجئت وابيت والصُّفَّة والحُجْرة ملاءٌ من الناس - فقلت: يا أبا عثمان كم كانوا؟ قال: كانوا زهاء ثلاثمائة -. قال أنس: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «جىء» فجئت به إيه، فوضع يده عليه ودعا وقال ما شاء الله، ثم قال: «ليتحلَّق عشرة عشرة، وليسمُّوا، وليأكل كل إنسان مما يليه» ، فجعلوا يسمُّون ويأكلون حتى أكلوا كلهم. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «ارفعه» قال: فجئت فأخذت التور فنظرت فيه فلا أدري أهو حين وضعته أكثر أم حين رفعته
قال: وتخلّف رجال يتحدّثون في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجُ رسول الله صلى الله عليه وسلم التي دخل به معهم مولية وجهها إلى الحائط، فأطالوا الحديث، فشقُّوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أشد الناس حياء، ولو علموا كان ذلك عليهم عزيزاً، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلَّم عى حُجَره وعلى نسائه، فلما رأوه قد جاء ظنُّوا أنهم قد ثقلوا عليه ابتدروا الباب فخرجوا، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أرخى السرت ودخل البيت وأنا في الحجرة، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته يسيراً، وأنزل الله القرآن، فخرج وهو يقرأ هذه الآية: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِىّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ} - إلى قوله: {إن تبدو شيئا أو تخفوه فإن اكان بكل شيء عليما} (سورة الأحزاب، الآيتان: 53 و54) ، قال أنس: فقرأهنَّ عليَّ قبل الناس وأنا أحْدَثُ الناس بهنَّ عهداً. وقد رواه مسلم والنسائي الترمذي وقال: حسن(3/475)
صحيح، والبخاري وابن جرير. كذا في البداية. وأخرجه ابن سعد من طرق عن أنس.
(نكاحه صلى الله عليه وسلم بصفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها)
أخرج أبو داود عن أنس رضي الله عنه قال: جُمع السبي - يعني بخيبر - فجاء دِحْية رضي الله عنه فقال: يا رسول الله أعطني جارية من السبي، قال: «اذهب فخذ جارية» فأخذ صفية بنت حُيَي، فجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، أعطيت دِحْية - قال يعقوب: صفة بنت حيي سيدة قُرْيظة والنَّضِير ما تصلح إلا لك - قال: «ادعوا بها» ، فلما نظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خذ جارية من السبي غيرها» وإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتقها وتزوَّجها. وأخرجه البخاري ومسلم.
وعند البخاري عن أنس قال: قدما خيبر، فلما فتح (الله عليه) الحصن ذُكره له جمال صفية بنت حيي بن أخطب، وقد قُتل زوجها وكانت عروساً، فاصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه، فخرج بها حتى بلغ بها سدَّ الصهباء حلَّت، فبنى بها رسول(3/476)
الله صلى الله عليه وسلم ثم صنع حَيْساً في نِطَع صغير ثم قال لي: «آذنْ من حولك» فكانت تلك وليمته على صفيّة، ثم خرجنا إلى المدينة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحوِّي لها وراءه بعباءة، ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته وتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب.
وعنده أيضاً عنه قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بين خيبر والمدينة ثلاث ليال يُبني عليه بصفية، فدعوت المسلمين إلى وليمته وما اكن فيها من خبز (ولا) لحم، وما كان فيها إلا أن أمر بلالاً بالأنطاع فبسطت، فألقى عليها التمر والأقِط والسمن، فقال المسلمون: إحدى أمهات المؤمنين أو ما ملكت يمينه؟ فقالوا: إن حجبها فهي إحدى أهات المؤمنين، وإن لم يحجبها فهي مما ملكت يمينه، فلما ارتحل وطَّأ لها خلفه ومدّ الحجاب. كذا في البداية.
وأخرج أحمد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما دخلت صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فُسطاطه حضر ناس وحضرت معهم ليكون لي فيها قِسْم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «قوموا عن أمِّكم» ، فلما كان العشاء حضرنا فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا من طرف ردائه نحو من مد ونصف من تمر عجوة، فقال: «كُلُوا من وليمة أمكم» قال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، وأخرجه ابنسعد نحوه(3/477)
وأخرج الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان بعينيّ صفية خُضْرة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم «ما هذه الخضرة بعينيك؟» قالت: قلت لزوجي: إني رأيت فيما يرى النائم كأن قمراً وقع في حجري فلطمني، وقال: أتريدن مَلِك يثرب؟. قالت: وما كان أبغض إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل أبي وزوجي، فما زال يعتذر إليَّ وقال «يا صفية إن أباك ألَّب عليَّ العرب وفعل وفعل» ، حتى ذهب ذلك من نفسي. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.
وأخرج الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفية بات أيوب رضي الله عنه على باب النبي صلى الله عليه وسلم فلما أصبح فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم كبَّر ومع أبي أيوب السيف، فقال: يا رسول الله كانت جارية حديثة عهد بعرس، وكنتَ قتلتَ أباها وأخاها وزوجها فلم آمنها عليك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له خيراً. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرِّجاه، وقال الذهبي: صحيح. وأخرجه ابن عساكر عن عروة بمعناه أطول منه كما في الكنز. وأخرجه ابن سعد عن ابن عباس رضي الله عنهما أطول منه، وفي روايته: قلت: إن تحركتْ كنت قريباً منك.
وأخرج ابن سعد عن عطاء بن يَسَار قال: لما قدمت صفية من خيبر أُنزلت في بيت لحارثة بن النعمان رضي الله عنه، فسمع نساء الأنصار فجئن ينظرن إلى جمالها، وجاءت عائشة رضي الله عنها منتقبة، فلما خرجت خرج(3/478)
النبي صلى الله عليه وسلم عى إثرها، فقال: «كيف رأيت يا عائشة؟» قالت: رأيت يهودية فقال: «لا تقولي ذلك، فإنها أسلمت وحسن إسلامها» .
وعند سعيد بن المسيَّب بسند صحيح قال: قدمت صفية وفي أذنها خُوصة من ذهب، فوهبت منه لفاطمة رضي الله عنها ولنساء معها؛ كذا في الإصابة.
نكاح صلى الله عليه وسلم بجويرية بنت الحارث الخزاعية رضي الله عنها)
أخرج ابن إسحاق عن عائشة رضي الله عنها قالت: لمّا قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المُصْطلق وقعتْ جُويرية بنت الحارث رضي الله عنها في السهم لثابت بن قيس بن شمّاس أو لابن عم له، فكاتبته على نفسها، وكانت امرأة حلوة مُلاَحة لا يراها أحد إلا أخذت بنَفْسه، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم لتستعينه في كِتابتها، قالت: فوالله ما هو إلا أن رأيتها على باب حُجرتي فكرهتها، وعرفت أنه سيرى منها ما رأيتُ، فدخلتْ عليه فقالت: يا رسول الله أنا جُويرية بنت الحارث بن أبي ضِرار سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يخفَ عليك، فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن شماس، فكاتبتُه على نفسي فجئتك أتسعينك على كِتابتي، قال: «فهل لك في خير من ذلك؟» قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: «أقضي عنك كتابتك وأتزوجك» ، قالت: نعم، يا رسول الله قد فعلت. قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوَّج جُويرية بنت الحارث، فقال الناس: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلوا ما بأيديهم، قالت: فلقد أُعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها. كذا في البداية. وأخرج ابن(3/479)
سعد عن الواقدي بسند له عن عائشة نحوه ولكن سمّي زوجها صفوان بن مالك، وهكذا أخرجه الحاكم من طريق الواقدي.
وأخرج الواقدي عن عروة قال: قالت جويرية بنت الحارث رأيت قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث ليال كأن القمر يسير من يثرب حتى وقع في حِجري، فكرهت أن أُخبر به أحداً من الناس حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سُبينا رجوت الرؤيا، قالت: فأعتقني رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوَّجني، والله ما كلمته في قومي حتى كان المسلمون هم الذين أرسلوهم، وما شعرت إلاَّ بجارية من بنات عمي تخبرني لاخبر فحمدت الله تعالى. كذا في البداية. وأخرجه الحاكم من طريق الواقدي عن حزَام بن هشام عن أبيه نحوه.
(نكاح صلى الله عليه وسلم بميمونة بنت الحارث الهلالية رضي الله عنها)
أخرج الحاكم عن ابن شهاب قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العام القابل عامَ الحديبية معتمراً في ذي القعدة سنة سبع وهو الشهر الذي صدّه فيه المشركون عن المسجد الحرام، حتى إذا بلغ يأجُج بعث جعفر بن أبي طالب بين يديه إلى ميمونة بنت الحارث بن حَزْن العامرية فخطبها عليه، فعلت أمرها إلى العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام النبي صلى الله عليه وسلم بسَرِف بعد ذلك بحين حتى قدمت ميمونة فبنى بها بسَرِف. وقدَّر الله تعالى أن يكون موت ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها بعد ذلك بحين، فتوفيت حيث بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم(3/480)
وعنده أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها وأقام بمكة ثلاثاً، فأتاه حُوَيْطب ابن عبد العزَّى في نفر من قريش في اليوم الثالث، فقالوا له: إنَّه قد انقضى أجلك فاخرج عنا، قال: «وما عليكم لو تركتموني فأعرستُ بين أظهركم، فصنعت لكم طعاماً فحضرتموه؟» قالوا: لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنا، فخرج بميونة بنت الحارث رضي الله عنها حتى أعرس بها بسَرِف. قال الحاكم وافقه الذهبي: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرِّجاه.
(تزويج النبي صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه)
أخرج البيهقي في الدلائل عن علي قال: خُطبت فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت مولاة لي: هل علمت أن فاطمة قد خُطبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: لا، قالت: فقد خُطبت فما يمنعك أن تأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيزوجك، فقلت: وعندي شيء أتزوج به؟ فقالت: إنك إن جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم زوَّجك، قال: فوالله ما زالت ترجِّيني حتى دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قعدت بين يديه أُفحمت، فوالله ما استطعت أن أتكلَّم جلالة وهيبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما جاء بك ألك حاجة؟» فسكتُّ، فقال: «لعلك جئت تخطب فاطمة» ، فقلت: نعم، فقال: «وهل عندك من شيء تستحلُّها؟» فقلت: لا والله يا رسول الله، فقال: «ما فعلت درع سلحتُكَها؟» - فوالذي نفس علي بيده إنها لحُطَمِيَّة ما قيمتها أربعة دراهم - فقلت: عندي، فقال: «قد زوجتَكَها فابعث إليها بها فاستحلَّها بها» فإنْ كانت لَصَداق فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا في البداية. وأخرجه أيضاً الدَّوْلابي في الذريّة الطاهرة، كما في كنزل العمال.(3/481)
وأخرج الطبراني عن بُرَيدة رضي الله عنه قال: قال نفر من الأنصار لعلي: عندك فاطمة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما حاجة ابن أبي طالب؟» فقال: يا رسول الله ذكرتُ فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «مرحباً وأهلاً» لم يزد عليها، فخرج علي بن أبيطالب على أولئك الرهط من الأنصار ينظترونه فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما أدري غير أنه قال لي: «مرحباً وأهلاً» ، قالوا: يكفيك من رسول الله صلى الله عليه وسلم إحداهما، أعطاك الأهل والمرحب، فلما كان بعد ما زوجه قال: «يا علي إنَّه لا بد للعروس من وليمة» ، قال سعد رضي الله عنه: عندي كبش، وجمع له من الأنصار أصْوَعاً من ذرة، فلما كانت ليلة البناء قال: «لا تُحدِث شيئاً حتى تلقاني» فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فتوضأ منه ثم أفرغه على (علي) فقال: «اللهم بارك فيهما وبارك لهما في بنائهما» قال الهيثمي: رواه الطبراني والبزار بنحوه إلا أنه قال: قال نفر من الأنصار لعلي: لو خطبت فاطمة، وقال في آخره «اللهم بارك لهما في شبلَيهما» ورجالهما رجال الصحيح غير عبد الكريم بن سَلِيط ووثَّقه ابن حبان. انتهى. وأخرجه الرُوياني وابن عساكر نحوه، كما في الكنز وفي روايتهما: «اللهمَّ بارك فيهما، وبارك عليهما، وبارك لهما في بنائهما، وبارك في نسلهما» . وأخرجه أيضاً النِّسائي نحوه كما في البداية وفي رواية: «اللهمَّ(3/482)
بارك لهما في شملهما» - يعني في الجماع. وأخرجه ابن سعد عن بريدة نحوه.
لغاية ص 355
تابع وأخرج الطبراني عن أسماء بنت عُمَيس رضي الله عنها قالت: لما أُهديت فاطمة إلى علي بن أبي طالب لم نجد في بيته إلا رَمْلاً مبسوطاً، ووسادة حشوها ليف، وجرّة وكوزاً، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم «إلا تحدثنَّ حدثاً - أو قال: لا تقربنَّ أهلك - حتى آتيك» فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أثَمَّ أخي؟» فقالت أم أيمن رضي الله عنها - وهي أم أسامة بن زيد رضي الله عنهما وكانت حبشية وكانت امرأة صالحة -: يا رسول الله هذا أخوك وزوجته ابنتك؟ - وكان النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين أصحابه وآخى بين علي ونفسه -، قال: «إن ذلك يكون يا أم أيمن» قالت: فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بإناء فيه ماء، ثم قال: ما شاء الله أن يقول، ثم مسح صدر علي وجهه، ثم دعا فاطمة فاقمت إليه فاطمة تعثر في مِرْطها من الحياء، فنصح عليها من ذلك وقال لها ما شاء أن يقول، ثم قال لها؛ «أما إني لم آلُك أن أنكحتك أحبَّ أهلي إليَّ» ، ثم رأى سواداً من وراء الستر أو من وراء الباب، فقال: «من هذا؟» قالت: أسماء، قال: «أسماء بنت عُمَيس؟» قالت: نعم يا رسول الله، قال: «جئت كرامةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم» قالت: نعم، إن الفتاة ليلة يُبنى بها لا بدَّ لها من امرأة تكون قريباً منها، إن عرضت لها حاجة أفضت ذلك إليها، قالت: فدعا لي بدعاء إنه لأوثق عملي عندي، ثم قال لعلي: «دونك أهلك» ثم خرج فولَّى فما زال يدعو لهما حتى تواى في حُجَره.
وفي رواية عن أسماء بنت عُميس أيضاً: قالت: كنت في زِفاف فاطمة(3/483)
رضي الله عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أصبحت جاء النبي صلى الله عليه وسلم فضرب الباب، فقامت إليه أم أيمن ففتحت له الباب فقال لها: «يا أم أيمن ادعي لي أخي» فقالت: أخوك هو وتنكحه ابنتك؟ قال: «يا أم أيمن ادعي لي» فسمع النساء صوت النبي صلى الله عليه وسلم فتحسحسن، فجلس في ناحيةٍ، ثم جاء علي فدعا له ثمَّ نضح عليه من الماء، ثم قال: «ادعوا لي فاطمة» فجاءت وهي عرقة أو حزقة من الحياء، فقال: «اسكتي فقد أنكحتك أحب أهلي إليَّ» - فذكر نحوه قال الهيثمي: رواه الطبراني ورجال الرواية الأولى رجال الصحيح. اهـ.
ويخرج ابن عساكر عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم حيث زوج فاطمة دعا بماء فمجَّه، ثم أدخله معه فرشَّه في جيبه وبين كتفيه وعوَّذه بقل هو الله أحد والمعوِّذتين. كذا في الكنز. وأخرج أبو يَعْلى وسعيد بن منصور عن عَلْباء بن أحمر قال: قال علي بن أبي طالب: خطبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة، قال: فباع علي درعاً له وبعض ما باع من متاعه فبلغ أربعمائة وثمانين درهماً، قال: وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل ثلثيه في الطيب وثلثاً في الثياب، ومجَّ في جرة من ماء فأمرهم أن يغتسلوا به، وأمرها أن لا تسبقه برضاع ولدها فسبقته برضاع الحسين، وأما في الكنز. وأخرجه ابن سعد عن عَلْباء قصة الطيب والثياب.
وأخرج البزار عن جابر رضي الله عنه قال: حضرنا عرس علي رضي(3/484)
الله عنه وفاطمة رضي الله عنها، فما رأينا عرساً كان أحسن منه، حشونا الفراش - يعني الليف -، وأُتينا بتمر وزبيب فأكلنا، وكان فراشها ليلة عرسها إهاب كبش؛ قال الهيثمي: وفيه عبد الله بن ميمون القدَّاح وهو ضعيف اهـ.
وأخرج البيهقي في الدلائل عن علي قال: جهَّز رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة في خميل وقِربة ووسادة أدَم حشوها إذخر. كذا في الكنز. وعند الطبراني عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: لما جهَّز رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة إلى علي رضي الله عنهما بعث معها بخَميل، - قال عطاء: ما الخميل؟ قال: قطيفة - ووسادة من أدَم حوشها ليف، وإذخر وقِربة، كانا يفترشان الخميل ويلتحفان بنصفه؛ قال الهيثمي: وفيه عطاء بن السائب وقد اختلط.
(نكاح ربيعة الأسلمي رضي الله عنه)
أخرج أحمد والطبراني عن ربيعة الأسلمي قال: كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: «يا ربيعة ألا تَزَوَّج؟» فقلت: ما أريد أن أتزوَّج، ما عندي ما يقيم المرأة، وما أحب أن يشغلني عنك شيء. فأعرض عني، ثم قال لي الثانية: «يا ربيعة ألا تَزَوَّج» ؟ فقلت: ما أريد أن أتزوَّج، ما عندي ما يقيم المرأة، وما أحب أن يشغلني عنك شيء. فأعرض عني ثم(3/485)
رجعت إلى نفسي فقلت: والله لرسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم مني بما يصلحني في الدنيا والآخرة، والله لئن قال لي: ألا تزوَّج؟ لأقولنَّ: نعم يا رسول الله، مرني بما شئت، فقال لي: «يا ربيعة ألا تَزَوَّج» ؟ فقلت: بلى، مرني بما شئت، قال: «انطلق إلى آل فلان - حيّ من الأنصار كان فيهم تراخٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فقل لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليكم يأمركم أن تزوجوني فلانة» - لامرأة منهم -، فذهبت إليهم فقلت لهم: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليكم يأمركم أن تزوِّجني، فقالوا: مرحباً برسول الله وبروسل رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لا يرجع رسولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بحاجته، فزوِّجني وألطفوني وما سألوني البيِّنة.
فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حزيناً فقلت: يا رسول الله أتيت قوماً كراماً فزوّجوني وأطفوني وما سألوني البيِّنة، وليس عندي صداق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا بُريدة الأسلمي، اجمعوا لي فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اذهب بهذا إليهم فقل لهم: هذا صداقها» ، فأتيتهم فقلت: هذا صداقها، فقبلوه ورضوه وقالوا: كثير طيب. قال: ثم رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حزيناً فقال: «يا ربيعة ما لك حزين؟» فقلت: يا رسول الله ما رأيت قوماً أكرم منهم، ورضوا بما آتيتهم وأحسنوا، وقالوا: كثير طيِّب، وليس عندي ما أُولمُ، فقال: «يا بُريدة اجمعوا له شاة قال: فجمعوا لي كبشاً عظيماً سميناً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ذاهب إلى عائشة فقل لها: فلتبعثْ بالمكتل الذي فيه الطعام» ، قال: فأتيتها فقلت لها ما أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: هذا المكتل فيه سبع آصُع شعير، لا والله لا والله إن أصبح لنا طعام غيره، خذه. قال: فأخذته فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم(3/486)
وأخبرته بما قالت عائشة، قال: «اذهب بهذا إليهم فقل لهم: ليصبح هذا عندكم خبزاً وهذا طبيخاً» فقالوا: أمّا الخبز فسنكفيكموه، وأما الكبش فاكفونا أنتم، فأخذنا الكبش أنا وأناس من أسلم فذبحناه وسلخناه وطبهخناه فأصبح عندنا خبز ولحم، فأولمت ودعوت النبي صلى الله عليه وسلم
ثم قال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني بعد ذلك أرضاً وأعطى أبا بكر رضي الله عنه أرضاً، وجاءت الدنيا، فاختلفنا في عَذْق نخلة، فقلت أنا هي في حدِّي، وقال أبو بكر: هي في حدِّي، وكان بيني وبين أبي بكر كلام، فقال لي أبو بكر كلمة كرهتها، وندم فقال لي: يا ربيعة ردَّ عليَّ مثلها حتى يكون قصاصاً، قلت: لا أفعل، قال أبو بكر: لتقولنَّ أو لأستعدينَّ عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: ما أنا بفاعل، قال: ورفض الأرض وانطلق أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وانطلقت أتلوه، فجاء أناس من أسلم فقالوا: رحم الله با بكر، في أي شيء يستعدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي قال لك ما قال؟ فقلت: أتدرون ما هذا؟ هذا أبو بكر الصِّديق هذا ثاني اثنين هذا ذو شيبة المسلمين إيَّاكم لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب، فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيغضب لغضبه، فيغضب الله عز وجل لغضبهما، فيهلك ربيعة قال: ما تأمرنا؟ قال: ارجعوا. فانطلق أبو بكر رحمة الله عليه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبعته وحدي، حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فحدَّثه الحديث كما كان، فرفع رأسه إليَّ فقال: «يا ربيعة ما لك وللصدِّيق؟» قلت: يا رسول الله كان كذا، كان كذا، قال لي كلمة كرهتها قال لي: قل كما قلت حتى يكون قصاصاً، فأبيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أجل، لا تردَّ عليه، ولكن قل: غَفَر الله لك يا أبا بكر» قال الحسن: فولّى أبو بكر رحمه الله يبكي. قال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني وفيه مبارك بن فضالة(3/487)
وحديثه حسن وبقية رجال أحمد رجال الصحيح. اهـ. وأخرجه أبو يعلى عن ربيعة نحوه بطوله، كما في البداية، والحاكم وغيره قصّة النكاح، كما في الكنز، وابن سعد قصته مع أبي بكر.
(نكاح جليبيب رضي الله عنه)
أخرج أحمد عن أبي بَرْزة الأسلمي رضي الله عنه أن جليبيباً كان أمرأ يدخل على النساء يمرُّ بهن ويلاعبهن، فقلت لامرأتي: لا تدخِلُنَّ عليكم جُلَيبيباً، إن دخل عليكم لأفعلنَّ ولأفعلنَّ قال: وكانت الأنصار إذا كان لأحدهم أيِّم لم يزوجها حتى يعلم هل للنبي صلى الله عليه وسلم فيها حاجة أم لا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل من الأنصار: «زوجني ابنتك» قال قال: نعم وكرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعمة عين. قال: «إنِّي لست أريدها لنفسي» ، قال: فلمن يا رسول الله؟ قال: «لجليبيب» قال: أشاور أمها، فقالت: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ابنتك، قالت: نعم ونعمة عين، قال: إنَّه ليس يخطبها لنفسه إنما يخطبها بالحليبيب، قالت: لجليبيب إنيه لجليبيب إنيه لا لعمر الله لا نزوجه فلما أن أراد ليقوم ليأتي النبي صلى الله عليه وسلم ليخبره بما قالت أمها قالت الجارية: من خطبني إليكم؟ فأخبرتها أمها، فقالت: أتردُّون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره ادعفوني إليه فإنه لن يضيعني. فانطلق أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: شأنك بها، فزوَّجها جليبيباً. قال فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة له، قال: فلما أفاء الله عز وجل عليه قال: «هل تفقدون من أحد؟» قالوا: لا، قال: «لكني أفقد جليبيباً، قال: «فاطلبوه» فوجدوه إلى(3/488)
جنب سبعة قتلهم ثم قتلوه، فقالوا: يا رسول الله، ها هو ذا إلى جنب سبعة قتلهم ثلاثاً -، ثم وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ساعديه وحفرله، ما له سرير إلا ساعد النبي صلى الله عليه وسلم ثم وضعه في قبره، لم يذكر أنه غسَّله؛ قال: ثابت: فما كان في الأنصار أيِّم أنفق منها، وحدِّث إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ثابتاًهل تعلم ما دعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم صب عليها الخير صبأ، ولا تجعل عيشها كدّاً كدّاً» . قال: فما كان في الأنصار أيِّم أنفق منها: قال
الهيثمي:
رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. وهو في الصحيح خالياً عن الخطبة والتزويج. انتهى.
(نكاح سلمان الفارسي رضي الله عنه)
أخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي عبد الرحمن السُّلمي عن سلمان رضي الله عنه أنه تزوج امرأة من كِنْدة، فبنى بها في بيتها، فلما كان ليلة البناء مشى معه أصحابه حتى أتى بيت امرأته، فلما بلغ البيت قال: ارجعوا آجركم الله ولم يدخلهم عليها كما فعل السفهاء، فلما نظر إلى البيت والبيت منجَّد قال: أمحموم بيتكم، أم تحولت الكعبة في كندة؟ قالوا: ما بيتنا بمحموم، ولا تحولت الكعبة في كندة، فلم يدخل البيت حتى نُزع كل ستر البيت غير ستر الباب، فلما دخل رأى متاعاً كثيراً فقال: لمن هذا المتاع؟ قالوا: متاعك ومتاع امرأتك، قال: ما بهذا أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم أوصاني خليلي أن(3/489)
لا يكون متاعي من الدنيا إلا كزادِ الراكب. ورأى خدماً فقال: لمن هذا الخدم؟ فقالوا: خدمك وخدم امرأتك، فقال: ما بهذا أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم أن لا أمسك إلا ما أنكح أو أُنكْح، فإن فعلت فبغين كان عليَّ أوزارهن من غير أن ينتقص من أوزارهنَّ شيء، ثم قال للنسوة اللاتي عند امرأته: هل أنتن مخرجات عني مخلِّيات بيني وبين امرأتي؟ قلن: نعم، فخرجن فذهب إلى الباب حتى أجافه، وأرخى الستر، ثم جاء حتى جلس عند امرأته فمسح بناصيتها ودعا بالبركة، فقال لها: هل أنت مطيعتي في شيء آمرك به؟ قالت: جلست مجلس من يُطاع، قال: فإن خليلي صلى الله عليه وسلم أوصاني إذا اجتمعت إلى أهلي أن أجتمع على طاعة الله عز وجل، فقام وقامت إلى المسجد، فصلَّيا ما بدا لهما، ثم خرجا فقضى منها ما يقضي الرجل من امرأته، فلما أصبح غدا عليه أصحابه فقالوا: كيف وجدت أهلك؟ فأعرض عنهم، ثم أعادوا فأعرض عنهم، ثم أعادوا فأعرض عنهم، ثم قال: إنما جعل الله تعالى الستور والخدور والأبواب لتواري ما فيها. حسب امرىء منكم أن يسأل عما ظهر له، فأمَّا ما غاب
عنه فلا يسألن عن ذلك. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «المتحدِّث عن ذلك كالحمارين يتسافدان في الطريق. وعنده أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم سلمان من غيبة له فتلقّاه عمر رضي الله عنه فقال: أرضاك الله تعالى عبداً، قال: فزوِّجني، قال: فسكت عنه، فقال: أترضاني الله عبداً ولا ترضاني لنفسك؟ فلما أصبح أتاه قوم عمر فقال: حاجة؟ قالوا: نعم، قال: وما هي؟ إذاً تُقضى، قالوا: تُضرب عن هذا الأمر - يعنون خطبته إلى عمر -، فقال: أما - والله - ما حملني على هذا إمرته ولا سلطانة، ولكن قلت: رجل صالح عسى الله أن يخرج مني(3/490)
ومنه نَسَمة صالحة، قال: فتزوج في كندة فذكر الحديث نحوه. وأخرجه الطبراني عن ابن عباس مختصراً، وفي إسنادهما الحجاج بن فَروخ وهو ضعيف، كما قال الهيثمي.
(نكاح أبي الدرداء رضي الله عنه)
أخرج أبو نعيم في الحلية عن ثابت البُناني أن أبا الدرداء رضي الله عنه ذهب مع سلمان وسابقته وإسلامه، وذكر أنه يخطب إليهم فتاتهم فلانة، فقالوا: أما سلمان فلا نزوِّجه ولكنا نزوّجك، فتزوجها ثم خرج، فقال: إنه قد كان شيء وإني أستحيي أن أذكره لك، قال: وما ذاك؟ فأخبره أبو الدرداء بالخبر، فقال سلمان: أنا أحق أن أتسحيي منك أن أخطبها، وكان الله تعالى قد قضاها لك. وأخرجه الطبراني مثله، قال الهيثمي: ورجاله ثقات إلا أن ثابتاً لم يسمع من سلمان ولا من أبي الدرداء. انتهى.
(تزويج أبي الدرداء ابنته الدرداء برجل من ضعفاء المسلمين)
أخرج أبو نُعَيم في الحلية عن ثابت البُناني قال: خطب يزيد بن معاوية إلى أبي الدرداء رضي الله عنه ابنته الدرداء، فردّه، فقال رجل من جلساء يزيد: أصلحك الله تذن لي أن أتزوجها؟ قال: اغرب ويلك قال: فأذن لي أصلحك الله، قال: نعم، قال: فخطبها فأنكحها أبو الدرداء الرجل، (قال) فسار ذلك(3/491)
في الناس أن يزيد خطب إلى أبي الدرداء فردّه، وخطب إليه رجل من ضعفاء المسلمين فأنكحه، قال فقال أبو الدرداء: إني نظرت للدرداء، ما ظنكم بالدرداء إذا قامت على رأسها الخصيان ونظرت في بيوت يلتمع فيها بصرها، أين دينها منها يومئذ؟ وأخرجه أيضاً الإمام أحمد مثله، كما في صفة الصفوة.
(تزويج علي بن أبي طالب ابنته أم كلثوم بعمر بن الخطاب رضي الله عنهم)
أخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور عن أبي جعفر رضي الله عنه قال: خطب عمر رضي الله عنه إلى علي رضي الله عنه ابنته، فقال: أبعث بها إليك فإن رضيت فهي امرأتك، فبعث إليه فكشف عن ساقها فقالت له: أرسل فلولا أنك أمير المؤمنين لصككتُ عينك.m كذا في الكنز. وأخرجه ابن عمر المقدسي عن محمد بن علي نحون، كما في الإصابة.(3/492)
وعند ابن سعد عن محمد أن عمر خطب أم كلثوم رضي الله عنها إلى علي، فقال: إنما حسبت بناتي على بني جعفر. فقال: زوِّجنيها - فوالله - ما على ظهر الأرض رجل يُرْصد من كرامتها ما أرصد، قال: قد فعلت، فجاء عمر إلى المهاجرين فقال: زُفُّوني فزفُّوه، فقالوا: بمن تزوجت؟ قال: بنت علي، إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل نسب وسبب سيقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي» وكنت قد صاهرت فأحببت هذا أيضاً. ومن طريق عطاء الخراساني أن عمر أمهرها أربعين ألفاً. كذا في الإصابة.
(تزويج عدي بن حاتم ابنته لعمرو بن حريث رضي الله عنهم)
أخرج ابن عساكر عن الشَّعبي أن عمرو بن حريث رضي الله عنه خطب إلى عدي بن حاتم رضي الله عنه فقال: لا أزوجكها إلا على حكمي، قال: وما هو؟ قال: لقد كان لكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم (أسوة حسنة) ، حكمت عليك بمهر عائشة رضي الله عنها ثمانين وأربعمائة درهم. وعنده أيضاً عن حُميد بن هلال قال: خطب عمرو بن حريث إلى عدي بن حاتم فقال: عرَّفني ما حكمت به عليَّ؟ فأرسل إليه أني حمت بأربعمائة درهم وثمانين درهماً سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا في الكنز.
(نكاح بلال وأخيه رضي الله عنهما)
أخرج ابن سعد عن الشَّعبي قال: خطب بلال رضي الله عنه وأخوه(3/493)
إلى أهل بيت من اليمن، فقال: أنا بلال وهذا أخي، عبدان من الحبشة، كنّا ضالَّين فهدانا الله، وكنَّا عبدين فأعقتنا الله، إن تنكحونا فالحمد لله وإن تمنعونا فالله أكبر. وعن عمرو بن ميمون عن أبيه أن أخاً لبلال كان ينتمي إلى العرب، ويزعم أنه منهم، فخطب امرأة من العرب فقالوا: إن حضر بلال زوَّجناك، قال: فحضر بلال فتشهَّد وقال: أنا بلال ابن رباح وهذا أخي، وهو امرؤ سوء في الخلق والدين، فإن شئتم أن تزوِّجوه، وإن شئتم أن تدعوا فدعوا، فقالوا: من تكون أخاه نزوّجه، فزوَّجوه.
(الإنكار على من تشبه بالكفرة في النكاح)
أخرج أبو الشيخ في كتاب النكاح عن عروة بن رُوَيم أن عبد الله بن قُرْط الثُّمالي رضي الله عنه كان يَعسُّ بحمص ذات ليلة - وكان عاملاً لعمر رضي الله عنه - فمرَّت به عروس وهم يوقدون النيران بين يديها، فضربهم بدرته حتى تفرقوا عن عروسهم، فلما أصبح قعد على منبره فحمد الله وأثنى عليه فقال: إنَّ أبا جندلة نكح أمامه فصنع لها حثيات من طعام، فرحم الله أبا جندلة وصلى على أُمامة، ولعن الله عروسكم البارحة أوقدوا النيران، وتشبَّهوا بالكفرة والله مطفىء نورهم. قال: وعبد الله بن قُرط من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كذا في الإصابة.
الصداق
(صداق الرسول عليه السلام)
أخرج ابن سعد عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان صَدَاق رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة أوقية ونشّأ، فذلك خمسمائة درهم، قالت عائشة: الأوقية أربعون والنشّ عشرون.(3/494)
(نهي عمر عن المغالاة في المهور واعتراض امرأة عليه في ذلك)
أخرج سعيد بن منصور وأبو يعلى والمحامي عن مسروق قال: ركب عمر رضي الله عنه المنبر فقال عمر: لا أعرف من زاد الصدق على أربعمائة درهم، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإنما الصَّدُقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك، ولو كان الإكثار في ذلك تقوى أو مكرُمة لما سبقتموهم إليها، ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت: يا أمير المؤمنين نهيت الناس أن يزيدوا في صدقاتهن على أربعمائة؟ قال: نعم، قالت: أما سمعت الله يقول في القرآن: {وَءاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} (سورة النساء، الآية: 20) - الآية. فقال: اللهمَّ غَفْراً. كل الناس أفقه من عمر، ثم رجع فركب المنبر فقال: يا أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا في صدقاتهن على أربعمائة، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب أو ما طابت نفسه فليفعل. كذا في الكنز. قال الهيثمي: رواه أبو يعلى في الكبير وفيه مجالد بن سعيد وفيه ضعف وقد وُثِّق - انتهى. وأخرجه ابن سعد من طريق عطاء الخراساني أخصر منه.
وأخرجه سعيد بن منصور البيهقي عن الشَّعبي قال: خطب عمر بن الخطاب فحمد الله وأثنى عليه وقال: ألا لا تغالُوا في صَدَاق النساء، وإنه لا يبلغني عن أحد ساق أكثر منشيء ساقه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سيق إليه إلاَّ جعلت(3/495)
فضل ذلك في بيت المال، ثم نزل فعرضت له امرأة من قريش فقالت: يا أمير المؤمنين لكتاب الله أحقُّ أن يتبع أم قولك؟ قال: كتاب الله فما ذاك؟ قالت: نهيت الناس آنفاً أن يتغالَوا في صَدَاق النساء والله تعالى يقول في كتابه: {وآتيم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا} ، فقال عمر: كل أحد أفقه من عمر - مرتين أو ثلاثاً -، ثم رجع إلى النمبر فقال للناس: إنِّي كنت نهيتكم أن تغالوا في صَدَاق النساء فليفعل رجل في ماله ما بدا له. وعند أبي عمر بن فَضالة في أماليه عن عمر قال: لو كان المهر سناءً ورفعة في الآخرة كان بنات النبي صلى الله عليه وسلم ونساؤه أحقَّ بذلك. كذا في كنز العمال.
