{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
1 - الآيات القرآنية في طاعة الله سبحانه وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ الرحمن الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّآلّينَ} .
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُّسْتَقِيمٌ} (آل عمران: 51) . وقال الله تعالى: {قُلْ إِنَّنِى هَدَانِى رَبّى إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذالِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام: 161 - 163) . وقال تعالى: {قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ لآ اله إِلاَّ هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ فَئَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِىّ الأمّىّ الَّذِى يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} «ـ (الأعراف: 158) . وقال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآءوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً} (النساء: 64) . وقال: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ} (الأنفال: 20) . وقال:(1/33)
{وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (آل عمران: 132) . وقال: {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: 46) . وقال: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (
النساء: 59) . وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَآئِزُون} (النور: 51، 52) . وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذالِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَأَقِيمُواْ الصلاةَ وَآتُواْ الزكاةَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِى الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مّن قَبْلِ صلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صلاةِ الْعِشَآء ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوفُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِذَا بَلَغَ الاْطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا
اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذالِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءايَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النّسَآء الَّلَاتِى لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرّجَاتِ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عِلِيمٌ لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءابَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيّبَةً كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءامَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّى يَسْتَذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآء بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَلآ إِنَّ للَّهِ
مَا فِى السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ وَاللَّهُ بِكُلّ شَىْء عَلِيمُ} (
النور: 54 - 70) . وقال: {فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسَانٌ فَبِأَىّ ءالآء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} (الأحزاب: 70، 71) . وقال: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْء وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (الأنفال: 24) . وقال: {قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ(1/34)
لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (آل عمران: 32) . وقال تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} (النساء: 80) . وقال تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشُّهَدَآء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ذالِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً} (النساء: 69، 70) . وقال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَرُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (النساء: 13، 14) . وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفَالِ قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ
قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (الأنفال: 1 - 4) . وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصلاةَ وَيُؤْتُونَ الزكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 71) . وقال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (آل عمران: 31) . وقال تعالى: {فَبِأَىّ ءالآء رَبّكُمَا تِكَذّبَانِ} (الأحزاب: 21) . وقال تعالى: {مَّآ أَفَآء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَى لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الاْغْنِيَآء مِنكُمْ وَمَآ ءاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (الحشر: 7) .(1/35)
2 - الأحاديث في طاعة النبي صلى الله عليه وسلم واتِّباعه واتِّباع خلفائه رضي الله عنهم:
أخرج البخاري عن أَبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: «كل أُمتي يدخلون الجنة إلا من أَبى، قالوا يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أَبى» كذا في «الجامع» .
وأخرج البخاري أيضاً عن جابر رضي الله عنه قال: جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم فقالوا: إنَّ لصاحبكم هذا مثلاً فاضربوا له مثلاً. قال بعضهم: إِنَّه نائم، وقال بعضهم: إنَّ العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: مَثَلُه كمثل رجل بنى داراً وجعل فيها مأدُبة وبعث داعياً؛ فمن أَجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدُبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأَكل من المأدُبة. فقالوا: أَوِّلُوها له يفقَهْها، قال بعضهم: إِنَّه نائم، وقال بعضهم: إِنَّ العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: الدار الجنة، والداعي محمد، فمن أَطاع محمداً فقد أطاع الله، ومن عصى محمداً فقد عصى الله، ومحمد فَرْقٌ بين الناس.
وأخرج الدارمي عن ربيعة الجَرَشي رضي الله عنه بمعناه، كما في «المشكاة» (ص 21) .(1/36)
وأَخرج الشيخان عن أبي موسى رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنَّما مثلي مثل ما بعثني الله به كمثل رجل أَتى قوماً فقال: يا قوم، إِنِّي رأَيت الجيش بعيني، وإِني أَنا النذير العُريان، فالنَّجاءَ، فالنَّجاءَ فأَطاعه طائفة من قومه فأَدلجوا فانطلقوا على مهلهم فنَجَوا، وكذّبت طائفة منهم فأَصبحوا مكانهم فصبَّحهم الجيش فأَهلكهم واجتاحهم؛ فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به ومثل من عصاني وكذَّب ما جئب به من الحق» .
وأخرج الترمذي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ليأتين على أمتي كما أَتى على بني إِسرائيل حَذْوَ النَّعْلِ بالنَّعْلِ» ؛ حتى إِنْ كان منهم من أَتى أمه علانية لكان في أَمتي من يصنع ذلك، وإِنَّ بني إِسرائيل تفرَّقت على ثنتين وسبعين ملَّة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملَّة، كلُّهم في النار إِلا ملَّة واحدة. قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: «ما أَنا عليه وأصحابي» .
وأخرج الترمذي وأبو داود - واللفظ له - عن العِرْباض بن سارية رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم أَقبل علينا بوجهه؛ فوعظنا(1/37)
موعظة بليغة ذرفت منها العين ووجلت منها القلوب، فقال رجل: يا رسول الله، كأَنَّ هذه موعظة مودِّع فماذا تعهد إلينا: قال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإِن عبداً حبشياً؛ فإِنَّه من يَعِشْ منكم بعدي فسيرى إختلافاً كثيراً، فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين، تمسّكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدَثات الأمور فإِنَّ كل مُحْدَثة بدعة وكل بدعة ضلالة» .
وأَخرج رَزِين عن عمر رضي الله عنه مرفوعاً: سأَلت ربِّي عن إختلاف أَصحابي من بعدي، فأوحى إليّ: يا محمد، إِنَّ أَصحابك عندي بمنزلة النجوم من السماء بعضها أَقوى من بعض ولكلِّ نور، فمن أَخذ بشيء ممن هم عليه من إختلافهم فهو عندي على هدى» ، وقال: «أصحابي كالنجوم بأَيهم اقتديتم اهتديتم» ، كذا في جمع الفوائد.
وأخرج الترمذي عن حُذيفة رضي الله عنه مرفوعاً: «إنِّي لا أدري قَدْر بقائي فيكم فاقتدوا باللَّذْين من بعدي - وأَشار إِلى أَبي بكر وعمر رضي الله عنهما - واهتدوا بِهَدْي عمَّار، وما حدَّثكم ابن مسعود فصدِّقوه» .
وأخرج أيضاً عن بلال بن الحارث المُزَني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أَحيا سنّة من سنّتي قد أُميتت بعدي فإن له من الأجر مثل أجور من عمل به من غير أَن ينقص ذلك من أجورهم شيئاً. ومن ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسوله كان عليه من الإِثم مثل آثام من عمل بها لا ينقص(1/38)
ذلك من أوزارهم شيئاً» . وأَخرج ابن ماجه أيضاً نحوَه عن كَثير بن عبد الله بن عمرو عن أَبيه عن جده.
وأَخرج الترمذي أَيضاً عن عمرو بن عوف رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إِنَّ الدين ليأرِز إلى الحجاز كما تأرِز الحيّة إلى حُجْرها، وليَعْقِلَنَّ الدين من الحجاز مَعْقِل الأُرْوِيَّة من رأس الجبل. إِنَّ الدين بدأَ غريباً وسيعود غريباً كما بدأَ، طوبى للغرباء وهم الذين يُصلحون ما أَفسد الناس من بعدي من سنّتي» .
وأخرج أَيضاً عن أَنس رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا بني، إِن قَدرْتَ أَن تصبح وتمسي وليس في قلبك غُشُّ لأحد فافعل، ثم قال: يا بني، وذلك من سنَّتي، ومن أَحب سنّتي فقد أحبني، ومن أَحبني، كان معي في الجنة» .
وأَخرج البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنه ما مرفوعاً: «من تمسك بسنَّتي عند فساد أمتي فله أجر مائة شهيد» . رواه الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه إِلا أَنه قال: «فله أجر شهيد» ، كذا في الترغيب.
وأَخرج الطبراني وأبو نُعَيْم في الحِلية عن أبي هريرة رضي الله عنه: «المتمسك بسنَّتي عند فساد أمتي له أجر شهيد» .(1/39)
وأخرج الحكيم عنه: «المتمسك بسنَّتي عند اختلاف أُمتي كالقابض على الجمر» كذا في كنز العمال.
وأخرج مسلم عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً: «من رغب عن سنَّتي فليس مني» . وأخرجه ابن عساكر عن ابن عمر وزاد في أوله: «من أخذ بسنّتي فهو مني» .
وأَخرج الدارقطني عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: من تمسك بالسنَّة دخل الجنَّة» .
وأخرج السَّجْزي عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً: «من أَحيا سنَّتي فقد أحبَّني ومن أحبَّني كان معي في الجنة» .
3 - الآيات القرآنية في النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم:
قال الله تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ وَلَاكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلّ شَىْء عَلِيماً} (الأحزاب: 40) . وقال تعالى: {ياأَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً} (الأحزاب: 45، 46) . وقال تعالى: {إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً لّتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ وَتُسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (الفتح: 8، 9) . وقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلاَ تُسْئَلُ عَنْ(1/40)
أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} (البقرة: 119) . وقال تعالى: {إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} (فاطر: 24) . وقال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (سبأ: 28) . وقال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشّراً وَنَذِيراً} (الفرقان: 56) . وقال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) . وقال تعالى: {هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (الصف: 9) . وقال تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِى كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلآء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لّكُلّ شَىْء وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل: 89) . وقال تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَآء مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ
يَهْدِى مَن يَشَآء إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (البقرة: 142) . وقال تعالى: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُواْ اللَّهَ ياأُوْلِى الالْبَابِ الَّذِينَ ءامَنُواْ قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءايَاتِ اللَّهِ مُبَيّنَاتٍ لّيُخْرِجَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً} (
الطلاق: 10، 11) . وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ} (آل عمران: 164) . وقال تعالى: {كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِيكُمْ وَيُعَلّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ(1/41)
تَكْفُرُونِ} (البقرة: 151، 152) . وقال تعالى: {لَقَدْ جَآءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ} ـ (التوبة: 128) . وقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكّلِينَ} (آل عمران: 159) . وقال تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 40) . وقال تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ
أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِى الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (الفتح: 29) .
قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الامّىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاْغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف: 157) .(1/42)
4 - قوله تعالى في أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام:
{لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِىّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالاْنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءوفٌ رَّحِيمٌ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الارْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (التوبة: 117، 118) . وقال تعالى: {لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} ـ وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَان اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (الفتح: 18، 19) . وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الاْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالانْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الانْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة: 100) . وقال تعالى: {لِلْفُقَرَآء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر: 8، 9) . وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ
الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَآء وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (الزمر: 23) . وقال تعالى:
{إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِئَايَاتِنَا(1/43)
الَّذِينَ إِذَا ذُكّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (السجدة: 15 - 17) . وقال تعالى: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى الاْرْضِ وَلَاكِن يُنَزّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ وَهُوَ الَّذِى يُنَزّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِىُّ الْحَمِيدُ وَمِنْ ءايَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآء قَدِيرٌ} (الشورى: 26 - 29) . وقال تعالى: {مّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً لّيَجْزِىَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُفعَذّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَآء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} (الأحزاب: 23، 24) . وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَآء
الَّيْلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الاْخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الاْلْبَابِ} (الزمر: 9) .
5 - ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم في الكتب المتقدمة على القرآن:.
أَخرج أحمد عن عطاء بن يَسَار قال: لقيتُ عبد الله بن عمرو ابن العاص رضي الله عنهما فقلت: أَخبرني عن صفاتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، فقال: أجلْ. الله إِنه لموصوفٌ في التوراة بصفته في القرآن: (يا أَيها النبيُّ إِنَّا أَرسلناك(1/44)
شاهداً، ومبشِّراً، ونذيراً، وحِراً للأمِّيين، أنت عبدي ورسولي، سميتُك المتوكِّل، لا فَظٌ ولا غليظٌ ولا صخَّابٌ في الأَسواق، لا يدفُع بالسيئةِ السيئةَ ولكن يعفو ويغفرُ، ولن يقبضه الله حتى يقيموا الملّة العوجاءَ بأَن يقولوا لا إله إِلا الله، يفتحُ به أَعيناً عُمْياً، وآذاناً صُمّاً، وقلوباً غُلْفاً) . وأَخرجه البخاري نحوه عن عبد الله، البيهقي عن ابن سَلام، وفي رواية: «حتى يقيم به الملّة العوجاء» . وأَخرجه ابن إِسحاق عن كعب الأَحبار بمعناه. وأَخرجه البيهقي عن عائشة رضي الله عنها مختصراً؛ وذكر وَهْب بن مُنَبِّه أَن الله تعالى أوحى إلى داود في الزبور: «يا داود، إِنَّه سيأتي من بعدك نبيٌّ إسمه أحمد ومحمد، صادقاً سيّداً، لا أغضب عليه أبداً، وقد غفرت له قبل أَن يعصيني ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، وأمته مرحومة؛ أعطيتهم من النوافل مثل ما أعطيت الأنبياء، وفرضت عليهم الفرائض التي افترضت على الأَنبياء والرسل، حتى يأتوني يوم القيامة ونورهم مثل نور الأنبياء.. إلى أن قال: يا داود، إنّي فضلت محمداً وأمته على الأمم كلِّها» . كذا في البداية.
أخرج أبو نُعَيم في الحلية عن سعيد بن أبي هلال أنَّ عبد الله بن عمرو قال لكعب أَخبرني عن صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، قال: أجدُهم في كتاب الله تعالى: {إن أحمد وأمته حمادون يحمدون اعز وجل على كل خير وشر يكبرون اعلى كل شرف ويسبحون افي كل منزل نداؤهم في جو السماء لهم دوي في صلاتهم كدوي النحل على الصخر يصفون في الصلاة كصفوف الملائكة ويصفون في القتال كصفوفهم في الصلاة إذا غزوا في سبيل اكانت الملائكة بين أيديهم ومن خلفهم برماح شداد إذا حضروا(1/45)
الصف في سبيل اكان اعليهم مظلا وأشار بيده كما تظل النسور على وكورها لا يتأخرن زحفا أبدا} . وأخرجه أيضاً بإِسناد آخر عن كعب بنحوه وفيه: «وأمته الحمَّادون يحمدون الله على كل حال ويكبِّرونه على كل شَرَف، رُعاة الشمس، يصلُّون الصلوات الخمس لوقتهن ولو على كُناسة، يأتزرون على أَوساطهم ويوضِّئون أطرافهم» . وأُخرج أيضاً بإِسناد آخر عن كعب مطوَّلاً.
6 - الأحاديث في صفة النبي صلى الله عليه وسلم
أخرج يعقوب بن سفيان الفَسَوي الحافظ عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: سألت خالي هند بن أبي هالة - وكان وصَّافاً - عن حِلْية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأَنا أشتهي أَن يصف لي منها شيئاً أَتعلَّق به، فقال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فَخْماً مُفَخَّماً، يتلألأُ وجهه تلألؤَ القمر ليلة البدر. أطولَ من المربوع وأَقصر من المشذَّب عظيم الهامة. رَجْل الشعر، إِذا تفرقت عقيصته فَرَق، وإِلا فلا يجاوز شعرُه شحمةَ أذنيه إذا وفَّره. أزهر اللون. واسع الجبين. أَزجَّ الحواجب، سوابغ في غير قَرَن، بينهما عِرْق(1/46)
يُدِرُّه الغضب. أَقنى العِرنين، له نور يعلوه، يحسبه من لم يتأَمله أَشمّ. كَثَّ اللحية. أَدعج. سهل الخدين. ضليع الفم. أَشنب، مُفَلَّجَ الأَسنان. دقيق المَسربة. كأَن عنقه جيد دُمية في صفاء الفضة، معتدلَ الخَلْق. بادناً متماسكاً. سَوَاء البطن والصدر. عريض الصدر. بعيدَ ما بين المنكبين. ضخم الكراديس. أنورَ المتجرد. موصولَ ما بين اللبة والسُّرَّة بشعر يجري كالخط. عاري الثديَيْن والبطن مما سوى ذلك. أَشعرَ الذراعين والمنكبين وأَعالي الصدر. طويلَ الزندين. رَحْبَ الرَّاحة. سبط القصب. شثن الكفَّين والقدمين. سائل الأطراف. خُمْصن الأخْمَصين.(1/47)
مسيح القدمين، ينبو عنهما الماءُ. إِذا زال زال قَلْعاً يخطو تكفُّؤاً ويمشي هوناً. ذَرِيع المِشية، إذا مشى كأَنما ينحطُّ من صبب. وإِذا التفت التفت جميعاً، خافض الطرف، نظرُه إِلى الأرض أَطول من نظره إِلى السماء، جُلُّ نظره الملاحظة، يسوق أصحابه، ويبدأ من لقيه بالسلام» .
قلت: صفْ لي منطقه، قال: «كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم متواصِلَ الأَحزان. دائمَ الفكرة. ليست له راحة. لا يتكلَّم في غير حاجة. طويلَ السكوت. يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه. يتكلم بجامع الكلم. كلامه فَصْل لا فضول لا تقصير، دَمِث. ليس بالجافي ولا المَهين، يعظِّم النِّعمة وإِن دقَّت، لا يذم منها شيئاً ولا يمدحه. ولا يقوم لغضبه - إِذا تُعرِّض للحق - شيءٌ حتى ينتصر له. وفي رواية: لا تغضبه الدنيا ما كان لها، فإِذا تُعرِّض للحق لم يعرفه أَحد ولم يقم لغضبه شيءٌ حتى ينتصر له. لا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها، إِذا أَشار أَشار بكفِّه كلِّها، وإِذا تعجَّب قَلَبها، وإِذا تحدَّث يصل بها يضرب براحته اليمنى باطن إِبهامه اليسرى. وإِذا غضب أَعرض وأشاح. وإذا فرح غضَّ(1/48)
طرفه، جُلُّ ضحك التبسُّم يفترُّ عن مِثْل حبِّ الغَمام.
قال الحسن: فكتمتُها الحسنَ بن علي زماناً ثم حدَّثته فوجدته قد سبقني إِليه، فسأَله عما سأَلتُه عنه ووجدتُه قد سأل أَباه عن مَدْخله ومَخْرجه ومجلسه ومَخْرجه ومجلسه وشكله فلم يدعْ منه شيئاً.
قال الحسين: سأَلت أبي عن دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «كان دخولُه لنفسه مأذوناً له في ذلك، وكان إِذا أَوى إلى منزله جزَّأَ دخولَه ثلاثة أَجزاء: جزءاً لله، وجزءاً لأهله، وجزءاً لنفسه، ثم جزَّأَ جزأه بينه وبين الناس فردَّ ذلك على العامة والخاصَّة لا يدَّخر عنهم شيئاً. وكان من سيرته في جزء الأمّة إيثار أَهل الفضل بإِذنه وقَسْمه على قدر فضلهم في الدين، فمن هم ذو الحاجة ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج، فيتشاغل بهم ويشغلهم فيما يصلحهم والأمة من مسأَلته عنهم وإِخبارهم بالذي ينبغي لهم ويقول: «ليبلِّغ الشاهدُ الغائبَ، وأبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغي حاجته؛ فإِنه من أبلغ سلطاناً حاجة من لا يستطيع إِبلاغها إِياه ثبَّت الله قدميه يوم القيامة» ، لا يُذكر عنده إلا ذلك، ولا يقبل من أحد غيرَهُ، يدخلون عليه رُوّاداً ولا يفترقون إلا عن ذَواق - وفي رواية: ولا يفترقون إلا عن ذوق - ويخرجون أدلّة - يعني على الخير -.
قال: وسأَلته عن مخرجه كيف كان يصنع فيه؟ فقال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخزُن لسانه إِلا بما يعنيه. ويؤلِّفهم ولا ينفِّرهم. ويكرم كريم كل قوم ويولِّيه عليهم. ويحذر الناس ويحترس منهم من غير أَن يطوي على أَحد منهم بِشْرَه(1/49)
ولا خُلُقَه. يتفقَّد أَصحابه، ويسأَل الناس عمَّا في الناس، ويحسِّن الحسن ويقوِّيه، ويقبِّح القبيح ويُوَهِّيه. معتدل الأمر غير مختلف. لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يميلوا. لكلِّ حال عنده عتاد. ولا يقصِّر عن الحق ولا يحوزه. الذين يلونه من الناس خيارهم، أَفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأَعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة وموازرة.
قال: فسأَلته عن مجلسه كيف كان؟ فقال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر ولا يُوطن الأَماكن وينهى عن إِيطانها. وإِذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك. يعطي كل جلسائه نصيبه، لا يحسب جليسه أَنَّ أحداً أكرم عليه منه، من جالسه أَو قومه في حاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأَله حاجة لم يردّه إِلا بها أو بميسور من القول. قد وسع الناسَ منه بَسطُه وخلقُه فسار لهم أباً وصاروا عنده في الحق سوء، مجلسُهُ مجلسُ حلم وحياءٍ وصبر وأمانة، لا تُرفع فيه الأصوات، ولا تُؤْبن فيه الحرم، ولا تُنثَى فلتاته. متعادلين يتفاضلون فيه بالتقوى، متواضعين يوقِّرون فيه الكبير ويرحمون فيه الصغير، ويؤثرون ذا الحاجة، ويحفظون الغريب» .
قال: فسأَلته عن سيرته في جلسائه فقال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم(1/50)
البِشْر، سهل الخُلُق، لين الجانب، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا سخَّاب، ولا فاش، ولا عيّاب، ولا مزَّاح. يتغافل عما لا يشتهي، ولا يُؤْيس منه راجيَه، ولا يخيب فيه. قد ترك نفسه من ثلاث: المراء. والإِكثار، وما لا يعنيه. وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أَحداً ولا يعيِّره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إِلا فيما يرجو ثوابه. إِذا تكلم أطرق جلساؤه كأَنما على رؤوسهم الطير، فإِذا تكلم سكتوا وإِذا سكت تكلموا، ولا يتنازعون عنده. يضحك ما يضحكن منه، ويتعجب مما يتعجبون من. ويصبر للغريب على الجفْوة في منطقه ومسأَلته حتى إِن كان أَصحابه ليستحلبونه في المنطق، ويقول: إِذا رأَيتم صاحب حاجة فأَرْفدوه. ولا يقبل الثناء إِلا من مكافىء ولا يقطع على أَحد حديثه حتى يَجُور فيقطعه بنهي أَو قيام» .
قال: فسأَلته كيف كان سكوته؟ قال «كان سكوته على أربع: الحلم، والحذر، التقدير، والتفكر؛ فأَما تقديره ففي تسويته النظر والإستماع بين الناس، وأمَّا تذكُّره - أو قال: تفكُّره - ففيما يبقى ويفنى. وجُمع له صلى الله عليه وسلم الحلم والصبر فكان لا يغضبه شيء ولا يستفزّه. وجُمَع له الحذر في أربع: أَخذه بالحسنى، والقيامُ لهم فيما جمع لهم الدنيا الآخرة صلى الله عليه وسلم
وقد روى هذا الحديث بطوله الترمذي في الشمائل عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: سأَلتُ خالي.. فذكَره، وفيه حديثه عن أخيه(1/51)
الحسين عن أَبيه علي بن أبي طالب. وقد رواه البيهقي في الدلائل عن الحاكم بإِسناده عن الحسن قال: سألتُ خالي هند بن أبي هالة.. فذكره، كذا ذكر الحافظ ابن كثير في البداية قلت: وساق إِسناد هذا الحديث الحاكم في المستدرك ثم قال.. فذكر الحديث بطوله. وأَخرجه أَيضاً الرُوياني والطبراني وابن عساكر كما في كنز العمال والبغوي كما في الإصابة، وفيما ذكر في الكنز في آخره: وجُمع له الحذر في أربع: أخْذُه بالحسنى ليُقْتَدَى به، وتَرْكُ القبيح ليُتناهى عنه، واجتهاده الرأي فيما أَصلَح أمته، والقيام فيما جمع لهم الدنيا والآخرة. وهكذا ذكره في المجمع عن الطبراني.
7 - الآثار في صفة الصحابة الكرام رضي الله عنهم:
أَخرج ابن جريج وابن أَبي حاتم عن السُّدِّي في قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ ءامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (آل عمران: 110) قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لو شاء الله لقال: «أنتم» فكنَّا كلُّنا ولكن قال: «كنتم» خاصّة في أَصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ومَنْ صنع مثل صنيعهم، كانوا خيرَ أمّة أُخرجَتْ للنَّاس) . وعند ابن جرير عن قَتَادة رضي الله عنه قال: ذُكرَ لنا أَن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأَ هذه الآية: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ ءامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (آل عمران: 110) - الآية، ثم قال: (يا أيَّها الناس، من(1/52)
سرَّه أَن يكون من تِلْكم الآية فليؤدّ شرط الله منها) . كذا في كنز العمال.
وأَخرج أَبو نُعيم في الحلية عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (إِنَّ الله نظر في قلوب العباد فاختار محمداً صلى الله عليه وسلم فبعثه برسالته وانتخبه بعلمه. ثم نظر في قلوب الناس بعده فاختار الله له أصحاباً، فجعلَهم أَنصارَ دينه ووزراءَ نبيِّه صلى الله عليه وسلم فما رآه المؤمنون حسناً فهو حسنٌ وما رآه المؤمنون قبيحاً فهو عند الله قبيحٌ) . وأخرجه ابن عبد البر في الإستيعاب عن ابن مسعود رضي الله عنه بمعناه ولم يذكُر: (فما رآه المؤمنون - إلى آخره) وأخرجه الطَّيالسي (ص 33) أيضاً نحو حديث أبي نُعيم.
وأَخرج أبو نُعيم أَيضاً عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (من كان مُستنّاً فليستنَّ بمن قد مات، أولئك أَصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا خير هذه الأمّة، أبرَّها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلَّها تكلُّفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيِّه صلى الله عليه وسلم ونقل دينه، فتشبَّهوا بأَخلاقهم وطرائقهم؛ فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على الهدى المستقيم والله ربِّ الكعبة: كذا في الحلية وأَخرج أَيضاً عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (أنتم أَكثرُ صياماً وأَكثرُ صلاةً وأَكثرُ اجتهاداً من أَصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم كانوا خيراً منكم قالوا: لِمَ يا أبا عبد الرحمن، قال: هم كانوا أزهد في الدنيا وأَرغب في الآخرة) كذا في الحلية. وأخرج أيضاً عن أَبي وائل قال: سمع عبد الله رجلاً يقول: أين الزاهدون في الدنيا الراغبون في الآخرة؟ فقال عبد الله: (أولئك أَصحاب الجابية، اشترط خمسُ(1/53)
مائة من المسلمين أن لا يرجعوا حتى يُقتلوا، فحلقوا رؤوسهم ولقُوا العدو فقُتلوا إِلا مخبرٌ عنهم) كذا في حلية الأَولياء.
وأَخرج أيضاً عن ابن عمر رضي الله عنهما أَنه سمع رجلاً يقول: أَين الزاهدون في الدنيا الراغبون في الآخرة؟ فأَراه قبرَ النبي صلى الله عليه وسلم وأَبي بكر وعمر رضي الله عنهما فقال: (عن هؤلاء تسأَل) كذا في الحلية.
وأَخرج ابن أَبي الدنيا عن أَبي أَراكة يقول: صليتُ مع علي رضي الله عنه صلاة الفجر، فلما انفَتَلَ عن يمينه مكث كأَنَّ عليه كآبةً، حتى إِذا كنت الشمس على حائِط المسجد قِيدَ رُمْح صلَّى ركعتين ثم قَلَب يده فقال: (والله لقد رأَيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما أرى اليوم شيئاً يُشبههم لقد كانوا يُصبحون صُفْراً شُعْثاً غُبْراً بين أعينهم كأَمثال رُكَب المِعزى، قد باتوا لله سُجّداً وقياماً، يتلُون كتاب الله، يتراوحون بين جباهم وأقدامهم، فإِذا أَصبحوا فذكروا الله مادُوا كما يميد الشجر في يوم الريح وهملت أعينهم حتى تنبل ثيابهم، والله لكأَنّ القومَ باتوا غافلين) ثم نهض فما رُئِيَ بعد ذلك مفترَّاً يضحك حتى قتله ابن مُلْجَم عدوُّ الله الفاسق، كذا في البداية. وأخرجه أيضاً أبو نُعيم في الحلية والدينَوَرِي والعسكري وابن عساكر كما في الكنز.
وأَخرج أبو نعيم أَيضاً عن أبي صالح قال: دخل ضرار بن ضمرة الكِناني(1/54)
على معاوية فقال له: صِفْ لي علياً، فقال: أَوَ تُعْفيني يا أمير المؤمنين؟ قال لا أُعفيك، قال: (أما إِذْ لا بدَّ؛ فإنَّه كان - والله - بعيد المدى، شديد القوى، يقول فَصْلاً ويحكم عدلاً، يتفجَّرُ العلمُ من جوانبه، وتنطِق الحكمةُ من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنسُ بالليل وظلمته، كان - والله - غزير العَبْرة، طويل الفكرة، يقلِّبُ كفّه ويخاطب نفسه، يُعجبه من اللباس ما قَصُر. ومن الطعام ما جَشُب، كان - والله - كأَحدنا يُدنينا إِذا أتيناه، ويُجيبنا إِذا سأَلناه، وكان مع تقرُّبِه إِلينا وقربهِ منا لا نكلمه هيبة له، فإِن تبسم فَعَنْ مثل اللؤلؤ المنظوم، يُعَظِّمُ أَهل الدين، ويُحبُّ المساكين، لا يطمعُ القويُّ في باطله، ولا ييأَسُ الضعيف من عدله، فأَشْهدُ بالله لقد رأيتُه في بعض مواقفه - وقد أَرخى الليل سدوله وغارت نجومه - يميلُ في محرابه قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأَني أسمعه الآن وهو يقول: يا ربنا، يا ربنا: يتضرع إِليه ثم يقول للدنيا: إِليَّ تَغَرَّرْتِ؟ إِليَّ تشوَّفتِ؟ هيهات هيهات، غُرِّي غيري، قد بتَتُّكَ ثلاثاً. فعرُك قصيرٌ، ومجلسُك حقيرٌ، وخطرُك يسير، آه، آه، من قلة الزاد وبعد السفر ووحشةِ الطريق) فَوَكَفَتْ دموع معاوية على لحيتها يملكها وجعل ينشفها بكمه - وقد اختنق القوم بالبكاء - فقال: (كذا كان أبو الحسن رحمه الله، كيف وَجْدُك عليه يا ضرار) ؟ قال: «وَجْد مَنْ ذُبح واحدها في حِجْرها، لا ترقأُ دمعتها، ولا يسكن حزنها) ثم قام فخرج. وأَخرجه أيضاً ابن عبد البر في الإستيعاب عن الحِرماني - رجل من همْدان - عن ضِرار الصُدَائي بمعناه.
وأخرج أبو نُعيم عن قتادة قال: سُئل ابن عمر رضي الله عنهما هل كان أَصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يضحكون قال: (نعم والإِيمانُ في قلوبهم أعظمُ من(1/55)
الجبال) كذا في الحلية. وأَخرج هنَّاد عن سعيد بن عمر القرشي أنَّ عمر رضي الله عنه رأى رُفْقة من أهل اليمن رحالهم الأَدَمُ فقال: (من أحبَّ أن ينظر إلى شَبَهٍ كانوا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلينظر إلى هؤلاء) كذا في كنز العمال.
وأَخرج الحاكم في المستدرك عن أَبي سعيد المَقْبُري قال: لما طُعن أبو عبيدة رضي الله عنه قال: يا معاذُ صلِّ بالناس، فصلى معاذ بالناس، ثم مات أبو عبيدة بن الجراح، فقام معاذ في الناس فقال: (يا أيّها الناس، توبوا إلى الله من ذنوبكم توبة نصوحاً فإِن عبد الله لا يلقى الله تائباً من ذنبه إلا كان حقاً على الله أَن يغفر له. ثم قال: إنكم أيها الناس، قد فُجِعتم برجل - والله - ما أَزعم أَني رأيت من عباد الله عبداً قطُّ أَقل غِمْراً، ولا أبرأ صدراً، ولا أَبعد غائلة، ولا أَشد حباً للعاقبة، ولا أَنصح للعامة منه، فترحَّموا عليه ثم أَصْحِروا للصلاة عليه، فوالله لا يلي عليكم مثله أبداً) . فاجتمع الناس وأُخرج أَبو عبيدة رضي الله عنه وتقدَّم معاذ رضي الله عنه فصلّى عليه، حتى إذا أُتي به قبره دخل قبره معاذ بن جبل وعمرو ابن العاص والضحَّاك بن قيس، فلما وضعوه في لحده وخرجوا فشنّوا عليه التراب، فقال معاذ بن جبل: (يا أبا عبيدة،(1/56)
لأثنِيَنَّ عليك ولا أقول باطلاً أَخاف أَن يلحقني بها من الله مَقْتٌ: كنتَ - والله - ما علمتُ من الذاكرين الله كثيراً، ومن الذين يمشون على الأَرض هَوْناً وإِذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً، ومن الذين إِذا أَنفقوا لم يُسرفوا ولم يقتُروا وكان بين ذلك قواماً، وكنت والله من المُخبتين، المتواضعين، الذين يرحمون اليتيم والمسكين ويُبغضون الخائنين المتكبرين) .
وأخرج الطبراني عن رِبْعي بن حِرَاش قال استأذن عبد الله ابن عباس على معاوية رضي الله عنهم وقد عَلِقت عنده بطون قريش وسعيد ابن العاص جالس عن يمينه، فلما رآه معاوية مقبلاً قال: يا سعيد، والله لأُلقِيَنَّ على ابن عباس مسائل يعيَى بجوابها، فقال له سعيد: ليس مثل ابن عباس يعيى بمسائلك، فلما جلس قال له معاوية: ما تقول في أَبي بكر؟ قال: (رحم الله أبا بكر، كان - والله للقرآن تالياً، وعن المَيْل نائياً، وعن الفحشاء ساهياً، وعن المنكر ناهياً، وبدينه عارفاً، ومن الله خائفاً. وبالليل قائماً، وبالنهار صائماً، ومن دنياه سالماً وعلى عدل البرية عازماً، وبالمعروف آمراً وإِليه صائراً، وفي الأحوال شاكراً، ولله في الغدو والرواح ذاكراً، ولنفسه بالمصالح قاهراً. فاق أَصحابه ورعاً وكفافاً وزهداً وعفافاً وبرّاً وحِياطة زهادة وكفاءة، فأعقبَ الله مَنْ ثَلَبه اللعائن إِلى يوم القيامة) .
قال معاوية: فما تقول في عمر بن الخطاب؟ قال: (رحم الله أبا حفص، كان - والله - حليف الإسلام، ومأوى الأيتام، ومحلَّ الإيمان، ومعاذَ الضعفاء، ومعقلَ الحنفاء، للخَلْق حصناً، وللناس عوناً، قام بحق الله صابراً محتسباً حتى أَظهر الله الدين وفتح الديار، وذُكِر الله في الأقطار والمناهل وعلى التلال وفي(1/57)
الضواحي والبقاع، وعند الخَنى وقوراً، وفي الشّدة والرخاء شكوراً، ولله في كل وقت وأَوان ذكوراً، فأَعقب الله من يبغضه اللعنة إِلى يوم الحسرة) .
قال معاوية رضي الله عنه: فما تقول في عثمان بن عفان؟ قال: (رحم الله أبا عمرو، كان - والله - أَكرم الحَفَدة، وأَوصلَ البررة، وأَصبرَ الغزاة، هجّاداً بالأَسحار. كثيرَ الدموع عند ذكر الله، دائمَ الفكر فيما يعنيه الليلَ والنهارَ، ناهضاً إِلى كل مكرمة، يسعى إلى كل منجية، فرّاراً من كل مُوبقة، وصاحب الجيش والبئر، وخَتَن المصطفى على ابنتيه، فأعقب الله من سبَّه الندامة إلى يوم القيامة) .
قال معاوية: فما تقول في علي بن أبي طالب؟ قال: (رحم الله أَبا الحسن كان - والله - علمَ الهدى، وكهفَ التقى، ومحل الحجى، وطَوْدَ البهاء، ونور السُّرَى في ظلم الدُّجَى، داعياً إلى المَحَجَّة العظمى، عالماً بما في الصحف الأُولى، وقائماً بالتأويل والذكرى، متعلِّقاً بأسباب الهدى، وتاركاً للجَوْر والأَذى. وحائداً عن طرقات الرَّدَى، وخيرَ من آمن واتقى، وسيِّدَ من تقمَّص وارتدى، وأَفضلَ من حجَّ وسعى، وأسمحَ من عدل وسوَّى، وأَخطبَ أَهل الدنيا إِلا الأنبياء والنبي المصطفى، وصاحب القبلتين، فهل يوازيه موحِّدٌ؟ وزوج خير النساء، وأبو السبطين، لم تَرَ عيني مثله ولا ترى إِلى يوم القيامة واللقاء، من لعنه فعليه لعنةُ الله والعباد إِلى يوم القيامة) .
قال: فما تقول في طلحةَ والزبير؟ قال: (رحمة الله عليهما، كانا - والله - عفيفَين، برّين، مسلمَين، طاهرَين، متطهِّرَين، شهيدَين، عالَمَين، زَلا زلَّة(1/58)
والله غافرٌ لهما إِن شاء الله بالنُّصرة القديمة والصُّحبة القديمة والأفعال الجميلة) .
قال معاوية: فما تقول في العبَّاس؟ قال: (رحم الله أَبا الفضل كان - والله - صِنوَ أَبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرَّة عين صفيِّ الله، كهف الأقوام، وسيّد الأعمام، وقد عَلا بصراً بالأمور ونظراً بالعواقب. قد زانَه علمٌ، قد تلاشت الأحساب عند ذكر فضيلته، وتباعدت الأسباب عند فخر عشيرته، ولم لا يكون كذلك وقد ساسه أكرم من دبَّ وهب عبدُ المطلب، أفخر من مشى من قريش وركب) ؟ ... فذكر الحديث. قال الهيثمي: رواه الطبراني، وفيه من لم أعرفهم.(1/59)
الباب الأول
باب الدعوة إلى الله وإلى رسوله
كيف كانت الدعوةُ إلى الله وإِلى رسوله صلى الله عليه وسلم أحَبَّ إلى النبي عليه السلام وإلى الصحابة رضي الله عنهم من كل شيء وكيف كانوا حريصين على أَن يهتديَ الناس ويدخلوا في دين الله وينْغَمسوا في رحمة الله وكيف كان سعيهم في ذلك لإيصال الخلق إِلى الحق.(1/61)
باب الدعوة إلى الله وإلى رسوله حب الدعوة والشغف بها حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إيمان جميع الناس
أخرج الطبرني عن ابن عباس في قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ} (هود: 105) ونحو هذا من القرآن قال: (إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحرص أَن يؤمن جميع الناس ويبايعوه على الهدى، فأَخبره الله عزّ وجلّ أنّه لا يؤمن إِلا من سبق له من الله السعادةُ في الذِّكْر الأَول، ولا يضلُّ إِلا من سبق له من الله الشقاء في الذِّكْر الأَول، ثم قال الله عزّ وجلّ لنبيه صلى الله عليه وسلم {طسم تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ السَّمَآء ءايَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} (الشعراء: 1 - 4) . قال الهيثمي رجاله وُثِّقوا إِلا أَنَّ عليَّ بن أَبي طلحة قيل لم يسمع من ابن عباس. انتهى.(1/63)
عرضه صلى الله عليه وسلم الدعوة على قومه عند وفاة أبي طالب
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال لمّا مرض أبو طالب دخل عليه رَهْط من قريش فيهم أَبو جهل فقالوا: إِنَّ ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل ويقول ويقول، فلو بعثتَ إِليه فنهيتَ. فبعث إِليه فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل البيت وبينهم وبين أَبي طالب قَدْرُ مجلسِ رجلٍ، قال: فخشي أبو جهل - لعنهُ الله - إِنْ جلس إِلى جنب أبي طالب أَنْ يكون أَرقَّ له عليه؛ فوثب فجلس في ذلك المجلس، ولم يجدْ رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً قربَ عمِّه فجلس عند الباب، فقال له أبو طالب: أيْ ابن أخي، ما بال قومك يشكونك ويزعمون أَنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول؟ قال: وأَكثروا عليه من القول. وتكلَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا عمّ إِنِّي أريدهم على كلمة واحدة يقولونها؛ تَدينُ لهم بها العرب وتُؤدِّي إِليهم بها العجمُ الجزيةَ» ففزعوا لكلمته ولقوله، فقال القوم: كلمة واحدة نعمْ وأَبيكَ عشراً، فقالوا: وما هي؟ وقال أَبو طالب: وأَيُّ كلمة هي يا ابن أخي؟ قال صلى الله عليه وسلم «لا إِله إِلا الله» ، فقاموا فَزِعين ينفِضُون ثيابهم وهم يقولون: {أَجَعَلَ الاْلِهَةَ الهاً واحِداً إِنَّ هَاذَا لَشَىْء عُجَابٌ} (ص: 5) ، قال: ونزلت من هذا الموضع - إِلى قوله: {بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ} (ص: 8) . وهكذا رواه الإِمام أحمد والنِّسائي وابن أَبي حاتم وابن جرير كلهم في تفاسيرهم، ورواه الترمذي وقال: حسن، كذا في التفسير لابن كثير؛ وأَخرجه البيهقي أَيضاً والحاكم بمعناه وقال: حديث صحيح الإِسناد ولم يخرِّجاه، وقال الذهبي: صحيح اهـ.(1/64)
عرضه صلى الله عليه وسلم الكلمة على أبي طلب عند وفاته
وعند ابن إسحاق عن ابن عباس رضي الله عنهما - كما في البداية - قال: لمّا مَشوا إِلى أَبي طالب وكلَّموه وهم أَشراف قومه: عُتبةُ بن ربيعة، وشَيْبة بن ربيعة، وأَبو جهل بن هشام، وأُميةُ بن خَلَف، وأبو سفيان بن حَرب، في رجال من أشرافهم، فقالوا: يا أبا طالب، إِنَّك منَّ حيث قد علمتَ، وقد حضرك ما ترى، وتخوَّفنا عليك، قد علمتَ الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادْعه فخذْ لنا منه وخذْ له منّا ليكفَّ عنا ولنكفَّ عنه ولْيدَعْنا وديننا ولْنَدَعه ودينه.
فبعث إِليه أَبو طالب فجاءه، فقال: يا ابن أخي، هؤلاء أَشراف قومك قد اجتمعوا إِليك ليعطوك وليأَخذوا منك، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نعم كلمة واحدة تعطونها تملكون به العرب وتَدين لكم بها العجم» ، فقال أبو جهل: نعم وأَبيك وعشر كلمات، قال: «تقولون: لا إِله إلا الله، وتخلَعون ما تعبدون من دونه» فصفَّقوا بأَيديهم، ثم قالوا: يا محمد، أَتريد أَن تجعلَ الآلهة إِلهاً واحداً؟ إِنَّ أمرك لعجبٌ قال ثم قال بعضهم لبعض: إِنَّه - والله - ما هذا الرجل بمعطيكُم شيئاً مما تريدون، فانطلِقُوا وامضُوا على دين آبائكم حتى يحكُم الله بينكم وبينه، ثم تفرَّقوا.
قال: فقال أبو طالب: الله يا ابن أخي، ما رأيتك سألتهم شططاً، قال: فطمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، فجعل يقول له: أَيْ عم، فأنت فقُلْها إستحلُّ لك بها الشفاعة يوم القيامة» فلما رأى حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا ابن أخي. والله لولا مخافةُ السُبَّة عليك وعلى بني أبيك من بعدي، وأَن تظنَّ قريش أني إِنما قلتها جَزَعاً من الموت لقلتها، لا أقلها إلا لأسرَّكَ بها.. فذكر الحديث.. وفيه راوٍ مبهم لا يُعرف حالُه.
وعند البخاري عن ابن المسيِّب عن أبيه أنَّ أبا طالب لما حضرته الوفاة(1/65)
دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل فقال: «أيْ عم، قل: لا إله إلا الله كلمةً أحاجُّ بها عند الله» ، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملَّة عبد الطلب؟ فلم يزالا يكلِّمانه حتى قال آخر ما كلَّمهم به: على ملَّةِ عبد المطلب؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم «لأستغفرنَّ لك ما لم أُنَه عنك» فنزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِىّ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (التوبة: 113) ونزلت: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (القصص: 56) ، ورواه مسلمك. وأخرجاه أيضاً من طريق آخرَ عنه بنَحْوِه وقال فيه فلم يزلْ رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعودان له بتلك المقالة حتى قال آخر ما قال: على ملَّة عبد المطَّلب، وأبى أن يقول: «لا إله إلا الله» فقال النبي صلى الله عليه وسلم «أمَا لأستغفرنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك» ، فأنزلَ الله - يعني بعد ذلك - فذكر الآيتين.
وهكذا روى الإمام أحمد ومسلم والنِّسائي والترمذي عن أَبي هريرة رضي الله عنه قال: لم حضرتْ وفاةُ أبي طالب أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا عمَّاه قُلْ: لا إِله إِلا الله أشهدْ لك بها يوم القيامة» ، فقال: لولا أنْ تعيِّرني قريش يقولون: ما حمله عليه إِلا فزعُ الموت لأقررتُ بها عينك، ولا أقولها إِلا لأُقرَّ بها عينك؛ فأنزل الله عزّ وجلّ: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ(1/66)
وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (القصص: 56) ، كذا في البداية.
إنكاره صلى الله عليه وسلم أن تترك الدعوة إلى الله
وأخرج الطبراني والبخاري في التاريخ عن عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه قال: جاءت قريش إلى أبي طالب ... فذكر الحديث كما سيأتي في باب تحمُّل الشدائد وفيه: فقال له أبو طالب: يا ابن أخي، والله ما علمتُ إِنْ كنت لي لمطاعاً، وقد جاء قومك يزعمون أنَّك تأتيهم في كعبتهم وفي ناديهم تسمعهم ما يؤذيهم فإنْ رأيت أن تكفَّ عنهم. فحلَّق ببصره إلى السماء فقال: «والله ما أنا بأقدرَ أنْ أدَع بعثتُ به مِنْ أن يشعل أحدكم من هذه الشمس شعلة من نار» . وعند البيهقي أنَّ أبا طالب قال له صلى الله عليه وسلم يا ابن أخي، إِنَّ قومك قد جاؤوني وقالوا كذا وكذا، فأَبْقِ عليَّ وعلى نفسك ولا تحمِّلْني مِنَ الأمر ما لا أطيق أنا ولا أنت، فاكففْ عن قومك ما يكرهون من قولك، فظنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ قد بَدَا لعمه فيه، وأنَّه خاذلُه ومسلمُه وضَعفُ عن القيام معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا عمّ، لو وُضعت الشمسُ عن يميني والقمرُ في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يُظهرَهُ الله أو أهلِكَ في طلبه» ؛ ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى - فذكر الحديث كما سيأتي.
وأخرج عبد بن حُمَيد في مسنده عن ابن أبي شيبة بإسناده عن جابر(1/67)
بن عبد الله رضي الله عنهما قال: اجتمع قريش يوماً فقالوا: أنظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي فرَّق جماعتنا وشتَّت أمرنا وعاب ديننا، فليُكلمْهُ، وينظر ماذا يرد عليه، فقالوا: ما نعلم أحداً غيرَ عُتبة بن ربيعة؛ قالوا: إئتهِ يا أبا الوليد، فأتاه عتبة فقال: يا محمد، أنت خير أم عبد الله؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فإن كنتَ تزعم أنَّ هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عِبْتَ، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك إنَّا - والله - ما رأينا سَخْلة قط أشأم على قومه منك، فرقتَ جماعتنا، وشتَّت أمرنا، وعِبتَ ديننا، وفضحتَنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أنَّ في قريش ساحراً وأنَّ في قريش كاهناً والله ما ننتظر إِلا مثلَ صيحة الحبلى أنْ يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى أيها الرجل، إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلاً، وإنْ كان إنما بك الباه فاختر أيَّ نساء قريش شئت فلنزوجكَ عشراً.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فَرغت؟» نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بسم الله الرحمن الرحيم، حم. تنزيلٌ من الرحمن الرحيم. كتابٌ فُصِّلَتْ آياتُه قرآناً عربياً لقوم يعلمون. - إلى أنْ بلغ - فإن أعرضوا فقل أنذرتكُم صاعقةَ مثلَ صاعقةِ عادٍ وثمود» ، فقال عتبة: حسْبُك ما عندك غير هذا؟ قال: «لا» ؛ فرجع إلى قريش فقالوا: ما وراءَك؟ قال: ما تركت شيئاً أرى أنكم تكلِّمونه إلا كلّمته، قالوا: فهل أجابك؟ فقال: نعم، ثم قال: لا والذي نَصَبَها بَنِيَّة ما فهمتُ شيئاً ممَّا قال غير أنَّه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود قالوا: ويلك يكلمك الرجل بالعربية لا تدري ما قال؟ قال: لا والله ما فهمت شيئاً(1/68)
ما قال غير ذكر الصاعقة.
وقد رواه البيهقي وغيره عن الحاكم وزاد: وإِن كنتَ إنما بك الرئاسة عقدنا ألويتنا لك فكنت رأساً ما بقيت. وعنده: أنَّه لما قال: «فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود» أمسك عتبة على فيهِ وناشده الرَّحِم أن يكفَّ عنه ولم يخرج إلى أهله واحتبس عنهم، فقال أبو جهل: والله يا معشر قريش، ما نرى عتبة إلا صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه، وما ذاك إلا من حاجة أصابته، إنطلقوا بنا إليه. فأتَوه، فقال أبو جهل: والله يا عتبة، ما جئنا إلا أنك صبوْتَ إلى محمد وأعجبك أمره، فإن كان بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك ن طعام محمد، فغضب وأقسم بالله لا يُكلِّم محمداً أبداً، وقال لقد علمتُم أني من أكثر قريش مالاً ولكنِّي أتيته - وقصَّ عليهم القصة - فأجابني بشيء والله ما هو بسحر ولا بشعر ولا كِهانة، قرأ «بسم الله الرحمن الرحيم. حم. تنزيل من الرحمن الرحيم - حتى بلغ - فإنْ أعرضوا فَقُلْ أنذرتكُم صاعقةً مثل صاعقة عاد وثمود» ؛ فأمسكت بفيهِ وناشدته الرَّحِم أنْ يكفَّ، وقد علمتم أنَّ محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب فخفت أن ينزل عليكم العذاب، كذا في البداية. وأخرجه أبو يَعْلَى عن جابر رضي الله عنه مثل حديث عبد بن حُمَيد. وأخرجه أبو نُعيم في الدلائل (ص 75) بنحوه، قال الهيثمي: وفيه الأجلحُ الكِندي وثَّقه ابن مَعِين وغيره وضعفَّه النِّسائي وغيره، وبقية رجاله ثقات. انتهى.
وأخرج أبو نُعيم في دلائل النبوة (ص 76) عن ابن عمر رضي الله عنهما أن قريشاً(1/69)
إجتمعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد، فقال عتبة بن ربيعة لهم: دعوني حتى أقومَ إليه أُكلمه فإني عسى أن أكون أرفقَ به منكم، فقام عتبة حتى جلس إليه فقال: يا ابن أخي، أراكَ أوسطنا بيتاً، وأفضلنا مكاناً، وقد أدخلت على قومك ما لم يُدخل رجل على قومه مثله فإنْ كنت تطلب بهذا الحديث مالاً فذلك لك على قومك أنْ يُجمع لك حتى تكون أكثرنا مالاً. وإن كنت تطلب شَرَفاً فنحن نشرِّفك حتى لا يكون أحد من قومك أشرف منك ولا نقطع أمراً دونك. وإن كان هذا عن ملمَ يصيبك فلا تقدر على النزوع منه بذلنا لك خزائننا حتى نُعْذَر في طلب الطبِّ لذلك منك. وإن كنت تريد ملكاً ملَّكناك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أَفرغت يا أبا الوليد؟» قال: نعم. قال: فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حم السَّجْدة، حتى مرَّ بالسجدة، فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعتبة مُلْقٍ يده خَلْف ظهره حتى فرغ من قراءتها، ثم قام عتبة ما يدري ما يرجع به إلى نادي قومه، فلما رأوه مقبلاً قالوا: لقد رجع إليكم بوجه غير ما قام من عندكم، فجلس إليهم فقال: يا معشر قريش، قد كلمته بالذي أمرتموني به حتى إذ فرغت كلمني بكلام لا والله ما سمعت أذناي مثله قط وما دريت ما أقول له يا معشر قريش، فأطيعوني اليوم واعصوني فيما بعده واتركوا الرجل واعتزلوه، فوالله ما هو بتارك ما هو عليه، وخلُّوا بينه وبين سائر العرب، فإن يظهر عليكم يكن شرفه شرفكم وعزه عزكم، وإن يظهروا عليه تكونوا قد كُفيتموه بغيركم. قالوا: صبأت يا أبا الوليد. وهكذا ذكره ابن إسحاق بطوله كما ذكر في البداية، وأخرجه البيهقي أيضاً من حديث عمر مختصراً، قال ابن كثير في البداية: وهذا حديث غريب جداً من هذا الوجه.(1/70)
إصراره صلى الله عليه وسلم على الجهاد بما بعثه الله من الدعوة إلى الله
وأخرج البخاري عن المِسْور بن مَخْرَمة ومروان قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية - فذكر الحديث بطوله كما سيأتي في هذا الباب في الأخلاق المُفضية إلى هداية الناس، فيه: فبينما هم كذلك إذ جاء بُدَيل بن وَرْقاء الخُزاعي في نفر من قومه من خُزاعة - وكانوا عَيْبَةَ نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تِهامة - فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية ومعهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادُّوك عن البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنا لم نجىء لقتال أحد، ولكنَّا جئنا معتمرين، وإن نَهكَتْهُم الحرب وأضرت بهم فإن شاؤوا مادَدْتهم مدة ويخلُّوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جَمُّوا، وإن هم أبَوا فوالذي نفسي بيده وقاتلنَّهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذنَّ أمر الله» .
وعندي الطبراني عن المِسْور ومروان مرفوعاً: «يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب، فماذا عليهم لو خلُّوا بيني وبين سائر العرب، فإن أصابوني كان الذي أرادوا، وإن الله أظهرني عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يقبلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظن قريش؟ فوالله لا أزال أُجاهدهم على الذي بعثني الله حتى يظهرني الله أو تنفرد هذه السالفة» كذا في كنز العمال.
وهكذا أخرجه ابن(1/71)
إِسحاق من طريق الزُّهْري، وفي حديثه: «فما تظن قريش؟ فوالله لا أزال أُجاهد على هذا الذي بعثني الله به حتى يظهرَه الله أو تنفرد هذه السالفة» ، كذا في البداية.
أمره صلى الله عليه وسلم علياً في غزوة خيبر بالدعوة إلى الإِسلام
وأخرج البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: «لأُعطِيَنَّ هذه الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه، يحب الله ورسولَه ويحبه الله ورسولُه» قال: فبات الناس يدوكون ليلتهم أيُّهم يُعطاها، فلما أصبح الناس غَدَوا على النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يُعطاها، فقال: «أين عليّ بن أبي طالب؟» فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينيه، قال: فأرسل إليه فأتى فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول الله، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنفُذ على رِسْلَك حتى تنزل بساحتهم، ثم أدعهُم إِلى الإسلام؛ وأخبرهم بما يجب عليهم من حقِّ الله تعالى فيه؛ فوالله لئن يهديَ الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حُمْر النَّعَم» . وأخرجه أيضاً مسلم نحوه.
صبره عليه السلام في دعوة الحَكَم بن كَيْسان إلى الإِسلام
وأخرج ابن سعد عن المقداد بن عمرو قال: أنا أسرت الحَكَم بن كَيْسان، أراد أميرنا ضرب عنقه، فقلت: دَعْهُ نَقْدَمْ به على رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمنا، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإِسلام فأطالَ، فقال عمر: علام تكلِّم هذا يا رسول الله؟ والله لا يسلم هذا «آخر الأبد، دَعْني أضربْ عنقه وَيَقْدَم(1/72)
إلى أُمه الهاوية، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم لا يُقبل على عمر حتى أسلم الحكم، فقال عمر: فما هو إلا أن رأيته قد أسلم حتى أخذني ما تقدَّم وما تأخَّر، وقلت: كيف أردُّ على النبي صلى الله عليه وسلم أمراً هو أعلم به مني؟ ثم أقول: إنما أردت بذلك النصيحة لله ولرسوله، فقال عمر: فأسلم والله فحسن إسلامه وجهد في الله حتى قتل شهيداً ببئر معونة ورسول الله صلى الله عليه وسلم راضٍ عنه ودخل الجنان.
وعنده أيضاً عن الزهري قال: قال الحكم: وما الإِسلام؟ قال: «تعبد الله وحده لا شريك له وتشهد أن محمداً عبده ورسوله» ، فقال: قد أسلمت، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه فقال: «لو أطعتكم فيه آنفاً فقتلتُه دخل النار» .
قصة إسلام وَحْشيّ بن حرب
وأخرج الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إِليّ وحشيِّ بن حرب قاتل حمزة يدعوه إلى الإِسلام، فأرسل إليه؛ يا محمد، كيف تدعوني وأنت عزعم أن من قتل أو أشرك أو زنى يلقَ أثاماً، يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مُهاناً؛ وأنا صنعت ذلك؟ فهل تجد لي من رخصة؟ فأنزل الله عزّ وجلّ: {إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} (الفرقان: 70) . فقال وحشي: يا محمد، هذا شرط شديد «إلا من تاب وآمن عمل عملاً صالحاً» فلعلِّي لا أقدر على هذا، فأنزل الله عزّ وجلّ: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} (النساء: 48) ، فقال وحشي: يا محمد، هذا أرى بعد مشيئة، فلا أدري هل يغفر لي أم لا فهل غير هذا؟ فأنزل الله عزّ وجلّ: {قُلْ ياعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ(1/73)
هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر: 53) ، قال وحشي: هذا نعم، فأسلم؛ فقال الناس: يا رسول الله، إنا أصبنا ما أصاب وحشي، قال: «هي للمسلمين عامّة» . قال الهيثمي: وفيه أبْينُ بن سفيان ضعَّفه الذهبي.
وعند البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا وزنَوا فأكثروا، فأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسنٌ لو تخبرنا أنَّ لما عملنا كفارة، فنزل: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ الها ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَاماً} (الفرقان: 68) ، ونزل: {قُلْ ياعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} . وأخرجه أيضاً مسلم وأبو داود والنِّسائي، كما في العيني وأخرجه البيهقي بنحوه.
بكاء فاطمة على تغير لونه صلى الله عليه وسلم من أجل المجاهدة على ما بعثه الله
وأخرج الطبراني وأبو نُعيم في الحلية والحاكم عن أبي ثعلبة الخُشَني قل: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غَزاة له، فدخل المسجد فصلى فيه ركعتين وكان يعجبه إذا قدم من سفر أن يدخل المسجد فيصلي فيه ركعتين يُثَنِّي بفاطمة ثم أزواجه - فقدم من سفره مرة فأتى فاطمة فبدأ بها قبل بيوت أزواجه، فاستقبلته على باب البيت فاطمة فجعلت تقبل وجهه - وفي لفظ: فاه -(1/74)
وعينيه وتبكي، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما يبكيك؟» قالت: أراك يا رسول الله، قد شحب لونك، واخلولقت ثيابك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا فاطمة لا تبك فإنَّ الله بعث أباك بأمر لا يبقى على ظهر الأرض بيت مَدَر ولا وبر ولا شَعَر إلا أدخله الله به عزاً أو ذلاً حتى يبلغَ حيث يبلغ الليل» كذا في كنز العمال. وقال الهيثمي: رواه الطبراني، وفيه يزيد بن سِنان أبو فَرْوة وهو مقارب الحديث مع ضعف كثير - إنتهى، وقال الحاكم: هذا حدث صحيح الإسناد ولم يخرِّجاه، وتعقبه الذهبي فقال: يزيد بن سنان هو الرّهاوي ضعفَّه أحمد وغيره، وعُقْبة (أي شيخه) نَكِرة لا تعرف - إنتهى، وذكر عُقْبة في(1/75)
اللسان فقال: قال البخاري في صحته نظر، وذكره ابن حِبَّان في الثقات. إنتهى.
حديث تميم الداريّ في انتشار دعوة الإِسلام
وأخرج أحمد والطبراني عن تميم الداريِّ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليلُ والنهارُ، ولا يترك الله بيت مَدَر ولا وَبَر إِلا أدخله الله هذا الدين بعزِّ عزيز أو بذلِّ ذليل، غزّاً يعز الله به الإِسلام وأهله وذلا يذل الله به الكفر» ، وكان تميم الداري يقول: عرفت ذلك من أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعزّ، ولقد أصاب من كان منهم كافراً الذلَّ والصَّغَار والجزية. كذا في المجمع و. قال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح. إنتهى. وأخرح الطبراني نحوه عن المقداد أيضاً.
حرص عمر على رجوع المرتدين إلى الإِسلام
وأخرج عبد الرزاق عن أنس رضي الله عنه قال: بعثني أبو موسى بفتح تُسْتَر إلى عمر، فسأَلني عمر - وكان ستة نفر من بكر بن وائل قد ارتدا عن الإِسلام ولحقوا بالمشركين فقال: ما فعل النفر من بكر بن وائل؟ قلت: يا أمير المؤمنين، قوم قد ارتدُّوا عن الإِسلام ولحقوا بالمشركين ما سبيلهم إلا القتل، فقال عمر: لأن أكون أخذتُهم سِلْماً أحبّ إليَّ مما طلعت عليه الشمس من صفراء وبيضاء، قلت: يا أمير المؤمنين، وما كنت صانعاً بهم لو أخذتهم، قال(1/76)
لي: كنت عارضاً عليهم الباب الذي خرجوا منه أن يدخلوا فيه، فإن فعلوا ذلك قبلت منهم وإلا استودعتهم السجن. كذا في الكنز. وأخرجه البيهقي أيضاً بمعناه.
وعند ملك والشافعي وعبد الرزاق وأبي عُبَيد في الغريب والبيهقي (ص 207) عن عبد الرحمن القاريِّ قال: قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجل من قِبَل أبي موسى رضي الله عنه، فسأله عن الناس فأخبره، ثم قال: هل كان فيكم من مُغَرِّبَة خبر؟ فقال: نعم، رجل كفر بعد إسلامه، قال فما فعلتم به؟ قال: قرَّبناه فضربنا عنقه، قال عمر: فهلا حبستموه ثلاثاً، وأطعمتموه كل يوم رغيفاً، واستتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر الله؟ اللهمَّ، إنِّي لم أحضر، ولم آمر، ولم أرض إذا بلغني.
وعند مُسَدّد وابن عبد الحكم عن عمرو بن شُعَيب عن أبيه عن جدِّه قال: كتب عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى عمر رضي الله عنه يسأله عن رجل أسلم ثم كفر، ثم أسلم ثم كفر، حتى فعل ذلك مراراً، أَيَقبلُ منه الإِسلام؟ فكتب إليه عمر أن أقبل منه الإِسلام ما قبل الله منهم، أعرض عليه الإِسلام فإن قبل فاتركه وإلا فاضرب عنقه، كذا في الكنز.(1/77)
بكاء عمر على مجاهدة راهب
وأخرج البيهقي وابن المنذر والحاكم عن أبي عمران الجوني قال: مرّ عمر رضي الله عنه براهب فوقف ونودي بالراهب فقيل له: هذا أمير المؤمنين، فاطَّلَع فإذا إنسان به من الضر والاجتهاد وترْكِ الدنيا، فلما رآه عمر بكى، فقيل له: إنه نصراني، فقال عمر: قد علمت ولكني رحمته، ذكرت قول الله عزّ وجلّ: {عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} (الغاشية: 3، 4) رحمتُ نصبَه واجتهاده وهو في النار، كذا في كنز العمال.
الدعوة للأفراد والأشخاص دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وبي بكر رضي الله عنه
أخرج الحافظ أبو الحسن الأطرابلسي عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرج أبو بكر يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وكان له صديقاً في الجاهلية - فلقيه فقال: يا أبا القاسم، فُقدْتَ من مجالس قومك واتَّهموك بالعيب لآبائها وأُمهاتها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني رسول الله أدعوك إلى الله» ، فلما فرغ من كلامه أسلم أبو بكر، فانطلق عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما بين الأخشَبَيْن أحد أكثر سروراً منه بإسلام أبي بكر؛ مضى أبو بكر فراح لعثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص فأسلموا، ثم جاء الغد بعثمان بن مظعون وأبي عبيدة بن الجراح وعبد الرحمن بن عوف وأبي سَلَمة بن عبد الأسد والأرقم بن أبي الأرقم، فأسلموا رضي الله عنهم، كذا في البداية.(1/78)
وذكر ابن إسحاق أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أحقٌ ما تقول قريش يا محمد من تَرْكِ آلهتنا، وتسفيهك عقولنا، وتكفيرك آباءنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بلى، إنِّي رسول الله ونبيُّه، بعثني لأُبلِّغ رسالته، وأدعوك إلى الله بالحق فوالله إنه للحق، أدعوك يا أبا بكر إلى الله وحده لا شريك له، ولا تعبد غيره، والموالاة على طاعته» وقرأ عليه القرآن، فلم يقرَّ ولم ينكر، فأسلم وكفر بالأصنام، وخلع الأنداد، وأقر بحق الإسلام، ورجع أبو بكر وهو مؤمن مصدِّق. قال ابن إسحاق: حدَّثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحُصين التميمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما دعوتُ أحداً إلى الإِسلام إِلا كانت عنده كَبْوة وتردّد ونظر إلا أبا بكر، ما عَكَم عنه حين ذكرته ولا تردد فيه» - عكم: أي تلبَّث.
وهذا الذي ذكره ابن إسحاق في قوله: «فلم يقر ولم ينكر» مُنْكَرٌ، فإن ابن إسحاق وغيره ذكروا أنه كان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل لبَعْثة، كان يعلم من صدقه وأمانته وحسن سجيته وكرم أخلاقه ما يمنعه من الكذب على الخلق فكيف يكذب على الله؟ ولهذا بمجرد ما ذكر له أنَّ الله أرسله بادر إلى تصديق. ولم يتلعثم ولا عَكَم. وقد ثبت في صحيح البخاري عن أبي الدرداء رضي الله عنه في حديث ما كان بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في الخصومة وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إِنَّ الله بعثني إليكم فقلتم: كذبتَ، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله؛ فهل أنتم تاركون لي صاحبي؟» مرَّتين؛ فما أُوذي بعدها. وهذا كالنص على أنَّه أول من أسلم، كذا في البداية (326 و 27) .
دعوته صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه
أخرج الطبراني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللَّهمَّ أعزَّ الإِسلام بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام» ،(1/79)
فجعل الله دعوة رسوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب، فبنى عليه الإِسلام وهدم به الأوثان. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير مجالِد بن سعيد وقد وُثِّق - انتهى. وعند الطبراني من حديث ثَوْبان - فذكر الحديث كما سيأتي في باب تحمّل الصحابة الشدائد في سعيد بن زيد وزوجته فاطمة أخت عمر، وفيه: وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بضَبْعَيه وهزه وقال: «ما الذي تريد؟ وما الذي جئت؟» فقال له عمر: اعرض عليَّ الذي تدعو إليه، فقال: «تشهد أن لا أله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله» ، فأسلم عمر مكانه وقال: أخرج. وعند أبي نعيم في الحلية عن أَسْلَمَ قال: قال لنا عمر رضي الله عنه: أتحبُّون أن أعلمكم أول إسلامي؟ قلنا: نعم، قال: كنت من أشد الناس عداوة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم في دار عند الصَّفا، أهدِه» ، قال: فقلت: أشد أن لا إله إلا الله وأشهد أنَّك رسول الله، قال: فكبَّر المسلمون تكبيرة سُمعت في طرق مكة - فذكر الحديث. وأخرجه البزار أيضاً بسياقٍ آخر كما سيأتي.
دعوته صلى الله عليه وسلم لعثمان بن عفان رضي الله عنه
أخرج المدائني عن عمرو بن عثمان قال: قال عثمان دخلت على خالتي أعودها - أَرْوَى بنت عبد المطلب - فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت أنظر إليه - وقد ظهر من شأنه يومئذٍ شيء -، فأقبل عليَّ فقال: «مالك يا عثمان؟» قلت: أعجب منك ومن مكانك فينا وما يقال عليك، قال عثمان: فقال: «لا(1/80)
إله إلا الله» - فالله يعلم لقد اقشعررت - ثم قال: «وفي السماءِ رزقُكم وما تُوعدونَ. فَوَرَبِّ السماءِ والأرضِ إِنَّهُ لَحَقٌ مثلَ ما أنَّكُم تَنْطِقُونَ» ، ثم قام فخرج فخرجت خلفه فأسلمت، كذا في الإستيعاب.
دعوته صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه
ذكر ابن إسحاق أنَّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه جاء وهما - أي النبي صلى الله عليه وسلم وخديجة رضي الله عنها - يصلِّين، فقل علي: يا محمد، ما هذا؟ قال: «دين الله الذي اصطفَى لنفسه وبعث به رسله، فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له، وإلى عبادته، وأن تكفر اللات والعُزَّى» ، فقال علي: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم، فلست بقاض أمراً حتى أُحدِّث به أبا طالب؛ فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفشيَ عليه سرَّه قبل أن يستعلن أمره، فقال له: يا علي، إذ لم تسلم فاكتم، فمكث عليٌّ تلك الليلة، ثم إنَّ الله أوقع في قلب عليَ الإِسلام فأصبح غادياً إلى رسول الله حتى جاءه، فقال: ماذا عرضت عليَّ يا محمد؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وتكفر باللات والعزَّى، وتبرأ من الأنداد» ، ففعل عليٌّ وأسلم، ومكث يأتيه على خوف من أبي طالب، وكتم عليٌّ إسلامَه ولم يظهره، كذا في البداية.
عند أحمد وغيره عن حَبَّة العُرَني قال: رأيت علياً يضحك على المنبر، ولم أره ضحك ضحكاً أكثر منه حتى بدت نواجذه، ثم قال: ذكرت قول أبي طالب، ظهر علينا أبو طالب وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نصلِّي ببطن نَخْلة فقال: ماذا تصنعان يا ابن أخي؟ فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإِسلام(1/81)
فقال: ما بالذي تصنعان بأس ولكن لا تعلوني إستي أبداً، فضحك تعجباً لقول أبيه ثم قال: اللَّهمَّ لا أعترف عبداً من هذه الأمة عَبَدَكَ قبلي غير نبيك - ثلاث مرات - لقد صلّيت قبل أن يصلِّي الناس سبعاً. قال الهيثمي: رواه أحمد وأبو يعلى باختصار، والبزار والطبراني في الأوسط وإسناده حسن. انتهى.
دعوته صلى الله عليه وسلم لعمرو بن عَبَسة رضي الله عنه
أخرج أحمد عن شدّاد بن عبد الله قال: قال أبو أمامة: يا عمرو بن عَبَسَة، بأيِّ شيء تَدَّعي أنك رُبْعُ الإِسلام؟ قال: إني كنت في الجاهلية أرى الناس على ضلالة ولا أرى الأوثان شيئاً، ثم سمعت عن رجل يخبِّر أخباراً بمكَّة ويحدِّث أحاديث، فركبت راحلتي حتى قدمت مكة فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم مستَخْفِياً، وإذا قومه عليه جُرَآء، تلطَّفت له فدخلت عليه فقلت: ما أنت؟ قال «أنا نبي الله» ، فقلت: وما نبي الله؟ قال: «رسول الله» قال: قلت: آلله أرسلك؟ قال: «نعم» قلت: بأي شيء أرسلك؟ قال: «بأن يوحَّد الله ولا يشرك به شيء، وكسر الأوثان، وصلة الرحم» ، فقلت له: من معك على هذا؟ قال: «حرٌّ وعبد» - أو عبد وحر - وإذا معه أبو بكر ابن أبي قُحافة وبلال مولى أبي بكر، قلت: إنِّي متبعك، قال: «إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، ولكن إرجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فالحق بي» ، قال فرجعت إلى أهلي وقد أسلمت.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة، فعلت أتخبَّر الأخبار حتى جاءَ رَكَبَة من يثرب، فقلت: ما هذا المكِّي الذي أتاكم؟ قالوا: أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك وحِيل بينهم وبينه، وتركْنا الناسَ إليه سراعاً، قال عمرو بن(1/82)
عبسة: فركبت راحلتي حتى قدمت عليه المدينة فدخلت عليه فقلت: يا رسول الله، أتعرفني؟ قال: «نعم، ألستَ أنت الذي أتيتني بمكة؟» قال قلت: بلى، فقلت: يا رسول الله، علمني ممَّا علمك الله وأجهل - فذكر الحديث بطوله. وهكذا أخرجه ابن سعد عن عمرو بن عبسة مطوّلاً، وأخرجه أيضاً أحمد عن أبي أُمامة عن عمرو بن عبسة - فذكر الحديث وفيه: قلت: بماذا أرسلك؟ فقال: «بأن تُوصل الأرحام، وتُحقَن الدماء، وتُؤمَن السبل، وتُكسر الأوثان، ويُعبد الله وحده لا يشرك به شيء» . قلت نِعْمَ ما أرسلك به وأُشهدُك أني قد آمنت بك وصدَّقتك، أفأمكث معك أم ما ترى؟ فقال: «قد ترى كراهة الناس لما جئتُ به فامكث في أهلك، فإذا سمعت بي قد خرجت مخرجي فائتني» . وأخرجه أيضاً مسلم والطبراني وأبو نُعيم كما في الإصابة وبن عبد البَرِّ في الإستيعاب من طريق أبي أُمامة بطوله، وأبو نُعيم في دلائل النبوة (ص 86) .
دعوته صلى الله عليه وسلم لخالد بن سعيد بن العاص رضي الله عنه
أخرج البَيْهقي عن جعفر بن محمد بن خالد بن الزُبير عن أبيه - أو عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان - قال: كان إسلام خالد بن سعيد ابن العاص قديماً وكان أول إخوته أسلم. وكان بَدْء إسلامه أنه رأى في المنام أنه وُقِفَ به على شفير النار ... فذكر من سَعَتها ما الله أعلم به - ويرى في النوم كأنَّ أباه يدفعه فيها، ويرى رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذاً بحَقْوَيه لئلا يقع، ففزع من(1/83)
نومه فقال: أحلف بالله إنَّ هذه لرؤيا حق. فلقي أبا بكر بن أبي قحافة فذكر ذلك له، فقال: أُريد بك خيرٌ، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم اتْبَعْهُ فإنك ستتبعه وتدخل معه في الإِسلام، والإِسلام يحجُزُك أن تدخل فيها، وأبوك واقع فيها، فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأجْياد، فقال: يا محمد، إلامَ تدعو؟ قال: «أدعوك إلى الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وتخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع ولا يضر ولا يبصر، ولا ينفع ولا يدري مَنْ عَبدَه ممن لا يعبده» . قال خالد: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، فسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بإِسلامه.
وتغيّب خالد وعلم أبوه بإسلامه، فأرسل في طلبه فأُتي به فأنَّبه وضربه بمَقْرعة في يده حتى كسرها على رأسه، وقال: والله لأمنعنَّك القوت، فقال خالد: إن منعتني فإن الله يرزقني ما أعيش به، وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يلزمه ويكون معه؛ كذا في البداية. وأخرجه الحاكم في المستدرك من طريق الواقدي عن جعفر بن محمد بن خالد بن الزبير عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان - فذكره وفي حديثه: وأرسل أبوه في طلبه من بقي من ولده ممن لم يسلم ورافعاً مولاه فوجدوه، فأتوا به أباه - أبا أُحَيْحة - فأنَّبه وبكَّته وضربه بمقرعة في يده حتى كسرها على رأسه، ثم قال: أتبعتَ محمداً وأنت ترى خلافَه قومه وما جاء به من عيب آلهتهم وعيبهم من مضى من آبائهم؟ فقال خالد: قد صدق - والله - واتبعته، فغضب أبوه - أبو أحيحة - ونال منه وشتمه، ثم قال: إذهب يا لُكَعُ حيث شئت والله لأمنعنَّك القوت، قال خالد: فإن منعتني فإنَّ الله عزّ وجلّ يرزقني ما أعيش به. فأخرجه وقال لبنيه: لا يكلّمه أحدُ منكم إلا صنعت به(1/84)
ما صنعت به، فانصرف خالد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يلزمه، ويكون معه. وأخرجه ابن سعد عن الواقدي عن جعفر بن محمد عن محمد بن عبد الله نحوه مطولاً. وهكذا ذكره في الإستيعاب من طريق الواقدي: وزاد: وتغيّب عن أبيه في نواحي مكَّة حتى خرج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية، فكان خالد أول من هاجر إليه. وأخرج الحاكم أيضاً عن خالد بن سعيد أنَّ سعيد ابن العاص بن أمية مرض فقال: لئن رفعني الله من مرضي هذا لا يعبد إله ابن أبي كبشة ببطن مكة أبداً، فقال خالد بن سعيد عند ذلك: اللَّهمّ لا ترفعه، فتوفي في مرضه ذلك. وهكذا أخرجه ابن سعد.
دعوته صلى الله عليه وسلم لِضماد رضي الله عنه
أخرج مسلم والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم ضِماد مكة - وهو رجل من أزْدِشَنوءَة - وكان يرقي من هذه الرياح، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون: إنَّ محمداً مجنون فقال: أين هذا الرجل؟ لعلَّ الله أن يشفيَه على يديَّ، فلقيت محمداً فقلت: إني أرقي من هذه الرياح وإنَّ الله يشفي على يديَّ من شاء فهلمَّ؛ فقال محمد: «إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهدِه الله فلا مضلَّ له ومن يُضْلِلْ فلا هادي له، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له» - ثلاث مرات -، فقال: والله لقد سمعتُ قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء، فما سمعت مثل هؤلاء الكلمات، فهلُمَّ يدك(1/85)
أبايِعْك على الإِسلام.
فبايعه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال له: وعلى قومك، فقال: وعلى قومي. فبعث النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً فمرُّوا بقوم ضِمَاد، فقال: صاحب الجيش للسريَّة: هل أصبتم من هؤلاء القوم شيئاً؟ فقال رجل منهم: أصبت منهم مَطْهَرَة، فقال: ردَّها عليهم فإنهم قوم ضِمَاد. وفي رواية. فقال له ضماد: أعِدْ عليّ كلماتُك هؤلاء، فلقد بلغنَ قاموس البحر. كذا في البداية.
وأخرجه أيضاً النِّسائي والبَغَوي ومُسَدِّد في مسنده كما في الإِصابة. وأخرجه أبو نعيم في دلائل النبوّة (ص 77) من طريق الواقدي قال: حدّثني محمد بن سُلَيط عن أبيه عن عبد الرحمن العدوي قال: قال ضِمَاد: قدمت مكة معتمراً فجلست مجلساً فيه أبو جهل وعتبة بن ربيعة وأُميّة بن خَلَف، فقال أبو جهل: هذا الرجل الذي فرَّق جماعتنا، وسفَّه أحلامنا، وأضلَّ من مات، منا، وعاب آلهتنا؛ فقال أُمية: الرجل مجنون غير شكَ. قال ضماد: فوقعتْ في نفسي كلمتُه وقلت: إني رجل أعالج من الريح، فقمت من ذلك المجلس وأطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أُصادفه ذلك اليوم حتى كان الغد، فجئته فوجدته جالساً خلف المَقَام يصلِّي، فجلست حتى فرغ ثم جلست إليه فقلت: يا ابن عبد المطلب، فأقبل عليّ فقال: ما تشاء؟ فقلت: إنِّي أعالج من الريح، فإن أحببت عالجتك ولا تُكبِرنَّ ما بك فقد عالجت من كان به أشدّ مما بك فبرأ، وسمعت قومك يذكرون فيك خصالاً سيئة: من تسفيه أحلامهم، وتفريق جماعتهم، وتضليل من مات منهم، وعيب آلهتهم، فقلت: ما فعل هذا إلا(1/86)
رجل به جِنَّة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الحمد لله أحمده وأستعينه وأؤمن به وأتوكل عليه، من يهده الله فلا مضلَّ له ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله» . قال ضماد: فسمعت كلاماً لم أسمع كلاماً قطُّ أحسن منه فاستعدته الكلام فأعاد عليّ، فقلت: إلامَ تدعو؟ قال: «إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، وتخلع الأوثان من رقبتك، وتشهد أنِّي رسول الله» . فقلت: فماذا لي إن فعلت؟ قال: «لك الجنة» ، قلت: فإنِّي أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأخلع الأوثان من رقبتي وأبرأ منها، وأشهد أنَّك عبد الله ورسوله. فأقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عُلِّمت سوراً كثيرة من القرآن، ثم رجعت إلى قومي. قال عبد الله بن عبد الرحمن العدوي: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه في سريّة وأصابوا عشرين بعيراً بموضع واستاقوها، وبلغ عليَّ بن أبي طالب أنَّهم قوم ضِمَاد فقال: ردّوها إليهم، فرُدَّت.
دعوته صلى الله عليه وسلم لُحُصَين والد عمران رضي الله عنهما
أخرج بن خُزَيْمةَ عن عِمران بن خالد بن طُلَيق بن محمد بن عمران بن حصين قال: حدثني أبي عن أبيه عن حهد: أن قريشاً جاءت إلى الحُصَين - وكانت تعظِّمه - فقالوا له: كلِّم لنا هذا الرجل فإنَّه يذكر آلهتنا ويسبُّهم، فجاؤوا معه حتى جلسوا قريباً من باب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أوسعوا للشيخ - وعمران وأصحابه متوافرون - فقال حُصين: ما هذا الذي بلغنا عنك أنك تشتم آلهتنا وتذكرهم، وقد كان أبوك حصينة وخيراً؟ فقال: «يا حُصَين، إنَّ أبي وأباك في(1/87)
النار؛ يا حصين، كم تعبد من إله» ؟ قال: سبعاً في الأرض وواحداً في السماء، قال: «فإذا أصابك الضرّ من تدعو؟» قال: الذي في السماء، قال: «فيستجيب لك وحده وتشركهم معه، أَرضيته في الشكر أم تخاف أن يغلب عليك؟» قال: ولا واحدة من هاتين؛ قال: وعلمت أنِّي لم أكلم مثله، قال: «يا حُصَين، أسلم تسلم» ، قال: إنَّ لي قوماً وعشيرةً فماذا أقول؟ قال: «قل: اللَّهمَّ، أستهديك لأرشد أمري وزدني علماً ينفعني» فقالها حصين فلم يقم حتى أسلم. فقام إليه عِمْران فقبَّل رأسه ويديه ورجليه، فلما رأى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بكى، وقال: «بكيت من صنيع عمران، دخل حصين وهو كافر فلم يقم إليه عمران ولم يلتفت ناحيته، فلمَّا أسلم قضَى حقَّه فدخلني من ذلك الرِّقَّة» . فلما أراد حصين أن يخرج قال لأصحابه: «قوموا فشيِّعوه إلى منزله» ، فلما خرج من سُدَّة الباب رأته قريش فقالوا: صبأ وتفرقوا عنه كذا في الإصابة.
دعوته صلى الله عليه وسلم لرجل لم يسم
أخرج أحمد عن أبي تميمة الهجيمي عن رجل من قومه أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أو قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وأتاه رجل فقال: أنت رسول الله؟ - أو قال أنت محمد -؟ فقال: «نعم» ، قال: ما تدعو؟ قال: «أدعو الله عزّ وجلّ وحده، مَنْ إذا كان لك ضُرٌّ فدعوته كشفه عنك، ومن إذا أصابك عام فدعوته أنبتَ لك، ومن إذا كنت في أرض قفر فأضللتَ فدعوته ردَّ عليك» . فأسلم الرجل ثم قال: أوصني يا رسول الله، فقال: «ولا تسبنَّ شيئاً» - أو قال: «أحداً» ، شكَّ الحكم - قال: فما سببتُ بعيراً ولا شاة منذ أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال(1/88)
الهيثمي: وفيه الحكم بن فُضَيل وثَّقه أبو داود وغيره وضعَّفه أبو زُرعة وغيره، وبقية رجاله رجال الصحيح اهـ.
دعوته صلى الله عليه وسلم لمعاوية بن حَيْدة رضي الله عنه
أخرج ابن عبد البَرّ في الإستيعاب - وصحّه - عن معاوية بن حَيْدة القُشَيري قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، ما أتيتك حتى حلفت أكثر من عدد الأنامل - وطبَّق بين كفَّيه إحداهما على الأخرى - أن لا آتيك ولا آتي دينك فقد أتيتك أمرأً لا أعقل شيئاً إلا ما علمني الله، وإنِّي أسألك بوجه الله العظيم بِم بعثك ربُّنا إلينا؟ قال: «بدين الإِسلام» ، قال: وما دين الإِسلام؟ قال: «أن تقول: أسلمت وجهي لله وتخلَّيت، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وكلُّ مسلم على كلِّ مسلم محرّم، أخوان نصيران، لا يقبل الله ممَّن أشرك بعد ما أسلم عملاً حتى يفارق المشركين. ما لي أمسك بحُجَزِكم عن النَّار؟ ألا وإِنَّ ربي داعيّ وإِنَّه سائلي هل بلَّغت عبادي؟ فأقول: ربِّ قد بلَّغت. ألا فليبلِّغْ شاهُدكم غائِبَكم. ألا ثم إنَّكم تُدعَون مُفْدَمةً أفواهُكم بالفِدام، ثم إنَّ أول شيء ينبىء عن أحدكم لَفَخِذُه وكفُّه» . قال: قلت: يا رسول الله، هذا ديننا؟ قال: «هذا دينك وأينا تُحْسنْ يَكْفِك» - وذكر تمام الحديث.
فهذا هو(1/89)
الحديث الصحيح بالإِسناد الثابت المعروف، وإنما هو لمعاوية بن حيدة لا لحكيم أبي معاوية، وقد أخرج قبله حديث حكيم هذا أنه قال: يا رسول الله؟ ربنا بِمَ أرسلك؟ قال: «تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وكلُّ مسلم على كلِّ مسلم محرَّم، هذا دينك وأينما تكن يكفك» ، هكذا ذكره ابن أبي خيثمة، وعلى هذا الإِسناد عوَّل فيه وهو إسناد ضعيف، كذا في الإستيعاب. وقال الحافظ في الإِصابة: ولكن يحتمل أن يكون هذا آخر ولا بُعد في أن يتوارد إثنان على سؤال واحد، ولا سيما مع تباين المخرِّج، وقد ذكره ابن أبي عاصم في الوحدان، وأخرج الحديث عن عبد الوهاب بن نجدة وهو الحوطي شيخ ابن أبي خيثة فيه. انتهى.
دعوته صلى الله عليه وسلم لعديِّ بن حاتم رضي الله عنه
أخرج أحمد عن عديِّ بن حاتم قال: لمَّا بلغني خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم كرهت خروجه كراهية شديدة، فخرجت حتى وقعت ناحية الروم - وفي رواية:(1/90)
حتى قدمت على قيصر - قال: فكرهت مكاني ذلك أشدّ من كراهتي لخروجه، قال: قلت: والله لولا أتيت هذا الرجل فإن كان كاذباً لم يضرني وإن كان صادقاً علمت، قال: فقدت فأتيته. فلما قدمت قال الناس: عديُّ بن حاتم، عدي بن حاتم قال: فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: «يا عديُّ بن حاتم، أسلم تسلم - ثلاثاً - قال: قلت: إنِّي على دين. قال: «أنا أعلم بدينك منك» فقلت: أنت أعلم بديني مني؟ قال: نعم، ألستَ من الرَّكوسِيَّة وأنت تأكل مِرْباع قومك؟» قلت: بلى، قال: «هذا لا يحل لك في دينك» ، قال: فلم يَعْدُ أن قالها فتواضعتُ لها، فقال: أما إنِّي أعلم الذي يمنعك من الإِسلام. تقول: إنَّما أتَّبعه ضَعَفَةُ الناس ومن لا قوة لهم وقد رمتهم العرب. أتعرفُ الحيرة؟» قلت: لم أرها وقد سمعت بها. قال: «فوالذي نفسي بيده ليُتِمَّنَّ الله هذا الأمر حتى تخرج الظَّعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد، وَلَيُفْتَحَنَّ كنوز كسرى بن هُرْمُز» ، قال: قلت: كسرى بن هُرْمُز؟ قال: «نعم كسرى بن هرمز، ولَيُبذَلَنَّ المال حتى لا يقبله أحد» .
قال عديُّ بن حاتم: فهذه الظعينة تأتي من الحيرة فتطوف بالبيت في غير جوار، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى، والذي نفسي بيده لتكونَّن الثالثة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها، كذا في البداية وأخرجه البغوي أيضاً في معجمه بمعناه، كما في الإِصابة.
وأخرج أحمد أيضاً عن عديِّ بن حاتم، قال: جاءت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا بعقرب فأخذوا عمَّتي وناساً فلما أتَوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فصُفُّوا(1/91)
له. قالت: يا رسول الله، بانَ الوافد، وانقطع الولد، وأنا عجوز كبيرة ما بي من خِدْمة، فَمُنَّ عليَّ مَنَّ الله عليك، فقال: «ومن وافدك؟» قالت: عديُّ بن حاتم، قال: «الذي فرَّ من الله ورسوله؟» قالت: فَمُنَّ عليَّ، فلما رجعَ ورجُلٌ إلى جنبه نرى أنه علي - قال: سَلِيه حُمْلاناً، قال: فسألتْه فأمَر لها. قال عديّ: فأتتني فقالت: لقد فعلتَ فعلةً ما كان أبوك يفعلها وقالت: إِيته راغباً أو راهباً، فقد أتاه فلان فأصاب منه وأتاه فلان فأصاب منه، قال: فأتيته فإذا عنده امرأة وصبيان - أو صبي -، فذكر قربهم منه -، فعرفت أنه ليس ملك كسرى ولا قيصر. فقال له: «يا عديُّ بن حاتم، ما أفرَّك؟ أفرَّك أن يقال: لا إله إلا الله فهل من إله إلا الله؟. ما أفرك؟ أفرك أن يقال: الله أكبر. فهل شيء هو أكبر من الله عزّ وجلّ؟» قال: فأَسلمت فرأيت وجهه استبشر وقال: «إِنَّ المغضوب عليهم اليهود، وإنَّ الضالين النَّصارى.
قال: ثم سألوه: فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد فلكم أيُّها الناس أن ترضخوا من الفضل، ارتضخ امرؤ بصاع، ببعض صاع، بقبضة، ببعض قبضة» - قال شعبة: «وأكثر علمي أنه قال «بتمرة، بشقِّ تمرة» وإنَّ أحدكم لاقى الله فقائل ما أقول: ألم أجعلك سميعاً بصيراً؟ ألم أجعل لك مالاً وولداً؟ فماذا قدَّمت؟ فينظر من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، فلا يجد شيئاً، فما يتَّقي النار إلا بوجهه، فاتقوا النَّار ولو بشقِّ تمرة، فإِن لم(1/92)
تجدوه فبكلمة ليِّنة، إني لا أخشى عليكم الفاقة؛ لينصرنَّكم الله وليعطينَّكم - أو ليفتحنَّ عليكم - حتى تسير الظَّعينة بين الحيرة ويثرب، أو أكثر. ما تخاف السَرَق على ظعينتها» . وقد رواه الترمذي وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث سماك. وأخرج البيهقي شيئاً منه من آخره، وهكذا أخرجه البخاري مختصراً كما في البداية.
دعوته صلى الله عليه وسلم لذي الجَوْشَن الضبابي رضي الله عنه
أخرج الطبراني عن ذي الجَوْشَن الضبابي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن فرغ من أهل بدر بابن فرس لي يقال لها «القَرْحاء» ، فقلت: يا محمد، قد جئتك بابن القرحاء لتتخذه، قال: «لا حاجة لي فيه وإن أردتَ أقيضك بها المختار من دروع بدر فعلتُ» . فقلت: ما كنت لأقيضه اليوم بغُرة، قال: «لا حاجة لي فيه» ثم قال: «يا ذا الجوشن، ألا تسلم فتكون من أول أهل هذا الأمر؟» فقالت: لا، قال: «لم؟» قال: قلتُ رأيتُ قومك قد وَلِعوا بك. قال: «فكيف بلغك عن مصارعهم ببدر؟» قلت: قد بلغني، قال: «فإنا نُهدي لك» ، قلت: إِن تغلب على الكعبة وتقطنها، قال: «لعلك إن عشت ترى ذلك، ثم قال: «يا بلال، خذ حقيبة الرجل فزوده من العجوة» ، فلما أدبرت قال: «أما إِنَّه من خير فرسان بني عامر» . قال: فوالله إنِّي بأهلي بالغور إذ أقبل راكب، فقلت: ما فعل الناس؟ قال: والله قد غلب محمد على الكعبة وقطنها، فقلت:(1/93)
هَبِلَتْني أمي ولو أسلمت يومئذٍ ثم أسأله الحير لأقطعنيها.
وفي رواية: فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «ما يمنعك من ذلك؟» قال: رأيت قومك قد كذَّبوك وأخرجوك وقاتلوك فانظر ماذا تصنع؟ فإن ظهرتَ عليهم آمنت بك واتبعتك، وإن ظهروا عليك لم أتبعك. قال الهيثمي: رواه عبد الله بن أحمد وأبوه - ولم يسق المتن - والطبراني، ورجالهما رجال الصحيح، وروى أبو داود بعضه. انتهى.
دعوته صلى الله عليه وسلم لبشير بن الخَصَاصِيَة رضي الله عنه
أخرج ابن عساكر عن بشير بن الخَصاصِيَة قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني إلى الإسلام، ثم قال لي: «ما اسمك؟» قلت: نذير، قال: «بل أنت بشير» فأنزلني بالصُّفَّة، فكان إذا أتته هديّة أشركنا فيها وإذا أتته صدقة صرفها إلينا، فخرج ذات ليلة فتبعته فأتى البقيع فقال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنَّا بكم لاحقون، وإنَّا لله وإِنَّا إِليه راجعون. لقد أصبتم خيراً بجيلاً، وسبقتم(1/94)
شرّاً طويلاً» . ثم التفت إليَّ فقال: «من هذا؟» فقلت: بشير، فقال: «أما ترضَى أن أخذ الله سمعَك وقلبَك وبصرك إِلى الإِسلام من بين ربيعة الفَرَس الذين يقولون: أن لولاهم لائتفكت الأرض بأهلها» ، قلت: بلى، يا رسول الله، قال: «ما جاء بك؟» قلت: خفتُ أن تُنكب أو تصيبك هامةٌ من هوامِّ الأرض. وعنده أيضاً والطبراني والبيهقي: «يا بشير، ألا تحمد الله الذي أخذ بناصيتك إلى الإِسلام من بين ربيعة؛ قوم يرَون أن لولاهم لائتفكتِ الأرضُ بمن عليها» . كذا في المنتخب.
دعوته صلى الله عليه وسلم لرجل لم يسم
أخرج أبو يَعْلى عن حرب بن سُريج قال: حدثني رجل من بلْعَدَوِيَّة، قال: حدثني جدِّي قال: انطلقت إلى المدينة فنزلت عند الوادي، فإذا رجلان بينهما عنز واحدة وإِذا المشتري يقول للبائع؛ أحسن مبايعتي، قال: فقلت في نفسي: هذا الهاشمي الذي قد أضلَّ الناس أهو هو؟ قال: فنظرت فإذا رجل حسن الجسم عظيم الجبهة، دقيق الأنف، دقيق الحاجبين، وإذا من ثُعْرة نحره إلى سُرّته مثل الخيط الأسود شعر أسود، وإِذ هو بين طِمْرين قال: فدنا منا فقال: السلام عليكم، فرددنا عليه، فلم ألبث أن دعا المشتري فقال: يا رسول الله، قل له: يحسن مبايعتي، فمدَّ يده وقال: «أموالكم تملكون، إنِّي أرجو أن ألقى الله عزّ وجلّ يوم القيامة لا يطلبني أحد منكم بشيء ظلمته في مال ولا في دم ولا عرض إلا بحقه. رحم الله أمرأ سهل البيع، سهل الشراء، سهل الأخذ، سهل العطاء، سهل القضاء، سهل التقاضي» ، ثم مضى.(1/95)
فقلت: والله لأقضينَّ هذا فإنه حسن القول، فتبعته فقلت: يا محمد، فالتفت إليَّ بجميعه فقال: «ما تشاء؟» فقلت: أنت الذي أضللتَ الناس وأهلكتَهم وصدَدتهم عمَّا كان يعبد آباؤهم؟ قال: «ذاك الله» . قال: ما تدعو إليه؟ قال: «أدو عباد الله إلى الله» قال: قلت: ما تقول؟ قال: «أشهد أن لا إله إلا الله وأنِّي محمد رسول الله، وتؤمن بما أنزله عليَّ، وتفكر باللات والعُزَّى، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة» . قال: قلت: وما الزكاة؟ قال: «يردّ غنينا على فقيرنا» ؛ قال: قلت: نِعمَ الشيء تدعو إليه. قال: فلقد كان وما في الأرض أحد يتنفس أبغض إليّ منه، فما برح حتى كان أحب إليّ من ولدي ووالديَّ ومن الناس أجمعين. قال: فقلت: قد عرفتُ؛ قال «قد عرفتَ؟» قلت نعم؛ قال: «تشهد أن لا إِله إِلا الله وأنِّي محمد رسول الله، وتؤمن بما أُنزل عليّ» ، قال: قلت: نعم، يا رسول الله، إنِّي أرد ماءً عليه كثير من الناس فأدعوهم إلى ما دعوتني إليه، فإنِّي أرجو أن يتَّبعوك، قال: نعم، فادعهم» ؛ فأسلم أهل ذلك الماء رجالهم ونساؤهم، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه. قال الهيثمي وفيه: راوٍ لم يسمَّ، وبقية رجاله وُثِّقوا. انتهى.
وأخرج أحمد عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على رجل من بني النجار يعوده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا خال، قل: (لا إله إلا الله) » ، فقال: خالٌ أنا أو عمٌّ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم «لا، بل خال» ؛ فقال: قل: (لا إله إلا الله) » ، قال: هو خيرٌ لي؟ قال: «نعم» . قال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.(1/96)
وأخرج البخاري وأبو داود عن أنس رضي الله عنه أن غلاماً من اليهود كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه يعوده، ففقعد عند رأسه فقال له: «أسلم» فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال: أطِعْ أبا القاسم؛ فأسلم. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «الحمد لله الذي أنقذه بي من النار» . كذا في جمع الفوائد.
وأخرج أحمد وأبو يعلى عن أنس أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: «أسلم تسلم» ، قال: إني أجدني كارهاً، قال: «إن كنت كارهاً» . قال الهيثمي: رجالهما رجال الصحيح.
دعوته صلى الله عليه وسلم لأبي قحافة رضي الله عنه
أخرج الطبراني عن أسماء بنت أبي بكر قالت: لما كان يوم الفتح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي قُحافة: «أسلم تسلم» . قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. انتهى. وعند ابن سعد: عن أسماء قالت: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة واطمأنَّ وجلس في المسجد أتاه أبو بكر بأبي قحافة، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أبا بكر، ألا تركتَ الشيخ حتى أكون أنا الذي أمشي إليه؟» قال يا رسول الله، هو أحقُّ أن يمشي إِليك من أن تمشي إليه. فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ووضع يده على قلبه ثم قال: «يا أبا قحافة، أسلم تسلم» ؛ قال: فأسلم(1/97)
وشهد شهادة الحق. قال: وأُدخل عليه ورأسه لحيته كأنَّهما ثُغامة، فقالت: غيِّروا هذا الشيب وجنِّبوه السواد» .
دعوته صلى الله عليه وسلم لأفراد المشركين ممَّن لم سلم دعوته عليه السلام لأبي جهل
أخرج البيهقي عن الميغرة بن شعبة قال: إِنَّ أول يوم عرفت فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أمشي أنا وأبو جهل بن هشام في بعض أزقة مكة، إذ لقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي جهل: «يا أبا الحَكَم، هَلُمَّ إلى الله وإلى رسوله، أدعوك إلى الله» ، فقال أبو جهل: يا محمد، هل أنت مُنتهٍ عن سب آلهتنا؟ هل تريد إلا أن نشهد أنَّك قد بلّغت؟ فنحن نشهد أن قد بلغت، وفوالله لو أنِّي أعلم أنَّ ما تقول حقٌّ لاتبعتك.
فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل عليَّ فقال: والله إني لأعلم أنّ ما يقول حقٌّ، ولكن يمنعني شيء: أنَّ بني قُصَيّ قالوا: فينا الحجابة فقلنا: نعم، ثم قالوا: فينا السِّقاية، فقلنا نعم؛ ثمَّ قالوا: فينا النَّدوة، فقلنا: نعم، ثم قالوا: فينا اللِّواء فقلنا: نعم، ثم أطعموا وأطعمنا، حتى إذا تحاكَّت الرُّكَب قالوا: منا نبي، والله لا أفعل. كذا في البداية.
وأخرجه أيضاً بن أبي شيبة بنحوه، كما في الكنز وفي حديثه: «يا أبا الحَكَم هَلُمَّ إلى الله وإلى رسوله وإلى كتابه، أدعوك إلى الله» .
دعوته عليه السلام للوليد بن الغيرة
وأخرج إسحاق بن راهَوَيْه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ الوليد بن(1/98)
المغيرة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنه رَقَّ له، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عمّ، إنَّ قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً، قال: لِمَ؟ قال: ليعطوكَهُ، فإنَّك أتيت محمداً لتعرِضَ ما قِبَلَه، قال: قد عَلِمت قريش أني من أكثرها مالاً. قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنَّك مُنكر له، قال: وماذا أقول؟ فوالله ما منكم رجل أعرف بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه لا بقصيده من لا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، ووالله إنَّ لقوله الذي يقول حلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنَّه لمثمرٌ أعلاه، مُغْدِقٌ أسفله، وإنه لَيَعلُو ولا يُعلى، وإنه ليحطِم ما تحته. قال: لا رضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: قف عني حتى أفكر فيه، فلما فكَّر قال: إنْ هذا إلا سحر يُؤثر، يأثره عن غيره، فنزلت: «ذَرْني ومَنْ خَلَقْتُ وحيداً. وجعلتُ له مالاً ممدوداً. وبنين شهوداً» - الآيات. هكذا رواه البيهقي عن الحاكم عن عبد الله بن محمد الصنعاني بمكة عن إسحاق. وقد رواه حمَّاد بن زيد عن أيوب عن عِكرمة - مرسلاً - فيه أنّه قرأ عليه: «إنَّ الله يأمرُ بالعدلِ والإِحسانِ وإيتاءِ ذي القُربَى، وينهى عن الفَحْشاءِ والمنكرِ والبَغْي، يَعِظُكُم لعلَّكُم تَذكَّرون» . كذا في البداية. وأخرجه ابن جرير عن عكرمة كما في التفسير لابن كثير.(1/99)
دعوته صلى الله عليه وسلم الإثنين دعوته عليه السلام لأبي سفيان وهند
أخرج ابن عساكر عن معاوية رضي الله عنه قال: خرج أبو سفيان إلى بادية له مردفاً هنداً، وخرجت أسير أمامهما وأنا غلام على حمارة لي إذ سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو سفيان: أنزل يا معاوية حتى يركب محمد، فنزلت عن الحمارة وركبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسار أمامنا هنيهة، ثم التفت إِلينا فقال: «يا أبا سفيان بن حرب، ويا هند بنت عُتبة، والله لتموتنَّن ثم لتبعثنَّ، ثم ليدخلنَّ المحسن الجنة والمسيء النار، وأنا أقول لكم بحقَ وإنَّكم لأولُ من أُنذرتم» ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {حم تَنزِيلٌ مّنَ الرحمن الرَّحِيمِ} (فصلت: 1، 2) - حتى بلغ - قالتا أَتَيْنا طائعين» ، فقال له أبو سفيان: أفَرَغْت يا محمد؟ قال: نعم، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمارة وركبتها، وأقبلت هند على أبي سفيان فقالت: ألهذا الساحر أنزلتَ إبني؟ قال: لا والله ما هو بساحر، ولا كذَّاب؛ كذا في الكنز.
وأخرجه الطبراني أيضاً مثله. قال الهيثمي: حُمَيد بن مُنْهب لم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.
دعوته عليه السلام لعثان وطلحة
وأخرج ابن سعد عن يزيد بن رومان قال: خرج عثمان بن عفان وطلحة بن عُبيد الله رضي الله عنهما على إثر الزبير بن العوام رضي الله عنه، فدخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليهما الإسلام، وقرأ عليهما القرآن،(1/100)
وأنبأهما بحقوق الإِسلام، ووعدهما الكرامة من الله. فآمَنَا وصدّقا، فقال عثمان يا رسول الله، قدمتُ حديثاً من الشام، فلما كنا بين مَعَان والزرقاء فنحن كالنيام إِذا منادٍ ينادينا أيُّها النيام. هُبوا فإن أحمدَ قد خرج بمكة، فقدنا فسمعنا بك. وكان إسلام عثمان قديمً قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم.
دعوته عليه السلام لعمار وصهيب
وأخرج ابن سعد عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار قال: قال عمار بن ياسر رضي الله عنه: لقيت صهيب بن سنان رضي الله عنه على باب دار الأرقم ورسول الله فيها فقلت له: ما تريد، قال لي: ما تريد أنت، فقلت: أردت أن أدخل على محمد فأسمعَ كلامه، قال: وأنا أريد ذلك، فدخلنا عليه فعرض علينا الإِسلام فأسلمنا، ثم مكثنا يومنا على ذلك حتى أمسينا، ثم خرجنا ونحن مُسْتَخْفُون؛ فكان إِسلام عمار وصهيب بعد بضعة وثلاثين رجلاً. رضي الله عنهم.
دعوته عليه السلام وسعد بن زُرَارة وذَكْوان بن عبد قيس
وأخرج ابن سعد عن خُبَيب بن عبد الرحمن قال: خرج أسعد بن زُرَارة وذَكْوان بن عبد قيس إلى مكة يتنافران إلى عُتبة بن ربيعة، فسمعا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأتياه، فعرض عليهما السلام وقرأ عليهما القرآن، فأسلما ولم يقربا عتبة بن ربيعة، ورجعا إلى المدينة؛ فكانا أول من قدم بالإِسلام بالدينة.
عرضه صلى الله عليه وسلم الدعوة على الجماعة مخاصمة رؤساء قريش النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته لهم وما أجابهم(1/101)
أخرح بن جرير عن ابن عباس أن عتبة وشيبة ابني ربيعة، وأبا سفيان بن حرب، ورجلاً من بني عبد الدار، وأبا البَخْتري أخا بني الأسد، والأسود بن عبد المطَّلب بن أسد، وزَمْعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أُمية، وأميةَ بن خلف، والعاص بن وائل، ونبيها ومُنَبَّها ابني الحجَّاج السَّهُمِيَيْن، اجتمعوا - أو من اجتمع منهم - بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلِّموه وخاصموه حتى تُعذروا فيه، فبعثوا إليه أنَّ أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلِّموك، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعاً وهو يظنُّ أنَّه قد بَدَا في أمره بَدَاء - وكان عليهم حرصاً يحب رُشدهم ويَعزُّ عليه عَنَتُهم - حتى جلس إليهم. فقالوا: يا محمد، إنَّا قد بعثنا إليك لنُعذِر فيك، وإِنَّا - والله - ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمتَ الآباء، وعبتَ الدين، وسفَّهت الأحلام، وشتمتَ الآلهة، وفرّقتَ الجماعة، فما بقي من قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك. فإنْ كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً. وإنْ كنت إنَّما تطلب الشرف فينا سوَّدْناك علينا. وإنْ كنت تريد ملكاً ملَّكناك علينا. وإِن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رَئِيَّاً تراه قد غلب عليك - وكانوا يسمُون التابع من الجنِّ «الرَئيّ» - فربما كان ذلك، وبذلنا أموالنا في طلب الطبِّ حتى نبرئك منه أو نُعذر فيك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما بي ما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكنَّ الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليَّ كتاباً، وأمرني أنْ أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلَّغتكم رسالاتِ ربي،(1/102)
ونصحتُ لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظُّكم من الدنيا والآخرة، وإنْ تردُّوه عليَّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم» - أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقالوا: يا محمد، فإنْ كنت غير قابل منَّا ما عرضنا عليك فقد علمتَ أنه ليس أحدٌ من الناس أضيقَ بلاداً، ولا أقلَّ مالاً، ولا أشد عيشاً منا؛ فاسأل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فلْيُسيِّر عنا هذه الجبال التي قد ضيَّقت علينا، وليبسط لنا بلادَنا، وليُفَجِّر فيها أنهاراً كأنهار الشام والعراق، وليبعثْ لنا من مضى من آبائنا، وليكنْ فيمن يبعث لنا منهم قصيُّ بن كلاب فإنه كان شيخاً صدوقاً؛ فنسألهم عمَّا تقول أحقٌ هو أم باطل؟ فإن صنعت ما سألناك وصدَّقوك صدَّقناك، وعرفنا به منزلتك عند الله وأنَّه بعثك رسولاً كما تقول. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما بهذا بعثت، إِنَّما جئتكم من عند الله با بعثني به، فقد بلغتكم ما أُرسلت به إِليكم؛ فإن تقبلوه فهو حظُّكم في الدنيا والآخرة، وإن تردُّوه عليَّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم» .
قالوا فإن لم تفعل لنا هذا فخذ لنفسك، فسَلْ ربك أن يبعث مَلَكاً يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك، وتسأله فيجعل لك جناتٍ وكنوزاً وقصرواً من ذهب وفضة، ويغنيك به عما نراك تبتغي - فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه - حتى نعرف فضل منزلتك من ربك إن كنت رسولاً كما تزعم. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي يسأل ربَّه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكنَّ الله بعثني بشيراً ونذيراً؛ فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإنْ تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم» .
قالوا: فأسقط السماء كما زعمت أنَّ ربك إن شاء فعل ذلك، فإنَّا لن نُؤمن لك إلا أن تفعل. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «ذلك إلى الله إنْ شاء فعل بكم ذلك» . فقالوا: يا محمد، أمَا علم ربك أنَّا سنجلس معك ونسألك عمَّا سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب؟ فيقدم إليك ويعلمك ما تُرجعنا به، ويخبرك(1/103)
ما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به، فقد بلغنا أنَّه إنَّما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له «الرحمن» وإِنَّا - والله - لا نؤمن بالرحمن أبداً، فقد أعذرنا إليك يا محمد أَما الله لا نتركك وما فعلت بنا حتى نهلكك أو تُهلكنا، وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة وهي بنات الله. وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلاً.
فلما قالوا ذلك قام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم - وهو ابن عمته عاتكة ابنة عبد المطَّلب - فقال: يا محمد، عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منه، ثم سألوك لأنفسهم أُموراً ليعرفوا بها منزلتك من الله فلم تفعل ذلك، ثم سألوك أنْ تُعجِّل لهم ما تُخوِّفهم به من العذاب؛ فالله لا أؤمن بك أبداً حتى تتخذ إلى السماء سُلَّماً، ثم ترقى به وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي معك بصحيفة منشورة ومعك أربعةٌ من الملائكة يشهدون لك أنَّك كما تقول، وايْمُ الله لو فعلتَ ذلك لظننتُ أنِّي لا أُصدقك. ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزيناً أسفاً لما فاتَه ممَّا كان طمع فيه من قومه حين دَعوه، ولمَا رأى من مباعدتهم إيَّاه. وهكذا رواه زياد بن عبد الله البَكَّائي عن ابن إسحاق عن بعض أهل العلم عن سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما - فذكر مثله سواء؛ كذا في التفسير لابن كثير والبداية.
دعوته صلى الله عليه وسلم لأبي الحَيْسم وفتية من بني عبد الأشهل
وأخرج أبو نُعيم عن محمود بن لبيد أخي بني الأشهل قال: لمَّا قدم(1/104)
أبو الحَيْسم أنس بن رافع مكة - ومعه فتيةٌ من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن مُعاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج - سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم، فأتاهم فجلس إليهم فقال لهم: «هل لكم إلى خير مما جئتم له؟» فقالوا: ما ذاك؟ قال: «أنا رسول الله بعثني الله إلى العباد أدعوهم إلى الله أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً، ونزَّل عليَّ الكتاب» . ثم ذكر الإِسلام، وتلا عليهم القرآن. فقال إياس بن معاذ - وكان غلاماً حَدَثاً -: أيْ قوم، هذا - والله - خير مما جئتم له. فأخذ أبو الحيسم أنس بن رافع حفنة من البطحاء وضرب بها وجه إياس بن معاذ، وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا، فصمت إياس وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرفوا إلى المدينة، فكانت وقعة «بُعاث» بين الأوس والخزرج، ثم لم يبث إياس بن معاذ أنْ هَلَك. قال محمود بن لبيد: فأخبرني مَنْ حضره من قومي عند موته: أنَّهم لم يزالوا يسمعونه يهلِّل الله، ويكبِّره، ويسبِّحه، حتى مات، فما يشكُّون أنْ قد مات مسلماً، لقد كان استشعر الإِسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمع؛ كذا في كنز العمال. وأخرجه أيضاً أحمد والطبراني، ورجاله ثقات، كما قال الهيثمي. وأسنده أيضاً ابن إسحاق في المغازي عن محمود بن لبيد بنحوه، رواه جماعة عن ابن إسحاق وهو من صحيح حديثه كما قال في(1/105)
الإِصابة.
عرضه ت الدعوة على المجامع دعوته عليه السلام لعشيرته الأقربين وبطون قريش عند نزول الآية
أخرح ابن سعد عن بن عباس رضي الله عنهما قال: لما أنزل الله: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاْقْرَبِينَ} (الشعراء: 214) ؛ خرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى علا المَرْوة ثم قال: «يا آل فِهر» فجاءته قريش، فقال أبو لهب بن عبد المطلب: هذه فهر عندك فقُلْ. فقال «يا آل غالب» ، فرجع بنو محارب وبنو الحارث إبنا فهر، فقال: يا آل لؤي بن غالب» ، فرجع بنو تَيْم الأدرم بن غالب، فقال: يا آل كعب بن لؤي» ، فرجع بنو عامر بن لُؤي، فقال: «يا آل مُرَّة بن كعب» ، فرجع بنو عَدِيّ بن كعب وبنو سَهْم وبنو جُمَح بن عمر وبن هُصَيص بن كعب بن لؤي، فقال: «يا آل كلاب بن مرة» ، فرجع بنو مخزوم بن يقظة بن مُرَّة وبنو تَيْم بن مرة، فقال: «يا آل قصي» ، فرجع بنو زُهْرة بن كلاب، فقال: «يا آل عبد مناف» فرجع بنو عبد الدار بن قُصَي وبنو أسد بن عبد العزى بن قصي وبنو عبد بن قصي. فقال أبو لهب: هذه بنو عبد مناف عندك فقل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنَّ الله أمرني أن أُنذر عشيرتي الأقربين وأنتُم الأقربون من قريش، وإِني لا أملك لكم من الله حظاً ولا من الآخرة نصيباً إلا أن تقولوا: «لا إله إلا الله» فإِشهد بها لكم عند ربكم وتدين لكم العرب وتذلُّ لكم بها العجم» . فقال أبو لهب: تبّاً لك فلهذا دعوتنا؟ فأنزل الله: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ} (المسد: 1) ، يقول: خَسرتْ يدا أبي لهب. كذا في الكنز.(1/106)
وأخرج أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أنزل الله: «وأنذر عشيرتك الأقربين» أتى النبي صلى الله عليه وسلم الصَّفَا فصعد عليه، ثم نادى: «يا صباحاه» ، فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه وبين رجل يبعث رسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا بني عبد المطلب، يا بني فهر، يا بني كعب، أرأيتم لو أخبرتكم أنَّ خيلاً بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني؟» قالوا: نعم، قال: «فإنِّي نذيرٌ لكم بين يدي عذاب شديد» ، فقال أبو لهب: تبّاً لك سائر اليوم أما دعوتَنا إلا لهذا؟ وأنزل الله عزّ وجلّ: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ} ، وأخرجه الشيخان نحوه كافي البداية.
عرضه صلى الله عليه وسلم الدعوة في مواسم الحج وعلى قبائل العرب عرضه عليه السلام الدعوة على بني عامر وبني محارب
أخرج أبو نعيم في دلائل النبوة (ص 101) عن عبد الله بن كعب بن مالك رضي الله عنهما قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين من نبوته مستخفياً، ثم أعلن في الرابعة، فدعا عشر سنين يوافي الموسم، يتَّبع الحاجَّ في منازلهم: بعُكاظ ومَجَنَّة، وذي المجاز، يدعوهم إلى أنْ يمنعوه حتى يبِّغَ رسالة ربه عزّ وجلّ ولهم الجنّة، فلا يجد أحداً ينصره، حتى إنَّه يسأل عن القبائل ومنازلهم قبيلةً قبيلةً،(1/107)
حتى انتهى إلى بني عامر بن صَعْصَعة فلم يلق من أحد من الأذى قط ما لقي منهم، حتى خرج من عنده وإنَّهم ليرمونه من ورائه، حتى انتهى إلى بني مُحارب بن خَصَفَة، فوجد فيهم شيخاً ابن مائة سنة وعشرين سنة، فكلَّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاه إلى الإِسلام وأنْ يمنعه حتى يبلِّغ رسالة ربه، فقال الشيخ: أيُّها الرجل، قومك أعلم بنبأك، والله لا يؤوب بك رجل إلى أهله إلا آب بشرِّ ما يؤوب به أهل الموسم، فأغنِ عنا نفسك، وإنَّ أبا لهب لقائم يسمع كلام المحاربي. ثم وقف أبو لهب على المحاربي فقال: لو كان أهل الموسم كلُّهم مثلك لترك هذا الدِينَ الذي هو عليه، إنَّه صابيءٌ كذابٌ. قال المحاربي: أنت - والله - أعرف به، هو ابنَ أخيك ولحمتك ثم قال المحاربي: لعلَّ به - يا أبا عتبة - لَمَمَاً؟ فإنَّ معنا رجلاً من الحي يهتدي لعلاجه. فلم يرجع أبو لهب بشيء، غير أنه إذا رآه وقف على حيَ من أحياء العرب صاحبه أبو لهب إنَّه صابىء كذاب؛ وفي إسناده الواقدي.
عرضه عليه السلام الدعوة على بني عبس
وأخرج أبو نعيم (ص 102) أيضاً من طريق الواقدي عن عبد الله بن وابصة العبسي عن أبيه عن جده قال: جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منازلنا بمنى - ونحن نازلون بالجَمْرة الأولى التي تلي مسجد الخَيْف وهو على راحلته مُرْدِفاً خلفه زيد بن حارثة - فدعانا، فوالله ما استجبنا له ولا خير لنا، قال: وقد كنّا سمعنا به وبدعائه في الموسم، فوقف علينا يدعونا فلم نستجب له. وكان معنا مَيْسرة بن مسروق العبسي، فقال: أحلف بالله لو صدَّقنا هذا الرجل وحلمناه حتى نحُل به وسط رحالنا لكان الرأي، فأحلف بالله ليظهرنَّ أمره حتى يبلغ كلَّ مبلغ. فقال له القوم. دَعْنا عنك لا تعرِّضنا لما لا قِبَلَ لنا به، فطمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مَيْسرة فكلَّمه. فقال مَيْسرة: ما أحسن كلامك وأنوره ولكنَّ قومي يخالفونني، وإنَّا(1/108)
الرجل بقومه فإن لم يعضدوه فالعِداء أبعد.
فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج القوم صادرين إلى أهليهم. فقال لهم ميسرة: ميلوا بنا إلى فَدَك فإنَّ بها يهودَ نسائلهم عن هذا الرجل. فمالوا إلى يهود فأخرجوا سِفْراً لهم فوضعوه ثم درسوا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم النبي الأمي العربي، يركب الجمل، ويجتزىء بالكِسْرة وليس بالطويل ولا بالقصير ولا بالجعد ولا بالسبط، في عينه حُمْرة، مُشَرَّب اللون. فإنْ كان هذا هو الذي دعاكم فأجيبوه وادخلوا في دينه، فإِنَّا نحسده فلا نتبعه، ولنا منه في مواطن بلاء عظيم ولا يبقى أحد من العرب إلا اتَّبعه أو قاتله، فكونوا ممّن يتّبعه. فقال مَيْسرة: يا قوم، إنّ هذا الأمر بيِّنٌ، قال القوم: نرجع إلى الموسم فنلقاه. فرجعوا إلى بلادهم وأبى ذلك عليهم رجالهم فلم يتبعه أحد منهم. فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وحجَّ حِجّة الوداع لقيه مَيْسرة فعرفه. فقال يا رسول الله، والله ما زلبت حريصاً على اتِّباعك من يوم أنختَ بنا حتى كان ما كان، وأبى الله إلا ما ترى من تأخير إسلامي، وقد مات عامة النَّفر الذين كانوا معي فأين مدخلهم يا نبي الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل من مات على غير دين الإِسلام فهو في النار» ، فقال: الحمد لله الذي أنقذني، فأسلم فحسن إسلامه، وكان له عند أبي بكر رضي الله عنه مكان. وذكره في البداية عن الواقدي بإسناده مثله.
عرضه عليه السلام الدعوة على كِنْدة
وأخرج أبو نُعيم في الدلائل (ص 103) أيضاً من طريق الواقدي حدثني(1/109)
محمد بن عبد الله بن كَثِير بن الصَّلْت عن ابن رومان وعبد الله بن أبي بكر وغيرهما رضي الله عنهم قالوا: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم كِندة في منازلهم بعُكاظ، فلم يأتِ حيّاً من العرب كان ألين منهم، فلمَّا رأى لينهم وقوة جَبْههم له جعل يكلمهم ويقول «أدعوكم إلى الله وحده لا شريك له، وأن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم، فإنْ أظهرْ فأنتم بالخيار» . فقال عامتهم ما أحسن هذا القول ولكنَّا نعبد ما كان يعبد آباؤنا. قال أصغر القوم: يا قوم، اسبقوا إلى هذا الرجل قبل أن تُسبقوا إليه، فوالله إنَّ أهل الكتاب ليُحدِّثون أنَّ نبياً يخرج من الحَرَم قد أظلَّ زمانُه. وكان في القوم إنسان أعور فقال: أمسكوا عليَّ، أخرجته عشيرته وتؤونه؟ أنتم تحملون حرب العرب قاطبة؟ لا، م لا. فنصرف عنهم حزيناً، فانصرف القوم إلى قومهم فخبروهم. فقال رجل من اليهود: والله إنَّكم مخطئون بخطئكم، لو سبقتم إلى هذا الرجل لسدتُم العرب، ونحن نجد صفته في كتابنا. فوصفه القوم الذين رأَوه كل ذلك يصدقونه بما يصف من صفته، ثم قال: نجد مخرجه بمكة ودر هجرته يثرب. فأجمع القوم ليوافوه في الموسم قابل، فحبسهم سيد لهم عن حج تلك السنة فلم يوافِ أحد منهم. فمات اليهوديُّ فسُمِعَ عند موته يُصدِّق بمحمد صلى الله عليه وسلم ويؤمن به.
عرضه عليه السلام الدعوة على بني كعب
وأخرج أبو نعيم في دلائل النبوة (ص 100) عن عبد الرحمن العامري عن أشياخ من قومه قالوا: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بسوق عُكاظ، فقال: «مِمَّن القوم؟» قلنا من بني عامر بن صَعْصَعة. قال: «من أيِّ بني عامر؟» قلنا: بنو كعب بن ربيعة. قال: «كيف المَنَعَةُ فيكم؟» قلنا: لا يُرام ما قِبَلنا، ولا يُصطلى بنارنا. قال: فقال لهم: «إنِّي رسول الله، فإنْ أتيتكم تمنعوني حتى أُبلِّغ رسالة ربي؟(1/110)
ولم أُكره أحداً منكم على شيء» . قالوا: ومِنْ أيِّ قريش أنت؟ قال: «من بني عبد المطلب» . قالوا: فأين أنت من بني عبد مناف؟ قال: «هم أول من كذَّبني وطردني» . قالوا: ولكنَّا لا نطردك ولا نُؤمن بك، ونمنعك حتى تبلغ رسالة ربك. قال: فنزل إليهم والقوم يتسوقون إذ أتاهم بُجْرة بن قيس القُشَيري فقال، من هذا الذي أراه عندكم؟ أُنْكرُه. قالوا: محمد بن عبد الله القرشي. قال: مالكم وله؟ قالوا: زعم لنا أنَّه رسول الله، يطلب إلينا أنْ نمنعه حتى يبلِّغَ رسالة ربه. قال: فماذا رددتم عليه؟ قالوا: قلنا في الرَّحب والسَّعة، نُخرجكم إلى بلادنا ونمنعك مما نمنع به أنفسنا. قال بُجْرة: ما أعلم أحداً من أهل هذه السوق يرجع بشيء أشرَّ من شيء ترجعون به. بدأتم لتنابذ الناس، وترميكم العرب عن قوس واحدة، قومه أعلم به، لو آنسوا منه خيراً لكانوا أسعد الناس به، تعمدون إلى رَهيق قوم قد طرده قومه وكذَّبوه فتؤوونه وتنصرونه، فبئس الرأي رأيتم ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ثُم فالحق بقومك، فوالله لولا أنَّك عند قومي لضربت عنقك. قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ناقته فركبها، فغمز الخبيثُ بُجْرة شكلتها فقمصت برسول الله صلى الله عليه وسلم فألقته. وعند بني عامر يومئذٍ ضُباعة بنت عامر بن قُرط - كانت من النسوة اللاتي أسلمن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة - جاءت زائرة إلى بني عمها، فقالت: يا آل عامر، - ولا
عامر لي
- أيُصنع هذا برسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم لا يمنعه أحدٌ منكم؟ فقام ثلاثة نفر من بني عمِّها إلى بُجرة واثنين أعاناه، فأخذ كل رجل منهم رجلاً فجلد به الأرض، ثم جلس على صدره ثم علَوا وجوههم لطماً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللَّهم بارك على هؤلاء، والعن هؤلاء» . قال: فأسلم الثلاثة الذين نصروه فقتلوا شهداء؛ وهلك الآخرون لعناً. واسم الإثنين اللَّذين نصرا بُجْرة ابن فِراس؛ حزن بن عبد الله، ومعاوية بن عبادة، وأما الثلاثة الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فغِطريف، وغَطَفان، إبنا سهل، وعُروة بن عبد الله. وأخرجه الحافظ سعيد بن يحيى بن(1/111)
سعيد الأموي في مغازيه عن أبيه به، كما في البداية.
وعند ابن إسحاق عن الزُّهْري أنَّه أتى بني عمر بن صَعْصَعة، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه. فقال له رجل منهم - يقال له بَحيرة ابن فراس -: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال له: أَرأيت إنْ نحن تابعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من يخالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: «الأمر لله يضعه حيث يشاء» . قال: فقال له: أفنهدُف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟ لا حاجة لنا بأمرك؛ فأبَوا عليه. فلما صَدَر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم قد كان أدركه السن حتى لا يقدر أن يوافي معهم المواسم، فكانوا إذا رجعوا إليه حدَّثوه بما يكون في ذلك الموسم. فلما قدمونا عليه ذلك العام سألهم عما كان في موسمهم فقالوا: جاءنا فتى من قريش ثم أحد بني عبد المطلب يزعم أنه نبي، يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا. قال: فوضع الشيخ يده على رأسه ثم قال: يا بني عامر، هل لها من تلاف؟ هل لذُناباها من مطلب؟ والذي نفسُ فلان بيده ما تقوَّلها إسماعيلي قط، وإنَّها لحق فأين رأيكم كان عنكم؟. كذا في البداية.
وذكره الحافظ أبو نعيم (ص 100) عن ابن إسحاق عن الزُّهْري من قوله: فلما صدر الناس رجعت بنو عمر إلى شيخ لهم. إلى آخره.
وأخرج ابن إسحاق أيضاً عن الزهري: أنَّه عليه السلام أتى كندة في(1/112)
منازلهم وفيهم سيد لهم يقال له مُلَيح، فدعاهم إلى الله عزّ وجلّ وعرض عليهم نفسه، فأبَوا.
عرضه عليه السلام الدعوة على بني كَلْب
وعن محمد بن عبد الرحمن بن حُصَين: أنَّه أتى كَلْباً في منازلهم إلى بطن منهم يقال لهم بنو عبد الله، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، حتى إنَّه ليقول: يا بني عبد الله، إنَّ الله قد أحسن إسم أبيكم فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم.
عرضه عليه السلام الدعوة على بني حنيفة
وعن عبد الله بن كعب بن مالك رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بني حنيفة في منازلهم، فدعاهم إلى لله، وعرض عليهم نفسه، فلم يك أحدٌ من العرب أقبحَ رداً عليه منهم. كذا في البداية.
عرضه عليه السلام الدعوة على بكر
وأخرج الحافظ أبو نُعَيم عن العباس رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا أرى لي عندك ولا عند أخيك مَنَعَة، فهل أنت مخرجي إلى السوق غداً حتى نقرَّ في منازل قبائل الناس» ، وكانت مجمع العرب. قال فقلت: هذه كِنْدة ولِفُّها وهي أفضل من يحج البيت من اليمن، وهذه منازل بكر بن وائل، وهذه منازل بني عامر بن صَعْصَعة، فاختر لنفسك؟ قال فبدأ بكِنْدة فأتاهم فقال: «مِمَّن القوم؟» قالوا: من أهل اليمن. قال: «من أيِّ اليمن؟» قالوا: من كِنْدة قال: «من أيِّ كِنْدة؟» قالوا: من بني عمرو بن معاوية، قال:(1/113)
«فهل لكم إلى خير؟» قالوا: وما هو؟ قال: «تشهدون أنْ لا إله إلا الله، وتقيمون الصلاة، وتؤمنون بما جاء من عند الله» . قال عبد الله بن الأجلح: وحدَّثني أبي عن أشياخ قومه أنَّ كندة قالت له: إِن ظفرتَ تجعلْ لنا الملك من بعدك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إِنَّ الملك لله يجعله حيث يشاء» . فقالوا: لا حاجة لنا فيما جئتنا به. وقال الكلبي: فقالوا: أجئتنا لتصدَّنا عن آلهتنا وننابذ العرب، إلحق بقومك فلا حاجة لنا بك.
فانصرف من عندهم فأتى بكر بن وائل فقال: «مِمَّن القوم؟» قالوا: من بكر بن وائل. فقال: «من أيِّ بكر بن وائل؟» قالوا: من بني قيس بن ثعلبة. قال: «كيف العدد؟» قالوا: كثير مثل الثرى. قال: «فكيف المنعة؟» قالوا: لا مَنَعة، جاورنا فارس فنحن لا نمتنع منهم ولا نُجير عليهم. قال: «فتجعلون لله عليكم إنْ هو أبقاكم حتى تنزلوا منازلهم، وتستنكحوا نساءهم، وتستعبدوا أبناءهَم أنْ تسبِّحوا الله ثلاثاً وثلاثين، وتحمدوه ثلاثاً وثلاثين، وتكبِّروه أربعاً وثلاثين» . قالوا: ومن أنت؟ قال: «أنا رسول الله» . ثم انطلق فلمّا ولَّى عنهم قال الكلبي: وكان عمَّه أبو لهب يتبعه فيقول للناس: لا تقبلوا قوله، ثم مرَّ أبو لهب فقالوا: هل تعرف هذا الرجل؟ قال: نعم هذا في الذروة منا، فعن أيِّ شأنه تسألون؟ فأخبروه بما دعاهم إليه وقالوا: زعم أنه «رسول الله» ، قال: ألا لا ترفعوا برأسه قولاً، فإنَّه مجنون يهذي من أُمِّ رأسه. قالوا: قد رأينا ذلك حين ذكر من أمر فارس ما ذكر. كذا في البداية.
عرضه عليه السلام الدعوة على قبائل بمنى
وأخرج ابن إسخاق عن ربيعة بن عبَّاد رضي الله عنه قال: إني لغلام شاب مع أبي بمنى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل من العرب فيقول: «يا بني فلان، إني رسول الله إليكم، آمركم أنْ تعبدوا الله ولا تشركوا(1/114)
به شيئاً، وأن تخلعوا ما تعبدن من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي، وتصدِّقوا بي، وتمنعوني حتى أُبَيِّن عن الله ما بعثني به» . قال: وخلفه رجل أحول وضيء، له غديرتان، عليه حُلَّة عدنيّة. فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله وما دعا إليه قال ذلك الرجل: يا بني فلان، إِنَّ هذا إنما يدعوكم إلى أنْ تسلخوا اللات والعُزَّى من أعناقكم، وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أُقيْش إلى ما جاء به من البدعة والضلالة فلا تطيعوه، ولا تسمعوا منه. قال: فقلت لأبي: يا أبت، من هذا الرجل الذي يتبعه ويردّ عليه ما يقول؟ قال: هذا عمه عبد العُزَّى بن عبد المطلب أبو لهب. كذا في البداية. وأخرجه أيضاً عبد الله بن أحمد والطبراني عن ربيعة بمعناه، قال الهيثمي. وفيه: حسين بن عبد الله بن عبيد الله وهو ضعيف ووثَّقه ابن مَعِين في رواية. انتهى. قلت: وفي رواية ابن إسحاق رجل لم يُسمَّ.
عرضه عليه السلام الدعوة على الجماعة بمنى
وأخرج الطبراني عن مُدْرك قال: حججت مع أبي، فلما نزلنا منى(1/115)
إذا نحن بجماعة فقلت لأبي: ما هذه الجماعة؟ قال: هذا الصابىء فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يا أيُّها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا» . قال الهيثمي: ورجاله ثقات.
وأخرج البخاري في التاريخ أبو زُرعة والبغوي وابن أبي عاصم والطبراني عن الحارث بن الحارث الغامدي رضي الله عنه قال: قلت لأبي ونحن بمنى: ما هذه الجماعة؟ قال: هؤلاء اجتمعوا على صابىء لهم. قال: فتشرَّفتُ، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى توحيد الله، وهم يردون عليه الحديث. كذا في الإِصابة.
وأخرج الواقدي عن حسانَ بن ثابت رضي الله عنه قال: حججت والنبي صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الإِسلام وأصحابه يعذّبون، فوقفت على عمرَ يعذب جارية بني عمرو بن المؤمَّل، ثم ثبت على زِنِّيرة فيفعل بها ذلك؛ كذا في الإِصابة.
عرضه عليه السلام الدعوة على بني شَيْبان
وأخرج أبو نعيم في الدلائل (ص 96) عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما أمر الله عزّ وجلّ نبيه صلى الله عليه وسلم أنْ يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا معه وأبو بكر إلى منًى حتى دَفَعْنا إلى مجلس من مجالس(1/116)
العرب، فتقدَّم أبو بكر فسلَّم - وكان أبو بكر مقدَّماً في كل حين وكان رجلاً نسّابه - فقال: ممَّن القوم؟ قالوا: من ربيعة. قال: وأيُّ ربيعة أنتم؟ ... فذكر الحديث بطوله؛ وفيه قال: ثم انتهينا إلى مجلس عليه السكينةُ والوقارُ، وإِذا مشايخُ لهم أقدار وهيئات، فتقدَّم: أبو بكر فسلم - قال علي: وكان مقدَّماً في كل حين فقال لهم أبو بكر: ممَّن القوم؟ قالوا: نحن بنو شَيْبان بن ثعلبة. فالتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بأبي أنت وأُمي ليس بعد هؤلاء من عزَ في قومه، وكان في القوم: مفروق بن عمرو، وهانىء بن قَبيصة، والمثنَّى بن حارثة، والنعمان بن شَريك. وكان أقرب القوم إلى أبي بكر مفروق بن عمرو، وكان مفروق قد غلب عليهم بياناً ولساناً، وكانت له غديرتان تسقطان على صدره. وكان أدنى القوم مجلساً من أبي بكر، فقال له أبو بكر: كيف العدد فيكم؟ فقال له: إنَّا لنزيد على الألف ولن يُغلب ألف من قلة. قال: فكيف المنعَة فيكم؟ قال: علينا الجُهد ولكل قوم جَدّ. قال أبو بكر: فكيف الحرب بينكم وبين عدوِّكم؟ قال مفروق: إنَّا أشدُّ ما نكون غضباً حين نَلْقَى، وإِنَّا أشدُّ ما نكون لقاءً إذا غضبنا، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللِقَاح، والنصرُ من عند الله، يُديلنا مرة ويُديل علينا مرة؛ لعلك
أخو قريش؟ قال أبو بكر: إنْ كان بلغكم أنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم فها هوذا. فقال مفروق: قد بلغنا أنَّهُ يذكر.
ثم التفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إلامَ تدعو يا أخا قريش؟ فتقدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس، وقام أبو بكر يظلِّله بثوبه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أدعوكم إلى شهادة أنْ لا إله إلا الله وحده، وأني رسول الله، وأنْ تؤوني. تمنعوني، وتنصروني حتى أؤدي عن الله تعالى ما أمرني به، فإنَّ قريشاً قد تظاهرت على أمر الله، وكذَّبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق والله هو الغني الحميد» . قال له: وإِلامَ تدعو أيضاً يا أخا قريش؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ(1/117)
مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً} - إلى قوله تعالى - {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام: 151 - 153) فقال له مفروق: وإلامَ تدعو أيضاً يا أخا قريش؟ فوالله ما هذا من كلام أهل الأرض ولو كن من كلامه م لعَرفناه، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ} - إلى قوله تعالى - {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل: 90) . فقال له مفروق: دعوتَ - والله - يا قرشي إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ولقد أفِك قوم كذَّبوك وظاهروا عليك.
وكأنه أحبَّ أنْ يَشركه في الكلام هانىء بن قبيصة فقال: وهذا هانىء بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا. فقال له هانىء: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وصدَّقت قولك، وإِني أرى أنَّ تركَنا ديننا واتِّباعنا إياك على دينك لمجلس جلستَه إلينا ليس له أول ولا آخر لم نتفكر في أمرك، وننظر في عاقبة ما تدعونا إليه - زلّةٌ في الرأي، وطَيْشة في العقل، وقلة نظر في العاقبة، وإِنَّما تكون الزلَّة مع العَجَلة، وإِنَّ مِنْ ورائنا قوماً نكره أنْ نعقد عليهم عقداً. ولكن ترجع ونرجع وتنظر وننظر.
وكأنَّه أحب أنْ يشركه في الكلام المثنى بن حارثة فقال: وهذا المثنى شيخنا وصاحب حربنا. فقال المثنى: قد سمعت مقالتك، واستحسنت قولك يا أخا قريش، وأعجبني ما تكلمت به، والجواب هو جواب هانىء بن قبيصة، إِنَّما نزلنا بين صِيرَين: أحدهما اليمامة، والأخرى السَّماوة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وما هذان الصِّيران؟ فقال له: أما أحدهما فطُفوف البر وأرض العرب، وأما الآخر فأرض فارس وأنهار كسرى، وإِنما نزلنا على عهدٍ أخذه علينا كسرى أنْ(1/118)
لا نُحدث حدثاً، ولا نؤويَ مُحدِثاً. ولعل هذا الأمر الذي تدعونا إليه ممَّا تكرهه الملوك، فأمَّا ما كان مما يلي بلاد العرب فذنب صاحبه مغفور وعذره مقبول، وأما ما كان مما يلي بلاد فارس فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول. فإن أردت أن ننصرك مما يلي العرب فعَلْنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما أسأتم الردَّ إذْ أفصحتم بالصدق، إِنه لا يقوم بدين الله إلا مَنْ حاطه من جميع جوانبه» . ثم نهضت قابضاً على يد أبي بكر، ثم دفعنا إِلى مجلس الأوس والخزرج، فما نهضنا حتى بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال علي رضي الله عنه: وكان صدُقاً صُبُراً - رضوان الله عليهم أجمعين -. كذا في دلائل النبوة لأبي نُعيم. وقال في البداية: رواه أبو نُعيم والحاكم والبيهقي، والسِّياق لأبي نُعيم - فذكر الحديث وفيه بعد قوله: «إنَّه لا يقوم بدين الله إلا مَنْ حاطه من جميع جوانبه» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أرأيتم؟ إِن لم تلبثوا إلا يسيراً حتى يمنحكم الله بلادهم وأموالهم، ويُفرشَكم بناتِهم، أتسبِّحون الله وتقدِّسونه؟» فقال له النعمان بن شريك: اللَّهمَّ وإِنَّ ذلك لك يا أخا قريش، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {ياأَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً} (الأحزاب: 45، 46) ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم قابضاً على يدي أبي بكر رضي الله عنه. قال علي رضي الله عنه: ثم التفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا عليٌّ أيّةُ أخلاقٍ للعرب كانت في الجاهلية - ما أشرفها؟ - بها يتحاجزون في الحياة الدنيا» . قال: ثم دفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج؛ فما نهضنا حتى بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم قال علي: وكانوا صُدَقاء صُبَراء، فسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من معرفة أبي بكر بأنسابهم. قال فلم يلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلا يسيراً حتى خرج إلى أصحابه فقال لهم: «احمدوا الله كثيراً» فقد ظفرت اليوم بناء ربيعة(1/119)
بأهل فارس، قتلوا ملوكهم، واستباحوا عسكره، وبي نُصروا» . قال ابن كثير في البداية: هذا حديث غريب جداً، كتبناه لما فيه من دلائل النبوة، ومحاسن
الأخلاق، ومكارم الشِّيَم، وفصاحة العرب.
وقد ورد هذا من طريق أخرى وفيه أنَّهم لما تحاربوا هُمْ وفارس والتقَوْا معهم بقُراقِر - مكان قريب من الفرات - جعلوا شعارهم إسم محمد صلى الله عليه وسلم فنُصروا على فارس بذلك، وقد دخلوا بعد ذلك في الإِسلام. انتهى. وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: أخرج الحاكم وأبو نُعيم والبيهقي في الدلائل بإسناد حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما: حدثني علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فذكر شيئاً من هذا الحديث.
عرضه عليه السلام الدعوة على الأوس والخزرج
وأخرج أبو نُعيم في الدلائل (ص 105) من طريق الواقدي عن إسحاق بن حباب عن يحيى بن يعلى قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوماً - وهو يذكر الأنصار وفضلهم وسابقتهم - ثم قال: إنّه ليس بمؤمن من لم يحبَّ الأنصار ويعرف لهم حقوقهم، هم - والله - ربَّوا الإِسلام كما يُربى الفَلُوُّ في غنائهم بأسيافهم وطول ألسنتهم وسخاء أنفسهم. لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في المواسم فيدعو القبائل، ما أحدٌ من الناس يستجيب له ويقبل منه دعاءه. فقد كان يأتي القبائل بمجنَّة وعُكاظ وبمنى حتى يستقبل القبائل يعود إليهم سنة بعد سنة، حتى إنَّ القبائل منهم من قال: ما آن لك أنْ تيأس منا؟ من طول ما يعرض نفسه عليهم، حتى أراد الله عزّ وجلّ ما أراد بهذا الحيِّ من الأنصار(1/120)
فأعرض عليهم الإِسلام، فاستجابوا وأسرعوا وآوَوا ونصروا وواسوا - فجزاهم الله خيراً - قدمنا عليهم، فنزلنا معهم في منازلهم، ولقد تشاحُّوا فينا، حتى إن كانوا ليقترعون علينا، ثم كنَّا في أموالهم أحقَّ بها منهم طيبة بذلك أنفسهم؛ ثم بذلوا مهج أنفسهم دون نبيهم صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين.
وأخرج أبو نُعيم أيضاً في الدلائل (ص 105) عن أمِّ سعد بنت سعد بن الربيع رضي الله عنهما قالت: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ما أقام يدعو القبائل إلى الله عزّ وجلّ يؤُذى ويُشتم، حتى أراد الله عزّ وجلّ بهذا الحيِّ من الأنصار ما أراد من الكرامة، فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نفر منهم عند العقبة وهم يحلِقون رؤوسهم. قلت: من هم يا أمَّه؟ قالت: ستة نفر أو سبعة، منهم من بني النجار ثلاثة: أسعد بن زُرارة وابنا عفراء، ولم تُسمِّ لي من بقي. قالت: فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فدعاهم إلى الله عزّ وجلّ، فقرأ عليهم القرآن، فاستجابوا لله ولرسوله، وفوافَوا قابل وهي العقبة الأولى؛ ثم كانت العقبة الآخرة. قلت لأمِّ سعد: وكم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة؟ قالت: أما سمعت قول أبي صِرْمَة قيسِ بن أبي أنس؟ قلت: لا أدري ما قال، فأنشدتني قوله:
ثَوَى في قريشٍ بِضْعَ عشْرَة حَجَّة
يُذكِّرُ لو لاقَى صديقاً مواتيا
وذكر الأبيات كما سيأتي في باب النُصرة من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
وأخرج أبو نُعيم أيضاً في الدلائل (ص 105) عن عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه، والزُّهري رضي الله عنه قال: لمَّا اشتد المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/121)
قال لعمِّه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه: «يا عم، إنَّ الله عزّ وجلّ ناصر دينه بقوم يهون عليهم رَغْمُ قريش عزاً في ذات الله تعالى فامضِ بي إلى عُكاظ، فأرني منازل أحياء العرب حتى أدعوهم إلى الله عزّ وجلّ، لأأن يمنعوني ويؤووني حتى أُبلِّغ عن الله عزّ وجلّ ما أرسلني به» ، قال: فقال العباس: يا ابن أخي، إمضِ إلى عُكاظ فأنا ماضٍ معك حتى أدلَّك على منازل الأحياء. فبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بثَقيف، ثم استقرى القبائل في سنّته. فلما كان العام المقبل - وذلك حين أمر الله تعالى أن يعلن الدعاء - لقي الستة نفرٍ الخزرجيين والأوسيين: أسعد بن زُرارة، وأبو الهيثم بن التَّيِّهان، وعبد الله بن رواحة، وسعد بن الربيع، والنعمان بن حارثة، وعُبادة بن الصامت. فلقيهم النبي صلى الله عليه وسلم في أيام مِنًى عنه جَمرة العقَبَة ليلاً، فجلس إليهم فدعاهم إلى الله عزّ وجلّ، وإلى عبادته، والموازرة على دينه الذي بعث به أنبياءه ورسله، فسألوه أنْ يَعرِض عليهم ما أُوحي إليه، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة إبراهيم: {وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ} (إبراهيم: 35) . - إلى آخر السورة، فرقَّ القوم وأخبتوا حين سمعوا وأجابوه.
فمرَّ العباس بن عبد المطلب وهو يكلِّمهم ويكلِّمونه، فعرف صوت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ابن أخي، من هؤلاء الذين عندك؟ قال: يا عمّ، سكان يثرب: الأوس والخزرج قد دعوتهم ما دعوت إليه مَنْ قبلَهم من الأحياء فأجابوني وصدقوني، وذكروا أنَّهم يخرجونني إلى بلادهم. فنزل العباس بن عبد المطلب وعقل راحلته ثم قال لهم: يا معشر الأوس والخزرج، هذا ابن أخي - وهو أحبُّ الناس إِليّ - فإن كنتم صدَّقتموه وآمنتم به وأردتم إِخراجه معكم فإني أريد أن آخذ عليكم موثقاً تطمئنُ به نفسي ولا تخذلوه ولا تغرُّوه فإنَّ جيرانكم اليهودُ، واليهودُ له عدوٌ، ولا آمن مكرهم عليه. فقال أسعد بن زرارة - وشقَّ عليه قول(1/122)
العباس حين اتَّهم عليه سعداً وأصحابه - قال: يا رسول الله إئذن لنا فلنجبْهُ غير مُخُشِنين بصدرك ولا متعرِّضين لشيء مما تكره إلا تصديقاً لإِجابتنا إيام، وإيماناً بك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أجيبوه غيرع مُتَّهمين» . فقال أسعد بن زُرارة - وأقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه - فقال: يا رسول الله، إنَّ لكل دعوة سبيلاً، إنْ لينٌ وإنْ شدةٌ، وقد دعوتَ اليوم إلى دعوة متجهِّمة للناس متوعِّرة عليهم، دعوتنا إلى ترك ديننا واتباعك على دينك وتلك رتبة صعبة فأجبناك إلى ذلك، ودعوتنا إلى قطع ما بيننا وبين الناس من الجوار والأرحام القريب والبعيد وتلك رتبة صعبة فأجبناك إلى ذلك، ودعوتنا ونحن جماعة في دار عز ومَنَعَة لا يطمع فيها أحد أن يرأس علينا رجل من غيرنا قد أفرده قومه وأسلمه أعمامه وتلك رتبة صعبة فأجبناك إلى ذلك، وكل هؤلاء الرتب مكروهة عند الناس إلا من عزم الله على رشده والتمس الخير في عواقبها وقد أجبناك إلى ذلك بألسنتنا وصدورنا، وأيدينا، إيماناً بما جئت به، وتصديقاً بمعرفة ثبتت في قلوبنا، نبايعك على ذلك ونبايع ربَّنا وربَّك، يد الله فوق أيدينا، ودماؤنا دون دمك، وأيدينا دون يدك،
نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأبناءنا ونساءنا، فإنْ نفي بذلك فلِلَّهِ نَفي، وإنْ نغدر فبالله نغدر ونحن به أشقياء، هذا الصدق منا يا رسول الله: والله المستعان.
ثم أقبل على العباس بن عبد المطلب بوجهه فقال: وأما أنت أيُّها المعترض لنا بالقول دون النبي صلى الله عليه وسلم ـ والله أعلم ما أردت بذلك؟ - ذكرت أنَّه ابنُ أخيك وأحبُّ الناس إليك، فنحن قد قطعنا القريب إِلينا والبعيد وذا الرحم، ونشهد أنه رسول الله، الله أرسله من عنده، ليس بكذاب، وأنَّ ما جاء به لا يشبه كلام البشر، وأما ما ذكرت أنَّك لا تطمئن إلينا في أمره حتى تأخذ مواثيقنا فهذه خصلة لا نردّها على أحد أرادها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فخذ ما شئت، ثم التفت إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، خذ لنفسك ما شئت، واشترط لربك ما شئت. فذكر الحديث بطوله في بَيْعهم.
وستأتي أحاديث البَيْعة في البيعة على النُّصْرة، وأحاديث الباب في باب النُّصْرة في ابتداء أمر الأنصار إن شاء الله تعالى.(1/123)
عرضه صلى الله عليه وسلم الدعوة في السوق عرضه عليه السلام الدعوة في سوق ذي المجاز
أخرج أحمد عن ربيعة بن عبَّاد من بني الدِّيل - وكان جاهلياً فأسلم - قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذي المَجاز وهو يقول: «يا أيَّها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا» ، والناس مجتمعون عليه، وراءه رجل وضيء الوجه، أحول، ذو غديرتين يقول: إِنَّه صابىء كاذب، يتَّبعه حيث ذهب، سألت عنه فقالوا: هذا عمُّه أبو لهب. وأخرجه البيهقي بنحوه كذا في البداية وقال الهيثمي: رواه أحمد وابنه والطبراني في الكبير بنحوه والأوسط باختصار بأسانيد، وأحد أسانيد عبد الله بن أحمد ثقات الرجال. انتهى. وعَزَاه الحافظ في الفتح إلى البيهقي وأحمد، وقال: صحَّحه ابن حبان. انتهى. قال الهيثمي: وفي رواية: ورسول الله صلى الله عليه وسلم يفرّ منه وهو يتبعه. وفي رواية: والناس منقصفون عليه، فما رأيت أحداً يقول شيئاً وهو لا يسكت. انتهى. وقد تقدم له طريق في عرضه صلى الله عليه وسلم الدعوة على القبائل.
وأخرج الطبراني عن طارق بن عبد الله قال: إنِّي بسوق ذي المجاز إذْ مرّ رجل شاب عليه حُلَّة من برد أحمر وهو يقول: «يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تُفِلحوا» ، ورجل خلفه قد أدمى عرقوبيه وساقيه يقول: يا أيُّها الناس، إنَّه كذاب فلا تطيعوه. فقلت: من هذا؟ قال: غلام بني هاشم الذي يزعم أنَّه «رسول الله» وهذا عمه عبد العُزَّى. فذكر الحديث. قال الهيثمي وفيه: أبو حباب الكلبي وهو مدلِّس، وقد وثَّقه ابن حِبَّان، وبقية رجاله رجال الصحيح. انتهى.
وأخرج أحمد عن رجل من بني مالك بن كِنانة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز يتخلَّلها يقول: «يا أيها الناس، قولوا: لا(1/124)
إله إلا الله تفلحوا» .
قال: وأبو جهل يَحثي عليه التراب ويقول: لا يُغوينَّكم هذا عن دينكم، فإنما يريد لتتركوا آلهتكم وتتركوا اللات والعُزَّى؛ وا يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: انْعَتْ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بين بُردين أحمرين، مربوعٌ، كثير اللحم، حسن الوجه، شديد سواد الشَّعر، أبيض شديد البياض، سابغ الشَّعَر. قال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. انتهى. وأخرجه البيهقي أيضاً بمعناه إلا أنه لم يذكر نعته صلى الله عليه وسلم كما في البداية، وقال: كذا قال في هذا السياق أبو جهل. وقد يكون وهماً، ويحتمل أن يكون تارة يكون ذا وتارة يكون ذا، وأنهما كانا يتناوبان على أذاته صلى الله عليه وسلم انتهى. وقد تقدَّم عرضه صلى الله عليه وسلم الدعوة في سوق عكاظ في عرضه الدعو على القبائل.(1/125)
عرضه صلى الله عليه وسلم الدعوة على عشيرته الأقربين ما قاله عليه السلام لفاطمة وصفيّة وغيرهما
وأخرج أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: لمّا نزلت: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاْقْرَبِينَ} (الشعراء: 214) قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا فاطمة ابنة محمد، يا صفية ابنة عبد المطلب يا بني عبد المطلب، لا أملك لكم من الله شيئاً، سلوني من مالي ما شئتم» . إنفرد بإخراجه مسلم.
جمعه عليه السلام عشيرته وأهل بيته على الطعام للدعوة إلى الله
وأخرج أحمد أيضاً عن علي رضي الله عنه قال: لمّا نزلت هذه الآية: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاْقْرَبِينَ} جمع النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته فاجتمع ثلاثون، فأكلوا وشربوا. قال: وقال لهم: «من يضمن عني دَيْني ومواعيدي، ويكون معي في الجنة، يكون خليفتي في أهلي؟» فقال رجل: يا رسول الله، أنت كنت بحراً من يقوم بهذا؟ قال: ثم قال الآخر - ثلاثاً - قال: فعرض ذلك على أهل بيته، فقال علي رضي الله عنه: أنا.
وأخرج أحمد أيضاً عن علي رضي الله عنه قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أو دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ بني عبد المطلب وهم رَهْط، وكلُّهم يأكل الجَذَعة ويشرب الفَرَق. فصنع لهم مدّاً من طعام فأكلوا حتى شبعوا وبقي الطعام كما(1/126)
هو كأنه لم يُمسّ. ثم دعا بغُمَر فشربوا حتى روُوا وبقي الشراب كأنه لم يُمسّ أو لم يُشرب، وقال: «يا بني عبد المطلب، إني بُعثت إليكم خاصة وإلى الناس عامّة فقد رأيتم من هذه الآية ما أيتم، فأيُّكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي؟» فلم يقم إليه أحد. قال: فقمت إليه - وكنت أصغر القوم - قال: فقال: إجلس، ثم قال - ثلاث مرات - كل ذلك أقوم إليه فيقول: إجلس، حتى كان في الثالثة ضرب بيده على يدي. كذا في التفسير لابن كثير.
وأخرج البزّار عن علي رضي الله عنه قال: لمّا نزلت: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاْقْرَبِينَ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا علي، إصنع رِجل شاة بصاع من طعم، واجمع لي بني هاشم» - وهم يومئذٍ أربعون رجلاً، أبو أربعون غير رجل - قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطعام، فوضعه بينه. فأكلوا حتى شبعوا، وإِنَّ منهم من يأكل الجذعة بإدامها؛ ثم تناول القدح فشربوا منه حتى رُووا - يعني من اللَّبن -، فقال بعضهم: ما رأينا كالسِّحر - يروون أنه أبو لهب الذي قاله - فقال: «يا علي، إصنع رجل شاة بصاع من طعام، وأعدد قَعْباً من لبن. قال: ففعلت. فأكلوا كما أكلوا في اليوم الأول، وشربوا كما شربوا في المرة الأولى، وفضل كما فضل في المرة الأولى. فقال: ما رأينا كاليوم في السحر. فقال: «يا علي، إصنع رجل شاة بصاع من طعام، وأعدد قعباً من لبن» ففعلت. فقال: «يا علي إجمع لي بني هاشم» ، فجمعتهم فأكلوا وشربوا، فبدرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أيكم يقضي عني دَيْني؟» قال: فسكتُّ وسكت القوم. فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنطق، فقلت: أنا يا رسول الله، فقال: «أنت يا علي، أنت يا علي» قال الهيثمي: رواه البزَّار واللفظ له؛ وأحمد باختصار، والطبراني في الأوسط باختصار أيضاً،(1/127)
ورجال أحمد وأحد إسنادي البزّار رجال الصحيح غير شَرِيكٍ، وهو ثقة. انتهى.
وأخرجه أيضاً ابن أبي حاتم بمعناه وفي حديثه: فقال: «أيُّكم يقضي عني دَيْني، ويكون خليفتي في أهلي؟» قال: فسكتوا وسكت العباس خشية أن يحيط ذلك بماله. قال: وسكتُّ أنا لسنِّ العباس، ثم قاله مرة أُخرى فسكت العباس، فلمَّا رأيت ذلك قلت: أنا يا رسول الله، قال: وإِنِّي يومئذٍ لأسوأهم هيئة، وإِني لأعمش العينين، ضخم البطن، خَمْش الساقين. كذا في التفسير لابن كثير. وأخرجه البيهقي في الدلائل وابن جرير بأبسط من هذا السياق بزيادات أُخر بإسناد ضعيف، كما في التفسير لابن كثير؛ والبداية. وقد تقدّم الحديث بسياق آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما في عرض الدعوة على المجامع (ص 90) .
عرضه صلى الله عليه وسلم الدعوة في السفر دعوته عليه السلام في سفر الهجرة
أخرج أحمد عن ابن سعد رضي الله عنهما - وسعد الذي دل رسول الله صلى الله عليه وسلم على طريق رَكوبَة - قال ابن سعد: حدَّثني أبي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/128)
أتاهم ومعه أبو بكر رضي الله عنه - وكانت لأبي بكر عندنا بنت مسترضعة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الإختصار في الطريق إِلى المدينة - فقال له سعد: هذا الغائر من رَكوبة وبه لِصَّان من أسلَم يقال لهما: المُهانان، فإن شئت أخذنا عليهما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خُذْ بنا عليهما» . قال سعد: فخرجنا حتى أشرفنا إِذا أحدهما يقول لصاحبه: هذا اليماني: فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليهما الإِسلام، فأسلما. ثم سألهما عن أسمائهما فقالا: نحن المهانان. فقال: «بل أنتما المكرمان» . وأمرهما أن يَقدَما عليه المدينة. فذكر الحديث. قال الهيثمي:: رواه عبد الله بن أحمد. وابن سعد اسمه: عبد الله، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.
دعوته عليه السلام للأعرابي في سفر
وأخرج الحاكم أبو عبد الله النَّيْسابوري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأقبل أعرابي، فلما دنا منه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «أين تريد؟» قال: إلى أهلي، قال: «هل لك إلى خير؟» قال: ما هو؟ قال: «تشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله» . قال: هل من شاهد على ما تقول قال: «هذه الشجرة» . فدعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي على شاطىء الوادي، فأقبلت تَخُذُّ الأرض خذَّاً فقامت بين يديه، فاستشهدها ثلاثاً فشهدت أنه كما قال. ثم إنها رجعت إلى منبتها، ورجع الأعرابي إلى قومه فقال: إِن يتَّبعوني أتيتك بهم وإِلا رجعت إليك وكنت معك. وهذا إسناد جيِّد ولم يُخرِّجوه ولا رواه الإِمام أحمد. كذا في البداية. وقال(1/129)
الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، ورواه أبو يَعْلى أيضاً والبزار. انتهى.
دعوته عليه السلام لبُرَيدة بن الحُصَيب ومن معه في سفر الهجرة
وأخرج ابن سعد عن عاصم الأسلمي قال: لمّا هجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة فانتهى إلى الغَمِيم أتاه بُرَيْدة ابن الحُصيْب، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإِسلام فأسلم هو ومن معه - وكانوا زُهاء ثمانين بيتاً -، فصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء فصلَّوا خلفه.
مشيه صلى الله عليه وسلم على القدمين للدعوة خروجه عليه السلام ماشياً إلى الطائف
أخرج الطبراني عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: لمَّا توفي أبو طالب خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ماشياً على قدميه يدعوهم إلى الإِسلام، فلم يجيبوه، فانصرف، فأتى ظلَّ شجرة فصلَّى ركعتين ثم قال: «اللَّهم إنِّي أشكو إِليك ضعف قوتي، وهواني على الناس، أرحم الراحمين، أنت أرحم الراحمين، إلى مَنْ تكلني؟ إلى عدو يتجهمني أم إِلى قريب ملَّكتَه أمري؟ إِن لم تكن غضبان عليّ فلا أُبالي، غير أن عافيتك أوسع لي. أعوذ بوجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصَلُح عليه أمر الدنيا والآخرة - أن ينزل بي(1/130)
غضبُك، أو يحل بي سخطُك، لك العُتَبى حتى ترضى لا قوة إِلا بالله» . قال الهيثمي وفيه: ابن إِسحاق وهو مدلِّس ثقة، وبقية رجاله ثقات. انتهى. وسيأتي الحديث من طريق الزُّهري وغيره مطوّلاً في تحمُّل الشدائد والأذايا في الدعوة إلى الله.
الدعوة إلى الله تعالى في القتال ما قاتل عليه السلام قوماً حتى دعاهم
أخرج عبد الرزاق عن ابن عباس رضي الله عنهما: ما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً حتى دعاهم. وكذلك رواه الحاكم في المستدرك وقال: حديث صحيح الإِسناد ولم يخرِّجاه؛ ورواه أحمد في مسنده، والطبراني في معجمه. كذا في نصب الراية. وقال الهيثمي: رواه أحمد وأبو يَعْلى والطبراني بأسانيد، ورجال أحدها رجال الصحيح. إنتهى. وأخرجه أيضاً ابن النجار كما في كنز العمال؛ والبيهقي في سننه.(1/131)
أمره عليه السلام البعوث بتأليف الناس ودعوتهم
وأخرج بن مَنْده وابن عساكر عن عبد الرحمن بن عائذ رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث بَعْثاً قال: «تألَّفوا الناس ولا تُغيروا عليهم حتى تدعوهم فما على الأرض من أهل بيتِ مر ولا وَبَر إلا تأتوني بهم مسلمين أحبّ إليّ من أن تأتوني بنسائهم وأولادهم وتقتلوا رجالهم» . كذا في الكنز. وأخرجه أيضاً ابن شاهين والبغوي كما في الإِصابة، والترمذي.
أمره عليه السلام أمير السرية بالدعوة
وأخرج أبو داود (ص 358) واللفظ له: ومسلم وابن ماجه (ص 210) والبيهقي عن بُرَيدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميراً على سَرِيّة أو جيش أوصاه بتقوى الله في خاصّة نفسه وبمن معه من المسلمين خيراً، وقال: «إذ لقيت عدوِّك من المشركين فادعهم إلى أحد ثلاث خصال - أو خلال - فأيتها أجابوك إليها فأقبل منهم وكف عنهم: ادعهم إلى الإِسلام، فإن أجابوا فأقبل منهم وكف عنهم. ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأعلمهم أنهم إن فعلوا ذلك أنَّ لهم ما(1/132)
للمهاجرين، فإن أبَوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنَّهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي كان يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين. فإن هم أبَوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوا فأقبل منهم وكف عنهم، فإن أبَا فاستعن بالله وقاتلهم. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تُنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم، فإنَّكم لا تدرون ما يحكم الله فيهم، ولكن أنزلوهم على حكمكم ثم اقضوا فيهم بعدُ ما شئتم» . قال الترمذي: حديث بريدة حديث حسن صحيح. وأخرجه أيضا أحمد، والشافعي، والدارمي، والطحاوي، وابن حِبّان، وابن الجارود، وابن أبي شيبة وغيرهم كما في كنز العمال.
أمره عليه السلام علياً بأن لا يقاتل قوماً حتى يدعوهم إلى الإِسلام
وأخرج الطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى قوم يقاتلهم، ثم بعد إليه رجلاً فقال: «لا تدعه من خلفه وقل له: لا تقاتلهم حتى تدعوهم» . قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير عثمان ابن يحيى القرقساني وهو(1/133)
ثقة اهـ.
وأخرج ابن راهَوِيه عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه وجهاً ثم قال لرجل: «الحق ولا تَدْعُه من خلفه، فقل: إن النبي صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تنتظره، وقل له: لا تقاتل قوماً حتى تدعوهم» . كذا في كنز العمال. وعند عبد الرزاق عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له حين بعثه: «لا تقاتل قوماً حتى تدعوهم» ؛ كذا في نصب الراية. وقد تقدَّم (ص 62) في حديث سهل بن سعد رضي الله عنه عند البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه يوم خيبر: «أنفُذ على رِسْلِك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإِسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حقِّ الله تعالى فيه، فوالله، لأن يهديَ الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لم حُمْر النَّعَم» .
أمره عليه السلام فروة القطيعي بالدعوة في القتال
وأخرج بن سعد، وأحمد، وأبو داود، والترمذي وحسَّنه، والطبراني، والحاكم عن فروة بن مُسَيك القطيعي رضي الله عنه قال: أتيت رسول(1/134)
الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، ألا أقاتل من أدبر من قومي بمن أقبل منهم؟ فقال: «بلى» ؛ ثم بدا لي فقلت: يا رسول الله، لا، بل هم أهل سبأ، هم أعزُّ وأشدُّ قوة. فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذن لي في قتال سبأ. فلما خرجت من عنده أنزل الله في سبأ ما أنزل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما فعل القطيعي؟» فأرسل إلى منزلي فوجدني قد سرت فردَّني. فلما أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدته قاعداً وحوله أصحابه فقال: «أدعُ القوم، فمن أجاب منهم فأقبل ومن أبى فلا تعجل عليه حتى يُحدَث إليّ» . فقال رجل من القوم يا رسول الله، ما سبأ أرض أو إمرأة؟ قال: «ليست بأرض ولا إمرأة، ولكن رجل ولد عشرة من العرب. فأما ستة فتيامنوا وأما أربعة فتشاءموا. فأما الذين تشاءموا: فلَخْم، وجُذام، وغسّان، وعمِلة، وأما الذين تيامنوا: فالأزْد، كِنْدة، وحِمْيَر، والأشعريون، والأنْمار، ومَذْحج» . فقال: يا رسول الله، وما أنمار؟ قال: «هم الذين منهم: خَثْعَم، وبَجِيلة» . كذا في كنز العمال.
وعند أحمد أيضاً وعبد بن حُمَيد عن فروة رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، أقاتل بمُقبل قومي مُدبرهم؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نعم، فقاتلْ بمقبل قومك مدبرهم، فلما ولَّيت دعاني فقال: لا تقاتلهم حتى تدعوهم إلى الإِسلام» . فقلت: يا رسول الله، أرأيت بسبأ؟ أوادٍ هو أم جبل أو ما هو؟ قال: «لا، بل هو رجل من العرب وُلد له عشرة» - فذكر الحديث. وهذا إِسناد حسن وإن كان فيه أبو حباب الكلبي وقد تكلَّموا فيه،(1/135)
لكن رواه ابن جرير عن أبي كريب عن العبقري عن أسباط - ابن نصر عن يحيى بن هانيء المرادي عن عمه أو عن أبيه - شك أسبط - قال: قدم فروة بن مُسَيك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره؛ كذا في التفسير لابن كثير.
أمره عليه السلام خالد بن سعيد بالدعوة حين بعثه إلى اليمن
وأخرج الطبراني عن خالد بن سعيد رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فقال: «من لقيت من العرب فسمعت فيهم الأذن فلا تعرِض لهم، ومن لم تسمع فيهم الأذان فادعهُم إلى الإِسلام» . قال الهيثمي وفيه: يحيى بن عبد الحميد الحِمَّاني وهو ضعيف.