(فعل عمر وعثمان وابن عمر والحسن بن علي في المهور)
وأخرج ابن أبي شَيْبة عن ابن سيرين أن عمر رضي الله عنه رخّص أن تُصْدق المرأة ألفين، ورخَّص عثمان رضي الله عنه في أربعة آلاف. كذا في الكنز. وأخرج ابن أبي شيبة عن نافع قال: تزوَّج ابن عمر رضي الله عنها صفيّة رضي الله عنها على أربعمائة درهم، فأرسلت إليه أن هذا لا يكفينا، فزادها مائتين سراً من عمر، كذا في الكنز.(3/496)
وأخرج الطبراني عن ابن سيرين قال: تزوّج الحسن بن علي رضي الله عنهما امرأة قال: فأرسل إليها إليها بمائة جارية مع كل جارية ألف درهم؛ قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. انتهى.
معاشرة النساء والرجال والصبيان
(معاشرة عائشة وسَوْدة رضي الله عنهما لبعضهما)
أخرجه أبو يعلى عن عائشة رضي الله عنها قالت: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بحريرة قد طبختها له، فقلت لسودة - والنبي صلى الله عليه وسلم بيني وبينها -: كُلي، فأبت، فقلت: لتأكُلِنَّ أو لأَلْطَخنَّ وجهك، فأبت، فوضعت يدي على الحريرة فطليت وجهها، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم فوضع بيده لها وقال لها: «الطخي وجهها» (فلطخت وجهي) فضحك النبي صلى الله عليه وسلم لها، فمرّ عمر رضي الله عنه فقال: يا عبد الله، يا عبد الله، فظن (النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيدخل، فقال: قوما فاغسلا وجوهكما. قالت عائشة: فما زلت أهاب عمر لهيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم (إياه) . قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح خلا محمد بن عمرو بن علقمة وحديثه حسن. اهـ. وأخرجه ابن عساكر مثله، كما في المنتخب. وابن النجار بنحون، كما في الكنز. وفي رواية: فخفض لها ركبته لتستقيد مني، فتناولت من الصحفة شيئاً فمسحت به وجهي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك.(3/497)
(معاشرة عائشة وحفصة لسودة اليمانية)
وأخرج أبو يعلى عن رزينة رضي الله عنها - مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أن سودة اليمانية جاءت عائشة تزورها وعندها حفصة بنت عمر رضي الله عنهما فجاءت سودة في هيئة وفي حالة حسنة، وعليها بُرْدة من دروع اليمن وخمار كذلك، وعليها نقطتان مثل الفرستين من صبر وزعفران إلى موقعها - قالت عليلة وأدركتُ النساء يتزينَّ به - فقالت حفصة لعائشة: يا أمَّ المؤمنين يجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه بيننا تبرُق، فقالت أم المؤمنين: أتَّقي الله يا حفصة، فقالت: لأفسدنَّ عليها زينتها، قالت: ما تقلنَ؟ - وكان في أذنها ثِقل -، قالت لها حفصة: يا سودة خرج الأعور، قالت: نعم، ففزعت فزعاً شديداً فجعلت تنتفض، قالت: أين أختبىء؟ قالت: عليك بالخيمة - خيمة لهم من سعف يختبئون فيها -، فذهبت فاختبأت فهيا؛ وفيها القذر ونسيج العنكبوت، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما تضحكان لا تستيطعان أن تتكلما من الضحك، فقال: «ماذا الضحك؟» ثلاث مرات، فأومأتا بأيديهما إلى الخيمة، فذهب فإذا سودة تُرعَد، فقال لها: «يا سودة ما لك؟ قالت: يا رسول الله خرج الأعور قال: «ما خرج وليخرجنَّ، ما خرج وليخرجنَّ» ، فأخرجها فجعل ينفض عنها الغبار ونسيج العنكبوت، قال الهيثمي: رواه أبو يعلى والطبراني إلا أنه قال: فقالت حفصة لعائشة: يدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن فسقتين وهذه بيننا تبرُق، وفيه من لم أعرفهم. انتهى.(3/498)
(معاشرة النبي عليه السلام لعائشة)
وأخرج ابن عدي وابن عساكر عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً فسمع ضوضاء الناس والصبيان، فإذا حبشيَّة تزفِن والناس حولها، فقال: «يا عائشة تعالى فانظري» فوضعت خدي على منكبيه فجعلت أنظر ما بين المنكبين إلى رأسه، فجعل يقول: «يا عائشة ما شبعت؟» فأقول: لا، لأنظر منزلتي عنده، فلقد رأيته يراوح بين قدميه، فطلع عمر فتفرق الناس والصباين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رأيت شياطين الإنس والجن فرُّوا من عمر» - فذكر الحديث، كما في المنتخب. وعند الشيخين عنها، كما في المشكاة (ص272) قالت: والله: لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقوم على باب حجرتي والحبشة يعلبون بالحراب في المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه لأنظر إلى لعبهم بين أذنه وعاتقه، ثم يقوم من أجلي حتى أكون أنا الذي أنصرف، فاقدُروا قَدْر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو.
(معاشرة نساء النبي عليه السلام له ولبعضهن)
وأخرج البخاري عن عائشة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش رضي الله عنها ويشرب عندها عسلاً، فتواطأتُ أنا وحفصة أن أيتنا(3/499)
دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فتقل له: إني أجد منك ريح مغافير أكلت مغافير، فدخل على إحداهما النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ذلك، فقال: «لا، بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ولن أعود له» ، فنزلت {ياأَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (سورة التحريم، الآية: 1) - إلى قوله تعالى: {إِن تَتُوبَآ إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (سورة التحريم، الآية: 6) لعائشة وحفصة {وإذا أسرالنبي إلى بعض أزواجه حديثا} لقوله: «بل شربت عسلاً» ، وقال إبراهيم بن موسى عن هشام: «لون أعود له وقد حلفت فلا تخبري بذلك أحداً» وأخرجه مسلم مثله.
وعند البخاري أيضاً عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلوى والعسل، وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه فيدنو من إحداههنّ، فدخل على حفصة بنت عمر فاحتبس أكثر ما كان يحتبس، فغرت فسألت عن ذلك فقيل لي: أهدت لها امرأة من قومها عُكَّة عسل، فسقت النبي صلى الله عليه وسلم منه شربة، فقلت: أما والله لنحتالنَّ له، فقلت لسودة بنت زمعة: إنه سيدنو منك، فإذا دنا منك فقولي: أكلت مغافير؟ فإنه سيقول لك: لا، فقولي له: ما هذه الريح التي أجد؟ فإنه سيقول لك: سقتني حفصة شربة عسل، فقولي: جَرَست نحلة العرفط، وسأقول ذلك، وقولي له أنت يا صفية ذلك. قالت: تقول سودة: فوالله ما هو إلا أن قام على البا فأردت أن أناديه بما أمرتني فرقاً(3/500)
منك، فلما دنا منها قالت له سودة: يا رسول الله أكلت مغافير؟ قال: «لا» ، قالت: فما هذه الريح التي أجد منك؟ قال: «سقتني حفصة شربة عسل» ، قالت: جَرَست نحلةُ العرفطَ، فلما دار إليَّ قلت نحو ذلك، فلما دار إلى صفية قالت له مثل ذلك، فلما دار إلى حفصة قالت له: يا رسول الله ألا أسقيك منه؟ قال: «لا حاجة لي فيه» . قالت: تقول سودة: والله لقد حَرَمناه. قلت لها: اسكتي. وأرخجه مسلم كذا في التفسير لابن كثير وأبو داود كما في جمع الفوائد وابن سعد.
(قصته عليه السلام مع نسائه حين أراد طلاقهن)
وأخرج أحمد عن علي بن عباس رضي الله عنهما قال: لم أزل حريصاً على أن أسأل عمر رضي الله عنه عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله تعالى: {إن تتوبا إلى افقد ضغت قلوبكما} حتى حج عمر وحججت معه، فلَّما كنَّا ببعض الطريق عدل عمروعدلت معه بالإداوة، فتبرَّز ثم أتاني، فسكبت على يديه فتوضأ، فقلت: يا أميرالمؤمنين من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم التلان قال الله تعالى: {إِن تَتُوبَآ إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} ؟ فقال عمر: واعجباً لك يا ابن عباس - قال: هما: حفصة، وعائشة، قال: ثم أخذ يسوق الحديث قال: كنّا معشر قريش قوماً نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا(3/501)
قوماً تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلَّمن من نسائهم، قال: وكان منزلي في بني أمية بن زيد بالعوالي، قال: فتغضَّبت يوماً على امرأتي فإذا هي تراجعني، فأنركت أن تراجعني فقالت: ما تنكر أن أراجعك فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل. قال: فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت: أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: نعم، قلت: وتهجره إحداكن اليوم إلى الليل؟ قالت: نعم، قلت: قد خاب من فعل ذلك منكنَّ وخسر فأتأمنُ إحداكنَّ أن يغضب الله عليها لغضب رسوله؟ فذا هي قد هلكت لا ترجعي رسول الله ولا تسأليه شيئاً وسليني ما بدا لك، ولا يغرنَّك أن كانت جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك - يريد عائشة -.
قال: وكان لي جار من الأنصار، وكنا نتناوب النزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يوماً وأنزل يوماً، فيأتيني بخبر الوحي وغيره، ورتيه بمثل ذلك، قال: وكنَّا نتحدَّث أن غسان تُنعِل الخيل لتغزونا، فنزل صاحبي يوماً ثم أتاني عشاء فضرب بابي ثم ناداني فخرجت إليه، فقال: حدث أمر عظيم فقلت: وماذا؟ أجاءت غسان؟ قال: لا، بل أعظم من ذلك وأطول؟ طلَّق الرسول نساءه، فقلت: قد خابت حفصة وخسرت قد كنت ظن هذا كائناً، حتى إذا صليت الصبح شددت عليَّ ثيابي ثم نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي، فقلت: أطلقكنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: لا أدري هو هذا معتزل في هذه المشربة، فأتيت غلاماً له أسود فقلت: استأذن لعمر، فدخل الغلام ثم خرج إليَّ فقال: قد ذكرتك له فصمت، فانقطلقت حتى أتيت المنبر فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم، فجلست قليلاً ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر، فدخل الغلام ثم خرج عليَّ فقال: قد ذكرتك له فصمت، فولّيت مدبراً فإذا الغلام يدعوني،(3/502)
فقال: ادخل فقد أذن لك، فدخلت فسلَّمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو متكىء على رمل حصير - قال أحمد وحدثنا يعقوب في حديث صالح قال: رمال حصير قدأثَّر في جنبه - فقلت: أطلَّقت يا رسول الله نساءك؟ فرفع رأسه إليَّ وقال: «لا» ، فقلت: الله أكبر لو رأيتنا يا رسول الله، وكنا معشر قريش قوماً نغلب النساء فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلَّمن من نسائهم، فتغضَّبت على امرأتي يوماً فإذا هي تراجعني فأنكرت أن تراجعني فقالت: ما تنكر أن أراجعك فوالله إن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل، فقلت: قد خاب من فعل ذلك منهن وخسر، أفتأمن إحداهن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله؟ فإذا هي قد هلكت، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله فدخلت على حفصة فقلت: لا يغرك إن كانت جارتك
هي
أوسم وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، فتبسَّم أخرى، فقلت: أستأنس يا رسول الله؟ قال: «نعم» ، فجلست فرفعت رأسي في البيت فوالله ما رأيت فيه شيئاً يرد البصر إلا آهِبَة ثلاثة، فقلت: ادع يا رسول الله أن يوسِّع على أمتك، فقد وسَّع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله، فاستوى جالساً ثم قال: «أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عُجِّلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا» ، فقلت: استغفر لي يا رسول الله، وكان أقسم أن لا يدخل عليهن شهراً من شدّة موجدته عليهن حتى عاتبه الله عز وجل، وقد رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي.(3/503)
وعند مسلم أيضاً عن ابن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: لما اعتزل نبي الله صلى الله عليه وسلم نساءه دخلت المسجد فإذا الناس ينكتُون بالحصى ويقولون: طلَّق رسول الله نساءه، وذلك قبل أن يؤمر بالحجاب، فقلت: لأعلمنَّ ذلك اليوم - فذكر الحديث في دخوله على عائشة وحفصة ووعظه إياهما إلى أن قال: فدخلت فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم على أسكفة المشربة فناديت فقلت: يا رباح استأذن لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فذكر نحو ما يتقدَّم إلى أن قال: فقلت: يا رسول الله ما يشقُّ عليك من أمر النساء، فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكال وأنا وأبو بكر والمؤمنون مع، وقلّما تكلّمت - وأحمد الله - بكلام إلا رجوت أن يكون الله يصدِّق قولي، فنزلت هذه الآية آية التخيير: {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مّنكُنَّ} (سورة التحريم، الآية: 5) - {وإن تظاهرا عليه فإن اهو موله وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير} (سورة التحريم، الآية: 4) فقلت: أطلقتهنَّ؟ قال: «لا» ، فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي: لم يطلِّق نساءه ونزلن هذه الآية: {وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا بهولو روده إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} (سورة التحريم، الآية: 5) فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر؛ كذا في التفسير لابن كثير. وأخرج الحديث أيضاً عبد الرزاق وابن سعد وابن حِبّان والبيهقي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه وغيرهم، كما في الكنز.(3/504)
وأخرج أحمد عن جابر رضي الله عنه قال: أقبل أبو بكر رضي الله عنه يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ببابه جلوس، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس فلم يؤذن له، ثم أقبل عمر رضي الله عنه فاستأذن فلم يؤذن، ثم أذن لأبي بكر وعمر فدخلا والنبي صلى الله عليه وسلم جالس وحوله نساؤه وهو صلى الله عليه وسلم ساكت، فقال عمر: لأكلمنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لعله يضحك، فقال عمر: يا رسول الله لو رأيت ابنه زيد - امرأة عمر - سألتني النفقة آنفاً فوجأت عنقها، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال: «هنَّ حولي يسألنني النفقة» فقام أبو بكر إلى عائشة ليضربها، وقام عمر إلى حفصة، كلاهما يقولان: تسألان النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده، فنهاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن: والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا المجلس ما ليس عنده، قال: وأنزل الله عز وجل الخيار، فبدأ بعائشة فقال: «إني أذكر لك أمراً ما أحب أن تعجِّلي فيه حتى تستأمري أبويك» ، قالت: وما هو؟ قال فتلا عليها: {ياأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لاْزْواجِكَ} (سورة الأحزاب، الآية: 28) - الآية، قالت، عائشة: أفيك استأمر أبويَّ؟ بل اختار الله تعالى ورسوله، وأسألك أن لا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت، فقال صلى الله عليه وسلم «إنَّ الله تعالى لم يبعثني معنَّفاً ولكن بعثني ميسَّراً، لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها» . وأخرجه مسلم والنسائي. وعند ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قالت عائشة: أُنزلت آية التخيير، فبدأ بي أول امرأة من نسائه فقال صلى الله عليه وسلم «إني ذاكر لك أمراً فلا عليك أن تعجِّلي حتى تستأمري أبويك» ، قالت: وقد علم أن أبويَّ لم يكونا يأمراني بفراقه، قالت: ثم قال: إن الله تبارك وتعالى قال: {ياأَيُّهَا النَّبِىُّ(3/505)
قُل لاْزْواجِكَ} - الآيتين، قالت عائشة: فقلت: أفي هذا أستأمر
أبويَّ؟
فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، ثم خيَّر نساءه كلَّهن، فقلن مثل ما قالت عائشة؛ وأخرجه البخاري ومسلم من عائشة مثله. وعندهما أيضاً وأحمد - واللفظ له - عن عائشة قالت: خيَّرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه فلم يَعُدَّها علينا شيئاً، كذا في التفسير لابن كثير.
(معاشرته عليه السلام لعائشة وميمونة)
وأخرج الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت عليَّ غضبى» ، فقلت من أين تعرف ذلك؟ فقال: «إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: لا وربَّ محمد، وإذا كنت عليَّ غضبَى قلت: لا ورب إبراهيم» قالت: أجل، والله يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك، كذا في المشكاة (ص272) .
وأخرج أبو داود عن عائشة أنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر قالت: فسابقته فسبقته على رجليَّ، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني، قال: «هذه بتلك السبقة» ؛ كذا في المشكاة (ص373) . وأخرج ابن النجار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: تضيفتُ ميمونة رضي الله عنها وهي ليتئذ لا تصلِّي، فجاءت بكساء، ثم جاءت(3/506)
بكساء آخر فطرحته عند رأس الفراش، ثم اضطجعت ومدَّت الكساء عليها وبسطت لي بسيطاً إلى جنبها، فتوسدت معها على وسادها، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وقد صلَّى العشاء الآخرة فانتهى إلى الفراش، فأخذ خرقة عند رأس الفراش فاتَّزر بها، وخلع ثوبيه فعلَّقهما، ثم دخل معها في لحافها، حتى إذا كان في آخر الليل قام إلى سقاء معلَّق فحلَّه، ثم توضأ منه، فهممت أن أقوم فأصبّ عليه، ثم كرهت أن يرى أني كنت مستيقظاً، ثم جاء إلى الفراش فأخذ ثوبيه وخلع الخرقة، ثم قام إلى المسجد فقام يصلِّي، فقمت فتوضأت ثم جئت فقمت عن يساره، فتناولني بيده من ورائه فأقامني عن يمينه، فصلّى وصلّيت معه ثلاث عشرة ركعة، ثم جلس وجلست إلى جنبه، فأصغى بخذه إلى خدي حتى سمعت نفس النائم، ثم جاء بلال رضي الله عنه قال: الصلاة يا رسول الله، فقام إلى المسجد فأخذ في الركعتين أخذ بلال في الإقامة. كذا في الكنز.
(حسن معاشرته عليه السلام لامرأة عجوز)
وأخرج البيهقي وابن النجار عن عائشة رضي الله عنه قالت: جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: «من أنت؟» قالت: جَثَّامة المزنية، قال: «بل أنت حسانة المزينة، كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟» قالت: بخير - بأبي أنت وأمي يا رسول الله - فلما خرجت قلتُ: يا رسول الله تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟ فقال: «يا عائشة إنَّها كانت تأتينا زمان خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان» . وعند البيهقي أيضاً عنها قالت: كانت عجوز تأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيهش بها(3/507)
ويكرمها، فقلت: بأبي أنت وأمي إنك لتصنع بهذه العجوز شيئاً لا تصنعه بأحد قال: «إنا كانت تأتينا عند خديجة، أما علمت أن أكرم الودِّ من الإيمان» . كذا في الكنز. وأخرج البخاري في الأدب (ص188) عن أبي الطفيل رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لحماً بالجعِرّانة وأنا يومئذ غلام أحمل عضو البعير، فأتته امرأة فبسط لها رداءه قلت: من هذه؟ قال: أمه التي أرضعته.
(معاشرته عليه السلام لغلام حبشي ولابن مسعود)
وأخرج الطبراني والبزّار وابن السنِّي وأبو نعيم وسعيد بن منصور عن عمرو رضي الله عنه قال: دخلتُ على النبي صلى الله عليه وسلم وغُلَيِّم له حبشي يغمز ظهره، فقلت: يا رسول الله أتشتكي شيئاً؟ قال: «إن الناقة تقحَّمت بي البارحة» . كذا في الكنز. وأخرج ابن سعد عن القاسم بن عبد الرحمن قال: كان عبد الله (بن مسعود) رضي الله عنه يُلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم نعليه، ثم يمشي أمامه بالعصا حتى إذا أتى مجلسه نزع نعليه فأدخلهما في ذراعيه وأعطاه العصا، فإذا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوم ألبسه نعليه، ثم مشى بالعصا أمامه حتى يدخل الحجرة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أيضاً عن أبي المليح قال: كان عبد الله يستر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل،(3/508)
ويوقظه إذا نام، ويمشي معه في الأرض وحشاً.
(معاشرته عليه السلام لأنس)
وأخرج ابن أبي شيبة وأبو نعيم عن أنس رضي الله عنه يقول: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا ابن عشر سنين، ومات وأنا ابن عشرين سنة، وكن أمهاتي يحثثني على خدمته. وعند ابن سعد وابن عساكر عن ثمامة قال: قيل لأنس: أشهدت بدراً؟ قال: وأين أغيب عن بدر لا أمَّ لك قال محمد بن عبد الله الأنصاري: خرج أنس بن مالك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توجه إلى بدر وهو غلام يخدم النبي صلى الله عليه وسلم كذا في المنتخب.
(خدمة شباب الأنصار وبعض الأصحاب النبي عليه السلام)
وأخرج البزّار عن أنس قال: كان عشرون شباباً من الأنصار يلزمون رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوائجه، فإذا أراد أمراً بعثهم فيه. وفيه من لم أعرفهم قاله الهيمثي. وعنده أيضاً عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: كان لا يفارق النبي صلى الله عليه وسلم أو باب النبي صلى الله عليه وسلم خمسة أو أربعة من أصحابه. وفيه موسى بن عبيدة الرَّبَذي وهو ضعيف، كما قال الهيثمي. وعنده أيضاً عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: كنا نتناوب رسول الله(3/509)
صلى الله عليه وسلم تكون له الحاجة أو يرسلنا في الأمر، فيكثر المحتسبون وأصحاب النُّوَب، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر الدجَّال فقال: «ما هذه النجوى؟ ألم أنهكم عن النجوى؟» ورجاله ثقات وفي بعضهم خلاف، كما قال الهيثمي.
وعنده أيضاً عن عاصم بن سفيان أنه سمع أبا الدرداء رضي الله عنه أو أبا ذر رضي الله عنه قال: استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبيت على بابه يوقظني لحاجته، فأذن لي فبت ليلة. ورجاله ثقات كما قال الهيثمي. وأخرج ابن عساكر عن حذيفة رضي الله عنه قال: صلَّيت مع النبي في شهر رمضان، فقام يغتسل وسترته، ففضلت منه فضلة في الإناء فقال: «إن شئت فارفعه وإن شئت فصبّ عليه» ، قلت يا رسول الله هذه الفضلة أحب إليَّ مما أصب عليه، فاغتسلت به وسترني، قلت: لا تسترني قال: «بلى، لأسترنَّك كما سترتني» ، كذا في المنتخب.
(معاشرته عليه السلام لابنه إبراهيم وللأطفال من آل بيته)
وأخرج مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كان إبراهيم مسترضعاً له في عوالي المدينة، فكان ينطلق ونحن معه فيدخل البيت وإنَّه ليدخِّن، وكان ظئره قيناً، فيأخذه فيقبله ثم يرجع، قال عمرو: فلما توفي إبراهيم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنَّ إبارهيم ابني، وإنَّه مات في الثدي، وإنَّ له لظئرين يكملان رضاعه في(3/510)
الجنة» . وأخرجه أحمد كما في البداية. وأخرج أحمد عن عبد الله بن الحارث رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفُّ عبد الله وعبيد الله وكثير بن العباس رضي الله عنهم ثم يقول: «مَنْ سبق إليَّ فله كذا وكذا» قال: فيستبقون إليه فيقعون على ظهره وصدره فيقبلهم ويلتزمهم. قال الهيثمي: رواه أحمد وإسناده حسن.
وأخرج ابن عساكر عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر تُلُقي بصبيان أهل بيته، وإنه جاء من سفر فسبق بي إليه، فحملني بين يديه، جيء بأحد ابني فاطمة الحسن أو الحسين رضي الله عنهم فأردفه خلفه، فدخلنا المدينة ثلاثة على دابة. وعنده أيضاً عنه قال: مرّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب مع الصبيان فحملني أنا وغلاماً من بني العباس على الدابة، فكنا ثلاثة. وعنده أيضاً عنه قال: لو رأيتني وقُثماً وعبيد الله ابني عباس ونحن صبيان نلعب، إذ مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على دابة فقال: «ارفعوا هذا إليَّ» فجعلني أمامه وقال: «ارفعوا هذا إليَّ» فجعله وراءه، وكان عبيد الله أحب إلى عباس من قُثَم، فما استحيي من عمه أن حمل قثماً وتركه، قال: ثم مسح على رأسي ثلاثاً، كلما مسح قال: «اللهمَّ اخلف جعفراً في ولده» كذا في المنتخب.(3/511)
وأخرج أبو يعلى عن عمر - يعني ابن الخطاب رضي الله عنه - قال: رأيت الحسن والحسين رضي الله عنهما على عاتقي النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: نعم الفرس تحتكما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ونعم الفارسان هما» كذا في الكنز والمجمع ورجاله رجال الصحيح، كما في المجمع وقال: ورواه البزّار بإسناده ضعيف، وأخرجه ابن شاهين كما في الكنز. وعند ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم حامل الحسن رضي الله عنه على عاتقه، فقال له رجل: يا غلام نعم المركب ركبت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ونعم الراكب هو» كذا في الكنز. وعند الطبراني عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلَّي فجاء الحسن والحسين أو أحدهما رضي الله عنهما، فركب على ظهره، فكان إذا رفع رأسه قال بيده فأمسكه أو أمسكهما، قال: «نعم المطية مطيتكما» قال الهيثمي: وإسناده حسن. وعنده أيضاً عن جابر رضي الله عنه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يمشي على أربعة وعلى ظهره الحسن والحسين رضي الله عنهما وهو يقول: «نعم الجمل جملكما ونعم العدلان أنتما» قال الهيثمي: وفيه مسروح أبو شهاب وهو ضعيف. اهـ.(3/512)
(قصته عليه السلام مع الحسن والحسين حين ضاعا)
وأخرج الطبراني عن سلمان رضي الله عنه قال: كنّا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءت أم أيمن رضي الله عنها فقالت: يا رسول الله لقد ضلَّ الحسن والحسين، قال: وذاك رأدَ النهار - يقول ارتفاع النهار -، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «قوموا فاطلبوا ابنيَّ» وأخذ كل رجل تجاه وجهه، وأخذت نحو النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل حتى أتى سفح جبل وإذا الحسن والحسين ملتزق كل واحد منهما صاحبه، وإذا شجاع قائم على ذنبه يخرج من فيه شرر النار، فأسرع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فالتفت مخاطباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انساب فدخل بعض الأحجار، ثم أتاهما فأفق بينهما، ثم مسح وجوههما وقال: «بأبي وأمي أنتما ما أكرمكما على الله» ثم حمل أحدهما على عاتقه الأيمن والآخر على عاتقه الأيسر فقلت: طوباكما نعم المطية مطيتكما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ونعم الراكبان هما، وأبوهما خير منهما» قال الهيثمي: وفيه أحمد بن راشد الهلالي وهو ضعيف. اهـ. وأخرجه الطبراني عن يَعْلى بن مرّة مثله، كما في الكنز.
وأخرج الطبراني عن جابر رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعينا إلى طعام، فإذا الحسين رضي الله عنه يلعب في الطريق مع صبيان، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم أمام القوم ثم بسط يده، فجعل حسين يفر ههنا وههنا، فيضاحكه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام القوم ثم بسط يده، فجعل إحدى يديه في ذقنه والأخرى بين(3/513)
رأسه وأذنيه، ثم اعتنقه وقبَّله، ثم قال: «حسين مني وأنا منه، أحبَّ الله من أحبَّه، الحسن والحسين سبطان من الأسباط» . كذا في الكنز.
معاشرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم
(طلبه عليه السلام من عثمان بن مظعون أن يحسن عشرة امرأته)
أخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي إسحاق السبيعي قال: دخلت امرأة عثمان بن مظعون رضي الله عنه على نساء النبي صلى الله عليه وسلم سيئة الهيئة في أخلاق لها، فقلن لها: ما لك؟ فقالت: أمّا الليل فقائم وأمّا النهار فصائم، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقولها، فلقي عثمان بن مظعون فلامه فقال: «أما لك بي أُسوة؟» قال: بلى، جعلني الله فداك، فجاءت بَعْدُ حسنة الهيئة طيبة الريح. وقال حين قبض:
يا عين جودي بدمعٍ غير ممنون
على رزية عثمان بن مظعون
على امرىء بات في رضوان خالقه
طوبى له من فقيد الشخص مدبون
طاب البقيع له سكنى وغرقده
وأشرقت أرضه من بعد تفتين
وأورث القلبَ حزناً لا انقطاع له
حتى الممات فما ترقى له شوني
وأخرجه ابن سعد عن أبي بردة رضي الله عنه بمعناه، وعبد الرزاق عن(3/514)
عروة بنحوه، كما في الكنزل إلا أنهما لم يذكرا الأشعار، وسمّي عروة امرأته خولة ابنة حكيم، وذكر أنها دخلت على عائشة رضي الله عنها وفي حديثه: فقال: «يا عثمان إنَّ الرهبانية لم تكتب علينا، أفما لك فيَّ أُسوة حسنة؟ فوالله إنَّ أخشاكم وأحفظكم لحدوده لأَنا» .
طلبه عليه السلام من عبد الله بن عمرو أن يحسن معاشرة زوجته
وأخرجه أبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: زوجني أبي امرأة من قريش، فلما دخلت عليَّ جعلت لا أنحاش لها مما بي من القوة على العبادة من الصوم والصلاة، فجاء عمرو بن العاص إلى كَنّته حتى دخل عليها فقال لها: كيف وجدت بعلك؟ قالت: خير الرجال - أو كخير البعولة - من رجل لم يفتش لنا كنفاً، ولم يقرب لنا فراشاً، فأقبل عليَّ فعذمني، وعضني بلسانه فقال: أنكحتك امرأة من قريش ذت حسب، فعضلتها وفعلت ثم انطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشاني، فأرسل إليَّ النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته، فقال لي: «أتصوم النهار» ؟ قلت: نعم، قال: «فتقوم الليل» ؟ قلت: نعم، قال: «ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأمسُّ النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» ثم قال: «اقرأ القرأن في كل شهر» قلت: إني أجدني أقوى من ذلك، قال: «فاقرأه في كل عشرة أيام» قلت: إنِّي أجدني أقوى من ذلك، قال: «فاقرأه في كل ثلاث» ثم قال: صُمْ في كل شهر ثلاثة أيام» قلت: إني أقوى من ذلك، فلم يزل يرفعني حتى قال: «صُمْ يوماً وأفطر يوماً؛ فإنه أفضل(3/515)
الصيام وهو صيام أخي داود عليه السلام» ، قال حُصَين في حديثه: ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم «إن لكل عابد شِرَّة، وإن لكل شِرَّة فَتْرة، فإمَّا إلى سُنَّة وإمَّا إلى بدعة، فمن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك» . قال مجاهد: وكان عبد الله بن عمرو حين ضعف وكبر يصوم الأيام كذلك، يصل بعضها إلى بعض ليتقوى بذلك، ثم يفطر بعد ذلك الأيام، قال: وكان يقرأ من أحزابه كذلك يزيد أحياناً وينقص أحياناً، غير أنه يوفي به العدّة، إما في سبع وإما في ثلاث، ثم كان يقول بعد ذلك: لأن أكون قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليَّ مما عدل به - أو عدل -، لكنِّي فارقته على أمر أكره أن أخالفه إلى غيره. وأخرجه أيضاً البخاري وانفرد به، كما في صفة الصفوة بنحوه مطوّلاً.
(ما جرى بين سلمان وأبي الدرداء في هذا الشأن)
وأخرج البخاري عن أبي جُحَيفة رضي الله عنه قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء رضي الله عنهما، فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء رضي الله عنها مُتبَذِلة، فقال لها ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً فقال: كل، فإني صائم، قال: ما أنا بآكل، حتى تأكل، فأكل فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نم، فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصلَّيا، فقال له سلمان: إنَّ لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، وأهلك عليك حقاً؛ فاعطِ كلَّ ذي حقَ حقَّه. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر(3/516)
ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «صدق سلمان» . وأخرجه أبو نعيم في الحلية عن أبي جُحَيفة بنحوه مع زيادات وأبو يعلى كما في الكنز والترمذي والبزَّار وابن خزيمة والدارقطني والطبراني وابن حِبّان كما في فتح الباري، وأخرجه ابن سعد بألفاظ مختلفة.
(شدة غَيْرة الزبير بن العوام على زوجته أسماء)
وأخرج ابن سعد عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: تزوجني الزبير رضي الله عنه وما له في الأرض مال ولا مملوك ولا شيء غير فرسه، قالت: فكنت أعلف فرسه، وأكفيه مؤونته وأسوسه، وأدقُّ النوى لناضجح وأعلفه، وأسقيه الماء، وأخرز غربه وأعجن، ولم أكن أحسن أخبز فكان يخبز جارات لي من الأنصار؛ وكن نسوة صِدْق، قالت: وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي وهي على ثلثي فرسخ، قالت: فجئت يوماً والنوى على رأسي فلقيت رسول الله ومعه نفر من أصحابه، فدعاني ثم قال: «إخْ إخْ» ليحملني خلفه، فاستحييت أن أسير مع الرجال(3/517)
وذكرت الزبير وغَيرته - قالت: وكان من أغْيَر الناس -، قالت: فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أني قد استحييت، فمضى، فجئت الزبير فقلت: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسي النوى ومعه نفر من أصحابه، فأناخ لأركب معه، فاستحييت وعرفت غَيْرتك، فقال: والله لحملك النوى كان أشد عليَّ من ركوبك معه. قالت: حتى أرسل إليَّ أبو بكر بعد ذلك بخادم فكفتني سياسة الفرس فكأنما أعتقني. وعنده أيضاً عن عكرمة أن أمساء بنت أبي بكر كانت تحت الزبير بن العوام، وكان شديداً عليها، فأتت أباها فشكت ذلك إليه، فقال: يا بنية اصبري فإن المرأة إذا كان لها زوج صالح ثم مات عنها فلم تزوَّج بعده جمع بينهما في الجنة.
(قصة امرأة اشتكت إلى عمر زوجها)
وأخرج الطيالسي والبخاري في تاريخه والحاكم في الكُنَى عن كَهْمَس الهلالي قال: كنت عند عمر رضي الله عنه، فبينما نحن جلوس عنده إذ جاءت امرأة، فجلست إليه فقالت: يا أمير المؤمنين، إن زوجي قد كثر شره وقلَّ خيره، فقال لها: من زوجك؟ قالت: أبو سلمة، قال: إن ذاك رجل له صحبة وإنه لرجل صدق، ثم قال عمر لرجل عنده جالس: أليس كذلك؟ قال: يا أمير المؤمنين لا نعرفه إلا بما قلت، فقال لرجل: قم فادعُه لي، فقامت المرأة حين أرسل إلى زوجها فقعدت خلف عمر، فلم يلبث أن جاءا معاً حتى جلس بين يدي عمر، فقال عمر: ما تقول هذه الجالسة خلفي؟ قال: ومن هذه يا أمير المؤمنين قال: هذه امرأتك، قال: وتقول ماذا؟ قال: ومن هذه يا أمير المؤمنين قال: هذه امرأتك، قال: وتقول ماذا؟ قال: تزعم أنه قلَّ خيرك وكثر شرك، قال: قد بئسما قالت يا أمير المؤمنين إنها لمن صالح نسائها، أكثرهن كسوة، وأكثرهن رفاهية بيت، ولكن فحلها بلي، فقال عمر للمرأة: ما تقولين؟(3/518)
قالت: صدق، فقام عرم إليها بالدرّة فتناولها بها ثم قال: أي عدوّة نفسها أكلت ماله، وأفنيت شبابه، ثم أنشأت تخبرين بما ليس فيه. قالت: يا أمير المؤمنين لا تعجل، فوالله لا أجلس هذا المجلس أبداً، فأمر لها بثلاثة أثواب فقال: خذي هذا بما صنعت بك، وإياك أن تشتكي هذا الشيخ. قال: فكأني أنظر إليها قامت ومعها الثياب، ثم أقبل على زوجها فقال: لا يحملك ما رأتني صنعت بها أن تسيء إليها، فقال: ما كنت لأفعل، قال: فانصرفا، ثم قال عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أمتي القرن الذي أنا منهم، ثم الثاني والثالث، ثم ينشأ قوم يسبق أيمانهم شهادتهم، يشهدون من غير أن يُستشهدوا، لهم لَغَطٌ في أسواقهم» . قال ابن حجر: إسناده قوي، كذا في الكنزل؛ وأخرجه أيضاً أبو بكر ابن (أبي) عاصم، كما في الإصابة.