ردَّه عليه السلام الذين سبُوا في القتال بغير الدعوة إلى مأمنهم
وأخرج البيهقي عن أُبي بن كعب رضي الله عنه قال: أَتِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسارى من اللات والعزَّى، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هل دعوتموهم إلى الإِسلام؟» فقالوا: لا. فقال لهم: هل دعوكم إلى الإِسلام؟» فقالوا: لا. قال: «خلُّوا سبيلهم حتى يبلغوا مأمنهم» ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هاتين الآيتين:(1/136)
{وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مّنَ اللَّهِ فَضْلاً كِبِيراً} (الأحزاب: 46/ 47) . {قُلْ أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَاذَا الْقُرْءانُ لاِنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ ءالِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ اله واحِدٌ وَإِنَّنِى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ} (الأنعام: 19) إلى آخر الآية. قال البيهقي: رَوْح بن مسافر ضعيف. وعند الحارث من طريق الواقدي كما في الكنز، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى اللات والعزَّى بَعْثاً، فأغاروا على حيَ من العرب فسبَوا مقاتلتهم وذريتهم، فقالوا يا رسول الله أغاروا علينا بغير دُعَاء، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم أهل السَّرِيَة فصدَّقوهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم «ردّوهم إلى مأمنهم ثم ادعوهم» .
إرساله صلى الله عليه وسلم الأفراد للدعوة إلى الله وإلى رسوله بعثه عليه السلام مصعباً إلى المدينة
أخرج أبو نعيم في الحلية عن عُروة بن الزبير رضي الله عنهما: أنَّ الأنصار لما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله، وأيقنوا واطمأنَّت أنفسهم إلى دعوته، فصدَّقوه وآمنوا به - كانوا من أسباب الخير، وواعدوه الموسم من العام القابل فرجعوا إلى قومهم - بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبعث إلينا رجلاً من قِبَلِك فيدعو الناس إلى كتاب الله فإنه أدنى أن يُتبع. فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مُصْعَب بن عُمير رضي الله عنه أخا بني عبد الدار، فنزل في بني غَنْم على أسعد بن زُرارة يحدِّثهم ويقصُّ عليهم القرآن. فلم يزل مصعب عند سعد بن معاذ يدعو ويهدي الله على يديه حتى قلّ دار مندور الأنصار إلا أسلم فيه ناس ولا محالة، وأسلم أشرافهم، وأسلم عمرو بن الجَموح، وكُسرت أصنامهم، ورجع مصعب بن عمير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يُدعى المُقرىء.(1/137)
وأخرجه الطبراني عن عروة رضي الله عنه طوَّلاً، فذكر عرضه صلى الله عليه وسلم الدعوة على الأنصار كما سيأتي في ابتداء أمر الأنصار - رضي الله عنهم - وفيه: فرجعوا إلى قومهم فدعَوْهم سرّاً، وأخبروهم برسول الله صلى الله عليه وسلم والذي بعثه الله به (ودعا عليه بالقرآن) حتى قلّ دار من دور الأنصار إِلا أسلم فيها ناس لا محالة. ثم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبعث إِلينا رجلاً من قِبَلك، فيدعو الناس بكتاب الله، فإنَّه أدنى أن يُتبع. فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مُصْعب بن عمر أخا بني عبد الدار. فنزل في بني غَنْم على أسعد بن زرارة، فجعل يدعو الناس، ويفشو الإِسلام، ويكثر أهله، وهم في ذلك مستخْفون، بدعائهم. ثم ذكر دعوة مصعب لسعد بن معاذ وإسلامه وإسلام بني عبد الأشهل كما سيأتي في دعوة مصعب. ثم قال: ثم إِنَّ بني النجار أخرجوا مصعب بن عمير واشتدوا على أسعد بن زرارة، فانتقل مصعب بن عمير إلى سعد بن معاذ، فلم يزل يدعو ويهدي (الله) على يديه حتى قلّ دار من دور الأنصار إلا أسلم فيها ناس لا محالة، وأسلم أشرافهم، وأسلم عمرو بن الجموح، وكُسرت أصنامهم. فكان المسلمون أعزَّ أهلها، وصلح أمرهم. ورجع مصعب بن عمير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يُدعى المُقرىء. قال الهيثمي وفيه: ابن لَهيعة وفيه ضعف، وهو حسن الحديث، وبقية رجاله ثقات. انتهى.
وهكذا أخرجه أبو نُعيم في الدلائل (ص 108) بطوله، وقد أخرجه أبو نُعيم في(1/138)
الحلية عن الزُّهري بمعنى حديث عروة عنده مختصراً، وفي حديثه: أنهم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مُعاذ بن عَفْراء ورافع بن مالك أنِ أبعث إلينا رجلاً من قِبَلكَ فليدُع الناس بكتاب الله، فإنه قَمِنَّ - أي حقيق - أن يُتبع. فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير رضي الله عنه - فذكر مثله.
بعثه عليه السلام أبا أمامة إلى قومه باهلة
أَخرج الطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومي أدعوهم إلى الله عزّ وجلّ، وأعرض عليهم شرائع الإِسلام، فأتيتهم وقد سقَوا إبلهم وحلبوها وشربوا، فلما رأوني قالوا: مرحباً بالصُّدَيّ ابن عَجْلان. قالوا: بلغنا أنك صبوت إلى هذا الرجل. قلت: لا، ولكن آمنت بالله ورسوله، وبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم أعرض عليكم الإِسلام وشرائعه. فبينا نحن كذلك إذ جاؤوا بقصعتهم فوضعوها واجتمعوا حولها فأكلوا بها. قالوا: هَلُم يا صُديّ، قلت ويحكم إنما أتيتكم من عند من يُحرِّم هذا عليكم إلا ما ذكَّيتُم كما أنزل الله. قالوا: وما قال؟ قلت: نزلت هذه الآية: «حُرِّمت عليكم الميتةُ والدَّمُ ولحمُ الخنزير - إلى قوله - وأن تستقسموا بالأزلام» ، فجعلت أدعوهم إلى الإِسلام ويأبَون. قلت لهم: ويحكم، إيتوني بشَرْبة من ماء فإنِّي شديد العطش، قال: وعليَّ عِمامةٌ. قالوا: لا. ولكن ندعك تموت عطشاً. قال: فاعتممت وضربت برأسي في العمامة ونمت في الرمضاء في حرَ شديد، فأتاني آتٍ في منامي بقدح زجاج لم يَرَ الناس أحسن منه، وفيه شراب لم يَرَ الناس آلف منه، فأمكنني منها فشربتها، فحيث فرغت من شرابي إستيقظت، ولا والله ما عطشت لا عرفت عطشاً بعد تيك الشربة. قال(1/139)
الهيثمي وفيه: بشير بن شريح وهو ضعيف - اهـ. وأخرجه ابن عساكر أيضاً بطوله مثله كما في كنز العمال. وأخرجه أبو يعلى مختصراً وزاد في آخره: ثم قال لهم رجل منهم: أتاكم رجل من سَرَاة قومكم فلم تتحفوه؟ فأتَوني بلبن. فقلت: لا حاجة لي به، وأريتهم بطني فأسلموا عن آخرهم. ورواه البيهقي في الدلائل وزاد فيه: أنه أرسله إلى قومه باهلة، كذا في الإِصابة. وأخرجه الطبراني بإسنادين؛ وإسناد الأولى حسن، فيها: أبو غالب وقد وُثِّق - انتهى. وأخرجه الحاكم في المستدرك. وقال الذهبي: وصدقة ضعِّفه ابن
مَعِين.
بعثه عليه السلام رجلاً إلى بني سعد
وأخرج ابن أبي عاصم عن الأحنف بن قيس رضي الله عنه قال: بينما أنا أطوف بالبيت في زمن عثمان رضي الله عنه إِذ أخذ رجل من بني ليث بيدي، فقال: أَلا أُبشِّرك؟ قلت: بلى.
قال: أتذكر إذ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومك(1/140)
فجعلت أعرض عليهم الإِسلام وأدعوهم إليه فقلتَ أنت: إنك لتدعونا إلى خير وتأمر به، وإنه ليدعو إِلى الخير؟ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «اللهم إغفر للأحنف» . فكان الأحنف يقول: فما شيء من عملي أرْجَى عندي من ذلك - يعني دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم ـ تفرَّد به علي بن زيد وفيه ضعف، كذا في الإِصابة. وأخرجه الحاكم في المستدرك بنحوه.
وأخرجه أيضاً أحمد والطبراني وفي حديثهما: إذ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومك من بني سعد أدعوهم إلى الإِسلام فقلتَ: والله، ما قال إلا خيراً. - أو لا أسمع إلا حسناً - فإني رجعت وأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم مقالتك، فقال: «اللَّهم أغفر للأحنف. قال: فما أنا لشيء أرْجَى مني لها. قال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح غير علي بن زيد وهو حسن الحديث.
بعثه عليه السلام رجلاً إلى رجل من عظاء الجاهلية
وأخرج أبو يَعْلَى عن أنس رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من أصحابه إلى رجل من عظماء الجاهلية يدعوه إلى الله تبارك وتعالى، فقال: إيش ربُّك الذي تدعوني؟ من حديد هو؟ من نحاس هو؟ من فضّة هو؟ من ذهب هو؟ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأرسله إليه الثالثة، فقال مثل ذلك.(1/141)
فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إن الله تبارك وتعالى قد أنزل على صاحبك صاعقة فأحرقته} فنزلت هذه الآية: {وَيُسَبّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلْائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآء وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِى اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} (الرعد: 13) . قال الهيثمي: رواه أبو يعلى والبزَّار بنحوه إلا أنه قال: إلى رجل من فراعنه العرب، وقال الصحابي فيه: يا رسول الله، إِنَّه أعتَى من ذلك. وقال: فرجع إليه الثالث. قال: فأعاد عليه ذلك الكلام. فبينا هو يكلمه إذ بعث الله سحابةً حِيَالَ رأسه، فرعدت، فوقعت منها صاعقة فذهبت بقِحف رأسه. وبنحو هذا رواه الطبراني في الأوسط، وقال: فرعدت وأبرقت. ورجال البزَّار رجال الصحيح، غير ديلم بن غزوان وهو ثقة. وفي رجال أبي يَعْلَى والطبراني: علي بن أبي شارة، وهو ضعيف - انتهى. وقد تقدّم حديث خالد بن سعيد رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فقال: من لقيت من العرب فسمعت فيهم الأذان فلا تعرِض لهم، ومن لم تسمع فيهم الأذان فادعهُم إلى الإِسلام -. في الدعوة إلى الله تعالى في القتال (ص 115) ، وسيأتي بَعْثُه صلى الله عليه وسلم عمرو بن مرّة الجُهَني إلى قومه.(1/142)
إرساله صلى الله عليه وسلم السرايا للدعوة إلى الله تعالى بعثه عليه السلام عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل للدعوة
أخرج الدارقطني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فقال: «تجهَّز فإنِّي باعثك في سريّة» - فذكر الحديث، وفيه: فخرج عبد الرحمن حتى لحق بأصحابه فسار حتى قدم دومة الجندل. فلما دخلها دعاهم إلى الإِسلام ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الثالث أسلم الأصْبَغ بن عمرو الكلبي رضي الله عنه وكان نصرانياً وكان رأسَهم. فكتب عبد الرحمن - مع رجل من جهينة، يقال له: رافع بن مَكِيث - إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره، فكتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن تزوَّج ابنة الأصبغ، فتزوَّجها؛ وهي تُماضِر التي ولدت له بعد ذلك أبا سَلمَة بن عبد الرحمن. كذا في الإِصابة.
بعثه عليه السلام عمرو بن العاص إلى بَلِيّ يستنفرهم إلى الإِسلام
وأخرج ابن إسحاق عن محمد بن عبد الرحمن التميمي رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص يستنفر العرب إلى الإِسلام، وذلك أن أُم العاص بن وائل كانت من بني بَلِيَّ، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم يتألّفهم بذلك، حتى إِذا كان على ماء بأرض جُذام يقال له السلاسل - وبه سُمِّيت تلك الغزوة ذات السلاسل - قال: فلمَّا كان عليه وخاف؛ بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده، فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح في المهاجرين الأولين فيهم أبو بكر، وعمر رضي الله عنهما - فذكر الحديث كما سيأتي في باب الإِمارة. كذا في البداية.(1/143)
بعثه عليه السلام خالد بن الوليد إلى اليمن
وأخرج البيهقي عن البَرَاء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإِسلام. قال البراء: فكنت فيمن خرج مع خالدِ بن الوليد، فأقمنا ستة أشهر يدعوهم إلى الإِسلام فلم يجيبوه، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث علي بن أبي طالب وأمره أن يقفل خالداً إِلا رجلاً كان ممَّن مع خالد فأحب أن يَعِقِب مع علي فليَعقبْ معه. قال البراء: فكنت فيمن عَقَب مع علي. فلما دَنوْنا من القوم خرجوا إِلينا، ثم تقدَّم فصلَّى بنا علي، ثم صفَّنا صفاً واحداً ثم تقدم بين أيدينا وقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت همْدان جميعاً، فكتب علي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامهم. فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب خرّ ساجداً ثم رفع رأسه فقال: «السلام على هَمْدان. السلام على هَمْدان» . ورواه البخاري مختصراً. كذا في البداية.
بعثه عليه السلام خالد بن الوليد إلى نجران
وذكر ابن إسحاق: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى بني الحارث بن كعب بنجران، وأمره أن يدعوَهم إلى الإِسلام قبل أن يقاتلهم ثلاثاً، فإن استجابوا فأقبل منهم وإن لم يفعلوا فقاتلهم. فخرج خالدٌ حتى قدم عليهم، فبعث الركبان يضربون في كل وجه ويدعون إلى الإِسلام ويقولون: «أيها الناس، أسلموا تسلموا» فأسلم الناس؛ ودخلوا فيما دُعُوا إِليه. فأقام فيهم خالد يعلمهم الإِسلام كتابَ الله وسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هم أسلموا ولم يقاتلوا. ثم كتب خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/144)
كتاب خالد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم «بسم الله الرحمن الرحيم. لمحمد النبي رسول الله من خالد بن الوليد: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، فإني أحمد إِليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد: يا رسول الله - صلى الله عليك - فإنك بعثتني إِلى بني الحارث بن كعب وأمرتني إذا أتيتهم أن لا أُقاتلهم ثلاثة أيام وأن أدعهم إِلى الإِسلام، فإن أسلموا قبلتُ منهم، وعلمتهم معالم الإِسلام وكتاب الله وسنّة نبيه، وإن لم يسلموا قاتلتهم. وإِني قدمتُ عليهم فدعوتهم إلى الإِسلام ثلاثة أيام كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثت فيهم ركباناً: يا بني الحارث، أسلموا تسلموا. فأسلموا ولم يقاتلوا، وأنا مقيم بين أظهرهم آمرهم بما أمرهم الله به، وأنهاهم عما نهاهم الله عنه، وأعلمهم معالم الإِسلام وسنّة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يكتب إِليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلام عليك - يا رسول الله - ورحمة الله وبركاته» .
كتاب الرسول عليه السلام إلى خالد
فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم
«بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد النبي رسول الله إِلى خالد بن الوليد: سلام عليك، فإني أحمد إِليك الله لله الذي لا إله إِلا هو. أما بعد: فإن كتابك جاءني مع رسولك يخبر أنَّ بني الحارث بن كعب قد أسلموا قبل أن تقاتلهم، وأجابوا إلى ما دعوتهم إِليه من الإِسلام، وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن قد هداهم الله بهداه، فبشرِّهم وأنذرهم وأَقْبِلْ، وليُقْبِلْ معك وفدهم. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته» .
رجوع خالد إلى النبي عليه السلام مع وفد بني الحارث
فأقبل خالد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل معه وفد بني الحارث بن كعب، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورآهم قال: «من هؤلاء القوم الذين كأنهم رجال الهند؟» قيل: يا رسول الله، هؤلاء بنو الحارث بن كعب. فلما وقفوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلَّموا عليه. وقالوا: نشهد أنَّك رسول الله وأنه لا إله إلا الله. فقال(1/145)
رسول الله صلى الله عليه وسلم «وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنِّي رسول الله» . ثم قال: «أنتم الذين إذا زُجروا استقدَموا» . فسكتوا فلم يراجعه منهم أحد، ثم أعادها الثانية ثم الثالثة، فلم يراجعه منهم أحد، ثم أعادها الرابعة. قال يزيد بن عبد المَدَان: نعم يا رسول الله، نحن الذين إِذا زُجِروا استَقْدَموا - قالها أربع مرات - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو أنَّ خالداً لم يكتب إليّ أنكم أسلمتم ولم تقاتلوا لألقيت رؤوسكم تحت أقدامكم» . فقال يزيد بن عبد المَدَان: أما - والله - ما حمِدناك ولا حمِدنا خالداً. قال: «فمن حمِدتم؟» قالوا: حمدنا الله الذي هدانا بك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «صدقتم» . ثم قال: «بِمَ كنتم تغلبون من قاتلكم في الجاهلية؟» قالوا: لم نك نغلب أحداً. قال: «بلى قد كنتم تغلبون من قاتلكم» . قالوا: كنا نغلب من قاتلنا - يا رسول الله - أنَّا كنَّا نجتمع ولا نتفرَّق، ولا نبدأ أحداً بظلم، قال: «صدقتم» . ثم أمرَّ عليهم قيس بن الحصين. كذا في البداية. وقد أسندها الواقدي من طريق عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث كما في الإِصابة.
الدعوة إلى الفرائض دعوته عليه السلام جريراً إلى الشهادتين والإِيمان والفرائض
أخرج البيهقي عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: بعث إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا جرير، لأيِّ شيء جئت؟» قلت: أسلم على يديك يا رسول الله. قال: فألقى عليَّ كساءً ثم أقبل على أصحابه فقال: إِذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» . ثم قال: «يا جرير، أدعوك إلى شهادة أن لا إله إِلا الله وأنِّي رسول الله، وأن تؤمن بالله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وتصلِّي الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة» ، ففعلت ذلك. فكان بعد ذلك لا يراني إلا(1/146)
تبسَّم في وجهي. كذا في البداية. وأخرجه أيضاً الطبراني وأبو نُعيم عن جرير بنحوه كما في كنز العمال.
تعليمه عليه السلام معاذاً كيف يدعو إلى فرائض الإِسلام في اليمن
وأخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه - حين بعثه إلى اليمن - «إنَّك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أنَّ الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتَّق دعوة المظلوم فإِنه ليس بينها وبين الله حجاب» . وقد أخرجه بقية الجماعة. كذا في البداية.
دعوته عليه السلام حَوْشَب ذي ظُلَيم إلى فرائض الإِسلام
وأخرج أبو نعيم عن حَوْشب ذي ظُلَيْم قال: لما أن أظهر الله محمداً صلى الله عليه وسلم انتدَبتُ إليه من الناس في أربعين فارساً مع عبد شر. فقدموا عليه المدينة بكتابي فقال (عبد شر) : أيُّكم محمد؟ قالوا: هذا. قال: ما الذي جئتنا به؟ فإن يك حقاً اتَّبعناك. قال: «تقيموا الصلاة، وتعطوا الزكاة، وتحقنوا الدماء، وتأمروا بالمعروف، وتنهوا عن المنكر. فقال عبد شر: إنَّ هذا لحسن مدّ يدك أبايعك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ما اسمك؟» قال: عبد شر، قال: «لا، بل أنت عبد(1/147)
خير» . (فبايعه على الإِسلام) وكتب معه الجواب (إلى) حَوْشَب ذي ظُلَيم فآمن كذا في كنز العمال. وأخرجه أيضاً ابن منده وابن عساكر كما في الكنز أيضاً. وأخرجه أيضاً ابن السَّكَن بنحوه كما في الإِصابة.
دعوته عليه السلام وفد عبد القيس إلى فرائض الإِسلام
وأخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مرحباً بالقوم غير خزايا ولا ندامى. فقالوا: يا رسول الله، إنّ بيننا وبينك المشركين من مُضَر، وإِنَّا لا نصل إليك إِلا في الشهر الحرام، فحدِّثنا بجميل من الأمر إن عملنا به دخلنا الجنة وندعو (إليه) مَنْ وراءنا. قال: آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: الإِيمان بالله شهادة أن لا إله إلا الله، وإِقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا من الغنائم الخُمس. وأنهاكم عن أربع: ما يُنتبذ في الدُّبَّاء والنَّثر، والحنتَم، والمزفّت. وعند الطيالسي بنحوه بزيادات منها في آخره: فاحفظوهنَّ وادعوا إليهنَّ مَنْ وراءكم. كذا في البداية.(1/148)
حديث علقمة في حقيقة الإِيمان والدعوة إلى الإِيمان والفرائض
وأخرج الحاكم عن علقمة بن الحارث رضي الله عنه يقول: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وأنا سابع من قومي - فسلَّمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فردَّ علينا؛ فكلَّمناه فأعجبه كلامنا. وقال: «ما أنتم؟» قلنا؛ مؤمنون. قال «لكل قول حقيقة فما حقيقة إيمانكم؟» قلنا: خمس عشرة خصلة: خمس أمرتَنا بها، وخمس أمرَتْنا بها رسلك، وخمس تخلقنا بها في الجاهلية ونحن عليها إلى الآن إلا أن تنهانا يا رسول الله. قال: «وما الخمس التي أمرتكم بها؟» قلنا: أمرتَنا أن نؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والقدر خيره وشره. قال: «وما الخمس التي أمرتكم بها رسلي؟» قلنا: أمرتنا رسلك أن نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنك عبده ورسوله، ونقيم الصلاة المكتوبة، نؤدي الزكاة المفروضة، ونصوم شهر رمضان، ونحجّ البيت إن استطعنا إليه السبيل. قال: «وما الخصال التي تخلَّقتم بها في الجاهلية؟» قلنا: الشكر عند الرَّخاء، والصبر عند البلاء، والصدق في مواطن اللقاء، والرضا بمرّ القضاء، وترك الشماتة بالمصيبة إذا حلَّت بالأعداء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فقهاء أُدباء، كادوا أن يكونو اأنبياء من خصال ما أشرفها» وتبسَّم إِلينا. ثم قال: «أنا أوصيكم بخمس خصال ليكمل الله لكم خصال الخير: لا تجمعوا ما لا تأكلون، ولا تبنوا ما لا تسكنون، ولا تنافَسُوا فيما غدا عنه تزولون، واتقوا الله الذي إليه تحشرون وعليه تقدَمون، وارغبوا فيما إليه تصيرون وفيه تخلدون» كذا في الكنز. وأخرجه أيضاً أبو سعيد النَّيسابوري في شرف المصطفى عن علقمة بن الحارث رضي الله عنه. وأخرجه العسكري والرشاطي وابن عساكر عن سويد بن الحارث - فذكر الحديث بطوله؛ وهذا أشهر كما في الإِصابة. وأخرجه أبو(1/149)
نعيم في الحلية عن سويد بن الحارث رضي الله عنه قال: وفدتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم سابع سبعة من قومي، فلما دخلنا عليه وكلمناه فأعجبه ما رأى من
سمْتِنا وزيِّنا. فقال: «ما أنتم؟» قلنا: مؤمنين. فتبسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «إنَّ لكل قول حقيقة، فما حقيقة قولكم وإيمانكم؟» قال سويد: فقلنا خمس عشرة خصلة: خمس منها أمَرتنا رسلك أن نؤمن بها، وخمس منها أمَرَتْنا رسلك أن نعمل بها، وخمس منها تخلَّقنا بها في الجاهلية فنحن عليها إلا أن تكره منها شيئاً - فذكره بمعناه إلا أنه ذكر: والبعث بعد الموت - بدل: القدر خيره وشره. وذكر: الصبر عند شماتة الأعداء - بدل: وترك الشماتة.
وقد تقدم حديث رجل من بَلْعَدَوِيَّة عن جده - فذكر الحديث، وفيه: قال: ما تدعو إليه؟ قال: «أدعو عباد الله إلى الله» . قال قلت: ما تقول؟ قال: «أشهد أن لا إِله إلا الله وأنِّي محمد رسول الله، وتؤمن بما أنزله عليّ، وتكفر باللات والعزَّى، وتقيم الصلاة وتؤتى الزكاة» .. - في دعوته صلى الله عليه وسلم لرجل لم يسمَّ (ص 81 - 82) .
إرساله صلى الله عليه وسلم الكتب مع أصحابه إلى ملوك الآفاق وغيرهم يدعوهم إلى الله عزّ وجلّ وإلى الدخول في الإِسلام تحريضه صلى الله عليه وسلم أصحابه على أداء دعوته، وعدم الإختلاف في ذلك، وبعثهم إلى الآفاق
أخرج الطبراني عن المِسْوَر بن مَخْرمة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقال: «إِنَّ الله بعثني رحمة للناس كافة، فأدُّوا عني(1/150)
- رحمكم الله - ولا تختلفوا كما اختلف الحواريّون على عيسى عليه السلام، فإنه دعاهم إلى مثل ما أدعوكم إليه. فأما من بَعُدَ مكانة فكرهه، فشكا عيسى بن مريم ذلك إلى الله عزَّ وجلَّ، فأصبحوا كلُّ رجل منهم يتكلم بكلام القوم الذي وُجِّه إليهم. فقال لهم عيسى: هذا أمر قد عزم الله لكم عليه فافعلوا» . فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن - يا رسول الله - نؤدي إليك فابعثنا حيث شئت. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حُذَافة رضي الله عنه إلى كسرى، وبعث سَلِيط بن عمرو رضي الله عنه إلى هَوْذَة بن علي صاحب اليمامة، وبعث العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه إلى المنذر بن ساوَى صاحب هَجَر، وبعث عمرو بن العاص رضي الله عنه إله جَيْفَر عبَّاد ابني الجُلَنْدي مَلِكي عُمَان، وبعث دِحْيَة الكلبي رضي الله عنه إِلى قيصر، وبعث شُجاع بن وَهْب الأسديّ رضي الله عنه إلى المُنذر بن الحارث بن أبي شِمْر الغسَّاني، وبعث عمرو بن أُمية الضَّمْري رضي الله عنه إلى النجاشي. فرجعوا جميعاً قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم غير العلاء بن الحضرمي، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وهو بالبحرين. قال الهيثمي وفيه: محمد بن إسماعيل بن عيّاش وهو ضعيف. كذا في المجمع.
قال الحافظ في الفتح - وزاد صحاب السِّيَر: أنه بعث المهاجر بن أبي أُمية إلى الحارث بن عبد الكُلال، وجريراً رضي الله عنهما إلى ذي الكَلاع، والسائب رضي الله عنه إلى مُسَيْلَمة، وحاطب بن أبي بَلْتعة رضي الله عنه إلى المُقَوقس - اهـ.
وأخرج مسلم عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب قبل موته إلى كسرى، وقيصر، وإِلى النَّجاشي، وإِلى كلِّ جبَّار عنيد يدعوهم إلى الله عزّ وجلّ، وليس بالنجاشي الذي صلَّى عليه. كذا في البداية.(1/151)
وأخرجه أحمد، والطبراني عن جابر رضي الله عنه قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت إلى كسرى وقيصر وإِلى كلِّ جبار. قال الهيثمي وفيه: ابن لهيعة وحديثه حسن، وبقية رجاله رجال الصحيح.
كتابه صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ملك الحبشة
أخرج البيهقي عن بن إسحاق قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضَّمْري رضي الله عنه إلى النجاشي في شأن جعفر بن أبي طالب وأصحابه رضي الله عنهم، وكتب معه كتاباً.
«بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إِلى النجاشي الأصحم ملك الحبشة: سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الملك القدّوس المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطاهرة الطيِّبة الحصينة، فحملت بعيسى فخلقه من روحه ونفخته كما خلق آدم بيده ونفخه، وإِني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والوالاة على طاعته، وأن تتبعني فتؤمن بي وبالذي جاءني، فإنِّي رسول الله. وقد بعثت إِليك ابن عمي جعفراً ومعه نفر من المسلمين، فإذا جاؤوك فأقرَّهم ودَعِ التجبُّر، فإني أدعوك وجنودك إلى الله عزّ وجلّ؛ وقد بلَّغتُ ونَصحتُ فاقبلوا نصيحتي. والسلام على من اتبع الهدى» .
كتاب النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكتب النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
«بسم الله الرحمن الرحيم، إِلى محمد رسول الله من النجاشي الأصحَم(1/152)
بن أبجر: سلام عليك يا نبي الله من الله ورحمة الله وبركاته، لا إِله إِلا هو الذي هداني إِلى الإِسلام. فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى، فوربِّ السماء والأرض إِنَّ عيسى ما يزيد على ما ذكرت. وقد عرفنا ما بَعثت به إِلينا؛ وقَرَبنا ابن عمك وأصحابه، فأشهد أنك رسول الله صدقاً ومصدِّقاً، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين. وقد بعثت إِليك - يا نبي الله - بأريحاً بن الأصحم بن أبجر، فإني لا أملك إِلا نفسي، وإِن شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله، فإني أشهد أن ما تقول حق» . كذا في البداية.
كتابه صلى الله عليه وسلم إلى قيصر ملك الروم
أخرج البزّار عن دِحْيَة الكلبي رضي الله عنه أنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب إلى قيصر، فقدمت عليه فأعطيته الكتاب وعنده ابن أخ له أحمر أزرق سبط الرأس. فلما قرأ الكتاب كان فيه.
من محمد رسول الله إِلى هرقل صاحب الروم
قال: فنخر ابن أخيه نخرة وقال: لا يُقرأ هذا اليوم. فقال له قيصر: لِمَ؟ قال: إنّه بدأ بنفسه وكتب «صاحب الروم» ولم يكتب «ملك الروم» . فقال قيصر: لتقرأنَّه. فلما قرأ الكتاب وخرجوا من عنده أدخلني عليه وأرسل إلى الأسقُف - وهو صاحب أمرهم - فأخبروه وأخبره وأقرأه الكتاب. فقال له الأسقف: هو الذي كنا ننتظر وبشَّرنا به عيسى عليه السلام. قال له قيصر: كيف تأمرني؟ قال له الأسقف: أمَّا أنا فمصدّقة ومتبعة. فقال له قيصر: أمّا أنا إن(1/153)
فعلت ذلك ذهب ملكي. ثم خرجنا من عنده، فأرسل قيصر إِلى أبي سفيان وهو يومئذٍ عنده قال: حدثني عن هذا الذي خرج بأرضكم ما هو؟ قال: شاب. قال: فكيف حَسَبُه فيكم؟ قال: هو في حسب منا لا يفضل عليه أحد. قال: هذه آية النبوة. قال: كيف صدقه؟ قال: ما كذب قط. قال: هذه آية النبوة. قال: أرأيت من خرح من أصحابكم إليه هل يرجع إليكم؟ قال: قد قاتله قوم فهزمهم وهزموه. قال: هذه آية النبوة.
قال ثم دعاني فقال: أبلغ صاحبك أني أعلم أنه نبي ولكن لا أترك ملكي.
قال: وأما الأسقُف فإنَّه كانوا يجتمعون إِليه في كل أحد، يخرج إليهم ويحدِّثهم ويذكِّرهم، فلما كان يوم الأحد لم يخرج إليهم وقعد إلى يوم الأحد الآخر، فكنت أدخل إليه فيكلمني ويسألني. فلما جاء الأحد الآخر إنتظروه ليخرح إليه، فلم يخرج إِليهم واعتلَّ عليهم بالمرض وفعل ذلك مراراً. وبعثوا إليه لتخرجنَّ إلينا أو لندخلنَّ عليك فنقتلك، فإنا قد أنكرناك منذ قدم هذا العربي. فقال الأسقف: خذ هذا الكتاب واذهب إلى صاحبك فاقرأ عليه السلام، وأخبره أنِّي أشهد أن لا إله إِلا الله وأن محمداً رسول الله، وأني قد آمنت به، وصدَّقته، واتبعته، وأنهم قد أنكروا عليّ ذلك، فبلِّغه ما ترى. ثم خرج إليهم فقتلوه - فذكر الحديث. قال الهيثمي (8236 - 237) وفيه إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى وهو ضعيف. انتهى.
وأخرجه أيضاً الطبراني من حديث دِخْية رضي الله عنه مختصراً، وفيه: يحيى بن عبد الحميد الحِمَّاني وهو ضعيف كما قال الهيمثي: وهكذا أخرجه أبو نعيم في الدلائل (ص 121) بمعناه مختصراً. وأخرجه أيضاً عبدان بن محمد(1/154)
المِرْوَزي عن عبد الله بن شدّاد نحوه وأتم منه. وأخرج عبدان عن ابن إسحاق عن بعض أهل العلم أن هرقل قال لدحية رضي الله عنه: ويحك إنِّي - والله - لأعلم أن صاحبك نبيٌّ مرسل وأنه للذي كنا ننتظر ونجده في كتابنا، ولكني أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتَّبعته؛ فاذهب إِلى ضغاطر الأسقُف فاذكر له أمر صاحبكم فهو أعظم في الروم مني وأجوز قولاً. فجاءه دِحْية فأخبره. فقال له: صاحبك - والله - نبي مرسل، نعرفه بصفته واسمه. ثم دخل فألقى ثيابه وليس ثياباً بيضاء، وخرج على الروح فشهد شهادة الحق فوثبوا عليه فقتلوه. وهكذا ذكره يحيى بن سعيد الأموي في المغازي والطبري عن ابن إِسحاق؛ كذا في الإِصابة.
وأخرج عبد الله بن أحمد وأبو يَعْلَى عن سعيد بنت أبي راشد قال: رأيت التنوخي - رسول هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ بحمص وكان جاراً لي شيخاً كبيراً قد بلغ الفناء - أو قَرُب - فقلت: ألا تخبرني عن رسالة هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل؟ قال: بلى. وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك وبعث دِحْية الكِلبي إلى هرقل، فلمّا أن جاء كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا قسيسي الروم وبطارقتها ثم غلَق عليه وعليهم الدار. قال: نزل هذا الرجل حيث رأيتم وقد أرسل إليّ يدعوني إلى ثلاث خصال: يدعوني أن أتبعه على دينه، أو أن نعطيه مالنا على أرضنا والأرض أرضنا، أو نلقي إليه الحرب. والله لقد عرفتم فيما تقرؤون من الكتب لتؤخذنَّ ما تحت قدميّ فهلمَّ نتبعه على دينه أو نعطيه مالنا على أرضنا. فنخروا نخرة رجل واحد حتى خرجوا من برانسهم وقالوا: تدعونا إلى أن نذر النصرانية أو نكون عبيداً لأعرابي جاء من الحجاز؟ فلمَّا ظنَّ أنَّهم إن خرجوا أفسدوا عليه رفاقهم وملكه، قال: إنما قلت ذلك لكم لأعلم صلابتكم على أمركم.(1/155)
ثم دعا رجلاً من عرب «تُجيب» كان على نصارى العرب قال: أُدُع لي رجلاً حافظاً للحديث عربي اللسان أبعثه إلى هذا الرجل بجواب كتابه. فجاءني فدفع إليّ هرقل كتاباً باني فقال: إذهب بكتابي إلى هذا الرجل، فما صَغِيتَ من حديثه فاحفظ منه ثلاث خصال: أنظر هل يذكر صحيفته التي كتب إليّ بشيء؟ وانظر إذا قرأ كتابي هل يذكر الليل؟ وانظر في ظهره هل به من شيء يريبك؟ فانطلقتُ بكتابه حتى جئت تبوك فإذا هو جالس بين أصحابه على الماء، فقلت: أين صاحبكم؟ قي: ها هوذا. فأقبلت أمشي حتى جلست بين يديه. فناولته كتابي فوضعه في حِجْره ثم قال: «ممَّن أنت؟» قلت: أنا أحد تنوخ. فقال: «هل لك في الحنيفية ملّة أبيكم إبراهيم؟» قلت: إني رسول قوم وعلى دين قوم، لا أرجع عنه حتى أرجع إليهم. قال: «إنَّك لا تهدي من أحببت ولكنَّ الله يهدي من يشاء، وهو أعلم بالمهتدين. يا أخا تنوخ إني كتبت بكتابي إلى النجاشي فخرقها والله مُخرِّقهُ ومُخَرِّقُ ملكه. وكتب إلى صاحبكم بصحيفة فأمسكها فلن يزال الناس يجدون منه بأساً ما دام في العيش خير» . قلت: هذه إحدى الثلاثة التي أوصاني بها، وأخذت سهماً من جعبتي فكتبتها في جلد سيفي. ثم إنَّه ناول الصحيفة رجلاً عن يساره فقلت: من صاحب كتابكم الذي يقرأ لكم؟ قالوا: معاوية. فإذا في كتاب صاحبي: يدعوني إلى جنة عرضها السماوات والأرض أُعدّت للمتقين. فأين النار؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سبحان الله فأين الليل إِذا جاء النهار؟» فأخذت سهماً من جعبتي فكتبته في جلد سيفي. فلما فرغ من قراءة كتابي قال: «إنَّ لك حقاً وإنك(1/156)
لرسول، فلو وجدت عندنا جائزة جوَّزناك بها، إنا سَفْر مُرْمِلون» . قال: فناداه رجل من طائفة الناس أن أجوزه، ففتح رَحْله، فإذا هو يأتي بحلَّة؟ قيل: عثمان. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من ينزل هذا الرجل؟» فقال فتى من الأنصار: أنا. فقام الأنصاري وقمت معه. فلما خرجت من طائفة المجلس ناداني رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أخا تنوخ» ، فأقبلت أهوي حتى كنت قائماً في مجلسي الذي كنت فيه بين يديه، فحلَّ حبوته عن ظهره فقال: «ها هنا أمضِ لما أُمرت به» ، فجُلْتُ في ظهره، فإذ أنا بخاتم في موضع غضروف الكتف مثل الحجمة، قال الهيثمي (8235 - 236) رجال أبي يعلى ثقات، ورجال عبد الله بن أحمد كذلك. انتهى. وأخرجه أيضاً الإِمام أحمد كما في البداية، وقال: هذا حديث غريب وإسناده لا بأس به، تفرّد به الإِمام أحمد. انتهى. وأخرجه أيضاً يعقوب بن سفيان، ما في البداية أيضاً.
خبر أبي سفيان مع هرقل ملك الروم
وأخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أبا سفيان أخبره: أنَّ هرقل أرسل إليه في ركب من قريش - وكانوا تجّاراً بالشام - في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مادَّ فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتَوه وهم بإيلياء.(1/157)
فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم ثم دعاهم ودعا بالترجمان فقال: أيُّكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قال: أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسباً، قال: أدنُوه مني وقرِّبوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره. ثم قال لترجمانه قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل فإن كذبني فكذِّبوه، فوالله لولا أن يؤثروا عني كذباً لكذبتُ عنه.
ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب. قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا. قال: فهل كان من آبائه من مَلِكٍ؟ قلت: لا. قال: فأشراف الناس اتَّبعوه أم(1/158)
ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتد أحد منهم سَخْطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا. قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها - قال: ولم يُمكنِّي كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة - قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سِجَال، ينال منا وننال منه. قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصِّلَة.
فقال الترجمان: قل له سألتك عن نسبه فزعمتَ أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل فتبعث في نسب قومها. وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول قبله، فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلتُ رجل يتأسَّى بقول قيل قبله وسألتم: هل كان من آبائه من مَلِك، فذكرت أن لا، فلو كان من آبائه نمَلِك، قلت: رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك: هل كنتم تتَّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فذكرت أن لا، قد أعرف أنه لم يكن ليذَر الكذب على الناس ويكذب على الله. وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم، فذكرت أنَّ ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل. وسألتك: أيزيدون أم ينقصون، فذكرت أنَّهم يزيدون، وكذلك أمر الإِيمان حتى يتمّ. وسألتك: أيرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه، فذكرت أن لا، وكذلك الإِيمان حين تخالط بشاشتُه القلوبَ. وسألتك: هل يغدر، فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك: بمَ يأمركم، فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقّاً فسيملك موضع قدميَّ هاتين. وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم، فلو أعلم أني أخلص إليه لتجشَّمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه.
ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به مع دِحْية رضي الله عنه إلى عظيم بصرى. فدفعه إلى هرقل فإذا فيه.
«بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلامٌ على من اتّبَع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإِسلام، أسلم تسلم يؤتكَ الله أجرك مرتين. فإن تولَّيت فإنّ عليك إِثم الأريسيِّين. و {قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 64) » .
قال أبو سفيان: فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصَّخَب، وارتفعت الأصوات وأُخرجنا فقلت لأصحابي - حين خرجنا -: لقد أمِرَ أمر ابن أبي كبشة، إنه يخاف مَلِكُ بني الأصفر. فما زلت موقناً أنه(1/159)
سيظهر حتى أدخل الله عليَّ الإِسلام.
قال: وكان ابن الناطور صاحبَ إيلياء وهرقَل أُسْقُفَ على نصارى الشام يحدِّث أنّ هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوماً خبيث النفس، فقال بعض بطارقته: قد استنكرنا هيئتك. قال ابن الناطور: وكان هرقل حزّاء ينظر في النجوم. فقال لهم حين سألوه: إني رأيت حين نظرت في النجوم مَلِكَ الخِتان قد ظهر فمن يختتن من هذه الأمم؟ قالوا: ليس يختتن إلا اليهود ولا يهمنَّك شأنهم، واكتب إلى مدائن ملكك فليقتلوا من فيهم من اليهود. فبينما هم على أمرهم أُتِيَ هرقل برجل أرسل به ملك غسّان فخبَّرهم عن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما استخبره هرقل قال: إذهبا فانظروا أمختتن هو أم لا؟ فنظروا إليه فحدَّثوه أنه مختتن، وسأله عن العرب فقال هم يختتنون. فقال هرقل: هذا مَلِك هذه الأمة قد ظهر. ثم كتب إلى صاحب له برومية - وكان نظيره في العلم - وسار هرقل إلى حمص فلم يَرِم بحمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي صلى الله عليه وسلم وهو نبي. فأذن هرقل لعظماء الروم في دَسْكرة له بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلِّقت، ثم اطَّلع فقال: يا معشر الروم، هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبَّت لكم ملككم، فتتابعوا لهذا النبي؟ فحاصوا حَيْصة حُمُرِ الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غُلِّقت. فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الإِيمان قال: ردُّوهم عليَّ. وقال: إنِّي إنَّما قلت مقالتي آنفاً أختبر بها شدَّتكم على دينكم؛ فقد رأيت، فسجدوا له ورَضُوا عنه. فكان ذلك آخر شأن هرقل. وقد رواه البخاري في مواضع كثيرة في صحيحه بألفاظ(1/160)
يطول استقصاؤها؛ وأخرجه بقية الجماعة إِلا ابن ماجه من طرق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس رضي الله عنهما. كذا في البداية. وأخرجه أيضاً ابن إِسحاق عن الزُّهري بطوله كما ذكر في البداية. وأخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة (ص 119) من طريق الزُّهْري بنحوه مطولاً، والبيهقي بهذا الإِسناد بنحوه
مطوّلاً.
كتابه صلى الله عليه وسلم إلى كسرى ملك فارس
أخرج البخاري من حديث اللَّيث عن يونس عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه مع رجل إلى كسرى وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه كسرى مزّقه، قال: فحسبت أنَّ ابن المسيِّب قال: فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُمزقوا كلَّ مُمزَّق.
وقال عبد الله بن وَهْب عن يونس عن الزُّهْري: حدثني عبد الرحمن بن عبد القاري رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ذات يوم على المنبر خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه وتشهد، ثم قال: أما بعد: فإنِّي أريد أن أبعث بعضكم إلى ملوك الأعاجم فلا تختلفوا عليَّ كما اختلفت بنو إسرائيل على عيسى بن مريم. فقال المهاجرون: يا رسول الله، إِنّا لا نختلف عليك في شيء أبداً، فمُرنا وابعثنا. فبعث شجاع بن وَهْب إلى كسرى. فأمر كسرى بإيوانه أن يُزيَّن،(1/161)
ثم أذن لعظماء فارس، ثم أذن لشجاع بن وَهْب. فلما أن دخل عليه أمر كسرى بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُقبض منه. فقال شجاع بن وهب: لا، حتى أدفعه أنا إليك كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كسرى: ادّنه، فدنا فناوله الكتاب، ثم دعا كاتباً له من أهل الحيرة فقرأه فإذا فيه:
من محمد بن عبد الله ورسوله إلى كسرى عظيم فارس
قال: فأغضبه حين بدا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وصاح وغضب ومزَّق الكتاب قبل أن يعلم ما فيه، وأمر بشجاع بن وَهْب فأُخرج. فلمّا رأى ذلك قعد على راحلته ثم سار ثم قال: والله، ما أبالي على أي الطريقين أكون إِذْ أدّيت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ولما ذهب عن كسرى سَوْرَة غضبه بعث إلى شجاع ليدخل عليه، فالتُمس فلم يوجد، فطُلب إِلى الحيرة فَسَبَق. فلما قدم شجاع على النبي صلى الله عليه وسلم أخبره بما كان من أمر كسرى وتمزيقه لكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مزّق كسرى ملكه» . كذا في البداية.
وأخرج أبو سعيد النَّيْسابوري في كتاب شَرَف المصطفى من طريق ابن إِسحاق عن الزهري عن أبي سَلَمة بن عبد الرحمن رضي الله عنه قال: لمَّا قُدِّم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقرأه ومزَّقه كتب إلى باذان - وهو عامله باليمن - أن أبعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلَين جَلْدين من عندك فلْيأتياني به. فبعث باذان قهرمانه - وهو أبانوه وكان كاتباً حاسباً بكتاب فارس - وبعث معه رجلاً من الفرس يقال له: «جد جميرة» وكتب معهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره أن يتوجَّه معهما إلى كسرى، وقال لقهرانه: أنظر إلى الرجل وما هو وكلِّمه وائتني بخبره. فخرجا حتى قدما الطائف، فوجدا رجالاً(1/162)
من قريش تجّاراً فسألاهم عنه. فقالوا: هو بيثرب واستبشروا. فقالوا: قد نَصب له كسرى. كُفيتم الرجل فخرجا حتى قدما المدينة، فكلّمه أبانوه، فقال: إنَّ كسرى كتب إلى باذان أن يبعث إليك من يأتيه بك، وقد بعثني لتنطلق معي. فقال: «إرجعا حتى تأتياني غداً» ، فلما غدَوا عليه أخبرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الله قتل كسرى وسلّط عليه ابنه «شيرَوَيْه» في ليلة كذا من شهر كذا. فقالا: أتدري ما تقول؟ أنكتب بهذا إلى باذان؟ قال: «نعم» . وقولا له: «إن أسلمتَ أعطيتُك ما تحت يديك» ثم أعطى «جد جميرة» مِنْطَقة كانت أُهديت له فيها ذهب وفضة. فقدما على باذان فأخبراه. فقال: ما هذا بكلام ملك ولننظرن ما قال. فلم يلبث أن قدم عليه كتاب (شيرَوَيْه) : أما بعد: فإنِّي قتلت كسرى غضباً لفارس لما كان يستحلُّ من قتل أشرافها؛ فخُذْ لي الطاعة ممن قِبَلك ولا تُهَجِّنِ الرجل الذي كتب لك كسرى بسببه بشيء، فلما قرأه قال: إن هذا الرجل لنبي مرسل، فأسلم وأسلمت الأبناء من آل فارس من كان منهم باليمن جميعاً. وهكذا حكاه أبو نعيم الأصبهاني في الدلائل عن ابن إِسحاق بلا إسناد، لكن سماه خرخسرة ووافق على تسمية رفيقه أبانوه. كذا في الإِصابة.
وأخرجه أيضاً ابن أبي الدنيا في دلائل النبوة عن ابن إسحاق قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حُذافة رضي الله عنه إلى كسرى بكتابه يدعوه إلى الإِسلام. فلما قرأه شقَّق كتابه ثم كتب إلى عامله على اليمن باذان - فذكر بمعناه - وفيه: ثم قدما المدينة فكلَّمه بابويه: إن شاهنشاه كسرى كتب إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليه من يأتيه بك. فإن أجبتَ كتبتُ معك ما ينفعك عنده، وإِن أبيتَ فإنه مهلكك ومهلك قومك ومخرِّب بلادك. فقال لهما: إرجعا(1/163)
حتى تأتياني غداً - فذكر نحوه. وأخرج ابن أبي الدنيا عن سعيد المقبري مختصراً جداً. كذا في الإِصابة.
وأخرجه ابن جرير من طريق ابن إسحاق عن زيد بن أبي حبيب قال: وبعث عبد الله بن حذافة رضي الله عنه إلى كسرى بن هرمز ملك فارس وكتب معه.
«بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس. سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله؛ وأدعوك بدعاء الله، فإنِّي أنا رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين. فإن تُسْلِم تَسلَم، وإن أبيت فإن إثم المجوس عليك» .
قال: فلما قرأه شقَّه وقال: يكتب إليّ بهذا وهو عبدي. قال: ثم كتب كسرى إلى باذام - فذكر ما تقدَّم عن ابن إسحاق، وفيه: ودخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما، فكره النظر إليهما وقال: «ويلكما من أمركما بهذا؟» قالا: أمرنا ربنا - يعنيان كسرى - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ولكنَّ ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي» كذا في البداية.
وأخرج الطبراني عن أبي بَكْرة رضي الله عنه قال: لما بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث كسرى إلى عامله على أرض اليمن ومن يليه من العرب - وكان يقال له بادام - إِنه بلغني أنه خرج رجل قِبلك يزعم أنه نبي فقل له: فلْيكفَّ عن(1/164)
ذلك أو لأبعثنَّ إليه من يقتله أو يقتل قومه. قال: فجاء رسول بادام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له هذا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو كان شيء فعلته من قبلي كففت ولكن الله عزّ وجلّ بعثني» . فأقام الرسول عنده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إن ربي قتل كسرى ولا كسرى بعد اليوم؛ وقتل قيصر ولا قيصر بعد اليوم. قال فكتب قوله في الساعة التي حدَّثه واليوم الذي حدَّثه والشهر الذي حدَّثه فيه. ثم رجع إلى بادام فإذا كسرى قد مات، وإذا قيصر قد قتل. وقال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح غير كثير بن زياد وهو ثقة؛ وعند أحمد طرَقٌ منه، وكذلك البزار. انتهى.
وأخرج البزّار عن دِحْية الكلبي رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب إلى قيصر - فذكر الحديث كما تقدّم في كتابه صلى الله عليه وسلم إلى قيصر (ص 128) ؛ وفي آخره: ثم خرج دِحْية إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده رُسُلُ عمالِ كسرى على صنعاء، بعثهم إليه وكتب إلى صاحب صنعاء يتوعّده يقول: لتكفينِّي رجلا خرج من أرضك يدعوني إلى دينه، أو أؤدي الجزية، أو لأقتلنَّك، أو لأفعلنَّ بك. فبعث صاحب صنعاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة وعشرين رجلاً فوجدهم دحية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قرأ صاحبهم تركهم خمس عشرة ليلة، فلما مضت خمس عشرة ليلة تعرَّضوا له. فلما رآهم دعاهم فقال: «إذهبوا إلى صاحبكم فقولوا له: إِنَّ ربِّي قتل ربه الليلة» . فانطلقوا فأخبروه بالذي صنع. فقال: إحصُوا هذه الليلة. قال: أخبروني كيف رأيتموه؟ قالوا: ما رأينا ملكاً أهنأ منه يمشي فيهم لا يخاف شيئاً، مبتذلاً لا يُحرس، لا يرفعون أصوَاتهم عنده. قال دحية: ثم جاء الخبر أن كسرى قُتل تلك الليلة. قال الهيثمي فيه: إبراهيم بن إسماعيل عن أبيه وكلاهما ضعيف. انتهى.(1/165)
كتابه صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس ملك الإِسكندرية
أخرج البيهقي عن عبد الله بن عبد القارىء رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث حاطب بن أبي بَلْتَعة رضي الله عنه إلى المُقَوْقِس صاحب الإِسكندرية، فمضى بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه. فقَبَّل الكتاب، وأكرم حاطباً وأحسن نُزُله، وسَرَّحه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأهدى له مع حاطب كِسوة وبغلة بِسَرْجها وجاريتين: إحداهما أُمّ إبراهيم، وأما الأخرى فوهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحمد بن قيس العبدي.
وأخرج البيهقي أيضاً عن حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس ملك الإِسكندرية، قال: فجئته بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزلني في منزله وأقمت عنده، ثم بعث إليّ وقد جمع بطارِقَته وقال: إنِّي سائلك عن كلام فأحبُّ أن تفهم عني، قال قلت: هلُمَّ؛ قال: أخبرني عن صاحبك ألي هو نبي؟ قلت: بل هو رسول الله قال: فما له حيث كان هكذا لم يدعُ على قومه حيث أخرجوه من بلده إلى غيرها؟ قال قلت: عيسى بن مريم أليس تشهد أنه رسول الله؟ قال: بلى. قلت: فما له حيث أخذه قومه فأرادوا أن يصلبوه ألا يكون دعا عليهم بأن يهلكه الله حيث رفعه الله إلى السماء الدنيا؟ فقال لي: أنت حكيم قد جاء من عند حكيم. هذه هدايا أبعث بها معك إلى محمد، وأرسل معك ببَذْرَقة يبذرقونك إلى مأمنك.
قال: فأِدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث جوارٍ منهن أُم إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدةً وهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت الأنصاري، وأرسل إليه بطُرَف من(1/166)
طُرَفهم. كذا البداية. وأخرج حديث حاطب أيضاً ابن شاهين كما في الإِصابة.
كتابه صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران
أخرج البيهقي عن يونس بن بُكَير عن سَلَمة بن عبد يسوع عن أبيه عن جده - قال يونس: وكان نصراياً فأسلم - إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل نجرن قبل أن ينزل عليه: طاسَ سليمان.
«باسم إِله إبراهيم وإسحاق، ويعقوب. من محمد النبي رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران: سَلْم أنتم، فإنِّي أحمد إليكم إله إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب. أما بعد: فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد؛ فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب. والسلام» .
فلما أتى الأسقُفَ الكتابُ وقرأه فَظِعَ به وذعر به ذعراً شديداً، وبعث إِلى رجل من أهل نجران يقال له شُرحَبيل بن وَدَاعة - وكان من هَمْدان ولم يكن أحد يُدعى إِذا نزلت مُعْضلة قبله، لا الأيهم ولا السيد، ولا العاقب - فدفع الأسقفُّ كتابت إلى شرحبيل فقرأه. فقال الأسقف: يا أبا مريم، ما رأيك؟ فقال شرحبيل: قد علمتَ ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النّبوة، فما يُؤمن أن يكون هذا هو ذاك الرجل، ليس لي في أمر النبوة رأي، ولو كان في أمر من أمور الدنيا لأشرتُ عليك فيه برأي واجتهدت لك، فقال له الأسقف: تنحَّ(1/167)
فاجلس، فتنحَّى شرحبيل فجلس ناحية. فبعث الأسقفُّ إلى رجل من أهل نجران يقال له عبد الله بن شرحبيل وهو من ذي أصبح من حِمْير، فأقرأه الكتاب وسأله عن الرأي فيه، فقال مثل قول شرحبيل، فقال الأسقفُّ: تنحَّ فاجلس، فتنحَّى عبد الله فجلس ناحية. فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له جبَّار بن فيض من بني الحارث بن كعب أحد بني الحماس، فأقرأه الكتاب وسأله عن الرأي فيه، فقال له مثل قول شرحبيل وعبد الله، فأمره الأسقفُّ فتنحَّى فجلس ناحية.
فلما اجتمع الرأي منهم على تلك المقالة جميعاً أمر الأسقف بالناقوس فضُرب به ورُفعت النيران والمسوح في الصوامع، وكذلك كانوا يفعلون إذا فزعوا بالنهار، وإِذا كان فزعهم ليلاً ضربوا بالناقوس، ورفعت النيران في الصوامع، فاجتمعوا حين ضرب بالناقوس ورُفعت المسوح أهل الوادي أعلاه وأسفله، وطول الوادي مسيرة يوم للراكب السريع، وفيه ثلاث وسبعون قرية وعشرون ومائة ألف مقاتل. فقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألهم عن الرأي فيه. فاجتمع رأي أهل الرأي منهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة الهمْداني وعبد الله بن شرحبيل الأصبحي وجَبَّار بن فيض الحارثي فيأتونهم بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق الوفد حتى إذا كانوا بالمدينة وضعوا ثياب السفر عنهم ولبسوا حُلُلاً لهم يجرونها من حِبَرة وخواتيم الذهب. ثم انطلقوا حتى أتَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلَّموا عليه فلم يردَّ عليهم، وتصدَّوا لكلامه نهاراً طويلاً فلم يكلمهم وعليهم تلك الحلل وخواتيم الذهب. فانطلقوا يتبعون عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وكانا معرفة لهم - فوجدوهما في ناس من المهاجرين والأنصار في مجلس فقالوا: يا عثمان، ويا عبد الرحمن، إن نبيكم كتب إلينا كتاباً فأقبلنا مجيبين له،(1/168)
فأتيناه فسلَّمنا عليه فلم يردَّ سلامنا، وتصدينا لكلامه نهاراً طويلاً فأعيانا أن يكلمنا؟ فما الرأي منكما؟ أترون أن نرجع؟ فقالا لعلي بن أبي طالب - وهو في القوم - ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم؟ فقال علي لعثمان وعبد الرحمن: أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم هذه ويلبسوا ثياب سفرهم ثم يعودوا إِليه. ففعلوا فسلَّموا عليه فردَّ سلامهم، ثم قال: «والذي بعثني بالحق لقد أتوني المرة الأولى وإنَّ إِبليس لمعهم» . ثم سألهم وسألوه، فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا له: ما تقول في عيسى؟ فإنَّا نرجع إِلى قومنا ونحن نصارى يسرُّنا - إن كنت نبياً - أن نسمع
ما تقول فيه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما عندي فيه شيء يومي هذا فأقيموا حتى أخبركم بما يقول لي ربي في عيسى» . فأصبح الغد وقد أنزل الله هذه الآية: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ الْحَقُّ مِن رَّبّكَ فَلاَ تَكُنْ مّن الْمُمْتَرِينَ فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءنَا وَأَبْنَآءكُمْ وَنِسَآءنَا وَنِسَآءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتُ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} (آل عمران: 59 - 61) .
فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد بعدما أخبرهم الخبر أقبل مشتملاً على الحسن والحسين في خَميل له وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة، وله يومئذٍ عدة نسوة. فقال شرحبيل لصاحبيه: لقد علمتما أنَّ الوادي إذا اجتمع أعلاه وأسفله لم يَرِدوا ولم يصدُرُوا إلا عن رأيي، وإنِّي - والله - أرى أمراً ثقيلاً، والله لئن كن هذا الرجل مبعوثاً فكنَّا أول العرب طعناً في عينيه وردّاً عليه أمره لا يذهب لنا من صدوره ولا من صدور أصحابه حتى يصيبونا بجائحة؛ وإنا لأدنى العرب منهم جواراً. ولئن كان هذا الرجل نبياً مرسلاً فلاعنّاه لا يبقى منا على وجه الأرض شَعَر ولا ظِفْر إلا هلك. فقال صاحباه: فما الرأي يا أبا مريم؟ فقال: أرى أن أكلِّمه، فإنِّي أرى رجلاً لا يحكم شططاً أبداً. فقالا له: أنت وذاك. قال: فتلقَّى شرحبيلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: إنِّي قد رأيت خيراً من ملاعنتك. فقال: وما هو؟ فقال: حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح فمهما حكمتَ فينا فهو جائز. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لعل وراءك أحداً يُثَرِّبُ(1/169)
عليك» . فقال شرحبيل: سل صاحبيَّ، فسألها فقالا: ما يَرِدُ الوادي ولا يصدُر إِلا عن رأي شرحبيل. فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يلاعنهم، حتى إذا كان من الغد أَتوه: فكتب لهم هذا الكتاب:
«بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما كتب النبي محمد رسول الله لنجران: - إِن كان عليهم حكمه - في كل ثمرة وكل صفراء وبيضاء وسوداء ورقيق فاضل عليهم، وترك ذلك كله لهم على ألفي حلة: في كل رجب ألف حلة، وفي كل صفر ألف حلة» .
وذكر تمام الشروط. كذا في التفسير لابن كثير. وزاد في البداية بعد قوله - وذكر تمام الشروط: إلى أن شهد أبو سفيان بن حرب، وغيلان بن عمرو، ومالك بن عوف من بني نصر، والأقرع بن حابس الحنظلي، والمغيرة، وكتب. حتى إذا قبضوا كتابهم إنصرفوا إلى نجران ومع الأسقُفِّ أخ له من أُمِّه وهو ابن عمِّه من النسب يقال له بِشْر بن معاوية وكنيته أبو علقمة. فدفع الوفدُ كتابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأسقُفِّ، فبينما هو يقرأه وأبو علقمة معه وهما يسيران إذ كَبَت ببشر ناقتُه، فَتَعَّسَ بشر غير أنه لا يكني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له الأسقُف عند ذلك: قد - والله - تعَّسْتَ نبياً مرسلاً. فقال له بِشْر: لا جَرَم - والله - لا أحلُّ عنها عقداً حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فصرف وجه ناقته نحو المدينة وثَنى الأسقف ناقته عليه فقال له: أفهم عني إنَّما قلت هذا ليبلغ عني العرب مخافة أن يروا أنَّا أخذنا حقه أو رضينا بصوته أو بخعنا لهذا الرجل بما لم تبخع به العرب، ونحن أعزهم وأجمعهم داراً. فقال له بشر: لا والله لا أقبل ما خرج من رأسك أبداً، فضرب بشر ناقته - وهو مولِّي الأسقف ظهره - وارتجز(1/170)
يقول:
إليكَ تغدو قَلِقاً وضينها
معترضاً في بطنها جنينُها
مخالفاً دين النصارى دينُها
حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم، ولم يزل معه حتى قتل بعد ذلك. قال: ودخل الوفد نجران. فأتى الراهبَ ابن أبي شمر الزبيدي وهو في رأس صومعته. فقل له: إِنَّ نبياً بُعث بتهامة - فذكر ما كان من وفد نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه عرض عليهم الملاعنة فأبَوا، وأنَّ بشر بن معاوية دفع إليه فأسلم - فقال الراهب: أنزلوني، وإلا ألقيت نفسي من هذه الصومعة. قال: فأنزلوه، فأخذ معه هدية وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منها هذا البُرْد الذي يلبسه الخلفاء، وقَعْبُ، وعصا. فأقام مدّة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع الوحي، ثم رجع إلى قومه ولم يُقدِّر له الإِسلام ووعد أنه سيعود فل يُقدَّر له حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الأسقُف أبا الحارث أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه السيد والعاقب ووجوه قومه، فأقاموا عنده يسمعون ما ينزل الله عليه، وكتب للأسقفِّ هذا الكتاب ولأساقفة نجران بعده.
كتابه عليه السلام إلى الأسقف أبي الحارث
«بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد النبي للأسقف أبي الحارث، وأساقفة نجران، وكهنتهم، ورهبانهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل كثير: جوار الله ورسوله، لا يُغَيِر أسقفُّ من أسقفته ولا راهب من رهبانيته ولا كاهن من كهانته ولا يغيّر حق من حقوقهم، ولا سلطانهم ولا ما كانوا عليه من ذلك. جوار الله ورسوله أبداً ما أصلحوا ونصحوا عليهم غير مبتلين بظلم ولا ظالمين» .(1/171)
وكتب المغيرة بن شعبة. انتهى ما في البداية.
كتابه صلى الله عليه وسلم إلى بكر بن وائل
أخرج أحمد عن مَرْثَد بن ظبيان رضي الله عنه قال: جاءنا كتاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم فما وجدنا له قارئاً يقرأ علينا حتى قرأه رجل من ضَبِيعة: «من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بكر بن وائل: أسلموا تسلموا» قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح - انتهى. وأخرجه أيضاً البزَّار وأبو يَعْلَى والطبراني في الصغير عن أنس رضي الله عنه بمعناه، قال الهيثمي: رجال الأوَّلين رجال الصحيح.
كتابه صلى الله عليه وسلم إلى بني جذامة
أخرج الطبراني عن عُمير بن مقبل الجُذامي عن أبيه قال: وفد رِفاعة بن زيد الجُذامي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب له كتاباً، وفيه:
«من محمد رسول الله لرفاعة بن زيد: إني بعثته إلى قومه عامة ومن دخل(1/172)
فيهم، يدعوهم إِلى الله وإلى رسوله: فمن آمن ففي حزب الله وحزب رسوله، ومن أدبر فله أمان شهرين» .
فلما قدم على قومه أجابوه - فذكر الحديث. قال الهيثمي: رواه الطبراني متصلاً هكذا، ومنقطعاً مختصراً عن ابن إسحاق، وفي المتصل جماعة لم أعرفهم، وإسنادهما إلى ابن إِسحاق جيد. انتهى.
وأخرجه الأمويُّ في المغازي من طريق ابن إِسحاق من رواية عُمير بن معبد بن فلان الجذامي عن أبيه نحوه كما في الإِصابة.
قصصه صلى الله عليه وسلم في الأخلاق والأعمال المفضية إلى هداية الناس إسلام زيد بن سُعْنة الحبر الإِسرائيلي رضي الله عنه
أخرج الطبراني عن عبد الله بن سَلام رضي الله عنه قال: إنَّ الله عزَّ وجلَّ لمَّا أراد هُدى زيد بن سُعنَة قال زيد بن سُعْنَة: ما من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه محمد صلى الله عليه وسلم حين نظرت إِليه إلا اثنتين لم أخبُرهما منه: يسبق حلمُه جهلَه، ولا تزيد شدة الجهل عليه إلا حلماً. قال زيد بن سُعْنة: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً من الحُجْرات - ومعه علي بن أبي طالب - فأتاه رجل على راحلته كالبدوي، فقال: يا رسول الله، لي نفر في قرية بني فلان قد أسلموا ودخلوا في الإِسلام، وكنت حدَّثتهم إِن أسلموا أتاهم الرزق رَغَداً.(1/173)
وقد أصابتهم سَنَة وشدّة وقحط من الغيث، فأنا أخشى - يا رسول الله - أن يخرجوا من الإِسلام طمعاً كما دخلوا فيه طمعاً؛ فإن رأيتَ أن ترسل إليهم بشيء تغيثهم به فعلتَ. فنظر إلى رجل إِلى جانبه - أُراه علياً - فقال: يا رسول الله ما بقي منه شيء. قال زيد بن سُعْنة: فدنوت إليه فقلت: يا محمد، هل لك أن تبيعني تمراً معلوماً في حائط بني فلان إلى أجل معلوم، إلى أجل كذا وكذا. قال: «لا تُسمِّ حائط بني فلان» قلت: نعم، فبايَعَني، فأطلقت هِمْياني فأعطيته ثمانين مثقالاً من ذهب في تمر معلوم إلى أجل كذا وكذا، فأعطاه الرجل وقال: «إعدل عليهم وأغثهم» .
قال زيد بن سُعْنة: فلما كان قبل مَحِلِّ الأجل بيومين أو ثلاثة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم في نفر من أصحابه، فلم صلّى على الجنازة ودنا إلى الجدار ليجلس إليه أتيته، فأخذته بمجامع قميصه وردائه ونظرت إليه بوجه غليظ، وقلت له: يا محمد، ألا تقضيني حقِّي؟ فوالله، ما عُلِمْتُم بني عبد المطلب إلا مُطْلاً، ولقد كان بمخالطتكم علم. ونظرت إلى عمر وعيناه تدوران في وجهه كالفِلك المستدير، ثم رماني ببصر فقال: يا عدو الله، أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع؟ وتصنع به ما أرى؟ فوالذي نفسي بيده لولا ما أحاذر فَوْته لضربت بسيفي رأسك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليَّ في سكون وتُؤدة. فقال: «يا عمر، أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا؛ أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن أتباعه. إذهب به يا عمر، فأعطه حقَّه وزِدْه عشرين صاعاً من تمر مكان ما رْعْته» .(1/174)
قال زيد: فذهب بي عمر فأعطاني حقِّي وزادني عشرين صاعاً من تمر. فقلت: ما هذه الزيادة يا عمر؟ قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أزيدك مكان ما رُعتك. قال: قلت: وتعرفني يا عمر؟ قال: لا. قلت: أنا زيد بن سُعْنة. قال: الحَبْرُ؟ قلت: الحَبْرُ. قال: فما دعاك إلى أن فعلتَ برسول الله ما فعلت، وقلت له ما قلت؟ قلت: يا عمر، لم يكن من علامات النبوّة شيء إِلا وقد عرفت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نظرت إِليه إِلا اثنتين، لم أخبُرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إِلا حلماً. وقد اختبرتهما، فأشهدك - يا عمر - أنِّي قد رضيتُ بالله رباً، وبالإِسلام ديناً وبمحمد نبياً، وأشهدك أنَّ شطر مالي - فإني أكثرها مالاً - صدقةٌ على أُمة محمد صلى الله عليه وسلم قال عمر: أو على بعضهم فإنَّك لا تسعهم، قلت: أو على بعضهم. فرجع عمر، وزيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال زيد: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وآمن به وصدَّقه وبايعه، وشهد معه مشاهد كثيرة؛ ثم توفي في غزوة تبوك مقبلاً غير مدبر. رحم الله زيداً. قال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله ثقات؛ وروى ابن ماجه منه طرفاً: انتهى.
وأخرجه أيضاً ابن حِبَّان، والحاكم، وأبو الشيخ في كتاب أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم كما في الإِصابة وقال: ورجال الإِسناد مُوثّقون، وقد صرّح(1/175)
الوليد فيه بالتحديث، ومداره على محمد بن أبي السَرِي الراوي له عن الوليد. وثَّقه ابن مَعِين، وليَّنه أبو حاتم. وقال ابن عدي: محمد كثير الغلط. والله أعلم. ووجدت لقصَّته شاهداً من وجه آخر لكن لم يُسمَّ فيه، قال ابن سعد: حدثنا يزيد، حدثنا جرير بن حازم، حدثني من سمع الزهري يحدث أن يهودياً قال: ما كان بقي شيء من نَعْت محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة إلا رأيته؛ إِلا الحلم ... فذكر القصة. انتهى. وأخرجه أبو نُعَيم في الدلائل (ص 23) .
قصة صلح الحديبية ذكر ما كان من قرش وصدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيارة البيت
أخرج البخاري عن المِسْوَر بن مخرمة ومروان قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحُدَيْبية، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي صلى الله عليه وسلم «إنَّ خالد بن الوليد بالغَمِيم في خيل لقريش طَليعة، فخذوا ذات اليمين» . فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بفترة الجيش، فانطلق يركض نذيراً لقريش. وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثَنِيَّة التي هبط عليهم منها بركت به راحلته. فقال(1/176)
الناس: حَلَّ، حلّ، فألَّحت. فقالوا: خلأت القصْواء خلأت القَصْواء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخُلُق، ولكن حبسها حابس الفيل» . ثم قال: «والذي نفسي بيده، لا يسألوني خُطَّة يعظِّمون فيها حُرُماتِ الله إلا أعطيتهم إِياها» ثم زجرها فوثبت، فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثَمَد قليل الماء ... يتبرضه تبرضاً؛ فلم يُلْبِثْه الناس حتى نزحوه. وشُكيَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش فانتزع سَهْماً من كِنَانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله، ما زال يجيش لهم بالريّ حتى صَدَروا عنه.
خبر بُدَيْل معه عليه السلام
فبينما هم كذلك إذ جاء بُدَيل بن ورْقاء الخُزاعي في نفر من قومه من خُزاعة - وكانوا عَيْبة نُصْح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تِهامة - فقال: إِني تركت كعب بن لؤي، عامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية، معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادُّوك عن البيت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «إنا لم نجيء لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين؛ وإنَّ قريشاً قد نَهَكتهم الحرب وأضرَّت بهم، فإن شاؤوا ماددتهم مدة ويخلُّوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإِلا فقد جَمُّوا، وإن هم أبَوا فوالذي(1/177)
نفسي بيده لأقاتلنَّهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ولينفذنَّ أمر الله» . قال بُدَيل: سأبلغهم ما تقول: فانطلق حتى أتى قريشاً فقال: إِنَّا قد جئناك من عند هذا الرجل وسمعناه يقول قولاً، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا. فقال سفهاؤهم: لا حجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء. وقال ذوو الرأي منهم: هاتِ ما سمعته يقول: قال: سمعته يقول كذا وكذا، فحدَّثهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
خبر عروة بن مسعود معه عليه السلام
فقام عُروة بن مسعود فقال: أيْ قوم، ألستم بالولد؟ قالوا: بلى. قال: ألست بالولد؟ قالوا: بلى. قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عُكَاظ، فلما بلَّحوا عليَّ جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني. قالوا: بلى. قال: فإنَّ هذا عرض لكم خُطَّة رشدٍ إقبلوها ودعوني آتيه. فقالوا ائته. فأتاه، فجعل يكلِّم النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحواً من قوله لبُدَيل. فقال عُروة عند ذلك: أيْ محمد، أرأيت إن استأصلتَ أمر قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فإني - والله - لا أرى وجوهاً، وإني لأرى أشواباً من الناس خليقاً أن يفروا وَيَدعُوك. فقال له أبو بكر رضي الله عنه: إمصَصْ بَظْر اللات، أنحنُ نفرُّ عنه وندعه؟ قال: من ذا؟ قال: أبو بكر. قال: أما والذي نفسي بيده، لولا يَدٌ كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك. قال وجعل يكلِّم النبي صلى الله عليه وسلم فكلَّما تكلم أخذ بلحيته - والمغيرة بن شعبة قائم على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر - فكلَّما أهوى عُروة بيده إلى لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف وقال له: أخِّر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع عُروة رأسه فقال: من هذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة فقال: أيْ غُدَر ألست أسعى في غِدْرتك؟ - كان(1/178)
المغيرة بن شعبة صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «أما الإِسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء» - ثم إِنَّ عروة جعل يَرْمُق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينيه. قال - فوالله - ما تنخَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إِلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإِذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوه، وإذا تكلَّم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحدُّون
إليه
النظر تعظيماً له. فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أيْ قوم، والله لقد وفدت على الملوك، وفدت على قيصر وكسرى، والنجاشي، والله إنْ رأيت مَلِكاً قط يعظِّمه أصحابه ما يعظِّم أصحاب محمد محمداً. والله إنْ تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فذلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه، وإذ تكلَّم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحدُّثون النظر إليه تعظيماً له؛ وإنه قد عرض عليكم خُطة رشد فاقبلوها.
خبر رجل من بني كِنانة معه عليه السلام
فقال رجل من بني كِنانة دعوني آتيه. فقالوا: ائته. فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هذا فلان وهو من قوم يعظِّمون البُدْن فابعثوها له» فبُعثت له واستقبله الناس يُلَبُّون. فلما رأى ذلك قال: سبحان الله، ما ينبغي لهؤلاء أن يُصدوا عن البيت فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البُدْن قد قُلِّدَت وأشْعِرَت، فما أرى أن يُصدُّوا عن البيت. فقام رجل منهم - يقال له مِكْرَز بن حفص - فقال: دعوني آتيه. قالوا: ائته، فلما أشرف عليهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هذا مِكْرَز وهو رجل فاجر» ، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فبينما هو يكلمه إِذ جاء سهيل بن عمرو.(1/179)
خبر سُهيل بن عمرو معه عليه السلام وشروط صلح الحديبية
قال مَعْمر: فأخبرني أيوب عن عِكرمة: أنه لما جاء سُهَيل بن عمرو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لقد سُهّل لكم من أمركم» . قال معمر: قال الزُّهْري في حديثه: فجاء سهيل فقال: هاتِ فاكتب بيننا وبينكم كتاباً. فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم» .
فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو؟ ولكن أكتب: باسمك اللهم كما كنت تكتب. فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا باسم الله الرحمن الرحيم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم أكتب: «باسمك اللَّهم» ، ثم قال: «هذا ما قاضَى عليه محمد رسول الله» . فقال سهيل: والله لو كنَّا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن أكتب: محمد بن عبد الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «والله إنِّي لرسول الله وإن كذبتموني، أكتب: محمد بن عبد الله» . - قال الزُهري: وذلك لقوله لا يسألوني خطَّة يعظِّمون فيه حرمت الله إلا أعطيتهم إياها -. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «على أن تُخلُّوا بيننا وبين البيت فنطوف به» . قال سهيل: والله لا تتحدَّث العرب أنا أُخِذنا ضَغْطة، لكنَّ ذلك من العام المقبل، فكتب. فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منَّا رجل وإن كان على دينك إلاَّ رددته إلينا. قال المسلمون: سبحان الله، كيف يُردُّ إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟.
قصة أبي جَنْدل رضي الله عنه
فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جَنْدل بن سهيل بن عمرو رضي الله عنه يرسُف في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين. فقال سهيل: هذا يا محمد - أول من أُقاضيك عليه أن ترده إليّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنَّا لم نَقْصِ الكتاب بَعْدُ» . قال: فوالله إذاً لم أصالحك على شيء أبداً. قال النبي صلى الله عليه وسلم فأجزه لي. قال: ما أنا بمجيزه لك. قال: بلى فافعل. قال: ما أنا بفاعل. قال مِكْرَز: بلى قد أجزناه لك. قال أبو جندل: أي معشر المسلمين، أردُّ إلى المشركين وقد جئت مسلماً؟ ألا تَروْن ما قد لقيت - وكان قد عُذِّب عذاباً شديداً في الله - فقال عمر: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ألست نبي الله(1/180)
حقاً قال: بلى. قلت: ألسنا على الحقِّ وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: فلِم نُعطي الدَّنِيّة في ديننا إذن؟ قال: «إنّي رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري» . قلت: أولستَ كنت تحدِّثنا أنَّا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال «بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟» قال: قلت: لا. قال: «فإنك آتيه ومُطَّوَّفٌ به» . قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر، أليس هذا نبي الله حقّا؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحقِّ وعدونا على الباطل؟ قال: بلى قال قلت: فلِمَ نعطي الدنية في ديننا إِذن؟ قال: أيُّها الرجل، إِنَّه لرسول الله، وليس يعصي ربه، وهو ناصره فاستمسك بغَرْزه، فالله إنَّه على الحق. قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى. أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ فقلت: لا. قال: فإنك آتيه ومُطَّوَّفٌ به. قال عمر: فعملتُ لذلك أعمالاً. قال: فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «قوموا فانحروا ثم احلقوا» . قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات. فلمَّا لم يقم منهم أحد دخل على أمِّ سَلَمة رضي الله عنها، فذكر لها ما لقي من الناس. فقالت أمُّ سلمة: يا نبي الله،
أتحبُّ
ذلك؟ أخرج، ثم لا تكلِّم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بُدْنك وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج فلم يكلِّم أحداً منهم حتى فعل ذلك، نحر بُدْنه، ودعا حالقه فحلقه. فلمَّا رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كان بعضهم يقتل بعضاً غمَّاً. ثم جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا جَآءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَءاتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ ءاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْئَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (الممتحنة: 10) فطلَّق عمر يومئذٍ إمرأتين كانتا له في الشرك، فتزوّج(1/181)
إحداهما معاوية بن أبي سفيان والأخرى صفوان بن أمية.
خبر أبي بصير مع الرجلين اللذين أرسلا في طلبه
ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجاءه أبو بصير رضي الله عنه - رجل من قريش وهو مسلم - فأرسلوا في طلبه رجلَين، فقالوا: العَهْدَ الذي جعلت لنا. فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به حتى بلغا ذا الحُليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم. فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إنِّي لأرى سيفك هذا يا فلان جيداً فاستلّه الآخر فقال: أجل - والله - إنه لجيدٌ، لقد جرّبت به ثم جرّبت. فقال أبو بصير: أرني أنظرْ إليه. فأمكنه منه، فضربه حتى بَرَد، وفرّ الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه: «لقد رأى هذا ذُعْراً» . فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قُتل - والله - صاحبي وإني لمقتول، فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله قد - والله - أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ويْلُ أُمِّهِ مِسْعَر حرب لو كان له أحد» . فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سِيف البحر.
لحوق أبي جندل بأبي بصير واعتراضهما لعير قريش
قال: وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو رضي الله عنه فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة، فوالله ما يسمعون بعِير خرجت؛ لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم. فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده بالله والرّحِمِ لمَّا أرسل إِليهم فمن أتاه فهو آمن. فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليم فأنزل الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ(1/182)
أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْىَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ مّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لّيُدْخِلَ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ مَن يَشَآء لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلّ شَىْء عَلِيماً} (الفتح: 24 - 26) وكانت حمّيتهم أنَّهم لم يقروا أنَّه نبي الله، ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينهم وبين البيت. قال ابن كثير في البداية: هذا سياق فيه زيادات وفوائد حسنة ليست في رواية ابن إسحاق عن الزهري. انتهى. وأخرجه البيهقي أيضاً بطوله.
إرساله صلى الله عليه وسلم عثمان إلى مكة بعد النزول بالحديبية
وأخرج ابن عساكر، وابن أبي شَيْبة عن عُروة رضي الله عنه في نزول النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية قال: وفزعت قريش لنزوله عليهم، وأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم رجلاً من أصحابه، فدعا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليبعثه إليه. فقال: يا رسول الله، إنِّي لألعنهم وليس أحد بمكة من بني كعب يغضب لي إِن أُوذيت، فأرسِلْ عثمان فإنَّ عشيرته بها وإِنهُ يُبَلِّغ لك ما أردت. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان فأرسله إلى قريش، وقال: «أخبرهم أنَّا لم نأتِ لقتال وإنما جئنا عُمَّاراً وأدعهم إلى الإِسلام» . وأمره أن يأتي رجالاً بمكة من المؤمنين وسناءً مؤمنات، فيدخل عليهم ويبشِّرهم بالفتح، ويخبرهم أنَّ الله جلَّ ثناؤه يوكش أنْ يُظْهر دنيه بمكة حتى لا يُستخفى فيها بالإِيمان تثبيتاً يُثبِّته. قال: فانطلق عثمان فمرّ على قريش ببلدح. فقالت قريش: أين؟ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إِليكم لأدعوَكم إلى الله عزّ وجلّ وإلى الإِسلام، ونخبرك أنَّا لم نأتِ لقتال أحد وإنما جئنا عُمَّاراً. فدعاهم عثمان كما أمره صلى الله عليه وسلم فقالوا: قد سمعنا ما تقول فانفُذْ لحاجتك. وقام إليه أبَانُ بن سعيد بن العاص فرحب به وسْرَج فرسه، فحمل عثمانَ على الفرس فأجاره، وردفه أبَانُ حتى جاء مكة.(1/183)
ثم إنَّ قريشاً بعثوا بُدَيل بن ورقاء الخزاعي وأخا بني كنانة ثم جاء عروة بن مسعود الثقفي - فذكر الحديث؛ كما في كنز العمال. وأخرجه أيضاً ابن أبي شيبة من وجه آخر بطوله - عن عروة، كما في كنز العمال أيضاً. وأخرجه البيهقي عن موسى بن عقبة بنحوه.
قول عمر في صلح الحديبية
وأخرج ابن سعد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لقد صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة على صلح وأعطاهم شيئاً، لو أنَّ نبي الله صلى الله عليه وسلم أمَّر عليَّ أميراً فصنع الذي صنع نبيُّ الله ما سمعت ولا أطعت، وكان الذي جعل لهم أنَّ من لحق من الكفَّار بالمسلمين ردُّوه، ومن لحق بالكفَّار لم يردُّوه. كذا في كنز العمال وقال: سنده صحيح.
قول أبي بكر في صلح الحديبية
وأخرج ابن عساكر عن الواقدي قال: كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: ما كان فَتْح أعظم في الإِسلام من فتح الحديبية، ولكن الناس يومئذٍ قَصُرَ رأيهم عمَّا كان بين محمد وربه، والعباد يَعْجَلون والله لا يعجل كعجلة العباد حتى يُبلِغ الأمور ما أراد. لقد نظرتُ إلى سُهيل بن عمرو في حِجّة الوداع قائماً عند المنحر يقرِّب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بُدْنة ورسول الله صلى الله عليه وسلم نحرا بيده، ودعا الحلاق فحلق رأسه؛ وأنظر إلى سهيل يلتقط من شَعَره وأراه يضعه على عينيه، وأذكر إِباءه أن يُقرَّ يوم الحديبية بأن يكتب: بسم الله الرحمن الرحيم يأبى أن يكتب: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمدت الله الذي هداه للإِسلام. كذا(1/184)
في كنز العمال.
قصة إسلام عمرو بن العاص رضي الله عنه
أخرج ابن إسحاق عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: لم انصرفنا يوم الأحزاب عن الخندق جمعت رجالاً من قريش كانوا يرون رأيي ويسمعون مني، فقلت لهم: تعلمون - والله - إِنِّي أرى أمر محمد يعلو الأمور علوّاً منكراً، وإنِّي لقد رأيت أمراً فما تَرَون فيه؟ قالوا: وما رأيت؟ قال: رأيت أن نَلحَق بالنجاشي فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنَّا عند النجاشي، فإنا أن نكون تحت يديه أحبُّ إلينا من أن نكون تحت يدي محمد؛ وإِن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا فلن يأتينا منهم إلا خير. قالوا: إِنَّ هذا لرأي. قلت: فاجمعوا لنا ما نهدي له، فكان أحبَّ ما يُهدى إليه من أرضنا الأَدَمُ، فجمعنا له أدَماً كثيراً ثم خرجنا حتى قدمنا عليه. فوالله إنَّا لعنده إذ جاءه عمرو بن أمية الضَّمْري وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه إِليه في شأن جعفر وأصحابه. قال: فدخل عليه ثم خرج من عنده. قال: فقلت لأصحابي: هذا عمرو بن أمية لو قد دخلت على النجاشي فسألته إِياه فأعطانيه فضربت عنقه، فإذا فعلتُ رأتْ قريش أني قد أجزأت عنها حين قتلتُ رسول محمد. قال: فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصنع. فقال: مرحباً بصديقي هل أهديت لي من بلادك شيئاً قال: قلت: نعم، أيها الملك، قد أهديت لك أدَماً كثيراً. قال ثم قرّبته إليه فأعجبه واشتهاه. ثم قلت له: أيها الملك، إنِّي قد رأيت رجلاً خرج من عندك وهو رسول رجل عدوَ لنا؛ فأعطنيه لأقتله فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا. قال: فغضب، ثم مد يده فضرب بها أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره؛ فلو انشقَّت الأرض لدخلت فيها فَرَقاً. ثم قلت: أيها الملك، والله لو ظننت(1/185)
أنك تكره هذا ما سألتُكَه. قال: أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى فتقتله؟ قال قلت: أيها الملك، أكذاك هو؟ قال: ويحك يا عمرو، أطعني واتَّبعه فإنه - والله - لَعَلى الحقِّ، وليظهرنَّ على من خالفه كما ظهر موسى بن عمران على
فرعون وجنوده. قال: قلت: أفتبايعني له على الإِسلام؟ قال: نعم. فبسط يده فبايعته على الإِسلام. ثم خرجت على أصحابي وقد حال رأيي عما كان عليه وكتمت أصحابي إِسلامي. ثم خرجت عامداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسلم، فلقيت خالد بن الوليد ذلك قبيل الفتح وهو مقبل من مكة. فقلت: أين يا أبا سليمان؟ فقال: والله، لقد استقام المِيسَم، وإنَّ الرجل لنبي، إذهب - والله - أسلم فحتى متى؟ قال: قلت: والله جئت إلا وسلم. قال: فقدمنا المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم فتقدّم، خالد بن الوليد فأسلم وبايع، ثم دنوت فقلت: يا رسول الله، إنِّي أبايعك على أن تغفر لي ما تقدَّم من ذنبي ولا أذكر ما تأخَّر. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا عمرو، بايع فإنَّ الإِسلام يجبُّ ما كان قبله، وإن الهجرة تجبُّ ما كان قبله» . قال: فبايعته ثم انصرفت. كذا في البداية. وأخرجه أيضاً أحمد، والطبراني عن عمرو نحوه - مطوّلاً. قال الهيثمي: ورجالها ثقات. انتهى.
وأخرج البيهقي من طريق الواقدي بأبسط منه وأحسن، وفي حديثه: ثم مضيت حتى إذا كنت بالهدة، فإذا رجلان قد سبقاني بغير كثير يريدان منزلاً،(1/186)
وأحدهما داخل في الخيمة والآخر يمسك الرحلتين. قال: فنظرت فإذا خالد بن الوليد. قال قلت: أين تريد؟ قال: محمداً، دخل الناس في الإِسلام فلم يبقَ أحد به طعم، والله، لو أقمت لأخذ برقابنا كما يؤخذ برقبة الضُّبُع في مغارتها. قلت: وأنا - والله - قد أردت محمداً وأردت الإِسلام. فخرج عثمان بن طلحة فرحَّب بي، فنزلنا جميعاً في المنزل ثم اتفقنا حتى أتينا المدينة، فما أنسَى قول رجل لقيناه ببئر أبي عتبة يصيح: يا رباح، يا رباح، يا رباح فتفاءلنا بقوله وسرَّنا، ثم نظر إلينا فأسمعه يقول: قد أعطت مكة المقادة بعد هذين، وظننت أنه يعنيني ويعني خالد بن الوليد، وولَّى مدبراً إلى المسجد سريعاً. فظننت أنه بشَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومنا، فكان كما ظننت، وأنخنا بالحرَّة فلبسنا من صالح ثيابنا، ثم نُوديَ بالعصر فانطلقنا حتى اطَّلعنا عليه وإِن لوجهه تهللاً والمسلمون حوله قد سُرُّوا بإسلامنا، فتقدَّم خالد بن الوليد فبايع، ثم تقدَّم عثمان بن طلحة فبايع، ثم تقدَّمت، فوالله، ما هو إلا أن جلست بين يديه فما استطعت أن أرفع طَرْفي حياءً منه. قال: فبايعته على أن يغفر لي ما تقدَّم من ذنبي ولم يحضرني ما تأخر. فقال: «إن الإِسلام يجبُّ ما كن قبله، والهجرة تجبّ ما كان قبلها» . قال: فوالله، ما عَدَلَ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخالد بن الوليد أحداً من أصحابه في أمر حَزَبه منذ أسلمنا. كذا في البداية.
قصة إسلام خالد بن الوليد رضي الله عنه
أخرج الواقدي عن خالد رضي الله عنه قال: لمّا أراد الله بي ما أراد من الخير قذف في قلبي الإِسلام وحضرني رُشدي، فقلت: قد شهدت هذه المواطن كلَّها على محمد صلى الله عليه وسلم فليس في موطن أشهده إلا أنصرفُ وأنا أرى في نفسي أني مُوضِعٌ في غير شيء وأنَّ محمداً سيظهره. فلم اخرج رسول(1/187)
الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية خرجت في خيل من المشركين فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه بعُسْفان، فقمت بإزائه وتعرَّضت له. فصلّى بأصحابه الظهر أمامنا فهممنا أن نُغير عليهم ثم لم يُعم لنا - وكانت فيه خِيرة، فاطَّلع على ما في أنفسنا من الهمِّ به. فصلَّى بأصحابه صلاة العصر: صلاة الخوف. فوقع ذلك منَّا موقعاً، وقلت: الرجل ممنوع، فاعتزَلَنا وعَدَل عن سير خيلنا وأخذ ذات اليمين. فلما صالح قريشاً بالحديبية ودافعته قريش بالرواح قلت في نفسي: أيُّ شيء بقي؟ أين أذهب؟: إلى الن جاشي؛ فقد اتبع محمداً وأصحابه عنده آمنون فأخرج إِلى هرقل، فأخرج من ديني إلى نصرانية أو يهودية، فأقيمُ في عجم، أفأقيم في داري بمن بقي؟. فأنا في ذلك إذ دخلت مكّة في عمرة القضيّة، فغيَّبت ولم أشهد دخوله، وكان أخي الوليد بن الوليد قد دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضيّة، فطلبني فلم يجدني، فكتب إِليَّ كتاباً فإذا فيه:
«بسم الله الرحمن الرحيم: أما بعد: فإني لم أرَ أَجب من ذهاب رأيك عن الإِسلام، وعقلك عقلك ومثل الإِسلام جهله أحد؟ وقد سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم عنك، وقال: أين خالد؟ فقلت: يأتي الله به. فقال: «مثله جهل الإِسلام؟ ولو كان جعل نكايته وجِدِّه مع المسلمين كان خيراً له، ولقدّمناه على غيره» فاستدرك يا أخي ما قد فاتك من مواطن صالحة» .
قال: فلما جاءني كتابه نشطت للخروج، وزادني رغبة في الإِسلام، وسرني سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عني، وأرى في النوم كأنِّي في بلاد ضيِّقة مجدبة، فخرجت في بلاد خضراء واسعة، فقلت: إِنَّ هذه لرؤيا. فلما أن قدمت المدينة قلت: وذكرنّها لأبي بكر فقال: مَخْرجُك الذي هداك الله للإِسلام، والضيق الذي كنت فيه من الشرك.(1/188)
قال: فلما أجمعت الخروج إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: من أصاحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيت صفوان بن أُمية، فقلت: يا أبا وَهْب، أما ترى ما نحن فيه؟ إنما نحن كأضراس، وقد ظهر محمد على العرب والعجم. فلو قدمنا على محمد واتبعناه فإنَّ شرف محمد لنا شرف. فأبى أشدَّ الإِباء، فقال: لو لم يبق غيري ما اتبعته أبداً، فافترقنا. وقلت: هذا رجل قُتل أخوه وأبوه ببدر. فلقيت عِكْرمة بن أبي جهل، فقلت له مثل ما قلت لصفوان بن أُمية، فقال لي مثل ما قال صفوان بن أُمية. قلت: فاكتم عليَّ. قال: لا أذكره، فخرجت إلى منزلي فأمرت براحلتين فخرجت بها إلى أن لقيت عثمان بن طلحة. فقلت؛ إنَّ هذا لي صديق فلو ذكرت له ما أرجو. ثم ذكرت من قُتل من آبائه فكرهت أن أذكِّره. ثم قلت: وما عليَّ؟ وأنا راحل من ساعتي. فذكرت له ما صار الأمرُ إليه، فقلت: إنما نحن بمنزلة ثعلب في جحر لو صُبَّ فيه ذَنُوبٌ من ماء لخرج، وقلت له نحواً ممّا قلت لصاحبيَّ، فأسرع الإِجابة. وقلت له: إني غدوت اليوم وأنا أريد أن أغدو وهذه راحلتي بفجِّ مَنَاخة. قال: فاتعدت أنا وهو يأجُجَ إن سبقني أقام وإن سبقته أقمت عليه. قال: فأدلجنا سَحَراً فلم يطلع الفجر حتى التقينا بيأجج. فغدونا حتى انتهينا إلى الهدّة، فنجد عمرو بن العاص بها. قال: مرحباً بالقوم، فقلنا: وبك. فقال إلى أين مسيركم؟ فقلنا: وما أخرجك؟ فقال: وما أخرجكم؟ قلنا: الدخول في الإِسلام واتباع محمد صلى الله عليه وسلم قال: وذاك الذي أقدمني. فاصطحبنا جميعاً
حتى دخلنا المدينة فأنخنا بظهر الحرَّة ركابنا. فأُخبر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسُرَّ بنا. فلبست من صالح ثيابي ثم عمدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيني أخي فقال: أسرع فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُخبر بك(1/189)
فسُرَّ بقدومك وهو ينتظركم. فأسرعنا المشي فاطَّلعت عليه فما زال يتبسَّم إليّ حتى وقفت عليه، فسلمت عليه بالنبوة فرد عليّ السلام بوجه طَلْق. فقلت: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فقال: «تعال» ثم قال صلى الله عليه وسلم «الحمد لله الذي هداك، قد كنت أرى لك عقلاً رجوت أن لا يُسلمك إلا إلى خير» . قلت: يا رسول الله، إنِّي قد رأيتُ ما كنت أشهد من تلك المواطن عليك معانداً للحق، فدعُ الله أن يغفرها لي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الإِسلام يجبّ ما كان قبله» . قلت: يا رسول الله على ذلك. قال: «اللهم إغفر لخالد بن الوليد كل ما أوضع فيه من صدَ عن سبيل الله» . قال خالد: وتقدم عثمان، وعمرو فبايعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وكان قدومنا في صفر سنة ثمان؛ قال: والله ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَعْدِل بي أحداً من أصحابه فيما خَزَبه. كذا في البداية. وأخرجه أيضاً ابن عساكر نحوه - مطولاً، كما في كنز العمال.
قصة فتح مكة زادها الله تشريفاً خروجه عليه السلام لفتح مكة ونزوله بمرِّ الظهران
وأخرج الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستعمل على المدينة أبا رُهْم كلثوم بنَ الحُصين الغِفاري، وخرج لعشر مَضَين من رمضان، فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصام الناس معه، حتى إذا كان بالكُدَيْد - ماء بين عُسْفان وأَمج - أفطر، ثم مضى حتى نزل مَرّ الظهران في عشرة آلاف من المسلمين، لأألف من مُزينة وسُلَيم، وفي كل القبائل عدد(1/190)
وسلاح، وأوعبَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرون والأنصار لم يتخلف منهم أحد.
تجسس رؤساء قريش الأخبار
فلمّا نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ الظهران - وقد عُمِّيتالأخبار على قريش، فلم يأتهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ولم يدروا ما هو فاعل -. خرج في تلك الليلة: أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حِزام، وبُدَيل بن وَرْقاء يتجسَّسُون، وينظرون هل يجدون خبراً أو يسمعون به؟ وقد كان العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه تَلقَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الطريق، وقد كان أبو سفيان بنُ الحارث بن عبد المطَّلب وعبد الله بنُ أبي أُمية بنِ المغيرة قد لقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بين المدينة، ومكة والتمسا الدخول عليه، فكلمته أم سَلَمة فيهما فقالت: يا رسول الله ابن عمك، وابن عمتك وصِهرك.
قال: «لا حاجة لي بهما. أما ابن عمي فهتك عرضي بمكة، وأما ابن عمتي وصِهْري فهو الذي قال لي بمكة ما قال» . فلما خرج إليهما بذلك - ومع أبي سفيان بُنَيٌّ له - فقال: والله لتأذننَّ لي أو لآخذنَّ بيدي بُنَيِّي هذا ثم لنذهبنَّ بالأرض حتى نموت عطشاً وجوعاً، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رقَّ لهما ثم أذن لها فدخلا فأسلما.
ترغيب العباس قريشاً أن يستأمنوه صلى الله عليه وسلم فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمَرِّ الظهران قال العباس: واصباح قريش والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكَّة غَنْوَةً قبل أن يستأمنوه إِنَّه لهلاك قريش آخر(1/191)
الدهر. قال: فجلست على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاءِ فخرجت عليها حتى جئت الأرَاك، فقلت لعلِّي ألقَى بعض الحطَّابة أو صاحب لَبَن أو ذا حاجة يأتي مكة، فيخبرهم بمك ن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستأمنوه قبل أن يدخلها عَنْوَة.
خبر أبي سفيان مع العباس، وعمر رضي الله عنهم
قال: فوالله إني لأسير عليها وألتمس ما خرجت له إِذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول: ما رأيت كاليوم قط نيراناً ولا عسكر قال يقول بديل: هذه والله - نيران خُزاعة حَمَشَتها الحرب. قال يقول أبو سفيان: خزاعة - والله - أذلّ وألأم من أن تكون هذه نيرانَها وعسكرَها. قال: فعرفت صوته فقلت: يا أبا حنظلة، فعرف صوتي فقال: أبو الفضل؟ فقلت: نعم. فقال: مالك - فداك أبي وأمي - فقلت: ويحكم يا أبا سفيان، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، واصباح قريش والله. قال: فما الحيلة - فداك أبي وأمي - قال قلت: لئن ظفر بك ليضرِبَن عنقك، فاركب معي هذه البغلة حتى آتيَ بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأمنَه لك. قال: فركب خلفي ورجع صاحباه وحَرَّكْتُ به. فكلَّما مررتُ بنار من نيران المسلمين قالوا: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: عمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته، حتى مررت بنار عمرَ بنِ الخطاب فقال: من هذا؟ وقام إِليَّ. فلما رأى أبا سفيان على عَجُز البغلة قال: أبو سفيان، عدو الله الحمد لله الذي أمكن الله منك بغير عَقْد ولا عَهْد. ثم خرج يشتدُّ نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وركضت البغلة فسبقته بما تسبق الدابة الرجل البطيء، فاقتحمتُ عن البغلة. فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل عمر فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد، فدَعْني فلأضربْ عنقه. فقلت: يا رسول الله، إِني أجرته، ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: لا والله، لا يناجيه الليلة رجل دوني، قال:(1/192)
فلمَّا أكثر عمر في شأنه قلت: مهلاً يا عمر، أمَا - والله - إن لو كان من رجال بني عديَ بن كعب ما قلت هذا ولكنك عرفت أنَّه من رجال بني عبد مناف. فقال: مهلاً يا عباس والله، لإِسلامك يوم أسلمتَ أحبُّ إليَّ من إسلام
أبي
لو أسلم، وما بي إِلا أني قد عرفت أنَّ إسلامك كان أحبَّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطّاب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذهب به إلى رَحْلك يا عبَّاس، فإذا أصبحت فائتني به» ، فذهبت به إلى رَحْلي فبات عندي. فلما أصبح غدوت به على رسول الله صلى الله عليه وسلم
شهادة أبي سفيان بكمال خلقه عليه السلام ودخوله في الإِسلام
فلمّا رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ويحك يا أبا سفيان، ألم يأنِ لك أن تشهد أن لا إله إلا الله؟» قال: بأبي أنت وأمي، ما أكرمك وأحلمك وأوصلك لقد ظننتُ أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى عني شيئاً. قال: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنِّي رسول الله؟» قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك هذه - والله - كان في لنفس منها شيء حتى الآن. قال العباس: ويحكم يا أبا سفيان، أسلم وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قبل أن يُضرب عُنُقك. قال: فشهد شهادة الحق وأسلم.
الذين جعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنين يوم الفتح
قلت: يا رسول الله، إنَّ أبا سفيان يحب هذا الفخر فاجعل له شيئاً، قال: «نعم. من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن» . فلما ذهب لينصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا عبَّاس، إحبسه بالوادي عند خَطْم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها» . قال فخرجت به حتى حبسته بمضيق الوادي حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحبسه. قال: ومرَّت به القبائل على راياتها فكلَّما مرّت قبيلة قال: من هؤلاء يا عباس فيقول بنو سُلَيم. فيقول: ما لي ولسُلَيم؟ قال: ثم تمر القبيلة فيقول: من(1/193)
هؤلاء؟ فقول: مُزَيْنة. فيقول: ما لي ولمزينة؟ حتى نفدت القبائل - يعني جاوزت - لا تمر قبيلة إلا قال: من هؤلاء؟ فأقول: بنو فلان، فيقول: ما لي ولبني فلان؟ حتى مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخضراء فيها المهاجرون والأنصار لا يُرى منهم سوى الحَدَق قال: سبحان الله من هؤلاء يا عباس؟ قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار. قال: ما لأحد بهؤلاء قِبَل ولا طاقةٌ، - والله - يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابنِ أخيك الغداة عظيماً. قلت: يا أبا سفيان، إنّها النبوّة. قال: فنعم إِذاً. قلت: إلتجىء إلى قومك. قال: فخرج حتى جاءهم صرخ بأعلى صوته: يا قريش، هذا محمد قد جاءكم بما لا قِبَل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. فقامت إليه إمرأته هند بنت عتبة فأخذت بشاربه فقالت: أقتلوا الدَّسِم الأحمش فبئس طليعة قوم. قال: ويحكم، لا تغرَّنَّكُم هذه من أنفسكم فإنه قد جاء بما لا قِبَل لكم به، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. قالوا: ويحك وما تغني عنا دارك؟ قال: ومن أغلق بابه فهو آمن. ومن دخل المسجد فهو آمن. فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد. قال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. انتهى.
صفة دخوله عليه السلام مكة
وأخرجه أيضا
البيهقي بطوله كما في البداية، وأخرجه ابن عساكر أيضاً(1/194)
من طريق الواقدي عن ابن عباس رضي الله عنهما كما في كنز العمال - فذكر نحو ما تقدَّم من رواية الطبراني، وفي سياقه: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس بعدما خرج: «إحبسه بمضيق الوادي إِلى خَطْم الجبل حتى تمرَّ به جنود الله فيراها» قال العباس: فعدلت به في مضيق الوادي إلى خَطْم الجبل، فلمّا حبست أبا سفيان قال: غَدْراً يا بني هاشم؟ فقال العباس: إنَّ أهل النبوّة لا يغدرون، ولكن لي إِليك حاجة. فقال أبو سفيان: فهلا بدأت بها أولاً فقلت: إنَّ لي إليك حاجة فكان أفرغ لروعي. قال العباس: لم أكن أراك تذهب هذا المذهب. وعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، ومرَّت القبائل على قادتها والكتائب على راياتها. فكان أول من قدَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد في بني سُلَيم وهم ألف، فيهم لواء يحمله عباس بن مِرداس، ولواء يحمله خُفَاف بن نُدبة، وراية يحملها الحجّاج بن عِلاط. قال أبو سفيان: من هؤلاء؟ قال العباس: خالد بن الوليد. قال: الغلام، قال: نعم. فلما حاذى خالد بالعباس وإلى جنبه أبو سفيان كبَّرا ثلاثاً ثم مَضَوا، ثم مرَّ على إِثره الزبير بن العوّام في خمس مائة منهم مهاجرون وأفناء الناس ومعه راية سوداء. فلما حاذى أبا سفيان كبَّر ثلاثاً كبَّر أصحابه، فقال: من هذا؟ قال: الزبير بن العوام. قال: ابن أختك، قال: نعم. ومرَّت نفر من غِفار في ثلاث مائة يحمل رايتهم أبو ذرٍ الغفاري ويقال إيماء بن رَحْضَة: فلما حَاذَوه كبَّروا ثلاثاً. قال: يا أبا الفضل، من هؤلاء؟ قال: بنو غِفار. قال: وما لي ولبني غفار. ثم مضت أسْلَم في أربع مائة فيها لواءان: يحمل أحدها بُرَيدة بن الحُصَيب، والآخر ناجِية بن الأعجم: فلما حاذَوْه كبَّرا ثلاثاً. فقال: من هؤلاء؟ قال: أسلم. قال: يا أبا(1/195)
الفضل: ما لي ولأسْلَم. ما كان بيننا وبينها تِرَة قط. قال العباس هم قوم
مسلمون دخلوا في الإِسلام. ثم مرَّت بنو كعب بن عمرو في خمس مائة يحمل رايتهم بِشر بن شيبان. قال: من هؤلاء؟ قال: هم كعب بن عمرو. قال: نعم، هؤلاء حلفاء محمد؛ فلما حاذَوْه كبَّروا ثلاثاً. ثم مرّت مُزَينة في ألف فيها ثلاثة ألوية وفيها مائة فرس، يحمل ألويتها: النعمان بن مقرِّن، وبلال بن الحارث وعبد الله بن عمرو؛ فلما حاذَوه كبَّروا. فقال: من هؤلاء؟ قال: مُزَينة. قال يا أبا الفضل، ما لي ولمُزينة قد جاءتني تقعقع من شواهقها. ثم مرت جُهَينة في ثمان مائة مع قادتها فيها أربعة ألوية: لواء مع أبي زُرعة معْبد بن خالد، ولواء مع سُويد بن صخر، ولواء مع رافع بن مكيث، ولواء مع عبد الله بن بدر؛ فلما حاذَوّه كبَّروا ثلاثاً. ثم مرَّت كِنَانة: بنو ليث، وضمرة، وسعد بن كبر، في مائتين يحمل لواءهم أبو واقد الليثي؛ فلما حاذَوْه كبّروا ثلاثاً. فقال: من هؤلاء؟ قال: بنو بكر. قال: نعم، أهل شؤم والله، هؤلاء الذين غزانا محمد بسببهم، أما - والله - ما شُوِورتُ فيه ولا علمته، ولقد كنت له كارهاً حيث(1/196)
بلغني، لكنه أمر حُمَّ. قال العباس: قد خارَ الله لك في غزوة محمد صلى الله عليه وسلم لكم ودخلتم في الإِسلام كافة.
قال الواقدي: حدثني عبد الله بن عامر عن أبي عمرو بن حماس قال: مرت بنو ليث وحدها وهم مائتان وخمسون يحمل لواءها الصَّعْب بن جُثامة؛ فلما مرَّ كبَّروا ثلاثاً. فقال: من هؤلاء؟ قال: بنو ليث. ثم مرت أشجع وهم آخر من مرَّ وهم في ثلاث مائة معه لواء يحمله مَعْقِل بن سنان، ولواء مع نُعَيم بن مسعود. فقال أبو سفيان: هؤلاء كانوا أشد العرب على محمد صلى الله عليه وسلم فقال العباس: أدخل الله الإِسلامَ قلوبَهم، فهذا من فضل الله. فسكت؛ ثم قال: ما مضى بعد محمد؟ قال العباس: لك يمضِ بعد. لو رأيت الكتيبة التي فيها محمد صلى الله عليه وسلم رأيت الحديد، والخيل، والرجال وما ليس لأحد به طاقة قال: أظن - والله - يا أبا الفضل ومن له بهؤلاء طاقة؟ فلما طلعت كتيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم الخضراء طلع سواد وغبرة من سنابك الخيل وجعل الناس يمرُّون كل ذلك يقول: ما مرَّ محمد؟ فيقول العباس: لا، حتى مرَّ يسير على ناقته القصواء بين أبي بكر وأُسَيد بن خُضَير وهو يحدّثهما. فقال العباس: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار، فيها الرايات والألوية، مع كل بطل من الأنصار راية ولواء في الحديد لا يُرى فيه إلا الحَدَق، ولعمر بن الخطاب فيها زَجَل، عليه الحديد بصوت عالٍ وهو يزَعها، فقال أبو سفيان: يا أبا الفضل، من هذا المتكلم؟ قال: عمر ابن(1/197)
الخطاب، قال: لقد أمِرَ أمْرُ بني عدي بعد - والله - قلّة وذلّة. فقال العباس يا أبا سفيان، إن الله يرفع ما يشاء بما يشاء، وإن عمر ممن رفعه الإِسلام. وقال: في الكتيبة ألفا درع. وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رايته سعد بن عبادة فهو أمام الكتيبة. فلمَّا مرَّ سعد براية النبي صلى الله عليه وسلم نادى أبا سفيان، اليوم يوم الملحمة، اليوم تُستحلُّ الحرمة، اليوم أذلّ الله قريشاً. فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا حاذى بأبي سفيان ناداه:
يا
رسول الله، أمرتَ بقتل قومك؟ زعم سعد ومن معه حين مرَّ بنا، فقال: يا أبا سفيان، اليوم يوم الملحمة، اليوم تُستحلُّ الحرمة، اليوم أذلّ الله قريشاً، وإني أنْشدُكَ الله في قومك، فأنت أبرُّ الناس. قال عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان: يا رسول الله، ما نأمن سعداً أن يكون منه في قريش صَوْلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا أبا سفيان، اليوم يوم المرحمة، اليوم أعزَّ الله فيه قريشاً» . قال: وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد فعزله وجعل اللواء إلى قيس. ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ اللواء لم يخرج من سعد حين صار لابنه، فأبى سعد أن يسلِّم اللواء إلا بالأمارة من النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه بعمامته فعرفها سعد، فدفع اللواء إلى ابنه قيس.
وأخرجه الطبراني عن أبي ليلى رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبا سفيان في الأرَاك فدخلنا فأخذناه، فجعل المسلمون يَحْوُونه بجفون سيوفهم حتى جاؤوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: «ويحك يا أبا سفيان قد جئتكم بالدنيا والآخرة، فأسلموا تسلموا» ، وكان العباس له صديقاً، فقال له العباس رضي الله عنه: يا رسول الله، إن أبا سفيان يحب الصوت.(1/198)
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً ينادي بمكة «من أغلق بابه فهو آمن، من ألقى سلاحه فهو آمن. من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» . ثم بعث معه العباس حتى جلسا على عقبة الثنيّة. فأَقبلت بنو سليم فقال: يا عباس، من هؤلاء؟ قال: هذه بنو سُلَيم. فقال: وما أنا وسُلَيم. ثم أقبل علي بن أبي طالب رضي الله عنه في المهاجرين. ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأنصار فقال: يا عباس، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الموت الأحمر هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأنصار. فقال أبو سفيان: لقد رأيت ملك كسرى، وقيصر فما رأيت مثل ملك ابن أخيك فقال العباس: إنما هي النبوة. قال الهيثمي: رواه الطبراني، وفيه: حر بن الحسن الطّحان وهو ضعيف وقد وُثِّق. انتهى.
وأخرج الطبراني عن عروة رضي الله عنه مرسلاً قال: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في إثني عشر ألفاً: من المهاجرين، والأنصار، وأسْلَم، وغِفار، وجُهينة، وبني سُلَيم، وقادوا الخيول حتى نزلوا بمرِّ الظهران ولم تعلم بهم قريش، وبعثوا بحكيم بن حِزام وأبي سفيان إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: خذ لنا منه جواراً أو آذنوه بالحرب. فخرج أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام فلقيا بُدَيل بن ورقاء فاسْتَصْحَبَاه، حتى إذا كانا بالأراك من مكة - وذلك عشاء - رأوا الفساطيط والعسكر، وسمعوا صهيل الخيل، فراعهم وفزعوا منه وقالوا: هؤلاء بنو كعب حاشتها الحرب. فقال بُديل: هؤلاء أكبر من بني كعب ما بلغ تأليبها هذا، أفتنتجع هوازن أرضنا؟ والله ما نعرف هذا أيضاً، إنَّ هذا لمثل حاج الناس. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث بين يديه خيلاً تقبض العيون، وخزاعة على الطريق لا يتركون أحداً يمضي. فلما دخل أبو سفيان وأصحابه عسكر المسلمين أخذهم الخيل تحت(1/199)
الليل وأتَوا بهم خائفين القتل. فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي سفيان فوجأ في عنقه، والتزمه القوم وخرجوا به ليدخلوه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فخاف القتل - وكان العباس بن عبد المطَّلب رضي الله عنه خالصة له في الجاهلية - فصاح بأعلى صوته: ألا تأمروا لي إلى عباس؟ فأتاه عباس فدفع عنه، وسأل
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبضه إليه ومشى في القوم مكانه. فركب به عباس تحت الليل فسار به في عسكر القوم حتى أبصروه أجمع، وقد كان عمر قد قال لأبي سفيان حين وجأ عنقه: والله لا تدنو من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تموت. فاستغاث بعباس فقال: إني مقتول، فمنعه من الناس أن ينتهبوه. فلما رأى كثرة الناس وطاعتهم قال: لم أرَ كالليلة جمعاً لقوم. فخلَّصه العباس من أيديهم وقال: إِنك مقتول إِن لم تسلم وتشهد أن محمداً رسول الله. فجعل يريد يقول الذي يأمره العباس فلا ينطلق لسانه فبات مع عباس. وأما حَكيم بن حِزَام وبُدَيل بن ورقاء فدخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلما وجعل يستخبرهما عن أهل مكة. فلما نُودي بالصلاة صلاة الصبح تحيَّن القوم، ففزع أبو سفيان فقال: يا عباس، ماذا تريدون؟ قال: هم المسلمون يتيسرون بحضور رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج بن عباس. فلما أبصرهم أبو سفيان قال: يا عباس، أما يأمرهم بشيء إلا فعلوه؟ فقال عباس: لو نهاهم عن الطعام والشراب لأطاعوه. قال عباس: فكلِّمه في قومك هل عنده من عفو عنه. فأتى العباس بأبي سفيان حتى أدخله على النبي صلى الله عليه وسلم فقال عباس: يا رسول الله، هذا أبو سفيان، فقال أبو سفيان: يا محمد، إني قد استنصرت إلهي واستنصرت إلهك، فوالله ما رأيتك إلا قد ظهرت عليّ فلو كان إلهي محقّاً وإِلهك مبطلاً لظهرتُ عليك فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فقال عباس:(1/200)
يا رسول الله، إني أحب أن تأذن لي آتي قومك فأنذرهم ما نزل وأدعوهم إلى الله ورسوله. فأذن له، فقال عباس: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ بيِّن لي من ذلك أماناً يطمئنون إليه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول لهم: من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله فهو آمن. ومن جلس عند الكعبة فوضع سلاحه فهو آمن. ومن أغلق عليه بابه فهو آمن: فقال عباس: يا رسول الله، أبو سفيان
ابن
عمنا وأحبَّ أن يرجع معي، فلو اختصصته بمعروف. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» . فجعل أبو سفيان يستفقه ودار أبي سفيان بأعلى مكة، ومن دخل دار حكيم بن حزام وكف يده فهو آمن، ودار حكيم بأسفل مكة. وحمل النبي صلى الله عليه وسلم عباساً على بغلته البيضاء التي كان أهداها إِليه دِحْية الكلبي رضي الله عنه. فانطلق عباس بأبي سفيان قد أردفه، فلما سار عباس بعث النبي صلى الله عليه وسلم في إثره فقال: أدركوا عباساً فردوه عليّ، وحدَّثهم بالذي خاف عليه، فأدركه الرسول، فكره عباس الرجوع وقال: أيرهب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع أبو سفيان راغباً في قلّة الناس فيكفر بعد إِسلامه؟ فقال: إحبسه فحبسه. فقال أبو سفيان: أغدراً يا بني هاشم؟ فقال عباس: إنا لسنا نغدر، ولكن لي إليك بعض الحاجة. قال: وما هي؟ أقضيها لك. قال: تُفادها حين يقدم عليك خالد بن الوليد، والزبير بن العوام. فوقف عباس بالمضيق دون الأراك من مرّ، وقد وعى أبو سفيان منه حديثه. ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الخيل بعضها على إثر بعض، وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الخيل شطرين: فبعث الزبير، وردفه خيل بالجيش من أسْلَم وغفار وقضاعة. فقال أبو سفيان: رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا يا عباس؟ قال: لا ولكن خالد بن الوليد. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة رضي الله عنه بين يديه في كتيبة الأنصار. فقال: اليوم يوم الملحمة، اليوم تُستحلُّ الحرمة. ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبة الإِيمان: المهاجرين والأنصار. فلما رأى أبو سفيان وجوهاً كثيرة لا يعرفها فقال: يا رسول الله، أكثرت أو اخترت هذه الوجوه على قومك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/201)
«أنت فعلتَ ذلك وقومُك، إنَّ هؤلاء صدّقوني إذ كذبتموني، ونصروني إذ أخرجتموني» - ومع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذٍ الأقرع بن حابس، وعباس بن
مرداس، وعُيينة بن حصن
بن الفَزاري - فلما أبصرهم حول النبي صلى الله عليه وسلم قال: من هؤلاء يا عباس؟ قال: هذه كتيبة النبي صلى الله عليه وسلم ومع هذه الموت الأحمر هؤلاء المهاجرون والأنصار. قال: إمضِ يا عباس، فلم أرَ كاليوم جنوداً قطُّ ولا جماعة. فسار الزبير في الناس حتى وقف بالحَجُون، واندفع خالد حتى دخل من أسفل مكة فلقيه أوباش بني بكر فقاتلوهم، فهزمهم الله عزّ وجلّ، وقُتلوا بالحَزْوَرة حتى دخلوا الدور، وارتفع طائفة منهم على الخيل على الخَنْدَمة، واتبعه المسلمون، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم في أخريات الناس، ونادى منادٍ: من أغلق عليه داره وكف يده فإنه آمن، ونادى أبو سفيان بمكة: أسلموا تسلموا، وكفَّهم الله عزّ وجلّ عن عباس: وأقبلت هند بنت عتبة فأخذت بحلية أبي سفيان ثم نادت: يا آل غالب اقتلوا هذا الشيخ الأحمق. قال: فأرسلي لحيتي، فأقسم بالله إن أنت لم تسلمي لتضربنَّ عنقك. ويلكِ جاء بالحق فادخلي أريكتك، - أحسَبُهُ قال -: واسكتي. قال الهيثمي: رواه الطبراني مرسلاً وفيه: ابن لِهيعة وحديثه حسن وفيه ضعف. انتهى. وأخرجه أيضاً ابن عائذ في مغازي عروة بطوله كما في الفتح، وأخرجه البخاري عن عروة مختصراً؛ والبيهقي كذلك.(1/202)
إسلام سهيل بن عمرو وشهادته بدماثة أخلاقه صلى الله عليه وسلم وأخرج الواقدي، وابن عساكر، وابن سعد عن سهيل بن عمرو رضي الله عنه قال: لمَّا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وظهر اقتحمت بيتي، وأغلقت عليَّ بابي، وأرسلت ابني عبد الله بن سهيل أنِ أطلبْ لي جِواراً من محمد صلى الله عليه وسلم فإني لا آمن أن أُقتل. فذهب عبد الله بن سهيل فقال: يا رسول الله، أبي تُؤمنه؟ قال: نعم، هو آمن بأمان الله فليظهرْ. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن حوله: «من لقي منكم سهيلاً له عقل، وشرف وما مثل سهيل جهل الإِسلام، والقدر أيّ ما كان يوضع فيه إنه لم يكن له بنافع» . فخرج عبد الله إلى أبيه فأخبره بمقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سهيل: كان - والله - براً صغيراً وكبيراً. فكان سهيل يقبل ويدبر، وخرج إلى حُنَين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على شركه حتى أسلم بالجِعْرانة، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ من غنائم حُنَين مائة من الإِبل. كذا في كنز العمال؛ وأخرجه أيضاً الحاكم في المستدرك مثله.
قوله عليه السلام لأهل مكة يوم الفتح
وأخرج ابن عساكر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لمَّا كان يوم الفتح ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة أرسل إلى صفوان بن أمية وإلى أبي سفيان بن حرب وإلى الحارث بن هشام - قال عمر: فقلت: قد أمكن الله منهم لأعرفنَّهم بما صنعوا - حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مَثَلي ومثلكم كما قال يوسف لإِخوته: لا تَثْريبَ عليكم اليومَ، يغفِرُ الله لكم، وهو أرحمُ الراحمينَ» . قال عمر:(1/203)
فافتضحت حياءً من رسول الله صلى الله عليه وسلم كراهية أن يكون بدر مني، وقد قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال: كذا في الكنز.
وعند ابن زنجويه في كتاب الأموال من طريق ابن أبي حسين: قال: لمَّا فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دخل البيت ثم خرح فوضع يده على عضادتي الباب فقال: «ماذا تقولون؟» فقال سهيل بن عمرو: نقول ونظنُّ خيراً، أخ كريم، وابن أخ كريم، وقد قَدْرتَ.
فقال: «أقول كما قال أخي يوسف: لا تَثْريبَ عليكم اليومَ» . كذا في الإِصابة.
وأخرجه البيهقي من طريق القاسم بن سلام بن مسكين عن أبيه، عن ثابت البُنَاني عن عبد الله بن رَبَاح عن أبي هريرة رضي الله عنه - فذكر الحديث، وفيه: قال: ثم أتى الكعبة فأخذ بعضادتي الباب فقال: «ما تقولون؟ وما تظنون؟» قالوا نقول: ابن أخ، وابن عم حليم رحيم. قال: وقالوا ذلك ثلاثاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أقول كما قال يوسف: لا تَثْريبَ عليكم اليومَ، يغفرُ الله لكم، وهو أرحمُ الراحمينَ» . قال: فخرجوا كأنما نُشِروا من القبور، فدخلوا في الإِسلام. قال البيهقي: وفيما حكى الشافعي عن أبي يوسف في هذه القصَّة: أنه قال لم حين اجتمعوا في المسجد: «ما ترون أني صانع بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم، وابن أخ كريم قال: «إذهبوا فأنتم الطلقاء» . انتهى.
قصة إسلام عِكْرمة بن أبي جهل رضي الله عنه أمان عكرمة حين استأمنت له زوجته أم حكيم
أخرج الواقدي وابن عساكر عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال:(1/204)
لمَّا كان يوم الفتح أسلمت أُم حكيم: يا رسول الله، قد هرب عِكْرمة منك إلى اليمن وخاف أن تقتله فآمنْه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هو آمن» . فخرجَتْ في طلبه ومعها غلام لها رومي، فراودها عن نفسها، فجعلت تمنِّيه حتى قدمت على حيّ من عَكّ، فاستعانتهم عليه فأوثقوه رباطاً، وأدركت عِكرمة وقد انتهى إلى ساحل من سواحل تهامة، فركب البحر، فجعل نوتيُّ السفينة يقول له: يخلِص. قال: أي شيء أقول؟ قال: قل لا إله إلا الله. قال عكرمة: ما هربت إلا من هذا، فجاءت أم حكيم على هذا من الأمر فجعلت تليح إليه وتقول: يا ابن عم، جئتك من عند أوصل الناس، وأبرِّ الناس، وخير الناس؛ لا تُهلك نفسك. فوقف له حتى أدركته، فقال: إني قد استأمنت لك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أنت فعلت؟ قالت: نعم. أنا كلمته فآمنك. فرجع معها، وقالت ما لقيتُ من غلامك الرومي؟ وخبَّرته خبره، فقتله عكرمة وهو يومئذٍ لم يسلم.
إسلام عكرمة وشهادته بكمال برِّه عليه السلام
فلما دنا من مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «يأتيكم عِكْرمة بن أبي جهل مؤمناً مهاجراً فلا تسبُّوا أباه، فإنَّ سبَّ الميت يؤذي الحي ولا يبلغ الميت» . قال: وجعل عكرمة يطلب إمرأته يجامعها فتأبى عليه وتقول: إنك كفر أنا مسلمة. فيقول: إِنَّ أمراً منعك مني لأمرٌ كبير. فلم رأى النبي صلى الله عليه وسلم عِكرمة وثب إليه وما على النبي صلى الله عليه وسلم رداء فرحاً بعِكْرمة. ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف بين يديه ومعه زوجتُه متَنَقِّبَة فقال: يا محمد، إنَّ هذه أخبرتني أنك آمنتني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «صَدَقَتْ، فأنت آمن» ، قال عكرمة: فإلامَ تدعو يا محمد؟ قال: «أدعوك إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتؤتيَ الزكاة، وتفعل وتفعل» حتى عدَّ خصال الإِسلام. فقال عكرمة: والله، ما(1/205)
دعوت إلا إلى الحق وأمر حسن جميل، قد كنت - والله - فينا قبل أن تدعو إلى ما دعوت إليه وأنت أصدقنا حديثاً، وأبرُّنا براً. ثم قال عكرمة: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. فسُرَّ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا رسول الله، علِّمني خيرَ شيء أقوله. فقال: تقول: «أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله» . فقال عكرمة: ثم ماذا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول «أشهد الله، وأشهد من حضر أني مسلم مجاهد مهاجر» . فقال عكرمة ذلك.
دعاؤه صلى الله عليه وسلم لعكرمة
فقال رسول الله: «لا تسألني اليوم شيئاً أعطيه أحداً إلا أعطيتُكَه» . قال عكرمة: فإني أسألك أن تستغفر لي كل عداوة عاديتُكَها، أو مسير أوْضَعْتُ فيه، أو مقام لقيتك فيه، أو كلام قلته في وجهك، أو أنت غائب عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللَّهمَّ إغفر له كل عداوة عادانيها، وكل مسير سار فيه إلى موضع يريد بذلك المسير إطفاء نورك، واغفر له ما نال مني من عرض في وجهي أو أنا غائب عنه» . فقال عكرمة: رضيتُ يا رسول الله. ثم قال عكرمة: أما - والله - يا رسول الله لا أدُع نفقة كنت أنفقتها في صدَ عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله، ولا قتالاً كنت أقاتل في صدَ عن سبيل الله إلا أبليت ضعفه في سبيل الله. ثم اجتهد في القتال حتى قُتل شهيداً. فردَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إمرأته بذلك النكاح الأول. قال الواقدي عن رجاله؛ وقال سهيل بن عمرو يوم حُنين: لا يختبرهما محمد وأصحابه. قال يقول له عكرمة: إن هذا ليس يقول إنما الأمر بيد الله وليس إلى محمد من الأمر شيء، إِنْ أُديل عليه اليوم فإنَّ له العاقبة غداً. قال يقول سهيل: والله إنَّ عهدك بخلافه لحديث، قال: يا أبا يزيد، إنَّا كنَّا - والله -(1/206)
نوضع في غير شيء وعقولنا عقولنا، نعبد حجراً لا يضر ولا ينفع. كذا في كنز العمال.
وأخرجه أيضاً الحاكم من حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، ولكنه اقتصر فيه إلى قوله: فلمَّا بلغ باب رسول الله صلى الله عليه وسلم استبشر، ووثب له رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً على رجليه فرحاً بقدومه. ثم أخرج عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال: قال عكرمة بن أبي جهل: لمَّا انتهيت إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا محمد، إِنَّ هذه أخبرتني أنَّك آمنْتني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنت آمن» . فقلت: أشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنت عبد الله ورسوله، وأنت أبرُّ الناس، وأصدق الناس، وأوفى الناس. قال عكرمة: أقول ذلك وإني لمطأطىء رأسي إستحياءً منه، ثم قلت: يا رسول الله، إستغفر لي كل عداوة عاديتكَها، أو مَرْكب أوضعت فيه أُريد فيه إظهار الشرك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللَّهمَّ إغفر لعكرمة كل عداوة عادانيها، أو مَرْكب أوضع فيه ييد أن يصدَّ عن سبيلك» . قلت: يا رسول الله، مُرني بخير ما تعلم فأعلمهُ. قال: «قل: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وتجاهد في سبيله» . ثم قال عكرمة: أما - والله - يا رسول الله، لا أدع نفقة كنت أنفقتها في الصدِّ عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله، ولا قاتلت قتالاً في الصدِّ عن سبيل الله إلا أبليت ضعفه في سبيل الله.
إجتهاد عكرمة في القتال واستشهاده رضي الله عنه
ثم اجتهد في القتال حتى قتل يوم أُجْنَادين شهيداً في خلافة أبي بكر(1/207)
رضي الله عنه. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمله عام حجته على هوازن يُصدِّقها؛ فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعكرمة يومئذٍ بتَبالة. وقد أخرج الطبراني أيضاً عن عروة رضي الله عنه قصَّة إسلامه مختصراً كما في المجمع.
قصة إسلام صفوان بن أمية رضي الله عنه أمان صفوان حين استأمن له عُمَير بن وَهْب
أخرج الواقدي وابن عساكر عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: لما كان يوم الفتح أسلمت إمرأة صفوان بن أُمية - البَغوم بنت المعدَّل من كِنَانة - وأما صفوان بن أُمية فهرب حتى أتى الشِّعْب وجعل يقول لغلامه يَسار - وليس معه غيره -: ويحك، أنظر من ترى؟ قال: هذا عمير بن وَهْب قال صفوان: ما أصنع بعمير؟ والله، ما جاء إلا يريد قتلي، قد ظاهر محمداً عليّ، فلحقه فقال: يا عمير، ما كفاك ما صنعت بي؟ حمَّلْتني دَيْنك، وعيالك، ثم جئت تريد قتلي قال: أبا وَهْب، جُعِلتُ فداك، جئتك من عند أبرِّ الناس وأوصل الناس، وقد كان عُمَير قال: لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله، سيد قومي خرج هارباً ليقذف نفسه في البحر وخاف أن لا تؤمِّنه، فآمنْه فداك أبي وأمِّي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قد آمنته» فخرج في أثره فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد آمنك.(1/208)
إرساله صلى الله عليه وسلم عمامته إلى صفوان علامة أمنه
فقال صفوان: لا والله لا أرجع معك حتى تأتيني بعلامة أعرفها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خُذْ عِمامتي» ، فرجع عمير إليه بها وهو البُرد الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ معتجراً به بُرْد حِبرَة. فخرج عمير في طلبه الثانية حتى جاء بالبُرْد فقال: أبا وَهْب، جئتك من عند خير الناس، وأوصل الناس، وأبرِّ الناس، وأحلم الناس. مجده مجدك وعزُّه عزك، وملكه ملكك، ابن أمك وأبيك وأُذكِّرُكَ الله في نفسك. قال له: أخاف أنْ أُقتل. قال: قد دعاك إلى أن تدخل في الإِسلام، فإن يَسرُّكَ، وإلا سيَّرك شهرين، فهو أوفى الناس وأبرهم وقد بعث إليك ببُرْده الذي دخل به مُعتَجراً، فعرفه. قال: نعم. فأخرجه فقال: نعم، هو، هو. فرجع صفوان حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي بالناس العصر في المسجد، فوقفا. فقال صفوان: كم يصلُّون في اليوم والليلة؟ قال: خمس صلوات. قال: يصلِّي بهم محمد؟ قال: نعم. فلما سلَّم صاح صفوان: يا محمد، إنَّ عُمَير بن وَهْب جاءني ببُرْدك وزعم أنك دعوتني إلى القدوم عليك، فإن رضيتُ أمراً وإلا سيَّرتني شهرين؟ قال: «إنزل أبا وَهْب» . قال: لا والله حتى تُبيِّن لي. قال: «بل لك تسيّر أربعة أشهر» ، فنزل صفوان.
خروج صفوان معه عليه السلام إلى هوازن وإسلامه
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل هوازن وخرج؛ معه صفوان وهو كافر، وأرسل إليه يستعيره سلاحَه فأعاره سلاحه مائة درع بأداتها. فقال صفوان طوْعاً أو كَرْهاً؟. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عارية رادَّة فأعاره، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فحملها إلى حنين فشهد حنيناً والطائف، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى(1/209)
الجَعرَّانة. فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في الغنائم ينظر إليها - ومعه صفوان بن أمية - فجعل صفوان بن أمية - فجعل صفوان بن أمية ينظر إلى شِعْب ملاء نَعَماً وشاءً ورِعاء، فأدام النظر إِليه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرمقه فقال: «أبا وَهْب، يعجبك هذه الشِّعْب؟» قال: نعم. قال: «هُو لك وما فيه» . فقال صفوان عند ذلك: ما طابت نفسُ أحد بمثل هذا إلا نفس نبي؛ أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله. وأسلم مكانه. كذا في الكنز. وأخرجه ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة عن عائشة رضي الله عنها مختصراً؛ كما في البداية.
وأخرج الإِمام أحد عن أمية بن صفوان بن أمية عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار منه يوم حنين أدراعاً، فقال: أغَصْباً يا محمد؟ قال: «بل عارية مضمونة» قال: فضاع بعضها، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ يضمنها له. قال: أنا اليوم - يا رسول الله - في الإِسلام أَرْغَبُ. انتهى.
قصة إسلام حُوَيطب بن عبد العزى رضي الله عنه دعوة أبي ذر لحويطب ودخوله في الإِسلام
أخرج الحاكم عن المنذر بن جَهْم قال: قال حوَيطب بن عبد العُزَّى: لمَّا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح خفت خوفاً شديداً، فخرجت من بيتي(1/210)
وفرَّقت عيالي في مواضع يأمنون فيها، فانتهيت إلى حائط عوف فكنت فيه، فإذنا أنا بأبي ذرَ الغفاري وكانت بيني وبينه خُلَّة - والخُلة أبداً مانعةٌ - فلما رأيت هربت منه. فقال: أبا محمد، فقلت: لبيك، قال: ما لك؟ قلت: الخوف، قال: لا خوف عليك، أنت آمن بأمان الله عزّ وجلّ. فرجعت إليه فسلَّمت عليه، فقال: إذهب إلى منزلك، قلت: هل لي سبيل إلى منزلي؟ والله ما أُراني أصل إلى بيتي حيّاً حتى أُلفى فأقتلع أو يُدخل عليَّ منزلي فأُقتل، وإنَّ عيالي لفي مواضع شتى. قال: فاجمع عيالك في موضع وأنا أبلغ مك إلى منزلك، فبلغ معي وحعل ينادي عليَّ: إنَّ حويطباً آمن فلا يُهج. ثم انصرف أبو ذرَ رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: أَوليس قد أمن الناسُ كلهم إلا من أمرت بقتلهم؟ قال: فاطمأننتُ ورددتُ عيالي إلى منازلهم وعاد إليَّ أبو ذرَ، فقال لي: يا أبا محمد، حتى متى؟ وإلى متى؟ قد سُبقت في المواطن كلِّها، وفاتك خير كثير وبقي خير كثير، فأْتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم تسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أبرُّ الناس، وأوصل الناس، وأحلم الناس، شرفه شرفك، وعزُّه عزك. قال قلت: فأن أخرج معك فآتيه، فخرجت معه حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبطحاء وعنده أبو بكر، وعمر، فوقفت على رأسه وسألت أبا ذر: كيف يقال إِذا سُلِّم عليه؟ قال: قل: السلام عليك أيُّها النبيُّ ورحمة الله وبركاته، فقلتها، فقال: «وعليك السلام حُوَيطب» . فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنَّك رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الحمد لله الذي هداك» . قال: وسُرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامي، واستقرضني مالاً فأقرضته أربعين ألف درهم، وشهدت معه حُنَيناً
والطائف
وأعطاني من غنائم حُنَين مائة بعير.
وأخرجه أيضاً بن سعد في الطبقات من طريق المنذر بن جَهْم وغيره عن حويطب نحوه؛ كما في الإِصابة. وأخرج الحاكم أيضاً عن إبراهيم بن جعفر(1/211)
بن محمود بن محمد بن سلمة الأشهلي عن أبيه - فذكر الحديث، وفيه: ثم قال حويطب: ما كان في قريش أحد من كبرائها الذين بَقُوا على دين قومهم إلى أن فُتحت مكة أكرهَ لما فتحت عليه مني، ولكنَّ المقادير.. ولقد شهدت بدراً مع المشركين فرأيت عِبَراً، فرأيت الملائكة تقتل وتأسر بين السماء والأرض، فقلت: هذا رجل ممنوع، ولم أذكر ما رأيت لأحدٍ، فانهزمنا راجعين إلى مكة، فأقمنا بمكَّة وقريش تُسلم رجلاً رجلاً. فلمَّا كان يوم الحديبية حضرت وشهدت الصلح ومشيت فيه حتى تمَّ، وكل ذلك يزيد الإِسلامَ ويأبى الله عزّ وجلّ إلا ما يريد. فلما كتبنا صلح الحديبية كنت آخر شهوده، وقلت: لا ترى قريش من محمد إلا ما يسؤوها، قد رضيت إن دافعته بالرماح. ولمَّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرة القضاء وخرجت قريش من مكة، كنت فيمن تخلَّف بمكة أنا وسهيل بن عمرو لأن نُخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ مضى الوقت، فلما انقضت الثلاث أقبلتُ أنا وسُهيل بن عمرو فقلنا: قد مضى شرطُك فأخرج من بلدنا، فصاح: «يا بلال لا تَغِبِ الشمس وواحدٌ من المسلمين بمكة ممَّن قد معنا» .
قصة إسلام الحارث بن هشام رضي الله عنه
أخرج الحاكم عن عبد الله بن عكرمة قال: لما كان يوم الفتح دخل الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي ربيعة على أمِّ هانىء بنت أبي طالب رضي الله عنها فاستجارا بها، فقالا: نحن في جوارك، فأجارتهما. فدخل عليهما علي بن أبي طالب فنظر إليها، فشهر عليها السيف، فتفلَّت عليهما، واعتنقتْه وقالت: تصنع بي هذا من بين الناس؟ لَتَبدأنَّ بي قبلها. فقال: تُجيرين المشركين، فخرج. قالت أمُّ هانىء فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت؛ يا رسول الله، ما لقيت من ابن أمي عليَ؟ ما كدت أفلت منه أجرت حَمَوَين لي من المشركين فانفلت عليهما ليقتلهما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما كان ذلك له، قد(1/212)
أجرنا من أجرتِ، وآمنَّا من آمنتِ» . فرجعت إليهما فأخبرتهما فانصرفا إلى منازلهما. فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي ربيعة جالسان في ناديهما متنضِّلين في المِلاء المزعفرة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا سبيل إليهما قد أمنَّاهما» . قال الحارث بن هشام: وجعلت أستحيي أن يراني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذكر رؤيته إياي في كل موطن من المشركين، ثم أذكر برَّه ورحمته فألقاه وهو داخل المسجد فتلقَّاني بالبشر، ووقف حتى جئته فسلَّمت عليه وشهدت شهادة الحق. فقال: «الحمد لله الذي هداك، ما كان مثلك يجهل الإِسلام» . قال الحارث: فوالله ما رأيت مثل الإِسلام جُهِلَ.
قصة إسلام النضير بن الحارث العبدري رضي الله عنه
أخرج الواقدي عن إبراهيم بن محمد بن شُرحبيل العبدري عن أبيه قال: كان النُضير بن الحارث من أعلم الناس، وكان يقول: الحمد لله الذي أكرمنا بالإِسلام، ومنَّ علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم لم نَمُتْ على ما مات عليه الآباء، لقد كنت أوضعُ مع قريش في كل وجهة، حتى كان عام الفتح وخرج إلى حنين، فخرجنا معه ونحن نريد إِن كانت دَبْرة على محمد أن نُعين عليه فلم يمكنّا ذلك. فلما صار بالجِعرَّانة فوالله إني لعلَى ما أنا عليه إنْ شعرتُ إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم تلقَّاني بفرحة، فقال: «النضير؟» قلت: لبيك. قال: «هذا خيرٌ ممَّا أردت يوم حنين» قال: فأقبلت إليه سريعاً فقال: «قد آن لك أن تبصر ما أنت فيه» . فقلت: قد أرى فقال: «اللهم زده ثباتاً» قال: فوالذي بعثه بالحق لكان قلبي حجراً ثباتاً في الدين ونصرة في الحق. ثم رجعت إلى منزلي فلم أشعر إِلا برجل من بني الدُّؤَل يقول: يا أبا الحارث قد أمر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم بمائة بعير، فأجِزْ لي منها فإنَّ عليَّ ديناً قال: فأردت أن لا آخذها وقلت: ما هذا منه إِلا تألُّف، ما أُريد أن أرتشي على الإِسلام، ثم قلت: والله ما طلبتها ولا سألتها،(1/213)
فقبضتها وأعطيت الدُّؤَلي منها عشراً. كذا في الإِصابة.
قصة إسلام ثقيف أهل الطائف إنصرافه صلى الله عليه وسلم عن ثقيف وإسلام عروة بن مسعود
ذكر ابن إسحق أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف عن ثقيف اتَّبع أثره عروة بن مسعود حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة، فأسلم وسأله أن يرجع إلى قومه بالإِسلام. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنَّهم قاتلوك» - وعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ فيهم نخوة الامتناع للذي كان منهم - فقال عروة: يا رسول الله، أنا أحب إليهم من أبكارهم، وكان فيهم كذلك محبَّباً مطاعاً.
دعوة عروة لقومه إلى الإِسلام واستشهاده في الله
فخرج يدعو قومه إلى الإِسلام رجاء أن لا يخالفوه بمنزلته فيهم، فلما أشرف على عُلِّيَّة له - وقد دعاهم إلى الإِسلام وأظهر لهم دينه - رمَوْه بالنبل من كل وجه، فأصابه سهم فقتله. فقيل لعروة ما ترى في دمك؟ قال: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إليَّ. فليس فيَّ إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يرتحل عنكم، فادفنوني معهم، فدفنوه معهم. فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه: «إن مَثَلَهُ في قومه كمثل صاحب ياسين في قومه» .
إرسال ثقيف عبد يا ليل بن عمرو وفداً إليه عليه السلام وخبرهم معه
ثم أقامت ثقيف بعد قتل عرة أشهراً، ثم إنَّهم ائتمروا بينهم ورأوا أنه(1/214)
لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب وقد بايعوا وأسلموا، ثم أجمعوا على أن يرسلوا رجلاً منهم، فأرسلوا عبد يا ليل بن عمرو ومعه إثنان من الأحلاف وثلاثة من بني مالك. فلما دنَوا من المدينة ونزلوا قناة ألفَوا المغيرة بن شعبة يرعى في نَوْبته ركاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمَّا رآهم ذهب يشتدُّ ليبشِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومهم، فلقيه أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه، فأخبره عن ركب ثقيف أن قدموا يريدون البَيْعة والإِسلام إن شرط لهم رسول الله شروطاً، ويكتبوا كتاباً إلى قومهم. فقال أبو بكر للمغيرة: أقسمتُ عليك لا تسبقني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أكون أنا أحدّثه، ففعل المغيرة، فدخل أبو بكر فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومه. ثم خرج المغيرة إلى أصحابه فروَّح الظَّهر معه، وعلمهم كيف يُحيُّون رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفعلوا إلا بتحية الجاهلية. ولمَّا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ضربت عليه قُبة في المسجد، وكان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان إِذا جاءهم بطعام من عنده لم يأكلوا منه حتى يأكل خالد بن سعيد قبلهم، وهو الذي كتب لهم كتابه. قال: وكان ممّا اشترطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدع لهم الطاغية ثلاث سنين. فما برحوا يسألونه سنة سنة ويأبى عليه، حتى سألوه شهراً واحداً بعد مقدمهم ليتألَّفوا سفهاءه، فأبى عليهم أن يدعها شيئاً مسمَّى؛ إلا أن يبعث معهم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة ليهدماها، وسأله مع ذلك أن لا يصلُّوا وأن لا يكسروا أصنامهم بأيديهم. فقال: «أما كسر أصنامكم بأيديكم فسنُعفيكم، وأما الصلاة فلا خير في دين لا صلاة فيه» . فقالوا: سنؤتيكها وإن كانت دناءة.
وقد أخرج أحمد عن عثمان بن أبي العاص أن وفد ثقيف قدموا على(1/215)
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزلهم المسجد ليكون أرقَّ لقلوبهم، فاشترطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يحشروا ولا يعشّروا، ولا يُجبَوا، ولا يستعمل عليهم غيرهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لكم أنْ لا تُحشروا، ولا تجبوا، ولا يستعمل عليكم غيركم، ولا خير في دين لا ركوع فيه» . وقال عثمان بن أبي العاص: يا رسول الله، علِّمني القرآن واجعلني إمام قومي. وقد رواه أبو داود أيضاً.
وأخرج أبو داود أيضاً عن وَهْب سألت جابراً رضي الله عنه عن شأن ثقيف إذ بايعتْ، قال: اشترطتْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا صدقة عليها ولا جهاد، وأنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعد ذلك: «سيتصدَّقون ويجاهدون إذا أسلموا» - انتهى من البداية مختصراً.
وأخرج أحمد وأبو داود، وابن ماجه عن أوس بن حذيفة رضي الله عنه قال: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد ثقيف، قال: فنزلت الأحلاف على المغير بن شعبة رضي الله عنه، وأنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بني مالك في قبة له، كل ليلة يأتينا بعد العشاء يحدِّثنا قائماً على رجليه حتى يراوح بين رجليه من طول القيام. فأكثر ما يحدثنا ما لقي من قومه من قريش، ثم يقول: «لا آسى، وكنَّا مستضعفين مستذلِّين بمكة. فلما خرجنا إلى المدينة كانت سجال الحرب بيننا وبينهم نُدال عليهم ويُدالون علينا» فلما كا نت ليلة أبطأ عنا الوقت(1/216)
الذي كان يأتينا فيه فقلنا: لقد أبطأت علينا الليلة؟ فقال: «إنه طرأ على جزئي من القرآن فكرهت أن أجيء حتى أُتِمَّه» كذا في البداية، وأخرجه ابن سعد عن أوس رضي الله عنه بنحوه.
دعوة الصحابة رضي الله عنهم للأفراد والأشخاص دعوة أبي بكر الصديق رضي الله عنه
قال ابن إِسحاق: فلمَّا أسلم أبو بكر رضي الله عنه وأظهر إِسلامه دعا إلى الله عزّ وجلّ، وكان أبو بكر رجلاً مأْلَفاً لقومه ومحبَّباً سَهْلاً، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بما كان فيها من خير وشر. وكان رجلاً تاجراً ذا خُلُق ومعروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر: لعله، وتجارته، وحسن مجالسته. فجعل يدعو إلى الله وإلى الإِسلام من وثق به من قومه ممَّن يَغْشاه ويجلس إِليه. فأسلم على يديه فيما بلغني: الزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنهم، فانطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعهم أبو بكر فعرض عليهم الإِسلام، وقرأ عليهم القرآن، وأنبأهم بحقِّ الإِسلام فآمنوا، وكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا في الإِسلام صدّقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا بما جاء من عند الله، كذا في البداية.(1/217)
دعوة عمر بن الخطاب رضي الله عنه
أخرج ابن سعد عن أستق قال: كنت مملوكاً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وأنا نصراني. فكان يعرض عليَّ الإِسلام ويقول: إِنَّك إن أسلمت إستعنت بك على أمانتي، فإنه لا يحلُّ لي أن أستعين بك على أمانة المسلمين ولست على دينهم، فأبيت عليه، فقال: لا إِكراه في الدين. فلما حضرته الوفاة، أعتقني وأنا نصراني، وقال: إذهب حيث شئت. وأخرجه أيضاً سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم بنحوه مختصراً. كذا في الكنز وأخرجه أبو نعيم في الحلية عن وسق الرومي مثله، إلا أنّ في روايته: على أمانة المسلمين فإنه لا ينبغي لي أن أستعين على أمانتهم بمن ليس منهم.
وأخرج الدارقطني، وابن عساكر عن أسلم قال: لمَّا كنَّا بالشام أتيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه بماء توضأ منه. فقال: من أين جئت بهذا الماء؟ فما رأيت ماء عذباً ولا ماء السماء أطيب منه. قلت: جئت به من بيت هذه العجوز النصرانية. فلما توضأ أتاها فقال: أيتها العجوز، أسلمي، بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، فكشفت عن رأسها فإذا مثل الثغامة، فقالت: عجوز كبيرة وإنما أموت الآن. فقال عمر: اللَّهم أشهد. كذا في الكنز.(1/218)
دعوة مصعب بن عمير رضي الله عنه دعوة مصعب لأسيد بن حُضَير وإسلامه
أخرج ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وغيره أن أسعد بن زُرارة خرج بمصعب بن عمير يريد به دار بني ظَفَر - وكان سعد بن معاذ ابنَ خالة أسعد بن زرارة - فدخل به حائطاً من حوائط بني ظَفَر على بئر يقال له بئر مَرَق. فجلسا في الحائط واجتمع إليهما رجال ممَّن أسلم - وسعد بن معاذ وأُسَيد بن حُضَير يومئذٍ سيِّدا قومهما من بني عبد الأشهل وكلاهما مشرك على دين قومه - فلمَّا سمعا به قال سعد لأُسَيد: لا أبا لك، انطلق إلى هذين الرجلين اللَّذين قد أتيا دارَيْنا ليسفِّها ضعفاءنا فازجرهما وانهَهُما أن يأتيا دارَيْنا، فإنَّه لولا أسعد بنت زرارة مني حيث قد علمت كفيتُك ذلك، هو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدَّماً. قال: فأخذ أسيد بن حُضَير حربته ثم أقبل إليهما. فلمَّا رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب: هذا سيِّد قومه وقد جاءك فأصدق الله فيه. قال مصعب: إن يجلس أكلمه. قال فوقف عليهما مُتَشَتِّماً فقال: ما جاء بكما إلينا تسفِّهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة. فقال له مصعب: أوَ تجلس فتسمع، فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهتَه كُفّ عنك ما تكره. قال: أنصفتَ، قل ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلَّمه مصعب بالإِسلام، وقرأ عليه القرآن. فقالا فيما يُذكر عنهما: والله لَعَرفنا في وجهه الإِسلام قبل أن يتكلَّم في إشراقه وتسهُّل، ثم قال؛ ما أحسن هذا وأجمله كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل فتطَّهَّر وتُطهِّر ثوبَيْك، ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلِّي. فقام فاغتسل وطهَّر ثوبيه وتشهَّد شهادة الحق ثم قام فركع ركعتين ثم قال لهما: إنَّ(1/219)
ورائي رجلاً إن اتَّبَعكما لم يتخلَّف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن: سعدَ بن معاذ.
دعوة مصعب لسعد بن معاذ وإسلامه
ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلاً قال: أحلف بالله لقد جاءكم أُسَيْد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم. فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلَّمت الرجلين، فوالله مارأيت بهما بأساً، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حُدِّثت أنَّ بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم عرفوا أنَّه ابن خالتك ليَحْقِروك. قال: فقام سعد بن معاذُ مُغْضَباً مبادراً تَخوُّفاً للذي ذُكر له من بني حارثة، وأخذ الحربة في يده ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئاً. ثم خرج إليهما سعد فلما رآها مطمئنين عرف أن أسَيْداً إنما أراد أن يسمع منهما، فوقف مُتَشَمِّتاً، ثم قال لأسعد بن زرارة: يا أبا أُمامة أمَا والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رُمْتَ هذا منِّي، أتَغْشانا في دارنا بما نكره؟ قال: وقد قال أسعد لمصعب: أيْ مصعب جاءك - والله - سيِّدُ مَنْ وراءَه من قومه، إِن يتبعك لا يتخلَّف عنك منهم إثنان - قال فقال له مصعب: أوَ تقعد فتسمع، فإن رضيت أمراً ورغبت فيه قَبلْتَه، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره؟؟ قال سعد: أنصفت. ثم ركز الحربة وجلس، فعرض عليه الإِسلام، وقرأ عليه القرآن - وذكر موسى بن عقبة أنَّه قرأ عليه أول الزخرف -، قالا: فعرفنا - والله - في وجهه الإِسلام قبل أن يتكلَّم في إشراقه وتسهُّله، ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل فتطَّهَّر، وتُطَهِّر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلِّي ركعتين. قال: فقام فاغتسل وطهَّر ثوبيه وشهد شهادة الحق، ثم ركع ركعتين، ثم أخذ حربته فأقبل عائداً إلى نادي قومه ومعهم أُسَيْد بن حضير.(1/220)
دعوة سعد بن معاذ لبني عبد الأشهل وخبر إسلامهم
فلمَّا رآه قومه مقبلاً قالوا؛ نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم. فلمَّا وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل: كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأياً وأيمننا نقيبة. قال: فإنَّ كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، قال: فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا إمرأة إلا مسلماً أو مسلمة. ورجع أسعد ومصعب إلى منزل أسعد بن زُرارة فأقام عنده يدعو الناس إلى الإِسلام، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون؛ إلا ما كان من دار بني أُمية بن زيد، وخَطْمة؛ ووائل، وواقف، وتلك أوس. كذا في البداية.
وأخرجه الطبراني أيضاً وأبو نُعَيم في دلائل النبوة عن عروة مطوَّلاً - فذكر عرضه صلى الله عليه وسلم الدعوة على الأنصار وإِيمانهم بذلك ما سيأتي في ابتداء أمر الأنصار؛ ثم ذكر دعوتهم قومهم سراً وطلبهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث مَن يدعو الناس؛ فبعث إليهم مُصعَباً كما تقدم في: - إِرساله صلى الله عليه وسلم الأفراد للدعوة إلى الله وإلى رسوله (ص 116) - ثم قال: ثم إِنَّ سعد بن زُرارة أقبل هو ومصعب بن عمير حتى أتيا بئر مَرَق أو قريباً منها. فجلسوا هنالك وبعثوا إلى رَهْط من أهل الأرض فأتَوهم مستخفين، فبينما مصعب بن عمير يحدِّثهم ويقصُّ عليهم القرآن أُخبر بهم سعدُ بن معاذ، فأتاهم في لأمته ومعه الرمح حتى وقف عليه. فقال: علامَ يأتينا في دورنا بهذا الوحيد الفريد الطريح الغريب، يسفّه ضعفاءنا بالباطل(1/221)
ويدعوهم، لا أراكما بعد هذا بشيء من جوارنا. فرجعوا، ثم إِنهم عادوا الثانية ببئر مَرَق أو قريباً منها، فأُخبر بهم سعدُ بن معاذ الثانية؛ فواعدهم بوعيد دون الوعيد الأول. فلما رأى أسعد منه ليناً قال: يا ابن خالة أسمع من قوله، فإن سمعت منه منكراً فاردده يا هذا منه، وإن سمعت خيراً فأجب الله. فقال: ماذا يقول؟ فقرأ عليهم مصعب بن عمير: {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءاناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (الزخرف: 1 - 3) . فقال سعد: وما أسمع إلا ما أعرف. فرجع وقد هداه الله تعالى ولم يُظهر أمر الإِسلام حتى رجع. فرجع إلى قومه، فدعا بني عبد الأشهل إلى الإِسلام وأظهر إسلامه. وقال فيه: من شَكَّ من صغير أو كبير أو ذكر أو أنثى فليأتنا بأهدى منه نأخذ به. فالله لقد جاء أمر لتُحزَّنَّ فيه الرقاب. فأسلمت بنو عبد الأشهل عند إسلام سعد ودعائه إلا من لا يُذكر. فكانت أول دور من دور الأنصار أسلمت بأسرْها - فذكر الحديث كما تقدم في إرساله صلى الله عليه وسلم الأفراد للدعوة إلى
الله
وإلى رسوله (ص 116) وفي آخره؛ ورجع مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أي إلى مكة.
دعوة طليب بن عمير رضي الله عنه دعوة طليب لأمه أروى بنت عبد المطلب
أخرج الواقدي عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التَّيْمي قال: لمَّا أسلم طُليب بن عمير رضي الله عنه ودخل على أمِّه أَرْوى بنت عبد المطلب قال لها: قد أسلمت وتبعت محمداً صلى الله عليه وسلم ـ وذكر الخبر وفيه أنَّه قال لها: ما يمنعك أن تُسلمي وتتَّبعيه؟ فقد أسلم أخوك حمزة، فقالت: أنتظِرُ ما تصنع(1/222)
أخواتي؟ ثم أكون إحداهنَّ. قال فقلت فإني أسألك بالله إلا أتيته وسلَّمتِ عليه، وصدَّقته، وشهدت أن لا إله إلا الله وأشهد أنَّ محمداً رسول الله. ثم كانت بعد تعضد النبي صلى الله عليه وسلم بلسانها تحضَّ ابنها على نصرته والقيام بأمره. كذا في الإستيعاب. وأخرجه العُقَيلي من طريق الواقدي بمثله كما في الإِصابة. وأخرجه الحاكم في المستدرك من طريق إسحاق بن محمد الفروي عن موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التَّيْمي عن أبيه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: أسلم طُليب بن عمير رضي الله عنه في دار الأرقم، ثم خرج فدخل على أمه وهي أرْوى بنت عبد المطلب. فقال: تبعتُ محمداً وأسلمت لله ربِّ العالمين جلَّ ذكره. فقالت أمه: إنَّ أحقَّ من وازرت ومن عاضدت ابنُ خالك. والله لو كنَّا نقدر على ما يقدر عليه الرجال لتبعناه ولذَبَبْنا عنه. قال فقلت: يا أُماه وما يمنعك؟ فذكر مثلما تقدَّم.
وأخرجه ابن سعد في الطبقات عن محمد بن إبراهيم التَّيْمي عن أبيه بمثله. قال الحاكم: صحيح غريب على شرط البخاري ولم يخرِّجاه وتعقبه الحافظ في الإِصابة فقال: وليس كما قال، فإن موسى ضعيف، ورواية أبي سَلَمة عنه مرسلة وهي قوله: قال: فقلت يا أماه - إلى آخره. انتهى.(1/223)
دعوة عُمَير بن وهب الجمحي وقصة إسلامه خبر عُمَير بن وَهْب مع صفوان بن أمية
أخرج ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال: جلس عُمير بن وَهْب الجُمْحي مع صَفوان بن أمية في الحِجْر بعد مصاب أهل بدر بيَسير - وكان عمير بن وَهب شيطاناً من شياطين قريش، وممَّن كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويلقَون منه عناءً وهو بمكة وكان ابنه وَهْب بن عُمير في أسارى بدر - فذكر أصحاب القَليب ومُصابهم. فقال صَفوان: والله ما إنْ في العيش بعدهم خير. قال له عمير: صدقتَ، أما - والله - لولا دَيْنٌ عليَّ ليس عندي قضاؤه وعيالٌ أخشَى عليهم الضَّيْعة بعدي لركبتُ إلى محمد حتى أقتله، فإنَّ لي فيهم عِلَّة ابني أسيرٌ في أيديهم. قال: فاغتنمها صفوان بن أمية: فقال: عليَّ دَيْنك أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقُوا لا يَسَعني شيء ويعجز عنه. فقال له عمير: فاكتم عليَّ شأني وشأنك. قال: سأفعل. قال: ثم أمر عمير بسيفه فشُحِذ له وسُمَّ، ثم انطلق حتى قدم المدينة. فبينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه في نفر من المسلمين يتحدّثون عن يوم بدر ويذكرون ما أكرمهم الله به وما أراهم في عدوِّهم؛ إذ نظر عمر إلى عمير بن وَهْب وقد أناخ على باب المسجد متوشِّحاً السيف. فقال: هذا الكلب عدوُّ الله عمير بن وهب ما جاء إلا لشر، وهو الذي حرَّش بيننا، وحزرنا للقوم يوم بدر.
خبر عمير مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، هذا عدوُّ الله عُمَير بن وَهْب قد جاء متوشِّحاً سيفه. قال: «فأدْخله عليَّ» . قال: فأقبل عمر حتى أخذ(1/224)
بحِمالة سيفه في عنقه فلبَّبه بها، وقال لمن كان معه من الأنصار: أدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسوا عنده، واحذروا عليه من هذا الخبيث فإنه غير مأمون. ثم دخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمَّا رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر آخذ بحِمالة سيفه في عنقه. قال: «أرسله يا عمر. إدنُ يا عمير فدنا ثم قال: أَنْعِم صباحاً - وكانت تحيَّة أهل الجاهلية بينهم - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيَّتك يا عمير، بالسلام تحيَّةُ أهل الجنة» . قال: أما - والله - يا محمد إنْ كنتُ بها لحديث عهد. قال: «فما جاء بك يا عمير؟» قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه. قال: «فما بال السيف في عُنقك؟» قال: قبَّحها الله من سيوف وهل أغنت عنَّا شيئاً؟ قال: «أصدقني ما الذي جئت له؟» قال: ما جئت إلا لذلك. قال: «بل قعدت أنت وصفوان بن أُمية في الحِجْر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلتَ: لولا دَيْن عليّ وعيالٌ عندي لخرجتُ حتى أقتل محمداً؛ فتحمَّل لك صفوان بن أُمية بدَيْنك وعيالك على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك» .
إسلام عمير ودعوته لأهل مكة
فقال عمير: أشهد أنَّك رسول الله، قد كنَّا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان؛ فوالله إنِّي لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإِسلام وساقني هذا المَساق، ثم شهد شهادة الحق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فقِّهوا أخاكم في دينه، وعلِّموه القرآن، وأطلقوا أسيره» ففعلوا. ثم قال: يا رسول الله، إِني كنت جاهداً على إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله، وأنا أحب أن تأذن لي فأقدَمَ مكة أدعوهم إلى الله وإلى رسوله وإلى الإِسلام، لعلَّ الله يهديهم، وإِلا آذيته في دينهم كما كنت أُوذي أصحابك في دينهم، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم قلحق بمكة. وكان صفوان حين خرج عمير بن وَهْب يقول: أبشروا بوَقْعة تأتيكم الآن في أيام تُنسيكم وقعة بدر. وكان صفوان يسأل عنه الرُّكبان حتى قدم راكب فأخبره عن إسلامه، فحلف أنْ لا(1/225)
يكلِّمه أبداً ولا ينفعه بنفع أبداً. كذا في البداية.
إسلام أناس كثير على يد عمر
هكذا أخرجه ابن جرير عن عُروة رضي الله عنه بطوله، كما في كنز العمال، وزاد: فلما قدم عمير رضي الله عنه مكة أقام بها يدعو إلى الإِسلام ويُؤذي من خالفه أذى شديداً، فأسلم على يديه ناس كثير. وهكذا أخرجه الطبراني عن محمد بن جعفر بن الزبير رضي الله عنهم - نحوه. قال الهيثمي: وإسناده جيِّد.
قول عمر في عمير بن وَهْب بعد أن أسلم
وروي عن عروة بن الزبير نحوه مرسلاً، وقال فيه: ففرح المسلمون حين هداه الله، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لخنزيرٌ كن أحبّ إليّ منه حين اطَّلع، وهو اليوم أحبُّ إليَّ من بعض بنيّ؛ وإِسناده حسن. انتهى. وأخرجه الطبراني أيضاً عن أنس رضي الله عنه موصولاً عن(1/226)
أنس رضي الله عنه وقال: غريب، لا نعرفه عن أبي عمران إِلا من هذا الوجه، كما في الإِصابة.
وأخرج الواقدي عن عبد الله بن عمرو بن أمية عن أبيه قال: لما قدم عمير بن وَهْب رضي الله عنه مكة بعد أن أسلم نزل بأهله، ولم يتفق بصفوان بن أميَّة، فأظهر الإِسلام ودعا إليه، فبلغ ذلك صفوان فقال: قد عرفت حين لم يبدأ بي قبل منزله أنَّه قد ارتكس وصبا، فلا أكلِّمه أبداً ولا أنفعه ولا عياله بنافعة، فوقف ليه عمير وهو في الحِجْر وناداه، فأعرض عنه، فقال له عمير: أنت سيد من ساداتنا، أرأيتَ الذي كنا عليه من عبادة حجر وذبح له، أهذا دين؟ أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. فلم يجبه صفوان بكلمة. كذا في الإستيعاب2486) . وقد تقدَّم سَعْيُ عمير في إسلام صفوان بن أُمية (ص 178) .
دعوة أبي هريرة رضي الله عنه لأمه وإسلامها
أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أدعو أُمي إلى الإِسلام وهي مشركة، فدعوتها يوماً فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقلت: يا رسول الله، إني كنت أدعو أمي إلى الإِسلام فتأبى عليَّ، وإني دعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فدعُ الله أن يهديَ أُمَّ أبي هريرة: فقال: «اللَّهم أهدِ أُمَّ أبي هريرة» .(1/227)
فخرجت مستبشراً بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جئت قصدت إلى الباب فإذا هو مُجاف، فسمعت أُمِّي حسَّ قدمي، فقالت: مكانك يا أبا هريرة. وسمعتُ حَصْحَصَة الماء، قال: ولبست دِرْعها، وأعجَلَت عن خمارها، ففتحتْ الباب وقالت: يا أبا هريرة، أشهد أن لا آله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. قال فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فحمد الله وقال: خيراً. وأخرجه أحمد أيضاً بنحوه. كذا في الإِصابة.
وأخرجه ابن سعد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه قال: والله لا يسمع بي مؤمن ولا مؤمنة إلا أحبَّني. قال قلت: وما يُعلمك ذاك؟ قال: فقال: إني كنت أدعو أُمِّي - فذكر نحوه. وزاد في آخره: فجئت أسعى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبكي من الفرح كما بكيت من الحزن، فقلت: أبشر يا رسول الله فقد أجاب الله دعوتك، قد هدى الله أُمَّ أبي هريرة إلى الإِسلام. ثم قلت: يا رسول الله، أدعُ الله أن يحببني وأُمي إلى المؤمنين والمؤمنات وإلى كل مؤمن ومؤمنة. فقال: «اللهمَّ حبب عُبَيْدك هذا وأُمَّه إلى كل مؤمن ومؤمنة» فليس يسمع بي مؤمن ولا مؤمنة إلا أحبَّني.(1/228)
دعوة أم سليم رضي الله عنها دعوة أم سليم لأبي طلحة إلى الإِسلام حين خطبها ودخوله في الإِسلام
أخرج أحمد عن أنس رضي الله عنه أنَّ أبا طلحة خطب أُمَّ سُلَيم - يعني قبل أن يُسلم - فقالت: يا أبا طلحة، ألستَ تعلم أنَّ إلهك الذي تعبد نَبَت من الأرض؟ قال: بلى قالت: أفلا تستحي تعبد شجرة؟ إن أسلمتَ فإنِّي لا أُريد منك صَداقاً غيره. قال: حتى أنظر في أمري. فذهب ثم جاء فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله. فقالت: يا أنس زوِّجْ أبا طلحة، فزوَّجها. وأخرجه أيضاً ابن سعد بمعناه. كذا في الإِصابة.
دعوة الصحابة في القبائل وأقوام العرب دعوة ضِمام بن ثعلبة في بني سعد بن بكر وفود ضمام على النبي صلى الله عليه وسلم وخبره معه ودخوله في الإِسلام
أخرج ابن إسحاق عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعث بنو سعد بن بكر ضِمامَ بن ثعلبة وافداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم إليه وأناخ بعيره على باب المسجد ثم عقله، ثم دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه؛ وكان ضِمام رجلاً جَلْداً أشعرَ ذا غديرتين، فأقبل حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه. فقال: أيُّكُم ابن عبد المطلب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنا ابن عبد المطلب» . فقال: أمحمد؟ قال: «نعم» . قال: يا ابن عبد المطلب، إنِّي سائلك ومُغَلِّظ عليك في المسألة فلا تَجدنَّ في نفسك. قال: لا أجد في(1/229)
نفسي فسَلْ عمَّا بدا لك» فقال: أنشدك الله الهك وإلَه من كان قبلك واله من هو كائن بعدك: آلله بعثك إلينا رسولاً؟ قال: «اللَّهمَّ نعم» قال: فأنشدك الله الهك واله من كان قبلك واله من هو كائن بعدك؛ آلله آمرك أن تأمرنا أن نعبده وحده ولا نشرك به شيئاً، وأن نخلع هذه الأنداد التي كان آباؤنا يعبدون؟ قال: «اللَّهمَّ نعم» . قال: فأنشدك الله الهكَ واله من كان قبلك واله من هو كائن بعدك: آلله أمرك أن نصلي هذه الصلوات الخمس؟ قال: «اللهم نعم» قال: ثم جعل يذكر فرائض الإِسلام فريضة فريضة: الزكاة، والصيام، والحج، وشرائع الإِسلام كلّها، ينشده عند كل فريضة منها كم ينشده في التي قبلها، حتى إذا فرغ قال: فإنِّي أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنَّ محمداً رسول الله، وسأؤدي هذه الفرائض وأجتنب ما نهيتني عنه، ثم لا أزيد ولا أنقص؛ ثم انصرف إلى بعيره راجعاً. قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنْ صدق ذو العقيصتين دخل الجنة» .
إسلام بني سعد وقول ابن عباس في ضمام
قال: فأتى بعيره فأطلق عِقاله ثم خرج حتى قدم على قومه، فاجتمعوا إليه، فكان أوَّل ما تكلم أنْ قال: بئست اللات والعزَّى. فقالوا: مَهْ يا ضمام، إتَّقِ البرص، إتَّقِ الجُذام، اتَّقِ الجنون فقال: ويلكم إنَّهما - والله - لا يضران ولا ينفعان. إنَّ الله قد بعث رسولاً، وأنزل عليه كتاباً إستنقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به ما نهاكم عن.
قال فوالله، ما أمسى من ذلك اليوم وفي حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلماً. قال يقول ابن عباس رضي الله عنهما: فلما سمعنا بوافدِ قومٍ كان أفضل من ضِمام بن ثعلبة، وهكذا رواه(1/230)
الإِمام أحمد من طريق ابن إسحاق وأبو داود نحوه من طريقه؛ وعند الواقدي: فما أمسى في ذلك اليوم في حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلماً، وبنَوا المساجد، وأذّنوا بالصلاة. كذا في البداية.
وأخرجه الحاكم أيضاً في المستدرك من طريق ابن إسحاق بنحوه ثم قال: قد اتفق الشيخان على إخراج ورود ضمام المدينة ولم يسق واحد منهما الحديث بطوله، وهذا صحيح. انتهى؛ ووافقه الذهبي فقال: صحيح.
دعوة عمرو بن مرة الجهني رضي الله عنه في قومه رؤيا عمرو في أمر بعثته عليه السلام
أخرج الرُوياني وابن عساكر عن عمرو بن مُرَّة الجُهني رضي الله عنه قال: خرجنا حجّاجاً في الجاهلية في جماعة من قومي، فرأيت في المنام وأنا بمكَّة نوراً ساطعاً من الكعبة حتى أضاء لي جبل يثرب وأشعر جهينة، وسمعت صوتاً في النور وهو يقول: إنقشعت الظلماء، وسطع الضِّياء، وبُعث خاتم الأنبياء. ثم أضاء لي إضاءة أُخرى حتى نظرت إلى قصور الحيرة، وأبيضِ المدائن، وسمعت صوتاً في النّور وهو يقول: ظهر الإِسلام، وكسرت الأصنام، ووُصلت(1/231)
الأرحام. فانتبهت فزعاً فقلت لقومي: والله ليحدُثنَّ في هذا الحيِّ من قريش حَدَث، فأخبرتهم بما رأيت.
دخول عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم وقصة إسلامه
فلما انتهيت إلى بلادنا جاء الخبر أنَّ رجلاً يقال له أحمد قد بُعث، فخرجت حتى أتيته وأخبرته بما رأيت، فقال: «يا عمرو بن مرَّة، أنا النبيّ المرسل إلى العباد كافّة، أدعوهم إلى الإِسلام، وآمرهم بحقن الدماء، وصِلَة الأرحام، وعبادة الله وحده، ورفض الأصنام، وبحجِّ البيت، وصيام شهر رمضان - شهر من إثني عشر شهراً -، فمن أجاب فله الجنة، ومن عصى فله النَّار، فآمن يا عمرو يؤمنك الله من هول جهنم» . فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنَّك رسول الله، آمنت بكل ما جئتَ به من حلال وحرام، وإنْ رَغِم ذلك كثير من الأقوام. ثم أنشدته أبياتاً قلتها حين سمعت به - وكان لنا صنم وكان أبي سادنَه، فقمت إليه فكسرته ثم لحقت بالنبي صلى الله عليه وسلم وأنا أقول -:
شهدتُ بأن الله حق وإنني
لآلهة الأحجار أول تارك
وشمَّرت عن ساقي الإِزار مهاجراً
أجوب إليك الوَعْثَ بعد الدَّكادك
لأصحبَ خير النَّاس نفساً ووالداً
رسول مليك النَّاس فوق الحبائك
فقال النبي صلى الله عليه وسلم «مرحباً بك يا عمرو» .
بعثه عليه السلام عَمْراً للدعوة إلى قومه ووصيته له
فقلت: بأبي أنت وأمي أبعث بي إلى قومي لعلَّ الله أن يمنَّ بي عليهم كما منَّ بك عليَّ، فبعثني فقال: «عليك بالرِّفق والقول السديد، ولا تكنْ فظَّاً، ولا متكبِّراً، ولا حسوداً» . فأتيت قومي فقلت: يا بني رِفاعة، بل يا معشر جُهينة،(1/232)
إنِّي رسولُ رسولِ الله إليكم، أدعوكم إلى الإِسلام، وآمركم بحقن الدماء، وصِلَة الأرحام، عبادة الله وحده، ورفض الأصنام، وبحجِّ البيت، وصيام شهر رمضان - شهر من إثني عشر شهراً - فمن أجاب فله الجنَّة، ومن عصى فله النَّار. يا معشر جُهينة، إنَّ الله جعلكم خيار من أنتم منه، وبغَّض إليكم في جاهليكم ما حبِّب إلى غيركم من العرب، فإنهم كانوا يجمعون بين الأختين والغزاة في الشهر الحرام، ويخلُف الرجل على إمرأة أبيه، فأجيبوا هذا النبي المرسل من بني لؤي بن غالب تنالوا شرف الدنيا وكرامة الآخرة. فما جاءني إلا رجل منهم فقال: يا عمرو بن مرَّة، أمرَّ الله عيشَك، أتأمرنا برفض آلهتنا، وأن نفرِّق جمعنا، وأن نخالف دين آبائنا الشيم العلى إلى ما يدعونا إليه هذا القرشي من أهل تِهامة؟ لا حبّاً ولا كرامة. ثم أنشأ الخبيث يقول:
إنَّ ابن مرَّة قد أتى بمقالة
ليست مقالة من يريد صلاحاً
إنِّي لأحسب قولَه وفِعالَه
يوماً وإن طال الزمان ذُباحا
ليسفِّه الأشياخ ممن قد مضى
مَنْ رامَ ذلك لا أصاب فلاحا
فقال عمرو: الكاذب مني ومنك أمرَّ الله عيشه، وأبكم لسانه، وأكمه إنسانه، قال فوالله ما مات حتى سقط فوه، وعمي، وخرف، وكان لا يجد طعم الطَّعام.
قدوم عمرو مع من أسلم من قومه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكتابه لهم
فخرج عمرو بمن أسلم من قومه حتى أتَوا النبي صلى الله عليه وسلم فحيَّاهم ورحبَّ بهم، وكتب لهم كتاباً هذه نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من الله العزيز، على لسان رسوله، بحقَ صادق وكتاب ناطق مع عمرو بن مرة لجهينة بن زيد: إن لكم بطون(1/233)
الأرض وسهولها، وتِلاع الأودية وظهورها، على أن ترعوا نباتها وتشربوا ماءها، على أن تؤدوا الخُمس، وتصلوا الخَمس، وفي الغنيمة والصريمة شاتان إِذا اجتمعتا فإن فرقتا فشاة شاة. ليس على أهل المثيرة صدقة، ولا على الواردة لبقة، والله شهيد على ما بيننا ومن حضر من المسلمين. كتاب قيس بن شمّاس» .
كذا في كنز العمال: وأخرجه أيضاً أبو نُعيم بطوله؛ كما في البداية والطبراني بطوله كما في المجمع.
دعوة عروة بن مسعود رضي الله عنه في ثقيف إسلام عروة ودعوته لقومه إلى الإِسلام وقتلهم إياه شهيدا
أخرج الطبراني عن عروة بن الزبير رضي الله عنه قال: لما أنشأ النَّاس الحج سنة تسعٍ قدم عروة بن مسعود رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلماً، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع إلى قومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني أخاف أن يقتلوك» ، قال لو وجدوني نائماً ما أيقظوني. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع إلى قومه مسلماً، فرجع عشاء فجاء ثقيف يحيُّونه فدعاهم إلى الإِسلام، فاتَّهموه وأغضبه وأسمعوه فقتلوه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مَثَلُ عروة مَثَلُ صاحب ياسين(1/234)
دعا قومه إلى الله فقتلوه» قال الهيثمي بمعناه.
فرح عروة بقتله في سبيل الله ووصيته لقومه
أخرجه ابن سعد عن الواقدي عن عبد الله بن يحيى عن غير واحد من أهل العلم، فذكره مطوَّلاً وفيه: فقدم الطائف عشاء، فدخل منزله، فأتته ثقيف تسلِّم عليه بتحية الجاهلية فأنكرها عليهم وقال: عليكم بتحية أهل الجنَّة: السلام، فآذَوه، ونالوا منه، فحلم عنهم وخرجوا من عنده، فجعلوا أتمرون به، وطلع الفجر فأوفَى على غرفة له، فأذَّن بالصلاة. فخرجت إليه ثقيف من كل ناحية، فرماه رجل من بني مالك يقال له: أوس بن عوف فأصاب أكحَلَه ولم يَرْقَ دمه. فقام غَيْلان بن سلمة، وكنانة بن عبد ياليل، والحكم بن عمرو ووجوه الأخلاف فلبسوا السلاح وحشدوا، وقالوا: نموت عن آخرنا أو نثأر به عشرة من رؤساء بني مالك. فلما رأى عروة بن مسعود ما يصنعون قال: لا تقتتلوا فيَّ قد تصدَّقت بدمي على صاحبه لأصلح بذلك بينكم، فهي كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إليَّ، وأشهد أنَّ محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد أخبرني بهذا أنَّكم تقتلوني ثم دعا رهطة فقال: إذا متُّ فادفنوني مع الشهداء الذين قَتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يرتحل عنكم، فمات فدفنوه معهم. وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم مقتله فقال: مثل عروة.. فذكره؛ وقد تقدَّمت قصة إسلام ثقيف في - قصصه صلى الله عليه وسلم في الأخلاق والأعمال المفضية إلى هداية الناس (ص 183) .(1/235)
دعوة الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه في قومه قدوم طفيل بن عمرو مكة وخبره مع قريش
أخرج أبو نُعيم في الدلائل (ص 8،) عن محمد بن إسحاق قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يرى من قومه يبذل لهم النصيحة، ويدعوهم إلى النجاة مما هم فيه، وجعلت قريش حين منعه الله منهم يحذِّرونه النَّاس ومن قدم عليهم من العرب، وكان طُفيل بن عمرو الدَّوْسي يحدِّث أنه قدم مكة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بها، فمشى إليه رجال من قريش - وكان الطفيل رجلاً شريفاً شاعراً لبيباً - فقالوا له: يا طُفيل، إنَّك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا، فرّق جماعتنا، وإنّما قوله كالسحر، يفرِّق بين المرء وبين أبيه، وبين الرجل وبين أخيه، وبين الرجل وبين زوجته، وإنما نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلِّمْه ولا تسمع منه. قال: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت على أن لا أسمع منه شيئاً ولا أكلِّمه، حتى حشوت أذنيَّ حين غدوت إلى المسجد كُرْسُفاً فَرَقاً من أن يبلغني من قوله وأنا لا أريد أن أسمعه.
إسلام طفيل بن عمرو
قال: فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة، قال: فقمت قريباً منه، فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله. قال: فسمعت كلاماً حسناً، قال فقلت في نفسي: واثُكلَ أمِّي، إِني لرجل لبيب شاعر ما يخفى عليَّ الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟ فإن كان الذي يأتي به حسناً قبلته، وإن كان قبيحاً تركته.
فمكثت حتى انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته، فاتَّبعته حتى إذا دخل بيته دخلت عليه، فقلت: يا محمد، إنَّ قومك قالوا لي كذا وكذا - للذي قالوا لي -(1/236)
فوالله ما بَرحوا يخوِّفونني أمرك حتى سددتُ أذنيَّ بكُرسُف لئلا أسمعَ قولك، ثم أبى الله إلا أن يسمعنيه، فسمعت قلاً حسناً، فاعرضْ عليَّ أمرك. فعرض عليَّ الإِسلام، وتلا عليّ القرآن. قال: فوالله ما سمعت قولاً قط أحسن، ولا أمراً أعدل منه. قال: فأسلمت وشهدت شهادة الحق، وقلت: يا نبي الله، إنِّي امرؤ مطاع في قومي وأنا راجع إليهم وداعيهم إلى الإِسلام، فادعُ الله لي أن يجعل لي آية تكون لي عوناً عليهم فيما أدعوهم إليه. قال فقال: «اللهمَّ إجعل له آية» .
رجوع طفيل إلى قومه داعياً لهم إلى الإِسلام وتأييد الله له بآية
قال: فخرجت إلى قومي حتى إذا كنت بثَنِيَّة تُطلعني على الحاضر وقع نور بين عينيَّ مثل المصباح، قال: فقلت: اللَّهمَّ في غير وهي، فإني أخشى أن يظنُّوا أنَّها مُثْلَة وقعت في وجهي لفراق دينهم. قال: فتحوَّل فوقع في رأس سَوْطي، فجعل الحاضر يتراؤون ذلك النور في سوطي كالقنديل المعلَّق وأنا هابط إليهم من الثَنِيَّة، حتى جئتهم فأصبحت فيهم.
دعوة طفيل لأيه وصاحبته وإسلامهما
فلما نزلت أتاني أبي - وكان شيخاً كبيراً - قال: فقلت: إليكَ عنِّي يا أبت، فلستَ منِّي ولستُ منك. قال: ولمَ أيْ بُني؟ قال قلت: أسلمت وتابعت دين محمد صلى الله عليه وسلم قال أبي: ديني دينك، فاغتسل وطهَّر ثيابه، ثم جاء فعرضت عليه الإِسلام فأسلم. قال ثم أتتني صاحبتي فقلت لها: إليك عني فلستُ منك ولستِ منِّي، قالت: لِمَ بأبي أنت وأُمي؟ قال قلت: فرَّق بيني وبينك الإِسلام، فأسلمتْ، ودعوت دَوْساً إِلى الإِسلام فأبطأوا عليَّ.
دعاؤه عليه السلام لدَوْس وإسلامهم وقدومهم مع طفيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فقلت: يا نبي الله، إنَّه قد غلبني دَوْسٌ فدع الله عليهم فقال: «اللَّهم اهدِ دَوْساً، أرجع إلى قومك فادعهم وارفق(1/237)
بهم» . قال: فرجعت فلم أزل بأرض دَوْس أدعوهم إلى الإِسلام حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقضى بدراً وأُحداً والخندق. ثم قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن أسلم معي من قومي ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، حتى نزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتاً من دَوْس. وذكره في البداية عن ابن إسحاق مع زيادة يسيرة.
قال في الإِصابة: ذكرها ابن إسحاق في سائر النسخ بلا إسناد؛ وروى في نسخة من المغازي من طريق صالح بن كَيْسانُ عن الطفيل بن عمرو في قصة إسلامه خبراً طويلاً. وأخرجه ابن سعد أيضاً مطوَّلاً من وجه آخر، وكذلك الأموي عن ابن الكلبي بإسناد آخر. انتهى مختصراً. وقد ساق ابن عبد البرِّ في الإستيعاب طريق الأموي عن ابن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن الطُفيل بن عمرو، فذكر قصّة إسلامه ودعوته لأبيه وزوجته وقومه وقدومه مكة بمعنى ما تقدّم، وزاد بعده: بعثه لتحريق صنم «ذي الكفَّين» ثم خروجه إلى اليمامة وما وقع له من الرؤيا في ذلك وقتله يوم اليمامة شهيداً. قال: في الإِصابة وذكر أبن الفرج الأصبهاني من طريق ابن الكلبي أيضاً أنَّ الطفيل لما قدم مكة ذكر له ناس من قريش أمر النبي صلى الله عليه وسلم وسأله أن يختبر حاله، فأتاه فأنشده من شعره، فتلا النبي صلى الله عليه وسلم الإِخلاص والمعوّذتين، فأسلم في الحال، وعاد إلى قومه، وذكر قصة سَوْطه ونُورِه. قال: فدعا أبويه إلى الإِسلام فأسلم أبوه، ولم تسلم أمه، ودعا قومه فأجابه أبو هريرة رضي الله عنه وحده. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل لك في حِصْن حصين وَمَنَعة؟ يعني أرض دَوْس. قال: ولما دعا النبي صلى الله عليه وسلم لهم قال له الطفيل: ما كنت أحبُّ هذا، فقال: «إنَّ فيهم مثلك كثيراً» . قال وكان جندب بن عمرو بن حممة بن عوف الدَّوْسي(1/238)
يقول في الجاهلية: إنَّ للخلق خالقاً لكني لا أدري من هو؟ فلما سمع بخبر النبي صلى الله عليه وسلم خرج ومعه خمسة وسبعون رجلاً من قومه فأسلم وأسلموا. قال أبو هريرة: فكان جندب يقدِّمهم رجلاً رجلاً - إنتهى. وقد تقدَّمت دعوة علي رضي الله عنه في قبيلة هَمْدان (ص 121) ، ودعوة خالد بن الوليد رضي الله عنه في بني الحارث بن كعب (ص 121) ، ودعوة أبي أُمامة رضي الله عنه في قومه (ص 117) .
إرسال الصحابة الأفراد والجماعة للدعوة بعث هشام بن العاص وغيره إلى هرقل
أخرج البيهقي في الدلائل عن أبي أُمامة الباهلي عن هشام بن العاص الأموي رضي الله عنهما قال: بُعثت أنا ورجل آخر إلى هرقل - صاحب الروم - بدعوة إلى الإِسلام، فخرجنا حتى قدمنا الغوطة - يعني: دمشق - فنزلنا على جَبَلَة بن الأيهم الغساني، فدخلنا عليه فإذا هو على سرير له. فأرسل ألينا برسول نكلِّمه، فقلنا: والله لا نكلِّم رسولاً، وإنما بُعثنا إلى الملك، فإن أذن لنا كلَّمناه، وإلا لم نكلِّم الرسول، فرجع إليه الرسول فأخبره بذلك. قال: فأذن لنا فقال: تكلَّموا، فكلمه هشام بن العاص ودعاه إلى الإِسلام، فإذا عليه ثياب سود. فقال له هشام: وما هذه التي عليك؟ فقال: لبستها وحلفت أن لا أنزعها حتى أخرجكم من الشام. قلنا: ومجلسك هذا فوالله لنأخذنَّه منك ولنأخذنَّ ملك الملك الأعظم إن شاء الله أخبرنا بذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قال: لستم بهم، بل هم قوم يصومون بالنهار ويقومون بالليل - فذكر الحديث بطوله كما سيأتي في باب التأييدات الغيبية. وأخرجه الحاكم أيضاً بطوله كما في التفسير لابن كثير بنحوه.(1/239)
وأخرج أبو نعيم في الدلائل (ص 9) عن موسى بن عُقبة القرشي) أن هشام بن العاص، ونُعيم بن عبد الله، ورجلاً آخر قد سماه، بُعثوا إلى ملك الروم زمن أبي بكر رضي الله عنه، قال: فدخلنا على جَبَلَة بن الأيهم وهو بالغوطة، فإذا عليه ثياب سود، وإذا كل شيء حوله أسود، فقال: يا هشام كلِّمْه، فكلَّمه ودعاه إلى الله تعالى - فذكر الحديث بطوله كما سيأتي.
إرسال الصحابة الكتب للدعوة إلى الله والدخول في الإِسلام كتاب زياد بن الحارث الصُّدَائي إلى قومه
أخرج البيهقي عن زياد بن الحارث الصُّدائي رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته على الإِسلام، فأُخبرت أنَّه قدْ بعث جيشاً إلى قومي، فقلت: يا رسول الله، أردُدِ الجيش وأنا لك بإسلام قومي وطاعتهم. فقال لي: «إذهب فردَّهم» فقلت: يا رسول الله، إنَّ راحلتي قد كلَّت، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً فردَّهم. قال الصُّدائي: وكتبت إليهم كتاباً فقدم وفدهم بإسلامهم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا أخا صُداء، إنَّك لمُطاع في قومك فقلت: بل الله هداهم للإِسلام. فقال: «أفَلا أُؤمرك عليهم؟» قلت: بلى يا رسول الله، قال: فكتب لي كتاباً أمَّرني. فقلت: يا رسول الله، مُرْ لي بشيء من صدقاتهم. قال: «نعم» فكتب لي كتاب آخر.
قال الصُّدائي - وكان ذلك في بعض أسفاره - فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلاً فأتاه أهل ذلك المنزل يشكون عاملهم ويقولون: أَخَذَنا بشيء كان بيننا وبين قومه في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أوَ فعل ذلك؟» قالوا: نعم. فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى أصحابه وأنا فيهم فقال: «لا خير في الإِمارة لرجل مؤمن» .(1/240)
قال الصُّدائي: فدخل قوله في نفسي. ثم أتاه آخر فقال يا رسول الله، أعطني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من سأل الناس عن ظهر غِنًى فصُداع في الرأس وداء في البطن» . فقال السائل: أعطني من الصدقة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنَّ الله لم يرضَ في الصدقات بحكم نبي ولا غيره حتى حكم هو فيها، فجزَّأها ثمانية أجزاء، فإِن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك» . قال الصُّدائي فدخل ذلك في نفسي أنِّي غني وأني سألته من الصدقة - فذكر الحديث، وفيه: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة أتيته بالكتابين فقلت: يا رسول الله أعفني من هذين، فقال: «ما بدا لك» ، فقلت: سمعتك يا رسول الله تقول: لا خير في الإِمارة لرجل مؤمن» وأنا أؤمن بالله وبرسوله: وسمعتك تقول للسائل: «من سأل الناس عن ظهر غنًى فهو صُداع في الرأس وداء في البطن» ؛ وسألتك وأنا غني فقال: «هو ذاك، فإن شئت فاقبل وإن شئت فدَعْ» . فقلت: أدَعُ. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «فدُلَّني على رجل أؤمره عليكم» ، فدللته على رجل من الوفد الذين قدموا عليه فأمَّره عليه. كذا في البداية، وأخرجه أيضاً بطوله البغوي وابن عساكر؛ وقال: هذا حديث حسن؛ كما في الكنز.
وأخرجه أحمد أيضاً بطوله، كما في الإِصابة، وأخرجه الطبراني أيضاً بطوله. قال الهيثمي: وفيه عبد الرحمن بن زياد بن أنْعم وهو ضعيف،(1/241)
وقد وثَّقه أحمد بن صالح ورد على من تكلَّم فيه وبقية رجاله ثقات.
كتاب بُجَير بن زهير بن أبي سُلمى رضي الله عنه إلى أخيه كعب
أخرج الحاكم عن إبراهيم بن المنذر الحِزامي، عن الحجَّاج بن ذي الرُّقَيبة بن عبد الرحمن بن كعب بن زهير بن أبي سُلمى المُزَني، عن أبيه عن جدّه قال: خرج كعب وبُجَير إبنا زهير حتى أتيا أبرق العزّاف. فقال بجَير لكعب: أثبت في عجل هذا المكان حتى آتي هذا الرجل - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فأسمع ما يقول. فثبت كعب وخرج بُجَير فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليه الإِسلام فأسلم، فبلغ ذلك كعباً فقال:
ألا أبلغا عني بُجيراً رسالةً
على أيِّ شيء وَيْب غيرك دلَّكا
على خُلُقٍ لم تُلفِ أماً ولا أباً
عليه ولم تدرك عليه أخاً لكا
سقاك أبو بكر بكأس روية
وأنهلك المأمون منه وعلَّكا
فلما بلغت الأبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدر دمه فقال: «من لقي كعباً فليقتلْه» . فكتب بذلك بُجَير إلى أخيه يذكر له أنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمه ويقول له: النجاءَ وما أراكَ تُفلت.
ثم كتب إِليه بعد ذلك: اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأتيه أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إِلا قبل ذلك. فإذا جاءك كتابي هذا فأسلم(1/242)
وأقْبِل. فأسلم كعب وقال قصيدته التي يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أقبل حتى أناخ راحلته بباب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه مكان المائدة من القوم متحلِّقون معه حلقة دون حلقة، يلتفت إلى هؤلاء مرَّة فيحدثهم، وإلى هؤلاء مرة فيحدثهم. قال كعب: فأنخت راحلتي بباب المسجد فعرفت رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفة، فتخطَّيت حتى جلست إِليه فأسلمت فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنَّك رسول الله، الأمانَ يا رسول الله. قال: «ومن أنت» قلت: أنا كعب بن زهير قال: «أنت الذي تقول» ثم التفت إلى أبي بكر، فقال: «كيف قال يا أبا بكر؟» فأنشده أبو بكر رضي الله عنه:
سقاك أبو بكر بكأس رويّة
وأنهلك المأمور منها وعلَّكا
قال: يا رسول الله، ما قلت هكذا. قال: «وكيف قلت؟» قال: إنما قلت:
سقاك أبو بكر بكأس روية
وأنهلك المأمون منها وعلَّكا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مأمون والله» ثم أنشده القصيدة كلَّها حتى أتى على آخرها - فذكر القصيدة.
وأخرج الحاكم أيضاً عن إبراهيم بن المنذر عن محمد بن فليح عن موسى بن عقبة قال: أنشد النبي صلى الله عليه وسلم كعبُ بن زهير «بانت سعاد» في مسجده بالمدينة فلما بلغ قوله:
إنَّ الرسول لَسَيْفٌ يُستضاء به
وصارم من سيوف الله مسلول
في فتية من قريش قال قائلهم
ببطن مكة لما أسلموا زُولوا(1/243)
أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بكمه إِلى أُخخيه كعب بن زهير بن أبي سلمى يخوِّفه ويدعوه إلى الإِسلام وقال فيها أبياتاً:
من مبلغٌ كعباً؟ فهل لك في التي
تلوم عليها باطلاً؟ وهي أحزم
إلى الله لا العزَّى ولا اللات وحدَه
فتنجو إذا كان النَّجاء وتسلم
لدى يومِ لا ينجو وليس بمفلتٍ
من النار إلا طاهرُ القلب مسلم
فدين زهيرٍ وهو لا شيء باطلٌ
ودين أبي سُلمى عليَّ محرّم
قال الحاكم هذا حديث له أسانيد قد جمعها إبراهيم بن المنذر الحزامي.
فأما حديث محمد بن فليح عن موسى بن عقبة، وحديث الحجاج بن ذي الرقيبة فإنهما صحيحان، وقد ذكرهما محمد بن إسحاق القرشي في المغازي مختصراً - فذكره بإسناده إلى ابن إسحاق.
وأخرجه الطبراني أيضاً عن ابن إسحاق، قال الهيثمي: ورجاله إِلى ابن إسحاق ثقات. انتهى. وأخرجه أيضاً ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني عن يحيى بن عمرو بن جريج عن إبراهيم بن المنذر عن الحجَّاج - فذكره بمعنى ما تقدم - كما في الإِصابة. وأخرجه أيضاً البيهقي عن ابن المنذر بإسناده مثله؛ كما في البداية.(1/244)
كتاب خالد بن الوليد إلى أهل فارس
أخرج الطبراني عن أبي وائل رضي الله عنه قال: كتب خالد بن الوليد رضي الله عنه إِلى أهل فارس يدعوهم إِلى الإِسلام:
«بسم الله الرحمن الرحيم. من خالد بن الوليد إِلى رستم ومهران وملأ فارس، سلام على من اتَّبع الهدى. أما بعد: فإنَّا ندعوكم إِلى الإِسلام، فإن أبيتم فأعطوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، فإن أبيتم فإن معي قوماً يحبُّون القتل في سبيل الله كما تحب فارس الخمر. والسلام على من اتبع الهدى» .
قال الهيثمي: رواه الطبراني وإسناده حسن أو صحيح. انتهى.
كتاب خالد بن الوليد إلى أهل المدائن
وأخرجه الحكم أيضاً في المستدرك عن أبي وائل بنحوه؛ وأخرج ابن جرير عن مجالد عن الشعبي قال: أقرأني بنو بُقَيلة كتاب خالد بن الوليد إِلى أهل المدائن:
«من خالد بن الوليد إِلى مرازبة أهل فارس. سلام على من اتَّبع الهدى. أما بعد: فالحمد لله الذي فَضَّ خَدَمتكم، وسلب ملككم، ووهّن كيدكم، وإنه من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ما لنا وعليه ما علينا. أما بعد: فإذا جاءكم كتابي فابعثوا إِليّ بالرُّهُن، واعتقدوا مني الذمَّة، وإلا فوالذي لا إِله غيره لأبعثن إِليكم قوماً يحبون الموت كما(1/245)
تحبون الحياة» .
فلما قرأوا الكتاب أخذوا يتعجبون وذلك سنة إثنتي عشرة.
كتاب خالد بن الوليد إِلى هُرْمز
وأخرج ابن جرير في تاريخه أيضاً عن المجالد عن الشعْبي قال: كتب خالد رضي الله عنه إلى هُرْمز قبل روجه مع أزاذِبَة أبي الزياذبة الذين باليمامة، وهرمز صاحب الثغر يومئذٍ:
«أما بعد: فأسلم تسلم، أو أعتقد لنفسك وقومك الذمة، وأقرر بالجزية، وإلا فلا تلومنَّ إِلا نفسك، فقد جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة» .
وذكر ابن جرير أيضاً بإسناده أنَّ خالداً لما غلب على أحد جانبي السَّواد دعا من أهل الحيرة برجل، وكتب معه إلى أهل فارس وهم بالمدائن مختلفون متساندون لموت أردشير؛ إلا أنَّهم قد أنزلوا بَهْمَن جاذَوَيه ببَهُرسِير وكأنه على المقدمة، ومع بَهْمن جاذويه الأزاذبة في أشباه له، ودعا صلوباً برجل وكتب معهما بكتابين: فأما أحدهما فإلى الخاصة، وأما الآخر فإلى العامة، أحدهما حِيرِي والآخر نَبَطي. ولما قال خالد لرسول أهل الحيرة: ما اسمك؟ قال: مُرَّة. قال خذ الكتاب فأتِ به أهل فارس لعل الله أن يُمرَّ عليهم عيشهم أو يسلموا أو يُنيبوا. وقال لرسول أهل الحيرة: ما اسمك؟ قال: مخرَّة. قال خذ الكتاب فأتِ به أهل فارس لعل الله أن يُمرَّ عليهم عيشهم أو يسلموا أو يُنيبوا. وقال لرسول صلوبا: ما اسمك؟ قال: هِزْقيل. قال: فخذ الكتاب، وقال: اللَّهمَّ أزهق نفوسهم. قال ابن جرير: والكتابان.
«بسم الله الرحمن الرحيم. من خالد بن الوليد إِلى ملوك فارس. أما بعد: فالحمد لله الذي حلَّ نظامكم، ووهَّن كيدكم، وفرَّق كلمتكم، ولو لم(1/246)
يفعل ذلك بكم كان شرّاً لكم، فادخلوا في أمرنا نَدَعْكم وأرضكم ونجوزكم إلى غيركم، وإلا كان ذلك وأنتم كارهون على غَلَب، على أيدي قوم يحبّون الموت كما تحبون الحياة» .
«بسم الله الرحمن الرحيم. من خالد بن الوليد إِلى مرازبة فارس. أما بعد: فأسلموا تسلموا، وإلا فاعتقدوا مني الذمّة، وأدُّوا الجزية، وإِلا فقد جئتكم بقوم يحبُّون الموت كما تحبُّون شرب الخمر. انتهى» .
دعوة الصحابة رضي الله عنهم في القتال في عهد النبي صلى الله عليه وسلم دعوة الحارث بن مسلم التميمي
أخرج الحسن بن سفيان وأبو نُعَيم عن عبد الرحمن بن حسان الكِتَاني: حدثني مسلم بن الحارث بن مسلم التميمي، أنَّ أباه حدَّثه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلهم في سريَّة. قال: فلما بلغنا المُغار استحثثتُ فرسي، وتبعت أصحابي، واستقبلنا الحيَّ بالرنين. فقلت لهم: وقولوا: لا إله إلا الله تُحرِزُوا، فقالوها: وجاء أصحابي فلاموني وقالوا: حرمتنا الغنية بعد أن بردت في أيدينا فلما قفلنا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني فحسَّن ما صنعت، وقال: «أما إنَّ الله قد كتب لك من كل إنسان منهم كذا وكذا» . قال عبد الرحمن: فأنا سبب ذلك، قال: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أما إنِّي سأكتب لك كتاباً وأوصي بك من يكون بعدي من أئمة المسلمين» ففعل وختم عليه ودفعه إِليَّ وقال لي: «إذ صلَّيت الغَداة فقل قبل أن تكلِّم أحداً: اللَّهمَّ أجرني من النار سبع(1/247)
مرات، فإنك إن متَّ من يومك ذلك كتب الله لك جواراً من النَّار» .
فلما قبض الله رسوله صلى الله عليه وسلم أتيت أبا بكر رضي الله عنه ففضَّه فقرأه وأمر لي وختم عليه. ثم أتيت به عمر رضي الله عنه ففعل مثل ذلك. ثم أتيت عثمان رضي الله عنه ففعل مثل ذلك. قال مسلم بن الحارث فتوفي الحارث في خلافة عثمان رضي الله عنه، فكان الكتاب عندنا حتى ولي عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فكتب إلى عامل قِبَلنا أنْ أشْحِص لي مسلم بن الحارث بن مسلم التميمي بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتبه لأبيه. فشخصت به إليه فقرأه وأمر لي وختم عليه؛ كذا في كنز العمال؛ والمنتخب.
دعوة كعب بن عمير الغفاري
وأخرج الواقدي عن محمد بن عبد الله الزُّهْري قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن عُمير الغِفاري رضي الله عنه في خمسةَ عشرَ رجلاً حتى انتهوا إلى ذات أطْلاح من الشام، فوجدوا جمعاً من جمعهم كثيراً، فدَعوهم إلى الإِسلام لم يستجيبوا لهم ورشقوهم بالنبل. فلما رأى ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلوهم أشدَّ القتال حتى قُتلوا، فارْتُثَّ منهم رجل جريج في القتلى، فلما أن بَرَد عليه الليل تحامل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهمَّ بالبَعْثة إِليهم، فبلغه أنَّهم ساروا إلى موضع آخر. كذا في البداية وأخرجه ابن سعد في الطبقات عن الواقدي عن محمد بن عبد الله عن(1/248)
الزهري بمثله، وهكذا ذكره ابن إسحاق عن عبدا لله بن أبي بكر وأن كعب بن عمير قتل يومئذٍ، وذكره أيضاً موسى بن عقبة عن ابن شهاب، وأبو الأسود عن عروة؛ كما في الإِصابة وقال ذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة أنَّ قصته كانت في ربيع الأول سنة ثمان.
دعوة ابن أبي العوجاء
وأخرج البيهقي من طريق الواقدي عن محمد بن عبد الله بن مسلم عن الزُّهري قال: لمَّا رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمرة القضيَّة رجع في ذي الحِجَّة من سنة سبع، فبعث ابن أبي العَوْجاء السُّلمي رضي الله عنه في خمسين فارساً، فخرج العين إلى قومه فحذَّرهم وأخبرهم، فجمعوا جمعاً كثيراً، وجاءهم ابن أبي العَوْجاء والقوم مُعِدُّون. فلما أن رأوهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأوا جمعهم دعَوْهم إلى الإِسلام، فرشقوهم بالنبل ولم يسمعوا قولهم، وقالوا: لا حاجة لنا إلى ما دعوتم إليه فرمَوهم ساعة، وجعلت الأمداد تأتي حتى أحدقوا بهم من كل جانب؛ فقاتل القوم قتالاً شديداً حتى قُتل عامتهم، وأصيب بن أبي العَوْجاء بجراحات كثيرة، فتحامل حتى رجع إِلى(1/249)
المدينة بمن بقي معه من أصحابه في أول يوم من شهر صفر سنة ثمان. كذا في البداية؛ وذكره ابن سعد في الطبقات بمثله بلا إِسناد.
دعوة الصحابة إلى الله ورسوله في القتال في عهد أبي بكر، ووصية أبي بكر الأمراء بذلك أمر أبي بكر أمراءه بالدعوة حين بعث الجنود نحو الشام
أخرج البيهقي وابن عساكر عن سعيد بن المسيِّب: أنَّ أبا بكر رضي الله عنه لما بعث الجنود نحو الشام أمَّر يزيد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة، ولما ركبوا مشى أبو بكر مع أمراء جنوده يودِّعهم حتى بلغ ثَنِيَّة الوداع، فقالوا: يا خليفة رسول الله، تمشي ونحن ركبان؟ فقال: إِني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله. ثم جعل يوصيهم فقال:
«أوصيكم بتقوى الله، أغزُوا في سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله، فإنَّ الله ناصرٌ دينَه، ولا تَغُلُّوا، ولا تغدِروا، ولا تجبنوا، ولا تُفسدوا في الأرض، ولا تعصوا ما تؤمرون. فإذا لقيتم العدو من المشركين - إن شاء الله - فادعوهم إلى ثلاث؛ فإن هم أجابوكم فاقبلوا منهم وكفُّوا عنهم: أدعوهم إلى الإِسلام، فإن هم أجابوكم فاقبلوا منهم وكفُّوا عنهم: أدعوهم إلى الإِسلام، فإن هم أجابوكم فاقبلوا منهم وكفُّوا عنهم. ثم أدعوهم إلى التحوُّل من دارهم إلى دار المهاجرين، فإن هم فعلوا فأخبروهم أن لهم مثل ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، وإن هم دخلوا في الإِسلام واختاروا دارهم على دار المهاجرين، فأخبروهم أنَّهم كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي فرض على المؤمنين، وليس لهم في الفيء والغنائم شيء حتى يجاهدوا مع(1/250)
المسلمين. فإن هم أبَوا أن يدخلوا في الإِسلام فادعوهم إلى الجزية، فإن هم فعلوا فاقبلوا منهم وكفُّوا عنهم، وإن هم أبَوا فاستعينوا بالله عليهم فقاتلوهم إن شاء الله. ولا تُعرقُنَّ نخلاً، ولا تحرقُنَّها، ولا تعقروا البهيمة ولا شجرة ثمر، لا تهدموا بِيْعة، ولا تقتلوا الولدان ولا الشيوخ ولا النساء. وستجدون أقواماً حبسوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له، وستجدون آخرين اتخذوا للشيطان في أوساط رؤوسهم أفحاصاً، فإذا وجدتم أولئك فاضربوا أعناقهم إن شاء الله» . كذا في كنز العمال.
وأخرجه مالك وعبد الرزاق والبيهقي وابن أبي شيبة عن يحيى بن سعيد، والبيهقي عن صالح بن كيسان، وابن زَنْجويه عن ابن عمر رضي الله عنهما مختصراً. كما في الكنز (2295 و 296) .(1/251)
أمر أبي بكر خالداً حين بعثه إِلى المرتدين
وأخرج البيهقي عن عروة أنَّ أبا بكر الصدِّيق رضي الله عنه أمر خالد بن الوليد رضي الله عنه حين بعثه إلى من ارتدَّ من العرب أن يدعوهم بدعاية الإِسلام، ويبينهم بالذي لهم فيه وعليهم ويحرص على هُداهم، فمن أجابه من النَّاس كلِّهم أحمرهم وأسودهم كان يقبل ذلك منه، بأنه إنما يقاتل من كفر بالله على الإِيمان بالله، فإذا أَجاب المدعو إلى الإِسلام وصدق إيمانه لم يكن عليه سبيل وكان الله هو حسيبه، ومن لم يجبه إلى ما دعاه إِليه من الإِسلام ممَّن يرجع عنه أن يقتله. كذا في الكنز.
دعوة خالد بن الوليد لأهل الحيرة
وأخرج ابن جرير الطبري عن ابن حُمَيد، عن سلمة، عن ابن إسحاق، عن صالح بن كيسان: أنَّ خالداً نزل الحيرة فخرج إليه أشرافها مع قبيصة بن إياس بن حيَّة الطائي - وكان أمَّره عليه كسرى بعد النعمان بن المنذر - فقال له خالد ولأصحابه: أدعوكم إِلى الله وإلى الإِسلام، فإن أجبتم إِليه فأنتم من المسلمين لكم ما لهم وعليكم ما عليهم، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم فالجزية فقد أتيتكم بأقوام هم أحرص على الموت منكم على الحياة؛ جاهدناكم حتى يحكم الله بيننا وبينكم. فقال له قبيصة: ما لنا بحربك من حاجة، بل نقيم على ديننا ونعطيكم الجزية. فصالحهم على تسعين ألف درهم.(1/252)
وأخرجه البيهقي من طريق يونس بن بُكَير عن ابن إسحاق وفيه: فقال خالد: أدعوكم إلى الإِسلام، وإلى أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وحده وأن محمداً عبده ورسوله، وتُقيموا الصلاة، وتُؤتوا الزكاة، وتقرُّوا بأحكام المسلمين، على أنَّ لكم مثلَ ما لهم وعليكم مثل ما عليهم. فقال هانىء: وإن لم أشأ ذلك فَمَه؟ قال: فإن أبيتم ذلك أديتم الجزية عن يدٍ. قال: فإن أبينا ذلك؟ قال: فإن أبيتم ذلك وطئتكم بقوم الموت أحب إليهم من الحياة إليكم. فقال هانىء: أجِّلنا ليلتنا هذه فننظر في أمرنا، قال: قد فعلت. فلما أصبح القوم غدا هانىء فقال: إنه قد أجمع أمرنا على أن نؤدِّي الجزية، فهلمَّ فلأصالحك - فذكر القصة. وقال في البداية أيضاً: لمَّا تقارب الناس يوم اليرموك تقدّم أبو عبيدة ويزيد بن أبي سفيان ومعهما ضرار بن الأزور، والحارث بن هشام وأبو جندل بن سهيل ونادوا: إنَّما نريد أميركم لنجتمع به، فأُذن لهم للدخول على تذارق، وإِذا هو جالس في خيمة من حرير، فقال الصحابة: لا نستحلُّ دخولها. فأمر لهم بفرش بسط من حرير، فقالوا: ولا نجلس على هذه، فجلس معهم حيث أحبُّوا، وتراضوا على الصلح، ورجع عنهم الصحابة بعدما دعوهم إلى الله عزّ وجلّ فلم يتمَّ ذلك.
دعوة خالد للأمير الرومي جَرجَة يوم اليرموك وقصة إسلامه
وذكر في البداية عن الواقدي وغيره قالوا: خرج جَرَجَة - أحد الأمراء(1/253)
الكبار - من الصفِّ - أي يوم اليرموك - واستدعَى خالد بن الوليد، فجاء إليه حتى اختلفت أعناق فرسيهما، فقال جَرَجَة: يا خالد، أخبرني فاصدقني ولا تَكذبني، فإن الحرّ لا يكذب، ولا تخادعني فإن الكريم لا يخادع المسترسل بالله: هل أنزل الله على نبيِّكم سيفاً من السماء فأعطاكَه فلا تسلَّه على أحد إلا هزمتهم؟ قال: لا، قال فبِمَ سُمِّيت سيف الله؟ قال: إنَّ الله بعث فينا نبيَّه فدعانا فنفرنا منه ونأينا عنه جميعاً، ثم إنَّ بعضنا صدَّقه وتابعه وبعضنا كذَّبه وباعده، فكنت فيمن كذَّبه وباعده. ثم إنَّ الله أخذ بقلوبنا ونواصينا فهدانا به وبايعناه. فقال لي: «أنت سيف من سيوف الله سلَّه الله على المشركين» ودعا لي بالنَّصر، فسُمِّيتُ سيف الله بذلك، فأنا من أشد المسلمين على المشركين. فقال جَرَجَة: يا خالد إِلامَ تدعون؟ قال: إلى شهادة أن لا إِله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، والإِقرار بما جاء به من عند الله عزّ وجلّ. قال: فمن لم يجبكم؟ قال: فالجزية ونمنعهم. قال: فإن لم يعطِها قال: نُؤذِنُه بالحرب ثم نقاتله. قال: فما منزلة من يجيبكم ويدخل في هذا الأمر اليوم؟ قال: منزلتنا واحدة فيما افترض الله علينا شريفنا ووضيعنا وأولنا وآخرنا قال جَرَجَة: فلِمَنْ دخل فيكم اليوم من الأجر مثل ما لكم من الأجر والذُّخر؟ قال: نعم وأفضل. قال: وكيف يساويكم وقد سبقتموه؟ فقال خالد: إِنَّا قبلنا هذا الأمر عَنْوة وبايعنا نبينا وهو حيٌّ بين أظهرنا تأتيه أخبار السماء يخبرنا بالكتاب ويرينا الآيات؛ وحقٌّ لمن رأى ما رينا وسمع ما سمعنا أن يسلم ويبايع؛ وإنَّكم أنتم لم تروا ما رأينا ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج؛ فمن دخل في هذا الأمر منكم بحقيقة ونيّة كان أفضل منّا. فقال جَرَجَة: بالله لقد صدقتني ولم تخادعني؟ قال: تالله لقد صدقتك، وإنَّ الله وليّ
ما سألت عنه.
فعند ذلك قَلَبَ جَرَجَة الترس ومال مع خالد وقال: علّمني الإِسلام. فمال به خالد إلى فسطاطه فشنّ عليه قِربةً من ماء ثم صلَّى به ركعتين. وحملت الروم مع إنقلابه إلى خالد وهم يَرَون أنَّها منه حملة، فأزالوا المسلمين عن مواقفهم إِلا المُحامية عليهم عِكرمة بن أبي جهل والحارث بن هشام.(1/254)
فركب خالد وجَرَجَة معه والروم خلال المسلمين، فتنادَى الناس وثابوا، وتراجعت الروم إلى مواقفهم، وزحف خالد بالمسلمين حتى تصافحوا بالسيوف، فضرب فيهم خالد وجَرَجَة من لدن ارتفاع النهار إلى جنوح الشمس للغروب، وصلَّى المسلمون صلاة الظهر وصلاة العصر إيماءً، وأصيب جَرَجَة - رحمه الله - ولم يصلِّ لله إلا تلك الركعتين مع خالد رضي الله عنهما.
وقال الحافظ في الإِصابة: ذكره ابن يونس الأزدي في فتوح الشام، ومن طريق أبي نُعَيم في الدلائل وقال: جرجير، وقال سَيْف بن عمر في الفتوح: جَرَجَة، وذكر أنه أسلم على يدي خالد بن الوليد واستشهد باليرموك؛ وذكر قصته أبو حذيفة إسحاق بن بشر في الفتوح أيضاً لكن لم يسمِّه. انتهى.
وذكر في البداية عن خالد رضي الله عنه أنَّه قام في الناس خطيباً، فرغَّبهم في بلاد الأعاجم، وزهدهم في بلاد العرب، وقال: ألا تَرون ما ها هنا من الأطعمات، وبالله لو لم يلزمْنا الجهاد في سبيل الله والدعاء إِلى الإِسلام ولم يكن إلا المعاش - لكان رأيٌ أن نقاتل على هذا الريف حتى نكون أولى به، ونُولي الجوع والإِقلال من تولاه ممن أثَّاقل عما أنتم عليه - انتهى. وأسنده ابن جرير في تاريخه من طريق سَيْف عن محمد بن أبي عثمان بنحوه.
دعوة الصحابة إلى الله ورسوله في القتال في عهد عمر رضي الله عنه ووصيته الأمراء بذلك كتاب عمر إلى سعد لدعوة الناس إلى الإِسلام ثلاثة أيام
أخرج أبو عُبَيْد عن يزيدَ بن أبي حبيب قال: كتب عمر بن الخطاب(1/255)
إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما: أني قد كنت كتبت إليك أن تدعو الناس إلى الإِسلام ثلاثة أيام، فمن استجاب لك قبل القتال فهو رجل من المسلمين، له ما للمسلمين وله سهم في الإسلام، ومن استجاب لك بعد القتال أو بعد الهزيمة فمالُه فيء للمسلمين لأنَّهم كانوا قد أحرزوه قبل إسلامه. فهذا أمري وكتابي إليك؛ كذا في الكنز.
دعوة سلمان الفارسي يوم القصر الأبيض ثلاثة أيام
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي البَختري: أنَّ جيشاً من جيوش المسلمين كان أميرهم سلمان الفارسي رضي الله عنه، فحاصروا قصراً من قصور فارس، فقالوا: يا أبا عبد الله، ألا نَنْهد إليهم؟ قال: دعوني أدعوهم كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم، فقال لهم: أنا رجل منكم فارسي أَتَرَون العرب تطيعني، فإن أسلمتم فلكم مثل الذي لنا وعليكم مثل الذي علينا، وإن أبيتم إلا دينَكم تركناكم عليه وأعطيتمونا الجزية عن يَدٍ وأنتم صاغرون - قال ورطَنَ إليهم بالفارسية وأنتم غير محمودين - وإن أبيتم نابذناكم على سواء. فقالوا: ما نحن بالذي نؤمن، وما نحن بالذي نعطي الجزية، ولكنا نقاتلكم. قالوا: يا أبا عبد الله، ألا ننهد إليهم؟ قال: لا، فدعاهم ثلاثة أيام إلى مثل هذا. ثم قال: انهدوا إليهم فنهدوا إليهم. قال ففتحوا ذلك الحصن. وأخرجه أيضاً أحمد في مسنده والحاكم في المستدرك كما في نَصْب الراية بمعناه وفيه: فلما كان في اليوم الرابع أمر الناس فغدَوا إليها ففتحوها.(1/256)
وأخرجه ابن أبي شيبة كما في الكنز. وأخرجه أيضاً ابن جرير عن أبي البَختري قال: كان رائدَ المسلمين سلمانُ الفارسي، وكان المسلمون قد جعلوه داعيةَ أهل فارس. قال عطية: وقد كانوا أمروه بدعاء أهل بَهُرَسير، وأمَّروه يوم القصر الأبيض، فدعاهم ثلاثاً - فذكر الحديث في دعوة سلمان رضي الله عنه بمعناه.
دعوة النعمان بن مقرِّن وأصحابه لرستم يوم القادسية
وذكر ابن كثير في البداية أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بعث جماعة من السادات منهم: النُّعمان بن مُقرِّن، وفُرَات بن حيَّان، وحنظلة بن الربيع التميمي، وعُطارد بن حاجب، والأشعث بن قيس، والمغيرة بن شعبة. وعمرو بن معدِ يكَرِب، رضي الله عنهم، يدعون رُستم إلى الله عزّ وجلّ. فقال لهم رُستم: ما أقدمكم؟ فقالوا: جئنا لموعود الله إيانا أخذ بلادكم، وسبي نسائكم وأبنائكم، وأخذ أموالكم، فنحن على يقين من ذلك. وقد رأى رُستم في منامه كأن مَلَكاً نزل من السماء فختم على سلاح الفرس كلِّه، ودفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمر رضي الله عنه.
دعوة المغيرة بن شعبة لرستم
وقال سيف عن شيوخه: ولمَّا تواجه الجيشان بعث رُستم إلى سعد رضي الله عنه عنه أن يبعث إليه برجل عاقل عالم بما أسأله عنه، فبعث إليه المغيرةَ بن شعبة. فلما قدم إليه جعل رُستم يقول له: إنكم جيرانُنا وكنا نحسن إليكم ونكف الأذى عنكم، فارجعوا إِلى بلادكم لا نمنع تجارتكم من الدخول إلى(1/257)
بلادنا. فقال له المغيرة: إنا ليس طلبنا الدنيا وإِنما همنا وطلبنا الآخرة، وقد بعث الله إلينا رسولاً، قال له: إنِّي قد سلطت هذه الطائفة على من لم يَدنِ بديني، فأنا منتقم بهم منهم، وأجعل لهم الغلبة ما داموا مُقرِّين به، وهو دين الحق لا يرغب عنه أحد إلا ذلّ، ولا يعتصم به إلا عزّ. فقال له رُستم: فما هو؟ فقال: أما عموده الذي لا يصلح شيء منه إلا به فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والإِقرار بما جاء من عند الله.
فقال: ما أحسن هذا وأي شيء أيضاً؟ قال: وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله، قال: وحَسَنٌ أيضاً. وأي شيء أيضاً؟ قال: والناس بنو آدم فهم أخوة لأب وأم. قال: وحسن أيضاً. قال: ولما خرج المغيرة من عنده ذكرَ رستم رؤساء قومه في الإِسلام، فأنفوا ذلك وأبَوا أن يدخلوا فيه، قبَّحهم الله وأخزاهم وقد فعل.
دعوة رِبْعي بن عامر لرستم
قالوا: ثم بعث إليه سعد رضي الله عنه رسولاً آخر بطلبه وهو ربعي بن عامر، فدخل عليه وقد زيَّنوا مجلسه بالنَّمارق المذهَّبة، والزَّرابي الحرير، وأظهر اليواقيت واللآلىء الثمينة والزينة العظيمة، وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب. ودخل ربعي بثياب صفيقة وسيف وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبَها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحُه ودرعه وبيضتُه على رأسه. فقالوا له: ضع سلاحك فقال: إني لم آتِكم وإِنّم جئتكم حين دعوتموني، فإنما تركتموني هكذا وإِلا رجعت. فقال رستم: إئذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النَّمارق فخرَّق عامتها، فقالوا له: ما جاء بكم؟ فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضِيق الدنيا إلى(1/258)
سعَتَها، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإِسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه؛ فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبداً حتى نفضيَ إلى موعود الله، قالوا: وما موعودُ الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي. فقال رستم: لقد سمعت مقالتكم فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا؟ قال: نعم، كم أحبُّ إليكم؟ يوماً أو يومين، قال: لا بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا. فقال: ما سنَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نؤخِّر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك وأمرهم، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل. فقال:
أسيِّدهم أنت؟ قال: لا، ولكن المسلمون كالجسد الواحد يُجير أدناهم على أعلاهم. فاجتمع رستم برؤساء قومه فقال: هل رأيتم قط أعزَّ وأرجح من كلام هذا الرجل؟ فقالوا: معاذ الله أن تميل إِلى شيء من هذا وتدع دينك إلى هذا الكلب أما ترى إلى ثيابه؟ فقال: ويلَكم لا تنظروا إلى الثياب، وانظروا إلى الرأي والكلام والسيرة، إن العرب يستخفُّون بالثياب والمأكل ويصونون الأحساب.
دعوة حذيفة بن محصن والمغيرة بن شعبة لرستم في اليوم الثاني والثالث
ثم بعثوا في اليوم الثاني رجلاً، فبعث إليهم حذيفة بن محصَنَ فتكلم نحو ما قال رِبعي، وفي اليوم الثالث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه فتكلم بكلام حسن طويل، قال فيه رُستم للمغيرة: إنَّما مثلكم في دخولكم أرضنا كمثل الذباب رأى العسل، فقال: من يوصلني إِليه وله درهمان؟ فلما سقط عليه غرق فيه، فجعل يطلب الخلاص فلا يجده، وجعل يقول من يخلِّصني وله أربعة دراهم؟ ومثلكم كمثل ثعلب ضعيف دخل جُحْراً في كرم، فلما رآه صاحب الكرم ضعيفاً رحمه فتركه، فلما سمِن أفسد شيئاً كثيراً، فجاء بخشبة واستعان عليه بغلمانه، فذهب ليخرج فلم يستطع لِسَمْنه فضربه حتى(1/259)
قلته، فهكذا تخرجون من بلادنا. ثم استشاط غضباً، وأقسم بالشمس لأقتلَّنكم غداً. فقال المغيرة: ستعلم. ثم قال رستم للمغيرة: قد أمرت لكم بكسوة ولأميركم بألف دينار وكسوة ومركوب وتنصرفون عنا. فقال المغيرة أبعدَ أن أوهنَّا مُلْككم وضعَّفنا عزَّكم؟ ولنا مدة نحو بلادكم ونأخذ الجزية منكم عن يد وأنتم صاغرون وستصيرون لنا عبيداً علىء رَغْمِكم. فلما قال ذلك استشاط غضباً - انتهى في البداية.
وأخرجه الطبري عن ابن الرُّفَيْل عن أبيه وعن أبي عثمان النَّهدي وغيرهما - فذكر دعوة زُهْرة والمغيرة ورِبْعي وحذيفة - رضي الله عنهم بطوله بمعنى ما تقدم.
بعث سعد طائفة من أصحابه إلى كسرى للدعوة قبل الوقعة
وأخرج ابن جرير عن حسين بن عبد الرحمن قال: قال أبو وائل: جاء سعد رضي الله عنه حتى نزل القادسية ومعه الناس قال: لا أدري لعلَّنا لا نزيد على سبعة آلاف أو ثمانية آلاف والمشركون ثلاثون ألفاً - كذا في هذه الرواية؛ وذكر في البداية عن سَيْف وغيره أنهم كانوا ثمانين ألفاً. وفي رواية: كان رُستم في مائة ألف وعشرين ألف يتبعها ثمانون ألفاً، وكان معه ثلاثة وثلاثون فيلاً منها فيل أبيض كان لسابور فهو أعظمها وأقدمها، وكانت الفيلة تألفه. انتهى؛ ونحو ذلك. فقالوا: لا يَدَ لكم ولا قوة ولا سلاح ما جاء بكم؟ إرجعوا. قال قلنا:(1/260)
ما نحن براجعين. فكانوا يضحكون من نبلنا ويقولون: «دُوك دُوك» ويشبهونها بالمغازل. فلمَّا أبينا عليهم أن نرجع قالوا: إبعثوا إلينا رجلاً من عقلائكم يبين لنا ما جاء بكم؟ فقال المغيرة بن شعبة: أن، فعبر إليهم فقعد مع رُستم على السرير، فنخروا وصاحوا. فقال: إِنَّ هذا لم يزدني رفعة ولم ينقص صاحبكم. فقال رستم: صدقتَ، ما جاء بكم؟ فقال: إنا كنا قوماً في شر وضلالة فبعث الله إلينا نبياً فهدانا الله به ورزقنا على يديه، فكان فيما رزقنا حبّةٌ تنبت في هذا البلد، فلما يكلناها وأطعمناها أهلينا قالوا: لا صبر لنا عنها، أنزلونا هذه الأرض حتى نأكل من هذه الحبّة. فقال رستم: إذاً نقتلكم. قال: إن قتلتمونا دخلنا الجنة وإن قتلناكم دخلتم النار وأدَّيتم الجزية. قال: فلما قال وأدّيتم الجزية نخروا وصاحوا، وقالوا: لا صلح بيننا وبينكم. فقال المغيرة؛ تعبرون إلينا أو نعبر إليكم؟ فاستأخر المسلمون حتى عبروا فحملوا عليهم فهزموهم؛ كذا في البداية. وأخرجه الحاكم من طريق حصين بن عبد الرحمن عن أبي وائل قال: شهدت القادسية فانطلق المغيرة بن شعبة رضي الله عنه - فذكره مختصراً.
وأخرج الحاكم أيضاً عن معاوية بن قُرَّة رضي الله عنه قال: لما كان يوم القادسية بُعث بالمغيرة بن شعبة رضي الله عنه إلى صاحب فارس. فقال: إبعثوا معي عشرة. فبعثوا فشدَّ عليه ثيابه ثم أخذ حَجَفة ثم انطلق حتى أتَوه، فقال: ألقوا لي ترساً فجلس عليه، فقال العِلْج: إنكم - معاشر العرب - قد(1/261)
عرفت الذي حملكم على المجيء إلينا، أنتم قوم لا تجدون في بلادكم من الطعام ما تشبعون منه، فخذوا نعطيكم من الطعام حاجتكم، فإنَّا قوم مجوس وإِنَّا نكره قتلكم، إنكم تنجِّسون علينا أرضنا. فقال المغيرة: والله ما ذاك جاء بنا، ولكنّا كنا قوماً نعبد الحجارة والأوثان، فإذا رأينا حجراً أحسن من حجر ألقيناه وأخذنا غيره، ولا نعرف ربّاً حتى بعث الله إلينا رسولاً من أنفسنا فدعانا إلى الإِسلام، فاتَّبعناه ولم نجيء للطعام، إنَّا أُمرنا بقتال عدوّنا ممَّن ترك الإِسلام، ولم نجيء للطعام لكنا جئنا لنقتل مقاتلتكم ونسبي ذراريكم. وأما ما ذكرت من الطعام فإنا لعمري ما نجد من الطعام ما نشبع منه، وربما لم نجد ريّاً من الماء أحياناً، فجئنا إلى أرضكم هذه فوجدنا فيها طعاماً كثيراً وماءً كثيراً، فوالله لا نبرحها حتى تكون لنا أو لكم؛ فقال العِلْج بالفارسية: صدق. قال وأنت تُفقأ عينك غداً ففقئت عينه من الغد، أصابته نُشَّابة - غريب. قال الحاكم: صحيح الإِسناد ولم يخرِّجاه، وقال الذهبي: صحيح، وأخرجه الطبراني عن معاوية رضي الله عنه مثله. قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح.
وذكر في البداية عن سَيْف أنَّ سعداً رضي الله عنه كان قد بعث طائفة من أصحابه إلى كسرى يدعونه إلى الله قبل الوقعة، فاستأذنوا على كسرى فأذن لهم، وخرج أهل البلد ينظرون إلى أشكالهم وأرديتُهم على عواتقهم، وسياطهم بأيديهم، والنِّعال في أرجلهم، وخيولهم الضعيفة، وخبطِها الأرض بأرجلها؛ وجعلوا يتعجَّبون منها غاية العجب؛ كيف مثل هؤلاء يقهَرون جيوشهم مع كثرة عَدَدها وعُدَدها. ولما استأذنوا على الملك يَزْدَجِرد أذن لهم وأجلسهم بين يديه - وكان مكبِّرا قليل الأدب - ثم جعل يسألهم عن ملابسهم هذه ما اسمها، عن الأردية والنِّعال والسِّياط. ثم كلَّما قالوا له شيئاً من ذلك تفاءل،(1/262)
فرد الله فأله عى رأسه. ثم قال لهم: ما الذي أقدمكم هذه البلاد؟ أظننتم أنّا لما تشاغلنا بأنفسنا اجترأتم علينا فقال له النعمان بن مقرن رضي الله عنه: إِن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولاً يدلنا على الخير ويأمرنا به، ويعرِّفنا الشر وينهانا عنه، ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة. فلم يَدْعُ إلى ذلك قبيلة إلا وصاروا فرقتين: فرقة تقاربه، وفرقة تباعده؛ ولا يدخل معه في دينه إلا الخواص، فمكث كذلك ما شاء الله أن يمكث. ثم أُمر أن ينهد إلى من خالفه من العرب ويبدأ بهم، ففعل فدخلوا معه جميعاً على وجهين: مكروه عليه فاغتبط، وطائع إياه فازداد؛ فعرفنا جميعاً فضل ما جاء به على الذي كنا عليه من العداوة والضيق، وأمرنا أن نبدأ بمن يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإِنصاف، فنحن ندعوكم إِلى ديننا، وهو دين الإِسلام، حسَّن الحَسَن وقبَّح القبيح كله. فإن أبيتم فأمر من الشر هو أهون من آخر شر منه الجزاء، فإن أبيتم فالمناجزة. وإِن أجبتم إِلى ديننا، خلَّفنا فيكم كتاب الله، وأَقمناكم عليه على أن تحكموا بأحكامه، ونرجع عنكم وشأنكم وبلادكم، وإن أتيتمونا بالجِزَى قبلنا ومنعناكم، وإِلا قاتلناكم.
قال: فتكلم يزدجرد، فقال: إنِّي لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عدداً ولا أسوأ ذات بَيْن منكم؛ وقد كنَّا نوكل بكم قرى الضواحي ليكفوناكم، لا تغزوكم فارس ولا تطمعون أن تقوموا لهم، فإن كان عددكم كثر فلا يغرَّنكم منا، وإن كان الجهد دعاكم؛ فرضنا لكم قوتاً إلى خِصبكم، وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم، وملَّكنا عليكم ملكاً يرفق بكم. فأسكت القوم، فقام المغيرة بن شعبة رضي الله عنه فقال: أيها الملك؛ إنَّ هؤلاء رؤوس(1/263)
العرب ووجوههم، وهم أشرافٌ يستحيُون من الأشراف، وإنما يكرم الأشرافَ الأشرافُ، ويعظِّم حقوق الأشرافِ الأشرافُ، وليس كل ما أُرسلوا له جمعوه لك، ولا كل ما تكلَّمت به أجابوك عليه، وقد أحسنوا ولا يحسن بمثلهم إلا ذلك فجاوبني، فأكون أنا الذي أبلِّغك ويشهدون على ذلك. إنَّك قد وصفتنا صفة لم تكن بها عالماً. فأمَّا ما ذكرت من سوء الحال فما كان أسوأ حالاً منا، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع. كنا نأكل الخنافس والجِعلان، والعقارب والحيات، ونرى ذلك طعامنا. وأما المنازل فإنما هي ظهر الأرض، ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإِبل وأشعار الغنم؛ ديننا أن يقتل بعضنا بعضاً، وأن يبغي بعضنا على بعض، وإِنْ كان أحدنا ليدفن إبنته وهي حيّة كراهية أن تأكل من طعامه. وكانت حالنا قبل اليوم على ما ذكرت لك. فبعث الله إلينا رجلاً معروفاً نعرف نسبه، ونعرف وجهه ومولده، فأرضه خير أرضنا، وحسبه خير أحسابنا، وبيته خير بيوتنا، وقبيلته خير قبائلنا، وهو نفسه كان خيرَنا في الحال التي كان فيها أصدَقَنا وأحلَمنا. فدعانا إلى أمر فلم يجبه أحد أول من تِرْبٍ كان له وكان الخليفة من بعده. فقال وقلنا، وصدَّق وكذَّبنا، وزاد ونقصنا، فلم يقل شيئاً إلا كان، فقذف الله في قلوبنا التصديق له وأتباعه؛ فصار فيما بيننا وبين رب العالمين. فما قال لنا فهو قول الله، وما أمرنا فهو أمر الله. فقال لنا إنَّ ربَّكم يقول: أنا الله وحدي لا شريك لي، كنت
إذ لم يكن شيء وكلُّ شيء هالك إلا وجهي، وأنا خلقت كلَّ شيء، وإِليَّ يصير كلُّ شيء، وإنَّ رحمتي أدركتكم. فبعثت إليكم هذا الرجل لأدلَّكم على السبيل التي أُنجيكم بها بعد الموت من عذابي، ولأحلكم داري دار السلام. فنشهد عليه أنَّه جاء بالحق من عند الحق. وقال: من تابعكم على هذا فله ما لكم وعليه ما عليكم، ومن أبَى فأعرضوا عليه الجِزْية ثم امنعوه مما تمنعون منه أنفسكم، ومن أبى فقاتلوه؛ فأنا الحكم بينكم، فمن قَتل منكم أدخلته جنتي، من بقي منكم أعقبته النصر(1/264)
على من ناوأه؛ فاختر إن شئت الجِزْية وأنت صاغر، وإِن شئت فالسيف، أو تسلم فتنجي نفسك.
فقال يزدجرد: أتستقبلني بمثل هذا؟ فقال: ما استقبلت إلا من كلمني، ولو كملني غيرك لم أستقبلك به. فقال: لولا أن الرسل لا تُقتل لقتلتكم لا شيء لكم عندي، وقال: إئتوني بوِقْر من تراب فاحملوه على أشرف هؤلاء، ثم سوقوه حتى يخرج من أبيات المدائن. إرجعوا إلى صاحبكم فأعلموه أنِّي مرسل إِليه رستم حتى يدفنه وجنده في خندق القادسية وينِّكل به وبكم من بعد، ثم أورده بلادكم حتى أشغلكم في أنفسكم بأشدّ مما نالكم من سابور.
ثم قال: ن أشرفكم؟ فسكت القوم، فقال: عاصم بن عمرو رضي الله عنه: وافتات ليأخذ التراب، أنا أشرفهم، أنا سيد هؤلاء فحمِّلْنيه. فقال: أكذلك؟ قالوا: نعم. فحمله على عنقه فخرج به من الإِيوان والدار حتى أتى راحلته فحمله عليها، ثم انجذب في السير ليأتوا به سعداً وسبقهم عاصم فمرَّ بباب قُدَيْس فطواه، وقال: بشِّروا الأمر بالظَّفَر، ظفرنا إن شاء الله تعالى. ثم مضى حتى جعل التراب في الحَجَر، ثم رجع فدخل على سعد رضي الله عنه فأخبره الخبر. فقال: أبشروا فقد - والله - أعطانا الله أقاليد مُلْكِهم؛ وتفاءلوا بذلك أخذ بلادهم. انتهى. وأخرجه ابن جرير، الطبري عن شيب عن سيف عن عمرو عن الشَّعْبي بمثله.
دعوة عبد الله بن المُعْتَم لبني تغلب وغيرهم يوم تكريت
وأخرج ابن جرير أيضاً من طريق سَيْف عن محمد، وطلحة وغيرهما(1/265)
قالوا: لمَّا رأت الروم - أي يوم وقعة تكريت - أنهم لا يخرجون خرجة إلا كانت عليهم ويُهزَمون في كل ما زاحفوهم؛ تركوا أمراءهم، ونقلوا متاعهم إلى السفن، وأقبلت العيون من تغلب وإياد والنَّمِر إلى عبد الله بن المُعْتَم بالخبر، وسألوه للعرب السِلم، وأخبروه قد استجابوا له، فأرسل إليهم إن كنتم صادقين بذلك فاشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأقروا بما جاء من عند الله، ثم أعلمونا رأيكم، فرجعوا إليهم بذلك، فردوهم إليه بالإِسلام. فذكر القصة.
دعوة عمرو بن العاص في وقعة مصر
وأخرج ابن جرير من طريق سيف عن أبي عثمان عن خالد وعبادةَ رضي الله عنهما، قالا: خرج عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى مصر بعدما رجع عمر إلى المدينة، حتى انتهى إلى باب ألْيُون وأتبعه الزبير فاجتمعا رضي الله عنهما، فلقيهم هنالك أبو مريم - جاثِليق مصر - ومعه الأسقُف في أهل النيّات، بعثه المَقوقِس لمنع بلادهم. فلمّا نزل بهم عمرو رضي الله عنه قاتلوه، فأرسل إليهم: لا تعجلون لنعذِر إليكم وتَرْون رأيكم بعد؛ فكَفُّوا أصحابهم لأرسل إليهم عمرو: إنِّي بارز فليبرز إليّ أبو مريم وأبو مريام، فأجابوه إلى ذلك، وامن بعضهم بعضاً. فقال لهما عمرو: أنتما راهبا هذه البلدة فاسمعا: إنَّ الله عزّ وجلّ بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق وأمره به، وأمرنا به محمد صلى الله عليه وسلم وأدّى إلينا كل الذي أُمر به. ثم مضى - صلوات الله عليه ورحمته - وقد قضى الذي عليه وتركنا على الواضحة. وكان مما أمرنا به الإِعذارُ إلى الناس، فنحن ندعوكم إلى الإِسلام، فمن أجابنا إليه فمثلنا، ومن لم يجبنا عرضنا عليه الجزية، وبذلنا له(1/266)
المَنعَة، وقد أعلمنا أنا مفتتحوكم، وأوصانا بكم حفظاً لرَحِمنا فيكم، لأإن لكم إِن أجبتمونا بذلك ذِمةً إلى ذمة. ومما عهد إلينا أميرنا: إستوصوا بالقبطيين خيراً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصنا بالقطيين خيراً، لأن لهم رَحِماً وذمة. فقالوا: قرابة بعيدة لا يَصِلُ مثلَها إلا الأنبياء، معروفة شريفة كانت إبنةَ ملكنا وكانت من أهل مَنْف والملك فيهم؛ فأُديل عليهم أهل عين شمس فقتلوهم وسلبوا ملكهم واغتربوا؛ فلذلك صارت إلى إبراهيم عليه السلام، مرحباً به وأهلاً، آمِنَّا حتى نرجع إليك. فقال عمرو: إنَّ مثلي لا يُخدع ولكني أؤجلكما ثلاثاً لتنظرا ولتُناظِرا قومكما، وإلا ناجزتكم. قالا: زِدْنا. فزادهم يوماً. فقالا: زِدْنا فزادهم يوماً. فرجعا إلى المقوقِس فهمَّ، فأبى أرطبون أن يجيبهما وأمر بمناهدتهم،
فقالا
لأهل مصر: أمَّ نحن فسنجهد أن ندفع عنكم ولا نرجع إليه، وقد بقيت أربعة أيام فلا تصابون فيها بشيء إلا رجَونا أن يكون له أمان. فلم يفجأ عَمْراً والزبير إلا البياتُ من فَرقَبْ، وعمرو على عُدَّة، فلقوه فقتل ومن معه ثم ركبوا أكساءهم، وقصد عمرو، والزبير رضي الله عنهما لعين شمس.
وأخرج الطبري أيضاً عن أبي حارثة، وأبي عثمان قالا: لمَّا نزل عمرو رضي الله عنه على القوم بعين شمس قال أهل مصر لملكهم: ما تريد إلى قوم فَلُّوا كسرى وقيصر وغلبوهم على بلادهم؟ صالحِ القوم واعتقد منهم، ولا تعرض لهم ولا تعرِّضنا لهم، وذلك في اليوم الرابع، فأبى وناهدوهم، فقاتلوهم وارتقى الزبير سورها، فلما أحسُّوه فتحوا الباب لعمرو رضي الله عنه وخرجوا إليه مصالحين. فقبل منهم ونزل عليهم الزبير رضي الله عنه عَنْوة.(1/267)
دعوة الصحابة في إمارة سَلَمة بن قيس الأشجعي في القتال
وأخرج الطبري أيضاً عن سليمان بن بُرَيدة أن أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - كان إذ اجتمع إليه جيش من أهل الإِيمان أمَّر عليهم رجلاً من أهل العلم والفقه، فاجتمع إليه جيش، فبعث عليهم سَلَمة بن قيس الأشجعي رضي الله عنه، فقال سِرْ باسم الله، قاتل في سبيل الله من كفر بالله. فإذا لقيتم عدوَّكم، من المشركين فادعوهم إلى ثلاث خصال: أدعوهم إلى الإِسلام، فإن أسلموا فاختاروا دارهم فعليهم في أموالهم الزكاة وليس لهم في فيء المسلمين نصيب، وإن اختاروا أن يكونوا معكم فلهم مثل الذي لكم وعليهم مثل الذي عليكم. فإن أبَو فادعوهم إلى الخراج، فإن أقرّوا بالخراج فقاتلوا عدوهم من ورائهم، وفرِّغوهم لخراجهم ولا تكلفوهم فوق طاقتهم. فإن أبَوا فقاتلوهم فإنَّ الله ناصرُكم عليهم، فإن تحصَّنوا منكم في حصن فسألوكم أن ينزلوا على حكم الله وحكم رسوله فلا تنزلوهم على حكم الله، فإنكم لا تدرون ما حكم الله ورسوله فيهم، وإِن سألوكم أن ينزلوا على ذمة الله وذمة رسوله (فلا تعطوهم ذمّة الله وذمة رسوله) وأعطوهم ذمم أنفسكم، فإن قاتلوكم فلا تغُلُّوا، ولا تغدروا، ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا وليداً. قال سلمة: فسرنا حتى لقينا عدوَّنا من المشركين، فدعوناهم إلى ما أمر به أمير المؤمنين، فأبَوا أن يسلموا، فدعوناهم إلى الخراج فأبَوا أن يقرّوا، فقاتلناهم فنصرنا الله عليهم، فقتلنا المقاتلة، وسبينا الذرية، وجمعنا الرِّثَّة - فذكر الحديث بطوله جداً.(1/268)
دعوة أبي موسى الأشعري لأهل أصبهان قبل القتال
وأخرج ابن سعد عن بشير بن أبي أمية عن أبيه أن الأشعري نزل بأصبهان فعرض عليهم الإِسلام فأبَوا؛ فعرض عليهم الجزية، فصالحوه على ذلك فباتوا على صلح، حتى إذا أصبحوا أصبحوا على غدر، فبادرهم القتال فلم يكن أسرع من أن أظهره الله عليهم.
قصص الصحابة في الأعمال والأخلاق المفضية إلى هداية الناس قصة إسلام عمرو بن الجموح وما فعل إبنه ومعاذ بن جبل لإِسلامه
أخرج أبو نعيم في الدلائل (ص 109) عن ابن إسحاق قال: لمّا قدم الأنصار المدينة بعدما بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهر الإِسلام بها، وفي قومهم بقايا عل دينهم من أهل الشرك منهم عمرو بن الجَموح، وكان إبنه معاذ قد شهد العَقَبة وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بها. وكان عمرو بن الجموح سيداً من سادات بني سَلِمة وشريفاً من أشرافهم، وكان قد اتخذ في داره صنماً من خشب يقال له «مَنَاة» كما كانت الأشراف يصنعون، يتخذه إلهاً ويطهِّره. فلما أسلم فتيان بني سَلِمة؛ معاذ بن جبل، وابنه معاذ بن عمرو بن الجموح، في فتيان منهم ممّن أسلم وشهد العقبة - كانوا يُدلجون بالليل على صنم عمرو ذلك فيحملونه فيطرحونه في بعض حُفَر بني سَلِمة وفيها عِذَرُ الناس منكَّساً على رأسه. فإذا أصبح عمرو قال: ويلكم من عَدَا على إلهنا في هذه الليلة؟ قال: ثم يغدو يلتمسه حتى إذا وجده غسله وطهَّره وطيَّبه، ثم قال: وايْمُ لله، لو أني أعلم من صنع بك هذا لأخزيَّنه. فإذا أمسى عمرو ونام عَدَوا عليه ففعلوا به مثل ذلك.
فلما أكثروا عليه إستخرجه من حيث ألقَوه يوماً، فغسله وطهَّره وطيَّبه، ثم(1/269)
جاء بسيفه فعلَّقه عليه ثم قال: إنِّي والله ما أعلم من يفعل بك ما ترى فإن كان فيك خير فامتنع فهذا السيف معك. فلما أمسى ونام عدَوا عليه فأخذوا السيف من عنقه، ثم أخذوا كلباً ميتاً فقرنوه معه بحبل، ثم ألقَوه في بئر من أبيار بني سَلِمة فيها عَذِرَة من عِذَر الناس. وغدا عمرو بن الجموح فلم يجده مكانه الذي كان فيه، فخرج في طلبه حتى وجده في تلك البئر منكَّساً مقروناً بكلب ميت.
فلما رآه وأبصر شأنه وكلَّمه مَنْ أسلم من قومه، أسلم - يرحمه الله - وحسن إسلامه.
وزاد منجاب عن زياد في حديثه عن ابن إسحاق قال: وحدثني إِسحاق بن يَسَار عن رجل من بني سَلِمة قال: لما أسلم فتيان بني سَلِمة أسلمت إمرأة عمرو بن الجموح وولده، قال لامرأته: لا تدَعي أحداً من عيالك في أهلك حتى ننظر ما يصنع هؤلاء، قالت: أفعل، ولكن هل لك أن تسمع من إبنك فلان ما روى عنه؟ قال: فلعله صبأ. قالت: لا، ولكن كان مع القوم فأرسل إليه فقال: أخبرني ما سمعت من كلام هذا الرجل فقرأ عليه: «الحمد لله رب العالمين - إلى قوله تعالى - الصراط المستقيم» . فقال: ما أحسن هذا وأجمله، كل كلامه مثل هذا؟ فقال: يا أبتاه، وأحسن من هذا. قال: فهل لك أن تبايعه؟ قد صنع ذلك عامة قومك قال: لست فعلاً حتى أوامر مَنَاة، فأنظر ما يقول. قال: وكانوا إِذا أرادوا كلام مَنَاة جاءت عجوز فقامت خلفه فأجابت عنه. قال: فأتاه وغُيِّبت العجوز وأقام عنده فتشكَّر له. وقال: يا مناة، تشعر أنه قد سئل بك وأنت غافل جاء رجل ينهانا عن عبادتك ويأمرنا بتعطيلك، فكرهت أن أبايعه حتى أوامرك. وخاطبه طويلاً فلم يردّ عليه. فقال: أظنك قد غضبت ولم أصنع بعد شيئاً، فقام إليه فكسره.
وزاد إبراهيم بن سلمة في حديثه عن ابن إسحاق: قال عمرو بن الجموح حين أسلم وعرف من الله ما عرف، وهو يذكر صنمه وما أبصر من أمره، ويتشكَّر الله الذي أنقذه مما كان فيه من العمى والضلالة:(1/270)
أتوبُ إِلى الله ممَّا مضى
وأستنقذ الله من ناره
وأُثني عليه بنعمائه
إلهِ الحرام وأستاره
فسبحانه عدد الخاطئين
وقطر السماء ومدراره
هداني وقد كنت في ظلمة
حليفَ مَنَاة وأحجاره
وأنقذني بعد شيب القَذَالمن شين ذاك ومن عاره
فقد كدت أهلِك في ظلمة
تدارك ذاك بمقداره
فحمداً وشكراً له ما بقيت
إله الأنام وجبَّاره
أريد بذلك إذ قلته
مجاورة الله في داره
وقال أيضاً يذم صنمه:
تالله لو كنت إلهاً لم تكن
أنت وكَلْبٌ وسْطَ بئر في قَرَن
أفَ لملقاك إلهاً مُستدن
الآن فتَّشناك عن سوء الغبن
الحمد لله العليّ ذي المنن
الواهب الرزّاق ديّان الدِّيَن
هو الذي أنقذني من قبل أن
أكون في ظلمة قبر مرتهن
قصة إسلام أبي الدرداء وما فعله ابن رواحة لإِسلامه
وأخرج الحاكم في المستدرك عن الواقدي قال: كان أبو الدرداء رضي الله عنه فيما ذُكر - آخر داره سلاماً، لم يزل متعلَّقاً بصنم له وقد وضع عليه منديلاً، وكان عبد الله بن رواحة رضي الله عنه يدعوه إلى الإِسلام فيأبى؛ فيجيئه عبد الله بن رواحة وكان له أخاً في الجاهلية قبل الإِسلام. فلما رآه قد خرج من بيته خالفه فدخل بيته، وأعجل إمرأته وإِنها لتمشط رأسها. فقال: أين أبو الدرداء؟ فقالت: خرج أخوك آنفاً. فدخل بيته الذي كان فيه الصنم ومعه(1/271)
القَدُوم فأنزله وجعل يقدده فِلْذاً فِلْذاً وهو يترجز سرّاً من أسماء الشياطين كلها، ألا كل ما يُدعى مع الله باطل. ثم خرج وسمعت المرأة صوت القَدُوم وهو يضرب ذلك الصنم، فقالت: أهلكتني يا ابن رواحة فخرج على ذلك فلم يكن شيء حتى أقبل أبو الدرداء إلى منزله، فدخل فوجد المرأة قاعدة تبكي شفقاً منه. فقال: ما شأنك؟ قلت: أخوك عبد الله بن رواحة دخل عليّ فصنع ما ترى. فغضب غضباً شديداً، ثم فكَّر في نفسه فقال: لو كان عند هذا خير لدفع عن نفسه. فانطلق حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ابن رواحة فأسلم.
كتاب عمر إلى عمرو بن العاص في أمر الجزية والسبايا
وأخرج ابن جرير الطبري عن زياد بن جَزْء الزُّبيدي قل: إفتتحنا الإِسكندرية في خلافة عمر رضي الله عنه - فذكر الحديث، وفيه: ثم وقفنا بِبَلْهيب وأقمنا ننتظر كتاب عمر حتى جاءنا، فقرأه علينا عمرو رضي الله عنه وفيه:
أما بعد: فإِنَّه جاءني كتابك تذكر أن صاحب الإِسكندرية عرض أن يعطيك الجزية على أن ترد عليه ما أُصيب من سبايا أرضه، ولعمري، لجزية قائمة تكون لنا ولمن بعدنا من المسلمين أحبُّ إِليَّ من فيء يُقسَم ثم كأنه لم يكن، فأعرض على صاحب الإِسكندرية أن يعطيك الجزية؛ على أن تخيِّروا مَنْ في أيديكم من سبيهم بين الإِسلام وبين دين قومهم؛ فمن اختار منهم(1/272)
الإِسلام فهو من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم؛ ومن اختار دين قومه وخضع عليه من الجزية ما يوضع على أهل دينه، فأمّا من تفرّق من سبيهم بأرض العرب فبلغ مكة - والمدينة واليمن فإنا لا نقدر على ردِّه، ولا نحب أن نصالحه على أمر لا نفي له به.
ذكر ما وقع للصحابة في فتح الإِسكندرية
قال: بعث عمرو إلى صاحب الإِسكندرية يُعلمه الذي كتب به أمير المؤمنين. قال: فقال: قد فعلت. قال: فجمعنا ما في أيدينا من السبايا، واجتمعت النصارى، فجعلنا نأتي بالرجل ممن في أيدينا من السبايا، واجتمعت النصارى، فجعلنا نأتي بالرجل ممن في أيدينا ثم نخيّره بين الإِسلام وبين النصرانية، فإذا اختار الإِسلام كبّرنا تكبيرة هي أشد من تكبيرنا حين تفتح القرية. قال: ثم نحوزه إِلينا. وإذا اختار النصرانية نَخَرت النصارى ثم حازوه إليهم، ووضعنا عليه الجزية، وجزعنا من ذلك جزعاً شديداً حتى كأنه رجل خرج منا إليهم. قال: فكان ذلك الدأب حتى فرغنا منهم. وقد أُتي فيمن أتينا به بأبي مريم عبد الله بن عبد الرحمن. - قال القاسم: قد أدركته وهو عريف بني زُبيد - قال: فوقفناه فعرضنا عليه الإِسلام والنصرانية - وأبوه وأمه وإخوته في النّصارى - فاختار الإِسلام فحزْناه إلينا، ووثب عليه أبوه وأمه وإخوته يجاذبوننا حتى شقَّقوا عليه ثيابه، ثم هو اليوم عريفنا كما ترى - فذكر الحديث.
قصة درع علي وما وقع له مع نصراني ودخوله في الإِسلام
وأخرج الترمذي والحاكم عن الشَّعْبي قال: خرج علي بن أبي طالب(1/273)
رضي الله عنه إلى السوق فإذا هو بنصراني يبيع درعاً، فعرف علي رضي الله عنه الدرع، فقال: هذه درعي، بيني وبينك قاضي المسلمين، - وكان قاضي المسلمين شُرَيحاً؛ وكان علي إستقضاه - فلما رأى شريح أمير المؤمنين قام من مجلس قضائه وأجلس علياً في مجلسه وجلس شريح قدامه إلى جنب النصراني. فقال علي: أمَا - يا شريح - لو كان خصمي مسلماً لقعدت معه، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تصافحوهم، ولا تبدؤوهم بالسلام، ولا تعودوا مرضاهم، ولا تصلُّوا عليهم، وألجئوهم إلى مضايق الطريق، وصغِّروهم كما صغَّرهم الله» ؛ إقضِ بيني وبينه يا شُرَيح. فقال شُرَيح: ما تقول يا أمير المؤمنين؟ فقال علي: هذه درعي وقعت مني منذ زمان. فقال شريح: ما تقول يا نصراني؟ فقال النصراني: ما أكذِّب أمير المؤمنين الدرع درعي. فقال شريح: ما أرى أن تخرج من يده فهل من بيِّنة؟ فقال علي: صدق شريح. فقال النصراني: أما أنا فأشهد أن هذه أحكام الأنبياء، وأمير المؤمنين يجيء إلى قاضيه وقاضيه يقضي عليه، هي - والله يا أمير المؤمنين - درعك. إتَّبعتك وقد زالت عن جملك الأورق، فأخذتها، فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فقال علي: أمَا إذا أسلمت فهي لك، وحمله على فرس.
وعند الحاكم على الشَّعْبي قال: ضاع درع لعلي رضي الله عنه يوم الجمل، فأصابه رجل فباعها، فعُرفت عند رجل من اليهود، فخاصمه إلى شريح، فشهد لعلي الحسن ومولاه قَنْبر. فقال شريح: زدني شاهداً مكان الحسن، فقال: أترد شهادة الحسن؟ قال: لا، ولكن حفظت عنك أنه لا تجوز شهادة الولد لوالده.
وأخرج الحكم في الكُنى وأبو نُعيم في الحلية من طريق إبراهيم بن(1/274)
يزيد التيمي عن أبيه - مطوّلاً، وفي حديثه: فقال شريح: أمَّا شهادة مولاك فقد أجزناها وأمَّا شهادة إبنك لك فلا نجيزها. فقال علي رضي الله عنه: ثكلتك أمك أما سمعت عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة» . ثم قال لليهودي: خذ الدرع. فقال اليهودي: أمير المؤمنين جاء معي إلى قاضي المسلمين فقضى عليه ورضي؛ صدقت - والله يا أمير المؤمنين - إنَّها لدرعك سقطت عن جمل لك التقطتها، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فوهبها له عليّ وأجازه بسبع مائة، ولم يزل معه حتى قتل يوم صِفِّين. كذا في كنز العمال.(1/275)
الباب الثاني باب البيعة
كيف كانت الصحابة رضي الله عنهم يبايعون النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاءَ بعدَه، وعلى أيِّ أمورٍ وقعت البَيْعةُ.(1/277)
باب البيعة البيعة على الإِسلام حديث جرير في هذا الباب
أخرج الطبراين عن جرير رضي الله عنه قال: بايعنا النبي صلى الله عليه وسلم على مثل ما بايع عليه النساء، من مات منا ولم يأت شيئاً منهن ضمن له الجنَّة، ومن مات منا وقد أتى شيئاً منهن وقد أُقيم عليه الحد فهو كفّارة، ومن مات منا وقد أتى شيئاً منهنَّ فستر عليه فعلى الله حسابه؛ قال الهيثمي في مجمع الزوائد وفيه؛ سيف بن هارون وثَّقه وأبو نُعيم وضعَّفه جماعة؛ وبقية رجاله رجال الصحيح. انتهى وأخرجه أيضاً ابن جرير كما في الكنز؛ وسيأتي الحديث في بَيْعة النساء.
بيعة الكبار والصغار والرجال والنساء والشهادة يوم الفتح
وأخرج أحمد عن عبد الله بن عثمان بن خَيْثم أنَّ محمد بن الأسود بن خلف(1/279)
أخبره: أنَّ أباه الأسود رضي الله عنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع الناس يوم الفتح. قال: جلس عند قَرْن مستقبله، فبايع الناس على الإِسلام والشهادة. قلت: وما الشهادة؟ قال: أخبرني محمد بن الأسود بن خَلَف أنه بايعهم على الإِيمان بالله وشهادة أن لا إِله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. كذا في البداية؛ وقال تفرّد به أحمد. وقال الهيثمي: ورجاله ثقات: وعند البيهقي: فجاءه الناس الكبار والصغار والرجال والنساء فبايعهم على الإِسلام والشهادة. كذا في البداية. وبهذا السياق أخرجه الطبراني في الكبير والصغير كما في مجمع الزوائد؛ وكذا أخرجه البغوي وابن السَّكَن والحاكم وأبو نُعيم، كما في الكنز.
بَيْعة مجاشع وأخيه على الإِسلام والجهاد
وأخرج الشيخان عن مجاشع بن مسعود رضي الله عنه قال: أتيت(1/280)
النبي صلى الله عليه وسلم أنا وأخي، فقلت: بايْعنا على الهجرة، فقال: «مَضَتِ الهجرة لأهلها» ، فقلت: علامَ تبايعنا؟ قال: «على الإِسلام والجهاد» . كذا في العيني. وأخرجه أيضاً ابن أبي شَيْبة وزاد: قال: فلقيت أخاه فسألته فقال: صدق مجاشع. كذا في كنز العمال (126/ 83) .
بَيْعة جرير بن عبد الله على الإِسلام
وأخرج أبو عَوَانة في مسنده عن زياد بن عِلاقة قا: سمعت جرير بن عبد الله يحدِّث حين مات المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، خطب الناس فقال: أُوصيكم بتقوى الله وحده لا شريك له، والوقار والسكينة، فإني بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هذه على الإِسلام واشترط عليَّ النُّصح لكل مسلم، فَوَرَبّ الكعبة، إنِّي لكم نصح أجمعين، واستغفر؛ ونزل. وأخرج البخاري أتم منه؛ وأخرج البيهقي وغيره عن زياد بن الحارث الصُّدائي رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته على الإِسلام - فذكر الحديث بطوله، كما تقدم في باب الدعوة (ص 205) .
البيعة على أعمال الإِسلام بيعة بشير بن الخصاصية على أركان الإِسلام وعلى الصدقة والجهاد
أخرج الحسن بن سفيان، والطبراني في الأوسط، وأبو نُعيم، والحاكم، والبيهقي، وابن عساكر، عن بشير بن الخصاصِيَة رضي الله(1/281)
عنه، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبايعه، فقلت: علامَ تبايعني يا رسول الله؟ فمدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يده قال: «تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنَّ محمداً عبده ورسوله، وتصلي الصلوات الخمس لوقتها، وتؤدِّي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، وتجاهد في سبيل الله» . قلت: يا رسول الله، كُلا نطيق إلا اثنتين فلا أطيقهما: الزكاة، والله ما لي إلا عشر ذَوْد هُنّ رِسْل أهلي وحَمولتهن. وأما الجهاد فإني رجل جبان، ويزعمون أنَّه من ولَّى فقد باء بغضب من الله، وأخاف إن حضر القتال أن أخشع بنفسي فأفرَّ فأبوء بغضب من الله. فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ثم حرَّكها، ثم قال: «يا بشير، لا صدقة ولا جاد فَبِمَ إذن تدخل الجنة؟» قلت: يا رسول الله، أبسط يدك أُبايعك، فبسط يده فبايعته عليهن كلَّهن. كذا في كنز العمال. وأخرجه أخمد، ورجاله موثَّقون كما قال الهيثمي.
بيعة جرير بن عبد الله على أركان الإِسلام والنصيحة لكل مسلم
وأخرج أحمد عن جرير رضي الله عنه قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إِقام الصلاة، وإِيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم. وأخرجه أيضاً ابن جرير مثله كما في كنز العمال، والشيخان والترمذي كما في الترغيب،(1/282)
وأخرج أحمد أيضاً من وجه آخر عنه: قال قلت: يا رسول الله، إشترط عليَّ فأنت أعلم بالشرط. قال: «أبايعك على أن تعبد الله وحده لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتنصح لكل مسلم، وتبرأ من الشرك» . ورواه النِّسائي كما في البداية؛ وأخرجه ابن جرير مثله إلا أنه قال: «وتنصح المسلمين وتفارق الشرك» ، كما في الكنز، وأخرج الطبراني عنه قال: أتى جرير رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «مدَّ يدك يا جرير» ، فقال: على مَهْ؟» قال: «أن تسلم وجهك لله، والنصيحة لكل مسلم» ؛ فأذن لها - وكان رجلاً عاقلاً - فقال: يا رسول الله، فيما استطعت؟ فكانت رخصة للناس بعده. كذا في الكنز.
بيعة عوف بن مالك وأصحابه على أركان الإِسلام وعدم السؤال من الناس
وأخرج الرُياني، وابن جرير، وابن عساكر عن عوف بن مالك الأجشعي رضي الله عنه قال: كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة، فقال: «ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم» فردَّدها ثلاث مرات. فقدَّمنا أيدينا فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله قد بايعناك فعلى أي شيء نبايعك؟ فقال: «على أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئاً، والصلوات الخمس، - وسرَّ كلمة خفيّة -: أن لا تسألوا الناس شيئاً» . قال: فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوطه فما(1/283)
يقول لأحد يناوله إياه. كذا في الكنز. وأخرجه أيضاً مسلم، والترمذي، والنِّسائي كما في الترغيب.
بيعة ثوبان على أن لا يسأل أحداً شيئا
وأخرج الطبراني في الكبير عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ومن يبايع؟» فقال ثوبان رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم بايعنا رسول الله، قال: «على أن لا تسأل أحداً شيئاً» . فقال ثوبان: فما له يا رسول الله؟ قال: «الجنة» . فبايعه ثوبان. قال أبو أمامة: فلقد رأيته بمكة في أجمع ما يكون من الناس يسقط سوطه وهو راكب، فربما وقع على عاتق رجل، فيأخذه الرجل فيناوله، فما يأخذه حتى يكون هو ينزل فيأخذه. كذا في الترغيب. وأخرجه أيضاً أحمد، والنسائي وغيرهما عن ثوبان مختصراً، وذكرا(1/284)
قصة السَّوْط لأبي بكر رضي الله عنه، كما في الترغيب (299/ 101) .
بيعة أبي ذرٍ على أمور خمسة
وأخرج أحمد عن أبي ذرِ رضي الله عنه قال: بايعني رسول الله خمساً، وأوثقني سبعاً، وأشهد الله عليَّ سبعاً: أن لا أخاف في الله لومة لائم. قال أبو المُثَنى: قال أبو ذر: فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «هل لك إلى البَيْعة ولك الجنة؟» قلت: نعم، وبسطت يدي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو يشترط عليَّ - أن لا أسأل الناس شيئاً قلت: نعم. قال: «ولا سوطك إِن سقط منك حتى تنزل فتأخذه» . وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ستة أيام ثم أعقل يا أبا ذر ما يقال لك بعد» . فلما كان اليوم السابع قال: «أوصيك بتقوى الله في سرِّ أمرك وعلانيته، وإذا أسأت فأحسن، ولا تسألنَّ أحداً شيئاً وإن سقط سوطك، ولا تقبضنَّ أمانة» . كذا في الترغيب.
بيعة سهل بن سعد وغيره على أعمال الإِسلام
وأخرج الشاشي وابن عساكر عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال:(1/285)
بايعت النبي صلى الله عليه وسلم أن وأبو ذر وعبادة بن الصامت وأبو سعيد الخدري محمد بن مسلمة وسادس، على أن لا تأخذنا في الله لومة لائم: وأما السادس فاستقاله فأقاله. كذا في الكنز. وأخرجه أيضاً الطبراني بنحوه. قال الهيثمي وفيه: عبد المهيمن بن عيَّاش وهو ضعيف. وأخرج مسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: أنا من النقباء الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: بايَعنا على أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، ولا ننهب، ولا نعصي، بالجنة؛ إن فعلنا ذلك؛ فإن غَشِينا من ذلك شيئاً كان قضاؤه إلى الله. وعند ابن جرير عنه - رضي الله عنه - قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا. فمن وفَى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله كان إِلى الله، إن شاء عذَّبه وإن شاء غفر له» . كذا في الكنز.
بيعة عبادة بن الصامت وغيره من الأصحاب في العقبة الأولى
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن عساكر عن عبادة بن الصامت(1/286)
رضي الله عنه قال: كنا أحد عشر رجلاً في العقبة الأولى، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة النساء قبل أن يفرض علينا الحرب، بايعناه على أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نقتل أولادنا، ولا نعصيه في معروف؛ فمن وفَى فله الجنة، ومن غَشيَ شيئاً فأمره إِلى الله، إن شاء الله عذَّبه وإن شاء غفر له. ثم انصرفوا العام المقبل عن بيعتهم، كذا في الكنز. وأخرجه الشيخان نحوه كما في البداية.
البيعة على الهجرة بيعة يَعْلى بن مُنْية عن أبيه
أخرج البيهقي عن يعلى بن مُنْيَة رضي الله عنه قال: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثاني يوم الفتح فقلت: يا رسول الله، بايع أبي على الهجرة؛ قال: «بل أبايعه على الجهاد، وقد انقطعت الهجرة يوم الفتح» . وقد تقدم حديث مجاشع رضي الله عنه (ص 240) : فقلت: يا رسول الله، بايعنا على الهجرة؛ قال: «مضت الهجرة لأهلها» . وحديث جرير (ص 241) : «وتفارق الشرك» . وعند البيهقي في حديث جرير رضي الله عنه: «وتناصح المؤمن وتفارق المشرك» .(1/287)
بيعة الناس على الهجرة يوم الخندق
وأخرج أحمد، والبخاري في التاريخ، وابن أبي خَيْثَمة، وأبو عَوانة، والبَغَوي، وأبو نُعيم، والطبراني عن الحارث بن زياد الساعدي رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وهو يبايع الناس على الهجرة، فظنَّنا أنهم يدعون إلى البيعة، فقلت: يا رسول الله، بايع هذا على الهجرة. فقل: «ومن هذا؟» فقلت: هذا ابن عمي حَوْط بن يزيد - أو يزيد بن حَوْط - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا أبايعكم، إنَّ الناس يهاجرون إليكم ولا تهاجرون إِليهم. والذي نفسي بيده، لا يحب الأنصارَ رجل حتى يلقى الله إلا لقي الله وهو يحبُّه، ولا يُبغض الأنصار رجل حتى يلقى الله إِلا لقي الله وهو يبغضه» . كذا في الكنز. وأخرجه أيضاً أبو داود كما في الإِصابة؛ وقال الهيثمي: رواه أحمد، والطبراني بأسانيد، ورجال بعضها رجال الصحيح غير محمد بن عمرو، وهو حسن الحديث. انتهى.
وأخرج الطبراني عن أبي أُسيد الساعدي رضي الله عنه: أن الناس جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لحفر الخندق يبايعونه على الهجرة. فلما فرغ قال: «يا معشر الأنصار، لا تبايعوا على الهجرة إِنما يهاجر الناس إِليكم، من لقي الله وهو يحبّ الأنصار لقي الله وهو يحبُّه، ومن لقي الله هو يُبغض الأنصار(1/288)
لقي الله وهو يُبغضه. قال الهيثمي وفيه: عبد الحميد بن سهيل ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.
البَيْعة على النصرة بَيْعة سبعين رجلاً من الأنصار عند شِعْب العقبة على النُّصْرة
أخرج أحمد عن جابر رضي الله عنه قال: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين يتَّبع لنسا في منازلهم: عكاظ ومَجَنَّة، في المواسم يقول: «من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلِّغ رسالة ربي وله الجنة» ، فلا يجد أحداً يؤويه ولا ينصره، حتى إنَّ الرجل ليخرج من اليمن أو من مُضرَ فيأتيه قومه وذوو رحمة فيقولون: إحذر غلام قريش لا يفتنك، ويمضي بين رحالهم هم يشيرون إليه بالأصابع. حتى بعثنا الله إليه من يَثْرب فآويناه وصدَّقنا، فيخرج الرجل منّا فيؤمن به ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم تبقَ دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإِسلام.
ثم ائتمروا جمياً، فقلنا: حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف ويُطَّرد في جبال مكة ويخاف؟ فرحل إليه منا سبعون رجلاً حتى قدموا عليه في الموسم، فواعدناه شِعْب العَقَبة، فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين حتى توافينا، فقلنا: يا رسول الله علام نبايعك؟ قال: «تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط(1/289)
والكسل، والنفقة في العُسْر واليُسْر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إِذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة» .
فقمنا إليه وأخذ بيده أسعد بن زرارة وهو من أصغرهم - وفي رواية البيهقي: وهو أصغر السبعين - إلا أنا، فقال: رويداً يا أهل يثرب، فإنّا لم نضرب إليه أكباد الإِبل إلا ونحن نعلم أنَّه رسول الله، وإن إخراجه اليوم مناوأة للعرب كافّة، وقتلُ خياركم، وتعضُّكم السيوف. فإمّا أنتم قوم تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فبيّنوا ذلك فهو أعذر لكم عند الله. قالوا: أبط عنا يا أسعد فوالله لا ندعُ هذه البَيْعة ولا نُسلَبها أبداً قال فقمنا إليه فبايعناه، وأخذ علينا وشرط، ويعطينا على ذلك الجنة. وقد رواه أحمد أيضاً والبيهقي من غير هذا الطريق أيضاً، وهذا إسناد جيِّد على شرط مسلم، ولم يخرِّجوه. كذا في البداية. وقال الحافظ في فتح الباري: إسناده حسن، وصحَّحه الحاكم وابن حبان اهـ؛ وقال الهيثمي: ورجال أحمد رجال الصحيح، وقال: ورواه البزّار وقال في حديثه: فوالله لا نذَرَ هذه البَيْعة ولا نستقيلها.
وأخرج ابن إسحاق عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: فلما(1/290)
اجتمعنا في الشِّعْب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذٍ على دين قومه، إِلا أنّه أحبّ أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثَّق له. فلما جلس كان أولَ متكلم العباسُ بن عبد المطلب، فقال: يا معشر الخزرج، إنَّ محمداً منَّا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عزّة من قومه ومَنَعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الإنحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم تَرون أنكم وافون له با دعوتموه إِليه ومانعوه ممَّن خالفه فأنتم وما تحمَّلتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذِلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدعوه فإنَّه في عزّة ومَنعَة من قومه وبلده. قال فقلنا له: قد سمعنا ما قلتَ، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربِّك ما أحببت. قال: فتكلَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغَّب في الإِسلام. قال: «أُبايعكم على أن تمنعوني مِمَّا تمنعون منه نساءكم وأبناءكم» . قال: فأخذ البراء بن معرور بيده وقال: نعم، فوالذي بعثك بالحق لنمنعنَّك مما نمنع منه أُزُرَنا. فبايِعْنا يا رسول الله، فنحن - والله أبناء الحروب ورثناها كابراً عن كابر قال: فاعترض القول - والبراء يكلِّم رضي الله عنه - أبو الهيثم بن التَّيِّهان، فقال: يا رسول الله، إنَّ بيننا وبين الرجال حبالاً وإنَّا قاطعوها - يعني - اليهود -؛ فهل عسيتَ إن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال: فتبسَّم رضي الله عنه ثم قال: «بل الدمُ الدمُ، الهَدْم الهَدْم، أنا منكم وأنتم مني؛ أحارب من حاربتم وأسلم من سالمتم» .(1/291)
إخراج الأنصار إثني عشر نقيبا
قال كعب رضي الله عنه: وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أخرجوا إليَّ منكم إثني عشر نقيباً يكونون على قومهم بما فيهم» . فأخرجوا منهم إثني عشر نقيباً: تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس. كذا في البداية. والحديث أخرجه أيضاً أحمد والطبراني مطوَّلاً كما في مجمع الزوائد، وقد ساقه بطوله. قال الهيثمي: ورجال أحمد رجال الصحيح غير ابن إسحاق، وقد صرَّح بالسماع. انتهى. وقال الحافظ: أخرجه ابن إسحاق، وصحَّحه ابن حِبّان من طريقه بطوله اهـ.
بَيْعة أبي الهيثم وما قاله لأصحابه
وأخرج الطبراني عن عروة رضي الله عنه مرسلاً قال: كان أول من بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو الهيثم التَّيِّهان رضي الله عنه، وقال: يا رسول الله وإنَّ بيننا وبين الناس حبالاً - والحبال الحِلْف والمواثيق - فلعلنا نقطعها ثم ترجع إلى قومك وقد قطعنا الحبال وحاربنا الناس؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله وقال: «الدمُ الدمُ، الهدم الهدم» . فلما رضي أبو الهيثم بما رجع إِليه رسول(1/292)
الله صلى الله عليه وسلم من قوله أقبل على قومه فقال: يا قوم، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أشهد إِنّه لصادق، وإنَّه اليوم في حرم الله وأمنه وبين ظهري قومه وعشيرته، فاعلموا أنَّه إن تخرجوه رمتكم العرب عن قَوْس واحدة، فإن كانت طابت أنفسكم بالقتال في سبيل الله وذهاب الأموال والأولاد فادعوه إلى أرضكم، فإنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً. وإن خفتم خذلاناً فمن الآن. فقالوا عند ذلك: قبلنا عن الله وعن رسوله ما أعطيانا، وقد أعطينا من أنفسنا الذي سألتنا يا رسول الله؛ فخلِّ بيننا - يا أبا الهيثم - وبين رسول الله فلْنبايعه. فقال أبو الهيثم: أنا أول من بايع، ثم تتابعوا كلهم. فذكر الحديث. قال الهيثمي وفيه: ابن لِهَيعة، وحديثه حسن وفيه ضعف. انتهى.
قول العباس بن عبادة عند البَيْعة
وعند ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة رضي الله عنه: أن القوم لما اجتمعوا لبَيْعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العباس بن عبادة بن نَضْلة - أخو بني سالم بن عوف -: يا معشر الخزرج، هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم، قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا أُنهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلاً أسلمتموه، فمن الآن؟ فهو - والله إنْ فعلتم - خزْيُ الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون بما دعوتموه إليه على نَهْكُةِ الأموال، وقَتْل الأشراف فخذوه، فهو - والله - خير الدنيا والآخرة؟ قالوا: فإنَّا نأخذه على مصيبة الأموال، وقتل الأشراف، فما لنا بذلك - يا رسول الله - إن نحن وَفَينا؟ قال: «الجنة» . قالوا: إبسط يدك؛ فبسط يده فبايعوه - كذا في البداية.
وأخرج ابن إسحاق أيضاً عن معبد بن كعب عن أخيه عبد الله: ثم(1/293)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أرفَضُّوا إلى رحالكم» . قال فقال العباس بن عبادة: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق إِن شئت لنميلنَّ على أهل مِنى غداً بأسيافنا قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لم نُؤْمر بذلك، ولكن إرجعوا إِلى رحالكم» . كذا في البداية.
البَيْعة على الجهاد
أخرج البخاري (ص 397) عن أنس رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فإذا المهاجرون والأنصار يحفِرون في غَداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون بذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النَّصَب والجوع قال صلى الله عليه وسلم
اللَّهم إنَّ العيش عيشُ الآخرة
فاغفرِ الأنصارَ والمهاجرة
فقالوا مجيبين له:
نحن الذين بايعوا محمداً
على الجهاد ما بقينا أبداً
وأخرجه أيضاً مسلم والترمذي كما في جمع الزوائد. وقد تقدم حديث مجاشع رضي الله عنه (ص 240) : فقلت: علامَ تبايعنا؟ قال: «على الإِسلام والجهاد» . وحديث بشير بن الخصاصِيَة رضي الله عنه (ص 241) : «يا بشير، لا صدقة ولا جهاد، فبمَ إذن تدخل الجنة؟» قلت: أبسط يدك أبايعك، فبسط يده فبايعته، وحديث يَعْلى بن مُنْية (ص 244) فقلت: يا رسول الله، بايع أبي على الهجرة قال: «بل أبايعه على الجهاد» .(1/294)
البَيْعة على الموت بَيْعة سلمة بن الأكوع على الموت
أخرج البخاري (ص 415) عن سَلَمة رضي الله عنه قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ثم عدلت إلى ظلِّ الشجرة. فلمَّا خفَّ الناس قال: «يا ابن الأكوع ألا تبايع؟» قال: قلت: قد بايعت يا رسول الله. قال: «أيضاً» فبايعته الثانية، فقلت له: يا أبا مسلم على أي شيء كنتم تبايعون يومئذٍ؟ قال: على الموت. وأخرجه أيضاً مسلم، والترمذي، والنسائي كما في العيني، والبيهقي، وابن سعد. وأخرج البخاري (ص 415) أيضاً عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: لما كان زمن الحرَّة أتاه آتٍ فقال له: إنَّ ابن حنظلة يبايع الناس على الموت. فقال: لا أبايع على هذا أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرجه أيضاً مسلم كما في العيني، والبيهقي.(1/295)
البَيْعة على السمع والطاعة قول عبادة بن الصامت في هذا الباب
أخرج البيهقي عن عبيد الله بن رافع رضي الله عنه قال: قدمتْ روايا خمر، فأتاها عبادة بن الصامت رضي الله عنه فخرَّقها وقال: إنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن نقول في الله، لا تأخذنا فيه لومة لائم، وعلى أن ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا قدم علينا يثرب مما نمنع منه أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا، ولنا الجنة؛ فهذه بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي بايعناه عليها. وهذا إسناد جيِّد قوي، ولم يخرِّجوه. وقد روى يونس عن ابن إسحاق: حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه عنده عبادة رضي الله عنه قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بَيْعة الحرب على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، وأثَرَة» علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول بالحق أينما كُنَّا لا نخاف في الله لومة لائم. كذا في البداية. وأخرج الشيخان بمعناه كما في الترغيب.
بيعة جرير بن عبد الله على السمع والطاعة والنصح للمسلمين
وأخرج ابن جرير عن جرير رضي الله عنه قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على(1/296)
السمع والطاعة، والنصح للمسلمين. وأخرج أيضاً من حديثه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: أبايعك على السمع والطاعة فيما أحببت وفيما كرهت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «أتستطيع ذلك، أو تطيق ذلك؟ فاحترز، قل فيما استطعت» ؛ فقلت: فيما استطعت، فبايَعني والنصح للمسلمين. كذا في كنز العمال. وعند أبي داود، والنِّسائي من حديثه: قال: فبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، وأن أنصح لكل مسلم، وكان إذا باع الشيء أو اشترى، قال: أمَا إنَّ الذي أخذنا منك أحبُّ إلينا ممّا أعطيناك فاختر. كذا في الترغيب.
بيعة عتبة بن عبد وقوله صلى الله عليه وسلم «فيما استطعت» عند البيعة
وأخرج البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا إذا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة يقول لنا: «فيما استطعت» ، وأخرجه النِّسائي، وابن جرير بمعناه كما في الكنز. وأخرج البغوي، وأبو نُعَيم، وابن عساكر عن عتبة بن عبد رضي الله عنه قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع بيعات: خمساً على الطاعة، واثنتين على المحبة. كذا في الكنز.(1/297)
وأخرج ابن جرير عن أنس رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم بيدي هذه على السمع والطاعة فيما استطعت - كذا في الكنز.
بَيْعة النساء قصة بَيْعة نساء الأنصار عند قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة
أخرج أحمد، وأبو يعلى، والطبراني - ورجاله ثقات - كما قال الهيثمي: عن أم عطيّة رضي الله عنها قالت: لمَّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جمع نساء الأنصار في بيت، ثم أرسل إليهن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقام على الباب فسلَّم عليهن فرددن السلام. فقال: أنا رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إليكنّ. فقلنا: مرحباً برسول الله صلى الله عليه وسلم وبرسولِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال: تبايعنَ على أن لا تشركنَ بالله شيئاً، ولا تسرقنَ، ولا تزنينَ، ولا تقتلن أولادكن، ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكنَّ وأرجلكنَّ، ولا تعصينَ في معروف. قلن: نعم؛ فمدّ عمر يده من خارج الباب، ومددنَ أيديهن من داخل، ثم قال: اللهم أشهد. وأمرنا أن نُخرج في العيدين الحُيَّضَ والعُتَّق، ونُهينا على إتِّباع الجنائز، ولا جمعة علينا. فسألته عن البهتان وعن قوله: ولا يعصينك في معروف؛ قال: هي النِياحة. ورواه أبو داود باختصار كثير. كذا في مجمع الزوائد.(1/298)
قلت: وأخرجه البخاري أيضاً باختصار، وقد أخرجه بطوله ابن سعد، وعبد بن حُمَيد كما في الكنز. أخرج أحمد وأبو يَعْلى، والطبراني - ورجاله ثقات - كما قال الهيثمي: عن سلمى بنت قيس رضي الله عنها - وكانت إحدى خالات رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلَّت معه القبلتين، وكانت إِحدى نساء بني عديِّ بن النجار - قالت: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته في نِسْوة من الأنصار، فلما شرط علينا أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف؛ قال: «ولا تغشَشْن أزواجكن» . قالت: فبايعناه. ثم انصرفنا، فقلت لامرأة منهن: إرجعي فسَلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما غِشُّ أزواجنا؟ قالت: فسألته. قال: «تأخذ ماله فتحابي به غيره» .
وأخرج الإِمام أحمد عن عائشة بنت قُدَامة رضي الله عنها بمعناه في البَيْعة على وفْق الآية كما في ابن كثير.(1/299)
وأخرج الطبراني في الكبير والأوسط عن غفيلة بنت عبيد بن الحارث رضي الله عنهما قالت: جئت أنا وأمي قريرة بنت الحارث العنوارية في نساء من المهاجرات، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ضارب عليه قبة بالأبْطَح، فأخذ علينا أن لا نشرك بالله شيئاً - الآية كلَّها. فلما أقررنا وبسطنا أيدينا لنبايعه قال: «إنِّي لا أمسُّ أيدي النساء» ، فاستغفر لنا، وكانت تلك بيعتَنا. قال الهيثمي: وفيه: موسى بن عبيدة وهو ضعيف. انتهى.
وأخرج مالك وصحَّحه ابن حِبَّان عن أُميمة بنت رُقَيْقة قالت: أتيت(1/300)
رسول الله صلى الله عليه وسلم في نِسْوة يبايعنه فقلنا: نبايعك - يا رسول الله - على أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيك في معروف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فيما استطعتُنَّ وأطقتنَّ» . فقلنا: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا. هلمَّ نبايعْك يا رسول الله، قال: «إني لا أصافح النساء، إنما قولي لمائة إمرأة كقولي لامرأة واحدة» . وأخرجه الترمذي وغيره مختصراً كما في الإِصابة.
بَيْعة أُميمة بنت رُقَيقة على الإِسلام
وأخرجه الطبراني - ورجاله ثقات - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: جاءت أمية بنت رُقَيْقَة رضي الله عنها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تبايعه على الإِسلام. فقال: «أبايعك على أن لا تشركي بالله شيئاً، ولا تسرقي، ولا تزني، ولا تقتلي ولدك، ولا تأتي ببهتان تفترينه بين يديك ورجليك، ولا تنوحي، ولا تبرَّجي تبرج الجاهلية الأولى» . كذا في المجمع. وأخرجه أيضاً النِّسائي وابن ماجه، والإِمام أحمد، وصحَّحه الترمذي كما في التفسير لابن كثير.(1/301)
بَيْعة فاطمة بنت عُتْبة
وأخرج أحمد، والبّزار - ورجاله رجال الصحيح - عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت فاطمة بنت عتبة بن ربيعة رضي الله عنها تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ عليها: «أن لا يشركن، ولا يزنين» - الآية. قالت: فوضعت يدها على رأسه حياءً فأعجبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى منها؛ فقالت عائشة رضي الله عنها: أقرّي أيتها المرأة فوالله ما بايعنا إلا على هذا. قالت: فنعم إذاً، فبايعها بالآية. كذا في مجمع الزوائد.
بَيْعة عزَّة بنت خايل النبي صلى الله عليه وسلم وأخرج الطبراني عن عَزّة بنت خايل رضي الله عنها: أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعها أن «لا تزنين، ولا تسرقين، ولا تئدين فتبدين أو تخفين» . قلت: أما الوأد المبدي فقد عرفته، وأما الوأد الخفي فلم أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يخبرني، وقد وقع في نفسي أنه إِفساد الولد، فوالله لا أفسد لي ولداً أبداً. قال(1/302)
الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط والكبير بنحوه عن عطاء بن مسعود الكعبي عن أبيه عنها، ولم أعرف مسعوداً، وبقية رجاله ثقات. انتهى.
بيعة فاطمة بنت عتبة وأختها هند زوج أبي سفيان
وأخرج الحاكم عن فاطمة بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس - رضي الله عنها - أن أبا حُذَيفة بن عتبة رضي الله عنه أتى به وبهند إبنة عتبة رسول الله صلى الله عليه وسلم تبايعه. فقالت: أخذَ علينا فشرط علينا. قالت: قلت له: يا ابن عم، هل علمت في قومك من هذه العاهات أو الهَنات شيئاً؟ قال أبو حذيفة: إيهاً فبايعيه فإنَّ بهذا يُبايع وهكذا يشترط. فقالت هند: لا أُبايعك على السرقة، إِنِّي أسرق من مال زوجي، فكف النبي صلى الله عليه وسلم يده وكفت يدها، حتى أرسل إلى أبي سفيان فتحلَّل لها منه. فقال أبو سفيان: أما الرُّطَب فنعم، وأما اليابس فلا، ولا نعمة. قالت: فبايعناه. ثم قالت فاطمة: ما كانت قبةٌ أبغضَ إليَّ من قبتك ولا أحبَّ أن يبيحها الله وما فيها، ووالله ما من قبة أحبّ إِليَّ أن يعمرها الله ويبارك فيها من قبتك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وأيضاً - والله - لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده» . قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإِسناد، ولم يخرِّجاه؛ ووافقه الذهبي فقال: صحيح.
وعند أبي يَعْلى عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت هند بنت عتبة بن ربيعة - رضي الله عنها - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتبايعه، فنظر إلى ييها فقال: «إذهبي فغيِّري يديك» . قال: فذهبت فغيَّرتهما بحنَّاء، ثم جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أُبايعك على أن لا تشركي بالله شيئاً، ولا تسرقي، ولا تزني» .(1/303)
قالت: أوَ تزني الحرة؟ قال: «ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق» . قالت: وهل تركت لنا أولاداً نقتلهم؟. قال: فبايعته، ثم قالت له - وعليها سواران من ذهب -: ما تقول في هذين السوارين؟ قال: «جمرتان من جمر جهنم» . قال الهيثمي: وفيه: من لم أعرفهن. وأخرجه ابن أبي حاتم مختصراً كما في ابن كثير. وقال في الإِصابة وقصَّتها - في قولها عند بَيْعة النساء: «وأن لا يسرقن ولا يزنين» . فقالت: وهل تزني الحرة؟، وعند قوله: «ولا يقتلنَ أولادهنَّ» وقد ربيناهم صغاراً وقتلتهم كباراً - مشهورةٌ. ومن طرقه ما أخرجه ابن سعد بسند صحيح مرسلٌ عن الشَّعْبي وعن ميمون بن مِهْران، ففي رواية الشَّعْبي: «ولا يزنين» . فقالت هند: وهل تزني الحرة؟ «ولا تقتلن أولادكنَّ» ، قالت: أنت قتلتهم. وفي رواية نحوه، لكن قالت: وهل تركت لنا ولداً يوم بدر؟.
وأخرح ابن مَنْدَه وفي أوله: إني أريد أن أبيع محمداً. قال: قد رأيتك تكفرين. قالت: إي والله، والله ما رأيت الله تعالى عُبِد حقَّ عبادته في هذا المسجد قبل الليلة، والله: إن باتوا إلا مصلين قياماً وركوعاً وسجوداً. قال: فإنك قد فعلت ما فعلت، فاذهبي برجل من قومك معك. فذهبت إلى عمر رضي الله عنه، فذهب معها فاستأذن لها، فدخلت وهي مُتنقِّبة - فذكر قصة البَيْعة. وفيه عن مرسل الشَّعبي المذكور: قالت هند: قد كنت أفنيت من مال أبي سفيان. فقال أبو سفيان: ما أخذت من مالي فهو حلال. انتهى مختصراً.(1/304)
وقد أخرجه ابن جرير من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بطوله كما ذكر ابن كثير في تفسيره، وفيه: قال أبو سفيان: ما أصبتِ من شيء مضى أو قد بقي فهو لك حلال. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها فدعاها، فأخذت بيده وعاذرته؛ فقال: «أنت هند» . قالت: عفا الله عما سلف. فصرف عنها رسول الله، فقال: «ولا يزنين» . فقالت: يا رسول الله، وهل تزني إمرأة حرة؟ قال: «لا والله ما تزني الحرة» . قال: «ولا يقتلن أولادهن» . قالت هند: أنت تقتلهم يوم بدر؛ فأنت وهم أبصر. قال: «ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن» . قال: «ولا يعصينك في معروف» . قال: منعهن أن ينحنَ وكان أهل الجاهلية يمزقنَ الثياب، ويخدشنَ الوجوه، ويقطعنَ الشعور، ويدعون بالويل والثبور. قال ابن كثير: وهذا أثر غريب. وأخرج ابن أبي حاتم عن أسيد بن أبي أسيد البزار عن إمرأة من المبايعات قالت: كان فيما أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نعصيَه في معروف، وأن لا نخمش وجهاً، ولا ننشر شَعَراً، ولا نشقّ جَيْباً، ولا ندعو وَيْلاً، كذا في التفسير لابن كثير.
بيعة من لم يحتلم بَيْعة الحسنين وابن عباس وابن جعفر
أخرج الطبراني عن محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم: أن(1/305)
النبي صلى الله عليه وسلم بايع الحسن، والحسين، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر وهم صغار، ولم يبقلوا، ولم يبلغوا، ولم يبايع صغيراً إلا منَّا. قال الهيثمي: وهو مرسل، ورجاله ثقات.
بَيْعة ابن الزبير، وابن جعفر
وأخرج الطبراني أيضاً عن عبد الله بن الزبير، عبد الله بن جعفر رضي الله عنهم أنهما بايعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما إبنا سبع سنين. فلما رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم تبسَّم وبسط يده، فبايعهما. قال الهيثمي: وفيه إسماعيل بن عيَّاش وفيه خلاف، وبقية رجاله رجال الصحيح، وأخرجه أيضاً أبو نعيم، وابن عساكر عن عروة: أن عبد الله بن الزبير، عبد الله بن جعفر - وفي لفظ: جعفر بن الزبير - بايعا النبي صلى الله عليه وسلم وهما إبنا سبعِ سنين - فذكر نحوه كما في المنتخب.
وأخرح النِّسائي عن الهِرْماس بن زياد رضي الله عنه قال: مددت يدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا غلام ليبايعني، فلم يبايعني. كذا في جمع الفوائد.
بَيْعة الصحابة على يد أبي بكر رضي الله عنه
أخرج ابن شاهين في الصحابة عن إبراهيم بن المنتشر، عن أبيه، عن جده، قال: كانت بيعة النبي صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله عليه: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} (الفتح: 10) التي بايع الناس عليها - البيعةَ لله والطاعة للحق، وكانت(1/306)
بيعة أبي بكر رضي الله عنه: تبايعوني ما أطعتُ الله، وكانت بيعة عمر رضي الله عنه. ومن بعده كبيعة النبي صلى الله عليه وسلم كذا في الإِصابة.
وأخرج البيهقي عن ابن العفيف رضي الله عنه قال: رأيت أبا بكر رضي الله عنه وهو يبايع الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجتمع إِليه العِصابة فيقول: تبايعوني على السمع والطاعة لله ولكتابه ثم للأمير؟ فيقولون: نعم، فيبايعهم. فقمت عنده ساعة - وأنا يومئذٍ المحتلم أو فوقه - فتعلمتُ شرطَه الذي شَرَط على الناس، ثم أتيته فقلت وبدأته، قلت: أنا أبايعك على السمع والطاعة لله ولكتابه ثم للأمير، فصعَّد فيَّ البصر ثم صوَّبه، ورأيت أبي أعجبته - رحمه الله -.
وأخرج مُسَدَّد عن أبي السَّفَر رضي الله عنه قال: كان أبو بكر رضي الله عنه إذا بعث إلى الشام بايعهم على الطَّعْن والطاعون. كذا في الكنز.
بَيْعة الصحابة على يد عمر رضي الله عنه
وأخرج ابن سعد، بن أبي شيبة والطيالسي عن أنس رضي الله عنه(1/307)
قال: قدمت المدينة وقد مات أبو بكر رضي الله عنه واستُخلف عمر رضي الله عنه، فقلت لعمر: إرفع يدك أبايْعك على ما بايعت عليه صاحبك قبلك؛ على السمع والطاعة فيما استطعت. كذا في الكنز.
وأخرج ابن سعد عن عُمَير بن عطية اللَّيثي رضي الله عنه: أتيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقلت: يا أمير المؤمنين إرفع يدك - رفعها الله - أُبايعْك على سنّة الله وسنّة رسوله. فرفع يده وضحك: هي لنا عليكم ولكم علينا. وعن عبد الله بن حكيم رضي الله عنه قال: بايعت عمر رضي الله عنه بيدي هذه على السمع والطاعة. كذا في الكنز.
بَيْعة وفد الحمراء على يد عثمان رضي الله عنه
وأخرج أحمد في السُّنَّة عن سليم أبي عامر رضي الله عنه: أن وفد الحمراء أتَوا عثمان رضي الله عنه فبايعوه على أن لا يشركوا بالله شيئاً، ويُقيموا الصلاة، ويُؤتوا الزكاة، ويصوموا رمضان، ويَدَعوا عيد المجوس. فلما قالوا: نعم، بايَعهم. كذا في كنز العمال.
بَيْعة المسلمين لعثمان رضي الله عنه بالخلافة
وأخرج البخاري عن المِسْوَر بن مَخْرمة رضي الله عنه أن الرَّهْط الذين(1/308)
ولاهم عمر رضي الله عنه إجتمعوا فتشاوروا، فقال لهم عبد الرحمن رضي الله عنه: لست بالذي أنافسكم على هذا الأمر، ولكنَّكم إِن شئتم إخترت لكم منكم، فجعلوا ذلك إلى عبد الرحمن. فلمّا ولَّوْا عبد الرحمن أمْرَهم، فمال الناس على عبد الرحمن حتى ما أرى أحداً من الناس يتبع أولئك الرهط لا يطأ عقبه. ومال الناس على عبد الرحمن يشاورونه تلك الليالي، حتى إذا كانت الليلة التي أصبحنا منها فبايعنا عثمان رضي الله عنه. قال المِسْوَر: طرقني عبد الرحمن بعد هِجْع من الليل، فضرب الباب حتى استيقظت، فقال: أراك نائماً - فوالله - ما اكتحلتُ هذه الليلة بكثير نوم، إنطلق فادعُ الزبير وسعداً، فدعوتهما له فشاورهما؛ ثم دعاني فقال: إدع لي علياً فدعوته، فناجاه حتى ابهارَّ الليل. ثم قام علي من عنده وهو على طمع - وقد كان عبد الرحمن يخشى من علي شيئاً - ثم قال لي: أدعُ لي عثمان فدعوته، فناجاه حتى فرَّق بينهما المؤذن بالصبح. فلمَّا صلَّى الناس الصبح واجتمع أولئك الرهط عند المنبر، فأرسل عبد الرحمن إلى من كان حاضراً من المهاجرين والأنصار، وأرسل إلى أمراء الأجناد - وكانوا قد وافَوا تلك الحجَّة مع عمر رضي الله عنه - فلما اجتمعوا تشهَّد عبد الرحمن ثم قال: أما بعد يا علي، إِنِّي قد نظرت في أمر الناس، فلم أرَهم يعدلون بعثمان، فلا تجعلنَّ على نفسك سبيلاً، وأخذ بيد عثمان رضي الله عنه وقال: أبايعك على سنّة الله وسنّة رسوله والخليفتين من بعده. فبايعه عبد الرحمن وبايعه الناس: المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون. وأخرجه البيهقي أيضاً بنحوه.(1/309)
الباب الثالث باب تحمل الشدائد في الله
كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم يتحمّلون الشدائد والأذى، والجوع والعطش، إِظهاراً للدين المتين. وكيف هانت عليهم نفوسهم في الله لإِعلاء كلمته.(1/311)
باب تحمل الشدائد في الله قول المقداد في الحال التي بعث عليها النبي عليه السلام
أخرج أبو نعيم في الحلية عن جبير بن نُفَير، عن أبيه قال: جلسنا إلى المقداد بن الأسود رضي الله عنه يوماً، فمرَّ به رجل، فقال: طُوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لودِدنا أنا رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شهدت فاستمعت، فجعلت أعجب، ما قال إلا خيراً. ثم أقبل عليه، فقال: ما يحمل أحدَكم على أن يتمنى محضراً غيّبه الله عزّ وجلّ عنه، لا يدري لو شهده كيف كان يكون فيه؟ والله، لقد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوام - كبَّهم الله عزّ وجلّ على مناخرهم في جهنم - لم يجيبوه ولم يصدِّقوه ولا تحمدون الله إذ أخرجكم الله عزّ وجلّ لا تعرفون إِلا ربَّكم مصدِّقين بما جاء به نبيكم عليه السلام وقد كُفيتم البلاءَ بغيركم؟ والله، لقد بُعث النبي صلى الله عليه وسلم على أشدّ حال بعث عليه نبي من الأنبياءِ، في فترة وجاهليْة، ما يرون ديناً أفضل من عبادة الأوثان. فجاء بفُرقان فرَّق به بين الحق والباطل، وفرّق بين الوالد وولده، حتى إنّ الرجل ليرى والده أو ولده أو أخاه كافراً وقد فتح الله تعالى قفل قلبه للإِيمان، فيعلم أنّه قد هلك من دخل النار فلا تقر عينه وهو يعلم أن حميمه في النار، وإِنّها للتي قال الله عزّ وجلّ: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْواجِنَا(1/313)
وَذُرّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (الفرقان: 74) . وأخرجه الطبراني أيضاً بمعناه بأسانيد في أحدها يحيى بن صالح وثَّقه الذهبي، وقد تكلَّموا فيه، وبقية رجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمي في المجمع.
قول حذيفة في هذا الباب
وأخرج ابن إسحاق عن محمد بن كعب القُرَظي قال: قال رجل من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان رضي الله عنه: يا أبا عبد الله، رأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه؟ قال: نعم يا ابن أخي. قال: فكيف كنتم تصنعون؟ قال: والله لقد كنا نجتهد. قال: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا. قال؛ فقال حذيفة: يا ابن أخي - والله - لقد رأيتُنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق - فذكر الحديث في تحمُّلهم شدّة الخوف وشدة الجع والبرد. وعند مسلم: فقال له حذيفة: أنت كنت تفعل ذلك؟ لقد رأيتُنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب في ليلة ذات ريح شديدة وقرّ - فذكره. وعند الحاكم والبيهقي: فقال حذيفة: لا تمنَّوا ذلك - فذكره كما سيأتي في تحمُّل(1/314)
الخوف.
تحمل النبي صلى الله عليه وسلم الشدائد والأذى في الدعوة إلى الله قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب
أخرج أحمد عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «لقد أُوذيتُ في الله وما يُؤذى أحد، وأُخفتُ في الله وما يُخاف أحد، ولقد أتت عليّ ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبلال ما يأكله ذو كَبِد؛ إلا ما يُواري إبْط بلال» . كذا في البداية. وأخرجه أيضاً الترمذي وابن حِبّان في صحيحه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. كذا في الترغيب. وأخرجه أيضاً ابن ماجَهْ، وأبو نُعيم.
ما قاله صلى الله عليه وسلم لعمِّه حين ظنَّ ضعفه عن نُصرْته
وأخرج الطبراني في الأوسط والكبير عن عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه قال: جاءت قريش إِلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب، إنَّ ابن أخيك يأتينا في أفنيتنا وفي نادينا فيسمعنا ما يؤذينا به، فإن رأيت أن تكفَّه عنا فافعل.(1/315)
فقال لي: يا عقيل، إلتمس لي ابن عمك. فأخرجته من كِبس من أكباس أبي طالب، فأقبل يمشي معي يطلب الفيء يمشي فيه فلا يقدر عليه حتى انتهى إِلى أبي طالب. فقال له أبو طالب: يا ابن أخي، والله ما علمت أن كنت لي لمطاعاً، وقد جاء قومك يزعمون أنك تأتيهم في كعبتهم وفي ناديهم تسمعهم ما يؤذيهم فإن رأيت أن تكفَّ عنهم؟ فحلَّق ببصره إلى السماءِ فقال: «والله، ما أنا بأقدرَ أن أدعَ ما بُعثت به من أن يُشعِلَ أحدكم من هذه الشمس شعلة من نار» . فقال أبو طالب: والله ما كذب ابن أخي قط إرجعوا راشدين. قال الهيثمي: رواه الطبراني، وأبو يَعْلَى باختصار يسير من أوله، ورجال أبي يَعْلَى رجال الصحيح. إنتهى. وأخرجه البخاري في التاريخ بنحوه كما في البداية.
وعند البيهقي أن أبا طالب قال له صلى الله عليه وسلم يا ابن أخي، إنّ قومك قد جاؤوني وقالوا كذا كذا، فأبق عليَّ وعلى نفسك، ولا تحمِّلني من الأمر ما لا أطيق أنا ولا أنت، فاكفف عن قومك ما يكرهون من قولك. فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قد بَدَا لعمه فيه، وأنه خاذله ومُسْلمة، وضعف عن القيام معه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا عم، لو وُضعت الشمس في يميني، والقمر في يساري؛ ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك في طلبه» ؛ ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى. فلما ولَّى قال له - حين رأى ما بلغ الأمر برسول الله صلى الله عليه وسلم ـ: يا ابن أخي، فأقبل عليه، فقال: إمضِ على أمرك وافعل ما أحببت، فواا لا أسلمك لشيء أبداً. كذا في البداية.(1/316)
ما تحمَّله عليه السلام من الأذى بعد موت عمه
وأخرج البيهقي عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: لمَّا مات أبو طالب عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم سفيه من سفهاء قريش فألقى عليه تراباً، فرجع إلى بيته فأتت إمرأة من بناته تمسح عن وجهه التراب وتبكي، فجعل يقول: «أي بنية، لا تبكي، فإن الله مانعٌ أباك» ويقول ما بين ذلك: «ما نالت قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب، ثم شرعوا» . كذا في البداية. وأخرج أبو نعيم في الحلية: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال: لما مات أبو طالب تجهَّموا بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ي عمّ، أسرع ما وجدت فقدك» .
ما لقيه عليه السلام من الأذى من قريش ما أجابهم به
وأخرج الطبراني عن الحارث بن الحارث قال: قلت لأبي: ما هذه الجماعة؟ قال: هؤلاء القوم الذين اجتمعوا على صابىء لهم. قال: فنزلنا فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى توحيد الله عزَّ وجلَّ والإِيمان، وهم يردُّون عيه ويؤذونه، حتى انتصف النهار وانصدع الناس عنه، أقبلت إمرأة قد بدا نحرها تحمل قَدَحاً ومِنديلاً، فتناوله منها فشرب وتوضأ ثم رفع رأسه فقال: «يا بنية، خِّمري عليك نحرك، ولا تخافي على أبيك» . قلنا من هذه؟ قالوا: هذه زينب إبنتُه. قال الهيثمي: رجله ثقات،(1/317)
وعنده أيضاً عن مَنبِت الأزدي قل: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية وهو يقول: «يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا» فمنهم من تفل في وجهه، ومنهم من حثا عليه التراث، ومنهم من سبَّه، حتى انتصف النهار، فأقبلت جارية بِعُسّ من ماء، فغسل وجهه ويديه وقال: «يا بنية، لا تخشيَ على أبيك غِيلَة، ولا ذلّة» . فقلت: من هذه؟ قالوا: زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي جارية وضيئة. قال الهيثمي: وفيه مَنبِت بن مُدْرك، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.
وأخرج البخاري عن عروة رضي الله عنه قال: سألت ابن العاص رضي الله عنه فقلت: أخرني بأشدِّ شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حِجْر الكعبة؛ إذ أقبل عليه عقبة بن أبي مُعَيط فوضع ثوبه على(1/318)
عنقه خنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (المؤمنون: 28) . الآية؛ كذا في البداية.
وعند ابن أبي شَيْبة عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: ما رأيت قريشاً أرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم إلا يوماً ائتمروا به وهم جلوس في ظل الكعبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي عند المقام، فقام إليه عقبة بن أبي مُعَط، فجعل رداءه في عنقه ثم جذبه حتى وجب لركبتيه ساقطاً، وتصايح الناس، فظنوا أنه مقتول. فأقبل أبو بكر رضي الله عنه يشتد حتى أخذ بِضَبُعَي رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائه ويقول: «أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟» ثم انصرفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلّى فلما قضى صلاته مرَّ بهم - وهم جلوس في ظلِّ الكعبة - فقال: يا معشر قريش، أما والذي نفس محمد بيده، ما أرسلت إليك إلا بالذبح» وأشار بيده إلى حَلْقه. فقال له أبو جهل: ما كنت جهولاً. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنت منهم» - كذا في كنز العمال. وأخرجه أيضاً أبو يَعْلى والطبراني بنحوه، قال الهيثمي: وفيه محمد بن عمرو بن علقمة، وحديثه حسن، وبقية رجال الطبراني رجال الصحيح. انتهى. وأخرجه أيضاً أبو نُعيم في دلائل النبوة (ص 67) .(1/319)
وأخرج أحمد عن عروة بن الزبير عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قلت له: ما أكثرَ ما رأيتَ قريشاً أصبت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانت تظهر من عداوته؟ قال: حضرتهم - وقد اجتمع أشرافهم في الحِجْر - فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط سفّه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرَّق جماعتنا، وسبّ آلهتنا. لقد صبرنا منه على أمر عظيم - أو كما قالوا -. قال: فبينما هم في ذلك إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشي حتى استقبل الركن، ثم مرّ بهم طائفاً بالبيت. فلما مرَّ بهم غمزوه ببعض ما يقول. قال: فعرفت ذلك في وجهه، ثم مضى. فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجهه، ثم مضى. فل مرَّ بهم الثالثة فغمزوه بمثلها، فقال: «أتسمعون يا معشر قريش؟ أما والذي نفس محمد بيده، لقد جئتكم بالذَّبح» . فأخذتِ القومَ كلمتُه حتى ما منهم رجل إلا على رأسه طائر واقع، حتى إنَّ أشدهم فيه وضاءة قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول، حتى إنَّه ليقول: إنصرف يا أبا القاسم، إنصرف راشداً. فوالله ما كنت جهولاً. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم
حتى إذا كان الغد إجتمعوا لي الحِجْر - وأنا معهم - فقال بعضهم لبعض؛ ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم منه، حتى إذا باداكم بما تكرهون تركتموه؟ فبينما هم في ذلك إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، فأطافوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا؟ - لما كان(1/320)
يبلغهم من عيب آلهتهم ودينهم - قال فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «نعم، أنا الذي أقول ذلك» قال: فلقد رأيت رجلاً منهم أخذ بمجمع ردائه، وقام أبو بكر رضي الله عنه دونه يقول وهو يبكي: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟ ثم انصرفوا عنه، فإن ذلك لأشدُّ ما رأيت قريشاً بلغت منه قط. قال الهيثمي: وقد صرَّح ابن إسحاق بالسَّمع، وبقية رجاله رجال الصحيح انتهى.
وأخرجه أيضاً البيهقي عن عروة رضي الله عنه قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: ما أكثر ما رأيتَ قريشاً - فذكر الحديث بطوله نحوه كما ذكر في البداية.
وأخرج أبو يَعْلى عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنهم قالوا لها: ما أشد ما رأيت من المشركين بلغوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان المشركون قعدوا في المسجد يتذاكرون رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقول في آلهتهم، فبينما هم كذلك إِذ أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاموا إِليه فأجمعهم، فأتى الصريخ إلى أبي بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه، فقالوا: أدرك صاحبك. فخرج من عندنا وإنَّ له لغدائرَ أربع، وهو يقول: ويلكم/ «أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءك بالبينات من ربكم؟» . فَلَهوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على أبي بكر. قالت: فرجع إِلينا أبو بكر فجعل لا يمسُّ شيئاً من غدائره إِلا جاء معه، وهو يقول: تباركتَ يا ذا الجلال والإِكرام. قال الهيثمي وفيه: تَدْروس جدّ أبي(1/321)
الزبير، ولم أعرفه؛ وبقية رجاله ثقات. انتهى. وذكره ابن عبد البر في الإستيعاب عن ابن عيينة، عن الوليد بن كثير، عن ابن عبدوس، عن أسماء رضي الله عنها - فذكره بنحوه، وبهذا الإِسناد أخرجه أبو نعيم في الحِلْية - مختصراً، وفيه: ابن تدروس عن أسماء. وأخرج أبو يعلى عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لقد ضربوا(1/322)
رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة حتى غُشي عليه، فقام أبو بكر رضي الله عنه فجعل ينادي: ويلكم/ «أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟» . فقالوا: من هذا فقالوا: أبو بكر المجنون. وأخرجه أيضاً البزّار - وزاد: فتركوه وأقبلوا على أبي بكر، ورجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمي. وأخرجه أيضاً الحاكم. وقال: حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرِّجاه.
قول علي في شجاعة أبي بكر رضي الله عنهما في خطبة له
وأخرج البزّار في مسنده عن محمد بن عقيل عن علي رضي الله عنه أنه خطبهم فقال: يا أيها الناس: من أشجع الناس؟ فقالوا: أنت يا أمير المؤمنين. فقال: أمَا إنِّي ما بارزني أحد إلا انتصفتُ منه، ولكن هو أبو بكر؛ إنا جعلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشاً، فقلنا: من يكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا يهوي إليه أحد من المشركين؟ فوالله، ما دنا منا أحد إلا أبو بكر شاهراً بالسيف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يهوي إليه أحد إلا أهوى إليه؛ فهذا أشجع الناس.
قال: ولقد رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذته قريش، فهذا يحادُّه وهذا يُتَلتله ويقولون: أنتَ جعلت الآلهة إلهاً وحداً؟ فوالله، ما دنا منا أحد إلا أبو بكر، يضرب هذا، ويجاهد هذا، ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم، أتقتلون رجلاً(1/323)
أن يقول ربي الله؟. ثم رفع علي بُرْدة كانت عليه فبكى حتى اخضلَّت لِحيته، ثم قال: أنشدكم الله، أمؤمن آل فرعون خير أم هو؟ فسكت القوم. فقال علي رضي الله عنه: فوالله، لساعة من أبي بكر خير من ملء الأرض من مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه وهذا رجل أعلن إيمانه ثم قال البزار: لا نعلمه يُروى إلا من هذا الوجه. كذا في البداية. وقال الهيثمي: وفيه من لم أعرفه.
طرح رؤساء قريش الفَرْث عليه صلى الله عليه وسلم وانتصار أبي البختري له
وأخرج البزّار والطبراني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، وأبو جهل بن هشام، وشيبة وعتبة إبنا ربيعة، وعُقبة بن أبي معيط، وأمية بن خلف، ورجلان آخران كانوا سبعة وهم في الحِجر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي، فلما سجد أطال السجود. فقال أبو جهل: أيُّكم يأتي جزور بني فلان فيأتينا بفَرْثها، فنكفؤه على محمد؟ فانطلق أشقاهم عقبة بن أبي معيط فأتى به فألقاه على كتفيه ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد. قال ابن مسعود: وأنا قائم لا أستطيع أن أتكلم ليس عندي مَنَعة تمنعني، فأنا أذهب إذ سمعتْ فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبلت حتى ألقت ذلك عن عاتقه، ثم استقبلت قريشاً تسبُّهم، فلم يرجعوا إليها شيئاً. ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه كما كان يرفع عند تمام السجود. فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال: «اللَّهمَّ عليك بقريش - ثلاثاً عليك بعتبة، وعقبة، وأبي جهل، وشيبة» . ثم خرج من المسجد فلقيه أبو البختري بسوط يتخصّر به، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنكر وجهه،(1/324)
فقال: ما لك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم «خلّ عني» . قال: علما لله لا أُخلِّي عنك أو تخبرني ما شأنك، فلقد أصابك شيء؟. فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه غير خلَ عنه أخبره، فقال: «إنَّ أبا جهل أمر فطُرح عليَّ فرثٌ» ، فقال أبو البَختري: هلمَّ إلى المسجد، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وأبو البختري فدخلا المسجد؛ ثم أقبل أبو البختري إلى أبي جهل فقال: يا أبا الحكم، أنت الذي أمرتَ بمحمد فطُرح عليه الفرث؟ قال: نعم. فقال: فرفع السوط فضرب به رأسه. قال: فثار الرجال بعضها إلى بعض، قال: وصاح أبو جهل: ويحكم، هي له، إنما أراد محمد أن يُلقي بيننا العداوة وينجو هو وأصحابه. قال الهيثمي: وفيه: الأجلح بن عبد الله الكندي وهو ثقة عند ابن معين وغيره، وضعَّفه النسائي
وغيره.
انتهى. وأخرجه أيضا أبو نُعيم في دلائل النبوة (ص 90) نحو رواية البزار، والطبراني.
وأخرجه أيضاً الشيخان، والترمذي وغيرهم باختصارِ قصة أبي البختري. وفي ألفاظ الصحيح: أنهم لما فعلوا ذلك استضحكوا حتى جعل يميل بعضهم إلى بعض أي من شدة الضحك. وعند أحمد: وقال عبد الله: فلقد رأيتهم قُتلوا يوم بدر جميعاً. كذا في البداية.(1/325)
إيذء أبي جهل رسول الله صلى الله عليه وسلم وغضب حمزة على أبي جهل
وأخرج الطبراني عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس بن شريق حليف بني زُهرة مرسلاً: أن أبا جهل إعترض لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالصَّفا، فآذاه. وكان حمزة رضي الله عنه صاحب قَنْص وصيد، وكان يومئذٍ في قَنْصه. فلما رجع قالت له إمرأته - وكانت قد رأت ما صنع أبو جهل برسول الله صلى الله عليه وسلم ـ: يا أبا عُمرة، لو رأيت ما صنع - تعني أبا جهل - بابن أخيك؟ فغضب حمزة رضي الله عنه، ومضى كما هو قبل أن يدخل بيته وهو معلّق قوسه في عنقه حتى دخل المسجد، فوجد أبا جهل في مجلس من مجالس قريش، فلم يكلِّمه حتى علا رأسه بقوسه فشجِّه. فقام رجال من قريش إلى حمزة يمسكونه عنه، فقال حمزة: ديني دين محمد، - أشهد أنه رسول الله، فوالله، لا أنثني عن ذلك فامنعوني من ذلك إن كنتم صادقين فلما أسلم حمزة رضي الله عنه عزّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، وثبت لهم بعض أمرهم، وهابت قريش، وعلموا أن حمزة رضي الله عنه سيمنعه. قال الهيثمي: ورجاله ثقات.
وأخرجه الطبراني أيضاً عن محمد بن كعب القرظي مرسلاً، وفي حديثه: فأقبل من رَمْيه ذات يوم فلقيته إمرأة، فقالت: يا أبا عمارة، ماذا لقي ابن أخيك من أبي جهل بن هشام شتمه، وتناوله، وفعل وفعل. فقال: هل رآه أحد؟ قالت: إي واا، لقد رآه ناس. فأقبل حتى انتهى إلى ذلك المجلس عند الصَّفا والمروة، فإذا هم جلوس وأبو جهل فيهم، فاتكأ على قوسه وقال: رميتُ كذا وكذا وفعلت كذا وكذا؟ ثم جمع يديه بالقوس فضرب بها بين أذني أبي جهل، فدقَّ سِيَتَها، ثم قال: خُذْها بالقوس وأخرى بالسيف، أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه جاء بالحق من عند الله. قالوا: يا أبا عمارة، إنه سبَّ آلهتنا، وإِن كنت أنت - وأنت أفضل منه - ما أقررناك. وذاك وما كنت يا أبا(1/326)
عمارة فحشاً. قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح. انتهى وأخرجه الحاكم في المسترك: عن ابن إسحاق عن رجل عن أسلم - فذكره مطولاً.
عزم أبي جله على إيذائه صلى الله عليه وسلم وكيف أخزاه الله
وأخرج البيهقي عن العباس رضي الله عنه قال: كنت يوماً في المسجد فأقبل أبو جهل، فقال: إِنَّ لله عليَّ إن رأيت محمداً ساجداً أن أطأ على رقبته، فخرجت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخلت عليه فأخبرته بقول أبي جهل. فخرج غضبانَ حتى جاء المسجد فعجَّل أن يدخل من الباب فاقتحم الحائط. فقلت: هذا يوم شر، فاتَّزرت ثم اتَّبعته، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذِى خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} (العلق: 1، 2) . فلما بلغ شأن أبي جهل: {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى} (العلق: 6، 7) ، فقال إنسان لأبي جهل: يا أبا الحكم، هذا محمد. فقال أبو جهل: ألا ترون ما أرى؟ والله، لقد سُدَّ أفقُ السماء عليّ. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر السورة سجد. كذا في البداية وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير والأوسط، قال الهيثمي وفيه: إِسحاق بن أُبي فَرْوة وهو متروك. انتهى؛ وأخرجه الحاكم بمثله، وقال: صحيح الإِسناد، ولم يخرِّجاه، وتعقَّبه الذهبي، فقال: فيه عبد الله بن صالح وليس بعُمْدة، وإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة وهو متروك.(1/327)
إيذاء أبي جهل للنبي صلى الله عليه وسلم وانتصار طليب بن عمير له
وأخرج ابن سعد عن الواقدي بسند له إبى بَرَّة بنت أبي تَجْراة قالت: عرض أبو جهل وعدّةٌ معه للنبي صلى الله عليه وسلم فآذوه، فعمد طُليب بن عمير إلى أبي جهل فضربه فشجَّه، فأخذوه، فقام أبو لهب في نصرته. وبلغ أرْوَى فقالت: إنَّ خيرَ أيامه يوم نصر ابن خاله، فقيل لأبي لهب: إن أرْوَى صَبَتْ، فدخل عليها يعاتبها، فقالت: قم دون ابن أخيك، فإنه إن يظهر كنتَ بالخيار، ولا كنتَ قد أعذرتَ في ابن أخيك. فقال أبو لهب: ولنا طاقة بالعرب قاطبة؟ إنه جاء بدين مُحدَث. كذا في الإِصابة.
دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على عُتيبة بن أبي لهب حين آذاه وخبر هلاكه
وأخرج الطبراني عن قتادة مرسلاً قال: تزوج أمَّ كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عتيبةُ بن أبي لهب، وكانت رقية عند أخيه عتبة بن أبي لهب، فلم يَبْنِ به حتى بُعث النبي صلى الله عليه وسلم فلما نزل قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ} قال أبو لهب لابنيه عتبة وعتيبة: رأسي في رؤوسكما حرم إن لم تطلِّقا إبنتي محمد، وقالت أمهما بنت حرب بن أمية - وهي حمَّالة الحطب -: طلِّقاهما يا بَني، فإنهما صَبَأتا. فطلَّقاهما. ولما طلَّق عتيبة أم كلثوم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين فارقها، فقال: كفرت بدينك أو فارقت إبنتك، لا تجيئني ولا أجيئك، ثم سطا عليه، فشقَّ قميص النبي صلى الله عليه وسلم وهو خارج نحو الشام تاجراً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «أما إنِّي أسأل الله أن يُسلِّط عليك كلبه» . فخرج في تَجْر من قريش(1/328)
حتى نزلوا بمكان يقال له «الزرقاء» ليلاً فأطاف بهم الأسد تلك الليلة، فجعل عتيبة يقول: وَيْلُ أمي، هذا - والله - آكلي كما قال محمد، قاتلي ابن أبي كبشة، وهو بمكة وأنا بالشام. فلقد غدا عليه الأسد من بين القوم، فضغمه ضغمة فقتله. قال زهير بن العلاء: فحدَّثنا هشام بن عروة عن أبيه: أن الأسد لمَّا أطاف بهم تلك الليلة إنصرف، فناموا، وجُعل عتيبة وسطهم. فأقبل السبع يتخطّاهم حتى أخذ برأس عتيبة ففدغه، وخَلَف عثمانُ بن عفان بعد رقية على أم كلثوم - رضي الله عنهما: قال الهيثمي: وفيه زهير بن العلاء وهو ضعيف.
إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم من جارَيه: أبي لهب، وعقبة بن أبي معيط
وأخرج الطبراني في الأوسط عن ربيعة بن عُبيد الدِيلي قال: ما أسمعكم تقولون إن قريشاً كانت تنال من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنِّي أكثر ما رأيت أنَّ منزله كان بين منزل أبي لهب وعُقبة بن أبي مُعَيط؛ وكان ينقلب إلى بيته فيجد الأرحام والدِّماء والأنحات قد نصبت على بابه، فيُنحِّي ذلك بسِيَة قوسه، ويقول: «بئس الجوار هذا يا معشر قريش» قال الهيثمي: وفيه إبراهيم بن علي بن الحسين الرافقي، وهو ضعيف. انتهى.
ما تحمّله عليه السلام من الأذى في الطائف
وأخرج البخاري: عن عروة أن عائشة رضي الله عنها زوجَ النبي صلى الله عليه وسلم(1/329)
حدَّثته أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم هل أتى عليكَ يوم كان أشدَّ عليك من يوم أحد؟ قال: «لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشدّ ما لقيت منهم يوم العَقَبَة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كُلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقَرْن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلَّتني، فنظرت فإذا فيه جبرائيل عليه السلام فناداني فقال: إنَّ الله قد سمع قول قومك لك وما ردُّوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال فسلَّم عليَّ ثم قال: يا محمد، فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟. قال النبي صلى الله عليه وسلم بل أرجو أن يُخرج الله عزّ وجلّ من أصلابهم من يعبد الله عزّ وجلّ وحده لا يشرك به شيئاً» . وأخرجه أيضاً مسلم، والنسائي.
وذكر موسى بن عقبة في المغازي عن ابن شهاب: أنّه صلى الله عليه وسلم لمّا مات أبو طالب توجه إلى الطائف رجاء أن يؤووه، فعمد إلى ثلاثة نفر من ثقيف وهم سادتهم، وهم إِخوة: عبد ياليل، وحبيب، ومسعود بنو عمرو؛ فعرض عليهم نفسه، وشكا إليهم ما انتهَكَ منه قومه فردُّوا عليه أقبح ردَ. وكذا ذكره ابن إسحاق بغير إِسناد مطوَّلاً. كذا في فتح الباري.
وأخرج أبو نُعَيم في دلائل النبوة (ص 103) : عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال: ومات أبو طالب، وازداد من البلاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة، فعمد إلى(1/330)
ثقيف يرجو أن يؤووه وينصروه، فوجد ثلاثة نفر منهم سادة ثقيف وهم إخوة: عبد ياليل بن عمرو، وخبيب بن عمرو، ومسعود بن عمرو. فعرض عليهم نفسه، وشكا إِليهم البلاء وما انتهك قومه منه. فقال أحدهم: أنا أسرق ثياب الكعبة إن كان الله بعثك بشيء قط. وقال الآخر: والله، لا أكلمك بعد مجلسك هذا كلمة واحدة أبداً، لئن كنت رسولاً لأنت أعظم شرفاً وحقاً من أن أكلمك. وقال الآخر: أعَجَزَ الله أن يرسل غيرك؟ وأفشَوا ذلك في ثقيف - الذي قال لهم - واجتمعوا يستهزئون برسول الله صلى الله عليه وسلم وقعدوا له صفَين على طريقه، فأخذوا بأيديهم الحجارة، فجعل لا يرفع رجله ولا يضعها إلا رضخوها بالحجارة، وهم في ذلك يستهزئون ويسخرون. فلما خلص من صفَّيْهم وقدماه تسيلان الداء عمد إلى حائط من كرومه، فأتى ظلَّ حُبْلة من الكرم فجلس في أصلها مكروباً موجعاً تسيل قدماه الدماء، فإذا في الكرم عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، فلما أبصرهما كره أن يأتيهما لما يعلم من عداوتهم الله ولرسوله وبه الذي به، فأرسلا إليه غلامهما عدَّاساً بعنب - وهو نصارني من أهل نِينَوى - فلمَّا أتاه وضع العنب بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بسم الله» ، فعجب عدّاس، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أي أرض أنت يا عدّاس؟» قال: أنا من أهل نِينَوى. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «من أهل مدينة الرجل الصالح يونس بن متَّى؟» فقال له عدّاس: وما يدريك مَنْ يونس بن متَّى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأن يونس ما عرف، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحقر أحداً، يبلِّغه رسالات الله تعالى. قال: يا رسول الله، أخبرني خبر يونس بن متَّى. فلمَّا أخبره
رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأن يونس بن متى ما أُوحي إليه من شأنه خرّ ساجداً للرسول صلى الله عليه وسلم ثم جعل يقبِّل قدميه وهما تسيلان الدماء. فلما أبصر عتبة وأخوه شيبة ما فعل غلامهما سكتا. فلما أتاهما قالا له: ما شأنك سجدت لمحمد وقبّلت قدميه ولم نرك(1/331)
فعلت هذا بأحد منا؟ قال: هذا رجل صالح، حدثني عن أشياء عرفته من شأن رسول بعثه الله تعالى إلينا يُدعى يونس بن متى، فأخبرني أنَّه رسول الله، فضحكا وقالا: لا يفتنْك عن نصرانيتك، إنه رجل يَخدع، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة. انتهى.
وذكر في البداية عن موسى بن عقبة: وقعد له أهل الطائف صفَّيْن على طريقه، فلمّا مرّ جعلوا لا يرفع رجليه ولا يضعهما إِلا رضخوهما بالحجارة حتى أدمَوه، فخلَص منهم وهما يسيلان الدماء. وفيما ذكر ابن إسحاق: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف، وقد قال لهم - فيما ذُكر لي -: «إن فعلتم ما فعلتم فكتموا عليَّ» ، وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه عنه فيُذْئِرهم ذلك عليه. فلم يفعلوا، وأغرَوا به سفهاءهم وعيدهم يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس وألجؤوه إِلى حائط لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وهما فيه، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه. فعَمِد إلى ظل حُبْلة من عنب فجلس فيه وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما يلقى نن سفهاء أهل الطائف، وقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فيما ذُكر لي - المرأة التي من بني جمح، فقال لها: «ماذا لقينا من أحمائك» .
دعاؤه صلى الله عليه وسلم عند الرجوع من الطائف
فلما اطمأن، قال - فيما ذُكر لي -: «اللَّهمَّ إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس. يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكتَه أمري؟ إِن(1/332)
لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي، ولكنَّ عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقتْ له الظلماتُ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، منْ أن ينزل بي غضبك، أو يَحلَّ عليَّ سَخطُك. لك العُتبى حتى ترضى، لا حول ولا قوة إلا بك» .
إسلام عدَّاس - وكان نصرانياً - وشهادته بأنه عليه السلام نبي حق
قال: فلما رآه إبنا ربيعة: عتبة، وشيبة وما لقي تحركت له رحِمُهما، فدَعَوا غلاماً لهما نصرانياً يقال له عدَّاس، وقالا له: خذ قِطْفاً من هذا العنب فضه في هذا الطبق، ثم إذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه. ففعل عداس، ثم ذهب به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال له: كل، فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فيه قال: «بسم الله» ثم أكل، ثم نظر عدَّاس في وجهه ثم قال: والله، إنَّ هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «ومن أهل أيّ بلاد أنت يا عدَّاس؟ وما دينك؟» قال: نصراني، وأنا رجل من أهل نِينَوى. فقال رسول الله: «من قرية الرجل الصالح يونس بن متْى؟» فقال له عدَّاس: وما يدريك ما يونس بن متَّى؟ فقال رسول الله: «ذلك أخي، كان نبياً وأنا نبي» . فأكبَّ عدَّاس على رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه يقبّل رأسه ويديه وقدميه. قال: يقول إبنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أما غلامك فقد أفسده عليك فلما جاء عدَّاس قالا له: ويلك يا عدَّاس، مالك تقبِّل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال: يا سيدي، ما في الأرض شيء خير من هذا، لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إِلا نبي. قالا له: ويحك يا عدَّاس لا يصرفنَّك عن دينك، فإنَّ دينك خير من دينه. كذا في البداية وذكر سليمان التَيْمي في السيرة له: أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم أشهد أنك عبد الله ورسوله. كذا في الإِصابة. وقد ذكره في الصحابة.(1/333)
وأخرج ابن مَردويه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال أبو بكر: لو رأيتني ورسول الله صلى الله عليه وسلم إِذ صعدنا الغار، فأمّا قدما رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقطّرتا دماً، وأما قدماي فعادت كأنهما صَفْوان. قالت عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتعوّد الحِفْية. كذا في كنز العمال.
ما لقيه عليه السلام من الأذى يوم أُحد
وأخرج الشيخان، والترمذي عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كُسرت رَباعِيته يوم أُحد وشُجَّ في رأسه، فجعل يَسلِتُ الدمَ عن وجهه ويقول: «كيف يُفلح قوم شَجُّوا نبيهم، وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم إلى الله؟» فنزل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الاْمْرِ شَىْء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} ـ (آل عمران: 128) - الآية. وعند الطبراني في الكبير عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: أُصيب وجه النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحد، فاستقبله مالك بن سنان فمصَّ جرحه، ثم ازدرده فقال صلى الله عليه وسلم «من أحب أن ينظر إلى من خالط دمي دمه؛ فلينظر إلى مالك بن سنان» . كذا في جمع الفوائد.(1/334)
وأخرج الطيالسي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كن أبو بكر رضي الله عنه إذا ذكر يوم أُحد قال: ذاك يوم كله لطلحة، ثم أنشأ يحدِّث قال: كنت أول من فاء يوم أُحد، فرأيت رجلاً يقاتل في سبيل الله دونه، وأُراه قال: حميَّة، قال فقلت: كُنْ طلحة، حيث فاتني ما فاتني، فقلت: يكون رجلاً من قومي أحب إليَّ. وبيني وبين المشركين رجل لا أعرفه، وأنا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، وهو يخطَف المشي خطفاً لا أخطفه، فإذا هو أبو عبيدة بن الجراح، فانتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كُسرت رَباعِيتَه، وشُجَّ في وجهه، وقد دخل في وجنته حلقتان من حَلَق المِغْفَر. قالت: «عليكما صاحبكما» - يريد طلحة وقد نَزَف - فلم نلتفت إلى قوله، قال: وذهبت لأنزع ذلك من وجهه، فقال: أقسم عليك بحقِّي لمَّا تركتني، فتركته، فكره تناولها بيده فيؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأزَم عليها بفِيه فاستخرج إِحدى الحلقتين، ووقعت ثنيّته مع الحَلْقة. وذهبت لأصنع ما صنع فقال: أقسمت عليك بحقِّي لمَّا تركتني. قال: ففعل مثل ما فعل في المرة الأولى، فوقعت ثنيّته الأخرى مع الحلقة؛ فكان أبو عبيدة من أحسن الناس هَتَماً. فأصلحنا من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتينا طلحة في بعض تلك الجفار فإذا به بضع وسبعون طعنة ورمية وضربة، وإِذا قد قطعت إصبعه، فأصلحنا من شأنه. كذا في البداية. وأخرجه أيضاً ابن سعد (3298، وابن لسُّنِّي، والشاشي، والبزار، والطبراني في(1/335)
الأوسط، وابن حِبَّان، والدارقطني في الأفراد، وأبو نُعيم في المعرفة، وابن عساكر كما في الكنز.