(قصة امرأة أخرى وزوجها مع عمر)
وأخرج ابن سعد عن الشَّعبي قال: جاءت امرأة إلى عمر بن الخطاب فقالت: أشكو إليك خير أهل الدنيا إلا رجلاً سبقه بعمل أو عمل مثل عمله. يقوم الليل حتى يصبح، ويصوم النهار حتى يمسي، ثم تجلاّها الحياء، فقالت: أقِلْني يا أمير المؤمنين، فقال: جزاك الله خيراً؛ فقد أحسنت الثناء. قد أقتلك، فلما ولّت قال كعب بن سخور: يا أمير المؤمنين لقد أبلغت إليك في الشكوى، فقال: ما اشتكت؟ قال: زوجَها، قال: عليَّ المرأة (فأرسل إلى زوجها فجاء) ، فقال لكعب: اقضِ بينهما، قال: أقضي وأنت شاهد قال: إنك قد فطنت إلى ما لم أفطن له، قال: فإن الله تعال يقول: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباح} (سورة النساء، الآية: 3) صم ثلاثة أيام وأفطر عندها يوماً، وقم ثلاث ليالٍ وبتْ عندها ليلة.(3/519)
فقال عمر: لهَذا أعجب إليَّ من الأول؛ فبعثه قاضياً لأهل البصرة. وأخرجه اليَشْكري عن الشعبي بمعناه أطول منه وفيه: فقال لها عمر: أصدقيني ولا بأس بالحق، فقالت: يا أمير المؤمنين إني امرأة لأشتهي ما تشتهي النساء. وعند عبد الرزاق عن قَادة قال: جاءت امرأة إلى عمر فقالت: زوجي يقوم الليل ويصوم النهار، قال: أفتأمريني أن أمنعه قيام الليل وصيام النهار؟ فانطلقت ثم عادت بعد ذلك، فقالت له مثل ذلك فرد عليها مثل قوله الأول، فقال له كعب ابن سُور: يا أمير المؤمنين إنَّ لها حقاً، قال: وما حقُّها؟ قال: أحل الله له أربعاً، فاجعل واحدة من الأربع. لها في كل أربع ليالٍ ليلة، وفي كل أربعة أيام يوم؛ فدعا عمر زوجها وأمره أن يبيت معها من كل أربع ليالٍ ليلة، ويفطر من كل أربعة أيام يوماً، كذا في الكنز (8307 و308) . وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق ابن سيرين والزبير بن بكار في الموفقيت من طريق محمد بن معن وابن دريد في الأخبار المنثورة عن أبي حاتم السجستان عن أبي عبيدة وله طرق. كذا في الإصابة.
(قصة أبي غرزة وزوجته عند عمر)
وأخرجه ابن جرير عن أبي غَرْزة رضي الله عنه أنه أخذ بيد ابن الأرقم رضي الله عنه فأدخله على امرأته، فقال: أتبغضيني؟ قالت: نعم، قال له ابن الأرقم: ما حملك على ما فعلت؟ قال: كثرت عليَّ مقالة الناس، فأتى ابن الأرقم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأخبره، فأرسل إلى أبي غَرْزة فقال له: ما حلك على ما فعلت؟ قال: كثرت عليَّ مقالة الناس، فأرسل إلى امرأته(3/520)
فجاءته ومعها عمة منكرة، فقالت: إن سألك فقولي: استحلفني فكرهت أن أكذب. فقال لها عمر: ما حملك على ما قلت؟ قالت: إنه استحلفني فكرهتُ أن أكذب، فقال عمر: بلى فلتكذب إحداكم وليتجمُل فليس كل البيوت تُبنى على الحب، ولكن معاشرة على الأحساب والإسلام، كذا في الكنز.
(قصة عاتكة بنت زيد بن عمرو)
وأخرج وكيع عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: كانت عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنهما عند عبد الله بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وكان يحبها حباً شديداً، فجعل لها حديقة على أن لا تَزَوَّج بعده، فرُمي بسهم يوم الطائف فانتقَض بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبعين ليلة فمات، فرثته عاتكة فقالت:
وآليتُ لا تنفك عيني سخينة
عليك ولا ينفك جلدي أغبرا
مدى الدهر ما غنَّت حمامةُ أيكةٍ
وما طرد الليلُ الصباحَ المنوَّرا
فخطبها عمر بن الخطاب رضي الله عنه قالت: قد كان أعطاني حديقة (على) أن لا أتزوج، قال: فاستفتي، فاستفتت عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: ردِّي الحديثة إلى أهله وتزوَّجي، فتزوجها عمر فسرَّح إلى عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم علي بن أبي طالب وكان أخا عبد الله بن أبي بكر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال علي لعمر: إئذن لي فأكلمها، فقال كلمها. فقال: يا عاتكة:(3/521)
وآليتُ لا تنفك عيني سخينة ...
عليك ولا ينفك جلدي أغبرا
مدى الدهر ما غنَّت حمامةُ أيكةٍ ...
وما طرد الليلُ الصباحَ المنوَّرا
فخطبها عمر بن الخطاب رضي الله عنه قالت: قد كان أعطاني حديقة (على) أن لا أتزوج، قال: فاستفتي، فاستفتت عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: ردِّي الحديقة إلى هله وتزوَّجي، فتزوجها عمر فسرَّح إلى عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم علي بن أبي طالب وكان أخا عبد الله بن أبي بكر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال علي لعمر: إئذن لي فأكلمها، فقال كلمها. فقال: يا عاتكة:
وآليت لا تنفك عيني سخينة
عليك ولا ينفك جلدي أغبرا
(فنشجت نشجاً عالياً) فقال عمر: غفر الله لك لا تفسد عليَّ أهلي كذا في الكنز. وأخرجه ابن سعد بسند حسن عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب مختصراً، كما في الإصابة.
(قصة ابن عباس وزوجته وقول خالته ميمونة فيه)
وأخرج عبد الرزاق عن ندبة مولاة ميمونة رضي الله عنها قالت: دخلت على بن عباس رضي الله عنهما وأرسلتني ميمونة إليه، فإذا هو في بيته فراشان، فرجعت إلى ميمونة فقلت: ما أرى ابن عباس إلا مهاجراً لأهله، فأرسلت ميمونة بنت سرج الكِندي امرأة ابن عباس تسألها فقالت: ليس بيني وبينه هجر ولكني حائض، فأرسلت ميمونة إلى ابن عباس أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر المرأة من نسائه حائضاً تكون عليها الخرقة إلى الركبة وإلى نصف الفخذ، كذا في الكنز.
(قصة ابنعباس وابن عم له مع جارية)
وأخرج البخاري في الأدب (ص49) عن عكرمة قال: لا أدري أيهما جعل لصاحبه طعاماً ابن عباس أو ابن عمه، فبينا الجارية تعمل بين أيديهم إذ قال أحدهم لها: يا زانية، فقال: مَهْ إن لم تحدّك في الدنيا تحدّك في الآخرة،(3/522)
قال: أفرأيت إن كان كذاك؟ قال: إن الله لا يحب الفاحش المتفحِّش. ابنعباس الذي قال: إن الله لا يحب الفاحش المتفحش.
(قصة امرأة عمرو بن العاص مع جارية لها)
وأخرج ابن عساكر عن أبي عمران الفلسطيني قال: بينا امرأة عمرو بن العاص رضي الله عنه تفلي رأسه إذ نادت جارية لها، فأبطأت عنها، فقالت: يا زانية، فقال عمرو: رأيتها تزني؟ قالت: لا، قال: والله لتضربن لها يوم القيامة ثمانين سوطاً فقالت لجاريتها وسألتها العفو عنها، فعفت عنها، فقال لها عمرو: ما لها لا تعفو عنك وهي تحت يدك فأعتقيها؛ فقالت: هل يجزي عن ذلك؟ قال: فلعلَّ، كذا في الكنز.
(بعض قصص الصحابة رضي الله عنهم في المعاشرة)
وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن أبي المتوكل أن أبا هريرة رضي الله عنه كانت له زنجية قد غمتهم بعملها، فرفع عليها السوط يوماً فقال: لولا القصاص لأغشيتك به، ولكني سأبيعك ممن يوفيني ثمنك، اذهبي فأنت لله. وأخرج أبو عبيد وابن عساكر عن عبد الله بن قيس أو ابن أبي قيس قال: كنت فيمن تلقَّى عمر رضي الله عنه مع أي عبيدة رضي الله عنه مَقْدَمه الشام، فبينا عمر يسير إ5 لقيه المقلَّسون من أهل أذرعات بالسيوف فقال: مَهْ، ردُّوهم وانعوهم، فقال: أبو عبيد رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين هذه سنة العجم، فإنَّك إن تمنعهم منها يروا أن في نفسك نقضاً لعهدهم، فقال عمر: دعوهم (عمر وآل عمر) في طاعة أبي عبيدة، كذا في الكنز.(3/523)
وأخرج المحاملي عن ابنعمر رضي الله عنهما أن عمر سابق الزبير رضي الله عنه فسبقه الزبير، فقال: سبقتك ورب الكعبة، ثم إن عمر سابقه مرة أخرى فسبقه عمر فقال عمر: سبقتك ورب الكعبة كذا في الكنز.
وأخرج ابن أبي شيبة والخطيب في الجامع عن سليم بن حنظلة قال: أتينا أبيَّ بن كعب رضي الله عنه لنتحدث عنهد، فلما قام قمنا نمشي معه، فلحقه عمر رضي الله عنه فقال: أما ترى فتنة للمتبوع ذلة للتابع، كذا في الكنز. وأخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي البختري قال: جاء رجل (إلى) سلمان رضي الله عنه فقال: ما أحسن صنيع الناس اليوم؛ إني سافرت فوالله ما أنزل بأحد منهم إلا كما أنزل على ابن أبي قال: ثم قال: من حسن صنيعهم ولطفهم قال: يا ابن أخي ذاك طُرْفة الإيمان، ألم ترَ الدابة إذا حمل عليها حملها انطلقت به مسرعة وإذ تطاول بها السير تتلكأ.
وأخرج مسدَّد وابن منيع والدارمي عن حية بنت أبي حية قالت: دخل عليَّ رجل بالظهيرة، فقلت: ما حاجتك يا عبد الله؟ قال: أقبلت أنا وصتاحب لي في بُغاء إبل لنا، فانطلق صاحبي يبغي ودخلت في الظل أستظل وأشرب من الشراب، قالت: فقمت إلى لُبَينة لنا حامضة فسقيته منها وتوسمته، وقلت: يا عبد الله من أنت؟ قال: أبو بكر، قلت: أبو بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي سمعت به؟ قال: نعم، فذكرت له غزونا خثعم في الجاهلية وغزو(3/524)
بعضنا بعضاً وما جاء الله به من الإلف، فقلت: يا عبد الله حتى متى أمر الناس هذا؟ قال: ما استقامت الأئمة (قلت: وما الأئمة) ، قال: ألم ترى (إلى) السيد يكون في الحيِّ أيتبعونه ويطيعونه؟ فهم أولئك ما استقاموا؛ قال ابن كثير: إسناده حسن جيد. كذا في الكنز.
لغاية ص 385
تابع وأخرج يعقوب بن سفيان والبيهقي وابن عساكر عن الحارث بن معاوية أنه قدم على عمر بنالخطاب رضي الله عنه فقال له: كيف تركت أهل الشام؟ فأخبره عن حالهم، فحمد الله ثم قال: لعلكم تجالسون أهل الشرك؟ فقال: لا يا أمير المؤمنين، فقال: إنكم إن جالستموهم أكلتم معهم وشربتم معهم، ولن تزالوا بخير ما لم تفعلوا ذكل. كذا في الكنز الكنز. وأخرج ابن أبي حاتم عن عياض أن عمر رضي الله عنه أمر أبا موسى الأشعري رضي الله عنه أن يرفع إليه ما أخذ وما أعطى في أديم واحد - وكان له كتاب نصراني - فرفع إليه ذلك، فعجب عمر وقال: إن هذا لحفيظ، هل أنت قارىء لنا كتاباً في المسجد جاء من الشام؟ فقال: إنه لا يستطيع، فقال عمر: أجنبٌ هو؟ قال: لا بل نصراني، قال: فانتهرني وضرب فخذي ثم قال: أخرجوه ثم قرأ {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآء} (سورة المائدة، الآية: 51) - الآية - كذا في التفسير لابن كثير.(3/525)
هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في العطام والشراب
(هديه عليه السلام في الطعام والشراب)
أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه، كذا في البداية. وأخرج ابن عساكر عن علي رضي الله عنه قال: كان أحبّ ما في الشاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذراع، كذا الكنز. وعند الترمذي في الشمائل (ص12) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الذراع، قال: وسُمَّ في الذراع وكان يرى أن اليهود سمّوه. وعنده أيضاً عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أتانا النبي صلى الله عليه وسلم في منزلنا، فذبحنا له شاة، فقال: «كأنهم علموا أنا نحب اللحم» ، قال: وفي الحديث قصة. وعنده أيضاً عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الدُّبّاء، فأُتي بطعام أو دعي له، فجعلت أتتَّبعه بين يديه لما أعلم أنه يحبه.
وعنده أيضاً عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أكل طعاماً لعق أصابعه الثلاث.(3/526)
وأخرج ابن النجار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل على الأرض، ويعقِل الشاة، ويجيب دعوة المملوك على خبز الشعير، كذا في الكنز. وأخرجه ابن عساكر عن يحيى بن أبي كثير قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم من سعد بن عبادة رضي الله عنه جفنة من ثريد كل يوم تدور معه أينما دار من نسائه. كذا في الكنز. وأخرج ابن جرير عن أنس رضي الله عنه قال: حُلبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فشرب من لبنها ثم أخذ ماء فمضمض وقال: «إنَّ له دَسَماً» . كذا في الكنز.
وعند أبي يعلى عن أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه قال: نزل النبي لله منزلاً، فبعثت إليه امرأة مع ابن لها بشاة فحلب ثم قال: «انطلق به إلى أمك» فشربت حتى رويت، ثم جاء بشاة أخرى فحلب ثم سقى أبا بكر، ثم جاء بشاة أخرى فحلب ثم شرب، كذا في الكنز. وأخرج سعيد بن منصور عن إبراهيم رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفرِّغ يمينه لطعامه ولشرابه ولوضوئه وأشباه ذلك، ويفرغ شماله للاستنجاء والامتخاط وأشباه ذلك، كذا في الكنز. وأخرج أبو نُعيم عن جعفر بن عبد الله بن الحكم بن رافع فقال: رآني(3/527)
الحكم رضي الله عنه وأَنا آكل من ههنا وههنا، فقال لي: يا غلام لا تأكل هكذا كما يأكل الشيطان إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل لم تَعْدُ أصابعه بين يديه، كذا في الكنز؛ وقال في الإصابة: سنده ضعيف - اهـ.
(تعليمه عليه السلام أصحابه آدام الطعام والتسمية في أوله)
وأخرج ابن النجار عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهما قال: أكلت يوماً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت آخذ من لحم حول الصحفة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كُلْ مَما يليك» كذا في الكنز. وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن قانع والطبراني والحاكم وغيرهم عن أمية بن مَخْشي رضي الله عنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يأكل ولم يسمِّ، حتى إذا لم يبقَ من طعامه إلا لقمة رفعها إلى فيه وقال: بسم الله أوله وآخره، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «والله ما زال الشيطان يأكل معك حتى إذا سميَّت فما بقي في بطنه شيء إلا قاءه» ؛ وفي لفظ: «حتى ذكرت اسم الله استقاء ما في بطنه» . كذا في الكنز.
وأخرج النسائي عن حذيفة رضي الله عنه قال: بينا نحن عند رسول(3/528)
الله صلى الله عليه وسلم إذ أُتي بجفنة فوضعت، فكف عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم يده وكففنا أيدينا - وكنا لا نضع أيدينا حتى يضع يده - فجاء أعرابي كأنه يُطرد، فأومأ إلى الجفنة ليأكل منها، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيده، فجاءت جارية كأنها تُدفع فذهبت لتضع يدها في الطهام فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها ثم قال: «أنَّ الشيطان ليستحلّ طعام القوم إذا لم يذكر اسم الله عليه، وإنه لما رآنا كففنا عنها جاءنا (بهذه الجارية) ليستحل بها (فأخذت بيدها، فجاء بهذا الأعرابي ليستحل به فأخذت بيده) ، فوالله الذي لا إله إلا هو إنَّ يده في يدي مع يديهما» . كذا في الكنز. وأخرج ابن النجار عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل طعاماً في ستة رهط إذ دخل أعرابي، فأكل ما بين أيديهم بلقمتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو كان ذكر اسم الله لكفاهم، فإذا أكل أحدكم طعاماً فليذكر اسم الله تعالى، فإن نسي ثم ذكر فليقل: بسم الله أوله وآخره» . كذا في الكنز.
(ضيافته عليه السلام عند أصحابه)
وأخرج ابن أبي شَيْبَة وأبو نُعيم عن عبد الله بن بُسْر رضي الله عنه قال: جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي فنزل، فأتاه بطعام سويقٍ وحَيْس فأكل، وأتاه بشراب فشرب، فناول من عن يمينه، وكان إذا أكل تمراً ألقى النوى هكذا - وأشار بأصبعه على ظهرها - فلما ركب النبي صلى الله عليه وسلم قام أبي فأخذ بلجام بغلته، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ادعُ لنا، فقال: «اللهمَّ بارك لهم فيما رزقتهم،(3/529)
واغفر لهم، وارحمهم» . وعند الحاكم عنه قال: قال أبي لأمي: لو صنعت صعاماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فصنعت ثريدة، فانطلق أبي فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على ذِروتها وقال: «خذوا باسم الله» فأخذوا من نواحيها، فلما طعموا قال النبي صلى الله عليه وسلم «اللهمَّ اغفر لهم، وارحمهم، وبارك لهم في رزقهم» كذا في الكنز.
(هدي علي وعمر رضي الله عنهما في الطعام والشراب)
وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا في الدعاء أبو نعيم في الحلية والبيهقي عن ابن أعبَد قال: قال علي رضي الله عنه: يا ابن أعبد هل تدري ما حق الطعام؟ قلت: وما حقُّه؟ قال تقول: بسم الله، اللهمَّ بارك لنا فيما رزقنا. ثم قال: أتدري ما شكره إذا فرغت؟ قلت: وما شكره؟ قال تقول: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا. كذا في الكنز. وأخرج أبو نعيم عن عمر رضي الله عنه قال: إياكم والبِطْنة في الطعام والشراب؛ فإنها مفسدة للجسد، مورثة السقم، مكسِلة عن الصلاة، وعليكم بالقصد فيهما؛ فإنه أصلح للجسد وأبعد من السرف. وإن الله تعالى ليبغض الحبر السمين، وإنّ الرجل لن يهلك حتى يأثر شهوته على دينه. كذا في الكنز. وأخرج ابن ساكر عن أبي محذورة رضي الله عنه قال: كنت جالساً(3/530)
عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ جاء صفوان بن أمية بجفنة فوضعها بين يدي عمر، فدعا عمر ناساً مساكين وأرقّاء من أقاء الناس حوله، فأكلوا معه، ثم قال عند ذلك: فعل الله بقوم - أو لحا الله قوماً - يرغبون عن أرقائهم أن يأكلوا معهم فقال صفوان: أما والله ما نرغب عنهم، ولكنا نستأثر، لا نجد من الطعام الطيب ما نأكل ونطعمه. كذا في الكنز.
(هدي ابن عمر وابن عباس في الطعام والشراب)
وأخرج أبو نُعَيم في الحلية عن مالك بن أنس قال: حُدِّثت أنَّ عمر رضي الله تعالى عنهما نزل الجحفة، فقال ابن عامر بن كُرَيز لخبّازه: اذهب بطعامك إلى ابن عمر، فجاء بصحفة فقال ابن عمر: ضعها، ثم جاء بأخرى، وأراد أن يرفع الأولى فقال ابن عمر: مالك؟ قال: أريد أن أرفعها، قال: دَعْها، صُبَّ عليها هذه. قال: فكان كلما جاءه بصحفة صبَّها على الأخرى، قال: فذهب العبد إلى ابن عامر فقال: هذا جاف أعرابي، فقال له ابن عامر: هذا سيدك هذا ابن عمر وأخرج أبو نعيم في الحلية عن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يأخذ الحبة من الرمان فيأكلها، فقيل له: يا ابن عباس لم تفعل هذا؟ قال: إنه بلغني أنه ليس في الأرض رمانه تُلقح إلا بحبة من حب الجنة، فلعلها هذه.
(هدي سلمان وأبي هريرة وعلي في الطعام والشراب)
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن سالم مولى زيد بن صوحان قال: كنت(3/531)
مع مولاي زيد بن صوحان في السوق، فمرّ علينا سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه وقد اشترى وَسْقاً من طعام، فقال له زيد: يا أبا عبد الله تفعل هذا وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنَّ النفس إذا أحرزت رزقها اطمأنت، وتفرغت للعبادة، وأيس منها الوسواسو. وعنده أيضاً عن أبي عثمان النَّهْدي أن سلمان الفارسي قال: إني لأحب أن آكل من كدِّ يدي. وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كانت لي خمس عشرة تمرة، فأفطرت على خمس، وتسحَّرت بخمس، وبقَّيت خمساً لفطري. وأخرج ابن سعد عن القاسم بن مسلم مولى علي بن أبي طالب عن أبيه قال: دعا علي رضي الله عنه بشراب، فأتيته بقدح من ماء فنفخت فيه، فردَّه وأبى أن يشربه وقال: اشربه أنت.
هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في اللباس
هديه عليه السلام في اللباس
وأخرج ابن سعد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كنت مع عمر ابن الخطاب رضي الله عنه فقال: رأيت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم وعليه جبّة شاميّة ضيّقة الكمين. كذا في الكنز وقال: وسنده صحيح. وأخرج ابن سعد عن جندب بن مَكِيث رضي الله عنه قال: كان رسول(3/532)
الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم الوفد لبس أحسن ثيابه، وأمر عِلْيَة أصحابه بذلك، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قدم وفد كِندة وعليه حلّة يمانية، وعلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما مثل ذلك. وأخرج ابن أبي شيبة والترمذي في الشمائل عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: كان عثمان بن عفان رضي الله عنه يتَّزر إلى أنصاف ساقيه وقال: هكذا كانت إزرة حبِّي. كذا في الكنز. وعند الترمذي في الشمائل (ص9) عن الأشعث بن سُلَيم قال: سمعت عمَّتي تحدِّث عن عمِّها، قال: بينما أنا أمشي بالمدينة إذ إنسان خلفي يقول: «ارفع إزارك، فإنَّه أتقى وأبقى» ، فالتفتُّ فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إنما هي بردة مَلْحاء. قال: «أما لك فيَّ أسوة» ؟ فنظرت فإذ إزاره إلى نصف ساقَيْه.
وصف الصحابة للباسه عليه السلام
وعنده أيضاً عن أبي بردة قال: أخرجت إلينا عائشة رضي الله عنها كساء ملبَّداً، وإزاراً غليظاً، فقالت: قبض روح رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين. وعنده أيضاً (ص5) عن أم سَلَمة رضي الله عنها قالت: كان أحب الثياب إلى(3/533)
رسول الله صلى الله عليه وسلم القميص. وعن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: كان كُمُّ قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرُّسغ. وعن جابر رضي الله عنه قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء. وعن عمرو بن حريث رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء. وعن عمرو بن حريث رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس وعليه عمامة سوداء. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس وعليه عصابة دَسْماء. وعن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اعتم سدل عمامته بين كتفيه، قال نافع: وكان ابن عمر يفعل ذلك، قال عبد الله:(3/534)
ورأيت القاسم بن محمد وسالماً يفعلان ذلك، كذا في الشمائل (ص9) .
فراشه عليه السلام
وأخرج الشيخان عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان من أدم، حَشْوه ليف. وأخرجه ابن سعد نحوه. وعند الحسن بن عرفة عن عائشة قالت: دخلت عليَّ امرأة من الأنصار فرأت فراش رسول الله عباءة مثنية، فانطلقت فبعثت إليَّ بفراش حشوه الصوف، فدخل عليَّ رسول الله فقال: «ما هذا يا عائشة» ؟ قالت: قلت: يا رسول الله فلانة الأنصارية دخلت عليَّ فرأت فراشك، فذهبت فبعثت إليَّ بهذا، فقال: «ردِّيه» قالت: فلم أردّه وأعجبني أن يكون في بيتي، حتى قال ذلك ثلاث مرات، قالت: فقال: «ردِّيه يا عائشة، فوالله لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة» . وأخرجه ابن سعد عن عائشة نحوه.
وعند الترمذي في الشمائل عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: سئلت عائشة رضي الله عنها: ما كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتك؟ قالت: من أدَمٍ حَشْوُه ليف، وسئلت حفصة رضي الله عنها: ما كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: مِسْحاً نثنيه ثنيتين، فينام عليه، فلما كان ذات ليلة قلت: لو ثنيته بأربع ثنيات كان أوطأ له، فثنيناه له بأربع ثنيات، فلما أصبح قال: «ما فرشتم لي الليلة؟» قالت: قلنا: هو فراشك إلا أنا ثنيناه بأربع ثنيات، قلنا: هو أوطأ(3/535)
لك، قال: «ردُّوه لحالته الأولى؛ فإنه منعتني وطأتُه صلاتي الليلة. كذا في البداية. وأخرجه ابن سعد عن عائشة.
قوله عليه السلام عند لبس الجديد
وأخرج ابن المبارك والطبراني والحاكم والبيهقي وغيرهم عن عمر رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بثياب جُدُد فلبسها، فلما بلغت تراقية قال: «الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي، وأتجمَّل به في حيات» ثم قال: «والذي نفسي بيده ما من عبد مسلم يلبس ثوباً جديداً، ثم يقول مثل ما قلت، ثم يعمد إلى سَمَل من أخلاقه التي وضع فيكسوه إنساناً مسلماً فقيراً لا يكسوه إلا لله؛ لم يزل في حِرز الله وفي ضمان الله وفي جوار الله، ما دام عليه منه سلك واحد حياً وميتاً، حياً وميتاً» ، قال البيهقي: إسناده غير قوي، وحسَّنه ابن حجر في أماليه، كذا في الكنز.
امتداحه عليه السلام للسراويل
وأخرج البزار والعُقَيلي وابن عدي وغيرهم عن علي رضي الله عنه قال: كنت قاعداً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عند البقيع في يوم مطير، فمرت امرأة على حمار ومعها مكارٍ، فمرت في وهدة من الأرض فسقطت، فأعرض عنها(3/536)
بوجهه، فقالوا: يا رسول الله إنها متسرولة، فقال: «اللهمَّ اغفر للمتسرولات من أمتي، يا أيها الناس اتخذوا السراويلات فإنَّها من أستر ثيابكم، وحصِّنوا بها نساءكم إذا خرجن» . وأورده بن الجوزي في الموضوعات فلم يُصِب، والحديث له عدة طرق، كذا في الكنز.
قصته عليه السلام مع دحية وأسامة في اللباس
وأخرج ابن منده وابن عساكر عن دِحية بن خليفة الكلبي رضي الله عنه أنه بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، فلما رجع أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قُبْطِيَّة قال: «اجعل صديعها قميصاً، وأعط صاحبتك صديعاً تختمر به» فلما ولّى دعاه قال: «مُرْها تجعل تحته شيئاً لئلا يصف» ، كذا في الكنز. وأخرج ابن أبي شيبة وابن سعد وأحمد والروياني والبارودي والطبراني والبيهقي وسعيد بن منصور عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم قُبطية كثيفة مما أهدى دحية الكلبي، فكسوتها امرأتي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما لك لا تلبس القبطية» ؟ قلت: يا رسول الله إني كستوتها امرأتي، قال: «فأُمُرْها فلتجعل تحتها غلالة فإني أخشى أن تصف عِظامها» . كذا في الكنز.(3/537)
قصة عائشة مع أبيها حينما لبست ثوباً أعجبت به
وأخرج ابن امبارك وأبو نُعيم في الحلية عن عائشة رضي الله عنها قالت: لبست ثيابي، فطففت انظر إلى ذيلي وأنا أمشي في البيت، والتفت إلى ثيابي وذيلي، فدخل عليَّ أبو بكر رضي الله عنه وقال: يا عائشة أما تعلمين أنَّ الله لا ينظر إليك الآن؟ وعند أبي نُعيم في الحلية عنها قالت: لبست مرة دِرْعاً لي جديداً، فجعلت أنظر إليه وأعجب به، فقال أبو بكر: ما تنظرين؟ إنَّ الله ليس بناظر إليك، قلت: وممَّ ذاك؟ قال: أما علمتِ أنَّ العبد إذا دخله العجب بزينة الدنيا مقته ربه حتى يفارق تلك الزينة. قالت: فنزعته فتصدَّقت به، فقال أبو بكر: عسى ذلك أن يكفر عنك. كذا في الكنز، قال: وهو في حكم المرفوع.
هدي عمر وأنس رضي الله عنهما في اللباس
وأخرج ابن سعد عن عبد العزيز بن أبي جميلة الأنصاري قال: كان قميص عمر رضي الله عنه لا يجاوز كمُّه رسغَ كفَّيه. وعن بَدِيل بن مسيرة قال: خرج عمر بن الخطاب يوماً إلى الجمعة وعليه قميص سنبلاني، (فجعل يعتذر إلى الناس وهو يقول: حبسني قميصي هذا) ، وجعل يمدُّ كمّه، فإذا تركه رجع إلى أطراف أصابعه.(3/538)
وعن هشام بن خالد قال: رأيت عمر يأتزر فوق السرّة. وعن عامر بن عبيدة الباهلي قال: سألت أنساً رضي الله عنه عن الخز قال: وددتُ أنَّ الله لم يخلقه، وما أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد لبسه ما خلا عمر وابن عمر، كذا في منتخب الكنز. وهو صحيح. وأخرج هنّاد وابن أبي الدنيا في قِصَر الأمل عن مسروق قال: خرج عليها عمر ذات يوم وعليه حلّة قطن، فنظر إليه الناس نظراً شديداً فقال:
لا شيء فيما ترى تبقى بشاشتهُ
يبقى الإِله ويودي المالُ والولدُ
واللَّهِ ما الدنيا في الآخرة إلا كنَفْجة أرنب. كذا في منتخب الكنز.
هدي عثمان رضي الله عنه في اللباس
وأخرج الحاكم عن أبي عبد الله مولى شدّاد بن الهاد قال: رأيت عثمان بن عفان رضي الله عنه على المنبر يوم الجمعة وعليه إزار عدني غليظ قيمته أربعة دراهم أو خمسة دراهم، وَرَيطة كوفية ممشَّقة، ضَرْبَ اللحم، طويلَ اللحية، حسنَ الوجه. وأخرجه أيضاً الطبراني عن عبد الله بن شدّاد بن الهاد مثله وإسناده حسن. كما قال الهيثمي.(3/539)
وعنده أيضاً عن موسى بن طلحة قال: كان عثمان يوم الجمعة يتوكأ على عصا، وكان أجمل الناس، وعليه ثوبان أصفران: إزاء ورداء، حتى يأتي المنبر فيجلس عليه. قال الهيثمي: رواه الطبراني عن شيخه المقدام بن داود وهو ضعيف. اهـ. وأخرج ابن سعد عن سليم أبي عامر قال: رأيت على عثمان بن عفان بُرْداً يمانياً ثمنَ مائة درهم. وعنده أيضاً عن محمد بن ربيعة بن الحارث قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوسِّعون على نسائهم في اللباس الذي يصان ويُتجمَّل به، ثم يقول: رأيت على عثمان مِطْرف خزَ ثمن مائتي درهم، فقال: هذا لنائله كسوتها إياه فأنا ألبسه أسرُّها به.
هدي علي رضي الله عنه في اللباس
وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن زيد بن وهب قال: قدم على عليَ وفد من أهل البصرة فيهم رجل من أهل الخوارج يقال له الجعد بن نَعجة. فعاتب علياً في لَبوسه، فقال علي: مالك وللبوسي؟ إنَّ لبوسي أبعد من الكِبْر، وأجدر أن يقتدي بي المسلم. وعن عمرو بن قيس قال قيل لعليّ: يا أمير المؤمنين لم ترقع قميصك؟ قال: يخشع (به) القلب، ويقتدي به المؤمن. وأخرجه هنّاد عن عمرو بن قيس(3/540)
مثله، كما في المنتخب. وأخرجه ابن سعد عن عمرو نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وهنّاد عن عطاء أبي محمد قال: رأيت على عليَّ قميصاً من هذه الكرابيس غير غسيل. وعند هنَّاد وابن عساكر عن عبد الله بن أبي الهذيل قال: رأيت على عليَ بن أبي طالب قميصاً رازيَّاً إذا مدَّ يده بلغ أطراف الأصابع، وإذا تركه رجع إلى قريب نصف الذراع. كذا في المنتخب. وأخرج بن عيينة في جامعه والعسكري في المواعظ وسعيد بن منصور والبيهقي وابن عساكر عن عليَ أنَّه كان يلبس القميص ثم يمدُّ الكم، حتى إذا بلغ الأصابع قطع ما فضَل ويقول: لا فضل لكمَّين على اليدين. كذا في الكنز.
وعند أبي نُعيم في الحلية عن أبي سعيد الأزدي - وكان إماماً من أئمة الأزد - قال: رأيت علياً رضي الله عنه أتى السوق وقال: من عند قميص صالح بثلاثة دراهم؟ فقال رجل: عندي، فجاء به فأعجبه قال: لعلَّه خير من ذلك، قال: لا، ذاك ثمنه؛ قال: فرأيت علياً يقرِض رباط الدراهم من ثوبه، فأعطاه فلبسه، فإذا هو يفضل عن أطراف أصابعه، فأمر به فقُطع ما فضَل عن أطراف أصابعه. وأخرج أحمد في ازلهد عن مولى لأبي غُصعين قال: رأيت علياً خرج فأتى رجلاً من أصحاب الكرابيس، فقال له: عندك قميص سنبلاني؟ قال: فأخرج(3/541)
إليه قميصاً، فلبسه فإذا هو إلى نصف ساقيه، فنظر عن يمنيه وعن شماله فقال: ما أرى إلا قدراً حسناً، بكم هذا؟ قال: بأربعة دراهم يا أمير المؤمنين، قال: فحلَّها من إزاره فدفعها إليهثم انطلق. كذا في البداية.