تحمل الصحابة رضي الله عنهم الشدائد والأذى في الدعوة إلى الله تحمل أبي بكر الصديق رضي الله عنه الشدائد إلحاح أبي بكر عليه صلى الله عليه وسلم بالظهور وخطبته حينئذٍ ما لقي من الأذى
أخرج الحافظ أبو الحسن الأطرابلسي عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ـ وكانوا ثمانية وثلاثين رجلاً - ألحّ أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور، فقال: «يا أبا بكر إنَّا قليل» . فلم يزل أبو بكر يلحّ حتى ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق المسلمون في نواحي المسجد كل رجل في عشيرته. وقام أبو بكر في الناس خطيباً ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فكان أول خطيب دعا إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين، فضُربوا في نواحي المسجد ضرباً شديداً، ووطىء أب بكر وضُرب ضرباً شديداً، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين ويحرِّفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه. وجاء بنو تَيْم يتعادَون فأجلَت المشركين عن أبي بكر، وحملت بنو تَيْم أبا بكر في(1/336)
ثوب حتى أدخلوه، منزله ولا يشكُّون في دموته. ثم رجعت بنو تَيْم فدخلوا المسجد وقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلنَّ عتبة بن ربيعة، فرجعوا إلى أبي بكر فجعل أبو قحافة وبنو تَيم يكلِّمون أبا بكر حتى أجاب، فتكلَّم آخر النهار فقال: ما فعل رسول الله؟ فمسُّوا منه بألسنتهم وعَذَلوه، ثم قاموا لأمه أم الخير: أنظري أن تطعميه شيئاً أو تسقيه إياه، فلما خلت به ألحَّت عليه، وجعل يقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: والله مالي علمٌ بصاحبك. فقال: إذهبي إلى أمِّ جميل بنت الخطّاب فاسأليها عنه، فخرجت حتى جاءت أم جميل فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله فقالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، وإِن كنت تحبين أن أذهب معك إلى إبنك. قالت: نعم؛ فمضيت معها حتى وجدت أبا بكر صريعاً دَنِفاً؛ فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح وقالت: والله إِنَّ قوماً نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم. قال: فما فعل
رسول
الله صلى الله عليه وسلم قالت: هذه أمك تسمع. قال: فلا شيء عليك منها. قالت: سالم صالح. قال: أين هو؟ قالت: في دار ابن الأرقم. قال: فإن الله عليَّ أن لا أذوق طعاماً ولا أشرب شراباً أو آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمهلتا حتى إذا هدأت الرجل وسكن الناس، خرجتا به يتكىء عليهما حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأكبَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله، وأكب عليه المسلمون، ورقَّ له رسول الله صلى الله عليه وسلم رقَّة شديدة. فقال أبو بكر: بأبي وأمي يا رسول الله، ليس بي بأس إِلا ما نال الفاسق من وجهي، وهذه أمي بَرَّة بولدها، وأنت مبارك فادعُها إلى الله وادعُ لها عسى الله أن يستنقذها بك من النار. قال: فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاها إلى الله فأسلمت. وأقاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدار شهراً، وهم تسعة وثلاثون رجلا، وقد كان حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه أسلم يوم ضرب أبو بكر رضي الله عنه.(1/337)
دعاؤه عليه السلام لعمر بن الخطاب وإسلامه
ودعا رسول الله لعمر بن الخطاب رضي الله عنه - أو لأبي جهل بن هشام - فأصبح عمر، وكانت الدعوة يوم الأربعاء فأسلم مر يوم الخميس، فكبَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل البيت تكبيرة سمعت بأعلى مكة؛ وخرج أبو الأرقم - وهو أعمى كافر -، وهو يقول: اللَّهمَّ: إغفر لبنيَّ عبيد الأرقم فإنه كفر، فقام عمر فقال: يا رسول الله، علامَ نخفي ديننا ونحن على الحق؟ ويظهر دينهم وهم على الباطل؟ قال: «يا عمر، إنّا قليل قد رأيت ما لقينا» فقال عمر: فوالذي بعثك بالحق، لا يبقى مجلس جلس فيه بالكفر إِلا أظهرت فيه الإِيمان، ثم خرج فطاف بالبيت، مرّ بقريش وهي تنتظره، فقال أبو جهل بن هشام: يزعم فلان أنك صبوت؟ فقال عمر: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله. فوثب المشركون إليه ووثب على عتبة فبرك عليه وجعل يضربه وأدخل أصبعه في عينيه، فجعل عتبة يصيح، فتنحَّى الناس فقام عمر، فجعل لا يدنو منه أحد إلا أخذ بشريف ممن دنا منه حتى أعجز الناس. واتبع المجالس التي كان يُجالس فيها فيظهر الإِيمان، ثم انصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر عليهم. قال: ما عليك بأبي وأمي، والله ما بقي مجلس كنت أجلس فيه بالكفر إلا أظهرت فيه الإِيمان غير هائب ولا خائف؛ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج عمر أمامه وحمزة بن عبد المطلب حتى طاف بالبيت وصلَّى الظهر مؤمناً، ثم انصرف إلى دار الأرقم ومعه عمر، ثم انصرف عمر وحده، ثم نصرف النبي صلى الله عليه وسلم
والصحيح: أن عمر إنما أسلم بعد خروج المهاجرين إِلى أرض الحبشة، وذلك في السنة السادسة من البعثة. كذا في البداية. وذكره الحافظ في الإِصابة عن ابن أبي عاصم.(1/338)
إبتلاء المسلمين وخروج أبي بكر إلى الحبشة مهاجراً وقصته مع ابن الدغنة
وأخرج البخاري (ص 552) عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم أعقل أبويَّ قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمرّ علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طَرَفي النهار: بُكرة، وعَشيَّة.
فلما ابتُليَ المسلمون خرج أبو بكر مهاجراً نحو أرض الحبشة، حتى إذا بلغ بَرْكَ الغماد لقيه ابن الدُّغُنَّةِ وهو سيد القارة. قال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجَني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي. قال ابن الدُّغُنَّةِ: فإنَّ مثلك يا أبا بكر لا يَخرج ولا يُخرج إنك تكسب المعدوم، وتصل الرَّحِم، وتحمل الكَلَّ، وتَقري الضيف، وتعين على نوائب الحق؛ فأنا لك جار، إرجع واعبد ربك ببلدك.
فرجع وارتحل معه ابن الدُّغُنَّة، فطاف ابن الدُّغُنَّة عشية في أشراف قريش، فقال لهم: إن أبا بكر لا يَخرج مثله ولا يُخرج، أتُخرجون رجلاً يكسب المعدوم، ويصل الرَّحِم، ويحمل لكلَّ، ويقري الضَّيف، ويعين على نوائب الحق. فلم تكذِّب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا لابن الدُّغُنَّة: مُرْ أبا بكر فليعبدْ ربَّه في داره، فليصلِّ فيه وليقرأ ما شاء. ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به، فإنَّا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا؛ فقال ذلك ابن الدُّغُنَّة لأبي بكر. فابتنى مسجداً بِفناء داره، وكان يصلِّي فيه ويقرأ القرآن، فيتقذَّف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه، وكان(1/339)
أبو بكر رجلاً بكَّاءً، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن. وأفزع ذلك أشرافَ قريش من المشركين. فأرسلوا إلى ابن الدُّغُنَّة فقدم عليهم، فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجداً بفِناء داره فأعلن بالصلاة والقراءة فيه وإنا قد خشينا أن يَفتن نساءنا وأبناءنا فانْهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربَّه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن ذلك فسَلْه أن يردَّ إِليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفِرَك، ولسنا مقرين لأبي بكر الإستعلان. قالت عائشة رضي الله عنها: فأتى ابن الدُّغُنَّة إلى أبي بكر فقال: قد علمتَ الذي عاقدتُ لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإِما أن تُرجع إليَّ ذمتي فإني لا أُحب أن تسمع العرب أني أُخفرتُ في رجل عقدت له. فقال أبو بكر: فإني أردُّ إليك جوارَك وأرضى بجوار الله عزَّ وجلَّ - فذكر الحديث بطوله في الهجرة.
وأخرج أيضاً ابن إسحاق بنحوه، وفي سياقه: فخرج أبو بكر مهاجراً، حتى إِذا سار من مكة يوماً أو يومين لقيه ابن الدُّغُنَّة - وهو يومئذٍ سيد الأحابيش -، فقال: إِلى أين يا أبا بكر؟ قال: أخرجني قومي وآذَوْني وضيَّقوا عليَّ. قال: ولم؟ فوالله إنك لتزيِّن العشيرة، وتعين على النوائب، وتفعل المعروف، وتكسب المعدوم؛ إرجع إنَّك في جواري. فرجع معه حتى إذ دخل مكة قام معه ابن الدُّغُنَّة فقال: يا معشر قريش. إنِّي قد أجرت ابن أبي قحفة فلا يُعرض له أحد إلا بخير. قال: فكفُّوا عنه، وفي آخره فقال: يا أبا بكر، إِني لم أُجرك لتؤذيَ قومك، وقد كرهوا مكانك الذي أنت به وتأذَّوا بذلك منك، فأدخل بيتك فصنع فيها أحببت. قال: أو أردُّ عليك جوارك وأرضى بجوار الله؟. قال: فارددْ عليّ جواري. قال: قد رددته عليك. قال: فقام ابن الدُّغُنَّة فقال: يا معشر قريش، إن ابن أبي قحافة قد ردّ عليَّ جواري، فشأنكم بصاحبك، كذا في البداية.(1/340)
وأخرج ابن إسحاق أيضاً عن القاسم قال: لقيه - يعني أبا بكر الصديق رضي الله عنه حين خرج من جوار ابن الدُّغُنَّة - سفيهٌ من سفهاء قريش وهو عامد إلى الكعبة، فحثا على رأسه تراباً، فمر بأبي بكر الوليد بن المغيرة - أو العاص بن وائل - فقال له أبو بكر رضي الله عنه: ألا ترى ما يصنع هذا السفيه؟ فقال: أنت فعلت ذلك بنفسك. وهو يقول: أي رب ما أحلمك؟ أي رب ما أحلمك؟ أي رب ما أحلمك كذا في البداية.
وقد تقدم في حديث أسماء رضي الله عنها (ص 268) عند أبي يَعْلى وغيره قالت: فأتى الصريخ إِلى أبي بكر، فقالوا: أدرك صاحبك. فخرج من عندنا وإِن له لغدائرَ أربع؛ وهو يقول: ويلكم «أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟» فَلَهوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على أبي بكر. قالت: فرجع إِلينا أبو بكر فجعل لا يمسُّ شيئاً من غدائره إلا جاء معه وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإِكرام.
تحمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشدائد
أخرج ابن إسحاق عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لمّا أسلم عمر رضي الله عنه قال: أيُّ قريش أنقل للحديث؟ فقيل له جميل بن معمر الجمحي، فغدا عليه - قال عبد الله: وغدوت أتبع أثره وأنظر ما يفعل وأنا غلام أعقل كلَّ ما رأيت - حتى جاءه، فقال له: أعلمت يا جميل أني أسلمت ودخلت في دين محمد صلى الله عليه وسلم قال: فوالله، ما راجعه حتى قام يجر رداءه واتَّبعه عمر واتبعته أنا، حتى قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر(1/341)
قريش، - وهم في أنديتهم حول الكعبة - أَلا إنَّ ابن الخطاب قد صبأ. قال يقول عمر من خلفه: كذب، ولكني قد أسلمت وشهدت أن لا إِله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وثاروا إليه فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم. قال: وطَلح فقعد، وقاموا على رأسه وهو يقول: إفعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله، أن لو قد كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا. قال: فبينما هم على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلة حِبَرة وقميص مُوَشَّى حتى وقف عليهم فقال: ما شأنكم، فقالوا صبأ عمر. قال: فمَهْ رجل اختار لنفسه أمراً فماذا تريدون، أترون بني عديّ يسلمون لكم صاحبهم هكذا؟ خلُّوا عن الرجل. قال: فوالله لك أنما كانوا ثوباً كُشط عنه. قال فقلت لأبي - بعد أن هاجر إلى المدينة - يا أبت، من الرجل الذي زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت وهم يقاتلونك؟ قال: ذاك - أيْ بنيَّ - العاص بن وائل السهمي. وهذا إِسناد جيد قوي. كذا في البداية. وعند البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: بينما هو في الدار خائفاً إذ جاءه العاص بن وائل السهمي أبو عمرو - وعليه حُلة حِبَرة وقميص مكفوف بحرير - وهو من بني سَهْم وهم حلفاؤنا في الجاهلية. فقال له: ما بالك؟ قال: زعم قومك أنهم سيقتلونني أنْ أسلمتُ. قال لا سبيل إليك. بعد أن قالها أمِنتُ.
فخرج العاص فلقي الناس قد سال بهم الوادي؛ فقال: أين تريدون، فقالوا: نريد هذا ابن الخطاب الذي صبأ. قال: لا سبيل إليه فكرّ الناس.(1/342)
تحمل عثمان بن عفان رضي الله عنه الشدائد
أخرج ابن سعد عن محمد بن إبراهيم التَيْمي قال: لما أسلم عثمان بن عفان رضي الله عنه أخذه عمه الحكم بن أبي العاص بن أمية فأوثقه رباطاً، وقال: أترغب عن ملَّة آبائك إلى دين مُحْدَث؟ والله لا أحلّك أبداً حتى تدع ما أنت عليه من هذا الدين. فقال عثمان: والله لا أدعه أبداً ولا أُفارقه. فلما رأى الحَكَم صلابته في دينه تركه.
تحمل طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه الشدائد
أخرج البخاري في التاريخ عن مسعود بن خِراش رضي الله عنه قال: بينا نحن نطوف بين الصَّفا والمروة إذا أُناس كثير يتبعون فتى شاباً مُوثقاً بيده في عنقه. قلت: ما شأنه؟ قالوا: هذا طلحة بن عبيد الله صبأ؛ وامرأةٌ وراءه تدمدم وتسبّه. قلت من هذه، قالوا: الصعبة بنت الحضرمي أمه. كذا في الإِصابة.
وأخرج الحاكم في المستدرك عن إبراهيم بن محمد بن طلحة قال: قال لي طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه: حضرت سوق بصرى، فإذا راهب في صومعته يقول: سَلُوا أهل هذا الموسم، أفيهم أحد من أهل الحرم؟ قال طلحة رضي الله عنه: قلت: نعم؛ أنا. فقال: هل ظهر أحمد بعد، قال قلت: ومن أحمد؟ قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب، هذا شهره الذي يخرج فيه وهو آخر الأنبياء، مخرجه من الحرم ومهاجره إِلى نخل وحَرَّة وسِباخ فإياك أن تُسبق إليه. قال طلحة: فوقع في قلبي ما قال، فخرجت سريعاً حتى قدمت(1/343)
مكة فقلت: هل كان من حَدَث؟ قالوا: نعم، محمد بن عبد الله الأمين تنبّأ، وقد تبعه ابن أبي قحافة. قال: فخرجت حتى دخلت على أبي بكر رضي الله عنه فقلت: أتبعت هذا الرجل؟ قال: نعم، فانطلق إليه فادخل عليه فاتبعه فإنه يدعو إلى الحق؛ فأخبره طلحة بما قال الراهب. فخرج أبو بكر بطلحة فدخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم طلحة، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال الراهب؛ فسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أسلم أبو بكر، وطلحة أخذهما نوفل بن خويلد بن العدويَّة فشدهما في حبل واحد ولم يمنعهما بنو تَيْم، وكان نوفل بن يلد يدعى «أسد قريش» ، فلذلك سُمي أبو بكر، وطلحة القرينين - فذكر الحديث. وأخرجه البيهقي أيضاً، وفي حديثه: وقال النبي صلى الله عليه وسلم «اللَّهمَّ أكفنا شرَّ ابن العدويّة» . كذا في البداية.
تحمل الزبير بن العوام رضي الله عنه الشدائد
أخرج أبو نُعيم في الحلية عن أبي اوسود قال: أسلم الزبير بن العوام رضي الله عنه وهو ابن ثمان سنين وهاجر وهو ابن ثماني عشرة سنة، وكان عم الزبير يعلِّق الزبير في حصير ويدخِّن عليه بالنار وهو يقول: إرجع إلى الكفر. فيقول الزبير: لا أكفر أبداً. وأخرجه الطبراني أيضاً ورجاله ثقات إلا أنه مرسل - قال الهيثمي في مجمع الزوائد. وأخرجه الحاكم عن أبي الأسود عن عروة رضي الله عنه.(1/344)
وأخرج أبو نُعيم عن حفص بن خالد قال: حدثني شيخ قدم علينا من المَوْصل قال: صحبت الزبير بن العوام رضي الله عنه في بعض أسفاره، فأصابته جنابة بأرض قفر، فقال: إسترني فسترته، فحانت مني إليه التفاتة فرأيته مجدَّعاً بالسيوف. قلت: والله لقد رأيت بك آثاراً ما رأيتها بأحد قط. قال: وقد رأيت ذلك؟ قلت: نعم، قال: أما والله، ما منها جراحة إلا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله. وأخرجه الطبراني، والحاكم نحوه ابن عساكر كما في المنتخب أيضاً. قال الهيثمي والشيخ المَوْصلي لم أعرفه؛ وبقية رجاله ثقات. انتهى، وعند أبي نُعيم أيضاً عن علي بن زيد قال: أخبرني من رأى الزبير: وإن في صدره لأمثال العيون من الطَّعن والرمي. كذا في الحلية.
تحمل بلال بن رباح المؤذن رضي الله عنه الشدائد من أظهر إسلامه أولاً معه عليه السلام
أخرج الإِمام أحمد، ابن ماجه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: أول من أظهر الإِسلام سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وعمَّار وأمه سُميَّة، وصهيب، وبلال؛ والمقداد، رضي الله عنهم. فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمِّه. وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه. وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدْرُع الحديد وصهروهم في الشمس، فما منهم من أحد إلا وقد آتاهم على(1/345)
ما أرادوا إلا بلالاً، فإنه هانت عليه نفسه في الله. وهان على قومه، فأخذوه فأعطَوه الولدان، فجعلوا يطوفون به في شِعاب مكة، وهو يقول: أحد، أحد - كذا في البداية. وأخرجه أيضاً الحاكم وقال: صحيح الإِسناد ولم يخرِّجاه. وقال الذهبي: صحيح، وأخرجه أبو نُعيم في الحلية، وابن أبي شيبة كما في الكنز، وابن عبد البَرّ في الإستيعاب من حديث بن مسعود بمثله.
ما لقي بلال من الأذى في الله
وأخرجه أبو نُعيم أيضاً في الحلية من حديث مجاهد، وفي حديثه: وأما الآخرون فألبسوهم أدراع الحديد ثم صهروهم في الشمس، فبلغ منهم الجَهد ما شاء الله أن يبلغ من حر الحديد والشمس. فلما كان من العشي أتاهم أبو جهل - ومعه حربته، فجعل يشتمهم ويوبخهم. وقال ابن عبد البر في حديث مجاهد - وزاد في خبر بلال -: أنهم كانوا يطوفون به والحبل في عنقه بين أخشبي مكة. وأخرجه ابن سعد عن مجاهد بنحوه.
وأخرج الزبير بن بكار عن عُروة بن الزبير رضي الله عنهما قال: كان بلال لجارية من(1/346)
بني جُمَح، وكانوا يعذبونه برَمْضاء مكة، يلصقون ظهره بالرمضاء لكي يشرك، فقول: أُحد أُحد، فيمر به وَرَقَة - وهو على تلك الحال - فيقول: أُحد، أُحد، يا بلال. والله، لئن قتلتموه لأتخذنَّه حناناً، وهذا مرسل جيد. كذا في الإِصابة.
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن هشام بن عروة عن أبيه قال: كان ورقة بن نوفل يمرُّ ببلال وهو وهو يعذِّب، وهو يقول أُحد، فيقول: أُحد، أُحد الله يا بلال. ثم يقبل ورقة بن نوفل على أمية بن خَلَف وهو يصنع ذلك ببلال، فيقول: أحلف بالله عزّ وجلّ لئن قتلتموه على هذا لأتخذنَّه حناناً، حتى مرَّ به أبو بكر الصدِّيق يوماً وهم يصنعون ذلك، فقل لأمية: ألا تتقي الله في هذا المسكين حتى متى؟ قال: أنت أفسدته فأنقذه ممَّا ترى. فقال أبو بكر: أفعل، عندي غلام أسود أجلَدُ منه وأقوى على دينك، أعطيكه به. قال: قد قبلت، قال: هو لك. فأعطاه أبو بكر غلامه ذلك، وأخذ بلالاً فأعتقه، ثم أعتق معه على الإِسلام - قبل أن يهاجر من مكة - ست رقاب بلال سابعهم.
وذكر أبو نُعيم في الحِلْية عن ابن إسحاق: كان أمية يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة؛ ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع(1/347)
على صدره، ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزّى. فيقول: - وهو في ذلك البلاء - أُحد، أُحد. قال عمار بن ياسر - وهو يذكر بلالاً وأصحبه وما كانوا فيه من البلاء، وإِعتاق أبي بكر إياه، وكان إسم أبي بكر عتيقاً رضي الله عنه -:
جزى الله خيراً ن بلالٍ وصَحْبه
عتيقاً وأخزى فاكهاً وأبا جهلِ
عشية همَّا في بلال بِسَوْأةٍ
ولم يحذرا ما يحذر المرء ذو العقلِ
بتوحيده ربَّ الأنامِ وقولِه
شهدتُ بأنَّ الله ربي على مَهْلِ
فإن يقتلوني يقتلوني فلم أكن
لأشركَ بالرحمنِ من خيفة القتلِ
فيا ربَّ إبراهيم والعبدَ يونُسٍ
وموسى وعيسى نجني ثم لا تُبْلِ
لمن ظلَّ يهوي الغيَّ من آل غالبٍ
على غير برَ كان منه ولا عدلِ
تحمل عمّار بن ياسر وأهل بيته رضي الله عنهم الشدائد ما بشَّرا عمّاراً وأهل بيته حين رآهم يُعذّبون في الله
أخرج الطبراني، والحاكم، والبيهقي، وابن عساكر عن جابر رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بعمَّار وأهله وهم يعذَّبون، فقال: «أبشروا آل ياسر فإنَّ موعدكم الجنة» . قال الهيثمي: رجال الطبراني رجال الصحيح غير إبراهيم بن عبد العزيز المقوّم وهو ثقة اهـ.
وعند الحاكم في الكُنَى وابن عساكر عن عثمان رضي الله عنه قال: بينما أنا أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبطحاء إِذ بعمّار وأبيه وأمه يعذبون في(1/348)
الشمس ليرتدّوا عن الإِسلام. فقال أبو عمّار. يا رسول الله، الدهرَ هكذا؟ فقال: «صبراً يا آل ياسر. اللَّهمَّ إغفر لآل ياسر، وقد فعلت» . وأخرجه أيضاً أحمد، والبيهقي، والبغوي، والعُقيلي، وابن مَنْده، وأبو نُعَيم، وغيرهم بمعناه عن عثمان رضي الله عنه كما في الكنز. وأخرجه ابن سعد عن عثمان رضي الله عنه بنحوه.
سمية أم عمّار أول شهيد في الإِسلام
وأخرج أبو أحمد الحكم عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بياسر وعمّار وأم عمّار وهو يؤذَون في الله تعالى، فقال لهم: «صبراً يا آل ياسر، صبراً يا آل ياسر؛ فإنَّ موعدكم الجنة» . ورواه ابن الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما نحوه - وزاد: وعبد الله بن ياسر؛ وزاد: وطعن أبو جهل سميَّة في قُبُلها فماتت، ومات ياسر في العذاب، ورمي عبد الله فسقط - كذا في الإِصابة. وعند أحمد عن مجاهد قال: أول شهيد كان في أول الإِسلام إستشهد أم عمار سميَّة، طعنها أبو جهل بحربة في قبلها. كذا في البداية.
إشتداد الأذى على عمَّار حتى أكره على قول الكفر وقلبه مطمئن بالإِيمان(1/349)
وأخرج أبو نُعَيم في الحلية عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار قال: أخذ المشركون عمّاراً رضي الله عنه فلم يتركوه حتى سبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير. فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما وراءك؟» قال: شرّ يا رسول الله، ما تركت حتى نلتُ منك وذكرت آلهتهم بخير. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فكيف تجد قلبك؟» قال: أجد قلبي مطمئناً بالإِيمان. قال: «فإن عادا فَعُد» . وأخرجه ابن سعد عن أبي عبيدة نحوه. وأخرج أيضاً عن محمد: أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي عماراً وهو يبكي، فجعل يمسح عن عينيه وهو يقول: «أخذك الكفار فغطُّوك في الماء؛ فقلت كذا وكذا، فإن عادوا فقل ذاك لهم» . وأخرج أيضاً عن عمرو بن ميمون قال: أحرق المشركون عمار بن ياسر بالنار. قال فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمرّ به ويمر يده على رأسه فيقول: «يا نارُ كوني برداً وسلاماً على عمار كما كنت على إبراهيم عليه السلام، تقتلك الفئة الباغية» .
تحمل خبّاب بن الأرتّ رضي الله عنه الشدائد خبر خبّاب مع عمر رضي الله عنهما
أخرج ابن سعد عن الشَّعْبي قال: دخل خبَّاب بن الأرتْ رضي الله عنه على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأجلسه على متكئه وقال: ما على الأرض أحد أحق بهذا المجلس من هذا إلا رجل واحد. قال له خباب: من هو يا أمير المؤمنين؟ قال: بلال. فقال خباب: ما هو بأحق مني، إنَّ بلالاً كان له في المشركين من يمنعه الله به، ولم يكن لي أحد يمنعني، فلقد رأيتني يوماً(1/350)
أخذوني فأوقدوا لي ناراً ثم سلقوني فيها، ثم وضع رجلٌ رجله لعى صدري فما اتقيت الأرض - أو قال: برد الأرض - إلا بظهري؛ قال: ثم كشف عن ظهره فإذا هو قد برص. كذا كنز العمال.
ذكر ما لقي خباب من الأذى في الله
وعند أبي نُعيم في الحلية عن الشَّعْبي قال: سأل عمر رضي الله عنه بلالاً عما لقي من المشركين؟ فقال: خباب: يا أمير المؤمنين، أنظر إلى ظهري، فقال عمر: ما رأيت كاليوم. قال: أوقدوا لي ناراً فما أطفأها إلا وَدَكُ ظهري وعنده أيضاً، وابن سعد، وابن أبي شَيْبة كما في كنز العمال عن أبي ليلى الكندي قال: جاء خبَّاب بن الأرت إِلى عمر - رضي الله عنهما - فقال: أدنُه، فلما أحد أحق بهذا المجلس منك إلا عمار بن ياسر؛ فجعل خباب يريه آثاراً في ظهره ممَّا عذّبه المشركون.
وأخرج أحمد عن خبَّاب رضي الله عنه قال: كنت رجلاً قَيْناً وكان لي على العاص بن وائل دَيْن، فأتيته أتقاضاه. فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفرَ بمحمد. فقلت: لا والله لا أكفر بمحمد حتى تموتَ ثم تُبعث. قال: فإني إذا مت ثم بُعثت جئتني ولي ثَمَّ مال وولد فأعطيك. فأنزل الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِى كَفَرَ بِئَايَاتِنَا وَقَالَ لاَوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرحمن عَهْداً كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً} (مريم: 77 - 80) - كذا في(1/351)
البداية. وأخرجه ابن سعد عن خباب بنحوه.
وأخرج البخاري عن خبّاب رضي الله عنه يقول: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسِّد ببردةٍ وهو في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: ألا تدعو الله؟ فقعد - وهو محمرٌّ وجهه - فقال: «لقد كان مَنْ قبلكم ليُمشط بأمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه وليتمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله عزّ وجلّ - زاد بيان: والذئب على غنمه -، ولكنكم تستعجلون» . وأخرجن أيضاً أبو داود، والنِّسائي كما في العيني، والحاكم بمعناه.
تحمل أبي ذر الغفاري رضي الله عنه الشدائد إرسال أبي ذر أخاه لمَّا بلغه خبر بعثته عليه السلام
أخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لمَّا بلغ أبا ذرَ مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأخيه: إركب إلى هذا الوادي، فاعلم لي علم هذا(1/352)
الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله ثم إئتني. فانطلق الأخ حتى قدمه وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذرَ فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلاماً ما هو بالشعر. فقال: ما شفيتني ممَّا أردت.
قدوم أبي ذر إلى مكة وقصّة إسلامه وما لقي من الأذى في الله
فتزود وحمل شَنّة فيها ماء حتى قدم مكة، فأتى المسجد فالتمس ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه حتى أدركه بعض الليل إضطجع، فرآه علي رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف أنه غريب. فلما رآه تبعه فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح، ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد وظل ذلك اليوم ولا يراه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه، فمر به علي فقال: أما آن للرجل أن يعلم منزله، فأقامه فذهب به معه لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، حتى إذا كان يوم الثالث، فعاد علي مثل ذلك فأقم معه.
ثم قال ألا تحدثني ما الذي أقدمك؟ قال: إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدنَّني فعلت، ففعل، فأخبره. قال: فإنَّه حقٌ وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أصبحت فاتَّبعني فإني إن رأيت شيئاً أخاف عليك، قمت كأني أريق الماء، فإن مضيتُ فاتَّبعني حتى تدخل مدخلي. ففعل فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ودخل معه، فسمع من قوله وأسلم مكانه. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «إرجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري» . قال: والذي نفسي بيده لأصرخنَّ بها بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم قام القوم فضربوه حتى أضجعوه، وأتى العباس فأكبَّ عليه، فقال: ويلكم، ألستم تعلمون أنه من غِفار وأن طريق تُجَّاركم إِلى الشام؟ فأنقذه منهم. ثم عاد من الغد بمثله فضربوه وثاروا إليه فأكب العباس عليه.(1/353)
وعند البخاري أيضاً من حديث ابن عباس رضي الله عنهما فقال: يا معشر قريش، إنِّي أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. فقالوا: قوموا إِلى هذا الصابىء، فقاموا فضربت لأموت، فأدركني العباس فأكب عليَّ ثم أقبل عليهم فقال: ويلكم، تقتلون رجلاً من غفار ومتجركم وممرّكم على غفار؟ فأقلعوا عني. فلما أن أصبحت الغد رجعت فقلت مثل ما قلت بالأمس. فقالوا: قوموا إلى هذا الصابىء فصُنع بي مثل ما صُنع بالأمس، فأدركني العباس فأكبَّ عليَّ وقال مثل مقالته بالأمس.
أبو ذر أول من حيّا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحية الإِسلام
وأخرجه مسلم من طريق عبد الله بن الصامت عن أبي ذر - رضي الله عنهما - فذكر قصة إسلامه بصفة أخرى، وفي حديثه: فانطلق أخي فأتى مكة ثم قال لي: أتيت مكة فرأيت رجلاً يسمِّيه الناس الصابىء هو أشبه الناس بك. قال: فأتيت مكة فرأيت رجلاً يسمِّيه، فقلت؛ أين الصابىء؟ فرفع صوته عليَّ فقال: صابىء، صابىء فرماني الناس حتى كأني نُصُبٌ أحمر، فاختبأت بين الكعبة وأستارها، ولبثت فيها بين خمس عشرة من يوم وليلة، وما لي طعام ولا شراب إلا ماء زمزم. قال: ولقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه وقد دخلا المسجد، فوالله إِنِّي لأول الناس حيَّاه بتحية الإِسلام، فقلت: السلام عليك يا رسول الله. فقال: «وعليك السلام ورحمة الله، من أنت؟» فقلت: رجل من بني غِفار. فقال صاحبه: إئذن لي يا رسول الله في ضيافته الليلة، فانطلق بي إلى دار في أسفل مكة فقبض لي قَبَضات من زبيب. قال: فقدمت على أخي فأخبرته أني أسلمت. قال: فإني على دينك، فانطلقنا إلى أمِّنا؛ فقالت: إني على دينكما. قال: وأتيت قومي فدعوتهم فتبعني بعضهم.(1/354)
شجاعة أبي ذر في قصة إعلان إسلامه وما لقيه من الأذى في ذلك
وأخرجه الطبراني نحو هذا مطوَّلاً، وأبو نعيم في الحلية من طريق ابن عباس رضي الله عنهما عن أبي ذر رضي الله عنه قال: أقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فعلمني الإِسلام، وقرأت من القرآن شيئاً. فقلت: يا رسول الله، إني أريد أن أظهر ديني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني أخاف عليك أن تُقتل» . قلت: لا بدَّ منه وإن قتلت. قال: فسكت عني. فجئت - وقريش حِلَقاً يتحدّثون في المسجد - فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فنتقضت الحِلَق، فقاموا فضربوني حتى تركوني كأني نُصُب أحمر، وكانوا يرون أنهم قد قتلوني؛ فأفقت فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى ما بي من الحال، فقال لي: «ألم أنهك؟» ، فقلت: يا رسول الله، كانت حاجة في نفسي فقضيتها. فأقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «الحق بقومك، فإذا بلغك ظهوري فأْتني» ، وأخرج أبو نعيم أيضاً عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر - رضي الله عنهما - قال: أتيت مكة فمال عليَّ أهل الوادي بكل مَدَرة وعَظْم، فخررت مغشياً عليَّ، فارتفعت حين ارتفعت كأني نُصُب أحمر. كذا الحلية وأخرجه الحاكم أيضاً بطرق مختلفة.
تحمل سعيد بن زيد وزوجته فاطمة أخت عمر رضي الله عنهما الشدائد إيذاء عمر لسعيد زوجته فاطة وقصة إسلام عمر بفضل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له(1/355)
أخرج البخاري عن قيس قال: سمعت سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه في مسجد الكوفة يقول: والله، لقد رأيتني وإن عمر لَمُوثقي على الإِسلام، فذكر الحديث. وفي رواية أخرى عنه عنده: لو رأيتني موثقي عمر على الإِسلام أنا وأخته وما أسلم.
وأخرج ابن سعد عن أنس رضي الله عنه قال: خرج عمر رضي الله عنه متقلداً السيف فلقيه رجل من بني زُهْرة قال: أين تعمد يا عمر؟ فقال: أريد أن أقتل محمداً. فقال: وكيف تأمن من بني هاشم وبني زُهْرة إذا قتلت محمداً؟ قال: فقال له عمر: ما أراك إلا قد صبأت وتركت دينك الذي كنت عليه فقال أفلا أدلك على ما هو أعجب من ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: أختك وخَتنُك قد صَبَوا وتركا دينك الذي أنت عليه. قال: فمشى عمر ذامراً حتى أتاهما وعندما رجل من المهاجرين يقال له خبَّاب قال: فلما سمع خباب حِسَّ عمر توارى في لبيت، فدخل عليهما فقال: ما هذه الهَيْنَمة التي سمعتها عندكم؟ قال: وكانوا يقرؤون: «طه» ، فقالا: ما عدا حديثاً تحدَّثناه بيننا، قال: فلعلكما قد صبوتما قال: فقال له ختنة: أرأيت يا عمر إن كان الحق في غير دينك؟ فوثب عمر على خَتَنة فوطأه وطأً شديداً، فجاءت أخته فدفعته عن زوجها فنفحها بيده نفحة فدمَّى وجهها. فقالت - وهي غضبَى -: يا عمر، إن كان الحق في غير دينك أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما يئس عمر قال: أعطوني هذا الكتاب الذي عندكم فأقرأه. قال: - وكان عمر يقرأ الكتب - فقالت أخته؛ إنك رِجْس ولا يمسه إلا المطهَّرون، فقم فاغتسل أو توضأ. قال: قام عمر فتوضأ، ثم أخذ الكتاب(1/356)
فقرأ «طه» حتى انتهى - إلى قوله -: {إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لآ اله إِلآ أَنَاْ فَاعْبُدْنِى وَأَقِمِ الصلاةَ لِذِكْرِى} (طه: 14) قال فقال عمر: دلُّوني على محمد. فلما سمع خبّاب قول عمر خرج من البيت فقال: أبشر يا عمر، فإني أرجو أن تكون دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لك ليلة الخميس: «اللَّهمَّ أعز الإِسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام» . قال: «ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الدار التي في أصل الصف، فانطلق عمر حتى أتى الدار. قال: وعلى باب الدار حمزة، وطلحة رضي الله عنهما وأناس من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى حمزة وَجَلَ القوم من عمر، قال حمزة: نعم، فهذا عمر، فإن يرد الله بعمر خيراً يسلم ويتبع النبي صلى الله عليه وسلم وإن يرد غير ذلك يكن قتله علينا هيِّناً. قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم داخلٌ يُوحَى إليه. قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عمر فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل السيف وقال: «أما أنت بمنتهٍ يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزي والنكال ما أنزل بالوليد بن المغيرة؟ اللهمَّ هذا عمر بن الخطاب، اللَّهمَّ أعزَّ الدين بعمر بن الخطاب» . قال فقال عمر: أشهد أنك رسول الله، فأسلم وقال: أخرج يا رسول الله. كذا في العيني. وذكره ابن إسحاق بهذا السياق مطوَّلاً كما في البداية.
وعند الطبراني ن ثَوْبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللَّهمَّ أعز الإِسلام بعمر بن الخطاب» ، وقد ضرب أخته أول الليل وهي تقرأ: {إقرأ باسم ربك الذي خلق} حتى ظنَّ أنه قتلها، ثم قام في السَحَر فسمع صوتها تقرأ: {إقرأ باسم ربك الذي خلق} فقال: والله ما هذا بشعر ولا همهمته. فذهب حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد بلالاً على الباب بدفع الباب؛(1/357)
فقال بلال: من هذا؟ فقال: عمر بن الخطاب. فقال حتى أستأذن لك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بلال: يا رسول الله، عمر بالباب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن يرد الله بعمر خيراً يدخله في الدين» ، فقال لبلال: إفتح، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بضَبُعَيه وهزّه، وقال: ما الذي؟ وما الذي جئت؟» فقال له عمر: أعرض عليَّ الذي تدعو إليه. فقال: «تشهد أن لا إِله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله» . فأسلم عمر مكانه، وقال: أخرج. قال الهيثمي وفيه: يزيد بن ربيعة وهو متروك؛ وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به، وبقية رجاله ثقات. انتهى.
وأخرج البزار عن أسْلَم مولى عمر رضي الله عنهما قال: قال عمر بن الخطاب: أتحبون أن أعلمكم أول إسلامي؟ قال قلنا: نعم. قال: كنت أشدَّ الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينا أنا في يوم شديد الحر في بعض طرق مكة إِذ رآني رجل من قريش فقال: أين تذهب يا ابن الخطاب؟ قلت: أريد هذا الرجل. قال: يا ابن الخطاب قد دخل هذا الأمر في منزلك وأنت تقول هذا؟ قلت: وما ذاك فقال: إن أختك قد ذهبت إليه. قال: فرجعت مُغْضباً حتى قرعت عليها الباب؛ - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا أسلم بعض من لا شيء له ضم الرجل والرجلين إلى الرجل ينفق عليه -. قال: وكان ضم رجلين من أصحابه إلى زوج أختي. قال: فقرعت الباب. فقيل لي: من هذا قلت: عمر بن الخطاب - وقد كانوا يقرأون كتاباً في أيديهم -. فلما سمعوا صوتي قاموا حتى اختبأوا في مكان وتركوا الكتاب. فلمَّا فتحت لي أختي الباب قلت: أيا عدوة نفسها صَبَوتِ؟ قال: وأرفع شيئاً فأضرب به على رأسها، فبكت المرأة، وقالت: يا ابن الخطاب، أصنع ما كنت صانعاً فقد أسلمت. فذهبتْ، وجلست عى السرير فإذا بصحيفة وسط الباب، فقلت: ما هذه الصحيفة ها هنا؟ فقالت(1/358)
لي: دعنا عنك يا ابن الخطاب، فإِنك لا تغتسل من الجنابة ولا تتطهَّر، وهذا لا يمسه إلا المطهّرون؛ فما زلت به حتى أعطتنيها. فذكر الحديث بطوله في إسلام عمر رضي الله عنه وما وقع له بعده. قال الهيثمي: وفيه أُسامة بن زيد بن أسلم وهو ضعيف - انتهى.
تحمل عثمان بن مظعون رضي الله عنه الشدائد
أخرج أبو نُعيم الحلية عن عثمان قال: لما رأى عثمان بن مظعون رضي الله عنه ما فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من البلاء - وهو يغدو ويروح في أمان من الوليد بن المغيرة - قال: والله إن غُدوِّي ورواحي آمناً بجوار رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهل ديني يلقَون من الأذى والبلاء ما لا يصيبني لنقصٌ كبير في نفسي فمشى إلى الوليد بن المغيرة فقال له: يا أبا عبد شمس، وفّنتْ ذمتك، قد رددت إِليك جوارك. قال: لم يا ابن أخي، لعله آذاك أحد من قومي؟ قال: لا، ولكني أرضى بجوار الله عزّ وجلّ، لا أُريد أن أستجير بغيره. قال: فانطلق إلى المسجد فاردد عليَّ جواري علانية كما أجرتك علانية. قال: فانطلق ثم خرجا حتى أتيا المسجد، فقال لهم الوليد: هذا عثمان قد جاء يرد عليَّ جاري. قال لهم: قد صدق قد وجدته وفيّاً كريم الجوار، ولكني قد أحببت أن لا أستجير بغير الله فقد رددت عليه جواره.
ثم انصرف عثمان ولبيدُ بن ربيعة بن مالك بن كلاب القيسي في المجلس من قريش ينشدهم، فجلس معهم عثمان. فقال لبيد - وهو ينشدهم -:
ألا كلُّ شيء ما خلا الله باطلٌ
فقال عثمان: صدقت، فقال:
وكلُّ نعيمٍ لا محالة زائلُ(1/359)
فقال عثمان: كذبت، نعيم أهل الجنة لا يزول. قال لبيد بن ربيعة، يا معشر قريش، والله ما كان يؤذى جليسُكم، فمتى حدث فيكم هذا؟ فقال رجل من القوم: إِنَّ هذا سفيه في سفهاء معه قد فارقوا ديننا، فلا تجدنَّ في نفسك من قوله، فردَّ عليه عثمان حتى سَرِي - أي عظم - أمرهما. فقام إليه ذَلك الرجل فلطم عينه فخضرَّها، والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان. فقال: أما - والله - يا ابن أخي إن كانت عينك عما أصابها لَغنيةٌ، لقد كنت في ذمة منيعة. فقال عثمان: بلى - والله - إنّ عيني الصحيحة لفقيرة إلى ما أصاب أختها في الله، وإني لفي جوار من هو أعزّ منك وأقدر يا أب عبد شمس فقال عثمان بن مظعون رضي الله عنه فيما أُصيب من عينه:
فإنْ تَكُ عيني في رضى لربِّ نالها
يدا مُلْحدٍ في الدين ليس بمهتدِ
فقد عوْض الرحمن منها ثوابه
ومن يُرضه الرحمن يا يقوم يسعدِ
فإني - وإنْ قلتم غَوِيٌ مُضلَّلٌ
سفيهٌ - على دين الرسول محمدِ
أريد بذاك الله والحقّ ديننا
على رغم من يبغي علينا ويعتدي
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيما أصيب من عين عثمان بن مظعون:
أمِنْ تذكُّر دَهْر غير مأمون
أصبحت مكتئباً تبكي كمحزونِ
أمِنْ تذكُّر أقوام ذوي سَفَهٍ
يغشون بالظلم مَنْ يدعو إلى الدين
لا ينتهون عن الفحشاء ما سلوا
والغدرُ فيهم سبيل غير مأمون
ألا تَرُون - أقلَّ الله خيرهم -
أنّا غضِبنا لعثمانَ بن مظعون
إذ يلطِمون - ولا يخشَون مُقْلَتَه
طَعْناً دِراكا وضرباً غيرَ مأفونِ
فسوف يجزيهم إن لم يمت عجلاً
كيلاً بكيلٍ جزاً غير مغبونِ
وذكر في البداية: قصة ابن مظعون عن ابن إسحاق بلا إسناد، وزاد:(1/360)
فقال له الوليد: هَلُمَّ - يا ابن أخي - إلى جوارك فَعُدْ. قال: لا. وأخرجه الطبراني عن عروة مرسلاً. قال الهيثمي: وفيه: ابن لهيعة.
تحمل مصعب بن عمير رضي الله عنه الشدائد
أخرج ابن سعد عن محمد العبدَري عن أبيه قال كان مصعب بن عمير فتى مكة شباباً وجمالاً وسبيباً، وكان أبواه يحبَّانه، وكانت أمه مليئة كثيرة المال تكسوه أحسن ما يكون من الثياب وأرقّه، وكان أعطر أهل مكة، يلبس الحضرمي من النعال. فكنت يذكره ويقول: «ما رأيت بمكة أحداً أحسنَ لِة. ولا أرقَّ حُلَّة، ولا أنعمَ نعمة من مصعب بن عمير» فبلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإِسلام في دار أرقم بن أبي الأرقم فدخل عليه فأسلم وصدَّق به، وخرج فكتم إسلامه خوفاً من أمه وقومه. فكان يختلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سراً، فبصرُ به عثمان بن طلحة يصلِّي فأخبر أمه وقومه. فأخذوه فحبسوه فلم يزل محبوساً حتى خرج إلى أرض الحبشة في الهجرة الأولى، ثم رجع مع المسلمين حين رجعوا، فرجع متغيِّر الحال قد حرج - يعني غَلُظَ - فكفَّت أمه عنه من العذل.
تحمل عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه الشدائد ما لقي عبد الله من الأذى من ملك الروم وتقبيل عمر لرأسه حين قدم عليه
أخرج البيهقي، وابن عساكر عن أبي رافع قال: وجّه عمر بن الخطاب(1/361)
رضي الله عنه جيشاً إلى الروم وفيهم رجل يقال له عبد الله بن حذافة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأسره الروم، فذهبوا به إلى ملكهم، فقالوا له: إنَّ هذا من أصحاب محمد. فقال له الطاغية: هل لك أن تَنصرَّ وأشرِكَك في ملكي وسلطاني؟ فقال له عبد الله: لو أعطيتني ما تملك وجميع ما ملكته العرب، على أن أرجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم طَرْفة عين ما فعلت. قال: إذاً أقتلك. قال: أنت وذاك. فأَمر به فصُلب، وقال للرماة: أرموه قريباً من يديه، قريباً من رجليه، وهو يعرض عليه وهو يأبى. ثم أمر به فأنزل، ثم دعا بقدر فصبَّ فيه ماء حتى احترقت، ثم دعا بأسيرين من المسلمين فأمر بأحدهما فألقي فيه وهو يعرض عليه النصرانية وهو يأبى، ثم أمر به أن يُلقى فيها. فلما ذُهب به بكى، فقيل له: إنه قد بكى، فظنَّ أنه جزع فقال: ردّوه فعرض عليه النصرانية؛ فأبى. فقال: ما أباك إذاً؟ قال: أبكاني أني قلت في نفسي تُلقى الساعةَ في هذه القدر فتذهب، فكنت أشتهي أن يكون بعدد كل شعرة في جسدي نَفْس تُلقى في الله. قال له الطاغية: هل لك أن تقبّل رأسي وأخلّي عنك؟ قال له عبد الله: وعن جميع أُسارى المسلمين؟ قال: وعن جميع أسارى المسلمين. قال عبد الله: فقلت في نفسي: عدوٌّ من أعداء الله، أقبّل رأسه يخلِّي عني وعن أسارى المسلمين لا أُبالي. فدنا منه فقبّل رأسه، فدفع إليه الأسارى. فقدم بهم على عمر رضي الله عنه، فأُخبر عمر بخبره؛ فقال عمر: حقٌّ على كل مسلم أن يقبّل رأس عبد الله بن حذافة وأنا أبدأ، فقام عمر فقبّل رأسه. كذا في كنز العمال. قال في الإِصابة: وأخرج ابن عساكر لهذه القصة شاهداً من حديث ابن عباس رضي الله عنهما موصولاً، وآخر من فوائد، هشام بن عثمان من مرسل الزهري. انتهى.(1/362)
تحمل عامة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الشدائد ما لقي الصحابة من الأذى من المشركين
أخرج ابن إِسحاق عن حكيم عن سعيد بن جبير قال: قلت عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله من العذاب ما يُعذَرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم، والله، إنْ كانوا ليضربون أحدهم، ويُجيعون، ويُعطِّشونه، حتى ما يقدر أن يستويَ جالساً من شدة الضُّرّ الذي به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة حتى يقولوا له: اللات والعزَّى إِلهان من دون الله؟ فيقولَ: نعم، (حتى إنَّ الجُعَل ليمر بهم، فيقولون له: أهذا الجُعَل إِلك من دون الله؟ فيقول: نعم: افتداءً منهم بما يبلغون من جَهده - كذا في البداية.
خبره عليه السلام وأصحابه في المدينة بعد الهجرة
وأخرج ابن المنذر، والطبراني، والحاكم، وابن مَرْدويه، والبيهقي في الدلائل، وسعيد بن منصور عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار، رمتهم العرب عن قوس واحدة، فكانوا لا يبيتون إلا في السلاح ولا يصبحون إلا فيه. فقالوا: تَروْن أنّا نعيش(1/363)
حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله؛ فنزلت: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الاْرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذالِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور: 55) . كذا في الكنز. ولفظ الطبراني: عن أبيّ بن كعب قال: لمّا قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة، وآوتهم الأنصار، رمتهم العرب عن قوس واحدة؛ فنزلت: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الاْرْضِ} . قال الهيثمي: ورجاله ثقات.
غزوة ذات الرِّقاع وما لقيه عليه السلام وأصحابه من الأذى
وأخرح ابن عساكر، وأبو يَعْلى عن أبي موسى رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة ونحن ستة نفر بيننا بعير نَعْتَقِبُه فَنقِبَت أقدامنا (ونقبت قدماي) وسقطت أظفاري، فكنّا نلفُّ على أرجلنا الخِرَق، فسميت الغزوة «ذاتَ الرقاع» لما كنّا نعصِب على أرجلنا من الخِرَق. كذا في الكنز. وأخرجه أيضاً أبو نُعيم في الحلية بنحوه، وزاد: قال أبو بُرْدة: فحدَّث أبو موسى بهذا الحديث ثم ذكر ذلك فقال: ما كنت أصنع أن أذكر هذا الحديث كأنه كره أن يكون شيء من عمله أفشاه. وقال: الله يجزي به.
تحمل الجوع في الدعوة إلى الله ورسوله تحمل محمد صلى الله عليه وسلم الجوع(1/364)
أخرج مسلم، والترمذي عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: ألستم في طعام وشراب ما شئتم؟ لقد رأيت نبيكم صلى الله عليه وسلم وما يجد من الدَّقَل ما يملأ بطنه. وفي رواية لمسلم عن النعمان رضي الله عنه قال: ذكر عمر رضي الله عنه ما أصاب الناسُ من الدنيا، فقال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يلتوي ما يجد من الدَّقَل ما يملأ بطنه - كذا في الترغيب. وأخرجه أيضاً الإِمام أحمد، والطيالسي، وابن سعد، وابن ماجه، وأبو عَوانة وغيرهم كما في الكنز.
شدة الحساب لا تصيب الجائع
وأخرج أبو نُعيم في الحلية، والخطيب، وابن عساكر، وابن النجّار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلِّي جالساً. فقلت: يا رسول الله، أراك تصلِّي جالساً فما أصابك؟ قال: «الجوع، يا أبا هريرة» فبكيت. فقال: «لا تبكِ يا أبا هريرة، فإنَّ شدة الحساب يوم القيامة(1/365)
لا تصيب الجائع إِذا احتسب في دار الدنيا» . كذا في الكنز.
بيوت النبي صلى الله عليه وسلم لا تُسرج ولا يوقد فيها النار
وأخرج أحمد - ورواته رواة الصحيح - عن عائشة رضي الله عنها قالت: أرسل إلينا آل أبي بكر بقائمة شاة ليلاً، فأمسكتُ وقطع النبي صلى الله عليه وسلم ـ أو قالت: فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطعتُ -. قال: فتقول للذي تحدثه هذا على غير مصباح. وأخرجه الطبراني أيضاً - وزاد: فقلت: يا أمَّ المؤمنين، على مصباح؟ قالت: لو كان عندنا دهن غير مصباح لأكلناه - كذا في الترغيب. قال الهيثمي: رواه أبو يَعْلى، وفيه: عثمان بن عطاء الخراساني وهو ضعيف، وقد وثَّقه دحيم، وبقية رجاله ثقات.
وعند أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان يمر بآل رسول(1/366)
الله صلى الله عليه وسلم هلال ثم هلال لا يوقد في بيوتهم شيء من النار، لا لخبز ولا لطبيخ. قالوا: بأيِّ شيء كانوا يعيشون يا أبا هريرة؟ قال: الأسودان: التمر والماء. وكان لهم جيران من الأنصار - جزاهم الله خيراً - لهم منائح، ويرسلون إليهم شيئاً من لبن. قال الهيثمي: إسناده حسن. ورواه البزار كذلك. انتهى.
وأخرج الشيخان عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها كنت تقول: والله يا ابن أختي، إنْ كنَّا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال، ثلاثة أهلَّة في شهرين، وما أُوقدَ في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار. قلت: يا خالة، فما كان يُعيِّشكم؟ قالت الأسودان: التمر والماء، إلا أنّه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار وكانت لهم منائح، فكانوا يرسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانها فيسقيناه. كذا في الترغيب. وأخرجه أيضاً ابن جرير نحوه، وأخرجه أحمد بإسناد حسن، والبزار عن أبي هريرة رضي الله عنه بمعناه كما في المجمع.
وأخرج بن جرير أيضاً عن عائشة رضي الله عنها قالت: إنْ كنَّا لنمكث أربعين لا نوقد في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ناراً ولا غيره. قلت: بأي شيء كنتم تعيشون؟ قالت: بالأسودين: بالتمر والماء إذا وجدنا. كذا في الكنز.(1/367)
وأخرج الترمذي عن مسروق قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها، فدعت لي بطعام فقالت: ما أشبع فأشاء أن أبكي إِلا بكيت. قلت لم؟ قالت: أذكر الحال التي فارق عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم الدنيا، والله ما شبع من خبز ولحم ومرتين في يوم. كذا في الترغيب. وعند ابن جرير عنها قالت: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبز بُرَ ثلاثة أيام تباعاً منذ قدم المدينة حتى مضى لسبيله، وعنده أيضاً عنها قالت: ما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أيضاً عنها قالت: قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وما شبع من الأسودين - التمر والماء - كما في الكنز. وفي رواية للبيهقي قالت: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام متوالية ولو شئنا شبعنا، ولكنه كان يؤثر على نفسه. كذا في الترغيب.
ما أصابه عليه السلام من شدّة العيش
وأخرج ابن أبي الدنيا عن الحسن رضي الله عنه مرسلاً قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواسي الناس بنفسه حتى جعل يرقَع إزاره بالأدَم وما جمع بين غداء وعشاء ثلاثة أيام ولاءً حتى لحق بالله عزّ وجلّ.
وعند البخاري عن أنس رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لم يأكل النبي صلى الله عليه وسلم على خُوان ولم يأكل خبزاً مرقَّقاً حتى مات. وفي رواية: ولا رأى شاة سميطاً بعينه(1/368)
قط. كذا في الترغيب.
وأخرج الترمذي - وصحّه - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة وأهله طاوِين لا يجدون عشاء، وإنَّما كان أكثر خبزهم الشعير. عنده أيضاً البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه مرَّ بقوم بين أيديهم شاة مصّلِيَّة، فدعَوه فأبى أن يأكل، وقال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير. كذا في الترغيب (5148/ 151) .
وأخرج أحمد عن أنس رضي الله عنه قال: إنَّ فاطمة رضي الله عنها ناولت النبي صلى الله عليه وسلم كِسرة من خبز الشعير، فقال لها: «هذا أول طعام أكله أبوك منذ ثلاثة أيام» . وأخرجه الطبراني، وزاد فقال: «ما هذه؟» فقالت: قرص خبزته فلم تطلب نفسي حتى أتيتك بهذه الكِسرة. فقال: فذكره قال الهيثمي - بعد ما ذكره عن أحمد والطبراني -: ورجالهم ثقات. وعند ابن ماجه بإسناد حسن. والبيهقي بإسناد صحيح عن أبي(1/369)
هريرة رضي الله عنه قال: أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بطعام سُخْن، فأكل. فلما فرغ قال: «الحمد لله؛ ما دخل بطني طعام سخن منذ كذا وكذا» . كذا في الترغيب.
وأخرج البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النقيَّ من حين ابتعثه الله حتى قبضه الله. فقيل: هل كان لكم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مُنخُل؟ قال: ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منخلاً من حين ابتعثه الله حتى قبضه الله. فقيل: كيف كنتم تأكلون الشعير غير منخول؟ قال: كنا نطحنه وننفخه فيطير ما طار وما بقي ثرَّيْنَاه. كذا في الترغيب. وأخرج الطبراني بإسناد حسن عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما كان يبقى على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيز الشعير قليل ولا كثير. وفي رواية له: ما رفعت مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها فَضْلة من طعام قط. كذا في الترغيب. قال الهيثمي: وروى البزَّار بعضه.
وضعه عليه السلام والصحابة الحجر على بطونهم من الجوع
وأخرج الترمذي عن أبي طلحة رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول(1/370)
الله صلى الله عليه وسلم الجوع، ورفعنا ثيابنا عن حَجَرٍ حَجَرٍ على بطوننا؛ فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حجرين. كذا في الترغيب. وأخرج ابن أبي الدنيا عن ابن بُجير رضي الله عنه - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ـ قال: أصاب النبي صلى الله عليه وسلم جوع يوماً، فعمد إلى حجر فوضعه على بطنه ثم قال: «ألا ربَّ نفس طاعمة ناعمة في الدنيا جائعةٌ عاريةٌ يوم القيامة. ألا ربَّ مُكْرم لنفسه وهو له مهين. ألا ربَّ مُهين لنفسه وهو له مكرم» . كذا في الترغيب. وأخرجه أيضاً الخطيب، وابن مَنْده كما في الإِصابة.
قول عائشة رضي الله عنها في الشبع
وأخرج البخاري في كتاب الضعفاء وابن أبي الدنيا في كتاب الجوع عن عائشة رضي الله عنها قالت: أول بلاء حدث في هذه الأمة بعد نبيها الشِّبع، فإن القوم لما شبعت بطونهم سمنت أبدانهم، فضَعُفت قلوبهم، وجَمحت شهواتهم، كذا في الترغيب.
جوعه صلى الله عليه وسلم وجوع أهل بيته وأبي بكر، وعمر رضي الله عنهم جوعه عليه السلام وأبي بكر، وعمر وخبرهم مع أبي أيوب
أخرج الطبراني، وابن حبان في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج أبو بكر رضي الله عنهما بالهاجرة إلى المسجد، فسمع عمر(1/371)
رضي الله عنه فقال: يا أبا بكر، ما أخرجك هذه الساعة؟ قال: ما أخرجني إلا ما أجد من حاقِّ الجوع. قال: وأنا - والله - ما أخرجني غيره. فبينما هم كذلك إذ خرج عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما أخرجكما هذه الساعة؟» قالا: والله ما أخرجنا إلا ما نجده في بطوننا من حاقّ الجوع قال: «وأنا - والذي نفسي بيده - ما أخرجني غيره فقوما» ، فانطلقوا فأتَوا باب أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، وكان أبوي أيوب يدَّخر لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً كان أو لبناً، فأبطأ عليه يومئذٍ فلم يأت لحينه، فأطعمه لأهله، وانطلق إلى نخله يعمل فيه.
فلما انتَهوا إلى الباب خرجت إمرأته فقالت: مرحباً بنبي الله وبمن معه. قال لها نبي الله صلى الله عليه وسلم «أين أبو أيوب؟» فسمعه - وهو يعلم في نخل له - فجاء يشتد فقال: «مرحباً بنبي الله وبمن معه. يا نبي الله، ليس بالحين الذي كنت تجيء فيه؟ فقال صلى الله عليه وسلم «صدقت» . قال: فانطلق فقطع عِذْقاً من النخل فيه كلٌّ من التمر والرُّطَب والبُسْر. فقال صلى الله عليه وسلم «ما أردت إلى هذه، ألا جَنَيت لنا من تمره؟» قال: يا رسول الله أحببت أن تأكل من تمره وخطَبه وبُسْره، ولأذبحنّ لك مع هذا. قال: «إن ذبحتَ فلا تذبحنَّ ذاتَ دَرّ» . فأخذ عَناقاً أو جدياً فذبحه، وقال لامرأته: أخبُزي واعجِني لنا وأنت أعلم بالخبز. فأخذ نصف الجدي فطبخه وشوَى نصفه. فلما أدرك الطعام ووُضع بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ أخذ من الجَدي فجعله في رغيف وقال: «يا أبا أيوب: أبلغ بهذا فاطمة فإنها لم تُصِب مثل هذا منذ أيام» . فذهب أبو أيوب إلى فاطمة. فلما أكلوا وشبعوا قال النبي صلى الله عليه وسلم «خبز، ولحم، وتمر، وبُسْر، ورُطَب، - ودمعت عيناه -، والذي نفسي بيده، إنَّ هذا هو النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة» .(1/372)
فكَبُر ذلك على أصحابه فقال: «بل إذا أصبتم مثل هذا فضربتم بأيديكم، فقولوا: بسم الله، فإذا شبعتم فقولوا: الحمد لله الذي هو أشبعنا وأنعم علينا فأفضل؛ فإن هذا كفاف بهذا» . فلما نهض قال لأبي أيوب: «ائتنا غداً» وكان لا يأتي أحد إِليه معروفاً إِلا أحبَّ أن يجازيه. قال: وإن أبا أيوب لم يسمع ذلك؛ فقال عمر رضي الله عنه: إِن النبي صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تأتيه غداً. فأتاه من الغد فأعطاه وليدته؛ فقال: «يا أبا أيوب استوصِ بها خيراً فإنَّا لم نرَ إِلا خيراً ما دامت عندنا» . فلما جاء أبو أيوب من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا أجد لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً له من أن أعتقها فأعتقها. كذا في الترغيب.
وأخرجه البزار، وأبو يعلى، والعُقَيْلي، وابن مردَوَيه، والبيهقي في الدلائل، وسعيد بن منصور عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الظهيرة فوجد أبا بكر رضي الله عنه في المسجد فقال: «ما أخرجك في هذه الساعة؟» فقال: أخرجني الذي أخرجك يا رسول الله. وجاء عمر بن الخطاب فقال: «ما أخرجك يا ابن الخطاب؟» قال: أخرجني الذي أخرجكما. فقعد عمر، وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثهما، ثم قال: «هل بكما قوة تنطلقان إلى النَّخْل فتصيبان طعاماً وشراباً وظلاً؟» قال: «سيروا بنا إلى منزل أبي الهيثم بن التيِّهان الأنصاري فذكر الحديث بطوله كما في كنز العمال.(1/373)
وأخرجه مسلم مختصراً ولم يُسمِّ الرجل الأنصاري؛ وهكذا رواه مالك بلاغاً باختصار. قال الحافظ المنذري:: والظاهر أن هذه القصة اتفقت مرة مع أبي الهيثم ومرة مع أبي أيوب. اهـ.
جوع علي، وفاطمة رضي الله عنهما
وأخرج الطبراني - بإسناد حسن - عن فاطمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاها يوماً، فقال: «أين إبناي؟» - يعني حسناً وحسيناً - قالت: أصبحنا وليس في بيتنا شيء يذوقه ذائق، فقال علي: أذهبُ بهما فإني أتخوَّف أن يبكيا عليك وليس عندك شيء، فذهب إلى فلان اليهودي. فتوجه إليه النبي صلى الله عليه وسلم فوجدهما يلعبان في شَرَبة، وبين أيديهما فضل من تمر. فقال: «يا علي، ألا تُقْلِب إبنيَّ قبل أن يشتد الحر؟» قال: أصبحنا وليس في بيتنا شيء، فلو جلست يا رسول الله حتى أجمعَ لفاطمة فَضْلَ تمرات. فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اجتمع لفاطمة فَضْل من تمر، فجعله في خِرْقة ثم أقبل، فحمل النبي صلى الله عليه وسلم أحدهما وعلي الآخر حتى أقلباهما. كذا في الترغيب. وقال الهيثمي: إسناده حسن.(1/374)
وأخرج هَنَّاد عن عطاء رضي الله عنه قال: نُبِّئت أن علياً رضي الله عنه قال: مكثنا أياماً ليس عندنا شيء ولا عند النبي صلى الله عليه وسلم فخرجت فإذا أنا بدينار مطروح على الطريق، فمكثت هنيهة أوامر نفسي في أخذه أو تركه، ثم أخذته لما بنا من الجَهْد. فأتيت به الضَفاطين فاشتريت به دقيقاً، ثم أتيت به فاطمة فقلت: إعجني واخبُزي. فجعلت تعجن - وإن قُصَّتها لتضرب حرف الجَفنة من الجَهْد الذي بها - ثم خبزت. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته. فقال: «كلوه فإنه رزق رزقكموه الله عزّ وجلّ» . وأخرجه العدني عن محمد بن كعب القرظي مطولاً. كذا في الكنز. وأخرجه أبو داود عن سهل بن سعد رضي الله عنه مطوَّلاً.
وأخرج أحمد عن محمد بن كعب القرظي أن علياً رضي الله عنه قال: لقد رأيتُني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإني لأربط الحجر على بطني من الجوع، وإن صدقة مالي لتبلغ أربعين ألف دينار - وفي رواية: وإن صدقتي اليوم لأربعون ألفاً -. ورجال الروايتين رجال الصحيح غير شَريك بن عبد الله النَخَعي وهو حسن الحديث، ولكن اختلف في سماع محمد بن كعب من علي رضي الله عنه. كذا في مجمع الزوائد للهيثمي.
أمره عليه السلام أمَّ سليم بالصبر على الجوع
وأخرج الطبراني عن أم سُلَيم رضي الله عنها: قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/375)
«إصبري - فوالله - ما في آل محمد شيء منذ سبع، ولا أوقد تحت بُرْمة لهم منذ ثلاث. والله، لو سألتُ الله يجعل جبال تِهامة كلّها ذهباً لفعل» . كذا في الكنز.
جوع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قصة سعد في هذا الباب وذكر أنه أول العرب رمَى بسهم في سبيل
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن سعد رضي الله عنه قال: كنا قوماً يُصيبنا ظَلَف العيش بمكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشدته؛ فلما أصابنا البلاء اعترفنا لذلك ومَرَنَّا عليه وصبرنا له. ولقد رأيتُني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة خرجت من الليل أبول، وإذا أنا أسمع بقعقعة شيء تحت بَوْلي، فإذا قطعة جلد بعير، فأخذتها فغسلتها ثم أحرقتها فوضعتها بين حجرين، ثم استفهاً وشربت عليها من الماء فقويت عليها ثلاثاً.
وأخرج الشيخان عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: إنِّي لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله. ولقد كنّا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إِلا ورق الحُبْلة وهذا السَّمر، حتى إن كان أحدنا ليضع كما تضع الشاة ماله خلط. كذا في الترغيب. وأخرجه أبو نعيم في الحلية، وابن سعد(1/376)
بنحوه.
جوع المقداد بن الأسود وصاحبيه رضي الله عنهم
أخرج أبو نعيم في الحلية عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: جئت أنا وصاحبان لي قد كادت تذهب أسماعنا وأبصارنا من الجَهْد، فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما يقبلنا أحد، حتى انطلق بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رَحْله - ولآل محمد ثلاث أعنُز يحتلبونها -. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يوزع اللبن بيننا، وكنا نرفع لرسول الله صلى الله عليه وسلم نصيبه. فيجيء فيسلِّم تسليماً يُسمع اليقظان ولا يوقظ النائم. فقال لي الشيطان: لو شربت هذه الجُرعة، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يأتي الأنصار فيتحفونه، فما زال بي حتى شربتها. فلما شربتها ندّمني وقال: ما صنعت يجيء محمد صلى الله عليه وسلم فلا يجد شرابه فيدعو عليك فتهلِك. وأما صاحباي فشربا شرابهما وناما، وأما أنا فلم يأخذني النوم وعليّ شَمْلة لي إذا وضعتها على رأسي بدت منها قدماي، وإِذا وضعتها على قدمي بدا رأسي. وجاء النبي صلى الله عليه وسلم كما كان يجيء فصلَّى ما شاء الله أن يصلِّي، ثم نظر إلى شرابه فلم يرَ شيئاً فرفع يده، فقلت: يدعو عليَّ الآن فأهلِك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللَّهمّ أطعم من أطعمني، واسقِ من سقاني» . فأخذت الشفرة وأخذت الشَّمْلة وانطلقت إلى الأعنْز أجسّهن أيتهن أسمن كي أذبحه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حُفَّل كلُّهن أخذت إناء لآل محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يطمعون أن يجتلبوا فيه، فحلبته حتى عَلَتْه الرَّغْوة. ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرب، ثم ناولني فشربت، ثم ناولته فشرب، ثم ناولني فشربت، ثم ضحكت حتى أُلقيت إلى الأرض. فقال(1/377)
لي: «إِحدى سوءاتِك يا مقداد» فأنشأت أحدِّثه بما صنعت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما كانت إلا رحمة من الله عزّ وجلّ، لو كنتَ أيقظت صاحبيك فأصابا منها» . قلت: والذي بعثك بالحق، ما أبالي إذا أصبتَها أنت وأصبتُ فضلتك من أخطأتُ من
الناس.
وأخرج أيضاً من طريق طارق عن المقداد رضي الله عنه قال: لما نزلنا المدينة عشَّرَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة عشرة - يعني في كل بيت -. قال: فكنت في العشرة الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم فيهم. قال: ولم يكن لنا إلا شاة نتجزَّأ لبنها. كذا في الحلية.
جوع أبي هريرة رضي الله عنه شدّ أبي هريرة الحجر على بطنه من الجوع
أخرج أحمد عن مجاهد أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يقول: والله إنْ كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشدُّ الحجر على بطني من الجوع. ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه، فمرَّ أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليستتبعني فلم يفعل، فمر أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فعرف ما في وجهي وما في نفسي، فقال: «أبا هريرة» قلت له: لبيك يا رسول الله، فقال: «الحِقْ» ، واستأذنت فأذن لي؛ فوجدت لبناً في قَدَح. قال: «من أين لكم هذا اللبن؟» فقالوا: أهداه لنا فلان - أو آل فلان -. قال: «أبا هرّ» قلت: لبيك يا رسول الله، قال: «إنطلق إلى أهل الصُّفَّة فأدعُهم(1/378)
لي» . قال: - وأهل الصفة أضيافُ الإِسلام، لم يأووا إلى أهل ولا مال، إذا جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم هديةٌ أصاب منها وبعث إليهم منها، وإذا جاءته الصدقةُ أرسل بها إليهم ولم يصب منها -. قال: وأحزنني ذلك وكنت أرجو أن أصيب من اللبن شربة أتقوى به بقية يومي وليلتي. وقلت: أنا الرسول، فإذا جاء القوم كنت أنا الذي أعطيهم؛ وقلت: ما يبقى لي من هذا اللبن؟ ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بدّ. فانطلقت فدعوتهم، فأقبلوا فاستأذنوا، فأذن لهم، فأخذوا مجالسهم من البيت. ثم قال: «أبا هرّ، خُذْ فأعطهم» فأخذت القَدَحُ فجعلت أعطيهم، فيأخذ الرجل القدح فيشرب حتى يروَى ثم يرد القدح، حتى أتيت على آخرهم، ودفعتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ القدح فوضعه في يده بقي فيه فضلة ثم رفع
رأسه ونظر إليّ وتبسم وقال: «أبا هرّ» قلت: لبيك رسول الله، قال: «بقيت أنا وأنت» . فقلت؛ صدقت يا رسول الله، قال: «فاقعد فاشرب» قال: فقعدت فشربت، ثم قال لي: «شرب» ، فشربت؛ فما زال يقول لي: «إشرب» ، فأشرب حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق، ما أجد له فيّ مسلكاً قال: «ناولني القدح» ، فرددت إليه القدح فشرب من الفَضْلة، وأخرجه أيضاً البخاري؛ والترمذي وقال: صحيح كذا في البداية. وأخرجه الحاكم وقال: صحيح عى شرطهما.
ما أصاب أبا هريرة من شدة الجوع
وأخرج ابن حِبَان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتت(1/379)
عليَّ ثلاثة أيام لم أطعَم، فجئت أريد الصُّفَّة فجعلت سقط. فجعل الصبيان يقولون: جُنّ أبو هريرة. قال: فجعلت أناديهم وأقول: بل أنتم المجانين، حتى انتهينا إلى الصُّفَّة. فوافقت رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتيَ بقصعتين من ثريد. فدعا عليها أهل الصفة وهم يأكلون منها، فجعلت أتطاول كي يدعوني، حتى قام القوم وليس في القصعة إِلا شيء في نواحي القصعة. فجمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فصارت لقمة، فوضعه على أصابعه فقال لي: «كُلْ، بسم الله» ، فوالذي نفسي بيده، ما زلت آكل منها حتى شبعت. كذا في الترغيب.
وأخرج البخاري، والترمذي عن ابن سِيرين قال: كنا عند أبي هريرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثوبان مُمَشَّقان من كتَّان. فمخط في أحدهما ثم قال: بَخٍ، بَخٍ بمتخط أبو هريرة في الكَتان، لقد رأيتُني وإني لأخرّ فيما بين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحجرة عائشة مغشياً عليَّ، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي يرى أن بي الجنون وما هو إلا الجوع. كذا في الترغيب. وأخرجه أيضاً أبو نُعيم في الحلية، وعبد الرزاق بنحوه؛ وابن سعد نحوه، وزاد: ولقد رأيتُني وإني لأجيرٌ لابن عفان وابنة غزوان بطعام بطني وعُقبة رِجلي، أسوق بهم إِذا ركبوا وأخدمهم إذا نزلوا. فقالت لي يوماً: لَترِدَنّه حافياً ولتركبنّه قائماً. قال: فزوَّجنيها الله بعد ذلك. فقلت لها: لترِدَّنه حافية ولتركبِنَّه قائمة. وفي رواية لابن سعد قبلها: عن سليم بن حَيَّان قال: سمعت أبي(1/380)
يقول: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: نشأت يتيماً، وهاجرت مسكيناً، وكنت أجيراً لبُسْرة بنت غزوان بطعام بطني وعُقْبة رجلي، فكنت أخدم إذا نزلوا وأحدُوا إذا ركبوا، فزوّجنيها الله؛ فالحمد لله الذي جعل الدين قِواماً وجعل أبا هريرة إماماً.
وأخرج أحمد - ورواته رواة الصحيح - عن عبد الله بن شقيق قال: أقمت مع أبي هريرة رضي الله عنه بالمدينة سنة. فقال لي ذات يوم - ونحن عند حجرة عائشة رضي الله عنها -: لقد رأيتُنا وما لنا ثياب إلا الأبرادُ الخشنة، وإنه ليأتي على أحدنا الأيام ما يجد طعاماً يقيم به صلبه، حتى إنْ كان أحدنا ليأخذ الحجر فيشدّ به على أخمص بطنه، ثم يشدّه بثوبه ليقيم صلبه. كذا في الترغيب. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، وعند أحمد أيضاً عنه قال: إنما كان طعامنا مع نبي الله صلى الله عليه وسلم التمر والماء. والله ما كنا نرى سمراءكم هذه، ولا ندري ما هي؟ وإنما كان لباسنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم النِّمار - يعن بُرَد الأعراب -. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. ورواه البزار باختصار. انتهى.
جوع أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما
أخرج الطبراني عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: كنت(1/381)
مرة في أرض أقطعها النبي صلى الله عليه وسلم لأبي سَلَمة، والزبير في أرض بني النضير. فخرج الزبير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولنا جار من اليهود، فذبح شاة فطُبخت، فوجدت ريحها فدخلني ما لم يدخلني من شيء قط، وأنا حامل بابنتي خديجة فلم أصبر. فانطلقت فدخلت على إمرأة اليهودي أقتبس منها ناراً لعلها تطعمني، وما بي من حاجة إلى النار. فلما شمِمتُ الريح ورأيته ازددت شرهاً فأطفأته، ثم جئت ثانياً أقتبس؛ ثم ثالثه؛ ثم قعدت أبكي وأدعو الله. فجاء زوج اليهودي فقال: أدخل عليكم أحد؟ قالت: العربية تقتبس ناراً قال: فلا آكل منها أبداً أو ترسلي إليها منها. فأرسل إليَّ بقَدحة - يعني غَرْفة -، لم يكن شيء في الأرض أعجب إليَّ من تلك الأُكلة كذا في الإِصابة. [قال الهيثمي: وفيه: ابن لهيعة، وحديثه حسن؛ وبقية رجاله رجال الصحيح - انتهى.
جوع عامة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم ما أصاب الصحابة من الجوع والقرّ ليلة الخندق
أخرج أبو نُعيم عن أبي جهاد رضي الله عنه - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ـ فقال له ابنه: يا أبتاه، رأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه والله، لو رأيته لفعلت وفعلت. فقال له أبوه: إتَّق الله وسدِّد، فوالذي نفسي بيده، لقد رأيتُنا معه ليلة الخندق وهو يقول: «من يذهب فيأتيَنا بخبرهم - جعله الله رفيقي يوم القيامة -؟» فما قام من الناس أحد من صميم ما بهم من الجوع والقر، حتى نادى في الثالثة: يا حذيفة. وأخرجه الدَوْلابي من هذا الوجه. كذا في الإِصابة. وسيأتي حديث حذيفة رضي الله عنه بطوله في تحمُّل القرِّ بمعناه.(1/382)
وأخرج البزار - بإسناد جيد - عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجوع في وجوه أصحابه فقال: «أبشروا فإنه سيأتي عليكم زمان يُغدَى على أحدكم بالقصعة من الثريد ويُراح عليه بمثلها» . قالوا: يا رسول الله، نحن يومئذٍ خبر. قال: «بل أنتم اليوم خير منكم يومئذٍ. كذا في الترغيب.
وأخرج ابن أبي الدنيا - بإسناد جيد - عن محمد بن سيرين رضي الله عنه قال: إن كان الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يأتي عليه ثلاثة أيام لا يجد، شيئاً يأكله، فيأخذ الجلدة فيشويها فيأكلها، فإذا لم يجد شيئاً أخذ حجراً فشدَّ صُلبه. كذا في الترغيب.
وقوع بعض الصحابة من قيامهم في الصلاة في الجوع والضعف
وأخرج الترمذي - وصححه - وابن حِبَّان في صحيحه عن فَضلة بن عبيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلَّى بالناس يخرُّ رجال من قامتهم في الصلاة من الخَصَاصة - وهم أصحاب الصُّفَّة - حتى يقول الأعراب: هؤلاء مجانين - أو مجانون -. فإذا صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنصرف إليهم، فقال: «لو تعلمون ما لكم عند الله لأحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة» . كذا في الترغيب. وأخرجه أبو نُعيم في الحلية مختصراً.(1/383)
أكل الصحابة الورق في سبيل الله وبعض قصصهم في تحمل الجوع
وأخرج الطبراني عن أنس رضي الله عنه قال: إن كان السبعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليَمصّون التمرة الواحدة، وأكلوا الخَبَط حتى ورمت أشداقهم. قال الهيثمي: وفيه خُلَيد بن دعلج وهو ضعيف. اهـ.
وأخرج ابن ماجه - بإسناد صحيح - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه أصابهم جوع وهم سبعة. قال: فأعطاني النبي صلى الله عليه وسلم سبع تمرات، لكل إِنسان تمرة. كذا في الترغيب.
وعند ابن سعد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: خرجت يوماً من بيتي إلى المسجد لم يخرجني إلا الجوع، فوجدت نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا هريرة ما أخرجك هذه الساعة؟ فقلت: ما أخرجني إلا الجوع. فقالوا: نحن - والله - ما أخرجنا إلا الجوع. فقمنا فدخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما جاء بك هذه الساعة؟» فقلنا: يا رسول الله جاء بنا الجوع قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بطبق فيه تمر فأعطى كل رجل منا تمرتين، فقال: «كلوا هاتين التمرتين واشربوا عليهما من الماء، فإنهما ستجزيانكم يومكم هذا» . قال أبو هريرة: فأكلت تمرة وجعلت تمرة في حُجْرتي. فقال رسول(1/384)
الله صلى الله عليه وسلم «يا أبا هريرة، لِمَ رفعت هذه التمرة؟» . فقلت: رفعتها لأمي. فقال: كُلْها، فإنا سنعطيك لها تمرتين» ؛ فأعطاني لها تمرتين.
وأخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غَدَاة باردة، ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم. فلما رأى ما بهم ما النصب والجوع قال:
اللهمَّ إِنَّ العيشَ عَيْش الآخرهْ
فاغفرِ الأنصارَ والمهاجرهْ
فقالوا - مجيبين له -:
نحن الذين بايعوا محمداً
على الجهاد ما بقينا أبداً
وعنده أيضاً عن أنس رضي الله عنه قال: جعل المهاجرون والأنصار يحفرون الخندق حول المدينة وينقلون التراب على متونهم، ويقولون:
نحن الذين بايعوا محمداً
على الإِسلام ما بقينا أبداً
قال: يقول النبي صلى الله عليه وسلم ـ مجيباً لهم النبي:
اللهمَّ إنّه لا خيرَ إلا خيرَ الآخرهْ
فبارك في الأنصار والمهاجرهْ
قال: يؤتون بملء كفيَّ من الشعير، فيُصنع لهم بإهالة سَنِخَة توضع بين يدي القوم، والقوم جياع وهي بشعة في الحلق ولها ريح منتن. كذا في البداية.(1/385)
وأخرج البخاري أيضاً عن جابر رضي الله عنه قال: إنا يوم الخندق نحفر، فعرضت كُدْية شديدة، فجاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كُدْية عرضت في الخندق. فقال: «أنا نازل» ثم قام وبطنه معصوب بحجر ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً. فذكر الحديث بطوله. كذا في البداية وعند الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إحتفر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق وأصحابه قد شدُّوا الحجارة على بطونهم - من الجوع، فذكر الحديث. كذا في البداية وسنذكرهما في «باب كيف أُيِّدت الصحابة بالتأييدات الغيبية» . وحديث جابر رضي الله عنه أخرجه ابن أبي شيبة. وقال في آخره: وأخبرني أنهم كانوا ثمان مائة. كذا في البداية.
أخرج أبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه رضي الله عنه قال: إنْ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبعثنا في السرية ما لنا زاد إلا السَّلْف -(1/386)
يعني الجرب من التمر - فيقسمه صاحبه بيننا قبضة قبضة حتى يصير إِلى تمرة، قال: فقلت: وما كان يبلغ من التمرة؟ قال: لا تقل ذلك يا بني، ولَبعد أن فقدناها فاختلطنا إِليها. وأخرجه أيضاً أحمد، والبزار، والطبراني، قال الهيثمي: وفيه: المسعودي وقد اختلط، وكان ثقة.
تحمل أبي عبيدة وأصحابه الجوع في السفر
وأخرج البيهقي عن جابر رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمَّر علينا أبا عبيدة نتلَّقى عيراً لقريش، وزودنا جراباً من تمر لم يجدلنا غيره، فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة. قال: فقلت: كيف كنتم تصنعون بها؟ قال: كنا نَمصّها كما يَمصّ الصبي، ثم نشرب عليها الماء فتكفينا يومنا إلى الليل. وكنا نضرب بعصِيِّنا الخَبَط ثم نبلُّه بالماء، فنأكله. فذكر الحديث. كذا في البداية. وكما سيأتي في باب «كيف أُيِّدت الصحابة» . وقد أخرجه مالك والشيخان وغيرهم، وفي روايتهم: أنهم كانوا ثلاث مائة. وأخرجه(1/387)
الطبراني، وفيه: أنهم كانوا ست مائة وبضعة عشر قال الهيثمي: وفيه: زَمْعَة بن صالح وهو ضعيف وعند مالك قال: فقلت: وما تغني تمرة؟ فقال: لقد وجدنا فقدها حين فنيت.
تحمله عليه السلام والصحابة الجوع في غزوة تِهامة
وأخرج البزار، والطبراني - ورجاله ثقات - عن أبي حُبَيش الغِفاري رضي الله عنه: أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تِهامة، حتى إِذا كنا بفسطاط جاءه الصحابة فقالوا: يا رسول الله، جَهَدنَا الجوع، فأذن لنا في الظَّهر نأكله. قال: «نعم» . فأُخبر بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، ماذا صنعت؟ أمرت الناس أن ينحروا الظَّهر فعلامَ يركبون؟ قال: «فما ترى يا ابن الخطاب» قال: أرى أن تأمرهم أن يأتوا بفَضْل أزوادهم فتجمعه في تَوْر، ثم تدعو الله لهم. فأمرهم، فجعلوا فَضْل أزوادهم في تَوْر؛ ثم دعا لهم ثم قال: «ائتوا بأوعيتكم» . فملأ كل إنسان منهم وعاءه. فذكر الحديث كذا في الهيثمي.(1/388)
وعند أبي يَعْلى عن عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنّا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غَزَاة، فقلنا: يا رسول الله، إنّ العدو قد حضر، وهم شباع والناس جياع، فقالت الأنصار: ألا ننحر نواضحَنَا فنطعمها الناس؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم «من كان عنده فَضْل طعام فليجىء به» . فجعل الرجل يجيء بالمدّ والصاع وأكثر وأقلّ، فكان جميع ما في الجيش بضعة وعشرين صاعاً. فجلس النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ودعا بالبركة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «خُذوا ولا تنتهبوا» . فجعل الرجل يأخذ في جرابه وفي غِرارته، وأخذوا أوعيته حتى إِنَّ الرجل ليربِط كمّ قميصه فيملؤه، ففرغوا والطعام كم هو. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم «أشهد أن لا إله إلا الله وأنِّي رسول الله، لا يأتي به عبد محقٌ إلا وقاه الله حرَّ النار» . قال الهيثمي: وفيه: عاصم بن عبيد الله العمري وثَّقه العِجْلي، وضعَّفه جماعة: وبقية رجاله ثقات. انتهى.
قصة المرأة التي كانت تطعم بعض الصحابة يوم الجمعة
وأخرج البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: كانت منا إمرأة تجعل في مزرعة لها سِلْقا. فكانت إذا كان يوم الجمعة تنزع أصول السِلق فتجعله في قِدْر، ثم تجعل قبضة من شعير تطحنه، فتكون أصول السلق عَرْقَة. قال سهل: كنا ننصرف أُليها من صلاة الجمعة فنسلِّم عليها، فتقرِّب(1/389)
ذلك الطعام إلينا، فكنا نتمنَّى يوم الجمعة لطعامها ذلك - وفي رواية: ليس فيها شحم ولا وَدَك، وكنا نفرح بيوم الجمعة. كذا في الترغيب.
أكل الصحابة الجراد، وكيف أنَّهم لم يكونوا في الجاهلية يأكلون خبز القمح
وأخرج ابن سعد عن ابن أبي أوفَى رضي الله عنه قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل فيهن الجراد. وأخرجه أبو نعيم في الحلية عن ابن أبي أوفَى رضي الله عنه - نحوه.
وأخرج الطبراني - ورواته رواة الصحيح - عن أبي بَرْزة رضي الله عنه قال: كنا في غَزَاة لنا، فلقينا أناساً من المشركين، فأجهضناهم عن مَلَّة لهم. فوقعنا فيها فجعلنا نأكل منها؛ وكنا نسمع في الجاهلية أنه من أكل الخبز سَمِن. فلما أكلنا ذلك الخبز جعل أحدنا ينظر في عِطفيه هل سمن؟ - كذا في الترغيب. قال الهيثمي: وفي رواية كنا يوم خيبر مع رسول الله فأجهضناهم عن خبزة لهم من نَقيَ. رواه كله الطبراني، ورجاله رجال الصحيح. انتهى. وعند أبي نُعيم في الحلية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما(1/390)
افتتحنا خيبر مررنا بناس يهود يخبزون مَلَّة لهم فطردنناهم عنها. ثم اقتسمنا، فأصابتني كسرة إنَّ بعضها ليحترق. قال وقد كان بلغني أنه من أكل الخبز سمن، فأكلتها، ثم نظرت في عِطفيَّ هل سمنت؟
تحمُّل شدة العطش في الدعوة إلى الله ما أصاب الصحابة رضي الله عنهم من شدّة العطش في غزوة تبوك
أسند ابن وهْب عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: حدثنا عن شأن ساعة العُسْرة، فقال عمر: خرجنا إلى تبوك في قَيْظ شديد، فنزلنا منزلاً وأصابنا فيه عطش حتى ظننا أنَّ رقابنا ستنقطع، حتى إنْ كان أحدنا ليذهب فيلتمس الرَّحْل فلا يرجع حتى يظن أنَّ رقبته ستنقطع، حتى إنَّ الرجل لينحر بعيره فيعتصر فَرْثَه فيشربه ثم يجعل ما بقي على كبده. فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله، إن الله قد عوَّدك في الدعاء خيراً فادعُ الله لنا. فقال: «أو تحبّ ذلك؟» قال: نعم. قال: فرفع يديه نحو السماء فلم يرجعهما حتى قالت السماء فأطلّت ثم سكبت. فملأوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر. إسناده جيد، ولم يخرِّجوه. كذا في البداية. وأخرجه ابن جرير عن يونس عن ابن وهب بإسناده مثله، كما في التفسير لابن كثير. وأخرجه البزّار، والطبراني في الأوسط. ورجال البزار ثقات. قال الهيثمي.(1/391)
تحمُّل الحارث، وعكرمة، وعيّاش العطش يوم اليرموك
وأخرج أبو نُعيم، وابن عساكر عن حبيب بن أبي ثابت رضي الله عنه: أن الحارث بن هشام، وعكرمة بن أبي جهل، وعيَّاش بن أبي ربيعة - رضي الله عنهم - جُرحوا يوم اليرموك حتى أُثبتوا. فدعا الحارث بن هشام بماء ليشربه، فنظر إليه عكرمة، فقال: إدفعه إلى عكرمة، فلما أخذه عكرمة نظر إليه عيَّاش، قال: إدفعه إلى عيَّاش. فما وصل إلى عيَّاش حتى مات، وما وصل إلى أحد منهم حتى ماتوا. كذا في كنز العمال. وأخرجه الحاكم في المستدرك بنحوه. وأخرجه الزبير عن عمه عن جده عبد الله بن مصعب رضي الله عنه. فذكره بمعناه إلا أنه جعل مكان عيَّاش: سهيل بن عمرو. وأخرجه ابن سعد عن حبيب عن حبيب نحو رواية أبي نُعيم. كذا في الإستيعاب.
تحمُّل أبي عمرو الأنصاري العطش في سبيل الله
وأخرج الطبراني عن محمد بن حنفيَّة رضي الله عنه قال: رأيت أبا عمرو الأنصاري - وكان بَدْرِياً، عَقَبِياً، أُحُدِياً، وهو صائم - يتلوَّى من العطش وهو يقول لغلامه: ويحك، ترّسني، فترَّسه الغلام حتى نزع بسهم نزعاً ضعيفاً حتى رمى بثلاثة أسهم، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من رمى بسهم في سبيل الله قَصرُ - أو بلغ - كان له نوراً يوم القيامة» . فقُتل قبل غروب(1/392)
الشمس. كذا في الترغيب. وأخرجه الحاكم، وفي رواية: ويحك، رُشَّني، فرشه الغلام.
حفر الصحابة الحفرة للبرد الشديد في غزوة
أخرج أحد، والنسائي، والطبراني عن أبي ريحانة رضي الله عنه أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في غوة. قال: تحمل شدة البرد في الدعوة إلى اللهفأوينا ذات ليلة إلى شَرَفٍ، فأصابنا برد شديد حتى رأيت الرجال يحفر أحدهم الحفرة فيدخل فيه ويلقي عليه حجَفَتَه. فلمَّا رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من يحرسنا الليلة فأدعو له بدعاء يصيب فضله؟» فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله. قال: «من أنت؟» قال: فلان. قال: «إدْنُهُ» ، فدنا فأخذ ببعض ثيابه ثم استفتح الدعاء. فلما سمعت: قلت: أنا رجل. قال: «من أنت؟» قال: أبو ريحانة. قال: فدعا لي دون ما دعا لصاحبي، ثم قال: «حُرِّمت النار على عين حرست في سبيل الله» . الحديث. كذا في الإِصابة. قال الهيثمي: رجال أحمد(1/393)
ثقات. وأخرجه البيهقي أيضاً بنحوه. وفي الباب حديث حذيفة رضي الله عنه كما سيأتي.
تحمل قلة الثياب في الدعوة إلى الله تكفين حمزة رضي الله عنه
أخرج الطبراني عن خبّاب بن الأرتّ رضي الله عنه: لقد رأيت حمزة وما وجدنا له ثوباً نكفِّنه فيه غير بُرْدة، إِذا غطَّينا بها رجله خرج رأسه، وإذا غطَّينا بها رأسه خرجت رجلاه؛ فغطَّينا رأسه ووضعنا على رجليه الإِذْخِر. كذا في المنتخب.
قصة شرحبيل بن حسنة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب
أخرج الطبراني، والبيهقي عن الشَّفَّاء بنت عبد الله رضي الله عنها قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله، فجعل يعتذر إليَّ وأنا ألومه. فحضرت الصلاة فخرجت، فدخلت على إبنتي وهي تحت شرحبيل بن حسنة، فوجدت شرحبيل في البيت، فقلت: قد حضرت الصلاة وأنت في البيت؟ وجعلت ألومه. فقال: يا خالة، لا تلوميني فإنَّه كان لي ثوب فاستعاره النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: بأبي وأمي، كنت ألومه منذ اليوم وهذه حاله وأنا لا أشعر فقال شرحبيل: ما كان إلا دِرْعاً رقعناه. كذا في الترغيب. وأخرجه أيضاً ابن عساكر كما في الكنز؛(1/394)
وابن أبي عاصم ومن طريقه أبو نُعيم كما في الإِصابة، وقال: وفي سنده: عبد الوهاب بن الضحّاك وهو واهٍ. وأخرجه أيضاً ابن منده كما في الإِصابة؛ والحاكم في المستدرك.
تحمّل أبي بكر قلّة الثياب وبشارة جبريل عمر بن الخطاب له على ذلك
وأخرج أبو نُعَيم في الحلية عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم جالس وعنده أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه - وعليه عبادة قد جلّلها في صدره بجلال - إِذ نزل عليه جبريل عليه السلام، فأقرأه من الله السلام، وقال: يا رسول الله؛ ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد جلله على صدره بجلال. قال: «يا جبريل، أنفق ماله عليّ قبل الفتح» . قال: فأقرأه من الله السلام وقل له: يقول لك ربك: أراضٍ أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر فقال: «يا أبا بكر: هذا جبريل يقرئك السلام من الله ويقول: أراضٍ أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟» فبكى أبو بكر وقال؛ أعلى ربي أغضب؟ أن عن ربي راضٍ، أنا عن ربي راضٍ، وأخرجه أيضاً أبو نُعيم في فضائل الصحابة عن أبي هريرة رضي الله عنه بمعناه، قال ابن كثير: فيه غرابة شديدة، وشيخ الطبراني عبد الرحمن بن معاوية العُتْبي، وشيخه محمد بن نصر الفارسي لا أعرفهما، ولم أرَ أحداً ذكرهما. كذا في(1/395)
منتخب كنز العمال.
تحمل علي، وفاطمة قلة الثياب
وأخرج هَنَّاد الدينَوَري عن الشَّعْبي قال: قال علي رضي الله عنه: لقد تزوجت فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم وما لي ولها فراش غيرُ جلد كَبْش ننام عليه بالليل ونعلف عليه ناضحنا بالنهار، وما لي خادم غيرها. كذا في الكنز.
تحمّل الصحابة لباس الصوف والمداومة على تناول التمر والماء
وأخرج أبو داود، والترمذي - وصحَّحه - وابن ماجه عن ابن أبي بريدة رضي الله عنه قال: قال لي أبي: لو رأيتُنا ونحن مع نبينا وقد أصابتنا السماء؛ حسبت أنَّ ريحَنا ريحُ الضأن. كذا في الترغيب. وأخرجه ابن سعد عن سعيد ابن أبي بردة عن أبيه قال: قال لي أبي - يعني أبا موسى رضي الله عنه -: يا بني، لو رأيتنا ونحن مع نبينا صلى الله عليه وسلم إِذا أصابتنا السماء وجدت منا ريح الضأن من لباسنا الصوف. وهكذا أخرجه الطبراني عن أبي موسى، وزاد: إنما لباسنا الصوف، وطعامنا الأسودان: التمر والماء. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، ورواه(1/396)
أبو داود باختصار. اهـ.
تحمل أصحاب الصفة قلة الثياب
وأخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لقد رأيت سبعين من أهل الصُّفَّة، ما منهم رجل عليه رداء، إمّا إزار وإِما كساء قد ربطا في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف السَّاقَين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته. كذا في الترغيب. وأخرجه أيضاً أبو نُعيم في الحلية. وعند أبي نُعيم أيضاً عن واثِلة بن الأسقَع رضي الله عنه قال: كنت من أصحاب الصُّفَّة، وما منا أحد عليه ثوب تامّ، قد اتخذ العَرَق في جلودنا طوقاً من الوسخ والغبار. وأخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها: أن رجلاً دخل عليها وعندها جارية لها، عليها دِرْع ثمنه خمسة دراهم، فقالت: إرفع بصرك إلى جاريتي، أنظر إليها فإنها تزهو على أن تلبسه في البيت. وقد كان لي منهن درع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فما كانت إمرأة تُقينَّ بالمدينة إلا أرسلت إليَّ تستعيره. كذا في الترغيب.
تحمّل شدة الخوف في الدعوة إلى الله تحمّل الصحابة شدة الخوف والجوع والبرد في ليلة الأحزاب(1/397)
أخرج الحاكم، والبيهقي عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة رضي الله عنه قال: ذكر حذيفة رضي الله عنه مشاهدهم مع رسول الله فقال جلساؤه: أما - والله - لو كنا شهدنا ذلك لكنّا فعلنا وفعلنا. فقال حذيفة: لا تمنَّوا ذلك، لقد رأيتُنا ليلة الأحزاب ونحن صافُّون قعود، وأبو سفيان ومَنْ معه فوقَنا، وقريظة اليهود أسفل منا نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة قطُّ أشد ظلمة ولا أشد ريحاً منها. في أصوات رِيحها أمثالُ الصاعق، وهي ظلمة ما يرى أحدنا أصبعه، فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: إنَّ بيوتنا عورة وما هي بعورة، فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له، ويأذن لهم ويتسللون ونحن ثلاث مائة ونحو ذلك. إذ استقبلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً رجلاً، حتى أتى عليّ وما عليَّ جُنَّة من العدو ولا من البرد إلا مِرْط لامرأتي ما يجوز ركبتي. قال: فأتاني وأنا جاثٍ على ركبتي. فقال: من هذا؟» فقلت حذيفة. فقال: «حذيفة» ، فتقاصرت للأرض، فقلت: بلى يا رسول الله - كراهية أن أقوم -، فقمت.(1/398)
فقال: «إنه كائن في القوم خبر فائتني بخبر القوم» . قال: وأنا من أشدِّ الناس فزعاً وأشدهم قرّاً. قال: فخرجت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللَّهمَّ إحفظه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته» . قال: فوالله، ما خلق الله فزعاً، ولا قرّاً في جوفي إلا خرج من جوفي، فما أجد فيه شيئاً. قال: فلما ولَّيت قال: «يا حذيفة لا تُحدِثنَّ في القوم شيئاً حتى تأتيني» . قال: فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت ضوء نار لهم تُوقد، وإذا رجل أدهم ضخم - يقول بيديه على النار ويمسح خاصرته ويقول: الرحيلَ، الرحيلَ، - ولم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك -. فانتزعت سهماً من كنانتي أبيض الريش فأضعه في كبد قوسي لأرميه به في ضوء النار. فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تُحدِثنّ فيهم شيئاً حتى
تأتيني» ، فأمسكت ورددت سهمي إلى كنانتي، ثم إني شجَّعت نفسي حتى دخلت العسكر، فإذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون: يا آل عامر، الرحيلَ، الرحيلَ، لا مُقام لكم. وإِذا الرحي في عسكرهم ما تجاوز عسكرهم شبراً، فوالله، إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم، الريح تضرب بها، ثم إني خرجت نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انتصفتْ بي الطريق - أو نحو من ذلك - إذا أنا بنحو من عشرين فارساً - أو نحو ذلك - مُعْتمِّين فقالوا: أخبر صاحبك أنَّ الله قد كفاه. فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشتمل في شَمْلة يصلِّي؛ فالله ما عدا أن رجعت راجعني القرّ وجعلت أقرقف. فأومأ إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وهو يصلِّي؛ فدنَوتُ منه فأسبل عليّ شملته - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبه أمر صلَّى - فأخبرته خبر القوم، أخبرته أني تركتهم وهم يرحلون. قال: وأنزل الله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ(1/399)
تَرَوْهَا} (الأحزاب: 9) إلى قوله: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} (الأحزاب: 25) . كذا في البداية، وأخرجه أبو داود، وابن عساكر بسياق آخر مطوَّلاً كما في كنز العمال.
وأخرجه مسلم عن يزيد التَيْمي قال: كنا عند حذيفة رضي الله عنه فقال له رجل: لو أدركتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلتُ معه وأبليتُ. فقال له حذيفة: أنت كنت تفعل ذلك؟ لقد رأيتُنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب في ليلة ذات ريح شديدة وقرّ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا رجل يأتيني بخبر القوم يكون معي يوم القيامة؟» فذكر الحديث نحو حديث عبد العزيز باختصار، وفي حديثه: فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابني البرد حين رجعت وقرِرْت، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم وألبسني من فَضْل عباءة كانت عليه يصلِّي فيها، فلم أبرح نائماً حتى الصبح. فلما أن أصبحت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قم يا نَوْمان» . وأخرجه ابن إسحاق عن محمد بن كعب القُرَظي رضي الله عنه منقطعاً، وفي حديثه: فقال: من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع؟» فشرط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجعة؛ «أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة» . فما قام رجل من شدة الخوف وشدة الجوع والبرد.(1/400)
تحمُّل الجراح والأمراض في الدعوة إلى الله قصة رجلين من بني عبد الأشهل يوم أُحد
أسند ابن إسحاق عن أبي السائب رضي الله عنه: أن رجلاً من بني عبد الأشهل قال: شهدت أُحداً أنا وأخ لي، فرجعنا جريحين، فلما أذَّن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو قلت لأخي - أو قال لي -: أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والله، ما لنا من دابة نركبها وما منا إلا جريح ثقيل. فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت أيسر جرحاً منه، فكان إذا غلب حملته عُقبة ومشى عُقبة حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون. كذا في البداية. وذكر ابن سعد عن الواقدي: أن عبد الله بن سهل وأخاه رافع بن سهل رضي الله عنهما هما اللذان خرجا إلى حمراء الأسَد وما جريحان، يحمل أحدهما صاحبه ولم يكن لها ظَهْر.
قصة عمرو بن الجَمُوح وشهادته يوم أُحد
وأسند ابن إسحاق عن أشيخ من بني سَلِمة قالوا: كان عمرو بن الجموح رضي الله عنه رجلاً أعرج شديد العَرَج، وكان له بنون أربعة مثل الأُسد يشهدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد. فلما كان يوم أُحد أرادوا حبسه، وقالوا: إنَّ الله قد عَذَرك. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن بَنيَّ يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه، والخروج معك فيه، فوالله، إنّي لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة. فقالت: «أما أنت فقد عذرك الله فلا جهاد عليك» . وقال لبنيه:(1/401)
«ما عليكم أن لا تمنعوه لعلَّ الله أن يرزقه الشهادة» . فخرج معه فقتل يوم أُحد. كذا في البداية. وأخرج أحمد عن أبي قتادة رضي الله عنه: أنه حضر ذلك قال: أتى عمرو بن الجموح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله، أرأيت إن قاتلتُ في سبيل الله حتى أقتل، أمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة؟ - وكانت رجله عرجاء - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نعم» : فقتلوه يوم أُحد هو وابن أخيه ومولىً لم. فمرّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «كأني أنظر إليه يمشي برجله هذه صحيحة في الجنة» . فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بها وبمولاهما، فجُعلوا في قبر واحد. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير يحيى بن نصر الأنصاري وهو ثقة. انتهى. وأخرجه البيهقي من طريق ابن إسحاق بنحوه.
قصة رافع بن خديج
وأخرج البيهقي عن يحيى بن عبد الحميد عن جدته: أن رافع بن خديج رضي الله عنه رُمِيَ - قال عمر بن مرزوق: لا أدري أيُّهم اقال: يوم أُحد أو يوم(1/402)
حُنَين - سهم في ثُنْدُوَته. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنزع لي السهم. فقال له: «يا رافع، إن شئتَ نزعتُ السهم والقُطْبة جميعاً، وإن شئت نزعت السهم وتركت القُطْبة، وشهدت لك يوم القيامة أنَّك شهيد» . فقال: يا رسول الله، إنزع السهم واترك القُطْبة، وأشهد لي يوم أنِّي شهيد. قال: فعاش به حتى كانت خلافة معاوية رضي الله عنه إنتقض به الجرح، فمات بعد العصر. هكذا وقع في هذه الرواية. والصحيح: أنه مات بعد خلافة معاوية. كذا في البداية. قال في الإِصابة: ويحتمل أن يكون بين الإنتقاض والموت مدة. وأخرجه أيضاً الباوَرْدي وابن مَنْدَه، والطبراني كما في الإِصابة، وابن شاهين كما في الإِصابة. وستأتي الأحاديث في باب الصبر.(1/403)
الباب الرابع باب الهجرة
كيف تركت الصحابة أوطانهم العزيزة مع أن فراق الوطن شديد على النفوس، بحيث أنّهم لم يرجعوا إلى أوطانهم إلى الموت؟ وكيف كان ذلك أحبَّ إليهم من الدنيا ومتاعها؟ وكيف قدَّموا الدِّين على الدنيا، فلم يبالوا بضياعها ولم يلتفتوا إلى فنائها؟ وكيف يفرُّون من بلاد إلى بلاد إحتفاظاً لدينهم من الفتنة، فكأنهم كانوا قد خُلقوا للآخر وكانوا من أبنائها فصارت الدنيا كأنها خُلقت لهم.(1/405)
باب الهجرة هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه إجماع أمراء قريش على المكر به عليه السلام
أخرج الطبراني عن عروة رضي الله عنه - مرسلاً - قال: ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الحج بقيّة ذي الحِجَّة والمحرَّم وصَفَر، ثم إِنَّ مشركي قريش أجمعوا أمرهم ومكرهم حين ظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خارج، وعلموا أن الله قد جعل له بالمدينة مأوى ومَنَعة، وبلغهم إسلام الأنصار ومن خرج إليهم من المهاجرين، فأجمعوا أمرهم على أن يأخذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإما أن يقتلوه، وإما أن يسجنوه - أو يسحبوه، شك عمرو بن خالد - وإما أن يخرجوه، وإما أن يوثقوه؛ فأخبره الله عزّ وجلّ بمكرهم. فقال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (الأنفال: 30) . وبلغه ذلك اليوم الذي أتى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم دار أبي بكر رضي الله عنه أنَّهم مُبَيِّتوه إذا أمسى على فراشه.
خروجه عليه السلام من مكة مهاجراً مع أبي بكر واختباؤهما بغار ثَوْر
وخرج من تحت الليل هو وأبو بكر قِبَل الغار بثَوْر - وهو الغار الذي ذكره الله عزّ وجلّ في القرآن - وعَمَد علي بن أبي طالب رضي الله عنه فرقد على فراشه يواري عنه العيون. وبات المشركون من قريش يختلفون ويأتمرون إن(1/407)
نَجْثِم على صاحب الفراش فنوثقه، فكان ذلك حديثهم حتى أصبحوا. فإذا عليٌّ رضي الله عنه يقوم عن الفراش، فسألوه عن النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرهم أنه لا علم له به، فعلموا عند ذلك أنه خرج. فركبوا في كل وجه يطلبونه، وبعثوا إلى أهل المياه يأمرونهم، ويجعلون لهم الجُعْل العظيم؛ وأتَوا على ثَوْر الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه حتى طلعوا فوقه. وسمع النبي صلى الله عليه وسلم أصواتهم، فأشفق أبو بكر عند ذلك وأقبل على الهمِّ والخوف، فعند ذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم «لا تحزن إن الله معنا» ودعا فنزلت عليه سكينة من عزّ وجلّ: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 40) .
وكانت لأبي بكر مِنْحة تروح عليه وعلى أهله بمكة، فأرسل أبو بكر عامر بن فُهيرة مولى أبي بكر أميناً مؤتمناً حسن الإِسلام، فاستأجر رجلاً من بني عبد بن عدي يقال له: «ابن الأيقط» ، كن حليفاً لقريش في بني سَهْم من بني العاص بن وائل، وذلك يومئذٍ العدويُّ مشرك وهو هادي بالطريق. فخبا(1/408)
بأظهرنا تلك الليالي، كان يأتيهما عبد الله بن أبي بكر حين يمسي بكل خبر يكون في مكة، ويُريح عليهما عامر بن فُهيرة الغنم في كل ليلة، فيحلبان ويذبحان، ثم يسرح بكرة فيصبح في رُعيان الناس ولا يُفطن له، حتى إذا هَدَت عنهم الأصوات، وأتاهما أن قد سُكت عنهما جاءا صاحبهما ببعيريهما وقد مكثا في الغار يومين وليلتين؛ ثم انطلقا وانطلقا معهما بعامر بن فُهيرة يحدوهما ويخدمهما ويعينهما، يردفه أبو بكر ويعقُبه على راحلته ليس معه أحد من الناس غير عامر بن فهيرة وغير أخي بني عديّ يهديهم الطريق. قال الهيثمي: وفيه: ابن لهيعة، وفيه كلام؛ وحديثه حسن. اهـ.
ما أعده أبو بكر رضي الله عنه لسفر الهجرة
وأخرج ابن إسحاق عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان لا يخطىء رسول الله أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار: إما بُكرة، وإِما عشيَّة، حتى إذا كان اليوم الذي أذن الله فيه لرسوله صلى الله عليه وسلم في الهجرة والخروج من مكة من بين ظهرَي قومِه، أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة في ساعة كان لا(1/409)
يأتي فيها. قالت: فلما رآه أبو بكر قال: ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الساعة إِلا لأمرٍ حدث. قالت: فلما دخل تأخَّر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عند أبي بكر أحد إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أخرجْ عني من عندك» . قال: يا رسول الله، إنما هُما إبنتاي، وما ذاك فداك أبي وأمي؟ قال: «إنَّ الله قد أذن لي في الخروج والهجرة» . قالت: فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله قال: «الصحبة» فوالله ما شعرت قطُّ قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يومئذٍ يبكي، ثم قال: يا نبي الله، إِنَّ هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا، فاستأجَرا عبد الله بن أرقط رجلاً من بني الدُئِل بن بكر وكانت أمه من بني سَهْم بن عمرو - وكان مشركاً - يدلهما على الطريق، ودفعا إليه راحلَتيْهما، فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما. وأخرج البغوي بإسناد حسن عن عائشة رضي الله عنها شيئاً منه، وفي حديثه: قال أبو بكر: الصحابةَ قال: «الصحابةَ» . قال أبو بكر: إن عندي راحلتين قد علفتهما من ستة أشهر لهذا، فخذ إِحداهما، فقال: بل أشتريها، فاشتراها منه فخرجا فكانا في الغار. فذكر الحديث كما في كنز العمال.
وأخرج الطبراني عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتينا بمكة كل يوم مرتين، فلما كان يوم من ذلك جاءنا في الظهيرة، فقالت: يا أبت، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي وأمي، ما جاء به هذه الساعة إلا أمر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هل شعرتَ أنَّ الله قد أذن لي في الخروج؟» فقال أبو بكر رضي الله عنه: فالصحابَة يا رسول الله. قال: «الصحابةَ» . قال: إنَّ عندي راحلتين قد علفتهما منذ كذا وكذا إنتظاراً لهذا اليوم، فخذ إحداهما،(1/410)
فقال: «بثمنها يا أبا بكر» ، فقال: بثمنها - بأبي وأمي - إن شئت. قالت: فهيّأنا لهم سُفْرة، ثم قطعت نِطاقها فربطتها ببعضه. فخرجا فمكثا في الغار في جبل ثور. فلما انتهيا إليه دخل أبو بكر الغار قبله، فلم يترك فيه جُحْراً إلا أدخل فيه أصبعه مخافة أن يكون فيه همَّة. وخرجت قريش حين فقدوهما في بُغائهما، وجعلوا في النبي صلى الله عليه وسلم مائة ناقة، وخرجوا يطوفون في جبال مكة حتى انتهَوا إلى الجبل الذي هما فيه. فقال أبو بكر - لرجل مواجه الغار -: يا رسول الله، إنَّه ليرانا، فقال: «كلا إنَّ ملائكة تسترنا بأجنحتها» . فجلس ذلك الرجل فبال مواجه الغار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو كان يرانا ما فعل هذا» . فمكثا ثلاث ليالٍ، يُرَوِّحُ عليهما عامر بن فُهَيرة مولى أبي بكر غنماً لأبي بكر، ويُدلج من عندهما، فيصبح مع الرعاة في مراعيها، ويُرَوِّحُ معهم ويبطىء في المشي، حتى إذا أظلم لليل إنصرف بغنمه إليهما؛ فتظن الرعاة أنه معهم. وعبد الله بن أبي بكر يظلّ بمكة يتطلَّب الأخبار، ثم يأتيهما إذا أظلم الليل فيخبرهما، ثم يُدلج من عندهما فيصبح بمكة.
خروجه عليه السلام من الغار للمدينة
ثم خرجا من الغار فأخذا على الساحل، فجعل أبو بكر يسير أمامه، فإذا خشي أن يُؤتى من خلفه سار خلفه، فلم يزل كذلك مسيره. وكان أبو بكر رجلاً معروفاً في الناس، فإذا لقيه لاقٍ فيقول لأبي بكر: من هذا معك؟ فيقول: هادٍ يهديني - يريد الهدى في الدِّين - ويحسب الآخر دليلاً، حتى إذا كان بأبيات قُدَيد - وكان على طريقِهِما - جاء إِنسان إلى بني مُدْلج فقال: قد رأيت راكبين(1/411)
نحو الساحل، فإنِّي لأجدها لصاحب قريش الذي تبغون. فقال سراقة بن مالك: ذانك راكبان ممن بعثنا في طَلِبَة القوم، ثم دعا جاريته فسارَّها، فأمرها أن تخرج فرسه ثم خرج في آثارهما. قال سراقة: فدنوت منهما - فذكر قصته كما ستأتي. قال الهيثمي: وفيه: يعقوب بن حُمَيد بن كاسب وثَّقه ابن حِبَّان وغيره، وضعَّفه أبو حاتم وغيره؛ وبقية رجاله رجال الصحيح. اهـ.
ثناء عمر على أبي بكر وذكره خوف أبي بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما ذهبا للغار
وأخرج البيهقي عن ابن سِيرين قال: ذكر رجال على عهد عمر رضي الله عنه فكأنهم فضَّلوا عمر على أبي بكر، فبلغ ذلك عمر فقال: والله لليلةٌ من أبي بكر خيرٌ من آل عمر، وليومٌ من أبي بكر خيرٌ من آل عمر. لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة إنطلق إلى الغار ومعه أبو بكر، فجعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلفه، حتى فطن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أبا بكر، مالك تمشي ساعة خلفي وساعة بين يدي؟» فقال: يا رسول الله، أذكر الطَلَب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرَّصَد، فأمشي بين يديك. فقال: «يا أبا بكر، لو كان شيء لأحببتَ أن يكون بك دوني؟» قال: نعم، والذي بعثك بالحق. فلما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: مكانك - يا رسول الله - حتى استبرىء لك الغار. فدخل فاستبرأه، حتى إذا كان ذكر أنه لم يستبرىء الجِحَرَةَ، فقال: مكانك - يا رسول الله - حتى أستبرأ، فدخل فاستبرأ، ثم قال: إنزل يا رسول الله، فنزل. ثم قال عمر: والذي نفسي بيده، لتلك الليلة خيرٌ من آل عمر. كذا(1/412)
في البداية. وأخرجه الحاكم أيضاً كما في منتخب كنز العمال. وأخرجه البغوي عن ابن مُلَيكة مرسلاً بمعناه. قال ابن كثير: هذا مرسل حسن كما في كنز العمال.
خوف أبي بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما في الغار
وأخرج الحافظ أبو بكر القاضي عن الحسن البصري قال: إنطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه إِلى الغار، وجاءت قريش يطلبون النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا إِذا رأوا على باب الغار نسج العنكبوت قالوا: لم يدخل أحد. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قائماً يصلي وأبو بكر يرتقب، فقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء قومك يطلبونك، أما - والله - ما على نفسي أُئِلُّ، ولكن مخافة أن أرى فيك ما أكره. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «يا أبا بكر، لا تخف إن الله معنا» . وعند أحمد عن أنس رضي الله عنه أن أبا بكر رضي الله عنه حدّثه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ـ ونحن في الغار - لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه، فقال: «يا أبا بكر، ما ظنك بإثنين الله ثالثهما» . كذا في البداية (3181، 182) . وأخرجه أيضاً الشيخان، والترمذي، وابن سعد، وابن أبي شيبة، وغيرهم كما في الكنز.(1/413)
حديث أبي بكر عن هجرته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصة سراقة معهما
وأخرج أحمد عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: إشترى أبو بكر من عازب سَرْجاً بثلاثة عشر درهماً، فقال أبو بكر لعازب: مُرِ البراءَ فليحملْه إلى منزلي. فقال: لا، حتى تحدِّثنا كيف صنعتَ حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت معه؟ فقال أبو بكر: خرجنا فأدلجنا فأحثثنا يومنا وليلتنا حتى أظهرنا وقام قائم الظهيرة، فضربت بصري هل أرى ظلاً نأوي إِليه، فإذا أنا بصخرة فأهويتُ إليها، فإذا بقية ظلّه، فسويته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفرشت له فروة، وقلت: إضطجع يا رسول الله، فاضطجع. ثم خرجت أنظر هل أرى أحداً من الطَلَب؟ فإذا أنا براعي غنم فقلت: لمن أنت يا غلام؟ فقال: لرجل من قريش - فسمَّاه فعرفته - فقلت: هل في غنمك من لبن؟ قال: نعم. قلت: هل أنت حالب لي؟ قال: نعم. فأمرته فاعتقل شاة منها، ثم أمرته فنفض ضِرْعها من الغبار، ثم أمرته فنفض كفَّيه من الغبار، ومعي إداوةٌ على فمها خِرقة، فحلب لي كُثْبة من اللبن، فصببت على القدح حتى برد أسفله؛ ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافيته وقد استيقظ، فقلت: إشرب يا رسول الله، فشرب حتى رضيت، ثم قلت: هل آن الرحيل؟ فارتحلنا والقوم يطلبوننا فلم يدركنا أحد منهم إلا سراقة بن مالك بن جُعْشُم على فرس له. فقلت: يا رسول الله، هذا الطلب قد لحقنا. قال: «لا تحزن إن الله معنا» ، حتى إذا دنا منا فكان بيننا وبينه قدر رمح أو رمحين، - أو قال: رمحين أو ثلاثة - قلت: يا رسول الله، هذا الطلب قد لحقنا وبكَيت. قال: «لِمَ تبكي؟» قلت: أما - والله - ما على نفسي أبكي، ولكن أبكي عليك. فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اللهم أكفناه بما شئت»(1/414)
فساخت قوائم فرسه إلى بطنها في أرض صَلْد، ووثب عنها وقال: يا محمد قد علمت أن هذا عملك، فادعُ الله أن ينجيني ما أنا فيه، فوالله لأعمينَّ على من ورائي من الطلب. وهذه كنانتي فخذ منها سهماً، فإنك ستمر بإبلي وغنمي
بموضع
كذا وكذا، فخذ منها حاجتك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا حاجة لي فيها» ، ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلق ورجع إلى أصحابه. ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه حتى قدمنا المدينة وتلقَّاه الناس، فخرجا في الطرق على الأناجير، واشتد الخدم والصبيان في الطريق يقولون: الله أكبر جاء رسول الله جاء محمد صلى الله عليه وسلم.. قال: وتنازع القوم: أيُّهم ينزل عليه قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنزل الليلةَ على بني النجار أخوال عبد المطلب لأكرمهم بذلك» . فلما أصبح غدا حيث أُمر وأخرجه الشيخان في الصحيحين كما في البداية (3187، 188) . وأخرجه أيضاً ابن أبي شَيْبة، وابن سعد بنحوه مطوَّلاً مع زيادة، وابن خُزَيمة وغيرهم كما في الكنز.
قدومه عليه السلام المدينة ونزوله بقُباء وفرح أهل المدينة بقدومه
وأخرج البخاري عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين - كانوا تجاراً قافلين من الشام - فكسا الزبيرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه ثياب بياض. وسمع المسلمون بالمدينة بمخرج(1/415)
رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فكانوا يغدون كل غَداة إلى الحرَّة فينتظرونه حتى يردَّهم حرُّ الظهيرة، فانقلبوا يوماً بعدما أطالوا انتظارهم. فلما آوَوا إلى بيوتهم أوفى رجل من اليهود على أُطُم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابِه مُبَيِّضين يزول بهم السراب؛ فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب، هذا جَدُّكم الذي تنتظرون. فثار المسلمون إلى السلاح، فتعلقَّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرَّة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الإثنين من شهر ربيع الأول. فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتاً، فطفق من جاء من الأنصار ممَّن لم يَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيِّي أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل أبو بكر حتى ظلَّل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك. فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس المسجد الذي أُسس على التقوى، وصلّى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ركب راحلته وسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو يصلي فيه يومئذٍ رجال من المسلمين؛ وكان مِرْبداً للتمر لسهيل وسهل غلامين يتيمين في في حِجْر أسعدَ بن زُرارة رضي الله عنه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته: «هذا - إِن شاء الله - المنزل» ، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجداً. فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبله منها هبة، حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجداً. فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللَبِن في بنيانه، وهو يقول - حين ينقل اللَبِن -:
هذا الحِمالُ لا حِمَال خيبرْ
هذا أبرّ ربَّنا وأطهرْ(1/416)
ويقول:
لا هُمَّ إن الأجرَ أجرُ الآخره
فارحمِ الأنصار والمهاجره
فتمثل بشعر رجل من المسلمين لم يُسمَّ لي. قال ابن شهاب: ولم يبلغنا في الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر تام غير هذه الأبيات - هذا لفظ البخاري. وقد تفرّد بروايته دون مسلم، وله شواهد من وجوه أُخر. كذا في البداية.
وأخرجه أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إِني لأسعى في الغِلْمان يقولون: جاء محمد، فأسعى ولا أرى شيئاً. ثم يقولون: جاء محمد، فأسعى ولا أرى شيئاً؛ قال: حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر رضي الله عنه، فَكَمَنَّا في بعض خِرَاب المدينة. ثم بعثا رجلاً من أهل البادية يؤذِن بهما الأنصار، فاستقبلهما زُهَاء خمس مائة من الأنصار حتى انتهوا إليهما، فقالت الأنصار: إنطلقا آمنين مطاعَين، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه بين أظهرهم. فخرج أهل المدينة حتى إنَّ العواتق لفوق البيوت يتراأينه يقلن: أيهم هو؟ أيهم هو؟ فما رأينا منظراً شبيهاً به. قال أنس: فلقد رأيته يوم دخل علينا ويوم قُبض؛ فلم أرَ يومين شبيهاً بهما. ورواه البيهقي. بنحوه. كذا في البداية.
وأخرج البيهقي عن بن عائشة رضي الله عنهما يقول: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة(1/417)
جعل النساء والصبيان يَقُلْنَ:
طلع البدر علينا
من ثَنيَّات الوداعِ
وجب الشكرُ علينا
ما دعا لله داعِ
كذا في البداية.
هجرة عمر بن الخطاب والصحابة رضي الله عنهم أول من هاجر من مكة إلى المدينة
أخرج ابن شيبة عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: أول من قدم علينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مُصعب بن عمير وابن أمِّ مكتوم رضي الله عنهما، فجعلا بقرآنِنا القرآن. ثم جاء عمار، وبلال، وسعد رضي الله عنهم. ثم جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عشرين. ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم به، فما قدم حتى قرأتُ {سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى} (الأعلى: 1) في سورٍ من المفصَّل. كذا في كنز العمال. وعند أحمد في حيث البراء عن أبي بكر رضي الله عنها في الهجرة؛ قال البراء: أول من قدم علينا من المهاجرين مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار. ثم قدم علينا ابن أمِّ مكتوم الأعمى رضي الله عنه أحد بني فِهْر. ثم قدم علينا عمر بن(1/418)
الخطاب رضي الله عنه في عشرين راكباً. فقلنا: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هو على إثْري، ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه معه. قال البراء: ولم يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قرأت سوراً من المفصَّل. وأخرجه أيضاً البخاري، ومسلم. كذا في البداية.
هجرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وصاحبيه
وأخرح ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن عمر رضي الله عنهما قال: إتَّعدنا لمّا أردت الهجرة إلى المدينة أنا وعيَّاش بن أبي ربيعة وهشام ابن العاص التناضب من أضاة بني غفار فوق سَرِف وقلنا: أيُّنا لم يصبح عندها فقد حُبس، فليمضِ صاحباه. قال فأصبحت أنا وعيَّاش عند التناضِب وحبس عنا هشام وفتن فافتتن. فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عمرو بن عوف بقُباء. وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إِلى عياش - وكان ابنَ عنهما وأخاهما لأمهما - حتى قدما المدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فكلَّماه وقال له: إنَّ أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مُشط حتى تراك ولا تستظلَّ من شمس حتى تراك. فرقَّ لها، فقلت له: إنه - الله - إنْ يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم، فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حرّ مكة لاستظلَّت. قال: فقال: أبرّ قَسَمَ أمي ولي هنالك مال فآخذه. قال قلت: والله إنك لتعلم أنِّي لمن أكثر قريش مالاً، فلك نصف مالي، ولا تذهب معهما.(1/419)
قال: فأبى عليَّ إلا أن يخرج معهما. فلما أبَى إلا ذلك قلت: أمَا إذا قد فعلت ما فعلت، فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذَلول، فالزم ظهره، فإن رابك من أمر القوم رَيب فانجُ عليها.
فخرج عليها معهما حتى إذا كان ببعض الطريق، قال له أبو جهل: يا أخي - والله - لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تُعقِبُني على ناقتك هذه؟ قال: بلى. فأناخ وأناخا ليتحوَّل عليها، فلما استَوَوْا بالأرض عَدَوَ عليه فأوثقاه رباطاً، ثم دخلا به مكة وفتناه فافتتن. قال عمر رضي الله عنه: فكنا نقول: لا يقبل الله ممن افتَتَن توبة، وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأنزل الله: {أَوَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَآء وَيَقْدِرُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قُلْ ياعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُواْ إِلَى رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} (الزمر: 52 - 55) . قال عمر: فكتبتها وبعثت بها إِلى هشام بن العاص. قال هشام: فلما أتتني جعلت أقرؤها بذي طُوى أصعِّد به وأُصوِّب ولا أفهمها، حتى قلت: اللَّهمَّ فهِّمْنيها، فألقى الله في قلبي أنها إنما أُنزلت فينا وفيما كنا نقول في أنفسنا، ويقال فينا: قال: فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة. كذا في البداية. وأخرجه أيضاً ابن السَكَن بسند صحيح عن ابن إسحاق بإسناده مطوَّلاً كما أشار إليه الحافظ في الإِصابة، والبزار بطوله نحوه؛ قال الهيثمي ورجاله ثقات. وأخرجه البيهقي، وابن سعد، وابن مردويهْ،(1/420)
والبزار عن عمر رضي الله عنه مختصراً كما في كنز العمال. وأخرج الطبراني عن عروة مرسلاً: وفيه ابن لَهيعة، وفيه ضعف. وعن ابن
شهاب
مرسلاً، ورجاله ثقات. كذا في المجمع.
هجرة عثمان بن عفان رضي الله عنه هجرته إلى الحبشة وذكر أنه أول من هاجر بأهله إلى الله بعد لوط عليه السلام
أخرج البيهقي عن قتادة رضي الله عنه قال: أول من هاجر إلى الله تعالى بأهله عثمان بن عفان رضي الله عنه. سمعت النضر بن أنس يقول: سمعت أبا حمزة - يعني أنساً رضي الله عنه - يقول: خرج عثمان بن عفن ومعه إمرأته رقية رضي الله عنهما بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة، فأبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهما، فقدمت إمرأة من قريش فقالت: يا محمد، قد رأيت خَتَنَك ومعه إمرأته. قال: «على أيِّ حال رأيتهما؟» قالت: رأيته قد حمل إمرأته على حمار من هذه الدَّبَّابة وهو يسوقها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «صحبهما الله. إنَّ عثمان أول من هاجر بعد لوط عليه السلام» . كذا في البداية. وأخرجه أيضاً ابن المبارك عن أنس رضي الله عنه بمعناه كما في الإِصابة؛ والطبراني عن(1/421)
أنس بمعناه، وفي حديثه: واحتبس على النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم، فكان يخرج يتوكف عنهم الخبر. فجاءته إمرأة فأخبرته. قال الهيثمي: وفيه الحسن بن زياد البُرجُمي ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. انتهى.
هجرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه
أخرج ابن سعد عن علي رضي الله عنه قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في الهجرة أمرني أن أقيم بعده حتى أؤدّي ودائع كانت عنده للناس؛ ولذا كان يسمى الأمين. فأقمت ثلاثاً، فكنت أظهر ما تغيّبتُ يوماً واحداً. ثم خرجت فجعلت أتبع طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قدمت بني عمرو بن عوف ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم، فنزلت على كُلثوم بن الهِدْم وهنالك منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا في كنز العمال.
هجرة جعفر بن أبي طالب والصحابة رضي الله عنهم إلى الحبشة ثم إلى المدينة إذنه عليه السلام لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة وهجرة حاطب وجعفر إليها
أخرج أحمد، والطبراني - ورجاله رجال الصحيح - عن محمد بن حاطب رضي الله عنهما، قال: قالت: «إنِّي رأيت أرضاً ذات نخل فأخرجوا» . قال: فخرج حاطب وجعفر رضي الله عنهما في البحر. قال: فولدت أنا في تلك السفينة. كذا في مجمع الزوائد للهيثمي. وأخرج الطبراني(1/422)
والبزار عن عُمير بن إسحاق قال: قال جعفر رضي الله عنه: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إئذن لي أن آتي أرضاً أعبد الله فيها لا أخاف أحداً، قال: قال فأذن له فيه، فأتى النجاشي - فذكر الحديث بطوله كما سيأتي. قال الهيثمي: وعمير بن إسحاق وثَّقه ابن حِبّان وغيره، وفيه كلام لا يضرّ، وبقية رجاله رجال الصحيح. انتهى.
إرسال قريش عمرو بن العاص إلى النجاشي ليرد الصحابة إليهم
وأخرج ابن إسحاق عن أُم سَلَمة رضي الله عنها أنها قالت: لما ضاقت مكة، وأُذي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفُتنوا، ورأَوا ما يُصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مَنَعَةٍ من قومه ومن عمِّه لا يصل إليه شيء ممّا يكره ومّا ينال أصحابَه - فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنَّ بأرض الحبشة ملكاً لا يُظلم أحد عنده، فألحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً ممَّا أنتم فيه» فخرجنا إليها أرسالاً حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار آمنين على ديننا، ولم نخش فيها ظلماً. فلمّا رأت قريش أنّا قد أصبنا داراً وأمناً، غارُوا منا، فاجتمعوا على أن يبعثوا إلى النجاشي فينا ليخرجونا من بلاده وليردّنا عليهم. فبعثوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، فجمعوا له هدايا ولبطارقته، فلم يدَعُوا منهم رجلاً إلا هيؤوا له هدية على حدة، وقالوا لهما: إدفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تتكلّموا فيهم، ثم إدفعوا إليه هداياه، فإن استطعتم أن يردّهم عليكم قبل أن تتكلّموا فافعلوا. فقدما إِليه فلم يبقَ بِطْريق من بطارقته إلا قدَّموا إِليه هديته،(1/423)
فكلَّموه فقالوا له: إنما قدمنا على هذا الملك في سفهائنا، فارقوا أقوامهم في دينهم ولم يدلوا في دينكم. فبعثَنا قومُهم ليردّهم الملك عليهم، فإذا نحن كلمناه فأشيروا عليه بأن يفعل، فقالوا: نفعل. ثم قدّموا إلى النجاشي هداياه، وكان من أحبِّ ما يُهدون إليه من مكة الأدَم. فلما أدخلوا عليه هداياه قالوا له: أيها الملك، إنَّ فتيةً منا سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه، وقد لجؤوا إلى بلادك، وقد بعثَنا إليك فيهم عشائرهُم، آباؤهم وأعمامهم وقومهم لتردّهم عليهم، فإنهم أعلى بهم عيناً، فإنهم لن يدخلوا في دينك فتمنعهم لذلك. فغضب ثم قال: لا،
لعمر
الله، لا أردّهم عليهم حتى أدعوهم، فأكلمهم وأنظُرَ ما أمرُهم؛ قوم لجؤوا إلى بلادي واختاروا جواري على جوار غيري، فإن كانوا كما يقولون رددتم عليه، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم، ولم أدخل بينهم وبينهم، ولم أنعم عيناً.
خبر الصحابة مع النجاشي وقوله في الإِسلام
وفي عيسى بن مريم عليهما السلام
فلما دخلوا عليه سلّموا ولم يسجدوا له. فقال: أيها الرهْطُ، ألا تُحدُثُوني ما لكم لا تحيوني كما يحييني من أتانا من قومكم؟ فأخبروني ماذا تقولون في عيسى؟ وما دينكم؟ أنصاري أنتم؟ قالوا؛ لا. قال: أفيهود أنتم؟ قالوا: لا. قال: فعلى دين قومكم؟ قالوا: لا. قال: فما دينكم؟ قالوا: الإِسلام. قال: ما الإِسلام؟ قالوا: نعبد الله، لا نشرك به شيئاً. قال: من جاءكم بهذا؟ قالوا: جاءنا به رجل من أنفسنا، قد عرفنا وجهه ونسبه، بعثه الله إلينا كما بعث الرسل إلى من قبلَنا، فأمرنا بالبر، والصدقة، والوفاء، وأداء الأمانة؛ ونهانا أن نعبد(1/424)
الأوثان، وأمرنا بعبادة الله وحده لا شريك له، فصدَّقناه، وعرفنا كلام الله، وعلمنا أنَّ الذي جاء به من عند الله. فلما فعلنا ذلك عادانا قومنا وعادوا النبيَّ الصادقَ وكذَّبوه وأرادوا قتله، وأرادونا على عبادة الأوثان، ففررنا إليك بديننا ودمائنا من قومنا. قال: والله، إنَّ هذا لمن المشكاة التي خرج منها أمر موسى. قال جعفر رضي الله عنه: وأما التحية، فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن تحية أهل الجنة: السلام، وأمرَنا بذلك، فحيّيناك بالذي يحيّي بعضنا بعضاً. وأما عيسى بن مريم عليهما السلام: فعبد الله، ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروحٌ منه، وابن العذراء البتول. فأخذ عوداً وقال: والله، ما زاد ابن مريم على هذا وزن هذا العود. فقال عظماء الحبشة: والله، لئن سمعتِ الحبشة لتخلعنّك. فقال: والله، لا أقول في عيسى عليه السلام غير هذا أبداً، وما أطاع الله الناسَ فيَّ حين ردَّ علي
ملكي فأطيع الناس في دين الله معاذ الله من ذلك. كذا في البداية.
وأخرجه أيضاً أحمد عن أُم سلمة - زوج النبي صلى الله عليه وسلم ـ بطوله، وفي حديثه: قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم. فلما جاءهم رسوله إجتمعوا، فقال بعضهم لبعض: ما تقولون في الرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول - والله - ما علمنا ما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائناً في ذلك ما هو كائن. فلما جاؤوه - وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله - سألهم فقال: ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم؟ - قالت: وكان الذي كلّمه جعفر بن أبي طالب قال: أيها الملك، كنّا قوماً أهل جاهليّة، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويُّ منا الضعيف، فكنَّا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منّا نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته، وعفافه. فدعانا إلى الله - عزّ وجلّ - لنوحده، ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دون(1/425)
الله من الحجارة والأوثان. وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصِلَة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء. ونهانا عن الفواحش، وشهادة الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة. وأمرنا أن نعبد الله، لا نشرك به شيئاً، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. - قالت: فعدّد عليه أُمور الإِسلام - فصدّقناه، وآمنا به واتّبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده لا نشرك به شيئاً، وحرّمنا ما حرم الله علينا، وأحللنا ما أحلَّ لنا، فعدا علينا قومنا، فعذّبونا، وفتنونا عن ديننا ليردّونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله عزّ وجلّ، وأن نستحلّ ما كنا نستحلُّ من الخبائث. فلمَّا قهرونا وظلمونا وشقُّوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا؛ خرجنا إِلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها
الملك.
قالت: فقل النجاشي: هل معك ما جاء به عن الله من شيء؟ قالت: فقال له جعفر رضي الله عنه: نعم. قالت: فقال له النجاشي: فاقرأه. فقرأ عليه صدراً من «كَهاياعص» . قالت: فبكى النجاشي حتى أَخْضَلَ لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تُلي عليهم. ثم قال النجاشي: إنَّ هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، إنطلقا، فوالله لا أسلمهم إليكم أبداً ولا أكاد.
قالت أم سلمة: فلمَّا خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لآتينّهم غداً أُعيِّبهم عنده بما استأصل به خضراءهم، فقال له عبد الله بن أبي ربيعة - وكان أتقى الرجلين فينا -: لا تفعل، فإن لهم أرحاماً وإِن كانوا قد خالفنا. قال: والله لأخبرنَّه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عَبْدٌ. قالت: ثم غدا عليه، فقال: يا أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه. قالت: فأرسل إليهم يسألهم عنه. قالت: ولم ينزل بنا مثلُها؛ واجتمع القوم فقال بعضهم لبعض: ما تقولون في عيسى بن مريم؟(1/426)
فقال له جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم هو عبد الله، ورسوله، وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. قالت: فضرب النجاشي يده إلى الأرض فأخذ منها عوداً ثم قال: (والله) ما عَدَا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود فتناخرت بطارقة حوله حين قال ما قال، (فقال) : وإن نخرتم والله إذهبوا فأنتم سيوم بأرضي - والسيوم الآمنون -؛ من سبَّكم غرم، ثم (قال) : من سبَّكم غَرِم، ثم (قال) من سبَّكم غَرِم، ما أحبُّ أن لي دَبْراً ذهباً وأني آذيت رجلاً منكم - والدَّبْر بلسان الحبشة: الجبل - رُدّوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين ردّ عليّ ملكي فآخذ فيه الرشوة، وما أطاع الناس فيّ فأطيعهم فيه. فخرجا من عنده مقبوحَيْن مردوداً عليهما ما جاءا به.
وأقمنا عنده في خير دار مع خير جار، فوالله إنه لَعَلى ذلك إذ نزل به مَنْ ينازعه في ملكه. قالت: والله ما علمتنا حَزِنَّا (حزناً) قط كان أشد من حزن حزّناه عند ذلك؛ تخوفاً أن يظهر ذلك (الرجل) على النجاشي؛ فيأتي رجل لا يعرف من حقِّنا ما كان النجاشي يعرف. قالت: وسار النجاشي وبينهما عرضُ النِّيل. قالت: فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ رجلٌ خرج حتى يحضر وقيعة القوم، ثم يأتينا (بالخبر) ؟ قالت: فقال الزبير بن العوام: أنا. (قالوا: فأنت) قالت: وكان من أحدث القوم سنّاً. قالت: فنفخوا له قِربة فجعلها في صدره، فَسَبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم. قالت: ودعونا الله عزّ وجلّ للنجاشي بالظهور على عدوّه والتمكين له في بلاده (قالت: فوالله إن لَعَلَى ذلك متوقعون لما هو كائن إذ طلع الزبير وهو يسعى فلمع بثوبه،(1/427)
وهو يقول: ألا أبشروا فقد ظفر النجاشي، وأهلك الله عدوه، ومكّن له في بلاده، قالت: فوالله ما علمتنا فرحنا فرحة قطّ مثلها. قالت ورجع النجاشي وقد أهلك الله عدوه ومكن له في بلاده: واستوسق عليه أمر الحبشة فكنّا عنده، في خير منزل حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة. قال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير إسحاق، وقد صرّح بالسماع. انتهى. كذا في الأصل، والظاهر أنه ابن إسحاق، وقد تقدّم الحديث من طريقه. وأخرجه أيضاً أبو نُعيم في الحلية من طريق ابن إسحاق نحوه مطوّلاً؛ والبيهقي ذكر صدر الحديث من طريق ابن إِسحاق بسياقه، ثم قال وذكر الحديث بطوله، وذكر الحديث في السِيَر.
وأخرج الإِمام أحمد عن غبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي - ونحن نحوٌ من ثمانين رجلاً - فيهم: عبد الله بن مسعود، وجعفر، وعبد الله بن عُرْفُطَة، وعثمان بن مظعون، وأبو موسى، فأتَوا(1/428)
النجاشي، وبعثت قريش عمرو بن العصا، وعُمارة بن الوليد بهدية، فلما دخلا على النجاشي سجداً له، ثم ابتدراه عن يمينه وعن شماله، ثم قالا له: إنَّ نفراً من بني عمنا نزلوا أرضك ورغبوا عنا وعن ملّتنا. قال: فأين هم؟ قالا: في أرضك فابعث إليهم؛ فبعث إليه. فقال جعفر رضي الله عنه: أن خطيبكم اليوم، فاتّبعوه، فسلّم ولم يسجد. فقالوا له: ما لك لا تسجد للملك؟ قال: إنا لا نسجد إلا الله عزّ وجلّ. قال: وما ذاك؟ قال: إنَّ الله بعث إلينا رسولاً، ثم أمرنا أن لا نسجد لأحد إِلا لله عزّ وجلّ، وأمرنا بالصلاة والزكاة. قال عمرو: فإنهم يخالفونك في عيسى بن مريم. قال: فما تقولون في عيسى بن مريم وأمه؟ قال: نقول كما قال الله: هو كلمته، وروحه، ألقاها إلى العذراء البتول التي لم يمسها بشر لم يفرضها ولد. قال: فرفع عوداً من الأرض ثم قال: يا معشر الحبشة والقسّيسين والرهبان والله ما يُزيدون على الذي نقول فيه ما سوى هذا، مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي نجد في الإِنجيل، وأنه الرسول الذي بشَّر به عيسى بن مريم. أنزلوا حيث شئتم، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا الذي أحمل نعليه؛ وأمر بهدية الآخرين فردّت إليهما. ثم تعجّل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حتى أدرك بدراً. وهذا إسناد جيد قوي، وسياق حسن - قاله ابن كثير في البداية. وحسَّن إسناده الحافظ ابن حجر في فتح الباري. وقال الهيثمي - بعدما ذكر الحديث -: رواه الطبراني وفيه حديج بن معاوية، وثَّقه أبو حاتم، وقال في بعض أحاديثه ضعف، وضعَّفه ابن مَعِين وغيره؛ وبقية رجاله ثقات.e وأخرجه الطبراني
أيضاً عن أبي موسى رضي الله عنه قال: أمرنا رسول(1/429)
الله صلى الله عليه وسلم أن ننطلق مع جعفر بن أبي طالب إلى النجاشي، فبلغ ذلك قريشاً، فبعثوا عمرو بن العاص، وعُمارة بن الوليد - فذكره بمعنى حديث ابن مسعود، وفي حديثه: ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أقبّل نعليه، أمكثوا في أرضي ما شئتم، وأمر لنا بطعام وكسوة. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. اهـ. وأخرج حديث أبي موسى أيضاً أبو نُعيم في الحلية، والبيهقي قال: هذا إسناد صحيح - كما في البداية.
وأخرج ابن عساكر عن جعفر بن أبي طلب رضي الله عنه قال: بعثت قريش عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد بهدية من أبي سفيان إِلى النجاشي. فقالوا له - ونحن عنده -: قد صار إليك ناس من سَفِلتنا وسفهائنا، فادفعهم إلينا. قال: لا، حتى أسمع كلامهم. قال: فبعث إلينا. فقال: ما يقول هؤلاء؟ قال قلنا: هؤلاء قوم يعبدون الأوثان، وإن الله بعث إلينا رسولاً فآمنا به وصدَّقناه. فقال لهم النجاشي؛ أَعبيدٌ هُمْ لكم؟ قالوا: لا. فقال: فلكم عليهم دَيْن؟ قالوا: لا. قال: فخلُّوا سبيلهم. قال: فخرجنا من عنده. فقال عمرو بن العاص: إن هؤلاء يقولون في عيسى غير ما تقول. قال: إن لم يقولوا في عيسى مثل قولي لم أدعهم في أرضي ساعة من نهار. فأرسل إلينا، فكانت الدعوة الثانية أشدّ علينا من الأولى. قال: ما يقول صاحبكم في عيسى بن مريم؟ قلنا: يقول: هو روح الله، وكلمته ألقاها إلى عذراء بتول. قال: فأرسل، فقال: أدعوا لي فلان القَسّ، فلان الراهب. فأتاه ناس منهم فقال: ما تقولون في عيسى بن مريم؟ فقالوا: أنت أعلمنا، فما تقول؟ قال النجاشي - وأخذ شيئاً من الأرض - قال: ما عدا عيسى ما قال هؤلاء مثل هذا، ثم قال: أيؤذيكم أحد؟(1/430)
قالوا: نعم. فنادى منادٍ. من ذى أحداً منهم فأغرموه أربعة دراهم، ثم قال؛ أيكفيكم؟ قلنا: لا، فأضْعَفَها.
رجوع الصحابة إلى المدينة وإسلام النجاشي واستغفاره صلى الله عليه وسلم له
قال: فلما هجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وظهر بها قلنا له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ظهر وهاجر إلى المدينة، وقتل الذين كنا حدَّثناك عنهم، وقد أردنا الرحيل إِليه، فرُدّنا. قال: نعم: فحمّلنا وزوّدنا. ثم قال: أخبر صاحبك بما صنعت إِليكم، وهكذا صاحبي معكم، أشهد أن لا اله إلا الله وأنه رسول الله، وقل له: يستغفر لي. قال جعفر: فخرجنا حتى أتينا المدينة فتلقّاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعتنقني، ثم قال: «ما أدري أنا بفتح خيبر أفرح أم بقدوم جعفر» ووافق ذلك فتحَ خيبر، ثم جلس، فقال رسول النجاشي: هذا جعفر، فسَلْه ما صنع به صاحبنا؟ فقال: نعم، فعل بنا كذا وكذا وحملنا وزوّدا، وشهد أن لا اله إلا الله وأنك رسول الله. وقال لي: قل له يستغفر لي. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ، ثم دعا ثلاث مرات: «اللهم إغفر للنجاشي» . فقال المسلمون: آمين. ثم قال جعفر: فقلت للرسول: إنطلق فأخبر صاحبك بما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن عساكر: حسن غريب. كذا في البداية. وأخرجه الطبراني من طريق أسد بن عمرو عن مُجالد وكلاهما ضعيف، وقد وُثِّقا - قاله الهيثمي.
فضيلة من هجر إلى الحبشة ثم إليه صلى الله عليه وسلم وأخرج ابن إسحاق عن عبد العزيز بن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أمه أم عبد الله بنت أبي حَثْمة رضي الله عنها قالت: والله إنا لنترحَّل إلى أرض الحبشة وقد ذهب عامر في بعض حاجتنا، إذ أقبل عمر فوقف عليَّ وهو على(1/431)
شركه فقالت: - وكنّا نلقَى منه أذى لنا وشدَّه علينا - قالت: فقال: إنه الإنطلاق يا أم عبد الله؟ قلت: نعم، والله لنخرجنَّ في أرض من أرض الله إذ آذيتمونا وقهرتمونا حتى يجعل الله لنا مخرجاً. قالت: فقال: صحبكم الله ورأيت له رقّة لم أكن أراها، ثم انصرف وقد أحزنه فيما أرى خروجنا. قالت: فجاء عامر بحاجتنا تلك. فقلت له: يا أبا عبد الله، لو رأيت عمر آنفاً ورقَّته وحزنه علينا. قال: أطمعت في إسلامه؟ قالت: قلت: نعم. قال: لا يُسلم الذي رأيتِ حتى يسلمَ حمارُ الخطّاب. قالت: يأساً منه لما كان يرى من غلظته وقسوته على الإِسلام. كذا في البداية. وإسم أم عبد الله: ليلى؛ كما في الإِصابة. وأخرجه أيضاً الطبراني؛ وقد صرح ابن إسحاق بالسماع فهو صحيح. قال الهيثمي. وأخرجه الحاكم في المستدرك بسياق ابن إسحاق من طريقه إلا أنه وقع في الإِسناد عن عبد العزيز بن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه عن أمه أم عبد الله، وهذا هو الظاهر - والله أعلم. وفي آخره: قال: يأساً منه. وأخرج ابن مَنْده وابن عساكر عن خالد بن سعيد بن العاص - وكان من مهاجرة الحبشة هو وأخوه عمرو -: ولمَّا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقّاهم حين دنوا منه وذلك بعد بدر بعام، فحزنوا أن لا يكونوا شهدوا بدراً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وما تحزنون؟ إنَّ للناس هجرة واحدة ولكم هجرتان، هاجرتم حين خرجتم إلى صاحب الحبشة، ثم جئتم من عند صاحب الحبشة مهاجرين إِليّ» . كذا في(1/432)
كنز العمال.
وأخرج البخاري عن أبي موسى رضي الله عنه قال: بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إِليه أن وأخوان لي أنا أصغرهم، أحدهم أبو بُردة، والآخر أبو رُهم - إِمّا قال في بضع وإِما قال في ثلاثة وخمسين أو إثنين وخمسين رجلاً من قومي -، فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إِلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب فأقمنا معه حتى قدمنا جميعاً. فوافقنا النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر. فكان أناس من الناس يقولون لنا - يعني لأهل السفينة -: سبقناكم بالهجرة. ودخلت أسماء بنت عُميس وهي ممّن قدم معنا على أمّ المؤمنين حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم زائرة، وقد كانت هجرت إِلى النجاشي فيمن هاجر. فدخل عمر رضي الله عنه على حفصة وأسماء عندها، فقال - حين رأى أسماء -: من هذه؟ قلت: أسماء إبنة عُميس. قال عمر: الحبشية هذه؟ البحرية هذه؟ قالت أسماء: نعم. قال: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحقُّ برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم. فغضبت وقالت: كلا. والله كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم؛ وكنا في دار - أو في أرض - البعداء والبغضاء بالحبشة، وذلك في الله وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيْمُ الله، لا أطعم طعاماً لا أشرب شراباً حتى أذكرَ ما قلتَ للنبي صلى الله عليه وسلم وأسأله، ووالله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه. فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا نبي الله، إِن عمر قال كذا وكذا. قالت قال: «فما قلتِ له؟» قالت قلت: كذا وكذا. قال: «ليس بأحق بي منكم وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان» . قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأهل السفينة يأتوني أرسالاً يسألوني عن هذا الحديث: ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو بُردة قالت أسماء: فلقد رأيت أبا موسى وإنه ليستعيد هذا الحديث
مني.
وقال أبو بُردة عن أبي موسى:(1/433)
قال النبي صلى الله عليه وسلم «إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنت لم أرَ منازلهم حين نزلوا بالنهار، ومنهم حكيم: إذا لقي العدو - أو قال: الخيل - قال لهم: إن أصحابي يأمرونكم أن تنظروهم» . وهكذا رواه مسلم. كذا في البداية. عند ابن سعد بإسناد صحيح عن الشَّعْبي قال: قالت أسماء إبنة عُميس رضي الله عنها: يا رسول الله، إِنَّ رجالاً يفخرون علينا ويزعمون أنا لسنا من المهاجرين الأوّلين، فقال: بل لك هجرتان: هاجرتم إلى أرض الحبشة، ثم هاجرتم بعد ذلك» . كذا في فتح الباري. وأخرج هذا الأثر ابن أبي شيبة أيضاً أطول منه كما في كنز العمال. وأخرج حديث أبي موسى أيضاً الحسن بن سفيان، وأبو نُعيم مختصراً كما في الكنز أيضاً.
هجرة أبي سلمة وأم سَلَمة رضي الله عنهما إلى المدينة
أخرج ابن إسحاق عن أم سَلَمة رضي الله عنها قالت: لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحّل لي بعيره، ثم حملني عليه، وجعل معي إبني سلمة بن أبي سلمة في حِجري، ثم خرج يقول بي بعيره. فلما رأته رجال بني المغيرة قاموا إليه فقلوا: هذه نفسك غلبْتَنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه، علام نتركك تسير بها في البلاد؟ قالت: فنزعوا خطام البعير من يده وأخذوني منه. قالت: وغضب عند ذلك بنو عبد الأسود رهط أبي سَلَمة وقالوا: والله لا نترك إبننا(1/434)
عندها إذ نزعتموها من صاحبنا. قالت: فتجاذبا بني سَلَمة بينهم حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوج أبو سلمة إلى المدينة؛ قالت: ففُرّق بيني وبين إبني وبين زوجي. قالت: فكنت أخرج كل غداة فأجلس في الأبطح، فما أزال أبكي حتى أمسي سنة أو قريباً منها؛ حتى مرّ بي رجل من بني عمي أحد بني المغيرة، فرأى ما بي فرحمني. فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة، فرّقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها؟ قالت: فقالوا لي: إلحقي بزوجك إِن شئت. قالت فردّ بنو عبد الأسد إليّ عند ذلك إبني. قالت: فارتحلت بعيري، ثم أخذت إبني فوضعته في حجْري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة. قالت: وما معي أحد من خلق الله. حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة ابن أبي طلحة أخا بني عبد الدار. فقال: إلى أين يا إبنة أبي أُمية؟ قلت: أُريد زوجي بالمدينة. قال: أو ما معك أحد؟ قلت: ما معي أحد إلا الله وبُنيّ هذا. فقال: والله مالك من مترك، فأخذ بخطام البعير فانطلق معي يهوي بي؛ فوالله ما صحبت رجلاً من العرب قطُّ أرى أنه كان أكرم من. كان إِذا بلغ المنزل أناخ بي ثم استأخر عني حتى إذا نزلت إستأخر ببعيري فحطَّ عنه، ثم قيّده في الشجر، ثم تنحَّى إلى شجرة فاضطجع تحتها. فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحَّله، ثم استأخر عني وقال: إركبي، فإذا ركبت فاستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه فقادني
حتى ينزل بي، فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة. فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقُباء قال: زوجك في هذه القرية - وكان أبو سلمة بها نازلاً - فادخليها على بركة الله. ثم انصرف راجعاً إلى مكة. فكانت تقول: ما أعلم أهل بيت في الإِسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سَلَمة؛ وما رأيت صاحباً قط كان أكرم من عثمان بن طلحة. أسلم عثمان بن طلحة بن أبي طلحة العبدري هذا بعد الحديبية، وهاجر هو وخالد بن الوليد رضي الله عنه معاً.(1/435)
كذا في البداية.
هجرة صهيب بن سنان رضي الله عنه خروج صهيب من مكة مهاجراً وخبره مع فتيان قريش
أخرج البيهقي عن صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أُريت دار هجرتكم سَبْخَة بين ظهراني حرّتين، فإما أن تكون هَجَر أو تكون يثرب» . قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وخرج معه أبو بكر رضي الله عنه، وكنت قد هممت معه بالخروج فصدني فتيان من قريش، فجعلت ليلتي تلك أقوم لا أقعد، فقالوا: قد شغله الله عنكم ببطنه - ولم أكن شاكياً - فناموا. فخرجت ولحقني منهم ناس بعدما سرت يريدوا ليردوني، فقلت لهم: إن أعطيتكم أواقيِّ من ذهب وتخلوا سبيلي وتوفون لي؟ ففعلوا، فتبعتهم إلى مكة فقلت: إحفروا تحت أُسْكُفَّة الباب فإن بها أواقيَّ؛ واذهبوا إلى فلانة فخذوا الحُلَّتَين. وخرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقُباء قبل أن يتحوّل منها. فلما رآني قال: «يا أبا يحيى ربح البيع» فقلت: يا رسول الله، ما سبقني إليك أحد، وما أخبرك إلا جبرائيل عليه السلام. كذا في البداية. وأخرجه الطبراني أيضاً نحوه - قال الهيثمي: وفيه جماعة لم أعرفهم. إنتهى. وأخرجه أيضاً أبو نُعيم في الحلية.(1/436)
قدوم صهيب عليه صلى الله عليه وسلم بقباء وبشارته عليه السلام له ما أنزل الله في صهيب
وأخرج أيضاً هو وابن سعد، والحارث، وابن المنذر، وابن عساكر، وابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيِّب أنَّ صهيباً رضي الله عنه أقبل مهاجراً نحو النبي صلى الله عليه وسلم فتبعه نفر من قريش مشركون، فنزل فانتثل كنانته فقال: قد علمتم يا معشر قريش أني أرماكم رجلاً بسهم، وايْمُ الله لا تصلون إليَّ حتى أرميكم بكل سهم في كنانتي، ثم أضربكم بسيفي ما بقي في يدي منه (شي) ، ثم شأنكم بعد ذلك. وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة وتخلُّوا سبيلي. قالوا: نعم، فتعاهدوا على ذلك فدلَّهم. فأنزل الله على رسوله القرآن: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَآء مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءوفٌ بِالْعِبَادِ} (البقرة: 207) - حتى فرغ من الآية. فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم صهيباً قال: «ربح البيع يا أبا يحيى ربح البيع يا أبا يحيى» وقرأ عليه القرآن. كذا في كنز العمال. وأخرجه أيضاً ابن عبد البرّ في الإستيعاب عن سعيد نحوه. وأخرج الحاكم في المستدرك من طريق سليمان بن حرب عن حمّاد بن زيد عن أيوب عن عكرمة قال: لما خرج صهيب رضي الله عنه مهاجراً تبعه أهل مكة، فنثل كنانته فأخرج منها أربعين سهماً، فقال: لا تصلون إِليّ حتى أضع في كل رجل منكم سهماً، ثم أصير بعد إلى السيف فتعلمون أني رجل، وقد خلَّفت بمكة قينتين فهما لكم. قال: وحدثنا حماد بن سلمة(1/437)
عن ثابت عن أنس رضي الله عنه - نحوه: ونزلت على النبي صلى الله عليه وسلم {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَآء مَرْضَاتِ اللَّهِ} - الآية. فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أبا يحيى ربح البيع. قال: وتلا عليه الآية. قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرِّجاه. وأخرجه أيضاً ابن أبي خَيْثمة بمعناه كما في الإِصابة، وقال: ورواه ابن سعد أيضاً من وجه آخر عن أبي عثمان النَّهْدي، ورواه الكلبي في تفسيره عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما، وله طريق أخرى.
انتهى.
وأخرجه ابن مَرْدَويه من طريق أبي عثمان النَّهدي عن صهيب رضي الله عنه قال: لمَّا أردت الهجرة من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت لي قريش: يا صهيب، قدمتَ إلينا ولا مال لك، وتخرج أنت ومالك، والله لا يكون ذلك أبداً. فقلت لهم: أرأيتم إن دفعت إِليكم مالي تخلّون عني؟ قالوا: نعم. فدفعت إليهم مالي، فخلُّوا عني؛ فخرجت حتى قدمت المدينة. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ربح صهيب، ربح صهيب» مرتين. كذا في التفسير لابن كثير. وأخرجه ابن سعد من طريق أبي عثمان - نحوه.
هجرة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما
أخرج أبو نعيم في الحلية عن عمر بن محمد بن زيد عن أبيه قال: كان ابن عمر رضي الله عنهما إذ مرّ برَبْعهم - وقد هاجر منه - غمَّض عينيه ولم ينظر إِليه ولم ينزله قط. وعند البيهقي في الزهد بسند صحيح عن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر يقول: ما ذكر ابن عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بكى، لا(1/438)
مرّ على رَبْعهم إلا غمَّض عينيه. كذا في الإِصابة.
هجرة عبد بن جحش رضي الله عنه
أخرج الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن عبد الله بن جحش رضي الله عنه، وكان آخر من بقي ممّن هاجر، وكان قد كُفَّ بصره؛ فلما أجمع على الهجرة كرهت إمرأته ذلك بنت (أبي سفيان بن حرب بن أُمية) ، وجعلت تشير عليه أن يهاجر إلى غيره، فهاجر بأهله وماله مكتتماً من قريش حتى قدم المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثب أبو سفيان بن حرب فباع داره بمكة، فمرّ بها بعد ذلك أبو جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والعباس بن عبد لمطلب، وحويطب بن عبد العزى وفيها أُهُبٌ معْطُونة، فذرفت عينا عتبة وتمثل ببيت من شعر:
وكلُّ دار وإن طالت سلامتها
يوماً ستدركها النكباء والحوب
قال أبو جهل - وأقبل على العباس - فقال: هذا ما أدخلتم علينا. فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح قام أبو أحمد يَنشُد داره. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان، فقام إلى أبي أحمد فانتحاه، فسكت أبو أحمد عن نشيد داره. قال ابن عباس رضي الله عنهما: وكان أبو أحمد يقول - والنبي صلى الله عليه وسلم متكىء على يده يوم الفتح -:(1/439)
حبذا مكة من وادي
بها أمشي بلا هادي
بها يكثر عُوَّادي
بها تركز أوتادي
قال الهيثمي: وفيه عبد الله بن شبيب وهو ضعيف اهـ. قال ابن إسحاق: كان أول من قدم المدينة من المهاجرين بعد أبي سلمة عامر بن ربيعة، وعبد الله بن جحش رضي الله عنهما، احتمل بأهله وبأخيه عبد أبي أحمد. وكان أبو أحمد رجلاً ضرير البصر، وكان يطوف مكة أعلاها وأسفلها بغير قائد، وكان شاعراً وكانت عنده الفارعة بنت أبي سفيان بن حرب، وكانت أُمه أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم رضي الله عنها فخلِّقت دار بني جحش هجرة، فمرّ بها عتبة فذكر قصتهم بمعنى ما تقدم كما في البداية. فالظاهر أنه سقط ذكر أبي أحمد في الحديث، أو عبد الله تصحيفاً. والصحيح عبد بن جحش فإنه كان ضرير البصر، لا أخو. عبد الله بن جحش وقال: أبو أحمد بن جحش هذا في هجرتهم كما ذكر ابن كثير في البداية عن ابن إسحاق:
ولمَّا رأتني أم أحمدَ غادياً
بذمّة من أخشى بغيب وأرهَبُ
تقول فإِمّا كنت لا بدَّ فاعلاً
فيمّم بنا البلدان ولتنأ يثربُ
(فقلت لها ما يثرب بمظِنّة)
وما يشأ الرحمن فالعبد يركب
إلى الله وجهي والرسول ومن يُقم
إلى الله يوماً وجهه لا يُخَيَّب
فكم قد تركنا من حميم مناصح
وناصحة تبكي بدمع وتندُب
ترى أنّ وِتْرا نأيُنا عن بلادنا
ونحن نرى أن الرغائب نَطْلُب(1/440)
دعوت بني غَنْم لحِقن دمائهم
وللحق لما لاح للناس مَلْحَب
أجابوا بحمد الله لمّا دعاهم
إلى الحق داعٍ والنجاحِ فأوْعبوا
وكنا وأصحاباً لنا فارقوا الهدى
أعانوا علينا بالسلام وأجلبوا
كفَوجين أما منهما فموفَّق
على الحق مهدي وفوج معذّب
طَغَوا وتمنَوا كذبة وأزلهم
عن الحق إبليس فخابوا وخيّبوا
ورِعنا إلى قول النبي محمدٍ
فطاب ولاة الحق منا وطيبوا
نَمُتُّ بأرحام إليهم قريبةٍ
ولا قرب بالأرحام إذ لا تُقَرِّب
فأيّ ابن أخت بعدنا يأمننكم
وأية صِهْر بعد صهريَ ترقب
فأيّ ابن أخت بعدنا يأمننكم
وأية صِهْر بعد صهيَ ترقب
ستعلم يوماً أيُّنا إذ تزايلوا
وزُيِّل أمر الناس للحق أصوب
هجرة ضمرة بن أبي العيص أو ابن العيص
أخرج الفهريابي عن سعيد بن جبير رضي الله عنه قال: لما أنزلت: {لاَّ يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} (النساء: 95) - الآية. ثم ترخَّص عنها أناس من المساكين ممّن بمكة حتى نزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الاْرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءتْ مَصِيراً} (النساء: 97) - الآية. فقالوا: هذه مُرْجفة حتى نزلت: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَآء وَالْوِلْدانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} (النساء: 98) ، فقال ضمرة بن العيص - أحد بني لَيْث وكان مُصاب البصر، وكن موسِراً. لئن كان ذهاب(1/441)
بصري إني لأستطيع الحيلة، لي مال ورقيق، إحملوني، فحُمل ودَبَّ وهو مريض، فأدركه الموت وهو عند التَنْعيم؛ فدفن عند مسجد التَنْعيم. فنزلت فيه خاصة: {وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى الاْرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} (النساء: 100) - الآية. وعلّقهُ ابن مَنْده لهُشَيم عن سالم. وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق إسرائيل عن سالم الأفطس، فقال: عن سعيد بن جبير عن أبي ضمرة بن العيص الزُرَقي رضي الله عنه. كذا في الإِصابة
. وأخرجه أبو يعلى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج ضمرة بن جندب من بيته مهاجراً فقال لأهله: إحملوني فأخرجوني من أرض المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات في الطريق قبل أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزل الوحي: {ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى اورسوله ثم يدركه الموت حتى بلغ وكان اغفوراً رحيماً} . قال الهيثمي في المجمع: ورجاله ثقات.
هجرة واثلة بن الأسقع رضي الله عنه
أخرج ابن جرير عن خالد بن الوليد عن واثلة بن الأسقَع رضي الله عنهما قال: خرجت من أهلي وأريد الإِسلام، قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، فصففت في آخر الصفوف فصلَّيت بصلاتهم. فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة انتهى إِليَّ وأنا في آخر الصفوف. فقال: «ما حاجتك؟ قلت: الإِسلام. قال: «هو خير لك» . قال: «وتهاجر؟» قلت: نعم. قال: «هجرةَ البادي أو هجرة الباتي؟» قلت: أيتها خبر؟ قال: «هجرة الباتي» . قال: «وهجرة الباتي أن تثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهجرة البادي أن يرجع إلى باديته» .(1/442)
قال: «وعليك الطاعة في عسرك ويسرحك ومنشطك ومكرهك وأَثرَة عليك» . قلت: نعم. فقدَّم يده وقدمت يدي. فلما رآني لا أستثني لنفسي شيئاً قال: «فيما استطعت» . فقلت: فيما استطعت. فضرب على يدي. كذا في كنز العمال.
هجرة بني سليم
أخرج أبو نُعيم عن إِياس بن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: أصاب أسَلَم وجعٌ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا أسلمُ أبدوا» . قالوا: يا رسول الله نكره أن نرتد، ونرجع على أعقابنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنتم باديتنا ونحن حاضرتكم، إذا دعوتمونا أجبناكم وإِذا دعوناكم أجبتمونا؛ أنتم المهاجرون حيث كنتم» . كذا في كنز العمال.
هجرة جنادة بن أبي أمية رضي الله عنه
أخرج أبو نُعيم والحسن بن سفيان عن جنادة بن أبي أمية الأزدي رضي الله عنه قال: هاجرنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فاختلفنا في الهجرة، فقال بعضنا: لم تنقطع. فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك. فقال: «لا تنقطع الهجرة، ما قوتل الكفار» . كذا في الكنز.(1/443)
وعند ابن مندهْ. وابن عساكر عن عبد الله بن السعدي رضي الله عنه قال: وفدت في نفر من بني سعد بن بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة أو ثمانية وأنا من أحدثهم سناً، فأتَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضوا حوائجهم وخلّفوني في رَحْل لهم. فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، أخبرني عن حاجتي. فقال: «وما حاجتك؟» قلت: رجال يقولون: قد انقطعت الهجرة. فقال: «أنت خيرهم حاجة - أو حاجاتهم - لا تنقطع الهجرة، ما قوتل الكفار» . كذا في الكنز. وأخرجه أيضاً أبو حاتم، وابن حِبْان، والنّسائي. وقال أبو زُرعة: حديث صحيح متقن، رواه الأثْبات عنه كما في الإِصابة.