هدي عبد الرحمن بن عوف وابن عمرو ابن عباس رضي الله عنهم في اللباس
وأخرج ابن سعد عن سعد بن إبراهيم قال: كان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يلبس البرد أو الحلّة تساوي خمسمائة أو أربعمائة. وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن قرعة قال: رأيت على ابن عمر رضي الله عنهما ثياباً خشنة - أو خشبة - فقلت له: يا أبا عبد الرحمن إني أتيتك بثوب ليِّن مما يُصنع بخراسان وتقر عيناني أن أراه عليك، فإن عليك ثياباً خشنة - أو خشبة - فقال: أرنيه حتى أنظر إليه قال: فلمسه بيده وقال: أحرير هذا؟ قلت: لا، إنه من قطن؛ قال: إني أخاف أن ألبسه، أخاف أن أكون مختالاً فخوراً والله لا يحب كل مختال فخور. وعنده أيضاً عن عبد الله بن حُبَيش قال: رأيت على ابن عمر ثوبين مَعَافِرِيَّين، وكان ثوبه إلى نصف الساق. وأخرجه ابن سعد عن عبد الله بن خَنَش نحوه.
وعند أبي نُعيم عن وَقْدان قال: سمعت ابن عمر وسأله رجل(3/542)
ما ألبس من الثياب؟ قال: ما لا يزدريك فيه السفهاء، ولا يعتبك به الحلماء، قال: ما هو؟ قال: ما بين الخمسة إلى العشرين درهماً. وأخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي إسحاق قال: رأيت ابن عمر يتَّزر إلى أنصاف ساقيه. وعنده أيضاً عنه قال: رأيت عدّة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بنزيد. (وزيد) بن أرقم، والبراء بن عازب، وابن عمر رضي الله عنهم يتَّزرون إلى أنصاف سوقهم. وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن عثمان بن أبي سليمان أن ابن عباس رضي الله عنهما اشترى ثوباً بألف درهم فلبسه.
هدي عائشة وأسماء رضي الله عنهما في اللباس
وأخرج البخاري في الأدب (ص68) عن كثير بن عبيد قال: دخلت على عائشة أم المؤمين رضي الله عنها، فقالت: أمسك حتى أخيط نُقبتي، فأمسكت، فقلت: يا أم المؤمنين لو خرجتُ فأخبرتهم لعدُّو منك بخلاً، قالت: أبصر شأنك. إنه لا جديد لمن لا يلبس الخَلَق. وأخرج ابن سعد عن أبي سعيد أن داخلاً دخل على عائشة وهي تخيط نُقبة لها فقال: يا أم المؤمنين أليس قد أكثر الله الخير؟ قالت: دعنا منك، لا جديد لمن لا خَلَق له.
وأخرج ابن سعد عن هشام بن عروة أن المنذر ابن الزبير قدم من العراق فأرسل إلى أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما بكسوة من ثياب مَرْويَّة وقوهيَّة(3/543)
رِقاق عِتاق بعدما كُف بصرها، قال: فلمستها بيدها ثم قال: أف ردُّوا عليه كسوته قال: فشقَّ ذلك عليه وقال: يا أمه، إنه لا يُشِف، قالت: إنها إن لم تشف فإنها تَصِف، قال: فاشتى لها ثياباً مرويَّة وقوهيَّة، فقبلتها، وقالت: مثل هذا فاكسُني.
فعل عمر رضي الله عنه في أمر اللباس
وأخرج البيهقي عن أنس رضي الله عنه أن امرأة أتت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالت: يا أمير المؤمنين إن دِرعي مخرَّق، قال: ألم أكسُك؟ قالت: بلى ولكنه تخرَّق، فدعا لهابدرع نجيب وخيط، وقال لها: البسي هذا - يعني الخَلَق - إذا خبزت وإذ جعلت البُرمة، والبسي هذا إذا فرغت؛ فإنه لا جديد لمن لا يلبس الخَلَق. كذا في الكنز.
وأخرج سفيان بن عيينة في جامعه عن خَرَشة بن الحرِّ قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومرَّ به فتى قد أسبل إزاره وهو يجره، فدعاه فقال له: أحائض أنت؟ قال: قال: يا أمير المؤمنين وهل يحيض الرجل؟ قال: فما بالك قد أسبلت إزارك على قدميك؟ ثم دعا بشفرة ثم جمع طرف إزاره فقطع ما أسفل الكعبين، وقال خَرَشة: كأنَّي أنظر إلى الخيوط على عقبيه. كذا في الكنز.
وأخرج أبو ذر الهَرَوي في الجامع والبيهقي عن أبي عثمان النهدي قال: أتانا كتاب عمر بن الخطاب ونحن بأذربيجام مع عتبة بن فَرْقَد أما بعد:(3/544)
فاتّزروا، وارتدوا، وانتعلوا، وارموا بالخفاف، وألقوا السراويلات، وعليكم بلباس أبيكم إسماعيل، وإياكم والتنعُّم وزِيّ العجم، وعليكم بالشمس فإنها حمَّام العرب، وتمدَدوا، واخشوشنوا، واخلولقوا، واقطعوا الركب، وارموا الأغراض، وانزوا، وإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الحرير إلا هكذا - وأشار بأصبعه الوسطى -. كذا في الكنز.
بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم >
أخرج ابن سعد: عن الواقدي قال: حدثني معاذ بن محمد الأنصاي قال: سمعت عطاء الخراساني في مجلس فيه عِمران بن أبي أنس يقول وهو فيما بين القبر والمنبر: أدركت حُجَر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من جريد انلخل، وعلى أبوابها المسوح من شعر أسود، فحضرت كتاب الوليد بن عبد الملك يُقرأ يأمر بإدخال حُجَر أزواج النبي في مسجد رسول الله، فما رأيت يوماً أكثر باكياً من ذلك اليوم، قال عطاء: فسمعت سعيد بن المسيِّب يقول يومئذ: واللَّهِ لوددتُ أنهم تركوها على حالها؛ ينشأ ناشىء من أهل المدينة، ويقدم القادم من الأفق، فيرى ما اكتفى به رسول الله في حياته، فيكون ذلك ممَّا يزهِّد الناس في التكاثر والتفاخر فيها - يعني الدنيا -. قال معاذ: فلما فرغ عطاء الخراساني من حديثه قال عمران بن أبي أنس: كان منها أربعة أبيات بلبن لها حُجَر من جريد، وكانت خمسة أبيات من جريد مطيّنة لا حُجعر لها، على أبوابها مُسوح الشعر، ذرعتُ الستر فوجدته ثلاث أذرع في(3/545)
ذرع، والعظم أو أدنى من العظم، فأما ما ذكرت من كثرة البكاء فلقد رأيتني في مجلس فيه نفر من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو سَلَمة ابن عبد الرحمن، وأبو أمامة بن سهل بن حُنَيف، وخارجة بن زيد، وإنهم ليبكون حتى أخضل لحاهم الدمعُ، وقال يومئذ أبو أمامة: ليتها تُركت فلم تُهدم حتى يقصرَ الناس عن البناء، ويَروا ما رضي الله لنبيه ومفاتيح خزائن الدنيا بيده(3/546)
الباب الحادي عشر باب إيما الصحابة بالغيب
كيف كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يؤمنون بالغيب، ويتركون اللذائذ الفانية، والمشاهدات الإنسانية، والمحسوسات الوقتية، والتجربات الماديَّة بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم فكأنهم كانوا يعاينون المغيَّبات، ويكذَّبون المشاهدات(4/5)
عظمة الإِيمان
تبشيره عليه السلام من شهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه بالجنة
أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا قعوداً حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو بكر وعمر رضي الله عنها في نفر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرنا، فأبطأ علينا، وخشينا أن يُقْتَطع دوننا، ففزعنا فقمنا، فكنت أول من فزع، فخرجت أبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتيت حائطاً للأنصار لبني النجار، فدرت (به) هل أجد له باباً؟ فلم أجد، فإذا ربيع يدخل في جوف حائط من بئرٍ خارجةٍ فاحتفزت فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أبو هريرة» ؟ فقلت: نعم يا رسول الله، قال: «ما شأنك» ؟ قلت: كنتَ بين أظهرنا، فقمتَ فأبطأت علينا فخشينا أن تُقتطع دوننا ففزعنا، فكنت أول من فزع، فأتيت هذا الحائط فاحتفزت كما يحتفز الثعلب فدخلت وهؤلاء الناس ورائي، فقال: «يا أبا هريرة - وأعطاني نعليه -، فقال: إذهب بنعليَّ هاتين، فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلاّ الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة» .(4/7)
فكان أول من لقيني عمر فقال: ما هاتان النعلان يا أبا هريرة؟ قلت: هاتان نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني بهما من لقيت يشهد أن لا إله إلاَّ الله مستيقناً بها قلبه بشرته بالجنة، فضربني عمر (بيده) بين ثدييَّ فخررت لاِسْتي، فقال: ارجع يا أبا هريرة فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجهشت بالبكاء، وركبني عمر وإذا هو على إثري، فاقل رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما لك يا أبا هريرة» ؟ قلت: لقيت عمر فأخبرته بالذري بعثتني به فضرب بين ثدييَّ ضربة خررت لاِسْتي، فقال إرجع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا عمر ما حملك على ما فعلت» ؟ قال: يا رسول الله - بأبي أنت وأمي - أبعثت أبا هريرة بنعليك من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه بشره بالجنة؟ قال: «نعم» ، قال: فلا تفعل فإني أخشى أن يتَّكل الناس عليها، فلخِّهم يعملون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فخلِّهم» كذا في جمع الفوائد.
تبشيره عليه السلام لمن مات لا يشرك بالله شيئاً بدخول الجنة
وأخرج الشيخان عن أبي ذر رضي الله عنه قال: خرجت ليلة من الليالي، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وحده وليس معه إنسان، فقلت: إنه يكره أن يمشي معه أحد، قال: فجعلت أمشي في ظل القمر، فالتفت فرآني فقال: «من هذا» ؟ فقلت: أبو ذر - جعلني الله فداك -. قال: «يا أبا ذر تعالَهْ» قال: فمشيت معه ساعة، فقال: «إنَّ المكثرين هم المقلُّون يوم القيامة؛ إلاّ من أعطاه الله خيراف، فنفح فيه عن يمينه وشماله، وبين يديه وورائه، وعمل فيه خيراً» ، قال: فمشيت ساعة معه فقال لي: «اجلس ههنا» قال: فأجلسني في(4/8)
قاع حوله حجارة فقال لي: «ههنا حتى أرجع إليك» قال: فانطلق في الحرَّة حتى لا أراه فلبث عني فأطال اللبث، ثم إني سمعته يقول وهو مقبل: «وإن زنى وإن سرق» ، قال: فلما جاء فلم أصبر، فقلت: يا نبي الله - جعلني الله فداك - مَنْ تُكلِّم في جانب الحرَّة؟ ما سمعت أحداً يَرجع إليك شيئاً، قال: «ذاك جبريل عرض لي في جانب الحرَّة فقال: بشِّر أمتك من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، فقلت: يا جبريل وإن زنى وإن سرق، قال: نعم» . قلتُ: يا رسول الله وإن سرق وءن زنى، قال: «نعم» . قلتُ: وإن سرق وإن زنى، قال: «نعم، وإن شرب الخمر» ، كذا في جمع الفوائد قال: وزادا مع الترمذي في أخرى نحوها في المرأة الرابعة: «على رغم أنف أبي ذر» .
قصة الأعرابي الذي فقه
وأخرج ابن عساكر عن أنس رضي الله عنه أن شيخاً أعرابياً يقال له علقمة بن عُلاَثة رضي الله عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنِّي شيخ كبير؛ وإني لا أستطيع أن أتعلم القرآن، ولكني أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأَشهد أن محمداً عبده ورسوله حق اليقين، فلما مضى الشيخ قال النبي صلى الله عليه وسلم «فقه الرجل - أو فقه صاحبكم» ، كذا في الكنز. وأخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق والدارقطني في الأفراد من حديث أنس وإسناده ضعيف جداً، كما في الإِصابة.(4/9)
حديث عثمان في تحريم من تشهَّد على النار
وأخرج أحمد عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد حقاً من قلبه إلاَّ حُرِّم على النار» قال عمر بن الخطاب: ألا أحدثك ما هي؟ هي كلمة الإِخلاص التي ألزمها الله تبارك وتعالى محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهي كلمة التقوى التي ألاص عليها نبي الله صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب عند الموت؛ شهادة أن لا إله إلاَّ الله. كذا في المجتمع. وأخرجه أيضاً أبو يَعْلى وابن خُزَيمة وابن حِبّان والبيهقي وغيرهم، كما في الكنز.
تبشيره عليه السلام بالمغفرة لأصحابه الذين تشهّدوا معه في مجلس
وأخرج أحمد عن يعلى بن شدّاد قال: حدثني أبي شداد رضي الله عنه - وعبادة بن الصامت(4/10)
قال: بقديد - فجعل رجال يستأذنون رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهليهم فيأذن لهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «ما بال رجال يكون شق الشجرة التي تلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبغض إليهم من الشق الآخر» فلم يُر عند ذلك من القوم إلاَّ باكياً، فقال رجل: إنَّ الذي يستأذن بعد هذا لسفيه، فمد الله وقال خيراً وقال: «أشهد عند الله لا يموت عبد يشهد أن لا إله إلاَّ الله وأَنَّي رسول الله صدقاً من قلبه ثم يُسدَّد إلاَّ سلك في الجنة» ، قال: «وقد وعدني ربي عز وجل أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً لا حساب عليهم ولا عذاب، وإني لأرجو أن لا يدخلوها حتى تبوأوا أنتم ومن صلَح من آبائكم وأزواجكم وذراريكم مساكن في الجنة» ، فقال الهيثمي: رواه أحمد وعند ابن ماجه بعضه ورجاله موثَّقون. اهـ. وأخرجه أيضاً الدارمي وابن خزيمة وابن حِبَّان والطبراني بطوله، كما في الكنز وفي(4/11)
روايتهم فقال أبو بكر رضي الله عنه: إن الذي يستأذنك عن شيء بعدها لسفيه.
تفكير الشهادة لمن حلف كاذبا
وأخرج البزَّار عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا فلان فعلت كذا وكذا» ؟ قال: لا والذي لا إله إلا هو ما فعلت؛ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أنه قد فعله، فكرر عليه مراراً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كُفِّر عنك بتصديقك بلا إله إلا الله» قال الهيثمي: رواه البزار وأبو يَعْلى بنحوه إلا أنه قال: «كُفِّر عنك كذبك بتصديقك بلا إله إلا الله» ورجالهما رجال الصحيح. انتهى؛ وقال في هامشه عن ابن حجر: قلت: فيه الحارث ابن عبيد أبو قُدامة وهو كثير المناكير وهذا منها، وقد ذكر البزّار أنه تفرد به - انتهى. وعند الطبراني عن ابن الزبير مرفوعاً أن رجلاً حلف بالله الذي لا إله إلا هو كاذباً فغفر له، قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح.
خروج أهل الشهادة من النار
وأخرج الطبراني عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا اجتمع أهل النار في النار ومعهم من شاء الله من أهل القبلة، قال الكفار للمسلمين: ألم تكونوا مسملين؟ قالوا: بلى، قالوا: فما أغنى عنكم الإسلام وقد صرتم معناه في النار؟ قالوا: كانت لنا ذنوب فأخذنا بها، فسمع الله ما قالوا، فأمر بمن كان في النار من أهل القبلة فأُخرجوا، فلما رأى ذلك من بقي من الكفار قالوا: يا ليتنا كنَّا مسلمين فنخرج كما خرجوا» ، قال: ثم(4/12)
قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {الرَ} {تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْءانٍ مُّبِينٍ} {رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ} (سورة الحجر، الآيتان: 1 و2) ورواه ابن أبي حاتم نحوه وفيه البسملة عوض الاستعاذة. وعند الطبراني عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً «أن ناساً من أهل لا إله إلاَّ الله يدخلون النار بذنوبهم فيقول لهم أهل اللاَّت والعزّى: ما أغنى عنكم قولكم لا إله إلاَّ الله وأنتم معنا في النار، فيغضب الله لهم فيخرجهم فيلقيهم في نهر الحياة، فيبرؤون من حَرْقهم كما يبرأ القمر من خسوفه، ويدخلون الجنة ويسمَّمون فيها الجهنميين» . وأخرجه الطبراني أيضاً عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بسياق آخر نحوه، وفي رواية: «فيسمون في الجنة الجهنميين من سواد في وجهوههم، فيقولون: يا رب أذهب عنا هذا الاسم، فيأمرهم فيغتسلون في نهر (في) الجنة فيذهب ذلك الاسم عنهم» . كذا في التفسير لابن كثير.
نجاة جماعة من أهل الشهادة من النار
وأخرج الحاكم عن ربعي عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يُدرس الأسلام كما يدرس وشي الثوب، فلا يُدري ما صيام ولا صدقة ولا نسك، ويُسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، ويبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلاَّ الله فنحن نقولها» ، فقال صلة: فما تغني(4/13)
عنهم لا إله إلاَّ الله لا يدرون ما صيام ولا صدقة ولا نسك؟ فأعرض عنه حذيفة رضي الله عنه، من النار، تنجيهم من النار، تنجيهم من النار؛ قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرِّجاه وقال الذهبي: على شرط مسلم.
أقوال علي وأبي الدرداء وابن مسعود في الشهادة وأهلها
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن علي رضي الله عنه قال: أفصح الناس وأعلمهم بالله عز وجل أشد الناس حباً وتعظيماً لحرمة أهل لا إله إلاَّ الله، كذا في الكنز. وأخرج أبو نعيم في الحلية عن سالم ابن أبي الجعهد قال: قيل لأبي الدرداء رضي الله عنه: أن أبا سعد بن منبِّه أعتق مائة مُحَرَّر. فقال: إن مائة مُحَرَّر من مال رجل لكثير، وإن شئت أنبأتك بما هو أفضل من ذلك: إيمان ملزوم بالليل والنهار، ولا يزال لسانك رطباً من ذكرالله عز وجل. وأخرجه ابن أبي الدنيا موقوفاً بإسناده حسن عن سالم بن أبي الجعد قال: قيل لأبي الدرداء: إن رجلاً أعتق - فذكر نحوه، كما في الترغيب. وأخرج الطبراني عن عبد الله - يعن ابن مسعود - رضي الله عنه قال: إنَّ الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإنَّ الله يُؤتي المال من يحب ومن لا يحب، ولا يؤتي الإيمان إلاَّ من أحب، فإذا أحب الله عبداً أعطاه الإِيمان، فمن ضَنَّ بالمال أن ينفقه؛ وهاب العدو أن يجاهده، والليل أن(4/14)
يكابده، فليكثر من قول لا إله إلاَّ الله والله كبر والحمد لله وسبحان الله. قال الهيثمي: رواه الطبراني موقوفاً ورجاله رجال الصحيح. انتهى. وقال المنذري في الترغيب: رواته ثقات وليس في أصلي رَفْعُه - انتهى.
مجالس الإيمان
رغبة عبد الله بن رواحة رضي الله عنه في مجالس الإيمان
أخرج أحمد بإسناد حسن عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان عبد الله بن رواحة رضي الله عنه إذا لقي الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تعالَ نؤمن بربنا ساعة، فقال ذات يوم لرجلغ فغضب الرجل فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ألا ترى إلى ابن رواحة يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «يرحم الله ابن رواحة إنَّه يحب المجالس التي تتباهَى بها الملائكة» . كذا في الترغيب، وقال الحافظ ابن كثير في البداية: هذا حديث غريب جداً، وقال البيهقي بإسناده عن عطاء بن يسار: أن عبد الله بن رواحة قال لصاحب له: تعالَ حتى نؤمن ساعة، قال: أولسنا بمؤمنين؟ قال: بلى ولكنا نذكر الله فتزداد إيماناً، وقد روى الحافظ أبو القاسم اللألَكائي عن شريح عن عبيد أن عبد الله بن رواحة كان يأخذ بيد الرجل من أصحابه فيقول: قُمْ بنا نؤمن ساعة فنجلس في مجلس ذكر. وهذا مرسل من هذين الوجهين. انتهى.(4/15)
وأخرجه القيالسي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كان عبد الله بن رواحة رضي الله عنه يأخذ بيدي فيقول: تعالَ نؤمن ساعة، إن القلب أسرع تقلُّباً من القِدْر إذا استجمعت غليانها. وعند ابن عساكر عنه قال: كان عبد الله بن رواحة إذا لقيني قال لي: يا عُميرم اجلس نتذاكر ساعة، فنجلس فنتذارك، ثم يقول: هذا مجلس الإيمان، مَثَلُ الإِيمان مَثُلُ قميصك، بينا أنك قد نزعته إذا لبسته، وبينا أنك قد لبسته إذ نزعته، القلب أسرع تقلُّباً من القدر إذا استجمعت غليانها، كذا في الكنز.
رغبة عمر ومعاذ رضي الله عنهما في مجالس الإِيمان
وأخرج ابن أبي شيبة واللأَلكائي في السنة عن أي ذر رضي الله عنه قال: كان عمر ممّا يأخذبيد الرجل والرجلين من أصحابه فيقول: ثم بنا نزداد إيماناً، فيذكرون الله عز وجل، كذا في الكنز. وأخرج أبو نعيم في الحلية عن الأسود بن هلال قال: كنا نمسي مع معاذ رضي الله عنه فقال لنا: اجلسوا بنا نؤمن ساعة.
تجديد الإِيمان
أخرج أحمد والطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وجدِّدوا إيمانكم» قيل: يا رسول الله وكيف نجدِّد إيماننا؟ قال: «أكثروا(4/16)
من قول لا إله إلاَّ الله» قال الهيثمي رجال أحمد ثقات، وقال المنذري في الترغيب: إسناد أحمد حسن.
تكذيب التجربات والمشاهدات
قصة الرجل الذي استطلق بطنه
أخرج الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فال: إن أخي استطلق بطنه، فقال: «إسقِه عسلاً» فذهب فسقاه عسلاً، ثم جاء فقال: «يا رسول الله سقيته عسلاً فما زاده إلاَّ استطلاقاً، قال: «اذهب فإسقِه عسلاً» فذهب فسقاه عسلاً، ثم جاء فقال: يا رسول الله ما زاده إلاَّ استطلاقاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «صدق الله وكذب بطن أخيك، اذهب فإسقِه عسلاً» فذهب فسقاه عسلاً فبرأ. كذا في التفسير لابن كثير.
قصة عبد الله بن مسعود مع زوجته
وأخرج أحمد عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق كراهتة أن يهجم منا على أمر يكرهه، قالت: وإنه جاء ذات يوم فتنحنح وعندي عجوز ترقيني من الحمرة، فأدخلتها تحت السرير، قالت: فدخل فجلس إلى جانبي فرأى في عِنقي خيطاً، فقال: ما هذا الخيط؟ قالت قلت: خيط رُقي لي فيه،(4/17)
فأخذه فقطعه ثم قال: إن رل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الرقى والتمائم والتَّوَلة شرك» ، قالت قلت له: لمتقول هذا وقد كانت عيني تقذف فكنت اختلف إلى فلان اليهودي يرقيها فكان إذا رقاها سكنت؟ فقال: إنما ذاك من الشيطان كان ينخسها بيدهه فإذا رقاها كفَّ عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «اذهب البأس ربَّ الناس، اشفِ الشافي لا شفاء إلاَّ شفؤك، شفاء لا يغادر سقماً» . كذا في التفسير لابن كثير.
قصة عبد الله بن رواحة مع زوجته
وأخرج الدارقطني (ص44) عن عكرمة قال: كان ابن رواحة رضي الله عنه مضطجعاً إلى جنب إمرأته، فقام إلى جارية له في ناحية الحجرة فوقع عليها، وفزت امرأته فلم تجده في مضجعه، فقامت وخرجت فرأته على جاريته، فرجعت إلى البيت فأخذت الشفرة ثم خرجت، وفرغ فقام فلقيها تحمل الشفرة، فقال: مَهْيَم؟ فقالت: مَهْيَم؟ لو أدركتك حيث رأيتك لَوَجَأْتُ بين كتفيك بهذه الشفرة قال: وأين رأيتني؟ قالت: رأيتك على الجارية، فقال: ما رأيتني، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب: قالت: فإقرأ، فقال:
أتانا رسولُ الله يتلو كتابَه
كام لاحَ مشهورٌ من الفجر ساطعُ
أتى بالهدى بعدَ العمى فقلوبُنا
به موقناتٌ أنَّ ما قال واقعُ
يبيتُ يجافي جنبه عن فراشه
إذا استثقلت بالمشركين المضاجعُ(4/18)
فقالت: آمنت بالله وكذَّبت البصر، ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبهر، فضحك حتى ريت نواجده صلى الله عليه وسلم وأخجره الدارقطي (ص45) أيضاً من طريق آخر عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: دخل عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - فذكر نحوه وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب، قال في التعليق المغني (ص45) : فيه سلمة بن وهرام وثَّقه ابن معين وأبو زُرعة وضعَّفه أبو داود. انتهى.
قصة عمر رضي الله عنه مع النبي عليه السلام الحديبية
وأخرج البخاري في التفسير عن حبيب بن أبي ثابت قالت: أتيت أبا وائل أسأله فقال: كنا بصفِّين فقال رجل: ألم تر إلى الذين يُدعون إلى كتاب الله؟ فقال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه: نعم، فقال سهل بن حُنيف رضي الله عنه: اتَّهموا أنفسكم، فلقد رأيتنا يوم الحديبية - يعني الصلح الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين - ولو نرى قتالاً لقاتلنا، فجاء عمر رضي الله عنه فقال: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ أليس قتلانا في الجنة وتقلاهم في النار؟ فقال: «بلى» قال: ففيم نُعطي الدنيَّة في ديننا ونرجع ولمَّا يحكم الله بيننا؟ فقال صلى الله عليه وسلم «يا ابن الخطاب إنِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولن يضعيعني الله أبداً» فرجع متغيظاً فلم يصبر حتى جاء أبا بكر رضي الله عنه، فقال: يا أبا بكر ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ فقال: يا ابن الخطاب إنَّه رسول الله ولن يضيعه الله أبداً، فنزلت سورة الفتح. وقد رواه البخاري أيضاً في مواضع أخر، ومسلم(4/19)
والنسائي من طرق أُخر عن سهل بن حُنيف به وفي بعض ألفاظه: يا أَيُّها الناس اتَّهموا الرأي فلقد رأيتُني يوم أبي جندل ولو أقدر على أن أردّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره لرددته، وفي رواية: فنزلت سورة الفتح فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقرأها عليه. كذا في التفسير لابن كثير.
وقد تقدم الحديث بطوله في باب الدعوة إلى الله في قصة صلح الحديبية عن البخاري من طريق المسور بن مخرمة رضي الله عنه ومروان وفيه: قال أبو جندل: أي معشر المسلمين، أُردُّ إلى المسشركين وقد جئت مسلماً؟ 1 ألا ترون ما قد لقيت؟ - وكان قد عُذِّب عذاباً شديداً في الله - فقال عمر رضي الله عنه: فأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت ألست نبي الله حقاً؟ قال: «بلى» ، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: «بلى» ، قلت: فلم نعطي الدنيَّة في ديننا إذن؟ قال: «إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري» ، قلت: أولستَ كنت تحدثنا أنَّا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: «بلى» ، فأخبرتك أنَّا نأتيه العام؟» قال: قلت: لا، قال: «فإنك آتيه ومطَّوِّف به» . قال: فأتيت أبا بكر رضي الله عنه فقلت: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقاً؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قال قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟ قال: أيها الرجل إنه لرسول الله وليس يعصي ربه وهوناصره، فاستمسك بغَرْزه، فوالله إنه لعلى الحق، قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ فقلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطَّوِّف به، قال عمر: فعملت لذلك أعمالاً.(4/20)
فرحه عليه السلام بنزول القرآن عليه بالمغفرة والفتح مرجعه من الحديبية
وأخرج أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم {لّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} (سورة الفتح، الآية: 2) مرجعه من الحديبية، قال النبي صلى الله عليه وسلم «لقد أُنزلت عليَّ اليلة آية أحب إليَّ ممَّا على الأرض» ، ثم قرأها عليهم النبي فقالوا: هنيئاً مريئاً يا نبي الله، بيَّن الله عز وجل ما يفعل بك فماذا يفعل بنا؟ فنزلن عليه صلى الله عليه وسلم {لّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ} - حتى بلغ {فَوْزاً عَظِيماً} (سورة الفتح، الآية: 5) وأخرجه الشيخان عن أنس كما في التفسير لابن كثير. وعند ابن جرير في قوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} (سورة الفتح، الآية: 1) عن أنس قال: نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم مرجعه من الحديبية وقد حيل بينهم وبين نسكهم، فنحر الهدي بالحديبية وأصحابه مخالطو الكآبة والحزن فقال: «لقد أُنزلت عليَّ آية أحبُّ إليَّ من الدنيا جميعاً» فقرأ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} {لّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} - إلى قوله - {عَزِيزاً} (سورة الفتح، الآيات: 1 - 3) فقال أصحابه: هنيئاً لك - فذكر نحوه.
وأخرج أحمد عن مجمِّع بن جارية الأنصاري رضي الله عنه - وكان أحد القرّاء الذين قرأوا القرآن - قال: شهدنا الحديثبية فلما انصرفنا عنها إذا الناس(4/21)
يُنفرون الأباعر، فقال الناس بعضهم لبعض: ما للناس؟ قالوا: أُوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجنا مع الناس نوجف، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته عند كُراع الغميم، فاجتمع الناس عليه فقرأ عليهم {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} قال: فقال رجل من أصحاب رسول الله: أي رسول الله أَوَ فَتْحٌ هو؟ قال صلى الله عليه وسلم «إي، والذي نفس محمد بيده إنه لفتح» فذكر الحديث. ورواه أبو داود في الجهاد، كما في التفسير لابن كثير. وأخرج البخاري عن البراء رضي الله عنه قال: تعُدُّون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحاً، ونحن نَعُدُّ الفتح بَيْعة الرضوان يوم الحديبية - فذكر الحديث، كما في التفسير لابن كثير. وأخرجه ابن جرير في تفسيره عن البراء نحوه وعن جابر قال: ما كنا نَعُد الفتح إلاَّ يوم الحديبية.
قصة نيل مصر في عهد عمر رضي الله عنه
وأخرج الحافظ أبو القاسم اللالكائي في السنة عن قيس بن حجاج عمن حدثه قال: لمَّا فُتحت مصر أتى أهلُها عمرو بن العاص رضي الله عنه وكان أميراً بها حين دخل بؤنة - من أشهر العجم - فقالوا: أيها الأمير، إنَّ لنيلنا هذا سُنَّة لا يجري إلا بها، قال: وما ذاك؟ قالوا: إذا كانت اثنتا عشرة ليلة خلت من هذا الشعر، عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها، فأرضينا أبويها، وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في النيل، فقال لهم عمرو:(4/22)
إن هذا لا يكون في الإِسلام، إن الإسلام يهدم ما كان قبله، فأقاموا بؤنة والنيل لا يجري حتى هموا بالجلاء، فكتب عمرو رضي الله عنه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بذلك، فكتب إليه عمر إنك قد أصبت بالذي فعلتَ، وقد بعثت إليك ببطاقة داخل كتابي هذا فألقها في النيل - فذكر الحديث كما سيأتي في باب التأييدات الغيبية في تسخير البحار وفي آخره: فألقى البطاقة في النيل فأصبحوا يوم السبت وقد أجرى الله النيل ستة عشر ذراعاً في ليلة واحدة، قد قطع الله تلك السُّنَّة عن أهل مصر إلى اليوم. كما في التفسير لابن كثير. وأخرجه أيضاً ابن عساكر وأبو الشيخ وغيرهما.
تقحّم العلاء بن الحضرمي البحر بالمسلمين
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن سَهْم بن مِنْجاب قال: غزونا مع العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه فسرنا حتى أتينا دارين والبحر بيننا وبينهم، فقال: يا عليهم، يا حليم، يا علي، يا عظيم، إنا عبيدك، وفي سبيلك، نقاتل عدوك، اللهمّ فاجعل لنا إليهم سبيلاً، فتقحَّم بنا البحر فخضنا ما يبلغ لبودنا الماء، فخرجنا إليهم، وأخرجه أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه وزاد: فلما رآنا ابن مُكَعْبر - عامر كسرى - قال: لا والله لا نقاتل هؤلاء ثم قعد في سفينة فلحق بفارس. وأخرجه أبو نُعيم في الدلائل (ص208) عن أبي هريرة والطبراني عنه، وابن أبي الدنيا عن سَهْم بن مِنْجاب، والبيهقي عن أنس رضي الله عنه كما ستأتي أحاديث هؤلاء في تسخير البحار، وستأتي أحاديث عبور سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه دجلة يوم(4/23)
القادسية وفيها قول حُجر بن عدي رضي الله عنه: ما يمنعكم أن تعبروا إلى هؤلاء العدو إلاَّ هذه النطقة - يعني دجلة - {وما كان لنفس أن تمون إلا بإذن اكتابا مؤجلا} (سورة آل عمران، الآية: 145) ثم أقحم فرسه فلما أقحم أقحم الناس، فلما رآهم العدو قالوا: ديوانه فهربوا، أخرجه ابن حاتم عن حبيب بن ظِبيان.
طرد تميم الداري لنار خرجت في الحرّة
وأخرج أبو نعيم في الدلائل (ص212) عن معاوية بن حَرْمَل فذكر الحديث وفيه: خرجت نار بالحرة، فجاء عمر رضي الله عنه إلى تميم رضي الله عنه فقال: قُمْ إلى هذه النار، فقال: يا أمير المؤمنين من أنا؟ وما أنا؟ فلم يزل به حتى قام معه، قال: وتبعتهما فانطلقا إلى النار قال: فجعل يحوشها بيده هكذا حتى دخلت الشَّعب ودخل تميم خلفها، وجعل عمريقول: ليس من رأى كمن لم يره. وأخرجه البيهقي والبغوي كما سيأتي في التأييدات الغيبية في إطاعة النيران.
ما رأى عليه السلام حين ضرب الصخرة
يوم الخندق وما بشر به أصحابه
وأخرج النسائي عن أبي سكينة - رجل من البحرين - عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما أمر رسول الله بحفر الخندق عرضت لهم صخرة حالت بينهم وبين الحفر، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ المعول ووضع رداءه ناحية الخندق وقال: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ صِدْقاً} {وَعَدْلاً لاَّ مُبَدّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (سورة الأنعام، الآية: 115) .
فندر ثلث الحجر وسلم ان الفارسي رضي الله عنه قائم ينظر، فبرق مع ضربة رسول الله صلى الله عليه وسلم برقة، ثم ضرب الثانية وقال: ضرب الثانية وقال: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فندر الثلث الآخر وبرقت برقة فرآها سلمان. ثم ضرب الثالثة وقال: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدّلِ لِكَلِمَاتِهِ} {وَهُوَ(4/24)
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فندر الثلث الباقي. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ رداءه وجلس فقال سلمان: يا رسول الله رأيتك حين ضربت لا تضرب ضربة إلا كانت معها برقة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا سليمان رأيت ذلك» ؟ قال: أي والذي بعثك بالحق يا رسول الله، قال: «فإني حين ضربت الضربة الأولى رُفعت لي مدائن كسرى وما حولها ومدائن كثيرة حتى رأيتها بعينيَّ» ، فقال له من حضره من أصحابه: يا رسول الله ادعُ الله أن يفتحها علينا ويغنِّمنا ذراريهم ونخرب بأيدينا بلادهم، فدعا بذلك. قال: «ثم ضربت الضربة الثانية فرُفعت لي مدائن قيصر وما حولها حتى رأيتها بعينيَّ» ، قالوا: يا رسول الله ادعُ الله أن يفتحها علينا ويغنِّمنا ذراريهم ونخرب بأيدينا بلادهم، فدعا، ثم قال: «ثم ضربت الضربة الثالثة فرفعت لي مدائن الحبشة وما حولها من القرى حتى رأيتها بعينيَّ» ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «دَعُوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم» قال ابن كثير
في
البداية هكذا رواه النسائي مطوَّلاً وإنما روى منه أبو داود: «دعوا الحبشة ما ودعوكم واتركوا الترك ما تركوكم» - انتهى.