ما قيل لصفوان بن أمية وغيره في الهجرة
أخرج ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قيل لصفوان بن أمية - وهو بأعلى مكة -: إنه لا دين لمن لم يهاجر. فقال: لا أصل إلى بيتي حتى أقدَم المدينة، فقدم المدينة فنزل على العباس بن عبد المطلب، ثم أتى(1/444)
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما جاء بك يا أبا وَهْب؟» قال: قيل: إنه لا دِين لمن لم يهاجر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «إرجع أبا وَهْب إلى أباطح مكة، فقرّوا على مسكنكم، فقد انقطعت الهجرة، ولكن جهاد ونية فإن استُنفرتم فانفروا» . كذا في كنز العمال. وأخرجه البيهقي أيضاً بلفظه. وعند عبد الرزاق عن طاووس قال: قيل لصفوان بن أمية: هلك من نُفيَت له هجرة، فحلف أن لا يغسل رأسه حتى يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فركب راحلته ثم انطلق، فصادف النبي صلى الله عليه وسلم عند باب المسجد، فقال: يا رسول الله، إنه قيل لي: هلك من لا هجرة له، فآليتُ بيمين لا أغسل رأسي حتى آتيك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «إنَّ صفوان سمع بالإِسلام فرضي به ديناً، إِن الهجرة قد انقطعت بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإِذا(1/445)
استُنفرتم فنفروا» كذا في الكنز.
وأخرج البغوي، وابن مَنْده، وأبو نُعيم عن صالح بن بشير ابن فُدَيك: أن جده فُديكاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنهم يزعمون أن من لم يهاجر هلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «يا فُدَيك، أقم الصلاة، وآتِ الزكاة، واهجر السوء، واسكن من أرض قومك حيث شئت تكن مهاجراً» . كذا في الكنز. وأخرجه البيهقي. وأخرج البخاري عن عطاء بن أبي رباح قال: زُرت عائشة رضي الله عنها مع عبيد بن عمير الليثي فسألناها عن الهجرة. فقالت: لا هجرة اليوم، كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم مخافة أن يُفتن عليه. فأما اليوم فقد أظهر الله الإِسلام واليوم يعبد ربه حيث شاء، ولكن جهاد ونية. وأخرجه البيهقي أيضاً.
هجرة النساء والصبيان هجرة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنهم
أخرج ابن عبد البَرّ عن عائشة رضي الله عنها قالت: لمّا هجر رسول الله صلى الله عليه وسلم خلَّفنا وخلَّف بناته، فلما استقر بعث زيد بن حارثة وبعث معه أبا رافع(1/446)
مولاه، وأعطاهما بعيرين وخمس مائة درهم أخذاها من أبي رضي الله عنه يشترين بها ما يحتاجان إليه من الظَّهْر، وبعث أبو بكر معهم عبد الله بن أريقط ببعيرين أو ثلاثة، وكتب إلى عبد الله بن أبي بكر أن يحمل أمّي أم رومان وأنا وأختي أسماء إمرأة الزبير، فخرجوا مصطحبين. فلما انتهَوا إِلى قُدَيد إشترى زيد بن حارثة بتلك الخمس مائة درهم ثلاثة أبْعِرة، ثم دخلوا مكة جميعاً، فصادفوا طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه يريد الهجرة، فخرجوا جميعاً، وخرج زيد وأبو رافع بفاطمة وأم كلثوم وسَوْدة بنت زمْعة، وحمل زيد أم أيمن وأسامة، حتى إذا كنا بالبيداء نَفَر بعيري وأنا في مِحفَّة معي فيه أمي، فجعلت تقول: وابنتاه، واعروساه، حتى أدرك بعيرنا وقد هبط الثنية ثنية هَرْشى فسلَّم الله. ثم إِنَّا قدمنا المدينة، فنزلت مع آل أبي بكر، ونزل آل النبي صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبني مسجده وأبياتاً حول المسجد، فأنزل فيها أهله، فمكثنا أياماً - فذكر الحديث بطوله في تزويج عائشة. كذا في الإستيعاب. وأخرجه الزبير أيضاً كما في الإِصابة. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد - إلا أنه سقط عنه ذكر مخرِّجه - وقال: وفيه محمد بن الحسن بن زُبالة وهو ضعيف. ثم ذكر عن عائشة رضي الله عنها قالت: قدمنا مهاجرين، فسلكنا في ثنّية ضعينة فنفر(1/447)
جمل كنت عليه نفوراً منكراً، فوالله ما أنسى قول أمي: يا عُرَيِّسة فركب بي رأسه، فسمعت قائلاً يقول: ألقي خطامه، فألقيته، فقام يستدير كأنما إِنسان قائم تحته. ثم قال: رواه الطبراني وإسناده حسن. انتهى. وأخرجه الحاكم في المستدرك بطوله.
هجرة بنت إبنته صلى الله عليه وسلم وقوله فيها بسبب ما أصابها من الأذى في الطريق
وأخرج ابن إسحاق عن زينب رضي الله عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّها قالت: بينا أنا أتجهّز لقيتني هند بنت عتبة فقالت: يا ابنة محمد، ألم يبلغني أنك تريدين اللحوق بأبيك. قالت: فقلت: ما أردت ذلك. فقال: أيّ إبنةَ عم لا تفعلي، إن كان لك حاجة بمتاع مما يرفق بك في سفرك أو بمال تتبلغين به إلى أبيك فإن عندي حاجتك، فلا تضْطَبني مني، فإنه لا يدخل بين النساء ما بين الرجال. قالت: والله ما أُراها قالت ذلك إلا لتفعل. قالت: ولكني خِفتها فأنكرت أن أكون أريد ذلك. قال ابن إسحاق: فتجهَّزتْ، فلما فرغت من جهازها قدّم إليها أخو زوجها كنانة بن الربيع بعيراً فركبته، وأخذ قوسه وكنانته، ثم خرج بها نهاراً يقود به وهي في هودج لها، وتحدّث بذلك رجال من قريش، فخرجوا في طلبها حتى أدركوها بذي طُوىً، وكان أول من سبق إليها هَبَّر بن الأسود الفِهْري، فروَّعها هبّار بالرمح وهي في الهودج، وكانت حاملاً - فيما يزعمون - فطَرَحت، وبرك حَموها كِنانة ونثر كنانته ثم قال: والله لا يدنو مني رجل إلا وضعت فيه سهماً، فَتَكرْكر الناس عنه، وأتى أبو سفيان في جهلَّة من(1/448)
قريش، فقال: يا أيها الرجل، كفّ عنا نبلك حتى نكلمك، فكفَّ. فأقبل أبو سفيان حتى وقف عليه فقال: إنك لم تُصِب، خرجت بالمرأة على رؤوس الناس علانية، وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا وما دخل علينا من محمد، فيظن الناس إذا خرجت بابنته إليه علانيةً على رؤوس الناس من بين أظهرنا أنَّ ذلك عن ذلّ أصابنا وأن ذلك ضعف منا وَوَهن، ولعمري، ما لنا بحبسها من أبيها حاجةً وما لنا من ثؤرة، ولكن أرجع بالمرأة حتى إذا هدأتِ الأصوات وتحدَّث الناس أن قد رددناها؛ فَسُلَّها سِراً وألحقها بأبيها. قال ففعل. كذا في البداية.
وعند الطبراني عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما: أن رجلاً أقبل بزينب رضي الله عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلحقه رجلان من قريش فقاتلاه حتى غلباه عليها فدفعاها، فوقعت على صخرة فأسقطت وهُريقت دماً، فذهبوا بها إلى أبي سفيان، فجاءته نساء بني هاشم فدفعها إِليهن. ثم جاءت بعد ذلك مهاجرة، فلم تزل وجعة حتى ماتت من ذلك الوجع؛ فكانوا يرون أنها شهيدة. قال الهيثمي: وهو مرسل، ورجاله رجال الصحيح اهـ.
وعند الطبراني في الكبير عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم من مكة خرجت إبنته زينب رضي الله عنها من مكة مع كِنانة - أو ابن كِنانة - فخرجوا في طلبها، فأدركها هَبَّار بن الأسود، فلم يزل يطعن بعيرها برمحه حتى صرعها وألقت ما في بطنها، فتحملت؛ واشتجر فيها بنو هاشم وبنو أُمية. فقال بنو أُمية: نحن أحقّ بها وكانت تحت ابن عمهم أبي(1/449)
العاص؛ وكانت عند هند بنت عتبة بن ربيعة، وكانت تقول: هذا في سبب أبيك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة؛ «ألا تنطلق فتجيء بزينب؟» قال: بلى يا رسول الله، قال: فخذ خاتمي فأعطِها إِيَّاه. فانطلق زيد فلم يزل يتلطف، فلقي راعياً فقال: لمن ترعى؟ فقال لأبي العاص. فقال: لمن هذه الغنم؟ فقال: لزينب بنت محمد، فسار معه شيئاً ثم قال: هل لك أن أعطيك شيئاً تعطيها إياه ولا تذكره لأحد؟ قال: نعم. فأعطاه الخاتم، فعرفته. فقالت: من أعطاك هذا؟ قال: رجل. قالت: فأين تركته؟ قال: بمكان كذا وكذا. فسكتت حتى إذا كان الليل خرجت إِليه فلما جاءته قال لها: إركبي بين يدي - على بعيره -. قالت: لا، ولكن إركب أنت بين يدي، فركب وركبت وراءه حتى أتت، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «هي خير بناتي أُصيبت فيّ» فبلغ ذلك علي بن حسين رضي الله عنهما، فانطلق إلى عروة فقال: ما حديث بلغني عنك أنك تحدثه تنتقص حقَّ فاطمة؟ فقال عروة: والله ما أحب أن لي ما بين المشرق والمغرب وأني أنتقص فاطمة حقاً لها، وأما بعد ذلك إِني لا أحدّث به أبداً. قال الهيثمي: روه الطبراني في الكبير والأوسط بعضه؛ ورواه البزار؛ ورجاله رجال الصحيح. انتهى.
هجرة درّة بنت أبي لهب رضي الله عنها
أخرج الطبراني عن ابن عمر، وأبي هريرة، وعمار بن ياسر رضي الله عنهم قالوا: قدمت درَّة بنت أبي لهب رضي الله عنها مهاجرة، فنزلت دار رافع بن المُعلَّى الزُّرقي رضي الله عنه. فقال لها نسوة جلسن إِليها من بني زُرَيق: أَنت بنت أبي لهب الذي قال الله فيه: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ} {مَآ أَغْنَى(1/450)
عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} ؛ ما يغني عنك مهاجَرُك. فأتت درّة النبي صلى الله عليه وسلم فشكت إليه ما قُلنَ لها. فسكّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إجلسي. ثم صلّى بالناس الظهر وجلس على المنبر ساعة وقال: «يا أيها الناس، ما لي أؤذي في أهلي، فوالله إِن شفاعتي لتناحيَّ حا، وحَكَم، وصُدا، وسَهلب يوم القيامة. قال الهيثمي: وفيه عبد الرحمن بن بشير الدمشقي وثَّقه ابن حِبَّان، وضعْفه أبو حاتم؛ وبقية رجاله ثقات. وقد تقدّمت هجرة أُم سَلَمة في هجرة أبي سلمة رضي الله عنهما (ص 358) ؛ وهجرة أسماء بنت عُميس وأُم عبد الله ليلى إبنة أبي حَثْمة رضي الله عنهما في هجرة جعفر بن أبي طالب والصحابة رضي الله عنهم إلى الحبشة (ص 347) .
هجرة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وغيره من الصبيان
أخرج الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان قدومنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس من الهجرة. خرجنا متوصِّلين مع قريش عام الأحزاب، وأنا مع أخي الفضل، ومعنا غلامنا أبو رافع، حتى انتهينا إلى العَرْج فضلّ لنا في الطريق رَكوبة، وأخذنا في ذلك الطريق على الجثجاثة حتى خرجنا على بني عمرو بن عوف حتى دخلنا المدينة، فوجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق وأنا يومئذٍ ابن ثمان سنين، وأخي ابن ثلاث عشرة سنة. قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط من طريق عبد الله بن محمد بن عمارة الأنصاري عن سليمان بن داود بن الحصين، وكلاهما لم يوثّق ولم يضعَّف، وبقية رجاله ثقات. انتهى.(1/451)
الباب الخامس باب النصرة
كيف كانت نُصْرة الدين القويم والصراط المستقيم أحبَّ إليهم من كل شيء؟ وكيف كانوا يتفخرون بذلك ما لم يفتخر أحد منهم بالعزَّة الدنيوية؟ وكيف صبروا مع ذلك عن لذّاتها؟ فكأنهم فعلوا كلَّ ذلك إبتغاء مرضاة الله عزّ وجلّ، واتِّباعاً لما أمرهم رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه، وبارك، وسلَّم.(1/453)
باب النصرة إبتداء أمر الأنصار رضي الله عنهم حديث عائشة رضي الله عنها في هذا الباب
أخرج الطبراني في الأوسط عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه في كل سنة على قبائل من العرب؛ أن يؤووه إلى قومهم حتى يبلّغَ كلام الله ورسالاته ولهم الجنّة. فليست قبيلة من العرب تستجيب له، حتى أراد الله إِظهار دينه، ونصر نبيه، وإنجاز ما وعده - ساقه الله إلى هذا الحي من الأنصار، فاستجابوا له، وجعل الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم دار هجرة. قال الهيثمي: وفيه عبد الله بن عمر العُمَري، وثَّقه أحمد وجماعة، وضعَّفه النِّسائي وغيره؛ وبقية رجاله ثقات. اهـ.
حديث عمر رضي الله عنه في الباب وقوله فيهم
وأخرج البزار - وحسّنه - عن عمر رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة يعرض نفسه على قبائل العرب قبيلة قبيلة في الموسم، ما يجد أحداً يجيبه حتى جاء الله بهذا الحيّ من الأنصار، لِمَا أسعدهم الله وساق لهم من الكرامة، فآوَوا ونصروا، فجزاهم الله عن نبيهم خيراً. كذا في كنز العمال. وزاد(1/455)
في جمع الفوائد في حديث عمر رضي الله عنه هذا: والله ما وفينا لهم كما عاهدناهم عليه، إِن قلنا لهم؛ نحن الأمراء وأنتم الوزراء، ولئن بقيت إلى رأس لا يبقى لي عامل إِلا أنصاري. وقال: للبزّار بضعف، وهكذا ذكره في مجمع الزوائد عن البزار بتمامه، وقال: رواه البزار وحسَّن إسناده، وفيه ابن شبيب وهو ضعيف.
حديث جابر رضي الله عنه في الباب
وأخرج الإِمام أحمد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنها قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس بالموقف فيقول: «هل من رجل يحملني إِلى قومه، فإنَّ قريشاً قد منعوني أن أبلِّغ كلام ربي عزّ وجلّ؟» فأتاه رجل من هَمْدان. فقال: ممن أنت؟ فقال الرجل: من هَمْدان. فقال: هل عند قومك من مَنَعة؟ قال: نعم. ثم إنّ الرجل خشي أن يُخفِره قومه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: آتيهم أخبرهم، ثم آتيك من قابل. قال: نعم. فانطلق وجاء وفد الأنصار في رجب. قال الهيثمي: رجاله ثقت. وعزاه الحافظ في الفتح إلى أصحاب السُّنَن، والإِمام أحمد، وقال: صحَّحه الحاكم. وقد تقدم (ص 245) في «البَيْعة على النُّصرة» من حديث جابر رضي الله عنه عند الإِمام أحمد قال: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم عُكاظ ومِجَنَّة وفي المواسم، يقول: «من يؤويني، من ينصرني، حتى أبلغ رسالة ربي وله(1/456)
الجنة؟» فلا يجد أحداً يؤويه ولا ينصره، حتى إنَّ الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر فيأتيه قومه وذو رحمة فيقولون: إحذر غلام قريش، لا يفتنكْ ويمضي بين رحالهم وهم يشيرون إليه بالأصابع. حتى بعثنا الله إليه من يقرب، فآويناه وصدَّقناه، فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويُقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم تبقَ در من دور الأنصار إلا وفيه رَهْط من المسلمين يظهرون الإِسلام ثم ائتمروا جميعاً فقلنا، حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟ فرحل إليه منا سبعون رجلاً حتى قدمنا عليه في الموسم، فواعدناه شِعْب العَقَبة، فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين حتى توافينا، فقلنا: يا رسول الله علام نبايعك؟ - فذكر الحديث. وأخرجه الحاكم وقال: صحيح الإِسناد.
حديث عروة رضي الله عنه في الباب
وأخرج الطبراني عن عروة رضي الله عنه مرسلاً قال: لما حضر الموسم حجَّ نفر من الأنصار من بني مازن بن النجار، منهم: معاذ بن عفراء، وأسعد بن زُرارة؛ ومن بني زُرَيق: رافع بن مالك، وذَكوان بن عبد القيس؛ ومن بني عبد الأشهل: أبو الهيثم بن التَّيِّهان، من بني عمرو بن عوف: عُويم بن ساعدة - رضون الله عليهم أمعين -. وأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرهم خبر الذي اصطفاه الله من نبوته وكرامته، وقرأ عليهم القرآن. فلما سمعوا قوله، أنصتوا واطمأنت أنفسهم إلى دعوته، وعرفوا ما كانوا يسمعون من أهل الكتاب من ذكرهم إيّاه بصفته وما يدعوهم إليه، فصدَّقوه وآمنوا به، وكانوا من أسباب الخير. ثم قالوا له: قد علمتَ الذي بين الأوس والخزرج من الدماء، ونحن نحبّ ما أرشد الله به أمرك، ونحن لله ولك مجتهدون، وإنا نشير عليك بما ترى، فامكث على إسم الله حتى نرجع إلى قومنا فنخبرَهم بشأنك وندعوَهم إلى الله ورسوله، فلعلّ الله(1/457)
يصلح بيننا ويجمع أمرنا، فإنا اليوم متباعدون متباغضون، فإن تَقْدَمْ علينا اليوم ولم نصطلح لم يكن لنا جماعة عليك، ونحن نواعدك الموسم من العام القابل. فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قالوا. فرجعو اإلى قومهم فدعَوهم سِرّاً، وأخبروهم برسول الله صلى الله عليه وسلم والذي بعثه الله به، ودعا عليه بالقرآن، حتى قلّ دار من دور الأنصار إلا أسلم فيها ناس لا محالة - فذكر الحديث كما تقدم (ص 187) في «دعوة مصعب بن عمير رضي الله عنه» . قال الهيثمي: فيه ابن لَهِيعة وفيه ضعف، وهو حسن الحديث؛ وبقية رجاله ثقات. انتهى.
أبيات لصِرْمة بن قيس في الباب
وأخرج الحاكم: عن يحيى بن سعيد قال: سمعت عجوزاً من الأنصار تقول: رأيت ابن عباس رضي الله عنهما يختلف إلى صِرْمة بن قيس يتعلم منه هذه الأبيات:
ثَوَى في قريشٍ بِضْع عَشْرة حَجة
يذكِّر لو ألفى صديقاً مواتيا
ويعرض في أهل المواسم نفسه
فلم يرَ من يُؤوي ولم يرَ داعيا
فلما أتانا واستقرّت به النَوَى
وأصبح مسروراً بطَيْبة راضيا
وأصبح ما يخشى ظُلامَة ظالمٍ
بعيدٍ، وما يخشى من الناس باغيا
بذلنا له الأموال من جُلِّ مالنا
وأنفسنا عند الوغى والتآسيا
نعادي الذي عادَى من الناس كلِّهم
بحق وإن كان الحبيبَ المواتيا
ونعلم أنَّ الله لا شيءَ غيره
وأن كتاب الله أصبح هادي
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم قصة عبد الرحمن بن عوف مع سعد بن الربيع(1/458)
أخرج الإِمام أحمد عن أنس أن عبد الرحمن بن عوف قدم المدينة، فآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري رضي الله عنه، فقال له سعد: أيْ أخي، أنا أكثر أهل المدينة مالاً، فانظر شَطْر مالي فُخْذه؛ وتحتي إمرأتان فانظر أيتهما أعجب إليك حتى أطلِّقَها. فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلُّوني على السوق، فدلّوه، فذهب فاشترى وباع فربح، فجاء بشيء من أقِطٍ وسمن، ثم لبث ما شاء الله أن يلبث، فجاء وعليه رَدْع زعفران. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مَهْيَمْ» ؟ فقال: يا رسول الله، تزوجت إمرأة. قال: «ما أصدقتها» ؟ قال: وَزْنَ نَواة من ذهب. قال: «أوْلم ولو بشاة» . قال عبد الرحمن: فلقد رأيتُني ولو رفعتُ حَجَراً لرجوتُ أن أصيب ذهباً وفضة. كذا في البداية. وأخرجه أيضاً الشيخان عن أنس رضي الله عنه، والبخاري من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه - كما في الإِصابة؛ وابن سعد عن أنس رضي الله عنه.
التوارث بين المهاجرين والأنصاري
وأخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان(1/459)
المهاجرون لما قدموا بالمدنية يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رَحِمِهِ للأخوّة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم.
فلما نزلت: {وَلِكُلٍ جَعَلْنَا مَوَالِىَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالاْقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَئَاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَىْء شَهِيداً} (النساء: 33) نُسخت. هكذا وقع في هذه الرواية أنَّ ناسخَ ميراث الحليف هذه الآية، وفي اللاحقة أنَّ الناسخ هو نزول: {وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ} (الأنفال: 75) - الآية، فصاروا جميعاً يرثون. وعلى هذا يُنَزَّل حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ثم نسخ ذلك آية الأحزاب وخُصّ الميراث بالعَصَبة، وبقي للمعاقد النصر والإِرفاد ونحوهما؛ وعلى هذا تنزيل بقية الآثار اهـ. وعند أحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه نحوه كما في فتح الباري. وذكر ابن سعد بأسانيد الواقدي إلى جماعة من التابعين قالوا: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة آخَى بين المهاجرين، وآخى بين المهاجرين والأنصار على المؤاساة، وكانوا يتوارثون، وكانوا تسعين نفساً بعضهم من المهاجرين وبعضهم من الأنصار - وقيل: كانوا مائة -. فلمّا نزل: {وَأُوْلُواْ الارْحَامِ} بطلت الموارث بينهم بتلك المؤاخاة. كذا في الفتح.
مأاساة الأنصار المهاجرين بأموالهم قسم الثمر ورد الأنصار معاوضةً ما أنفقوا(1/460)
أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم أقسم بيننا وبين إخواننا النخيل. قال: «لا» . فقالوا: أفتكفوننا المؤونة ونشرككم في الثمرة؟ قالوا: سمعنا وأطعنا. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار: «إنَّ إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إِليكم» ، فقالوا: أموالنا بيننا قطائع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أَوَ غير ذلك؟» قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: «هم قوم لا يعرفون العمل فتكفونهم وتقاسمونهم الثمر» . قالوا: نعم. كذا في البداية.
وأخرج الإِمام أحمد عن يزيد عن حميد عن أنس رضي الله عنه قال: قال المهاجرون: يا رسول الله، ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسنُ مواساةً في قليل، ولا أحسن بذلاً من كثير، لقد كَفَونا المؤونة وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كلِّه. قال: «لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم» . هذا حديث ثلاثيُّ الإِسناد على شرط الصحيحين، ولم يخرِّجه أحد من أصحاب الكتب الستة من هذا الوجه. كذا في البداية. أخرجه أيضاً ابن جرير، والحاكم، والبيهقي كما في كنز العمال.(1/461)
وأخرج البزار عن جابر رضي الله عنه قال: كانت الأنصار إذا جزّوا نخلهم قسم الرجل تمرة قسمين أحدُهما أقل من الآخر، ثم يجعلون السَّعَف مع أقلهما، ثم يخيِّرون المسلمين، فيأخذون أكثرهما، ويأخذ الأنصار أقلهما من أجل السَّعَف حتى فُتحت خيبر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قد وفَّيتم لنا بالذي كان عليكم، فإن شئتم أن تطيب أنفسكم بنصيبكم من خيبر ويطيب ثماركم فعلتم» . قالوا: إنَّه قد كان لك علينا شروط ولنا عليك شرط بأن لنا الجنة، فقد فعلنا الذي سألتنا بأنَّ لنا شرطنا. قال: «فذاكم لكم» قال الهيثمي رواه البزّار من طريقين وفيهما مجالِد وفيه خلاف، وبقية رجال إحداهما رجال الصحيح. انتهى.
وأخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار أن يُقطع لهم البحرين. قالوا: لا، إلا أن تقطع لإِخواننا من المهاجرين مثلها. قال: «أمّا لا، فاصبروا حتى تلقَوني، فإنه سيصيبكم أَثَرَةٌ» .
كيف قطعت الأنصار رضي الله عنهم حبال الجاهلية لتشييد حبال الإِسلام قتل كعب بن الأشرف اليهودي
أخرج البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: قال رسول(1/462)
الله صلى الله عليه وسلم «من لكعب بن الأشرف فإنّه قد آذى الله ورسوله؟» فقام محمد بن مَسْلَمة رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، أتحب أن أقتله قال: «نعم» . قال: فأذنْ لي أن أقول شيئاً. قال: «قل» . فأتاه محمد بن مَسْلَمة فقال: إنّ هذا الرجل قد سألَنا صدقة، وإنّه قد عنَّانا، وإني قد أتيتك أستسلفك. قال: وأيضاً - والله - لتَمَلُّنَّه قال: إنَّا قد اتّبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه. وقد أردنا أن تُسلِفَنا وسقاً أو وَسْقين، فقال: نعم، إرهنوني، قالوا: أي شيء تريد؟. قال: إرهنوني نساءكم، قالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ قال: فارهنوني أبناءكم. قالوا: كيف نرهنك أبناءنا؟. فيُسَبّ أحدهم فيقال رهن بوسق أو وسْقين، هذا عار علينا ولكن نرهنك اللأَمة - يعني السلاح - فواعده أن يأتيه ليلاً.
فجاءه ليلاً ومعه أبو نائلة وهو أخو كعب من الرضاعة، فدعاهم إلى الحصن فنزل إليهم. فقالت له إمرأته: أين تخرج هذه الساعة؟ فقال: إنَّما هو محمد بن مسلمة وأخي أبو نائلة - وفي رواية: قالت: أسمع صوتاً كأنه يقطر منه الدم. قال: إنما هو أخي محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة، إن الكريم لو دُعي إلى طعنة بليل لأجاب - قال: ويُدخل محمد بن مسلمة معه رجلين، فقال: إذا ما جاء فإنِّي قائل بشعره فأشَمُّهُ، فإذا رأيتموني إستمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه.
فنزل إليهم توشحاً وهو ينفخ منه ريح الطِّيب. فقال: ما رأيت كاليوم ريحاً - أي أطيب - قال: عندي أعطر نساء العرب وأكمل العرب فقال:(1/463)
أتأذن لي أن أشمَّ رأسك؟ قال: نعم. فشمّه ثم أشَمَّ أصحابه. ثم قال: أتأذن لي قال: نعم. فلمّا استمكن منه قال: دونكم، فقتلوه، ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه. وفي رواية عروة: فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله تعالى. وفي رواية ابن سعد: فلما بلغوا بَقيع الغَرْقد كبّروا، وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة يصلِّي. فلما سمع تكبيرهم كبَّر، وعرف أن قد قتلوه، ثم انتَهوا إِليه. فقال: «أفلحت الوجوه» فقالوا: ووجهك يا رسول الله. ورمَوا رأسه بين يديه، فحمد الله على قتله. وفي مرسل عكرمة: فأصبحت يهودُ مذعورين، فأتَوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: قُتل سيدنا غِيلَة. فذكَّرهم النبي صلى الله عليه وسلم صنيعه وما كان يحرِّض عليه ويؤذي المسلمين. زاد ابن سعد: فخافوا فلم ينطقوا. كذا في فتح الباري.
وعند ابن إسحاق: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مَنْ لي بابن الأشرف؟» فقال محمد بن مسلمة رضي الله عنه: أنا لك به يا رسول الله، أنا أقتله. قال: «فافعل إن قدرتَ على ذلك» . قال: فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثاً لا يأكل ولا يشرب إلا ما يُعْلِق به نفسَه. فذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعه فقال له: «لم تركتَ الطعام والشراب؟» فقال: يا رسول الله، قلت لك قولاً لا أدري هل أفي لك به أم لا. قال: «إنما عليك الجُهد» . وعنده أيضاً من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: مشى معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد، ثم وجَّههم وقال: «إنطلقوا على إسم الله اللَّهمَّ أعنهم» . كذا في البداية. وحسَّن الحافظ ابن حجر إسناد حديث ابن عباس رضي الله عنهما. كذا في(1/464)
فتح الباري.
قتل أبي رافع سَلام ابن أبي الحُقَيق
أخرج ابن إسحاق عن عبد الله بن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: وكان مما صنع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن هذين الحيَّين من الأنصار: الأوس والخزرج كانا يتصاولان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تصاولَ الفحلين، لا تصنع الأوس شيئاً فيه غَنَاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقالت الخزرج: والله لا تذهبون بهذه فضلاً علينا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينتهون حتى يُوقعوا مثلَها. وإذا فعلت الخزرج شيئاً قالت الأوس مثل ذلك. قال: ولما أصابت الأوس كعبَ بن الأشرف في عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالت الخزرج: والله لا تذهبون بها فضلاً علينا أبداً. قال: فتذاكروا مَنْ رجلٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في العداوة كابن الأشرف، فذكرا ابن أبي الحُقَيق وهو بخيبر، فاستأذنوا الرسول صلى الله عليه وسلم في قلته، فأذن لهم. فخرج من الخزرج من بني سَلِمة خمسة نفر: عبد الله بن عَتِيك، ومسعود بن سِنان، وعبد الله بن أُنيْس، وأبو قتادة الحارث بن رِبعي، وخُزاعي بن الأسود - حليف لهم من أسلَم - فخرجوا، وأمّر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عتيك، ونهاهم أن يقتلوا وليداً أو إمرأة.
فخرجوا حتى إذا قدموا خيبر أتَوا دار ابن أبي الحُقَيق ليلاً، فلم يَدَعوا بيتاً في الدار حتى أغلقوه على أهله. قال: وكان عِلَّية له إليها عَجَلة. قال: فأسندوه إليها حتى قاموا على بابه فاستأذنوا. فخرجت إليهم إمرأته(1/465)
فقالت: من أنتم؟ قالوا: أناس من العرب نلتمس المِيرَة. قالت: ذاكم صاحبكم، فادخلوا عليه. فلما دخلنا أغلقنا علينا وعليه الحجرة تَخَوّفاً أن يكن دونه مجاولة تحول بيننا وبينه. قال: فصاحت إمرأته فنوَّهت بنا فابتدرناه - وهو على فراشه - بأسيافنا، فوالله ما يدلنا عليه في سواد الليل إلا بياضه، كأنه قُبْطيّة ملقاة. قال: فلما صاحت بنا إمرأته جعل الرجل منا يرفع عليها سيفه ثم يذكر نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكفّ يده، ولولا ذلك لفرغنا منها بليل. قال: فلما ضربناه بأسيافنا تحمل عليه عبد الله بن أُنيس بسيفه في بطنه حتى أنفذه وهو يقول: قَطْني قَطْني - أي حَسْبي حَسْبي -. قال: وخرجنا - وكان عبد الله بن عتيك سيّىء البصر - فوقع من الدرجة، فوئئت يده وئئاً شديداً، وحملناه حتى نأتي به مَنْهَراً من عيونهم فندخل فيه. قال: فأوقدوا النيران واشتدوا في كل وجه يطلبوننا، حتى إذا يئسوا رجعوا إليه فاكتنفوه، وهو يقضي بينهم.
قال: فقلنا: كيف لنا بأن نعلم أن عدوَّ الله قد مات؟ قال: فقال رجل منا: أنا أذهب فأنظر لكم، فانطلق حتى دخل في الناس. قال: فوجدتها - يعني إمرأته - ورجال يهود حوله وفي يدها المصباح تنظر في وجهه وتحدِّثهم، وتقول: أما - والله - لقد سمعت صوت ابن عتيك ثم أكذبت نفسي وقلت: أنَّى ابن عتيك بهذه البلاد؟ ثم أقبلت عليه تنظر في وجهه فقالت: فاظَ، وإله يهود فما سمعت كلمة كانت ألذّ على نفسي منها. قال: ثم جاءنا فأخبرنا، فاحتملنا صاحبنا وقدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه بقتل عدو الله، واختلفنا عنده في(1/466)
قتله، كلنا يدّعيه. قال: فقال: «هاتوا أسيافكم» فجئنا به فنظر إِليها فقال لسيف عبد الله بن أُنيس: «هذا قتله، أرى فيه أثر الطعام» . كذا في البداية، وسيرة ابن هشام.
وعند البخاري عن البراء رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي رافع اليهودي رجالاً من الأنصار، وأمّر عليهم عبد الله بن عتِيك رضي الله عنه، وكان أبو رافع يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُعين عليه، وكان في حصن له بأرض الحجاز. فلما دَنوا منه - وقد غربت الشمس وراح الناس بسَرْحهم - قال عبد الله: إجلسوا مكانكم، فإني منطلق ومتلطِّف للبواب لعلِّي أن أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب، ثم تقنع بثوبه، كأنه يقضي حاجته وقد دخل الناس؛ فهتف به البواب: يا عبد الله، إن كنت تريد أن تدخل فادخل، فإني أريد أن أغلق الباب، فدخلتُ فكمنتُ. فلمَّا دخل الناس أغلق الباب، ثم علَّق الأغاليق على ودّ. قال: فقمت إلى الأقاليد وأخذتها وفتحت الباب. وكان أبو رافع يُسمَر عنده، وكان في عَلاليَّ له. فلما ذهب عنه أهل سَمَره صعدت إليه، فجعلت كلما فتحت باباً أغلَقت عليّ من داخل فقلت: إِن القومُ نذروا بي لم يخلُصوا إليّ حتى أقتله، فانتهيت إِليه فإذا هو في بيت مظلم - وَسْطَ عياله -، لا أدري أين هو من البيت. قلت: أبا رافع، قال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت فأضربه بالسيف ضربة وأنا دهش فما أغنيت شيئاً، وصاح فخرجت من البيت، فأمكث غير بعيد، ثم دخلت إليه فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟(1/467)
فقال: لأمِّك الويل إنَّ رجلاً في البيت ضربني قَبْلُ بالسيف. قال: فأضربه ضربة أثخنته ولم أقتله، ثم وضعت ظُبَةَ السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره فعرفت أني قتلته، فجعلت أفتح الأبواب باباً باباً حتى انتهيت إلى درجة له، فوضعت رجلي وأنا أرى أني قد انتهيت إِلى الأرض، فوقعت في ليلة مقمرة، فانكسرت ساقي، فعصبته بعمامة ثمَّ انطلقت، حتى جلست على الباب، فقلت: لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته. فلما صاح الديك قام الناعي على السور، فقال: أنعي أبا رافع تاجر أهل الحجاز؛ فانطلقت إلى أصحابي فقلت: النجاءَ، فقد قتل الله أبا رافع. فانتهيت إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فحدَّثته. فقال: «أبسط رجلك» فبسطت رجلي فمسحها فكأنما لم أشتكِها قط. وأخرجه البخاري أيضاً بسياق آخر، تفرّد به البخاري بهذه السياقات من بين أصحاب الكتب الستة، ثم قال: قال الزهري: قال أُبيّ بن كعب: فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر فقال: «أفلحت الوجوه» . قالوا: أفلح وجهك يا رسول الله. قال: «أفتكتموه؟» قالوا: نعم. قال: «ناولني السيف» ، فسلَّه فقال: «أجل، هذا طعامه في ذُباب السيف» . كذا في البداية.
قتل ابن شيبة اليهودي
أخرج أبو نُعيم عن بنت مُحَيِّصة عن أبيها رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه» . فوثب مُحيّصة على ابن شيبة - رجل من تجار يهود وكان يلابسهم ويبايعهم - فقتله؛ وكان حُويّصة إذ ذاك لم يسلم وكان أسنَّ من محيِّصة. فلما قتله جعل حويّصة يضربه ويقول: أي عدو الله، قتلته؟ أما - والله - لربَّ شحم في بطنك من ماله فقلت: والله، لو(1/468)
أمرني بقتلك لضربت عنقك قال: فوالله إنْ كان لأول إسلام حويِّصة. قال: والله إن أمرك محمد بقتلي لتقتلني؟ قال محيِّصة: نعم والله قال حويصة: فوالله إن دينا بلغ بك هذا إنه لعجب. كذا في كنز العمال. وأخرجه أيضاً ابن إسحاق نحوه، وفي حديثه: قال محيِّصة فقلت: والله لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لضربت عنقك وزاد في آخره: فأسلم حويِّصة. وأخرجه أيضاً أبو داود من طريقه إلا أنه اقتصر إلى قوله: «في بطنك من ماله» ؛ ولم يذكر ما بعده.
غزوات بني قينقاع وبني النضير وقريظة وما وقع من الأنصار في ذلك حديث بني قَيْنُقاع
أخرج ابن إسحاق بإسناد حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً يوم بدر مع يهود في سوق بني قينقاع، فقال: «يا يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم ما أصاب قريشاً يوم بدر» . فقالوا: إنَّهم كانوا لا يعرفون القتال، ولو قاتلتَنا لعرفتَ أنّا الرجل. فأنزل الله تعالى: {قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ} - إلى قوله - {لاِوْلِى الاْبْصَارِ} (آل عمران: 12، 13) . كذا في فتح الباري. وأخرجه أيضاً أبو داود من طريق ابن إسحاق بمعناه، وفي حديثه: قالوا: يا محمد، لا يغرَّنَّك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً(1/469)
لا يغرفون القتال؛ إنَّك لو قاتلتَنا لعرفتَ أنّا نحن الناس، وأنك لم تَلْقَ مثلنا.
وعند ابن جرير كما في التفسير لابن كثير عن الزُّهري قال: لمّا انهزم أهل بدر قال المسلمون لأوليائهم من اليهود: أسلموا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر. فقال مالك بن الصَّيف: أغرّكم أن أصبتم رهطاً من قريش لا عِلم لهم بالقتال، أما لو أسررنا العزيمة أن نستجمع عليكم لم يكن لكم يَدٌ أن تقاتلونا. فقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: يا رسول الله، إنَّ أوليائي من اليهود كانت شديدةً أنفسهم، كثيراً سلاحهم، شديدةً شوكتهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود، ولا مولى لي إلا الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبيّ: لكني لا أبرأ من ولاية يهود، إني رجل لا بدّ لي منهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا أبا الحُباب، أرأيتَ الذي نَفِسْت به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه» . فقال: إذاً أقبل. قال: فأنزل الله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآء} - إلى قوله تعالى - {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة: 15 - 67) .
وعند ابن إسحاق عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه كما في البداية: قال: لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم تشبّث بأمرهم عبد الله بن أبيّ بن سلول وقام دونهم، ومشى عبادة بن الصامت رضي الله عنه إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من بني عوف له من حلفهم مثل الذي لهم من عبد الله بن أبيّ، فخلعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، قال: يا رسول الله، أتولَّى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار(1/470)
وولايتهم. قال: وفيه وفي عبد الله نزلت الآيات من «المائدة» : {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآء بَعْضٍ} - إلى قوله - {وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} (المائدة: 51 - 56) .
حديث بني النَّضِير
أخرج ابن مردويه بإسناد صحيح إلى مَعْمَر عن الزُّهري: أخبرني عبد الله بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: كتب كفار قريش إِلى عبد الله بن أُبيّ وغيره ممن يعبد الأوثان قبل بدر يهدّدونهم بإيوائهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويتوعَّدونهم أن يغزوهم بجميع العرب، فهمّ ابن أبيّ ومن معه بقتال المسلمين، فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما كادكم أحد بمثل ما كادتكم قريش، يريدون أين تُلقوا بأسكم بينكم» فلما سمعوا ذلك عرفوا الحق فتفرَّقوا. فلما كانت وقعة بدر كتبت كفار قريش بعدها إِلى اليهود: إِنكم أهل الحَلْقة والحصون، يتهدّدونهم، فأجمع بنو النضير على الغدر، فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخرج إِلينا في ثلاثة من أصحابك ويلقاك ثلاثة من علمائنا، فإن آمنوا بك اتَّبعناك؛ ففعل. فاشتمل اليهود الثلاثة على الخناجر، فأرسلت إمرأة من بني النضير إلى أخ لها من الأنصار مسلم تخبره بأمر بني النضير، فأخبر أخوها النبي صلى الله عليه وسلم قبيل أن يصل إليهم، فرجع وصبّحهم بالكتائب فحصرهم يومه، ثم غدا على بني قريظة فحاصرهم فعاهدوه، فانصرف عنهم إلى بني النضير فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أنَّ لهم ما أقلَّت الإبل إِلا السلاح، فحتملوا حتى أبواب بيوتهم، فكانوا يخربون بيوتهم بأيديهم فيهدمونها ويحملون ما يوافقهم من خشبها، وكان جلاؤهم ذلك أول حشر الناس إلى الشام. وكذا(1/471)
أخرجه عَبْدُ بن حُمَيد في تفسيره عن عبد الرزاق، وفي ذلك ردَّ على ابن التين في زعمه أنه ليس في هذه القصة حديث بإسناد. كذا في فتح الباري. وأخرجه أيضاً أبو داود من طريق عبد الرزاق عن مَعْمَر بطوله مع زيادة؛ وعبد الرزاق، وابن منذر، والبيهقي في الدلائل كما في بذل المجهود عن الدر المنثور.
وأخرج البيهقي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حاصرهم حتى بلغ منهم كل مبلغ، فأعطوه ما أراد منهم، فصالحهم على أن يحقن لهم دماءهم، وأن يخرجهم من أرضهم ومن ديارهم وأوطانهم، وأن يُسيِّرهم إلى أذْرِعات الشام، وجعل لكل ثلاثة منهم: بعيراً وسِقاء. وأخرج أيضاً عن محمد بن مسلمة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى بني النَّضير وأمره أن يؤجلهم في الجلاء ثلاثة أيام. كذا في التفسير لابن كثير. وعند ابن سعد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم محمد ابن مسلمة رضي الله عنه: «أن أخرجوا من بلدي، فلا تساكنوني بعد أن هممتم بما هممتم به من الغدر، وقد أجلتكم عشراً» . كذا في الفتح.(1/472)
حديث بني قريظة
وأخرج الإِمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجت يوم الخندق أقفوا الناس، فسمعت وئيد الأرض ورائي، فإذا أنا بسعد بن معاذ ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل مِجَنَّة. قالت: فجلست إِلى الأرض، فمرَّ سعد وعليه دِرْعٌ من حديث قد خرجت منها أطرافه، فأنا أتخوف على أطراف سعد. قالت: وكان سعد من أعظم الناس وأطولهم، فمرّ وهو يرتجز ويقول:
لبّثْ قليلاً يدرك الهيجا جَمَلْ
ما يحسن الموت إذا حان الأجلْ
قالت: فقمت فاقتحمت حديقة، فإذا نفر من المسلمين، فإذا فيها عمر بن الخطاب وفيهم رجل عليه سَبْغة له - تعني المِغْفر - فقال عمر: ما جاء بك؟ والله إنك لجريئة، وما يؤمنك أن يكون بلاء أو تَحوُّز، فما زال يلومني حتى تمنّيت أن الأرض فتحت ساعتئذٍ فدخلت فيها. فرفع الرجل السبغة عن وجهه فإذا هو طلحة بن عبيد الله: فقال: يا عمر، ويحكم إنك قد أكثرتَ منذ اليوم، وأين التحوّز أو الفرار إلا إلى الله عزّ وجلّ. قالت: ويرمي سعداً رجل من قريش يقال له ابن العَرِقة وقال: خذها وأنا ابن العرقة، فأصاب أكْحَلة فقطعه؛ فدعا الله سعدٌ فقال: اللَّهمَّ لا تمتني حتى تقرّ عيني من بني قريظة. قالت: وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية. قالت: فرقأ كَلْمة، وبعث الله الريح على المشركين وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً.
فلحق أبو سفيان ومن معه بتِهامة، ولحق عُيَينة بن بدر ومن معه بنجد، ورجعت بنو قريظة فتحصّنوا في صاصيهم، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى المدينة، وأمر بقبة من أدَم فضُربت على سعد في المسجد. قالت: فجاء جبريل عليه السلام وإن على ثناياه لَنَقْعُ الغبار فقال: (أقد وضعتَ السلاح؟(1/473)
لا، والله ما وضعت الملائكة السلاح، بعد، أخرج إلى بني قريظة فقاتلهم) قالت: فلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم لأُمَتَه، وأذَّن في الناس بالرحيل أن يخرجوا؛ فمرّ على بني غَنْم - وهم جيران المسجد حوله - فقال: «من مرّ بكم؟» قالوا: مرّ بنا دحية الكلبي - وكان دحية الكلبي تشبه لحيته وسنّه ووجهه جبرائيل عليه السلام - فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم خمساً وعشرين ليلة. فلما اشتد حَصْرُهم واشتد البلاء قيل لهم: أنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشاروا أبا لُبابة بن عبد المنذر، فأشار إليهم إنَّه الذَّبْح. قالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنزلوا على حكم سعد بن معاذ» . فأُتِيَ به على حمار عليه إكاف من ليف، قد حُمل عليه وحفَّ به قومه. فقالوا: يا أبَا عمرو، حلفاؤك ومواليك وأهل النِكاية ومن قد علمت. قالت: ولا يَرجِع إليهم شيئاً، ولا يلتفت إليهم، حتى إذا دنا من دورهم التفت إلى قومه، فقال: قد آن لي أن لا أبالي في الله لومة لائم. قالت: قال أبو سعيد رضي الله عنه: فلما طلع قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم «قوموا إِلى سيِّدكم فأنزلوه» . قال عمر: سيدنا الله. قال: «أنزِلوه» ، فأنزَلوه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أحكم فيهم» . قال سعد: فإني أحكم فيهم أن تُقتل مقاتِلَتُهم. وتُسبى ذراريهم، وتُقسم أموالهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله» . ثم دعا سعد فقال: اللَّهمَّ إِن كنت أبقيتَ على نبيك من حرب قريش شيئاً فأبقني لها.
وإن
كنتَ قطعتَ الحرب بينه وبينهم فأقبضني إليك. قالت: فانفجر كَلْمه، وكان قد برىء حتى لا يُرى منه إلا مثلُ الخُرْص، ورجع إلى قبّته التي ضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت عائشة: فحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وعمر. قالت: فوالذي نفس محمد بيده، إني لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر وأنا في حُجْرتي، وكانوا كما قال الله: {رُحَمَآء بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29) . قال علقمة فقلت: يا أُمَّهْ، فكيف كان(1/474)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع؟ قالت: كانت عينه لا تدمع على أحد ولكنه كان إذا وجِدَ، فإنما هو آخذ بلحيته. وهذا الحديث إسناده جيد، وله شواهد من وجوه كثير. كذا في البداية. وأخرجه ابن سعد عن عائشة رضي الله عنها مثله. وقال الهيثمي رواه أحمد وفيه: محمد بن عمرو بن علقمة وهو حسن الحديث، بقية رجاله ثقات. انتهى. وقال الحافظ في الإِصابة: حديث صحيح، صحّحه ابن حبان. انتهى. وأخرجه أيضاً أبو نعيم بطوله كما في الكنز. وقد زاد بعد هذا الحديث عدة أحاديث من طريق محمد بن عمرو، وهذا في فضائل سعد بن معاذ رضي الله عنه.
وعند ابن جرير في تهذيبه كما في كنز العمال عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم بكى وبكى أصحابه حين توفي سعد بن معاذ رضي الله عنه. قلت: وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتد وَجْده فإنَّما هو آخذ بلحيته. قالت عائشة رضي الله عنها: وكنت أعرف بكاء أبي من بكاء عمر. وعند الطبراني عن عائشة رضي الله عنها قالت: رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جنازة سعد بن معاذ ودموعه تَحَادَر على لحيته. قال الهيثمي: وسهل أبو حريز ضعيف.(1/475)
فخر الأنصار رضي الله عنهم بالعزة الدينيّة
أخرج أبو يَعلى، والبزار، والطبراني: - ورجالهم رجال الصحيح - كما قال الهيثمي عن أنس رضي الله عنه قال: افتخر الحيّان الأوس والخزرج. فقالت الأوس: منا غسيل الملائكة حنظلة بن الراهب، ومنا من اهتز له العرش سعد بن معاذ، منا من حمته الدَّبْر عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، ومنا من أجيزت شهادته بشهادة رجلين خُزيمة بن ثابت رضوان الله عليهم أجمعين. وقالت الخزرجيون: منا أربعة جمعوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجمعه غيرهم؛ زيد بن ثابت، وأُبيّ بن كعب، معاذ بن جبل، وأبو زيد، رضوان الله عليهم أجمعين. وأخرجه أيضاً أبو عَوانة، وابن عساكر وقال: هذا حديث حسن صحيح كما في المنتخب.
صبر الأنصار عن اللّذات الدنيوية والأمتعة الفانية والرضاء بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم قصة الأنصار في فتح مكة
أخرج الإِمام أحمد عن عبد الله بن رَبَاح رضي الله عنه قال: وفدت وفود إلى معاوية أنا فيهم وأبو هريرة ذلك في رمضان: فجعل بعضنا يصنع لبعض الطعام. قال: وكان أبو هريرة يكثر ما يدعونا. قال هاشم: يكثر أن يدعونا إلى رحله. قال: فقلت؛ ألا أصنع طعاماً فأدعوهم إلى رَحْلي؟ قال: فأمرتُ بطعام يُصنع،(1/476)
فلقيت أبا هريرة من العِشاء؛ قال: قلت: يا أبا هريرة الدعوة عندي الليلة. قال: أسبقتني قال هاشم: قلت: نعم. فدعوتهم فهم عندي. فقال أبو هريرة: ألا أعلمكم بحديث من حديثكم يا معشر الأنصار؟ قال: فذكر فتح مكة. قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل مكة. قال: فبعث الزبير على أحد المجنَّبَتَيْن، وبعث خالد على المجنَّبة الأخرى، وبعث أبا عبيدة على الحُسَّر، وأخذوا بطن الوادي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته؛ وقد وبَّشَت قريش أوباشها. قال: قالوا: نُقدِّم هؤلاء، فإن كان لهم شيء كنّا معهم، وإن أصيبوا أعطيناه الذي سَأَلَنا. قال أبو هريرة: فنظر، فرآني فقال: «يا أبا هريرة» : فقلت: لبيك رسول الله، فقال: «إهتفْ لي بالأنصار، ولا يأتيني إِلا أنصاري» . فهتفت بهم، فجاؤوا فأطافوا برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أترون إِلى أوباش قريش وأتباعهم؟» ثم قال بيديه إحداها على الأخرى: «إحصدوهم حصداً حتى توافوني بالصَّفا. قال: فقال أبو هريرة: فانطلقنا فما يشاء واحد منا أن يقتل منهم ما شاء، وما أحد منهم يوجِّه إلينا منهم شيئاً. قال: فقال أبو سفيان: يا رسول الله، أبيحت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أغلق بابه فهو آمن، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» . قال: فغلَّق الناس أبوابهم. قال: وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحَجَر فاستلمه، ثم طاف بالبيت. قال: وفي يده قوس آخذ بسِيَة القوس. قال: فأتى في طوافه على صنم إلى جنب البيت يعبدونه. قال:
فجعل
يطعن بها في عينه ويقول: {وَقُلْ جَآء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (الإسراء: 81) قال: ثم أتى الصَّفا فعلاه(1/477)
حيث ينظر إلى البيت، فرفع يديه فجعل يذكر الله بما شاء أن يذكره ويدعوه. قال: والأنصار تحت. قال: يقول بعضهم لبعض: أمَّا الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته. قال أبو هريرة: وجاء الوحي، وكان إذا جاء لم يخفَ علينا، فليس أحد من الناس يرفع طَرْفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقضي. قال هاشم: فلما قضى الوحيُ رفع رأسه، ثم قال: «يا معشر الأنصار، أقلتم أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته؟» قالوا: قلنا ذلك يا رسول الله، قال: «فما إسمي إذاً، كلا إني عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم والممات مماتكم» . قال: فأقبلوا إليه يبكون ويقولون: والله ما قلنا الذي قلنا إلا الضنَّ بالله ورسوله. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله ورسوله يصدِّقانِكم ويَعذِرانِكم» . وقد رواه مسلم، والنسائي من حيث أبي هريرة. نحوه. كذا في البداية. وأخرجه ابن أبي شيبة مختصراً كما في الكنز.
قصة الأنصار في غزوة حنين وما قاله صلى الله عليه وسلم في صِفَتهم
وأخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: لما كان يوم حُنين أقبلت هوازن وغَطفان وغيره بنَعَمهم وذراريهم، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف والطلقاء، فأدبروا عنه حتى بقي وحده. فنادى يومئذٍ ندائَين لم يخلط بينها،(1/478)
إلتفت عن يمينه فقال: «يا معشر الأنصار» قالوا: لبيك يا رسول الله، إبشر نحن معك، ثم التفت عن يساره فقال: «يا معشر الأنصار» فقالوا: لبيك يا رسول الله، أبشر نحن معك - وهو على بغلة بيضاء - فنزل، فقال: «أنا عبد الله ورسوله» ، فانهزم المشركون، وصاب يومئذٍ مغانم كثيرة، فقسم بين المهاجرين والطلقاء ولم يعطِ الأنصار شيئاً. فقالت الأنصار: إذا كانت شديدة فنحن نُدعى، ويُعطي الغنيمة غيرنا. فبلغه ذلك فجمعهم في قبة فقال: «يا معشر الأنصار، ما حديث بلغني؟ فسكتوا. فقال: يا معشر الأنصار، ألا ترضونَ أن يذهب الناس بالدنيا، وتذهبون برسول الله تحوزونه إلى بيوتكم» . قالوا؛ بلى. فقال: «لو سلك الناس وادياً وسلكت الأنصار شِعباً لسلكت شِعْب الأنصار» . قال هشام: قلت: يا أبا حمزة وأنت شاهد ذلك. قال: وأين أغيب عنه. كذا في البداية. وأخرجه أيضاً ابن أبي شيبة، وابن عساكر بنحوه كما في الكنز.
وعند ابن إسحاق من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم النائم يوم حُنين، وقسم للمتألِّفين من قريش وسائل العرب ما قسم، ولم يكن في الأنصار منها شيء قليل ولا كثير - وجَدَ هذا الحيُّ من الأنصار في أنفسهم حتى قال قائلهم: لقي - والله - رسول الله صلى الله عليه وسلم قومَه. فمشى سعد بن عبادة رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وَجَدوا عليك في أنفسهم. فقال: «فيم؟» قال: فيما كان من قَسْمك هذه الغنائم في قومك وفي سائر العرب، لم يكن فيهم(1/479)
من ذلك شيء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فأين أنت من ذلك يا سعد؟» قال: ما أنا إلا أمرؤ من قومي. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة، فإذا اجتمعوا فأعلمني» . فخرج سعد فصرخ فيه، فجمعهم يتلك الحظيرة. فجاء رجال من المهاجرين فأذن لهم، فدخلوا، وجاء آخرون فردّهم، حتى إذا لم يبقَ من الأنصار أحد إلا اجتمع له أتاه فقال: يا رسول الله، قد اجتمع لك هذا الحيُّ من الأنصار حيث أمرتني أن أجمعهم.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام فيهم خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: يا معشر الأنصار، ألم آتكم ضُلالاً فهداكم الله؛ وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألَّف الله بين قلوبكم؟» قالوا: بلى. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا تجيبون يا معشر الأنصار؟» قالوا: وما نقول يا رسول الله؟ وبماذا نجيبك؟ المنّ لله ولرسوله. قال: «والله، لو شئتم لقلتُم فصدَقْتُم وصُدِّقْتُم: جئتنا طريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك، خائفاً فأمنّاك، مخذولاً فنصرناك» . فقالوا: المنّ لله ولرسوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أَوَجَدتم في نفوسكم يا معشر الأنصار في لُعاعة من الدنيا تألَّفت بها قوماً أسلموا، ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإِسلام؟ أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاء والبعير، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفسي بيده، لو أن الناس سلكوا شِعباً، وسلكت الأنصار شِعباً لسلكتُ شِعْب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت أمرأَ من الأنصار، اللَّهمّ إرحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار» . قال: فبكى القوم حتى أخْضَلوا لحاهم، وقالوا: رضينا بالله رباً، ورسوله قِسْماً، ثم انصرف وتفرّقوا. وهكذا رواه الإِمام أحمد من حديث ابن إسحاق ولم يروه أحد من أصحاب الكتب من هذا الوجه وهو صحيح. كذا في البداية. وقال(1/480)
الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح غير محمد بن إسحاق، وقد صرح بالسماع - انتهى. وأخرجه أيضاً ابن أبي شيبة من حديث أبي سعيد رضي الله عنه - بطوله بمعناه كما في الكنز. وأخرج البخاري شيئا من هذا السياق من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه كما في البداية؛ وبن أبي شيبة أيضاً كما في الكنز.
وأخرج الطبرني من حديث السائب بن يزيد رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم الفيء الذي أفاء الله بحُنين من غنائم هوازن، فأحسن، فأفشى في أهل من قريش وغيرهم، فغضبت الأنصار. فلما سمع بذلك النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في منازلهم، ثم قال: «من كان ها هنا من الأنصار فليخرج إلى رحله» . ثم تشهَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله عزّ وجلّ، ثم قال: «يا معشر الأنصار: قد بلغني من حديثكم في هذه المغانم التي آثرت بها أُناساً أتألّفهم على الإِسلام لعلهم أن يشهدوا بعد اليوم، وقد أدخل الله قلوبهم الإِسلام، ثم قال: يا معشر الأنصار، ألم يمنّ الله عليكم بالإِيمان، وخصَّكم بالكرامة، وسماكم بأحسن الأسماء أنصارَ الله وأنصارَ رسوله؟ ولولا الهجرة لكنت أمرأً من الأنصار، ولو سلك الناس وادياً وسلكتم وادياً لسلكت واديكم؛ أفلا ترضَوْن أن يذهب الناس بالشاء والنعم والبعير، وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما سمعت الأنصار قول رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: رضينا. قال: أجيبوني فيما قلت. قالت(1/481)
الأنصار: يا رسول الله، وجدتَنا في ظلمة فأخرجنا الله بك إلى النور، ووجدتنا على شَفا حفرة من النار فأنقذنا الله بك، ووجدتنا ضُلالاً فهدانا الله بك؛ قد رضينا بالله رباً، وبالإِسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، فاصنع يا رسول الله ما شئت في أوسع الحِلِّ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «والله لو أجبتموني بغير هذا القول لقلت: صدقتم. لو قلتم: ألم تأتنا طريداً فآويناك، ومكذَّباً فصدَّقناك، وقبلنا ما ردَّ الناس عليك؟ لو قلتم هذا لصُدِّقْتُم» . فقال الأنصار: بل لله ولرسوله المنّ، ولرسوله المنّ والفضل علينا وعلى غيرنا. ثم بكوا، فكثر بكاؤهم وبكى النبي صلى الله عليه وسلم معهم. قال الهيثمي: وفيه رُشْدِين بن سعد، وحديثه في الرِقاق ونحوها حسن، وبقية رجاله ثقات. انتهى.
وأخرج البخاري أيضاً من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال ناس من الأنصار حين أفاء الله على رسوله ما أفاء من أموال هوازن، فطفق النبي صلى الله عليه وسلم يعطي رجالاً المائة من الإِبل. فقالوا: يغفرُ لله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشاً ويتركنا، وسيوفنا تقطُر من دمائهم؟ قال أنس بن مالك: فحُدِّث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم، فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قُبة أَدَم لم يَدْع معهم غيرهم. فلما اجتمعوا قام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما حديث بلغني عنكم؟» فقال فقهاء الأنصار: أما رؤساؤنا - يا رسول الله - فلم يقولوا شيئاً، وأما ناس منا حديثة أسنانهم فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فإني لأعطي رجالاً حديثي عهد بكفر أتألَّفهم، أما ترضون أن يذهب لنس بالأموال، وتذهبون بالنبي إِلى رحالكم؟ فوالله لَمَا تنقلبون به خير مما ينقلبون به» . قالوا: يا رسول الله، قد رضينا. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «فستجدون أَثَرَة شديدة، فاصبروا حتى تلقَوا الله ورسولَه، فإنِّي على الحوض. قال أنس: فلم يصبروا. وعند أحمد أيضاً من حديث أنس:(1/482)
قال: «أنتم الشِّعار والناس الدِّثار. أما ترضَوْن أن يذهب الناس بالشاء والبعير وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دياركم؟» قالو: بلى. قال: «الأنصار كَرِشي وعَيْبتي، لو سلك الناس وادياً وسلكتِ الأنصار شِعباً لسلكتُ شعبهم، ولولا الهجرة لكنت أمرأً من الأنصار» . كذا في البداية.
صفة الأنصار رضي الله عنهم
أخرج العسكري في الأمثال عن أنس رضي الله عنه قال: قُدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال من البحرين، فتسامعت به المهاجرون والأنصار. فغَدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر حديثاً طويلاً، وفيه: وقال للأنصار: «إنكم - ما علمتُ - تكثرون عند الفزع، وتقلّون عند الطمع» . كذا في كنز العمال.
وأخر البزار عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة رسول الله صلى الله عليه وسلم «إقرأ قومك السلام، وأخبرهم أنهم ما علمتهم أعِفَّةٌ صُبُرٌ» : قال الهيثمي وفيه محمد بن ثابت البُناني وهو ضعيف. وسيأتي ذلك من وجه آخر عن أنس. وأخرجه أبو نُعيم عن أنس رضي الله عنه كما في الكنز. قال دخل أبو طلحة رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم في شكواه الذي قُبض فيه. فقال: «إقرأ قومك السلام، فإنهم أعِفَّةٌ صُبُرٌ» . وأخرج الحاكم وقال: صحيح الإِسناد، ولم يخرِّجاه. ووفقه الذهبي فقال: صحيح.(1/483)
ما قاله صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ عند موته
وأخرج ابن سعد عن عبد الله بن شدّاد رضي الله عنه يقول: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على سعد بن معاذ رضي الله عنه - وهو يكيد بنَفْسه - فقال: «جزاك الله خيراً من سيد قوم، فقد أنجزت الله ما وعدته، وليُنْجِزَنَّك الله ما وعدك» . وأخرج الإِمام أحمد، والبزار عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما يضر إمرأةً نزلت بين بيتين من الأنصار، أو نزلت بين أبويها» . قال الهيثمي: رجالهما رجال الصحيح.
إكرام الأنصار رضي الله عنهم وخدمتهم إكرامه صلى الله عليه وسلم الأنصار وقصة أسيد بن حضير معه
أخرج ابن عدي، والبيهقي، وابن عساكر عن أنس رضي الله عنه قال: جاء أُسيد بن حضير رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان قسم طعاماً، فذكر له أهل بيت من الأنصار من بني ظَفَر فيهم حاجة، وجُلّ أهل ذلك البيت نِسوة. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «تركتنا - يا أُسيد - حتى ذهب ما في أيدينا، فإذا سمعت بشيء قد جاءنا، فاذكر لي أهل ذلك البيت» . فجاءه بعد ذلك طعام من خيبر شعيراً وتمراً، فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، وقسم في الأنصار وأجزل، وقسم في أهل ذلك البيت فأجزل. فقال أُسيد بن حضير متشكِّراً: جزاك الله أيْ نبي الله أطيب الجزاء - أو قال: خيراً - فقال النبي صلى الله عليه وسلم «وأنتم معشر الأنصار، فجزاكم الله أطيب الجزاء - أو قال: خيراً، فإنكم ما علمت أعِفَّة صُبُرٌ، وسترون بعدي أَثَرَة في الأمر والقَسْم، فاصبروا حتى تلقَوني على الحوض» . كذا في(1/484)
كنز العمال. وأخرجه الحاكم أيضاً في المستدرك، وقال: هذا حديث صحيح الإِسناد، ولم يخرِّجاه. وقال الذهبي: صحيح اهـ.
وعند الإِمام أحد عن أُسيد بن حضير رضي الله عنه قال: أتاني أهل بيتين من قومي أهل بيت من ظَفَر وأهل بيت من بني معاوية، فقالوا: كلِّم لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقسم لنا أو يُعطينا أو نحو هذا، فكلمته، فقال: «نعم، أقسم لكل واحد منهم شطراً، فإن عاد الله علينا عدنا عليه» . قال: قلت: جزاك الله خيراً يا رسول الله. قال: «وأنتم فجزاكم الله خيراً؛ فإنكم ما علمتكم أعِفَّةٌ صُبُرٌ، إنكم ستلقون أَثَرَة بعدي» . فلما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قسم بين الناس فبعث إِليّ منها بحُلّة، فاستصغرتها. فبينا أنا أصلي إذ مرّ بي شاب من قريش عليه حُلَّة من تلك الحلل يجرّها، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنكم ستلقَون أَثَرَةً بعدي» فقلت: صدق الله ورسوله؛ فانطلق رجل إلى عمر رضي الله عنه فأخبره. فجاء وأنا أصلِّي فقال: صلِّ يا أسيد. فلما قضيت صلاتي قال: كيف قلت؟ فأخبرته. فقال: تلك حُلَّة بعثت بها إلى فلان وهو بدريّ أحديّ عَقَبيّ، فأتاه هذا الفتى فابتاعها منه، فلبسها، فظننت أن ذلك يكون في زماني؟ قال قلت: قد - والله - يا أمير المؤمنين، ظننت أن ذلك لا يكون في زمانك. قال الهيثمي: رواه الإِمام أحمد، ورجاله ثقات إلا أن ابن إسحاق مدلِّس وهو ثقة اهـ.(1/485)
قصة محمد بن مسلمة مع عمر رضي الله عنهما
وأخرج ابن عساكر عن محمد بن مسلمة رضي الله عنه قال: توجَّهت إلى المسجد فرأيت رجلاً من قريش عليه حُلّة، فقلت: من كساك هذه؟ قال: أمير المؤمنين. قال: فجاوزت فرأيت رجلاً من قريش عليه حُلَّة، فقلت: من كساك هذه؟ قال: أمير المؤمنين. قال: فدخل المسجد فرفع صوته بالتكبير، فقال: الله أكبر، صدق الله ورسوله الله أكبر، صدق الله ورسوله قال: فسمع عمر رضي الله عنه صوته، فبعث إليه أن إئتني. فقال: حتى أصلِّي ركعتين، فردَّ عليه الرسول يعزم عليه لمَّا جاء. فقال محمد بن مسلمة رضي الله عنه: وأنا أعزم على نفسي أن لا آتيه حتى أصلِّي ركعتين، فدل في الصلاة. وجاء عمر رضي الله عنه فقعد إلى جنبه. فلما قضى صلاته قال: أخبرني عن رفعك صوتَك في مصلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير، وقولك: صدق الله ورسوله ما هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين، أقبلتُ أريد المسجد فاستقبلني فلان بن فلان القرشي عليه حُلّة؛ قلت: من كساك هذه؟ قال: أمير المؤمنين. فجاوزت فاستقبلني فلان بن فلان القرشي عليه حُلّة قلت: من كساك هذه؟ قال: أمير المؤمنين، فجاوزت فاستقبلني فلان بن فلان الأنصاري عليه حُلَّة دون الحلتين فقلت من كساك هذه؟ قال: أمير المؤمنين.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أما إنكم سترون بعدي أثرة» ، وإني لم أحَبَّ أن تكون على يديك يا أمير المؤمنين: قال: فبكى عمر رضي الله عنه ثم قال أستغفر الله ولا أعود. قال: فما رُؤي بعد ذلك اليوم فَضَّلَ رجلاً من قريش على رجل من الأنصار. كذا في كنز العمال.
إكرامه عليه السلام لسعد بن عبادة رضي الله عنه
وأخرج ابن عساكر عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: دخل سعد بن عبادة رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم معه إبنه فسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ها هنا وها هنا» ، وأجلسه عن يمينه، وقال: «مرحباً بالأنصار، مرحباً(1/486)
بالأنصار» وأقام إبنه بين يديه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إجلس» فجلس فقال: «إدنُ» فدنا فقبَّل يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلَه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «وأنا من الأنصار وأن من فراخ الأنصار» . فقال سعد رضي الله عنه: أكرمك الله كما أكرمتنا. فقال: «إنَّ الله أكرمكم قبل كرامتي، إنكم ستلقَون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقَوني على الحوض» . وفيه عاصم بن عبد العزيز الأشجعي. قال الخطيب: ليس بالقوي: كذا في كنز العمال. وكذا قال النِّسائي؛ والدارقطني. وقال البخاري: فيه نظر، قلت: روى عنه علي بن المديني، ووثَّقه معن القزّاز. كذا في الميزان.
خدمة جرير أنساً رضي الله عنهما
وأخرج البغوي، والبيهقي، وابن عساكر، عن أنس رضي الله عنه قال: كان جرير معي في سفر، فكان يخدمني، فقال: إني رأيت الأنصار تصنع برسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، فلا أرى أحداً منهم إلا خدمته. كذا في كنز العمال.
نزول أبي أيوب الأنصاري على ابن عباس وخدمته له
وأخرج الرُوياني، وابن عساكر عن حبيب بن أبي ثابت أن أبا أيوب أتى معاوية فشكا عليه أن عليه ديناً، فلم يرَ منه ما يحبُّ ورأى ما يكرهه. فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنكم سترون بعدي أثَرة» . قال: فأيُّ شيء قال لكم؟ قال: «أصبروا» قال: فاصبروا، فقال: والله لا أسألك شيئاً أبداً. فقدم البصرة فنزل على ابن عباس رضي الله عنهما ففرّغ له بيته وقال: لأصنعنّ بك كما صنعتَ برسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر أهله فخرجوا، وقال: لك ما في البيت كلُّه(1/487)
وأعطاه أربعين ألفاً. وعشرين مملوكاً. كذا في كنز العمال. وأخرجه أيضاً الحاكم من طريق مُقَسِّم - فذكره بمعناه، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإِسناد، لم يخرِّجاه. قال الذهبي: صحيح.
وأخرجه الطبراني أيضاً كما في المجمع، وفي حديثه: فأتى عبدَ الله بن عباس رضي الله عنها بالبصرة، وقد أمَّره عليها عليّ رضي الله عنه. فقال: يا أبا أيوب، إني أريد أن أخرج لك عن مسكني كما خرجت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر أهله فخرجوا، وأعطاه كل شيء أغلق عليه الدار. فلما كان إنطلاقه قال: حاجتَك. قال: حاجتي عطائي وثمانية أعبد يعملون في أرضي، وكان عطاؤه أربعة آلاف فأضعفها له خمس مرات فأعطاه عشرين ألفاً، وأربعين عبداً. قال الهيثمي: ذكر الحديث - أي الطبراني - بإسنادين، ورجال أحدهما رجال الصحيح، إلا أن حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من أبي أيوب رضي الله عنه. قلت: وأخرجه الحاكم أيضاً من طريق حبيب بن أبي ثابت هذا، فزاد بعده: عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما - فذكر الحديث بسياق الطبراني بطوله، ثم قال قد تقدَّم هذا الحديث بإسناد متصل صحيح، وأعدتُه للزيادات فيه بهذا الإِسناد. انتهى.
سعي ابن عباس في قضاء حاجة الأنصار عند الوالي
وأخرج الحاكم: عن عبد الرحمن بن أبي الزِّناد عن أبيه وعبد الله بن(1/488)
فضل بن عباس بن أبي ربيعة بن الحارث أن حسان بن ثابت رضي الله عنه قال: إنا معشر الأنصار طلبنا إِلى عمر أو إلى عثمان - شك ابن أبي الزِّناد - فمشينا بعبد الله بن عباس رضي الله عنهما وبنفر معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلّم ابن عباس وتكلّموا، وذكروا الأنصار ومناقبهم، فاعتلَّ لوالي. قال حسان: وكان أمراً شديداً طلبناه. قال: فما زال يراجعهم حتى قاموا وعذَروه إلا عبد الله بن عباس فإنه قال: لا والله، ما للأنصار من منزل، لقد نصروا وآوَوا وذكر من فضلهم وقال: إنَّ هذا لشاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمنافح عنه، فلم يزل يراجعه عبد الله بكلام جامع يسدّ عليه كل حاجة، فلم يجد بداً من أن قضى حاجتنا. قال: فخرجنا وقد قضى الله عزّ وجلّ حجتنا بكلامه، فأنا آخذ بيد عبد الله أُثني عليه وأدعو له، فمررت في المسجد بالنفر الذين كانوا معه فلم يبلغوا ما بلغ، فقلت حيث يسمعون: إنّه كان أولاكم بنا قالوا: أجل. فقلت لعبد الله؛ إنها - والله - صُبابة النبوّة، ووراثة أحمد صلى الله عليه وسلم كان أحقكم بها. قال حسان - وأنا أشير إلى عبد الله -:
إذا قال لم يترك مقالاً لقائل
بملتفظات لا يُرى بينها فصلا
كفى وشفى ما في الصدور فلم يدع
لذي إربة في القول جداً ولا هزلا
سموتَ إلى العليا بغير مشقَّة
فنلت ذراها لا دَنِيا لا وَعْلا
وأخرجه أيضاً الطبراني عن حسان بن ثابت رضي الله عنه كما في مجمع الزوائد بنحوه، وفي حديثه: إنه - والله - كان أولادكم بها، إنَّها - والله - صُبابة النبوة، ووراثة أحمد صلى الله عليه وسلم ويهديه أعراقه وانتزاع شِبه طباعه. فقال القوم؛ أجمِلْ يا حسان، فقال ابن عباس رضي الله عنهما صدقوا، فأنشأ يمدح ابن عباس رضي الله عنهما فقال:(1/489)
إذا ما ابن عباس بدا لك وجهه
رأيتَ له في كل مجمعة فضلاً
ثم ذكر الأشعار الثلاثة المذكورة، ثم زاد بعدها:
خُلقت حليفاً للمروءة والنَّدَى
بليغاً ولم تخلق كَهاماً ولا حَلا
فقال الوالي: والله ما أراد بالكهام غيري، والله بيني وبينه.
الدعاء للأنصار رضي الله عنهم دعاء النبي عليه السلام للأنصار وما قاله فيهم أبو بكر في بعض خطبه
أخرج الإِمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: شقّ على الأنصار النواضح، فاجتمعوا عند النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يكري لم نهراً سَحّاً، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «مرحباً بالأنصار، مرحباً بالأنصار، مرحباً بالأنصار. لا تسلوني اليوم شيئاً إلا أعطيتكموه؛ ولا أسأل الله لكم شيئاً إلا أعطانيه» فقال بعضهم لبعض: إغتنموها وسلوه المغفرة؛ قالوا: يا رسول الله إدع لنا بالمغفرة. فقال: «اللَّهمّ إغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولأبناء أبناء الأنصار» . وفي رواية: «ولأزواج الأنصار» . قال الهيثمي: رواه الإِمام أحمد، والبزار بنحوه، وقال: «مرحباً بالأنصار» ثلاثاً. والطبراني في الأوسط والصغير والكبير بنحوه، وقال: «وللكنائن» . وأحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح. انتهى.(1/490)
عند البزّار، والطبراني عن رفاعة بن رافع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللَّهمَّ إغفر للأنصار ولذراري الأنصار، ولذراري ذراريهم وجيرانهم» . قال الهيثمي: ورجالهما رجال الصحيح غير هشام بن هارون وهو ثقة. انتهى. وعند الطبراني عن عوف الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللَّهمَّ إغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولموالي الأنصار» . قال الهيثمي: وفيه من لم أعرفهم. انتهى. وعند البزّار عن عثمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قول: «الإِيمان يمان، الإِيمان في قحطان، والقسوة في ولد عدنان، حِمْيَر رأس العرب ونابُها، ومَذْحِج همتها وعِصمتها، والأزد كاهلها وجمجمتها، وهَمْدان غاربها
وذِروتها اللَّهمَّ أعزُّ الأنصار الذين أقام الله الدين بهم، الذين آوَوْني، ونصروني، وحَمَوني، وهم أصحابي في الدنيا وشيعتي في الآخرة، وأول من يدخل الجنة من أمتي» قال الهيثمي: وإسناده حسن. انتهى. وأخرج ابن أبي الدنيا في الأشراف كما في الكنز عن عثمان بن محمد بن الزبيري قال: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في بعض خطبه: نحن - والله - والأنصار كما قال:
جزى الله عنا جعفراً حين أشرقت
بنا نعلنا للواطئين فزَّلتِ
أبَوا يملُّونا ولو أن أمَّنا
تُلاقي الذي يلْقَون منَّا لمَلَّتِ(1/491)
إيثار الأنصار رضي الله عنهم في أمر الخلافة قوله عليه السلام في قريش
أخرج الإِمام أحمد، وابن جرير بإسناد حسن عن حُميد بن عبد الرحمن الحِميري قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه في طائفة المدينة، فجاء فكشف عن وجهه، فقال: فدىً لك أبي وأمي ما أطيبك حيّاً وميّتاً مات محمد وربِّ الكعبة. وانطلق أبو بكر، وعمر رضي الله عنهما يتقاودان حتى أتوهم. فتكلم أبو بكر فلم يترك أبو بكر شيئاً فأُنزل في الأنصار، ولا ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنهم إلا ذكره. وقال: لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو سلك الناس وادياً وسلكت الأنصار وادياً لسلكت وادي الأنصار» ولقد علمتَ - يا سعد - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - وأنت قاعد -: «قريش ولاة هذا الأمر، فبَرُّ الناس تبعٌ لبَرِّهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم» . فقال له سعد رضي الله عنه: صدقت. نحن الوزراء وأنتم الأمراء. كذا في الكنز. وقال الهيثمي: رواه الإِمام أحمد - وفي الصحيح طرف من أوله -، ورجاله ثقات إلا أنَّ حُميد بن عبد الرحمن لم يدرك أبا بكر. انتهى.(1/492)
قصة سقيفة بني ساعدة
وأخرج الطيالسي، وابن سعد وابن أبي شيبة، والبيهقي وغيرهم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قام خطباء الأنصار، فجعل الرجل منهم يقول: يا معشر المهاجرين إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذ استعمل رجلاً منكم قرن معه رجلاً منا، فنرى أن يلي هذا الأمر رجلان أحدهما منكم والآخر منا؛ فتتابعت خطباء الأنصار على ذلك. فقام زيد بن ثابت رضي الله عنه فقال: إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين وإن الإِمام يكون من المهاجرين، ونحن أنصاره كما كنّا أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال: جزاكم الله يا معشر الأنصار خيراً، وثبّت قائلكم؛ ثم قال: أما - والله - لو فعلتم غير ذلك لما صالحناكم. ثم أخذ زيد بن ثابت بيد أبي بكر فقال: هذا صاحبكم فبايعوه. فذكر الحديث كما في كنز العمال. وقال الهيثمي: رواه الطبراني، وأحمد ورجاله رجال الصحيح. انتهى. وأخرجه الطبراني عن أبي طلحة رضي الله عنه - بنحوه كما في الكنز.
وأخرج ابن سعد، وابن جرير عن القاسم بن محمد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما توفي اجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة رضي الله عنه. فأتاهم أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم، فقام حُباب بن المنذر رضي الله عنه(1/493)
- وكان بدرياً - فقال: منَّا أمير ومنكم أمير، فإنّا - والله - ما نَنْفَس هذا الأمر عليكم أيها الرهط، ولكنّا نخاف أن يليه أقوام قتلنا آباءهم وإخوتهم. فقال له عمر رضي الله عنه: إِذا كان ذلك فمُتْ إن استطعت؛ فتكلم أبو بكر رضي الله عنه فقال: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، وهذا الأمر بيننا وبينكم نصفين كقدِّ الأُبْلُمة - يعني الخوصة - فبايع أولُ الناس بشيرُ بن سعد أبو النعمان رضي الله عنه. فلما اجتمع الناس على أبي بكر قسم بين الناس قَسْماً، فبعث إلى عجوز من بني عدي بن النجار قَسْمها مع زيد بن ثابت رضي الله عنه، فقالت: ما هذا؟ قال: قَسْم قسمه أبو بكر للنساء. فقال أتراشوني عن ديني. فقالوا: لا. فقالت: أتخافون أن أدَعَ ما أنا عليه؟ فقالوا: لا. فقالت: فوالله لا آخذ منه شيئاً أبداً. فرجع زيد إلى أبي بكر فأخبره بما قالت: فقال أبو بكر: ونحن لا نأخذ مما أعطيناها شيئاً أبداً. كذا في كنز العمال.(1/494)
باب الجهاد تحريض النبي صلى الله عليه وسلم وترغيبه على الجهاد وإنفاق الأموال خروج النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر واستشارته الصحابة وأقوالهم رضي الله عنهم
أخرج بن أبي حاتم، وابن مردويه - واللفظ له - عن أبي عمران أنه سمع أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ ونحن بالمدينة -: «إني أُخبرت عن عِير أبي سفيان أنَّها مقبلة؛ فهل لكم أن نخرج قِبَل هذه العير لعلّ الله يُغَنِّمنَاها؟» فقلنا: نعم. فخرج وخرجنا. فلما سرنا يوماً أو يومين قال لنا: «ما ترون في القوم فإنهم قد أُخبروا بمخرجكم؟» فلنا: لا - والله - ما لنا طاقة بقتال القوم، ولكنا أردنا العير. ثم قال: «ما ترون في قتال القوم؟» فقلنا مثل ذلك. فقام المقداد بن عمرو رضي الله عنه فقال: إذاً لا نقول لك - يا رسول الله - كما قال قوم وموسى لموسى عليه السلام: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلآ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (المائدة: 24) . قال: فتمنّينا - معشر الأنصار - لو أنّا قلنا مثل ما قال المقداد أحبّ إِلينا من أن يكون لنا مال عظيم فأنزل الله عزّ وجلّ على رسوله: {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقّ وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَِّرِهُونَ} (الأنفال: 5) - وذكر تمام الحديث. كذا في البداية وقد ذكره بتمامه في مجمع الزوائد؛ ثم قال:: رواه البزّار بتمامه، والطبراني ببعضه وفيه: عبد العزيز(2/7)
بن عمران وهو متروك. انتهى.
وقد أخرج الإِمام أحمد كما في البداية عن أنس رضي الله عنه قال: إستشار النبي صلى الله عليه وسلم مَخْرَجه إِلى بدر، فأشار عليه أبو بكر رضي الله عنه، ثم استشارهم فأشار عليه عمر رضي الله عنه، ثم استشارهم فقال بعض الأنصار: إياكم يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم يا معشر الأنصار، فقال بعض الأنصار: يا رسول الله، إذاً لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: «إذهب أنت وربك فقاتلا إِنا ها هنا قاعدون» ، ولكن - والذي بعثك بالحق - لو ضربت أكبادها إلى برك الغِماد لاتَّبعناك. قال ابن كثير: هذا إسناد ثلاثي صحيح على شرط الصحيح.
وعند الإِمام أحمد أيضاً من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان. قال: فتكلّم أبو بكر رضي الله عنه فأعرض عنه، ثم تكلّم عمر رضي الله عنه فأعرض عنه. فقال سعد بن عبادة رضي الله عنه: إيّانا يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده، لو أمرتنا أن نخيضها البحار لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا» ، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس. كذا في البداية. وأخرجه ابن عساكر أيضاً عن أنس بنحوه كما في كنز العمال.
وأخرج ابن مَرْدَويْه عن علقمة بن وقَّاص الليثي رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر حتى إذا كان بالرَّوْحاء خطب الناس فقال: «كيف ترون؟» فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، بَلَغنا أنهم بكذا وكذا. قال ثم خطب الناس فقال: «كيف ترون؟» فقال عمر رضي الله عنه مثل قول أبي(2/8)
بكر. ثم خطب الناس فقال: «كيف ترون؟» فقال سعد بن معاذ رضي الله عنه: يا رسول الله إيانا تريد، فوالذي أكرمك وأنزل عليك الكتاب ما سلكتها قط، ولا لي بها علم، ولئن سرت حتى تأتي بَرك الغِماد من ذي يَمَنٍ لنسيرن معك، ولا نكون كالذين قالوا لموسى عليه السلام: «إذهب أنت وربك فقاتلا إِنّا ها هنا قاعدون» ولكن إذهب أنت وربك فقاتلا إنّا معكم متَّبعون، ولعلَّ أن تكون خرجت لأمر وأحدث الله إليك غيره، فانظر الذي أحدث الله إليك فامضِ، فصِلْ حبالَ من شئتَ، واقطع حبال من شئتَ، وعاد من شئتَ، وسالم من شئتَ؛ وخذ من أموالنا ما شئت. فنزل القرآن على قول سعد رضي الله عنه: {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقّ وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَِّرِهُونَ} (الأنفال: 5) - الآيات. وذكر الأمويُّ في مغازيه، وزاد بعد قوله: وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منَّا كان أحب إِلينا ممّا تركت، وما أمرت به من أمر فأمرنا تبع لأمرك، فوالله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غُمْدان لنسيرن معك. كذا في البداية.
وذكره ابن إسحاق وفي سياقه: قال سعد بن معاذ رضي الله عنه: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله، قال: «أجل» . قال: فقد آمنّا بك، وصدَّقناك، وشهدنا أنَّ ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك، فامضِ - يا رسول الله - لما أردت فنحن معك، فالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضتَه لخضناه معك، ما تخلّف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقَى بنا عدونا غداً. إنا لصُبُرٌ في الحرب، صُدْقٌ عند اللقاء، لعل الله يُرِيك منا ما تقرُّ به عينك، فسِرْ على بركة الله. فسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشّطه، ثم قال: «سيروا وأبشروا؛ فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله، لكأنِّي الآن أنظر إلى مصارع القوم» كذا في البداية.(2/9)
ترغيبه صلى الله عليه وسلم في الجهاد قبل المعركة وقول عمير بن الحمام رضي الله عنه
وأخرج الإِمام أحمد عن أنس رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بُسْبُساً عيناً ينظر ما صنعتْ عير أبي سفيان، فجاء وما في البيت أحد غيري وغير النبي صلى الله عليه وسلم ـ قال: لا أدري ما استثني من بعض نسائه - قال فحدّثه الحديث. قال: فخرج رسول الله فتكلّم فقال: «إنَّ لن طَلِبَة، فمن كان ظَهْره حاضراً فليركب معنا» . فجعل رجال يستأذنونه في ظهورهم في عُلْو المدينة. قال: «لا، إلا من كان ظهره حاضراً» . وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى سبقوا المشركين إِلى بدر، وجاء المشركون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يتقدمّنّ أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه» ، فدنا المشركون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض» . قال: يقول عُمير بن الحُمام والأنصاري رضي الله عنه: يا رسول الله، جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: «نعم» . قال: بَخٍ بَخٍ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما يحملك على قول: بَخٍ بَخٍ؟» قال: لا والله يا رسول الله، إلا رجاءَ أن أكون من أهلها قال: فإنَّك من أهلها. قال فأخرج تمرات من قَرْنه، فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه، إنها حياة طويلة. قال: فرمى ما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قُتل - رحمه الله -. ورواه مسلم أيضاً كذا في البداية. وأخرجه البيهقي أيضاً بطوله: والحاكم مختصراً.
وعند ابن إسحاق: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فحرَّضهم وقال:(2/10)
«والذي نفس محمد بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً، مقبلاً غير مدبر؛ إلا أدخله الله الجنة» . قال عمير بن الحُمام رضي الله عنه - أخو بني سَلِمة وفي يده تمرات يأكلهنَّ -: بَخٍ، بَخٍ أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء؟ قال: ثم قذف التمرات من يده، وأخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل. وقد ذكر ابن جرير: أن عميراً قاتل وهو يقول:
رَكْضاً إلى الله بغير زادِ
إلا التُقى وعملِ المعادِ
والصبرِ في الله على الجهاد
وكلّ زادٍ عُرضةُ النفاد
غيرُ التقى والبرّ والرشادِ
كذا في البداية.
قصة تبوك وما أنفق الصحابة في ذلك من والأموال
وأخرح ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خروجه من الطائف بستة أشهر، ثم أمره الله بغزوة تبوك، وهي التي ذكر الله في ساعة العسرة، وذلك في حرّ شديد، وقد كثر النفاق كثر أصحاب الصُّفَّة - والصُّفَّة بيت كان لأهل الفاقة يجتمعون فيه، فتأتيهم صدقة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين. وإذا حضر غزو عمد المسلمون إليهم فاحتمل الرجلُ الرجلَ أو ما شاء الله بشبعه؛ فجهزوهم وغزَوا معهم واحتسبوا عليهم - فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بالنفقة في سبيل الله والحِسبة؛ فأنفقوا إحتساباً. وأنفق رجال غير محتسبين، وحُمل رجال من فقراء المسلمين وبقي أُناس، وأفضل ما تصدّق به يومئذٍ أُحد عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه. تصدّق بمائتين أوقية، وتصدّق عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمائة أوقية، وتصدقّ عامر الأنصاري رضي الله عنه بتسعين وَسْقاً من تمر. وقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، إني لا أرى عبد الرحمن إلا قد احْتَوَب ما ترك لأهله شيئاً. فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم «هل(2/11)
تركت لأهلك شيئاً؟» قال: نعم، أكثر ممّا أنفقت وأطيب. قال: «كم؟» قال: ما وعد الله ورسوله من الرزق والخير. وجاء رجل من الأنصار يقال له أبو عقيل رضي الله عنه بصاع من تمر فتصدّق به. وعمد المنافقون حين رأَوا الصدقات يتغامزون، فإذا كنت صدقة الرجل كثيرة تغامزوا به وقالوا: مرائي. وإذا تصدّق رجل بيسير تمر من طاقته قالوا: هذا أحوج إلى ما جاء به. فلما جاء أبو عقيل بصاع من تمر قال: بِتُّ ليلتي أجرُّ بالجرير على صاعَين، والله ما كان عندي من شيء غيره - وهو يعتذر وهو يستحيي -، فأتيت بأحدهما وتركت الآخر لأهلي. فقال المنافقون: هذا أفقر إلى صاعه من غيره، وهم في ذلك ينتظرون أن يُصيبوا من الصدقات غنيهم وفقيرهم.
فلما أزف خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثروا الإستئذان، وشكَوا الحرّ، وخافوا - زعموا - الفتنة إِن غزَو ويحلفون بالله على الكذب. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأذن لهم لا يدري ما في أنفسهم، وبنى طائفة منهم مسجد النفاق يرصدون به الفاسق أبا عامر - وهو عند هرقل قد لحق به وكنانة بن عبد ياليل، وعلقمة بن عُلاثة العامري - وسورة «براءة» تنزل في ذلك أرسالاً، ونزلت فيها آية ليست فيها رخصة لقاعد. فلما أنزل الله عزّ وجلّ: {انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً} (براءة: 41) ، إشتكى الضعيف الناصح لله ولرسوله والمريض والفقير إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: هذا الأمر لا رخصة فيه. وفي المنافقين ذنوب مستورة لم تظهر حتى كان بعد ذلك، وتخلَّف رجال غير مستيقنين ولا ذوي علَّة. ونزلت هذه السورة بالبيان والتفصيل في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تخبر بنبأ من اتَّبعه حتى بلغ تبوك. فبعث منها علقمة بن مُجَزِّر المُدْلجي رضي الله عنه إلى فلسطين، وبعث خالد بن الوليد إلى دُومة الجندل: فقال: أسرعْ لعلَّك أن تجده خارجاً يتقنَّص، فتأخذه؛(2/12)
فوجده فأخذه.
وأرجف المنافقون في المدينة بكل خبر سوء، فإذا بلغهم أنَّ المسلمين أصابهم جَهْد وبلاء تباشروا به وفرحوا وقالوا: قد كنَّا نعلم ذلك ونحذر منه، وإذا أُخبروا بسلامة منهم وخير حزنوا. وعرف ذلك منهم فيهم كل عدو لهم بالمدينة، فلم يبقَ أحد من المنافقين أعرابي ولا غيره إلا استخفى بعمل خبيث ومنزلة خبيثة، واستعلن، ولم يبق ذو علَّة إلا وهو ينظر الفَرَج فيما ينزل الله في كتابه، ولم تزل سورة «براءة» تنزل حتى ظنَّ الناس بالمؤمنين الظنون، وأشفقوا أن لا ينفلت منهم كبير ولا صغير أذنب في شأن التوبة قط ذنباً إلا أُنزل فيه أمر بلاء حتى انقضت. وقد وقع بكل عامل تبيان منزلته من الهدى والضلالة. انتهى. وذكره في كنز العمال عن ابن عساكر وابن عابد - بطوله.
إستئذان الجدّ بن قيس عن الغزو وما قاله عليه السلام له وما نزل فيه من القرآن
وأخرج البيهقي من طريق ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم أنه قال: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج في وجه من مغازيه إلا أظهر أنه يريد غيره؛ غير أنه في غزوة تبوك قال: «يا أيها الناس، إنِّي أريد الروم، فأعلمهم، وذلك في زمان من البأس، وشدة الحرّ، وجدب من البلاد، وحين كانت الثمار، والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم ويكرهون الشخوص عنها. فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم في جَهازه ذلك قال للجَدّ بن قيس: «يا جدّ، هل لك في جِلاد بني الأصفر؟» فقال: يا رسول الله، إئذن لي ولا تفتنِّي، لقد علم(2/13)
قومي أنَّه ليس من أحد أشدّ عجباً بالنساء مني، وإني أخاف إن رأيت نساء بني الأصفر أن يَفْتِنَّني، فأْذن لي يا رسول الله، فأعرض عنه وقال: «قد أذنت لك» . فأنزل الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لّي وَلاَ تَفْتِنّى أَلا فِى الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ} (التوبة: 49) ، يقول ما وقع فيه من الفتنة بتخلّفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورغبته بنفسه عن نفسه (أعظم) ما يخاف من فتنة نساء بني الأصفر: «وإن جهنم لمحيطة بالكافرين» يقول لِمَنْ ورائه. وقال رجل من جملة المنافقين: لا تنفروا في الحر، فأنزل الله تعالى: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} (التوبة: 81) . قال: ثم إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جدّ في سفره، وأمر الناس بالجهاد، وحضّ أهل الغنى على النفقة والحُملان في سبيل الله. فحمل رجال من أهل الغنى وأحسنوا؛ وأنفق عثمان رضي الله عنه في ذلك نفقة عظيمة لم ينفق أحد أعظم منها، وحمل على مائتي بعير. كذا في التاريخ لابن عساكر وأخرجه البيهقي السِيَر عن عروة رضي الله عنه مختصراً. وذكره في البداية عن ابن إسحاق عن الزُّهري ويزيد ابن رومان، وعبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن عمر - بنحوه.
وأخرجه الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج إلى غزوة تبوك قال للجدّ بن قيس: «ما تقول في مجاهدة بني الأصفر؟» قال: يا رسول الله، إِنِّي أمرؤ صاحب نساء، ومتى أرى نساء بني الأصفر أفتتن، أفتأذن لي في الجلوس ولا تَفْتِنِّي؟ فأنزل الله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لّي وَلاَ تَفْتِنّى أَلا فِى الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ} (التوبة: 49) . قال الهيثمي: وفيه يحيى(2/14)
الحِمَّاني وهو ضعيف.
بَعْثه عليه السلام الصحابة للإستنفار في سبيل الله إلى القبائل وإلى مكة
وذكر ابن عساكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إِلى القبائل وإلى مكة يستنفرهم إلى عدوّهم، فبعث بُرَيدة بن الحُصَيب رضي الله عنه إلى أسْلَمَ وأمره أن يَبْلغ الفُرْع، وبعث أبا رُهْم الغِفاري رضي الله عنه إلى قومه وأمره أن يطلبهم ببلادهم، وخرج أبو واقد الليثي رضي الله عنه في قومه، وخرج أبو جعد الضَّمري رضي الله عنه في قومه بالساحل، وبعث رافع بن مَكِيث وجند بنَ مكِيث رضي الله عنهما إلى جُهَينة، وبعث نُعَيم بن مسعود رضي الله عنه إلى أشْجَعَ، وبعث في بني كعب بن عمرو عِدَّةً، وهم: بُدَيل بن ورقاء، وعمرو بن سالم، وبِشر بن سفيان رضي الله عنهم، وبعث في سُلَيم عهدْةً، منهم العباس بن مرداس رضي الله عنه.
إنفاق الصحابة رضي الله عنهم المال في غزوة تبوك
وحضَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين على الجهاد ورغَّبهم فيه، وأمرهم بالصدقة. فحملوا صدقات كثيرة، وكان أولَ من حمل أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فجاء بماله كله؛ أربعة آلاف درهم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «هل أبقيت لأهلك شيئاً؟» فقال: الله ورسوله أعلم. ثم جاء عمر رضي الله عنه بنصف ماله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل أبقيت لأهلك شيئاً؟ قال: نعم، نصف ما جئت به. وبلغ عمر ما جاء به أبو بكر الصديق، فقال: ما استبقنا(2/15)
إلى خير قط إلا سبقني إليه. وحمل العباس بن عبد المطلب، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم مالاً، وحمل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه إليه مائتي أوقية، وحمل سعد بن عُبادة رضي الله عنه إِليه مالاً، وكذلك محمد بن مَسْلمة رضي الله عنه، وتصدَّق عاصم بن عدي رضي الله عنه بتسعين وَسْقاً تمراً، وجهّز عثمان بن عفّان رضي الله عنه ثلث ذلك الجيش، وكان من أكثرهم نفقة حتى كفى ثلث ذلك الجيش مؤونتهم؛ حتى إِنْ كان ليُقال ما بقيت لهم حاجة، حتى كفاهم إِشفي أسقيتهم؛ فيقال إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذٍ: «ما يضر عثمانَ ما فعل بعد هذا» .
ورغب أهل الغنى في الخير والمعروف واحتسبوا في ذلك الخير، وقوي ناس دون هؤلاء من هو أضعف منهم، حتى إنَّ الرجل ليأتي بالبعير إلى الرجل والرجلين فيقول: هذا البعير بينكما تعتقبانه، ويأتي الرجل بالنفقة فيعطيها بعض من يخرج، حتى إنْ كنّ النساءُ ليُعِنَّ بكل ما قَدَرْن عليه. لقد قالت أم سِنَان الأسلمية رضي الله عنها: لقد رأيت ثوباً مبسوطاً بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة رضي الله عنها فيه؛ مَسَكٌ، ومعاضِدُ، وخلاخلُ، وأقُرِطةٌ، وخواتيمُ، وقد مُلىء ممَّا بعث من النساء يُعِنَّ به المسلمين في جهَازهم، والناس في عُسْرة شديدة وحين طابت الثمار وأُحبّت الظِّلال، فالناس يحبُّون المقام ويكرهون الشخوص عنها على الحال من الزمان الذي هم عليه. وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإنكماش والجدِّ، وضرب رسول الله عسكره بثَنِيَّة الوَداع، والناس كثير لا يجمعهم كتاب؛ قلَّ رجل يريد أن يتغيّب إلا ظَنَّ أن ذلك سيخفَى له ما لم ينزل فيه وحيٌ من الله.(2/16)
فلما استمرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم سفره وأجمع السير، إستخلف على المدينة سِباع بن عُرْفُطة الغِفاري - ويقال محمد بن مَسْلمة رضي الله عنهما - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أستكثروا من النِّعال، فإنَّ الرجل لا يزال راكباً ما دام متنعِّلاً» . فلمَّا سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلَّف ابن أُبيّ عنه فيمن تخلَّف من المنافقين، وقال: يغزو محمد بني الأصفر مع جَهْد الحال والحرّ والبلد البعيد إلى ما لا قبل له به يحسب محمد أن قتال بني الأصفر اللعب؟ ونافق من هو معه على مثل رأيه. ثم قال ابن أُبيّ: والله، لكأنِّي أنظر إلى أصحابه غداً مُقَرَّنين في الحبال - إِرجافاً برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه -. فلمَّا رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثنيّة الوَداع إِلى تبوك وعقد الألوية والرايات دفع لواءه الأعظم إلى أبي بكر، ورايته العظمى إلى الزبير، ودفع راية الأوس إِلى أُسَيد بن الحُضَير؛ ولواء الخزرج إلى أبي دُجَانة ويقال إلى الحُباب بن المنذر رضوان الله عليهم أجمعين. وكان الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثين ألفاً، ومن الخيل عشرة آلاف فرس، وأمر كل بَطْن من الأنصار أن يتَّخذ لواءه ورايته، والقبائل من العرب فيها الراياتُ والألوية. انتهى بحذف يسير.
إهتمامه صلى الله عليه وسلم ببَعْث أسامة رضي الله عنه في مرض وفاته وشدة إهتمام أبي بكر رضي الله عنه بذلك في أول خلافته بَعْث أسامة وانتداب الأوّلين فيه وإنكاره صلى الله عليه وسلم على من طعن في تأميره أسامة
أخرج ابن عساكر من طريق الزُّهري عن عُرْوة عن أسامة بن زيد رضي(2/17)
الله عنهما: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يُغير على أهل أُبْنَى صباحاً وأن يحرِّق. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسامة: «إمضِ على إسم الله» . فخرج بلوائه معقوداً، فدفعه إلى بُرَيدة بن الحُصَيب الأسلمي، فخرج به إلى بيت أُسامة. وأمرت أُسامة فعسكر بالجُرف، وضرب عسكره في موضع سقاية سليمان اليوم. وجعل الناس يأخذون بالخروج؛ فيخرج من فرغ من حاجته إلى معسكره، ومن لم يقضِ حاجته فهو على فراغ. ولم يبق أحد من المهاجرين الأوَّلين إلا انتُدب في تلك الغزوة: عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة، وسعد بن أبي وقاص، وأبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، في رجال المهاجرين. والأنصار عِدَّة: قتادة بن النعمان، وسَلَمة بن أسلم بن حريش رضي الله عنهم.
فقال رجال من المهاجرين - وكان أشدهم في ذلك قولاً عيَّاش بن أبي ربيعة -: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأولين فكثرت القالة في ذلك. فسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعض ذلك القول، فردَّه على من تكلم به، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بقول من قال، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً - وقد عصب على رأسه بعصابة وعليه قطيفة - ثم صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أما بعد أيها الناس: فما مقالةٌ بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة؟ فوالله لئن طَعَنتم في إمارتي أسامة، لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله. وايْمُ الله، إنْ كان للإِمارة لخَليق، وإنَّ ابنه من بعده لخليق بالإِمارة. وإِنْ كان لأحبَّ الناس إِليّ، وإِنَّ هذا لمن أحب الناس إليّ، وإنهما لمخيَّلان لكل خير، فاستوصوا به خيراً، فإنه من خياركم. ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بيته وذلك يوم السبت لعشر ليالٍ خَلَون من ربيع الأول.(2/18)
وجاء المسلمون الذين سيخرجون مع أسامة رضي الله عنه يودّعون رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أنْفِذوا بَعْث أُسامة» . ودخلت أم أيمن رضي الله عنها فقالت: أيْ رسول الله، لو تركتَ أُسامة يقيم في معسكره حتى تَماثل، فإن أُسامة إن خرج على حاله هذه لم ينتفع بنفسه.
فقالت: «أَنفِذُوا بَعْثَ أُسامة» . فمضى الناس إلى المعسكر فباتوا ليلة الأحد، ونزل أُسامة يوم الأحد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ثقيل مَغْمور وهو اليوم الذي لَدُّوه فيه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيناه تهملان وعنده العباس والنساء حوله، فطأطأ عليه أُسامة فقبَّله - ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتكلّم -، فجعل يرفع يديه إلى السماء، ويصبُّهما على أُسامة. قال أُسامة: فأعرف أنَّه كان يدعو لي. قال أُسامة: فرجعت إلى معسكري. فلما أصبح يوم الإِثنين غدا من معسكره وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم مُفيقاً، فجاءه أُسامة، فقال: «أُغْدُ على بركة الله» فودّعه أُسامة ورسول الله صلى الله عليه وسلم مفيق، وجعل نساؤه يتماشطن سروراً براحته. ودخل أبو بكر رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله، أصبحت مُفيقاً بحمد الله، واليومُ يوم إبنة خارجة، فأُذنْ لي، فأذن له، فذهب إلى السُّنْح وركب أُسامة إلى معسكره، وصاح في أصحابه باللحوق إلى العسكر، فانتهى إلى معسكره، ونزل وأمر الناس بالرحيل وقد مَتَع النهار.
وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ودخول الصحابة المدينة
فبينا أُسمة يريد أن يركب من الجُرف أتاه رسول أُم أيمن رضي الله عنها - وهي أُمه - تخبره أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يموت، فأقبل أُسامة إلى المدينة ومعه عمر، وأبو عبيدة، فانتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يموت، فتوفي عليه السلام حين زاغت الشمس يوم الإِثنين لإثنتي عشرة ليلةً خَلَت من ربيع الأول. ودخل(2/19)
المسلمون الذين عسكروا بالجُرْف إلى المدينة، ودخل بُرَيدة بن الحُصَيب رضي الله عنه بلواء أُسامة معقوداً حتى أتى به باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغرزه عنده. فلمَّا بُويع لأبي بكر أمر بُرَيدة أن يذهب باللواء إلى بيت أُسامة ولا يَحُلّه أبداً حتى يغزو بهم أُسامة. قال بريدة: فخرجت باللواء حتى انتهيت به إلى بيت أُسامة، ثم خرحت به إلى الشام معقوداً مع أُسامة، ثم رجعت به إلى بيت أُسامة، فما زال معقوداً في بيته حتى توفي.
إصرار أبي بكر رضي الله عنه على بَعْث أسامة إمتثالاً لأمره عليه السلام
فلما بلغ العربَ وفاةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتد من ارتد منها عن الإِسلام؛ قال أبو بكر لأسامة: (انفُذ في وجهك الذي وجَّهك فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ الناس بالخروج وعسكروا في موضعهم الأول، وخرج بُرَيدة باللواء حتى انتهى إلى معسكرهم الأول. فشقَّ ذلك على كبار المهاجرين الأوَّلين، ودخل على أبي بكر، عمر، وعثمان، وأبو عبيدة، وسعد بن أبي وقاص، سعيد بن زيد رضي الله عنهم، فقالوا: يا خليفة رسول الله، إنّ العرب قد انتقضت عليك من كل جانب، وإنَّك لا تصنع بتفريق هذا الجيش المنتشر شيئاً، إجعلهم عدّة لأهل الردّة ترمي بهم في نحورهم، وأُخرى: لا نأمن على أهل المدينة أن يُغار عليها وفيها الذراري والنساء، ولو تأخرت لغزو الروم حتى يضرب الإِسلام بجِرَانه، ويعود أهل الرّدة إلى ما خرجوا منه أو يُفنيهم السيف، ثم تبعث أسامة حينئذٍ فنحن نأمن الروم أن تزحف إلينا.
فلما استوعب أبو بكر كلامهم قال: هل منكم أحد يريد أن يقول شيئاً؟ قالوا: لا، قد سمعتَ مقالتنا. فقال: والذي نفسي بيده، لو ظننتُ أنَّ السِباع تأكلني بالمدينة لأنفذت هذا البَعْث، ولا بد أن يؤوب منه، كيف ورسول الله(2/20)
صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي من السماء يقول: أنفِذوا حيش أسامة ولكن خصلة أكلّم بها أسامة، أكلِّمه في عمر يقيم عندنا فإنّه لا غنى بنا عنه؛ والله ما أدري يفعل أسامة أم لا، والله إن أبى لا أكرهه. فعرف القوم أن أبا بكر قد عزم على إِنفاذ بعث أسامة.
ومشى أبو بكر إلى أسامة في بيته وكلّمه في أن يترك عمر، ففعل، وجعل يقول له؛ أذنتَ ونفسك طيبة؟ فقال أسامة: نعم. قال: فخرج، وأمر مناديه ينادي: عَزْمةٌ مني أن لا يتخلَّف عن أسامة مِنْ بَعْثه مَنْ كان انتدب معه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنِّي لن أُوتي بأحد أبطأ عن الخروج معه إلا ألحقته به ماشياً. وأرسل إلى النَّفر من المهاجرين الذين كانوا تكلموا في إِمارة أسامة، فغلَّظ عليهم وأخذهم بالخروج، فلم يتخلَّف إنسان واحد.
وخرج أبو بكر يُشيِّعُ أسامة والمسلمين، فلما ركب من الجُرف في أصحابه وهم ثلاثة آلاف رجل، وفيهم ألف فرس، فسار أبو بكر إلى جنب أسامة ساعة ثم قال: (أستودُع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاك، فانفُذ لأمر لأمر رسول الله، فإني ليست آمرك ولا أنهاك عنه، إنا أن مُنَفِّذ لأمْر أمَر به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فخرج سريعاً فوطىء بلاداً هادئة لم يرجعوا عن الإِسلام مثل جُهَينة وغيرها من قُضاعة. فلما نزل وادي القُرى قدَّم عيناً له من بني عُذْرة يدعى حُرَيثاً، فخرج على صدر رحلته أمامه فغزا حتى انتهى إلى أبنى، فنظر إلى ما هناك وارتاد الطريق، ثم رجع سريعاً حتى لقي أسامة على مسيرة ليلتين من أُبْنى، فأخبره أنَّ الناس غارُّون ولا جموع لهم، وأمره أن يسرع السير قبل أن تجتمع الجموع، وأن يشنّها غارة. كذا في مختصر(2/21)
ابن عساكر. وقد ذكره في كنز العمال عن ابن عساكر من طريق الواقدي عن أسامة رضي الله عنه. وأشار إليه الحافظ في فتح الباري.
إستئذان أسامة للرجوع إلى المدينة وإنكار أبي بكر عليه وقصته مع عمر في هذا
وأخرج بن عساكر أيضاً عن الحسن بن أبي الحسن قال: ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعْثاً قبل وفاته على أهل المدينة ومن حولهم، وفيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأمَّر عليهم أسامة بن زيد رضي الله عنه، فلم يجاوز آخرهم الخندق حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف أسامة بالناس، ثم قال لعمر: إرجع إلى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنه؛ يأذن لي فليرجع الناس، فإنَّ معي وجوههم وحدَّهم، ولا آمن على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وَثَقَل رسول الله وأثقال المسلمين أن يتخطفهم المشركون. وقالت الأنصار: فإن أبى إلا أن نمضي فأبلغه عنَّا واطلب إليه أن يولِّي أمرنا رجلاً أقدم سِنّاً من أسامة. فخرج عمر بأمر أسامة، فأتى أبا بكر فأخبره بما قال أسامة. فقال أبو بكر: لو اختطفتني الكلاب والذئاب لم أردَّ قضاءً قضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فإن الأنصار أمروني أن أبْلِغك أنهم يطلبون إليك أن تولِّي أمرهم رجلاً أقدم سنّاً من أسامة، فوثب أبو بكر - وكان جالساً - فأخذ بلحية عمرَ وقال: ثكلتك أمك وعدمتك يا ابن الخطاب إستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أنزِعه؟ فخرج عمر إلى الناس؛ فقالوا له: ما صنعت؟ فقال: أمضوا ثكلتكم أمهاتكم، ما لقيت في سببكم اليوم من خليفة رسول الله.(2/22)
مشايعة أبي بكر جيش أسامة
ثم خرج أبو بكر حتى أتاهم فأشجعهم وشيّعهم، وهو ماش وأسامة راكب، وعبدا لرحمن بن عوف يقود دابة أبي بكر رضي الله عنهم، فقال له أسامة: يا خليفة رسول الله، لتركبنّ أو لأنزلنّ، فقال: والله لا تنزل، ووالله لا أركب؛ وما عليّ أن أغبِّر قدميَّ ساعة في سبيل الله، فإنَّ للغازي بكل خطوة يخطوها سبع مائة حسنة تكتب له، وسبع مائة درجة ترفع له، وتُمحى عنه سبع مائة خطيئة حتى إذا انتهى. قال له: إنْ رأيت أن تعينني بعمر بن الخطاب فافعل، فأذن له. كذا في مختصر ابن عساكر، وكنز العمال. وذكره في البداية عن سَيْف عن الحسن مختصراً.
إنكار أبي بكر على المهاجرين والأنصار إذ كلموه في إمساك جيش أسامة
وأخرج ابن عساكر أيضاً عن عروة قال: لما فرغوا من البَيْعة واطمأن الناس، قال أبو بكر لأسامة: (إمضِ لوجهك الذي بعثك له رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكلَّمه رجال من المهاجرين والأنصار وقالوا: أمسك أسامة وبَعْثه، فإنَّ نخشى أن تميل علينا العرب إِذا سمعوا بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر - وكان أحزمَهم أمراً -: أنا أحبس جيشاً بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد اجترأت على أمر عظيم والذي نفسي بيده، لأن تميل عليّ العرب أحبُّ إليَّ من أن أحبس جيشاً بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إمضِ يا أسامة في جيشك للوجه الذي أمرت به، ثم أغزُ حيث أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم من ناحية فلسطين، وعلى أهل مؤتة، فإنَّ الله سيكفي ما تركت، ولكن إنْ رأيتَ أن تأذن لعمر بن الخطاب فأستشيره وأستعين به، فإنه ذو رأي ومناصح للإِسلام، فافعل، ففعل أُسامة. ورجع عامة العرب عن دينهم، وعامة أهل المشرق وغَطَفان وبنو أسد، وعامة أشْجَع،(2/23)
وتمسك طيّء بالإِسلام.
وقال عامة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أمسك أُسامة وجيشه، ووجّهْهم إلى من ارتد عن الإِسلام من غَطَفان وسائر العرب. فأبى أبو بكر أن يحبس أسامة وجيشه، وقال: إنكم قد علمتم أنه قد كان من عَهْد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم في المشورة، فيما لم يمضِ من نبيكم فيه سنة، ولم ينزل عليكم به كتاب، وقد أشرتم وسأشير عليكم فانظروا أرشدَ ذلك فأتمروا به، فإن الله لن يجمعكم على ضلالة؛ والذي نفسي بيده، ما أرى من أمر أفضل في نفسي من جهاد مَنْ منع منا عِقالاً كان يأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فانقاد المسلمون لرأي أبي بكر، ورأوا أنَّه أفضل من رأيهم. فبعث أبو بكر حينئذٍ أسامة بن زيد لوجهه الذي أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصيب في الغزو مصيبة عظيمة، وسلَّمه الله وغنَّمه هو وجيشه وردّهم صالحين. وخرج أبو بكر رضي الله عنه في المهاجرين والأنصار حين خرج أسامة، وهربت الأعراب بذراريهم. فلما بلغ المسلمين هربُ الأعراب بذراريهم، كلّموا أبا بكر وقالوا: إرجع إلى المدينة وإلى الذراري والنساء، وأمِّرْ رجلاً من أصحابك على الجيش وعهد إليه بأمرك، فلم يزل المسلمون بأبي بكر حتى رجع، وأمّر خالد بن الوليد رضي الله عنه على الجيش، فقال له: إذا أسلموا وأعطَوا الصدقة؛ فمن شاء منكم أن يرجع فليرجع؛ ورجع أبو بكر إلى المدينة. كذا في مختصر ابن عساكر. وذكره في الكنز.
وقد ذكره في البداية عن سيف بن عمر عن هشام بن عروة عن أبيه رضي الله عنهما، قال: لما بويع أبو بكر وجمع الأنصار في الأمر الذي افترقوا فيه وقال: ليتمّ بعث(2/24)
أسامة، وقد ارتدّت العرب إمّا عامة وإمّا خاصة في كل قبيلة، ونجم النفاق واشرأبت اليهودية والنصرانية، والمسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية لفقد نبيِّهم صلى الله عليه وسلم وقلّتهم وكثرة عدوّهم. فقال له الناس: إن هؤلاء جلّ المسلمين، والعرب على ما ترى قد انتقضت بك، وليس ينبغي لك أن تفرِّق عنك جماعة المسلمين. فقال: (والذي نفس أبي بكر بيده، لو ظننتُ أنَّ السبع تخطَفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو لم يبقَ في القرى غيري لأنفذته) قال ابن كثير: وقد رُوي هذا عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها. ومن حديث القاسم وعَمْرة عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب قاطبة واشرأبَّ النفاق، والله لقد نزل بأبي ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها، وصار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كأنهم مِعزى مطيرة في حش في ليلة مطيرة بأرض مُسْبِعة، فوالله ما اختلفوا في نقطة إلا طار أبي بخَطَلِها وعِنانها وفَصْلها. انتهى. وقد أخرجه الطبراني عن عائشة رضي الله عنها - بنحوه. قال الهيثمي رواه الطبراني من طرق، ورجال أحدها ثقات.
وأخرج البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: والله الذي لا إله إلا هو لولا أنَّ أبا بكر رضي الله عنه أستُخلف ما عُبد الله ثم قال الثانية، ثم قال الثالثة. فقيل له: مَهْ يا أبا هريرة. فقال: إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجَّه أسامة بن(2/25)
زيد في سبع مائة إلى الشام. فلمَّا نزل بذي خُشُب قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب حول المدينة. فاجتمع إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا بكر رُدّ: هؤلاء، توجه هؤلاء إلى الروم وقد ارتدت العرب حول المدينة؟ فقال: والذي لا إله غيره لو جرّت الكلابُ بأرجلِ أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ردَدْتُ جيشاً وجَّهه رسول الله ولا حللتُ لواءً عقده رسول الله. فوجَّه أسامة، فجعل لا يمرُّ بقبيل يريدون الإرتداد إِلا قالوا: لولا أنَّ لهؤلاء قوة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم، ولكن ندعهم حتى يلقَوا الروم، فلقَوا الروم فهزموهم وقتلوهم ورجعوا سالمين، فثبتوا على الإِسلام. كذا في البداية. وأخرجه أيضاً الصابوني في المائتين كما في الكنز، وابن عساكر كما في المختصر عن أبي هريرة رضي الله عنه - بنحوه. قال ابن كثير: عبَّاد بن كثير - أي قي إسناده - هذا أظنه البرمكي لرواية الفِرْيابي عنه، وهو متقارب الحديث، فأما البَصْري الثَّقَفي فمتروك الحديث. انتهى. وقال في كنز العمال: وسنده - أي حديث أبي هريرة - حسن. انتهى.
قول أبي بكر عند وفاته لعمر رضي الله عنهما
وأخرج ابن جرير الطبري من طريق سيف: أنَّ أبا بكر مرض بعد مخرج خالد إلى الشام مرضته التي مات فيها بأشهر. فقدم المثنَّى رضي الله عنه وقد أشْفى وعقد لعمر رضي الله عنه فأخبره الخبر. فقال؛ عليّ بعمر. فجاء فقال له: إسمع يا عمر ما أقول لك ثم إعمل به، إنِّي لأرجو أن أموت من يومي هذا - وذلك يوم الإِثنين -، فإن أنا متُّ فلا تمسينّ حتى تندب الناس مع(2/26)
المثنَّى، وإن تأخّرتُ إلى الليل فلا تصبحنّ حتى تندب الناس مع المثنَّى، ولا يشغلنَّكم مصيبة وإن عظمت عن أمر دينكم ووصية ربكم، وقد رأيتني مُتَوفَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما صنعتُ ولم يُصعب الخلق بمثله، وبالله لو أنّي أَني عن أمر الله وأمر رسوله لخَذَلنا ولعاقَبَنا، فاضطرمت المدينة ناراً. انتهى.
إهتمام أبي بكر الصديق رضي الله عنه لقتال أهل الردة ومانعي الزكاة مشاورة أبي بكر المهاجرين والأنصار في القتال وخطبته في هذا الشأن
أخرج الخطيب في رواة مالك عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم إشرأبَّ النفاق بالمدينة، وارتد العرب وارتدت العجم، وأبرقت وتواعدوا نهاوند، وقالوا: قد مات هذا الرجل الذي كانت العرب تُنصر به. فجمع أبو بكر رضي الله عنه المهاجرين والأنصار وقال: إنَّ هذه العرب قد منعوا شاتهم وبعيرهم ورجعوا عن دينهم، وإِنَّ هذه العجم قد تواعدوا نهاوند ليجمعوا لقتالكم، وزعموا أنَّ هذا الرجل الذي كنتم تُنصرون به قد مات، فأشيروا عليّ فما أنا إلا رجلٌ منك، وإنِّي أثقلكم حِملاً لهذه البليّة فأَطرقوا طويلاً، ثم تكلّم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: أرى - والله - يا خليفة رسول الله أن تقبل من العرب الصلاة وتدع لهم الزكاة، فإنَّهم حديثو عهد بجاهلية لم يُعدَّهم الإِسلام، فإمَّا أن يردَّهم الله عنه إِلى خير، وإما أن يعزّ الله الإِسلام فنقوى على قتالهم، فما لبقية المهاجرين والأنصار يَدان للعرب والعجم قاطبة. فالتفت إلى عثمان رضي الله عنه فقال مثل ذلك، وقال علي رضي الله عنه مثل ذلك، وتابعهم المهاجرون. ثم التفت إِلى الأنصار فتابعوهم. فلما رأى ذلك صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:(2/27)
أما بعد: فإنَّ الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم والحقُّ قُلٌّ شريد، والإِسلام غريبٌ طريد، قد رَثَّ حبلُه، وقلّ أهلُه، فجمعهم الله بمحمد صلى الله عليه وسلم وجعلهم الأمة الباقية الوُسْطى، والله لا أبرح أقوم بأمر الله وأجاهد في سبيل الله حتى ينجز الله لنا ويفي لنا عهده، فيقتل من قُتل منَّا شهيداً في الجنة، ويبقى من بقي منا خليفة الله في أرضه ووارث عباده. قضى الله الحقَّ؛ فإن الله تعالى قال - وليس لقوله خُلْف -: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الاْرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} (النور: 55) والله لو منعوني عِقالاً ممّا كانوا يُعطون رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أقبل معهم الشجر والمَدَر والجن والإِنس لجاهدتهم حتى تلحق روحي بالله إنَّ الله لم يفرِّق بين الصلاة والزكاة ثم جمعهما. فكبَّر عمر وقال: والله قد علمت - والله حين عزم الله لأبي بكر على قتالهم - أنَّه الحق. كذا في كنز العمال.
وأخرج ابن عساكر عن صالح بن كَيْسان قال: لما كانت الردّة قام أبو بكر رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (الحمد لله الذي هدى فكفى، وأعطى فأغنى، إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم شريداً، والإِسلام غريباً (طريداً) ، قد رث حبلُه، وخَلَق عهدُه، وضلّ أهله عنه، ومَقَتَ الله أهل الكتاب فلم يعطهم خيراً لخير عندهم، ولا يصرف عنهم شراً لشر عندهم، وقد غيّروا كتابهم وألحقوا فيه ما ليس فيه، والعرب الأميون صِفْر من الله لا يعبدونه ولا يدعونه، أجهدُهم عيشاً، وأضلُّهم ديناً، في ظَلَف من الأرض، معه فئة الصحابة؛ فجمعهم الله بمحمد صلى الله عليه وسلم وجعلهم الأمة الوسطى، نصرهم بمن اتبعهم ونصرهم على غيرهم حتى قبض الله نبيه صلى الله عليه وسلم فركب منهم الشيطان مركبه الذي أنزله الله عنه، وأخذ بأيديهم وبغَى هُلْكهم/ {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ(2/28)
عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (آل عمران: 144) ، إِنَّ مَنْ حولكم من العرب منعوا شاتهم وبعيرهم، ولم يكونوا في دينهم؛ - وإن رجعوا إليه - أزهدَ منهم يومهم هذا، ولم تكونوا في دينكم أقوى منكم يومكم هذا على ما فقدتم من بركة نبيكم صلى الله عليه وسلم ولقد وَكَلَكُم إلى الكافي الأول الذي جده ضالاً فهداه، عائلاً فأغناه، وكنتم على شَفَا حُفْرة من النار فأنقذكم منها، والله لا أدع أن أقاتل على أمر الله حتى ينجزَ الله وعده، ويوفيَ لنا عهده؛ ويُقتلَ من قُتل شهيداً من أهل الجنة، ويبقى من بقي منا خليفته وارثَه في أرضه، قضى الله الحق؛ وقوله الذي - لا خُلْف فيه -: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الاْرْضِ} ، ثم نزل. قال ابن كثير:
فيه انقطاع بين صالح بن كَيْسان والصدِّيق، لكنه يشهد لنفسه بالصِّحَّة لجزالة ألفاظه وكثرة ما له من الشواهد. كذا في الكنز. وقد ذكره في البداية عن ابن عساكر بنحوه.
إنكار أبي بكر رضي الله عنه على من توقف أو أراد الإِمهال في القتال
وأخرج العدني عن عمر رضي الله عنه قال: لما اجتمع رأي المهاجرين - وأنا فيهم - حين ارتدت العرب، فقلنا: يا خليفة رسول الله، إترك الناس يُصلُّون ولا يُؤدّون الزكاة، فإنَّهم لو قد دخل الإِيمان في قلوبهم وقرّوا بها. فقال أبو بكر رضي الله عنه: والذي نفسي بيده لأن أقعَ من السماء أحبُّ إليَّ من أن أترك شيئاً قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أقاتل عليه. فقاتل العرب حتى رجعوا إلى الإِسلام، فقال عمر: والذي نفسي بيده، لذلك اليوم خير من آل عمر.(2/29)
كذا في الكنز.
وعند الإسماعيلي عن عمر رضي الله عنه قال: لما قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتد من ارتد من الرب، وقالوا: نصلِّي ولا نزكِّي. فأتيت أبا بكر رضي الله عنه، فقلت: يا خليفة رسول الله، تألَّفه الناس وارفِق بهم، فإنَّهم بمنزلة الوحش. فقال: رجوتُ نصرتك، وجئتني بخذلانك جباراً في الجاهلية، خواراً في الإِسلام؟ ماذا عسيت أن أتألّفهم؟ بشعر مفتعل، أو بسحر مفترى؟ هيهات، هيهات مضى النبي صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي، والله لأجاهدنَّهم ما استمسك السيف في يدي وإن منعوني عقالاً. قال عمر رضي الله عنه: فوجده في ذلك أمضَى مني وأعزم مني، وأدَّب الناس على أمور هان عليَّ كثير من مؤونتهم حين وُلِّيتُهم. كذا في الكنز.
وأخرج الدِينَوري في المجالسة، وأبو الحسن بن بِشْران في فوائده، والبيهقي في الدلائل، واللألكائي في السُّنَّة عن ضَبَّة بن المحصن العَنَزي قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنت خير من أبي بكر؟ فبكى وقال: والله، لليلةٌ من أبي بكر ويوم خير من عمر وآل عمر: هل لك أن أحدثك بليلته ويومه؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين. قال: أما ليلته: فلمّا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم هارباً من أهل مكة، خرج ليلاً فتبعه أبو بكر - فذكر الحديث في الهجرة كما تقدم (ص 339) ؛ قال: وأما يومه: فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب فقال بعضهم: نصلِّي ولا نزكِّي، وقال بعضهم: لا نصلِّي ولا نزكِّي. فأتيته - ولا آلو نصحاً -، فقلت يا خليفة رسول الله تألَّفِ الناسَ - فذكره بنحوه كما في(2/30)
منتخب كنز العمال.
وعند الإِمام أحمد والشيخين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر بعده، وكفر من كفر من العرب قال عمر رضي الله عنه: يا أبا بكر، كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله؟» . قال أبو بكر رضي الله عنه: والله لأقاتلنَّ من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإنَّ الزكاة حق المال. والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدُّونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنَّه الحق. وأخرجه أيضاً الأربعة إلا ابن ماجه، وبن حِبَّان، والبيهقي كما في الكنز.
إهتمام أبي بكر الصديق رضي الله عنه بإرسال الجيوش في سبيل الله، وترغيبه على الجهاد، ومشاورته للصحابة في جهاد الروم ترغيب أبي بكر على الجهاد في سبيل الله في خطبة له
أخرج ابن عساكر عن القاسم بن محمد - فذكر الحديث، وفيه: وقام أبو بكر رضي الله عنه في الناس خطيباً، فحمد الله وصلَّى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنَّ لكل أمر جوامعَ، فمن بلغها فهو حَسْبه، ومن عمل لله عزّ وجلّ كفاه(2/31)
الله. عليكم بالجدِّ والقصد، فإنَّ القصد أبلَغ. ألا إنه لا دين لأحد لا إيمان له، ولا أجر لمن لا حِسْبة له، ولا عمل لمن لا نيَّة له. ألا وإِنَّ في كتاب الله من الثواب على الجهاد في سبيل الله، لَمَا ينبغي للمسلم أن يحب أن يُخصَّ به، هي النجاة التي دل الله عليها ونجَّى بها من الخِزْي، وألحق بها الكرامة في الدنيا والآخرة. كذا في المختصر. وذكره في الكنز مثله. وأخرجه ابن جرير الطبري عن القاسم بن محمد بمثله.
كتاب أبي بكر إلى خالد ومن معه من الصحابة للجهاد في سبيل الله
وأخرج البيهقي في سننه عن ابن إسحاق بن يَسار في قصة خالد بن الوليد رضي الله عنه حين فرغ من اليمامة. قال: فكتب أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد - وهو باليمامة -:
من عبد الله أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن الوليد والذين معه من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان: سلام عليكم. فإني أحمد إِليكم الله الذي لا إِله إلا هو. أَما بعد: فالحمد لله الذي أنجز وعده، ونصر عبده، وأعزَّ ولِيَّه، وأذلَّ عدوَّه، وغلب الأحزاب فرداً. فإن الله الذي لا إله إِلا هو قال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الاْرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ} (النور: 55) - وكتب الآية كلَّها وقرأ الآية - وعداً منه لا خُلْف له، ومقالاً لا ريب فيه. وفرض الجهاد على المؤمنين، فقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} (البقرة: 216) - حتى فرغ(2/32)
من الآيات؛ فاستتِمُّوا بوعد الله إِيَّاكم، وأطيعوه فيما فرض عليكم وإِن عظمت فيه المؤونة، واستبدت الرزيّة، وبعدت المشقة، وفُجعتم في ذلك بالأموال والأنفس، فإن ذلك يسير في عظيم ثواب الله. فاغزوا - رحمكم الله - في سبيل الله {خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} (التوبة: 41) - كتب الآية - ألا وقد أمرت خالد بن الوليد بالمسير إِلى العراق؛ فلا يبرحها حتى يأتيه أمري، فسيروا معه ولا تتثاقلوا عنه؛ فإنه سبيل يعظِّم الله فيه الأجر لمن حسنت فيه نيته، وعظمت في الخير رغبته. فإذا وقعتم العراق فكونوا بها حتى يأتيكم أمري. كفانا الله وإِياكم مهمات الدنيا والآخرة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته» - انتهى.
مشاورة أبي بكر أكابر الصحابة في غزو الروم وخطبته في ذلك
أخرج ابن عساكر عن الزُّهري عن عبد الله بن أبي أوفَى الخُزاعي رضي الله عنه أنه قال: لما أراد أبو بكر رضي الله عنه غزو الروم دعا عليّاً، وعمر، وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وأبا عبيدة بن الجراح، ووجوه المهاجرين، والأنصار من أهل بدر وغيرهم، فدخلوا عليه - قال عبد الله بن أبي أوفى: وأنا فيهم -. فقال أبو بكر رضي الله عنه: إنَّ الله عزّ وجلّ لا تُحصى نعماؤه، لا تبلغ جزاءَها الأعمالُ، فله الحمد؛ قد جمع الله كلمتكم، وأصلح ذات بينكم، وهداكم إلى الإِسلام، ونفَى عنكم الشيطان، فليس يطمع أن تُشركوا به، ولا تتخذوا إلهاً غيره؛ فالعرب اليوم بنو أم وأب. وقد رأيت أن أستنفر المسلمين إِلى جهاد الروم بالشام ليؤيّد الله المسلمين، ويجعل الله كلمته العليا، مع أن للمسلمين في ذلك الحظ الأوفر، لأنه من هلك منهم هلك شهيداً، وما عند الله خير للأبرار؛ ومن عاش عاش مدافعاً عن الدين مستوجباً على الله ثواب المجاهدين. وهذا رأيي الذي رأيته، فلْيُشِر امرؤ عليّ برأيه.(2/33)
خطبة عمر ومتابعته في إمضاء رأي أبي بكر في الجهاد
فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: الحمد لله الذي يخصّ بالخير من شاء من خلقه، والله ما استبقنا إلى شيء من الخير قط إِلا سبقتنا إليه؛ وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. قد - والله - أردتُ لقاءك بهذا الرأي الذي رأيتَ فيما قُضي أن يكون حتى ذكرتَه، فقد أصبتَ - أصاب الله بك سبيل الرشاد - سرِّبْ إليهم الخيل في إثر الخيل، وابعث الرجال بعد الرجال والجنود تتبعها الجنود؛ فإنَّ الله ناصرٌ دينَه ومعزٌ الإِسلامَ وأهله.
رأي عبد الرحمن بن عوف في نوعية الجهاد بالنظر إلى نوعية الروم
ثم إن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قام فقال: يا خليفة رسول الله، إِنَّها الروم وبنو الأصفر حدٌّ حديد وركن شديد، ما أرى أن نقتحم عليهم إقتحاماً، ولكن نبعث الخيل فتُغير في قواصي أرضهم ثم ترجع إِليك، وإِذا فعلوا ذلك بهم مراراً أضرُّوا بهم، وغنموا من أداني أرضهم فقعدوا بذلك عن عدوهم؛ ثم تبعث إلى أراضي اليمن وأقاصي ربيعة ومضر، ثم تجمعهم جميعاً إِليك. ثم إن شئت بعد ذلك غزوتهم بنفسك وإن شئت أغزيتهم، ثم سكت وسكت الناس.
رأي ثمان في إمضاء ما رآه أبو بكر وموافقة بقية الصحابة رأي عثمان
ثم قال لهم أبو بكر: ما ترون؟ فقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: إني أرى أنك ناصح لأهل هذا الدين، شفيق عليهم، فإذا رأيت رأياً تراه لعامتهم صلاحاً، فاعزم على إمضائه فإنك غيرُ ظَنين. فقال طلحة، والزبير،(2/34)
وسعد وأبو عبيدة، وسعيد بن زيد ومن حضر ذلك المجلس من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم: صَدَقَ عثمان، ما رأيتَ من رأي فأمْضِه، فإنَّا لا نخالفك ولا نتهمك، وذكروا هذا وأشباهه؛ وعليّ رضي الله عنه في القوم لم يتكلَّم.
تبشير علي أبا بكر وسروره بما قال علي وخطبته في استنفار الصحابة
فقال أبو بكر: ماذا ترى يا أبا الحسن؟ فقال: أرى أنك إن سرتَ إليهم بنفسك أو بعثتَ إِليهم نُصرت عليه إن شاء الله. فقال: بشّرك الله بخير ومن أين علمت ذلك؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يزال هذا الدين ظاهراً على كل من ناوأه حتى يقوم الدين وأهله ظاهرون» . فقال: سبحان الله، ما أحسن هذا الحديث لقد سررتني به سرَّك الله. ثم إِن أبا بكر رضي الله عنه قام في الناس فذكر الله بما هو أهله، وصلَّى على نبيِّه صلى الله عليه وسلم ثم قال: أيها الناس، إِنَّ الله قد أنعم عليكم بالإِسلام، وأكرمكم بالجهاد، وفضَّلكم بهذا الدين على كل دين، فتجهّزوا عباد الله إلى غزو الروم بالشام، فإني مُؤمِّر عليكم أمراء، وعاقد لكم ألوية، فأطيعوا ربَّكم ولا تخالفوا أمراءكم لِتَحْسُنْ نيتكم وأشربتكم وأطعمتكم، فإنَّ الله مع الذين اتَّقوا والذين هم محسنون.
ما جرى بين عمر، وعمرو بن سعيد وخطبة خالد أخيه في تأييد أبي بكر
قال: فسكت القوم، فوالله ما أجابوا. فقال عمر رضي الله عنه: يا معشر المسلمين، مالكم لا تجيبون خليفة رسول الله وقد دعاكم لما يحييكم؟ أمَا إنه لو كان عَرَضاً قريباً أو سفراً قاصداً لابتدرتموه. فقام عمرو بن سعيد رضي الله عنه فقال: يا ابن الخطاب، ألنا تضرب الأمثال أمثال المنافقين؟ فما منعك مما عبت علينا فيه أن تبدأ به؟ فقال عمر رضي الله عنه: إِنَّه يعلم أني أجيبه لو يدعوني، وأغزو لو يُغزيني. فقال عمرو بن سعيد رضي الله عنه: ولكن نحن لا نغزو لكم إن غزونا، إنما نغزو لله. فقال عمر: وفقك الله، فقد أحسنت فقال أبو بكر لعمرو: إجلس - رحمك الله - فإن عمر لم يُرد بما سمعت أذى(2/35)
مسلم ولا تأنيبه، إنما أراد بما سمعت أن ينبعث المتثاقلون إلى الأرض إِلى الجهاد.
فقام خالد بن سعيد رضي الله عنه فقال: صدق خليفة رسول الله، إجلس أيْ أخي، فجلس. وقال خالد: الحمد لله الذي لا إله إلا هو، الذي بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهرَه على الدين كلّه ولو كره المشركون، فالحمد لله منجزِ وعدِه، ومظهرِ وعدهِ، ومهلِك عدوِّه، ونحن غير مخالفين ولا مختلفين، وأنت الوالي الناصح الشفيق، ننفر إذا استنفرتنا، ونطيعك إذا أمرتنا. ففرح بمقالته أبو بكر رضي الله عنه وقال له: جزاك الله خيراً من أخ وخليل؛ فقد كنت أسلمت مرتغِباً، وهاجرت محتسباً، قد كنت هربت بدينك من الكفر لكيما ترضي الله ورسوله وتعلو كلمته، وأنت أمير الناس فسِرْ يرحمك الله. ثم إنه نزل.
ورجع خالد بن سعيد رضي الله عنه فتجهّز. وأمر أبو بكر بلالاً فأذَّن في الناس أنِ انفِرُوا أيَّها الناس إلى جهاد الروم بالشام، والناس يَرَوْنَ أن أميرهم خالد بن سعيد، وكان الناس لا يشكُّون أن خالد بن سعيد أميرهم؛ وكان قد عسكر قبل كل أحد، ثم إن الناس خرجوا إلى معسكرهم من عشرة، وعشرين، وثلاثين، وأربعين، وخمسين، مائة كل يوم حتى اجتمع أناس كثيرون. فخرج أبو بكر رضي الله عنه ذات يوم ومعه رجال من الصحابة حتى انتهى إلى عسكرهم، فرأى عدّة حسنة لم يرضَ عدّتها للروم؛ فقال لأصحابه: ما ترون في هؤلاء إن أرسلتهم إلى الشام في هذه العِدّة؟ فقال عمر رضي الله عنه: ما أرضى هذه العِدة لجموع بني الأصفر. فقال لأصحابه: ماذا ترون أنتم؟ فقالوا: نحن نرى ما رأى عمر، فقال: لا أكتب كتاباً إلى أهل اليمن ندعوهم به إلى(2/36)
الجهاد ونرغِّبهم في ثوابه؟ فرأى ذلك جميع أصحابه فقالوا: نِعْمَ ما رأيت، أفعل. فكتب:
كتاب أبي بكر رضي الله عنه إلى أهل اليمن للجهاد في سبيل الله
«بسم الله الرحمن الرحيم. من خليفة رسول الله إِلى من قُرىء عليه كتابي هذا من المؤمنين والمسلمين من أهل اليمن. سلام عليكم. فإني أحمد إِليكم الله الذي لا إِله إلا هو، أما بعد: فإنَّ الله تعالى كتب على المؤمنين الجهاد، وأمرهم أن ينفروا خفافاً وثقالاً ويجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، والجهاد فريضة مفروضة، والثواب عند الله عظيم. وقد استنفرنا المسلمين إِلى جهاد الروم بالشام، وقد سارعوا إِلى ذلك وقد حسنت بذلك نيَّتهم، وعظمت حسبتهم؛ فسارعوا عباد الله إِلى ما سارعوا إِليه، ولتحسنْ نيتكم فيه؛ فإِنكم إِلى إِحدى الحُسْنَيَيْن: إِما الشهادة، وإِما الفتح والغنيمة، فإن الله تبارك وتعالى لم يرضَ لعباده بالقول دون العمل، ولا يزال الجهاد لأهل عداوته حتى يدينوا بدين الحق، ويقرُّوا لحكم الكتاب. حفظ الله لكم دينكم، وهدى قلوبكم، وزكَّى أعمالكم، ورزقكم أجر المجاهدين الصابرين» .
وبعث بهذا الكتاب مع أنس بن مالك رضي الله عنه. كذا في المختصر؛ والكنز.
خطبة أبي بكر عند مسيرهم إلى الشام
وأخرج ابن عساكر عن عبد الرحمن بن جبير أن أبا بكر لمَّا وجّه (الجيش) قام فيهم فحمد الله وأثنى عليه، ثم أمرهم بالمسير إلى الشام وبشرّهم بفتح الله إياها حتى يبنوا فيها المساجد، فلا يعلم أنكم إنما تأتونا تلّهياً، فالشام(2/37)
شبيعة يكثر لكم فيها من الطعام؛ فإياي والأشر. أما وربِّ الكعبة لتأشرُنْ ولتبطرُنّ، وإني موصيكم بعشر كلمات فاحفظوهن: لا تقتُلنَّ شيخاً فانياً - فذكر الحديث؛ كما في الكنز.
تحريض عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الجهاد النَّفر في سبيل الله ومشاورته للصحابة فيما وقع له تحريض عمر على الجهاد وتأميره من انتدب أولا
أخرج ابن جرير الطبري عن القاسم بن محمد قال: وتكلم المثنَّى بن حارثة فقال: يا أيها الناس، لا يعظمنَّ عليكم هذا الوجه، فإنَّا قد تبحبحنا رِيف فارس وغلبناهم على خير شِقَّي السواد، وشاطرناهم، ونلنا منهم، واجترأ مَنْ قِبَلَنا عليهم، ولها إن شاء الله ما بعدها. وقام عمر رضي الله عنه في الناس فقال: إنَّ الحجاز ليس لكم ب دار إلا على النُّجعة، ولا يقوَى عليه أهلُه إلا بذلك، أين الطُّراء المهاجرون عن موعود الله؟ سيروا في الأرض التي وعدكم الله في الكتاب أن يورثَكُموها، فإنه قال: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ} (الفتح: 28) والله مظهرُ دينه، ومعزّ ناصرِه، ومُولي أهلِه مواريث الأمم، أين عبادُ الله(2/38)
الصالحون؟.
فكان أول منتدب أبو عُبيد بنُ مسعود، ثم ثنّى سعد بن عبيد - أو سَلِيط بن قيس - رضي الله عنهم. فلما اجتمع ذلك البَعْث قيل لعمر: أمِّرْ عليهم رجلاً من السابقين من المهاجرين والأنصار. قال: لا والله لا أفعل، إِن الله إنَّما رفعكم بسبقكم وسرعتكم إلى العدوّ، فإذا جبنتم وكرهتم اللقاء فأولى بالرياسة منكم مَنْ سبق إلى الدَّفْع وأجاب إِلى الدعاء. والله لا أؤمر عليهم إلا أوّلهم إنتداباً؛ ثم دعا أبا عُبيد وسَلِيطا وسعداً، فقال: أما إِنكما لو سبقتماه لولّيتكا ولأدركتما بها إلى ما لَكما من القِدْمة؛ فأمَّر أبا عُبيدٍ على الجيش وقال لأبي عُبيد: إسمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأشرِكهم في الأمر، ولا تجتهد مسرعاً حتى تتبين؛ فإنَّها الحرب، والحرب لا يُصلحها إلا الرجل المكِيث الذي يعرف الفرصة والكفَّ.
وأخرجه الطبري أيضاً من طريق الشَّعْبي، وفي حديثه: فقيل لعمر رضي الله عنه: أمِّر عليهم رجلاً له صحبة. فقال عمر: إنما فَضلَ الصحابة بسرعتهم إلى العدوّ وكفايتهم مَن أبَى؛ فإذا فعل فِعْلهم قومٌ واثّاقلوا كان الذين ينفِرون خفافاً وثقالا ف أولى بها منهم، والله لا أبعث عليهم إلا أولَهم إنتداباً، فأمّر أبا عُبَيد، وأوصاه بجنده. انتهى.
مشاورة عمر الصحابة في الخروج إلى فارس
أخرج الطبري أيضاً عن عمر بن عبد العزيز قال: لما انتهى قتل أبي عُبيد بن مسعود إلى عمر واجتماع أهل فارس على رجل من آل كسرى، نادى في المهاجرين والأنصار، وخرج حتى أتى صِرَاراً. وقدَّم طلحة بن عبيد الله حتى يأتي الأعوَص، وسمَّى لميمنته عبد الرحمن بن عوف ولميسرته الزبير بن(2/39)
العوام رضي الله عنهم، واستخلف علياً رضي الله عنه على المدينة، واستشار الناس، فكلّهم أشار عليه بالسَّير إلى فارس، ولم يكن إستشار في الذي كان حتى نزل بِصرَار ورجع طلحة، فاستشار ذوي الرأي فكان طلحة ممَّن تابع الناس، وكان عبد الرحمن بن عوف من نهاه. فقال عبد الرحمن: فما فَدَيْتُ أحداً بأبي وأمي بعد النبي صلى الله عليه وسلم قبل يومئذٍ ولا بعده فقلت: يا بأبي وأمي، إجعل عَجْزها بي، وأقِم وابعثْ جنداً، فقد رأيت قضاء الله لك في جنودك قبلُ وبعدُ، فإنه إن يُهزم جيشك ليس كهزيمتك، وإِنك إن تُقتل أو تُهزم في أَنْف الأمر، خشيتُ أن لا يكبِّر المسلمون وأن لا يشهدوا أن لا إله إلا الله أبداً، وهو في ارتيادٍ مِنْ رجل؛ وأتى كتاب سعد على حَفَف مشورتهم وهو على بعض صدقات نجد. فقال عمر: فأشيروا عليّ برجل. فقال عبد الرحمن: وجدتَه. قال: من هو؟. قال: الأسدُ في براثنه؛ سعد بن مالك، ومالأه أولو الرأي. انتهى.
ترغيب عثمان بن عفان رضي الله عنه على الجهاد
أخرج الإِمام أحمد عن أبي صالح مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت عثمان يقول على المنبر: أيها الناس إِنِّي كتمتكم حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كراهةَ تفُّرقِكم عنِّي، ثم بدا لي أن أحدثَكُموه ليختار(2/40)
أمرؤ لنفسه ما بدا له؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «رباط يوم في سبيل الله تعالى خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل» .
وأخرجه الإِمام أحمد أيضاً عن مُصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: قال عثمان بن عفان رضي الله عنه - وهو يخطب على منبره -: إنِّي محدِّثكم حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يمنعني أن أحدثكم إلا الضنّ عليكم، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «حرسُ ليلة في سبيل الله تعالى أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها» .
ترغيب علي بن أبي طالب رضي الله عنه على الجهاد
أخرج الطبراني عن زيد بن وَهْب: أن علياً رضي الله عنه قام في الناس فقام: الحمد لله الذي لا يُبرم ما نقض، وما أبرَم لا ينقضه الناقضون، لو شاء ما اختلف إثنان من خلقه، ولا تنازعت الأمة في شيء من أمره، ولا جَحَد المفضول ذا الفضل فضله. وقد ساقتنا وهؤلاء القومَ الأقدار فلفَّت بيننا في هذا المكان، فنحن من ربنا بمرأى ومسمع، فلو شاء عجَّل النِقْمة وكان منه التغيير حتى يكذِّب الله الظالمَ، ويعلم الحق أين مصيره؛ ولكنّه جعل الدنيا دار الأعمال، وجعل الآخرة عنده هي دار القرار؛ {لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسَاءواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى} (النجم: 31) ، ألا إنكم لاقو القوم غداً، فأطيلوا الليلة القيام، وأكثروا تلاوة القرآن، وسلُوا الله عزّ وجلّ النصر والصبر، وألقَوهم بالجدّ والحزم وكونوا صادقين ثم انصرف. انتهى.
تحريض علي رضي الله عنه يوم صفِّين
وأخرج أيضاً عن أبي عَمْرة الأنصاري وغيره: أن علياً رضي الله عنه(2/41)
حرّض الناس يوم صِفِّين، فقال: إنَّ الله عزّ وجلّ قد دلّكم على تجارة تُنجيك من عذاب أليم، تُشفي بكم على الخير: الإِيمان بالله عزّ وجلّ ورسوله صلى الله عليه وسلم والجهادِ في سبيل الله تعالى ذكره، وجعل ثوابه مغفرة الذنب ومساكن طيبةً في جنّات عدن؛ ثم أخبركم أنه يحب الذين يقاتلون في سبيله صفّاً كأنَّهم بنيان مرصوص، فسوّوا صفوفكم كالبنيان المرصوص، وقدّموا الدارع وأخرّوا الحاسر، وعضّوا على الأضراس - فذكر الخطبة بطولها.
تحريض علي رضي الله عنه على قتال الخوارج
وأخرج أيضاً عن أبي الوَدّاك الهمْداني: أنَّ علياً رضي الله عنه لما نزل بالنُّخَيلة وأيِسَ من الخوارج قام، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد: فإنه من ترك الجهاد في الله وأدْهَن في أمره كان على شفا هُلْكِهِ؛ إلا أن يتداركه الله بنعمة، فاتقوا الله وقاتلوا من حادّ الله، حاول أن يطفىء نور الله الخاطئين الضالّين القاسطين المجرمين، الذين ليسوا بقرّاء للقرآن، ولا فقهاءَ في الدين، ولا علماءَ في التأويل، ولا لهذا الأمر بأهل في سابقة الإِسلام، والله لو وُلُّوا عليكم لعملوا فيكم بأعمال كِسْرى وهِرَقْل. تيسَّروا وتهيَّؤوا للمسير إلى عدوِّكم من أهل المغرب، وقد بعثنا إِلى إخوانكم من أهل البصرة ليقدَموا عليكم، فإذا قدموا فاجتمعتم شَخَصْنا إن شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. انتهى.(2/42)
خطبة علي على تثاقلهم في النَّفْر
وأخرج أيضاً من طريق أبي مِخْنَف عن زيد بن وَهْب، أن عليّاً رضي الله عنه قال للناس - وهو أول كلام قال لهم بعد النهر -: أيها الناس، إستعدوا للمسير إِلى عدو في جهاده القُربة إلى الله، ودَرْك الوسيلة عنده، حيارى في الحق، جُفاة عن الكتاب نُكْبٌ عن الدين، يعمهون في الطغيان، ويُعكَسون في غمرة الضلال، فأعدُّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل، وتوكَّلوا على الله وكفى بالله وكيلاً، وكفى بالله نصيراً.
قال: فلا هم نفروا ولا تيسَّروا، فتركهم أياماً حتى إذا أيسَ من أن يفعلوا، دعا رؤساءهم ووجوههم، فسألهم عن رأيهم، وما الذي يُنْظرهم؛ فمنهم المعتلّ، ومنهم المُكرِّه، وأقلهم من نَشِط، فقام فيهم خطيباً فقال:
عباد الله، ما لكم إذا أمرتكم أن تنفِروا أثّاقلتم إلى الأرض؟ أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة؟ وبالذل والهوان من العزّ؟ أوَ كلما ندبتكم إلى الجهاد دارت أعينكم كأنكم من الموت في سَكْرة، وكأن قلوبكم مألوسة، فأنتم لا تعقلون، وكأن أبصاركم كُمْه فأنتم لا تبصرون، لله أنتم ما أنتم إلا أسودُ الشرى في الدَّعة. وثعالبُ روَّاغة حين تُدْعَون إلى البأس، ما أنتم لي بثقة سجيسَ الليالي، ما أنتم بركب يُصال بكم ولا ذي عِزَ يعتصم إليه، لعمر الله لبئس حُشاش الحرب أنتم، إِنكم تُكادون ولا تَكِيدون، ويُتنقَّص أطرافكم ولا(2/43)
تتحاشَوْن، ولا يُنام عنكم وأنتم في غفلة ساهون، إنَّ أخا الحرب اليقظان ذو عقل، وبات لذلٍ مَنْ وادَع، وغُلب المتجادلون، والمغلوب مقهور ومسلوب.
ثم قال: أما بعد: فإنَّ لي عليكم حقاً وإنّ لك عليَّ حقاً؛ فأما حقُّكم عليَّ فالنصيحة لكم ما صحبتكم، وتوفير فَيْئكم عليكم، وتعليمكم كيما لا تجهلوا، وتأديبكم كي تعلَّموا.n وأما حقِّي عليكم فالوفاء بالبَيْعة، والنصح لي في الغيب والمشهد، والإِجابة حين أدعوكم، والطاعة حين آمركم، فإنْ يُرِدِ الله بكم خيراً انتَزِعُوا عما أكرَه وتَراجَعوا إلى ما أحب؛ تنالوا ما تَطلُبون وتُدرِكوا ما تأمُلون. انتهى.
نداء حَوْشَب الحميري علياً يوم صفِّين وجواب علي له
وأخرج ابن عبد البرِّ في الإستيعاب عن عبد الواحد الدمشقي قال: نادى حوشي الحِمْيري علياً رضي الله عنه يوم صفِّين، فقال: إنصرف عنا يا ابن أبي طالب، فإنَّا ننشدك الله في دمائنا ودمك، ونخلّي بينك وبين عِراقك، وتخلِّي بيننا وبين شامنا؛ وتحقن دماء المسلمين. قال علي رضي الله عنه: هيهات يا ابن أم ظُلَيم والله لو علمتُ أنَّ المداهنة تسعني في دين الله لفعلت، وكان أهون عليّ في المؤونة، ولكن الله لم يرضَ من أهل القرآن بالسكوت والإِدْهان، إذا كان الله يُعصَى وهم يُطيقون الدفاع والجهاد حتى يظهر أم رالله. انتهى.
وأخرجه أبو نعيم في الحلية مثله.
ترغيب سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه على الجهاد خطبة سعد يوم القادسية(2/44)
أخرج ابن جرير الطبري من طريق سيف عن محمد، وطلحة، وزياد بإسنادهم، قالوا: خطب سعد - أي يوم القادسية - فحمد الله وأثنى عليه وقال: إن الله هو الحق لا شريك له في الملك وليس لقوله خُلْف؛ قال الله جلّ ثناؤه: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ أَنَّ الاْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّالِحُونَ} (الأنبياء: 105) إِنَّ هذا ميراثُكم وموعودُ ربكم، وقد أباحها لكم منذ ثلاث حِجَج، فأنتم تطعَمون نها وتأكلون منها، وتقتلون أهلها وتَجْبونهم وتسبونهم إلى هذا اليوم بما نال منهم أصحاب الأيام منكم، وقد جاءكم منهم هذا الجمع، وأنتم وجوه العرب وأعيانهم وخيار كل قبيلة وعزّ مَنْ وراءكم، فإن تزهدوا في الدنيا وترغبوا في الآخرة جمع الله لكم الدنيا والآخرة ولا يقرِّبُ ذلك أحداً إِلى أجله، وإِن تفشلوا وتَهنوا وتضعفوا تذهبْ ريحكم وتوبقوا آخرتكم.
خطبة عاصم بن عمرو يوم القادسية
وقام عاصم بن عمرو رضي الله عنه فقال: إن هذه بلاد قد أحلَّ الله لكم أهلها، وأنتم تنالون منهم منذ ثلاث سنين ما لا ينالون منكم، وأنتم الأعلَون، والله معكم إن صبرتم وصدقتموهم الضرب والطعن، فلكم أموالهم ونساؤهم وأبناؤهم بلادهم، وإِن خرتم وفشِلتم - والله لكم من ذلك جار وحافظ - لم يبقِ هذا الجمع منكم باقية؛ مخافة أن تعودوا عليهم بعائدة هلاك؛ الله الله، أذكروا الأيام وما منحكم الله فيها، أوَ لا ترون أنَّ الأرض وراءكم بسابسُ قفار ليس فيها خَمْر ولا وَزَر يُعقل إليه ولا يُمتنع به؟ إجعلوا همَّكم الآخرة. انتهى.(2/45)
رغبة الصحابة رضي الله عنه وشوقهم إلى الجهاد والنفر في سبيل الله رغبة أبي أمامة في الجهاد
أخرج أبو نُعيم في الحلِية عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (لما) همّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروح إلى بدر. أجمع الخروج معه، فقال له (خاله) أبو بردة بن نيار: أقم على أمك. قال: بل أنت فأقم على أختك. فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر أبا أمامة بالمُقام (على أمه) . وخرج أبو بردة؛ فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد توفيت فصلَّى عليها.
رغبة عمر في السير في سبيل الله وقوله: إن الجهاد أفضل من الحج
وأخرج الإِمام أحمد في الزهد، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة وغيرهم عن عمر رضي الله عنه قال: لولا ثلاثٌ لأحببت أن أكون لحقت بالله: لولا أن أسير في سبيل الله، أو أضع جبهتي لله في التراب ساجداً، وأجالس قوماً يلتقطون طيِّل الكلام كما يلتقط طيب التمر. كذا في الكنز.
وأخرج ابن أبي شيبة عن عمر رضي الله عنه قال: عليكم بالحج، فإنه عمل صالح أمر الله به، والجهاد أفضل منه. كذا في الكنز.
رغبة ابن عمر رضي الله عنهما في الجهاد
وأخرج ابن عساكر عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: عُرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر فاستصغرني فلم يقبلني، فما أتت عليَّ ليلة قط مثلُها(2/46)
من السهر والحزن والبكاء إذ لم يقبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان من العام المقبل عُرضت عليه فقبلني، فحمدت الله على ذلك. قال رجل: يا أبا عبد الرحمن، تولّيتم يوم التقى الجمعان، قال: نعم، فعفا الله عنا جميعاً، فله الحمد كثيراً. كذا في منتخب الكنز.
قصة عمر مع رجل أراد الجهاد
وأخرج هنَّاد عن أنس رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى عمر رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمين، إحملني فإني أريد الجهاد، فقال عمر رضي الله عنه لرجل: خذ بيده، فأدخله بيت المال يأخذ ما شاء. فدخل فإذا بيضاء وصفراء، فقال: ما هذا؟ ما لي في هذا حاجة، إِما أردت زاداً وراحلة. فردّوه إلى عمر فأخبروه بما قال، فأمر له بزادٍ وراحلة، وجعل عمر يُرَحِّل له بيده، فلما ركب رفع يده فحمد الله وأثنى عليه بما صنع به وأعطاه، ومر يمشي خلفه يتمنى أن يدعو له. فلما فرغ قال: اللهمّ، وعمر فأجْزِه خيراً كذا في الكنز.
قول عمر في فضيلة من يخرج ويحرس في سبيل الله
وأخرج ابن عساكر عن أرطاة بن منذر أن عمر رضي الله عنه قال لجلسائه: أي الناس أعظم أجراً؟ فجعلوا يذكرون له الصوم والصلاة، ويقولون: فلان وفلان بعد أمير المؤمنين. فقال: ألا أخبركم بأعظم الناس أجراً ممّن ذكرتم ومن أمير المؤمنين؟ قالوا: بلى. قال: رُويجل بالشام آخذ بلجام فرسه يكلأ مِنْ وراء بيضة المسلمين، لا يدري أسبع يفترسه، أم هامَّة تلدغه، أو عدوّ يغشاه؟ فذلك أعظم أجراً ممن ذكرتم ومن أمير المؤمين. كذا في كنز(2/47)
العمال.
قصة عمر ومعاذ في الخروج مع أبي بكر
أخرج ابن سعد من طريق الواقدي عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: كان عمر بن الخطاب يقول: خرج معاذ إِلى الشام لقد أخلّ خروجه بالمدينة وأهلها في الفقه، وما كان يفتيهم به، ولقد كنت كلمت أبا بكر رحمه الله أن يحبسه لحاجة الناس إليه، فأبى ليّ وقال: رجل أراد وجهاً يريد الشهادة فلا أحبسه. فقلت: والله إنَّ الرجل ليرزق الشهادة وهو على فراشه وفي بيته عظيم الغنى عن مِصره. قال كعب بن مالك: وكان معاذ بن جبل يفتي الناس بالدينة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر. كذا في الكنز.
ترجيح عمر للمهاجرين الأولين على رؤساء القوم في المجلس
وأخرج ابن عساكر عن نوفل بن عمارة قال: جاء الحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو إلى عمر بن الخطاب فجلسا عنده وهو بينهما، فجعل المهاجرون الأولون يأتون عمر فيقول: ها هنا يا سهيل، ها هنا يا حارث، فينحيهما عنهم. فجعل الأنصار يأتون عمر فينحيهما عنهم كذلك حتى صارا في آخر الناس. فلما خرجا من عند عمر قال الحارث بن هشام لسهيل بن عمرو: ألم ترَ ما صنع بنا فقال له سهيل: أيها الرجل لا لوم عليه، ينبغي أن نرجع باللوم على أنفسنا، دُعِيَ القوم فأسرعوا ودُعينا فأبطأنا. فلما قاموا من عند عمر أتياه فقالا له: يا أمير المؤمنين قد رأينا ما فعلتَ اليوم وعلمنا أنا أُتينا من (قِبَلِ) أنفسنا، فهل (من) شيء نستدرك به (ما فاتنا من الفضل؟) فقال لها: لا أعلمه إلا هذا الوجه، وأشار(2/48)
لهما إلى ثغر الروم. فخرجا إلى الشام فماتا بها. كذا في كنز العمال. وأخرجه أيضاً الزبير عن عمه مصعب عن نوفل بن عمارة بنحوه؛ كما ذكره ابن عبد البر في الإستيعاب.
قول سهيل بن عمرو للرؤساء الذين قدَّم عمر المهاجرين عليهم
وأخرجه الحاكم من طريق ابن المبارك عن جرير بن حازم عن الحسن يقول: حضر أناس باب عمر وفيهم: سهيل بن عمرو، وأبو سفيان بن حرب، والشيوخ من قريش رضي الله عنهم. فخرج آذنه فجعل يأذن لأهل بدر كصهيب، وبلال، وعمار رضي الله عنهم - وقال: وكان والله بدرياً، وكان يحبهم وكان قد أوصى بهم - فقال أبو سفيان: ما رأيت كاليوم قط إنه يأذن لهذه العبيد ونحن جلوس لا يلتفت إلينا. فقال سهيل بن عمرو - ويا له من رجل ما كان أعقله - أيها القوم، إِني - والله - قد أرى الذي في وجوهكم، فإن كنتم غضاباً فاغضبوا على أنفسكم، دُعِيَ القوم ودُعيتم؛ فأسرعوا وأبطأتم، أما والله لَمَا سبقوكم به من الفضل فيما يرون أشد عليكم فوتاً من بابكم هذا الذي تَنافَسون عليه، ثم قال: إن هؤلاء القوم قد سبقوكم بما ترون ولا سبيل لكم - والله - إلى ما سبقوكم إليه، فانظروا هذا الجهاد فالزموه، عسى الله عزّ وجلّ أن يرزقكم الجهاد والشهادة، ثم نفض ثوبه فقام فلحق بالشام. قال الحسن: صدق والله، لا يجعل الله عبداً أسرع إليه معبد أبطأ عنه. وهكذا ذكره في الإستيعاب وأخرجه الطبراني أيضاً عن الحسن بمعناه - مطولاً. قال الهيثمي رجاله رجال(2/49)
الصحيح، إلا أن الحسن لم يسمع من عمر. انتهى.
وأخرجه البخاري في تاريخه، والباوَرْدي من طريق حُميد عن الحسن بمعناه مختصراً، كما في الإِصابة.
خروج سهيل ومقامه في سبيل الله حتى الموت
وأخرج ابن سعد عن أبي سعيد بن فُضالة - وكانت له صحبة - قال: إصطحبت أنا وسهيل بن عمرو إلى الشام فسمعته يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مُقام أحدكم في سبيل الله ساعة من عمره خير من عمله عمره في أهله» . قال سهيل: فإنما أرابط حتى أموت، ولا أرجع إِلى مكة. قال: فلم يزل مقيماً بالشام حتى مات في طاعون عَمَواس. كذا في الإِصابة. وأخرجه الحاكم عن أبي سعيد رضي الله عنه. مثله.
خروج الحارث بن هشام إلى الجهاد مع جزع أهل مكة عليه
وأخرج ابن المبارك عن الأسود بن شيبان عن أبي نوفل بن أبي عقرب قال: خرج الحارث بن هشام رضي الله عنه من مكة فجزع أهل مكة جزعاً شديداً، فلم يبق أحد يطعَم إلا خرج معهُ يشيِّعه، حتى إذا كان بأعلى البطحاء أو حيث شاء الله من ذلك، وقف ووقف الناس حوله يبكون. فلما رأى جزع الناس قال: يا أيها الناس، إني - والله - ما خرجت رغبة بنفسي عن أنفسكم، ولا اختيار بلد عن بلدكم، ولكن كان هذا الأمر، فخرجت فيه رجال من قريش - والله - ولو أن جبال(2/50)
مكة ذهباً أنفقناها في سبيل الله؛ اأدركن يوماً من أيامهم، والله لئن فأتونا به في الدنيا لنلتمس أن نشاركهم في الآخرة، فاتَّقى الله أمرؤ فعل. فتوجّه إِلى الشام واتَّبَعه ثَقَله، فأصيب شهيداً رحمه الله. كذا في الإستيعاب. وأخرجه الحاكم. من طريق ابن المبارك. نحوه.
رغبة خالد بن الوليد في الجهاد وطلبه القتل في سبيل الله
وأخرج ابن سعد عن زياد مولى آل خالد قال: قال خالد رضي الله عنه عند موته: ما كان في الأرض من ليلة أحب إليّ من ليلة شديدة الجليد في سريّة من المهاجرين، أصبِّح بهم العدوّ؛ فعليكم بالجهاد. كذا في الإِصابة. وأخرجه أبو يَعْلى عن قيس بن أبي حازم قال: قال خالد بن الوليد رضي الله عنه: ما ليلة تُهدى إلى بيتي فيها عروس أنا لها محب، أو أُبشَّر فيها بغلام، بأحبّ إليّ من ليلة شديدة الجليد في سريّة من المهاجرين أصَبِّح بها العدوّ. كذا في المجمع وقال: رجاله رجال الصحيح.
وأخرج أبو يَعْلى أيضاً عن قيس بن أبي حازم قال: قال خالد بن الوليد رضي الله عنه: لقد منعني كثيراً من القراءة الجهادُ في سبيل الله. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. وذكره في الإِصابة عن أبي يَعْلى عن خالد رضي الله عنه: لقد شغلني الجهاد عن تعلّم كثير من القرآن.(2/51)
وأخرج ابن المبارك في كتاب الجهاد عن عاصم بن بَهْدَلة عن أبي وائل قال: لما حضرتْ خالداً رضي الله عنه الوفاةُ قال: لقد طلبت القتل مظانّه فلم يُقدَّر لي إلا أن أموت على فراشي. وما من عملي شيءٌ أرجى عندي بعد أن لا إله إلا الله من ليلة بِتُّها وأنا متترِّس، والسماء تُهلُّني تمطر إلى الصبح حتى نُغير على الكفار. ثم قال: إِذا أن متّ فانظروا في سلاحي وفرسي فاجعلوه عُدّةً في سبيل الله. فلما توفي خرج عمر رضي الله عنه إلى جنازته فقال: ما على نساء آل الوليد أن يسفحن على خالد دموعهن ما لم يكن نقعاً أو لقلقة. كذا في الإِصابة، وقال: فهذا يدلُّ على أنه مات بالمدينة ولكن الأكثر على أنه مات بحِمص. انتهى. وأخرجه الطبراني أيضاً عن أبي وائل - بنحوه مختصراً. قال الهيثمي: وإِسناده حسن. انتهى.
رغبة بلال في الخروج في سبيل الله
وأخرح الطبراني عن عبد الله بن محمد، وعمر، وعمار إبني حفص عن آبائهم عن أجدادهم قالوا: جاء بلال إلى أبي بكر رضي الله عنهما، فقال: يا خليفة رسول الله، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أفضل عمل المؤمنين جهاد في سبيل الله» . وقد أردت أن أرابط في سبيل الله حتى أموت. فقال أبو بكر رضي الله عنه: أنا أنشدك بالله يا بلال، وحُرمتي وحقِّي، لقد كبرت سنّي وضعفت قوتي واقترب أجلي، فأقام بلال معه، فلما توفي أبو بكر جاء عمر فقال له: مثل مقالة أبي بكر؛ فأبى بلال عليه. فقال عمر: فمن يا بلال؟ قال: إلى سعد، فإنه قد أذَّن بقُباء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل(2/52)
عمر الأذان إلى عقبة وسعد. قال الهيثمي: وفيه عبد الرحمن بن سهل بن عمار وهو ضعيف. انتهى. وأخرجه ابن سعد أيضاً بهذا الإِسناد بنحوه.
وأخرج عن موسى بن محمد بن إِبراهيم التَّيْمي عن أبيه قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أذّن بلال رضي الله عنه ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقبر، فكان إذا قال: أشهد أنَّ محمداً رسول الله إنتحب الناس في المسجد. قال: فلما دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له أبو بكر رضي الله عنه: أذّن. فقال: إن كنتَ إنما أعتقتني لأن أكون معك فسبيل ذلك، وإن كنت أعتقتني لله فخلّني ومن أعتقتني له. فقال: ما أعتقتك إلا لله. قال: فإني لا أؤذّن لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذاك إليك. قال: فأقام حتى خرجت بعوث الشام فسار معهم حتى انتهى إليها. وعن سعيد بن المسيّب: أن أبا بكر لما قعد على المنبر يوم الجمعة قال له بلال: يا أبا بكر، قال: لبيك. قال: أعتقتني لله أو لنفسك؟ قال: لله. قال: فأخذن لي حتى أغزو في سبيل الله، أذن له. فذهب إلى الشام فمات ثَمَّ. وأخرجه أبو نُعيم في الحِلية عن سعيد - بنحوه.
إنكار المقداد على القعود عن الجهاد لآية النَفْر
وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن أبي يزيد المكي قال: كن أبو أيوب والمقداد رضي الله عنهما يقولان: أُمرنا أن ننفِر على كل حال، ويتأوَّلان هذه الآية: {انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً} (التوبة: 41) .
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي راشد الحَبْراني قال: وافيت(2/53)
المقداد بن الأسود رضي الله عنه فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً على تابوت من تابوت الصيارفة بحمص، قد فَضَل عنها من عِظَمِه، يريد الغزو؛ فقلت له: لقد أعذَر إِليك. قال: أتت علينا سورة البعوث: {انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً} . وأخرجه الطبراني عن أبي راشد - بنحوه؛ قال: الهيثمي: وفيه بقيّة بن الوليد وفيه ضعف، وقد وُثِّق؛ وبقية رجاله ثقات. انتهى. وأخرجه الحاكم، وابن سعد عن أبي راشد - بنحوه. وقال الحاكم: هذا حيث صحيح الإِسناد، لم يخرِّجاه. انتهى. وأخرجه البيهقي عن جُبير بن نُفير قال: جلسنا إلى المقداد بن الأسود رضي الله عنه بدمشق وهو على تابوت ما به عنه فَضْل. فقال له رجل: لو قعدت العام عن الغزو. قال: أتت علينا سورة البعوث يعني سورة التوبة؛ قال الله تبارك وتعالى: {انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً} فلا أجدني إِلا خفيفاً.
قصة أبي طلحة في ذلك
وذكر ابن عبد البر في الإستيعاب عن حمَّاد بن سلمة عن ثابت البُناني، وعلي بن زيد عن أنس: أن أبا طلحة رضي الله عنه قرأ سورة براءة؛ أتى على قوله تعالى: {انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً} . فقال: لا أرى ربَّنا إلا يستنفرنا شباباً(2/54)
وشيوخاً؛ يا بَنيَّ، جهّزوني جهّزوني. فقالوا له: يرحمك الله قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، ومع أبي بكر رضي الله عنه حتى مات، ومع عمر رضي الله عنه حتى مات؛ فدعنا نغزُ عنك. قال: لا، جهزوني، فغزا البحر فمات في البحر، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام، فدفنوه بها وهو لم يتغير. انتهى. وأخرجه ابن سعد من طريق ثابت، وعلي عن أنس - بنحوه مطوّلاً. وقد أخرجه البيهقي: والحاكم من طريق حماد عن ثابت وعلي عن أنس بمعناه مختصراً، قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرِّجاه. وأخرجه أيضاً أبو يعلى كما في المجمع مختصراً، وقال: رجاله رجال الصحيح.
قصة أبي أيوب في ذلك
وأخرج الحاكم عن محمد بن سِيرين قال: شهد أبو أيوب رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً، ثم لم يتخلَّف عن غزاة إلا عاماً واحداً؛ فإنه أستُعمل على الجيش رجلٌ شاب فقعد ذلك العام؛ فجعل بعد ذلك (العام) يتلهّف ويقول: ما عليّ من أستُعمل (عليَّ - ثلاثاً - قال) ، فمرض وعلى الجيش يزيد بن معاوية. فدخل عليه يعوده فقال: ما حاجتك؟ فقال: حاجتي إذا أنا متّ، فاركب بي ثم سُغْ بي في أرض العدوّ ما وجدت مساغاً، فإذا لم تجد مساغاً فادفني، ثم إرجع (فلما مات ركب به ثم سار به في أرض العدو وما وجد مساغاً ثم دفنه ثم رجع) . قال: وكان أبو أيوب رضي الله عنه يقول: قال الله عزّ وجلّ: {انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً} فلا أجدُني إلا خفيفاً أو ثقيلاً.(2/55)
وأخرجه أيضاً ابن سعد عن محمد - بنحوه، كما في الإِصابة. وقال: ورواه ابن إسحاق الفَزَاري عن محمد، وسمّى الشاب: عبد الملك بن مروان - انتهى.
وأخرج ابن عبد البرّ في الإستيعاب عن أبي ظَبْيان عن أشياخه عن أبي أيوب رضي الله عنه: أنه خرج غازياً في زمن معاوية رضي الله عنه فمرض. فلما ثَقُل قال لأصحابه: إِذا أنا متّ فاحملوني؛ فإذا صاففتم العدو فادفنوني تحت أقدامكم؛ ففعلوا - وذكر تمام الحديث. انتهى.
وأخرجه الإِمام أحمد كما في البداية عن أبي ظَبْيان قال: غزا أبو أيوب رضي الله عنه مع يزيدَ بن معاوية. قال فقال: إِذا متّ فأدخلوني في أرض العدو، فادفنوني تحت أقدامكم حيث تلقَون العدوّ. قال: ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة» . وأخرجه ابن سعد نحو سياق ابن عبد البرّ.
قصة أبي خيثمة في ترك نعيم الدنيا والخروج في سبيل الله
وذكر ابن إسحاق أن أب خيثمة رجع - بعدما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أياماً - إلى أهله في يوم حار، فوجد إمرأتين له في عريشين لهما في(2/56)
حائطه، قد رشَّت كل واحدة منها عريشها وبرَّدت (له) فيه ماء وهيأت له فيه طعاماً. فلما دخل قام على باب العريش فنظر إلى إمرأتيه وما صنعتا له. فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضحِّ والريح والحرّ، وأبو خيثمة في ظلّ بارد وطعام مهيّأ وامرأة حسناء (مقيم) في ماله، ما هذا بالنَّصَف (ثم قال) الله، لا أدخل عريش وحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فهيِّئا (لي) زاداً، ففعلتا. ثم قدّم ناضحه فارتحله، ثم خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدركه حين نزل تبوك، وقد كان أدرك أبا خيثمة عميرُ بن وهْب الجمحي في الطريق يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فترافقا حتى إذا دَنَا من تبوك. قال أبو خيثمة لعُمير بن وهْب: إنَّ لي ذنباً فلا عليك أن تتخلَّف عني حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل حتى إذا دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم (وهو نازل بتبوك) قال الناس: هذا راكب على الطريق مقبل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كُنْ أبا خيثمة» . فقالوا: يا رسول الله هو - والله - أبو خيثمة فلما أناخ) أقبل فسلَّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: (رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أولى لك يا أبا خيثمة» : خيراً، ودعا له بخير. وقد ذكر عُروة بن الزبير، وموسى بن عُقبة بن قصَّة أبي خيثمة بنحو من سياق ابن إسحاق وأبسط، وذكر أن خروجه إلى تبوك كان في زمن الخريف. كذا في البداية.
وأخرج الطبراني كما في المجمع عن سعد بن خيثمة رضي الله(2/57)
عنه قال: تخلّفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلت حائطاً، فرأيت عريشاً قد رُش بالماء، ورأيت زوجتي، فقلت: ما هذا بالإِنصاف، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في السَّموم والحميم وأنا في الظلّ والنعيم فقمت إلى ناضح فاحتقبته، وإِلى تمرات فتزوَّدتها، فنادت زوجتي: إلى أين يا أبا خيثمة؟ فخرجت أُريد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنت ببعض الطريق لقيني عُمير بن وهب، فقلت: إنك رجل جريء وإني أعرف جئت رضي الله عنه، وإني أمرؤ مذنب، فتخلّف عني حتى أخلوَ برسول الله صلى الله عليه وسلم فتخلف عني عمير. فلما طلعت على العسكر فرآني الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كُنْ أبا خيثمة» .d فجئت فقلت: كدتُ أهلِك يا رسول الله فحدثته حديثي. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً، ودعا لي. قال الهيثمي: وفيه يعقوب بن محمد الزهري، وهو ضعيف. انتهى.
حزن الصحابة رضي الله عنهم على عدم القدرة على الخروج والإِنفاق في سبيل الله قصة أبي ليلى وعبد الله بن مُغَفَّل
قال ابن إسحاق: بلغني أن ابن يامين النَّضْري لقي أبا ليلى وعبد الله بن مُغَفَّل رضي الله عنهما وهما يبكيان. فقال: ما يبكيكما؟ قالا: جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملَنا، فلم نجد عنده ما يحملنا عليه، وليس عندنا ما نتقوّى به على(2/58)
الخروج معه. فأعطاهما ناضحاً له، فارتحلاه وزوّدهما شيئاً من تمر، فخرجا مع رضي الله عنه. زاد يونس بن بكير عن ابن إسحاق: وأما عُلْبة بن زيد رضي الله عنه فخرج من الليل فصلَّى من ليلته ما شاء الله ثم بكى وقال: اللهمّ إنك أمرتَ بالجهاد ورغَّبتَ فيه، ثم لم تجعل عندي ما أتقوّى به، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه، وإني أتصدّق على كل مسلم بكل مظلِمة أصابني (بها) في مال أو جسد أو عرض، ثم أصبح مع الناس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أين المتصدّق هذه الليلة؟» فلم يقم أحد، ثم قال: «أين المتصدّق، فلْيقم؟» فقام إليه فأخبره. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أبشر، فوالذي نفسي بيده لقد كُتبت في الزكاة المتقبّلة» .. كذا في البداية. قال في الإِصابة: ذكر ابن إسحاق الحديث بغير إسناد، وقد ورد مسنداً موصولاً من حديث مجمع بن جارية، ومن حديث عمرو بن عوف وأبي عبس بن جَبْر، من حديث عُلْبة بن زيد وقتيبة. فقد روى ذلك ابن مردويه عن مجمع بن حارثة.
قصة علبة بن زيد رضي الله عنه
وروى ابن منده عن أبي عَبْس بن جَبْر قال: كان عُلبة بن زيد بن حارثة رضي الله عنه رجلاً من أصحاب رضي الله عنه. فلما حضّ على الصدقة جاء كل رجل منهم بطاقته وما عنده. فقال عُلبة بن زيد: اللهمَّ إنَّه ليس عندي ما أتصدّق بن. اللهمَّ إنِّي أتصدّق بعِرضي على من ناله من خلقك. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً، فنادى: «أين المتصدِّق بعرضه البارحة؟» . فقام علبة فقال: «قد قُبلت صدقتك» .(2/59)
وروى البزار عن لُبة بن زيد رضي الله عنه نفسِه قال: حثّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة - فذكر الحديث. قال البزّار: عُلبة هذا رجل مشهور من الأنصار، ولا نعلم له غير هذا الحديث. وروى ابن أبي الدنيا، وابن شاهين من طريق كَثِير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده نحوه - انتهى مختصراً. وأخرجه ابن النجار عن عُلبة بن زيد - مختصراً؛ كما في كنز العمال.
الإِنكار على من أخّر الخروج في سبيل الله إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على ابن رواحة
أخرج الإِمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى مؤتة، فاستعمل زيداً، فإنْ قتل زيد فجعفر، فإنْ قتل جعفر فابن رواحة؛ فتخلّف ابن رواحة. فجمَّع مع النبي صلى الله عليه وسلم فرآه فقال: ما خلَّفك؟ فقال: أجمِّع معك. قال: لَغَدوة أو رَوْحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها» - كذا في البداية. وأخرجه أيضاً ابن أبي شيبة عن ابن عباس - نحوه؛ كما في الكنز.
وأخرج الإِمام أحمد أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة رضي الله عنه في سريّة، فوافق ذلك يوم(2/60)
الجمعة. قال: فقدَّم أصحابه وقال: أتخلَّف فأصلِّي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة، ثم ألحقهم. قال: فلما صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه، فقال: «ما منك أن تغدوَ مع أصحابك؟» فقال: أردتُ أن أصلِّي معك الجمعة ثم ألحقَهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو أنفقتَ ما في الأرض جميعاً ما أدركت غَدْوتهم» . وهذا الحديث قد رواه الترمذي ثم علَّله بما حكاه عن شُعبة أنه قال: لم يسمع الحكم عن مُقَسِّم إلا خمسةَ أحاديث، وليس هذا منها. كذا في البداية.
إنكاره صلى الله عليه وسلم على رجل من أصحابه تأخيره الخروج
وأخرج الإِمام أمد أيضاً عن معاذ بن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه بالغزو. فقال رجل لأهله: أتخلّف حتى أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أسلِّم عليه وأودّعه، فيدعو لي بدعوة تكون سابقة يوم القيامة. فلما صلَّى النبي صلى الله عليه وسلم أقبل الرجل مسلِّماً عليه. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتدري بكم سبقك أصحابك؟» قال: نعم، سبقوني اليوم بغدوتهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده لقد سبقوك بأبعدَ ممّا بين المشرقين والمغربين في الفضيلة» . قال الهيثمي: وفيه زَبَّان بن فائد وثَّقه أبو حاتم، وضعَّفه جماعة؛ وبقية رجاله ثقات. انتهى.
أمره عليه السلام سرية بالخروج في الليل
وأخرج البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرّية تخرج. فقالوا: يا رسول الله، أنخرج الليلة أم نمكث حتى نصبِّح؟ فقال:(2/61)
«أوَ لا تحبون أن تبيتوا في خريف من خرائف الجنة؟» - والخريف: الحديقة - وأخرجه الطبراني أيضاً عن أبي هريرة - بنحوه: قال الهيثمي: وشيخه بكر بن سهل الدِمياطي؛ قال الذهبي: مقارب الحديث؛ وقال النِّسائي: ضعيف، وفيه ابن لهيعة أيضاً. انتهى.
إنكار عمر على معاذ بن جبل تأخيره الخروج
أخرج ابن راهَوَيْهِ، والبيهقي عن أبي زُرعة بن عمر بن جرير قال: بعث عمر بن الخطاب جيشاً وفيهم معاذ بن جبل رضي الله عنهما، فلما ساروا رأى معاذاً، فقال: ما حبسك؟ قال: أردت أن أصلِّي الجمعة ثم أخرج. فقال عمر: أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الغَدْوة والرَّوْحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها؟» كذا في كنز العمال.
العتاب على من تخلَّف عن سبيل الله وقصَّر فيه قصة كعب بن مالك الأنصاري
أخرج البخاري عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: لم أتخلّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك، غير أني كنت تخلّفت في غزوة بدر ولم يعاتِب أحداً تخلّف عنها؛ إِنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عِيَ قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد. ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإِسلام، وما أحبّ أن لي بها مشهد بدر؛ وإن كانت بدر أذكَرَ في الناس منها. وكان من خبري: أني لم أكن قطُّ(2/62)
أقوى ولا أيسر حين تخلَّفت عنه في تلك الغزوة، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قطّ حتى جمعتهما في تلك الغزوة، ولم يكن رسول الله يريد غزوة إلا ورّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرّ شديد، واستقبل سفراً بعيد ومفازاً وعدوّاً كثيراً، فجلَّى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد. والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ - يريد الديوان -. قال كعب: فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظنّ أنْ سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي الله.
وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، وتجهّز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه. فطفقت أغدو لكي أتجهَّز معهم فأرجع ولم أقضِ شيئاً، فأقول في نفسي: أنا قادر عليه، فلم يزل يتمادَى بي حتى اشتد بالناس الجدّ، فأصبح رسول الله والمسلمون معه، لم أقضِ من جَهازي شيئاً، فقلت: أتجهز بعد يوم أو يومين، ثم ألحقهم؛ فغدوت بعد أن فَصَلوا لأتجهّز، فرجعت ولم أقضِ شيئاً. ثم غدوت، ثم رجعت ولم أقضِ شيئاً. فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم، - وليتني فعلت - فلم يقدَّر لي ذلك. فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت فيهم، أحزنني أني لا أرى إِلا رجلاً مغموصاً عليه النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء. ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك. فقال - وهو جالس في القوم بتبوك -: «ما فعل كعب؟» فقال رجل من بني سِلمة؛ يا رسول الله، حبسه بُراده ونَظَرُه في عِطْفيه، فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت، والله يا رسول الله، ما علمنا عليه إِلا خيراً، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم(2/63)
قال كعب بن مالك: فلما بلغني أنه توجه قافلاً حضرني همِّي، وطفقت أتذكَّر الكذب وأقول: بماذا أخرج من سخطه غداً؟ واستعنتُ على ذلك بكل ذي رأيٍ من أهلي. فلما قيل: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظلَّ قادماً زاح عني الباطل، وعرفت أنِّي لن أخرج منه أبداً بشيء فيه كذب، فأجمعت صدقه. وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادماً، فكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس. فلما فعل ذلك جاءه المخلَّفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له - وكانوا بضعةً وثمانين رجلاً - فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم، وبايعهم واستغفر لهم، ووكَل سرائرهم إلى الله عزّ وجلّ. فجئته، فلما سلّمت عليه تَبَسَّم تَبَسُّمِ المُغْضَب، ثم قال: «تعالَ» . فجئت أمشي حتى جلست بين يديه. فقال لي: «ما خلّفك؟ ألم تكن قد ابتعتَ ظَهْرك؟» فقلت: بلى، إني - والله - لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيتُ أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أُعطيتُ جدلاً، ولكني - والله - لقد علمتُ لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضَى به عني ليوشِكَنَّ الله أنْ سخطك عليّ، ولئن حدثتك حديث صدق تجد عليّ فيه إني لأرجو فيه عفو الله، لا والله ما كان لي من عذر، ووالله ما كنت قطُّ أقوى ولا أيسر مني حين تخلّفت عنك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أمّا هذا فقد صدق، فقم حتى يقضيَ الله فيك» . فقمت. فثار رجال من بني سَلِمة فاتَّبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا؟ ولقد عَجزَت أن لا تكون اعتذرتَ إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلّفون، وقد كان كافيكَ ذنبَكَ إستغفارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لك. فوالله ما زالوا يؤنّبونني حتى هممت أن أرجع فأكذِّب نفسي، ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم، رجلان. قالا مثل ما قلت، وقيل لهما: مثل ما قيل لك. فقلت: من هما؟ قالوا: مُرارة بن الربيع
العَمْري، وهِلال بن أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً فيهما أُسوة، فمضيت حين ذكروهما لي.
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيُّها الثلاثة من بين من تخلّف(2/64)
عنه، فاجْتنبَنَا الناس وتغيّروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرضُ، فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشَبَّ القوم وأجلَدهم؛ فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلّمُ عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، وأقول في نفسي: هل حرَّك شفتيه بردّ السلام عليّ أم لا؟ ثم أصلِّي قريباً منه فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إليّ، وإِذا التفتّ نحوه أعرض عني. حتى إذا طال عليّ ذلك من جَفْوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة - وهو ابن عمِّي وأحبُّ الناس إليّ - فسلَّمت عليه، فوالله ما رد عليّ السلام؛ فقلت: يا أبا قتادة، أنشدك بالله هل تعلمني أحبّ الله ورسوله؟ فسكت. فعدت له فنَشَدته، فسكت. فعدت له فنَشَدته، فقال: الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي وتولّيت حتى تسوَّرتُ الجدار.
قال: وبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نَبَطيٌ من أنباط أهل الشام ممّن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدلّني على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له، حتى إِذا جاءني دفع إليّ كتاباً من ملك غسان (في سَرَقة من حرير) فإذا فيه:
ب>2 «أما بعد: فإنه قد بلغني أنَّ صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هَوانٍ ولا مَضْيَعة، فالحقْ بنا نواسِك» .
فقلت لما قرأتها وهذا أيضاً من البلاء، فتيممت بها التنور فسجرته بها.
(فأقمنا على ذلك) ، حتى إذا مضَت أربعون ليلة من الخمسين، إِذا رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يأتيني، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل إمرأتك. فقلت: أطلّقها أم ماذا أفعل؟ قال: «لا، بل إعتزلها ولا تقربها» ، وأرسل إلى(2/65)
صاحبيّ بمثل ذلك. فقلت لامرأتي: إلحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر. قال كعب: فجاءت إمرأة هلال بن أُمية إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله إنَّ هلال بن أُمية شيخ ضائع، ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: «لا، ولكن لا يقربْك» . قالت: إنه - والله - ما به حركة إلى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إِلى يومه هذا. فقال لي بعض أهلي: لو استأذنتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في إمرأتك كما استأذن هلال بن أُميّة أن تخدمه. فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يُدريني ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا استأذنته فيها، وأنا رجل شاب؟.
قال: فلبثت بعد ذلك عشر ليالٍ حتى كملت لن خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا. فلما صليت الفجر صبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله عزّ وجلّ قد ضاقت عليَّ نفسي، وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت - سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سَلْع يقول بأعلى صوته: يا كعب أبشر، فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء فرج. وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله علينا حين صلَّى صلاة الفجر. فذهب الناس يبشِّروننا، وذهب قَبِل صاحبيَّ مبشرون، وركض رجل إليّ فرساً، وسعى ساعٍ من أسلَم فأوفى على الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس. فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيَّ فكسوته إياهما ببشراه، ووالله ما أملك غيرهما يومئذٍ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئونني بالتوبة يقولون: لتهنِكَ توبة الله عليك. قال كعب: حتى دخلت المسجد فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حولَه الناس؛ فقام إليّ طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه يهرول حتى صافحني وهنّأني، والله ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيرُه؛ ولا أنساها لطلحة. قال كعب: فلما سلّمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو(2/66)
يبرق وجهه من السرور - «أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك» قال قلت: أمِنْ عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: «لا، بل من عند الله» ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرّ استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر؛ وكنا نعرف ذلك منه. فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صَدَقةً إلى الله وإِلى رسوله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك. قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر، وقلت: يا رسول الله إنَّ الله إنما نجّاني بالصدق، وإِن من توبتي،
ألا أُحدِّث إلا صدقاً ما بقيت؛ فوالله ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني، ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذباً، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم {لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِىّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالاْنصَارِ} - إلى قوله - {وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة: 117 - 119) ، فوالله ما أنعم الله عليّ من نعمة قط بعد أن هداني للإِسلام أعظم من نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكون كذبته، فأهلِك كما هلَك الذين كذبوا؛ فإن الله تعالى قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شرّ ما قال لأحد؛ قال الله تعالى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} (التوبة: 95/ 96) .
قال كعب: وكنا خُلِّفنا - أيها الثلاثة - عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه. فبذلك قال الله تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الارْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (التوبة: 118) ، ليس الذي ذكر الله مما خُلِّفنا من الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن(2/67)
حلف له، واعتذر إليه، فقبل منهم. وهكذا رواه مسلم، وابن إسحاق. رواه الإِمام أحمد بزيادات يسيرة. كذا في الإِصابة. وأخرجه أيضاً أبو داود، والنِّسائي بنحوه مفرقاً مختصراً. وروى الترمذي قطعة من أوله، ثم قال: وذكر الحدث. كذا في الترغيب. وأخرجه البيهقي بطوله.
التهديد على من أقام في الأهل والمال وترك الجهاد تحقيق أبي أيوب في مراد آية {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}
أخرج البيهقي عن أبي عمران رضي الله عنه قال: كنا بالقسطنطينية، وعلى أهل مصر عُقبة بن عامر، وعلى أهل الشام رجل - يريد فَضالة بن عبيد - رضي الله عنهما، فخرج من المدينة صف عظيم من الروم، فصففنا لهم، فحمل رجل من المسلمين على الروم حتى دخل فيهم ثم خرج علينا، فصاح الناس إِليه فقالوا: سبحان الله ألقى بيده إلى التهلكة. فقام أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه - صاحبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا أيها الناس، إِنكم لتأوِّلون هذه الآية على هذا التأويل، إنما أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، إِنَّا لما أعزّ الله دينه وكَثُر ناصروه فقلنا - فيما بيننا بعضنا لبعض سراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ: إِنَّ أموالنا قد ضاعت، فلو أقمنا فيها فأصلحنا ما ضاع منها. فأنزل(2/68)
الله عزّ وجلّ - يردّ علينا ما هممنا به - فقال: {وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (البقرة: 195) ، فكانت التهلكة في الإِقامة التي أردنا أن نقيم في أموالنا نصلحها. فأمرنا بالغزو فما زال أبو أيوب رضي الله عنه غازياً في سبيل الله حتى قبضه الله عزّ وجلّ.
وأخرجه أيضاً البيهقي من وجه آخر عن أبي عمران رضي الله عنه قال: غزونا المدينة - يريد القُسطنطينية -، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة. فحمل رجل على العدوّ. فقال الناس: مَهْ مَهْ لا إله إلا الله يلقي بيده إلى لتهلكة. فقال أبو أيوب رضي الله عنه: إنما أُنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار؛ لمّا نصر الله نبيه وأظهر الإِسلام. قلنا: هَلُمَّ نقيم في أموالنا ونصلحها. فأنزل الله تعالى: {وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ، فالإِلقاء بأيدينا إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحَها وندعَ الجهاد. قال أبو عمران: فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقُسطنطينية.
وأخرج أبو داود، والترمذي، والنِّسائي عنأ بي عمران رضي الله عنه قال: حمل رجل من المهاجرين بالقُسطنطينية على صفِّ العدوّ حتى خرقه؛ ومعنا أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه. فقال ناس: ألقَى بيده إلى التهلكة. فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية، إنما نزلت فينا. صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدنا معه المشاهد ونصرناه، فلما فشا الإِسلام وظهر اجتمعنا معشر الأنصار تحبّباً، فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصره حتى فشا الإِسلام وكثر(2/69)
أهله، وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهما؛ فنزل فينا {وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ، فكانت التهلكة في الإِقامة في الأهل والمال وترك الجهاد. وأخرجه أيضاً عبد بن حُميد في تفسيره، وابن أبي حاتم، وابن جرير، وابن مَرْدَوَيْه، وأبو يَعْلى في مسنده، وابن حِبَّان في صحيحه، والحاكم في مستدركه. وقال الترمذي: حسن صحيح غريب. وقال الحاكم: على شرط الشيخين، ولم يخرِّجاه. كذا في تفسير لابن كثير.
التهديد والترهيب لمن اشتغل بالزراعة وترك الجهاد إنكار عمر على عبد الله العنسي
أخرج ابن عائذ في المغازي عن يزيد بن أبي حبيب قال: بلغ عمر بن الخطاب أنَّ عبد الله بن الحرّ العنسي رضي الله عنهما زرع أرضاً بالشام، فأنهب زرعه وقال: إنطلقت إلى ذلَ وصَغار في أعناق الكبار، فجعلته في عنقك. كذا في الإِصابة.
إنكار عبد الله بن عمرو بن العاص على رجل ترك الجهاد
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني قال: مرّ(2/70)
بعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما نفر من أهل اليمن، فقالوا له: ما تقول في رجل أسلم فحسن إسلامه، وهاجر فحسنت هجرته، وجاهد فحسن جهاده، ثم رجع إلى أبويه باليمن فبرّهما ورحمهما؟ قال: ما تقولون أنتم؟ قالوا نقول: قد ارتدّ على عقبيه.d قال: بل هو في الجنة؛ ولكن سأخبركم بالمرتد على عقبيه: رجل أسلم فحسن إسلامه، وهاجر فحسنت هجرته، وجاهد فحسن جهاده، ثم عَمَدَ إلى أرض نَبَطيّ فأخذها منه بجزيتها ورزقها، ثم أقبل عليها يعمّرها وترك جهاده، فذلك المرتد على عقبيه.
السرعة في السير في النفر في سبيل الله لاستئصال الفتنة قصة غزوة المُرَيْسيع
أخرج البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا في غزاة - قال سفيان مرة: في جيش - فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار؛ فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين: فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما بال دعوى جاهلية؟» قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال: «دعوها فإنَّه منتنة» . فسمع بذلك عبد الله بن أبيّ فقال: فَعَلوها؟؛ - والله - لئن رجعنا إلى المدينة ليخرِجنّ الأعزّ منها الأذلّ. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقام عمر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله دَعْني أضربْ عنق هذا المنافق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «دَعْه، لا يتحدّث الناس أنَّ محمداً يقتل أصحابه» . كانت الأنصار أكثر من المهاجرين حين قدموا المدينة، ثم إن المهاجرين كثروا بعد. وأخرجه أيضاً مسلم، والإِمام أحمد، والبيهقي عن(2/71)
جابر رضي الله عنه - بنحوه؛ كما في التفسير لابن كثير.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير، وعمرو بن ثابت الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا غزوة المُرَيْسيع، - وهي التي هدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها مناة الطاغية التي كانت بين قفا المشلَّل وبين البحر - فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه فكسر مَناة، فاقتتل رجلان في غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك، أحدهما من المهاجرين والآخر من بَهْز - وهم حلفاء الأنصار - فاستعلى الرجل الذي من المهاجرين على البهزيّ، فقال: يا معشر الأنصار، فنصره رجال من المهاجرين، حتى كان بين أولئك الرجال من المهاجرين والرجال من الأنصار شيء من القتال. ثم حُجز بينهم، فانكفأ كل منافق أو رجل في قلبه مرض إلى عبد الله بن أبيّ بن سلول. فقال: قد كنت تُرجى وتَدفع فأصبحت لا تضرّ ولا تنفع، قد تناصرت علينا الجلابيب - وكانوا يَدْعون كل حديثِ الهجرة الجلابيب - فقال عبد الله بن أُبيّ - عدو الله - والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ. قال مالك بن الدُّخشْن - وكان من المنافقين -: ألم أقل لكم لا تنفقوا على من عندَ رسول الله حتى ينفَضُّوا؟ فسمع بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأقبل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إئذن لي في هذا الرجل الذي قد أفتن الناس أضربْ عنقه - يريد عمر رضي الله عنه عبد الله بن أُبيّ -. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: «أوَ قاتله أنت إن أمرتك بقتله؟» فقال: عمر: نعم - والله - لئن أمرتني بقتله لأضربنَّ عنقه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلس. فأقبل أُسَيد بن حُضَير رضي الله عنه وهو أحد الأنصار ثم أحد بني عبيد الأشهل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إئذن لي في هذا الرجل الذي قد أفتن الناس أضربْ عنقه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أوَ
قاتله أنت
إن أمرتك بقتله؟ قل: نعم - والله - لئن أمرتني بقتله لأضربنّ بالسيف(2/72)
تحت قُرْط أُذنيه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلس؛ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «آذنوا بالرحيل» ، فهجَّر بالناس، فسار يومه وليلته والغد حتى متع النهار؛ ثم نزل ثم هجَّر بالناس مثلها حتى صبَّح في ثلاث سارها من قفا المشلّل. فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أرسل إلى عمر فدعاه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أيْ عمر، أكنت قاتله لو أمرتك بقتله؟» فقال عمر: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لو قتلته يومئذٍ لأرغمت أنوف رجال، لو أمرتهم اليوم بقتله لقتلوه، فيتحدّث الناس أنِّي قد وقعت على أصحابي فأقتلهم صَبْراً وأنزل الله عزّ وجلّ:
{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّواْ} - إلى قوله تعالى - {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ} (المنافقون: 7، 8) - الآية. قال ابن كثير في تفسيره: هذا سياق غريب، وفيه أشياء نفيسة لا توجد إلا فيه، انتهى. وقال ابن حجر في فتح الباري: وهو مرسل جيد. انتهى. وقد ذكر ابن إسحاق القصة بطولها كما في الإِصابة، وفي سياقه: ثم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصَدْرَ يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس فلم يلبثوا أن وجدا مَسَّ الأرض فوقعوا نياماً، وإنما فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن أُبيّ.
الإِنكار على من لم يتم الأربعين في سبيل الله
أخرج عبد الرزاق عن زيد بن أبي حبيب قال: جاء رجل إِلى عمر(2/73)
بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: أينت كنت؟ قال: كنت في الرب اط. قال: كم رابطت قال: ثلاثين. قال: فهلا أتممت أربعين. كذا في كنز العمال.
الخروج لثلاثة أربعينات في سبيل الله قصة إمرأة وما قضى عمر في الخروج في سبيل الله
أخرج عبد الرزاق عن ابن جُريج قال: أخبرني من أصدِّق أن عمر رضي الله عنه بينا هو يطوف سمع إمرأة تقول:
تطاول هذا الليلُ واسودَّ جانبهْ
وأرَّقني أن لا حبيبَ ألاعبُهْ
فلولا حِذارُ الله لا شيءَ مثلُه
لزُعزع من هذا السرير جوانبُهْ
فقال عمر رضي الله عنه: مالك؟ قالت: أغرَبْت زوجي منذ أشهر، وقد اشتقت إليه. قال: أردتِ سوءاً. قالت: معاذ الله قال: فاملكي عليك نفسك، فإنما هو البريد إليه. فبعث إِليه، ثم دخل على حفصة رضي الله عنها فقال: إني سائلك عن أمر قد أهمّني فأفرجيه عني، في كم تشتاق المرأة إلى زوجها؟ فخفَضَت رأسها واستحيت. قال: فإن الله لا يستحيي من الحق. فأشارت بيدها ثلاثة أشهر، وإلا فأربعة أشهر. فكتب عمر رضي الله عنه أن لا تُحبس الجيوش فوق أربعة أشهر. كذا في الكنز.
وأخرجه البيهقي من طريق مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه من الليل فسمع إمرأة تقول:
تطاول هذا الليل واسود جانبه
وأرَّقني أنْ لا حبيبَ ألاعبُهْ(2/74)
فقال عمر بن الخطاب لحفصة بنت عمر رضي الله عنهما: كم أكثرَ ما تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: ستةَ أو أربعةَ أشهر. فقال عمر: لا أحبس الجيش أكثر من هذا.
رغبة الصحابة في تحمُّل الغبار في سبيل الله إنكاره عليه السلام على كراهية الغبار في سبيل الله
أخرج الطبراني عن ربيعِ بن زيد قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير معتدلاً إذ أبصر شاباً من قريش يسير معتزلاً (عن الطريق) . فقال: «أليس ذاك فلاناً؟» قالوا نعم. قال: «فادعوه» ، فجاء فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «مالك اعتزلت عن الطريق؟» قال: كرهت الغبار. قال: «فلا تعتزله، فوالذي نفسي بيده إِنه لذريرة الجنة» .
قال الهيثمي: رواه الطبراني، ورجاله ثقات. انتهى.
قصة جابر بن عبد الله في الباب
وأخرج ابن حِبَّان في صحيحه عن أبي المُصبِّح المُقْرائي قال: بينما نحن نسير بأرض الروم في طائفة عليها مالك بن عبد الله الخثعمي، إذ مرّ مالك بجابر بن عبد الله رضي الله عنهما وهو يقود بغلاً له، فقال له مالك: أيْ أبا عبد الله إركب فقد حملك الله. فقال جابر: أصلح دابتي، وأستغني عن قومي، وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من اغبرت قدماه في سبيل الله حرَّمه الله على النار» . فسار حتى إذا كان حيث يسمعه الصوت نادى بأعلى صوته: يا أبا عبد الله إركب فقد حملك الله، فعرف جابر الذي يريد، فقال أصلح(2/75)
دابتي، وأستغني عن قومي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من اغبرت قدماه في سبيل الله حرّمه الله على النار. فتواثب الناس عن دوابهم، فما رأيت يوماً أكثر ماشياً منه. ورواه أبو يَعْلى بإسناد جيِّد إلا أنه قال: عن سليمان بن موسى قال: بينما نحن نسير - فذكره بنحوه؛ وقال فيه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله إلا حرّم الله عليهما النار» ؛ فنزل مالك ونزل الناس يمشون، فما رئي يومُ أكثر ماشياً منه. كذا في الترغيب. قال الهيثمي: رواه أبو يَعلى، ورجاله ثقات. انتهى. وقال في الإِصابة: وهذا الحديث قد أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده بسنده المذكور - أي عن أبي المُصَبِّح - فقال فيه: إذ مرّ جابر بن عبد الله. وكذا أخرجه ابن المبارك في كتاب الجهاد؛ وهو في مسند الإِمام أحمد؛ وصحيح ابن حِبَّان من طريق ابن المبارك. انتهى. وأخرجه البيهقي من طريق أبي المُصَبِّح - بنحوه.
الخدمة في الجهاد في سبيل الله خدمة المفطرين للصائمين في سبيل الله
أخرج مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: كنَّا مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر، فمنّا الصائم، ومنَّا المفطر. قال: فنزلنا منزلاً في يوم حار أكثرنا ظلاً(2/76)
صاحب الكِساء؛ ومنَّا من يتقي الشمس بيده. قال: فسقط الصُوَّام وقام المفطرون فضربوا الأبنية، وسقَوا الركاب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ذهب المفطرون اليوم بالأجر» . وأخرجه البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أكثرنا ظلا من يستظل بكِسائه؛ وأما الذين صاموا فلم يعملوا شيئاً، وأما الذين أفطروا فبعثوا الركاب، وامتهنوا، وعالجوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ذهب المفطرون اليوم بالأجر» .
خدمة الصحابة لرجل يشتغل بالقرآن والصلاة
وأخرج أبو داود في مراسيله عن أبي قِلابة رضي الله عنه: أن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قدموا يُثْنون على صاحب لهم خيراً. قالوا: ما رأينا مثل فلان قط، ما كان في مسير إلا كان في قراءة، ولا نزلنا في منزل إلا كان في صلاة. قال: «فمن كان يكفيه ضيعته» - حتى ذكر -: ومن كان يعلف جمله أو دابته؟» قالوا: نحن. قالوا: «فكلّكم خير منه» . كذا في الترغيب.
حمل سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم متاع الصحابة
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن سعيد بن جَمْهان قال: سألت سفينة عن إسمه. فقال: إني مخبرك باسمي: سمّاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سفينة. قلت: لِمَ سماك سفينة؟ قال: خرج ومعه أصحابه، فثقل عليه متاعهم. فقال:(2/77)
«إبسط كساءك» . فبسطته، فجعل فيه متاعهم ثم حَملَه عليّ. فقال: «إحمل ما أنت إلا سفينة» قال: فلو حملت يومئذٍ وقْرَ بعير أو بعيرين أو خمسة أو ستة ما ثقل عليَّ.
قصة أحمر مولى أم سلمة ومجاهد مع ابن عمر
وأخرج الحسن بن سفيان، وابن مَنْدَه، والمالِيني، وأبو نُعيم عن أحمرَ مولى أم سَلَمة رضي الله عنهما قال: كنَّا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غَزَاة، فمررنا بوادٍ فجعلت أعبِّرُ الناس. فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم «ما كنت في هذا اليوم إلا سفينة» . كذا في المنتخب. وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن مجاهد قال: كنت أصحب ابن عمر رضي الله عنهم في السفر، فإن أردت أن أركب يأتيني فيمسك ركابي، وإِذا ركبت سوّى ثيابي. قال مجاهد: فجاءني مرة فكأني كرهت ذلك. فقال: يا مجاهد إنَّك ضيِّق الخُلُق.
الصوم في سبيل الله صوم النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة في سبيل الله مع شدة الحر
أخرج مسلم عن أم الدَرْداء قالت: قال أبو الدَرْداء: لقد رأيتُنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم شديد الحرّ، حتى إِن الرجل ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إِلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة. وفي رواية أخرى له له عن أم الدرداء عن أبي الدرداء رضي الله عنهما قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان في حرّ شديد - فذكره. وأخرج مسلم أياً عن أبي سعيد الخِدري رضي الله عنه قال: كنا نغزو مع رسول الله(2/78)
صلى الله عليه وسلم في رمضان، فنّا الصائم ومنّا المفطر، فلا يجد، الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، يَروْن أنّ من وَجَد قوة فصام فإن ذلك حسن، ويرون أنَّ من وجد ضعفاً فأفطر فإن ذلك حسن.
صوم عبد الله بن مخرمة يوم اليمامة
وأخرج ابن عبد البَرِّ في الإستيعاب عن ابن عمر رضي الله عنها قال: أتيت على عبد الله بن مَخْرَمة رضي الله عنه صريعاً يوم اليمامة فوقفت عليه. فقال: يا عبد الله بن عمر هل أفطر الصائم؟ قلت: نعم. قال: فاجعل في هذا المِجَنِّ ماءً لعلِّي أفطر عليه. قال: فأتيت الحوض وهو مملوء ماء فضربته بحَجَفة معي، ثم اغترفت فيه؛ فأتيت به فوجدته قد قضى نحبه. وأخرجه أيضاً ابن أبي شَيْبة، والبخاري في التاريخ؛ كما في الإِصابة، قال: وأخرجه ابن المبارك في الجهاد من وجه آخر عن ابن عمر أتم منه.
صوم عوف بن أبي حيَّة وقول عمر فيه
وأخرج ابن أبي شيبة في مصنَّفه بسند صحيح عن قيس بن أبي حازم عن مُدْرِك بن عوف الأحْمسي قال: بينما أنا عند عمر رضي الله عنه إذ أتاه رسول النعمان بن مقرِّن، فسأله عمر عن الناس. فذكر من أصيب من المسلمين وقال: قتل فلان وفلان، وآخرون لا نعرفهم، فقال عمر: لكنَّ الله يعرفهم. قالوا: ورجل اشترى نفسه - يعنون عوف بن أبي حيَّة الأحمسي أبا(2/79)
شَبِيل - قال مدرك بن عوف: يا أمير المؤمنين، والله خالي يزعم الناس أنه ألقى بيده إلى التهلكة. فقال عمر: كذب أولئك، ولكنه اشترى الآخرة بالدنيا. قال: وكان أصيب وهو صائم، فاحتُمل وبه رمق، فأبى أن يشرب حتى مات. كذا في الإِصابة.
صوم أبي عمرو الأنصاري
وقد تقدم (ص 324) حديث محمد بن حنفية في «تحمُّل شدّة العطش» قال: رأيت أبا عمرو الأنصاري رضي الله عنه - وكان بَدْرِياً عَقَبِياً أُحُدِياً - وهو صائم يتلوّى من العطش، وهو يقول لغلامه: ويحك تَرَّسيْني، فترسه الغلام حتى نزع بسهم نزعاً ضعيفاً - فذكر الحديث، وفيه: فقتل قبل غروب الشمس: أخرجه الطبراني، والحاكم.
الصلاة في سبيل الله صلاة النبي عليه السلام يوم بدر
أخرج ابن خُزيمة عن علي رضي الله عنه قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتُنا وما فينا إلا نائم؛ إلا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح. كذا في الترغيب.
صلاة النبي عليه السلام في عسفان
وأخرج الإِمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنَّا مع رسول(2/80)
الله صلى الله عليه وسلم بعُسْفان؛ فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة؛ فصلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر. فقالوا: قد كانوا على حال لو أصبنا غِرَّتهم، ثم قالوا: تأتي الآن عليهم صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم. قال: فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآيات بين الظهر والعصر: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً واحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} (النساء: 102) - فذكر صلاة الخوف. وعند مسلم عن جابر رضي الله عنه قالوا: إِنه ستأتيهم صلاة هي أحب إليهم من الأولاد. كذا في البداية.
صلاة عباد بن بشر الأنصاري في سبيل الله
وأخرج ابن إسحاق عن جابر رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرِقاع من نخل، فأصاب رجل إمرأة رجل من المشركين. فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلاً أتى زوجُها - وكان غائباً - فلما أُخبر الخبر حلف لا ينتهي حتى يُهَرِيقَ في أصحاب محمد دماً. فخرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلاً فقال: «من (رجل) يكلؤنا ليلتَنا؟» فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار فقالا: نحن يا رسول الله. قال: «فكونا بفم الشِّعب من الوادي» وهما: عمار بن ياسر وعبَّاد بن بشر. فلما خرجا إلى فم الشِّعب قال الأنصاري للمهاجري: أيُّ الليل تحب أن أكفيكَهُ أولَه أم آخرَه؟ قال: بل أكفني أوّلَه، فاضطجع المهاجري فنام؛ وقام(2/81)
الأنصاري يصلِّي. قال: وأتى الرجل: فلما رأى شخص الرجل عرف أنه ربيئةُ القوم، فرمى بهم فوضعه فيه، فانتزعه ووضعه وثبت قائماً. قال: ثم رمى بسهم آخر فوضعه فيه، فنزعه فوضعه وثبت قائماً. قال: ثم عاد له بالثالث، فوضعه فيه، فنزعه فوضعه، ثم ركع وسجد، ثم أهبَّ صاحبه، فقال: إجلس فقد أُثْبِتُّ. قال: فوثب الرجل، فلما رآهما عرف أنه قد نذِرا به، فهرب. قال: ولما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدماء قال: سبحان الله أفلا أهببتني أول ما رماك؟ قال: كنت في سورة أقرؤها، فلم أحبَّ أن أقطعها حتى أنفذها. فلما تابع عليَّ الرمي ركعت فآذنتك، وايْمُ الله، لولا أن أضيِّع ثغراً أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه لقَطَع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها. ورواه أبو داود من طريقه - كذا في البداية. وأخرجه أيضاً ابن حِبَّان في صحيحه، والحاكم في المستدرك - وصححه - والدارقطني، والبيهقي في سننهما؛ وعلقه البخاري في صحيحه كما في نصب الراية. ورواه البيهقي في دلائل النبوة وقال فيه: فنام عمار بن ياسر، وقام عبَّاد بن بشر رضي الله عنهما يصلي،
وقال:
كنت أصلي بسورة وهي الكهف، فلم أحب أن أقطعها اهـ.(2/82)
صلاة عبد الله بن أنيس في سبيل الله
وأخرج الإِمام أحمد عن عبد الله بن أُنَيس رضي الله عنه قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنه قد بلغني أن خالد بن سفيان بن نُبَيح الهُذلي يجمع لي الناس ليغزوَني وهو بعُرنة فأْتِهِ فاقتله» . قال قلت: يا رسول الله، إنعته لي حتى أعرفَه. قال: «إذا رأيتَه وجدتَ له قُشعريرة» . قال: فخرجت متوشِّحاً بسيفي حتى وقعت عليه وهو بعُرنَة مع ظُعُن يرتاد لهنَّ منزلاً وحين كان وقت العصر. فلما رأيتُه وجدتُ ما وصف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من القُشعريرة، فأقبلت نحوه، وخشيتُ أن يكون بيني وبينه مجاولة تشغلني عن الصلاة، فصلّيت وأنا أمشي نحوه أُومىء برأسي للركوع والسجود. فلما انتهيت إليه قال: مَنِ الرجل؟ قلت: رجل من العرب، سمع بك وبجمعك لهذا الرجل فجاءك لذلك. قال: أجلْ، أنا في ذلك.
قال: فمشيت معه شيئاً حتى إذا أمكنني حملت عليه السيف حتى قتلته، ثم خرجت وتركت ظعائنه مُكِبَّات عليه. فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآني قال: «أفلح الوجه» . قال: قلت: قتلته يا رسول الله. قال: «صدقت» . قال: ثم قام معي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل في بيته فأعطاني عصاً، فقال: «أمسك هذه عندك يا عبد الله بن أُنَيس» . قال: فخرجت بها على الناس، فقالوا: ما هذه العصا؟ قال: قلت: أعطانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرني أن أمسكَها. قالوا: أوَ لا ترجع إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتسأله عن ذلك؟ قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله لم أعطيتني هذه العصا؟ قال: «آية بيني وبينك يوم القيامة، إن أقلَّ الناس المتخصِّرون يومئذٍ» . قال: فقرنها عبد الله بسيفه، فلم تزل معه حتى إذا مات أمر بها فضمت في كفنه، ثم دُفِنا جميعاً. كذا في(2/83)
البداية.
قيام الليل في سبيل الله
وأخرج الطبري عن عروة رضي الله عنه قال: لما تدانى العسكران يوم اليرموك بعث القُبُقْلار رجلاً عربياً - فذكر الحديث؛ وفيه: فقال له: ما وراءك؟ قال: بالليل رهبان وبالنهار فرسان.
وأخرج أحمد بن مروان المالكي عن أبي إسحاق - فذكر الحديث، وفيه: قال هِرَقل: فمال بالكم تنهزمون؟ فقال شيخ من عظمائهم: من أجل أنهم يقومون الليل ويصومون النهار. وأخرجه ابن عساكر عن ابن إسحاق.
وستأتي تلك الأحاديث في «أسباب التأييدات الإلهية» . وقد تقدم (ص 255) حديث هند بنت عتبة عند ابن منده في «بيعة النساء» ، قالت هند: إني أريد أن أبايع محمداً. قال أبو سفيان: قد رأيتك تكفرين. قالت: إِي والله. والله ما رأيت الله تعالى عُبد حق عبادته في هذا المسجد قبل الليلة، والله إِنْ باتوا إلا مصلِّين قياماً وركوعاً وسجوداً.
الذكر في سبيل الله ذكر الصحابة في ليلة الفتح
أخرج البيهقي عن سعيد بن المسيِّب قال: لمَّا كان ليلةُ دخل الناس مكة ليلةُ الفتح: لم يزالوا في تكبير وتهليل وطواف بالبيت حتى أصبحوا. فقال أبو سفيان لهند: أَتَرين هذا من الله؟ قالت: نعم، هذا من الله.s قال: ثم أصبح(2/84)
أبو سفيان فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قلتَ لهند: أتَرين هذا من الله؟ قالت: نعم، هذا من الله» . فقال أبو سفيان: أشهد أنك عبد الله ورسوله؛ والذي يَحلِف به (أبو سفيان) ما سمع قولي هذا أحد من الناس غير هند. كذا في البداية. وأخرجه ابن عساكر عن سعيد مثله، كما في الكنز: وقال: سنده صحيح.
ذكر الصحابة عند الإِشراف على وادٍ بغزوة خيبر
وأخرج البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر - أو قال: لما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر - أشرف الناس على وادٍ فرفعوا أصواتهم بالتكبير: الله أكبر، لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أرْبِعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعُون أصمّ ولا غائباً، إنكم تدعون سمعياً قريباً وهو معكم» . وأنا خلف دابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعني، وأنا أقول: لا حول ولا قوة إلا بالله: فقال: «يا عبد الله بن قيس» قلت: لبيك يا رسول الله قال: «ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة» . قلت: بلى، يا رسول الله فِداك أبي وأمي. قال: «لا حول ولا قوة إلا بالله» . وقد رواه بقية الجماعة. والصواب أنه كان مرجعَهم من خيبر، فإن أبا موسى إنما قدم بعد فتح خيبر. كذا في البداية.(2/85)
تكبير الصحابة وتسبيحهم عند الصعود والنزول
وأخرج البخاري عن جابر رضي الله عنه قال: كنا إِذا صَعِدنا كبَّرنا، وإذا نزلنا سبّحنا. وفي رواية أخرى عنده عنه: قال: كنا إذا صعِدنا كبّرنا، وإِذا تصوّبنا سبّحنا، وأخرجه أيضاً النسائي في «اليوم والليلة عن جابر - نحوه؛ كما في العيني.
قول ابن عمر في أنَّ الغزو جزءان
وأخرج بن عساكر عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: الناس في الغزو جزءان: فجزء خرجوا يكثرون ذكر الله والتذكير به، ويجتنبون الفساد في السير، ويواسون الصاحب، وينفقون كرائم أموالهم، فهم أشدّ اغتباطاً بما أنفقوا من أموالهم منهم بما استفادوا من دنياهم، فإذا كانوا في مواطن القتال استحيَوا من الله في تلك المواطن أن يطّلع على ريبة في قلوبهم أو خذلانٍ للمسلمين، فإذا قدروا على الغلول طهَّروا منه قلوبهم وأعمالهم؛ فلم يستطع الشيطان أن يفتنهم ولا يُكلِّم قلوبهم؛ فبهم يعزّ الله دينه ويَكبت عدوّه. وأما الجزء الآخر: فخرجوا فلم يكثروا ذكر الله ولا التذكير به، ولم يجتنبوا الفساد، ولم ينفقوا أموالهم إلا وهم كارهون، وما أنفقوا من أموالهم رأوه مَغْرَماً وحدَّثهم به الشيطان، فإذا كانوا عند مواطن القتال كانوا مع آخرِ الآخرِ والخاذل الخاذل، واعتصموا برؤوس الجبال ينظرون ما يصنع الناس؛ فإذا فتح الله كانوا أشدهم تخاطباً بالكذب؛ فإذا قدروا على الغلول إجترؤوا فيه على الله، وحدثهم الشيطان أنها غنيمة؛ وإِن أصابهم رَخاء بطِروا، وإن أصابهم حَبْس فتنهم الشيطان بالعَرَض؛ فليس(2/86)
لهم من أجر المؤمنين شيء غير أن أجسادهم مع أجسامهم، وسَيْرهم مع سيرهم، ونياتهم وأعمالهم شتى حتى يجمعهم الله يوم القيامة ثم يفرق بينهم. كذا في الكنز.
الإهتمام بالدعوات في الجهاد في سبيل الله الدعاء عند الخروج من قريته دعاؤه عليه السلام عند الخروج من مكة وقت الهجرة
أخرج أبو نُعيم من طريق إِبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم خرج من مكة مهاجراً إلى الله يريد المدينة قال: «الحمد لله الذي خلقني ولم أكُ شيئاً. اللهمّ أعنّي على هول الدنيا، وبوائق الدهر، ومصائب الليالي والأيام. اللهم أصحبني في سفري، وأخلفني في أهلي، وبارك لي فيما رزقتني، ولك فذلِّلْني، وعلى صالح خُلُقي فقوّمني، وإليك رب فحبّبني، وإِلى الناس فلا تكلني. ربَّ المستضعفين وأنت ربي، أعوذ بوجهك الكريم الذي أشرقت له السماوات والأرض وكُشفت به الظلمات، وصَلَح عليه أمر الأوَّلين أن تُحلَّ عليّ غضبك، وتُنزل بي سخطك. أعوذ بك من زوال نعمتك، وفجاءة نقمتك، وتحول عافيتك، وجميع سَخَطك. لك العُتْبى عندي خير ما استطعت، ولا حول ولا قوة إلا بك» . كذا في البداية.
الدعاء عند الإِشراف على القرية دعاؤه عليه السلام عند الإِشراف على خيبر
أخرج البيهقي عن أبي مروان الأسلمي عن أبيه عن جده قال:(2/87)
خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر؛ حتى إذا كنا قريباً وأشرفنا عليها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس: «قفوا» . فوقف الناس، فقال: «اللهمَّ ربَّ السماوات السبع وما أظللنَ، وربَّ الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، (وربَّ الرياح وما أَذْرَيْن) ، فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرّ هذه القرية وشرّ أهلها وشرّ ما فيها. أقدِموا بسم الله الرحمن الرحيم» . وأخرجه ابن إسحاق من طريق أبي مروان عن أبي مُعَتِّب. كما في البداية. وأخرجه الطبراني عن أبي معتِّب بن عمرو - نحوه؛ وزاد في آخره: وكان يقولها لكل قرية يريد يدخلها. قال الهيثمي: وفيه راوٍ لم يُسمَّ، وبقية رجاله ثقات.
الدعاء عند افتتاح الجهاد دعاؤه عليه السلام في وقعة بدر
أخرج الإِمام أحمد عن عمر رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلاث مائة ونيِّف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة وعليه رداؤه وإزارُه، ثم قال: «اللهمَّ أنجز لي ما وعدتني. اللهمَّ إن تهلك هذه العِصابة من أهل الإِسلام فلا تعبد بعد في الأرض أبداً» ، فما زال يستغيث بربه ويدعوه حتى سقط رداؤه. فأتاه أبو بكر(2/88)
رضي الله عنه فأخذ رداءه فرده، ثم التزمه من ورائه، ثم قال: يا رسول الله، كفاك مناشدَتُك ربَّك، فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مّنَ الْمَلَئِكَةِ مُرْدِفِينَ} (الأنفال: 9) - وذكر تمام الحديث. وقد رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن جرير وغيرهم؛ وصحَّحه علي بن المديني، والترمذي. كذا في البداية. وأخرجه أيضاً ابن أبي شيبة. وأبو عَوانة، وابن حِبَّان، وأبو نعيم، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مَرْدَوَيْه، والبيهقي؛ كما في الكنز.
وأخرج أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم بدر في ثلاث مائة وخمسة عشر رجلاً، فلما انتهى إليها قال: «اللهم إنَّهم حُفاةٌ فاحملهم. اللهمَّ إنهم عراةٌ فاكسهم. اللهمَّ إنهم جياعٌ فأشبعهم» . ففتح الله بهم يوم بدر، فانقلبوا ما منهم رجل إلا وقد رجع بجمل أو جملين، واكتسَوا وشبعوا كذا في جمع الفوائد. وأخرجه البيهقي مثله،(2/89)
وابن سعد بنحوه. وأخرج النِّسائي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ما سمعت مناشداً ينشد أشدّ من مناشدة محمد صلى الله عليه وسلم يوم بدر، جعل يقول: «اللهمَّ إني أنشدك عهدك ووعدك. اللهمّ إن تَهّلِك هذه العصابة لا تعبد» ، ثم التفت وكأن شِقَّ وجهه القمرُ، وقال: «كأني أنظر إلى مصارع القوم عشيّة» . كذا في البداية. وأخرجه الطبراني بنحوه؛ قال الهيثمي: ورجاله ثقات إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه.
دعاؤه عليه السلام في وقعة أُحد والخندق
وأخرج الإِمام أحمد عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول يوم أُحد: «اللهمَّ إنك إن تشأ لا تعبد في الأرض» . ورواه مسلم. كذا في البداية.
وأخرج الإِمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قلنا يوم الخندق: يا رسول الله، هل من شيء نقوله فقد بلغت القلوب الخناجر؟ قال: «نعم. اللهمّ إستر عوراتِنا، وآمن رَوْعاتنا» . قال: فضرب الله وجوه أعدائه (بالريح) . وأخرجه ابن أبي حاتم.
وأخرج الإِمام أحمد عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى مسجد(2/90)
الأحزاب، فوضع رداءه وقام ورفع يديه مدّاً يدعو عليهم ولم يصلِّ. قال: ثم جاء ودعا عليهم وصلَّى. وثبت في الصحيحين عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال: «اللهمَّ مُنزل الكتاب، سريع الحساب، إهزِم الأحزاب. اللهمَّ إهزِمهم وزلزلهم» . وفي رواية: «اللهمَّ إهزِمهم وانصرنا عليهم» . وعند البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «لا إله إلا الله وحده، أعزّ جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده» . كذا في البداية.
الدعاء عند الجهاد دعاؤه عليه السلام في وقعة بدر عند اشتغالهم في القتال
أخرج البيهقي عن علي رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر قاتلت شيئاً من قتال، ثم جئت مسرعاً لأنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعل. قال: فجئت فإذ هو ساجد يقول: «يا حيٌّ يا قيّوم، يا حيٌّ يا قيُّوم» ، لا يزيد عليه. رجعت إلى القتال، ثم جئت وهو ساجد يقول ذلك أيضاً. فذهبت إلى القتال، ثم جئت وهو ساجد يقول ذلك حتى فتح الله على يديه. وقد رواه النسائي في(2/91)
«اليوم والليلة» . كذا في البداية. وأخرجه أيضاً البزّار، وأبو يَعْلى، والفِرئْيابي، والحاكم بمثله؛ كما في كنز العمال.
الدعاء في الليل دعاؤه عليه السلام في ليلة بدر
أخرج ابن مَرْدَوَيْه، وسعيد بن منصور علي علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي تلك الليلة: ليلة بدر وهو يقول: «اللهمَّ إِن تَهْلِك هذه العصابة لا تعبد» ، وأصابهم تلك لليلة مطر. وعند أبي يَعْلى، وابن حِبَّان عنه قال: لما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم ببدر من الغد أحيا تلك الليلة كلَّها وهو مسافر. كذا في كنز العمال.
الدعاء بعد الفراغ دعاؤه عليه السلام حين فرغ من وقعة أُحد
أخرج الإِمام أحمد عن رِفاعة الزُّرَقين قال: لما كان يوم أُحد وانكفأ المشركون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إستووا حتى أُثني على ربي عزّ وجلّ» : فصاروا خلفه صفوفاً. فقال: «اللهم لك الحمد كلُّه، اللهم لا(2/92)
قبضت لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضلّ لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، لا مقرّب لما باعدت، ولا مبعِّد لما قرَّبت. اللهمَّ إبسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك. اللهمَّ إنِّي أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول. اللهمَّ إني أسألك النعيم يوم العَيْلة والأمن يوم الخوف. اللهمَّ إني عائذ بك من شرّ ما أعطيتنا وشر ما منعتنا. اللهمَّ حبِّبْ إلينا الإِيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. اللهمَّ توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين. اللهمَّ قاتل الكفرة الذين يكذّبون رسلك، ويصدّون عن سبيلك، واجعل عليهم رِجْزك وعذابك. اللهمَّ قاتل الكفرة الذين أُوتوا الكتاب، إله الحق» . ورواه النسائي في «اليوم والليلة» . كذا في البداية.
وأخرجه أيضاً البخاري في «الأدب» ، والطبراني، والبغوي، والباوَرْدي، وأبو نُعيم في «الحلية» ، الحاكم، والبيهقي. قال الذهبي: الحديث مع نظافة إسناده منكر أخاف أن يكون موضوعاً. كذا في كنز العمال. وقال الهيثمي بعدما ذكر الحديث: رواه الإِمام أحمد،(2/93)
والبزار؛ ورجال أحمد رجال الصحيح. انتهى. وقد تقدم (ص 277) دعاؤه صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من عرض الدعوة على أهل الطائف في «تحمُّل النبي صلى الله عليه وسلم الشدائد والأذى في الدعوة إلى اا» .
الإهتمام بالتعليم في الجهاد في سبيل الله قول ابن عباس في معنى الآية {وما كان المؤمنون لينفروا كافة}
أخرج البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال الله تبارك وتعالى: {خذوا حذركم فانفروا ثبات أو أنفروا جميعا} وقال: {أنفروا خفافا وثقالا} وقال: {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} ، ثم نسخ هذه الآيات(2/94)
فقال: {وما كان المؤمنون لينفرا كافة} . قال: فتغزو طائفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقيم طائفة. قال: فالماكثون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين يتفقون في الدين، وينذرون قومهم إذا رجعوا إليهم من الغزو، لعلَّهم يحذرون ما نزَّل الله من كتابه وفرائضه وحدوده.
كتاب عمر إلى الأمراء للتفقه في الدين
وأخرج آدم بن أبي إياس في «العلم» عن الأحوص بن حكيم بن عمير العبسي قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أمراء الأجناد: تفقَّهوا في الدين فإنه لا يُعذر أحد باتباع باطل وهو يرى أنه حق، ولا بترك حق وهو يرى أنه باطل. كذا في كنز العمال.
جلوس الصحابة حِلَقاً في السفر
وأخرج عبد الرزاق عن حِطَّان بن عبد الله الرَقَاشي قال: كنا مع أبي موسى الأشعري رضي الله عنه في جيش على ساحل دِجلة، إذ حضرت الصلاة فنادى منادِيه للظهر؛ فقام الناس إِلى الوضوء فتوضأ، ثم صلّى بهم، ثم جلسوا حِلَقاً. فلما حضرت العصر نادى منادِي العصر، فهبَّ الناس للوضوء أيضاً. فأمر مناديَه: ألا لا وضوء إِلا على من أحدث. قال أوشك العلم أن يذهب، ويظهر الجهل حتى يضرب الرجل أمه بالسيف من الجهل. كذا في الكنز. وأخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار مختصراً.(2/95)
النفقة في الجهاد في سبيل الله إنفاق بعض الصحابة في سبيل الله
أخرج مسلم عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: جاء رجل بناقة مخطومة. فقال: هذه في سبيل الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لك بها يومَ القيامة سبع مائة ناقة. كلُّها مخطومة» . وأخرجه أيضاً النِّسائي، كما في جمع الفوائد.
وأخرج الإِمام أحمد - ورجاله رجال الصحيح - عن عبد الله بن الصامت قال: كنت مع أبي ذرّ رضي الله عنه فخرج عطاؤه ومعه جارية له. قال: فحعلت تقضي حوائجه، ففضل معها سبعة، فأمرها أن تشتري به فلوساً، قال قلت: لو أخَّرتَه للحاجة تنوبك أو للضيف ينزل بك. قال: إنَّ خليلي عهد إليّ أنْ «أيّما ذهبٍ أو فضةٍ أوكِيَ عليه فهو جَمْر على صاحبه حتى يفرغَه في سبيل الله عزّ وجلّ» . وعند أحمد أيضاً والطبراني - واللفظ له -: «من أوكَى على ذهب أو فضة ولم ينفقه في سبيل الله كان جمراً يوم القيامة يكوى به» . كذا في الترغيب.
وأخرج الطبراني في الأوسط عن قيس بن سَلْع الأنصاري رضي الله عنه(2/96)
أن إخوته شكَوه إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنه يبذِّر ماله، وينبسط فيه. قلت: يا رسول الله، آخذ نصيبي من التمر، فأنفقه في سبيل الله وعلى من صحبني. فضرب رسول الله صدره وقال: «أنفق ينفقِ الله عليك» ثلاث مرات. فلما كان بعد ذلك خرجت في سبيل الله ومعي راحلة، وأنا أكثر أهل بيتي اليوم وأيسره. كذا في الترغيب. وأخرجه أيضاً ابن مَنْده. وهو عند البخاري من هذا الوجه باختصار، كما في الإِصابة.
ثواب الإِنفاق في الجهاد
وأخرج الطبراني عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قالت: «طوبى لمن أكثر في الجهاد في سبيل الله من ذكر الله تعالى، فإنَّ له بكل كلمة سبعين ألف حسنة، كل حسنة منها عشرة أضعاف مع الذي له عند الله من المزيد» . قيل: يا رسول الله النفقة؟ قال: «النفقة على قدر ذلك» . قال بعد الرحمن: فقلت لمعاذ رضي الله عنه: إنّما النفقة بسبع مائة ضعف. فقال معاذ: قلّ فهمك إنما ذاك إذا أنفقوها وهم مقيمون بين أهليهم غير غُزاة. فإذا غزوا وأنفقوا خبَّأ الله لهم من خزائن رحمته ما ينقطع عنه علم العباد ووصفهم، فأولئك حزب الله، وحزب الله هم الغالبون. قال الهيثمي وفيه رجل لم يسمَّ. انتهى.
وقد أخرجه القزويني بمجهول وإرسال، كما في جمع الفوائد عن(2/97)
الحسن عن علي، وأبي الدرداء، وأبي هريرة، وأبي أمامة، وابن عمرو بن العاص، وجابر، وعمران بن حصين رضي الله عنهم رَفَعوه: «من أرسل نفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبع مائة درهم. ومن غزا بنفسه في سبيل الله وأنفق في وجهه ذلك فله بكل درهم سبعُ مائة ألف درهم» ثم تلا هذه الآية: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآء} . وقد تقدم (ص 421) ما أنفق أبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، وعبد الرحمن بن عوف، والعباس، وسعد بن عبادة، ومحمد بن مسلمة، وعاصم بن عدي رضوان الله تعالى عليهم أجمعين في «تحريض النبي صلى الله عليه وسلم على الجهاد وإنفاق الأموال» . وسيأتي التفصيل في تلك القصص وغير ذلك في «نفقات الصحابة رضي الله عنهم أجمعين» .
إخلاص النية في الجهاد في سبيل الله لا أجر لمن يريد الدنيا والذكر
أخرج أبو داود، وابن حِبَّان في صحيحه، والحاكم باختصار، - وصححه - عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه رجلاً قال: يا رسول الله؛ رجل يريد الجهاد وهو يريد عرضاً من الدنيا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا أجر له» . فأعظمَ ذلك الناس، فقالوا للرجل عُدْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم لعلَّك لم تُفهمه. فقال الرجل: يا رسول الله رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرض الدنيا. فقال: «ولا أجر له» . فأعظمَ ذلك الناس، وقالوا عُدْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له الثالثة: رجل يريد الجهاد وهو يبتغي عرضاً في الدنيا. فقال: «لا أجر له» كذا في الترغيب.(2/98)
وعند أبي داود، والنِّسائي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: جاء إجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر ولذِكْر، ما له؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا شيء له» . فأعادها ثلاث مرات، يقول رسول الله: «لا شيء له» ؛ ثم قال: «إنَّ الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتُغي به وجهُه» . كذا في الترغيب.
قصة قزمان
وأُرج ابن إسحاق عن عاصم بن عرم بن قتادة رضي الله عنه قال: كان فينا رجل أَتِيّ لا يُدرى من هو يقال له «قُزْمان» ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا ذكر: «إنه لمن أهل النار» . قال: فلما كان يوم أُحد قاتل قتالاً شديداً، فقتل هو وحده ثمانية أو سبعة من المشركين، وكان ذا بأس، فأثبتته الجراحة، فاحتُمل إلى دار بني ظَفَر قال: فجعل رجال من المسلمين يقولون له: والله لقد أبليت اليوم يا قُزْمان فأبشر. قال: بماذا أبشر؟ فوالله إنْ قاتلت إلا عن أحساب قومي، ولولا ذلك ما قاتلت. قال: فلما اشتدّت عليه جراحته أخذ سهماً من كِنانته فقتل به نفسه. كذا في البداية.
قصة الأصيرم
وأخرج ابن إسحاق عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّه كان يقول:(2/99)
حدِّثوني عن رجل دخل الجنة لم يصلّ قط، فإذا لم يعرفه الناس سألوه من هو؟ فيقول: أُصَيْرم بني عبد الأشهل: عمرو بن ثابت بن وَقْش. قال الحصين: فقلت لمحمود بن أسد: كيف كان شأن الأصيرم؟ قال: كان يأبى الإِسلام على قومه. فلما كان يوم أُحد بَدَا له فأسلم، ثم أخذ سيفه فغدا حتى دخل في عُرْض الناس فقاتل حتى أثبتته الجراحة. قال: فبينما رجال من بني عبد الأشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة إذا هم به، فقالوا: والله إنَّ هذا للأُصَيْرم ما جاء به؟ لقد تركناه؛ وإنه لمنكر لهذا الحديث. فسألوه فقالوا: ما جاء بك يا عمرو؟ أَحَدَب على قومك أم رغبة في الإِسلام؟ فقال: بل رغبة في الإِسلام، آمنت بالله وبرسوله، وأسلمت؛ ثم أخذت سيفي وغدوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلت حتى أصابني ما أصابني. فلم يلبث أن مات في أيديهم. فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنَّه من أهل الجنة» . كذا في البداية. قال في الإِصابة: هذا إسناد حسن، رواه جماعة من طريق ابن إسحاق. انتهى. وأخرجه أيضاً أبو نعيم في «المعرفة» بمثله، كما في الكنز؛ والإِمام أحمد بمثله، كما في المجمع؛ وقال: ورجاله ثقات.
وأخرجه أبو داود، والحاكم من وجه آخر عن أبي هريرة رضي الله(2/100)
عنه: أن عمرو بن أُقيش كان له رِبا في الجاهلية فكره أن يسلم، حتى يأخذه؛ فجاء يوم أُحد فقال: أين بنو عمي؟ قالوا: بأُحُد. قال: بأُحُد؛ فلبس لأمته، وركب فرسه؛ ثم توجه قِبَلهم. فلما رآه المسلمون قالوا: إليك عنّا يا عمرو، قال: إني قد آمنت، فقاتل قتالاً حتى جرح فحمل إلى أهله جريحاً. فجاءه سعد بن معاذ رضي الله عنه فقال لأخيه سلَمة: حمية لقومه أو غضباً لله ورسوله؟ قال: بل غضباً لله ورسوله. فمات فدخل الجنة؛ وما صلى لله صلاة. قال في الإِصابة: هذا إسناد حسن. وأخرجه البيهقي بهذا السياق - بنحوه.
قصة رجل من الأعراب
وأخرج البيهقي في شدّاد بن الهادِ: أن رجلاً من الأعراب جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فآمن به واتّبعه، فقال: أهاجر معك، فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه. فلما كانت غزوة خيبر غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمه، وقسم له، فأعطى أصحابه ما قسم له؛ وكان يرعى ظَهْرهم. فلما جاء دفعوه إليه؛ فقال: ما هذا؟ قالوا: قسم قسمه لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما على هذا اتّبعتك، ولكني اتّبعتك على أن أُرمى ها هنا - وأشار إِلى حلقه - بسهم فأموت؛ فأدخل الجنة. فقال: «إن تصدِق الله يَصْدُقُك» . ثم نهضوا إلى قتال العدوّ. فأُتِيَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحمل، وقد أصابه سهم حيث أشار. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «هُوَ هُوَ» قالوا: نعم. قال: صدق الله، فصدقه» ؛ وكفَّنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبة النبي صلى الله عليه وسلم ثم قدَّمه فصلَّى عليه؛ وكان ممّا ظهر من صلاته: «اللهمّ هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك، قتل شهيداً؛ وأنا عليه شهيد» . وقد رواه النسائي - نحوه. كذا في(2/101)
البداية. وأخرجه الحاكم بنحوه.
قصة رجل أسود
وأخرج البيهقي عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني رجل أسود اللون، قبيح الوجه، لا مالَ لي، فإن قاتلت هؤلاء حتى أقتل، أدخل الجنة؟ قال: «نعم» . فتقدّم فقاتل حتى قتل. فأتى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مقتول. فقال: «لقد حسّن الله وجهك، وطيّب ريحك، وكثّر مالك» ؛ وقال: «لقد رأيتُ زوجتيه من الحور العين يتنازعان جبته عليه يدخلان فيما بين جلده وجبته» . كذا في البداية. وأخرجه الحاكم أيضاً - بنحوه، وقال: صحيح على شرط مسلم، كما في الترغيب.
قصة عمرو بن العاص
وأخرج الإِمام أحمد - بسند حسن - عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: بعث إليّ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «خذ عليك ثيابك وسلاحك، ثم ائتني» . فأتيته فقال: «إني أريد أن أبعثك على جيش فيسلِّمَك الله ويُغْنِمَك، وأرغب لك من المال رغبة صالحة» . فقلت؛ يا رسول الله ما أسلمت من أجل المال، بل أسلمت رغبة في الإِسلام. قال: «يا عمرو، نِعمَّا المال الصالح للمرء الصالح» . كذا في الإِصابة.(2/102)
وأخرجه الطبراني في الأوسط والكبير، وقال فيه: ولكن أسلمت رغبة في الإِسلام، وأكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: نعم؛ ونِعمَّا المال الصالح للمرء الصالح. كذا في المجمع، وقال: رجال أحمد، وأبي بَعلى رجال الصحيح. انتهى.
أقوال عمر في الشهداء
وأخرج الحارث عن أبي البَخْتري الطائي: أن ناساً كانوا بالكوفة مع أبي المختار يعني: والد المختار بن أبي عُبيد حيث قتل بحسر أبي عُبيد. قال: فقتلوا إِلا رجلين حملا على العدوّ بأسيافهما فأفرجوا لهما فنجيا - أو ثلاثة -، فأتَوا المدينة. فخرج عمر رضي الله عنه وهم قعود يذكرونهم، فقال عمر: عمّ قلتم لهم؟. قالوا: إستغفرنا لهم ودعونا لهم. قال: لتحدثُنِّي بما قلتم لهم أو لتلقون مني بَرْحاً. قالوا: إِنا قلنا إِنهم شهداء. قالوا: والذي لا إله غيره، والذي بعث محمداً بالحق، لا تقوم الساعة إلا بإذنه، لا تعلم نفس حيّة ماذا عند الله لنفس ميتة إلا نبي الله، فإن الله غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخَّر. والذي لا إله غيره والذي بعث محمداً بالحق والهدى، لا تقوم الساعة إلا بإذنه. إن الرجل يقاتل رياءً، ويقاتل حمية، ويقاتل يريد الدنيا، ويقاتل يريد المال؛ وما للذين يقاتلون عند الله إلا ما في أنفسهم. كذا في كنز العمال، وقال: قال الحافظ ابن حجر: رجاله ثقات إلا أنه منقطع. انتهى.
وأخرج تَمَّام عن مالك بن أوس بن الحَدَثان رضي الله عنه قال: تحدثنا بيننا عن سرية أصيبت في سبيل الله على عهد عمر رضي الله عنه. فقال قائلنا؛(2/103)
عمل الله، في سبيل الله، وقع أجرهم على الله. وقال قائلنا: يبعثهم الله على ما أماتهم عليه. فقال عمر: أجل - والذي نفسي بيده - ليبعثم الله على ما أماتهم عليه؛ إنَّ مِنَ الناس من يقاتل رياءً وسمعة، ومنهم من يقاتل ينوي الدنيا؛ ومنهم من يلحمه القتال فلا يجد من ذلك بُدّاً. ومنهم من يقاتل صابراً محتسباً فأولئك هم الشهداء، مع أني لا أدري ما هو مفعول بي ولا بكم؛ غير أني أعلم أن صاحب هذا القبر - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ قد غُفر له ما تقدم من ذنبه.
وعند ابن شيبة عن مسروق قال: إِن الشهداء ذكروا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فقال عمر للقوم: ما ترون الشهداء؟ قال: القوم: يا أمير المؤمنين هم من يقتل في هذه المغازي. فقال عند ذلك: إن شهداؤكم إذاً لكثير، إني أخبركم عن ذلك: إن الشجاعة والجبن غرائز في الناس يضعها الله حيث يشاء، فالشجاع يقاتل من وراء لا يبالي أن يؤوب إلى أهله. والجبان فارّ عن حليلته، ولكن الشهيد من احتسب بنفسه، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده. كذا في كنز العمال.
قصة عبد الله بن الزبير وأمه
وأخرج نعيم بن حمّاد في «الفتن «عن ضِمام: أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أرسل إلى أمه أن الناس قد انفضُّوا عني وقد دعاني هؤلاء إلى الأمان. فقالت: إن خرجت لإِحياء كتاب الله وسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم فَمُتْ على الحق، وإن كنت إنما خرجت على طلب الدنيا فلا خير فيك حيّاً ولا ميِّتاً. كذا في الكنز.(2/104)
إمتثال أمر ومير في الجهاد والنَّفْر في سبيل الله إنكار أبي موسى الأشعري على رجل لم يمتثل أمره وقوله له
أخرج ابن عساكر عن أبي مالك الأشعري قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية، وأمّر علينا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. فسرنا حتى نزلنا منزلاً، فقام رجل فأسرج دابته، فقلت له: أين تريد؟ فقال: أريد العلف، فقلت له: لا تفعل حتى نسأل صاحبنا، فأتينا أبا موسى الأشعري، فذكرنا ذلك له. فقال: لعلك تريد أن ترجع إلى أهلك، قال: لا، قال: أنظر ما تقول، قال: لا. قال: فامضِ راشداً. فانطلق فبات مليّاً، ثم جاء، فقال له أبو موسى: لعلك أتيت أهلك. قال لا، قال: فانظر ما تقول. قال: نعم. قال أبو موسى: فإنك سرت في النار إلى أهلك، وقعدت في النار، وأقبلت في النار، واستقبلْ. كذا في الكنز.
إنضمام بعضهم إلى بعض في النَّفْر والجهاد في سبيل الله إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على التفرق في الجهادت والأودية وإنكاره على تضييق المنازل
أخرج أبو داود، والنِّسائي عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: كان الناس إذا نزلوا تفرّقوا في الشِّعاب والأودية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن تفرقكم في الشِّعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان» ؛ فلم ينزلوا بعد ذلك منزلاً إلا انضم بعضهم إلى بعض. كذا في الترغيب. وأخرجه البيهقي(2/105)
نحوه، وزاد: حتى يقال: لو بُسط عليهم ثوب لعمّهم. وهكذا أخرجه ابن عساكر، كما في الكنز، ولفظه: حتى لو بسط عليهم ثوب لوسعهم.
وأخرجه البيهقي أيضاً عن سهل بن معاذ الجهني عن أبي رضي الله عنه قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة كذا وكذا، فضيّق الناس المنازل وقطعوا الطريق. فبعث نبي الله صلى الله عليه وسلم منادياً ينادي في الناس: «إن من ضيّق منزلاً أو قطع طريقاً فلا جهاد له» . وأخرجه أيضاً أبو داود بمثله؛ كما في المشكاة (ص 332) .
الحراسة في سبيل الله حراسة أنس بن أبي مرثد
أخرج أبو داود عن سهل بن الحنظليَّة رضي الله عنه أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حُنَين، فأطنبوا السير حتى كانت عشيّة؛ فحضرتُ صلاة (الظهر مع) رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل فارس فقال: يا رسول الله إِني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت (على) جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم بظُعنِهم ونَعَمهم وشاءَهم إجتمعوا إلى حنين. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء الله» ، (ثم) قال: «من يحرسنا الليلة؟» قال أنس بن (أبي) : مرثد الغنوي رضي الله عنه: أنا يا رسول الله؟ قال: «فراكب» ، فركب فرساً له، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «إستقبل هذا(2/106)
الشِّعْب حتى تكون في أعلاه، ولا نُغْرر من قِبَلك الليلة» . فلما أصبحنا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه فركع ركعتين، ثم قال: «هل أحسستم فارسكم؟» قالوا: يا رسول الله ما أحسسناه. فثُوِّب بالصلاة؛ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو يصلي - يلتفت إلى الشِّعب، حتى إذا قضى (رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته وسلَّم. فقال: «أبشروا فقد جاءكم فارسكم» . فجعلنا ننظر إِلى خلال الشجر في الشِّعب، فإذا هو قد جاء حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلّم وقال: إني إنطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشِّعب حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أصبحت إطَّلعت الشِّعبين كليهما، فنظرت فلم أرَ أحداً. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «هل نزلت الليلة؟» قال: لا، إلا مصلياً أو قاضياً حاجة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «قد أوجبتَ، فلا عليك أن لا تعمل بعدها» . وأخرجه البيهقي أيضاً بمثله. وأخرجه أبو نعيم عن سهل بن الحنظلية - نحوه؛ كما في المنتخب.
حراسة رجل في هذا الباب
وأخرج الطبراني عن أبي عطية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس فحُدِّث أن رجلاً توفي، فقال: «هل رآه أحد منكم على عمل من أعمال الخير؟» فقال رجل: نعم، حرست معه ليلة في سبيل الله. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، فصلى عليه. فلما أُدخل القبر حثا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده من التراب، ثم قال: «إن أصحابك يظنون أنك من أهل النار، وأنا أشهد أنك من أهل الجنة» ؛ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لا تسأل عن(2/107)
أعمال الناس، لكن سل عن الفِطرة» . قال الهيثمي: إبراهيم بن محمد بن عِرق الحمصي شيخ الطبراني ضعفه الذهبي اهـ.
وأخرجه أيضاً ابن عساكر عن أبي عطية رضي الله عنه أن رجلاً توفي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: يا رسول الله لا تصلِّ عليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هل رآه؟» فذكره؛ كما في الكنز. وأخرجه البيهقي في «شُعَب الإِيمان» عن ابن عائذ رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل. فلما وُضع قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تصلِّ عليه يا رسول الله فإنه رجل فاجر. فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فقال: «هل رآه؟» فذكره - بنحوه؛ كما في المشكاة (ص 328) .
حراسة أبي ريحانة وعمّار وعبَّاد رضي الله عنهم
وقد تقدم (ص 325) حديث أبي رَيْحانة رضي الله عنه في «تحمُّل شدة البرد» ، وفيه: قال: «من يحرسنا الليلة فأدعو له بدعاء يصيب فضله؟» فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله، قال: «من أنت؟» قال: فلان، قال: «إدنْه» ، فدنا، فأخذ ببعض ثيابه ثم استفتح الدعاء. فلما سمعت قلت: أنا رجل. قال: «من أنت؟» قال: أبو ريحانة، قال: فدعة لي دون ما دعا لصاحبي ثم قال: حرّمت النار على عين حرست في سبيل الله» . أخرجه الإِمام أحمد، والنِّسائي، والطبراني، والبيهقي. وحديث جابر رضي الله عنه في الصلاة(2/108)
في سبيل الله، وفيه: فقال: من يكلؤنا ليلنا؟ فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، قال: فكونا بفم الشِّعب من الوادي؛ وها عمار بن ياسر، وعباد بن بشر - فذكر الحديث بطوله. أخرجه ابن إسحاق.
تحمل الأمراض في الجهاد والنفر في سبيل الله قصة أبيّ بن كعب ودعاؤه لتحمل الحمَّى
أخرج ابن عساكر عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من شيء يصيب المؤمن في جسده إلا كفّر الله عنه به من الذنوب» . فقال أُبيّ بن كعب رضي الله عنه: اللهمَّ إني أسألك أن لا تزال الحمَّى مصارعة لجسد أُبيّ بن كعب حتى يلقاك؛ لا تمنعه من صلاة، ولا صيام، ولا حجٍ، ولا عُمْرة، ولا جهاد في سبيلك. فارتكبته الحمَّى مكانه، فلم تفارقه حتى مات. وكان في ذلك يشهد الصلاة، ويصوم، ويحج، ويعتمر، ويغزو.
وعنده أيضاً، وعند الإِمام أحمد، وأبي يَعلى من حديث أبي سعيد رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رجل: يا رسول الله، أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا، ما لنا بها؟ قال: «كفَّارات» قال له أُبيّ: وإنْ قلَّت؟ قال: «وإنْ شوكة فما فوقَها» . قال: فدعا أبيّ على نفسه أن لا يفارقه الوعك حتى يموت، وأن لا يشغله عن حج، ولا عمرة، ولا جهاد في سبيل الله، ولا صلاة مكتوبة في جماعة. فما مسَّه إنسان إلا وجد حرّه حتى مات. كذا في الكنز. قال في الإِصابة: رواه الإِمام أحمد، وأبو يَعلى، وابن أبي الدنيا؛ وصحَّحه ابن(2/109)
حِبّان؛ ورواه الطبراني من حديث أبيّ بن كعب بمعناه، وإِسناده حسن. انتهى. وأخرجه ابن عساكر كما في الكنز؛ وأبو نُعيم في «الحلية» عن أبيّ بن كعب بمعناه.
الطعن والجراحة في الجهاد في سبيل الله جراحة النبي عليه السلام
أخرج البخاري (ص 98) عن جندب بن سفيان رضي الله عنه قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يمشي إِذ أصابه حجر فعثر، فدَميت أصبُعه. فقال:
هل أنتِ إلا أصبعٌ دَمِيتِ
وفي سبيل الله ما لقيت
وقد تقدم (ص 278) في ذكر «تحمل النبي صلى الله عليه وسلم الشدائد والأذى» من حديث أنس رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كُسرت رَباعِيَتُه يوم أُحد، وشُجَّ في رأسه - فذكر الحديث. أخرجه الشيخان وغيرهما.
جراحة طلحة بن عُبيد الله وعبد الرحمن بن عوف
وقد تقدم (ص 279) من حديث عائشة رضي الله عنها عند الطيالسي قالت: كان أبو بكر رضي الله عنه إِذا ذكر يوم أُحد قال: ذاك يوم كله لطلحة ثم أنشأ يحدّث - فذكر الحديث، وفيه: فانتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كُسرت رباعيته،(2/110)
وشُجَّ في وجهه، وقد دخل في وجنته حَلقتان من حِلق المِغفر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «عليكما صاحبكما» - يريد طلحة رضي الله عنه - وقد نزف، فذكر الحديث وفيه: ثم أتينا طلحة في بعض تلك الجفار، فإذا به بضع وسبعون بين طعنة ورمية وضربة، وإذا قد قطعت أصبعه؛ فأصلحنا من شأنه.
وأخرج أبو نُعيم عن إبراهيم بن سعد قال: بلغني أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه جرح يوم أُحد إحدى وعشرين جراحة، وجرح في رجله فكان يعرج منها. كذا في المنتخب.
جراحة أنس بن النضر
وأخرج البخاري - واللفظ له - ومسلم والنِّسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله، غبتُ عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليَرَيَنَّ الله ما أصنع فلما كان يوم أُحد وانكشف المسلمون فقال: اللهمَّ إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني أصحابه -؛ وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء - يعني المشركين -، ثم تقدم، فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا سعد بن معاذ، الجنة وربِّ النضر إِني أجد ريحها (من) دون أحد. قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع. قال أنس: فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم؛ ووجدناه قد قُتل، وقد مثّل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه. فقال أنس: كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: {يانِسَآء النَّبِىّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النّسَآء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} (الأحزاب: 32) -(2/111)
إلى آخر الآية. كذا في الترغيب. وأخرجه أيضاً الإِمام أحمد، والترمذي عن أنس رضي الله عنه بنحوه.
وعند الإِمام أحمد أيضاً من وجه آخر عن أنس رضي الله عنه قال: عمي سُمِّيتُ به ولم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر. قال: فشقِّ عليه، وقال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه، ولئن أراني الله مشهداً فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليَرَينَّ الله ما أصنع قال: فهاب أن يقول غيرها، فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد. قال: فاستقبل سعدَ بن معاذ، فقال له أنس: يا أبا عمرو أين؟ واهاً لريح الجنة أجده دون أحد. قال: فقاتلهم حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون من ضربة وطعنة ورمية. قال فقالت أخته: عمتي الرُّبَيِّعُ بنت النضر: فما عرفت أخي إلا ببنانه: ونزلت هذه الآية: {مّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً} ، قال: فكانوا يَرَوْن أنها نزلت فيه وفي أصحابه. ورواه الترمذي، والنِّسائي؛ وقال الترمذي: حسن صحيح. كذا في البداية. وأخرجه أيضاً الطيالسي، وابن سعد، وابن أبي شيبة، والحارث، وابن(2/112)
جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، كما في الكنز. وأبو نعيم في الحلية: والبيهقي.
جراحة جعفر بن أبي طالب
وأخرج البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أمَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة مؤتة زيد بن حارثة رضي الله عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن قتل زيد فجعفر؛ وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة» . قال عبد الله: كنت فيهم في تلك الغزوة، فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى؛ ووجدنا في جسده بضعاً وتسعين من ضربة ورمية. وزاد في أخرى عنه: ليس منها شيء في دُبُرِه. كذا في البداية. وأخرجه الطبراني أيضاً عن ابن عمر - نحوه؛ كما في الإِصابة. وأبو نعيم في الحلية؛ وابن سعد.
جراحة سعد بن معاذ
وأخرج ابن أبي شيبة عن عمرو بن شرحبيل رضي الله عنه قال: لما أُصيب سعد بن معاذ رضي الله عنه بالرَّمية يوم الخندق جعل دمه يسيل على(2/113)
النبي صلى الله عليه وسلم فجاء أبو بكر رضي الله عنه فجعل يقول: وانقطاعَ ظهراه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ـ «مَهْ يا أبا بكر» ، فجاء عمر رضي الله عنه فقال: إنا لله وإِنا إليه راجعون. كذا في الكنز.
إصابة عين أبي سفيان يوم الطائف
وأخرج ابن عساكر عن سعيد بن عبيد الثقفي رضي الله عنه قال: رأيت أبا سفيان بن حرب رضي الله عنه يوم الطائف قاعداً في حائط أبي يعلى يأكل، فرميته فأصيبت عينه. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هذه عيني أصيبت في سبيل الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «إن شئت دعوتُ الله فرُدّت عليك، وإن شئت فالجنة» . قال: فالجنة. كذا في الكنز. وأخرجه أيضاً الزبير بن بكّار - نحوه؛ كما في الكنز.
إصابة عين قتادة بن النعمان ورفاعة بن رافع يوم بدر
وأخرج البغوي، وأبو يعلى عن عاصم بن عمر بن قتادة عن قتادة بن النعمان رضي الله عنه أنه أصيبت عينه يوم بدر، فسالت حدقته على وجنته؛ فأرادوا أن يقطعوها - فذكر الحديث؛ كما سيأتي في «باب كيف أُيِّدت الصحابة» .
وأخرج البزار، والطبراني عن رفاعة بن رافع رضي الله عنه، قال: لما(2/114)
كان يوم بدر تجمع الناس على أمية بن خَلَف؛ فأقبلنا إليه. فنظرت إلى قطعة من درعه قد انقطعت من تحت إبطه، فأطعنه بالسيف طعنة، ورُميت يوم بدر بسهم، ففقئت عيني؛ وبصق فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا لي فيها، فما آذاني شء. قال الهيثمي: وفيه عبد العزيز بن عمران وهو ضعيف. انتهى.
قصة رافع بن خديج ورجلين من بني عبد الأشهل
وقد تقدم (ص 493) حديث يحيى بن عبد الحميد عن جدته: أن رافع بن خديج رضي الله عنه رُمي بسهم في ثُندُوَته. وحديث أبي السائب رضي الله عنه في احتمال والأمراض (ص 32) : أن رجلاً من بني عبد الأشهل قال: شهدت أُحُداً أنا وأخ لي، فرجعنا جريحين - فذكر الحديث، وفيه: والله ما لنا من دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت أيسر جرحاً منه؛ فكان إذا غُلب حملته عُقبة ومشى عُقبة حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون.
جراحة البراء بن مالك وذهاب لحم عظامه
وأخرج خليفة عن أنس رضي الله عنه قال: رمى البراء رضي الله عنه بنفسه عليهم - أي على أهل الحديقة يوم قتال مسَيْلِمَة -، فقاتلهم حتى فتح الباب؛ وبه بضع وثمانون جراحة من بني رمية بسهم وضربة. فحمل إلى رَحْله يُداوَى، وأقام عليه خالد رضي الله عنه شهراً. وأخرجه أيضاً بقيّ بن مَخْلَد في مسنده عن خليفة بإسناده مثله؛ كما في الإِصابة.(2/115)
وأخرج الطبراني عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة رضي الله عنه قال: بينما أنس بن مالك وأخوه عند حصن من حصون العدوّ يعني بالحريق - بالعراق -، كانوا يلقون كلاليب في سلاسل محمَّاة، فتعلق بالإِنسان فيرفعون إليهم؛ ففعلوا ذلك بأنس. فأقبل البراء حتى تراءى في الجدار، ثم قبض يده على السلسلة؛ فما برح حتى قطع الحبل. ثم نظر إلى يده، فإذا عظامها تلوح، قد ذهب ما عليها من اللحم. وأنجى الله أنس بن مالك بذلك. كذا في الإِصابة.
وذكره في المجمع عن الطبراني، وفيه: فعَلِق بعض تلك الكلاليب بأنس بن مالكن، فرفعوه حتى أقلّوه من اورض؛ فأُتي أخوه البراء فقيل له؛ أدرك أخاك - وهو يقاتل الناس -، فأقبل يسعى حتى نزا في الجدار؛ ثم قبض بيده على السلسلة وهي تُدار، فما برح يجرّهم ويداه تُدَخِّنان حتى قطع الحبل. ثم نظر إلى يديه - فذكره؛ قال الهيثمي: وإسناده حسن. انتهى.
تمني الشهادة والدعاء لها تمني لنبي عليه السلام القتل في سبيل الله
أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «والذي نفسي بيده، لولا أنَّ رجالاً من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلّفوا عني، ولا أجد ما أحملهم عليه؛ ما تخلَّفت عن سريّة تغزو في سبيل الله. والذي نفسي بيده، لوددتُ أنِّي أُقتل في سبيل الله ثم أُحيا، ثم أُقتل ثم أُحيا، ثم أُقتل ثم أُحيا. ثم أُقتل» .(2/116)
وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تضمّن الله لمن خرج في سبيله؛ لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي، وإيمانٌ بي، وتصديقٌ برسلي، فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة، أو أَرْجِعَهُ إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة. والذي نفس محمد بيده، ما نكَلْم يُكْلَم في سبيل الله تعالى إلا جاء يوم القيامة كَهَيْأتِهِ ين كُلِم، لونه لون الدم وريحه ريح مسك. والذي نفس محمد بيده، لولا أن أشقَّ على المسلمين ما قعدت خِلاف سَريّة تغزو في سبيل الله أبداً، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سَعَة ويشق عليهم أن يتخلفوا عني. والذي نفس محمد بيده لوددتُ أن أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل» . وأخرج الحديث أيضاً الإِمام أحمد، والنِّسائي، كما في كنز العمال.
تمني عمر الشهادة
وأخرج الطبراني، ابن عساكر عن قيس بن أبي حازم قال: خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس ذات يوم فقال في خطبته: إنَّ في جنات عَدْن قصراً له خمس مائة باب، على كل باب خمسة آلاف من الحور العين، لا يدخله إلا نبي. ثم التفت إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هنيئاً لك يا صاحب القبر. ثم قال: أو صدِّيق، ثم التفت إلى قبر أبي بكر رضي الله عنه فقال: هنيئاً لك يا أبا بكر. ثم قال: أو شهيد، ثم أقبل على نفسه فقال: وأنَّى لك الشهادةُ يا عمر؟ ثم قال: إنَّ الذي أخرجني من مكة إِلى هجرة المدينة قادر أن يسوق إليّ الشهادة. كذا في كنز العمال. وزاد في مجمع الزوائد عن(2/117)
الطبراني: قال ابن مسعود رضي الله عنه: فساقها الله إليه على يد شرّ خلقه عبد مملوك للمغيرة. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير شَرِيك النَخَعي وهو ثقة، وفيه خلاف اهـ.
وأخرج البخاري عن أسْلَم عن عمر رضي الله عنه: اللهم إرزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك صلى الله عليه وسلم وأخرجه الإِسماعيلي عن حَفْصَة رضي الله عنها قالت: سمعت عمر رضي الله عنه يقول: اللهم قتلاً في سبيلك، ووفاةً ببلد نبيك صلى الله عليه وسلم قالت: فقلت: وأنّى يكون هذا؟ قال: يأتي به الله إذا شاء. كذا في فتح الباري.
تمني عبد الله بن جحش الشهادة
وأخرج الطبراني عن سعد بن أبي وقاص أن عبد الله بن جحش قل له يوم أُحد: ألا تدعو الله؟ فَخَلَوا في ناحية، فدعا سعد فقال: يا رب، إِذا لقيت العدوّ فلقّني رجلاً شديداً بأسُه، شديداً حَرَدُه، أقاتله ويقاتلني، ثم إرزقني الظفر عليه، حتى أقتله وآخذ سَلَبه؛ فأمَّن عبد الله بن جحش. ثم قال: اللهم، إرزقني رجلاً شديداً حَرَدُه، شديداً بأسه، أقاتله فيك ويقاتلني، ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك غداً قلتَ: من جدع أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك وفي رسولك صلى الله عليه وسلم فتقول: صدقتَ. قال سعد: يا بُنيّ، كنت دعوة عبد الله بن جحش خيراً من دعوتي، لقد رأيته آخر النهار، وإن أنفه وأذنه لمعلَّقان في خيط. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح اهـ وهكذا أخرجه البغوي كما في الإِصابة، وابن وَهْب كما في الإستيعاب؛ والبيهقي - مثله: وهكذا(2/118)
أخرجه أبو نعيم في الحلية، إلا أنه لم يذكر دعاء سعد، واقتصر على دعاء عبد الله.
وأخرجه الحاكم عن سعيد بن المسيِّب قل: قال عبد الله بن جحش رضي الله عنه: اللهم إِنِّي أُقسم عليك أن ألقى العدوّ غداً، فيقتلوني ثم يبقروا بطني، ويجدعوا أنفي وأذني، ثم تسألني بمَ ذاك؟ فأقول: فيك. قال سعيد بن المسيِّب: إني لأرجو أن يبرّ الله آخر قسمه كما برّ أوله. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين لولا إرسال فيه. وقال الذهبي: مرسل صحيح - اهـ. وهكذا أخرجه ابن شاهين، وابن المبارك في الجهاد، كما في الإِصابة، وأبو نُعَيم في الحلية، وابن سعد.
تمني البراء بن مالك الشهادة
وأخرج أبو نعيم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ربّ ذي طِمْرَين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبّره، منهم البراء بن مالك» رضي الله عنه: فلما كان يومُ تُسْتَر إنكشف الناس فقالوا: يا براء، أقسمْ على ربك. فقال: لما منحتنا أكتافهم وألحقتني بنبيك صلى الله عليه وسلم(2/119)
فاستُشهد. كذا في الكنز. وأخرجه الترمذي - نحوه؛ كما في الإِصابة.
وأخرجه الحاكم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كم من ضعيف متضعّف ذي طِمْرين، لو أقسم على الله لأبرّ قسمه، منهم البراء بن مالك» رضي الله عنه؛ فإن البراء لقي زحفاً من المشركين - وقد أوجع المشركون في المسلمين - فقالوا: يا براء، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنك لو أقسمت على الله لأبّرك» . فأقسم على ربك. فقال: أقسمت عليك يا ربّ لَمَّا منحتنا أكتافَهم، ثم التقوا على قنطرة السوس، فأوجعوا في المسلمين.. فقالوا له: يا براء أقسمْ على ربك. فقال: أقسمت عليك يا رب لَمَّا منحتنا أكتافهم، وألحقتني بنبيك صلى الله عليه وسلم فمُنحوا أكتافهم، وقتل البراء شهيداً. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإِسناد، ولم يخرِّجاه. وقال الذهبي: صحيح. وأخرجه أبو نعيم في الحلية (1 - 7) - نحوه.
تمني حممة الشهادة
وأخرج أبو داود، ومُسدِّد، الحارث، وابن أبي شيبة، وابن المبارك من طريق حميد بن عبد الرحمن الحميري: أن رجلاً يقال له حُمَمة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم غزا إصبهان زمن عمر رضي الله عنه، فقال: اللهمَّ إنَّ حُمَمة يزعم(2/120)
أنه يحب لقاءك. اللهم إن كان صادقاً فاعزم له بصدقه، وإن كان كاذباً فاحمل عليه وإن كره - الحديث، وفيه: أنه استشهد، وأن أبا موسى قال: إنه شهيد. كذا في الإِصابة.
وأخرجه أيضاً الإِمام أحمد، وزاد: وإن كان كارهاً فاعزم له وإنكره. اللهم لا يرجع حُمَمة من سفره هذا، فأخذه الموت - قال عفان مرة: البطن - فمات بأصبهان. قال: فقام أبو موسى رضي الله عنه فقال: يا أيها الناس، والله ما سمعنا فيما سمعنا من نبيكم صلى الله عليه وسلم وما بلغ علمنا إلا أنَّ حُمَمة شهيد. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، غير داود بن عبد الله الأودي، وهو ثقة؛ وفيه خلاف. انتهى. وأخرجه أيضاً أبو نُعيم - نحوه؛ كما في المنتخب.
تمني النعمان بن مقرِّن الشهادة
وأخرج الطبري عن مَعْقِل بن يَسَار أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شاور الهُرْمُززان. فقال: ما ترى، أبدأ بفارس، أو بأذْرَبيجان، أم بأصبهان؟ فقال: إنّ فارس وأذربيجان: الجناحان، وأصبهان: الرأس؛ فإن قطعت أحد الجناحين قام الجناح الآخر؛ فإن قطعت الرأس وقع الجناحان؛ فأبدأ بالرأس.(2/121)
فدخل عمر رضي الله عنه المسجد والنعمانُ بن مقرِّن رضي الله عنه يصلِّي، فقعد إلى جنبه فلما قضى صلاته قال: إِني أريد أن أستعملك. قال: جابياً، فلا؛ ولكن غازياً. قال: فأنت غاز. فوجّهه إلى أصبهان - فذكر الحديث، وفيه: فقال المغيرة للنعمان: يرحمك الله، إنه قد أسرع في الناس، فاحمل. فقال: والله إنك لذو مناقب، لقد شهدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم القتال، وكان إذا لم يقاتل أول النهار أخَّر القتال حتى تزول الشمس، وتهب الرياح، وينزل النصر. قال: ثم قال: إني هازٌّ لوائي ثلاث مرات: فأما الهزة الأولى فقَضَى رجل حاجته وتوضأ، وأما الثانية فنظر رجل في سلاحه، وفي شِسْعة فأصلحه، وأما الثالثة فاحملوا ولا يلوِينّ أحد على أحد، وإن قُتل النعمان فلا يَلْو عليه أحد، فإني أدعو الله عزّ وجلّ بدعوة، فعزمت على كل امرىء منكم لَمَّا أمّن عليها: اللهم أعطِ اليوم النعمان الشهادة في نصر المسلمين، وافتح عليهم.
وهز لواءه أول مرة، ثم هزّ الثانية؛ ثم هزَّ الثالثة، ثم شل درعه؛ ثم حمل فكان أول صريع. فقال معقِل: فأتيت عليه، فذكرت عزمته، فجعلت عليه علماً، ثم ذهبت - وكنا إِذا قتلنا رجلاً شَغَل عنا أصحابه - ووقع ذو الحاجبين عن بغلته، فانشقَّ بطنه، فهزمهم الله. ثم جئت إِلى النعمان ومعي إداوة فيها ماء، فغسلت عن وجهه التراب. فقال: من أنت؟ قلت: معقِل بن يَسَار. قال: ما فعل الناس؟ فقلت: فتح الله عليهم. قال: الحمد لله. أكتبوا(2/122)
بذلك إلى عمر، وفاضت نفسه. وعند الطبري أيضاً عن زياد بن جبير عن أبيه رضي الله عنه - فذكر الحديث بطوله في وقعة نهاوند، وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا فلم يقاتل أول النهار لم يعجِّل حتى تحضر الصلاة، وتهب الأرواح، ويطيب القتال فما منعني إلا ذلك. اللهمَّ إني أسألك أن تقرّ عيني اليوم بفتح يكون فيه عزّ الإِسلام، وذلّ يذِلّ به الكفار؛ ثم إقبضني إليك بعد ذلك على الشهادة. أمِّنوا - يرحمكم الله - فأمّنّا وبكينا.
وقد أخرج الطبراني حديث معقِل بن يسار رضي الله عنه - بطوله مثل ما روى الطبري. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير علقمة بن عبد الله المُزَني، وهو ثقة. انتهى. وأخرجه الحاكم أيضاً عن معقل - بطوله.
رغبة الصحابة في الموت والقتل في سبيل الله يوم بدر قصة خيثمة وابنه سعد في إستهامهما الخروج
أخرجح الحاكم عن سليمان بن بلال رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا خرج إلى بدر أراد سعد بن خيثمة وأبوه جميعاً الخروج معه، فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأمر أن يخرج أحدهما. فإسْتَهما، فقال خيثمة بن الحارث لابنه سعد - رضي الله عنهما -: إنه لا بدّ لأحدنا من أن يقيم، فأقمْ مع نسائك، فقال سعد: لو كان غيرَ الجنة لآثرتك به، إنِّي أرجو الشهادة في وجهي هذا، فإستهما، فخرج سهم سعد؛ فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر. فقتله عمرو(2/123)
بن عبد ودّ، وأخرجه أيضاً ابن المبارك عن سليمان، وموسى بن عقبة عن الزهري؛ كما في الإِصابة.
قصة شهادة عبيدة بن الحارث
وأخرج ابن عساكر عن محمد بن علي بن الحسين قال: لما كان يوم بدر فدعا عتبة إلى البراز؛ قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى الوليد بن عتبة، وكانا مشَتَبِهَيْن حَدثين، وقال بيده، فجعل باطنها إلى الأرض فقتله. ثم قام شيبة بن ربيعة، فقام إليه حمزة رضي الله عنه، وكانا (مشتبِهين) ، وأشر بيده فوق ذلك فقتله. ثم قام عتبة بن ربيعة، فقام إليه عبيدة بن الحارث رضي الله عنه وكانا مثل هاتين الأسطوانتين، فاختلفا ضربتين، فضربه عبيدة ضربة أرخت عاتقه الأيسر؛ فأسفَّ عتبة لرجل عبيدة، فضربها بالسيف فقطع ساقه؛ ورجع حمزة، علي رضي الله عنهما على عتبة، فأجهزا عليه، وحملا عبيدة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في العريش، فأدخلاه عليه فأضجعه رضي الله عنه، ووسَّدَه رجله وجعل يمسح الغبار عن وجهه. فقال عبيدة: أما - والله - يا رسول الله، لو رآني أبو طالب لعلم أنِّي أحقُّ بقوله منه حين يقول:
ونُسلِمُه حتى نُصرَّعَ حوله
ونَذْهَلَ عن أبنائِنا والحلائلِ
ألستُ شهيداً؟ قال: «بلى، وأنا الشاهد عليك» ، ثم مات. فدفنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصَّفْراء، ونزل في قبره وما نزل في قبر أحد غيره. كذا في كنز العمال.(2/124)
وأخرجه الحاكم عن الزهري قال؛ إختلف عتبة وعبيدة رضي الله عنه بينهما ضربتين، كلاهما أثبت صاحبه، وكرّ حمزة، وعلي رضي الله عنهما على عتبة، فقتلاه، واحتملا صاحبهما رضي الله عنه، فجاءا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد قطعت رجله، ومخُّها يسيل، فلما أتَوا بعبيدة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألستُ شهيداً يا رسول الله؟ قال: بلى. فقال عبيدة: لو كان أبو طالب حياً لعلم أنَّا أحق بما قال منه حيث يقول:
ونُسِلمُهُ حتى نُصَرَّعَ حوله
ونَذهلَ عن أبنائنا والحلائل يوم أُحد قصة عمر وأخيه زيد في ترك الدرع لإِرادة الشهادة
أخرج الطبراني عن ابن عمر أن مر رضي الله عنه قال يوم أُحد لأخيه: خذ درعي يا أخي. قال أريد من الشهادة مثل الذي تريد، فتركاها جميعاً. فقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. انتهى. وأخرجه ابن سعد، أبو نعيم في الحلية - نحوه.
قصة حملة علي بن أبي طالب للقتل في سبيل الله
وأخرج أبو يَعلى، وابن أبي عاصم، والبورَقي، وسعيد بن منصور عن(2/125)
علي رضي الله عنه قال: لما انجالى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد نظرت في القتلى، فلم أرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: والله ما كان يفرّ، وما أراه في القتلى، ولكن أرى الله غضب علينا بما صنعنا؛ فرفع نبيه، فما (فيَّ) خير من أن أقاتل حتى أقتل؛ فكسرت جفن سيفي ثم حملت على القوم، فأفرجوا لي، فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم. كذا في كنز العمال. قال الهيثمي: رواه أبو يَعلى، وفيه محمد بن مروان العُقَيلي وثَّقه أبو داود، وابن حِبّان، وضعّفه أبو زُرْعة وغيره وبقية رجاله رجال الصحيح. انتهى.
قصة أنس بن النضر
وأخرج ابن إسحاق عن القاسم بن عبد الرحمن بن رافع أخي بني عديِّ بن النجار قال: انتهى أنس بن النضر عم أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب، وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين، والأنصار رضي الله عنهم - وقد ألقَوا بأيديهم - فقال: فما يجلسكم؟ قالوا: قُتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فما تصنعون بالحياة بعده، قوموا، فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استقبل القوم، فقاتل حتى قتل. كذا في البداية.
قصة ثابت بن الدحداحة
وأخرج الواقدي عن عبد الله بن عمّار الخَطْمي قال: أقبل ثابت ابن الدَحْداحة رضي الله عنه يوم أُحد والمسلمون أوزاع، قد سقِط في أيديهم،(2/126)
فجعل يصيح: يا معشر الأنصار، إليّ إليّ. أنا ثابت بن الدحداحة، إن كان محمد صلى الله عليه وسلم قد قتل، فإنَّ الله حيّ لا يموت؛ فقاتلوا عن دينكم فإنَّ الله مظهركم وناصركم. فنهض إِليه نفر من الأنصار فجعل يحمل بمن معه من المسلمين، وقد وقفت له كتيبة خَشْناء فيها رؤساؤهم: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي حهل، وضرار بن الخطاب، فجعلوا يناشدونهم، وحمل عليه خالد بن الوليد بالرمح فطعنه فأنفذه، فوقع فيها، وقتل من كان معه من الأنصار. فيقال: إن هؤلاء آخر من قتل من المسلمين كذا في الإِستيعاب.
قصة رجل من الأنصار مع رجل من المهاجرين ووصيته له
وأخرج البيهقي في «دلائل النبوة» من طريق ابن أبي نَجيح عن أبيه رضي الله عنه قال: مرّ رجل من المهاجرين يوم أُحد على رجل من الأنصار وهو يتشحَّط في دمه، فقال له: يا فلان، أشعرت أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قُتل؟ فقال الأنصاري: إن كان محمد صلى الله عليه وسلم قد قتل فقد بلَّغ الرسالة، فقاتلوا عن دينكم. فنزل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} (آل عمران: 144) . كذا في البداية.
قصة سعد بن الربيع
وأخرج الحاكم عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد لطلب سعد بن الربيع رضي الله عنه، وقال لي: «إن رأيته(2/127)
فأقرأه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ: «كيف تجدك؟» قال: فجعلت أطوف بين القتلى، فأصبته وهو في آخر رمق، وبه سبعون ضربة ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم. فقلت له: يا سعد، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام، ويقول لك: «أخبرني كيف تجدك؟» قال: على رسول الله السلام، وعليك السلام، قل له: يا رسول الله أجدني أجد ريح الجنة؛ وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله أن يُخْلَصَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم شُفْر يطرِف. قال: وفاضت نفسه - رحمه الله -. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإِسناد، لم يخرِّجاه. وقال الذهبي. صحيح. ثم أخرج الحاكم من طريق ابن إسحاق أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة حدَّثه عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع؟» فذكر الحديث بنحو منه. وقال: فقال سعد: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أني في الأموات؛ وأقرأه السلام، وقل له: يقول سعد: جزاك الله عنا وعن جميع الأمة خيراً. قال الذهبي: مرسل - اهـ. وقد ذكر في البداية رواية ابن إسحاق بتمامها. وذكره مالك في الموطأ (ص 175) عن يحيى بن سعيد بمعناه مختصراً. وهكذا أخرجه ابن سعد عن معن عن مالك عن يحيى - مختصراً.
قصة سبعة من الأنصار قتلوا يوم أُحد
وأخرج الإِمام أحمد عن أنس رضي الله عنه عنه أن المشركين لمّا رَهِقوا(2/128)
النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحد - وهو في سبعة من الأنصار، ورجل من قريش - قال: «مَنْ يردهم عنا وهو رفيقي في الجنة؟» فجاء رجل من الأنصار، فقاتل حتى قتل. فلما رهقوه أيضاً قال: «من يردهم عنا وهو رفيقي في الجنة؟» حتى قتل السبعة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما أنصفْنا أصحابَنا» . ورواه مسلم أيضاً.
وعند البيهقي عن جابر رضي الله عنه قال: إنهزم الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد وبقي معه أحد عشر رجلاً من الأنصار، وطلحة بن عبيد وهو يصعد في الجبل، فلحقهم المشركون. فقال: «ألا أحد لهؤلاء؟» فقال طلحة: أنا يا رسول الله، فقال: «كما أنت يا طلحة» فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتل عنه؛ وصعِد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بقي معه، ثم قتل الأنصاري، فلحقوه. فقال: «ألا رجل لهؤلاء؟» فقال طلحة مثل قوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل قوله. فقال رجل من الأنصار: فأنا يا رسول الله، فقاتل، وأصحابه يصعدون؛ ثم قتل فلحقه، فلم يزل يقول مثل قوله الأول، ويقول طلحة أنا يا رسول الله، فيحبسه، فيستأذنه رجل من الأنصار للقتال، فيأذن له، فيقاتل مثل ما كان قبله؛ حتى لم يبق معه إلا طلحة؛ فغشُوهما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من لهؤلاء؟» فقال طلحة: أنا، فقاتل مثل قتال جميع من كان قبله، وأصيبت أنمله، فقال حَسِّ. فقال: «لو قلت: بسم الله، لرفعتك الملائكة، والناس ينظرون إِليك حتى تلج بك في جوّ السماء» ؛ ثم صعِد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم مجمعون. كذا في البداية.(2/129)
قصة شهادة اليمان وثابت بن وقش
وأخرج الحاكم عن محمود بن لبيد قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أُحد رُفع اليمان بن جابر أبو حذيفة، وثابت بن وَقْش بن زعوراء في الآطام مع النساء والصبيان، فقال أحدهما لصاحبه وهما شيخان كبيران؛ لا أبا لك ما ننتظر؟ فوالله، ما بقي لواحد منا من عمره إلا ظِمْءُ حمار، إنا نحن هامَة اليوم ألا نأخذ أسيافنا؟ ثم نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلا في المسلمين ولا يعلمون بهما. فأما ثابت بن وقش فقتله المشركون. وأما أبو حذيفة فاختلفت عليه أسياف المسلمين فقتلوه ولا يعرفونه. فقال حذيفة: أبي أبي فقالوا: والله ما عرفناه وصَدَقوا. فقال حذيفة: يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يَدِيَه؛ فتصدَّق به حذيفة على المسلمين؛ فزاده ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرِّجاه. انتهى. وأخرجه أبو نُعيم عن محمود - نحوه كما في المنتخب، وزاد: ثم نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم لعلَّ الله أن يرزقنا الشهادة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذا أسيافهما حتى دخلا في الناس، ولا يُعلم بهما. وفي آخره: فزاده عند رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً.
يوم الرَّجيع قصة قتل عاصم وخبيب وأصحابهما(2/130)
أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية عيناً، وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت رضي الله عنه - وهو جدّ عاصم بن عمر بن الخطاب - فانطلقوا حتى إذا كانوا بين عُسْفان ومكة، ذُكروا الحيَ من هُذَيل يقال لهم بنو لِحْيان، فتبعوهم بقريب من مائة رام، فاقتصُّوا آثارهم حتى أتَوا منزلاً نزلوه، فوجدوا فيه نَوى تمر تزوَّدوه من المدينة. فقالوا: هذا تمر يثرب؛ فتبعوا آثارهم حتى لحقوه. فلما انتهى عاصم وأصحابه لجأوا إلى فَدْفَد، وجاء القوم فأحاطوا بهم، فقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلاً. فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر. اللهمّ أخبر عنا نبيك، فقاتلوهم حتى قتل عاصماً في سبعة نفر بالنبل. وبقي خُبِيب وزيد ورجل آخر رضي الله عنهم، فأعطَوهم العهد والميثاق، فلما أعطوهم العهد والميثاق، نزلوا إليهم، فلما استمكنوا منهم حلُّوا أوتار قسيّهم فربطوهم بها. فقال الرجل الثالث الذي معهما: هذا أول الغَدر، فأبى أن يصحبهم، فجرَّروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه.
وانطلقوا بخُبَيب وزيد حتى باعوهما بمكة، فاشترى خبيباً بنو الحارث بن عامر بن نوفل - وكان خبيب هو قتل الحارث بن عامر يوم بدر -، فمكث عندهم أسيراً، حتى إذا أجمعوا قتله استعار موسَى من بعض بنات الحارث ليستحدّ بها، فأعارته.m قالت: فغفلت عن صبيَ لي، فدَرَج إليه حتى أتاه فوضعه على فخذه، فلما رأيته فزعتُ فَزْعةً، عرف ذاك مني وفي يده لموسى. فقال: أتخشَين أن أقتله ما كنت لأفعل ذلك - إن شاء الله تعالى -. وكانت تقول: ما رأيتُ أسيراً قطُّ خيراً من خُبَيب، لقد رأيته يأكل من قِطْف عنب وما بمكة يومئذٍ ثمرةٌ، وإنه لَمُوثق في الحديد، وما كان إلا رزق رزقه الله. فخرجوا به(2/131)
من الحَرَم ليقتلوه. فقال: دعوني أصلِّ ركعتين، ثم أنصرف إليهم. فقال: لولا أن تَروا أنَّ ما بي جزع من الموت لزدت، فكان أول من سنّ الركعتين عند القتل هو؛ ثم قال: اللهمَّ أحصهم عدداً ثم قال:
وما إن أبالي حين أُقتل مسلماً
على أيّ شِقَ كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإِله وإِن يشأ
يباركْ على أوصال شِلْو ممزّع
ثم قام إليه عقبة بن الحارث فقتله.
وبعثت قريش إلى عاصم ليُؤتوا بشيء من جسده يعرفونه - وكان عاصم قتل عظيماً من عظمائهم يوم بد - فبعث الله عليه مثل الظُلَّة من الدَّبْر، فحمته من رسلهم، فلم يقدروا منه على شيء. وأخرجه البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه - نحن. وهكذا أخرجه عبد الرزاق عن أبي هريرة رضي الله عنه كما في الإستيعاب، وقال: أحسن أسانيد خبره في ذلك ما ذكره عبد الرزاق - فذكره. وأبو نُعيم في الحلية - نحوه.
وأخرج ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أُحد رهط من عَضَل والقارَة، فقالوا: يا رسول الله إِن فينا إِسلاماً، فابعث معنا نفراً من أصحابك يفقِّهوننا في الدين، ويقرؤوننا القرآن، ويعلِّموننا شرائع الإِسلام. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم نفراً ستة من أصحابه - فذكرهم. فخرجوا مع القوم حتى إِذا كانوا على الرَّجِيع - ماءٌ لِهُديل بناحية الحجاز على صدور الهَدْأة - غدروا بهم، فاستصرخوا عليهم هذيلاً، فلم يَرُع القوم وهم(2/132)
في رحالهم إلا الرجال بأيديهم السيوف فقد غَشُوهم، فأخذوا أسيافهم ليقاتلوا القوم، فقالوا لهم: إنا - والله - ما نريد قتلكم ولكنَّنا نريد أن نصيب بكم شيئاً من أهل مكة، ولكم عهد الله وميثاقه أن لا نقتلكم؛ فأمّا مرثد وخالد بن لبُكير وعاصم بن ثابت رضي الله عنهم فقالوا: والله لا نقبل من مشرك عهداً ولا عقداً أبداً.
أبيات عاصم حين قتله وحفاظ جسده عن المشركين
وقال عاصم بن ثابت:
ما عِلَّتي وأن جَلْدٌ نابِلُ
والقَوسُ فيها وترٌ عنابلُ
تزلُّ عن صفحتها المَعابلُ
الموت حقٌّ والحياة باطلُ
وكل ما حَمَّ الإِلهُ نازل
بالمرء والمرء إليه آيل
إن لم أقاتلكم فأمِّي هابل
وقال أيضاً:
أبو سليمان وريشُ المُقْعَدِ
وضالَةٌ مثل الجحيم الموقدِ(2/133)
إذا النواجي افتُرشت لم أُرعَدِ
ومُجْنا من جلد ثور أجرَدِ
ومؤمن بما على محمدِ
وقال أيضاً:
أبو سليمان ومِثلي رامَى
وكان قومي معشراً كراما
قال: ثم قاتل حتى قتل؛ وقتل صاحباه. فلما قتل عاصم أرادت هُذَيل أخذ رأسه ليبيعوه من سُلافة بنت سعد بن (شُهيد) ، وكانت قد نَذَرت حين أصاب إبنها يوم أُحد: لئن قَدَرت على رأس عاصم لتشربنّ في قِحْفه الخمر؛ فمنعته الدَّبْر. فلما حالت بينهم وبينه قالوا: دعُوه حتى يمسي فيذهب عن، فنأخذه. فبعث الله الوادي فاحتمل عاصماً فذهب به. وقد كان عاصم قد أعطى الله عهداً أن لا يمسَّه مشرك ولا يمسَّ مشركاً أبداً تنجُّساً فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول - حين بلغه: أن الدَّبْر منعته -: يحفظ الله العبد المؤمن، كان عاصم نذر أن لا يمسه مشرك ولا يمسّ مشركاً أبداً في حياته، فمنعه الله بعد وفاته كما امتنع منه في حياته.
قصة زيد بن الدَّثِنة وما قاله في حب النبي صلى الله عليه وسلم وأما خُبَيب، وزيد بن الدَّثِنة، وعبد الله بن طارق - رضي الله عنهم -، فلانوا ورقُّوا ورغبوا في الحياة، وأعطَوا بأيديهم فأسروهم. ثم خرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها، حتى إذا كانوا بالظَّهران إنتزع عبد الله بن طارق يده من القِرَان، ثم أخذ سيفه واستأخر عنه القوم، فرمَوه بالحجارة حتى قتلوه: فقبره(2/134)
بالظهران. وأما خُبَيب بن عدّي، وزيد بن الدَثِنة فقدموا بهما مكة، فباعوهما من قريش بأسيرين من هُذَيل كانا بمكة، فابتاع خبيباً حُجَيرُ بن أبي إهاب التميمي. وأما زيد بن الدَّثِنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه؛ فبعثه مع مولى له يقال له نِسْطاس إلى التَّنْعيم، وأخرجه من الحرم ليقتله. واجتمع رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب، فقال له أبو سفيان - حين قُدِّم ليقتل - أنشدك بالله - يا زيد - أتحبُّ أن محمداً الآن عندنا مكانك نضرب عنقه، وأنك في أهلك قال: والله ما أحب أنَّ محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي قال: يقول أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً يحبُّ أحداً كحبِّ أصحاب محمدٍ محمداً. قال: ثم قتله نِسْطاس.
قصة حبس خبيب بمكة وقصة صلاته عند القتل
قال: وأم خُبَيب بن عديّ فحدثني عبد الله بن أبي نَجِيح أنه حُدِّث عن ماوِيَّة مولاة حجير بن أبي إهاب - وكانت قد أسلمت -، قالت: كان عندي خبيب حبس في بيتي، فلقد اطَّلعت عليه يوماً وإن في يده لقِطْفاً من عنب مثل رأس الرجل يأكل منه؛ وما أعلم في أرض الله عنباً يؤكل.
قال ابن إسحاق وحدّثني عاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي نَجِيح أنهما قالا: قالت: قال لي حين حضره القتل: إبعثي إليّ بحديدة أتطهَّر بنا للقتل. قالت: فأعطيت غلاماً من الحيِّ الموسى، فقلت: أدخلْ بها على هذا الرجل البيت. فقالت: فوالله إنْ هو إلا أن ولَّى الغلام بها إليه، فقلت: ماذا صنعتُ؟ أصاب - والله - الرجل ثأره؛ يقتل هذا الغلام؛ فيكون رجلاً برجل. فلما ناوله الحديدة أخذها من يده، ثم قال: لعمرك، ما خافت أمك غدري حين بعثتك بهذه الحديدة إليَّ؟ ثم خلَّى سبيله. قال ابن هشام؛ ويقال إنَّ الغلام ابنها.(2/135)
قال ابن إسحاق: قال عاصم: ثم خرجوا بخُبَيب رضي الله عنه حتى إذا جاؤوا به إلى التَّنعيم ليصلبوه قال لهم: إن رأيتم أن تَدَعوني حتى أركع ركعتين، فافعلوا. قالوا: دونك فاركع. فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما، ثم أقبل على القوم فقال: أما والله، لولا أن تظنوا أنِّي إنما طوَّلت جزعاً من القتل لاستكثرت من الصلاة. قال: فكان خُبَيب رضي الله عنه أول من سنّ هاتين الركعتين عند القتل للمسلمين. قال: ثم رفعوه على خشبة، فلمّا أوثقوه قال: اللهم إِنا قد بلّغنا رسالة رسولك، فبلِّغه الغداةَ ما يُصنع بنا. ثم قال: اللهمّ أحصِهم عَدَداً، واقتلهم بِدَداً، ولا تغادر منهم أحداً. ثم قتلوه. وكان معاوية بن أبي سفيان يقول: حضرته يومئذٍ مع مَنْ حضره مع أبي سفيان، فلقد رأيته يلقيني إلى الأرض فَرَقاً من دعوة خُبَيب، وكانوا يقولون: إِنَّ الرجل إذا دُعِيَ عليه فاضطجع لجنبه زلَّت عنه.
وفي مغازي موسى بن عقبة؛ أن خبيباً وزيد بن الدّثِنَة - رضي الله عنهما - قُتلاً في يوم واحد، وأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سُمع يوم قُتلا وهو يقول: «وعليكما - أو عليك - السلام. خُبَيب قتلته قريش» . وذُكر أنَّهم لما صلبوا زيد بن الدَّثِنَة رمَوه بالنبل ليفتنوه عن دينه، فما زاده إلا إِيماناً وتسليماً. وذكر عروة وموسى بن عقبة رضي الله عنهما: أنهم لما رفعوا خُبَيباً على الخشبة نادَوه يناشدونه: أتحب أنَّ محمداً مكانك؟ قال: لا والله العظيم ما أحب أن يفديني بشوكة يُشاكها في قدمه، فضحكوا منه. وهذا ذكره ابن إسحاق في قصة زيد بن الدَّثِنَة - فالله أعلم. كذا في البداية.
ما قاله خبيب في حب النبي صلى الله عليه وسلم وأشعاره عند القتل
وقد أخرج الطبراني حديث عروة بن الزبير بطوله، وفيه؛ وقتَل خبيباً رضي(2/136)
الله عنه أبناءُ المشركين الذين قُتلوا يوم بدر. فلما وضعوا فيه السلاح وهو مصلوب نادَوه وناشدوه: أتحب أن محمداً مكانك؟ فقال: لا والله العظيم ما أحب أن يفديني بشوكة يُشاكها في قدمه؛ فضحكوا، وقال خبيب رضي الله عنه حين رفعوه إلى الخشبة:
لقد جَمَّع الأحزاب حولي وألّبوا
قبائلهم واستجمعوا كل مَجْمع
وقد جمَّعوا أبناءهم ونساءهم
وقُرِّبتُ من جِذْع طويل مُمنَّعِ
إلى الله أشكو غربتي ثم كُربتي
وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي
فذا العرش صبِّرني على ما يُراد بي
فقد بضَّعوا لحمي وقَدْ بان مطمعي
وذلك في ذات الإِله وإن يشأ
يبارك على أوصال شِلْوٍ ممزَّع
لعمري ما أحفِلْ إذا متّ مسلماً
على أيّ حال كان لله مضجعي
قال الهيثمي: رواه الطبراني، وفيه ابن لَهيعة وحديثه حسن، وفيه ضعف. انتهى. وقد ذكر الأبيات ابن إسحاق؛ كما في البداية، فزاد بعد البيت الأول:
وكلُّهم مُبدي العداوةِ جاهدٌ
عليّ لأني في وثاق بمَضْيَع
وزاد بعد البيت الخامس:
وقد خيَّروني الكفر والموتُ دونَه
وقد هَمَلت عيناي من غير مجزع
وما بي حِذارُ الموت إِنِّي لميتٌ
ولكن حِذاري جحم نار مُلَفَّع(2/137)
فوالله ما أرجو إذا متُّ مسلماً
على أيّ جنب كان في الله مضجعي
فلست بمُبْدٍ للعدوّ تخشُّعاً
ولا جَزَعاً إِنِّي إلى الله مرجعي
يوم بئر معونة قصة أصحاب بئر معونة رضي الله عنهم
أخرج ابن إسحاق عن المغيرة بن عبد الرحمن وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وغيرهما من أهل العلم قالوا: قدم أبو بَراء عامرُ بن مالك بن جعفر مُلاعبُ الأسنَّة على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة. فعرض عليه الإِسلام ودعاه إليه؛ فلم يسلم ولم يَبْعُد (من الإِسلام) وقال: يا محمد، لو بعثتَ رجالاً من أصحابك إِلى أهل نَجْد، فدعوهم إلى أمرك رجوتُ أن يستجيبوا لك. فقال رضي الله عنه: «إني أخشى عليهم أهل نَجّد» . فقال أبو بَراء: أنا لهم جارٌ، (فابعثهم فلْيدعوا الناس إلى أمرك) .
فعبث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة - المعْنِق ليموت - في أربعين رجلاً من أصحابه من خيار المسلمين؛ الحارث بن الصِّمَّة، وحَرام بن مِلْحان أخو بني عدي بن النجار، وعُروة بن أسماء بن الصَّلت السُّلَمي، ونافع بن بُدَيل بن ورقاءَ الخزاعي، وعامر بن فُهَيرة مولى أبي بكر - رضي الله عنهم - في رجالٍ من خيار المسلمين. فساروا حتى نزلوا بئر معونة - وهي بين(2/138)
أرض بني عامر وحَرَّة بني سُلَيم -. فلما نزلوها بعثوا حَرام بن مِلحان رضي الله عنه بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى عامر بن الطُّفيل، فلما أتاه لم ينظر في كتابه حتى عدا على الرجل فقتله، ثم استصرخ عليهم بني عامر؛ فأبوا أن يجيبوه إِلى ما دعاهم (إِليه) وقالوا: لن نخفر أبا براء وقد عقد لهم عقداً وجواراً، فاستصرخ عليهم قبائل من بني سُلَيم: عُصَيَّة ورِعْلاً وذَكْوان، فأجابوه إِلى ذلك. فخرجوا حتى غَشُوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا أسيافهم، ثم قاتلوا القوم حتى قُتلوا عن آخرهم - يرحمهم الله -، إلا كعب بن زيد أخا بني دينار ابن النجار فإنهم تركوه وبه رَمَق، فارتُثَّ من بين القتلى، فعاش حتى قُتل يوم الخندق.
وكان في سَرْح القوم عمرو بن أُمية الضَّمْري ورجل من الأنصار من بني عمرو بن عوف، فلم ينبئهما بمُصاب القوم إلا الطير تحوم على العسكر. فقالا: والله إنَّ لهذه الطير لشأناً، فأقبلا لينظرا، فإذا القوم في دمائهم، وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة. فقال الأنصاري لعمرو بن أُمية: ماذا ترى؟ فقال: يرى أن نلحَق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره الخبر. فقال الأنصاري: لكني ما كنت لأغرب بنفسي عن موطن قُتل فيه المنذرُ بن عمرو، وما كنتُ لتخبرني عنه الرجال، فقاتل القوم حتى قُتل، وأخذوا عَمْراً أسيراً. فلما أخبرهم أنه من مُضرَ أطلقه عامر بن الطّفيل، وجزَّ ناصيته، وأعتقه عن رَقَبة كنت على أُمه فيما زعم. كذا في البداية. وأخرجه الطبراني أيضاً من طريق ابن إسحاق. قال الهيثمي:(2/139)
ورجاله ثقات إِلى ابن إسحاق. انتهى.
قول حَرَام عند القتل وإسلام قاتله على قوله
وأخرج البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث حراماً - أخاً لأم سُلَيم - في سبعين راكباً، وكان رئيس المشركين عامر بن الطفيل خَيَّرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بين ثلاث خصال، فقال: يكون لك أهل السهل ولي أهل المَدَر، أو أكون خليفتك، أو أغزوك بأهل غطفان بألف وألف. فطُعن عامر في بيت أم فلان، فقال: غُدّة كغُدّة البَكْر في بيت إمرأة من آل فلان، ائتوني بفرسي؛ فمات على ظهر فرسه. فإنطلق حَرام - أخو أم سُلَيم - وهو رجل أعرج ورجل من بني فلان، وقال: كونا قريباً حتى آتيهم، فإن آمنوني كنتم قريباً، وإِن قتلوني أتيتم أصحابكم. فقال: أتُؤمنونني حتى أبلِّغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يحدِّثهم، وأومأوا إلى رجل، فأتاه نخلفه فطعنه. - قال همَّام: أحسبه حتى أنفذه بالرمح - فقال: الله أكبر فزت وربِّ الكعبة فلُحِقَ الرجل، فقتلوا كلهم غير الأعرج، - وكان في رأس جبل -، فأنزل الله تعالى علينا، ثم كان من المنسوخ: «إنا لقد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا» . فدعا النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثين صباحاً على رِعْل، وذَكْوان، وبني لحيان، وعُصَيَّة الذين عصوا الله وسوله صلى الله عليه وسلم وعند البخاري أيضاً عن أنس رضي الله عنه قال: لما طعن حَرَام بن مِلْحان(2/140)
- وكان خاله - يوم «بئر معونة» قال بالدم هكذا، فنضحه على وجهه ورأسه؛ ثم قال: فُزْت وربِّ الكعبة. وعند الواقدي أن الذي قتله جبّار بن سَلْمى الكِلابي. قال: ولما طعنه بالرمح قال: فُزْتُ وربِّ الكعبة ثم سأل جبار بعد ذلك ما معنى قوله: «فزت» . قالوا: يعني بالجنة. فقال: صدق والله ثم أسلم جبَّار بعد ذلك لذلك. كذا في البداية.
يوم مؤتة بكاء ابن رواحة عند الخروج وأبياته في سؤال الشهادة
أخرج ابن إسحاق عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثة إلى مؤتة في جمادى الأولى من سنة ثمان، واستعمل عليهم زيد بن حارثة وقال: «إِن أُصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أُصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس» ، فتجهَّز الناس ثم تهيأوا للخروج؛ وهم ثلاثة آلاف. فلمّا حضر خروجهم ودَّع الناسُ أمراءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلَّموا عليهم، فلمّا وُدِّع عبد الله بن رواحة مع من وُدِّع بكى، فقالوا: ما يُبكيك يا ابن رواحة؟ فقال: - والله - ما بي حبُّ الدنيا ولا صَبَابة بكم، ولكنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار: {وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً} فلست أدري كيف لي بالصَّدَر بعد الورود؟ فقال المسلمون: صحبكم الله، ودفع عنكم وردَّكم إلينا صالحين. فقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه:(2/141)
لكنني أَسأل الرحمن مغفرة
وضَرْبةً ذات فَرْغٍ تقذف الزَّبدا
أو طعنةً بيدَيْ حرّان مُجْهِزة
بحربة تُنْفِذ الأحشاء والكبدا
حتى يقال إذا مرُّوا على جَدَثي
أرشَدَه الله من غازٍ وقد رَشَدا
ثم إنَّ القوم تهيأوا للخروج، فأتى عبد الله بن رواحة رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فودّعه، ثم قال:
فثبّت الله ما أتاك حَسَن
تَثْبيتَ موسى ونصراً كالذي نُصرا
إنّي تفرستُ فيك الخير نافلةً
الله يعلم أني ثابت البصر
أنت الرسول فمن يُحرم نوافلَه
والوجهَ منه فقد أزرى به القدر
ثم خرج القوم، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يشيّعهم حتى إذا ودَّعهم وانصرف. قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه:
خَلَف السَّلامُ على امرىء ودْعتُهُ
في النَّخل خيرَ مُشَيِّع وخليل
تشجيع ابن رواحة الناس على الشهادة
ثم مضَوا حتى نزلوا «معاناً» من أرض الشام، فبلغ الناس أن هِرَقْل قد نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم، وانضم إليه من لَخْم وجُذام والقَيْن وبَهْراء وَبَليّ مائة ألف منهم، عليهم رجل من بَليّ، ثم أحد إراشة يقال له مالك بن زافلة. فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على «مَعان» ليلتين ينظرون في أمرهم؛ وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمُدَّنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له. فشجع الناسَ عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وقال: يا قوم، - والله - إنَّ التي تكرهون لَلَّتي خرجتم تطلبون: الشهادة.(2/142)
وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به؛ فانطلِقوا فإنَّما هي إِحدى الحُسْنَيَين: إما ظهور وإما شهادة. فقال الناس: قد - والله - صدق ابن رواحة.
فمضى الناس حتى إِذا كانوا بتُخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها «مَشارف» ، ثم دنا العدوّ، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها: «مُؤتةَ» ، فلتقى الناس عندها. فتعبَّى لهم المسلمون، فجعلوا على ميمنتهم رجلاً من بني عُذْرة يقال له قُطْبَة بن قَتادة رضي الله عنه، وعلى ميسرتهم رجلاً من الأنصار يقال له عَباية بن مالك رضي الله عنه، ثم التقى الناس فاقتتلوا، فقاتل زيد بن حارثة رضي الله عنه براية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شاط في رماح القوم، ثم أخذها جعفر رضي الله عنه فقاتل القوم حتى قُتل، فكان جعفر أول المسلمين عَقَر في الإِسلام. كذا في البداية.
وأخرجه الطبراني عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما - مثله، وفيه: ثم أخذها جعفر رضي الله عنه فقاتل به حتى إِذا ألحَمه القتال إقتحم عن فرس له «شقراء» فعقرها، فقاتل القوم حتى قتل، وكان جعفر أول رجل من المسلمين عَقَر في الإِسلام. قال الهيثمي: رواه الطبراني، ورجاله ثقات إِلى عروة. انتهى. وأخرجه أبو نعيم في الحِلية عن عروة رضي الله عنه - مختصراً.(2/143)
أبيات ابن رواحة في مسيره في الشوق إلى الشهادة
وأخرج ابن إسحاق عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: كنت يتيماً لعبد الله بن رواحة رضي الله عنه في حِجْره، فخرج بي في سفره ذلك مُرْدِفي على حقيبة رَحْله، فوالله إنه ليسير ليلتئذٍ وهو يُنْشِد أبياته:
إذا أدنيتِني وحملت رَحْلي
مسيرة أربع بعد الحِساء
فشأنك أنعمٌ وخلاك ذمٌ
ولا أرجعْ إِلى أهلي ورائي
وجاء المسلمون وغادروني
بأرض الشام مستنهى الثواء
وردَّك كل ذي نَسَب قريب
إلى الرحمن منقطعَ الإِخاء
هنالك لا أُبالي طلع بَعْل
ولا نخل أسافلها رِواء
قال: فلما سمعتُهن منه بكيت، فخفقني بالدِّرة وقال: ما عليك يا لُكع أن يرزقني الله الشهادة؟ وترجع بين شعبتي الرَّحْل. كذا في البداية وأخرجه أيضاً أبو نعيم في الحلية، والطبراني من طريق ابن إسحاق عن زيد كما في المجمع.
أبيات ابن رواحة عند القتال
وأخرج ابن إسحاق عن عبَّاد بن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: حدثني أبي(2/144)
الذي أرضعني - وكان أحد بني مرة بن عوف - قال: فلما قتل جعفر رضي الله عنه أخذ عبد الله بن رواحة رضي الله عنه الراية، ثم تقدَّم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردّد ويقول:
أقسمت يا نفسُ لتنزِلنَّهْ
لتنزِلِنَّ أو لتُكْرِهِنَّهْ
إن أجلبَ الناس وشدُّوا الرَّنَّة
ما لي أراك تكرهين الجنَّة؟
قد طال ما قد كنتِ مطمئنة
هل أنت إلا نُطفة في شَنَّة
وقال أيضاً:
يا نفسُ إن لا تُقتلي تموتي
هذا حِمامُ الموت قد صُلِيتِ
وما تمنيتِ فقد أعطيتِ
إن تفعلي فعلهما هُدِيتِ
يريد صاحبيه زيداً وجعفراً رضي الله عنهما، ثم نزل. فلما نزل أتاه ابن عمّ له بعَرْق من لحم، فقال: شُدّ بهذا صلبك، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت.k فأخذه من يده فانتهس منه نَهْسة، ثم سمع الحَطْمة في ناحية الناس. فقال: وأنت في الدنيا؟ ثم ألقاه من يده، ثم أخذ سيفه، ثم تقدم فقاتل حتى قتل. كذا في البداية. وأخرجه أيضاً أبو نعيم في الحلية؛ والطبراني: ورجاله ثقات. كما قال الهيثمي.(2/145)
عقر جعفر فرسه وما قال من الأشعار عند القتل
وأخرج ابن إسحاق عن عبَّاد بن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: حدثني أبي الذي أرضعني - وكان أحد بني مرة بن عوف - وكان في تلك الغزوة «غزوة مؤتة» قال: والله لكأنِّي أنظر إلى جعفر رضي الله عنه حين اقتحم عن فرس له «شقراء» ثم عقرها، ثم قاتل القوم حتى قتل؛ وهو يقول:
يا حبَّذا الجنّة واقترابُها
طيبةٌ وباردٌ شرابُها
والرومُ رومٌ قد دنا عذابها
كافرةٌ بعيدةٌ أنسابها
عليَّ إِذ لاقيتها ضِرابُها
يوم القيامة تشجيع زيد بن الخطاب وأصحابه على الثبات واستشهاده رضي الله عنه
أخرج الحاكم عن عمر بن عبد الرحمن - من ولد زيد بن الخطاب - عن أبيه رضي الله عنه قال: كان زيد بن الخطاب يحمل راية المسلمين يوم اليمامة، وقد انكشف المسلمون حتى ظهرت خيفة على الرجال، فجعل زيد بن الخطاب يقول: أما الرحال فلا رحال، وأما الرجال فلا رجال؛ ثم جعل يصيح بأعلى صوته: اللهمَّ إني أعتذر إليك من فرار أصحابي، وأبرأ إليك مما جاء به مُسَيلِمة ومُحَكَّم(2/146)
بن الطُّفَيل، وجعل يشدّ بالراية يتقدم بها في نحر العدوّ، ثم ضارب بسيفه حتى قتل رحمة الله عليه، ووقعت الراية فأخذها سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه، فقال المسلمون: يا سالم إنا نخاف أن نُؤتى من قِبَلك فقال: بئس حامل القرآن أنا إن أتيتم من قِبَلي وقُتل زيد بن الخطاب سنة إثنتي عشر من الهجرة. وأخرجه ابن سعد عن عبد الرحمن رضي الله عنه - مثله.
حفر ثابت وسالم حفرة للثبات في المعركة واستشهادهما
وأخرج الطبراني عن إبنة ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه - فذكرت الحديث، وفيه: فلما استنفر أبو بكر رضي الله عنه المسلمين إِلى قتال أهل الردة: اليمامة ومسيلمة الكذاب، سار ثابت بن قيس رضي الله عنه فيمن سار، فلما لَقُوا مسيلمة وبني حنيفة هزموا المسلمين - ثلاث مرّات. فقال ثابت وسالم مولى أبي حذيفة - رضي الله عنهم -: ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلا لأنفسهما حفرة فدخلا فيه، فقاتلا حتى قتلا. قال الهيثمي: وبنت ثابت بن قيس لم أعرفها، وبقية رجاله رجال الصحيح. والظاهر أن بنت ثابت بن قيس صحابية فإنها قالت؛ سمعت أبي. انتهى. وأخرجه ابن عبد البرّ في الإستيعاب - نحوه. وأخرجه البغوي أيضاً بهذا الإِسناد، كما في الإِصابة.
وأخرج ابن سعد عن محمد بن ثابت بن قيس بن شمّاس رضي الله عنه قال: لمَّ انكشف المسلمون يوم اليمامة قال سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهما: ما هكذا كنا نفعل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فحفر لنفسه حفرة وقام فيها، ومعه راية(2/147)
المهاجرين يومئذٍ، فقاتل حتى قتل - رحمه الله - يوم اليمامة شهيداً سنة إثنتي عشرة؛ وذلك في خلافة أبي بكر رضي الله عنه.
نداء عبّاد بن بشر للأنصار في المعركة وقت الشهادة
وأخرج أيضاً عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت عبَّاد بن بِشر رضي الله عنه يقول: يا أبا سعيد، رأيت الليلة كأن السماء قد فُرِجَت لي، ثم أطْبقت عليّ؛ فهي - إن شاء الله - الشهادة. قال: قلت: خيراً - والله - رأيت. قال: فأَنْظُر إليه يوم اليمامة وإِنه ليصيح بالأنصار: أحطِموا جفون السيوف، وتميَّزوا من الناس، وجعل يقول: أخْلِصونا، أخلصونا، فأخلصوا أربع مائةِ رجل من الأنصار ما يخالطهم أحد، يقدمهم عبَّاد بن بشر، وأبو دُجانة، والبراء بن مالك رضي الله عنهم حتى انتهوا إِلى باب الحديقة، فقاتلوا أشدَّ القتال؛ وقُتل عباد بن بشر رحمه الله، فرأيت بوجهه ضرباً كثيراً ما عرفه إِلا بعلامة كانت في جسده.
نداء أبي عقيل للأنصار في المعركة وقت الشهادة
وأخرج أيضاً عن جعفر بن عبد الله بن أسلم الهمْداني رضي الله عنه قال: لما كان يوم اليمامة كان أول الناس جرح أبو عقيل الأُنَيْفي رضي الله عنه؛ رُمِيَ بسهم فوقع بين منكبيه وفؤاده، فشَطَبَ في غير مقتل، فأُخرج السهمُ - ووهن له شقه الأيسر - لِمَا كان فيه، وهذا أول النهار، وجُرّ إِلى الرَّحْل - فلما حمي القتال وانهزم المسلمون وجازوا رحالهم - وأبو عقيل واهن من جرحه - سمع مَعْنَ بن(2/148)
عدي رضي الله عنه يصيح بالأنصار: الله الله والكرّةَ على عدوّكم، وأعنق مَعْن يَقْدَم القوم، وذلك حني صاحت الأنصار: أَخلصونا، أخلصونا، فأخلَصوا رجلاً رجلاً يُمَيَّزون. قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: فنهض أبو عَقيل يريد قومه، فقلت: ما تريد يا أبا عَقِيل، ما فيك قتال؟ قال: قد نوَّه المنادي باسمي. قال ابن عمر: فقلت؛ إنما يقول: يا للأَنصار، لا يعني الجَرْحى قال أبو عَقِيل: أنا رجل من الأنصار، وأنا أجيبه ولو حَبْواً قال ابن عمر: فتحزمَّ أبو عقيل وأخذ السيف بيده اليمنى مجرداً، ثم جعل ينادي: يا للأنصار، كرّة كيوم حُنَين، فاجتمعوا - رحمهم الله - جميعاً يقدمُون المسلمين دُرْبة دون عدوْهم حتى أقحموا عدوَّهم الحديفة، فاختلطوا واختلفت السيوف بيننا وبينهم.
قال ابن عمر: فنظرت إلى أبي عقيل وقد قطعت يده المجروحة من المنكب، فوقعت الأرض وبه من الجراح أربعة عشر جرحاً كلها قد خَلَصت إلى مقتل، وقُتل عدوّ الله مسيلمة. قال ابن عمر فوقعتُ على أبي عقيل وهو صريع بآخر رمق، فقلت: أبا عقيل، فقال: لبيك - بلسان ملتاث - لِمَن الدَّبْرة؟ قال: قلت: أبشر، ورفعت صوتي: قد قُتل عدوّ الله، فرفع أصبعه إلى السماء يحمد الله، ومات - يرحمه الله -. قال ابن عمر: فأخبرت عمر بعد أن قدمت خبره كلَّه. فقال: رحمه الله، ما زال يسأل الشهادة ويطلبها، وإِنْ كان ما علمت من خيار أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم وقديمَ إِسلام.
إستشهاد ثابت بن قيس
وأخرج الطبراني عن أنس رضي الله عنه قال: لما انكشف الناس يوم(2/149)
اليمامة قلت لثابت بن قيس رضي الله عنه: ألا ترى يا عمّ؟ ووجدته يتحنَّط. فقال: ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بئس ما عوَّدتم أقرانكم: اللهمَّ إِنِّي أبرأ إِليك مما جاء به هؤلاء، ومما صنع هؤلاء، ثم قاتل حتى قتل. - فذكر الحديث؛ كما في الإِصابة، قال: وهو في البخاري - مختصراً. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح اهـ. وأخرجه الحاكم: وصحَّحه على شرط مسلم. وفي مرسل عكرمة عن ابن سعد بإسناد صحيح؛ كما في فتح الباري: فلما كان يوم اليمامة إنهزم المسلمون. فقال ثابت رضي الله عنه: أُفٍ لهؤلاء ولما يعبدون، وأُفٍ لهؤلاء ولما يصنعون. وقال: ورجل قائم على ثُلْمة فقتله وقُتِل. وأخرجه البيهقي عن أنس رضي الله عنه - بمعناه.
يوم اليرموك قتل عكرمة بن أبي جهل في أربعمائة من المسلمين
أخرج يعقوب بن أبي سفيان، وابن عساكر عن ثابت البُناني رضي الله عنه: أن عكرمة بن(2/150)
أبي جهل رضي الله عنه ترجَّل يوم كذا وكذا، فقال له خالد بن الوليد رضي الله عنه: لا تفعل، فإنَّ قَتْلَكَ عى المسلمين شديدٌ. فقال: خلِّ عني يا خالد؛ فإنَّه قد كان لك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقة، وإني وأبي كنا من أشدّ الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فمشى حتى قتل. كذا في الكنز. وأخرجه البيهقي عن ثابت رضي الله عنه - نحوه.
وعند سَيْف بن عمر عن أبي عثمان الغسَّاني عن أبيه رضي الله عنه قال: قال عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه يوم اليرموك: قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطن، وأفرّ منكم اليوم؟ ثم نادى. من يبايع على الموت؟ فبايعه عمُّه الحارث بن هشام وضرار بن الأزور رضي الله عنهما في أربع مائة من وجوه المسلمين وفرسانهم، فقاتلوا قُدَّامَ فسطاط خالد رضي الله عنه حتى أُثبِتوا جميعاً جراحاً، وقتل منهم خلق. منهم: ضرار بن الأزور رضي الله عنهم كذا في البداية.
وقد أخرجه الطبري عن السَّرِي عن شعيب عن سيف بإسناده - نحو، إلا أنه قال: وقتلوا إلا من برأ، ومنهم ضرار بن الأزور رضي الله عنه، قال: وأُتي خالد رضي الله عنه بعدما أصبحوا بعكرمة رضي الله عنه جريحاً، فوضع رأسه على فخذه وبعمرو بن عكرمة، فوضع رأسه على ساقه، وجعل يمسح عن وجوههما، ويقطر في حلوقهما الماء، ويقول: كلا، زعم ابن الحنتمة، أنا لا نُستَشهد.(2/151)
بقية قصص الصحابة رضي الله عنهم في رغبتهم في القتل في سبيل الله رغبة عمّار بن ياسر في القتل
أخرج الطبراني وأبو يعلى عن أبي البَخْتَري ومَيْسَرة؛ أن عمَّار بن ياسر رضي الله عنه يوم صِفِّين كان يقاتل فلا يقتل، فيجيء إلى علي رضي الله عنه فيقول: يا أمير المؤمنين، يوم كذا وكذا هذا؟ فيقول: أذهب عنك. قال: ذلك ثلاث مرات، ثم أُتيَ بلبن فشربه، ثم قال: إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنَّ هذا آخر شَرْبة أشربها من الدنيا، ثم قام فقاتل حتى قُتل. قال الهيثمي: رواه الطبراني، وأبو يَعْلى بأسانيد؛ وفي بعضها عطاء بن السائب وقد تَغَيَّر، وبقية رجاله ثقات، وبقية الأسانيد ضعيفة. انتهى.
وعند الطبراني عن أبي سنان الدؤلي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رأيت عمَّار بن ياسر رضي الله عنه دعا غلاماً له بشراب، فأتاه بقَدَح من لبن فشربه، ثم قال: صدق الله ورسوله، اليوم ألقى الأحبة محمداً وحزبه - فذكر الحديث. قال الهيثمي: وإسناده حسن.
وعند الطبراني عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: سمعت عمار بن ياسر رضي الله عنه بصِفِّين في اليوم الذي مات فيه وهو ينادي: إني لقيت الجبار، وتزوجت الحور العين، اليوم نلقى الأحبة محمداً وحزبه، عهد إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ آخر زادِك من الدنيا ضَياح من لبن. قال الهيثمي: رواه(2/152)
الطبراني في الأوسط، والإِمام أحمد باختصار؛ ورجالهما رجال الصحيح. ورواه البزَّار بنحوه بإسناد ضعيف. وفي رواية عند الإِمام أحمد: أنه لما أُتِيَ باللبن ضحك. انتهى.
إستشهاد البراء بن مالك يوم العقبة بفارس
وأخرج البغوي - بإسناد صحيح - عن أنس رضي الله عنه: دلت على البراء بن مالك وهو يتغنّى، فقلت: قد أبدلك الله ما هو خير منه. فقال: أترهب أن أموت على فراشي؟ لا والله ما كان ليحرمني ذلك، وقد قتلت مائة منفرداً سوى من شاركت فيه. كذا في الإِصابة وأخرجه الطبراني بمعناه. قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح - اهـ. وأخرحه الحاكم أيضاً - بمعناه، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرِّجاه. وأخرجه أبو نعيم في الحلية - نحوه. وأخرج الحاكم أيضاً عن أنس رضي الله عنه، قال: لمّا كان يوم العقبة بفارس - وقد زَوَى الناس - قام البراء رضي الله عنه فركب فرسه وهي تُزْجى، ثم قال لأصحابه: بئس ما عوَّدتم أقرانكم عليكم فحمل على العدوّ، ففتح الله على المسلمين، واستُشهد البراء رضي الله عنه يومئذٍ.(2/153)
ما ظنَّ عمر بعثمان بن مظعون حين مات ولم يقتل
أخرج ابن سعد، وأبو عُبَيد في الغريب عن عبيد بن عبد الله بن عتبة رضي الله عنه أنَّه بلغه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لمَّا توفي عثمان بن مظعون رضي الله عنه وفاة لم يُقتل، هبط من نفسي هبطةً ضخمة، فقلت: أنظروا إلى هذا الذي كان أشدّ تخلياً من الدنيا، ثم مات ولم يقتل؛ فلم يزل عثمان بتلك المنزلة من نفسي حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: وَيْك إنَّ خيارنا يموتون ثم توفي أبو بكر رضي الله عنه فقلت: ويك، إن خيارنا يموتون فرجع عثمان رضي الله عنه في نفسي إلى المنزلة التي كان بها قبل ذلك. كذا في المنتخب.
شجاعة الصحابة رضي الله تعالى عنهم شجاعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه
أخرج البزّار عن علي رضي الله عنه أنه قال: أيها الناس أخبروني من أشجع الناس؟ قالوا: أنت يا أمير المؤمنين. قال: أمَا إنِّي ما بارزت أحداً إلا انتصفت منه، ولكن أخبروني بأشجع الناس. قالوا: لا نعلم، فمن؟ قال: أبو بكر. إنَّه لا كان يوم بدر جعلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشاً. فقلنا: من يكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا يهوي إليه أحد من المشركين؟ فوالله ادنا منه أحد إلا أبو(2/154)
بكر شاهراً بالسيف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يهوي إليه أحد إلا أهوى إليه؛ فهذا أشجع الناس - فذكر الحديث كذا في المجمع.
شجاعة عمر بن الخطاب رضي الله عنه
أخرج ابن عساكر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ما علمت أحداً هاجر إلا مختفياً إلا عمرَ بن الخطاب فإنه لما همّ بالهجرة تقلّد سيفه، وتنكّب قوسه، وانتضى في يده أسهُماً، وأتى الكعبة - وأشراف قريش بفِنائها - فطاف سبعاً، ثم صلَّى ركعتين عند المَقام، ثم أتى حِلَقهم واحدة واحدة فقال: شاهت الوجوه. من أراد أن تثكله أمه، ويُؤتَم ولده، وتَرْمُل زوجته؛ فليقني وراء هذا الوادي. فما تبعه منهم أحد. كذا في منتخب كنز العمال.
شجاعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شعر علي بعد وقعة أُحد
أخرج البزار عن جابر رضي الله عنه قال: دخل علي على فاطمة رضي الله عنهما يوم أُحد، فقال:
أفاطمُ هاكِ السيفَ غيرَ ذَميمِ
فلستُ برعديدٍ ولا بلئيم
لعمري لقد أبليت في نصر أحمدٍ
ومرضاة رب بالعباد عليمِ
لقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إِن كنت أحسنت القتال فقد أحسنه سهل بن حُنَيف وابن الصِّمَّة» - وذكر آخر فنسيه مُعلَّى -. فقال جبريل عليه السلام: يا محمد هذا - وأبيك - المواساة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا جبريل إنَّه منِّي» . فقال جبريل عليه السلام: وأنا منكما. قال الهيثمي: وفيه مُعَلَّى بن(2/155)
عبد الرحمن الواسطي وهو ضعيف جدّاً. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به. انتهى.
وعند الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: دخل علي بن أبي طالب رضي الله عنه على فاطمة رضي الله عنها يوم أُحد فقال: خذي هذا السيف غير ذميم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «لئن كنت أحسنت القتال لقد أحسنه سهل بن حُنَيْف وأبو دُجانة سِماك بن حَرَشَة» قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. انتهى.
قتله عمرو بن عبد ود
وأخرج ابن جرير من طريق ابن إسحاق عن يزيدَ بن رومان عن عروة وعبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنهما قالا: لما كان يوم الخندق خرج عمرو بن عبد وعدّ مُعْلَماً ليُرى مشهدُه، فلما وقف هو وخيله قال له علي: يا عمرو، إنَّك قد كنت تعاهد الله لقريش ألا يدعوك رجل إلى خَلَّتين إلا اخترت إحداهما. قال: أجَل. قال فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإِسلام. قال لا حاجة لي في ذلك، قال: فإني أدعوك إلى المبارزة. قال: لم يا ابن أخي؟ فوالله ما أحب أن أقتلك. قال علي رضي الله عنه: ولكني - والله أ- أحب أن أقتلك. فحمي عمرو عند ذلك، وأقبل إلى علي رضي الله عنه فتنازلا، فتجاولا، فقتله علي رضي الله عنه. كذا في الكنز.(2/156)
أشعار علي عند قتل عمرو بن عبد ود
وذكره في البداية من طريق البيهقي عن ابن إسحاق قال: خرج عمرو بن عبد وعدّ وهو مقنَّع بالحديد، فنادى من يبارز؟ فقام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: أنا لها يا نبي الله، فقال: «إنه عمرو، إجلس» . ثم نادى عمرو: ألا رجل يبرز؟ فجعل يؤنّبهم، ويقول: أين جنتكم التي تزعمون أنه من قتل منكم دخلها؟ أفلا تُبرزون إِليّ رجلاً؟ فقام علي رضي الله عنه فقال: أنا يا رسول الله، فقال: «إجلس» . ثم نادى الثالثة. فقال: فذكر شعره. قال: فقام علي رضي الله عنه فقال: يا رسول الله أنا. فقال: «إنه عمرو» . فقال: «وإن كان عَمْراً. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فمشى إليه حتى أتى وهو يقول:
لا تعجلنَّ فقد أتاكْ
مجيبُ صوتك غير عاجزْ
في نية وبصيرة
والصدق مَنْجَى كلِّ فائزْ
إني لأرجو أن أقيم
عليك نائحة الجنائزْ
من ضربة نَجْلاء
يبقى ذكرها عند الهزاهزْ
فقال له عمرو: من أنت؟ قال: أنا علي، قال: ابن عبد مناف؟ قال: أنا علي بن أبي طالب، فقال: يا ابن أخي مِنْ أعمامك من هو أسنّ منك؛ فإني أكره أن أُهَريق دمك، فقال له علي رضي الله عنه: لكني - والله - لا أكره أن أهَريق دمك. فغضب فنزل وسلَّ سيفه كأنه شعلة نار، ثم أقبل نحو علي رضي الله عنه مُغضَباً، واستقبله علي بدَرَقَته؛ فضربه عمرو في دَرَقَته، وأثبت فيها السيف وأصاب رأسه فشجّه. وضربه علي رضي الله عنه(2/157)
على حبل عاتقه فسقط، وثار العَجاج؛ وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم التكبير، فعرفنا أن علياً رضي الله عنه قد قتله؛ فثَمَّ يقول علي رضي الله عنه:
أعليَّ تقتحم الفوارسُ هكذا
عني وعنهم أخِّروا أصحابي
اليوم يمنعني الفرارَ حفيظتي
ومُصَمِّمٌ في الرأس ليس بنابي
إلى أن قال:
عبد الحجارة من سفاهة رأيه
وعبدتُ ربَّ محمدٍ بصوابي
فصدرت حين تركته متجدلاً
كالجِذْع بين دكادكٍ وروابي
وعففت عن أثوابه ولو أنني
كنت المَقَطَّر بزّني أثوابي
لا تحسبُنَّ الله خاذلَ دينه
ونبيِّه يا معشرَ الأحزابِ
قال: ثم أقبل علي رضي الله عنه نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه يتهلّل، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: هلا إستلبته درعه؟ فإنه ليس للعرب درع خير منها، فقال: ضربته فأقتاني بسوأته، فاستحييت ابن عمي أن أسلبه. انتهى.
قتله مرحب اليهودي وبطولته يوم خيبر
وأخرج مسلم، والبيهقي - واللفظ له - عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه - فذكر حديثاً طويلاً، وذكر فيه رجوعهم من غزوة بني فَزارة. قال: فلم نمكث إلا ثلاثاً حتى خرجنا إلى خيبر. قال: وخرج عامر رضي الله عنه فجعل يقول:(2/158)
والله لولا أنت ما اهتدينا
ولا تصدَّقنا ولا صلَّينا
ونحن من فضلك ما استغنينا
فأنزلنْ سكينةً علينا
وثبِّتِ الأقدامِ إِن لاقينا
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من هذا القائل؟» فقالوا: عامر فقال: «غفر لك ربك» . قال: ما خصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قطُّ أحداً به إِلا استشهد -. فقال عمر رضي الله عنه - وهو على جمل -: لولا متَّعْتَنا بعامر. قال: فقدمنا خيبر، فخرج مرحب وهو يخطِر بسيفه ويقول:
قد علمت خيبر أني مَرْحَبْ
شاكي السلاحِ بطل مُجَرّبْ
إذا الحروب أقبلت تَلَهَّبْ
قال: فبرز له عامر رضي الله عنه وهو يقول:
قد علمت خيبر أني عامر
شاكي السلاحِ بطل مغامر
قال: فاختلفنا ضربتين، فوقع سيف مرحب في ترس عامر رضي الله عنه، فذهب يسعل له، فرجع على نفسه فقطع أكْحَله فكانت فيها نَفْسهُ. قال سلمة رضي الله عنه: فخرجت فإذا نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: بَطَل عَملُ عامر، قَتَلَ نفسَه. قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي. فقال: «ما لك؟» فقلت: قالوا: إن عامراً بطل عمله فقال: «من قال ذلك؟» فقلت: نفر من أصحابك. فقال: «كذب أولئك، بل له الأجر مرّتين» . قال: وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي يدعو وهو أرمد؛ وقال: «لأُعْطِيَنَّ الراية اليوم رجلاً يحبُّ الله ورسولَه» . قال: فجئت به أقوده. قال: فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينه فبرأ؛(2/159)
فأعطاه الراية. فبرز مرحب وهو يقول:
قد علمت خيبر أني مرحبْ
شاكي السلاحِ بطل مجرّبْ
إذا الحروب أقبلت تَلَهَّبْ
قال فبرز له رضي الله عنه وهو يقول:
أنا الذي سمتني أمي حَيْدَرَة
كَلَيْثِ غاباتٍ كريهِ المنظرهْ
أُوفيهم بالصاع كيل السَّنْدَره
قال فضرب مرحباً ففلق رأسه فقلته، وكان الفتح. هكذا وقع في هذا السياق: أنّ علياً هو الذي قتل مرحباً اليهودي - لعنه الله -.
وهكذا أخرجه الإِمام أحمد عن علي رضي الله عنه قال: لمّا قتلتُ مرحباً جئت برأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد روى موسى بن عقبة عن الزهري أن الذي قتل مرحباً وهو محمد بن مسلمة رضي الله عنه. وكذلك أخرج محمد بن إسحاق، والواقدي عن جابر رضي الله عنه وغيره من السلف. كذا في البداية.
وأخرج ابن إسحاق عن بعض أهله عن أبي رافع رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خرجنا مع علي رضي الله عنه إِلى(2/160)
خيبر، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم برايته. فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم، فضربه رجل منهم من يهود فطرح ترسه من يده، فتناول علي رضي الله عنه باب الحصن فترَّس به عن نفسه، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه، ثم ألقاه من يده، فلقد رأيتُني في نفر معي سبعة أنا ثامنهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب، فما استطعنا أن نقلبه. وفي هذا الخبر جهالة وانقطاع ظاهر؛ ولكن روى الحافظ البيهقي، والحاكم من طريق أبي جعفر الباقر عن جابر أن علياً - رضي الله عنهما - حمل الباب يوم خيبر حتى صعد المسلمون عليه، فافتتحوها؛ وأنه جُرّب بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلاً، وفيه ضعف أيضاً. وفي رواية ضعيفة عن جابر رضي الله عنه: ثم اجتمع عليه سبعون رجلاً وكان جهدهم أن أعادوا الباب. كذا في البداية. وقد أخرج ابن أبي شيبة عن جابر بن سَمُرة أن علياً - رضي الله عنهما - حمل الباب يوم خيبر حتى صعد المسلمون ففتحوها؛ وأنه جُرب فلم يحمله إلا أربعون رجلاً. كذا في منتخب كنز العمال، وقال: حسن. انتهى.