وأخرجه ابن جرير عن عمرو بن عوف المزني - فذكر حديثاً فيه: فجاء (النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ المعول من سلمان فضرب الصخرة ضربة صدعها وبرقتمنها برقة أضاءت ما بين لابتيها - يعني المدينة - حتى كأنها مصباح في جوف ليل مظلم، فكبَّر(4/25)
رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتحٍ وكبر المسلمون، ثم ضربها الثانية فكذلك، ثم الثالثة فكذلك، وذكر ذلك سلمان والمسلمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه عن ذلك النور فقال: «لقد أضاء لي من الأولى قصور الحيرة ومدائنكسرى كأنها أنياب الكلاب، فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ومن الثانية أضاءت القصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها. ومن الثالثة أضاءت قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا» واستبشر المسلمون وقالوا: الحمد لله موعود صادق، قال: زلمَّا طلعت الأحزاب قال المؤمنون: {هذا ما وعدنا اوروسله وصدق ا} {وروسله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما} (سورة الأحزاب، الآية 22) وقال المنافقون: يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق لا تستطيعون أن تبرزوا؟ فنزل فيهم: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} {ماوعدنا اوروسله إلا غرورا} (سورة الأحزاب، الآية 12) ؛ وقال ابن كثير في البداية: وهذا حديث غريب.
وقد أخرج الطبراني في حديث طويل عن ابن عباس رضي الله عنهما كما سيأتي في التأييدات الغيبية في بركة طعامهم في المغازي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «دعوني فأكون أول من ضربها» فقال: «بسم الله» ، فضربها فوقعت فِلقةٌ ثلثُها، فقال: «الله أكبر قصور الروم وربِّ الكعبة» ، ثم ضرب أخرى فوقعت فلقة، فقال: «الله أكبر قصور فارس وربِّ الكعبة» ، فقال عندها المنافقون: نحن نخندق على أنفسنا وهو يَعِدخنا قصور فارس والروح؟ قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن أحمد بن حنبل ونُعيم العنبري وهما ثقتان.(4/26)
انتهى.
شرب خاد السم وقول نصراني في الصحابة
وسيأتي في التأييدت الغيبية في ذهاب أثر السم شربُ خالد رضي الله عنه السمَّ وقوله: لن تموت نفس حتى تأتي على أجلها، وقول عمرو: والله يا معشر العرب لتملكِنَّ ما أردتم ما دام منكم أحد أيها القرن، وقوله لأهل الحيرة: لم أرَ كاليوم أمراً أوضح إقبالاً
أقوال الصحابة رضي الله عنهم في أن النصر ليس بالكثرة
وسيأتي في أسباب النصرة قول ثابت بن أقرم رضي الله عنه: يا أبا هريرة، كأنك ترى جموعاً كثيرة؟ قلت: نعم، قال: إنك لم تشهد بدراً معنا، إنَّا لم ننصر بالكثرة. وقول خالد حين قال له رجل: ما أكثر الروم وأقل المسلمين؟ فقال: ما أقل الروم وأكثر المسلمين؟ إنما تكثر الجنود بالنصر، وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال، والله لوددت أن الأشقر براء، وأنهم أُضعفوا في العدد. وكتاب أبي بكر رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه أما بعد: فقد جاءني كتابك تذكر ما جمعت الروم من الجموع، وإن الله لم ينصرنا مع نبيه صلى الله عليه وسلم بكثرة عدد ولا بكثرة جنود، وقد كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معنا إلاَّ فرسان وإن نحن إلا نعاقب الإبل، وكنّا يوم أُحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معنا إلاَّ فرس واحد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركبه، ولقد كان يُظهرنا ويعيننا على ما خالفنا.
وقدتقدم ما فعل أبو بكر رضي الله عنه في تنفيذ جيش أُسامة رضي الله(4/27)
عنه حين انتقضت عليه العرب من كل جانب، وارتدت العرب قاطبة، ونجم النفاق، وإشرأبت اليهودية والنصرانية والمسلمون كالغنم المطيرة في اللية الشاتية لفقد بنبيهم صلى الله عليه وسلم وقلتهم وكثرة عدوهم، فأشاروا عليه بحبس جيش أُسامة، فقال أبو بكر - وكان أحزمهم أمراً -: أنا أحبس جيشاً بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد اجترأت على أمر عظيم، والذي نفسي بيده لأن تميل عليَّ العرب أحب إليَّ من أن أحبس جيشاً بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إمض يا أُسامة في جيشك للوجه الذي أُمرت به ثم أغزُ حيث أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم من ناحية فلسطين وعلى أهل مؤتة؛ فإن الله سيكفي ما تركت. وتقدَّم في يوم مؤتة قول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه حين اجتمع العدو مائتي ألف: يا قومُ والله إنَّ التي تكرهون لَلَّتي خرجتم تطلبون: الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلاَّ بهذا الدين الذي أكرمنا الله به فانطلقوا؛ فإنما هي إحدى الحسنَيين: إما ظهور، وإما شهادة. , فقال الناس: قد واللَّهِ صدق ابن رواحة. وكمن من قصص الصحابة في هذا الموضوع منتشرة مسطورة في هذا الكتاب وفي كتب الأحايث والمغازي والسِّير، فلا نطيل الكتاب بذكرها وتكرارها.
حقيقة الإِيمان وكماله
قوله عليه السلام للحارث بن مالك:
كيف أصبحت؟ وجواب الحارث
أخرج ابن عساكر عن أنس رضي الله عنه قال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد والحارث بن مالك رضي الله عنه راقد، فحركه برجله وقال: «ارفع رأسك» فرفع رأسه، فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم «كيف أصبحت يا حارث بن مالك» ؟ قال: أصبحت يا رسول الله مؤمناً حقاً، قال: «إنَّ لكل حق حقيقة فما حقيقة ما تقول» ؟ قال: عزفتُ عن الدنيا،(4/28)
وأظمأت نهاري، وأسهرت ليلي، وكأني أنظر إلى عرش ربي، وكأني أنظر إلى أهل الجنة فيها يتزاورون وإلى أهل النار يتعاوَون، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «أنت أمرؤ نوّر الله قلبك، عرفتَ فالزم» . وأخرجه العسكري في الأمثال عن أنس نحوه إلاَّ أنّه سماه حارثة بن النعمان، وفي روايته: فقال: «أبصرت فالزم» ثم قال: «عبد نوَّر الله الإِيمان في قلبه» ، فقال: يا نبي الله، أُدع الله لي بالشهادة، فدعا له، قال: فنُودي يوماً: ي خيل الله اركبي، فكان أول فارس ركب وأول فارس استشهد. كذا في منتخب الكنز.
لغاية ص 420
تابع وأخرجه ابن النجار عن أنس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي إذ استقبله شاب من الأنصار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «كيف أصبحت يا حارث» ؟، قال: أصبحت مؤمناً بالله حقّاً، فقال: «انظر ما تقول فإنَّ لكل قول حقيقة» ، قال: يا رسول الله عَزَفْتْ - فذكر نحو حديث العسكري مع الزيادة في آخره، كما في المنتخب. وأخرجه ابن المبارك فيا لزهد عن صالح بن مسمار نحو سياق ابن عساكر، وفي رواية: قال: إنَّ لكل قول حقيقة فما حقيقة إيمانك» ؟ قال الحافظ في الإِصابة: وهو مُعْضل، وكذا أخرجه عبد الرزاق عن صالح بن مسمار وجعفر بن برقان وأخرجه في التفسير عن يزيد السلمي وجاء موصولاً - فذكر حديث أنس المذكور وقال: أخرجه الطبراني وابن منده ورواه البيهقي في الشُّعَب من طريق يوسف بن عطية الصفَّار وهو ضعيف جداً، وقال البيهقي: هذا منكر وقد خبط فيه يوسف فقال مرّة: الحارث، وقال مرّة: حارثة، وقال ابن صاعد: هذا الحديث لا يثبت موصولاً. انتهى مختصراً. وأخرجه البزّار عن(4/29)
أنس، قال الهيثيم: وفيه يوسف بن عطية لا يُحتج به، والطبراني عن الحارث بن مالك الأنصار أنه مرّ بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال له: كيف أصبحت يا حارثة؟ فذكر نحو حديث ابن عساكر، قال الهيثمي: وفيه ابن لهيعة، وفيه من يحتاج إلى الكشف عنه.
قوله عليه السلام لمعاذ: كيف أصبحت وجواب معاذ
وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن أنس بن مالك أن معاذ ابن جبل رضي الله عنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «كيف أصبحت يا معاذ» ؟ قال: أصبحت مؤمناً بالله تعالى، قال: «إنَّ لكل قول مصداقاً، ولكل حق حقيقة، فما مصداق ما تقول» ؟ قال: يا بني الله، ما أصبحت صباحاً قط إلاَّ ظننت أنِّي لا أمسي، وما أمسيت مساء قط إلاَّ ظننت أنِّي لا أصبح، ولا خطوت خطوة إلاَّ ظظنت أَنِّي لا أتبعها أخرى، وكأني أنظر إلى كل أمة جائية تُدعى إلى كتابها معها نبيهاً وأوثانها التي كانت تعبد من دون الله، وكأني أنظر إلى عقوبة أهل النار وثواب أهل الجنة، قال: «عرفت فالزم» .
قوله عليه السلام لسويد بن الحارث وأصحابه: ما أنتم؟ وجوابهم
وقد تقدَّم في باب الدعوة إلى الله وإلى رسوله من حديث سويد بن الحارث رضي الله عنه قال: وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سابع سبعة من قومي فلما دخلنا عليه وكلِّمناه فأعجبه ما رأى من سَمْتنا وزيِّنا، فقال: «ما أنتم؟» قلنا: مؤمنين، فتبسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «إنَّ لكل قول حقيقة وما حقيقة قولكم وإيمانكم» ؟ قال سويد فقلنا: خمس عشرة خصلة: خمسٌ منها أَمَرَتْنا رُسلُك أن نؤمن بها، وخمس منها أَمرتْنا رسلُك أَن نعمل بها، وخمس منها تخلّقنا بها(4/30)
في الجاهلية فنحن عليها إلا أن تكره منها شيئاً - فذكر الحديث في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره وأركان الإِسلام والأخلاق الطيبة.
قصة منافق جاء إلى النبي عليه السلام ليستغفر له فاستغفر له
وأخرجه أبو نُعيم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه حرملة بنزيد الأنصاري رضي الله عنه - أحد بني حارثة - فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله الإِيمان ههنا - وأشار بيده إلى لسانه -، والنفاق ههنا - ووضع يده على صدره - ولا يذكر الله إلاَّ قليلاً، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وردّ ذلك حرملة، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بطرف لسان حرملة فقال: «اللهم اجعل له لساناً صادقاً، وقلباً شاكراً، وإرزقه حبي وحب من يحبني، وصيِّر أمره إلى خير» فقال له حرملة: يا رسول الله إن لي إخواناً منافقين كنت فيهم رأساً أفلا أدلُّك عليهم؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم «من جاءنا كما جئتنا استغفرنا له كما استغفرنا لك، ومن أصر على ذلك فالله أولى به» كذا في الكنز. وأخرجه الطبراني وإسناده لا بأس به، وأخرجه ابن مَنْدَة أيضاً، وروينا في فوائد هشام بن عمار رواية أحمد بن سليمان من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه نحوه، كذا في الإِصابة.
الإِيمان بذات الله عز وجل وصفاته تبارك وتعالى
إكثار صحابي من قراءة سورة الإِخلاص
أخرج البيهقي في الأسماء والصفات (ص208) عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على سرية، فكان يقرأ لأصحابه في صلواتهم فيختم(4/31)
بقل هو الله أحد، فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «سلوه لأي شيء يصنع هذا» ؟ فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن، فأنا أحب أن أقرأها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أخبروه أنَّ الله عز وجل يحبه» . وأخرجه الشيخان عن عائشة، كما قال البيهقي:
تصديقه عليه السلام لحبر يهودي تكلم عن الله سبحانه
وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات (ص245) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد - أو يا رسول الله - إن الله جعل السماوات على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال والشجر على أصبع، والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، فيهزهن فيقول: أنا الملك، قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر، ثم قال: {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالاْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (سورة الزمر، الآية: 67) - إلى آخر الآية. وأخرجه الشيخان في صحيحيهما كما قال البيهقي.
حديث أنس وأبي ذر في كيف يحشر الله الناس
وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات (ص356) عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم سئل: كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال: «الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادر أن يمشيه على وجهه يوم القيامة» . وأخرجه الشيخان وأحمد والنسائي وابنأبي حاتم والحاكم وغيرهم نحوه عن(4/32)
أنس، كما في الكنز. وأخرج أحمد عن حذيفة بن أُسيد قال: قام أبو ذر رضي الله عنه فقال: يا بني غفار قولوا ولا تحلفوا، فإنَّ الصادق المصدوق حدثني أن الناس يحشرون على ثلاثة أفواج: فوج راكبين طاعمين كاسين، وفوج يمشون ويسعَون، وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم وتحشرهم إلى النار؛ فقال قائل منهم: هذان قد عرفناهما فما بال الذين يمشون ويسعَون؟ قال: يلقي الله عز وجل الآفة على الظَّهر حتى لا يبقى ظهر، حتى أنَّ الرج لتكون له الحديقة فيعطيها بالشارف ذات القتب فلا يقدر عليها، كذا في التفسير لابن كثير. وأخرجه الحاكم عن حذيفة عن أبي ذر نحوه، هذا حديث صحيح الإِسناد إلى الوليد بن جَميع ولم يخرِّجاه وقال الذهبي: الوليد قد روى له مسلم متابعة واحتج به النَّسائي.
أمره عليه السلام أصحابه بأن يقولوا
ما شاء الله وحده لا شريك له
وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات (ص110) عن الطفيل بن عبد الله رضي الله عنه - وكان أخا عائشة رضي الله عنها لأمها - أنه رأأ فيما يرى النائم أنه لقي رهطاً من النصارى فقال: نعم القوم أنتم لولا أنكم تزعمون أن المسيح بن الله، قال: أنتم القوم لولا تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، ثم لقي رهطاً من اليهود فقال: أنتم القوم لولا أنكم تزعمون أن عُزَيْراً ابن الله، قال: وأنتم قوم تقولون(4/33)
ما شاء الله وشاء محمد، قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقصَّها عليه، فقال صلى الله عليه وسلم «حدَّثت بها أحداً بعد» ؟ فقال: نعم، فحمد الله تعالى وأنثى عليه ثم قال: «إنَّ أخاكم قد رأى ما بلغكم فلا تقولوها، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده لا شريك له» . وعنده أيضاً عن حذيفة رضي الله عنه قال: رأى رجل من المسلمين في النوم أنه لقي رجلاً من أهل الكتاب فقال: نعم القوم أنتم لولا أنكم تشركون تقولون: ما شاء الله ومحمد، فذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إنِّي كنت لأكرهها لكم، وقولوا ما شاء الله ثم شاء فلان» . وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات (ص110) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلِّمه في بعض الأمر فقال الرجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أجلعتني لله عِدْلاً؟ بل شاء الله وحده» .
سؤال يهودي النبي عليه السلام عن المشيئة وجوابه له
وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات (ص111) عن الأوزاعي قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم يهوديٌّ فسأله عن المشيئة، فقال: «المشيئة لله تعالى» قال: فإن أشاء أن أقوم، قال: «قد شاء الله أن تقوم» ، قال: فإني أشاء أن أقعد، قال: «فقد شاء الله أن تقعد» ، قال فإني أشاء أن أقطع هذه النخلة، قال: «فقد شاء الله أن تقطعها» ، قال فإني أشاء أن أتركها، قال: «فقد شاء الله أن تتركها» . قال: فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فقال: لُقِّنت حجتك ما لُقَّنها إبراهيم عليه السلام، قال: ونزل القرآن فقال: {مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ} {أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِىَ الْفَاسِقِينَ} (سورة الحشر، الآية 5) قال البيهقي: هذا وإِنْ كان مرسلاً فما قبله من الموصولات في معناه يؤكده انتهى.(4/34)
نومه عليه السلام وأصحابه عن الصلاة بالمشيئة
وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات (ص109) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية نزل منزلاً فعرَّس فيه، فقال: «من يحرسنا» ؟ فقال عبد الله نا أنا فقال: «أنت» مرتين أو ثلاثاً يعني أنك تنام - ثم قال صلى الله عليه وسلم «أنت لها» فحرست، فلما كان في وجه الصبح أدركني ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فنمت، فلم نستيقظ إلاَّ بحرِّ الشمس على ظهورنا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصنع كما كان يصنع، ثم صلَّى الصبح، ثم قال: «إن الله تعالى لو شاء لم تناوا عنها؛ ولكن أراد أن تكون لمن بعدكم فهكذا» أي لمن نام أو نسي. وعنده أيضاً عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه رضي الله عنه في حديث الميضأة قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم «إنَّ الله تعالى قبض أرواحكم حين شاء وردّها حين شاء» فقضَوا حوائجهم، فتوضأوا إلى أن ابيضت - يعني الشمس - ثم قال فصلَّى، وأخرجه البخاري في الصحيح بهذا الإِسناد، كما قال البيهقي.
سؤال يهودي عمر بن الخطاب عن آية: وجنّة عرضها السموات والأرض
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن خسرو - وهو لفظه - عن طارق بن شهاب قال: جاء يهودي إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: أرأيت قوله تعالى: {وجنة عرضها السموات والأرض} (سورة آل عمران، الآية: 133) فأين النار؟ فقال(4/35)
عمر لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أجيبوه، فلم يكن عندهم فيها شيء، فقال عمر: أرأيت النهار إذا جاء الليل يملأ الأرض فأين الآخر؟ قال: حيث شاء الله، فقال عمر: والنار حيث شاء الله، فقال اليهودي: والذي نفسي بيده يا أمير المؤمنين إنها لفي كتاب الله المنزَّل كما قلت. كذا في الكنز.
محاججة علي لرجل يقول في المشيئة
وأخرج ابن أبي حاتم عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي رضي الله عنه قال: قيل لعلي: إنَّ ههنا رجلاً يتكلم في المشيئة، فقال له علي: يا عبد الله خلقك الله كما يشاء أو كما شئت؟ قال: بل كما شاء، قال: فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال: بل إذا شاء، قال: فيشفيك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال بل إذا شاء، قال: فيدخلك حيث شئت أو حيث شاء؟ قال: بل حيث يشاء، قال: والله لو قلتَ غير ذلك لضربت الذي فيه عيناك بالسيف، كذا في التفسير لابن كثير.
قوله عليه السلام لأصحابه: ليس ذلكم النفاق
وأخرج البزار في مسنده عن أنس رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله إنا تكون عندك على حال، فإذا فارقناك كنَّا على غيره، قال: «كيف أنتم وربكم؟» قالوا: الله ربنا في السر والعلانية، قال: «ليس ذلكم النفاق» . كذا في التفسير لابن كثير.
قصته عليه السلام مع أعرابي في شأن الحساب
وأخرج ابن النجار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء أعرابي إلى(4/36)
النبي صلى الله عليه وسلم قال: من يحاسب الخلق يوم القيامة يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم «الله عز وجل» ، فقال الأعرابي: نجونا وربِّ الكعبة فقال: «وكيف يا أعرابي» ؟ فاقل: إن الكريم إذا قدر عفا. كذا في الكنز.
قصة معاذ حين بعثه عمر ساعيا
وأخرج عبد الرزاق، والمحاملي في أماليه عن سعيد بن المسيِّب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث معاذاً رضي الله عنه ساعياً على بني كِلاب، فقسم فيهم حتى لم يَدَع شيئاً، حتى جاء بحِلْسِه الذي خرج به يحمله على رقبته، فقالت له امرأته: أين ما جئت به مما يأتي به العمال (من) عُراضة أهليهم؟ فقال: كان معي ضاغط، فقالت: قد كنت أميناً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه، فبعث عمر رضي الله عنه معك ضاغطاً فقامت بذلك في نسائها واشتكت عمر؛ فبلغ ذلك عمر فدعا معاذاً فقال: أنا بعثت معك ضاغطاً؟ فقال: لم أجد شيئاً اعتذر به إليها إلاَّ ذلك، فضحك عمر وأعطاه شيئاً فقال: أرضها به، قال ابن جرير: قول معاذ: الضاغط - يريد به ربه عز وجل؛ كذا في الكنز.
حديث عائشة في قصة المجادلة
وأخرج الإِمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: الحمد لله وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلِّمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى(4/37)
زَوْجِهَا} (سورة المجادلة، الآية: 1) إلى آخر الآية. وهكذا رواه البخاري في كتاب التوحيد تعليقاً. كذا في التفسير لابن كثير. وأخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (ص36) . وفي رواية لابن أبي حاتم كما في التفسير لابن كثير عن عائشة أنها قالت: تبارك الذي أوعى سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة - رضي الله عنها - ويخفى عليَّ بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول: يا رسول الله، أكل مالي، وأفنى شبابي، ونثرت له بطني؛ حتى إذا كبرتْ سني وانقطع ولدي ظاهر مني. اللهمَّ إني أشكو إليك. قالت: فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا} قالت: وزوجها أوس ابن الصامت - رضي الله عنه.
أقوال أبي بكر رضي الله عنه في الإِيمان بالله سبحانه
وأخرج البخاري في تاريخه وعثمان الدارمي في الردِّ على الجهيمة والأصبهاني في الحجة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر رضي الله عنه: أيها الناس، إنْ كان محمد إلهكم الذي تعبدون فإنه قد مات، وإن كان إلهكم الذي في السماء إهلكم لم يمت، ثم تلا {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} (آل عمران، الآية: 144) - الآية، قال ابن كثير: رجال إسناده ثقات. كذا في الكنز.(4/38)
وقد تقدَّم في اجتماع الصحابة على أبي بكر الصدِّيق خطبة أبي بكر وفيها: إنَّ الله عمَّر محمداً صلى الله عليه وسلم وأبقاه حتى أقام دين الله، وأظهر أمر الله، وبلَّغ رسالة الله، جاهد في سبيل الله، ثم توفَّاه الله على ذلك، وقد ترككم على الطريقة، فلن يهلك هالك إلاَّ من بعد البينة والشفاء، فمن كان الله ربه فإن الله حي لا يموت، ومن كان يعبد محمداً وينزله إلهاً فقد هلك إلهه، فاتقوا الله إليها الناس واعتصموا بدينكم، وتوكَّلوا على ربكم، فإن دين الله قائم، وإن كلمة الله تامة، وإن الله ناصر من نصره ومعز دينه، وإن كتاب الله بين أظهرنا، وهو النور والشفاء، وبه هدى الله محمداً صلى الله عليه وسلم وفيه حلال الله وحرامه، والله لا نبالي من أجلب علينا من خلق الله، إن سيوف الله لمسلولة ما وضعناها بعد، ولنجاهدنَّ من خالفنا كما جاهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه البيهقي عن عروة بن الزبير.
قول عائشة حين مات امرأة وهي ساجدة في بيتها.
وأخرج الحاكم عن علقمة أُمه أن امرأة دخلت بيت عائشة رضي الله عنها، فصلَّت عند بيت النبي صلى الله عليه وسلم وهي صحيحة، فسجدت فلم ترفع رأسها حتى ماتت، فقالت عائشة: الحمد لله الذي يحيى ويمي، إنَّ في هذه لعبرة لي في عبد الرحمن بن أبي بكر، رَقَد في مَقِيل له قَاله، فذهبوا يوقظونه فوجوده قد مات، فدخل نفس عائشة تُهَمة أن يكون صُنع به شرٌّ أو عُجِّلعليه فدفن وهو حيٌّ، فرأت أنه عبرة لها وذهب ما كان في نفسها من ذلك.(4/39)
الإِيمان بالملائكة
قول علي في طغيان الماء والريح
يوم نوح ويوم عاد إلى الملكين
أخرج ابن جرير عن علي رضي الله عنه قال: لم تنزل قطرة من ماء إلاَّ بكيل على يدي ملك، إلاَّ يوم نوح عليه السلام، فإنه أُذن للماء دون الخزَّان، فطغى المال على الخزّان فخرج، فذلك قوله: {أنا لما طغى الماء} (سورة الحاقة، الآية: 11) ولم ينزل شيء من الريح إلاَّ بكيل على يدي ملك إلاَّ يوم عاد، فإنه الذن لهادون الخزّان، فخرجت فذلك قوله: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} (سورة الحاقة، الآية: 6) ، عتت على الخزّان، كذا في الكنز.
قول سلمان عند الموت: إنَّ لي زواراً يدخلون علي
وأخرج ابن سعد عن الشَّعبي عن الجزْل عن إمرة سلمان رضي الله عنهما بُقيرة، أنه لما حضرته الوفاة - دعاني وهو في عِلِيَّة له لها أربعة أبواب، فقال: افتحي الأبواب يا بُقيرة، فإنَّ لي اليوم زُوّاراً لا أدري من أي هذه الأبواب يدخلون عليَّ. ثم دعا بِمسْك له، فقال: أديفيه(4/40)
في تنور، ففعلت، ثم قال: أنضحيه حول فراشي ثم إنزلي فأمكثي فسوف تطَّلعين فتري على فراشي، فاطَّلعت فإذا هو قد أُخذ روحه، فكأنما هو نائم على فراشه ونحواً من هذا. وعنده أيضاً عن الشَّعْبي قال: لما حضرت سلمان الوفاة قال لصاحبة منزله: هَلُمِّي خبِيَّك الذي استخبأتك، قالت: فجئته بصرّة مِسْك. قال: فقال: إئتني بقدح فيه ماء، فنثر المسك فيه ثم ماثه بيده، ثم قال: إنضحيه حولي فإنه يحضرني خَلْق من خلق الله يجدون الريح ولا يأكلون الطعام، ثم إجفئي عليَّ الباب وانزلي. قالت: ففعتل، وجلست هنيهة فسمعت هسهسة، قالت: ثم صعدت فإذا هو قد مات. وعنده أيضاً عن عطاء بن السائب فذكره مختصراً وفيه: فإنه يحضرني الليلة ملائكة يجدون الريح ولا يألكون الطعام. وسيأتي بعض قصص الباب في باب التأييدات الغيبية في المدد بالملائكة.
الإِيمان بالقدر
قوله عليه السلام لعائشة حين حضر جنازة صبي من الأنصار
أخرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: دُعي النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار، فقلت: يا رسول الله، طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أو غير ذلك يا عائشة، إنَّ(4/41)
الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم» . كذا في التفسير لابن كثير.
وصية عبادة بن الصامت لابنه بالإِيمان بالقدر خيره وشره
وأخرج الإِمام أحمد عن الوليد بن عبادة قال: دخلت على عبادة رضي الله عنه وهو مريض أتخايل فيه الموت، فقلت: يا أبتاه أوصني واجتهتد لي، فقال أجلسوني، فلما أجلسوه قال: يا بني إنك لم تُعطم الإِيمان ولم تبلغ حقّ حقيقة العلم بالله حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، قلت: يا أبتاه، وكيف لي أن أعلم ما خيرُ القدر وشره؟ قال: تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك. يا بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ أول ما خلق الله القلم، ثم قال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة» . يا بني إنْ متَّ ولستَ على ذلك دخلت النار. وأخرجه الترمذي عن الوليد بن عبادة عن أبيه وقال: حسن صحيح غريب كما في التفسير لابن كثير.w
بكاء أحد الأصحاب وهو يموت لأنه لا يدري ما قدّر الله له
وأخرج أحمد عن أبي نضرة أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له أبو عبد الله رضي الله عنه دخل عليه أصحابه يعودونه وهو يبكي، فقالوا له: ما يبكيك؟ ألم يقل لك رسول الله صلى الله عليه وسلم «خذ من شاربك ثم أقرره حتى تلقاني» قال: بلى، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ الله عز وجل قبض قبضة(4/42)
بيمينه فقال: هذه لهذه ولا أبالي، وقبض قبضة أخرى - يعني بيده الأخرى - فقال: هذه لهذه لا أبالي» ، فلا أدري في أيِّ القبضتين أنا؛ قال الهيثمي: رجالهرجال الصحيح.
بكاء معاذ حين حضره الموت لأنه لا يدري ما قدّر الله له
وأخرج الطبراني عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: لما أن حضره الموت بكى فقال له: ما يبيك؟ قال: والله لا أبكي جزعاً من الموت ولا دنيا أخلِّفها بعدي؛ ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما هما قبضتان: فقبضة في النار، وقبضة في الجنة» ، ولا أدري في أيِّ القبضتين أكون، قال الهيثمي وفيه البراء بن عبد الله العنوي وهو ضعيف والحسن لم يدرك معاذاً.
قول ابن عباس فيمن تكلَّم في القدر
وأخرج أحمد عن محدم بن عبيد المكي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قيل له إن رجلاً قدم علينا يكذّب بالقدر فقال: دلُّوني عليه - وهو يومئذ قد عمي - قالوا: وما تصنع به يا أبا عباس؟ قال: والذي نفسي بيده لئن استمكنت منه لأعضنَّ أنفه حتى أقطعه، ولئن وقعت رقبته في يدي لأدقنَّها فإن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كأني بنساء بني فهر يطفن بالخزرج تسطفق ألياتهن مشركات، هذا أول شرك هذه الأمة، والذي نفسي بيده لينتهينَّ بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يكون قدَّر خيراً كما أخرجوه من أن يكون قدَّر شراً» .(4/43)
وعند ابن أبي حاتم عن عطاء ابن أبي رباح قال: أتيت ابن عباس وهو ينزع من ماء زمزم وقد ابتلت أسافل ثيابه، فقلت له: قد تُكُلِّم في القدر، فقال: أوَقَد فعلوها؟ قلت: نعم، قال: فوالله ما نزلت هذه الآية إلاَّ فيهم {ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ} {إِنَّا كُلَّ شَىْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (سورة القمر، الآيتان: 48 و49) أولئك شرار هذه الأمة، فلا تعودوا مرضاهم، ولا تصلُّوا على موتاهم، إن رأيت أحداً منهم فقأت عينيه بأصبعيَّ هاتين. كذا في التفسير لابن كثير. وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لوددتُ أنَّ عندي رجلاً من أهل القدر فوجأت رأسه قالوا: ولم ذاك؟ قال: لأن الله تعالى خلق لوحاً محفوظاً من درة بيضاء، دفّتاه ياقوتة حمراء، قلمه نور، وكتابه نور، وعرضه ما بين السماء والأرض، ينظر فيه كل يوم ستين وثلاثمائة نظرة، يخلق بكل نظرة، ويحيي ويميت، ويعز ويذل، ويفعل ما يشاء.
مقاطعة ابن عمر لصديق له تكلم في القدر
وأخرج أحمد عن نافع قال: كان لابن عمر رضي الله عنهما صديق من أهل الشام يكاتبه، فكتب إليه عبد الله بن عمر أنه بلغني أنك تكلَّمت في شيء من القدر، فإياك أن تكتب إليَّ: فإن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سيكون في أمتي أقوام يكذِّبون بالقدر» . وأخرجه أبو داود عن أحمد بن حنبل به، كما في التفسير لابن كثير.(4/44)
قول علي في القدر وفيمن تكلم فيه
وأخرج ابن عبد البر في العلم عن النَّزَّال بن سَبْرة قال: قيل لعلي رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين، إنَّ ههنا قوماً يقولون: إنَّ الله لا يعلم ما يكون حتى يكون، فقال: ثلكتهم أمهاتهم من أين قالوا هذا؟ قيل: يتأوَّلون القرآن في قوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (سورة محمد، الآية: 31) فقال علي: من لم يعلم هلك، ثم سعد المنبر بحمد الله وأثنى عليه وقال: يا أيها الناس تعلَّموا العلم واعملوا به وعلِّموه، ومن أشكل عليه شيء من كتاب الله فليسألني، وبلغني أنَّ قوماً يقولون: إنَّ الله لا يعلم ما يكون حتى يكون لقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ} وإنما قوله: حتى نعلم، ويقول: حتى نرى من كتب عليه الجهاد والصبر إن جاهد وصبر على ما نابه وأتاه مما قضيت عليه، كذا في الكنز. وتقدَّم في التوكل قول علي رضي الله عنه: إنَّه لا يكون في الأرض شيء حتى يُقضى في السماء، وليس من أحدإلاَّ وقد وُكِّل به ملكان يدفعان عنه ويكلآنه حتى يجيء قدره، فإذا جاء قدره خَلَّياً بينه وبين قدره، وإنَّ عليَّ من الله جُنَّةً حصينة، فإذا جاء أجلي كُشف عني، وإنه لا يجد طعم الإِيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. أخرجه أبو داود في القدر.
ما كان يُنشد عمر على المنبر في القدر
وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات (ص243) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه كثيراً ما يخطب، كان يقول على(4/45)
المنبر:
خفِّض عليك فإن الأمورْ
بكف الإِله مقاديرها
فليس بآتيك مَنْيُّها
ولا قاصرٌ عنك مأمورُها
الإِيمان بأشراط الساعة
ما قاله عليه السلام حين نزلت: فإذا نقر في الناقور
أخرج ابن أبي شيبة والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت {فَإِذَا نُقِرَ فِى النَّاقُورِ} (سورة المدثر، الآية: 8) قال النبي صلى الله عليه وسلم «كيف أنعم وصاحب القَرْن قد التقم القرن، وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ» ؟ فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكيف نقول؟ قال: «قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا» ، كذا في الكنز وقال: وهو حسن، وأخرجه الباوردي عن الأرقم بن أبي الأرقم نحوه، وفي رواية: فلما سمعه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتد ذلك عليهم وقالوا: يا رسول الله كيف نصنع؟ قال: «قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل» .
خوف سودة اليمانية من خروج الدجار
وقد تقدَّم في معاشرة النساء قول حفصة لسودة رضي الله عنهما: يا سودة خرج الأعور، قالت: نعم ففزعت فزعاً شديداً، فجعلت تنتفض، قالت: أي أختبىء؟ قالت: عليك بالخيمة - هخيمة لهم من سعف يختبئون فيها - فذهبت(4/46)
فاختبأت فيها، وفيها القذر ونسيج العنكبو، فذكر الحديث وفيه: فذهب - أي رسول الله - فإذا سودة تُرْعد؛ فقال لها: «يا سودة مالك» ؟ قالت: يا رسول الله خرج الأعور قال: «ما خرج وليخرجنَّ، ما خرج وليخرجنَّ» ، فأخرجها فجعل ينفض عنها الغبار ونسيج العنكبوت؛ أخرجه أبو يعلى والطبراني عن رزينة رضي الله عنها مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
قول الصدِّيق وابن عباس في الدجال
وأخرج ابن أبي شيبة عن سيعد بن المسيَّب قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: هل بالعراق أرض يقال لها خراسان؟ قالوا: نعم، قال: فإن الدَّجال يخرج منها، وعند نُعيم بن حماد في الفتن عن أبي بكر الصدِّيق قال: يخرج الدجال من مَرُو من يهوديتها. كذا في الكنز. وأخرج ابن جريرعن عبد الله بن أبي مُليكة قال: غدوت عى ابن عباس رضي الله عنهما ذات يوم فقال: ما نمت الليلة حتى أصبحت، قلت: لم؟ قال: قالوا: طلع الكوكب ذو الذنب، فخشيت أن يكون الدخان قد طرق، فما نمت حتى أصبحت، وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن عبد الله بن أبي مليكة عن ابن عباس، وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس. كذا في التفسير لابن كثير. وأخرجه الحاكم عن ابن أبي مُليكة نحوه غير أن في روايته:(4/47)
فخشيت أن يكون الدجال قد طَرَق، قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرِّجاه ووافقه الذهبي.