شجاعة طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه
أخرج ابن عساكر عن طلحة رضي الله عنه قال: لما كان يوم أُحد(2/161)
إرتجزت بهذا الشعر:
نحن حماة غالب ومالكِ
نذبّ عن رسولنا المبارك
نضرب عنه القوم في المعارك
ضرب صفاح الكُوم في المبارك
وما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد حتى قال لحسان رضي الله عنه: «قل في طلحة» : قال:
وطلحة يوم الشِّعب آسى محمداً
على ساعة ضاقت عليه وشقَّتِ
يقيه بكفَّيه الرماح وأسلمت
أشاجِعُه تحت السيوف فشُلَّتِ
وكان أمامَ الناس إلا محمداً
أقام رحى الإِسلام حتى استقلَّتِ
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه:
حمى نبيَّ الهدى والخيلُ تتبعه
حتى إذا ما لقوا حامَى عن الدين
صبراً على الطعن إذ ولَّت حماتُهم
والناس من بين مهديَ ومفتون
يا طلحةُ بن عُبيد الله قد وجبت
لك الجنان وزُوِّجتَ المها العِينِ
وقال عمر رضي الله عنه:
حمى نبيَّ الهدى بالسيف منصلتاً
لمَّا تولّى جميع الناس وانكشفوا
قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم «صدقت يا عمر» قال: في منتخب الكنز: وفيه سليمان بن أيوب الطَّلْحي. اهـ قال ابن عدي: عامة أحاديث. لا يتابع عليها؛ وذكره ابن حِبَّان في الثقات كما في اللسان. وقد تقدم (ص 518) قتال طلحة يوم أُحد.(2/162)
شجاعة الزبير بن العوام رضي الله عنه خروج الزبير بالسيف متجرِّداً في مكة قبل الهجرة
أخرج ابن عساكر عن سعيد بن المسيِّب قال: إن أول من سلّ سيفاً في الله الزبير بن العوام رضي الله عنه، بين هو ذات يوم قائل إذ سمع نغمةً: قُتِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج متجِّداً بالسيف صلتاً، فلقيها كُنَةً كَنَةً قال: «مالك يا زبير» فقال: سمعت أنك قُتلت. قال: «فما أردت أن تصنع؟» قال: أردت - والله - أستعرض أهل مكة. فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم بخير، وفي ذلك يقول الأسَديّ:
هاذاك أول سيف سُلّ في غضب
لله سيف الزبير المرتَضى أنَفَا
حميَّةٌ سبقت من فضل نجدته
قد يحبس النجدات المحبس الأرفا
وعند ابن عساكر أيضاً وأبي نعيم في الحلية عن عروة أن الزبير بن العوَّام رضي الله عنهما سمع نفخة من الشيطان أن محمداً صلى الله عليه وسلم أُخذ، بعدما أسلم، وهو ابن إثنتي عشرة سنة؛ فسلّ سيفه، وخرج يشتدّ في الأزقة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم ـ وهو بأعلى مكة - والسيف في يده. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «ما(2/163)
شأنك؟» قال: سمعت أنك قد أخذت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ما كنت تصنع؟» قال: كنت أضرب بسيفي هذا من أخذك. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ولسيفه، وقال: «إنصرف» . وكان أول سيف سُلّ في سبيل الله. كذا في منتخب كنز العمال. وأخرجه الزبير بن بكار، كما في الإِصابة. وأخرجه أبو نُعيم في الدلائل (ص 226) عن سعيد بن المسيِّب - بمعناه.
قتله طلحة العبدري يوم أُحد
وذكر يونس عن ابن إسحاق أن طلحة بن أبي طلحة العبدري حاملَ لواء المشركين يوم أُحد دعا إلى البراز، فأحجم عنه الناس؛ فبرز إليه الزبير بن العوام رضي الله عنه. فوثب حتى صار معه على جمله، ثم اقتحم به الأرض، فألقاه عنه، وذبحه بسيفه، فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «إنَّ لكل نبي حوارِيّاً، وحوارِيّ الزبير» ، وقال: «لو لم يبرز إِليه لبرزت أنا إليه، لِمَا رأيت من إحجام الناس عنه» . كذا في البداية.
قتله نوفل المخزومي وقصته في قتل رجل آخر
وذكر يونس عن ابن إسحاق قال: خرج نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي - أي يوم الخندق -، فسأل المبارزة. فخرج إليه الزبير بن العوام رضي الله عنه فضربه، فشقّه باثنتين حتى فلّ في سيفه فلا؛ وانصرف وهو يقول:(2/164)
إني أمرؤ أُحمي وأحتمي
عن النبي المصطفى الأمي
كذا في البداية.
وقد أخرج ابن جرير عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت؛ أقبل رجل من المشركين وعليه السلاح، حتى صعد على مكان مرتفع من الأرض فقال: من يبارز؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من القوم: «أتقوم إليه؟» فقال له الرجل: إن شئت يا رسول الله. فأخذ الزبير رضي الله عنه يتطلَّع، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «قم يا ابن صفية» فانطلق إِليه حتى استوى معه، فاضطربا ثم عانق أحدهما الآخر، ثم تدحرجا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أيهما وقع الحضيض أول فهو المقتول» ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم ودعا الناس فوقع الكافر، ووقع الزبير رضي الله عنه على صدره فقتله. كذا في منتخب الكنز.
حملة الزبير يوم الخندق ويوم اليرموك
وأخرج البيهقي عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: جُعلت يوم الخندق مع النساء والصبيان في الأُطُم، ومعي عمر بن أبي سلمة، فجعل يطأطىء لي، فأصعد على ظهره، فأنظر. قال: فنظرت إلى أبي وهو يحمل مرة ها هنا، ومرة ها هنا، فما يرتفع له شيء إلا أتاه. فلما أمسى جاءنا إلى الأُطُم قلت: يا أبت رأيتك اليوم وما تصنع. قال: ورأيتني يا بني؟ قلت: نعم. قال: فدىً لك أبي وأمي. كذا في البداية.
وأخرج البخاري عن عروة رضي الله عنه أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا للزبير(2/165)
رضي الله عنه يوم اليرموك: لا تشدّ فنشدّ معك؟ فقال: إني إن شددت كذبتم. فقالوا: لا نفعل. فحمل عليهم حتى شقّ صفوفهم فجاوزهم، وما معه أحد، ثم رجع مقبلاً، فأخذوا بلجامه، فضربوه ضربتين على عاتقه، بينهما ضربة ضُربها يوم بدر. قال عروة رضي الله عنه: كنت أدخل أصابعي في تلك الضربات، ألعب وأنا صغير. قال عروة رضي الله عنه: وكان معه عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما يومئذٍ، وهو ابن عشر سنين؛ فحمله على فرس ووكّل به رجلاً. وذكره في البداية - بمعناه وزاد: ثم جاؤوا إليه مرّة ثانية، ففعل كما فعل في المرة الأولى.
شجاعة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه سعد أول من رمى في سبيل الله وشِعْره في ذلك
أخرج ابن عساكر عن الزهري قال: بعث رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم سريّة فيها سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إلى جانب من الحجاز يدعى رابغ، فانكفأ المشركون على المسلمين، فجاءهم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يومئذٍ بسهامه، وكان أول من رمى في سبيل الله، وكان هذا أول قتال في الإِسلام. وقال سعد رضي الله عنه في رميه:
ألا هل أتى رسولَ الله أتي
حَمَيْت صحابتي بصدور نبلي
أذود بها أوائلَهم ذياداً
بكل حزونة بكل سهلِ
فما يَعْتَدُّ رامٍ في عدو
بسهم يا رسول الله قبلي
كذا في المنتخب عن ابن عساكر.
قتله ثلاثة بسهم واحد يوم أُحد
وأخرج ابن عساكر عن ابن شهاب قال: قَتلَ سعد رضي الله عنه يوم(2/166)
أُحد بسهم واحد ثلاثة، رمى به؛ فردّ عليهم فرموا به، فأخذه فرمى به سعد رضي الله عنه الثانية، فَقَتَل؛ فردّ عليهم، فرمى به الثالثة، فَقَتَل، فعجب الناس مما فعل سعد رضي الله عنه، فقال: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أنبلنيه. قال: وجمع له رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه. كذا في منتخب الكنز.
وأخرج البزَّار عن ابن مسعود رضي الله عنه قل: كان سعد رضي الله عنه يقتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر قتال الفارس والراجل. قال الهيثمي: رواه البزَّار بإسنادين: أحدهما متصل، والآخر مرسل، ورجالهما ثقات. انتهى.
شجاعة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه شجاعته يوم بدر وقول أمية بن خَلَف في ذلك
أخرج الطبراني عن الحارث التيمي قال: كن حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه يوم بدر مُعْلَماً بريشة نعامة، فقال رجل من المشركين: من رجلٌ أُعْلِم بريشة نعامة؟ فقيل: حمزة بن عبد لمطلب. قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل قال الهيثمي: وإسناده منقطع.
وعند البزَّار عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: قال لي أمية بن خلف: يا عبد الإِله، مَنِ الرجل المعلم بريشة نعامة في صدره يوم بدر؟(2/167)
قلت: ذاك عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه. قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل. قال الهيثمي: رواه البزَّار من طريقين في إحداهما شيخه علي بن الفضل الكرابيسي ولم أعرفه، وبقية رجالهما رجال الصحيح، والأخرى ضعيفة اهـ.
بُكاءُ النبي عليه السلام عندما رآه مقتولا
وأخرج الحاكم: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: فَقَدَت يوم أُحد حمزة رضي الله عنه حين فاء الناس من القتال. قال: فقال رجل: رأيته عند تلك الشجرة، وهو يقول: أنا أسد الله وأسد رسوله: اللهم إني أبرأَ إليك مما جاء به هؤلاء - لأبي سفيان وأصحابه -، وأعتذر إِليك مما صنع هؤلاء - من إنهزامهم -، فسارت نحوه. فلما رأى جبهته بكى، ولما رأى ما مُثِّلَ به شَهِق، ثم قال: «ألا كفَنٌ؟» فقام رجل من الأنصار فرمى بثوب. قال جابر رضي الله عنه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سيد الشهداء عند الله تعالى يوم القيامة حمزة» . قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإِسناد، لم يخرِّجاه. وقال الذهبي: صحيح.
قصة قتله ومثلته رضي الله عنه
وأخرج ابن إسحاق كما في البداية: عن جعفر بن عمرو بن أمية الضَّمري قال: خرجت أنا وعبد الله بن عديّ بن الخِير في زمان معاوية رضي الله عنه، فذكر الحديث، حتى جلسنا إليه - أي إِلى وحشي - فقلنا: جئناك لتحدثنا عن قتل حمزة كيف قتلته؟ فقال: أما إنِّي سأحدثكما كما حدَّثتُ(2/168)
رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سألني عن ذلك: كنت غلاماً لجبير بن مُطْعِم وكان عمه طُعَيمة بن عديّ وقد أُصيب يوم بدر. فلما سارت قريش إلى أُحد قال لي جبير: إن قتلت حمزة عمّ محمد بعمّي فأنت عتيق. قال: فخرجت مع الناس وكنت رجلاً حبشياً أقذف بالحربة قذف الحبشة قلّ ما أُخطىء بها شيئاً. فلما التقى النس خرجت أنظر حمزة وأتبصرَّه حتى رأيته في عُرْض الناس كأنه الجمل الأورق يهدُّ الناس بسيفه هدّاً ما يقوم له شيء، فوالله إِني لأتهيأ له أريده، وأستتر منه بشجرة أو بحجر ليدنو مني، إذ تقدَّمني إليه سِباع بن عبد العُزَّى. فلما رآه حمزة رضي الله عنه قال: هلمَّ إِليَّ يا ابن مقطِّعة البُظُور. قال: فضربه ضربة كأنما أخطأ رأسه. قال: وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه، فوقعت في ثُنَّته حتى خرجت من بين رجليه، وذهب لينوء نحوي فغُلب؛ وتركته وإياها حتى مات، ثم أتيته فأخذت حربتي ثم رجعت إلى العسكر، وقعدت فيه ولم يكن لي بغيره حاجة، إنما قتلته لأعتَق. فلما قدمت مكة عُتقت، ثم أقمتُ حتى إذا افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة هربت إلى الطائف فمكثت بها. فلما خرج وفد الطائف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلموا تعيَّت عليَّ الذاهب، فقلت: ألحق بالشام أو بالين أو ببعض البلا، فوالله إنِّي لفي ذلك من همّي، إذ قال لي رجل: ويحك إنه - والله - لا يقتل أحداً من الناس دخل في دينه، وشهد شهادة الحق. قال: فلما قال لي ذلك: خرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فلم يَرُعه
إلا بي قائماً على رأسه؛ أشهد شهادة الحق. فلما رآني قال لي: «أوحشي أنت؟»(2/169)
قلت: نعم يا رسول الله قال: «أقعُد، فحدثني كيف قتلت حمزة» قال: فحدثته كما حدثتكما، فلما فرغت من حديثي قال: «ويحك يجب عني وجهك فلا أُرَينّك» . قال: فكنت أتنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان لئلا يراني حتى قبضه الله عزّ وجلّ. فلما خرج المسلمون إِلى مُسَيْلمة الكذاب صاحبِ اليمامة خرجت معهم، وأخذت حربتي التي قتلت بها حمزة، فلما التقى الناس رأيت مُسَيْلمة قائماً وبيده لسيف - وما أعرفه - فتهيأت له، وتهيأ له رجل من الأنصار من الناحية الأخرى كلانا يريده، فهززتُ حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه، فوقعت فيه؛ وشدّ عليه الأنصاري (فضربه) بالسيف، فربُّك أعلم أيُّنا قتله، فإِن كنت قتلته قلت خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قتلت شر الناس.
وأخرجه البخاري عن جعفر بن عمرو - نحوه، وفي سياقه: فلما أن صف الناس للقتال خرج سِباع فقال: هل من مبارز؟ فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، فقال له؛ يا سباع، يا ابن أم أنمار مقطِّعةِ البظور أتحادُّ الله ورسوله؟ ثم شدَّ عليه، فكان كأمس الذاهب.
شجاعة العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه إختطاف العباس حنظلة من أيدي المشركين وقصة شجاعته
أخرج ابن عساكر عن جابر رضي الله عنه قال: لقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الطائف حنظلة بن الربيع رضي الله عنه إلى أهل الطائف، فكلمهم، فاحتملوه ليدخلون حصنهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من لهؤلاء؟ وله مثل أجر غزاتنا هذه؟» ، فلم يقم إلا العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه حتى أدركه في أيديهم، قد كادوا أن يدخلوه في الحصن، فاحتضنه العباس رضي الله عنه(2/170)
- وكان رجلاً شديداً - فاختطفه من أيديهم؛ وأمطروا على العباس رضي الله عنه الحجارة من الحصن. فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يدعو له حتى انتهى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم كذا في الكنز.
شجاعة معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء رضي الله عنهما قصة قتلهما أبا جهل يوم بدر
أخرج الشيخان عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: إنِّي لواقف يوم بدر في الصف، فنظرت عن يميني وشمالي فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثةٍ أسنانهما، تمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عماه، أتعرف أبا جهل؟ فقلت: نعم، وما حاجتك إليه؟ قال: أُخبرت أنه يسبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده، لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجَّبت لذلك. فغمزني الآخر فقال لي أيضاً مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل وهو يجول في الناس، فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبُكما الذي تسألاني عنه، فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبراه. قال: «أيكما قتله؟» قال كل منهما: أنا قتلته، قال: «هل مسحتما سيفيكما؟» قالا: لا. قال: فنظر النبي صلى الله عليه وسلم في السيفين فقال: «كلاكما قتله» ، وقضى بسَلَبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، والآخرِ معاذ بن عفراء رضي الله عنهما. وأخرجه الحاكم؛ والبيهقي عن(2/171)
عبد الرحمن رضي الله عنه - بنحوه.
وعند البخاري أيضاً قال عبد الرحمن رضي الله عنه: إني لفي الصف يوم بدر، إِذا التفت فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السنّ، فكأني لم آمن بمكانهما، إذ قال لي أحدهما سِرّاً من صاحبه: يا عمّ، أرني أبا جهل، فقلت: يا ابن أخي ما تصنع به؟ قال: عاهدت الله إن رأيته أن أقتله، أو أموت دونه. فقال لي الآخر: سرّاً من صاحبه مثله. قال: فما سرني أنني بين رجلين مكانهما، فأشرت لهما إليه، فشدّا عليه مثلَ الصَّقْرين حتى ضرباه. وهما إبنا عفراء.
وعند ابن إسحاق عن ابن عباس وعبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهم قالا: قال معاذ بن عمرو بن الجموح أخو بني سَلِمة: سمعت القوم وأبو جهل في مثل الحَرَجَة، وهم يقولون: أبو الحكم لا يُخْلَصُ إليه، فلما سمعتها جعلته من شأني فصمدت نحوه، فلمَّا أمكنني حملت عليه، فضربته ضربة أطنّت قدمه بنصف ساقه، فوالله ما شبَّهتها حين طاحت إلا بالنَّوة تطيح من تحت مِرْضخة النوى حين يُضرب بها. قال: وضربني إبنه عِكرمة على عاتقي، فطرح يدي فتعلَّقَت بجلدة من جنبي، وأجهضني القتال عنه، فلقد قاتلت عمّة يومي، وإني لأسحبها خلفي. آذتني وضعت عليها قدمي، ثم تمطّيت بها عليها حتى طرحتها. كذا في البداية.(2/172)
شجاعة أبي دُجانة سِماك بن خَرَشة الأنصاري رضي الله عنه قصة أخذه سيفن عليه السلام وأداء حقه يوم أُحد
أخرج الإِمام أحد عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ سيفاً يوم أُحد فقال: «من يأخذ هذا السيف؟» فأخذ قوم؛ فجعلوا ينظرون إليه، فقال: «من يأخذه بحقه» ، فأحجم القوم. فقال أبو دجانة سِمَاك رضي الله عنه: أنا آخذه بحقه، ففلق به هم المشركين. وأخرجه مسلم. كذا في البداية، وابن سعد عن أنس رضي الله عنه بمعناه.
وأخرج البزَّار عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفاً يوم أُحد فقال: من يأخذ هذا السيف بحقه؟» ، فقام أبو دجاجة سِمَاك بن خَرَشة رضي الله عنه فقال: يا رسول الله - أنا آخذه بحقِّه، فما حقُّه؟ قال: فأعطاه إياه. فخرج واتبعته؛ فجعل لا يمرّ بشيء إلا أفراه وهتكه، حتى أتى نسوة في سَفح الجبل ومعهن هند وهي تقول:
نحن بنات طرقْ
نمشي على النمارقْ
والمسك في المفارقْ
إن تُقبلوا نعانقْ
أو تدبروا نفارقْ
فراق غير وامقْ(2/173)
قال: فحملت عليها، فنادت بالصحراء فلم يجبها أحد، فانصرفت عنها. فقلت له: كل صنيعك رأيته فأعجبني؛ غير أنك لم تقتل المرأة. قال: فإنها نادت فلم يجبها أحد، فكرهت أن أضرب سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم إمرأة لا ناصر لها. قال الهيثمي: رجاله ثقات. انتهى.
وأخرجه الحكم عن الزبير رضي الله عنه قال: عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفاً يوم أُحد فقال: «من يأخذ هذا السيف بحقِّه» ؟ (فقمت) فقلت: أنا يا رسول الله فأعرض عني. ثم قال: من يأخذ هذا السيف بحقِّه؟ فقام أبو دجانة سِمَاك بن خَرَشَة رضي الله عنه فقال: أنا آخذه يا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحقِّه، فما حقُّه؟ قال: «أن لا تقتل به مسلماً، ولا تفرّ به عن كافر» . قال: فدفعه إليه، وكان إذا أراد القتال أعْلَم بعصابة. قال: قلت: لأنظرنَّ إليه اليوم كيف يصنع؟ قال: فجعل لا يرتفع له شيء إلا هتكه وأفراه - فذكره بمعناه. قال الحاكم: صحيح الإِسناد، ولم يخرِّجاه. وقال الذهبي: صحيح.
وعند ابن هشام كما في البداية: قال حدثني غير واحد من أهل العلم أن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: وَجَدْتُ في نفسي حين سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف، فَمنَعنيه، وأعطاه أبا دجانة رضي الله عنه، وقلت: أنا ابن صفيَّة عمته ومن قريش، وقد قمت إليه فسألته إياه قبله؛ فأعطاه أبا دجانة وتركني والله لأنظرنَّ ما يصنع؟ فاتبعته. فأخرج عصابة له حمراء. فعَصَب بها رأسه. فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عِصابة الموت - وهكذا كنت تقول له إذا تعصب (بها) - فخرج وهو يقول:(2/174)
أنا الذي عاهدني خليلي
ونحن بالسَّفْح لدى النخيلِ
أن لا أقوم الدهر في الكَيُّول
أضرب بسيف الله والرسولِ
فجعل لا يلقى أحداً إِلا قتله. وكان من المشركين رجل لا يدع (لنا) جريحاً إلا ذفَّف عليه؛ فجعل كل (واحد) منهما يدنو من صاحبه، فدعوت الله أن يجمع بينهما، فالتقيا فاختلفا ضربتين فضرب المشركُ أبا دُجانة فاتَّقاه بدَرَقَته؛ فعضّت بسيفه، وضربه أبو دجانة فقتله. ثم رأيته قد حمل السيف على مَفْرِق رأس هند بنت عتبة، ثم عدل السيف عنها (قال الزبير) ؛ فقلت: الله ورسوله أعلم.
وعند موسى بن عقبة، كما في البداية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عرضه طلبه منه عمر رضي الله عنه، فأعرض عنه. ثم طلبه منه الزبير رضي الله عنه، فأعرض عنه؛ فوجَدا في أنفسهما من ذلك. ثم عرضه الثالثة، فطلبة أبو دجانة رضي الله عنه، فدفعه إليه؛ فأعطى السيف حقَّه.. قال: فزعموا أن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: كنت فيمن خرج من المسلمين، فلما رأيتُ مُثَلَ المشركين بقتلى المسلمين قمت فتجاوَرْتُ، فإذا رجل من المشركين جمع اللأمة يجوز المسلمين وهو يقول: إسْتَوْسِقوا كما استوسقت جزر الغنم. قال: وإذا رجل من المسلمين ينتظره وعليه لأمته، فمضيت حتى كنت من ورائه. ثم قمت أُقدِّر المسلم والكافر ببصري؛ فإذا الكافر أفضلهما عدّة وهيأة. قال: فلم أزل أنتظرهما حتى التقيا، فضرب المسلم الكافر على حبل(2/175)
عاتقه ضربة بالسيف فبلغت وِرْكه وتفرق فرقتين، ثم كشف المسلم عن وجهه وقال: كيف ترى يا كعب؟ أنا أبو دجانة.
شجاعة قتادة بن النعمان رضي الله عنه حفاظته النبي عليه السلام عن السهام يوم أُحد بوجهه
أخرج الطبراني عن قتادة بن النعمان رضي الله عنه قال: أُهدِي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوس، فدفعها إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد، فرميت بها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اندقَّت سِيَتُها ولم أزل على مقامي نُصْب وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألقى السهام بوجهي، كلما مال سهم منها إِلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ميَّلت رأسي لأقي وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا رمي أرميه، فكان آخرُها سهماً ندرت منها حَدَقَتي بكفي، فسعَيت بها في كفِّي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم في كفِّي دمعت عيناه، فقال: «اللهم إنَّ قتادة قد وقى نبيك بوجهه، فاجعلها أحسن عينيه وأحدّهما نظراً» ، فكانت أحسن عينيه وأحدّهما نظراً،. قال الهيثمي: وفيه من لم أعرفه. وعنده أيضاً عنه قال: كنت نصب وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد أقي وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهي، كان أبو دجانة سِمَاك بن خَرَشة رضي الله عنه موقياً لظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهره حتى امتلأ ظهره سِهماً، وكان ذلك يوم أُحد. قال الهيثمي: وفيه من لم أعرفه.(2/176)
شجاعة سَلَمة بن الأكوع رضي الله عنه قصة شجاعته في غزوة ذي قَرَد
أخرج الإِمام أحمد عن سَلَمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: قدمنا المدينة زمن الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت أنا وربَاح غلامُ النبي صلى الله عليه وسلم ـ (بظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجت بفرس لطحلة بن عبيد الله أريد أن أُنَدِّيه مع الإِبل. فلم اكان بغَلَس أغار عبد الرحمن بن عيينة على إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل راعيها، وخرج يطردها هو وأناس معه في خيل. فقلت: يا رباح أقعد على هذا فألْحقهُ بطلحة، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد أُغير على سَرْحه. قال: وقمت على قِلْ، فجعلت وجهي من قِبل المدينة، ثم ناديت - ثلاث مرات -: يا صباحاه. قال: ثم اتَّبعت القوم معي سيفي ونبلي، فجعلت أرميهم وأعقِر بهم، وذلك حين يكثر الشجر، فإذا رجع إِليّ فارس جلست له في أصل شجرة ثم رميت، فلا يُقبل إليّ فارس إلا عقرت به، فجعلت أرميهم وأنا أقول:
أنا ابن الأكوعِ
واليومُ يومُ الرُّضَّع
قال: فألحق برجل منهم فأرميه وهو على راحلة، فيقع سهمي في الرجل حتى أنتظم كتفه فقلت
خذها وأنا ابن الأكوعِ
واليوم يوم الرُّضَّعِ(2/177)
فإذا كنت في الشجر أحرقتهم بالنبل، فإذا تضايقت الثنايا عَلَوت الجبل فردَّيتهم بالحجارة.
فما زال ذلك شأني وشأنهم أتبعهم، وأرتجز حتى ما خلق الله شيئاً من ظَهْر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خلَّفته وراء ظهري، فاستنقذته من أيديهم، ثم لم أزل أرميهم حتى ألقَوا أكثر من ثلاثين رمحاً وأكثر من ثلاثين رمحاً وأكثر من ثلاثين بُرْدة يَستخِفُّون منها، ولا يُلْقون من ذلك شيئاً إلا جعلت عليه حجارة، وجمعته على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا امتدّ الضحى أتاهم عُيَينة بن بدر الفَزاري مَدداً لهم وهم في ثنيَّة ضيِّقة، ثم علَوت الجبل فأنا فوقهم، فقال عيينة: ما هذا الذي أرى؟ قالوا: لقينا من هذا البُرَح ما فارقنا بسَحَر حتى الآن، وأخذ كلَّ شيء بأيدينا وجعلته وراء ظهره. فقال عيينة لولا أنَّ هذا يرى أن وراءه طلباً لقد ترككم، ليَقُم إِليه نفر منكم. فقام إليه نفر منهم أربعة فصعدوا في الجبل. فلما أسمعتهم الصوت قلت: أتعرفونني؟ قالوا: ومن أنت؟ قلت: أنا ابن الأكوع، والذي كرّم وجه محمد لا يطلبني رجل منكم فيدركني، ولا أطلبه فيفوتني. فقال رجل منهم إنّ أظنّ. قال: فما برحت مقعدي ذلك حتى نظرت إلى فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلّلون الشجر، وإِذ أولهم الأخرم الأسديّ، وعلى أثره أبو قتادة فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أثره المقداد بن الأسود الكِندي، فولّى المشركون مدبرين، وأنزِل من الجبل فآخذ عِنان فرسه، فقلت: يا أخرم إئذن القوم - يعني إحذرهم - فإني لا آمن أن يقتطعوك فاتئد حتى يلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. قال: يا سلمة إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر، وتعلم أنَّ الجنة حق والنار حق فلا تَحُل بيني وبين الشهادة. قال: فخلّيت عنان فرسه، فيلحق(2/178)
بعبد الرحمن بن عيينة، ويعطف عليه عبد الرحمن فاختلفا طعنتين، فعقر الأخرم بعبد الرحمن، وطعنه عبد الرحمن فقتله؛ فتحول عبد الرحمن على فرس الأخرم، فيلحق أبو قتادة بعبد الرحمن، فاختلف طعنتين فعقر بأبي قتادة وقتله أبو قتادة،
وتحول
أبو قتادة على فرس الأخرم.
ثم إنِّي خرجت أعدو في أثر القوم حتى ما أرى من غبار صحابة النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، ويعرضون قبل غيبوبة الشمس إلى شِعْب فيه ماء يقال له «ذو قَرَد» . فأرادوا أن يشربوا منه فأبصروني أعدو وراءهم فعطفوا عنه، وأسندوا في الثنيّة ثنيّة ذي بئر» وغربت الشمس وألحق رجلاً فأرميه فقلت:
خذها وأنا ابن الأكوعِ
واليوم يوم الرضّعِ
قال: فقال: يا ثُكَلْ أمِّ أكوع بكرة فقلت: نعم، أي عدوَّ نفسه - وكان الذي رميته بكرة -، وأتبعته سهماً آخر، فعلق به سهمان، ويخلِّفون فرسين فجئت بهما أسوقهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الماء الذي أجليتهم عنه - ذي قَرَد -. وإذا بنبي الله صلى الله عليه وسلم في خمس مائة، وإِذا بلال قد نحر جزوراً ممَّا خلَّفت فهو يشوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كبدها وسنامها، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله خلِّني فأنتخب من أصحابك مائة، فآخذ على الكفار بالعَشوة فلا يبقى منهم مُخْبر إلا قتلته. فقال: «أكنت فاعلاً ذلك يا سلَمة؟» قال: قلت: نعم، والذي أكرمك. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأيت نواجذه في ضوء (النار) ، ثم قال: «إنهم يُقْرَون الآن بأرض غطفان» فجاء من غطفان فقال: «مرّوا على فلان الغطفاني، فنحر لهم جزوراً، فلما أخذوا يكشِطون جلدها رأوا غَبَرة فتركوها وخرجوا هراباً.(2/179)
فلما أصبحنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خير فرساننا أبو قتادة وخير رجَّالتِنا سلمة» . فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سَهْمَ الفارس والراجل جميعاً، ثم أردفني وراءه على العَضْباء راجعين إلى المدينة. فلما كان بيننا وبينها قريبٌ من ضحوة - وفي القوم رجل من الأنصار كان لا يُسبق - جعل ينادي: هل من مسبق؟ ألا رجل يسابق إِلى المدينة؟ فأعاد ذلك مراراً وأنا وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم مُرْدِفي، فقلت له: أما تُكرم كريماً، ولا تهاب شريفاً؟ قال: لا، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قلت: يا رسول الله - بأبي أنت وأمِّي - خلّني فلأسبق الرجل. قال: «إن شئت» . قلت: إذهب إِليك. فطفر عن راحلته، وثنيت رجلي فطفرت عن الناقة، ثم إنِّي ربطت عليه شَرَفاً أو شَرَفين - يعني استبقيت من نَفَسي -، ثم إن عدوت حتى ألحقه فأصكَّ بين كتفيه بيدي، قلت: سبقتك والله أو كلمة نحوها. قال: فضحك، قال: إِن أظنُّ، حتى قدمنا المدينة. وهكذا رواه مسلم؛ عنده: فسبقته إلى المدينة، فلم نلبث إلا ثلاثاً حتى خرجنا إلى خيبر. كذا في البداية.
شجاعة أبي حدرد أبو عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي رضي الله عنه قتاله مع رجلين والظفر عليهما
أسند ابن إسحاق عن أبي حدرد رضي الله عنه قال: تزوجت إمرأة(2/180)
من قومي فأصدقتها مائتي درهم، قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أستعينه على نِكاحي. فقال: «كم أصدقت؟» فقلت: مائتي درهم. فقال: «سبحان الله والله لو كنتم تأخذونها من وادٍ ما زدتم والله ما عندي ما أعينك به» . فلبثت أياماً؛ ثم أقبل رجل من جُشَم بن معاوية يقال له رِفاعة بن قيس - أو قيس بن رفاعة - في بطن عظيم من جُشَم حتى نزل بقومه ومن معه بالغابة؛ يريد أن يجمع قيساً على محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ذا إسم وشَرَف في جُشَم. قال: فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلين من المسلمين، فقال: «أخرجوا إلى هذا الرجل حتى تأتوا منه بخبر وعلم» ، وقدَّم لنا شارفاً عجفاء، فحُمِلَ عليها أحدنا، فوالله ما قامت به ضعفاً حتى دَعَمها الرجال من خلفها بأيديهم حتى استقلَّت وما كادت؛ وقال: «تبلَّغوا على هذه» .
فخرجنا ومعنا سلاحنا من النبل والسيوف حتى إذا جئنا قريباً من الحاضر مع غروب الشمس، فكَمَنت في ناحية، وأمرت صاحبيَّ فَكَمَنا في ناحية أخرى من حاضر القوم، وقلت لهما: إذا سمعتماني قد كبّرت وشددت في العسكر فكبّرا وشدّا معي، فوالله إنا كذلك ننتظر أن نرى غِرَّة أو نرى شيئاً، وقد غَشِينَا الليل حتى ذهبت فحمة العشاء؛ وقد كان له راعٍ قد سرح في ذلك البلد فأبطأ عليهم، وتخوّفوا عليه. فقام صاحبهم رفاعة بن قيس، فأخذ سيفه فجعله في عنقه، فقال: والله لأتيقنَنّ أمر راعينا ولقد أصابه شرّ. فقال نفر ممَّن معه: والله لا تذهب، نحن نَكْفيك. فقال: لا، إلا أنا. قالوا: نحن معك. فقال: والله(2/181)
لا يتبعني منكم أحد، وخرج حتى مرّ بي. فلما أمكنني نفحته بسهم فوضعته في فؤاده، فوالله ما تكلّم فوثبت إِليه، فاحتززت رأسه، ثم شددت ناحية العسكر وكبّرت، وشدّ صاحباي وكبّرا، فوالله ما كان إلا النجاء ممّن كان فيه. عندك عندك، بكل ما قدروا عليه من نسائهم، وأبنائهم، وما خفّ معهم من أموالهم، واستَقنا إبلاً عظيمة وغنماً كثيرة؛ فجئنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجئت برأسه أحمله معي، فأعطاني من تلك الإِبل ثلاثة عشر بعيراً في صَداقي؛ فجمعت إِليَّ أهلي. كذا في البداية. وأخرجه أيضاً الإِمام أحمد وغيره؛ إِلا أن عنده عبد الله بن أبي حدرد رضي الله عنه؛ كما في الإِصابة.
شجاعة خالد بن الوليد رضي الله عنه كسره رضي الله عنه تسعة أسياف في يوم مؤتة
أخرج البخاري عن خالد بن الوليد رضي الله عنه يقول: لقد دُقَّ في يدي يوم مؤتة تسعةُ أسياف، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية. وأخرجه ابن أبي شيبة، كما في الاستيعاب؛ والحاكم وابن سعد.(2/182)
قتله هرمز
وأخرج الحاكم عن أوس بن حارثة بن لام رضي الله عنه قال: لم يكن أحد أعدى للعرب من هُرْمز، فلما فرغنا من مُسَيْلَمة وأصحابه أقبلنا إلى ناحية البصرة، فلقينا هُرمُز بكاظِمة في جمع عظيم. فبرز له خالد ودعاه للبراز، فبرز له هُرمُز؛ فقتله خالد بن الوليد رضي الله عنه؛ وكتب بذلك إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فَنَفَله سَلَبه، فبلغت قلنسوته مائةَ ألف درهم، وكانت الفرس إذا شَرُف الرجل جعلوا قلنسوته مائةَ ألف درهم.
بكاء خالد على موته على الفراش
وأخرج الواقدي عن أبي الزناد قال: لما حضرت خالداً الوفاةُ بكى ثم قال: لقد حضرتُ كذا وكذا زحفاً، وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، وها أنا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير؛ فلا نامت أعين الجبناء، كذا في البداية.
شجاعة البراء بن مالك رضي الله عنه تشجيعه الناس يوم اليمامة وضربه بالسيف حتى انقطع السيف
أخرج السَّرّاج في تاريخه عن أنس: أنّ خالد بن الوليد قال للبراء يوم اليمامة: قم يا براء. قال: فركب فرسه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أهل المدينة، لا مدينة لكم اليوم، وإنما هو الله وحدَه والجنة؛ ثم حمل وحمل الناس معه، فانهزم أهل اليمامة. فلقي البراء رضي الله عنه مُحَكَّم اليمامة،(2/183)
فضربه البراء وصرعه، فأخذ سيف مُحَكَّم اليمامة فضرب به حتى انقطع.
وعند البغوي عن البراء رضي الله عنه قال: لقيت يوم مسيلمة رجلاً يقال له «حمار اليمامة» رجلاً جسيماً بيده السيف أبيض، فضربت رجليه فكأنما أخطأته وانقعر، فوقع على قفاه، فأخذت سيفه وأغمدت سيفي، فما ضربت به ضربة حتى انقطع. كذا في الإِصابة.
إقتحامه الحديقة من الجدار وقتاله مع القوم وحده
وعند ابن عبد البرّ في الاستيعاب عن ابن إسحاق قال: زحف المسلمون إلى المشركين (- في اليمامة -) حتى ألجأوهم إلى الحديقة وفيها عدوّ الله مسيلمة. فقال (البراء) : يا معشر المسلمين ألقوني عليهم، فاحتمل حتى إذا أشرف على الجدار إقتحم، فقاتلهم على الحديقة حتى فتحها على المسلمين، ودخل عليهم المسلمون، فقتل الله مسيلمة.
وأخرجه البيهقي عن محمد بن سيرين: أن المسلمين انتهَوا إلى حائط قد أُغلق بابه فيه رجال من المشركين. فجلس البراء بن مالك رضي الله عنه على ترس فقال: إرفعوني برماحكم، فألقوني إِليهم. فرفعوه برماحهم، فألقَوه من وراء الحائط، فأدركوه قد قتل منهم عشرة.
وأخرج ابن سعد كما في منتخب الكنز عن ابن سيرين قال: كتب(2/184)
عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن لا تستعملوا البراء بن مالك (على جيش من جيوش المسلمين) فإنه مَهلكة من (المهالك يقدم به) .
شجاعة أبي مِحْجن الثقفي رضي الله عنه قتاله يوم القادسية حتى ظنُّوا أنه ملك
أخرج عبد الرزاق عن ابن سيرين قال: كان أبو مِحْجَن الثقفي رضي الله عنه لا يزال يُجلد في الخمر، فلما أكثر عليهم سجنوه وأوثقوه. فلما كان يوم القادسية رآهم يقتتلون، فكأنه رأى أن المشركين قد أصابوا من المسلمين، فأرسل إلى أم ولد سعد أو إلى إمرأة سعد يقول لها: إن أبا مِحَجن يقول لك: إن خلّيت سبيله وحملته على هذا الفرس ودفعت إِليه سلاحاً؛ ليكونَنّ أول من يرجع إليك إلا أن يُقتل، وأنشأ يقول:
كفى حَزَناً أن تلتقي الخيل بالقنا
وأُترك مشدوداً عليَّ وثاقيا
إِذا قمت عنَّاني الحديدُ وغُلِّقت
مصارعُ دوني قد تُصمُّ المناديا
فذهبت الأخرى، فقلت ذلك لامرأة سعد، فحلّت عنه قيوده، وحُمل على فرس كان في الدار وأُعطي سلاحاً. ثم خرج يركض حتى لحق بالقوم، فجعل لا يزال يحمل على رجل فيقتله ويدقّ صلبه. فنظر إليه (سعد) فجعل يتعجَّب منه ويقول: من ذلك الفارس؟ فلم يلبثوا إلا يسيراً حتى هزمهم الله. ورجع أبو مِحجَن رضي الله عنه، وردّ السلاح، وجعل رجليه في القيود كما كان.
فجاء سعد رضي الله عنه فقالت له إمرأته أو أم ولده: كيف كان قتالكم؟ فجعل يخبرها ويقول: لقينا ولقينا حتى بعث الله رجلاً على فرس أبلق، لولا(2/185)
أنِّي تركت أبا مِحجَن في القيود لظننتُ أنها بعض شمائل أبي مِحجَن، فقلت: والله إنه لأبو مِحجَن، كان من أمره كذا وكذا؛ فقصّت عليه قصّته. فدعا به وحلَّ قيوده. وقال: والله لا نجلدك على الخمر أبداً. قال أبو محجن رضي الله عنه: وأن والله لا أشربها أبداً، كنت آنف أن أعدها من أجل جَلْدكم. قال: فلم يشربها بعد ذلك. كذا في الاستيعاب، وسنده صحيح؛ كما في الإِصابة.
وأخرجه أيضاً أبو أحمد الحاكم عن محمد بن سعد - بطوله، وفي حديثه: وانطلق حتى أتى الناس، فجعل لا يحمل في ناحية إلا هزمهم الله. فجعل الناس يقولون: هذا مَلَكٌ وسعد رضي الله عنه ينظر. فجعل يقول: الضبر ضبر البلقاء، والطفْر طفْر أبي محجن، وأبو مِحْجَن في القَيْد فلما هزم العدوّ رجع أبو مِحْجَن حتى وضع رجله في القيد. أخبرت بنتُ خَصَفَة سعداً بالذي كان من أمره؟ فقال: لا والله لا أحدُّ اليوم رجلاً أبلى الله المسلمين على (يده) ما أبلاهم. قال: فخلّى سبيله. فقال أبو محجن رضي الله عنه: لقد كنت أشربها إذ كان يقام عليّ الحدّ وأطهَّر منها؛ فأما إذ بَهْرَجتني فوالله لا أشربها (أبداً) . وأخرجه أيضاً ابن أبي شيبة بهذا المسند، وفيها: أنهم ظنّوه مَلَكاً من الملائكة. ومن طريقه أخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب.(2/186)
وذكره سيف في الفتوح وساق القصة مطوَّله، وزاد في الشعر أبياتاً أخرى؛ وفي القصة: فقاتل قتالاً عظيماً، وكان يُكبِّر ويحمل فلا يقف بين يديه أحد، وكان يقصِف الناس قصفاً منكراً؛ فعجب الناس منه وهم لا يعرفونه. كذا في الإِصابة.
شجاعة عمّار بن ياسر رضي الله عنه تشجيعه يوم اليمامة وقتاله
أخرج الحاكم، وأخرجه أيضاً ابن سعد مثله عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت عمَّار بن ياسر رضي الله عنه يوم اليمامة على صخرة، وقد أشرف يصيح؛ يا معشر المسلمين، أمِنَ الجنة تفرُّون؟ أنا عمار بن ياسر أمِن الجنة تفرون؟ أنا عمار بن ياسر؛ هلمّ إليّ. وأنا أنظر إلى أُذنه قد قطعت فهي تذبذب وهو يقاتل أشدّ القتال.
شوقه إلى الجنة عند القتال
وأخرج أيضاً عن أبي عبد الرحمن السُّلَمي رضي الله عنه قال: شهدنا صِفّين مع علي رضي الله عنه وقد وَكَلنا (به) رجلين. فإذا كان من القوم غفلة حمل عليهم، فلا يرجع حتى يخضب سيفَه دماً؛ فقال: أعذروني، فوالله ما رجعت حتى نبا عليَّ سيفي. قال: ورأيت عمَّاراً وهاشم بن عتبة رضي الله عنهما وهو يسعى بين الصفَّين. فقال عمار رضي الله عنه: يا هاشم، هذا والله(2/187)
ليخلفنّ أمره وليخذلنّ جنده. ثم قال: يا هاشم الجنة تحت الأبارقة، اليوم ألقى الأحبَّة: محمداً وحزبه. يا هاشم أعور، ولا خير في أعور لا يغشى البأس. قال: فهزّ هاشم رضي الله عنه الراية وقال:
أعور يبغي أهله مَحلا
قد عالج الحياة حتى ملا
لا بدّ أن يَفلّ أو يُفَلا
قال ثم أخذ في وادٍ من أودية صِفِّين. قال أبو عبد الرحمن: ورأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يتبعون عماراً رضي الله عنه كأنه لهم عَلَمٌ.
وأخرجه ابن جرير أيضاً، كما في البداية، وفي حديثه قال؛ ورأيت عماراً رضي الله عنه لا يأخذ وادياً من أودية صِفِّين إلا اتَّبعه من كان هناك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيته جاء إِلى هاشم بن عتبة - وهو صاحب راية علي رضي الله عنه - فقال: يا هاشم تقدَّم، الجنة تحت ظلال السيوف، والموت في أطراف الأسنّة، وقد فتحت أبواب الجنة، وتزيّنت الحور العين، اليوم ألقى الأحبّة، محمداً وحزبه. ثم حملا هو وهاشم، فقُتلا - رحمهما الله تعالى -. قال: وحمل حينئذٍ علي وأصحابه رضي الله عنهم على أهل الشام حملة رجل واحد، كأنهما كانا - يعني عماراً وهاشماً رضي الله عنهما - علماً لهم. وأخرجه أيضاً الطبراني، وأبو يعلى - بطوله؛ الإِمام أحمد باختصار. قال الهيثمي: رجال أحمد، وأبي يَعْلى ثقات.(2/188)
شجاعة عمرو بن معدِ يكرب الزبيدي رضي الله تعالى عنه قتاله يوم اليرموك
أخرج ابن عائذ في المغازي عن مالك بن عبد الله الخثعمي رضي الله عنه قال: ما رأيت أشرف من رجل برز يوم اليرموك، فخرج إلي عِلْج، فقتله. ثم آخر، فقتله. ثم آخر، فقتله. ثم انهزموا وتبعهم. ثم انصرف إلى خِباء له عظيم، فنزل ودعا بالجِفان، ودعا من حوله فقلت: من هذا قال: عمرو بن معدِ يكرب رضي الله عنه.
قتاله يوم القادسية وحملته فيه وحده
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن عائذ، وابن السَّكَن، وسيف بن عمر، والطبراني وغيرهم - بسند صحيح - عن قيس بن أبي حازم رضي الله عنه قال: شهدت القادسية فكان سعد رضي الله عنه على الناس، فجعل عمرو بن معدِ يكرب يمرّ على الصفوف ويقول: يا معشر المهاجرين، كونوا أسوداً أشدّاء، فإن الفارسيَّ إذا ألقى رمحه يئس، فرماه أُسْوار من الأساورة بنُشّابة، فأصب سِيَة قوسه فحمل عليه عمرو فطعنه فدقَّ صُلبه، ونزل إِليه أخذ سَلَبه.(2/189)
وأخرجه ابن عساكر من وجه آخر أطول من هذا، وفي آخرها: إذا جاءته نُشّابة فأصابت قَرَبوس سرجه، فحمل على صاحبها فأخذه كما تؤخذ الجارية، فوضعه بين الصفَّين، ثم احتزّ رأسه وقال: إصنعوا هكذا.
وروى الواقدي من طريق عيسى الخياط قال: حمل عمرو بن معدِ يكرب رضي الله عنه يوم القادسية وحده، فضرب فيهم، ثم لحقه المسلمون، وقد أحدقوا به وهو يضرب فيهم بسيفه، فنَحّوْهم عنه.
وأخرج الطبراني عن محمد بن سلام الجمحي رضي الله عنه قال: كتب عمر إلى سعد - رضي الله عنهما -: إني أمددتك بألفَي رجل: عمرِو بن معدِ يكرب، وطليحةَ بن خويلد.
وأخرج الدَّوْلابي، عن أبي صالح بن الوجيه رضي الله عنه قال: في سنة إحدى وعشرين كانت وقعة نهاوند، فقتل النعمان بن مُقَرِّن، ثم انهزم المسلمون، وقاتل عمرو بن معدِ يكرب رضي الله عنه يومئذٍ حتى كان الفتح، فأثبتته الجراحة، فمات بقرية روذة.Y كذا في الإِصابة.
شجاعة عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قتاله مع الحجّاج وشهادته
أخرج الطبراني عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال: لما مات معاوية رضي الله عنه تثاقل عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما عن طاعة يزيدَ بن معاوية، وأظهر(2/190)
شتمه، فبلغ ذلك يزيد، فأقسم لا يُؤتى به إلا مغلولاً وإلا أرسل إليه. فقيل لابن الزبير؛ ألا نصنع لك أغلالاً من فضة تلبس عليها الثوب، وتُبِرّ قَسَمه؛ فالصلح أجمل بك. قال: فلا أبرَّ الله قَسَمه، ثم قال:
ولا ألينُ لغير الحقِّ أسألُه
حتى يلينَ لضرسِ الماضغِ الحجرُ
ثم قال: والله لضربةٌ بسيف في عز أحب إليّ من ضربة بسَوْط في ذل، ثم دعا إلى نفسه وأظهر الخلاف يزيد بن معاوية. فوجَّه إليه يزيد بن معاوية مُسْلِم بن عُقبة المُرِّي في جيش أهل الشام، وأمره بقتال أهل المدينة، فإذا فرغ من ذلك سار إلى مكة.
قال: فدخل مسلم بن عقبة المدينة، وهرب منه يومئذٍ بقايا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعَبَث فيها وأسرف في القتل، ثم خرج منها. فلما كان ببعض الطريق مات، واستخلف حُصَين بن نُمير الكندي وقال: يا ابن بَرْذَعة الحمار أحذر خدائع قريش، ولا تعاملهم إلا بالثِّقاف ثم بالقطاف. فمضى حصين حتى ورد مكة، فقاتل بها ابن الزبير رضي الله عنهما أياماً - فذكر الحديث، وفيه: قال: وبلغ حصين بن نمير موتُ يزيدَ بن معاوية، فهرب حُصَين بن نمير. فلما مات يزيد بن معاوية دعا مروان بن الحكم إلى نفسه - فذكر الحديث، وفيه: ثم مات مروان ودعا عبد الملك لنفسه، وقام فأجابه أهل الشام، فخطب على المنبر وقال: من لابن الزبير منكم؟ فقال الحجاج: أنا يا أمير المؤمين، فأسكته، ثم عاد فأسكته، ثم عاد فقال: أنا يا أمير المؤمنين (فإني) رأيت في النوم أني انتزعت جبته فلبستها. فعقد له (ووجهه) في الجيش إلى مكة حتى قدمها على ابن الزبير رضي الله عنهما، فقاتله بها. فقال ابن الزبير رضي الله عنهما لأهل مكة: إحفظوا هذين الجبلين فإنكم لن تزالوا بخير أعزّة ما لم يظهروا عليهما، فلم يلبثوا أن ظهر الحجّاج ومن معه على «أبي قُبَيس» ، ونصب عليه(2/191)
المنجنيق؛ فكان يرمي به ابن الزبير ومن معه - رضي الله عنهم - في المسجد.
فلما كان الغداة - التي قُتل فيها ابن لزبير - دخل ابن الزبير على أمه أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها -، وهي يومئذٍ إبنة مائة سنة لم يسقط لها سن ولم يفقد لها بصر - فقالت لابنها: - يا عبد الله ما فعلت في حربك؟ قال: بلغوا مكان كذا وكذا. وضحك ابن الزبير رضي الله عنهما فقال: إِن في الموت لراحة. قالت: يا بني لعلَّك تتمنّاه لي؟ ما أحبّ أن أموت حتى آتي على أحد طرفيك، إمّا أن تملك فتَقَرّ بذلك عيني، وإما أن تقتل فأحتسبَك. قال: ثم ودَّعها، قالت له: يا بني إياك أن تُعطي خصلة من دينك مخافة القتل.
وخرج عنها ودخل المسجد، وقد جعل مصراعين على الحجر الأسود يتقي بهما أن يصيبه المنجنيق، وأتى ابن لزبير رضي الله عنهما آتٍ وهو جالس عند الحجر الأسود، فقال (له) : ألا نفتح لك باب الكعبة فتصعد فيها؟ فنظر إليه عبد الله ثم قال له: من كل شيء تحفظ أخاك إلا من نفسه - يعني أجله -، وهل للكعبة حرمة ليست لهذا المكان؟ والله لو وجدوكم متعلِّقين بأسْتار الكعبة لقتلوكم. فقيل له: ألا تكلِّمهم في الصلح؟ قال: أَوَحين صُلْحٍ هذا؟ والله لو وجدوكم فيه لذبحوكم جميعاً، وأنشد يقول:
ولستُ بمبتاعِ الحياةِ بسُبَّةٍ
ولا مُرْتَقٍ مِنْ خشية الموت سُلّما
أنافس سهماً إنه غير بارحٍ
ملاقي المنايا أيَّ حرف تيمَّما
ثم أقبل على آل الزبير يعظهم ويقول: ليُكِنَّ أحدكم سيفه كما يُكِنُّ وجهه، لا ينكسر (سيفه) فيدفع عن نفسه بيده كأنه إمرأة، والله ما لقيت زحفاً قط إِلا في الرعيل الأول، ولا أَلِمتُ جرحاً قط إلا أنْ آلم الدواء. قال: فبينما هم كذلك إذ دخل عليهم (قوم) من باب بني جُمَح فيهم أسْوَد. قال: من هؤلاء؟ قيل: أهل حمص، فحمل عليهم ومعه سيفان، فأول من لقيه الأسود، فضربه بسيفه حتى أطنّ رجله، فقال له الأسود: أخْ يا ابن الزانية؟ فقال له ابن الزبير رضي الله(2/192)
عنهما: إخسأ يا ابن حام، أسماء زانية؟ ثم أخرجهم من المسجد، وانصرف. فإذا قوم قد دخلوا من باب بني سَهْم، فقال: من هؤلاء قيل: أهل الأردن، فحمل عليهم وهو يقول:
لا عهد لي بغارة مثلِ السَّيْلْ
لا ينجلي غبارها حتى الليل
فأخرجهم من المسجد، فإذا بقوم قد دخلوا من باب بني مخزوم، فحمل عليهم وهو يقول: لو كان قِرْني واحداً كفيته.
قال: وعلى ظهر المسجد من أعوانه من يرمي عدوّه بالآجر وغيره، فحمل عليه، فأصابته آجرة في فرقه حتى فَلَقت رأسه: فوقف وهو يقول:
ولسنا على الأعقاب تُدمى كلومنا
ولكن على أقدامنا تقطر الدِّما
قال: ثم وقع فأكبّ عليه مَوْلَيان له، وهما يقولان:
العبد يحمي ربَّه ويحتمي
قال: ثم سِير إِليه، فحُزّ رأسه. قال الهيثمي رواه الطبراني وفيه: عبد الملك بن عبد الرحمن الذماري وثَّقه ابن حِبَّان وغيره، وضعفّه أبو زُرعة وغيره. انتهى. وأخرجه أيضاً ابن عبد البرّ في الاستيعاب - مطوّلاً؛ وأبو نُعيم في الحلية - بنحوه مختصراً؛ (والحاكم في المستدرك - قطعة من أوله.(2/193)
وأخرج أبو نعيم، والطبراني أيضاً عن (إسحاق بن) أبي إسحاق قال: أنا حاضر قتل ابنِ الزبير رضي الله عنهما يوم قتل في المسجد الحرام، جعلت الجيوش تدخل من باب المسجد، فكلما دخل قوم من باب حمل عليهم وحده حتى يخرجهم، فبينا هو على تلك الحال إِذ جاءت شُرفة من شرفات المسجد فوقعت على رأسه فصرعته، وهو يتمثل بهذه الأبيات:
أسماءُ إِن قُتلتُ لا تبكيني
لم يبقَ إلا حَسَبي وديني
وصارم لانت به يميني
الإِنكار على من فرّ في سبيل الله إنكار الصحابة على سَلَمة بن هشام
أخرج الحاكم عن أم سَلَمة رضي الله عنها أنها قالت لامرأة سَلَمة بن هشام بن المغيرة: ما لي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع المسلمين؟ قالت: والله ما يستطيع أن يخرج، كلما خرج صاح به الناس: يا فُرّار، أفررتم في سبيل الله عزّ وجلّ؟ حتى قعد في بيته فما يخرج، وكان في غزوة مؤتة مع خالد بن الوليد رضي الله عنه. قال الحاكم - ووافقه الذهبي - هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرِّجاه. وأخرجه ابن إسحاق مثله؛ كما في البداية.(2/194)
إِنكار رجل على أبي هريرة
وأخرج الحاكم من طريق الواقدي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لقد كان بيني وبين ابن عم لي كلام، فقال: ألا فرارك يوم مؤتة، فما دَرَيت أيّ شيء أقول له.
الندامة والجزع من الفرار ندامة ابن عمر وأصحابه على الفرار يوم مؤتة وقوله عليه السلام لهم
أخرج الإِمام أحمد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كنت في سريّة من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاص الناس حَيْصة، وكنت فيمن حاص، فقلنا: كيف نصنع؛ وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟ ثم قلنا: لو دخلنا المدينة ثم بتنا. ثم قلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا، فأتيناه قبل صلاة الغداة؛ فخرج، فقال: من القوم؟ قال: قلنا: نحن فرّارون. فقال: «لا، بل أنتم الكرّارون، أنا فئتكم وأنا فئة المسلمين» . قال: أتيناه حتى قبَّلنا يده.
وعنده أيضاً عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سريّة. فلما لقينا العدوّ إنهزمنا في أول غادِية، فقدمنا المدينة في نفر ليلاً فاختفينا، ثم قلنا: لو خرجنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتذرنا إليه، فخرجنا إليه ثم التقيناه، فقلنا: نحن الفرّارون(2/195)
يا رسول الله، فقال: «بل أنتم العكّارون وأنا فئتكم» . قال الأسود: «وأنا فئة كل مسلم» . كذا في البداية.
وأخرجه البيهقي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - بمعناه، وفي حديثه: فقلنا: نحن الفرّارون يا رسول الله فقال: «بل أنتم العكّارون» . فقلنا: يا نبي الله، أردنا أن لا ندخل المدينة، وأن نركب البحر. قال: «لا تفعلوا، فإني فئة كل مسلم» . وأخرجه أيضاً أبو داود، والترمذي: وحسّنه، وابن ماجه - بنحو رواية الإِمام أحمد، كما في التفسير لابن كثير؛ وابن سعد بنحوه.
جزع المهاجرين والأنصار على الفرار يوم الجسر وقول عمر لهم
وأخرج ابن جرير عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قدم عبد الله بن زيد رضي الله عنه، فنادى: الخبر يا عبد الله بن زيد؟ وهو داخل المسجد، وهو يمرّ على باب حجرتي، فقال: ما عندك يا عبد الله بن زيد؟ قال: أتاك الخبر يا أمير المؤمنين. فلما انتهى إليه أخبره خبر الناس، فما سمعت برجل حضر أمراً فحدَّث عنه كان أثبت خبراً منه. فلما قدم فَلُّ الناس. ورأى عمر رضي الله عنه جزع المسلمين من المهاجرين(2/196)
والأنصار من الفِرار، قال: لا تجزعوا يا معشر المسلمين، أنا فئتكم إنما انحزتم إليّ.
جزع معاذ القاري عن الفرار يوم الجسر وقول عمر له
وأخرج ابن جرير أيضاً: عن محمد بن عبد الرحمن بن الحصين وغيره: أنَّ معاذ القاري رضي الله عنه أخا بني النجار كان ممن شهدها ففرّ يومئذٍ - أي يوم وقعة جسر أبي عبيد -، فكان إذا قرأ هذه الآية: {وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرّفاً لّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَآء بِغَضَبٍ مّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (الأنفال: 16) ؛ بكى. فيقول له عمر رضي الله عنه: لا تبكِ يا معاذ، أنا فئتك، وإنما انحَزت إِليّ.
ذهاب سعد بن عبيد القاري لغسل ما وقع عنه إِلى الأرض التي فرّ منها
وأخرج ابن سعد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى رضي الله عنه قال: قال عمر بن الخطاب لسعد بن عبيد رضي الله عنهما - قال وكان رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إنهزم يوم أصيب أبو عبيد، وكان يسمى «القاري» ولم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسمّى القاري غيره - قال: فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: هل لك في الشام؟ فإن المسلمين قد نزفوا به، وإِن العدوّ قد ذئروا عليهم، ولعلك تغسل عنك الهنيهة. قال: لا، إلا الأرض التي فررت منها، والعدوّ الذين صنعوا بي ما صنعوا. قال: فجاء إلى القادسية فقُتل.(2/197)
تجهيز من خرج في سبيل الله وإعانته إعطاؤه عمر بن الخطاب سلاحه لأسامة أو علي حين لم يغز
أخرج الإِمام أحمد والطبراني عن جبلة - يعني ابن حارثة رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إِذا لم يغزُ أعطى سلاحه علياً أو أُسامة رضي الله عنهما. قال الهيثمي: ورجال أحمد ثقات.
إعطاء رجال من الأنصار جهازه رجلاً آخر حين مرض
وأخرج أبو داود عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن فتى من أسْلَمَ قال: يا رسول الله إني أُريد الجهاد، وليس لي مال أتجهْز به. قال: «إذهب إلى فلان الأنصاري، فإنه قد تجهّز فرض، فقُلْ له: إن رسول الله يقرئك السلام، وقل له: إدفع ليّ ما تجهْزتَ به» . فأتاه فقال له ذلك، فقال لامرأته: يا فلانة إدفعي إِليه، ما جهّزتني به ولا تحبسي منه شيئاً، فالله لا تحبسين منه شيئاً؛ فيبارَكَ لك فيه. وأخرجه مسلم، والبيهقي أيضاً عن أنس رضي الله عنه - بنحوه.
الدلالة على من يعين الخارج في سبيل الله
وأخرج مسلم عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: جاء رجل(2/198)
إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أُبْدِع بي فاحملني. فقال: «ما عندي» . فقال رجل: يا رسول الله، أنا أدلّه على من يحمله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من دلّ على خير فله مثل أجر فاعله» . وأخرجه البيهقي عن أبي مسعود رضي الله عنه - بنحوه.
تحريضه صلى الله عليه وسلم الصحابة على إعانة الخارجين
وأخرج البيهقي؛ والحاكم وصحّحه، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أراد أن يغزو: فقال: «يا معشر المهاجرين والأنصار، إن من إخوانكم قوماً ليس لهم مال ولا عشيرة فَلْيَضُمَّ أحدكم إِليه الرجلين أو الثلاثة» (قال) : فما لأحدنا من ظهر (جمله) إلا عُقبة كعقبة أحدهم. قال: فضممت إِليّ إثنين أو ثلاثة ما لي عُقْبة إلا كعقبة أحدهم.
إِعانة رجل من الأنصار واثلة بن الأسقع
وأخرج البيهقي أيضاً عن واثِلة بن الأَسْقَع رضي الله عنه قال: نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فخرجت إلى أهلي وأقبلت؛ وقد خرج أول صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفقت في المدينة أنادي: ألا من يحمل رجلاً له سهمه؟ فنادى شيخ من الأنصار قال: لنا سهمه على أن نحمله عقبة وطعامه معنا.(2/199)
قلت: نعم. قال: فسِرْ على بركة الله. فخرجت مع خير صاحب حتى أفاء الله علينا، فأصابني قلائص فسقتهن حتى أتيته. فخرج فقعد على حقيبة من حقائب إبله، ثم قال: سقهن مُدْبرات، ثم قال: سقهن مُقْبلات. فقال: ما أرى قلائصَك إلا كراماً قال؛ إنما هي غنيمتك التي شرطت. قال: خذ قلائصك ابن أخي فغيرَ سهمك أردنا. قال البيهقي: يشبه أن يكون أراد أنا لم نقصد بما فعلنا الإِجارة، وإنما قصدنا الإشتراك في لأجر والثواب.
قول عبد الله في الإِعانة في سبيل الله
وأخرج الطبراني عن عبد الله رضي الله عنه قال: أن أمتِّعَ بسوط في سبيل الله أحبّ إليّ من أن أحج حَجّه بعد حَجّة. قال الهيثمي: رواه الطبراني، ورجاله ثقات.
الجهاد بالأجر قصة رجل مع عوف بن ملك
أخرج الطبراني عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في سريَّة، فقال رجل: أخرج معك على أن تجعل لي سهماً من المغنم، ثم قال: والله ما أدري أتغنمون أم لا؟ ولن أجعل لي سهماً معلوماً. فجعلت له ثلاثة دنانير، فغزونا، فأصبنا مغنماً، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «ما أجد له في الدنيا والآخرة إلا دنانيره هذه الثلاثة التي(2/200)
أخذها» . قال الهيثمي: وفيه بقيَّة، وقد صرح بالسماع. انتهى.
قصة رجل مع يعلى بن منية
وأخرج البيهقي عن عبد الله بن الديلمي: أن يعلى بن مُنْيَة رضي الله عنه قال: أذَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغزو - وأنا شيخ كبير ليس لي خادم -، فالتمست أجيراً وأُجري له سهمه؛ فوجدت رجلاً. فلما دنا الرحيل أتاني فقال: ما أدري ما السُّهمان؟ وما يبلغ سهمي؟ فسمِّ لي شيئاً كان السهم أو لم يكن، فسمّيت له ثلاثة دنانير. فلما حضرت غنيمة أردت أن أُجري له سهمه؛ فذكرت الدنانير؛ فجئت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له أمره. فقال: «ما أجد له في غزوته هذه في الدنيا - أظنّه قال: والآخرة إلا دنانيره التي سَمَّى» .
فيمن يغزو بمال غيره سؤال ميمونة بنت سعد النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وجوابه
أخرج الطبراني عن ميمونة بنت سعد رضي الله عنهما أنها قالت: أفتنا يا رسول الله عمَّن لم يغزُ وأعطى ماله يُغْزَى وأعطى ماله يُغْزَى عليه، فله أجر أم للمنطلق؟ قال: له أجر مالِه وللمنطلق أجر ما احتسب من ذلك» . قال: الهيثمي: وفيه من لم أعرفهم..(2/201)
البدل في البعث قصة رجل مع علي
أخرج البيهقي وغيره عن علي بن أبي ربيعة الأسديّ رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه بابن له بدلاً من بعث، فقال علي رضي الله عنه: لَرَأيُ شيخ أحب إِليّ من مشهد شاب. كذا في الكنز.
الإِنكار على من سأل الناس للخروج في سبيل الله إنكار عمر على شاب سأل الناس للخروج في سبيل الله
أخرج البيهقي عن ناقع قال: دخل شب قويّ في المسجد وفي يده مشاقص، وهو يقول: من يعينني في سبيل الله؟ فدعا به عمر رضي الله عنه، فأُتِي به. فقال: من يستأجر مني هذا يعمل في أرضه؟ فقال رجل من الأنصار: أنا يا أمير المؤمنين، بكم تأجره كل شهر؟ قال: بكذا وكذا. قال: خذه فانطلق به. فعمل في أرض الرجل أشهراً، ثم قال عمر رضي الله عنه للرجل: ما فعل أجيرنا؟ قال: صالحٌ يا أمير المؤمنين، قال: ائتني به وبما اجتمع له من الأجر. فجاء به وبصُرّة من دراهم. فقال: خذ هذه، فإن شئت فالآن أغزُ وإن شئت فاجلس. كذا في الكنز.
القرض للجهاد سؤال الصحابة النبي عليه السلام عنه وجوابه
أخرج أبو يعلى عن عبيد الله بن عبد الله (عن) ابن مسعود رضي الله(2/202)
عنه قال: جاء رجل فقال: هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الخيل شيئاً؟ قال: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة. اشتروا على الله واستقرضوا على الله» . قيل: يا رسول الله، كيف نشتري على الله ونستقرض على الله؟ قال: «قولوا: أقرضنا إِلى مقاسمنا، وبِعْنا إِلى أن يفتح الله (لنا) ، لا تزالون بخير ما دام جهادكم خَضِراً، وسيكون في آخر الزمان قوم يشكّون في الجهاد؛ فجاهدوا في زمانهم، ثم اغزوا فإن الغزو يومئذٍ خَضِر» . قال الهيثمي: وفيه بَقِيَّة وهو مدلِّس، وبقية رجاله ثقات. انتهى.
تشييع المجاهد في سبيل الله وتوديعه مشيه عليه السلام مع المجاهدين وما كان يقول لهم
أخرج الحاكم ن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مشى معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغَرْقد حين وجههم، ثم قال: «انطلقوا على إسم الله، اللهمَّ أعنهم» . قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. وأخرج أيضاً عن محمد بن كعب القرظي رضي الله عنه قال: دُعي عبد الله بن يزيد إلى طعام، فلما جاء قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا ودّع جيشاً قال: «أستودعُ الله دينكم وأمانتكم وخواتيم أعمالكم» .(2/203)
تشييع أبي بكر جيش أسامة
وأخرج ابن عساكر من طريق سيف عن الحسن رضي الله عنه - فذكر الحديث في تنفيذ جيش أسامة رضي الله عنه، وفيه: ثم خرج أبو بكر رضي الله عنه حتى أتاهم، فأشخصهم وشيّعهم وهو ماشٍ، وأسامة راكب، وعبد الرحمن بن عوف يقود دابة أبي بكر - رضي الله عنهم -، فقال له أسامة: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لتركبن أو لأنزلنّ. فقال: والله لا تنزل، ووالله لا أركب، وما عليّ أن أغبر قدميّ ساعة في سبيل الله فإن للغازي بكل خطوة يخطوها سبع مائة حسنة تكتب له، وسبع مائة درجة ترفع له، وتمحى عنه سبع مائة خطيئة. حتى إذا انتهى قال له: إن رأيتَ أن تعينني بعمر بن الخطاب فافعل؟ فأذن له. كذا في كنز العمال.
وأخرج مالك عن يحيى بن سعيد أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - بعث جيوشاً إلى الشام، فخرج يمشي مع يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنه، وكان أمير رُبْع من تلك الأرباع، فزعموا أنّ يزيد قال لأبي بكر: إما أن تركب وإما أن أنزل، فقال أبو بكر: ما أنت بنازل وما أنا براكب، إِنِّي أحتسب خطاي هذه في سبيل الله - فذكر الحديث. وأخرجه البيهقي عن صالح بن كَيْسان - بنحوه، كما في الكنز.
وأخرج البيهقي: عن جابر البرعيني أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - شيّع جيشاً، فمشى معهم فقال: الحمد لله الذي اغبرت أقدامنا في سبيل الله فقيل له: وكيف اغبرت وإِنما شيّعناهم؟ فقال: إنما جهْزناهم وشيّعناهم(2/204)
ودَعَوْنا لهم. وأخرجه ابن أبي شيبة - بنحوه، كما في الكنز. وأخرجه ابن أبي شيبة عن قيس نحو حديث مالك مختصراً.
تشييع ابن عمر للغزاة وما قال لهم
وأخرج البيهقي عن مجاهد قال: خرجت إلى الغزو فشيَّعنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فلما أراد فراقنا قال: إنه ليس معي ما أعطيكماه، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله إِذا استُودع شيئاً حفظه، وأنا أستودع الله دينكما وأمانتكما وخواتيم أعمالكما» .
إستقبال الغزاة خروج الناس من المدينة عندما رجع الصحابة من تبوك
أخرج أبو داود عن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة من غزوة تبوك تلقّاه الناس، فلقيته مع الصبيان على ثنيَّة الوداع.
وأخرجه البيهقي عن السائب رضي الله عنه قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك خرج الناس يلتقّونه إِلى ثنيَّة الوداع. فخرجت مع الناس وأنا غلام، فتلقّيناه.
الخروج في سبيل الله في رمضان خروجه عليه السلام في رمضان لبدر وغزوة الفتح
أخرج الترمذي عن عمر رضي الله عنه قال: غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم في(2/205)
رمضان يوم بدر، ويوم الفتح - الحديث. كذا في الفتح.
وأخرجه أيضاً ابن سعد، والإِمام أحمد عن عمر رضي الله عنه قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوتين في رمضان: يوم بدر، ويوم الفتح، فأفطرنا فيهما.j وهو حسن. كذا في الكنز.
وعند الإِمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أهل بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر، وكان المهاجرون يوم بدر ستة وسبعين، وكان هزيمة أهل بدر لسبع عشرة مضين من شهر رمضان يوم الجمعة. كذا في البداية.
وأخرجه البزّار أيضاً إلا أنه قال: ثلاث مائة وبضعة عشر؛ وقال: وكانت الأنصار مائتين وستاً وثلاثين، وكان لواء المهاجرين مع علي رضي الله عنه. قال الهيثمي: رواه الطبراني كذلك، وفيه الحجَّاج بن أرْطأة وهو مدلِّس. انتهى.
وأخرج ابن إسحاق عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره، واستخلف على المدينة أبا رُهْمٍ كلثومَ بن حُصَين بن عتبة بنِ خَلَف الغِفاري رضي الله عنه، وخرج لعشر مَضين من شهر رمضان، فصام وصام الناس معه حتى إذا كان بالكُدَيد - (ماء) بين عُسْفان وأمَج - أفطر، ثم مضى حتى نزل مَرّ الظهران في عشرة آلاف من المسلمين. وروى البخاري -(2/206)
نحوه. كذا في البداية. وأخرجه الطبراني - مثله في حديث طويل. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. انتهى.
وعند عبد الرزاق، وابن أبي شَيْبة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح في شهر رمضان، فصام حتى بلغ الكُدَيد.
وعند عبد الرزاق أيضاً عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح في شهر رمضان، فصام حتى مرّ بقُدَيد في الطريق، وذلك في نحو الظهيرة، فعطش الناس، وجعلوا يمدّون أعناقهم وتتوق أنفسهم إليه. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقَدَح فيه ماء، فأمسكه على يده حتى رآه الناس، ثم شرب فشرب الناس. كذا في كنز العمال. وأخرج الحديث أيضاً مسلم، والترمذي، والنسائي، ومالك من طرق عن ابن عباس رضي الله عنهما، كما في جمع الفوائد.
كتابة إسم من خرج في سبيل الله قصة رجل في هذا الباب(2/207)
أخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يخلونَّ رجل بامرأة، ولا تسافرنَّ إمرأة إلا ومعها مَحْرم» . فقام رجل فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتتبت في غزوة كذا وكذا، وخرجت إمرأتي حاجَّة. قال: «إذهب فاحجُجْ مع إمرأتك» .
الصلاة والطعام عند القدوم صلاته عليه السلام عند القدوم
أخرج البخاري عن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم من سفر ضُحًى دخل المسجد، فصلّى ركعتين قبل أن يجلس. وأخرج أيضاً عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فلما قدمنا المدينة قال لي: «أدخل المسجد فصلّ ركعتين» .
ذبح البقرة عند القدوم لأكل الناس
وأخرج أيضاً عنه قال: إن رسول الله لما قدم المدينة نحر جزوراً أو بقرة. زاد مُعاذ عن شعبة عن محارب سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: إشترى منِّي النبي صلى الله عليه وسلم بعيراً بأُوقيتين ودرهم أو درهمين، فلما قدم صِراراً أمر ببقرة فذُبحت، فأكلوا منها. فلما قدم المدينة أمرني أن آتي المسجد فأصلِّي ركعتين، ووزن لي ثمن البعير.(2/208)
خروج النساء في الجهاد في سبيل الله خروج عائشة في غزوة بني المصطلق
أخرج ابن إسحاق عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا أراد سفراً أقرَع بين نسائه، فأيتهنّ خرج سهمها خرج بها معه. فلما كان غزوة بني المُصطَلِق أقرع بين نسائه، كما (كان) يصنع، فخرج سهمي عليهنَّ معه؛ فخرج بي رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: وكان النساء إِذ ذاك (إِنَّما) يأكلن العُلَق لم يُهَبِجْهنَّ اللحم فيَثْقُلْن؛ وكنت إذ رُحل (لي) بعيري جلست في هودجي؛ ثم يأتي القوم الذين كانوا يُرَحِّلون لي فيحملونني ويأخذون بأسفل الهودج، فيرفعونه فيضعونه على ظهر البعير فيشدُّون بحباله، ثم يأخذون برأس البعير فينطلقون به.
قالت: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره ذلك وجَّه قافلاً، حتى إذا كان قريباً من المدينة نزل منزلاً فبات به بعض الليل، ثم أذَّن مؤذن في الناس بالرحيل، فارتحل الناس، وخرجت لبعض حاجتي وفي عنقي عِقْدٌ لي فيه جَزْع ظفار. فلما فرغت انسلَّ من عنقي ولا أدري. فلما رجعت إلى الرَّحْل ذهبت ألتمسه في عنقي فلم أجده - وقد أخذ الناس في الرحيل -، فرجعت إلى مكاني الذي ذهبت إليه فالتمسته حتى وجدته، وجاء القوم خِلافي الذين كانوا يُرَحِّلون(2/209)
لي البعير، وقد كانوا فرغوا من رَحْلته، فأخذوا الهودج وهم يظنُّون أنِّي فيه كما كنت أصنع، فاحتملوه فشدّوه على البعير ولم يشكُّوا أنِّي فيه، ثم أخذوا برأسه البعير فانطلقوا به؛ فرجعت إلى العسكر وما فيه (من) داع لا مجيب، قد انطلق الناس. قالت: فتلفَّفت بجلبابي، ثم اضطجعت في مكاني، وعرفت أن لو افتُقدت لرجع الناس إِليّ.
قالت: فوالله لمضطجعة إذ مرَّ بي صفوان بن المُعَطَّل السُّلَميّ، وكان قد تخلَّف عن العسكر لبعض حاجاته، فلم يبت مع الناس، فرأى سوادي، فأقبل حتى وقف عليَّ - وقد كان يراني قبل أن يُضرب علينا الحجاب - فلما رآني قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ظعينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا متلفِّفة في ثيابي. قال: ما خلّفك - يرحمك الله؟ - قالت: فما كلمته، ثم قرَّب إليَّ البعير، فقال: إركبي واستأخر عني. قالت: فركبت، وأخذ برأس البعير فانطلق سريعاً يطلب الناس، فوالله ما أدركنا الناس وما افتُقدت حتى أصبحت، ونزل الناس، فلما اطمأنوا طلع الرجل يقود بي، فقال: أهل الإِفك ما قالوا، فارتعج السكر، ووالله ما أعلم بشيء من ذلك.
ثم قدمنا المدينة فلم ألبث أن اشتكيت شكوى شديدة لا يبلغني من ذلك شيء؛ وقد انتهى الحديث إلىصلى الله عليه وسلم وإلى أبويَّ لا يذكرون لي منه قليلاً ولا كثيراً؛ إلا أنِّي قد أنكرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض لطفه بي، كنت إِذ اشتكيت رحمني ولطف بي، فلم يفعل ذلك بي في شكواي تلك، فأنكرت ذلك منه. كان إِذ دخل (عليَّ) وعندي أُمي تمرضني. قال: «كيف تيكم؟» لا يزيد على ذلك. قالت: حتى وجدت في نفسي فقلت: يا رسول الله - حين رأيت ما رأيت من جَفائه لي - لو أذنتَ لي فانتقلت إِلى أُمي فمرضتين. قال: «لا عليك» . قالت: فانقلبت إلى أُمي، ولا عِلْم لي بشيء مما كان، حتى نَقِهت(2/210)
من وجعي بعد بضع وعشرين ليلة.
وكنا قوماً عَرَباً لا نتخذ في بيوتنا هذه الكُنُف التي تتخذها الأعاجم نعافها ونكرهها، إِنما كنا نخرج في فُسَح المدينة، وإنما كانت النساء يخرجن في كل ليلة في حوائجهن. فخرجت ليلة لبعض حاجتي ومعي أم مِسْطَح ابنة أبي رُهْم بن المطَّلب. قالت: فوالله إِنها لتمشي معي إذ عثرت في مِرْطها، فقالت: تعس مِسْطَح، قالت: فقلت: بئس - لعمر الله - ما قلت لرجل من المهاجرين وقد شهد بدراً قلت: أوَما بلغك الخبر يا بنت أبي بكر؟ قالت: قلت: وما الخبر؟ فأخبرتني بالذي كان من قول أهل الإِفك. قلت: أوَقد كان هذا؟ قالت: نعم - والله - لقد كان. قال: فوالله ما قدرت على أن أقضيَ حاجتي، ورجعت؛ فوالله ما زلت أبكي حتى ظننتُ أنَّ البكاء سيصدع كبدي. قالت: وقلت لأمِّي: يغفر الله لك تحدَّث الناس بما تحدثوا به، ولا تذكرين لي من ذلك شيئاً؟ قالت: أي بنية، خفِّفي عليك الشأن، فوالله لقلَّما كانت إمرأة حسناء عند رجل يحبُّها لها ضرائر إِلا كَثَّرن وكثّر الناس عليها.
قالت: وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطبهم - ولا أعلم بذلك - فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أيها الناس، ما بال رجال يؤذونني في أهلي ويقولون عليهم غير الحق، والله ما علمتُ منهم إِلا خيراً، ويقولون ذلك لرجل - والله - ما علمت منه إلا خيراً، ولا يدخل بيتاً من بيوتي إِلا وهو معي» . قالت: وكان كِبْر ذلك عند عبد الله بن أبيّ بن سلول في رجال من الخزرج مع الذي قال مِسْطح وحَمْنة بنت جحش، وذلك أن أختها زينب بنت جحش كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تكن إمرأة من نسائه تناصيني في المنزلة عنده غيرها. فأما زينب فعصمها الله بدينها، فلم تقل إِلا خيراً، وأما حمنة فأشاعت من ذلك ما أشاعت تضادّني لأختها، فَشَقِيَتْ بذلك. فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المقالة قال أسيد بن حضير رضي الله عنه: يا رسول الله إِن يكونوا من الأوس نكفِكَهم، وإن يكونوا من أخواننا من الخزرج فمرنا أمرك، فوالله إِنهم أن تضرب أعناقهم. قالت: فقام سعد بن عبادة - وكان قبل ذلك يرى رجلاً صالحاً - فقال: كذبت - لعمر الله - ما تُضرب أعناقهم، أما والله ما قلت هذه المقالة إلا أنك قد عرفت أنهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا. فقال أسَيد(2/211)
بن حُضَير رضي الله عنه: كذبت - لعمر الله - ولكنَّك منافق تجادل عن المنافقين. قالت: وتساوَرَ الناس حتى كاد يكون بين هذين الحيَّين من الأوس والخزرج شر.
ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليَّ، فدعا علي بن أبي طالب، وأسامة بن زيد فاستشارهما، فأما أسامة فأثنى خيراً وقاله، ثم قال: يا رسول الله أهلك وما نعلم منهم إلا خيراً، وهذا الكذب والباطل. وأما علي فإنه قال: يا رسول الله إنَّ النساء لكثير، وإنَّك لقادر على أن تستخلف، وسَلِ الجارية فإنها ستصدقُك. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بَرِيرَة يسألها. قالت: فقام إِليها علي رضي الله عنه فضربها ضرباً شديداً، ويقول: إصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: فتقول: والله ما أعلم إلا خيراً، وما كنت أعيب على عائشة شيئاً إلا أني كنت أعجن عجيني فآمرها أن تحفظه فتنام منه، فتأتي الشاة فتأكله.
قالت: ثم دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم - وعندي أبواي، وعندي إمرأة من الأنصار وأنا أبكي وهي تبكي - فجلس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «يا عائشة، إنه قد كان ما بلغك من قول الناس، فاتَّقي الله، وإِن كنت قد قرفت سوءاً مما يقول الناس فتوبي إِلى الله، فإن الله يقبل التوبة عن عباده» . قالت: فوالله إِنْ هو إلا أن قال لي ذلك، فقَلَص دمعي حتى ما أحسُّ منه شيئاً، وانتظرت أبويّ أي يجيبا عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يتكلّما. قالت: وايْمُ(2/212)
الله، لأنا كنت أحقرَ في نفسي وأصغرَ شأناً من أن يُنزِّل الله فيَّ قرآناً يُقرأ به ويُصلَّى به، ولكني كنت أرجو أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم في نومه شيئاً يكذِّب الله به عنِّي، لما يعلم من براءتي، ويخبر خبراً؛ وأما قرآناً يُنزَّل فيّ فوالله لنفسي كانت أحقرَ عندي من ذلك. قالت: فلما لم أرَ أبويَّ يتكلمان قلت لهما: ألا تجيبان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: والله ما ندري بما نجيبه. قالت: ووالله ما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل على آل أبي بكر رضي الله عنه في تلك الأيام. قالت: فلما استعجما عليّ إستعبرت فبكيتُ، ثم قلت: والله لا أتوب إِلى الله مما ذكرت أبداً. والله إني لأعلم لئن أقررت بما يقول الناس، - والله يعلم أنِّي منه بريئة -، لأقولنّ ما لم يكن، ولئن أنا أنكرت ما يقولون لا تصدِّقونني قالت: ثم التمست إسم يعقوب فما أذكره. فقلت: ولكن سأقول كما قال يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (يوسف: 18) .
قالت: فوالله ما برح رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه حتى تَغَشَّاه من الله ما كان يتغشَّاه، فسُجِّي بثوبه، ووضعت وسادة من أَدَمٍ تحت رأسه، فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت فوالله ما فزعت وما باليت، قد عرفت أني بريئة، وأن الله غيرُ ظالمي، وأما أبواي فوالذي نفس عائشة بيده ما سُرِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننت لتخرجنَّ أنفسُهُما فرقاً من أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس. قالت: ثم سُرِّيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس وإنه ليتحدَّر من وجهه مثل الجُمان في يوم شاتٍ، فجعل يمسح العراق عن وجهه ويقول: «أبشري(2/213)
يا عائشة قد أنزل الله عزّ وجلّ براءتك» . قالت: قلت: الحمد لله. ثم خرج إلى الناس، فخطبهم وتلا عليهم ما أنزل الله عزّ وجلّ من القرآن في ذلك، ثم أمر بمسطح بن أُثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش - وكانوا ممن أفصح بالفاحشة - فضرُبوا حدّهم. وهذا الحديث مخرَّج في الصحيحين عن الزُّهري، وهذا السياق فيه فوائد جمة. كذا في البداية.
وأخرجه أيضاً الإِمام أحمد - بطوله، وفي سياقه: قالت: فقالت لي أمي: قومي إليه، فقلت: والله لا أقوم إِليه، ولا أحمد إلا الله عزّ وجلّ، هو الذي أنزل براءتي. وأنزل الله عزّ وجلّ: {إِنَّ الَّذِينَ جَآءوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مّنْكُمْ} (النور: 11) - العشر الآيات كلّها. فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر - وكان ينفق على مِسْطَح لقرابته منه وفقره -: والله لا أنفق عليه شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة. فأنزل الله تعالى: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِى الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (النور: 22) . فقال أبو بكر رضي الله عنه: بلى - والله - إنِّي لأحبّ أن يغفر الله لي. فرجع إلى مِسْطح النفقة التي كان ينفق عليه؛ وقال: والله لا أنزعها نه أبداً. كذا في التفسير لابن كثير. وأخرجه أيضاً الطبراني - مطوّلاً جداً؛ كما في المجمع.
خروج إمرأة من بني غِفَار معه عليه السلام(2/214)
وأخرج ابن إسحاق عن إمرأة من بني غِفَار قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نِسوة من بني غِفَار، فقلنا: يا رسول الله قد أردنا أن نخرج معك إلى وجهك هذا - وهو يسير إِلى خيبر -، فنداوي الجرحى، ونعين المسلمين بما استطعنا. فقال: على بركة الله. قالت: فخرجنا معه. قالت: وكنت جارية حديثة السنّ، فأردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم (على) حقيبة رَحْله. قالت: فوالله لَنَزَل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصبح (وأناخ) ونزلت عن حقيبة رَحْله. قالت: وإذا به دَمٌ مني، وكانت أولَ حَيْضةٍ حِضْتها. قالت: فتقبَّضْتُ إلى الناقة واستحيَيْت، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بي، ورأى الدم قال: « (مالك) لعلَّك نفِست؟» قالت: قلت: نعم. قال: «فأصلحي من نفسك، ثم خذي إِناء من ماء، فاطرحي فيه مِلْحاً، ثم اغسلي ما أصاب الحقيبة من الدم، ثم عودي لمركبك» .
قالت: فلما فتح الله خيبر رضخ لنا من الفيء، وأخذ هذه القِلادة التي تَرَيْن في عنقي، فأعطانيها وعلّقها بيده في عنقي، فوالله لا تُفارقني أبداً؛ وكانت في عنقها حتى ماتت؛ ثم أوصت أن تُدفن معها. قالت: وكانت لا تَطَّهَّر من حيضها إلا جعلت في طهورها مِلْحاً، وأوصت به أن يجعل في غُسلها حين ماتت. وهكذا رواه الإِمام أحمد، وأبو داود من حديث ابن إسحاق. ورواه الواقدي بإسناده عن أمية بنت أبي الصّلْت رضي الله عنها. كذا في البداية.(2/215)
خروج إمرأة وقصة عنزتها
وأخرج الإِمام أحمد عن حُمَيد بن هلال قال: كان رجل من الطُّفاوَة طريقه علينا يأتي على الحيّ فيحدثهم. قال: أتيت المدينة في عِير لنا، فبعنا بضاعتنا، ثم قلت: لأنطلقنَّ إلى هذا الرجل فلآتين مَنْ بعدي بخبره، فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يريني بيتاً. قال: «إنَّ إمرأة كانت فيه، فخرجت في سريّة من المسلمين وتركت إثنتي عشرة عنزة، وصيصتَها التي تنسج بها. قال: ففقدت عنزاً من غنمها وصيصتها. قالت: يا رب، قد ضَمِنتَ لمن خرج في سبيلك أن تحفظ عليه، وإنِّي قد فقدت عنزاً من غنمي وصيصتي، وإني أنشدك عنزي وصيصتي» . قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر له شدَّة مناشدته لربها تبارك وتعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فأصبحت عنزها ومثلها وصيصتها ومثلها، وهاتيك فأتها، فاسألها إن شئت» . قال قلت: بل أصدّقك. قال الهيثمي: رواه الإِمام أحمد، ورجاله رجال الصحيح. انتهى.
خروج أم حَرَام بنت ملحان خالة أنس
وأخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على إبنة مِلحان، فاتَّكأ عندها ثم ضحك. فقالت: لم تضحك يا رسول الله؟ فقال: «ناس من أمتي يركبون البحر الأخضر في سبيل الله، مَثَلُهم مَثَلُ الملوك على الأسرة» . فقالت: يا رسول الله، أدعُ الله أن يجعلني منهم. فقال: «اللهمَّ(2/216)
إجعلها منهم» ، ثم عاد فضحك. فقالت له مثل ذلك - أم ممَّ ذلك؟ - فقال لها: مثل ذلك. فقالت: إدع الله أن يجعلني منهم: «قال أنت من الأوَّلين، ولستِ من الآخرين» . قال: قال أنس رضي الله عنه: فتزوَّجت عبادة بن الصامت، فركبت البحر مع بنت قَرَظَة. فلما قَفَلت ركبت دابتها، فوقصت بها فسقطت عنه فماتت.
خدمة النساء في الجهاد في سبيل الله خروج النساء مع النبي صلى الله عليه وسلم لسقي المرضى ومداواة الجرحى
أخرج الطبراني عن أُم سُلَيم رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يغزو معه نسوة من الأنصار، فتسقي المرضى وتداوي الجرحى. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.
وأخرجه مسلم، والترمذي: وصحَّحه، عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بأُم سُلَيم رضي الله عنها ونِسوة معها من الأنصار، يسقين الماء، ويداوين الجرحى.
خدمة الرِّبِّيع بنت مُعَوِّذ وأم عطية وليلى الغفارية في الجهاد
وأخرج البخاري عن الرَّبِّيع بنت معوِّذ رضي الله عنها قالت: كنا مع(2/217)
النبي صلى الله عليه وسلم نسقي، ونداوي الجرجى، ونرد القتلى. وعنده أيضاً عنها قالت: كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم فنسقي القوم، ونخدمهم، ونردّ القتلى الجرحى إلى المدينة، وأخرجه أيضاً الإِمام أحمد كما في المنتقى. وأخرج الإِمام أحمد، ومسلم وابن ماجه عن أمِّ عطيّة الأنصارية رضي الله عنها قالت: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، أخلُفهم في رحالهم، وأصنع لهم الطعام، وأداوي الجرحى، وأقوم على الزَمْنى. كذا في المنتقى.
وأخرج الطبراني عن ليلى الغِفارية رضي الله عنها قالت: كنت أخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أداوي الجرحى. قال الهيثمي: وفيه القاسم ابن محمد بن أبي شيبة وهو ضعيف. انتهى.
خدمة عائشة وأم سُليم وأم سَلِيط الأنصارية يوم أُحد
وأخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: لما كان يوم أُحد إنهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأمُ سُلَيم رضي الله عنهما وإنهما لمشمِّرتان، أرى خدم سوقهما، تنقزان القرب. وقال غيره: تنقلان القرب على متونهما ثم تُفرغانه في أفواه القوم، ثم ترجعان(2/218)
فتملآنها، ثم تجيئان فتفرغانها في أفواه القوم. وأخرجه أيضاً مسلم، والبيهقي: عن أنس رضي الله عنه - بنحوه.
وأخرج البخاري عن ثعلبة بن أبي مليك رضي الله عنه: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قسم مروطاً بني نساء من نساء المدينة، فبقي مِرْط جيّد، فقال له بعض من عندَه: يا أمير المؤمنين، أعطِ هذا إبنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عندك - يريدون أم كلثوم بنت علي رضي الله عنهما -، فقال عمر رضي الله عنه: أمُّ سَلِيط أحق - وأمُّ سَلِيط من (نساء) الأنصار ممّن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ قال عمر رضي الله عنه: فإنَّها كانت تزفر لنا القِرَب يوم أُحد (قال أبو عبد الله - أي البخاري -: تزفر: تخيط) وأخرجه أيضاً أبو نُعَيم وأبو عبيد؛ كما في الكنز.
خروج النساء للخدمة يوم خيبر
وأخرج أبو داود من طريق حَشْرج بن زياد عن جدته (- أم أبيه -) رضي الله عنها: أنهنَّ خرجنَ مع النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سألهن عن ذلك؛ فقلن خرجنا نغزل الشعَرَ، فنعين به في سبيل الله، ونداوي الجرحى، ونناول السِّهام، ونسقي السَّويق.
وعند عبد الرزاق عن الزُّهري قال: كان النساء يشهدن مع النبي صلى الله عليه وسلم(2/219)
المشاهد، ويَسقين المقاتِلة، ويداوين الجرحى. كذا في فتح الباري.
قتال النساء في الجهاد في سبيل الله قتال أم عمارة يوم أُحد
ذكر ابن هشام عن سعيد بن أبي زيد الأنصاري رضي الله عنه: أن أم سعد بنت سعد بن الربيع رضي الله عنهما كانت تقول: دخلت عليّ أم عُمارة رضي الله عنها، فقلت لها: يا خالة أخبريني خبرك؟ فقالت: خرجت أول النهار أنظر ما يصنع الناس، ومعي سقاء فيه ماء، فانتهيت إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه والدولة والريح للمسلمين. فلما انهزم المسلمون انحَزْت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمت أباشر القتال، وأذبُّ عنه بالسيف، وأرمي عن القوس، حتى خَلَصت الجرحُ إليّ، قالت: فرأيت على عاتقها جرحاً أجْوَف له غور فقلت لها: من أصابك بهذا؟ قالت: ابن قَمِئَة، أقمأه الله. لما ولَّى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل يقول: دلّوني على محمد، لا نجوتُ إن نجا، فاعترضت له أنا ومُصْعَب بن عُمير وأناس ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربني هذه الضربة، ولقد ضربته على ذلك ضربات، ولكن عدوَّ الله كان عليه دِرْعان. كذا في البداية. وأخرجه أيضاً الواقدي من طريق ابن أبي صَعْصَعة عن أم سعد بنت سعد بن الربيع رضي الله عنها، كما في الإِصابة.d(2/220)
وأخرج الواقدي بسند آخر إلى عُمارة بن عَرَبة رضي الله عنهما أنها قتلتْ يومئذٍ فارساً من المشركين. ومن وجه آخر عن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما التفت يوم أُحد يميناً ولا شمالاً إلا وأراها تقاتل دوني» . كذا في الإِصابة.
وأخرج ابن سعد من طريق الواقدي عن ضَمْرة بن سعيد رضي الله عنه قال: أُتيَ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمُروط، وكان فيها مِرْط جيِّد واسع. فقال بعضهم؛ إنَّ هذا المِرْط لثمن كذا وكذا، فلو أرسلت به إِلى زوجة عبد الله بن عمر صفيّة بنت أبي عبيد - وذلك حِدْثان ما دخلت على ابن عمر رضي الله عنهما - فقال: أبعثُ به إلى من هو أحقُّ به منها؛ أم عُمارة نُسَيبة بنت كعب، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما التفتّ يميناً ولا شمالاً إلا وأنا أراها تقاتل دوني» . كذا في كنز العمال.
قتال صفية يوم أُحد ويوم الخندق
وأخرج ابن سعد عن هشام عن أبيه أن صفيَّة رضي الله عنها جاءت يوم أُحد وقد انهزم الناس وبيدها رمح تضرب في وجوهه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم(2/221)
«يا زبير المرأة» . كذا في الإِصابة.
وأخرح ابن إسحاق عن عبَّاد قال: كانت صفيّة بنت عبد المطلب رضي الله عنها في فارع - حصن حسان بن ثابت رضي الله عنه -، قالت؛ وكان حسان معنا فيه مع النساء والصبيان؛ فمرّ بنا رجل من يهود فجعل يُطِيف بالحِصْن، قد حاربتْ بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بيننا وبينهم أحد من يدفع عنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون في نحور عدوّهم لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا، إذ أتانا آتٍ، فقلت: يا حسان إنَّ هذا اليهودي - كما ترى - يُطِيف بالحصن، وإِني - والله - ما آمنه أن يدلّ على عورتنا مَن وراءنا من يهود؛ وقد شُغِل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإنزل إليه فاقتله. قال: يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا. قالت: فلما قال لي ذلك ولم أرَ عنده شيئاً احتجزتُ، ثم أخذت عموداً، ثم نزلت من الحصن إليه، فضربته بالعود حتى قتلته. فلما فرغت منه رجعت إِلى الحصن، فقلت: يا حسان أنزل فاستلبه فإنَّه لم يمنعني من سَلبه إلا أنه رجل. قال: ما لي بسَلبه حاجة يا ابنة عبد المطلب. كذا في البداية.
وأخرجه البيهقي من طريق ابن إسحاق عن يحيى بن عبّاد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه رضي الله عنهما - بنحوه؛ ثم أخرج من طريق هشام(2/222)
بن عروة عن أبيه عن صفية - رضي الله عنهم - مثله، وزاد فيه: قال: هي أول إمرأة قتلت رجلاً من المشركين. وأخرجه أيضاً ابن أبي خيثمة، وابن مَنْدَه من رواية أم عروة بنت جعفر بن الزبير عن أبيها عن جدتها صفيَّة رضي الله عنها؛ وابن سعد من طريق هشام عن أبيه، كما في الإِصابة. وأخرجه ابن عساكر من حديث صفيَّة والزبير رضي الله عنهما - بمعناه، كما في الكنز. وأخرجه أيضاً الطبراني؛ عن عروة) وأبو يَعْلى، والبزار عن الزبير رضي الله عنه (وإسنادهما ضعيف) ؛ كما في مجمع الزوائد.
إتخاذ أُم سُلَيم خنجراً للقتال يوم حُنَين
وأخرج ابن أبي شيبة عن أنس قال: جاء أبو طلحة يوم حنين يضحك (إلى) رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: ألم تر إلى أمّ سُلَيم معها خنجر؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا أمّ سُلَيم: ما أردت إِليه؟» قالت: أردت إِن دنا ليّ أحد منهم طعنته به. كذا في كنز العمال. وأخرجه أيضاً ابن سعد بسند صحيح، كما في الإِصابة. وعند مسلم عن أنس رضي الله عنه أنّ أمَّ سُلَيم رضي(2/223)
الله عنها إتَّخذت يوم حُنَين خنجراً، فكان معها فرآها أبو طلحة، فقال يا رسول الله: هذه أم سُلَيم معها خنجر، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما هذا الخنجر؟» فقالت: إتخذته إنْ دنا مني أحد من المشركين بَقَرتُ به بطنه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك.
قتل أسماء بنت يزيد تسعة يوم اليرموك
وأخرج الطبراني عن مهاجر: أن أساء بنت يزيد بن السَّكَن بنت عمّ معاذ بن جبل رضي الله عنهما قتلت يوم اليرموك تسعة من الروم بعمود فسطاط. قال الهيثمي: ورجاله ثقات: انتهى.
الإِنكار على خروج النساء في الجهاد إنكاره عليه السلام على أم كبشة
أخرج الطبراني عن أمّ كبشة رضي الله عنها - إمرأة من عذرة: عذرة بني قضاعة - أنها قالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أتأذن أن أخرج في جيش كذا وكذا. قال: لا. قالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه ليس أريد أن أقاتل، إنما أريد أداوي الجرحى والمرضى، أو أسقي المرضى. قال: لولا أن تكون سنّة ويقال: فلانة خرجت لأذنت لك، ولكن إجلسي. قال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجالهما رجال الصحيح. انتهى.(2/224)
ذكر أن طاعة الأزواج والاعتراف بحقهم يعدل الجهاد
وأخرج البزار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت إمرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، أنا وافدة النساء إليك: هذا الحهاد، كتبه الله على الرجال، فإن يصيبوا أُجِروا، إن قُتلوا كانوا أحياء عند ربهم يُرزقون؛ ونحن معشر النساء نقوم عليهم، فما لنا من ذلك؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أبلغي من لقيت من النساء: أنَّ طاعة الزوج واعترافاً بحقّه يعدل ذلك، وقليل منكنّ من يفعله» . وهكذا رواه البزار - مختصراً.
والطبراني في حديث، قال في آخره: ثم جاءته - يعني النبي صلى الله عليه وسلم ـ إمرأة، فقالت: إني رسول النساء إليك، وما منهن إمرأة علمت أو لم تعلم إلا وهي تهوَى مخرجي إليك، الله ربُّ الرجال والنساء وإلههنّ، وأنت رسول الله إلى الرجال والنساء، كتب الله الجهاد على الرجال، فإن أصابوا أثْرَوا، وإن استشهدوا كانوا أحياء عند ربهم يُرزقون؛ فما يعدل ذلك من أعمالهم من الطاعة؟ قال: «طاعة أزواجهن، والمعرفة بحقوقهن، وقليل منكنّ من يفعله» كذا في الترغيب.
خروح الصبيان وقتالهم في الجهاد قتال صبي يوم أُحد وجراحته
أخرح بن أبي شَيْبة عن الشعْبي: أن إمرأة دفعت إلى إبنها يوم أُحد السيف فلم يُطِق حمله، فشدّته على ساعده بِنسْعة، ثم أتت به النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله هذا إبني يقاتل عنك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «أيْ بنيّ، إحمل(2/225)
ها هنا. أيْ بنيّ، إحمل ها هنا» . فأصابته جراحة؛ فصُرِع؛ فأُتيَ به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أيْ بنيّ، لعلك جزعت» . قال: لا، يا رسول الله. كذا في كنز العمال.
بكاء عمير بن أبي وقاص وإِجازته
وأخرج ابن عساكر عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: ردَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عُمَير بن أبي وقاص عن مَخْرجه إلى بدر، واستصغره. فبكى عُمَير، فأجازه. قال سعد رضي الله عنه: فعقدت عليه حِمَالَة سيفه، ولقد شهدت بدراً، وما في وجهي إلا شعرة واحدة أمسحها بيدي. كذا الكنز. وأخرجه أيضاً الحاكم، والبغوي - بمعناه.
شهادة عمير بن أبي وقاص
وأخرجه ابن سعد عن سعد رضي الله عنه قال: رأيت أخي عُمَير بن أبي وقاص قبل أن يعرضنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر يتوارى، فقلت: ما لك يا أخي؟ قال: إني أخاف أن يراني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستصغرني فيردّني، وأنا أحب الخروج لعلّ الله أن يرزقني الشهادة. قال: فعُرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم فردَّه، فبكى فأجازه. فكان سعد رضي الله عنه يقول: فكنت أعقِد حَمائل سيفه من صِغره فقتل وهو ابن ست عشرة سنة. كذا في الإِصابة، وأخرجه البزار، ورجاله ثقات؛ كما في المجمع.(2/226)
الباب السابع باب إهتمام الصحابة باجتماع الكلمة
كيف كان إهتمام الصحابة رضي الله عنهم باجتماع الكلمة، واتَّحاد الأحكام، والتحرُّز عن الإختلاف والتنازع فيما بينهم في الدعوة إلى الله ورسوله والجهاد في سبيله.(2/227)
باب إهتمام الصحابة باجتماع الكلمة أقوال الصحابة رضي الله عنهم في كراهية الاختلاف قول أبي بكر رضي الله عنه في الخلاف
أخرج البيهقي عن ابن إسحاق في خطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه يومئذٍ (أي يوم سقيفة بني ساعِدَة) قال: وإنَّه لا يحل أن يكون للمسلمين أميران، فإنّه مهما يكنْ ذلك يختلفْ أمرهم وأحكامهم، وتتفرقْ جماعتهم، ويتنازعوا فيما بينهم. هنالك تُتْرك السُّنة، وتظهر البِدعة، وتعظم الفتنة، وليس لأحد على ذلك صلاح.
قول عمر رضي الله عنه في الخلاف
وأخرج أيضاً عن سالم بن عُبَيد - فذكر الحديث في بَيْعة أبي بكر رضي الله عنه، وفيه: فقال رجل من الأنصار: منَّا رجل ومنكم رجل. فقال عمر رضي الله عنه: سَيْفان في غمد واحد؟ إذاً لا يصطلحان.
خطبة ابن مسعود رضي الله عنه في التحذير من الخلاف
وأخرج الطبراني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: يا أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة فإنَّها حبل الله الذي أمر به، وإنّ ما تكرهون في(2/229)
الجماعة خيرٌ ممَّا تحبون في الفُرقة؛ فإن الله عزّ وجلّ لم يخلُق شيئاً إلا خلق له نهاية ينتهي إليها، وإن الإِسلام قد أقبل له ثبات، وإنه يوشك أن يبلغ نهايته، ثم يزيد وينقص إلى يوم القيامة، وآية ذلك الفاقة وتفظُع حتى لا يجد الفقير من يعود عليه، وحتى يرى الغني أنه لا يكفيه ما عنده، حتى إنَّ الرجل يشكو إلى أخيه وابن عمه فلا يعود عليه بشيء، وحتى إنَّ السائل ليمشي بين الجمعتين فلا يوضع في يده شيء حتى إذا كان ذلك خارت الأرض خَوْرة لا يرى أهل كل ساحة إلا أنها خارت بساحتهم، ثم تهدأ عليهم ما شاء الله، ثم تتقاحم الأرض تقيء أفلاذ كبدها. قيل: يا أبا عبد الرحمن، ما أفلاذ كبدها؟ قال: أساطين ذهب وفضة، فمِن يومئذٍ لا يُنْتَفَع بذهب ولا فضة إلى يوم القيامة. قال الهيثمي: رواه الطبراني بأسانيد، وفيه مجالد وقد وُثِّق وفيه خلاف؛ وبقية رجال إحدى الطرق ثقات. انتهى.
وأخرجه أبو نُعَيم في الحِلية من غير طريق مجالد وفي روايته: وتُقطع الأرحام حتى لا يخاف الغنيُّ إلا الفقر، وحتى لا يجد الفقير من يعطف عليه، وحتى إنَّ الرجل ليشتكي الحاجة - وابن عمه غني - ما يعطف عليه بشيء - ولم يذكر ما بعده.
قول أبي ذر رضي الله عنه في الخلاف
وأخرج أحمد عن رجل قال: كنَّا قد حملنا لأبي ذر رضي الله عنه شيئاً(2/230)
نريد أن نعطيَه إياه، فأتينا الرَّبَذَة فسألنا عنه فلم نجده. قيل: إستأذن في الحج فأُذِن له، فأتيناه بالبلدة وهي مِنَى. فبينا نحن عنده إذ قيل له: إنَّ عثمان صلَّى أربعاً. فاشتدَّ ذلك عليه وقال قولاً شديداً، وقال: صلَّيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلَّى ركعتين، وصلَّيت مع أبي بكر، وعمر. ثم قام أبو ذر رضي الله عنه فصلَّى أربعاً. فقيل له: عِبْتَ على أمير المؤمنين شيئاً ثم تصنعه؟ قال: الخلاف أشد، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبنا فقال: إنه كائن بعدي سلطان فلا تذلُّه، فمن أراد أن يذلَّه فقد خلع رِبقة الإِسلام من عنقه، وليس بمقبول منه توبةٌ حتى يسدَّ ثُلْمَتَه وليس بفاعل، ثم يعود فيكون فيمن يعزُّه، أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يغلبونا على ثلاث: (أن) نأمر بالمعروف، وننهي عن المنكر، ونُعلِّم الناس السُنن. قال الهيثمي: وفيه راوٍ لم يُسمَّ، وبقية رجاله ثقات.
قول ابن مسعود رضي الله عنه إِن الخلاف شر
وأخرح عبد الرزاق عن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر، وعمر، وعثمان - صَدْراً من خلافته - كانوا يصلُّون بمكة ومِنى ركعتين، ثم إن عثمان صلاها أربعاً، فبلغ ذلك ابن مسعود، فاسترجع ثم قام فصلَّى أربعاً. فقيل له: إسترجعت ثم صليت أربعاً؟ قال: الخلاف شر. كذا في الكنز.(2/231)
قول علي رضي الله عنه في الخلاف، وقوله في البدعة والجماعة والفرقة
وأخرج البخاري، وأبو عُبَيد في كتاب الأموال، والأصبهاني في الحجَّة عن علي رضي الله عنه قال: إقْضُوا كما كنتم تَقْضُون فإني أكره الإختلاف، حتى يكون للناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي، فكان ابن سيرين يرى أن عامة ما يروون عن علي كذب. كذا في المنتخب.
وأخرج العسكري عن سليم بن قيس العامري قال: سأل ابن الكوَّاء علياً رضي الله عنه عن السُّنة، والبِدعة، وعن الجماعة، والفُرقة. فقال: يا ابن الكواء، حفظت المسألة فأفهم الجواب: السنة - والله - سنّة محمد صلى الله عليه وسلم البدعة ما فارقها، والجماعة - والله - مجامعة أهل الحق وإِنْ قلّوا، والفُرقة مجامعة أهل الباطل وإِن كثروا. كذا في الكنز.
موقف الصحابة من الخلافة بعد وفاة النبي عليه السلام إجتماع الصحابة رضي الله عنهم على أبي بكر الصديق رضي الله عنه حديث وفاته عليه السلام وخطبة أبي بكر
أخرج البيهقي عن عُروة بن الزبير رضي الله عنهما قال: وأقبل أبو بكر رضي الله عنه من السُّنُح على دابته حتى نزل بباب المسجد، وأقبل مكروباً حزيناً فاستأذن(2/232)
في بيت إبنته عائشة رضي الله عنها فأذنت له. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توفي على الفراش والنِّسوة حوله، فخمَّرن وجوههن واستترن من أبي بكر لا ما كان من عائشة، فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فجثى عليه يقبِّله ويبكي ويقول: ليس ما يقول ابن الخطاب شيئاً، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده رحمة الله عليك يا رسول الله، ما أطيبك حياً وميتاً.
ثم غشَّاه بالثوب، ثم خرج سريعاً إِلى المسجد يتحطَّى رقاب الناس حتى أتى المنبر، وجلس عمر رضي الله عنه حين رأى أبا بكر رضي الله عنه مقبلاً إِليه. وقام أبو بكر إلى جانب المنبر ونادى الناس، فجلسوا وأنصتوا، فتشهَّد أبو بكر بما عَلِمه من التشهد، وقال: إن الله عزّ وجلّ نَعَى نبيَّه إلى نفسه وهو حيُّ بين أظهركم ونعاكم إلى أنفسكم، وهو الموت حتى لا يُبقي منكم أحد إلا الله عزّ وجلّ. قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} (آل عمران: 144) - الآية -. فقال عمر: هذه الآية في القرآن؟ والله ما علمت أن هذه الآية أُنزلت قبل اليوم - وقد قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم {إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ} (الزمر: 30) ؛ وقال الله تعالى: {كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (القصص: 88) ؛ وقال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ ذُو الْجَلْالِ وَالإكْرَامِ} (الرحمن: 26، 27) ؛ وقال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (آل عمران: 185) .
وقال: إن الله عمَّر محمداً صلى الله عليه وسلم وأبقاه حتى أقام دين الله، وأظهر أمر الله، وبلَّغ رسالة الله، وجاهد في سبيل الله، ثم توفَّاه الله على ذلك، وفد، ترككم على الطريقة فلن يَهلك هالك إلا من بعد البيِّنة والشِّفاء. فمن كان الله ربَّه(2/233)
فإنَّ الله حيّ لا يموت، ومن كان يعبد محمداً ويُنْزِله إلهاً فقد هلك إلهة. فاتقوا الله أيها الناس، واعتصموا بدينكم، وتوكلوا على ربك، فإن دين الله قائم، وإن كلمة الله تامّة، وإِنَّ الله ناصرٌ من نصره ومعزُّ دينه، وإِنَّ كتاب الله بين أظهرنا وهو النور والشفاء، وبه هدى الله محمداً صلى الله عليه وسلم وفيه حلال الله وحرامه. والله لا نبالي من أجلب علينا من خلق الله؛ إِنَّ سيوف الله لمسلولة ما وضعناها بعد، ولنجاهدنَّ من خالفنا كا جاهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يبغِينَّ أحد إلا على نفسه. ثم انصرف معه المهاجرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا في البداية.
خطبة عمر والبيعة العامة على يد أبي بكر
وأخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه أنه سمع خطبة عمر رضي الله عنه الأخيرة حين جلس على المنبر، وذلك الغد من يوم توفي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ـ وأبو بكر رضي الله عنه صامت لا يتكلم -. قال: كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدبِّرَنا - يريد بذلك أن يكون آخرهم - فإن يكُ محمد قد مات فإن الله قد جعل بين أظهركم نوراً تهتدون به، هدى الله محمداً صلى الله عليه وسلم وإن أبا بكر صاحبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وثاني إثنين، وإنَّه أولى المسلمين بأموركم، فقوموا فبايعوه.
وكانت طائفة قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بني ساعدة، وكانت بيعة العامة على المنبر. قال الزهري عن أنس: سمعت عمر يقول يومئذٍ لأبي بكر - رضي الله عنهم: إصعد المنبر، فلم يزل به حتى صعد المنبر، فبايعه عامة الناس.(2/234)
بيعة أبي بكر في السقيفة
وعند ابن إسحاق عن الزُّهري عن أنس رضي الله عنه قال: لما بُويع أبو بكر رضي الله عنه في السقيفة وكان الغد؛ جلس أبو بكر على المنبر فقال عمر رضي الله عنه فتكلم قبل أبي بكر، فحمد الله وثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أيها الناس، إني قد كنتُ قلتُ لكم بالأمس مقالة ما كانت، وما وجدتها في كتاب الله، ولا كانت عهداً عهدها إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكني (قد) كنت أرى أنَّ رسول الله سيدبر أمرنا - يقول: يكون آخرنا - وإنَّ الله قد أبقى فيكم كتابه الذي هدى به رسول الله، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه الله له، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم: صاحبِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وثاني إثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوه. فبايع الناس أبا بكر بَيْعة العامة بعد بَيْعة السقيفة.
ثم تكلم أبو بكر، فحمد الله وأثنى عليه با هو أهله، ثم قال: أما بعد أيها الناس: فإني قد وُلِّيت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني. الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أزيح علته إن شاء الله، والقويّ فيكم ضعيف (عندي) حتى آخذ منه الحق إن شاء الله، لا يَدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا يُشيع قوم قط الفاحشة إلا عمهم الله بالبلاء؛ أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله. كذا في البداية وقال: هذا إسناد صحيح.(2/235)
قول رجل في خلافة أبي بكر وخطبة عمر في ذلك وفي قصة سقيفة بني ساعدة
وأخرج أحمد عن ابن عباس أن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - رجع إلى رحله - قال ابن عباس: وكنت أقرىء عبد الرحمن بن عوف - فوجدني وأنا أنتظره، وذلك بمنى في آخر حِجّة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فقال عبد الرحمن بن عوف: إِن رجلاً أتى عمر بن الخطاب فقال: إن فلاناً يقول: لو قد مات عمر بايعت فلاناً (والله ما كانت بَيْعة أبي بكر إلا فَلْتة فتمَّت) . فقال عمر: إِني قائم العشية إن شاء الله في الناس فمحذِّرهم هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يَغْصِبوهم أمرهم. قال عبد الرحمن فقلت: يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، وإنهم الذين يغلبون على مجلسك إذا قمت في الناس، فأخشى أن تقول مقالة يَطير بها أولئك فلا يَعوها لا يضعوها مواضعها، ولكن حتى تَقْدَم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة، وتخلص بعلماء الناس وأشرافهم فتقول ما قلت متمكناً فيعُون مقالتك ويضعونها مواضعها. قال عمر رضي الله عنه: لئن قدمتُ المدينة صالحاً لأكلمنَّ بها الناس في أول مقام أقومه.
فلما قدمنا المدينة في عقب ذي الحجَّة - وكان يوم الجمعة - عجَّلت الروح صكَّة الأعمى. - قلتُ لمالك: وما صكَّة الأعمى؟ قال: إنه لا يبالي أي ساعة خرج لا يعرف الحرّ والبرد أو نحو هذا -. فوجدت سعيد بن زيد عند ركن المنبر الأيمن قد سبقني، فجلست حذاءه تحكُّ ركبتي ركبته. فلم أنشَب أن طلع عمر، فلما رأيته قلت: ليقولنَّ العشيّة على هذا المنبر مقالة ما قالها عليه أحد قبله. قال: فأنكر سعيد بن زيد ذلك، وقال: ما عسيت أن يقول ما لم يقل أحد. فجلس عمر على المنبر، فلما سكت المؤذن قام فأثنى على الله(2/236)
بما هو أهله، ثم قال: أما بعد أيها الناس، فإنِّي قائل مقالة وقد قُدِّر لي أن أقولها لا أدري لعلَّها بين يدي أجلي، فمن وعاها وعَقلَها فليحدِّث به حيث انتهت به راحلته، ومن لم يعها فلا أُحلُّ له أن يكذب عليَّ:
إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرَّجْم، فقرأناها ووعيناها وعقلناها ورجَم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: لا نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضلُّوا بترك فريضة قد أنزلها الله عزّ وجلّ؛ فالرجم في كتاب الله حقٌّ على من زنى إذا أحْصَن من الرجال والنساء إذ قامت البينة، أو كان الحَبَل، أو الإعتراف. ألا وإنَّا قد كنا نقرأ: «لا ترغبوا عن آبائكم فإنَّ كُفْراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم» ألا وإِنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تطروني كما أُطْرِيَ عيسى بن مريم - عليهما الصلاة والسلام - فإنما أنا عبدٌ، فقولوا: عبد الله ورسوله» .
وقد بلغني أن قائلاً منكم يقول: لو قد مات عمر بايعت فلاناً، فلا يغترَّن أمرؤ أن يقول: إنَّ بيعة أبي بكر رضي الله عنه كانت فلتة فتمَّت. ألا وإنها كانت كذلك؛ إلا أن الله وَقَى شرها، وليس فيكم اليوم من تَقَطَّعُ إليه الأعناق مثل أبي بكر، وإنه كان من خبرنا حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن علياً، والزبير ومن كان معهما تخلَّفوا في بيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخلَّف عنها الأنصار بأجمعها في سقيفة بني ساعدة، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت له: يا أبا بكر، إنطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار، فانطلقنا نؤمهم حتى لقيَنا رجلان صالحان فذَكَرا لنا الذي صنع القوم، فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلت: نريد إخواننا من الأنصار، فقالا: لا عليكم أن لا تقربوهم واقضُوا أمركم يا معشر المهاجرين. فقلت: والله لنأتينّهم. فانطلقنا حتى جئناهم(2/237)
في سقيفة بني ساعدة فإذا هم مجتمعون، وإذا بين ظهرانيهم رجل مُزَمَّل، فقلت: من هذا؟ قالوا: سعد بن عُبادة، فقلت: ما له؟ قالوا: وَجِعٌ.
فلما جلسنا قام خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله، وقال: أما بعد: فنحن أنصار الله وكتيبة الإِسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط نبينا، وقد دَفَت دافَّة منكم (قال وإذا هم يريدون أن يجتازونا من أصلنا ويغصبونا الأمر) ، فلما سكت أردت أن أتكلم - وكنت قد زودت مقالة أعجبتني أردت أن أقولها بين يدي أبي بكر وكنت أداري منه بعض الحد -. (فقال أو بكر: على رِسْلك يا عمر، فكرهت أن أغضبه فتكلم) - وهو كان أحكم مني وأوقر - فوالله ما ترك من كلمة أعجبتني من تزويري إلا قالها في بديهته (أو مثلها) أو أفضل (حتى) سكت. فقال:
أما بعد: فما ذكرتم من خير فأنتم أهله، وما تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيتُ لكم أحد هذين الرجلين (فبايعوا) أيهما شئتم؛ وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح، فلم أكره (شيئاً) مما قال غيرها. كان - والله - أن أُقدَّم فتُضرب عنقي لا يقرِّبُني ذلك إلى إثم أحبَّ إليّ أن أتأمَّر على قوم فيهم أبو بكر إلا (أن تغير نفسي عند الموت) . فقال قائل من الأنصار: أن جُذَيْلها المحكَّك، وعُذَيْقُها المرجّب. منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش(2/238)
- فقلت لمالك: ما يعني وأنا جذيلها المحكك (وعذيقها المرجب) ، قال: كأنه يقول: أنا داهيتها.
قال فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات حتى خشينا الإختلاف. فقلت: إبسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون، ثم بايعه الأنصار، ونزونا على سعد بن عبادة، فقال قائل منهم قتلتم سعداً، فقلت: قتل الله سعداً، قال عمر: أما والله ما وجدنا فيما حضرنا أمراً هو أرفق من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بَيْعة أن يُحدثوا بعدنا بَيْعة، فإما (أن) نبايعهم على ما لا نرضى، وإما أن نخالفهم فيكون فساد، فمن بايَع أميراً من غير مشورة المسلمين فلا بَيْعة له، ولا بَيْعة للذي بايعه تَغِرَّة أن يقتلا.
وذكر الزهري عن عروة رضي الله عنه أن الرجلين اللذين لقياهما: عُويم بن ساعدة، ومعن بن عدي. وعن سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن الذي قال: أنا جُذَيلها المحكك (وعذيقها المرجب) هو الحباب بن المنذر. رواه مالك ومن طريقه أخرج هذا الحديث(2/239)
الجماعة - كذا في البداية -. وأخرجه أيضاً البخاري، وأبو عبيد في الغرائب، والبيهقي، وابن أبي شيبة بنحوه مطوّلاً - كما في كنز العمال (3138 و 139) .
حديث ابن عباس فيما وقع في السقيفة من الكلام في الخلافة
وعند ابن أبي شيبة في حديث ابن عباس عن عمر رضي الله عنهم: أنه كان من شأن الناس أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي، فأُتينا فقيل لنا إِنّ الأنصار قد اجتمعت في سقيفة بني ساعدة مع سعد بن عبادة يبايعون، فقمت وقام أبو بكر، وأبو عبيدة بن الجراح نحوهم فَزِعين أن يُحدِثوا في الإِسلام. فلقينا رجلَين من الأنصار، رجلاً صدق: - عُويم بن ساعدة، ومعن بن عدي(2/240)
- فقالا: ين تريدون؟ قلنا: قومكم لِمَا بلغنا من أمرهم. فقالا: إرجعوا فإنَّكم لن تُخالفوا ولن يُؤتى بشيء تكرهونه. فأبينا إلا أن نمضي - وأنا أزوي كلاماً أن أُكلِّم به - حتى انتهينا إلى القوم، وإذا هم عكوف هنالك على سعد بن عبادة وهو على سرير له مريض.
فلما غشِيناهم تكلَّموا فقالوا: يا معشر قريش، منا أمير ومنك أمير. فقال حُبَاب بن المنذر: أنا جُذَيلها المحكَّك وعُذَيقها المرجَّب، إن شئتم - والله - رددناها جَذَعة. فقال أبو بكر: على رِسْلكم، فذهبت لأتكلَّم، فقال: أنصت يا عمر. فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا معشر الأنصار، إِنا - والله - ما نُنكر فضلكم، ولا بلاغَكم في الإِسلام، ولا حقَّكم الواجب علينا، ولكنَّكم قد عرفتم أنَّ هذا الحي من قريش بمنزلة من العرب فليس بها غيرهم. وأن العرب لن تجتمع إلا على رجل منهم؛ فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، فاتقوا الله ولا تصدَعوا الإِسلام، ولا تكونوا أول من أحدث في الإِسلام. ألا وقد رضيت لكم أحد، هذين الرجلين - لي ولأبي عبيدة بن الجراح - فأيهما بايعتم فهو لكم ثقة. قال: فوالله، لئن أُقتل ثم أُحيى، ثم أُقتل ثم أحيى في غير معصية أحبُّ إليَّ من أن أكون أميراً على قوم فيهم أبو بكر. ثم قلت: يا معشر الأنصار، يا معشر المسلمين، إنَّ أولى الناس بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده ثاني إثنين إذ هما في الغار - أبو بكر السبَّاق المبين. ثم أخذت بيده وبادرني رجل من الأنصار فضرب على يده قبل أن أضرب على يده. فتتابع الناس ومِيل عن سعد بن عبادة. كذا في كنز العمال.(2/241)
حديث ابن سيرين فيما وقع في السقيفة في أمر الخلافة
وعند ابن أبي شيبة أيضاً عن ابن سيرين رحمه الله أن رجلاً من زُرَيق قال: لمَّا كان ذلك اليوم خرج أبو بكر، وعمر - رضي الله عنهما - حتى أتَوا الأنصار. فقال يا معشر الأنصار، إنا لا ننكر حقكم ولا ينكر حقكم مؤمن، وإنا - والله - ما أصبنا خيراً إلا شركتمونا فيه، ولكن لا ترضى العرب ولا تقرّ إلا على رجل من قريش لأنهم أفصح الناس ألسنة، وأحسن الناس وجوهاً، وأوسط العرب داراً، وأكثر الناس شحمة في العرب، فهلمُّوا إلى عمر فبايعوه. فقالوا: لا. فقال عمر: فلم؟ فقالوا: نخاف الأَثَرة. فقال: أمَّا ما عشت فلا، بايعوا أبا بكر. فقال أبو بكر لعمر: أنت أقوى مني؛ فقال عمر: أنت أفضل مني. فقالها الثانية. فلما كانت الثالثة قال له عمر: إن قوي لك مع فضلك؛ فبايَعوا أبي بكر رضي الله عنه. وأتى الناس عند بَيْعة أبي بكر أبا عبيدة بن الجراح فقال: تأتوني وفيكم ثاني إثنين. كذا في الكنز.
تقديم الصحابة أبا بكر في الخلافة ورضاهم به والرد على من أراد شق عصاهم حديث ابن عساكر وقول أبي عبيدة في خلافة الصديق رضي الله عنه
أخرج ابن عساكر عن مسلم قال: بعث أبو بكر إلى أبي عبيدة - رضي الله عنهما - هلمَّ حتى أستخلفَك؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ لكل(2/242)
أمة أميناً، وأنت أمين هذه الأمة» . فقال أبو عبيدة: ما كنت وقدم رجلاً أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤمَّنا. كذا في الكنز. وأخرجه الحاكم عن مسلم البَطِين عن أبي البختري بنحوه وقال: صحيح الإِسناد ولم يخرِّجاه، وقال الذهبي: منقطع. اهـ. وأخرجه ابن عساكر، وابن شاهين وغيرهما عن علي بن كثير بنحوه - كما في كنز العمال.
حديث الإِمام أحمد وما قال أبو عبيدة وعثمان في خلافة الصدِّيق
وأخرج أحمد عن أبي البختري قال: قال عمر لأبي عبيدة - رضي الله عنهما - إبسط يدك حتى أبايعك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أنت أمين هذه الأمة» . فقال أبو عبيدة؛ ما كنت لأتقدَّم بين يدي رجل أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤمَّنا فأمنا حتى مات. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح إِلا أن أبا البختري لم يسمع من عمر اهـ، وأخرجه ابن عساكر أيضاً بنحوه - كما في الكنز. وأخرجه ابن سعد، وابن جرير عن إبراهيم التيمي بنحوه - كما في الكنز، وفي حديثه: فقال أبو عبيدة؛ ما رأيت لك فهَّة (قبلها) منذ أسلمت أتبايعني؟ وفيكم الصدِّيق، وثاني إثنين. وعند خيثمة الأطرابلسي عن حُمران قال عثمان بن عفان: إن أبا بكر الصديق أحقُّ الناس بها - يعني الخلافة - إِنَّه(2/243)
لصدِّيق، وثاني إثنين، وصاحبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا في كنز العمال.
إعتذار أبي بكر لقبول الخلافة وقول علي والزبير إِنه أحق الناس بالخلافة
وأخرج الحاكم والبيهقي عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: أن عبد الرحمن بن عوف كان مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأن محمد بن مسلمة كسَرَ سيف الزبير رضي الله عنه، ثم قام أبو بكر رضي الله عنه فخطب الناس واعتذر إليهم وقال: والله ما كنت حريصاً على الإِمارة يوماً ولا ليلة قط، ولا كنت فيها راغباً ولا سألتها الله في سرّ ولا علانية، ولكني أشفقت من الفتنة، وما لي في الإِمارة من راحة؛ ولكني قلِّدتُ أمراً عظيماً ما لي به طاقة ولا يدٌ إلا بتقوية الله عزّ وجلّ، ولوددتُ أنَّ أقوى الناس عليها مكاني اليوم. فقبل المهاجرون منه ما قال وما اعتذر به. وقال علي، والزبير - رضي الله عنهما -: وما غضبنا إلا لأنَّا أُخِّرنا عن المشاورة، وإنَّا نرى أبا بكر أحق الناس بها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إنَّه لصاحب الغار، وثاني إثنين، وإنا لنعرف شرفه وكِبَره، ولقد أمرَه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة بالناس وهو حيّ.
حديث ابن عساكر فيما وقع بين علي وأبي سفيان في شأن خلافة الصدِّيق
وأخرج ابن عساكر عن سُوَيد بن غَفْلة قال: دخل أبو سفيان على علي، والعباس - رضي الله عنهما - فقال: يا علي وأنت يا عباس، ما بال هذا الأمر(2/244)
في أذلّ قبيلة من قريش وأقلّها، والله لئن شئت لأملأنَّها عليه خيلاً ورجالاً. فقال له علي: لا والله ما أريد أن تملأها عليه خيلا ورجالاً، ولولا أنَّا رأينا أبا بكر لذلك أهلاً ما خلَّيناه وإياها. يا أبا سُفيان إن المؤمنين قومٌ نَصَحَة بعضهم لبعض، متوادّون وإن بعدت ديارهم وأبدانهم. وإن المنافقين قوم غَشَشَة بعضهم لبعض. كذا في الكنز. وهكذا أخرجه أبو أحمد الدِّهْقان بمعناه وزاد في المنافقين: وإن قربت ديارهم وأبدانهم قوم غششة بعضهم لبعض، وإنّا قد بايعنا أبا بكر وكان لذلك أهلاً. كذا في الكنز.
حديث عبد الرزاق والحاكم فيما جرى بين علي وأبي سفيان
وأخرج عبد الرزاق عن ابن أبجر قال: لما بُيع لأبي بكر الصديق جاء أبو سفيان إلى علي فقال: أغلبكم على هذا الأمر أقلُّ بيت في قريش؟ أمَا والله لأملأنها خيلاً ورجالاً (إن شئت) . فقال علي: ما زلت عدوّاً للإِسلام وأهله فما ضرَّ ذلك الإِسلام وأهله شيئاً، إنا رأينا أبا بكر لها أهلاً. كذا في الإستيعاب. وأخرجه الحاكم عن مُرَّة الطيِّب قال: جاء أبو سفيان بن حرب إلى علي بن أبي طالب فقال: ما بال هذا الأمر في أقل قريش قلَّة، وأذلها ذلَّة - يعني أبا بكر - والله لئن شئت لأملأنَّها عليه خيلاً ورجالاً. فقال علي: لطال ما عاديت الإِسلام وأهله يا أبا سفيان فلم يضرَّه ذلك شيئاً؛ إنا وجدنا أبا بكر لها أهلاً.(2/245)
ما وقع بين عمر بن الخطاب وخالد بن سعيد في شأن خلافة الصدِّيق
وأخرج الطبري عن صخر حارس النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان خالد بن سعيد بن العاص باليمن زمن النبي صلى الله عليه وسلم وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو بها، وقدم بعد وفاته بشهر وعليه جبّة ديباج، فلقي عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهما -، فصاح عمر بمن يليه؛ مزِّقوا عليه جبته أيلبس الحرير وهو في رجالنا في السِّلْم مهجور؟، فمزقوا جبته. فقال خالد: يا أبا الحسن، يا بني عبد مناف، أغُلِبتم عليها؟ فقال علي: أمغالبة ترى أم خلافة قال: لا يغالِب على هذا الأمر أولى منكم يا بني عبد مناف. وقال عمر لخالد: فضَّ الله فاك والله لا يزال كاذب يخوض فيما قلت ثم لا يضر إلا نفسه - الحديث. وأخرجه سيف، وابن عساكر عن صخر مختصراً - كما في الكنز.
حديث أم خالد وما وقع بين أبي بكر وخالد بن سعيد
وأخرج ابن سعد عن أم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص قالت: قدم أبي من اليمن إلى المدينة بعد أن بويع لأبي بكر، فقال لعلي، وعثمان - رضي الله عنهما -: أرضيتم بني عبد مناف أن يلي هذا الأمر عليكم غيركم؟ فنقلها عمر إلى أبي بكر فلم يحملها أبو بكر على خالد وحملها عمر عليه، وأقام خالد ثلاثة أشهر لم يبايع أبا بكر. ثم مرّ عليه أبو بكر بعد ذلك مُظْهِراً وهو في داره فسلَّم عليه، فقال له خالد: أتحب أن أبايعك؟ فقال أبو بكر: أحبُّ أن تدخل في صُلحِ ما دخل فيه المسلمون. فقال: موعدك العشيّة(2/246)
أبايعك، فجاء وأبو بكر على المنبر فبايعه. وكان رأي أبي بكر فيه حسناً، كان معظِّماً له؛ فلما بعث أبو بكر الجنود على الشام عقد له على المسلمين، وجاء باللواء إلى بيته، فكلم عمر أبا بكر فقال: تولِّي خالداً وهو القائل ما قال فلم يزل به حتى أرسل أبا أرْوى الدَّوْسي فقال: إن خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك: أردد إلينا لواءنا، فأخرجه فدفعه إليه، وقال: والله ما سرتنا ولا يتكم، ولا ساءنا عزلكم، وإن المليم لغيرك، فما شعرت إلا بأبي بكر داخل على أبي يتعذر إليه، ويعزم عليه أن لا يذكر عمر بحرف. فوالله ما زال أبي يترحم على عمر حتى مات.
خروج أبي بكر للجهاد وحيداً وقول علي في ذلك
وأخرج السَّاجي عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرج أبي شاهراً سيفه راكباً راحلته إلى ذي القَصَّة، فجاء علي بن أبي طالب فأخذ بزمام راحلته وقال: إلى أين يا خليفة رسول الله؟ أقول لك ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد: شِمْ سيفك ولا تفجعنا بنفسك» فوالله لئن أصبنا بك لا يكون للإِسلام بعدك نظام أبداً؛ فرجع وأمضى الجيش. كذا في الكنز. وأخرجه الدارقطني أيضاً بنحوه - كما في الإِصابة.
رد الخلافة على الناس خطبة أبي بكر في الخلافة وقوله: ولا حرصت عليها ليلة ولا يوماً قط
أخرج أبو نُعيم في فضائل الصحابة عن أبي بكر رضي الله عنه أنه(2/247)
قال: يا أيها الناس، إن كنتم ظننتم أني أخذت خلافتكم رغبة فيها أو إرادة إستئثار عليكم وعلى المسلمين، فلا والذي نفسي بيده ما أخذتها رغبة فيها ولا إستئثاراً عليكم ولا على أحد من المسلمين، ولا حرصت عليها ليلة ولا يوماً قط، ولا سألت الله سراً ولا علانية، ولقد تقلَّدت أمراً عظيماً لا طاقة لي به إلا أن يُعين الله؛ ولوددت أنَّها إلى أيِّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يعدل فيها. فهي إليكم ردّ، ولا بَيْعة لكم عندي، فادفعوا لمن أحببتم فإنما أنا رجل منكم. كذا في الكنز.
جواب الصحابة على أبي بكر وقولهم: أنت - والله - خيرنا
وعند الطبراني عن عيسى بن عطية قال: قام أبو بكر رضي الله عنه الغد حين بويع فخطب الناس، فقال: يا أيها الناس، إني قد أَقَلْتُكم رأيكم، إني لست بخيركم فبايعوا خيركم، فقاموا إليه فقالوا: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت - والله - خيرنا. فقال: يا أيها الناس، إنَّ الناس قد دخلوا في الإِسلام طَوْعاً كَرْهاً، فهم عُوَّاذ وجيران الله، فإن استطعتم أن لا يطلُبَنَّكم الله بشيء من ذمته فافعلوا، إن لي شيطاناً يحضرني، فإذا رأيتموني قد غضبت فاجتنبوني لا أُمَثِّل بأشعاركم وأبشاركم. يا أيها الناس، تفقَّدوا ضرائب غِلمانكم، إنَّه لا ينبغي للحم نبت من سُحْتٍ، أن يدخل الجنة، ألا وراعوني بأبصاركم فإن استقمت فأعينوني، وإن زُغْت فأقيموني، وإن أطعت الله فأطيعوني، وإن عصيت الله فاعصوني، كذا في الكنز. قال الهيثمي: في عيسى بن سليمان وهو(2/248)
ضعيف، وعيسى بن عطية لم أعرفه. انتهى.
جواب عليّ على أبي بكر وقوله له: لا نقيلك ولا نستقيلك
وعند العُشّاري عن أبي الجحَّاف قال: لما بُويع أبو بكر رضي الله عنه أغلق بابه ثلاثة أيام يخرج إليهم في كل يوم فيقول: أيها الناس، قد أقلتكم بيعتكم فبايعوا من أحببتم. وكل ذلك يقوم إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيقول: لا نُقيلك ولا نستقيلك وقد قدّمك رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن ذا يؤخرك؟ كذا في الكنز. وأخرجه ابن النجار عن زيد بن علي عن آبائه رضي الله عنهم قال: قام أبو بكر رضي الله عنه على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هل من كاره فأقيله؟ - ثلاثاً يقول ذلك - فعند ذلك يقوم علي بن أبي طالب فيقول: لا والله لا نُقيلك ولا نستقيلك، من ذا الذي يؤخرك وقد قدّمك رسول الله صلى الله عليه وسلم. كذا في الكنز.
قبول الخلافة لمصلحة دينية حديث ابن أبي رافع في الخلافة وما وقع بينه وبين أبي بكر فيها
أخرج ابن راهَوَيْه، والعدَني، والبَغَوي، وابن خُزيمة عن رافع بن أبي رافع قال: لما استخلف الناس أبا بكر رضي الله عنه قلت: يا صاحبي الذي(2/249)
أمرني أن لا أتأمر على رجلين، فارتحلت فانتهيت إلى المدينة فتعرَّضت لأبي بكر فقلت له: يا أبا بكر أتعرفني؟ قال: نعم. قلت: أتذكر شيئاً قلته لي؛ أن لا أتأمَّر على رجلين وقد وَلِيتَ أمر الأمة؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قُبض والناس حديثو عهد بكفر، فخفت عليهم أن يرتدوا وأن يختلفوا؛ فدخلت فيها وأنا كاره، ولم يزل بي أصحابي. فلم يزل يعتذر حتى عذرته. كذا في الكنز.
الحزن على قبول الخلافة قول أبي بكر لعمر: أنت كلفتني هذا الأمر
أخرج ابن راهَوَيْه، وخيثمة في فضائل الصحابة وغيرهُما عن رجل من آل ربيعة أنه بلغه: أن أبا بكر رضي الله عنه حين استُخلف قعد في بيته حزيناً، فدخل عليه عمر رضي الله عنه، فأقبل عليه يلومه وقال: أنت كلّفتني هذا الأمر، وشكا إليه الحُكْمَ بين الناس. فقال له عمر: أوَ اعلمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الوالي إذا اجتهد فأصاب الحق فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ الحق فله أجر واحد» ؛ فكأنه سهَّل على أبي بكر رضي الله عنه، كذا في الكنز.
قول أبي بكر عند وفاته لعبد الرحمن بن عوف
وأخرج أبو عُبيد، والعُقَيلي، والطبراني، وابن عساكر، وسعيد بن منصور، وغيرهم عن عبد الرحمن بن عوف أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - قال له في مرض وفاته: إني لا آسى على شيء إلا على ثلاث فعلتهن ووددت(2/250)
أني لم أفعلهن. وثلاث لم أفعلهن ووددت أني فعلتهن. وثلاث وددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن - فذكر الحديث. وفيه: ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين: أبي عبيدة بن الجراح أو عمر، فكان أميراً وكنت وزيراً - وذكر: ووددت أني حين وجهت خالداً إلى الشام كنت وجهت عمر إلى العراق، فأكون قد بسطت يديَّ يميناً وشمالاً في سبيل الله. وأما الثلاث التي وددت أني سألت عنهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوددت أني سألته فيمن هذا الأمر فلا يُنازَعُه أهله، وددت أني كنت سألته هل للأنصار في هذا الأمر شيء؟ كذا في الكنز. قال الهيثمي: وفيه علوان بن داود البجلي، وهو ضعيف وهذا الأثر مما أُنكر عليه.
الإستخلاف مشاورة أبي بكر في شأن الخلافة أصحابه عند الوفاة
أخرج ابن سعد عن أبي سَلَمة بن عبد الرحمن وغيره أن أبا بكر الصدِّيق رضي الله عنه لما استُعِزَّ به دعا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وقال: أخبرني عن عمر بن الخطاب؟ فقال عبد الرحمن: ما تسألني عن أمر إلا وأنت أعلم به مني. فقل أبو بكر: وإنْ. فقال عبد الرحمن: هو - والله - أفضل مَنْ رأيُك فيه. ثم دعا عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال: أخبرني عن عمر؟ فقال: أنت أخبرنا به. فقال: على ذلك يا أبا عبد الله فقال عثمان بن عفان:(2/251)
اللهمَّ علمي به أنّ سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله. فقال أبو بكر: يرحمك الله، والله لو تركتُه ما عدوتك؛ وشاور معهما سعيد بن زيد أبا الأعور، وأسَيْد بن الحُضَير وغيرهما من المهاجرين والأنصار. فقال أُسَيد: اللهمّ أعلمه الخَيْرة بعدك يرضى للرضى، ويسخط للسخط. الذي يُسرُّ خيرٌ من الذي يُعلِن، ولم يَلِ هذا الأمر أحد أقوى عليه منه.
ما وقع بين أبي بكر وبين عبد الرحمن وعثمان في إستخلاف عمر
وسمع بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بدخول عبد الرحمن، وعثمان على أبي بكر - رضي الله عنهم - وخَلْوتهما به، فدخلوا على أبي بكر فقال له قائل منهم: ما أنت قائل لربك إذا سألك عن إستخلافك عمر علينا وقد ترى غِلظته؟ فقال أبو بكر: أجلسوني، أبالله تُخوِّقوني، خاب من تزوَّد من أمركم بظلم أقول: اللهم إستخلفت عليهم خير أهلك.e أبلغ عني ما قلت لك مَنْ وراءك، ثم اضطجع ودعا عثمان بن عفان، فقال أكتب:
كتاب أبي بكر رضي الله عنه في إستخلاف عمر ووصيته له وللناس
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده من الدنيا خارجاً منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلاً فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدُق الكاذب: إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا وإِني لم آلُ الله ورسولَ ودينَه ونفسي وإِياكم خيراً، فإن عدل فذلك ظنِّي به، وعلمي فيه؛ وإن بدّل فلكل امرىء ما اكتسب (من الإِثم) . الخيرَ أردتُ، ولا أعلم الغيب {ظُلِمُواْ وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ} (الشعراء: 227) والسلام عليكم ورحمة الله.(2/252)
ثم أمر بالكتاب فختمه. ثم قال بعضهم: لما أملَى أبو بكر رضي الله عنه صَدْر هذا الكتاب بقي ذِكْرُ عمر، فذُهب به قبل أن يُسمّي أحداً. فكتب عثمان رضي الله عنه: إني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب. ثم أفاق أبو بكر فقال: إقرأ عليّ ما كتبت. فقرأ عليه ذكر عمر، فكبَّر أبو بكر وقال: أراك خفت إن أقبلت نفسي في غشيتي تلك فتختلف، فجزاك الله عن الإِسلام وأهله خيراً، والله إِنْ كنت لها لأهلاً. ثم أمره فخرج بالكتاب مختوماً ومعه عمر بن الخطاب وأُسَيد بن سعيد القرظي، فقال عثمان للناس: أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ فقالوا: نعم. وقال بعضهم: قد علمنا به - قال ابن سعد: عليٌّ القائل - وهو عمر. فأقرُّوا بذلك جميعاً. ورضوا به وبايعوا.
ثم دعا أبو بكر عمر خالياً وأوصى به بما أوصاه به، ثم خرج من عنده فرفع أبو بكر يديه مدّاً فقال؛ اللهمَّ إني لم أُرِدْ بذلك إلا صلاحهم، وخفت عليهم الفتنة، فعملت فيهم بما أنت أعلم به واجتهدت لهم رأيي، فولَّيت عليهم خيرهم، وأقواهم عليهم، وأحصرهم على ما أرشدهم، وقد حضرني من أمرك ما حضر فأخلفني فيهم، فهم عبادك ونواصيهم بيدك أصلِحْ لهم وإليَهم، واجعله من خلفائك الراشدين يتبع هَدْي نبي الرحمة وهَدْي الصالحينَ بعده، وأصلح له رعيته. وكذا في الكنز.
وعند ابن عساكر سويف عن الحسن رضي الله عنه قال: لما ثَقُل أبو بكر رضي الله عنه إستبان له في نفسه جمع الناس إليه فقال لهم: إِنه قد نزل بي ما قد ترون، ولا أظنني إِلّ لِمماتي، وقد أطلق الله تعالى أيْمانكم من(2/253)
بَيْعتي، وحلَّ عنكم عَقْدي، وردَّ عليكم أمركم: فأمِّروا عليكم من أحببتم، فإنَّكم إن أمَّرتم في حياةٍ مني كان أجدر أن لا تختلفوا بعدي. فقاموا في ذلك وخَلَّوه تخلية فلم تستقم لهم، فرجعوا إليه فقالوا: رَهْ لنا يا خليفة رسول الله. قال: فلعلكم تختلفون. قالوا: لا. فقال: فعليكم عهد الله على الرضا. قالوا: نعم. قال: فأمهلوني أنظر لله ولدينه ولعباده. فأرسل أبو بكر إلى عثمان فقال: أشر عليَّ برجل، فواا إنك عندي لها لأهل وموضع، فقال: عمر (فقال) : أكتب فكتب حتى انتهى إلى الإِسم فغُشي عليه فأفاق، فقال: أكتب عمر.
جواب أبي بكر لطلحة إذ خالفه في استخلاف عمر
وعند الّلأَلكائي عن عثمان بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - قال: لما حضرت أبا بكر الصديق الوفاةُ دعا عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فأملى عليه عهده، ثم أُغمِي على أبي بكر قبل أن يملي أحداً، فكتب عثمان: عمر بن الخطاب، فأفاق أبو بكر فقال لعثمان: كتبتَ أحداً؟ فقال: ظننتك لمآبك وخشيت الفُرقة فكتبت عمر بن الخطاب. فقال: يرحمك الله أما لو كتبت نفسك لكنت لها أهلاً. فدخل عليه طلحة بن عبيد الله فقال: أنا رسول مَنْ ورائي إليك، يقولون: قد علمت غِلظة عمر علينا في حياتك فكيف بعد وفاتك إذا أفضيت إليه أُمورنا؟ والله سائلك عنه، فانظر ما أنت قائل. فقال: أجلسوني. أبالله تخوِّقوني، قد خاب أمرؤ ظنَّ من أمركم وهماً، إذا سألني الله قلت: إستخلفت على أهلك خيرهم لهم، فأبلْغهم هذا عنِّي.(2/254)
حديث أم المؤمنين عائشة في هذا الأمر
وعند ابن سعد عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما حضر أبا بكر الوفاة إستخلف عمر، فدخل عليه علي، وطلحة - رضي الله عنهما - فقالا: من إستخلفت؟ قال: عمر. قالا: فماذا أنت قائل لربك؟ قال: أبالله تُفْرِقاني، لأنا أعلم بالله وبعمر منكما، أقول: إستخلفت عليهم خير أهلك. كذا في الكنز. وأخرجه البيهقي بنحوه عن عائشة رضي الله عنها، وابن جرير بمعناه عن أسماء بنت عُمَيس رضي الله عنها.
حديث زيد بن الحارث في هذا الأمر
وأخرج ابن أبي شيبة عن زيد بن الحارث أن أبا بكر رضي الله عنه حين حضرهُ الموتُ أرسل إلى عمر يستخلفه، فقال الناس: تستخلف علينا عمر فظاً غليظاً؟ فلو قد وعلينَا كان أفظّ وأغلظ، فا تقول لربك إذا لقيته وقد استخلفت علينا عمر؟ فقال أبو بكر: أبربِّي تخوِّفوني؟ أقول: اللهمّ إستخلفت عليهم خير أهلك. كذا في الكنز.
جعل الأمر شورى بين المستصلحين له حديث مقتل عمر وجعله الأمر في النفر الستة وثناء ابن عباس عليه
أخرج الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما طعن أبو لؤلؤة(2/255)
عمر رضي الله عنه طعنه طعنتين، فظن عمر أنَّ له ذنباً في الناس لا يعلمه، فدعا ابن عباس رضي الله عنهما - وكان يحبه ويدنيه ويسمع منه - فقال: أحب أن نعلم: عن ملأ من الناس كان هذا؟ فخرج ابن عباس فكان لا يمر بملأ من الناس إلا وهم يبكون، فرجع إلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين، ما مررتُ على ملأ إلا رأيتهم يبكون، كأنهم فقدوا اليوم أبكار أولادهم. فقال من قتلني؟ فقال: أبو لؤلؤة المجوسي عبد المغيرة بن شعبة. قال ابن عباس: فرأيت البشْر في وجهه، فقال: الحمد لله الذي لم يبتلني أحد يحاجّني بقول لا إله إلا الله. أما إِني قد نهيتكم أن تجلبوا إلينا من العلوج أحداً فعصيتموني.
ثم قال: أدعوا لي إِخواني. قالوا: ومن؟ قال: عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنهم - فأرسل إليهم، ثم وضع رأسه في حِجْري. فلما جاؤوا قلت: هؤلاء قد حضروا، قال: نعم، نظرت في أمر المسلمين فوجدتكم - أيها الستة - رؤوس الناس وقادتهم، ولا يكون هذا الأمر إِلا فيكم، ما استقمتم يستقم أمر الناس، وإن يكن إختلاف يكن فيكم - فما سمعته ذكر الإختلاف والشقاق وإِن يكن؛ ظننت أنَّه كائن، لأنه قلَّما قال شيئاً إلا رأيتُه ثم نزفه الدم، فهمسوا بينهم حتى خشيت أن يبايعوا رجلاً منهم، فقلت: إِن أمير المؤمنين حيّ بعد ولا يكون خليفتان ينظر أحدهما إلى الآخر. فقال: إحملوني فحملناه، فقال: تشاوروا ثلاثاً، ويصلِّي بالناس صُهَيب. قالوا: من نشاور يا أمير المؤمنين؟ قال: شاوروا المهاجرين والأنصار وسَرَاة من هنا من الأجناد.
ثم دعا بشَرْبة من لبن فشرب، فخرج بياض اللبن من الجرحين، فعرف أنَّه الموت، فقال: الآن لو أنَّ لي الدنيا كلَّها لافتديت بها من هول المُطَّلَع، وما ذاك - والحمد لله - أن أكون رأيت إلا خيراً. فقال (ابن عباس) وإن قلت(2/256)
فجزاك الله خيراً، أليس قد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزَّ الله بك الدين والمسلمين إِذ يخافون بمكة، فلما أسلمت كان إِسلامك عزَّاً، وظهر بك الإِسلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهاجرت إلى المدينة فكانت هجرتك فتحاً، ثم لم تَغِب عن مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتال المشركين من يوم كذا ويوم كذا. ثم قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راضٍ، فوازرت الخليفة بعده على منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربت بمن أقبل على من أدبر حتى دخل الناس في الإِسلام طوعاً وكرهاً. ثم قُبض الخليفة وهو عنك راضٍ. ثم وَلِيت بخير ما وليَ الناس، مصَّرَ الله بك الأمصار، وجبى بك الأموال، ونفى بك العدو، وأدخل الله بك على كل أهل بيت من توسِعتهم في دينهم وتوسِعتهم في أرزاقهم؛ ثم ختم لك بالشهادة؛ فهنيئاً لك.
فقال: والله إنّ المغرور من تَغرونه، ثم قال: أتشهد لي يا عبد الله عند الله يوم القيامة؟ فقال: نعم، فقال: اللهمَّ لك الحمد، ألصِق خدي بالأرض يا عبد الله بن عمر فوضعته من فخذي على ساقي فقال: ألصق خدي بالأرض، فترك لحيته وخدَّه حتى وقع بالأرض، فقال: ويلك وويلَ أمك يا عمر إن لم يغفر الله لك يا عمر ثم قُبض رحمه الله. فلما قُبض أرسلوا إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فقال: لا آتيكم إن لم تفعلوا ما أمرك به من مشاورة المهاجرين والأنصار وسَراة من هنا من الأجناد. قال لحسن - وذُكر له فعل عمر رضي الله عنه عند موته وخشيته من ربه - فقال: هكذا المؤمن جمع إحساناً وشفقة، والمنافق جمع إساءة وغرَّة، والله ما وجدت فيما مضى ولا فيما بقي عبداً إزداد إساءة إلا إزداد غرَّة. قال الهيثمي: وإسناده حسن.(2/257)
حديث ابن سعد في دَيْن عمر ودفنه مع صاحبيه واستخلافه النفر الستة
وأخرج بن سعد، وأبو عبيد، وابن أبي شيبة، والبخاري، والنِّسائي وغيرهم عن عمرو بن ميمون - فذكر الحديث في قصة شهادة عمر رضي الله عنه - وفيه: فقال لعبد الله بن عمر: أنظر ما عليَّ من الدَّين فأحسبه، فقال: ستة وثمانون ألفاً. فقال: إِن وفَى بها مال آل عمر فأدِّها عني من أموالهم، وإلا فسَلْ بني عدي بن كعب، فإن تفِ أموالهم وإِلا فسَلْ قريشاً، ولا تعْدُهم إلى غيرهم فأدِّها عني. إذهب إلى عائشة أم المؤمنين فسلِّم وقل: يستأذن عمر بن الخطاب - ولا تقل: أمير المؤمنين فإني لست اليوم بأمير المؤمنين - أن يدفن مع (صاحبيه) . فأتاها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فوجدها قاعدة تبكي فسلَّم ثم قال: يستأذن عمر بن الخطاب أن يُدفن مع (صاحبيه) . قالت: قد كنت - والله - أريده لنفسي، ولأوثرنَّه اليوم على نفسي. فلما جاء قال: ما لديك؟ قال: أذنت لك. فقال عمر: ما كان شيء بأهمَّ عندي من ذلك، ثم قال؛ إذا أنا متُّ فاحملوني على سريري، ثم استأذن فقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت لك فأدخلني وإن لم تأذن فردَّني إلى مقابر المسلمين.
فلا حُمل كأنَّ الناس لم تصبهم مصيبة إلا يومئذٍ، فسلَّم عبد الله بن عمر، فقال: يستأذن عمر بن الخطاب فأذنت له (فدفن رحمه الله) حيث أكرمه (الله مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر) . فقالوا له حين حضره الموت: إستخلف،(2/258)
فقال: لا أجد أحداً أحقّ بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، فأيهم إستخلفوا فهو الخليفة بعدي، فسمَّى علياً، وعثمان، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعداً - رضي الله عنهم - فإن أصابت الإِمرة سعداً فذاك، وإلا فأيُّهم إستخلف فليستعن به، فإني لم أنزعه عن عجز ولا خيانة، وجعل عبد الله يشاورونه معهم وليس له من الأمر شيء. إجتمعوا قال عبد الرحمن بن عوف: إجعلوا أمركم إلى ثلاثة نفر، فجعل الزبير أمره إلى عليٌّ، وجعل طلحة أمره إلى عثمان، جعل سعد أمره إلى عبد الرحمن. فأتمر أولئك الثلاثة حين جُعل الأمر لهم. فقال عبد الرحمن: أيكم يتبرأ من الأمر، ويجعل الأمر ليّ؟ ولكم الله عليَّ أن لا آلو عن أفضلكم وخيركم للمسلمين. قالا: نعم، فخَلا بعليِّ فقال: إن لك من القرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والتقدم، ولي الله عليك لئن أستُخلف لتعدلنَّ ولئن إستخلفتُ عثمان لتسمعنَّ ولتطيعنَّ. قال: نعم. وخلا بعثمان فقال له مثل ذلك، فقال عثمان؛ نعم. ثم قال لعثمان: إبسط يدك يا عثمان، فبسط يده، فبايعه وبايعه عليٌّ والناس.
حديث ابن أبي شيبة وابن سعد في هذا الشأن أيضا
وعند ابن أبي شيبة، وابن سعد عن عمرو أيضاً أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما حُضر قال: أدعو لي علياً، وطلحة، والزبير، وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعداً - رضي الله عنهم - فلم يكلَّمأحداً منهم إلا علياً، وعثمان. فقال لعلي: يا علي، لعلَّ هؤلاء النفر يعرفون لك قرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وما آتاك الله من العلم والفقه، فاتَّقِ الله إن وليت هذا الأمر، فلا ترفعنَّ بني فلان على رقاب الناس. وقال لعثمان: يا عثمان، لعلَّ هؤلاء القوم(2/259)
يعرفون لك صهرك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنَّك وشرفك، فإن أنت ولِّيت هذا الأمر فاتَّقِ الله ولا ترفع بني فلان على رقاب الناس. وقال: أدعو لي صُهَيباً، فقال: صلِّ بالناس ثلاثاً، وليجتمع هؤلاء الرهط في بيت، فإن اجتمعوا على رجل فاضربوا رأس من خالفهم.
وعند ابن سعد عن أبي جعفر قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأصحاب الشورى: تشاوروا في أمركم، فإن كان إثنان، وإثنان، وإثنان فارجعوا في الشورى، وإن كان أربعة وإثنان فخذوا صنف الأكثر. وعن أَسْلمَ عن عمر قال: وإن اجتمع رأي ثلاثة وثلاثة فاتبعوا صنف عبد الرحمن واسمعوا وأطيعوا.
وعن أنس رضي الله عنه قال: أرسل عمر بن الخطاب إلى أبي طلحة - رضي الله عنه - قبل أن يموت بساعة، فقال: يا أبا طلحة، كن في خمسين من قومك من الأنصار مع هؤلاء النفر أصحاب الشورى، فإنهم فيما أحسب سيجتمعون في بيت أحدهما، فقم على ذلك الباب بأصحابك، فلا تترك أحداً يدخل عليهم، ولا تتركم يمضي اليوم الثالث حتى يؤمِّروا أحدهم، اللهمَّ أنت خليفتي (عليهم) . كذا في الكنز (3156 - 157) .
من يتحمل الخلافة خطبة أبي بكر رضي الله عنه في ذلك
أخرج بن عساكر عن عاصم قال: جمع أبو بكر رضي الله عنه الناس(2/260)
وهو مريض فأمر من يحمله إلى المنبر، فكانت آخرَ خطبة خطب بها، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
يا أيها الناس، إحذروا الدنيا ولا تثقوا بها (فإنها) غرَّارة، وآثروا الآخرة على الدنيا فأحبوها، فبحب كل واحدة منهما تبغض الأخرى؛ وإِن هذا الأمر الذي هو أملك بنا لا يصلح آخره إِلا بما صلح به أوله، فلا سيحمله إِلا أفضلكم مقدرة، وأملككم لنفسه، أشدكم في حال الشدة، وأسلسكم في حال اللين، وأعلمكم برأي ذوي الرأي، لا يتشاغل بما لا يعنيه، ولا يحزن بما لا ينزل به، ولا يستحيي من التعلم، لا يتحير عند البديهة، قوي على الأموال، ولا يخون بشيء منها حدّة بعدوان ولا يقصِّر، يرصد لما هو آتٍ، عتاده من الحذر والطاعة - وهو عمر بن الخطاب.
ثم نزل كذا في كنز العمال.
صفات الخليفة كما يراها عمر رضي الله عنه
وأخرج ابن سعد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خدمت عمر رضي الله عنه خدمة لم يخدمها أحد من أهل بيته، ولطفت به لطفاً لم يلطفه أحد من أهله؛ فخلَت به ذات يوم في بيته - وكان يجلسني ويكرمني - فشهق شهقة ظننت أنَّ نفسه سوف تخرج منها، فقلت: أمن جزع يا أمير المؤمنين؟ قال: من جزع. قلت: وماذا؟ فقال: إقتربْ، فاقتربت. فقال: لا أجد لهذا الأمر أحداً فقلت: وأين أنت عن فلان، وفلان، وفلان، وفلان، وفلان، وفلان - فسمَّى له الستة أهل الشورى - فأجابه في كل واحد منهم بقولٍ، ثم قال: إنه لا يصلح لهذا الأمر لا قويّ في غير عنف، ليِّن في غير ضعف، جواد من غير سرف، ممسك في غير بخل.(2/261)
وعند أبي عُبيد في الغريب، والخطيب في رواة مالك قال: إني لجالس مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات يوم إذ تنفَّس نفسة ظننت أنَّ إضلاعه قد تفرَّجت. فقلت: يا أمير المؤمنين ما أخرج هذا عنك إلا شرّ. قال: شر، إِني لا أدري إلى من أجعل هذا الأمر بعدي. ثم التفت إليّ فقال: لعلك ترى صاحبك لها أهلاً. قلت: إنه لأهل ذلك في سابقته فضله. قال: إنه لكما قلت، ولكنه امرؤ فيه دُعابة - فذكره إلى أن قال: إنَّ هذا الأمر لا يصلحه إلا الشديد في غير عنف، الليِّن في غير ضعف، الجواد في غير سرف، الممسك في غير بخل. فكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: ما اجتمعت هذه الخصال إلا في عمر رضي الله عنه.
وعند ابن عساكر قال: خدمت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكنت له هائباً ومعظِّماً، فدخلت عليه ذات يوم في بيته وقد خلا بنفسه، فتنفَّس نفساً ظننت أنّ نفسه خرجت، ثم رفع رأسه إلى السماء فتنفَّس الصُعَداء. قال: فتحاملت وتشدّدت وقلت: والله لأسألنَّه فقلت: والله ما أخرج هذا منك إلا همٌّ يا أمير المؤمنين. قال: هم رضي الله عنه - والله - هم شديد هذا الأمر لم أجد له موضعاً - يعني الخلافة -. ثم قال: لعلَّك تقول: إن صاحبك لها - يعني علياً رضي الله عنه - قال قلت: يا أمير المؤمنين، أليس هو أهلَها في هجرته، وأهلها في صحبته، وأهلها في قرابته؟ قال: هو كما ذكرت، لكن رجل فيه دعابة - فذكره إلى أن قال: إن هذا الأمر لا يحمله إلا الليِّن في غير ضعف، والقويّ في غير عنف، والجواد في غير سَرَف، والممسك في غير بخل. قال: وقال عمر رضي الله عنه: لا يطيق هذا الأمر إلا رجل لا يصانع ولا يضارع، ولا يتَّبع المطامع؛ لا يطيق أمر الله إلا رجل لا يتكلم بلسانه كلمة لا ينتقض عزمه، ويحكم بالحق على حزبه - وفي الأصل - على وجوبه. كذا في(2/262)
الكنز (3158 - 159) .
وعند عبد الرزاق عن عمر رضي الله عنه قال: لا ينبغي أن يلي هذا الأمر إلا رجل فيه أربع خصال: اللين في غير ضعف، والشدَّة في غير عنف، والإِمساك في غير بخل، والسماحة في غير سَرَف؛ فإن سقطت واحدة منهم فسَدَت الثلاث. وعنده أيضاً وابن عساكر وغيرهما عن عمر رضي الله عنه قال: لا يقيم أمر الله إلا من لا يصانع، ولا يضارع، ولا يتبع المطامع، يكف عن عزته، ولا يكتم في الحق على حدَّته. كذا في كنز العمال.
وأخرج ابن سعد عن سُفيان بن أبي العوجاء قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: والله ما أدري خليفة أنا أم ملك؟ فإن كنت ملكاً فهذا أمر عظيم. قال قائل: يا أمير المؤمنين، إن بينهما فرقاً، فإن الخليفة لا يأخذ إلا حقاً، ولا يضعه إلا في حق، وأنت بحمد الله كذلك؛ والملك يعسِف الناس فيأخذ من هذا ويُعطي هذا، فسكت عمر. وعنده أيضاً عن سلمان أن عمر - رضي الله عنه - قال له: أملك أنا أم خليفة؟ فقال له سلمان: إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهماً أو أقل أو أكثر ثم وضعته في غير حقه فأنت ملك غير خليفة، فاستعبر عمر - كذا في منتخب كنز العمال.
وعند نُعيم بن حماد في الفتن عن رجل من بني أسد أنه شهد عمر بن(2/263)
الخطاب - رضي الله عنه - سأل أصحابه وفيهم طلحة، وسلم ان، والزبير، وكعب - رضي الله عنهم - فقال: إني سائلكم عن شيء فإياكم أن تكذبوني فتهلكوني وتهلكوا أنفسكم، أنشدكم بالله، أخليفة أنا أم ملك؟ فقال طلحة، والزبير: إنك لتسألنا عن أمر ما نعرفه ما ندري ما الخليفة من الملك. فقال سلمان: - يشهد بلحمه ودمه - إنك خليفة ولست بملك. فقال عمر: إن تقل فقد كنت تدخل فتجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال سلمان: وذلك أنك تعدل في الرعية، وتقسم بينهم بالسويّة، وتشفق عليهم شفقة الرجل على أهله، وتقضي بكتاب الله تعالى. فقال كعب: ما كنت أحسب أنّ في المجلس أحداً يعرف الخليفة من الملك غيري، ولكن الله ملأ سلمان حكماً وعلماً، ثم قال كعب: أشهد أنك خليفة ولست بملك. فقال له عمر - رضي الله عنه - وكيف ذاك؟ قال: أجدك في كتاب الله. قال عمر: تجدني باسمي؟ قال: لا، ولكن بنعِتك أجد: نبوة، ثم خلافة ورحمة على منهاج نبوة، ثم خلافة ورحمة على منهاج نبوة، ثم ملكاً عضوضاً. كذا في منتخب الكنز.
لين الخليفة وشدته
أخرج الحاكم واللأَلَكائي وغيرهما عن سعيد بن المسيِّب رضي الله عنه قال: لما وَلي عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خطب الناس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فد الله وأثنى عليه ثم قال:
يا أيها الناس، إِني قد علمت أنكم تؤنسون مني شدة وغلظة، وذلك أني كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت عبده وخادمه، وكان كما قال الله تعالى:(2/264)
{بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ} (التوبة: 128) . فكنت بين يديه كالسيف المسلول إلا أن يغمدني أو ينهاني عن أمر فأكفَّ، وإلا قدمت على الناس لمكان لينه، فلم أزل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك حتى توفاه الله وهو عني راضٍ، والحمد لله على ذلك كثيراً، وأنا به أسعد. ثم قمت ذلك المقام مع أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده. وكان قد علمتم في كرمه، ودَعته ولينه، فكنت خادمه كالسيف بين يديه أخلط شدتي بلينه؛ إِلا أن يتقدم إليّ فأكف وإِلا قدمت. فلم أزل على ذلك حتى توفاه الله وهو عني راضٍ، والحمد لله على ذلك كثيراً، وأنا به أسعد. ثم صر أمركم إِليَّ اليوم، وأنا أعلم فسيقول قائل: كان يشتد علينا والأمر إِلى غيره فكيف به إِذا صار إليه؟ واعلموا أنكم لا تسألون عني أحداً، قد عرفتموني، وجربتموني، وعرفتم من سنّة نبيكم ما عرفت، وما أصبحت نادماً على شيء أكون أحب أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه إلا وقد سألته. " فاعلموا أن شدَّتي التي كنتم ترون قد ازدادت أضعافاً إِذا صار الأمر إليّ على الظالم، والمعتدي، والأخذ للمسلمين لضعيفهم من قويهم، وإني بعد شدتي تلك واضع خدِّي بالأرض لأهل العفاف والكفّ منكم والتسليم، وإني لا آبى إن كان بيني وبين أحد منكم شيء من أحكامكم أن أمشي معه إلى من أحببتم منكم، فلينظر فيما بيني وبينه أحد منكم. فاتَّقوا الله عباد الله، وأعينوني على أنفسكم بكفّها عني، وأعينوني على نفسي (بالأمر) بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإحضاري النصيحة فيما ولاني الله من أمركم.