الإِيمان بما هو كائنن في القبر والبرزخ
قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو على فراش الموت
أخرج أحمد في الزهد عن عبادة بن نَسيّ قال: لمّا حضرت أبا بكر رضي الله عنه الوفاةُ قال لعائشة رضي الله عنها: أغسلي ثوبيَّ هذين وكفنين بهما؛ فإنما أبوك أحد رجلين: إما مكسو أحسن الكسوة، أو مسلوب أسوأ السلب. كذا في المنتخب، وعنده أيضاً وابن سعد والدغولي عن عائشة قالت: لما حُضر أبو بكر قلت:
لعمرك ما يُغني عن الفتى إذا
حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فقال أبو بكر: لا تقولي هكذا يا بنية، ولكن قولي: {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ} {بِالْحَقّ} {ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} (سورة ق، الآية: 19) وقال: انظروا ثوبيِّ هذين فاغسلوهما ثم كفِّنوني فيهما؛ لأن الحيَّ أحوج إلي الجديد نم الميت، إنما هو للمهلة. وعند أبي يعلى وأبي نعيم والدغولي والبيهقي عن عائشة قالت: لما اشتدَّ مرض أبي بكر بكيت، وأغمي عليه فقلت:
من لا يزال دمعه مقنّعاً
فإنه من دمعه مدفوقُ(4/48)
فأفاق فقال: ليس كما قلت يا بنية، ولكن «وجاءت سكرة الموت بالحق، ذلك ما كنت منه تحيد» . ثم قال: أيُّ يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يوم الإثنين، فقال: أي يوم هذا؟ فقلت: يوم الإثنين، قال: فإني أرجو من الله ما بيني وبين هذا الليل، فمات ليلة الثلاثاء، وقال: في كم كُفِّن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: كفَّناه في ثلاثة أثواب سَحُولية بيض جُدُد ليس فيها قميص ولا عمامة، فقال: اغسلوا ثوبي هذا وبه رَدْع من زعفران واجعلوا معه ثوبين جديدين؛ فقلت: إنه خَلَق، فقال: الحي أحوج إلى الجديد من الميت، إنما هو للمهلة، كذا في المنتخب. وفي سياق ابن سعد: إنما يصير إلى الصديد وإلى البلى.
قول عمر رضي الله عنه وهو على فراش الموت
وأخرج ابن سعد عن يحيى بن أبي راشد النصري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما حضرته الوفاة قال لابنه: يا بني إذا حضرتني الوفاة فاحرفني، واجعل ركبتيك في صلبي، وضع يدك اليمنى على جبيني ويدك اليسرى على ذَقني، فإذا قُبضت فأغمضني، واقصدوا في كفني، (فإنَّه إن يكن لي عند الله خيرا أبدلني خيراً منه، وإن كنت على غير ذلك سلبني فأسرع سلبي، واقصدوا في حفرتي) فإنه إن يكن لي عند الله خير وسَّع لي فيها مدّ(4/49)
بصري، وإن كنت على غير ذلك ضيّقها عليَّ حتى تختلف أضلاعي، ولا تُخرِجنَّ معي امرأة، ولا تزكُّوني بما ليس فيّ، فإنّ الله هو أعلم بي، وإذا خرجتم بي فاسرعوا في المشي، فإنه إن يكن لي عند الله خير قدمتموني إلى ما هو خير لي، وإن كنت على غير ذلك كنتم قد ألقيتم عن رقابكم شرّاً تحملونه. وأخرجه ابن أبي الدنيا في القبور عن يحيى نحوه كما في المتخب. وقد تقدَّم في جعل الأمرشورى بين المستصلحين له قول عمر حين عرف أنه الموت قال: الآن لو أنَّ لي الدنيا كلها لافتديت بها من هول المطَّلَع، وقوله لابنه: ألصق خدي بالأرض يا عبد الله بن عمر، فوضعته من فخذي على ساقي فقال: ويلك وويل أمك يا عمر إن لم يغفر الله لك يا عمر ثم قبض رحمه الله. أخرجه الطبراني في حديث طويل عن ابن عمر رضي الله عنهما وحسَّن إسناده الهيثيم.
بكاء عثمان رضي الله عنه حينما كان يقف على القبور
وتقدّم في البكاء عن هانىء قال: كان عثمان رضي الله عنه إذ وقف على قبر يبكي حتى يبلّ لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي وتذكر القبر فتبكي - فذكر الحديث، أخرجه الترمذي وحسَّنه.
قول حذيفة رضي الله عنه وهو على فراش الموت
وأخرج البخاري في الأدب (ص72) عن خالد بن الربيع قال: لما ثقل حذيفة(4/50)
رضي الله عنه سمع بذلك رهطه والأنصار، فأتوه في جوف الليل أو عند الصبح، فقال: أي ساعة هذه؟ قلنا: جوف الليل أو عند الصبح، فقال: أعوذ بالله من صباح (إلى) النار قال: جئتم بما أُكفن به؟ قلنا: نعم، قال: لا تغالَوا بالأكفان؛ فإنه إنْ يكن لي عند الله خير بُدِّلت به خيراً منه، وإن كانت الأخرى سُلِبت سلباً سريعاً. وأخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي وائل قال: لما ثقل حذيفة أتاه أناس من بني عبس فأخبرني خالد بن الربيع العبسي قال: أتيناه وهو بالمدائن حتى دخلنا عليه جوف الليل - فذكر نحون. وأخرجه الحاكم في المستدرك عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه بمعناه مختصراً. وعند أبي نعيم في الحلية عن صلة ابن زُفَر أن حذيفة بعثني وأبا مسعود فابتعنا له كفناً حُلَّة عَصْب بثلاثمائة درهم، فقال: أرياني ما ابتعتما لي؛ فأريناه فقال: ما هذا لي بكفن، إنما يكفي ريطتان بيضاوان ليس معهما قميص، فإني لا أُترك إلاَّ قليلاً حتى أُبدل خيراً منهما أو شراً منهما، فابتعنا له ريطتين بيضاوين. وعنده أيضاً عن أبي مسعود مختصراً، وفي روايته: ما تصنعون بهذا؟ إن كان صاحبكم صالحاً ليبدلنَّ الله تعالى به، وإن كان غير ذلك ليترامنَّ به رَجَواها إلى يوم القيامة. وأخرجه الحاكم عن قيس بن أبي حازم نحوه، وفي روايته: وإن كان غير ذلك ليضربنَّ الله به وجهه يوم القيامة.(4/51)
قول أبي موسى رضي الله عنه وهو يحتضر
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن الضحاك بن عبد الرحنم قال: دعا أبو موسى الأشعير رضي الله عنه فتيانه حين حضرته الوفاة فقال: اذهبوا واحفروا وأوسعوا وأعمقوا، فجاؤوا فقالوا: قد حفرنا وأوسعنا وأعمقنا، فقال: والله إنها لإحدى المنزلتين: إما ليفتحنَّ لي باب إلى الجنة فلأنظرنَّ إلى أزواجي ومنازلي وما أعد الله تعالى لي من الكرامة، ثم لأكوننَّ أهدى إلى منزلي مني اليوم إلى بيتي، ثم ليصيبني من ريحها ورَوْحها حتى أُبعث. ولئن كانت الأخرى - ونعوذ بالله منها - ليضيقنَّ عليَّ قبري حتى يكون في أضيق من القناة في الزج، ثم ليفتحنَّ لي باب من أبواب جهنم، فلأنظرنَّ إلى سلاسلي وأغلالي وقرنائي، ثم لأكوننَّ إلى مقعدي من جهنم أهدى مني اليوم إلى بيتي، ثم ليصيبني من سمومها وحميها حتى أبعث.
تمني أسيد بن حضير أن يكون في أحد أحوال ثلاثة
وأخرج أبو نُعيم والبيهقي وابن عساكر عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان أسيد بن حُضَير رضي الله عنه من أفاضل الناس وكان يقول: لو أني أكون كما أكون على حال من أحوال ثلاثة لكنت من أهل الجنة وما شككت في ذلك: حين أقرأ القرآن وحين أسمعه يُقرأ، وإذا سمعت خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا شهدت جنازة، وما شهدت جنازة قط فحدثتُ نفسي سوى ما هوم مفعول بها وما هي صائرة إليه. كذا في المنتخب.(4/52)
الإِيمان بالآخرة
وصفه عليه الصلاة والسلام للجنة
أخرج أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قلنا؛ يا رسول الله إنا إذا رأيناك رقَّت قلوبنا وكنا من أهل الآخرة، فإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا وشمِمنا النساء والأولاد، قال صلى الله عليه وسلم «لو أنكم تكونون على كل حال على الحال التي أنتم عليها عندي لصافحتكم الملائكة بأفكهم، ولزارتكم في بيوتكم، ولو لم تذنبوا لجاء الله عز وجل بقوم يذنبون كي يفغر لهم» ، قلنا: يا رسول الله حدثنا عن الجنة ما بناؤها؟ قال صلى الله عليه وسلم «لبنة ذهب ولبنة فضة، ومِلاطها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه. ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم تحمل على الغمام وتُفتح لها أبواب السماوات، ويقول الرب تبارك وتعالى: {وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين} . وروى الترمذي وابن ماجه بعضه، كما في التفسير لابن كثير.
قصة فاطمة مع أبيها صلى الله عليه وسلم حين ذهبت إليه للدنيا ورجعت من عنده بالآخرة
وأخرج أبو الشيخ في جزء من حديثه عن سويد بن غَفَلة قال: أصابت علياً رضي الله عنه خصاصة، فقال لفاطمة رضي الله عنها: لو أتيتِ النبي(4/53)
صلى الله عليه وسلم فسألته، فأتته وكان عنده أم أيمن رضي الله عنها، فدقت الباب فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأم أيمن: «إنَّ هذا لَدَقُّ فاطمة، ولقد أتتنا في ساعة ما عودتنا أن تأتينا في مثلها» ، فقالت: يا رسول الله هذه الملائكة طعامها التهليل والتسبيح والتحميد ما طعامنا؟ قال: «والذي بعثني بالحق ما اقتبس في بيت آل محمد منذ ثلاثين يوماً، ولقد أتتنا أعنز، فإن شئت أمرنا لك بخمسة أعنز، وإن شئت علمتك خمس كلمات علمنيهنَّ جبريل» ، فقالت: بل علمني الخمس كلمات التي علمكهنَّ جبريل، قال: «قولي: ياأول الأولين، ويا آخر الآخرين، وياذا القوة المتين، ويا راحم المساكين، ويا أحرم الراحمين» فانصرفت فدخلت على عليَ فقال: ما وراءك؟ فقالت: ذهبت من عندك للدنيا وأتيتك بالآخرة، فقال: خير أيامك. كذا في الكنز وقال: ولم أرَ في رواته من جُرح إلا أن صورته صورة المرسل، فإن كان سويد سمعه من علي فهو متصل.
قول أبي موسى في سبب صد الناس عن الآخرة
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا مع أبي موسى رضي الله عنه في مسيرٍ له، فسمع الناس يتحدَّثون، فسمع فصاحة فقال: ما الي يا أنس؟ هلمَّ فلنذكر ربنا فإن هؤلاء يكاد أحدهم أن يفريَ الأديم بلسانه ثم قال لي: يا أنس ما أبطأ بالناس عن الآحرة وما ثبَّرهم عنها؟ قال: قلت: الشهوات والشيطان، قال: لا والله، ولكن عُجِّلت لهم الدنيا وأُخرت الآخرة ولو عاينوا ما عَدَلوا وما ميّلوا.(4/54)
الإِيمان بما هو كائن يوم القيامة
رجاؤه عليه السلام أن تكون أمته نصف أهل الجنة
أخرج الترمذي - وصححه - عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما نزلت {يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ} إلى قوله: {وَلَاكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} (سورة الحج، الآيتان: 1 و2) قال: نزلن عليه هذه الآية وهو في سفر فقال: «أتدرون أي يوم ذلك» ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «ذلك يوم يقول الله لآدم: ابعث بعث النار، قال: يا رب وما بَعْثُ النار؟ قال: تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة» ، فأنشأ المسلون يبكون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قاربوا وسدِّدوا؛ فإنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهليّة» ، قال: «فيؤخذ العدد من الجاهلية، فإن تمت وإلا كملت من المنافقين، ومامثلكم ومثل الأممإلا كمثل الرَّقْمة في ذراع الدابة أو كالشامة في جنب البعير» ، ثم قال: «إني لأرجو أن تكونوا رُبع أهل الجنة» فكبَّروا، ثم قال: «إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة» ، فكبَّروا، ثم قال: «إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة» ، فكبروا، ثم قال: ولا أدري أقال الثلثين أم لا، وكذا رواه الإِمام أحمد وابن أبي حاتم.
لغاية ص 440
تابع وعند البخاري في تفسير هذه الآية عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (يقول الله تعالى يوم القيامة: يا آدم فيقول: لبيك ربنا وسَعْديك، فينادي بصوت: إنالله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار، قال: يا رب وما بعث النار؟ قال: من كل ألف - أُراه قال: تسعمائة وتسعة وتسعون - فحينئذ(4/55)
تضع الحامل حملها ويشيب الوليد. {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَاكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} (سورة الحج، الآية: 2) . فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون، ومنكم واحد، أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود، وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبَّرنا، ثم قال: «ثلث أهل الجنة» فكبرنا، ثم قال: «شطر أهل الجنة» . فكبرنا. وقد رواه البخاري أيضاً في غير هذا الموضع ومسلم والنسائي في تفسيره. كذا في التفسير لابن كثير. وأخرجه الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما نحوه، وفي روايته: فشقَّ ذلك على القوم ووقعت عليهم الكاربة والحزن.
سؤال الزبير النبي عليه السلام عن بعض أحوال الآخرة وجوابه
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن الزبير رضي الله عنهما قال: لما نزلت: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} (سورة الزمر، الآية: 31) قال الزبير رضي الله عنه: يا رسول الله أتكرر علينا الخصومة؟ قال صلى الله عليه وسلم «نعم» ، قال رضي الله عنه: إن الأمر إذاً لشديد وكذا رواه الإِمام أحمد وعنده زيادة: ولما نزلت {ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم} (سورة التكاثر، الآية: 8) قال الزبير رضي الله عنه: أي رسول الله أَيُّ نعيم نُسأل عنه؟ وإنما نعيمنا الأسودان: التمر والماء؟ وقد روى هذه الزيادة(4/56)
الترمذي وحسَّنه وابن ماجه. وعند أحمد عن عبد الله بن الزبير عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه السورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم {إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ} {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} (سورة الزمر، الآيتان: 30 و31) قال الزبير رضي الله عنه: أيْ رسول الله، أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواصِّ الذنوب؟ قال صلى الله عليه وسلم «نعم، ليكررنَّ عليكم حتى يؤدَّي إلى كل ذي حق حقُّه» قال الزبير رضي الله عنه: والله إن الأمر لشديد ورواه الترمذي وقال: حسن صحيح.s كذا في التفسير لابن كثير. وأخرجه الحاكم في المستدرك نحوه قال: هذا حديث صحيح الإِسناد ولم يخرِّجاه.
بكاء عبد الله بن رواحة لتذكُّره آيةً في شأن جهنم
وأخرج عبد الرزاق عن قيس بن أبي حازم قال: كان عبد الله بن رواحة رضي الله عنه واضعاً رأسه في حجر امرأته، فبكى فبكت امرأته، قال: ما يبكيك؟ قالت: رأيتك تبكي فبكيت، قال: إني ذكرت قول الله عز وجل {وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} (سورة مريم، الآية: 71) فلا أدري أنجو منها أملا؟ وفي رواية: وكان مريضاً. كذا في التفسير لابن كثير.
طلب عبادة من أهله وجيرانه الاقتصاص منه حين حضره الموت
وأخرج البيهقي وابن عساكر عن عبادة بن محمد بن عبادة بن الصامت(4/57)
قال: لمَّا حضرت عبادة رضي الله عنه الوفاة قال: أخرجوا إليَّ مواليَّ وخدمي وجيراني ومن كان يدخل عليَّ، فجمعوا له فقال: إنَّ يومي هذا لا أُراه إلا آخر يوم يأتي عليَّ من الدنيا وأول ليلة من الآخرة، وإني لا أدري لعله قد فرط نمي إليكم بيدي أو بلساني شيء، وهو والذي نفسي بيده القصاص يوم القيامة، وأحرِّج إلى أحد منكم في نفسه شيء من ذلك إلا اقتص مني من قبل أن تخرج نفسي، فقالوا: بل كنت والداً وكنت مؤدباً - قال: وما قال لخادم سوءاً قط - فقال: أعفوتم ما كان من ذلك؟ قالوا: نعم، قال: اللهمَّ اشهد، ثم قال: أمَّا لا، فاحفظوا وصيتي: أحرِّج على إنسان منكم يبكي عليَّ، فإذا خرجت نفسي فتوضأوا وأحسنوا الوضوء، ثم ليدخل كل إنسان منكم مسجداً فيصلي، ثم يستغفر لعبادة ولنفسه، فإنَّ الله تعالى قال: {اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصلاةِ} (سورة البقرة، الآية: 45) أسرعوا بي إلى حفرتي، ولا تتبعني ناراً ولا تضعوا تتي أرجواناً، كذا في الكنز.
تخوّف عمر من حساب الآخرة
وقد تقدم في الاحتياط عن الإنفاق على نفسه من بيت المال قول عمر رضي الله عنه لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه حين استقرضه أربعة آلاف درهم فقال للرسول: قل له: يأخذها من بيت المال ثم ليردها، فلما جاءه الرسول فأخبره بما قال شق ذلك عليه فلقيه عمر فقال: أنت القائل؛ ليأخذها من بيت المال، فإن مت قبل أن تجيء قلتم: أخذها أمير المؤمنين دعوها له، وأؤخذ بها يوم القيامة.
بكاء أبي هريرة ومعاوية حين سمعا حديثاً في الآخرة
وسيأتي في التأثر بعلم الله تعالى وعلم رسوله صلى الله عليه وسلم نشغ أبي هريرة رضي(4/58)
الله عنه نَشْغة شديدة، وسقوطه على وجهه حتى أسنده شَفيُّ الأصبحي طويلاً حين ذكر قضاء الله تبارك وتعالى فيالقارىء، وصاحب المال، والذي قُتل في بيل الله، وبكاء معاوية رضي الله عنه بكاءاً شديداً حين سمع هذا الحديث ظنّوا أنَّه هالك.
الإِيمان بالشفاعة
قوله عليه السلام: إن شفاعتي لمن مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا
أخرج ابغوي وابن عساكر عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: عرَّس بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوسَّد كل إنسان منا ذراع راحلته، فانتبهت في بعض الليل فإذا أنا لا أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند راحلته فأفزعني ذلك؛ فانطلقت ألتمس رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أنا بمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما، فإذا هما قد أفزعهما ما أفزعني، فبينما نحن كذلك إذ سمعناه هزيزاً بأعلى الوادي كهزيز الرحى، فأخبرناه بما كان من أمرنا، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم «أتاني الليلة آتٍ من ربي عز وجل فخيَّرني بين الشفاعة وبين أن يدخل نصف أمتي الجنة فاخترت الشفاعة» ، فقلت: أنشدك الله يا نبي الله والصحبة لما جعلتنا من أهل شفاعتك، قال: «فإنَّكم من أهل شفاعي» ، فانطلقنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهينا إلى الناس فإذا هم قد فزعوا حين فقدوا نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم «أتاني آتٍ من ربي فخيَّرني بين الشفاعة وبين أن يدخل نصف أمتي الجنة، فاخترت الشفاعة» ، فقالوا له: ننشدك الله والصحبة لما جعلتنا من أهل شفاعتك، فلما انضمُّوا عليه قال نبي الله صلى الله عليه وسلم «فإني أشهد من حضر أن شفاعتي لمن مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً. كذا في الكنز.
دعوته عليه السلام لأمته عند ربه هي الشفاعة لهم
وأخرج البغوي وابن منده وانب عساكر عن عبد الرحمن بن أبي عقيل رضي الله عنه قال: انطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد ثقيف، فأنخنا بالباب وما(4/59)
في الناس أبغض إلينا من رجل نلج عليه، فما خرجنا حتى ما في الناس أحد أحب إلينا من رجل نلج عليه، فما خرجنا حتى ما فيالناس أحد أحب إلينا من رجل دخلنا عليه، فقال قائل منا: يا رسول الله، أَلاَ سألت ربك ملكاً كملك سليمان عليه السلام، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «لعلَّ لصاحبكم عند الله أفضل من ملك سليمان، إنَّ الله لم يبعث نبياً إلا أعطاه دعوة، فمنهم من اتخذها - وفي لفظ: اتخذ بها - دنيا فأعطيها، ومنهم من دعا على قومه لما عصَوه فأُهكلوا بها، وإنَّ أعطاني دعوة اختبأتها عند ربي شفاعة لأمتي يوم القيامة» . قال البغوي: لا أعلم روى ابن أبي عقيل غير هذا شفاعة لأمتي يوم القيامة» . قال البغوي: لا أعلم روى ابن أبي عقيل غير هذا الحديث وهو غريب لم يحدِّث به إلا من هذا الوجه، كذا في الكنز. وأخرجه البخاري والحارث بن أبي أسامة، كما في الإِصابة.
قوله عليه السلام: نعم الرجل أنا لشرار أمتي
وأخرج الشيرازي في الألقاب وابن النجار عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نعم الرجل أنا لشرار أمتي» فقال له رجل من مزينة: يا رسول الله أنت لشرارهم فكيف لخيارهم؟ قال: «خيار أمتي يدخلون الجنّة بأعمالهم، وشرار أمتي ينتظرون شفاعتي، إلا أنها مباحة يوم القيامة لجميع أمتي إلا رجل ينتقص أصحابي» . كذا في الكنز.
قول علي في أرجى آية في كتاب الله
وأخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أشفع لأمتي حتى ينايني ربي فيقول: أرضيت يا محمد؟ فأقول:(4/60)
نعم، رضيت» ، ثم أقبل عليَّ فقال: إنكم تقولون يا معشر العراق: إنَّ أرجَى آية في كتاب الله {ياعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (سورة الزمر، الآية: 53) قلت: إنا لنقول ذلك، قال: ولكنا أهل البيت نقول: إنَّ أرجَى آية في كتاب الله {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} (سورة الضحى، الآية: 5) وهي الشفاعة. كذا في الكنز.
قول بريدة في أمر الشفاعة أمام معاوية
وأخرج أحمد عن ابن بريدة عن أبيه رضي الله عنه أنه دخل على معاوية رضي الله عنه فإذا رجل يتكلم، فقال بريدة: يا معاوية تأذن لي في الكلام؟ فقال: نعم - وهو يرى أنه سيتكلم بمثل ما قال الآخر - فقال بريدة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إني لأرجو أن أشفع يوم القيامة عدد ما على الأرض من شجرة ومدرة» ، قال: فترجوها أنت يا معاوية ولا يرجوها علي رضي الله عنه؟ كذا في التفسير لابن كثير.
جواب جابر بن عبد الله لمن كذَّب بالشفاعة
وأخرج ابن مردويه عن طَلْق بن حبيب قال: كنت من أشد الناس تكذيباً بالشفاعة، حتى لقيت جابر بن عبد الله رضي الله عنه، فقرأت عليه كل آية أقدر عليها يذكر الله فيها خلود أهل النار، فقال: يا طَلْق أتراك أقرأ لكتاب الله وأعلم بسنة رسول الله مني؟ إن الذين قرأت هم أهلها هم المشركون، ولكن هؤلاء قوم أصابوا ذنوباً فعُذِّبوا ثم أُخرجوا منها، ثم أهوى بيديه إلى أذنيه فقال: صُمَّتا(4/61)
إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يخرجون من النار بعدما دخلوا» ونحن نقرأ كما قرأت.
وعند ابن أبي حاتم عن يزيد الفقير قال: جلست إلى جابر بن عبد الله وهو يحدِّث أن ناساً يخرجون من النار قال: وأنا يومئذ أنكر ذلك، فغضبت وقلت: ما أعجب من الناس ولكن أعجب منكم يا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم تزعمون أن الله يخرج ناسناً من النار والله يقول: {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا} (سورة المائدة، الآية: 37) - الآية، فانتهرني أصحابه وكان أحلمهم فقال: دَعُوا الرجل، إنَّما ذلك للكفار، فقرأ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً} {ومثله معه ليفتدوا به من عذا يوم القيامة} حتى بلغ {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} (سورة المائدة، الآيتان: 36 و37) أما تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قد جمعته، قال: أليس الله يقول: {وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} {عى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} (سورة الإسراء، الآية: 79) فهو ذلك المقام، فإن الله تعالى يحتبس أقواماً بخطاياهم في النار ما شاء لا يكلمهم، فإذا أراد أن يخرجهم أخرجهم، قال: فلم أعُدْ بعد ذلك إلى أن أكذِّب به. كذا في التفسير لابن كثير.
الإِيمان بالجنة والنار
تصوّر الصحابة الجنة في مجلسه عليه السلام وكأنهم يرونها رأي العين
أخرج الحسن بن سفيان وأبو نعيم عن حنظة الكاتب الأسيدي رضي الله عنه - وكان من كُتَّاب النبي صلى الله عليه وسلم ـ فقال: كنّا عند النبي صلى الله عليه وسلم فذكرنا الجنة والنار حتى كانا رأي عين، فقمت إلى أهلي وولدي فضحكت ولعبت، فذكرت الذي كنَّا فيه، فخرجت فلقيت أبا بكر رضي الله عنه، فقلت: نافقتُ يا أبا بكر(4/62)
قال: وم ذاك؟ قلت: تكون عند النبي صلى الله عليه وسلم يذكِّرنا الجنة والنار كأنَّا رأي عين، فإذا خرجنا من عنده عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا، فقال أبو بكر: إنَّا لنفعل ذلك، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال: «يا حنظلة، لو كنتكم عند أهليكم كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي الطريق، يا حنظلة، ساعة وساعة» كذا في الكنز.
تحديثه عليه السلام أصحابه عن اليوم الآخر
وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: أكرينا (في الحديث) ذات ليلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم غدونا عليه فقال: «عُرضت عليَّ الأنبياء وأتباعها بأممها، فيمر عليَّ النبي ... والنبي في العصابة، والنبي في الثلاثة، والنبي وليس معه أحد» - وتلا قتادة هذه الآية» : {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ} (سورة هود، الآية: 78) قال: «حتى مرّ عليَّ موسى بن عمران عليه السلام في كبكبة من بني إسرائيل» قال: «قلت: ربِّ من هذا؟ قال: هذا أخوك موسى بن عمران ومن تبعه من بني إسرائيل» قال: «قلت: ربِّ فأين أمتي؟ قال: انظر عن يمينك في الظِّراب، قال: فإذا وجوه الرجال، قال: أرضيت؟ قلت: قد رضيت ربِّ، قال: انظر إلى الأفق عن يسارك؛ فإذا وجوه الرجال، قال: أرضيت؟ قلت: قد رضيت ربِّ، قال: فإنَّ مع هؤلاء سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب» قال: وأنشأ عُكاشة بن محصن من بني أسد رضي الله عنه - قال سعيد: وكان بدرياً -(4/63)
قال: با نبيَّ الله ادعُ الله أن يجعلني منهم، فقال: «اللهمَّ اجعله منهم» . قال: أنشأ رجل آخر قال: يا نبي الله ادعُ الله أن يجعلني منهم، فقال: «سبقك بها عكاشة» قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فإن استطعتم - فداكم أبي وأمي - أن تكونوا من أصحاب السبعين فافعلوا، وإلاَّ فكونوا من أصحاب الظِّراب، وإلا فكونوا من أصحاب الأفق، فإني قد رأيت ناساً كثيراًقد ناشبوا أحوالهم» ثم قال: «إنِّي لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة» ، قال: فكبضرنا، قال: «إنِّي لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة» ، قال: فكبرنا، قال: ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {ثلة من الأولين وثلة من الآخرين} (سورة الواقعة، الآية: 40) - قال: فقلنا بيننا: مَنْ هؤلاء السبعون ألفاً؟ فقلنا: هم الذين وُلدوا في الإِسلام ولم يشركوا، قال: فبلغه ذلك فقال: «بل هم الذين لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيَّرون، وعلى
ربهم يتوكَّلون» . وكذا رواه ابن جرير، وهذا الحديث له طرق كثيرة من غير هذا الوجه في الصحح وغيرها. كذا في التفسير لابن كثير، وأخرجه الحاكم في المستدرك عن عبد الله بن مسعود بطوله نحوه، وقال: هذا حديث صحيح الإِسناد ولم يخرِّجاه بهذه السياقة، وقال الذهبي: صحيح.
سؤال الأعراب النبي عليه السلام عن شجر الجنة
وأخرج ابن النجار عن سليم بن عامر قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إنَّ الله لينفعنا بالأعراب ومسائلهم، قال: أقبل أعرابي يوماً فقال:(4/64)
يا رسول الله، ذكر الله في الجنة شجرة تُؤذي صاحبها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وما هي» ؟ قال: السَّدْر فإن له شوكاً مؤذياً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أليس الله تعالى يقول: في سِدْر مَخْضُودٍ، خضد الله شوكه، فجعل مكان كل شوكة ثمرة، فإنها لتنبت ثمراً، ففتق الثمرة منها عن اثنين وسبعين لوناً من طعام ما فيها لون يشبه الآخر» . وعند ابن أبي داود عن عتبة بن عبد السُّلمي رضي الله عنه قال: كنت جالساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء أعرابي فقال: يا رسول الله أسمعك تذكر في الجنة شجرة لا أعلم شجراً أكثر شوكاً منها - يعني الطَّلْح - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنَّ الله يجعل مكان كل شوكة منها ثمرة مثل خُصوة التيس الملبود، فيها سبعون لوناً من الطعام لا يشبه لونٌ الآخر» . كذا في التفسير لابنكثير.
سؤال أعرابي النبي عليه السلام عن فاكهة الجنة وجوابه
وأخرج الإِمام أحمد عن عتبة بن عبد السلمي قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن الحوض وذَكَر الجنة، ثم قال الأعرابي: فيها فاكهة؟ قال: «نعم، وفيها شجرة تدعى طُوبى» ، قال: فذكر شيئاً لا أدري ما هو، قال: أيُّ شجر أرضنا تشبه؟ قال: ليست تشبه شيئاً من شجر أرضك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أتيتَ الشام؟ قال: لا، قال: «تشبه شجرة بالشام تدعى الجوزة تنبت على ساق واحد وينفرش أعلاها» ، قال: ما عظم العنقود؟ قال: «مسيرة شهر للغراب الأبقع لا يفتر» ، قال: ما عظم أصلها؟ قال: «لو ارتحلت جذعةً من إبل أهلك ما أحاطت بأصلها حتى تنكر تَرقُوتها هرماً» ، قال: فيها عنب؟ قال: «نعم» ، قال: فما عظم الحبّة، قال: هل ذبح أبوك تيساً من غنمه قط عظيماً» ؟ قال: نعم، قال: «فسلخ إهابه فأعطاه أُمك فقال: اتخذي لنا منه دلواً» ؟ قال: نعم، قال اوعرابي؛ فإن تلك الحبة لتشبعني وأهل بيتي؟ قال: «نعم وعامة(4/65)
عشيرتك» . كذا في التفسير لابن كثير.
موت رجل حبشي في مجلسه عليه السلام حينما سمع وصف الجنة
وأخرج الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهم قال: جاء رجل من الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «سل واستفهم» فقال: يا رسول الله فُضِّلتم علينا بالصور والألوان والنبوة، أفرأيت إن آمنتَ بما آمنتَ به، وعلمتَ بما عملت به، إني لكائن معك في الجنة؟ قال: «نعم، والذي نفسي بيده، إنه ليرى بياض الأسود في الجنة من مسيرة ألف عام» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قال: لا إله إلا الله، كان له بها عهد عند الله، ومن قال: سبحان الله وبحمده، كتب له مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة» ، فقال رجل: كيف نهلك بعد هذا يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنَّ الرجل ليأتي يوم لقيامة بالعمل لو وضع على جبل لأثقله، فتقوم النعمة - أبو نعم الله - فتكاد تستنفد ذلك كله، إلاّ أن يتغمده الله برحمته» ونزلت هذه السورة {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مّنَ الدَّهْرِ} (سورة الإنسان، الآيتان: 1 و20) فقال الحبشي: وإن عينيَّ لترى ما ترى عيناك في الجنة؟ قال: «نعم» ، فاستبكى حتى فاضت نفسه. قال ابن عمر: ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدليه في حفرته بيده. كذا في التفسير لابن كثير. وفي تفسيره أيضاً: قال عبد الله بن وَهْب: أخبرنا ابن زيد أن رسول الله(4/66)
صلى الله عليه وسلم قرأ هذه السورة {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مّنَ الدَّهْرِ} وقد أنزلت عليه وعنده رجل أسود، فلما بلغ صفة الجنان زفر زفرة فخرجت نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أخرج نفس صاحبكم - أو قال: أخيكم - الشوق إلى الجنة» . مرسل غريب. انتهى.
تبشيره علي لعمر بالجنة وهو يحتضر
وأخرج ابن عساكر عن أبي مطر قال: سمعت علياً رضي الله عنه يقول: دخلت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين وجأه أبو لؤلؤة وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ قال: أبكاني خبر المساء، أيُذهب بي إلى الجنة أم إلى النار؟ فقلت له: أبشر بالجنة؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما لا أحصيه يقول: «سيداً كهول الجنة أبو بكر وعمر وأنَعما» فقال: أشاهد أنت لي يا علي بالجنة؟ قلت: نعم، وأنت يا حسن فاشهد على أبيك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن عمر من أهل الجنة» . كذا في المنتخب.
بكاء عمر عند ذكر الجنة
وقد تقدَّم في زهد عمر قوله في ضيافة له: هذا لنا فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وهم لا يشبعون من خبز الشعير؟ فقال عمر بن الوليد: لهم الجنة، فاغرورقت عينا عمر، وقال: لئن كان حظُّنا من هذا الحطام وذهبوا بالجنة لقد بانوا بوناً عظيماً أخرجه عبد بن حيمد وغيره عن قتادة.
رجاء بن سعد بن أبي وقاس بدخول الجنة وهو يحتضر
وأخرج ابن سعد عن مصعب بن سعد قال: كان رأس أبي حِجْري وهو يقضي قال: فدمعت عيناي فنظر إليَّ فقال: ما يبكيك أي بني؟ فقلت:(4/67)
لمكانك وما أرى بك، قال: فلا تبك عليَّ؛ فإن الله لا يعذبني أبداً، وإنِّي من أهل الجنة، إنَّ الله يدين المؤمنين بحسناتهم ما عملوا لله، قال: وأما الكفار فيخفّف عنهم بحسناتهم، فإذا نفدت قال: ليطلب كل عامل ثواب عمله ممن عمل له.
جزع عمرو بن العاص وهو يحتضر خوفاً مما بعد الموت
وأخرج ابن سعد عن ابن شماسة المهري قال: حضرنا عمرو بن العاص رضي الله عنه وهو في سياق الموت، فحوَّل وجهه إلى الحائط يبكي طويلاً وابنه يقول له: ما يبكيك؟ أما بشَّرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، أما بشَّرك بكذا؟ - قال: وهو في ذلك يبكي ووجهه إلى الحائط - قال: ثم أقبل بوجهه إلينا فقال: إنَّ أفضل مما تعد عليَّ شهادةُ أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكني قد كنت على أطباق ثلاث: قد رأيتني ما من الناس من أحد أبغض إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحب إليَّ من أن أستمكن منه فأقتله، فلو متّ على تلك الطبقة لكنت من أهل النار. ثم جعل الله الإسلام في قلبي فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبايعه فقلت: إبسط يمينك أبايعك يا رسول الله، قال: فبسط يده، ثم إنِّي قبضت يدي، فقال: «ما لك يا عمرو» ؟ قال: فقلت: أردت أن أشترط، فقال: «تشترط ماذا» ؟ فقلت: أشترط أن يُغفر لي، فقال: «أما علمت يا عمرو أنَّ الإِسلام يهدم ما كان قبله، وأنَّ الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأنَّ الحج يهدم ما كان قبله» فقد رأيتني ما من الناس أحد أحبَّ إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجلَّ في عيني منه، ولم سئلت أن أنعته ما أطقت لأني لم أكن أطيق أن أملأ عينيَّ إجلالاً له، فلو مت على تلك الطبقة رجوت أن أكون من أهل الجنة. ثم وَلينا أشياء بعد فلست أدري ما أنا فيها أو ما حالي فيها. فإذا(4/68)
أنا متُّ فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فسنُّوا عليَّ التراب سناً، فإذا فرغتم من قبري فأمكثوا عند قبري قد ما ينحر جزور ويُقسم لحمها؛ فإني أسأنس بكم حتى أعلم ماذا أراجع به رسل ربي. وأخرجه مسلم بسند ابن سعد بسياقه نحوه.
وأخرجه أحمد عبد الرحمن بن شماسة قال: لما حضرت عمرو بن العاص الوفاةُ، بكى فقال له ابنه عبد الله: لم تبكي؟ أجزعاً على الموت؟ فقال: لا والله، ولكن مما بعد الموت فقال له: قد كنت على خير، فجعل يذكِّره صحبة رسول الله وفتوحه الشام، فقال عمرو: تركتَ أفضل من ذلك كله: شهادة أن لا إله إلاَّ الله، فذكره مختصراً وزاد في آخره: فإذا متّ فلا تبكينَّ عليَّ باكية، ولا يتبعني مادح ولا نار، وشدّوا عليّ إزاري، فإني مخاصم، وشنّوا عليص التراب شنّاً؛ فإن جنبي الأيمن ليس أحق بالتراب من جنبي الأيسر، ولا تجعلنَّ في قبري خشبة ولا حجراً. كذا في البداية وقال: وقد روى مسلم هذا الحديث في صحيحه وفيه زيادات على هذا السياق أي سياق أحمد، وفي رواية: أنه بعد هذا حوّل وجهه إلى الجدار وجعل يقول: اللهمَّ أمرتنا فعصينا، ونهيتنا فما انتهينا، ولا يسعنا إلاَّ عفوك. وفي رواية: أنه وضع يده على موضع الغُل من عنقه ورفع رأسه إلى السماء وقال: اللهمَّ لا قويُّ فأنتصر، ولا بريءٌ فأعتذر، ولا مستنكرٌ بل مستغفر، لا إله إلاَّ أنت، فلم يزل يردِّدها حتى مات رضي الله عنه. انتهى، وأخرج ابن سعد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما - فذكر الحديث فيما أوصاه عمرو وفي آخره: ثم قال: اللهمَّ إنك أمرتنا فركبنا،(4/69)
ونهيتنا فأضعنا، فلا برىءٌ فأعتذر، ولا عزيز فأنتصر، ولكن لا إله إلاَّ الله - مال زال يقولها حتى مات.d
ما تقدَّم من أقوال بعض الصحابة في الإِيمان بالجنة والنار
وقد تقدَّم في النصرة ما قالت الأنصار حين قال النبي صلى الله عليه وسلم «قد وفيتم لنا بالذي كان عليكم، فإن شئتم أن تطيب أنفسكم بنصيبكم من خيبر ويطيب ثماركم فعلتم» ، قالوا: إنَّه قد كان لك علينا شروط ولنا عليك شرط بأن لنا الجنة؛ فقد فعلنا الذي سألتنا بأن لنا شرطنا، قال: «فذاكم لكم» رواه البزّار.
تقدَّم في باب الجهاد قول عمير بن الحُمام رضي الله عنه حين حرَّض رسول الله صلى الله عليه وسلم على القتال يوم بدر: بخٍ بخٍ أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلاَّ أن يقتلني هؤلاء، قال: ثم قذف التمرات من يده وأخذسيفه فقاتل القوم حتى قتل. وفي رواية أخرى: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما يحملك على قول: بخٍ بخٍ» ؟ قال: لا والله يا رسول الله؛ إلاَّ رجاء أن أكون من أهلها، قال: «فإنك من أهلها» ، قال: فأخرج تمراتٍ من قَرْنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه، إنها حياة طويلة قال: فرمى ما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى تقل. رواه أحمد وغيره عن أنس رضي الله عنه.
وتقدَّم في الطعن والجراحة في الجهاد قول أنس بن النضر رضي الله عنه: واهاً لريح الجنة أجده دون أحد فقاتلهم حتى قتل، وقول سعد بن خيثمة رضي الله عنه في رغبة الصحابة في القتل في سبيل الله: لو كان غير الجنة لآثرتك به، إني أرجو الشهادة في وجهي هذا، حين قال له أبوه: لا بدّ لأحدنا من أن يقيم، وقول سعد بن الربيع رضي الله عنه في يوم أحد: قل له:(4/70)
يا رسول الله أجدني أجد ريح الجنة؛ حين قال له زيد بن ثبت رضي الله عنه إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام، ويقول لك: «أخبرني كيف تجدك» ؟، وقول حَرَام بن ملحان رضي الله عنه في شجاعة عمار: يا هاشم تقدَّم، الجنة تحت ظلال السيوف، والموت في أطراف الأسنَّة، وقد فتحت أبواب الجنة، وتزينت الحور العين، اليوم ألقى الأحبّة محمداً وحزبه، ثم حملا هو وهاشم فقتلا، وقوله أيضاً في شجاعته: يا معشر المسلمين أمن الجنة تفرُّون؟ أنا عمار بن ياسر، أمن الجنة تفرُّون؟ أنا عمار بنياسر، هَلُمَّ إليَّ. وقول ابن عمر رضي الله عنهما في الإِنكار من قبول الإِمارة: فما حدَّثت نفسي بالدنيا قبل يومئذ، ذهبت أن أقول: يطمع فيه من ضربك وأباك على الإِسلام حتى أدخلكما فيه؛ فذكرت الجنة ونعيمها فأعرضت عنه - يعني حين قال معاوية رضي الله عنه في دُومة الجندل: من يطمع في هذا الأمر ويرجوه؟.
وقول سعد بن عامر رضي الله عنه حين تصدَّق وقالوا: إن لأهلك عليك حقاً، وإن لأصهارك عليك حقاً: ما أنا بمستأثر عليهم ولا بملتمس رضى أحد من الناس لطلب الحور العين، لو اطَّلعتْ خَيْرَةٌ من خيرات الجنة لأشرقت لها الأرض كما تشرق الشمس، وفي رواية أخرى: أنَّه قال لامرأته: على رِسْلك، إنه كان لي أصحاب فارقوني منذ قريب ما أحب أني صُددت عنهم وإنَّ لي الدنيا وما فيها، ولو أن خيرة من خيرات الحسان اطَّلعت من المساء لأضاءت لأهل الأرض، ولقهر ضوء وجهها الشمس والقمر، ولَنصيف تُكسى خير من الدنيا وما فيها، فلأنت أحرى في نفسي أن أدعك لهنَّ من أن أدعهنَّ لك، قال: فسمحتْ ورضيتْ. وقول امرأة من الأنصار في الصبر على الأمراض: لا والله يا رسول الله، بل أصبر ثلاثاً، ولا أجل والله لجنته خطراً، حين قال رسول(4/71)
الله صلى الله عليه وسلم «أيُّهما أحب إليك: أن أدعو لك فيكشف عنك - أي الحمى -، أو تصبري وتجب لك الجنة» .
وقول أبي الدرادء رضي الله عنه: أشتهي الجنة، حين اشتكى وقال له أصحابه: ما تشتهي؟، وقول أم حارثة رضي الله عنهما في الصبر على موت الأولاد حين قتل ولدها يوم بدر: يا رسول الله أخبرني عن حارثة؛ فإن كان في الجنة صبرت، وإلاَّ فليرينَّ الله ما أصنع - يعني من النياح وكانت لم تُحرَّم بعد - وفي رواية أخرى فقالت: يا رسول الله إن يكن في الجنة لم أبك ولم أحزن، وإن يكن في النار بكيت ما عشت في الدنيا، فقال: «يا أم حارثة إنها ليست بجنة ولكنها جنة في جنات، والحارث في الفردوس الأعلى» فرجعت وهي تضحك وتقول: بخٍ بخٍ يا حارث
بكاء عائشة عند ذكرها النار وما قاله عليه السلام لها
وأخرج الحاكم عن عائشلاة رضي الله عنها قالت: ذكرت النار فبكيت، فقال رسول الله: «ما لك يا عائشة» ؟ قالت: ذكرت النار فبكيت فقال رسول الله: «ما لك يا عائشة» ؟ قالت: ذكرت النار فبكيت فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أمَّا في ثلاث مواطن فلا يذكر أحد أحداً: (عند الميزان) حتى يعلم أيخف ميزانه أم يثقل. وعند الكتب حتى يقال: هاؤم إقرؤوا كتابيه، حتى يعلم أين يقع كتابه أفي يمينه أم في شماله أو من وراء ظهره. وعند الصراط إذا وُضع بين ظهري جهنم، حافتاه كلاليب وحسك كثير، يحبس الله بها من شاء من خلقه حتى يعلم أينجو أم لا» . قال الحاكم: هذا حديثٌ صحيحٌ، إسناده على شرط الشيخين لولا إرسالُ فيه بين الحسن وعائشة، وكذا قال الذهبي.(4/72)
موت شيخ كبير وفتى عند ذكر جهنم
وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد العزيز - يعني ابن أبي روَّاد - قال: بلغني أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (سورة إبراهيم، الآية: 14) وعنده بعض أصحابه وفيهم شيخ، فقال الشيخ: يا رسول الله حجارة جهنم كحجارة الدنيا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده لصخرة من صخر جهنم أعظم من جبال الدنيا كلِّها» قال: فوقع الشيخ مغشياً عليه فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على فؤاده فإذا هو حيٌّ، فناده فقال: «يا شيخ قل لا إله إلاَّ الله» فقالها فبشَّره بالجنة، قال: فقال أصحابه: يا رسول الله أمن بيننا؟ قال: (نعم يقول الله تعالى: {ذالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ} ، هذا حديث مرسل غريب. كذا في التفسير لابن كثير. وأخرج الحاكم بمعناه مختصراً من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وصحَّحه كما تقدَّم في الخوف، وفي روايته: فخرَّ فتى مغشياً عليه - بدل الشيخ، وقد تقدَّم في الخوف قصة فتى في الأنصارد خلته خشية الله فكان يبكي عند ذكر النار حتى حبسه ذلك في البيت، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فلما نظر إليه الشاب قام فاعتنقه، وخرَّ ميتاً فقال النبي صلى الله عليه وسلم «جهِّزوا صاحبكم فإن الفَرَق من النار فلذ كبده» أخرجه الحاكم وصحَّحه عن سهل وابن أبي الدنيا وغيره عن حذيفة رضي الله عنه.
ما تقدَّم من أقوال بعض الصحابة في الخوف من النار
وقد تقدَّم قصة تقلّب شدّاد بن أوس على فراشه وقوله: اللَّهم إن النار أذهبت مني النوم، فيقوم فيصلي حتى يصبح. وتقدَّم بعض قصص الباب في(4/73)
بكاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وتقدَّم في يوم مؤتة بكاء عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وقوله: أما - والله - ما بي حبُّ الدنيا ولا صبابة بكم، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار {وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً} (سورة مريم، الآية: 71) ؛ فلست أدري كيف لي بالصَّدَر بعد الورود.
اليقين بما وعد الله تبارك وتعالى
يقين أبي بكر رضي الله عنه بما وعد الله في حرب الروم والفرس
أخرج الترمذي عن نيار بن مُكرَم الأسلمي رضي الله عنه قال: لما نزلت {الم} {غُلِبَتِ الرُّومُ} {فِى أَدْنَى الاْرْضِ} {وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ} {سيغلبون في بضع سنين} (سورة الروم، الآيات: 1 - 4) فكانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين للروم، فكان السملمون يحبُّون ظهور الروم عليهم لأنهم وإياهم أهل كتاب، وفي ذلك قوله تعالى: {يومئذ يفرح المؤمنون} {بِنَصْرِ اللَّهِ} {يَنصُرُ مَن يَشَآء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (سورة الروم، الآيتان: 4 و5) وكانت قريش تحب ظهور فارس لأنهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب ولا إيمان بَبْعث، فلما أنزل الله هذه الآية خرج أبو بكر رضي الله عنه يصيح {الم} {غُلِبَتِ الرُّومُ} {فِى أَدْنَى الاْرْضِ وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} {فِى بِضْعِ سِنِينَ} فقال ناس من قريش لأبي بكر: فذاك بيننا وبينكم، زعم صاحبكم أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين، أفلا نراهنك على ذلك؟ قال: بلى - وذلك قبل تحريم الرِّهان - فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان، وقالوا لأبي بكر: كم تجعل البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين؟ فسمِّ بيننا وبينك وسطاً ننتهي إليه، قالوا فسموا بينهم ست سنين، قال: فمضت ست السنين قبل أن يظهروا، فأخذ(4/74)
المشركون رهن أبي بكر، فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس، قال: فعاب المسلمون على أبي بكر تسميته ست سنين، قال: لأن الله يقول: {فِى بِضْعِ سِنِينَ} قال: فأسلم عند ذلك ناس كثير. هكذا ساقه الترمذي، ثم قال: هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلاَّ من حديث عبد الرحمن بن أبي الزِّناد. وعند أبي حاتم عن البراء رضي الله عنه قال: لمَّا نزلت {الم} {غُلِبَتِ الرُّومُ} {فِى أَدْنَى الاْرْضِ وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} . قال المشركون لأبي بكر: ألا ترى إلى ما يقول صاحبك يزعم أن الروم تغلب فارس قال: صدق صاحبي، قالوا: هل لك أن نخاطرك؟ فجعل بينه وبينهم أجلاً،
فحلَّ الأجل قبل أن تغلب الروم فارس، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وساءه ذلك وكرهه وقال لأبي بكر: «ما دعاك إلى هذا» ؟ قال: تصديقاً لله ولرسوله، قال: «تعرَّضْ لهم، وأعظم لهم الخطر، واجعله إلى بضع سنين» فأتاهم أبو بكر فقال: هل لكم في العود؟ فإن العود أحمد، قالوا: نعم، فلم تمضِ تلك السنون حتى غلب الروم فارس، وربطوا خيولهم بالمدائن، وبنوا الرومية فجاء أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «هذا السُّحْت» . قال: «تصدَّق به» وأخرجه الإِمام أحمد والترمذي - وحسَّنه - والنسائي وابن أبي حاتم وابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما بمعناه مختصراً، كما في التفسير لابن كثير.
يقين كعب بن عدي بما وعد الله به من إظهار دينه
وأخرج البغوي عن كعب بن عدي رضي الله عنه قال: أقبلت في وفد(4/75)
من أهل الحيرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فعرض علينا الإِسلام فأسلمنا، ثم انصرفنا إلى الحيرة، فلم نلبث أن جاءتنا وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتاب أصحابي وقالوا: لو كان نبياً لم يمت، فقلت: فقد مات الأنباء قبله. فثبتُّ على الإسلام ثم خرجت أريد المدينة، فمررت براهب كنا لا نقطع أمراً دونه فجئت إليه فقلت: أخبرني عن أمر أدته لَقَح في صدري منه شيء، قال: إئت باسمك من الأشياء، فأتيته بكعب، قال: ألْقِه في هذا الشعر - لشعر أخرجه - فأليت الكعب فيه، فإذا بصفة النبي صلى الله عليه وسلم كما رأيته، وإذا موته في الحين الذي مات فيه، فاشتدت بصيرتي في إيماني، فقدمت على أبي بكر - رضي الله عنه - فأعلمته وأقمت عنده، ووجهني إلى المقوقس ورجعت، ثم وجهني عمر - رضي الله عنه - أيضاً فقدمت عليه بكتابه بعد وقعة اليرموك ولم أعلم بها، فقال لي: علمت أن الروم قتلت العرب وهزمتهم؟ قلت: لا، قال: ولم؟ قلت: لأنَّ الله وعد نبيه ليظهره على الذين كله وليس يخلف الميعاد، قال: فإن العرب قتلت الروم - والله - قتلة عادٍ وإنَّ نبيكم قد صدق، ثم سألني عن وجوه الصابة فأهدى لهم، وقلت له: إنَّ العباس - رضي الله عنه - عمُّه حي فتصله، قال كعب: وكنت شريكاً لعمر ابن الخطاب، فلما فرض الديوان فرض لي في بني عديِّ بن كعب. وقال البغوي: لا أعلم لكعب بن عدي غيره، وهكذا أخرجه ابن قانع عن البغوي ولكنه اقتصر منه إلى قوله: مات الأنباء قبله، وابن شاهين وأبو نُعيم وابن السَّكن بطوله، وأخرجه ابن يونس في تاريخ مصر من وجه آخر عن كعب بطوله، كما في الإِصابة.
أقوال أبي بكر وعمر وسعد في اليقين بما وعد الله من نصر المؤمنين
وقد تقدَّم قول أبي بكر رضي الله عنه في قتال أهل الردَّة: والله لا أبرح أقوم بأمر الله وأجاهد في سبيل الله حتى ينجز اللهلنا (وعده) ، ويفي لنا عهده،(4/76)
فيقتل من قتل منا شهيداً في الجنة ويبقى من بقي منا خليفة الله في أرضه ووارث عباده، (قضى الله) الحق؛ فإن الله تعالى قال وليس لقوله خلف: {وعد االذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستحلفنهم في الأرض} {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} (سورة النور، الآية: 55) . وتقدم قول عمر رضي الله عنه في تحريضه على الجهاد: أين الطّراء المهاجرون عن موعود الله؟ سيروا في الأرض التي وعدكم الله في الكتاب أن يورثكموها؛ فإنه قال: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ} (سورة التوبة، الآية: 33) والله مظهر دينه، ومعزّ ناصره، ومولي أهله مواريث الأمم؛ أين عباد الله الصالحون؟. وقول سعد رضي الله عنه في ترغيبه على الجهاد: إنَّ الله هو الحق لا شريك له في الملك، وليس لقوله خُلْف، قال الله عز ثناؤه: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ أَنَّ الاْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّالِحُونَ} (سورة الأنبياء، الآية: 105) إنَّ هذا ميراثكم وموعود ربكم، وقد أباحها لكم من ثلاث حجج، فأنتم تطعمون منها وتأكلون منها وتقتلون أهلها وتجْبونهم وتسبونهم إلى هذا اليوم بما نال منهم أصحاب الأيام منكم، وقد جاءكم منهم هذا الجمع وأنتم وجوه العرب وأعيانهم وخيار كل قبيلة وعز من ورائكم، فإن تزهدوا في الدنيا وترغبوا في الآخرة جمع الله لكم الدنيا والآخرة. اهـ مختصراً.
اليقين بما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم تصديق خزيمة بن ثابت للنبي عليه السلام في خصومته مع الأعرابي
أخرج ابن سعد عن عمارة بن خزيمة بن ثبت عن عمه رضي الله عنه - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم إبتاع فرساً من رجل من الأعراب، فاستتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعطيه ثمنه، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم المشي وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يلقَون الأعرابي يساومونه الفرس ولا يشعرون أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد(4/77)
ابتاعه، حتى زاد بعضهم الأعرابي في السَّوم على ثمن الفرس الذي ابتاعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما زاده نادى الأعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن كنت مبتاعاً هذا الفرس فابتعه وإلاَّ بعته، فقام النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع قول الأعرابي حتى أتاه الأعرابي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألستُ قد ابتعته منك» ؟ فقال الأعرابي: لا والله، ما بعتكه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بلى، قد ابتعته منك» فطفق الناس يلوذون بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالأعرابي وهما يتراجعان، فطفق الأعرابي يقول: هلمَّ شهيداً يشهد أنِّي بعتك، فمن جاء من المسلمين قال للأعرابي: ويلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن ليقول إلاَّ حقاً حتى جاء خزيمة بن ثابت رضي الله عنه فاستمع تراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتراجع الأعرابي، فطفق الأعرابي يقول: هلمَّ شهيداً يشهد أنِّي بايعتك، فقال خزيمة، أنا أشهد أنك قد بايعته، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خزيمة بن ثابت فقال: بم تشهد» ؟ فقال: بتصديقك يا رسول الله فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة شهادة رجلين. وأخرجه أبو داود عن عمارة بن خزيمة عن عمه نحون. وعند ابن سعد أيضاً عن محمد بن عمارة بن خزيمة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا خزيمة بم بتشهد ولم تكن معنا» ؟ قال: يا رسول الله أنا أصدقك بخبر السماء ولا أصدقك بما تقول؟ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين،
وفي رواية
أخرى عنده قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين، وفي رواية أخرى عنده قال: أعلم أنك لا تقول إلاَّ حقاً، قد أمناك على أفضل من ذلك على ديننا، فأجاز شهادته.
تصديق أبي بكر للنبي عليه السلام في قصة الإِسراء
وأخرج البيهقي عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى أصبح يحدِّث الناس بذلك، فارتد ناس ممن كانوا آمنوا به وصدّقوه، وسعَوا بذلك إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالوا: هل(4/78)
لك في صاحبك يزعم أنه أُسري به الليلة إلى بيت المقدس؟ فقال: أوَ قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق، قالوا: فتصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم، إني لأصدقه فيما هو أبعد نم ذلك، أصدقه في خبر الماء في غَدْوة أو رَوححة، فلذلك سمي أبو بكر الصديق. كذا في التفسير لابن كثير. وأخرجه أبو نعيم عن عائشة نحون، وفي روايته: فارتد ناس ممَّن كان آمن به وصدَّق ناس وفتنوا، قال أبو نعيم: وفيه محمد بن كثير المصِّيصي ضعَّفه أحمد جداً، وقال ابن معين: صدوق، وقال النَّسائي وغيره: ليس بالقوي، كما في المنتخب. وأخرج ابن أبي حاتم من حديث أنس رضي الله عنه قصة ليلة الإسراء بطولها وفيه: فلما سمع المشركون قوله أتوا أبا بكر فقالوا: يا أبا بكر هل لك في صاحبك يخبر أنه أتى في ليلته هذه مسيرة شهر ورجع في ليته؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه - فذكر نحوه، كما في التفسير لابن كثير.
لغاية ص 460
تابع
تصديق عمر للنبي عليه السلام فيما أخبر به عن هلاك الأمم
وأخرج الحافظ أبو يعلى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قلَّ الجراد في سنة من سني عمر رضي الله عنه التي ولي فيها، فسأل عنه فلم يخبر بشيء، فاغتم لذلك فأرسل راكباً إلى كذا، وآخر إلى الشام وآخر إلى العراق، يسأل هل رؤى من الجراد شيء أم لا؟ قال: فأتاه الراكب الذي من قِبَل الينم بقبضة من جراد فألقاها بين يديه، فلما رآها كبّر ثلاثاً، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خلق الله عز وجل ألف أمة، منها ستمائة في(4/79)
البحر وأربعمائة في البر، وأول شيء يهلك من هذه الأمم الجراد، فإذا هلكت تتابعت مثل النِّظام إذا قُطع سِلكُه» . كذا في التفسير لابن كثير.
يقين علي فيما أخبره به عليه السلام في شأن مقتله
وأخرج ابن أحمد في زوائده وابن أبي شيبة والبزار والحارث وأبو نعيم والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن فضالة بن أبي فضالة الأنصاري قال: خرجت مع أبي إلى ينبع عائداً لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه - وكان مريضاً بها حتى ثَقُل - فقال له أبي: ما يقيمك بهذا المنزل؟ ولومتّ لم يَلِك إلا أعراب جهينة؟ احتمل حتى تأتي المدينة، فإن أصابك أجلك وليك أصحابك وصلُّوا عليك - وكان أبو فضالة رضي الله عنه من أصحاب بدر - فقال علي: إني لست ميتاً من وجعي هذا، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليَّ أن لا أموت حتى أؤمَّر، ثم تختضب هذه - يعني لحيته - من دم هذه - يعني هامته - كذا في منتخب الكنز وقال: ورجاله ثقات. وأخرج الحميدي والبزَّار وأبو يَعْلى وابن حِبَّان والحاكم وغيرهم عن علي رضي الله عنه قال: أتاني عبد الله بن سَلاَم رضي الله عنه وقد(4/80)
أدخلت رجلي في الغرز فقال لي: أين تريد؟ فقلت: العراق، فقال: أما إنك إن جئتها ليصيبك بها ذُباب السيف، قال علي: وايْمُ الله، لقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبله يقوله. كذا في المنتخب.
وأخرج ابن عدي وابن عساكر عن معاوية بن جرير الحضرمي قال: عَرَض عليٌّ الخيل، فمر عليه ابن مُلْجَم فسأله عن اسمه أو قالنسبه فانتمى إلى غير أبيه، فقال له: كذبت، حتى انتسب إلى أبيه، فقال: صدقتَ، أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثني أن قاتلي شبهُ اليهود وهو يهود فامْضه. كذا في المنتخب. وعند عبد الرزاق وابن سعد ووكيع في الغُرز عن عَبِيدة قال: كان علي إذا رأى ابن مُلْجَم قال:
أريد حياءه ويريد قتلي
عِذِيرك من خليلك من مُراد
كذا في المنتخب وعند ابن سعد وأبي نُعَيم عن أبي الطفيل قال: كنت عند علي بن(4/81)
أبي طالب فأتاه عبد الرحمن بن مُلْجَم فأمر له بعطائه ثم قال: ما يحبس أشقاها أن يخضبها من أعلاها، يخضب هذه من هذه - وأومأ إلى لحيته - ثم قال علي:
أشدد حيازيمك للموتِ
فإن الموت آتيكا
ولا تجزع من القتلِ
إذا حَلَّ بواديكا
كذا في المنتخب.
يقين عمار فيما أخبره به عليه السلام في شأن مقتله
وأخرج ابن عساكر عن أم عمار - حاضنة لعمار - رضي الله عنه قالت: اشتكى عمارفقال: لا أموت في مرضي هذا، حدثني حبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم أني لا أموت إلاَّ قتيلاً بين فئتين مؤمنتين.. كذا في المنتخب. وقد تقدَّم في رغبة الصحابة في القتل في سبيل الله قول عمار: عهد إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ آخر زادك من الدنيا ضَياح من لبن، ومجيئه إلى علي يوم صفِّين حين كان يقاتل فلا يُقتل، وقوله: يا أمير المؤمنين، يوم كذا وكذا - قال ذلك ثلاث مرات -، ثم أُتي بلبن فشربه، ثم قال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن هذا آخر شربة أشربها من الدنيا، ثم قام فقاتل حتى قُتل. وأخرج أبو يعلى وابن عساكر عن خالد بن الوليد رضي الله عنه عن ابنة هشام بن الوليد بن المغيرة - وكانت تمرِّض عماراً - قالت: جاء معاوية رضي الله عنه إلى عمار يعوده، فما خرج من عنده قال: اللهمَّ لا تجعل منيته(4/82)
الكنز.j
يقين أبي ذر فيما أخبره به عليه السلام في شأن موته
وأخرج ابن سعد عن إبراهيم بن الأشتر عن أبيه أنَّه لما حضر أبا ذر رضي الله عنه الموتُ بكت امرأته، فقال لها: ما يبكيك؟ قالت: أبكي لأنه لا يَدَان لي بتغيبك، وليس لي ثوب يسعك، قال: فلا تبكي، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنفر أنا فيهم «ـ «ليموتن منكم رجل بفلاة من الأرض تسهده عصابة من المؤمنين» وليس من أولئك النفر رجل إلاَّ قد مات في قرية وجماعة من المسلمين، وأنا الذي أموت بفلاة، والله ما كَذَبتُ ولا كُذِبتُ، فأبصري الطريق، فقالت: أنَّى وقد انقطع الحاج، وتقطَّعت الطرق؟ فكانت تشدُّ إلى كثيب تقوم عليه تنظر ثم ترجع إيه فتمرِّضه، ثم ترجع إلى الكثيب، فبينا هي كذلك إذا هي بنفر تخدُّ بهم رواحلهم كأنهم الرَخَم على رحالهم، فألاحت بثوبها فأقبلوا حتى وقفوا عليها وقالوا: ما لك؟ قالت: أمرؤ من المسلمين يموت تكفِّنونه؟ قالوا: ومن هَو؟ قال: أبو ذر، ففدَوه بآبائهم وأمهاتهم، ووضعوا السياط في نحورها يستبقون إليه حتى جاؤوه، فقال: أبشروا، فحدَّثهم الحديث الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يموت بين امرأين مسلمين ولدان أو ثلاثة فيحستبان ويصبران فيريان النار» أنتم تسمعون، لو كان لي ثوب يسعني كفناً لم أُكفَّن إلاَّ في ثوب هو لي، أو لامرأتي ثو يسعني لم أكفَّن إلاَّ في ثوبها، فأنشدكم الله والإِسلام أن لا يكفنني رجل منكم كان أميراً، أو عريفاً، أو نقيباً، أو بريداً، فكل القوم قد كان قارف بعض(4/83)
ذلك إلاَّ فتى من الأنصارقال: أنا أكفنك فإني لم أصب مما ذكرت شيئاً، أكفنك في ردائي هذا الذي عليَّ وفي ثوبين في عيبتي من غَزْلِ أمي حاكتهما لي، قال: أنت فكفني. قال: فكفَّنه الأنصاري في النفر الذين شهدوه، منهم حجر ابن الأدبر، ومالك الأشتر، في فنر كلهم يَمان وأخرجه أبو نعيم عن أم ذرَ نحوه، كما في
المنتخب.
وعند ابن سعد أيضاً عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لما نَفى عثمان رضي الله عنه أبا ذر رضي الله عنه إلى الرَّبذة، وأصابه بها قدره، ولم يكن معه أحد إلاَّ امرأته وغلامه، فأوصاهما: أن اغسلاني، وكفِّناني، وضعاني على قارعة الطريق، فأول ركب يمر بكم فقولوا: هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعينونا على دفنه، فلما مات فعلاً ذلك به، ثم وضعاه على قارعة الطريق، وأقبل عبد الله بن سمعود في رَهْط من أهل العراق عُمَّاراً، فلم يَرُعهم إلاَّ بالجنازة على ظهر الطريق قد كادت الإِبل أن تطأها، فقام إليه الغلام فقال: هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعينونا على دفنه، فاستهلَّ عبد الله يبكي ويقول: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم «تمشي وحدك، وتموت وحدك، وتُبعث وحدك» ثم نزل هو وأصحابه فوارَوه؛ ثم حدثهم عبد الله بن مسعود حديثه وما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ي مسيره إلى تبوك.
يقين خُرَيم بن أوس فيما أخبر عليه السلام في شأن الشيماء بنت بقيلة
وأخرج أبو نعيم في الدلائل (ص196) عن حُمَيد بن منهب قال قال جدي خُرَيم بن أوس رضي الله عنه: هاجرت إلى النبي وقدمت عليه منصرفه من(4/84)
تبوك، فأسلمت فسمعته يقول: «هذه الحيرة البيضاء قد رُفعت لي، وهذه الشيماء بنت بُقيلة الأزدية على بغلة شهباء معتجرة بخمار أسود» فقلت: يا رسول الله إنْ نحن دخلنا الحيرة فوجدناها كما تصف فهي لي؟ قال: «هي لك» ، قال: ثم كانت الردّة فما ارتد أحد من طيِّىء، فأقبلنا مع خالد ابن الوليد رضي الله عنه نريد الحيرة، فلما دخلناها كان أول من تلقَّانا الشيماء بنت بُقَيلة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة شهباء معتجزة بخمار أسود، فتعلَّقت بها، فقلت: هذه وصفها لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني خالد بالبينة، فأتيت بها فكانت البينة محمد بنمسلمة ومحمد بن بشير الأنصاريان رضي الله عنهما، فسلَّمها إليَّ خالد، ونزل إليها أخوها عبد المسيح بن بُقَيلة يريد الصلح، فقال: بِعْنيها، فقالت: لا أنقصها والله من عشر مائة، فأعطاني ألف درهم وسلم تها إليه، فقالوا لي: لو قلت: مائة ألف لدفعها إليك، فقلت: ما كنت أحسب أنَّ عدداً أكثر من عشر مائة. وأخرجه الطبراني عن حميد بطوله، كما في الإِصابة، وأخرجه البخاري عن حميد مختصراً وابن منده بطوله وقال: لا يعرف إلاَّ بهذا الإِسناد تفرَّد به زكريا بن يحيى عن زَحْر (بن حصين) . كذا في الإصابة.(4/85)
يقين المغيرة بن شعبة فيما أخبر به عليه السلام من النصر والظَّفر لأصحابه
وأخرج أبو نُعيم في الدلائل (ص198) عن جبير بن حَيَّة قال: أرسل بندارفان العِلج: أن أرسلوا إليَّ معشر العرب رجلاً منكم نكلِّمه، فاختار الناس المغيرة بن شعبة رضي الله عنه - قال جبير: فأنا انظر إليه طويل الشَّعَر أعور - فأتاه فلما رجع سألناه ما قال له؟ فقال لنا: حمدت الله وأثنيت عليه وقلت: إنا كنا لأبعد الناس داراً، وأشد الناس جوعاً، وأعظم الناس شقاء، وأبعد الناس من كل خير، حتى بعث الله إلينا رسولاً، فوعدنا النصر في الدنيا والجنة في الآخرة، فلم نزل نعرف من ربِّنا عز وجل منذ جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفلاح والنصر حتى آتيناكم، وإنَّا والله لنرى ملكاً وعشاً لا نرجع عنه إلى الشقاء أبداً حتى نغلبكم على ما في أيديكم أو نقتل في أرضكم. الحديث.
وعند البيهقي في الأسماء والصفات (ص148) عن جبير بن حَيّة فذكر الحديث الطويل في بعث النعثمان بن مقرِّن رضي الله عنه إلى أهل الأهواز، وأنهم سألوا أن يُخْرِجَ إليهم رجلاً، فأخرج المغيرة بن شعبة، فقال ترجمان القوم: ما أنتم؟ فقال المغيرة: نحن ناس من العرب كنّا في شقاء شديد وبلاء طويل، نمص الجلد والنوى من الجوع، ونلبس الوبر والشَّعَر، ونعبد الشجر والحجر، فبينا نحن كذلك إذ بعث رب السماوات ورب الأرض إلينا نبياً من أنفسنا نعرف أباه وأمه، فأمرنا نبينا رسول ربنا صلى الله عليه وسلم (أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده، أو تؤدُّوا الجزية، وأخبرنا نبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رسالة ربنا أنه من قُتل منّا صار إلى(4/86)
جنة ونعيم لم ير مثله قط، ومن بقي منا ملك رقابكم. ورواه البخاري في الصحيح كما قال البيهقي، وأخرجه أبو نعيم في الدلائل (ص199) عن بكر بن عبد الله الزمني وزياد بن جبير بن حيّة نحوه، ولعله سقط عن في رواية عن جبير بن حية.