ثم نزل كذا في كنز العمال.
وأخرج ابن سعد وابن عساكر عن محمد بن زيد رضي الله عنه قال:(2/265)
إجتمع عليّ، وعثمان، والزبير، وطلحة، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد - رضي الله عنهم - وكان أجرأهم على عمر عبدُ الرحمن بن عوف قالوا: يا عبد الرحمن، لو كلمتَ أمير المؤمنين للناس فإنَّه يأتي الرجل طالب الحاجة فتمنعه هيبتك أن يكلمك في حاجته حتى يرجع ولم يقضِ حاجته، فدخل عليه فكلَّمه. فقال: يا أمير المؤمنين، لِنْ للناس فإنه يقدم القادم فتمنعه هيبتك أن يكلمك (في حاجته حتى يرجع ولم يكلمك) . قال: يا عبد الرحن، أنشدك الله أعلي، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد أمروك بهذا؟ قال: اللهمّ نعم. قال: يا عبد الرحمن، والله لقد لنت للناس حتى خشيت الله في اللِّين، ثم اشتددت عليهم حتى خشيت الله في الشدّة، فأين المخرج؟ فقام عبد الرحمن يبكي يجرّ رداءه يقول بيده: أفَ لهم بعدك (أفَ لهم بعدك) .
وعند أبي نُعيم في الحِلية عن الشَّعْبي قال: قال عمر رضي الله عنه: والله لقد لانَ قلبي في اا حتى لهو ألين من الزُّبْد، واشتد قلبي في الله حتى لهو أشد من الحجر.
وعند ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما ولِيَ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له رجل: لقد كاد بعض الناس أن يحيد هذا الأمر عنك. قال عمر: وما ذاك؟ قال: يزعمون أنك فظ. قال عمر: الحمد لله (الذي) ملأ قلبي لهم رُحْماً، وملأ قلوبهم لي رُعْباً. كذا في منتخب الكنز.
حصر من يقع منه الإنتشار في الأمة
أخرج سيف، وابن عساكر عن الشَّعْبي قل: لم يمت عمر رضي الله عنه حتى ملَّته قريش، وقد كان حَصَرهم بالمدينة وأسبغ عليهم وقال: إنَّ(2/266)
أخوف ما أخاف على هذه الأمة إنتشاركم في البلاد، فإن كان الرجل يستأذنه في الغزو وهو ممن حُصِر في المدينة من المهاجرين - ولم يكن فعل ذلك بغيرهم من أهل مكة - فيقول: قد كان لك في غزوك مع النبي صلى الله عليه وسلم ما يبلغك، وخير لك من الغزو اليوم أن لا ترى الدنيا، و (لا) تراك. فلما وُلِيَ عثمان رضي الله عنه خلَّى عنهم فاضطربوا في البلاد وانقطع إليهم الناس. قال محمد، وطلحة: فكان ذلك أول وَهْن دخل في الإِسلام، وأول فتنة كانت في العامّة ليس إلا ذلك. كذا في الكنز. وأخرجه الطبري من طريق سيف بنحوه. وعند الحاكم عن قيس بن أبي حازم قال: جاء الزبير إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يستأذنه في الغزو، فقال عمر: إجلس في بيتك فقد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فردَّد ذلك عليه، فقال له عمر في الثالثة أو التي تليه؛ إقعد في بيتك، فوالله إني لأجد بطرف المدينة منك ومن أصحابك أن تخرجوا فتفسدوا على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قال الذهبي: صحيح.
مشاورة أهل الرأي مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في شأن عير أبي سفيان وفي أسارى بدر
أخرج أحمد عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغه(2/267)
إقبال أبي سفيان. قال: فتكلم أو بكر رضي الله عنه فأعرض عنه، ثم تكلم عمر رضي الله عنه فأعرض عنه - فذكر الحديث كم ات قدم في أول باب الجهاد.
وأخرج أحمد، ومسلم من حديث عمر رضي الله عنه في قصة بدر وفيه: واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر، وعلياً، وعمر - رضي الله عنهم - فقال أبو بكر: يا رسول الله، هؤلاء بنو العم والعشيرة (الإِخوان) ، وإنِّي أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه (منهم) قوة (لنا) على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضداً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما ترى يا ابن الخطاب؟» قال: قلت: والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان - قريب لعمر - فأضرب عنقه، وتمكن علياً من عَقِيل فيضرب عنقه، تمكن حمزة من فلان - أخيه - فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين، وهؤلاء صناديدهم وأمتهم وقادتهم. فَهوِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهوَ ما قلت وأخذ منهم الفداء. فلما كان من الغد قال عمر: فغدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وهما يبكيان، فقلت: يا رسول الله، أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاءً بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أبكي) للذي عَرَضَ عليّ أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عُرِض ليَّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة - لشجرة قريبة - وأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} (الأنفال: 67) - الآية -؛ وأخرجه أيضاً أبو داود، والترمذي، وابن أبي شيبة(2/268)
وأبو عَوانة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حِبَّان، وأبو الشيخ، وابن مردويه، وأبو نُعيم، والبيهقي؛ كما في الكنز.
رواية أنس في مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر
وعند أحمد عن أنس رضي الله عنه قال: إستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس في الأسارى يوم بدر فقال: «إن الله قد أمكنكم منهم» ، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله، إضربْ أعناقهم. قال: فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عاد عليه السلام فقال: «يا أيها الناس، إنّ الله قد أمكنكم منهم، وإنما هم إخوانكم بالأمس» . فقال عمر مثل ذلك فأعرض عنه عليه السلام. ثم عاد عليه السلام فقال مثل ذلك. فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، نرى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء. قال: فذهب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان من الغم، ثم عفا عنهم وقبل منهم الفداء، وأنزل الله: {لَّوْلاَ كِتَابٌ مّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ} (الأنفال: 68) - الآية -. كذا في نَصْب الراية. قال الهيثمي: رواه أحمد عن شيخه علي بن عاصم بن صهيب وهو كثير الغلط والخطأ، لا يرجع إِذا قيل له الصواب، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح. انتهى.(2/269)
رواية ابن مسعود
وعند أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما تقولون في هؤلاء الأسرى؟» قال: فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، قومك وأهلك إستبقهم واستأنِ بهم لعل الله أن يتوب عليهم. قال: وقال عمر: يا رسول الله، أخرجوك وكذّبوك قرّبهم فاضربْ أعناقهم. قال: وقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: يا رسول الله، أنظر وادياً كثير الحطب فأدخلهم فيه، ثم أضرمه عليهم ناراً. قال: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يردّ عليهم شيئاً. فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال ناس: يأخذ بقول عمر، وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة.
فخرج عليهم. فقال: «إنَّ الله ليلينِّ قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدّ قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجار. وإنَّ مَثَلَك يا أبا بكر كمثل إِبراهيم قال: {فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (إبراهيم: 36) ؛ ومثلك يا أبا بكر كمثل عيسى قال: {إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (المائدة: 118) ؛ وإن مَثَلَك يا عمر كمثل نوح قال: {رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} (نوح: 26) ؛ وإن مَثَلَك يا عمر كمثل موسى قال: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاْلِيمَ} (يونس: 88) . أنتم عَالَة فلا ينفلتنَّ أحد إلا بِفداء أو ضربة عنق» . قال(2/270)
عبد الله فقلت: يا رسول الله، إلا سهل بن بيضاء فإني قد سمعته يذكر الإِسلام. قال: فسكت. قال: فما رأيتني في يوم أخوف أن تقع عليّ حجارة من السماء (مني) (في) ذلك اليوم، حتى قال: «إلا سهل بن بيضاء. قال: فأنزل الله: {مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} - إلى آخر الآيتين -. وهكذا رواه الترمذي، والحاكم - وقال الحاكم صحيح الإِسناد ولم يخرِّجاه - ورواه ابن مَرْدَويه من طريق عبد الله بن عمر وأبي هريرة - رضي الله عنهم - بنحو ذلك، وقد رُوِيَ عن أبي أيوبَ الأنصاري رضي الله عنه بنحوه. كذا في الإِصابة.
مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم عد بن عبادة وسعد بن معاذ في ثمار المدينة
وأخرج ابن إسحاق عن الزهري قال لما اشتد على الناس البلاء بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عُيَيْنَة بن حصن، والحارث بن عوف المرِّي هما قائدا غطفان، وأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بن معهما عنه وعن أصحابه. فجرى بينه وبينهما الصلح حتى كتبوا الكِتاب، ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح إلا المراوضة (في ذلك) . فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك بعث(2/271)
إلى السَّعْدَين، فذكر لهما ذلك واستشارهما فيه، فقالا؛ ي رسول الله أمراً تحبه فنصنعه أم شيئاً أمرك الله به لا بدّ لنا من العمل به، أم شيئاً تصنعه لنا؟ فقال: «بل شيء أصنعه لكم؛ والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب رمتكم عن قَوس واحدة وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكْسِر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما» . فقال له سعد بن معاذ رضي الله عنه: يا رسول الله، قد كنا (نحن) وهؤلاء على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة واحدة إلا قِرىً أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإِسلام، وهدانا له، وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا (والله) ما لنا بهذا من حاجة؛ والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «أنت وذاك» . فتناول سعد بن معاذ رضي الله عنه الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب ثم قال: ليَجْهدوا علينا. كذا في البداية.
رواية أبي هريرة في شأن هذه المشاورة
وأخرجه البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء الحارث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ناصِفْنا تمر المدينة وإِلا ملأتها عليك خيلاً ورجالاً، فقال: حتى استأمر السعود سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ - رضي الله عنهما -» ، يعني يشاورهما. فقالا: لا والله ما أعطينا (الدنية) من أنفسنا في الجاهلية؛ فكيف وقد جاء الله بالإِسلام. فرجع إلى الحارث فأبره، فقال: غدرت يا محمد. وعند الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء(2/272)
الحارث الغطفاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، شاطرنا تمر المدينة، فقال: حتى استأمر السعود، فبعث إلى: سعد بن معاذ، سعد بن عبادة، سعد بن الربيع، وسعد بن خيثمة، سعد بن مسعود - رضي الله عنهم -، فقال: «إني قد علمت أن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وإن الحارث سألكم تشاطروه تمر المدينة، فإن أردتم أن تدفعوه عامكم هذا في أمركم بعد» . فقالوا: يا رسول الله، أوَحيٌ من السماء فالتسليم لأمر الله، أو عن رأيك وهواك؛ فرأينا تَبَعُ هواك ورأيك، فإن كنت إنما تريد الإِبقاء علينا فوالله لقد رأيتنا وإياهم على سواء، ما ينالون منا تمرة إلا شراءً أو قِرىً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هوذا، تسمعون ما يقولون، قالوا: غدرت يا محمد» . قال الهيثمي: رجال البزار، والطبراني فيهما محمد بن عمرو وحديثه حسن وبقية رجاله ثقات. وأخرج مسدَّد - وهو صحيح - عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسمرُ عند أبي بكر رضي الله عنه الليلة كذلك في الأمر من أمور المسلمين وأنا معه. كذلك في كنز العمال.
مشاورة أبي بكر رضي الله عنه أهل الرأي مشاورته أهل الرأي والفقه، ومن هم أصحاب الشورى في عهده وفي عهد الفاروق
أخرج ابن سعد عن القاسم أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان إذا(2/273)
نزل به أمر يريد فيه مشاورة أهل الرأي وأهل الفقه دعا رجالاً من المهاجرين والأنصار، ودعا عمر، وعثمان، علياً، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاذ بن جبل، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت - رضي الله عنهم -؛ وكل هؤلاء كان يفتي في خلافته وإنما يصير فتوى الناس إلى هؤلاء. فمضى أبو بكر على ذلك، ثم وُلي عمر فكان يدعو هؤلاء النَّفَر، كان الفتوى تصير وهو خليفة إلى عثمان، وأبيّ وزيد. كذا الكنز.
ما وقع بين أبي بكر وعمر في إقطاع أرض لبعض الصحابة
وأخرج بن أبي شيبة، والبخاري في تاريخه، وابن عساكر، والبيهقي، ويعقوب بن سفيان عن عَبِيدة قال: اء عيينة بن حصين، والأقرع بن حابس إلى أبي بكر رضي الله عنهم فقال: يا خليفة رسول الله، إنَّ عندنا أرضاً سَبْخة ليس فيها كلأ، ولا منفعة؛ فإذا رأيت أن تُقْطِعنَاها لعلنا نحرثها ونزرعها؛ فأقطعها إياها وكتب لهما عليه كتاباً وأشهد فيه عمر رضي الله عن - وليس في القوم -، فانطلقا إلى عمر ليُشهداه (فيه) . فلما سمع عمر ما في الكتاب تناوله من أيديهما ثم تفل فيه ومحاه، فتذمرا (له) وقالا (له) مقالة سيئة. قال عمر: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألفكما والإِسلام يومئذٍ ذليل (قليل) وإن الله قد أعزَّ الإِسلام فاذهبا فاجهدا (عليَّ) جهدكما، لا رعى الله عليكما إن رَعَيتما.(2/274)
فأقبلا إلى أبي بكر وهما يتذمَّران فقالا: والله ما ندري أنت الخليفة أم عمر؟ فقال: بل هو ولو شاء كان. فجاء عمر مُغْضباً حتى وقف على أبي بكر فقال: أخبرني عن هذه الأرض التي أقطعتها هذين الرجلين، أرض هي لك خاصّة أم هي بين المسلمين عامة؟ قال: بل هي بين المسلمين عامة. قال: فما حملك أن تخصَّ هذين بها دون جماعة المسلمين؟ قال: إستشرت هؤلاء الذين حولي، فأشاروا عليَّ بذلك. قال: فإذا استشرت هؤلاء الذين حولك أوَكلَّ المسلمين أوْسَعْت مشورة ورضًى؟. فقال أبو بكر: قد كنتُ قلت لك: إنك أقوى على هذا مني ولكنك غلبتني. كذا في الكنز، وعزاه في الإِصابة وإلى البخاري في تاريخه الصغير، ويعقوب بن سفيان وقال بإسناد صحيح؛ وذكر عن علي بن المديني: هذا منقطع لأن عَبِيدة لم يدرك القصة، ولا رُوي عن عمر أنه سمع منه. قال: ولا يُروى عن عمر بأحسن من هذا الإِسناد. انتهى. وأخرجه عبد الرزاق عن طاووس مختصراً، كما في الكنز.
مسألة خراج البحرين
وأخرج سيف، وابن عساكر عن الصعب بن عطية بن بلال عن أبيه وعن سهم بن منجاب قالا: خرج الأقرع، والزبرقان إلى أبي بكر - رضي الله عنهم - فقالا: إجعل لنا خراج البحرين ونضمن لك أن لا يرجع من قومنا أحد، ففعل وكتب الكتاب. وكان الذي يختلف بينهم طلحة بن عبيد الله، وأشهدوا شهوداً منهم عمر رضي الله عنه. فلما أُتيَ عمر بالكتاب ونظر فيه لم يشهد ثم قال: ولا كرامة، ثم مزق الكتاب ومحاه. فغضب طلحة وأتى أبا بكر فقال: أنت(2/275)
الأمير أم عمر؟ فقال: عمر غير أن الطاعة لي، فسكت. كذا في منتخب الكنز.
مشاورة أبي بكر الصحابة في الغزوات
وأخرج الطبراني عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: كنت أبو بكر إلى عمرو بن العاص أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور في الحرب فعليك به. قال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله قد وُثِّقوا. انتهى؛ وأخرجه أيضاً البزار، والعُقَيلي وسنده حسن، كما في الكنز. وقد تقدَّم مشاورة أبي بكر رضي الله عنهم أهل الرأي في غزو الروم من حديث عبد الله بن أبي أوفى مطوَّلاً.
مشورة عمر بن الخطاب أهل الرأي خطبة عمر إبنة علي وإِخباره أهل مشورته في هذا الأمر
أخرح ابن سعد، وسعيد بن منصور عن أبي جعفر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب إلى علي بن أبي طالب إبنته أم كلثوم - رضي الله عنهما -، فقال علي: إنما حبست بناتي على بني جعفر، فقال عمر: أنكحنيها يا علي، فوالله ما على ظهر الأرض رجل يَرْصُد من حسن صحابتها ما أرصُد فقال علي: قد فعلت. فجاء عمر إلى مجلس المهاجرين بين القبر والمنبر وكانوا يجلسون: علي، وعثمان، والزبير، وطلحة، وعبد الرحمن بن عوف - رضي الله(2/276)
عنهم -. فإذا كان الشيء يأتي عمر بن الخطاب من الآفاق جاءهم فأخبرهم بذلك فاستشارهم فيه. فجاء عمر فقال: زفُّوني، فزفُّوه، وقالوا: بمن يا أمير المؤمنين؟ قال: بابنة علي بن أبي طالب، ثم أنشأ يخبرهم فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلُّ سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي» ، وكنت قد صحبته فأحببت أن يكن هذا أيضا. ورواه ابن راهَوَيْه مختصراً. كذا في الكنز. وأخرجه الحاكم أيضاً مختصراً وقال: هذا حدث صحيح الإِسناد ولم يخرِّجاه. وقال الذهبي: منقطع.
إستشارة عمر وعثمان عبد الله بن عباس وقول عمر وسعد فيه
وأخرج ابن سعد عن عطاء بن يَسَار رضي الله عنه: أن عمر، وعثمان رضي الله عنهما كانا يدعوان ابن عباس رضي الله عنهما فيشير مع أهل بدر، ويفتي في عهد عمر، وعثمان إلى يوم مات. وعن يعقوب بن يزيد قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستشير عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في الأمر إذا أهمه ويقول: غُصْ غوَّاص وعن سعد بن أبي قَّاص رضي الله عنه قال: ما رأَيت أحداً أحضر فهماً، ولا ألبَّ لباً، ولا أكثر علماً، ولا أوسع حلماً من ابن عباس، ولقد رأيت(2/277)
عمر بن الخطاب يدعوه للمعضلات ثم يقول: قد جاءتك معضلة، ثم لا يجاوز قوله فإنَّ حوله لأهل بدر من المهاجرين والأنصار. وأخرج البيهقي، وابن السِمعاني عن ابن شهاب قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا نزل الأمر المعضِل دعا الفتيان فاستشارهم يقتفي حدَّة عقولهم. وعند البيهقي عن ابن سيرين قال: إِنْ كان عمر بن الخطاب ليستشير حتى إِن كان ليستشير المرأة، فربما أبصر في قوله الشيء يستحسنه فيأخذ به. كذا في الكنز.
خطبة بليغة لعمر في المشاورة
وأخرج ابن جرير من طريق سيف عن محمد، وطلحة، وزياد بإسنادهم قالوا: خرج عمر حتى نزل على ماء يدعى صِراراً فعسكر به، ولا يدري الناس ما يريد أيسير أم يقيم؟ وكانوا إذا أرادوا أن يسألوه عن شيء رمَوه بعثمان أو بعبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنهما - وكان عثمان يُدعى في إمارة عمر رديفاً - قالوا: والرديف بلسان العرب الذي بعد الرجل، العرب تقول ذلك للرجل الذي يرجونه بعد رئيسهم - وكانوا إذا لم يقدر هذان على علم شيء مما يريدون ثلَّثوا بالعباس رضي الله عنه. فقال عثمان لعمر: ما بلغك؟ ما الذي تريد؟ فنادى الصلاة جامعة. فاجتمع الناس إليه فأخبرهم الخبر ثم نظر ما يقول الناس، فقال العامة: سِرْ وسِرْ بنا معك، فدخل معهم في رأيهم وكره أن يدَعَهم حتى يُخرجهم منه في رِفْق. فقال: استعدُّوا وأعدُّوا فإني سائر إِلا أن يجيء رأي هو أمثل من ذلك. ثم بعث إلى أهل الرأي فاجتمع إليه وجوه أصحاب النبي(2/278)
صلى الله عليه وسلم وأعلام العرب، فقال: أحضروني الرأي فإني سائر. فاجتمعوا جميعاً وأجمع مَلَؤهم على أن يبعث رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقيم ويرميه بالجنود؛ فإن كان الذي يشتهي من الفتح فهو الذي يريد ويريدون، وإلا أعاد رجلاً وندب جنداً آخر، وفي ذلك ما يغيظ العدو ويرعَوي المسلمون، ويجيء نصر الله بإنجاز موعود الله. فنادى عمر: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس إليه وأرسل إلى علي وقد استخلفه على المدينة فأتاه، وإلى طلحة وقد بعثه على المقدمة فرجع إليه (وجعل) على المجنَّبتين: الزبير، وعبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنهما - فقام في الناس فقال:
«إِنَّ الله عزّ وجلّ قد جمع على الإِسلام أهله، فألف بين القلوب وجعلهم فيه إخواناً، والمسلمون فيما بينهم كالجسد لا يخلو منه شيء من شيء أصاب غيره، وكذلك يحق على المسلمين أن يكونوا أمرهم شورى بينهم بين ذوي الرأي منهم، فالناس تبع لمن قام بهذا الأمر، ما اجتمعوا عليه ورضوا به لزم الناس وكانوا فيه تبعاً لهم؛ ومن قام بهذا الأمر تبع لأولي رأيهم؛ ما رأوا لهم ورضوا به لهم من مكيدة في حرب كانوا فيه تبعاً هلم. يا أيها الناس، إِني إِنما كنت كرجل منكم حتى صرفني ذوو الرأي منكم عن الخروج، فقد رأيت أن أقيم وأبعث رجلاً، وقد أحضرت هذا الأمر من قدَّمت ومن خلَّفت» .
وكان علي رضي الله عنه خليفته على المدينة وطلحة رضي الله عنه على مقدمته بالأعوص فأحضرهما ذلك. وقد أخرجه أيضاً ابن جرير عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال: لما انتهى قتل أبي عبيد بن مسعود إلى عمر رضي الله عنه واجتماع أهل فارس على رجل من آل كسرى نادى في المهاجرين والأنصار، وخرج حتى أتى صِراراً(2/279)
- فذكر الحديث مختصراً كما تقدم -.
كتاب عمر إلى سعد في الحرب
وأخرج الطبراني عن محمد بن سلام يعني البيكندي قال: عمرو بن معدِ يكرب له في الجاهلية وقائع، وقد أدرك الإِسلام، قدم على النبي صلى الله عليه وسلم ووجَّهه عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنهما - إلى القادسية وكان له هناك بلاء حسن، كتب عمر إلى سعد: قد وجَّهت إليك أو أمددتك بألفيْ رجل: عمرو بن معدِ يكرب وطُلَيحة بن خُوَيْلِد - رضي الله عنهما - وهو طُلَيحة بن خُوَيلد الأسديّ، فشاوِرْهما في الحرب ولا تولِّهما شيئاً. قال الهيثمي: رواه الطبراني هكذا منقطع الإِسناد.
تأمير الأمراء أول أمير أمِّر في الإِسلام
أخرج أحمد عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جاءته جهينة فقالوا: إِنك قد نزلت بين أظهرنا فأوثق لنا حتى نأتيك وقومنا، فأوثق لهم فسألموا. قال: فبعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجب - ولا نكون مائة - وأمرنا أن نُغير على حيّ من بني كِنانة إلى جنب جُهَينة، فأغرنا عليهم وكانوا كثيراً، فلجأنا إلى جُهَينة فمنعونا وقالوا: لِمَ تقاتلون في الشهر الحرام؟ فقلنا إنما نقاتل من أخرجنا من البلد الحرام في الشهر الحرام فقال بعضنا لبعض: ما ترون؟ فقال بعضنا: نأتي نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فنخبره،(2/280)
وقال قوم: لا، بل نقيم ها هنا، وقلت أنا في أناس معي: لا، بل نأتي عير قريش فنقتطعها، وكان الفيء إذ ذاك من أخذ شيئاً فهو له، فانطلقنا إلى العير وانطلق أصحابنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه الخبر، فقام غضبان محمّر الوجه فقال: «أذهبتم من عندي جميعاً ورجعتم متفرقين إنما أهلك من كان قبلكم الفُرقة، لأبعثنَّ عليكم رجلاً ليس بخيركم أصبركم على الجوع والعطش» . فبعث علينا عبد الله بن جحش الأسدي، فكان أول أمير (أُمِّرَ) في الإِسلام. وأخرجه أيضاً ابن أبي شيبة كما في الكنز والبغوي كما في الإِصابة. وأخرجه أيضاً البيهقي في الدلائل وزاد بعد لم تقاتلون في الشهر الحرام؟ فقالوا: نقاتل في الشهر الحرام من أخرجنا من البلد الحرام (كما في الإِصابة. قال الهيثمي: وفيه المجالد بن سعيد وهو ضعيف عند الجمهور، ووثَّقه النِّسائي في رواية، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح. انتهى.
التأمير على عشرة
أخرج ابن أبي شيبة - وإسناده صحيح - عن شهاب العنبري والد حبيب قال: كنت أول من أوقد في باب تُسْتَر، ورُمِي الأشعري فصُرع، فلما فتحوها أمَّرني على عشرة من قومي. كذا في الإِصابة.(2/281)
التأمير في السفر
أخرج البزار، وابن خزيمة، والدارقطني، والحاكم عن عمر رضي الله عنه قال: إذا كانوا ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم، ذاك أمير أمَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا في الكنز.
من يتحمل الإِمارة
أعظم الحماعة بالقرآن يليق بالإِمارة
أخرج الترمذي - وحسَّنه - وابن ماجه، وابن حبَّان - واللفظ للترمذي - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعْثاً وهم ذوو عدد، فاستقرأهم، فاستقرأ كل رجل منهم - يعني ما معه من القرآن -. (قال) فأتى على رجل من أحدثهم سناً فقال: ما معك يا فلان؟ قال: معي كذا وكذا وسورة البقرة. فقال: «أمعك سورة البقرة؟» قال: نعم. قال: «إذهب فأنت أميرهم» . فقال رجل من أشرافهم: والله ما نعني أن أتعلم البقرة إلا خشية ألا أقومَ بها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تعلَّموا القرآن واقرأوه، فإن مَثَلَ القرآن لمن تعلمه فقرأه كمثل جِراب محشو مِسكاً يفوح ريحه في كل مكان، ومن تعلَّمه(2/282)
فيرقد وهو في جوفه فمثله كمثل جِراب أوكىء على مسك» . كذا في الترغيب.
رواية عثمان في تحميل الإمارة أعظمهم بالقرآن
وأخرج الطبراني عن عثمان رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم وفداً إلى اليمن فأمَّر عليهم أميراً منهم وهو أصغرهم، فمكث أياماً لم يسر، فلقي النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً منهم فقال: «يا فلان، ما لك أما انطلقت؟» ، قال: يا رسول الله، أميرنا يشتكي رجله؛ فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم ونفث عليه: «بسم الله، وبالله، أعوذ بالله وقدرته من شر ما فيها» - سبع مرات - فبرأ الرجل. فقال له شيخ: يا رسول الله، أتؤمره علينا وهو أصرنا؟ فذكر النبي صلى الله عليه وسلم قراءته القرآن. قال الشيخ: يا رسول الله، لولا أني أخاف أن أتوسّد فلا أقومَ به لتعلَّمته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فإنما مثل القرآن كجراب ملأته مسكاً موضوعاً، كذلك مثل القرآن إذا قرأته وكان في صدرك» . قال الهيثمي: وفيه يحيى بن سلمة بن كُهيل ضعَّفه الجمهور، ووثَّقه ابن حِبَّان وقال: في أحاديث إبنه عنه مناكير؛ قلت: ليس هذا من رواية إبنه عنه. انتهى.
إنكار أبي بكر لتأمير أصحاب بدر وقول عمر في هذا الأمر
وأخرج أبو نُعيم في الحِلية، وابن عساكر عن أبي بكر بن محمد الأنصاري أن أبا بكر رضي الله عنه قيل له: يا خليفة رسول الله، ألا تستعمل أهل بدر؟ قال: إني أرى مكانهم، ولكني أكره أن أدنسهم بالدنيا. كذا في(2/283)
الكنز.
وأخرج ابن سعد عن عِمران بن عبد الله قال: قال أبيّ بن كعب لعمر بن الخطاب رضي الله عنهم: ما لك لا تستعملني؟ قال: أكره أن يُدنَّس دينك.
كتاب عمر في تأمير الأمراء وقوله في صفات الأمير
وأخرح بن سعد، والحاكم، وسعيد بن منصور عن حارثة بن مُضَرِّب قال: كتب إِلينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
«أما بعد: فإني قد بعثت إليكم عمار بن ياسر أميراً، وعبد الله بن مسعود معلِّماً ووزيراً، وهما من النجباء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من أهل بدر، فتعلَّموا منهما، واقتدوا بهما؛ وإِني قد آثرتكم بعبد الله على نفسي. وبعثت عثمان بن حُنَيف على السواد (ورزقتهم) كل يوم شاة، فأجعل شطرها وبطنها لعمار بن ياسر والشطر الثاني بين هؤلاء الثلاثة» .
كذا في الكنز؛ وأخرجه الطبراني مثله إلا أنه لم يذكر: وبعثت عثمان - إلى آخره. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير حارثة وهو ثقة. انتهى. وأخرجه البيهقي(2/284)
أيضاً بسياق آخر مطوّلاً.
وأخرج الحاكم في الكُنَى عن الشعبي قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دلُّوني على رجل أستعمله على أمر قد أهمَّني من أمر المسلمين. قالوا: عبد الرحمن بن عوف. قال: ضعيف. قالوا: فلان. قال: لا حاجة لي فيه. قالوا: من تريد؟ قال: رجل إذا كان أميرهم كان كأنه رجل منهم، وإذا لم يكن أميرهم كأنه أميرهم. قالوا: ما نعلمه إلا الربيع بن زياد الحارثي. قال: صدقتم. كذا في الكنز.
من ينجو في الإمارة
أخرج الطبراني عن أبي وائل شقيق بن سلمة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل بِشْر بن عاصم رضي الله عنه على صدقات هوازن، فتخلَّف بِشْر فلقيه عمر، فقال: ما خلفك؟ أما لنا سمع وطاعة؟ قال: بلى، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من وُلِّي شيئاً من أمر المسلمين أُتيَ به يوم القيامة حتى يوقف على جسر جهنم، فإن كان محسناً نجا، وإن كان مسيئاً أنخرق به الجسر فهوى فيه سبعين خريفاً» . قال: فخرج عمر رضي الله عنه كئيباً حزيناً؟ فقال: ما لي لا أكون كئيباً وحزيناً وقد سمعت بشْر بن عاصم يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من وُلّيَ شيئاً من أمر المسلمين أُتيَ به يوم القيامة حتى يوقف على جسر جهنم، فإن كان محسناً نجا، وإن كان مسيئاً إنخرق به الجسر فهوى فيه سبعين خريفاً؟» فقال أبو ذر رضي الله عنه: أو ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا. قال: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من وَلَّى أحداً من المسلمين أُتي به يوم القيامة حتى يوقف على جسر جهنم، فإن كان محسناً(2/285)
نجا، وإن كان مسيئاً إنخرق به الجسر فهوى فيه سبعين خريفاً، وهي سوداء مظلمة» ؛ فأيُّ الحديثين أوجع لقلبك. قال: كلاهما قد أوجع قلبي فمن يأخذها بما فيها؟ فقال أبو ذر رضي الله عنه: من سَلَتَ الله أنفه، وألصق خدّه بالأرض؛ أما إنا لا نعلم إِلا خيراً، وعسى إن ولَّيتها من لا يعدل فيها أن لا تنجو من إِثمها. كذا في الترغيب. قال الهيثمي: رواه الطبراني وفيه سويد بن عبد العزيز وهو متروك. انتهى وأخرجه أيضاً عبد الرزاق، وأبو نعيم، وأبو سعيد النقَّاش، والبغوي، والدارَقُطْني في المِتفق من طريق سويد؛ كما في الكنز. وأخرجه ابن أبي شيبة، وابن مَنْدَه من غير طريق سويد؛ كما في الإِصابة.
الإِنكار عن قبول الإِمارة قصة المقداد بن الأسود في إنكار الإمارة وقوله وقول أنس في ذلك
أخرج البزار عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إستعمل المقداد بن الأسود رضي الله عنه على حريدة (؟) جبل. فلما قدم قال: كيف رأيت؟ فلما:(2/286)
رأيتهم يرفعون ويضعون حتى ظننت أني ليس ذلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «هو ذاك» . فقال المقداد: والذي بعثك بالحق لا أعلم على عمل أبداً، فكانوا يقولون له: تقدم فصلِّ بنا فيأبى. قال الهيثمي: وفيه سوار بن داود أبو حمزة وثَّقه أحمد، وابن حبان، وابن معين وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح. وأخرجه أبو نعيم في الحلية عن أنس رضي الله عنه بنحوه؛ وفي رواية قال: كنت أُحمل وأُوضع حتى رأيت بأنَّ لي على القوم فضلاً. قال: «هو ذاك فخذ أو دع» . قال: والذي بعثك بالحق لا أتأمر على إثنين أبداً: وأخرجه أيضاً عن المقداد مختصراً.
رواية الطبراني قصة المقداد
وعند الطبراني عن المقدد بن اوسود رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعثاً، فلما رجعت قال لي: كيف تجد نفسك؟ قلت: ما زلت حتى ظننت أن معي حولاً لي، وايْمُ الله، لا ألي على رجلين بعدها أبداً. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح خَلا عُمَير بن إِسحاق وثقه ابن حبان وغيره، وضعَّفه ابن مَعِين وغيره، وعبد الله بن أحمد ثقة مأمون.
وعند الطبراني عن رجل قال: إستعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً على سرية، فلما مضى ورجع إليه قال له: «كيف وجدت الإِمارة؟» قال: كنت كبعض القوم، إذا ركبت ركبوا، وإذا نزلت نزلوا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «إن السلطان على باب عَتَب إلا من عصم الله عزّ وجلّ» . فقال الرجل: والله لا أعمل لك،(2/287)
ولا لغيرك أبداً. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجِذُه. قال الهيثمي: وفيه عطاء بن السائب وقد اختلط وبقية رجاله ثقات. انتهى.
وصية أبي بكر لرافع الطائي في أمر الإِمارة
وأخرج ابن المبارك في الزهد عن رافع الطائي قال: صحبت أبا بكر رضي الله عنه في غزوة، فلما قفلنا قلت: يا أبا بكر أوصني. قال: أقم الصلاة المكتوبة لوقتها، وأدِّ زكاة مالك طيبة بها نفسك، وصم رمضان، واحجج البيت، واعلم أن الهجرة في الإسلام حسن، وأن الجهاد في الهجرة حسن، ولا تكن أميراً. ثم قال: هذه الإمارة التي ترى اليوم سَبْرة قد أوشكت أن تفشو وتكثر حتى ينالها من ليس لها بأهل، وإنه من يكن أميراً فإنه من أطول الناس حساباً، وأغلظه عذاباً؛ ومن لا يكون أميراً فإنه من أيسر الناس حساباً، وأهونه عذاباً؛ لأن الأمراء أقرب الناس من ظلم المؤمنين ومن يظلم المؤمنين فإنما يخفر الله، هم جيران الله وهم عباد الله؛ والله إن أحدكم لتصاب شاة جاره أو بعير جاره فيبيت وارم العَضَل، يقول: شاة جاري أو بعير جاري، فإن الله أحق أن يَغْضَبَ لجاره. كذا في الكنز.
ما وقع بين أبي بكر ورافع في الإِمارة
وأخرج الطبراني عن رافع قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص رضي الله عنه على جيش ذات السلاسل، فبعث معه مع ذلك الجيش أبا بكر،(2/288)
وعمر، وسراة أصحابه - رضي الله عنه -. فانطلقوا حتى نزلوا جبلي طيِّء. فقال عمر رضي الله عنه؛ أنظروا إلى رجل دليل بالطريق. فقالوا: ما نعلمه إلا رافع بن عمرو فإنه كان ربيلاً. فسألت طارقاً: ما الربيل؟ قال: اللص الذي يغزو القوم وحده فيسرق. قال رافع: فلما قضينا غَزاتنا وانتهيت إلى المكان الذي كنا خرجنا منه توسمت أبا بكر رضي الله عنه فأتيته فقلت: يا صاحب الحلال، إِني توسمتك من بين أصحابك فائتني بشيء إِذا حفظته كنت منكم ومثلكم. فقال: أتحفظ أصابعك الخمس؟ قلت: نعم. قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة إن كان لك مال، وتحج البيت وتصوم رمضان؛ حفظت؟ فقلت: نعم. قال وأخرى: لا تَأمَّرَنَّ على إثنين. قلت: وهل تكون الإِمرة إلا فيكم أهل بدر؟ قال: يوشك أن تفشو حتى تبلغك ومن هو دونك. إن الله عزّ وجلّ لما بعث نبيه صلى الله عليه وسلم دخل الناس في الإِسلام، فمنهم من دخل فهداه الله، ومنهم من أكرهه السيف، فهم عوّاذ الله عزّ وجلّ وجيران الله في خفارة الله. إنَّ الرجل إذا كان أميراً فتظالم الناس بينهم فلم يأخذ لبعضهم من بعض إنتقم الله منه. إنَّ الرجل منكم لتؤخذ شاة جاره فيظل نأتيَ عضلته غضباً لجاره، والله من وراء جاره. قال رافع: فمكثت سنة ثم إن أبا بكر رضي الله عنه أستُخلِف فركبت إليه. قلت: أنا رافع، كنت نقيبك بمكان كذا وكذا. قال: عرفت قال: كنت نهيتني عن الإِمارة ثم ركبت أعظم من ذلك: أمة محمد صلى الله عليه وسلم قال: نعم، فمن لم يقم فيهم كتاب الله فعليه بَهْلة الله - يعني لعنة الله -. قال الهيثمي: رجاله ثقات. انتهى.(2/289)
إِيثار الصحابة الغزو على الإِمارة
وأخرج الحاكم، وأبو نُعَيم، وابن عساكر عن سعيد بن عمر بن سعيد بن العاص أنَّ أعمامه: خالداً، وأباناً، وعمرو بن سعيد بن العاص - رضي الله عنهم - رجعوا عن أعمالهم حين بلغهم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر رضي الله عنه: ما أحد أحقُّ بالعلم من عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لا نعمل لأحد. فخرجوا إلى الشام فقُتلوا عن آخرهم. كذا في الكنز.
ما وقع بين عمر وأبن بن سعيد في الإِمارة وبعثه العلاء بن الحضرمي إلى البحرين
وعند ابن سعد عن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبان بن سعيد رضي الله عنه حين قدم المدينة: ما كان حقك أن تقدم وتترك عملك بغير إذن إِمامك ثم على هذه الحالة ولكنك آمنته. فقال أبان: أما إني - والله - ما كنت لأعمل لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كنت عاملاً لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت عاملاً لأبي بكر رضي الله عنه لفَضْله، وسابقته، وقديم إسلامه؛ ولكن لا أعمل لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاور أبو بكر رضي الله عنه أصحابه فيمن يبعث إلى البحرين، فقال له عثمان بن عفان رضي الله عنه: إبعث رجلاً قد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم. فقدم عليهم بإسلامهم، وطاعتهم وقد عرفوه وعرفهم، وعرف بلادهم - يعني: العلاء بن الحَضْرمي رضي الله عن -. فأبى ذلك عمر رضي الله عنه عليه وقال: أكره أبان(2/290)
بن سعيد بن العاص فإنه رجل قد خالفهم. فأبى أبو بكر رضي الله عنه أن يكرهه وقال: لا أفعل، لا أكره رجلاً يقول لا أعمل لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجمع أبو بكر بَعْثَة العلاء بن الحضرمي - رضي الله عنهما - إلى البحرين. كذا في الكنز.
إنكار أبي هريرة على قبول الإِمارة
وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن أبي هريرة أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - دعاه ليستعمله فأبى أن يعلم له. فقال: أتكره العلم وقد طلبه من كان خيراً منك؟ قال: من؟ قال: يوسف بن يعقوب عليه السلام. فقال أبو هريرة رضي الله عنه: يوسف نبي الله ابن نبي الله، وأنا أبو هريرة بن (أميمة) ، فأخشى ثلاثاً واثنتين. فقال عمر رضي الله عنه: أفلا قلت خمساً؟ قال: أخشى أن أقول بغير علم، وأقضيَ بغير حكم، وأن يُضرب ظهري، وينتزع مالي، ويُشتم عرضي. وأخرجه أيضاً أبو موسى في الذَّيْل؛ قال في الإِصابة: وسنده ضعيف جداً، ولكن أخرجه عبد الزرق عن معمر عن أيوب، فقَوِيَ. انتهى. وأخرجه ابن سعد عن ابن سيرين عن أبي هريرة بمعناه مع زيادة في أوله.
إنكار ابن عمر على القضاء بين الناس
وأخرج الطبراني في الكبير والأوسط عن عبد الله بن مَوْهَب أن عثمان قال لابن عمر - رضي الله عنهما -: إذهب فقضِ بين الناس. قال: أوَ تُعفيني(2/291)
يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، عزمت عليك إلا ذهبت فقضيت. قال: لا تعْجَل، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من عاذ بالله فقد عاد بمَعاذ» . قال: نعم. قال: فإني أعوذ بالله أن أكون قاضياً. قال: وما يمنعك وقد كان أبوك يقضي؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كان قاضياً، قضى بجهل كان من أهل النار؛ ومن كان قاضياً عالماً فقضى بحق - أو بعدل - سأل التقلب كفافاً» ، فما أرجو بعد هذا؟ قال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، والبزَّار، وأحمد وكلاهما باختصار، ورجاله ثقات؛ وزاد أحمد: فأعفاه وقال: لا تجبرن أحداً. وعند الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أراده عثمان رضي الله عنه على القضاء فأبى وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «القضاة ثلاثة: واحد ناجِ، واثنان في النار، من قضى بالجور أو بالهوى هلك، ومن قضى بالحق نجا» . قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط والكبير، ورجال الكبير ثقات. ورواه أبو يَعْلى بنحوه. انتهى. وأخرجه ابن سعد عن عبد الله بن مَوْهَب بمعناه مطولاً.
ما وقع بين ابن عمر وأم المؤمنين حفصة بشأن دومة الجندل
وأخرج الطبراني في الكبير عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما كان اليوم الذي اجتمع فيه علي ومعاوية رضي الله عنهما بدومة الجندل؛ قالت لي(2/292)
أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها: إنه لا يجمُل بك أن تتخلف عن صلح يصلح الله به بين أمة محمد صلى الله عليه وسلم أنت صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمر بن الخطاب. فأقبل معاية يومئذٍ على بُخْتي عظيم فقال: من يطمع في هذا الأمر ويرجوه أو يمد له عنقه؟ قال ابن عمر: فما حدثت نفسي بالدنيا قبل يومئذٍ، ذهبت أن أقول يطمع فيه من ضربك وأباك على الإِسلام حتى أدخلكما فيه، فذكرت الجنة ونعيمها فأعرضت عنه. قال الهيثمي: رجاله ثقات؛ والظاهر أنه أراد صلح الحسن بن علي رضي الله عنهما ووهم الراوي. انتهى. وأخرجه ابن سعد عن ابن عمر نحوه. وأخرج أيضاً عن أبي حُصَين أن معاوية قال: ومن أحقُّ بهذا الأمر منا؟ فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: فأردت أن أقول: أحق منك من ضربك وأباك عليه، ثم ذكرت ما في الجنان فخشيت أن يكون في ذلك فساد. وعن الزُّهري قال: لما اجتمع علي، ومعاوية فقال: من كان أحقَّ بهذا الأمر مني؟ قال ابن عمر: فتهيأت أن أقوم فأقول: أحق به من ضربك وأباك على الكفر فخشيت أن يُظن بي غير الذي بي.
إنكار عمران بن حصين على قبول الإِمارة
وأخرج أحد عن عبد الله بن الصامت رضي الله عنه قال: أراد زياد أن يبعث عمران بن حصين رضي الله عنهما على خراسان، فأبى عليه، فقال له أصحابه: أتركت خراسان أن تكون عليها؟ قال: فقال: إني والله ما يسرني أن أَصْلَي بحرّها ويُصْلَون ببردها، إني أخاف إذا كنت في نحر العدو أن يأتيني بكتاب من زياد فإن أنا مضيت هلكت، وإن رجعت ضُربت عنقي. قال: فأراد الحكم بن عمرو(2/293)
الغفاري عليها فانقاد لأمره. قال: فقال عمران: ألا أحد يدعو لي الحكم؟ قال: فانطلق الرسول، قال: فأقبل الحكم إليه. قال: فدخل عليه فقال عمران للحكم: أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا طاعة لأحد في معصية الله تبارك وتعالى» . قال: نعم. فقال عمران: الحمد صلى الله عليه وسلم ـ أو - الله أكبر.
وفي رواية عن الحسن أن زياداً إستعمل الغِفاري على جيش، فأتاه عمران بن حُصَين رضي الله عنها فلقيه بين الناس فقال: أتدري لم جئتك؟ فقال له: لِمَ؟ فقال: أتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قال له أميره: أرمِ نفسك في النار فأُدْرِك فاحتُبِس، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «لو وقع فيها لدخلا النار جميعاً، لا طاعة في معصية الله تبارك وتعالى» . قال: نعم. قال: إنما أردت أن أذكرك هذا الحديث. قال الهيثمي: رواه أحمد بألفاظ، والطبراني باختصار (وفي بعض طرقه «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» ) ؛ ورجال أحمد رجال الصحيح. انتهى.
إحترام الخلفاء والأمراء وطاعة أوامرهم ما وقع بين خالد عمار رضي الله عنهما في سرية
أخرج ابن جرير، وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي على سرية ومعه في السرية عمار بن ياسر - رضي الله عنهما - قال: فخرجوا حتى أتَوا قريباً من القوم الذين يريدون أن يصبِّحوهم نزلوا في بعض الليل. قال: وجاء القوم النذيرُ فهربوا حيث بلغوا، فأقام رجل منهم كان قد أسلم هو وأهل بيته، فأمر أهله فتحمَّلو، وقال: قفوا حتى آتيكم، ثم جاء حتى دخل على عمار رضي الله(2/294)
عنه، فقال: يا أبا اليقظان، إني قد أسلمت وأهل بيتي، فهل ذلك نافعي إن أنا أقمت، فإن قومي قد هربوا حيث سمعوا بكم؟ قال: فقال له عمار: فأقم فأنت آمن.k فانصرف الرجل هو وأهله. قال: فصيَّح خالد القوم فوجدهم قد ذهبوا فأخذ الرجل هو وأهله. فقال له عمار: إنه لا سبيل لك على الرجل قد أسلم. قال: وما أنت وذاك؟ أتجير عليّ وأنا الأمير؟ قال: نعم أجير عليك وأنت الأمير، إن الرجل قد آمن لو شاء لذهب كما ذهب أصحابه؛ فأمرته بالمقام لإِسلامه فتنازعا في ذلك حتى تشاتما. فلما قدما المدينة إجتمعا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر عمار الرجل وما صنع، فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أمان عمار ونهى يومئذٍ أن يجير أحد على الأمير. فتشاتما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال خالد: يا رسول الله، أيشتمني هذا العبد عندك؟ أما - والله - لولاك ما شتمني. فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم «كفَّ يا خالد عن عمار، فإنه من يبغض عماراً يبغضه الله عزّ وجلّ، ومن يلعن عماراً يلعنه الله عزّ وجلّ» . ثم قام عمّار فولى واتبعه خالد بن الوليد حتى أخذ بثوبه فلم يزل يترضّاه حتى رضي الله عنه - وفي رواية أخرى: رضي عنه - ونزلت هذه الآية: {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ} (النساء: 59) أمراء السرايا {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ} فيكون الله ورسوله هو الذي يحكم فيه/ {ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} يقول خير عاقبة. كذا في الكنز. وأخرجه أيضاً أبو يَعْلى، وابن عساكر، والنِّسائي، والطبراني، والحاكم من حديث خالد رضي الله عنه بمعناه(2/295)
مطوّلاً؛ وابن أبي شيبة، وأحمد، والنسائي مختصراً؛ كما في الكنز. قال الحاكم: صحيح الإِسناد ولم يخرِّجاه: وقال الذهبي: صحيح؛ وقال الهيثمي: رواه الطبراني مطولاً، ومختصراً منها ما وافق أحمد ورجاله ثقات.
ما وقع بين عوف بن مالك وخالد رضي الله عنهما
وأخرج أحمد عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: خرجت مع من خرج مع زيد بن حارثة رضي الله عنه من المسلمين في غزوة مؤتة و (رافقني) مَدَدي من اليمن ليس معه غير سيفه، فنحر رجل من المسلمين جزوراً، فسأله المددي طائفة من جلده فأعطاه إياه، فاتخذه كهيئة الدَّرَقة؛ ومضينا فلقينا جموع الروم، وفيهم رجل على فرس له أشقر عليه سرج مذهِّب وسلاح مُذهَّب. فجعل الرومي يفري بالمسلمين، وقعد له المَدَدي خلف صخرة، فمر به الرومي (فعرقب فرسه) فخر وعلاه فقتله وحاز فرسه وسلاحه. فلما فتح الله للمسلمين بعث إليه خالد بن الوليد رضي الله عنه (فأخذ منه السلب) قال عوف: فأتيته فقلت: يا خالد، أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسَّلَب للقاتل؟ قال: بلى؛ ولكني أستكثر به. فقلت: لتردنَّه إليه أو لأعرفنَّكَها عند(2/296)
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يردّ عليه.
قال عوف: فاجتمعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصت عليه قصة المَدَدي وما فعل خالد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا خالد ما حملك على ما صنعت؟» قلا: يا رسول الله إستكثرته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا خالد، ردّ عليه ما أخذت منه» . قال عوف فقلت: دونك يا خالد ألم أفِ لك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وما ذاك؟» فأخبرته. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «يا خلاد، لا ترده عليه، هل أنتم تاركون لي أُمرائي؟ لكم صفوة أمرهم وعليهم كدْرُهُ» ورواه مسلم، وأبو داود نحوه. كذا في الإِصابة؛ وأخرجه البيهقي بنحوه.
ما وقع بين عمر وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما في احترام الوالي
وأخرج ابن سعد عن راشد بن سعد أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أُتِيَ بمال فجعل يقسمه بين الناس فازدحموا عليه، فأقبل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يزاحم الناس حتى خَلَص إليه، فعلاه عمر رضي الله عنه بالدِّرة وقال: إنك أقبلت لا تهاب سلطان الله في الأرض فأحببت أن أعلِّمك أن سلطان الله لن يهابك.
ما وقع بين عمرو بن العاص وعمر بن الخطاب في سرية
وأخرج البيهقي عن عبد الله بن يزيد قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص في سرية فيهم أبو بكر، وعمر - رضي الله عنهما -. فلما انتهوا إلى(2/297)
مكان الحرب أمرهم عمرو أن ينوِّروا ناراً؛ فغضب عمر وهمَّ أن يأتيه، فنهاه أبو بكر وأخبره أنه لم يستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم عليك إلا لعله بالحرب، فهدأ عنه عمر رضي الله عنه. وأخرجه الحاكم عن عبد الله بن بُرَيْدة عن أبيه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص رضي الله عنه في غزوة ذات السلاسل - فذكره بنحوه، وقال: هذا حديث صحيح الإِسناد ولم يخرجاه. وقال الذهبي: صحيح.
حديث عياض بن غنم في احترام الأمير
وأخرج الحاكم عن جُبَير بن نُفَير أنَّ عياض بن غُنْم الأشعري وقع على صاحبِ دارا حين فتحت، فأتاه هشام بن حكيم فأغلظ له القول، ومكث هشام ليالي، فأتاه معتذراً فقال لعياض ألم تعلم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة أشدُّ الناس عذاباً للناس في الدنيا» . فقال له عياش: يا هشام، إنا قد سمعنا الذي قد سمعت، ورأينا الذي قد رأيت، وصحبنا من صحبت؛ ألم تسمع يا هشام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كانت عنده نصيحة لذي سلطان فلا يكلّمْه بها علانية، وليأخذ بيده، وليخْلُ به؛ فإنْ قبلها قبلها، وإِلا كان قد أدَّى الذي عليه والذي له» . وإنك يا هشام، لأنت المجترىء أن تجترىء على سلطان الله، فهلا خشيت أن يقتلك سلطان الله فتكون قتيل سلطان الله؟ قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإِسناد لم يخرِّجاه. وقال الذهبي: فيه ابن زريق واهٍ. وأخرجه البيهقي بهذا الإِسناد(2/298)
مثله. وذكره في مجمع الزوائد بدون ذكر مخرِّجه، ثم قال: رجاله ثقات وإِسناده متصل. وأخرجه أحمد عن شُرَيح بن عبيد وغيره، قال: جلد عياضُ بن غنم صاحبَ دارا حين فُتحت، فأغلظ له هشام - فذكر الحديث بنحوه -. قال الهيثمي: رجاله ثقات إِلا أني لم أجد لشريح من عياض وهشام سماعاً وإن كان تابعياً.
قول حذيفة في شهر السلاح على الأمير
وأخرح البزَّار عن زيد بن وهْب قال: أنكر الناس على أمير في زمن حذيفة رضي الله عنه شيئاً، فأقبل رجل في المسجد - المسجد الأعظم - يتخلَّل الناس حتى انتهى إلى حذيفة وهو قاعد في حَلْقة، فقام على رأسه فقال: يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه، ألا تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فرفع حذيفة رضي الله عنه رأسه فعرف ما أراد، فقال له حذيفة؛ إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لَحَسن، وليس من السنة أن تُشهر السلاح على أميرك. قال الهيثمي: وفيه حبيب بن خالد وثَّقه ابن حِبّان، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي. انتهى.
حديث أبي بَكْرة في احترام الأمير
وأخرج البيهقي عن زياد بن كسيب العدوي قال: كان عبد الله بن عامر يخطب الناس، عليه ثياب رقاق مُرَجِّل شَعرَه. قال: فصلَّى يوماً ثم دخل. قال: وأبو بَكرة جالس إلى جنب المنبر، فقال مِرداس أبو بلال: ألا ترَوْن إلى أمير(2/299)
الناس وسيدهم يلبس الرقاق ويتشبه بالفُسّاق؟ فسمعه أبو بَكْرة فقال لابنه الأُصَيْلع: أدعُ لي أبا بلال، فدعاه له. فقال أبو بَكْرة: أما إني قد سمعت مقالتك للأمير آنفاً، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أكرم سلطان الله أكرمه الله، من أهان سلطان الله أهانه الله» .
طاعة الأمير إنما تكون في المعروف
وأخرج الشيخان عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إستعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأنصار على سرية؛ بعثهم وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا؟ قال: فأغضبوه في شيء فقال: أجمعوا لي حطباً، فجمعوا، فقال: أوقدوا ناراً، فأوقدوا، ثم قال: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى. قال: فادخلوها. قال: فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار. قال: فسكن غضبه وطفئت النار. فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له، فقال: «لو دخلوها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف» . وهذه القصة ثابتة أيضاً في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما، كذا في البداية. وأخرجه ابن جرير عن ابن عباس، وابن أبي شَيْبة عن أبي سعيد بمعناه. وسمَّى أبو سعيد الرجل الأنصاري عبد الله بن حذافة السهمي؛ كما في الكنز، وهكذا سمّاه في البخاري عن ابن عباس، كما في الإِصابة.(2/300)
حديث ابن عمر في احترام الأمير
وأخرج أبو يَعْلى، وابن عساكر - ورجاله ثقات - عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت في نفر من أصحابه فأقبل عليهم فقال: «ألستم تعلمون أنِّي رسول الله إِليكم؟» قالوا: بلى، نشهد أنَّك رسول الله. قال: «ألستم تعلمون أنه من أطاعني فقد أطاع الله، ومن طاعة الله طاعتي؟» قالوا: بلى، نشهد أنه من أطاعتك فقد أطاع الله، ومن طاعة الله طاعتك. قال: «فإن من طاعة الله أن تطيعوني، ومن طاعتي أن تطيعوا أُمراءكم، وإن صلَّوا قعوداً فصلوا قعوداً» . كذا في الكنز.
وصيته صلى الله عليه وسلم لأبي ذر في احترام الأمير
وأخرج ابن جرير عن أسماء بنت يزيد أنَّ أبا ذر الغفاري رضي الله عنه كان يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فرغ من خدمته أوى إلى المسجد، فكان هو بيته يضطجع فيه؛ فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة إِلى المسجد فوجد أبا ذر نائماً منجدلاً في المسجد، فركله رسول الله صلى الله عليه وسلم برجله حتى استوى قاعداً. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا أراك نائماً فيه؟» فقال أبو ذر: أين أنام يا رسول الله؟ ما لي من بيت غيره. فجلس إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «فكيف أنت إذا أخرجوك منه؟» فقال: إذاً ألحق بالشام فإن الشام أرض الهجرة، والمحشر، والأنبياء، فأكون رجلاً من أهلها. قال: «فكيف أنت إذا أخرجوك من الشام؟» قال: إذاً أرجع إليه، فيكون بيتي ومنزلي. قال: «فكيف أنت إذا أخرجوك منه ثانياً؟» قال: آخذ سيفي فأقاتل حتى أموت. فشكر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأثبته بيده فقال: «أدلّك على ما هو خير من ذلك؟» قال: بلى - بأبي وأُمي يا رسول الله -(2/301)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تنقاد لهم حيث قادوك، وتنساق لهم حيث ساقوك؛ حتى تلقاني وأنت على ذلك» . كذا في الكنز. وأخرجه أيضاً أحمد عن أسماء نحوه. قال الهيثمي: وفيه شَهْرُ بن حَوْشَب، وهو ضعيف وقد وُثِّق. انتهى.
وأخرجه ابن جرير أيضاً عن أبي ذر رضي الله عنه بنحوه، وفي حديثه قال: «فكيف تصنع إذا أخرجت منها؟» قلت: آخذ سيفي فأضرب به من يخرجني. فضرب بيده على منكبي ثم قال: «غَفْراً يا أبا ذر، تنقاد معهم حيث قادوك، وتنساق معهم حيث ساقوك ولو لعبد أسود» . قال: فلما أُنزلت الرَّبَذَة أُقيمت الصلاة فتقدم رجل أسود على بعض صدقاتها. فلما رآني أخذ ليرجع ويقدِّمني فقلت: كما أنت، بل أنقاد لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرجه أيضاً عبد الرزاق عن طاووس، وفي حديثه: فلما خرج أبو ذرّ رضي الله عنه إلى الرَّبَذَة فوجد بها غلاماً لعثمان رضي الله عنه أسود، فأذَّن وأقام ثم قال: تقدم يا أبا ذر. قال: لا، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أسمع وأطيع وإن كان عبداً أسود. فتقدَّم فصلَّى خلفه. كذا في الكنز. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، والبيهقي، ونُعَيم بن حَمَّاد وغيرهم عن عمر رضي الله عنه قال: «إسمع وأطع وإن أُمِّر عليك عبد حبشي مُجَدَّع،(2/302)
إن ضرك فاصبر، وإن أمرك بأمر فائتمر، وإن حرمك فاصبر، وإن ظلمك فاصبر، وأن أراد أن ينقص من دينك فقل: دمي دون ديني ولا تفارق الجماعة» . كذا في كنز العمال.
حديث عمر رضي الله عنه في احترام الأمير وقصته مع علقمة في ذلك
وأخرج يعقوب بن سفيان بإسناد صحيح إلى الحسن قال: لقي عمر رضي الله عنه علقمة بن علاثَة في جوف الليل - وكان عمر يُشَبَّه بخالد بن الوليد رضي الله عنه - فقال له علقمة: يا خالد، عزلك هذا الرجل لقد أبَى إلا شُحّاً، حتى لقد جئتُ إليه وابن عم لي نسأله شيئاً، فأما إذا فعل فلن أسأله شيئاً. فقال له عمر: هيه فما عندك فقال: هم قوم لهم علينا حق فنؤدِّي لهم حقهم وأجرُنا على الله. فلما أصبحوا قال عمر لخالد: ماذا قال لك علقمة منذ الليلة؟ قال: والله ما قال لي شيئاً. قال: وتحلف أيضاً. ومن طريق أبي نَضْرة نحوه وزاد: فجعل علقمة يقول لخالد: مَهْ يا خالد، ورواه سيف بن عمر من وجه آخر عن الحسن وزاد في آخره: فقال عمر: كلاهما قد صدقا. وكذا رواه ابن عائد وزاد: فأجاز علقمة وقضى حاجته. وروى الزبير بن بكار عن محمد بن سلمة عن مالك - فذكر نحوه مختصراً جداً، وقال فيه: فقال: ماذا عندك؟ قال: ما عندي إلا سمع وطاعة،(2/303)
وزاد: فقال عمر رضي الله عنه: لأن يكون مَنْ ورائي على مثل رأيك أحبَّ إليّ من كذا وكذا. كذا في الإِصابة.
قصة إمرأة مجذومة في احترام الأمير
وأخرج مالك عن ابن أبي مُلَيكة قال: إنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرَّ بامرأة مجذومة وهي تطوف بالبيت، فقال لها: يا أمَةَ الله لا تؤذي الناس، لو جلست في بيتك، فجلست. فمر بها رجل بعد ذلك، فقال: إن الذي كان نهاك قد مات فاخرجي. قالت ما كنت لأطيعه حياً وأعصيَه ميتاً. كذا في كنز العمال.
خطورة عصيان الأمير
وأخرج بن أبي شيبة عن شَمِر عن رجل قال: كنت عريفاً في زمن علي رضي الله عنه، فأمرنا بأمر فقال: أفعلتم ما أمرتكم؟ قلنا: لا، قال: والله لتفعَلُنَّ ما تؤمرون به أو لتركبَنَّ أعناقكم اليهود والنصارى. كذا في الكنز.
تطاوع الأمراء قصة عمرو بن العاص وأبي عبيدة وعمر رضي الله عنهم في هذا الأمر
أخرج البيهقي عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن(2/304)
العاص رضي الله عنه إلى ذات السلاسل من مشارف الشام من بَليَ وعبد الله ومن يليهم من قضاعة - وبنو بليَ أخوال العاص بن وائل -. فلمّا صار إلى هناك خاف من كثرة عدوه فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده. فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين الأولين، فانتدب أبو بكر، وعمر من سراة المهاجرين - رضي الله عنهم أجمعين - وأمَّر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه. فلما قدموا على عمرو قال: أنا أميركم وأنا أرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أستمده بكم، فقال المهاجرون: بل أنت أمير أصحابك، وأبو عبيدة أمير المهاجرين. فقال عمرو: إنما أنتم مدد أُمددته. فلما رأى ذلك أبو عبيدة - وكان رجلاً حسن الخلق لين الشِّيمة - قال: تعلم يا عمرو، أنَّ آخر ما عهد إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا» وإنك إن عصيتني لأطيعنَّك. فسلَّم أبو عبيدة الإِمارة لعمرو بن العاص. كذا في البداية. وهكذا أخرجه ابن عساكر عن عروة، كما في الكنز، وفيه مشارق بدل مشارف.
وأخرج أيضاً عن الزهري قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعْثَين إلى كلب، وغسّان، وكفار العرب الذين كانوا بمشارف الشام، وأمَّر على أحد البَعْثَين أبا عبيدة بن الجراح، وأمَّر على البعث الآخر عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - فانتدب في بعث أبي عبيدة أبو بكر، وعمر - رضي الله عنهما - فلما كان عند خروج البعث دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة، وعَمْراً وقال: «لا تعاصَيا» . فلما فصلا(2/305)
من المدينة خلا أبو عبيدة بعمرو فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليَّ وإليك أن لا تعاصيا، فإما أن تطيعني وإما أن أطيعك. قال: لا، بل أطعني. فأطاع أبو عبيدة وكان عمرو أميراً على البَعْثين كليهما. فوَجَد عمر رضي الله عنه من ذلك قال: أتطيع ابن النابغة وتؤمره على نفسك وعلى أبي بكر وعلينا؟ ما هذا الرأي فقال أبو عبيدة لعمر: يا ابن أم، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليّ وإليه أن لا تتعاصَيا فخشيت إن لم أُطعه أن أعصيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدخل بيني وبين الناس، وإني - والله - لأطيعنَّه حتى قفُل. فلما قفلوا كلَّم عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه ذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لن أُؤمر عليكم بعد هذا إلا منكم» - يريد المهاجرين -. كذا في الكنز.
حق الأمير على الرعية قول عمر رضي الله عنه في هذا الأمر
أخرج هَنَّاد، عن سَلَمة بن شهاب العبدي قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أيتها الرعية إنَّ لنا عليكم حقاً: النصيحة بالغيب، والمعاونة على الخير؛ وإنه ليش شيء أحبَّ إلى الله وأعمَّ نفعاً من حلم إمام ورِفْقه، وليش شيء أبغض إلى الله من جهل إمام وخُرْقه. كذا في الكنز. وأخرجه الطبري عن سلمة بن كُهَيل بمعناه.
وأخرج هَنّاد أيضاً عن عبد الله بن عكيم قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنه لا حِلْمَ أحب إلى الله من حلم إمام ورفقه، ولا جهل أبغض(2/306)
إلى الله من جهل إِمام وخُرْقه، ومن يعمل بالعفو فيما يظهر به تأتيه العافية، ومن ينصف الناس من نفسه يُعطى الظفر في أمره، والذل في الطاعة أقرب إلى البر من التعزّز بالمعصية، كذا في الكنز.
النهي عن سب الأمراء حديث أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك
أخرج ابن جرير عن أنس رضي الله عنه قال: نهانا كبراؤنا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قال: لا تسبُّوا أُمراءكم، ولا تَغَشُّوهم، ولا تعصوهم، واتقوا الله واصبروا فإن الأمر قريب. كذا في الكنز.
السكوت عن قول الحق عند الأمراء قول ابن عمر لعروة في هذا الأمر: كنا نعد ذلك نفاقا
أخرج البيهقي عن عروة قال: أتيت عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - فقلت له: يا أبا عبد الرحمن، إنا نجلس إلى أئمتنا هؤلاء فيتكلَّمون بالكلام نحن نعلم أن الحق غيره فنصدقهم، ويقضون بالجَوْر فنقوِّيهم ونحسِّنه لهم، فكيف ترى في ذلك؟ فقال: يا ابن أخي، كنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نعدّ هذا نفاقاً فلا أدري كيف هو عندكم؟. وأخرج أيضاً عن عاصم بن محمد عن أبيه قال: قال رجل لابن عمر رضي الله عنهما: إنا ندخل على سلطاننا فنقول ما نتكلم بخلافه إذا خرجنا من عندهم، قال: كنا نَعُدّ هذا نفاقاً. وأخرجه البخاري عن محمد بن زيد(2/307)
بنحوه وزاد: كنا نعدّ هذا نفاقاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا في الترغيب.
وأخرج ابن عساكر عن مجاهد أنَّ رجلاً قدم على ابن عمر رضي الله عنهما فقال له: كيف أنتم وأبو أنيس؟ قال: نحن وهو إذا لقيناه قلنا له ما يحب، وإذا ولَّينا عنه قلنا غير ذلك. قال: ذلك ما كنا نَعُدّ - ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ من النفاق. كذا في كنز العمال.
وأخرجه أبو نُعيم في الحِلية عن الشَّعْبي قال: قلنا لابن عمر رضي الله عنهما: إذا دخلنا على هؤلاء نقول ما يشتهون، فإذا خرجنا من عندهم قلنا خلاف ذاك. قال: كنا نَعُدّ ذلك نفاقاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
حديث علقمة بن وقَّاص في منع اللهو والضحك عند الأمراء
وأخرج البيهقي عن علقمة بن وقَّاص قال: كان رجل بَطَّال يدخل على الأمراء فيضحكهم فقال له جدِّي: ويحك يا فلان، لمَ تدخل على هؤلاء فتضحكهم؟ فإني سمعت بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدِّث أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ العبد ليتكلّم بالكلمة من رضوان الله ما يظنُّ أن تبلغ ما بلغت فيرضى الله بها عنه إلى يوم يلقاه، وإنَّ العبد ليتكلّم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيسخط الله بها إلى يوم يلقاه» . وأخرج أيضاً عن علقمة أنَّ بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه قال(2/308)
له: إني رأيتك تدخل على هؤلاء لأمراء وتَغْشاهم، فانظر ماذا تحاضرهم به، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ الرجل ليتكلّم» . فذكر نحوه.
قول حذيفة: إن أبواب الأمراء مواقف الفتن
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن حذيفة رضي الله عنه قال: إياكم ومواقف الفتن. قيل: وما مواقف الفتن يا أبا عبد الله؟ قال: أبواب الأمراء، يدخل أحدكم على الأمير فيصدِّقه بالكذب، ويقول ما ليس فيه.
نصيحة العباس لابنه في هذا الأمر
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال لي أبي: أي بنيّ، إني أرى أمير المؤمنين يدعوك ويقرِّبك ويستشيرك مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحفظ عني ثلاث خصال: إتق الله لا يجربنَّ عليك كَذِبة، ولا تُفشينَّ له سراً، ولا تغتابنَّ عنده أحداً. قال عامر: فقلت لابن عباس رضي الله عنهما: كل واحدة خير من ألف. قال: كل واحدة خير من عشرة آلاف. ورواه الطبراني نحوه. قال الهيثمي: وفيه مجالد بن سعيد وثَّقه النِّسائي وغيره وضعفه جماعة.
وأخرجه البيهقي عن الشَّعْبي أنَّ العباس قال لابنه عبد الله - رضي الله(2/309)
عنهما -: إني أرى هذا الرجل قد أكرمك - يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه - وأدنى مجلسك، وألحقك بقوم لست مثلهم، فاحفظ عني ثلاثاً: لا يجربنَّ عليك كذباً، ولا تُفْشِ عليه سرّاً، ولا تغتابنَّ عنده أحداً.h
قول الحق عند الأمير وردُّ أمره إذا خالف أمر الله ما وقع بين عمر وأبيّ، وقول عمر: لا خير في أمير لا يقال عنده الحق
أخرج ابن راهَوَيْه عن الحسن أنَّ عمر بن الخطاب ردّ عن أُبيّ بن كعب - رضي الله عنهما - قراءة آية، فقال أبيّ: لقد سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت يلهيك - يا عمر - الصَّفْق بالبقيع. فقال عمر رضي الله عنه: صدقت إنما أردت أن أجربكم هل منكم من يقول الحق؟ فلا خير في أمير لا يُقال عنده الحق ولا يقوله. كذا في كنز العمال.
وعند عبد بن حُمَيد، وابن جرير، وابن عديّ عن أبي مِجْلَزم أن أُبي بن كعب قرأ: {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الاْوْلَيَانِ} (المائدة: 107) فقال عمر رضي الله عنه: كذبت. قال: أنت أكذب. فقال رجل: تكذِّب أمير المؤمنين؟ قال: أنا أشد تعظيماً لحقِّ أمير المؤمنين منك، ولكن كذَّبه في تصديق كتاب الله، ولم أُصدِّق أمير المؤمنين في تكذيب كتاب الله. فقال عمر: صدق. كذا في الكنز.
قول بشير بن سعد لعمر: لو فعلت ذلك قوَّمناك تقويم القدح
وأخرج ابن عساكر، وأبو ذر الهَرَوِي في الجامع عن النعمان بن بشير أن(2/310)
عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال في مجلس وحوله المهاجرين والأنصار: أرأيتم لو ترخصت في بعض الأمور ما كنتم فاعلين؟ فسكتوا. فقال ذلك مرتين وثلاثاً، فقال بشير بن سعد: لو فعلت ذلك قوَّمناك تقويم القِدْح. فقال عمر: أنتم إذاً، أنتم إذاً كذا في الكنز.
قصة عمر ومحمد بن مسلمة في ذلك
وعند ابن المبارك عن موسى بن أبي عيسى قال: أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه مَشْرَبة بني حارثة فوجد محمد بن مسلمة، فقال عمر: كيف تراني يا محمد؟ قال: أراك - والله - كما أحب وكما يحب من يحب لك الخير، أراك قوياً على جمع المال، عفيفاً عنه، عَدْلاً في قَسْمه، ولو مِلْتَ عدَّلْناك كما يعدل السهم في الثِّقاب. فقال عمر رضي الله عنه: هاه وقال: لو ملت عدَّلناك كما يعدل السهم في الثقاب. فقال: الحمد لله الذي جعلني في قوم إذا مِلْت عدَّلوني. كذا في منتخب كنز العمال.
قول معاوية لرجل رد عليه: إِنَّ هذا أحياني أحياه الله
وأخرج الطبراني، وأبو يعلى عن أبي فنيل عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أنه صعد المنبر يوم القمامة، فقال عند خطبته: إنما المال(2/311)
ما لنا، والفيء فيئنا، فمن شئنا أعطيناه ومن شئنا منعناه؛ فلم يجبه أحد. فلما كان في الجمعة الثانية قال مثل ذلك، فلم يجبه أحد. فلما كان في الجمعة الثالثة قال مثل مقالته، فقام إِليه رجل ممَّن حضر المسجد فقال: كلا، إنما المال مالنا، والفيء فيئنا، فمن حال بيننا وبينه حاكمناه إلى الله بأسيافنا، فنزل معاوية رضي الله عنه فأرسل إِلى الرجل فأدخله. فقال القوم: هلك الرجل. ثم دخل الناس فوجدوا الرجل معه على السرير. فقال معاوية للناس: إنَّ هذا أحياني، أحياه الله. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سيكون بعدي أمراء يقولون ولا يُردّ عليهم، يتقاحمون في النار كما تتقاحم القردة» ، وإنِّي تكلَّمت أول جمعة فلم يردّ عليّ أحد، فخشيت أن أكون منهم. ثم تكلَّمت في الجمعة الثانية فلم يردّ عليّ أحد فقلت في نفسي: إِني من القوم. ثم تكلَّمت في الجمعة الثالثة فقام هذا الرجل فردّ عليّ، فأحياني أحياه الله. قال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير، والأوسط، وأبو يعلى ورجاله ثقات. انتهى.
قصة أبي عبيدة وخالد في هذا الأمر
وأخرج ابن أبي عاصم، والبغَوي عن خالد بن حكيم بن حزام قال: كان أبو عبيدة - رضي الله عنه - أميراً بالشام، فتناول بعض أهل الأرض، فقام(2/312)
إليه خالد رضي الله عنه؛ فكلَّمه. فقالوا: أغضبت الأمير؟ فقال: أما إني لم أرد أن أغضبه، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة أشدُّهم عذاباً للناس في الدنيا» . وأخرجه أيضاً أحمد، والبخاري في تاريخه، والطبراني؛ وأخرجه الباوَرْدي وزاد فيه: وهو يعذّب الناس في الجزية. كذا في الإِصابة. قال الهيثمي: رواه أحمد، والطبراني وقال: فقيل له: أغضبت الأمير؟ وزاد: إذهب فخلِّ سبيلهم. ورجاله رجال الصحيح خلا خالد بن حكيم وهو ثقة. انتهى.
رواية الحسن من هذا الأمر
وأخرج الحاكم عن الحسن قال: بعث زيادٌ الحَكَم بن عمرو الغفاري على خراسان فأصابوا غنائم كثيرة، فكتب إليه زياد: أما بعد، فإن أمير المؤمنين كتب أن يُصطفى له البيضاء والصفراء ولا تقسم بين المسلمين ذهباً ولا فضة. فكتب إِليه الحَكَم: أما بعد؛ فإنك كتبت تذكر كتاب أمير المؤمنين، وإني وجدت كتاب الله قبل كتاب أمير المؤمينين، وإني أُقسم بالله لو كانت السماوات والأرض رَتْقَاً على عبد فاتَّقى الله لجعل له من بينهم مخرجاً والسلام وأمر الحكم منادياً فنادى أن أغدوا على فَيْئكم، فقسمه بينهم؛ وإِنَّ معاوية رضي الله عنه لما فعل الحكم في قسمة الفيء ما فعل وجَّه إليه مَنْ قيَّده وحبسه، فمات في قيوده ودفن فيها وقال: إِني مخاصم.(2/313)
وأخرجه ابن عبد البرّ في الإستيعاب - فذكر نحوه إلا أنه قال في حديثه: فقسمه بينهم وقال الحكم: اللهمَّ إن كان لي عندك خيراً فأقبضني إِليك. فمات بخراسان بمرو. قال في الإِصابة والصحيح: أنه لما ورد عليه كتاب زياد بالعتاب دعا على نفسه فمات. انتهى.
عمل عمران بن حصين في الأموال
وأخرج الحاكم عن إبراهيم بن عطاء عن أبيه أنّ زياداً أو ابن زياد بعث عمران بن حصين رضي الله عنهما ساعياً فجاء ولم يرجع معه درهمٌ. فقال له: أين المال؟ فقال: وللمال أرسلتني؟ أخذناها كما كنا نأخذها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعناها في الموضع الذي كنا نضعها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإِسناد، وقال الذهبي: صحيح.
حق الرعية على الأمير سؤال عر الوفود عن خصال الأمير
أخرج البيهقي عن الأسود (بن يزيد) قال: كان عمر رضي الله عنه إذا قدم عليه الوفد سألهم عن أميرهم: أيعود المريض؟ أيجيب العبد؟ كيف صنيعه؟ من يقوم على بابه؟، (فإن قالوا لخصلةٍ منها لا؛ عزله) . كذا في الكنز. وأخرجه الطبري عن الأسود بمعناه.(2/314)
وعند هَنَّاد عن إبراهيم قال: كان عمر رضي الله عنه إذا استعمل عاملاً فقدم إِليه الوفد من تلك البلاد قال: كيف أميركم؟ أيعود المملوك؟ أيتبع الجنازة؟ كيف بابه؟ ألَينٌ هو؟ فإن قالوا: بابه لين، ويعود المملوك، تركه، وإلا بعث إليه بنزعه. كذا في كنز العمال.
شرائط عمر على العمال
وأخرج البيهقي عن عاصم بن أبي النُّجُود أنِّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا بعث عماله شرط عليهم أن لا تركبوا بِرْذوناً، ولا تأكلوا نقيّاً، ولا تلبسوا رقيقاً، ولا تغلقوا أبوابكم دون حوائج الناس، فإن فعلتم شيئاً من ذلك فقد حلّت بكم العقوبة؛ ثم يُشيِّعهم. فإذا أراد أن يرجع قال: إني لم أسلطكم على دماء المسلمين، ولا على أبشارهم، ولا على أعراضهم، ولا على أموالهم، ولكني بعثتكم لتقيموا بهم الصلاة، وتقسموا فيهم فَيْئهم، وتحكموا بينهم بالعدل، فإذا أشكل عليكم شيء فارفعوه إليّ. ألا فلا تضربوا العرب فتذلّوها، ولا تحمِّروها فتفتنوا، ولا تَعْتَلوا عليها فتُحرَموها، جرِّدوا القرآن. كذا في الكنز.
وأخرجه الطبري عن أبي حُصَين بمعناه مختصراً، وزاد: جرِّدوا القرآن، وأقلِّوا الرواية عن محمد صلى الله عليه وسلم وأنا شريككم، وكان يُقِصُّ من عماله، وإذا شُكِي(2/315)
إِليه عامل له جمع بينه وبين من شكاه، فإن صحَّ عليه أمرٌ يجب أخذُه به أخذه به.
وأخرج أيضاً ابن أبي شيبة، وابن عساكر عن أبي خُزيمة بن ثابت قال: كان عمر رضي الله عنه إذا استعمل رجلاً أشهد عليه رهطاً من الأنصار وغيرهم يقول: إِني لم أستعملك على دماء المسلمين - فذكر بمعناه، كما في الكنز.
قول عمر في فرائض الأمير
وأخرج ابن سعد، وابن عساكر عن عبد الرحمن بن سابط قال: أرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى سعيد بن عامر الجمحي فقال: إِنا مستعملوك على هؤلاء تسير بهم إلى أرض العدو فتجاهد بهم، فقال: يا عمر لا تفتيِّ. فقال عمر: والله لا أدعكم، جعلتموها في عنقي ثم تخلَّيتم عني، إِنا أبعثك على قوم لست أفضلهم، ولست أبعثك لتضرب أبشارهم، ولتنتهك أعراضهم؛ ولكن تجاهد بهم عدوهم، وتقسم بينهم فيْئَهم. كذا في الكنز.
قول أبي موسى في هذا الأمر
وأخرج ابن عساكر؛ وأبو نُعيم في الحِلْية عن أبي موسى رضي الله عنه قال: إنَّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعثني (إليكم) أعلمكم(2/316)
كتاب ربكم، وسنّة نبيكم، وأنظف طرقكم. كذا في الكنز. وأخرجه الطبراني بنحوه. قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح. انتهى.
الإِنكار على ترفع الأمير واحتجابه عن ذوي الحاجة ما وقع بين عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص في هذا الأمر
أخرج ابن عبد الحكم عن أبي صالح الغِفاري قال: كتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: إنا قد خَططْنا لك داراً عند المسجد الجامع. فكتب إليه عمر: إنَّى لرجل من الحجاز تكون له دار بمصر، وأمره أن يجعلها سوقاً للمسلمين. كذا في الكنز.
كتاب عمر إِلى عمرو بن العاص في كسر المنبر
وأخرج ابن عبد الحكم عن أبي تميم الجيشاني رضي الله عنه قال: كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص - رضي الله عنه -:
«أما بعد: فإنه بلغني أنك اتخذت منبراً ترقى به على رقاب الناس، أو ما بحسبك أن تقوم قائماً والمسلمون تحت عقبيك. فعزمت عليك لما كسرته» .
كذا في الكنز.
كتاب عمر إِلى عتبة بن فرقد في أن لا يترفع عن الرعية
وأخرج مسلم عن أبي عثمان رضي الله عنه قال؛ كتب إِلينا عمر رضي الله عنه(2/317)
ونحن بأذربيجان:
«يا عتبة بن فرقد، إنَّه ليس من كدِّك ولا من كدِّ أبيك ولا من كدِّ أمك، فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رَحْلك؛ وإياكم والتنعّم وزيّ أهل الشرك ولبوس الحرير» .
مؤاخذة عمر أمير حمص على بنائه العِلَيَّة
وأخرج ابن عساكر عن عروة بن رُوَيم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تصفَّح الناس، فمر به أهل حمص، فقال: كيف أميركم؟ قالوا: خير أمير إلا أنّه بني عِلِيَّة يكون فيها. فكتب كتاباً وأرسل بريداً، وأمره أن يحرقها. فلما جاءها جمع حطباً وحرق بابها. فأخبر بذلك فقال: دعوه فإنه رسول؛ ثم ناوله الكتاب، فلم يضعه من يده حتى ركب إِليه. فلما رآه عمر رضي الله عنه قال: إلحقني إلى الحرَّة - وفيها إبل الصدقة -. قال: إنزع ثيابك، فألقى إِليه نمرة من أوبار الإِبل، ثم قال: إفتح واسق هذه الإِبل، فلم يزل ينزل حتى تعب، ثم قال: متى عهدك بهذا؟ قال: قريب يا أمير المؤمنين، قال: فلذلك بنيت العِلِّيَّة وارتفعت بها على المسكين، والأرملة، واليتيم. إرجع إلى عملك لا تَعُدْ. كذا في كنز العمال.
مؤاخذة عمر سعداً إذا اتخذ قصرا
وأخرج ابن المبارك، وابن راهَوَيْه، ومسدَّد عن عَتّاب بن رِفاعة قال:(2/318)
بلغ عمر بن الخطاب أنَّ سعداً - رضي الله عنه - إتخذ قصراً وجعل عليه باباً، وقال: إنقطع الصوت. فأرسل عر محمد بن مسلمة رضي الله عن - وكان عمر إذا أحب أن يُؤتى بالأمر كما يريد بعثه - فقال: إئتِ سَعْداً وأحرق عليه بابه. فقدم الكوفة، فلما أتى الباب أخرج زَنْده فاستورَى ناراً ثم أحرق الباب، فأُتي سعدٌ فأُخبر، ثم وُصِف له صفته، فعرفه. فخرج إليه سعد، فقال محمد: إنه بلغ أمير المؤمنين عنك أنك قلت: إنقطع الصوت. فحلف سعد بالله ما قال ذلك، فقال محمد: نفعل الذي أمرنا ونؤدِّي عنك ما تقول.
وأقبل يعرض عليه أن يزوّده فأى، ثم ركب راحلته حتى قدم المدينة. فلما أبصره عمر رضي الله عنه قال: لولا حسن الظن بك ما رأينا أنك أدَّيت، وذكر أنه أسرع السير، وقال: قد فعلتُ، وهو يعتذر ويحلف بالله ما قال فقال عمر: هل أمر لك بشيء؟ قال: (ما كرهت من ذلك إنَّ أرض العراق أرض رقيقة، وإنَّ أهل المدينة يموتون حولي من الجوع، فخشيت أن آمر لك فيكون لك البارد ولي الحار) أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يشبع المؤمن دون جاره» . كذا في الكنز؛ وقد ذكره في الإِصابة بتمامه إلا أنه قال عن عباية بن رفاعة. وهكذا ذكره الهيثمي عن عباية بطوله ثم قال: رواه أحمد، وأبو(2/319)
يَعْلى ببعضه، ورجاله رجال الصحيح إلا أن عباية بن رفاعة لم يسمع من عمر. انتهى.
وأخرجه الطبراني عن أبي بَكْرة وأبي هريرة - رضي الله عنهما - مختصراً إلا أنه وقع في حديثه: فبلغ عمر رضي الله عنه أنه يحتجب عنه، ويغلق الباب دونهم. فبعث عمار بن ياسر رضي الله عنه وأمره إن قدم - والباب مغلق - أن يشعله ناراً. قال الهيثمي: وفيه عطاء بن السائب وقد اختلط.
ما وقع بين عمر بن الخطاب وجماعة من الصحابة في الشام
وأخرج ابن عساكر، واليشكري عن جُوَيرية رضي الله عنها - قال بعضه عن نافع، وبعضه عن رجل من ولد أبي الدرداء - قال: إستأذن أبو الدرداء عمرَ في أن يأتي الشام. فقال: لا آذن لك إلا أن تعمل. قال: فإني لا أعمل. قال: فإني لا آذن لك. قال: فأنطلقُ، فأُعلّمُ الناس سنّة نبيهم صلى الله عليه وسلم وأصلِّي بهم، فأذن له. فخرج عمر رضي الله عنه إلى الشام، فلما كان قريباً منهم أقام حتى أمسى. فلما جنّه الليل قال: يا يرفأ إنطلق إلى يزيد ابن (أبي) سفيان، أبصره عنده سُمَّار، ومصباح، مفترشاً ديباجاً، وحريراً من فيء المسلمين، فتسلِّم عليه فيرد عليك السلام، وتستأذن فلا يأذن لك حتى يعلم من أنت. فانطلقنا حتى انتهينا إلى بابه فقال: السلام عليكم. فقال: وعليكم السلام. قال: أدخل؟ قال: ومن أنت؟ قال يرفأ: هذا من يسوءك، هذا أمير المؤمنين. ففتح الباب. فإذا سمّار، ومصباح، وإذا هو مفترش ديباجاً وحريراً. فقال: يا يرفأ، الباب، الباب. ثم وضع الدِّرَّة بين أذنيه ضرباً، وكوَّر المتاع فوضعه وسط البيت، ثم قال للقوم: لا يبرح منكم أحد حتى أرجع إليكم.
ثم خرجا من عنده ثم قال: يا يرفأ إنطلق بنا إلى عمرو بن العاص أبصر عنده سمّار، ومصباح، مفترش ديباجاً من فيء المسلمين، فتسلِّم عليه فيرد عليك، وتستأذن عليه فلا يأذن لك حتى يعلم من أنت. فانتهينا إلى بابه، فقال عمر: السلام عليكم. قال: وعليكم السلام. قال: أدخل؟ قال: ومن أنت؟ قال يرفأ: هذا من يسوءك، هذا أمير المؤمنين. ففتح الباب. فإذا سُمّار ومصباح، وإذا هو مفترش ديباجاً وحريراً. قال: يا يرفأ، الباب،(2/320)
الباب. ثم وضع الدِّرَّة بين أذنيه ضرباً، ثم كوَّر المتاع فوضعه في وسط البيت. ثم قال للقوم: لا تبرحُنَّ حتى أعود إِليكم.
فخرجا من عنده فقال: يا يرفأ إنطلق بنا إلى أبي موسى أبصره عنده سُمّار، ومصباح، مفترشاً صوفاً من مال فيء المسلمين، فتستأذن عليه، فلا يأذن لك حتى يعلم من أنت. فانطلقنا إليه وعنده سُمَّار ومصباح مفترشاً صوفاً، فوضع الدِّرَّة بين أذنيه ضرباً وقال: أنت أيضاً يا أبا موسى؟ فقال: يا أمير المؤمنين هذا وقد رأيت ما صنع أصحابي، أما والله لقد أصبت مثل ما أصابوا. قال: فما هذا؟ قال: زعم أهل البلد أنه لا يصلح إلا هذا. فكوَّر المتاع فوضعه في وسط البيت وقال للقوم: لا يخرجنَّ منكم أحد حتى أعود إليكم.
فلما خرجنا من عنده قال: يا يرفأ إنطلق بنا إلى أخي لنبصرنه، ليس عنده سمّار، ولا مصباح، وليس لبابه غَلَق، فتسلِّم عليه فيرد عليك السلام، وتستأذن فيأذن لك من قبل أن يعلم من أنت. فانطلقنا حتى إذا قمنا على بابه قال: السلام عليكم. قال: وعليك السلام. قال: أأدخل؟ قال: أدخل. فدفع الباب فإذا ليس له غَلَق. فدخلنا إلى بيت مظلم، فجعل عمر رضي الله عنه يلمسه حتى وقع عليه، فجسّ وساده فإذا برذعة، وجسّ فراشه فإذا بطحاء، وجسّ دثاره فإذا كساء رقيق. فقال أبو الدرداء رضي الله عنه: من هذا أمير المؤمنين؟ قال:(2/321)
نعم. قال: أما - والله - لقد إستبطأتك منذ العام. قال عمر رضي الله عنه: رحمك الله، ألم أوسع عليك؟ ألم أفعل بك؟ فقال له أبو الدرداء رضي الله عنه: أتذكر حديثاً حدَّثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عمر؟ قال: أيّ حديث؟ قال: «لِيَكُنْ بَلاغُ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب» . قال: نعم. قال: فماذا فعلنا بعده يا عمر؟ قال: فما زالا يتجاوبان بالبكاء حتى أصبحا. كذا في كنز العمال.
تفقد الأحوال (قصة عمر وأبي بكر رضي الله عنهما في ذلك)
أخرج الخطيب عن أبي صالح الغِفاري أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يتعاهد عجوزاً كبيرة عمياء في حواشي المدينة من الليل، فيستسقي لها ويقوم بأمرها، وكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها فأصلح ما أرادت. فجاءها غير مرّة فلا يُسبق إليها، فرصده عمر فإذا هو بأبي بكر الصديق - رضي الله عنهما - الذي يأتيها وهو خليفة. فقال لعمر: أنت لعمري كذا في منتخب الكنز.
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن الأوزاعي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج في سواد الليل فرآه طلحة، فذهب عمر فدخل بيتاً ثم دخل بيتاً آخر. فلما أصبح طلحة ذهب إِلى ذلك البيت فإذا بعجوز عمياء مقعدة، فقال: (لها) ما بال هذا الرجل يأتيك؟ قالت: إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى؛ فقال طلحة: ثكلتك أمك يا طلحة، أعثَرات عمر تتبع؟.(2/322)
الأخذ بظاهر الأعمال (قول عمر رضي الله عنه في ذلك)
أخرج عبد الرزاق عن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: إن ناساً كانوا يُؤخذون بالوحي في عهد رسول الله، وإنَّ الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيراً أمِنَّاه وقربناه، وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته؛ ومن أظهر لنا شراً لم نأمنه ولم نصدِّقه وإِن قال: إن سريرته حسنة. كذا في الكنز. وأخرجه البيهقي عن عبد الله مثله وقال: رواه البخاري في الصحيح.
وأخرج ابن سعد والبيهقي عن الحسن قال: إن أول خطبة خطبها عمر رضي الله عنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال:
«أما بعد: فقد ابتليت بكم، وابتليتم بي، وخلفت فيكم بعد صاحبيَّ؛ فمن كان بحضرتنا باشرناه بأنفسنا؛ ومهما غاب عنا ولّيناه أهل القوة والأمانة. فمن يحسن نزده حسناً، ومن يسيء نعاقبه؛ ويغفر الله لنا ولكم» .
كذا في الكنز.(2/323)
النظر في العمل (قول عمر رضي الله عنه في ذلك)
أخرج البيهقي، وابن عساكر عن طاووس أنَّ عمر رضي الله عنه قال: أرأيتم إن استعملت عليكم خير من أعلم ثم أمرته بالعدل، أقضيت ما غليَّ؟ قالوا: نعم. قال: لا، حتى أنظر في عمله أَعمِل بما أمرته أم لا؟ كذا في الكنز.
تعقيب الجيوش (حديث عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري في ذلك)
أخرج أبو داود، والبيهقي عن عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري - رضي الله عنه - أنَّ جيشاً من الأنصار كانوابأرض فارس مع أميرهم، وكان عمر رضي الله عنه يُعَقِّب الجيوش في كل عام، فشُغل عنهم عمر. فلما مرّ الأجل قفل أهل ذلك الثغر، فاشتد عليه، وأوعدهم وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا عمر إنك غفلت عنا، وتركت فينا ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من إعقاب بعض الغزيَّة بعضاً. كذا في كنز العمال.
رعاية الأمير المسلمين فيما نزل بهم قصة عمر وأبي عبيدة في ذلك في طاعون عَمَواس
أخرج ابن عساكر عن طارق بن شهاب عن أبي موسى أن أمير المؤمنين(2/324)
كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - حيث سمع بالطاعون الذي أخذ الناس بالشام: إنِّي بدت لي حاجة إليك فلا غنى لي عنك فيها، فإن أتاك كتابي ليلاً فإني أعزم عليك أن تصبح حتى تركب إليّ، وإِن أتاك نهاراً فإِني أعزم عليك أن تمسي حتى تركب إليّ. فقال أبو عبيدة رضي الله عنه: قد علمت حاجة أمير المؤمنين التي عرضت، وإنه يريد أن يستبقي من ليس بباقٍ. فكتب إِليه: إِني في جند من المسلمين لن أرغب بنفسي عنهم، وإِني قد علمت حاجتك التي عرضت لك، وإنك تستبقي من ليس بباقٍ، فإذا أتاك كتابي هذا فحلِّلني من عزمك، وائذن لي في الجلوس.d
فلما قرأ عمر رضي الله عنه كتابه فاضت عيناه وبكى. فقال له من عنده: يا أمير المؤمنين، مات أبو عبيدة؟ قال: لا، وكأنْ قد. فكتب إِليه عمر رضي الله عنه أن الأردن أرض وبئة وكان قد كتب عمقه، وأن الجابية أرض نَزِهة، فاظهرْ بالمهاجرين إليها. قال أبو عبيدة حين قرأ الكتاب: أمّا هذا فنسمع فيه أمر أمير المؤمنين ونطيعه، فأمرني أن أركب وأبوّىء الناس منازلهم. فطُعنت إمرأتي، فجئت أبا عبيدة فانطلق أبو عبيدة يبوىء الناس منازلهم، فطُعن فتوفي، وانكشف الطاعون. قال أبو الموجِّه: زعموا أن أبا عبيدة كان في ستة وثلاثين ألفاً من الجند، فماتوا فلم يبقَ إلا ستة آلاف رجل. وروى سفيان بن عيينة أخصر منه. كذا في الكنز.
وأخرجه الحاكم من طريق سفيان وفي سياقه: فقال أبو عبيدة رضي الله عنه: يرحم الله أمير المؤمنين يريد بقاء قوم ليسوا بباقين. قال: ثم كتب إليه أبو عبيدة: إِني في جيش من جيوش المسلمين لست أرغب بنفسي عن الذي(2/325)
أصابهم. قال الحاكم: رواة هذا الحديث كلهم ثقات وهو عجيب بمرة؛ وقال الذهبي: على شرط البخاري، ومسلم. وأخرجه ابن إسحاق من طريق طارق بطوله، كما في الإِصابة، وفي سياقه: يا أمير المؤمنين، إني قد عرفت حاجتك إليّ، وإني في جند من المسلمين لا أجد بنفسي رغبة عنهم، فلست أريد فراقهم حتى يقضي الله فيّ وفيهم أمره وقضاءه، فخلِّني من عزمتك يا أمير المؤمنين ودعني في جندي. وأخرجه الطبري أيضاً بطوله عن طارق.
رحمة الأمير حديث أبي أسيد رضي الله عنه في ذلك
أخرج ابن أبي شيبة عن أبي جعفر أن أبا أُسَيد جاء النبي صلى الله عليه وسلم بسَبْي من البحرين، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى إمرأة منهنَّ تبكي. فقال: «ما شأنك؟» فقالت: باع إبني. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي أسيد: «أبعت إبنها؟» قال: نعم. قال: «فيمن؟» قال: في بني عبس. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «إركب أنت بنفسك فائت به» . كذا في الكنز.
خطبة عمر في هذا الأمر
وأخرج ابن المنذر، والحاكم، والبيهقي عن بُرَيدة قال: كنت جالساً عند عمر رضي الله عنه إِذ سمع صائحة، فقال: يا يَرْفأ أنظر ما هذا الصوت؟ فنظر ثم جاء فقال: جارية من قريش تبع أمها. فقال عمر رضي الله عنه: أدع لي المهاجرين والأنصار، فلم يمكث إلا ساعة حتى امتلأ الدار والحجرة. فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:(2/326)
«أما بعد: فهل تعلمونه كان فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم القطيعة؟ قالوا: لا. فإنها أصبحت فيكم فاشية ثم قرأ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ} (محمد: 22) ثم قال: وأي قطيعة أقطع من أن تباع أم إمرأة فيكم وقد أوسع الله لكم؟. قالوا: فاصنع ما بدا لك. فكتب في الآفاق أن لا تباع أمُّ حرَ فأنها قطيعة رحم وإنه لا يحل» .
كذا في كنز العمال.
حديث أبي عثمان النَّهدي في ذلك
وأخرج البيهقي وهَنَّاد عن أبي عثمان النَّهْدي قال: إستعمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً من بني أسد على عمل، فجاء يأخذ عهده، (قال فأُتي عمرُ ببعض ولده فقبّله. فقال الأسديّ: أتقبل هذا يا أمير المؤمنين؟ والله ما قبّلت ولداً قط قال عمر رضي الله عنه: فأنت - والله - بالناس أقل رحمة، هاتِ عهدنا، لا تعمل لي عملاً أبداً، فردّ عهده. كذا في الكنز.
وأخرجه الدِّينَوَري عن محمد بن سلام وفي حديثه؛ قال عمر: فما ذنبي إن كان نزع من قلبك الرحمة، إنَّ الله لا يرحم من عباده إلا الرحماء، ونزعه عن عمله فقال: أنت لا ترحم ولدك فكيف ترحم الناس. كذا في الكنز.
عدل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عدل النبي صلى الله عليه وسلم
قصة المرأة المخزومية وخطبة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك
أخرج البخاري عن عروة أن إمرأة سرقت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في(2/327)
غزوة الفتح، ففزع قومها إلى أسامة بن زيد رضي الله عنه يستشفعونه. قال عروة: فلما كلّمه أسامة فيها تلوّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «أتكلّمني في حدَ من حدود الله تعالى؟» فقال أسامة؛ إستغفر لي يا رسول الله. فلما كان العشيّ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال:
«أما بعد: فإنَّما هلك الناس (قبلكم) أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. والذي نفس محمد بيده لو أنَّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» .
ثم أمر رسول الله بتلك المرأة، فقُطعت يدها، فحسنت توبتها بعد ذلك وتزوجت. قالت عائشة رضي الله عنها: كانت أتي بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رواه البخاري في موضع آخر ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها. كذا في البداية. وأخرجه أيضاً الأربعة عن عائشة كما في الترغيب.
حديث أبي قتادة رضي الله عنه في ذلك
وأخرج البخاري عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حُنَين. فلما التقينا كانت للمسلمين جَوْلة، فرأيت رجلاً من(2/328)
المشركين قد علا رجلاً من المسلمين فضربته من ورائه على حبلِ عاتقه بالسيف فقطعت الدرع، وأقبل عليّ فضمني ضمَّة وجدت منها ريح الموت، ثم أدركه الموت فأرسلني، فلحقت عمر رضي الله عنه فقلت: ما بال الناس؟ فقال: أمر الله. ثم رجعوا وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «من قتل قتيلاً له عليه بيِّنة فله سَلَبه» . فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله. فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله. فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست. ثم قالت مثله. فقمت فقال: «مالك يا أبا قتادة؟» فأخبرته، فقال رجل: صَدَق، وسَلَبُه عندي فأرضِه عنِّي. فقال أبو بكر رضي الله عنه: لا ها الله، إِذاً يعمِدُ إلى أسَدٍ من أُسْدِ الله يقاتل عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيعطيك سَلَبه فقال النبي صلى الله عليه وسلم «صدق فأعطه» فأعطانيه، فابتعتُ به مَخْرَفاً في بني سَلِمة، فإنَّه لأول مال تَأثَّلْتُه في الإِسلام. وأخرجه أيضاً مسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه (ص 209) والبيهقي.
قصة عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي مع يهودي
وأخرج ابن عساكر عن عبد الله بن أبي حَدْرَد الأسلمي رضي الله عنه أنه كان ليهودي عليه أربعة دراهم فاستعدى عليه. فقال: يا محمد، إِنَّ لي على هذا أربعة دراهم وقد غلبني عليها. قال: «أعطه حقَّه» . قال: والذي بعثك(2/329)
بالحق ما أقدر عليها. قال: «أعطه حقَّه» . قال: والذي نفسي بيده ما أقدر عليها، قد أخبرته أنك تبعثنا إلى خيبر فأرجو أن تُغَنِّمنا شيئاً فأرجع فأقضيه. قال: «أعطه حقَّه» . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال ثلاثاً لم يراجَع. فخرج ابن أبي حَدْرَد إلى السوق وعلى رأسه عصابة وهو متَّزر ببردة، فنزع العمامة عن رأسه فاتَّزر بها ونزع البُردة فقال: إشترِ مني هذه البردة، فباعها منه بأربعة دراهم. فمرّت عجوز فقالت: ما لك يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرها، فقالت: ها دونك هذا البُرد - لبردٍ عليها طرحته عليه - كذا في الكنز. وأخرجه أحمد أيضا كما في الإِصابة.
قصة رجلين من الأنصار في هذا الأمر
وأخرج ابن أبي شيبة، وأبو سعيد النقَّاش عن أم سَلَمة رضي الله عنها قالت: جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث قد دَرَست ليس لها بيِّنة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «إنكم تختصمون إليّ وإنما أقضي برأيي فيما لم ينزل عليّ فيه، فمن قضيت له فيه بحجته يقتطع بها شيئاً من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار، يأتي يوم القيامة إنتظاماً في عنقه» . فبكى الرجلان وقال كل واحد منهما: يا رسول الله حقِّي له. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «أما إذا فعلتما ما فعلتما فاذهبا، وتوخَّيا الحقِّ، واقتسما، واستهما، وليحلِّل كل واحد منكما صاحبه. كذا في الكنز.(2/330)
قصة أعرابي في هذا الأمر
وأخرج ابن ماجه عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه دَيْناً كان عليه، فاشتد عليه حتى قال: أحرِّجُ عليك إلا قضيتني، فانتهره أصحابه، فقالوا: ويحك، تدري من تكلّم؟ فقال: إِني أطلب حقِّي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «هلا مع صاحب الحق كنتم؟» ثم أرسل إِلى خَوْلة بنت قيس فقال لها: إن كان عندك تمر فاقرضينا حتى يأتينا تمر فنقضيَك. فقالت: نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله. فأقرضته، فقضى الأعرابيَّ وأطعمه. فقال: أوفيتَ أوفى الله لك فقال: «أولئك خيار الناس إنه لا قدِّست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع» ، ورواه البزار من حديث عائشة رضي الله عنها مختصراً، والطبراني من حديث ابن مسعود رضي الله عنه بإسناد جيد. كذا في الترغيب.
حديث خولة بنت قيس في ذلك
وأخرج الطبراني عن خولة بنت قيس - إمرأة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهما - قالت: كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم وَسْق من تمر لرجل من بني ساعدة، فأتاه يقتضيه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأنصار أن يقضيه، فقضاه تمراً دون تمره فأبى أن يقبله، فقال: أتردُّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم ومن(2/331)
أحق بالعدل من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتحلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدموعه ثم قال: «صدق، ومن أحق بالعدل مني؟ لا قدّس الله أمةً لا يأخذ ضعيفها حقّه من شديدها، ولا يتعتعه» ثم قال: «يا خولة، عِدِيه واقضيه، فإنه ليس من غريم يخرج من غريمة راضياً إلا صلَّتْ عليه دوابّ الأرض ونون البحار. وليس من عبد يلوي غريمة وهو يجد إِلا كتب الله عليه في كل يوم وليلة إِثماً» . رواه أحمد بنحوه عن عائشة رضي الله عنها بإسناد جيد قوي. كذا في الترغيب.
عدل أبي بكر الصديق رضي الله عنه حديث عبد الله بن عمرو في هذا وقول الصديق: فمن لي من الله يوم القيامة
أخرج البيهقي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - قام يوم جمعة فقال: إذا كان بالغداة فأحضروا صدقات الإِبل نقسم، ولا يدخل علينا أحد إلا بإذن. فقالت إمرأة لزوجها: خذ هذا الخِطام لعل الله يرزقنا جملاً. أتى الرجل فوجد أبا بكر، وعمر - رضي الله عنهما - قد دخلا إلى الإِبل فدخل معهما. فالتفت أبو بكر فقال: ما أدخلك علينا؟ ثم أخذ منه الخطام فضربه. فلما فرغ أبو بكر من قَسْم الإِبل دعا بالرجل فأعطاه الخِطام، وقال: إستَقِد. قال له عمر: والله لا يستقيد، لا تجعلْها سُنّة. قال أبو بكر: فمن لي من الله يوم القيامة؟ فقال عمر: أرضِهِ؛ فأمر أبو بكر غلامه أن يأتيه براحلة ورحْلِها وقطيفة، وخمسة دنانير فأرضاه بها. كذا في كنز العمال.(2/332)
عدل عمر الفاروق رضي الله عنه قصة عمر وأُبي بن كعب
أخرج ابن عساكر، وسعيد بن منصور، والبيهقي عن الشَّعْبي قال: كان بين عمر وبين أُبيّ بن كعب - رضي الله عنهما - خصومة. فقال عمر: أجلع بيني وبينك رجلاً، فجعلا بينهما زيد بن ثابت رضي الله عنه. فأتياه فقال عمر: أتيناك لتحكم بيننا وفي بيته يُؤتى الحَكَمُ. فلما دخلا عليه وسَّع له زيد عن صدر فراشه فقال: ها هنا أمير المؤمنين. فقال له عمر: هذا أول جَوْر جُرْت في حكمك، ولكن أجلس مع خصمي، فجلسا بين يديه. فادّعى أُبيّ وأنكر عمر، فقال زيد لأُبيّ: أعفِ أمير المؤمنين من اليمين وما كنت لأسألها لأحد غيره، فحلف عمر، ثم أقسم: لا يدرك زيدٌ القضاءَ حتى يكون عمرُ ورجلٌ من عُرْض المسلمين عنده سواء. وعند ابن عساكر عن الشَّعْبي قال: تنازع في جعذاذ نخل أبيّ بن كعب، وعمر بن الخطاب - رضي الله عنهما -، فبكى أبيّ ثم قال: أفي سلطانك يا عمر؟ فقال عمر: إجعل بيني وبينك رجلاً من المسلمين. قال أبيّ: زيد، قال: رِضًى، فانطلقا حتى دخلا على زيد - فذكر الحديث كما في كنز العمال و.
قصة العباس وعمر في توسيع المسجد النبوي
وأخرج عبد الرزاق عن زيد بن أسلم قال: كان للعباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - دار إلى جنب مسجد المدينة، فقال له عمر رضي الله عنه:(2/333)
بِعْنيها، فأراد عمر أن يزيدها في المسجد، فأبى العباس أن يبيعها إِيّاه. فقال عمر: فهَبْها لي، فأبى. فقال: فوسِّعْها أنت في المسجد، فأبى. فقال عمر: لا بدّ لك من إِحداهنّ، فأبى عليه. فقال: خذ بيني وبينك رجلاً، فأخذ أبيّ بن كعب رضي الله عنه، فاختصما إليه. فقال أبيّ لعمر: ما أرى أن تخرجه من داره حتى ترضيَه. فقال له عمر: أرأيت قضاءك هذا في كتاب الله وجدته أم سنّةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبيّ: بل سنّة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: وما ذاك؟ فقال: إِني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن سليمان بن داود - عليهما الصلاة والسلام - لما بنى بيت المقدس جعل كلّما بني حائطاً أصبح منهدماً، فأوحى الله إليه أن لا تبني في حقِّ رجل حتى ترضيَه» . فتركه عمر، فوسَّعها العباس بعد ذلك في المسجد.
حديث سعيد بن المسيِّب في ذلك
وأخرج عبد الرزاق أيضاً عن سعيد بن المسيِّب قال: أراد عمر رضي الله عنه أن يأخذ دار العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه فيزيدها في المسجد، فأبى العباس أن يعطيه إياه. فقال عمر: لآخذنَّها. قال: فاجعل بيني وبينك أبيّ بن كعب. قال: نعم: فأتيا أبيَّاً، فذكرا له. فقال أبيّ: أوحى الله إلى سليمان بن داود - عليهما الصلاة والسلام - أن يبني بيت المقدس، وكانت أرضاً لرجل فاشترى منه الأرض، فلما أعطاه الثمن قال: الذي أعطيتني خير أم الذي أخذت مني؟ قال: بل الذي أخذت منك. قال: فإني لا أجيز. ثم اشتراها منه بشيء أكثر من ذلك، فصنع الرجل مثل ذلك مرتين أو ثلاثاً، فاشترط عليه سليمان - عليه الصلاة والسلام - أني أبتاعها منكم على حكمك فلا تسألني أيهما خير. قال: فاشتراها منه بحكمه، فاحتكم إثني عشر ألف قنطارٍ ذهباً. فتعاظم ذلك سليمان - عليه الصلاة والسلام - أن يعطيه، فأوحى الله إليه إن كنت تعطيه من شيء هو لك فأنت أعلم، وإن كنت تعطيه من رزقنا فأعطِه حتى يرضى، ففعل. قال: وأنا أرى أن عباساً أحقُّ بداره حتى يرضَى. قال العباس:(2/334)
فإذا قضيت لي فإني أجعلها صدقة للمسلمين. كذا في كنز العمال. وأخرجه ابن سعد، وابن عساكر عن سالم أبي النَّضر مطوَّلاً جداً، وسنده صحيح إلا أن سالماً لم يدرك عمر. وأخرجاه أيضاً، والبيهقي، ويعقوب بن سفيان عن ابن عباس رضي الله عنهما مختصراً، وسنده حسن؛ كما في الكنز. وأخرجه الحاكم، وابن عساكر من طريق أسْلَمَ من وجه آخر مطوَّلاً؛ كما في الكنز، وفي حديثه حذيفة بدل أُبيّ بن كعب رضي الله عنهما.
قصة عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب وأبي سَرْوعة
وأخرج عبد الرزاق، والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: شرب أخي عبد الرحمن، وشرب معه أبو سَرْوَعة عُقْبة بن الحارث - وهما بمصر - في خلافة عمر رضي الله عنه، فسكرا. فلما أصبحا إنطلقا إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه - وهو أمير مصر - فقالا: طهِّرنا، فإن قد سكرنا من شرب شربناه. قال عبد الله؛ فذكر لي أخي أنه سكر، فقلت: أدخل الدار أطهرك لم أشعر أنها قد أتيا عَمْراً، فأخبرني أخي أنه قد أخبر أمير المؤمنين بذلك. فقلت لا تُحلق اليوم على رؤوس الناس، أدخل الدار أحلقك، وكانوا إِذْ ذاك يحلقون مع الحد، فدخلا الدار. قال عبد الله فحلقت أخي بيدي ثم جلدهم عمرو. فسمع بذلك عمر فكتب إِلى عمرو رضي الله عنهما: أن أبعث(2/335)
إليّ بعبد الرحمن على قَتَب، ففعل ذلك. فلما قدم على عمر رضي الله عنه جلده وعاقبه لمكانه منه. ثم أرسله فلبث شهراً صحيحاً ثم أصابه قدره فمات، فيحسب عامة الناس إنما مات من جلد عمر، ولم يمت من جلد عمر. قال في منتخب كنز العمال: وسنده صحيح. وأخرجه ابن سعد عن أسْلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه بطوله؛ كما في منتخب الكنز.
حديث عمر وامرأة مغيبة
وأخرج عبد الرزاق، والبيهقي عن الحسن قال: أرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى إمرأة مُغَيِّبة كان يُدخل عليها، فأنكر ذلك، فأرسل إليها فقيل له: أجيبي عمر؛ فقالت: يا ويلها ما لها ولعمر فبينما هي في الطرق فزعت فضربها الطَّلْق، فدخلت داراً؛ فألقت ولدها؛ فصاح الصبي صيحتين ثم مات: فاستشار عمر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأشار عليه بعضهم أن ليس عليك شيء، إنما أنت والٍ ومؤدب؛ وصمت علي رضي الله عنه، فأقبل على علي فقال: ما تقول؟ قال: إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأ رأيهم، وإن كانوا قالوا في هواك فلم ينصحوا لك، أرى أنَّ ديته عليك فإنك أنت أفزعتها، وألقت ولدها في سببك؛ فأمر علياً رضي الله عنه أن يقسم عَقْله على قريش(2/336)
يعني يأخذ عقله من قريش لأنه خطأ كذا في كنز العمال.
ما كان يعمله عمر رضي الله عنه في الموسم للعدل بين الناس
وأخرج ابن سعد عن عطاء: قال كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر عماله أن يوافوه بالمَوْسم، فإذا اجتمعوا قال:
«يا أيها الناس، إني لم أبعث عمالي عليكم ليصيبوا من أبشاركم، ولا من أموالكم، (ولا من أعراضكم) إِنما بعثتهم ليحجزوا بينكم، وليقسموا فيئكم بينكم، فمن فعل به غير ذلك فليقم» .
فما قام أحد إلا رجل، قام فقال: يا أمير المؤمنين إِنَّ عاملك فلاناً ضربني مائة سوط. قال: فيم ضربته؟ قم فاقتص منه. فقام عمرو بن العاص رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين إنك إن فعلت هذا يكثر عليك، وتكن سنّة يأخذ بها مَنْ بعدك. فقال: أنا لا أُقيد وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيد في نفسه؟ قال: فدعنا لنرضيه. قال: دونكم فأرضوه، فافتدى منه بمائتي دينار عن كل سَوْط بدينارين. وأخرجه أيضاً ابن راهويه؛ كما في منتخب الكنز.
قصة مصري وابن عمرو بن العاص
وأخرج ابن عبد الحكم عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً من أهل مصر أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين عائذ بك من الظلم. قال: عذتَ معَاذاً. قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته،(2/337)
فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين. فكتب عمر إلى عمرو - رضي الله عنهما - يأمره بالقدوم ويقدَم بابنه معه. فقدم فقال عمر: أين المصري؟ خذ السوط ضرب. فجعل يضربه بالسوط ويقول عمر: إضرب ابن الألأمَينْ. قال أنس: فضرب والله لقد ضربه ونحن نحب ضربه؛ فلما أقلع عنه حتى تمنينا أنه يرفع عنه. ثم قال للمصري: ضَعْ على صلعة عمرو. فقال: يا أمير المؤمنين إِنّما ابنه الذي ضربني وقد استَقَدْت منه. فقال عمر لعمرو؛ مذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ قال: يا أمير المؤمنين لم أعلم ولم يأتني. كذا في منتخب كنز العمال.
مؤاخذة عمر عامله على البحرين
أخرج ابنجري رعن يزيد بن أبي منصور قال: بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن عامله على البحرين ابن الجارود أو ابن أبي الجارود أتِيَ برجل يقال له أدِرْياس قامت عليه بينة بمكاتبة عدو المسلمين، وأنه قد همَّ أن يلحق بهم، فضرب عنقه وهو يقول: يا عُمَرَاه، يا عمراه فكتب عمر رضي الله عنه إلى عامله ذلك فأمره بالقدوم عليه؛ فقدم فجلس له عمر وبيده حربة. فدخل على عمر فعَلا عمر لحيته بالحربة وهو يقول: أدرياس لبيك، أدرياس لبيك وجعل الجارود يقول: يا أمير المؤمنين إنه كاتبهم بعورة المسلمين وهمّ أن يلحَق بهم. فقال عمر: قتلته على همِّه وأيّنا لم يهمه، لولا أن تكون سُنَّة لقتلتك به. كذا في الكنز.
حديث زيد بن وهب في ذلك
وأخرج البيهقي عن زيد بن وَهْب قال: خرج عمر - رضي الله عنه - ويداه(2/338)
في أخذنه - وهو يقول: يا لَبيْكاه، يا لَبيْكاه قال الناس: ما له؟ قال: جاءه بريد من بعض أمرائه أن نَهَراً حال بينهم وبين العبور ولم يجدوا سفناً، فقال أميرهم: أطلبوا لنا رجلاً يعلم غَوْر النهر، فأُتي بشيخ فقال: إِني أخاف البرد - وذلك في البرد - فأكرهه فأدخله، فلم يُلْبِثْه البرد، فجعل ينادي: يا عُمَراه فغرق. فكتب إِليه، فأقبل، فمكث أياماً معرضاً عنه، وكان إذا وجد على أحد منهم فعل به ذلك. ثم قال: ما فعل الرجل الذي قتلته؟ قال: يا أمير المؤمنين ما تعمدت قتله، لم نجد شيئاً يُعبر فيه، وأردنا أن نعلم غَوْر الماء، ففتحنا كذا وكذا. فقال عمر: لَرَجلٌ مسلم أحبُّ إليّ من كل شيء جئت به، لولا أن تكون سنّةً لضربت عنقك، فأعطِ أهلَ ديته، واخرج فلا أراك. كذا في الكنز.
قصة أبي موسى ورجل وكتاب عمر في ذلك
وأخرج البيهقي عن جرير أنَّ رجلاً كان مع أبي موسى - رضي الله عنه - فغنموا مغنماً، فأعطاه أبو موسى نصيبه ولم يُوَفِّه، فأبى أن يأخذه إلا جميعه، فضربه أبو موسى عشرين سوطاً وحلق رأسه.f فجمع شعره وذهب به إلى عمر رضي الله عنه. فأخرج شَعَراً من جيبه فضرب به صدر عمر. قال: ما لك؟ فذكر قصته. فكتب عمر إلى أبي موسى:
«سلام عليك، أما بعد، فإن فلان بن فلان أخبرني بكذا وكذا، وإني أقسم عليك إن كنت فعلت ما فعلت في ملأ من الناس (إلا) جلست له في ملأ فاقتصَّ منك، وإِن كنت فعلت ما فعلت في خلأ فاقعد له في خلأ فليقتص منك» .
فلما دُفع إليه الكتاب قعد للقصاص. فقال الرجل: قد عفوت عنه صلى الله عليه وسلم كذا في كنز العمال.(2/339)
قصة فيروز الديلمي مع فتى من قريش
وأخرج ابن عساكر عن الحرماوي قال: كتب عمر بن الخطاب إلى فيروز الديلمي - رضي الله عنهما -:
«أما بعد: فقد بلغني أنه قد شغلك أكل اللباب بالعسل، فإذا أتاك كتابي هذا فأقدَم على بكرة الله، فأغزُ في سبيل الله» .
فقدم فيروز فاستأذن على عمر - رضي الله عنه - فأذن له، فزاحمه فتى من قريش، فرفع فيروز يده فلطم أنف القرشي، فدخل القرشي على عمر مستدمي. فقال له عمر: من فعل بك؟ قال: فيروز، وهو على الباب، فأذن لفيروز بالدخول فدخل. فقال: ما هذا يا فيروز؟ قال: يا أمير المؤمنين، إنا كنا حديثي عهد بملك، وإنك كتبت إهليّ ولم تكتب إِليه، وأذنت لي بالدخول ولم تأذن له، فأراد أن يدخل في إذني قبلي، فكان مني ما قد أخبرك. قل عمر رضي الله عنه: القِصاص. قال فيروز: لا بدَّ؟ قال: لا بد. فجثى فيروز على ركبتيه وقام الفتى ليقتص منه. فقال له عمر رضي الله عنه: على رِسْلك أيها الفتى حتى أخبرك بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة وهو يقول: «قُتل الليلة الأسود العنسي الكذّاب، قتله العبد الصالح فيروز الديلمي؟» أفتراك مقتصاً منه بعد إِذ سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الفتى: قد عفوت عنه بعد إذ أخبرتني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا. فقال فيروز لعمر: أفترى هذا مُخرجي مما صنعت إِقراري له وعفوه غير مستكره؟ قال: نعم. قال فيروز: فأشهدك أن سيفي، وفرسي، وثلاثين ألفاً من مالي هبة له.(2/340)
قال عفوت مأجوراً يا أخا قريش، وأخذت مالاً. كذا في الكنز.
قصة جارية وعدل عمر رضي الله عنه
وأخرج الطبراني في الأوسط، وابن عساكر، والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت جارية إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالت إن سيدي إتهمني فأقعدني على النار حتى احترق فرجي. فقال لها عمر: هل رأى ذلك عليك؟ قالت: لا. قال: فهل اعترفت له بشيء؟ قالت: لا. فقال عمر: عليَّ به. فلما رأى عمر الرجل قال: أتعذِّب بعذاب الله؟ قال: يا أمير المؤمنين إتهمتها في نفسها. قال: أرأيت ذلك عليها؟ قال: لا. قال: فاعترفت لك به؟؟ قال: لا. قال: والذي نفسي بيده لو لم أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يُقاد مملوك من مالكه، ولا ولد من والده» لأقدتها منك، وضربه مائة سوط، وقال للجارية: إذهبي فأنت حرة لوجه الله، وأنت مولاة الله ورسوله؛ أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من حُرِق بالنار أو مُثِّل به فهو حرٌّ، وهو مولى الله ورسوله» . كذا في الكنز.
قصة نبطي مع عبادة بن الصامت وعدل عمر رضي الله عنه
وأخرج البيهقي عن مَكْحول أنَّ عبادة بن الصامت رضي الله عنه دعا نَبَطِياً يمسك له دابته عند بيت المقدس فأبى، فضربه فشجَّه، فاستعدَى عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال له: ما دعاك إلى ما صنعت بهذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، أمرته أن يمسك دابتي فأبى، وأنا رجل فيّ حدّة فضربته.(2/341)
فقال: إجلس للقِصاص. فقال زيد بن ثابت رضي الله عنه: أتُقيد عبدك من أخيك؟ فترك عمر رضي الله عنه القَوَد وقضى عليه بالدِّيَة. كذا في الكنز.
قصة عوف بن مالك الأشجعي مع يهودي وعدل عمر رضي الله عنه
وأخرج أبو عُبيد، والبيهقي، وابن عساكر عن سُوَيد بن غَفْلة رضي الله عنه قال: لما قدم عمر رضي الله عنه الشام قام إليه رجل من أهل الكتاب فقال: يا أمير المؤمنين، إنَّ رجلاً من المؤمنين صنع بي ما ترى، فقال: - وهو مشجوج مضروب -. فغضب عمر رضي الله عنه غضباً شديداً، ثم قال لصهيب رضي الله عنه: إنطلق وانظر مَنْ صاحبه فأتني به. فانطلق صهيب فإذا هو عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه، فقال: إن أمير المؤمنين قد غضب عليك غضباً شديداً فأتِ معاذ بن جبل فلْيكلِّمْه، فإنِّي أخاف أن يَعْجَل إليك. فلما قضى عمر الصلاة قال: أين صهيب؟ أجئت بالرجل؟ قال: نعم. وقد كان عوف أتى معاذاً فأخبره بقصته، فقام معاذ فقال: يا أمير المؤمنين، إنه عوف بن مالك فاسمع منه ولا تَعْجَل إليه. فقال له عمر: ما لك ولهذا؟ قال: يا أمير المؤمنين، رأيت هذا يسوق بامرأة مسلمة على حمار، فنخس بها ليصرع بها، فلم يصرع بها، فدفعها فصُرِعت فغَشِيَها أو أكب عليها. فقال له: إئتني بالمرأة فلتصدِّق ما قلت. فأتاها عوف فقال له أبوها وزوجها: ما أردت إلى صاحبتنا قد فضحتنا. فقالت: والله لأذهبنَّ معه، فقال أبوها وزوجها: نحن نذهب فنبلِّغ عنك. فأتيا عمر رضي الله عنه فأخبراه بمثل قول عوف، وأمر عمر باليهودي فصُلِب. وقال: ما على هذا صالحناكم، ثم قال: أيها الناس، اتقوا الله في ذمَّة محمد، فمن فعل منهم هذا فلا ذمَّة له. قال سويد: فذلك اليهودي(2/342)
أول مصلوب رأيته في الإِسلام. كذا في الكنز. وأخرجه الطبراني عن عوف بن مالك رضي الله عنه مختصراً. قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح. انتهى.
قصة بكر بن شذَّاخ مع يهودي وعدل عمر رضي الله عنه
وأخرج ابن مَنْده، وأبو نُعيم عن عبد الملك بن يَعلى الليثي أنَّ بكر بن شَدَّاخ الليثي رضي الله عنه - وكان ممن يخدم النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام - فلما احتلم جاء إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني كنت أدخل على أهلك وقد بلغت مبلغ الرجال. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «اللهَّم صدِّق قوله، ولقِّه الظفر» . فلما كان في ولاية عمر رضي الله عنه وُجِد يهوديٌ قتيلاً، فأعظم ذلك عمر وجزع وصعد على المنبر فقال: أفيما ولاني الله واستخلفني يُفتك بالرجال، أذكِّرُ الله رجلاً كان عنده علم إِلا أعلمني. فقام إِليه بكر بن شدَّاخ قال: أنا به. فقال: الله أكبر بُؤْتَ بدمه. فهاتِ المخرج. فقال: بلى، خرج فلان غازياً ووكّلني بأهله، فجئت فوجدت هذا اليهودي في منزله وهو يقول:
وأشعث غرّه الإِسلام حتى
خَلَوْتُ بعُرْسه ليلَ التمام
أبيت على ترائبها ويُمسي
على جرداء لاحقة الحزام
كأنَّ مجامع الربلات منها
فئام ينهضون إلى فئام(2/343)
فصدَّق عمر رضي الله عنه قوله، وأبطل دمه بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم كذا في الكنز. وأخرجه ابن أبي شيبة عن الشَّعْبي بمعناه كما في الإِصابة.
كتاب عمر إلى أبي عبيدة في قتل يهودي
وأخرج عبد الرزاق والبيهقي عن القاسم بن أبي بزة أن رجلاً مسلماً قتل رجلاً من أهل الذمة بالشام، فرُفع إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، فكتب فيه إِلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكتب عمر إن كان ذاك فيه خُلُقاً فقدِّمه فاضرب عنقه، وإن كان هي طِيرة طارها فأغرمه دية أربعة آلاف. كذا في كنز العمال.
كتاب عمر إلى أمير جيش في منع قتل المشركين
وأخرج مالك عن رجل من أهل الكوفة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى عامل جيش كان بعثه: أنَّه بلغني أنَّ رجالاً منكم يطلبون العِلْج، حتى إذا اشتد في الجبل وامتنع، فقال الرجل: - مترس -، يقول: لا تخف؛ فإذا أدركه قتله، وإني - والذي نفسي بيده - لا يبلغني أنَّ أحداً فعل ذلك إلا ضربت عنقه. وعند ابن صاعد، واللألكائي عن أبي سَلَمة قال: قال: «والذي(2/344)
نفسي بيده لو أنَّ أحدكم أشار إلى السماء بأصبعه إلى مشرك، ثم نزل إليه على ذلك ثم قتله لقتلته» . كذا في كنز العمال.
قصة الهرمزان مع عمر رضي الله عنه
وأخرج البيهقي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: حاصرنا تُستَر، فنزل الهُرْمُزان على حكم عمر رضي الله عنه، فقدمت به على عمر، فلما انتهينا إليه قال له عمر رضي الله عنه: تكلَّم. قال: كلام حيَ أو كلام ميِّت؟ قال: تكلَّم لا بأس. قال: إنا وإياكم معاشر العرب؛ ما خلَّى الله بيننا وبينكم، كنا نتعبدكم، ونقتلكم، ونغصبكم. فلما كان الله معكم لم يكن لنا يدان. فقال عمر رضي الله عنه: ما تقول؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، تركت بعدي عدواً كثيراً، وشوكة شديدة، فإن قتلته ييأس القوم من الحياة ويكون أشد لشوكتهم. فقال عمر رضي الله عنه: إستحيي من قاتل براء بن مالك، ومجْزأة بن ثور؟ فلما خشيت أن يقتله قلت: ليس إلى قتله سبيل قد قلت له: تكلم لا بأس. فقال عمر رضي الله عنه: إرتشيت وأصبت منه؟ فقال: والله ما ارتشيت ولا أصبت منه. قال: لتأتِيَني على ما شهدت به بغيرك أَو لأبْدَأنّ بعقوبتك. قال: فخرجت فلقيت الزبير بن العوام، فشهد معي، وأمسك عمر رضي الله عنه، وأسلم - يعني الهرمزان - وفرض له. وأخرجه أيضاً الشافعي أيضاً بمعناه مختصراً. كما في الكنز. وأخرجه البيهقي أيضاً من طريق جبير بن حيَّة(2/345)
سياق آخر بطوله. وذكره في البداية مطوّلاً جداً.
إجراء عمر من بيت المال على شيخ من أهل الذمة
وأخرج ابن عساكر، والواقدي عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي رضي الله عنهما قال: لما قدمنا مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجابية؛ إِذا هو بشيخ من أهل الذمة يستطعم، فسأل عنه فقال: هذا رجل من أهل الذمة كبر وضعف. فوضع عنه عمر رضي الله عنه الجزية التي في رقبته، وقال: كلّفتموه الجزية حتى إذا ضعف تركتموه يستطعم؟؟ فأجرى عليه من بيت المال عشرة دراهم وكان له عيال. وعند أبي عُبيد، وابن زنجويه، والعُقَيلي عن عمر رضي الله عنه أنه مرَّ بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب المساجد. فقال: ما أنصفناك. كنا أخذنا منك الجزية في شبيبتك ثم ضيعناك في كبرك، ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه. كذا في الكنز (2301 - 302) .
قصة رجل من أهل الذمة مع عمر رضي الله عنه
وأخرج أبو عبيد عن يزيد بن أبي مالك قال: كان المسلمون بالجابية وفيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأتاه رجل من أهل الذمة يخبره أنَّ الناس قد أسرعوا في عنبه. فخرج عمر رضي الله عنه حتى لقي رجلاً من أصحابه يحلم ترساً عليه عنب، فقال عمر: وأنت أيضاً؟ فقال: يا أمير المؤمنين أصابتنا مجاعة، فانصرف عمر رضي الله عنه وأمر لصاحب الكرم بقيمة عنبه. كذا في كنز العمال.(2/346)
قصة قضائه رضي الله عنه ليهودي خلاف مسلم
وأخرج مالك عن سعيد بن المسيِّب أنَّ مسلماً ويهودياً إختصما إلى عمر رضي الله عنه، فرأى الحق لليهودي فقضى له مر به. فقال له اليهودي: والله لقد قضيت بالحق، فضربه عمر بالدِّرة وقال: وما يدريك؟ فقال اليهودي: والله إنا نجد في التوراة: ليس قاض يقضي بالحق إلا كان عن يمينه مَلَك وعن شماله ملك يسدِّدانه ويوفقانه ما دام مع الحق، فإذا ترك الحق عرجا وتركاه. كذا في الترغيب.
قصة عمر وإياس بن سلمة
وأخرج الطبري عن إياس بن سلمة عن أبيه قال: مر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في السوق ومعه الدِّرَّة، فخفقني بها خفقة فأصاب طرف ثوبي فقال: أمط عن الطريق. فلما كان في العام المقبل لقيني فقال: يا سلمة تريد الحج؟ فقلت: نعم. فأخذ بيدي فانطلق بي إلى منزله فأعطاني ست مائة درهم وقال: إستعن بها على حجَّك، واعلم أنها بالخفقة التي خفقتك. قلت: يا أمير المؤمنين ما ذكرتها. قال: وأنا ما نسيتها.
عدل عثمان ذي النورين رضي الله عنه ذكر ما كان بينه وبين عبده في ذلك
أخرج السمَّان في الموافقة عن أبي الفرات قال: كان لعثمان رضي الله عنه عبد، فقال له: إني كنت عركت أُذنك فاقتصَّ مني، أخذ بأذنه ثم قال عثمان رضي الله عنه: أشدد، يا حبذا قصص في الدنيا، لا قصاص(2/347)
في الآخرة. كذا في الرياض النضرة في مناقب العشرة للمحب الطبري.
قصة عدله رضي الله عنه في طائر
أخرج الإِمام الشافعي في مسنده (ص 47) عن نافع بن عبد الحارث قال: قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه مكة، فدخل دار النَّدْوة في يوم الجمعة، وأراد أن يستقرب منها الرواح إِلى المسجد، فألقى رداءه على واقف في البيت، فنقع عليه طير من هذا الحمام فأطاره، فانتهزته حيّة فقتلته. فلما صلَّى الجمعة دخلت عليه أنا وعثمان بن عفان رضي الله عنه فقال: إحكما عليّ في شيء صنعته اليوم: إني دخلت هذه الدار وأردت أن أستقرب منها الرواح إلى المسجد، فألقيت ردائي على هذا الواقف، فوقع عليه طير من هذا الحمام، فخشيت أن يطلخه بسَلْحه فأَطرته عنه، فوقع على (ظهر) هذا الواقف الآخر، فانتهزته حيّة فقتلته. فوجدت في نفسي أني أطرته من م نزل كان فيه آمناً إِلى موقعة كان فيها حتفه. فقلت لعثمان بن عفان رضي الله عنه: كيف ترى في عنزٍ ثنيةٍ عفراء تحكم بها على أمير المؤمنين؟ فقال: إني أرى ذلك، فأمر بها عمر رضي الله عنه.
عدل علي رضي الله عنه قسمة علي رضي الله عنه مال أصبهان
أخرج البيهقي وابن عساكر عن كليب قال: قدم على علي رضي(2/348)
الله عنه مال من أصبهان، فقسمه عى سبعة أسهم، فوجد فيه رغيفاً فكسره على سبعة وجعل على كل قسم منها كِسرة، ثم دعا الأمراء الأسباع فأقرع بينهم لينظر أيهم يعطي أولاً. كذا في الكنز وأخرجه ابن عبد البرّ في الإستيعاب.
قصته رضي الله عنه مع عربية ومولاة لها
وأخرج البيهقي عن عيسى بن عبد الله الهاشمي عن أبيه عن جده قال: أتت علياً رضي الله عنه إمرأتان تسألانه عربية ومولاة لها، فأمر لكل واحدة منهما بُكُرَ من طعام، وأربعين درهماً، أربعين درهماً. فأخذت المولاة الذي أعطيت وذهبت. وقالت العربية: يا أمير المؤمنين تعطيني مثل الذي أعطيت هذه وأنا عربية وهي مولاة؟ قال لها علي رضي الله عنه: إِني نظرت في كتاب الله عزَّ وجلَّ فلم أرَ فيه فضلاً لولد إِسماعيل على ولد إِسحاق - عليهما الصلاة والسلام -.
ما وقع بين علي وجعدة بن هبيرة في ذلك
وأخرج ابن عساكر عن علي بن ربيعة قال: جاء جَعْدة بن هُبَيرة إلى علي - رضي الله عنه - فقال: يا أمير المؤمنين، يأتيك الرجلان أنت أحبُّ إلى(2/349)
أحدهما من نفسه، أو قال: من أهله وماله، والآخر لو يستطيع أن يذبحك لذبحك، فتقضي لهذا على هذا قال: فلهزه عليٌ رضي الله عنه وقال: إِنَّ هذا شيء لو كان لي فعلت، ولكن إِنما ذا شيء لله. كذا في الكنز.
حديث الأصبغ بن نباتة في هذا
وأخرج أبو عُبَيد في الأموال عن الأصبغ بن نباتة قال: خرجت مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى السوق، فرأى أهل السوق قد جاوزوا أمكنتهم. فقال: ما هذا؟ قالوا: أهل السوق قد جاوزوا أمكنتهم. فقال: أليس ذلك إليهم، سوق المسلمين كمصلَّى المصلين؟ من سبق إلى شيء فهو له يومه حتى يدعه. كذا في الكنز: وقد تقدَّم قصة علي رضي الله عنه مع اليهودي في قصص الصحابة في الأعمال والأخلاق المفضية إلى هداية الناس.
عدل عبد لله بن رواحة رضي الله عنه قصة خيبر وعدله مع يهودها وقولهم: بهذا قامت السموات والأرض
أخرج البيهقي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - فذكر الحديث بطوله في قصة خيبر، وفيه: كان عبد الله بن رواحة رضي الله عنه يأتيهم كل عام، فيَخْرِصُها عليهم ثم يُضَمِّنهم الشطر. فشكَوا إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شدَّة خَرْصه وأرادوا أن يرشوه. فقال: يا أعداء الله، تطعموني السحت؟ والله لقد جئتكم(2/350)
من عند أحب الناس إليّ، ولأنتم أبغض إليّ من عِدَّتكم من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم، وحبي إياه على أن لا أعدل عليكم. فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض. كذا في البداية.
عدل المقداد بن الأسود رضي الله عنه حديث حارث بن سويد في ذلك وقول المقداد: لأموتن والإِسلام عزيز
أخرج أبو نُعيم في الحلية عن الحارث بن سويد قال: كان المقداد بن الأسود - رضي الله عنه - في سرية، فحصرهم (العدو) ، فعزم الأمير أن لا يجْشُر أحد دابته، فجشر رجل دابته لم تبلغه العزيمة، فضربه؛ فرجع الرجل وهو يقول: ما رأيت كما لقيت اليوم قطّ. فمرّ المقداد، فقال: ما شأنك؟ فذكر له قصته، فتقلَّد السيف وانطلق معه حتى انتهى إلى الأمير فقال: أقده من نفسك. فأقاده فعفا الرجل، فرجع المقداد وهو يقول: لأموتَنَّ والإِسلام عزيز.
خوف الخلفاء رضي الله عنهم حديث الضحاك في خوف الصدِّيق رضي الله عنه
أخرج ابن أبي شيبة، وهنَّاد، والبيهقي عن الضحاك قال: رأى أبو بكر الصديق رضي الله عنه طيراً واقفاً على شجرة فقال: طوبى لكَ يا طير والله لوددتُ أني كنت مثلك، تقع على الشجر، وتأكل من الثمر، ثم تطير وليس عليك حساب ولا عذاب والله لوددت أنِّي كنت شجرة إلى جانب الطريق مرّ(2/351)
عليَّ جمل فأخذني، فأدخلني فاه، فلاكني ثم ازدردني، ثم أخرجني بعراً ولم أكُ بشراً. وعند ابن فَتْحَويه في الوَجَل عن الضحَّاك بن مزاحم قال: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه - ونظر إلى عصفور -: طوبى لك يا عصفور تأكل من الثمار، وتطير في الأشجار، لا حساب عليك ولا عذاب والله لوددتُ أني كبش يسمِّنني أهلي، فإذا كنت أعظم ما كنت وأسمنه يذبحوني، فيجعلون بعضي شواء، وبعضي قديداً، ثم أكلوني، ثم ألقوني عَذِرَةً في الحش، وأني لم أكن خُلقت بشراً. وعند أحمد في الزهد عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: وددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن. كذا في منتخب الكنز.
حديث الضحاك في خوف عمر رضي الله عنه
وأخرج هنَّاد، وأبو نُعيم في الحلية، والبيهقي عن الضحاك قال: قال عمر رضي الله عنه: يا ليتني كنت كبش أهلي، يسمِّنوني ما بدا لهم، حتى إذا كنت أسمن ما أكون زارهم بعض من يحبون، فجعلوا بعضي شِواء،(2/352)
وبعضي قديداً، ثم أكلوني، فأخرجوني عَذِرَةً، ولم أكن بشراً.
حديث ابن عساكر وأبي نعيم في خوف عمر رضي الله عنه
وعند ابن المبارك، وابن سعد، وابن أبي شيبة، ومسدِّد، وابن عساكر عن عامر بن ربيعة قال: رأيت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أخذ تبنة من الأرض فقال: يا ليتني كنت هذه التبنة، ليتني لم أُخلق، ليتني لم أكن شيئاً، ليت أُمي لم تلدني، ليتني كنت نَسْياً مَنْسياً.
وعند أبي نُعيم في الحلية عن عمر رضي الله عنه قال: لو نادى منادٍ من السماء: يا أيها الناس، إنكم داخلون الجنة كلكم إلا رجلاً واحداً لخفتُ أن أكون أنا هو. ولو نادى منادٍ: أيها الناس، إِنكم داخلون النار إلا رجلاً واحداً لرجوت أن أكون أن هو.
وقع بين عمر وأبي موسى الأشعري
وعند ابن عساكر عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر لقي أبا موسى الأشعري رضي الله عنه، فقال له: يا أبا موسى، أيسرك أنَّ عملك الذي كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خَلَص لك، وأنك خرجت من عملك كفافاً، خيره بشره، وشره بخيره كفافاً، لا لك، ولا عليك؟ قال: لا يا أمير المؤمنين. والله قدمت البصرة وإن الجفاء فيهم لفاشٍ، فعلَّمتهم القرآن والسنّة، وغزوت بهم في سبيل الله، وإني لأرجو بذلك فضله. قال عمر رضي الله عنه: لكن وددتُ أني خرجت من عملي خيره بشره، وشره بخيره كفافاً، لا علي ولا لي، وخَلَص لي(2/353)
عملي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المخلص. كذا في منتخب الكنز.
حديث ابن عباس في خوف عمر عند موته
وأخرج أبو نُعيم في الحلية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما طُعن مر رضي الله عنه دخلت عليه فقلت له: أبشر يا، فإن الله قد مصَّر بك الأمصار، ودفع بك النفاق، وأفشَى بك الرزق. قال: أفي الإِمارة تثني عليّ يا ابن عباس؟ فقلت: وفي غيرها. قال: والذي نفسي بيده، لوددت أني خرجت منها كما دخلت فيها، لا أجر ولا وزر. وأخرجه الطبراني من حديث ابن عمر رضي الله عنهما في حديث طويل، وأبو يَعْلى كذلك عن أبي رافع كما في المجمع. وأخرجه ابن سعد عن ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه. وأخرج أيضاً من طريق آخر عنه - فذكر الحديث، وفيه: فقلت: أبشر بالجنة. صاحبت رسول الله فأطلت صحبته؛ ووُلِّيتَ أمر المؤمنين فقويت، وأديت الأمانة. فقال: أما تبشيرك إياي بالجنة فوالله الذي لا إِله إلا هو، لو أنّ لي الدنيا وما فيها لافتديت به من هول ما أمامي قبل أن أعلم الخبر.v وأما قولك في بإمرة المؤمنين، فوالله لوددتُ أن ذلك كفاف لا لي ولا عليَّ. وأما ما ذكرت من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فذاك. وأخرجه أيضاً من حديث عبد الله بن عبيد بن عُمَير مطوَّلاً، وزاد فيه: فقال عمر رضي الله عنه: أجلسوني. فلما جلس قال لابن عباس رضي الله عنه: أعد عليَّ كلامك، فلما أعاد عليه قال: أتشهد(2/354)
بذلك عند الله يوم تلقه؟ فقال ابن عباس رضي الله عنه: نعم. قال: ففرح عمر رضي الله عنه بذلك وأعجبه.
حديث ابن عمر، والمسور في خوف عمر عند موته
وعند أبي نعيم في الحلية عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رأس عمر على فخذي في مرضه الذي مات فيه. فقال لي: ضَعْ رأسي على الأرض. قال: فقلت: وما عليك، كان على فخذي أم على الأرض؟ قال: ضعه على الأرض. قال: فوضعته على الأرض، فقال: ويلي وويلَ أمي إن لم يرحمني ربي. وعن المِسْوَر قال: لما طُعن مر رضي الله عنه قال: والله لو أنَّ لي طِلاعَ الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله من قبل أن أراه.
هل يخاف الأمير لومة لائم حديث السائب بن يزيد في هذا
أخرج البيهقي عن السائب بن يزيد رضي الله عنه أن رجلاً قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: لأن أخاف في الله لومة لائمك خيرٌ لي أم أُقْبِل على نفسي؟ فقال: أمَّا من ولي من أمر المسلمين شيئاً فلا يخاف في الله لومة لائم، من كان خِلْواً فليقبل على نفسه، ولينصح لوليِّ أمره. كذا في الكنز.(2/355)
وصايا الخلفاء للخلفاء والأمراء وصايا أبي بكر لعمر رضي الله عنهما وصيته لعمر رضي الله عنهما إِذ أراد استخلافه
أخرج الطبراني عن الأغرّ - أغرِّ بني مالك - قال: لما أراد أبو بكر أن يستخلف عمر - رضي الله عنه - بعث إليه فدعاه فأتاه، فقال:
«إني أدعوك إِلى أمر متعب لمن وليه، فاتَّقِ الله يا عمر بطاعته، وأطعه بتقواه، فإن التقي (آمن) محفوظ، ثم إنَّ الأمر معروض لا يستوجبه إِلا من عمل به؛ فمن يمر بالحق وعمل بالباطل، وأمر بالمعروف وعمل بالمنكر يوشك أن تنقطع أمنيته وأن يحبط به عمله. فإن أنت وليت عليهم أمرهم فإن استطعت أن تجف يديك من دمائهم، وأن تضمر بطنك من أموالهم، وأن تجف لسانك عن أعراضهم، فافعل ولا قوة إلا بالله» .
قال الهيثمي: والأغرّ لم يدرك أبا بكر رضي الله عنه، وبقية رجاله ثقات. انتهى. وقال الحافظ المنذري في الترغيب: ورواته ثقات إلا أن فيه إنقطاعاً. انتهى.
وصية أبي بكر عند الوفاة في استخلاف عمر ووصيته لعمر
وأخرج ابن عساكر عن سالم بن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - قال: لما حضر أبا بكر(2/356)
رضي الله عنه الموتُ أوصى:
«بسم الله الرحمن الرحيم. هذا عهد من أبي بكر الصدِّيق، عند آخر عهده بالدنيا، خارجاً منها، وأول عهده بالآخرة داخلاً فيها، حيث يؤمن الكافر، ويتَّقي الفاجر، ويصدّق الكاذب: إني استخلفت من بعدي عمر بن الخطاب. فإن عدل فذلك ظنِّي فيه، وإِن جار وبدَّل فالخيرَ أردت، ولا أعلم الغيب.
ثم بعث إلى عمر رضي الله عنه فدعاه فقال:
«يا عمر، أبغضك مبغض، وأحبك محب، وقِدْماً يُبغض الخير ويُحب الشر - قال: فلا حاجة لي فيها - قال: لكن لها بك حاجة، وقد رأيتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتَه، ورأيت أثرته أنفسنا على نفسه، حتى إِن كنا لنهدي لأهله فضل ما يأتينا منه، ورأيتني وصحبتني وإِنما اتبعت أثر من كان قبلي، والله ما نمت فحلمت، ولا شهدت فتوهَّمت، وإِني لعلى طريق ما زغت، تَعَلَّم يا عمر، إِنَّ لله حقاً في الليل لا يقبله بالنهار، وحقاً بالنهار لا يقبله بالليل، وإِنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتَّباعهم الحق، وحُقَّ الميزان أن يثقل لا يكون فيه إِلا الحق، وإِنما خفَّت موازين من خفَّت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل، وحُقَّ لميزان أن يخفَّ لا يكون فيه إلا الباطل. إنَّ أول ما أحذرك نفسك، وأحذرك الناس فإنَّهم قد طمحت أبصارهم، وانتفخت أهواؤهم، وأن لهم الخيرة عن زلّة تكون، فإياه تكونه، فإنهم لن يزالوا خائفين لك فرقين منك ما خفت الله وفرقته. وهذه وصيتي، وأقرأُ عليك السلام» .
كذا في الكنز.(2/357)
حديث عبد الرحمن بن سابط وغيره في قول أبي بكر لعمر عند الموت
وعند ابن المبارك، وابن أبي شيبة، وهَنَّاد، وابن جرير، وأبي نُعَيم في الحلية عن عبد الرحمن بن سابط، وزيد بن زبيد بن الحارث، ومجاهد قالوا: لما حضر أبا بكر الموتُ دعا عمر - رضي الله عنه - وقال له:
«إتَّق الله يا عمر، واعلم أن لله عملاً بالنهار لا يقبله بالليل، وعملاً بالليل لا يقبله بالنهار، وأنه لا يقبل نافلة حتى تُؤدى الفريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في دار الدنيا وثقله عليهم، وحُقّ لميزان يوضع فيه الحق غداً أن يكون ثقيلاً، وإنما خفَّت موازين من خفَّت موازينه يوم القيامة باتَّباعهم الباطل في الدنيا وخفَّته عليهم، وحُقّ لميزان يوضع فيه الباطل غداً أن يكون خفيفاً. وأن الله تعالى ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم، وتجاوز عن سيئته، فإذا ذكرتهم قلت: إِني لأخاف أن لا ألحق بهم؛ وأن الله تعالى ذكر أهل النار فذكرهم بأسوأ أعمالهم، وردَّ عليهم أحسنه؛ فإذا ذكرتهم قلت: إِني أخاف أن أكون مع هؤلاء - وذكر آية الرحمة وآية العذاب - فيكون العبد راغباً راهباً، ولا يتمنَّى على الله غير الحق، ولا يقنط من رحمته، ولا يُلقي بيديه إلى الهلكة. فإن أنت حفظت وصيتي فلا يكُ غائب أحب إليك من الموت وهو آتيك وإن أنت ضيَّعت وصيتي فلا يكُ. غائب أبغض إليك من الموت، ولست بمعجِزِه» .
كذا في منتخب الكنز.
وصايا أبي بكر لعمرو بن العاص وغيره رضي الله عنهم وصية أبي بكر لعمرو إذ استعمله على الجيوش إلى الشام
أخرج ابن سعد عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: أجمع أبو بكر رضي الله عنه أن يجمع الجيوش إِلى الشام. كان أول من(2/358)
سار من عماله عمرو بن العاص رضي الله عنه، وأمره أن يسلك على أيْلَة عامداً لفلسطين. وكان جند عمرو الذين خرجوا من المدينة ثلاثة آلاف، فيهم ناس كثير من المهاجرين والأنصار، وخرج أبو بكر الصديق رضي الله عنه يمشي إلى جنب راحلة عمرو بن العاص رضي الله عنه وهو يوصيه ويقول:
«يا عمرو، إتَّق الله في سرائرك وعلانيتك واستحِيه، فإنه يراك ويرى عملك؛ وقد رأيتَ تقديمي إِياك على من هم أقدم سابقة منك، ومن كان أعظمَ غِنًى عن الإِسلام وأهله منك. فكن من عمَّال الآخرة، وأرد بما تعمل وجه الله، وكن والداً لمن معك، ولا تكشفنَّ الناس عن أستارهم، واكتف بعلانيتهم، وكن مجدّاً في أمرك، واصدق اللقاء إِذا لقيت ولا تجبُن، وتَقدَّم في الغُلول وعاقب عليه، وإذا وعظت أصحابك فأوجز، وأصلح نفسك تصلح لك رعيتكم» . كذا في كنز العمال. وأخرجه أيضاً ابن عساكر بنحوه.
كتابه رضي الله عنه إِلى عمرو والوليد بن عقبة
وأخرج ابن جرير الطبري عن القاسم بن محمد قال: كتب أبو بكر إِلى عمرو وإِلى الوليد بن عقبة - رضي الله عنهما - وكان على النِّصف من صدقات قُضاعة، وقد كان أبو بكر شيَّعهما مَبْعَثهما على الصدقة، وأوصى كل واحد منهما بوصية واحدة فقال:
«إتَّق الله في السرِّ والعلانية، فإنه مَنْ يَتَّق الله يَجْعَلْ لهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ، وَمَنْ يَتَّقِ الله يُكفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أجْراً فإنَّ تقوى(2/359)
الله خيرُ ما تَواصَى به عباد الله. إنَّك في سبيل من سُبُل الله، لا يسعُك فيه الإِدْهان والتفريط، ولا الغفلة عما فيه قِوام دينكم وعِصمة أمركم، فلا تَنِ ولا تفتر» .
وأخرجه أيضاً ابن عساكر عن القاسم بنحوه.
كتابه رضي الله عنه إِلى عمرو بن العاص في خالد بن الوليد
وأخرج ابن سعد عن الطَّلب بن السائب بن أبي وَدَاعة رضي الله عنه قال: كتب أبو بكر الصديق إلى عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -:
«إني كتبت إلى خالد بن الوليد ليسير إِليك مدداً لك، فإذا قدم عليك فأحسن مصاحبتك، ولا تَطاوَلْ عليه، ولا تقطع الأمور دونه لتقديمي إِياك عليه وعلى غيره، شاورهم ولا تخالفهم» .
كذا في كنز العمال.
حديث ابن سعد في كتاب أبي بكر إِلى عمرو
وأخرج بن سعد عن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه أنَّ أبا بكر قال لعمرو بن العاص - رضي الله عنهما -:
«إني قد استعملتك على من مررت به: بَليّ، وعُذْرة، وسائر قُضاعة، ومن سقط هناك من العرب، فادنبهم إلى الجهاد في سبيل الله ورغِّبهم فيه،(2/360)
فمن تبعك منهم فاحمله، وزوِّده ووافق بينهم، واجعل كل قبيلة على حدَّتها ومنزلها» .
كذا في الكنز، وأخرجه ابن عساكر.
وصية أبي بكر الصديق لشرحبيل بن حسنة رضي الله عنهما
أخرج ابن سعد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التَّيْمي رضي الله عنه قال: لما عزل أبو بكر خالد بن سعيد أوصى به شرحبيل بن حسنة - رضي الله عنهم - وكان أحد الأمراء قال:
أنظر خالد بن سعيد، فاعرف له من الحق عليك مثل ما كنت تحب أن يعرفه لك من الحق عليه لو خرج والياً عليك، وقد عرفتَ مكانه من الإِسلام، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وهو له والٍ، وقد كنتُ ولَّيته، ثم رأيت عزله، وعسى أن يكون ذلك خيراً له في دينه، ما أغبط أحداً بالإِمارة، قد خيَّرته في أمراء الأجناد فاختارك على غيرك وعلى ابن عمه. فإذا نزل بك أمر تحتاج فيه إلى رأي التقيِّ الناصح فليكن أول من تبدأ به، أبو عبيدة بن الجراح، ومعاذُ بن جبل، ولْيَكُ ثالثاً خالُد بن سعيد، فإنك واجد عندهم نصحاً وخيراً، وإياك واستبداد الرأي عنهم أو تطوي عنهم بعض الخبر» .
كذا في الكنز.
وصية أبي بكر الصديق ليزيد بن أبي سفيان رضي الله عنهما
أخرج ابن سعد عن الحارث بن الفضل قال: لما قعد أبو بكر ليزيد بن أبي سفيان رضي الله عنهما، فقال:(2/361)
«يا يزيد، إِنك شاب تُذْكر بخير قد رُئِي منك، وذلك لشيء خلوت به في نفسك، وقد أردتُ أن أبلوك وأستخرجك من أهلك، فأنظرُ كيف أنت؟ وكيف ولايتك؟ وأخبُرُك. فإن أحسنتَ زدتُك، وإن أسأتَ عزلتُك، وقد وليتُك عمل خالد بن سعيد» .
ثم أصاه بما أوصاه يعلم به في وجهه وقال له:
«أوصيك بأبي عبيدة بن الجراح خيراً، فقد عرفتَ مكانه من الإِسلام وأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لكلِّ أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح» ؛ فاعرف له فضله وسابقته؛ وانظر معاذ بن جبل، فقد عرفت مشاهدة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يأتي أمام العلماء برتوة» ، فلا تقطع أمراً دونهما وإنهما لن يألوَا بك خيراً.
قال يزيد: يا خليفة رسول الله، أوصهما بي كما أوصيتني بهما. قال أبو بكر: لن أدع أن أوصيَهما بك. فقال يزيد: يرحمك الله وجزاك الله عن الإِسلام خيراً. كذا في الكنز.
وأخرج أحمد، والحاكم، ومنصور بن شعبة البغدادي في الأربعين - وقال: حسن المتن غريب الإِسناد - عن يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: أبو بكر رضي الله عنه لمَّا بعثني إلى الشام:
«يا يزيد، إِنّ لك قرابة عسيتَ تؤثرهم بالإِمارة، وذلك أكبر ما أخاف عليك، فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من وُلِّي من أمور المسلمين شيئاً فأمَّر عليهم أحداً محاباة له بغير حق فعليه لعنة الله، لا يقبل الله منه صَرْفاً ولا عَدْلاً حتى يدخله(2/362)
جهنَّم. ومن أعطى أحداً من مال أيه محاباة له فعليه لعنة الله - أو قال - برئت منه ذمة الله» . إِنَّ الله دعا الناس إِلى أن يؤمنوا بالله فيكونوا حمى الله، فمن انتهك في حمى الله شيئاً بغير حقَ فعليه لعنة الله - أو قال - برئت منه ذمة الله عزّ وجلّ» .
قال ابن كثير: ليس هذا الحديث في شيء نالكتب الستة، وكأنهم أعرضوا عنه لجهالة شيخ لقيه، قال: والذي يقع في القلب صحّة هذا الحديث؛ فإنَّ الصدِّيق رضي الله عنه كذلك فعل، ولّى على المسلمين خيرهم بعده. كذا في كنز العمال. وقال الهيثمي: رواه أحمد، وفيه رجل لم يُسمَّ. انتهى.
وصايا عمر رضي الله عنه وصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه لولي الأمر من بعده
أخرج ابن أبي شيبة، وأبو عُبَيد في الأموال، أبو يَعْلى،(2/363)
والنِّسائي، وابن حِبّان، والبيهقي عن عمر رضي الله عنه أنه قال:
«أُوصي الخليفة بعدي بالمهاجرين الأوَّلين أن يعلم لهم حقَّهم، ويحفظ لهم حرمتهم. وأوصيه بالأنصار الذين تبوؤا الدار والإِيمان من قبلهم؛ أن يقبل من محسنهم، وأن يعفو عن مسيئهم. وأوصيه بأهل الأمصار خيراً، فإنَّهم رِدْء الإِسلام، وجُباة الأموال، وغَيْظ العدو، وأن يأخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم، وأوصيه بالأعراب خيراً فإنهم أصل العرب ومادة الإِسلام؛ أن يأخذ من حواشي أموالهم فيرد على فقرائهم. وأوصيه بذمّة الله وذمّة رسوله أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلَّفهم إلا طاقتهم» .
كذا في المنتخب.
وأخرج ابن سعد، وابن عساكر عن القاسم بن محمد قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
«ليَعْلم من وُلِّيَ هذا الأمر من بعدي أنْ سَيريدُه عنه القريبُ والبعيدُ، إني لأقاتل الناس عن نفسي قتالاً، ولو علمتُ أنَّ أحداً من الناس أقوى عليه مني لكنت أُقدَّمُ فتُضربُ عنقي أَحبُّ إليَّ من أن أَليَه» .
كذا في الكنز.
وصية عمر بن الخطاب لأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما
أخرج ابن جرير عن صالح بن كَيسان قال: كان أولُ كتاب كتبه عمر(2/364)
حين وُلِّي إلى أبي عبيدة يولِّيه على جند خالد رضي الله عنهم:
«أوصيك بتقوى الله الذي يبقى ويفنى ما سواه، الذي هدانا من الضلالة، وأخرجنا من الظلمات إلى النور. وقد استعملتك على جُنْد ابن الوليد، فقم بأمرهم الذي يحق عليك، لا تقدِّم المسلمين إلى هَلَكَة رجاءَ غنيمة، ولا تُنزلهم منزلاً قبل أن تستريده لهم، وتعلم كيف مأتاه، ولا تبعث سرية إلا في كثف من الناس، وإياك وإلقاء المسلمين في الهلكة، وقد أبلاك الله بي وأبلاني بك، فغمِّض بصرك عن الدنيا وإلْهِ قلبك عنها، وإياك أن تهلِكَك كما أهلكتْ من كان قبلك، فقد رأيت مصارعَهم» .
وصية عمر بن الخطاب لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما
أخرج ابن جرير من طريق سيف عن محمد، وطلحة بإسنادهما أن عمر أرسل إلى سعد - رضي الله عنهما - فقد عليه، فأمَّره على حرب العراق وأوصاه فقال:
«يا سعدُ سعد بني وُهَيْب، لا يغرنَّك من الله أن قيل خال رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحب رسول الله، فإن الله عزّ وجلّ لا يمحو السيء بالسيء، ولكنه يمحو السيء بالحسن، فإنَّ الله ليس بينه وبين أحد نسب إلا طاعته، فالناس شريفُهم ووضيعهم في ذات الله سواءٌ، الله ربُّهم وهم عباده يتفاضلون بالعافية ويدركون ما عنده بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيتَ النبي صلى الله عليه وسلم منذ بعث إلى أن فارقنا، فالزمه فإنَّه الأمر. هذه عظتي إياك إن تركتَها ورغبتَ عنها حَبِط عملك وكنت من الخاسرين» .
ولما أراد أن يسرِّحه دعاه فقال:(2/365)
«إن قد وليتك حرب العراق فاحفظ وصيتي، فإنك تَقْدَم على أمر شديد كريه لا يخلِّص منه إلا الحقُّ، فعوِّد نفسك ومن معك الخير، واستفتح به، وعلم أنَّ لكل عادة عتاداً، فعتاد الخير الصبر، فالصبرَ الصبرَ على ما أصابك أو نابك، يجتمع لك خشية الله، واعلم أنَّ خشية الله تجتمع في أمرين: في طاعته واجتناب معصيته، وإنما أطاعه من أطاعه ببغض الدنيا وحب الآخرة، وعصاه من عصاه بحب الدنيا وبغض الآخرة، وللقلوب حقائق ينشئها الله إنشاءً، منها السر، ومنها العلانية. فأما العلانية فأن يكون حامدُه وذامُّه في الحق سواء، وأما السر فيُعرف بظهور الحكمة من قلبه على لسانه وبمحبة الناس، فلا تزهد في التحبُّب فإنّ النبيين قد سألوا محبّتهم، وإِنَّ الله إذا أحب عبداً حبَّبه، وإذا أبغض عبداً بغَّضه؛ فاعتبر منزلتك عند الله تعالى بمنزلتك عند الناس ممَّن يشرع معك في أمرك» .
وصية عمر بن الخطاب لعتبة بن غزوان رضي الله عنهما
أخرج ابن جرير عن عبد الملك بن عمير قال: إنَّ عمر قال لعتبة بن غزوان رضي الله عنهما إذ وجَّهه إلى البصرة:
«يا عتبة، إني قد استعملتك على أرض الهند وهي حَوْمة من حَوْمة العدو، وأرجو أن يكفيك الله ما حولها وأن يعينك عليها، وقد كتبت إلى العلاء بن الحضرمي أن يمدك بعرْفَجَةَ بن هَرْثَمة وهو ذو مجاهدة العدو ومكايدته؛ فإذا قدم عليك فاستشره وقرِّبه، وادعُ إِلى الله، فمن أجابك فاقبل منه، ومن أبَى فالجزية عن صَغار وذلَّة، وإلا فالسيف في غير هوادة. واتق الله فيما وُلِّيت، وإياك أن تنازعك نفسك إلى كِبْر يفسد عليك آخرتك، وقد صحبتَ رسول(2/366)
الله صلى الله عليه وسلم فعززتَ به بعد الذلَّة، وقويتَ به بعد الضعف حتى صرت أميراً مُسَلَّطاً، وَمَلِكاً مُطاعاً، تقول فيُسمع منك، فيُطاع أمرُك، فيا لها نعمةٌ إن لم ترفعك فوق قدرك وتُبطرك على من دونك، إحتفظ من النعمة إحتفاظك من المعصية، ولهي أخوفهما عندي عليك أن تستدرجك وتخدعك فتسقط سقطة تصير بها إلى جهنم، أعيذك بالله ونفسي من ذلك. إِنَّ الناس أسرعوا إلى الله حين رُفعت لم الدنيا فأرادوها، فأرِد الله ولا تُرِد الدنيا، واتَّق مصارع الظالمين» .
ورواه علي بن محمد المدائني أيضاً مثله كما في البداية.
وصية عمر بن الخطاب للعلاء بن الحضرمي رضي الله عنهما
أخرج بن سعد عن الشَّعْبي قال: كتب عمر بن الخطاب إلى العلاء بن الحضرمي رضي الله عنهما وهو بالبحرين أن:
«سِرْ إلى عتبة بن غزوان فقد وليتك عمله، واعلم أنك تقدم على رجل من المهاجرين الأوَّلين الذين قد سبقت لهم ن الله الحسنى؛ لم أعزله ألا يكون عفيفاً صليباً، شديد البأس؛ ولكنني ظننت أنك أغنى عن المسلمين في تلك الناحية منه، فاعرف له حقَّه؛ وقد ولَّيت قبلك رجلاً فمات قبل أن يصل، فإني رد الله تعالى أن تلي وُلِّيت، وإن يرد أن يلي عتبة، فالخلق والأمر لله رب العالمين. واعلم أن أمر الله محفوظ بحفظه الذي أنزله، فانظر الذي خلقت له، فاكدَحْ له ودَعْ ما سواه فإنَّ الدنيا أمد، والآخرة أبد، فلا يشغلنَّك شيء مدبر خيره عن شيء باقٍ شره، واهرب إلى الله من سخطه، فإنَّ الله يجمع لمن يشاء الفضيلة في حكمه وعلمه. نسأل الله لنا ولك العون على طاعته والنجاة من عذابه» .(2/367)
وصية عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما
أخرج الدينوري عن ضبَّة بن مِحْصَن قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما:
«أما بعد: فإنَّ للناس نفرة من سلطانهم فأعوذ بالله أن تدركني وإياك، فأقم الحدود ولو ساعة من النهار، وإذا حضر أمران أحدهما لله والآخر للدنيا فآثر نصيبك من الله، فإنَّ الدنيا تنفد والآخرة تبقى، وأخفِ الفُسَّاق، واجعلهم يداً يداً ورجلا رجلاً، عُدْ مريض المسلمين، واحضر جنائزهم، وافتح بابك، وباشر أمورهم بنفسك، فإنما أنت رجل منهم غير أنَّ الله جعلك أثقلهم حملاً. وقد بلغني أنه نشأ لك ولأهل بيتك هيئة في لباسك، ومطعمك، ومركبك ليس للمسلمين مثلها. فإياك يا عبد الله أن تكون بمنزلة البهيمة مرَّت بوادٍ خِصْب فلم يكن لها هم إِلا التسَمُّن، وإنما حَتْفها في السِمَن. واعلم أن العامل إذا زاغ زاغت رعيته، وأشقَى الناس من شَقِيت به رعيته» .
كذا في الكنز. وأخرجه ابن أبي شيبة، وأبو نعيم في الحِلْية عن سعيد بن أبي بردة مختصراً كما في الكنز.
وأخرج ابن أبي شيبة عن الضحَّاك قال كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما:(2/368)