يقين أبي الدرداء فيما أخبر به عليه السلام من حفظ الله سبحانه لمن قال كلمات
وأخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (ص125) عن طَلْق قال: جاء رجل إلى أبي الدرداء رضي الله عنه فقال: يا أبا الدرداء احترق بيتك، قال: ما احترق ثم جاء آخر فقال: مثل ذلك، فقال: ما احترق ثم جاء آخر فقال: يا أبا الدرداء، انبعثت النار حتى انتهت إلى بيتك طفئت، قال: قد علمت أن الله عز وجل لم يكن ليفعل (ذاك) قال: يا أبا الدرداء ما ندري أي كلامك أعجب؟ قولك: ما احترق، أو قولك: قد علمت أن الله لم يكن ليفعل ذاك قال: ذاك كلمات سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم من قالهن حين يصبح لم تصبه مصيبة حتى يمسي: «اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، عليك توكلت وأنت رب العرش الكريم. ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله العلي العظيم. أعلمُ أنَّ الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً. اللهم إنِّي أعوذ بك من شر نفسي ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، إنَّ ربي على صراط مستقيم» .
ما تقدَّم من كلام الصحابة رضي الله عنهم في اليقين بأخباره عليه السلام
وقد تقدَّم قول عدي بن حاتم رضي الله عنه في باب الدعوة: والذي نفسي بيده لتكوننَّ الثالثة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها، وقول هشام بن العاص(4/87)
وغيره لجبلة بن الأيهم في إرسال الصحابة الجماعة للدعوة: ومجلسك هذا - فوالله - لنأخذنَّه منك، ولنأخذن ملك الملك الأعظم إن شاء الله، أخبرنا بذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقول علي رضي الله عنه لأبي بكر رضي الله عنه في اهتمام أبي بكر بإرسال الجيوش إلى الشام: أرى أنك إن سرت إليهم بنفسك - أو بعثت إليهم - نُصرت عليهم إن شاء الله، فقال: بشَّرك الله بخير، ومن أين علمت ذلك؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يزال هذا الدين ظاهراً على كل من ناوأه حتى يقوم الدين وأهله ظاهرون» ، فقال: سبحان الله ما أحسن هذا الحديث، لقد سررتني به سَرَّك الله. وسيأتي في التأييدات الغيبية قول ابن عمر رضي الله عنهما حين أخذ بأذن الأسد، فعركها ونحَّاه عن الطريق: ما كذب عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما يُسلّط على ابن آدم ما خافه ابن آدم، ولو أن ابن آدم لم يخف إلاَّ الله لم يسلط عليه غيره» .
اليقين بمجازاة الأعمال
يقين أبي بكر بما أخبره به عليه السلام من مجازاة الأعمال
أخرج ابن أبي شيبة وابن راهويه وعبد بن حُمَيد والحاكم وغيرهم عن أبي أسماء قال: بينما أبو بكر رضي الله عنه يتغدى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزلت هذه الآية {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} {وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} (سورة الزلزلة، الآيتان: 7 و8) فأمسك أبو بكر وقال: يا رسول الله أكل ما عملناه من سوء رأيناه؟ فقال: «ما ترون مما تكرهون فذاك مما تجزون به، ويُؤخَّر الخير لأهله في الآخرة» .(4/88)
وعند ابن مردويه من طريق أبي إدريس الخولاني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا أبا بكر، أرأيت ما رأيت ممَّا تكره فهو من مثاقيل الشر، ويُدَّخر لك مثاقيل الخير حتى تُوفَّاه يوم القيامة، وتصديق ذلك في كتاب الله: {وَمَآ أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} (سورة الشورى، الآية: 30) . كذا في الكنز وقال: وأورده الحافظ ابن حجر في أطرافه في مسند أبي بكر.
وأخرج عبد بن حُميد والترمذي وابن المنذر عن أبي بكر رضي الله عنه قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزلت هذه الآية {من يعلم سوءا يجز به ولا يجد له من دون اوليا ولا نصيرا} (سورة النساء، الآية: 123) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا أبا بكر، ألا أُقرئك آيةً أُنزلت عليَّ» ؟ قلت: بلى يا رسول الله، فأقرأَنيها، فلا أعلم إلاَّ أنِّي وجدت في ظهري إنقاصماً، فتمَّطأت لها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما شأنك؟ يا أبا بكر» قلت: يا رسول الله، وأينا لم يعمل سوءاً؟ وإنا لمجزيون بما عملنا؟ فقال رسول الله: «أما أنت يا أبا بكر والمؤمون فتُجزون بذلك في الدنيا حتى تلقَون وليس لك ذنوب، وأما الآخرون فيجمع الله ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة» . قال الترمذي: غريب وفي إسناده مقال، وموسى بن عبيدة يُضعَّف في الحديث، ومولى ابن سباع مجهول، وقد رُوِي هذا الحديث من غير هذا الوجه عن أبي بكر وليس له إسناد صحيح.
وعند أحمد وابن المنذر وأبي يَعْلى وابن حِبْان والحاكم والبيهقي(4/89)
وغيرهم عن أبي بكر الصدِّيق أنه قال: يا رسول الله، كيف الصلاح بعد هذه الآية: {من يعمل سوءا يجز به} ؟ فكل سوء علمناه جُزيناً به؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض؟ ألست تَنْصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء» ؟ ألست تُنكب» ؟ قال: بلى، قال: «فهي ما تجزَون به في الدنيا» . كذا في كنز العمال.
يقين عمر بن الخطاب في مجازاة الأعمال
وأخرج ابن راهويه عن محمد بن المنتشر قال: قال رجل لعمر ابن الخطاب رضي الله عنه: إني لأعرف أشدَّ آية في كتاب الله، فأهوى عمر فضربه بالدِرَّة فقال: ما لك نقَّبت عنها حتى علمتها؟، فانصرف حتى كان الغد، فقال له عمر: الآية التي ذكرت بالأمس، فقال: {من يعمل سوءا يجز به} فما منا أحد يعمل سوءاً إلاَّ جُزي به، فقال عمر: لبثنا حين نزلت ما ينفعنا طعام ولا شراب حتى أنزل اللهبعد ذلك ورخَّص وقال: {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر ايجد اغفورا رحيما} (سورة النساء، الآية: 11) . كذا في الكنز.
يقين عمرو بن سمرة وعمران بن حصين بالجزاء
وأخرج ابن ماجه عن عبد الرحمن بن ثعلبة الأنصاري عن أبيه رضي الله عنه أن عرو بن سَمُرة بن حبيب بن عبد شمس رضي الله عنه جاء ألى(4/90)
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني سرقت جملاً لبني فلان فطهَّرني، فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا افتقدنا جملاً لنا، فأمر به فقُطعت يده وهو يقول: الحمد الله الذي طهَّرني منكِ، أردتِ أن تدخلي جسدي النار. كذا في التفسير لابن كثير. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: دخل عليه بعض أصحابه - وقد كان ابتُلي في جسهد - فقال له بعضهم: إنا لنبأس لك لما نرى فيك، قال: فلا تبتئس بما ترى، فإن ماترى بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر، ثم تلا هذه الآية: {وَمَآ أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} . كذا في التفسير لابن كثير.
ما تقدَّم عن إيمان أبي بكر ورجل من الصحابة بالجزاء
وقد تقدَّم عن أحمد في الزهد وأبي نعيم في الحلية عن أبي ضمرة - يعني ابن حبيب بن ضمرة - قال: حضرتِ الوفاةُ ابناً لأبي بكر رضي الله عنه، فجعل الفتى ينظر إلى وسادة، فلّما توفي قالوا لأبي بكر: رأينا ابنك يلحظ إلى الوسادة، فرفعوه عن الوسادة فوجدوا تحتها خمسة دنانير أو ستة دنانير، فضرب أبو بكر بيده على الأخرى يرجِّع يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ما أحسب جلدك يتسع لها.. كذا في الكنز وقال: وله حكم الرفع لأنه إخبار عن حال البرزخ. وقد تقدَّم في شتم المسلم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل جاء إليه وسأله عن مماليكه: «إذا كان يوم القيامة يحسب ما خانوك وعصَوك وكذَّبوك، وعقابك إياهم (فإن كان عقابك إياهم) بقدر ذنوبهم كان كفافاً لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل» ؛ فتنحَّى الرجل وجعل(4/91)
يهتف ويبكي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «أما تقرأ قول الله: {وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} (سورة الأنبياء، الآية: 47) الآية؟ فقال الرجل: يا رسول الله، ما أجد لي ولهؤلاء خيراً من مفارقتهم، أشهدك أنهم كلُّهم أحرار. أخرجه الترمذي عن عائشة رضي الله عنها ورجالهما ثقات.
لغاية ص 470
قوة إيمان الصحابة رضي الله عنهم أجمعين
تحمل الصحابة آية: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ}
أخرج أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم {ما في السموات وما في الأرض} {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ} {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآء وَيُعَذّبُ مَن يَشَآء} {وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} (سورة البقرة، الآية: 284) اشتدَّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جثوا على الركب وقالوا: يا رسول الله كُلِّفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أُنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابَيْن من قبلكم: سَمِعْنا وعَصَيْنَا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير» فلما أقرَّ بها القوم وذلَّت بها ألسنتهم أنزل الله في إثرها {آمن الرسول بما أنزل إليه نم ربه والمؤمنون} {كل آمن با وملائكته وكتبه ورسوله} {لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ} {وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (سورة البقرة، الآية: 286) فلمافعلوا ذلك نسخها الله فأنزل الله {لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}(4/92)
{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا} (سورة الأنعام، الآية: 82) - إلى آخره. ورواه مسلم مثله.
وعند أحمد أيضاً عن مجاهد قال: دخلت على ابن عباس رضي الله عنهما فقلت: يا أبا عباس، كنت عند ابن عمر رضي الله عنهما فقرأ هذه الآية فبكى، قال: أية آية؟ قلت: «وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه» قال ابن عباس: إنَّ هذه الآية حين أنزلت غمّت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غماً شديداً وغاظتهم غيظاً شديداً - يعني وقالوا: يا رسول الله هلكنا - إنا كنا نؤاخذ بما تكلَّمنا وبما نعمل، فأما قلوبنا فليست بأيدينا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «قولوا: سمعنا وأطعنا» فقالوا: سمعنا وأطعنا، قال: فنسختها هذه الآية: {ءامَنَ الرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءامَنَ} - إلى {لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} ؛ فتُجُوِّز لهم عن حديث النفس وأُخذوا بالأعمال. وعنده أيضاً من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس مختصراً وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قولوا: سمعنا وأطعنا وسلَّمنا» فألقى الله الإِيمان في قلوبهم، وأخرجه مسلم نحوه وابن جرير من طرق أخرى عن ابن عباس، وهذه طرق صحيحة عن ابن عباس، كما في التفسير لابن كثير.
ما فعل الصحابة عندما نزلت: ولم يلبسوا إيمانهم بظلم
وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الله رضي الله عنه قال: لمّا نزلت: {وَلَمْ(4/93)
يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} (سورة لقمان، الآية: 13) شقَّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: وأيُّنا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لس كما تظنون، إنما قال لابنه: يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِالله إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» ورواه البخاري. وعند ابن مروديه عنه قال: لمَّا نزلت {الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قيل لي: أنت منهم» . كذا في التفسير لابن كثير.
ما فعلت نساء الصحابة حين نزلت: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}
وأخرج ابن أبي حاتم عن صفية بنت شيبة قالت: بينا نحن عند عائشة رضي الله عنها قال: فذكرنا نساء قريش وفضلهنَّ، فقالت عائشة رضي الله عنها: إنَّ لنساء قريش لفضلاً، وإنِّي والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار، أشدّ تصديقاً لكتاب الله ولا إيماناً بالتنزيل لقد أُنزلت سورة النور {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} (سورة النور، الآية: 31) انقلب رجالهنَّ إليهنَّ يتلون عليهنَّ ما أنزل الله إليهم فيها، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذي قرابة، فما منهن امرأة إلاَّ قامت إلى مِرْطها المرحَّل فاعتجرت به؛ تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه، فأصبحنَ وراء رسول الله متعتجرات كأنَّ على رؤوسهن الغربان. ورواه أبو داود من غير وجه عن صفية بنت شيبة به. كذا في التفسير لابن كثير.(4/94)
قصة شيوخ كبير أكثر من الذنوب وقصة أبي فروة أيضا
وأخرج ابن أبي حاتم عن مكحول قال: جاء شيخ كبير هرم قد سقط حاجباه على عينيه، فقال: يا رسول الله رجل غَدَر وفجر، ولم يدع حاجَة ولا داجة إلاَّ اقطفها بيمينه، لو قُسمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم؛ فهل له من توبة؟ فقال النبي: «أأسلمت» ؟ فقال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «فإن الله غافر لك غَدَراتك وفجراتك، ومبدِّل سيئاتك حسنات ما كنت كذلك» فقال: يا رسول الله وغَدَراتي وفَجَراتي؟، قال: «وغَدَراتك وفَجَراتك» فولَّى الرجل يكبِّر ويهلل. وأخرج الطبراني من حديث أبي فروة رضي الله عنه أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلَّها ولم يترك حاجة ولا داجة، فهل له من توبة؟ فاقل: «أسلمت» ؟ فقال: نعم، قال: «فافعل الخيرات، وأترك السيئات، فيجعلها الله لك خيرات كلَّها، قال: وغَدَراتي وفَجَراتي؟، قال: «نعم» فما زال يكبِّر حتى توارَى، كذا في التفسير لابن كثير.
قصة امرأة مذنبة مع أبي هريرة
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاءتني امرأة(4/95)
فقالت: هل لي من توبة؟ إني زنيت وولدت وقتلته، فقلت: لا، ولا نَعِمَتِ العين ولا كرامة فقامت وهي تدعو بالحسرة، ثم صلَّيتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم الصبح فقصصت عليه ما قالت المرأة وما قلت لها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بئسما قلت أما كنت تقرأ هذه الآية» {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ الها ءاخَرَ} - إلى قوله: {إِلاَّ مَن تَابَ} (سورة الفرقان، الآيتان: 68 و70) الآية؟ فقرأتها عليها فخرَّت ساجدة وقالت: الحمد لله الذي جعل لي مخرجاً. هذا حديث غريب من هذا الوجه، وفي رجاله من لا يُعرف. وقد رواه ابن جرير بسنده بنحوه، وعنده: فخرجت تدعو بالحسرة وتقول: يا حسرتا أخُلق هذا الحسن للنار؟ وعنده أنه لما رجع من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تطلَّبها في جميع دور المدينة فلم يجدها، فلما كان من الليلة المقبلة جاءته فأخبرها بما قاله له رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرَّت ساجدة وقالت: الحمد لله الذي جعل لي مخرجاً وتوبة مما عملت، وأعتقت جارية كانت معها وابنتها، وتابت إلى الله عز وجل.H كذا في التفسير لابن كثير.
ما فعل شعراء النبي عليه السلام حين نزلت: {والشعراء يتبهم الغاوون}
وأخرج ابن إسحاق عن أبي الحسن - مولى تميم الداري رضي الله عنه - قال: لمَّا نزلت {وَالشُّعَرَآء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} (سورة الشعراء، الآية: 224) جاء حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك رضي الله عنهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يبكون، قالوا: قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنَّاشعراء، فتلا النبي صلى الله عليه وسلم {إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} قال: «أنتم» {وَذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيراً} قال: «أنتم» {وَانتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} (سورة الشعراء، الآية: 227) قال: «أنتم» . وأخرجه ابن أبي حاتم وابن جير من رواية(4/96)
ابن إسحاق، وأخرجه ابن أبي حاتم عن أبي الحسن - مولى بني نوفل - بمعناه ولم يذكر كعباً، كما في التفسر لابن كثير، وأخرجه الحاكم عن أبي الحسن بسياق ابن أبي حاتم.
حقيقة محبة لقاء الله وحقيقة كراهية ذلك
وأخرج أحمد عن عطاء بن السائب قال: كان أول يوم عرفت فيه عبد الرحمن بن أبي ليلى رأيت شيخاً أبيض الرأس واللحية على حمار وهو يتبع جنازة، فسمعته يقول: حدثني فلان بن فلان سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أحبَّ لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» ، قال: فأكبَّ القوم يبكون، فقال: ما يبكيكم: فقالوا: إنا نكره الموت، قال: ليس ذلك، ولكنه إذا احتُضر {فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّاتُ نَعِيمٍ} (سورة الواقعة، الآيتان: 88 و89) فإذا بُشِّر بذلك أحبَّ لقاء الله عز وجل، والله عز وجل للقائه أحب {وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذّبِينَ الضَّآلّينَ} {فَنُزُلٌ مّنْ حَمِيمٍ} {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} (سورة الواقعة، الآيات: 92 - 94) فإذا بُشِّر بذلك كره لقاء الله، والله تعالى للقائه أكره. كذا في التفسير لابن كثير.
بكاء الصفيق حين نزلت: {إِذَا زُلْزِلَتِ}
وأخرج ابن جرير عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: لمَّا نزلت {زلزت الأرض زلزالها} (سورة الزلزلة، الآية: 1) وأبو بكر الصديِّق رضي الله عنه(4/97)
قاعد، فبكى حين أُنزلت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما يبكيك يا أبا بكر» ؟ قال: يبكيني هذه السورة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «لولا أنكم تخطئون وتذنبون فيغفر الله لكم لخلق الله أمة يخطئون ويذنبون فيغفر لهم» . كذا في التفسير لابن كثير.
ما أخبر به عليه السلام عمر عما سيجري معه في القبر
وأخرجه ابن أبي داود في البَعْث وأبو الشيخ في السنَّة والحاكم في الكُنَى والبيهقي في كتاب عذاب القبر والأصبهاني في الحجة وغيرهم عن عمر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا عمر، كيف أنت إذا كنت في أربع أذرع من الأرض في ذراعين، ورأيت مُنْكراً ونَكيراً» ؟ فقلت: يا رسول الله وما منكر ونكير؟ قال: «فَتَّانا القبر، يبحثان القبر بأيابهما، ويطآن في أشعارهما، أصواتهما كالرعد القاصف، وأبصارهما كالبرق الخاطف، معهما مرزبة لو اجتمع عليها أهل مِنى لم يطيقوا رفعها، هي أيسر عليهما من عصاي هذه - وبيد رسول الله صلى الله عليه وسلم عُصَيَّة يحرِّكها - فامتحناك، فإن تعاييت أو تلوَّيت ضرباك بها ضربة تصير بها رماداً» قلت: يا رسول الله وأنا على حالي هذه، قال: «نعم» ، قال: إذن أكفيكهما ... كذا في الكنز. وأخرجه سعيد بن منصور نحوه، وزاد عبد الواحد المقدسي في كتابه التبصير فقال صلى الله عليه وسلم «والذي بعثني بالحق نبياً لقد أخبرني جبريل أنهما يأتيانك فيسألانك فتقول أنت: الله ربي فمن ربكما؟ ومحمد نبيي فمن نبيكما؟ والإِسلام ديني فما ينكما؟ فيقولان: وأعجباه ما ندري: نحن أُرسلنا إليك، أم أنت أرسلت إلينا» كما في الرياض(4/98)
النضرة.
قول عمر في قوة إيمان عثمان رضي الله عنهما
وأخرج ابن عساكر عن أبي بحريّة الكِندي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج ذات يوم فإذا هو بمجلس فيه عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقال: معكم رجل لو قسم إيمانه بين جند من الأجناد لوسعهم - يريد عثمان بن عثمان -. كذا في المنتخب.
ما تقدَّم من أقوال الصحابة رضي الله عنهم في قوة الإِيمان
وقد تقدَّم في صفة الصحابة قول ابن عمر رضي الله عنهما حين سئل: هل كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يضحكون؟ قال: نعم والإِيمان في قلوبهم أعظم من الجبال. وقول عمار رضي الله عنه في تحمل الشدائد: أجد قلبي مطمئناً بالإِيمان، حين قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «كيف تجد قلبك» ؟ أي عندما أخذه المشركون فلميتركوه حتى ذكر آلهتهم بخير، أخرجه أبو نعيم في الحلية وابن سعد عن أبي عبيدة، وهكذا أخرجه عنه ابن جرير والبيهقي كما في التفسير لابن كثير. وقول أبي بكر رضي الله عنه في الاستخلاف: أبربي تخوِّفوني؟ أقول: اللهمَّ استخلفت عليهم خير أهلك، وفي رواية أخرى: لأنا أعلم بالله وبعمر منكما. وقول عمر رضي الله عنه في قَسْم جميع ما في بيت المال للرجل الي كلَّمه في إبقاء المال لعدو أو نائبة: جرى الشيطان على لسانك، لقَّنني الله حجَّتها ووقاني شرها، أعدُّ لهاما أعدّ لها رسول الله صلى الله عليه وسلم طاعة الله عز وجل ورسوله. وفي رواية أخرى: والله لا أعصينَّ الله لِغَدٍ. وفي أخرى: أعدُّ لهم تقوى الله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} (سورة الطلاق، الآية: 2) - الآية. وقول علي(4/99)
رضي الله عنه في رغبة الصحابة في الإنفاق: لا يصدق إيمان عبد حتى يكون بما في يد الله أوثق منه بما في يده، عندما أراد الصدقة على المسائل وقالت فاطمة رضي الله عنها: إنما تركتُ ستة دراهم للدقيق. وقول عامر بن ربيعة رضي الله عنه في ردِّ المال: لا حاجة لي في قطيعتك،
نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} (سورة الأنبياء، الآية: 1) . وتقدَّم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كان أسيد بن حُضَير رضي الله عنه من أفاضل الناس، فكان يقول: لو أني أكون كما أكون محل حال من أحوال ثلاث لكنت من أهل الجنة، وما شككت في ذلك: حين أقرأ القرآن وحين أسمعه، وإذا سمعت خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا شهدت جنازة؛ فما شهدت جنازة قط فحدثت نفسي سوى ما هو مفعول بها وما هي صائرة إليه. أخرجه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح الإِسناد ولم يخرِّجاه. وقال الذهبي: صحيح.(4/100)
الباب الثاني عشر باب اجتماع الصحابة على الصلوات
كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يجتمعون على الصلوات في المساجد، ويرغبون فيها ويرغِّبون إليها، ويفهمون من انتقالها الانتقال من أمر إلى أمر، ومن عمل إلى عمل وكيف كانوا يتركون أشغالهم بما يؤمرون من الأعمال التي فيها تقوية الإِيمان وصفاته، ونشر العلم وأعماله، وإحياء الذكر وإقامة الدعاء بشرائطه؛ فكأنهم كانوا لا يلتفتون إلى ظاهر الأشكال ولا يستفيدون إلاَّ من خالقها والمتصرِّف فيها.(4/101)
ترغيب النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة
حديث عثمان وسلم ان رضي الله عنهما في ذلك
أخرج أحمد بإسناد حسن وأبو يَعْلى والبزّار عن الحارث مولى عثمان رضي الله عنه قال: جلس عثمان رضي الله عنه يوماً وجلسنا معه، فجاء المؤذن، فدعا بماء في إناء - أظنه فيكون فيه مُدٌّ - فتوضأ، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وُضوئي هذا، ثم قال: «من توضأ وضوئي هذا، ثم قام يصلِّي صلاة الظهر عُفر له ما كان بينها وبين الصبح، ثم صلّى العصر غُفر له ما كان بينها وبين الظهر، ثم صلّى المغرب غُفر له ما كان بينها وبين العصر، ثم صلّى العشاء غُفر له ما كان بينها وبين المغرب، ثم لعله يبيت يتمرغ ليلته، ثم إن قام فتوضى فصلَّى الصبح غُفر له ما بينها وبين صلاة العشاء؛ وهن الحسنات يذهبن السيئات» ، قالوا: هذه الحسنات فما الباقيات (الصالحات) يا عثمان؟ قال هي: لا إله إلاَّ الله وسبحان الله، والحمد الله، والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله. كذا في الترغيب وقال الهيثمي: رواه أحمد وأبو يَعْلى(4/103)
والبزّار ورجاله رجال الصحيح غير الحارث بن عبد الله مولى عثمان بن عفان وهو ثقة وفي الصحيح بعضه. انتهى.
وأخرجه أحمد والنِّسائي والطبراني عن أبي عثمان قال: كنت مع سلمان رضي الله عنه تحت شجرة، فأخذ غصناً منها يابساً فهزه حتى تحاتَّ ورقه، ثم قال: يا أبا عثمان ألاَّ تسألني لِمَ أفعل هذا؟ قلت: ولمَ تفعله؟ قال: هكذا فعل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه تحت شجرة، فأخذ منها غصناً يابساً فهزَّه حتى تحاتَّ ورقه، فقال: «يا سلمان ألا تسألني لِمَ أفعل هذا» ؟ قلت: ولمع تفعله؟ قال: «إنَّ المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم صلَّى الصلوات الخمس، تحاتَّت خطاياه كما يتحاتُّ هذا الورق، وقال: {وَأَقِمِ الصلاةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفاً} {من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرينr (سورة هود، الآية: 411) قال المنذري في الترغيب: رواه أحمد محتج بهم في الصحيح إلا علي بن زيد. اه.} عع>35قصة الأخوين اللذين مات أحدهما شهيداً وأُخر الآخر
وأخرج أحمد عن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: سمعت سعداً(4/104)
رضي الله عنه وناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: كان رجلان أخوان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أحدهما أفضل من الآخر، فتوفي الذي هو أفضلهم وعُمِّر الآخر بعده ثم توفي، فذُكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فضل الأول على الآخر، فقال: «ألم يكن يصلِّي» ؟ قالوا بلى يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما يدريك ما بلغت به صلاته» ؟ ثم قال عند ذلك: «إنما مَثَل الصلاة كمثل نهر جارٍ بباب رجلٍ غمرٍ عذبٍ، يقتحم فيه كل يوم خمس مرات، فماذا تَروْن يبقى من دَرَنه» ؟ قال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني في الأوسط إلاَّ أنه قال: ثم عُمِّر الآخر بعده أربعين ليلة، ورجال أحمد رجال الصحيح. اهـ، وأخرجه أيضاً مالك والنِّسائي وابن خُزَيمة في صحيحه كما في الترغيب.
وأخرج أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رجلان من بَلِيّ - حيّ من قُضاعة - أسلما مع رسول الله، فاستشهد أحدهما وأُخِّر الآخر سنة، قال طلحة بن عبيد الله: فرأيت المؤخَّر منهما أُدخل الجنة قبل الشهيد،(4/105)
فتعجبت لذلك، فأصبحت فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ـ أو ذُكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أليس قد صام بعده رمضان، وصلَّى ستة آلاف ركعة وكذا وكذا ركعة صلاة سَنَة» قال في الترغيب: رواه أحمد بإسناد حسن، ورواه ابن ماجه وابن حِبّان في صحيحه والبيهقي كلّهم عغن طلحة بنحوه أطول منه، وزاد ابن ماجه وابن حبان في آخره: «فلَمَا بينهما أبعد مما بين السماء والأرض» .
قوله عليه السلام لرجل عن الصلاة: إنها كفارة ذنبك
وأخرج الطبراني عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ننتظر الصلاة، فقام رجل فقال: إني أصبت ذنباً، فأعرض عنه؛ فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة قام الرجل فأعاد القول، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «أليس قد صليت معنا هذه الصلاة وأحسنت لها الطُّهور» ؟ قال: بلى، قال: «فإنها كفارة ذنبك» ؛ قال الهيثمي: رواه الطبراني في الصغير والأوسط والحارث ضعيف. اهـ.
قوله عليه السلام لرجل سأله عن أفضل الأعمال
وأخرج أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن أفضل الأعمال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الصلاة» قال: ثم مَهْ؟ قال: الصلاة قال: ثم (مَهْ؟ قال: الصلاة) - ثلاث مرات فلما غلب عليه(4/106)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الجهاد في سبيل الله» ، قال الرجل: فإنَّ لي والدين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «آمرك بالوالدين خيراً» ، قا: والذي بعثك بالحق نبياً لأجاهدنَّ ولأتركنَّهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنت أعلم» ؛ قال الهيثمي: وفيه ابن لَهيعة وهو ضعيف وقد حسَّن له الترمذي وبقية رجاله رجال الصحيح. اهـ، وأخرجه أيضاً ابن حِبّان في صحيحه، كما في الترغيب.
قوله عليه السلام لمن أدَّى أركان الإِسلام: أنت من الصدِّيقين والشهداء
وأخرج البزَّار، وابن خزيمة وابن حِبَّان في صحيحهما - واللفظ لابن حِبَّان - عن عمرو بن مرَّة الجهني رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت إن شهدتُ أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس، وأديت الزكاة، وصمت رمضان وقمته، فممَّن أنا؟ قال: «من الصدِّيقين والشهداء» . كذا في الترغيب.
وصيته عليه السلام بالصلاة حين حضرته الوفاة
وأخرج البيهقي عن أنس رضي الله عنه قال: كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضره الوفاة: «الصلاة، وما ملكت أيمانكم» حتى جعل يغرغر بها وما يفصح بها لسانه، وقد رواه النسائي وابن ماجه. وعند أحمد من(4/107)
حديثه قال: كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت: «الصلاة، وما ملكت أيمانكم» حتى جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يغرغر بها صدره وما يكاند يفيض بها لسانه. ومن حديث علي رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آتيه بطبق يكتب فيه ما لا تضلَّ أمته من بعده، قال: فخشيت أن تفوتني نفسه، قال: قلت: إني أحفظ وأعي، قال: «أوصي بالصلاة، والزكاة، وما ملكت أيمانكم» . كذا في البداية. وأخرجه أيضاً ابن سعد عن أنس مثله. وأخرج أيضاً عن علي رضي الله عنه نحوه وزاد: فجعل يوصي بالصلاة والزكاة وما ملكت أيمانكم، قال كذلك حتى فاضت نفسه، وأمر بشهادة أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً عبده ورسوله حتى فاضت نفسه/ «من شهد بهما حُرِّم على النار» . وعند أحمد والبخاري في الأدب وأبي داود وابن ماجه وابن جرير - وصحَّحه - وأبي يَعْلى والبيهقي عن علي قال: كان آخر كلام النبي: «الصلاةَ، الصلاةَ، واتَّقوا الله فيما ملكت أيمانكم» . كذا في الكنز.
ترغيب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم في الصلاة
قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في الصلاة
أخرج الحكيم عن أبي بكر رضي الله عنه قال: الصلاة أمان الله في(4/108)
الأرض، وأخرج ابن سعد عن أبي المليح قال: سمعت عرم بن الخطاب رضي الله عنه يقول على المبر: لا إسلام لمن لم يصلِّ، كذا في الكنز.
أقوال زيد وحذيفة وابن عمر وابن عمرو في الصلاة
وأخرج عبد الرزاق عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: صلاة الرجل في بيته نور، وإذا قام الرجل إلى الصلاة عُلِّقت خطاياه فوقه، فلا يسجد سجدة إلاَّ كفَّر الله عنه بها خطيئته، وأخرج عبد الرزاق عن حذيفة رضي الله عنه قال: إنَّ العبد إذا توضأ فأحسن وُضوءه ثم قام إلى الصلاة استقبله الله بوجهه يناجيه، فلم يصرفه عنه حتى يكون هو الذي ينصرفه أو يلتفت يميناً أو شمالاً. وأخرج عبد الرزاق عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: الصلاة حسنة، لا أبال من شاركني فيها. كذا في الكنز. وأخرج ابن عساكر عن ابن عمرو رضي الله عنهما قال: ما من مسلم يأتي زيارة من الأرض أو مسجداً بُني بأحجاره فصلَّى فيه إلاَّ قالت الأرض: صلَّى لله في أرضه، وأشهد لك يوم تلقاه. وعند عبد الرزاق عنه قال: خرجت في عنق آدم - عليه السلام - شأفة -(4/109)
يعني بَثرة - فصلَّى صلاة فانحدرت إلى صدره، ثم صلَّى صلاة فانحدرت إلى الحقو، ثم صلَّى صة فانحدرت إلى الكعب، ثم صلَّى صلاة فانحدرت إلى الإبهام، ثم صلَّى صلاة فذهبت. كذا في الكنز.
أقوال ابن مسعود وسلم ان وأبي موسى في الصلاة
وأخرج أبو نُعيم في الحيلة عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ما دمتَ في صلاة فأنت تقرع باب الملك، ومن يقرع باب المَلِك يُفتح له. وعند عبد الرزاق عنه قال: احملوا حوائجكم على المتكوية. وعنده أيضاً عنه قال: الصلوات كفَّارات لما بينهنَّ ما اجتُنبت الكبائر. وعند ابن عساكر عنه قال: الصلوات كفارات لما بعدهنَّ، إن آدم خرجت به شأفة في إبهام رجله، ثم ارتفعت إلى أصل قدميه، ثم ارتفعت إلى ركبتيه، ثم ارتفعت إلى أصل حَقْويه؛ ثم ارتفعت إلى أصل عنقه، فقام فصلَّى فنزلت عن منكبيه، ثم صلَّى فنزلت إلى حَقويه، ثم صلَّى فنزلت إلى ركبتيه، ثم صلَّى فنزلت إلى قدميه، ثم صلَّى ذهبت. كذا في الكنز.
وأخرج عبد الرزاق عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: إنَّ اعبد إذا قام إلى الصلاة وُضعت خطاياه على رأسه، فلا يفرغ من صلاته حتى تتفرق(4/110)
عنه كما تتفرق عُذوق النخلة تساقط يميناً وشمالاً. وعند ابن زنجويه عنه قال: إذا صلَّى العبد اجتمعت خطاياه فوق رأسه، فإذاسجد تحاتَّت كما يتحاتُّ ورق الشجر. وعنده أيضاً عن طارق بن شهاب أنه بات عند سلمان ينظر اجتهاده، فقام يصلِّي من آخر الليل فكأنه لم يرَ الذي كان يظن، فذكر له ذلك، فقال سلمان: حافظوا على الصلوات الخمس فإنهنَّ كفارات لهذه الجراحات ما لم يصب المقتلة، فإذا أمسى الناس كانوا على ثلاث منازل: فمنهم من له ولا عليه، ومنهم من عليه ولا له، ومنهم من لا له ولا عليه، فرجل اغتنم ظلمة الليل وغفلة الناس فقام يصلِّي حتى أصبح فذلك له ولا عليه، ورجل اغتنم غفلة الناس وظلمة الليل فركب رأسه في المعاصي فذلك عليه ولا له، ورجل صلَّى العشاء ونام فذلك لا له ولا عليه، فإياك والحقحقة وعليك بالقصد وداوم، كذا في الكنز. وأخرجه الطبراني في الكبير عن طارق بن شهاب نحوه ورجاله موثَّقون، كما قال الهيثيم. وأخرج عبد الرزاق عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: نحرق على أنفسنا فإذا صلينا المكتوبة كفَّرت الصلاة ما قبلها، ثم نحرق على أنفسنا فإذا صلينا كفرت الصلاة ما قبلها. كذا في الكنز.(4/111)